سرشناسه : احمدي ميانجي، علي، 1304 - 1379.، گردآورنده
عنوان و نام پديدآور : مكاتيب الائمه/ علي الاحمدي الميانجي؛ تحقيق و مراجعه مجتبي فرجي.
مشخصات نشر : قم: موسسه دار الحديث العلميه و الثقافيه، مركز الطباعه و النشر، 1427ق.=1385 -
مشخصات ظاهري : ج.
فروست : مركز بحوث دارالحديث؛ 93.
شابك : دوره: 964-493-021-5 ؛ 34000ريال: ج. 1، چاپ دوم: 964-493-019-3 ؛ 32000ريال: ج. 2: 964-493-021-5 ؛ 28000 ريال: ج.3 964-493-028-2: ؛ 32000 ريال: ج.4: 964-493-165-3 ؛ 50000 ريال: ج.5 : 978-964-493-254-0 ؛ 50000 ريال: دوره، چاپ پنجم: 978-964-493-021-8 ؛ ج.1، چاپ پنجم: 978-964-493-019-5 ؛ ج.2، چاپ پنجم: 978-964-493-020-1 ؛ ج.3، چاپ پنجم: 978-964-493-028-7 ؛ ج.4، چاپ سوم: 978-964-493-165-9 ؛ ج.5، چاپ سوم: 978-964-493-254-0 ؛ ج.6، چاپ چهارم: 978-964-493-344-8
يادداشت : عربي.
يادداشت : كتاب حاضر همراه با شرح و توضيح نامه هاي حضرت علي (ع) است كه توسط علي احمدي ميانجي گردآوري و تنظيم شده است.
يادداشت : ج.1 - 3 ( چاپ دوم ).
يادداشت : ج.1 تا 3(چاپ اول: 1384).
يادداشت : ج.4 ( چاپ اول: 1385 ).
يادداشت : ج.5 (چاپ اول: 1387).
يادداشت : ج.1-3(چاپ پنجم: 1389).
يادداشت : ج.5،4 و7 (چاپ سوم: 1389).
يادداشت : ج.6(چاپ چهارم: 1389).
يادداشت : كتابنامه.
يادداشت : نمايه.
مندرجات : ج.1و2 . مكاتيب الامام علي.- ج.3. مكاتيب الامام الحسن والحسين و علي بن الحسين و محمدبن علي.- ج.4. مكاتيب الامام جعفربن محمدالصادق والامام موسي بن جعفرالكاظم عليهما السلام.- ج.5. مكاتيب الامام علي بن موسي الرضا عليهما السلام و مكاتيب الامام محمد بن علي الجواد عليهما السلام.- ج.6.مكاتيب الامام علي بن محمد الهادي عليه السلام و مكاتيب الاما م الحسن بن علي العسكري عليه السلام.- ج.7. مكاتيب الامام ابي القاسم المهدي عجل الله فرجه الشريف.
موضوع : ائمه اثناعشر -- نامه ها
شناسه افزوده : فرجي، مجتبي، 1346 - ، محقق
شناسه افزوده : موسسه علمي - فرهنگي دارالحديث. سازمان چاپ و نشر
رده بندي كنگره : BP36/5/الف3م7 1385
رده بندي ديويي : 297/95
شماره كتابشناسي ملي : 1203857
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
ص: 7
تصديرالحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عبدِهِ المصطفى محمدٍ وآله الطاهرين ، وأصحابِهِ الخيارِ الميامينَ. المعصومون قُدوات لا تجِدُ عنهم البشرية بدلاً، وهي إن رامت بلوغ ذُرى الكمال الشامخ، فلا غنىً لها عن الاقتداء بهم والتأسّي بسيرتهم. فأقوالهم وأفعالهم تنمّ بكلِّ معنى الكلمة عن أمرٍ نبيلٍ وسامٍ، وأفكار رفيعة في مسار الحياة المثالية والمنشودة. والّذي بين أيدينا من هذا التُراث في الوقت الحاضر، عبارة عن أحاديث تمثّل سنّة المعصوم. ومع أنّ الحديث _ حسبما يفيد معناه اللُّغوي على الأقل _ يتجسّد في كثير من الحالات بصورة نقل أقوال وكلمات المعصوم، بيد أنّ ما كتبه المعصومون يمثّل هو الآخر أحاديث يُنظر إليها باعتبارها شيئاً مكتوباً لأقوالهم، أو تُعدُّ نوعاً آخر من أفعالهم، ولكنّها على كلّ حال تعبّر عن سنّة المعصوم، ويمكن إخضاع هذا النوع من الأحاديث الّتي وصلتنا على شكل مكاتيب، للبحث والدراسة من أوجه شتّى، إذ يمكن من جهة تعرّف طبيعة الأجواء السياسية والاجتماعية والثقافية لعصر المعصوم من خلال دراسة هذه المكاتيب، ويتسنّى من جهة أُخرى معرفة اُسلوب الحُكم وطرق نشر الثقافة ، من بين ثنايا بعض هذه المكاتيب . ومن جهة ثالثة يُتاح لنا أن نستشف من تلك المكاتيب العامّة للمعصومين لمحاتٍ نيرة خالدة وجّهوها إلى شيعتهم في مواقفَ شتّى. ومن الطبيعي أن يؤدّي الاطّلاع على الوثائق المكتوبة الّتي خلّفها لنا المعصومون، إلى تسليط مزيد من الضوء على الكثير من تعاليم مدرسة الأئمة، ويُتيحُ التعرّف عليها بشكل أفضل. وفي ضوء ما سبقت الإشارة إليه، فقد بادر المرحوم آية اللّه الشيخ علي الأحمدي الميانَجي إلى جمع مكاتيب المعصومين - رغم ما تحمَّله في هذا السبيل من عناء ومشقة - ودوّنَ إلى جانب كلّ مكتوب معلومات قيّمة عنه. فرفد بعمله هذا ميدان البحث والتحقيق، بمصدر غني في هذا المجال. سبق لسماحة الشيخ الأحمدي الميانَجي أن انتهى منذ سنوات خلت، من تدوين كتاب مكاتيب الرسول صلى الله عليه و آله ، وطُبع هذا الكتاب في إيران ولبنان عدّة مرّات، وحظي باهتمام الباحثين. وها هو كتاب مكاتيب الأئمة عليهم السلام يوضع اليوم _ وفي أعقاب رحيل سماحته _ قيد الإعداد والنشر . فياليته كان حاضراً بيننا ليشهد عن كثب جَني ثمار أتعابه، وإنْ كانت روحه ستنعم بالسرور قطعاً لإسداء هذه الخدمة. لقد بذل المؤلّف غاية وسعه في إعداد وتدوين هذا الكتاب، ولكنه مع ذلك بقي بحاجة إلى المراجعة من جديد، والإكمال والتبويب بشكل يتناسب مع مستجدّات العصر الحاضر، وما تتوفر فيه من الإمكانات. وانطلاقاً من ذلك فقد أُنجِزت هذه المهمّة تحت إشراف نَجل المرحوم، فضيلة حجّة الإسلام والمسلمين مهدي الأحمدي الميانجي، وبجهود فضيلة حجّة الإسلام مجتبى فرجي. وهنا نودَّ الإعراب عن جميل شكرنا لهذين الرجلين الفاضلين، ولكلِّ الزّملاء العاملين في مركز بحوث دار الحديث، ممّن كانت لهم إسهامات في مختلف مراحل إعداد هذا الكتاب، مع الدعاء للمرحوم بالرَّحمة والمَغفرة، ونسأل اللّه دوام التوفيق لكلّ من أعان على إخراج هذا الكتاب إلى النور. محمّد كاظم رحمان ستايش معاون الدراسات والبحوث في مركز بحوث دار الحديث
.
ص: 8
. .
ص: 9
المقدّمةالحمد للّه الّذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه ، وصلّى اللّه على سيّد المرسلين، وخاتم الأنبياء محمّد، وأهل بيته الطّيّبين الطّاهرين، الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا .
نبذة من سيرة آية اللّه الميرزا عليّ الأحمدي الميانجي رحمه اللهولادتهولد سماحة آية اللّه الميرزا عليّ الأحمدي في الرابع من شهر محرم الحرام ، عام 1345 ه ، المصادف للثالث والعشرين من شهر تير لعام 1305 ه . ش . في قرية بور سخلو ، على مسافة أربعة فراسخ من مدينة ميانه.
اُسرتهنشأ المُتَرجم لهُ في اُسرة علميّة ، وكان والده حجّة الإسلام الملاّ حسين عليّ ، من علماء الدين في تلك المنطقة ، وكان قد تربّى هو الآخر في اُسرة علمائيّة. وكان يمارس مهمّة التبليغ وإرشاد الناس ، ويعتاش على عمله في الزِّراعة . (1)
.
ص: 10
دراستهبعد انقضاء عهد طفولته ، تعلّم الميرزا عليّ الأحمدي الميانجي القراءة والكتابة على يد والده ، ودرس على يده أيضا كتبا مثل: نصاب الصبيان ، وگلستان (روضة الورد) ، ومنشآت قائم مقام ، وتاريخ جهانگشاي نادري. وفي عام 1358 ه توجّه من قريته إلى ميانه ، وحضر درس الشيخ أبي مُحمَّد حجّتي ، ودرس على يده الأدب العربي. (1) ودرس عنده أيضا حاشية الملاّ عبداللّه ، ومعالم الاُصول ، وشرح اللُّمعة ، وأجزاء من القوانين على يد الميرزا أبي محمّد حجّتي. ودرس أيضا على يد الشيخ لطف عليّ الشريفي الزنوزي ، والحاج الميرزا مهدي جديدي. وكان للميرزا لطف عليّ الزنوزي أثر كبير في حياته ، وبلورة شخصيته ، ودراسته ومسيرته. هاجر مدّة من الزمن إلى تبريز ، ومكث فيها عدّة أشهر ، وبعدها توجّه في شهر ذي القعدة من عام 1363 ه (1323 ه ش.) إلى قم ، وحضر درس آية اللّه السيد حسين قاضي الطباطبائي ، وآية اللّه أحمد كافي الملك ، وآية اللّه المرعشي النَّجفي . ثم شارك في دروس مرحلة البحث الخارج في الفقه والاُصول والتفسير ، لسماحة آية اللّه العظمى البروجردي ، وآية اللّه مُحقِّق الداماد ، وآية اللّه الگلپايگاني ، وآية اللّه الميرزا هاشم الآملي ، والعلاّمة الطباطبائي. وكان يبحث ما يتعلّمه من الدروس مع آية اللّه عبدالكريم الموسوي الأردبيلي ، وآية اللّه السيد إسماعيل الموسوي الزنجاني . وممَّا قاله في ذكرياته: ليست لديَ إجازة في الاجتهاد ، ولا إجازة نقل الحديث. وكان منهجي لا يحمل أيّة خصائص بارزة. فلم أهتم بالحصول على الإجازة ، ولم اُفكّر في استحصالها من أساتذتي ، وكنت اُحدث نفسي وأقول: إن كانَ لَدَيَّ علمٌ فنعمّا ، وإن لم يكن ، فالمرء لا يكتسبه من خلال استحصال ورقة يكتبها شخص. (2)
.
ص: 11
تدريسهكان لآية اللّه الأحمدي الميانجي رحمه الله حضور في الحوزة العلمية في قم المقدّسة ، على مدى ستّين سنة. وإلى جانب الدراسة ، كان في تلك السنوات يدرّس الفقه ، والاُصول ، والأخلاق ، ويسعى جاهدا في نشر علوم أهل البيت عليهم السلام. كانت لديه مهارة يندر مثيلها في تربية تلاميذه، وكان تدريسه في المراحل العليا _ خاصة تدريسه لمكاسب الشيخ الأنصاري _ لذيذا ومحبَّبا إلى القلوب. وكانت دروسه الأخلاقية في المدارس العلمية ، وفي الأوساط الثقافية والجامعية ، وفي مسجده في شارع إرَم في قم ، تثير الشَّغف لدى مستمعيه ، وكثيرا ما تؤثِّرُ فيهم وتجعلهم يذرفون الدُّموع ، إذ كانت الموضوعات التي يختارها لمحاضراته جذّابة جدّا ، ونذكر من بينها: شرح خطبة همّام ، وشرح دعاء مكارم الأخلاق ، وشرح دعاء أبي حمزة الثَّمالي . كان فقيها ومجتهدا بلا ادّعاء ، واقتصر حتى آخر عمره على تدريس المستويات العليا من دروس الكفاية والمكاسب. وكان يقول في ردِّ طلبات تلاميذه ومحبيه الذين كانوا يحثّونه على تدريس مرحلة الخارج ، وكتابة رسالة عملية: توجد رسائل عملية ودروس بحث خارج بالقدر الكافي _ والحمد للّه _ وليس هناك حاجة لتدريسي للبحث الخارج ، ولا لرسالتي العملية، يمكنكم الرجوع إلى شخص آخر من آيات اللّه .
بحوثه ومؤلّفاتهإلى جانب انشغال آية اللّه الأحمدي بتدريس الدروس الحوزوية ، كان يهتمّ أيضا بالبحث والتأليف. وأكثر مؤلفاته مبتكرة وجديدة في موضوعها ، وقد سدّت فراغا واضحا بين كتب الشيعة ، نذكر المطبوعة منها: 1 . مكاتيب الرّسول صلى الله عليه و آله : وهو كتابه النفيس ، الذي قال في مقدمته: «هذا الكتاب حصيلة عمري». قامت مؤسسة دار الحديث الثقافية بإعادة النظر في هذا الكتاب ، وتنقيحه وطباعته في أربعة مجلّدات عام 1377 ه ش . 2 . مواقف الشيعة: ويتضمن مناظرات وبحوثا أجراها علماء شيعة بارزون ، مع علماء من أهل السنّة ، ونشر من قبل مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية بقم المقدّسة . 3 . مالكيت خصوصى در اسلام (= الملكية الخاصّة في الإسلام) في مجلّدين . 4 . السُّجود على الارض . 5 . التبرّك. 6 . الأسير في الإسلام. 7 . مكاتيب الإمام الرِّضا عليه السلام . 8 . ظلامة الزهراء؛ إزاحة الارتياب عن حديث الباب . 9 . تحقيق كتاب «معادن الحكمة» لعلم الهدى . 10 . كتاب «عقيل بن أبيطالب رحمه الله» . 11 . مكاتيب الأئمّة عليهم السلام : _ وهو هذا الكتاب الذي بين يديك ، وتؤلّف مكاتيب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام قسما مهمّا منه . واضافة إلى هذه الكتب، نشر المرحوم الميانجي أيضا مقالاتٍ في مختلف المجلاّت في البلاد.
.
ص: 12
تفسيره للقرآنكان آية اللّه الميانجي وجماعة من كبار رجال الحوزة العلمية يعقدون مجالس للتباحث في تفسير القرآن. واستمرت هذه المجالس التي كانت تعقد اُسبوعيا ، أكثر من خمسين سنة. وكان يحضرها كلٌّ من آية اللّه السيد موسى الصدر ، وآية اللّه السيد موسى الشُّبيري الزنجاني ، والمرحوم آية اللّه السيد مهدي الرَّوحاني ، وآية اللّه السيد أبو الفضل مير محمّدي ، وقد قال آية اللّه الأحمدي الميانجي عن تلك المجالس: كان من خصائص بحثنا التفسيري أنَّه لم يكن عن كتاب معيّن ، وإنّما كان كلُّ واحد منّا يطالع مصادر شتّى في داره ، ويأتي إلى المجالس ليقرأ على مسامع الآخرين خلاصة ما طالعه. وكلّ من يقرأ بحثه كان يتعرّض لموجة من الإشكالات التي يثيرها ضدَّه الآخرون. وكان يردُّ عليها ، أو ربّما يعجز عن الردّ. وكنتُ أنا أُلخّص حصيلة ما استفدناه منها ، وأقول: «من فوائد مجلسنا التفسيري هذا ، أنَّ آيات اللّه المحكمة تغدو فيه متشابهة!» وكان كلامي هذا يحمل طابع المزاح ؛ فقد كان السادَّة الحاضرون يعرضون إشكالات وتدقيقا إلى الحدّ الّذي يؤدِّي بالشخص إلى التخلّي عن الرأي والاحتمال الذي تكوّن لديه أثناء المطالعة .
.
ص: 13
صفاته1 . الإخلاص: كان عطر الإخلاص يفوح من جميع حركاته وسكناته ، وكان باستطاعة الجميع استنشاق ذلك العطر . فقد كان سماحته يضع اللّه نصب عينيه في كُلِّ عمل ، متحرزا عن الأهواء والهواجس الشَّيطانية. وكان يتجنّب بشدّة جميع صور الرِّياء والتظاهر في ميدان العلم ، وفي ميدان مكارم الأخلاق ، على حدّ سواء. 2 . التّقوى: ما كان يعتبر الانطوائية والعزلة من التَّقوى في شيء. بل كان يرفض الانطوائية ، ويجسِّد التَّقوى بمعناها الإيجابي ، الذي يعني العيش بين الناس وفي الوسط الاجتماعي ، وخدمة الناس والدِّين. 3 . الإيمان بولاية الفقيه: كان شديد الاعتقاد بولاية الفقيه المطلقة ، والامتثال لها وللأحكام الحكوميّة. وكان يرى وجوب الالتزام حتّى بالقوانين والتعليمات العادية ، ويقول: إذا خالف أحد التعليمات المرورية ، ولم يكن هناك شرطيٌّ يفرض عليه غرامة ، يجب أن يبادر هو من تلقاء نفسه إلى دفع الغرامة المقرّرة الى خزينة الدولة. 4 . العبادة: كان ينهض من النوم قبل ساعتين من أذان الفجر ، للتهجّد والدُّعاء والتضرّع إلى اللّه . ولكنَّه كان يقوم بهدوء؛ لكي لا يزعج أفراد اُسرته ويوقظهم من النوم. وكان يُعرّف الرياضة بأنّها: أداء الواجبات وترك المحرّمات. ويوصي بالاعتدال في كلّ الاُمور ، حتّى في العبادة وفي زيارة قبور الأئمّة. 5 . خدمة الناس: كانت لديه رغبة عميقة في تقديم ما يمكن من خدمة للناس ، ولم يكن يشعر بالكلل والملل من كثرة المراجعين ، بل بالعكس كان يستقبلهم بكلّ ودّ ، ويعمل جهد استطاعته لحلِّ مشاكلهم ، وحتى إذا رنَّ جرس الهاتف أثناء تناوله الطّعام أو أثناء نومه ، ما كان يتوانى عن الجواب. 6 . قطع الرجاء من الآخرين: لم يكن يرتجي شيئا من أحد ، ولا حتّى من أولاده ، وأصهاره ، وزوجات أبنائه ، وإنَّما كان يقول لهم: لاتستشيروني في اُموركم ، واعلموا أنّ زمانكم يختلف عن زماننا؛ فإذا أشرت عليكم بما يصعب عليكم عمله ، أو يتعارض مع رغباتكم ، فاعملوا حسب مشيئتكم. وأنا لا أرتجي منكم ما هو أكثر من ذلك. 7 . الحضور في جبهات الحرب: لم يكتف آية اللّه الأحمدي في حياته بارتياد المدرسة والمسجد واعتلاء المنبر ، بل كان _ أثناء الحرب الدفاعية التي خاضتها الجمهورية الاسلامية الإيرانية ضدّ الهجوم العراقي _ يتوجّه إلى جبهات الحرب مرّتين في كلِّ سنة ، و يتفقّد الخطوط الأمامية لجند الإسلام ، ويحثُّهم على الجهاد في سبيل اللّه وطاعة الولي الفقيه.
.
ص: 14
عطاؤه الإجتماعي ، والثقافي ، والسّياسيللمرحوم الأحمدي عطاء وافر نشير منه إلى أعماله التالية: تأسيس جمعية الدين والعلم في مدينة ميانه ، وتربية مئات الشباب فيها ، وإقامة دورات للمعارف الإسلامية في تلك المدينة ، إضافة إلى إيجاد صندوق «مهدية» للقرض الحسن ، وإنشاء مؤسسة نسوية لحياكة السجّاد في تلك المدينة. وفي عام 1370 ه . ش. أسس بالتّعاون مع جماعة من علماء الدين الحريصين ، جمعية في مدينة قم اسمها: الجمعية الإسلامية للناصحين. وأخذت هذه الجمعية ، التي انضوى تحت لوائها ثلاثة آلاف شخص ، تمارس مهام النُّصح والإرشاد والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، بالكلام الطيّب. وسماحة الشيخ الميانجي _ رحمه اللّه _ أحد الأعضاء المؤسسين لصندوق علوي للقرض الحسن في قم المقدّسة ، وينشط هذا الصندوق في مجال تلبية الاحتياجات الماديَّة للفقراء والمحرومين. تأسست جمعية الزهراء الخيرية عام 1369 ه ش ، باقتراح ومشاورة عدد من أساتذة الحوزة العلمية في قم ، وعدد من المحسنين ، وكان منهم المرحوم سماحة آية اللّه الأحمدي الميانجي ، والمرحوم آية اللّه السيّد مهدي الرَّوحاني . ومنذ انطلاق النهضة الإسلامية ، واكب المرحوم بنشاطه خطوات الإمام الخميني والشَّعب الثوري. وفي أعقاب انتصار الثورة ، لم يبتعد لحظة واحدة عن وقائع البلاد المهمَّة ، وكان يحرص على العمل بواجبه الإسلامي . كان لحضوره في جبهات الحرب على مدى ثمان سنوات من الدفاع المقدّس ، تأثير في تأجيج الرُّوح القتاليَّة في نفوس جنود الإسلام ، وقدّم ولده الشهيد جعفر الأحمدي ، في سبيل الدِّفاع عن حياض الإسلام.
.
ص: 15
وفاتهوأخيرا حلَّقت روحه النبيلة نحو عالم الخلود ، يوم الإثنين 21 / 6 / 1379 ه ش ، بعد «75» سنة قضاها في التَّقوى والسّعي لتحقيق الأهداف السامية للرسول وأهل بيته. ودفن جثمانه الطاهر في حرم السيّدة المعصومة ، في مدينة قم المقدّسة.
وصيّتهبسم اللّه الرحمن الرحيم الحمدللّه على نعمائه وآلائه ، وصلى اللّه على محمّد سيِّد الأنبياء وآله المعصومين ، واللَّعن على أعدائهم أجمعين. اللهم كن لوليِّك الحُجَّةِ بن الحسن ، صلواتُكَ عليه وعلى آبائهِ ، في هذه السّاعة وفي كلِّ ساعةٍ ، وليّا وحافظا ، وقائدا وناصرا ، ودليلاً وعينا ، حتى تسكنه أرضك طوعا ، وتُمتّعَهُ فيها طويلاً ، و... أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده و رسوله ، أرسله بالهدى ليظهره على الدين كُلِّه ولو كره المشركون. وأشهد أن ما جاء به حقٌّ ، وأن أميرالمؤمنين عليَّ بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، وعليّ بن الحسين ، ومحمّد بن عليّ ، وجعفر بن محمّد ، وموسى بن جعفر ، وعليّ بن موسى ، ومحمّد بن عليّ ، وعليّ بن محمّد ، والحسن بن عليّ ، والحجة بن الحسن أوصياؤه ، وهم الأئمّة المعصومون ، وخلفاء اللّه تعالى في أرضه ، تجب طاعتهم ، وأنّ مَنْ والاهم فقد والى اللّه ، ومن عاداهم فقد عادى اللّه . وأشهد أنّ الموت حقّ ، و سؤال المَلَكين ، وعذابَ القبر ونِقَمَهُ حقّ ، وأنّ القيامة حقّ ، والجنّة حقّ والنار حقّ ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور. كتبت هذه الكلمات المعدودة كوصيّة في يوم الأحد ، السادس من شهر رجب 1420 ه ، المصادف 24 من شهر مهر 1378 ه ش . عندما كنتُ متوجِّها إلى زيارة بيت اللّه الحرام ، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وفاطمة الزهراء (عليهاالسلام) ، والأئمَّةِ الكرام سلام اللّه عليهم أجمعين ، وهذا نصّها: 1 . يجري العمل وفق الوصية التي كتبتها سابقا ، وهي موجودة في الدّرج الحديدي الذي اشتراه جعفر ، إلا إذا كان هناك مخالف. 2 . ليس لديَ من مال الدنيا شيء أوصي به. هناك فقط الدار السَّكنية ، وهى تبقى وما فيها من مستلزمات وأدوات منزلية ، تحت تصرف زوجتي مادامت على قيد الحياة. 3 . بعض وسائل الدار من سجّاد وغيره ، ملك لزوجتي ، ويجري العمل فيه وفقا لقولها. 4 . إن لم تستطع سَكن الدار بمفردها ، لها أن تحوّل الطابق الثَّاني إلى غرف وهول ، وتؤجِّره لمن ترتضيه ، وترتاح له ، ليكون لها عونا على نفقتها. 5 . من بعدها يمكن للورثة تقسيم الدار كيفما يشاؤون. 6 . تكون كتبي موضع استفادة من بعدي . فإن كان هناك من أولادي وورثتي أحد من أهل العلم ، فله الاستفادة منها ، وإن لم يكن بينهم أحد من أهل العلم _ لا سمح اللّه _ تُهدى إلى إحدى مكتبات الحوزة العلمية في قم ، أو المدرسة الفيضية ، أو مكتبة آية اللّه المرعشي رحمة اللّه عليه ، لتكون لي من الباقيات الصالحات. 7 . على الورثة أن يتصرَّفوا بشكلٍ لا يزعج والدتهم ، ويكونون _ بإذن اللّه _ متديّنين وملتزمين ، ولا تقع بينهم مصاعب وإزعاجات. 8 . أودّ أن يكون هناك دائما واحد أو أكثر من أبنائي مكبّا على اكتساب العلم. وقد دعوت اللّه أن لا يقطع من ذريّتي العلم والعلمائيَّة ، إنَّهُ قريب مجيب. 9 . توضع كتبي التي لم تطبع بعد ، تحت تصرّف المؤسسات ، لكي تُنظّم وتُحقَّق وتُطبع. 10 . كلّ ما يعود من حقوق الطبع والنَّشر ، يوضع تحت تصرف زوجتي لتنفقه على نفسها ، أو تخصصه لمورد إنفاق معيّن. 11 . تُجمع كتاباتي التي تُعتبر حصيلة عمري لتكون موضع استفادة. 12 . إذا رجعت من هذا السَّفر سالما ، ومتُّ في إيران ، أُدفن في أرض قم. وحيثما أُدفن من قم ، فإنني في حِمى السيِّدة المعصومة ، وأودّ أن اُدفن في مقبرة «الشيخان» على الأقل. 13 . اطلبوا لي العفو من الناس في أقرب فرصة بعد دفني ، وخاصة في ميانه وقم ، ومن الأصدقاء الذين هم أعلام الأمّة وهُداتها ، ومن أهالي بورسخلو حيث قضيتُ عهد الطُّفولة هناك ، ومن المؤكَّد أنَّ احتمالات الزلل كثيرة في ذلك العهد. 14 . اجتنبوا مظاهر البهرجة والتفاخر عند موتي ، هذه الاُمور تمثّل في حقيقة الحال كماليات الأحياء. ولا تكلِّفوا أنفسكم مشقّة الأعراف الجارية بين الناس. 15 . لا تنسوني في مواضع استجابة الدُّعاء ، واذكروني بالاستغفار والدعاء ، وأقيموا مراسيم العزاء في الأيام الفاطمية ما استطعتم. 16 . لتكن علاقتكم مع بعضكم علاقة ودٍّ وتراحم وتواصل ، فالدنيا لا تستحقُّ التشكّي والتنازع والتباغض. الدنيا لا تساوي شيئا حتى توقعوا أنفسكم من أجلها في ما لا يُرضي اللّه . فإن أطال اللّه في عمري ورجعت إليكم حيّا ، فسأكتب لكم إن شاء اللّه شيئا ، رغم قناعتي بكفاية ما كتبه غيري من العلماء الأعلام. وأوصيكم باحترام الكبار وخاصَّة الحاج مهدي الذي هو في مكاني ، ولا تنسوا الشَّفقة على الصِّغار والرأفة بهم. 17 . أوصيكم بالتقوى واجتناب المعاصي. وأدعوكم إلى أن توطّدوا ارتباطكم بأهل البيت عليهم السلاميوما بعد يوم. وتوسّلوا بهم على الدَّوام ، ولو بقراءة الزيارة الجامعة ، أو زيارة أمين اللّه ، أو زيارة عاشوراء. اشكوا إليهم همومكم ، وتوسّلوا بهم ، ولا تطرقوا بابا غير بابهم ، وكونوا على صِلَةٍ دائمة بالإمام المهدي عليه السلام . 18 . وفي الختام أستودعكم اللّه َ جميعا. لقد كنت على الدَّوام حريصا على سعادتكم وقضاء حوائجكم ، ولم تغيبوا عن بالي في الدُّعاء. وسأدعو لكم بالخير في عالم الآخرة أيضا ، إن شاء اللّه تعالى. والدكم المقرّ بالذنب عليّ الأحمدي الميانجي 24 / 7 / 1378 _ 6 / 7 / 1420 ه _ الأموال التي في حسابي في صندوق علوي للقرض الحسن، وفي بنك صادرات، شُعبة خاك فرج في الحساب رقم 1468 ، ورقم 74268 ، هي سهم الإمام(ع) .
.
ص: 16
. .
ص: 17
. .
ص: 18
الكتاب الذي بين أيديكموقعت في العصر الذي عاش فيه الأئمة عليهم السلام أحداث جسيمة ، و تقلّبت الأحوال ، و تربّع على كرسي الخلافة اشخاص ، وسقط عنه آخرون ، وقامت دول وانهارت اُخرى، واتّسعت رقعة الدولة الإسلامية، و تمدّد تبعا لذلك وجود الشيعة في شتّى الأقطار والأمصار. وعاشوا ظروفا سياسية و اجتماعية تباينت درجات شدّتها وضعفها ، وتنوع جوُّ الانفتاح أو الكبت الذي ساد فيها تبعا لتلك الظروف. فكان من الطبيعي أن تؤثّر هذا الأوضاع في علاقات الأئمّة عليهم السلام ، وتشعّباتها وامتداداتها وسعتها وضيقها. وكانت مكاتبات الأئمة مع أشياعهم ومواليهم من جملة الأشياء التي تأثّرت بهذه المتغيّرات؛ فقد ازدادت في حين وتقلّصت في أحيان اخرى ، أو أنّها كان يغلب عليها طابع الخفاء والسرّية في بعض العهود، أو ربّما كانت أفضل من ذلك الحال في عهود اخرى. ونظرا إلى ما تحظى به هذه المكاتيب من أهمية بالغة في تبيين مواقف الأئمّة تجاه الوقائع والأحداث الجليلة وغيرها والتعرّف على سننهم فيها ومنهجهم في التعامل معها، قام المحقّق الجليل آية اللّه الشيخ عليّ الأحمدي الميانجي بإعداد موسوعة ضخمة تضم جميع ما وصل إلينا منها ، وهي هذا الكتاب الّذي بين أيديكم . وبعد رحيله قمنا بتحقيق هذا الكتاب ومراجعة نصوصه وإعداده للطبع كما سنشير لاحقا . على العموم نودّ الإشارة إلى أنّ بعض مكاتيب الأئمّة كانت قليلة جدا _ أو هكذا يبدو لنا، فلربّما كانت هناك مكاتيب اُخرى عفا عليها الزمن أو ضاعت في ما ضاع من تراثنا _ حتى أنّنا جمعنا مكاتيب عدّة أئمة في مجلّد واحد، بينما مكاتيب بعضهم الآخر كثيرة الى حدٍّ ما، وهذا ماجعلنا نفرد مجلدا مستقلاً لمكاتيب إمام واحد. ولابدّ أيضا من الإشارة إلى ملحوظة صغيرة اُذكّر بها من يقرأ هذه الكلمات ، وهي أنّ جمع وتبويب وطباعة ونشر أمثال هذه الكتب والرسائل ما هو إلا وسيلة، وأمّا الغاية فهي الاستفادة من مضامينها والعمل بما جاء فيها حتّى وإن قلّ، وكيف يقل ما يُتقبَّل . يضم هذا الكتاب كلَّ ما أمكن العثور عليه من رسائل ومكاتيب الأئمّة المعصومين عليهم السلام في مختلف الشؤون التي كانوا يهتمون بها ، سواء كانت تتعلّق بشؤون الدين أم بشؤون الدُّنيا. وقد حرصنا أشدّ الحرص على جمع كلّ ما تيسّر جمعه من مكاتيبهم ، رجاءً للفوائد المعنوية التي تنشأ عن نشرها، فعسى أن يتَّعظ أحد بموعظة جاءت فيها، أو عسى أن يستنير مستهد بوهج قبس من قبساتها، أو يتخلّق امرؤ بنصيحة وردت بين ثناياها، أو يستفيد منها في مجال الدراسات التاريخية و غيرها. وحاولنا تبويب هذه المكاتيب على أفضل وجه ممكن ؛ من أجل أن تظهر بمايتناسب مع شرف مصدرها ، وتسهيلاً لمهمة الباحث والقارى ء ، لكي يصل إلى بغيته منها بأقل جهد وأقصر وقت، ولكي لا يتشتّت فكره ، و يضيع فى متاهات البحث والتنقيب. ويتميّز هذا الكتاب _ مع أخذ عدّة خصائص بنظر الاعتبار _ عن الكتب الاُخرى التي جُمعت فيها هذه المكاتيب، بعدَّة مزايا، هي : 1 . جَمْع ما تيسّر جمعه من المكاتيب والوصايا، وترتيبها تحت عناوين مستقلّة . 2 . تبويب تلك المكاتيب حسب المقاطع الزّمانية والمكانيّة ، في ضوء القرائن والشواهد المتوفّرة . 3 . تقديم نبذة عن سيرة أصحاب وعمّال أمير المؤمنين وسائر أئمتنا عليهم السلام ، خاصة من كانت له منهم صلة بشؤون الكتابة ؛ إذ إنّ لمعرفة سيرتهم تأثيرا مهمّا في استجلاء ظروف وأجواء كتابة الرّسائل . 4 . ذكر ما يقتضي الحال ذكره من التنبيهات والتوضيحات، من أجل تسليط الأضواء على ما يستلزم الشفافيَّة والوضوح . 5 . ضبط النُّصوص وإسنادها ، مع الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة النصِّ وقِدَمه، ورتبة مصدر صدوره ، وتقديمه على بقية المصادر، على أساس ضوابط معيّنة سلفا . وفي مقدّم هذه المكاتيب، مكاتيب الإمام عليّ عليه السلام ، و هي تؤلّف قسما مهمّا منها. فإنه كان أمير المؤمنين عليه السلام قد بعث طيلة حياته، سواء في عهد خلافته، أم قبل ذلك رسائل ومكاتيب إلى بعض الأشخاص ، وكان قد كتب قسما منها بيده ، وأملى القسم الآخر فكتبه غيره . كانت هذه الرسائل _ المعروفة بالمكاتيب _ قد جُمِعت ونشرت كُتبا من قَبل على أيدي علماء أفاضل كالسيِّد الرضيّ رحمه الله في نهج البلاغة، وعلم الهدى نجل الفيض الكاشاني رحمه الله في معادن الحكمة، والشيخ محمّد باقر المحمودي في نهج السَّعادة ، وغيرهم . اعتمد مؤلف الكتاب على مصادر وثيقة في جمع هذه المكاتيب، وكتب أيضا تعليقات قيّمة على كتاب معادن الحكمة ، لمؤلفه نجل الفيض الكاشاني . وانطلاقا من الرّغبة في إكمال هذا الكتاب، بادرنا إلى الاستفادة من المجالات التي يتيحها الحاسوب لإجراء التنقيب لتتبع المزيد من رسائل ومكاتيب الأئمَّة عليهم السلام ، وراجعنا مصادر النّصوص التي كان قد أوردها المؤلّف ، ودوّناها في مواضعها . وكذلك أضفنا إلى هذا الكتاب كُلَّ ما جاء في كتاب معادن الحكمة من مكاتيب الإمام علي عليه السلام ؛ ليتسنّى للقرَّاء الكرام الاطّلاع على كل مكاتيبه في كتاب واحد . يمكن تقسيم مختلف مراحل حياة الإمام علي عليه السلام إلى الأدوار التالية : الدور الأول : معاضدته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله من بداية بعثته إلى رحلته . الدور الثاني : بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إلى حين خلافته . الدور الثالث : بعد خلافته عليه السلام ، حتى قدومه إلى الكوفة . الدور الرابع : من قدومه عليه السلام ، إلى الكوفة إلى ما بعد معركة صفّين . الدور الخامس : من بعد معركة صفين إلى نهاية معركة النهروان . الدور السادس : من بعد معركة النهروان إلى استشهاده عليه السلام . وعلى هذا الأساس حاولنا جهد الإمكان تنظيم جميع هذا المكاتيب، وفقا للتسلسل التاريخي لهذه الأدوار . وأفردنا في نهاية الكتاب فصلاً آخر لمكاتيبه التي تعذّرت معرفة انتمائها الى عهد معيّن . والجدير بالذكر أنَّ المؤلِّف المحقق قد جمع المكاتيب الفقهية التي أملاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكتبها الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام ، ووردت في أخبار الأئمة الأطهار عبارات تشير إليها كقولهم: «إنّ في كتاب عليّ» أو «في كتاب عليّ بن أبي طالب» أو «وجدنا في كتاب عليّ» أو «قرأت في كتاب عليّ» أو «قرأت في كتاب لعليّ» أو «في صحيفة من صحف عليّ» وأمثالها. و قد أورد المؤلّف النصوص الواصلة إلينا من هذه الكتب فى الموسوعة التي اُطلقِ عليها تسمية مكاتيب الرسول تحت عنوان: «الأمر الثالث» (1) ولكنّه لم يدرج مكاتيب الإمام عليّ عليه السلام ، التي كتبها بإملاء رسول اللّه ، في عداد مكاتيب الأئمّة عليهم السلام ، فمن أراد الاطّلاع عليها فليراجع هناك. تتألّف محتويات هذا الكتاب من المباحث التالية: 1 . المكاتيب 2 . الوصايا 3 . ترجمة من له علاقة بالمكتوب أو الوصية 4 . المكاتيب الفقهية و هذا القسم الرابع من المكاتيب يبدو أوّل وهلة وكأن المكاتيب التي وردت فيه تبدأ من عصر الإمام الباقر عليه السلام و تتزايد في عهود باقي الأئمَّة عليهم السلام ؛ إذ إنّنا لم نعثر عليها في مكاتيب الأئمّة من قبله عليه السلام . وفي الختام لابدَّ أن نعربَ عن جزيل شكرنا لكلِّ من عاضدونا على إعداد هذا الكتاب للنشر ، وخاصّة قسم إعداد الكتب في مركز البحوث، التابع لمؤسّسة دارالحديث ، مع فائق اُمنياتنا لهم بالموفقية على طريق نشر معارف أهل البيت . مهدي الأحمدي الميانجي مجتبى فرجي
.
ص: 19
. .
ص: 20
. .
ص: 21
. .
ص: 22
. .
ص: 23
الفصل الأوّل : مكاتيبه قبل خلافتهالباب الاوّل : مكاتيبه عليه السلام في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آلهالباب الثاني : مكاتيبه عليه السلام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى حين خلافته
.
ص: 24
. .
ص: 25
الباب الاوّل :مكاتيبه عليه السلام في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آلهيمكن تقسيم المكاتيب العلويَّة في تلك الحُقْبَة الزَّمنيَّة إلى قسمين : أ _ المكاتيب الَّتي كان الإمام عليه السلام كاتبا لها فقط . ب _ المكاتيب الَّتي أنشأها الإمام عليه السلام بنفسه و خطّها بيده الكريمة أو أملاها على غيره . أمَّا القسم الأوَّل : فهي الموارد الَّتي كتبها الإمام طبقا لأوامر النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في الحُقَبْ المختلفة ، وبخطّه الشَّريف والَّتي وصلت إلينا ، وقد أوردناها مفصَّلاً في كتاب مكاتيب الرَّسول صلى الله عليه و آله ؛ وهذا النوع من المكاتيب خارج عن موضوع هذا البحث كما لا يخفى ، ولذا آثرنا عدم ذكرها هنا ، ويمكن لمَن أراد مطالعتها الرُّجوع إلى ذلك الكتاب . وأمَّا القسم الثَّاني : فتجدر الإشارة إلى أنّه لم يصل إلينا شيءٌ معتدٌّ به، سوى ما جاء في بعض المصادر من عناوين لبعض المكاتيب ، إلاّ أنّها تفتقر إلى نصّ الكتاب أو إلى النصّ الكامل له . وقد ارتَأينا أن ننقل هاهنا شاهدين تأريخيّين كنموذجين لِما ذكَرنا ، دون أن نبذل كثير تتبّع في هذا المجال . النموذج الأوَّل : في توجيهِ رسول اللّه صلى الله عليه و آله سَريَّة عليّ بن أبي طالب إلى اليَمن في رمضان : عن البَراء بن عازب : بعثَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله خالدَ بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام ، فكنت فيمَن سار معه ، فأقام عليه ستَّةَ أشْهُر لا يجيبونه إلى شيء ، فبعث النَّبي صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب ، وأمَرَه أنْ يُقْفِلَ خالد ا ومَن معه ، فإنْ أرادَ أحدٌ ممَّن كان مع خالد بن الوليد أنْ يُعقِّبَ معه تركه . قال البراء : فَكُنتُ فِيمَن عَقَّبَ مَعَهُ ، فلمَّا انتهينا إلى أوائل اليمن ، بَلَغَ القَومَ الخبرُ ، فَجَمَعُوا لَهُ ، فصلَّى بنا علي ٌّ الفجر ، فلمَّا فرَغ صَفَّنا صفّا واحدا ، ثُمَّ تقدَّم بين أيدينا ، فَحَمِدَ اللّه َ وأثنى عليه ، ثمَّ قرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأسلمَتْ هَمْدان ُ كلُّها في يَوم وَاحِدٍ ، وَكَتَبَ بذلِكَ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فَلمَّا قَرأ كِتابَهُ خرَّ ساجدا ، ثُمَّ جلس ، فقال : « السَّلامُ عَلَى هَمْدان َ ، السَّلامُ عَلَى هَمْدانَ » . ثُمَّ تتابَع أهلُ اليمن على الإسلام . (1) النموذج الثَّاني : انصرف عَمرو ( بن مَعْدِيكَرِب ) مُرتدّا ، فأغار على قومٍ من بَنِي الحارث بن كَعْب ، ومَضى إلى قومه . فاستدعى رسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فأمَّره على المهاجرين ، وأنفذه إلى بَني زُبَيد ، وأَرسلَ خالدَ بنَ الوليد في طائفة من الأعراب ، وأمَرَه أن يَقصِدَ الجُعْفِي ّ ، فإذا التقَيا فأميرُ النَّاس عليُّ بن أبي طالب . فسارَ أميرُ المؤمنين ، واستعمل على مُقدِّمَتِهِ خالدَ بن سعيدِ بنِ العاص ، واستعمل خالدٌ على مقدِّمته أبا موسى الأشْعَرِي ّ . فأمَّا جُعْفِي ّ فإنَّها لمَّا سَمِعَتْ بالجَيش افترقَتْ فِرقتينِ ؛ فذهبت فرقةٌ إلى اليَمن ، وانضمَّتْ الفرقةُ الاُخرى إلى بَني زُبَيد . فبلَغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ، فكتَب إلى خالد بن الوليد أنْ : « قِفْ حَيْثُ أدْرَكَكَ رَسُولِي » . فلم يَقِف ، فكتَب _ عليٌ عليه السلام _ إلى خالد بن سَعيد : « تَعَرَّضْ لَهُ حَتَّى تَحْبِسَه » فاعترض له خالد حتَّى حَبَسه ، وأدركه أميرُ المؤمنين عليه السلام ، فعَنَّفه على خلافه . ثُمَّ سار حتَّى لَقِي بَني زُبَيد بوادٍ يقال له : كُشر (2) . فلمَّا رآه بنو زُبَيد ، قالوا لعمرو : كيف أنْت _ يابا ثور (3) _ إذا لقيَك هذا الغلامُ القُرَشيّ فأخذ منك الإتاوة (4) ؟ قال : سيعلم إنْ لقيني . قال : وخرج عَمْرو فقال : هل من مبارز ؟ فنهض إليه أميرُ المؤمنين عليه السلام ، فقام خالدُ بن سعيد فقال له : دَعْني يا أبا الحسن _ بأبي أنت وأُمِّي _ اُبارزه . فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « إنْ كُنتَ تَرى أنَّ لي عَلَيكَ طاعَةً فَقِفْ مَكانَكَ » . فوقف ، ثُمَّ بَرَزَ إليه أميرُ المؤمنين عليه السلام ، فصاح به صيحةً فانهزم عمرو ، وقُتِل أخوه وابنُ أخيه ، واُخِذَتْ امرأته رُكانَةُ بنت سَلامة ، وسُبي منهم نِسوانٌ ، وانصرف أميرُ المؤمنين عليه السلام ، وخَلَّف على بَني زُبَيد خالد بن سعيد ليَقْبِضَ صدقاتهم ، ويُؤمِنَ من عاد إليه من هُرَّابهم مُسلما (5) .
.
ص: 26
. .
ص: 27
. .
ص: 28
. .
ص: 29
الباب الثّاني :مكاتيبه عليه السلام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى حين خلافته1كتابه عليه السلام إلى أبي بكروجاء في رسالة من أمير المؤمنين عليه السلام إلى أبي بكر ، لمَّا بلَغَه عنْه كَلام بعد منع الزَّهراء عليهاالسلام فدكا :« شَقُّوا متَلاَطِمات أمْواجِ الفِتَن بِحَيَازِيمِ سُفُنِ النَّجاةِ ، و حَطُّوا تِيجَانَ أَهلِ الفَخْرِ بجمع أَهْلِ الغَدرِ ، واسْتَضَاءُوا بِنُورِ الأنْوار . وَاقْتَسَمُوا مَوَاريثَ الطَّاهراتِ الأبرارِ ، وَاحْتقَبُوا ثِقلَ الأوْزَارِ ، بِغَصْبِهِم نِحلَةَ النَّبيِّ المُختَارِ . فَكَأنِّي بِكُم تَتَردَّدُون في العَمى ، كمَا يَتَردَّدُ البَعِيرُ فِي الطَّاحُونَةِ . أمَا وَاللّه ِ ، لَو أُذِنَ لي بِما لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ، لَحَصَدتُ رُؤوسَكُم عَن أَجْسادِكُم كحَبِّ الحَصِيد ، بقَواضِبَ مِن حَدِيدٍ ، وَلَقَلَعتُ منِ جَماجِمِ شَجْعَانِكُم ما أُقرِحُ بِهِ آمْاقَكَم ، وَأُوحِشُ بِهِ مَحَالَّكُم ، فَإنِّي _ مُنْذُ عُرِفْتُ _ : مُرْدِي العَساكِر ، وَمُفْنِي الجَحَافِل ، وَمُبِيدُ خَضرَائِكُم ، وَمُخمِّدُ ضَوضَائِكُم ، وجَزّار الدَّوَارينَ ، إذْ أنْتُم في بُيوتِكُم مُعْتَكِفونَ ، وإنِّي لَصاحِبُكُم بالأَمسِ ، لَعَمرُ أَبِي لَنْ تُحِبّوا أنْ تَكُونَ فيْنا الخلافَةُ وَالنُّبوَةُ ، وَأَنتُم تَذكُرونَ أَحْقادَ بَدْرٍ ، وثارَاتِ أُحُدٍ . أمَا وَاللّه ِ ، لَو قُلتُ ما سَبَقَ مِنَ اللّه ِ فِيكُم ، لَتدَاخَلَت أَضلاعُكُم في أَجوَافِكُم كَتَداخُل أسْنان دِوَّارة الرَّحى ، فإنْ نَطقتُ تَقُولُونَ : حَسَدَ ، وإنْ سَكتُّ فَيُقالُ : إنَّ ابن أبي طَالِبٍ جَزعَ مِنَ المَوتِ ، هَيْهَاتَ هَيْهاتَ ! ! السَّاعةَ يُقالُ لي هَذا ؟ ! ! وأنَا المُميت المائِت ، وَخوَّاضِ المَنايَا في جَوْف لَيلٍ حَالِك ، حَامِل السّيْفَينِ الثَّقيلَينِ ، وَالرُّمْحَينِ الطَويلَيْنِ ، وَمُنَكِّس الرَّايات في غَطْامِطِ الغَمَراتِ ، وَمُفَرِّج الكُرُبات عن وَجْه خَيْرِ البَريَّات . أيْهِنُوا ! فوَ اللّه ِ ، لاَبنُ أبي طالب آنَسُ بالمَوْتِ من الطِّفل إلَى مَحالِبِ أُمِّه . هَبَلَتكُم الهَوَابِلُ ! لَوْ بُحتُ (1) بما أنَزلَ اللّه ُ سُبحانَهُ فِي كتابِهِ فِيْكُم ، لاَضْطَرَبْتُم اضْطِرَابَ الأَرشِيَةِ في الطَّويّ البَعِيدةِ ، وَلَخَرَجْتُم من بيُوتِكُم هَارِبِينَ ، وَعَلَى وُجُوهِكُم هَائِمينَ ، وَلَكِنِّي أُهَوِّنُ وَجدِي حتَّى ألْقى رَبِّي بيَدٍ جَذَّاءَ صَفراءَ مِن لَذَّاتِكُم ، خِلوَا مِن طَحَناتِكُم ، فما مَثَل دُنياكُم عِنْدِي إلاَّ كمَثَل غَيمٍ ، عَلا فاسْتَعْلَى ثُمَّ اسْتَغلَظَ فاسْتَوى ، ثُمَّ تَمزَّق فانْجَلَى ، رُوَيدا ! فَعَن قَلِيلٍ يَنْجَلِي لَكُم القَسَطلُ (2) ، وتَجنُونَ ( فتجدون ) ثَمرَ فِعلِكُم مُرّا ، وَتَحصُدُونَ غَرسَ أيْدِيكُم ذُعَافا (3) مُمقِرا (4) ، وَسُمَّا قَاتِلاً ، وكفَى باللّه ِ حَكِيما ، وَبِرَسُولِ اللّه ِ خَصِيما ، وبالقِيامَةِ مَوْقِفا ، فَلا أبعَدَ اللّه ُ فيها سِوَاكُم ، وَلا أتَّعسَ فيها غَيْرَكُم ، وَالسَّلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدى (5) » .
.
ص: 30
. .
ص: 31
2كتابه عليه السلام إلى سَلْمان الفارسِيّأمَّا بَعدُ ، فإنّما مَثَل الدُّنيا مَثَلُ الحَيَّةِ ، لَيِّنٌ مَسُّها، قاتِلٌ سَمُّها، فأعْرِض عمَّا يُعْجِبُك فِيها لِقِلَّةِ ما يَصْحَبُك منْها ، وضَعْ عنْك هُمُومَها لِمَا أيْقَنْتَ بِهِ مِن فِرَاقِها وتَصَرُّفِ حَالاتِها ، وَكُنْ آنَسَ ما تَكونُ بها أحْذَرَ ما تكْونُ مِنها ، فإنَّ صاحِبَها كلَّما اطْمَأنَّ فِيها إلى سُرُورٍ أشْخَصَتْه عَنهُ إلى مَحْذُورٍ ، أوْ إلى إيْناسٍ أزَالَتْهُ عَنهُ إلى إيحَاشٍ ، وَالسَّلام . (1)
كتابه عليه السلام إلى سَلْمانقال ابن عساكر : أخبرنا أبو الحسن عليّ بن عساكر بن سرور المَقدِسيّ الخشّاب بدمشق ، حدَّثنا نَصْر بن إبراهيم بن نصر _ ببيِت المَقْدِس _ ، سَنة سبعين وأربعمئة ، أخبرنا أبو الحسن عليّ بن طاهر القُرَشيّ ، أخبرنا أبو حفص عمر بن الخَضِر الثَّمانين ، حدَّثنا أبو الفتح الأزْدِيّ ، حدَّثنا إبراهيم بن عبد اللّه الأزْدِيّ ، حدَّثنا حُمَيْد بن حَاتَم ، حدَّثنا عبد اللّه بن فيروز ، قال : ماتت امرأة سَلْمان الفارسِيّ _ رحمه اللّه تعالى _ بالمَدائِن فحزن عليها ، فبلغ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فكتَب إليه :« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَد بَلَغَني يا أبا عَبدِ اللّه ِ سَلْمانَ مُصِيبَتُكَ بِأَهلِكَ ، وَأَوْجَعَنِي بَعضُ مَا أوْجَعَك ، وَلَعَمرِي لَمُصِيبَةٌ تُقَدِّمُ أجرَها ، خَيْرٌ مِن نِعمَةٍ يُسْألُ عَن شُكْرِها ، وَلَعلَّكَ لا تَقُوُمُ بها ، والسَّلامُ عَلَيْكَ » . (2)
.
ص: 32
سَلْمانُ الفارسِيّسَلْمانُ الفارسِيّ أبو عبد اللّه ، وهو سَلْمان المحمَّدي ّ ، زاهد ، ثاقب البصيرة ، نقيّ الفطرة ، من سلالة فارسيّة (1) ، مولده رامَهُرمُز (2) وأصله من أصبهان (3) . صحابيّ (4) جليل من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله . كان يحظى بمكانة عظيمة لا تستوعبها هذه الصَّفحات القليلة . وكان يطوي الفيافي والقفار بحثا عن الحقّ . وعندما دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله المدينة حضر عنده وأسلم (5) ، وآثر خدمة ذلكم السَّفير الإلهيّ العظيم بكلّ طواعية ، ولم يألُ جهدا في ذلك . شهد الخندق وأعان المؤمنين بذكائه وخبرته بفنون القتال ، واقترح حفر الخندق ، فلقي اقتراحه ترحيبا . كان يعيش في غاية الزُّهد ، ولمَّا كان قد قطع جميع الوشائج ، وأعرض عن جميع زخارف الحياة ، والتَّحق بالحقّ ، شرّفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بقوله : « سَلْمانُ مِنّا أَهلَ البَيتِ » (6) . وكان قلبه الطَّاهر مظهرا للأنوار الإلهيّة ، فقال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « مَن أرادَ أن يَنظُرَ إلى رَجُلٍ نُوِّرَ قلبُهُ فَليَنظُر إلى سَلْمان » (7) . وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول عن سعة علمه واطّلاعه : « عَلِمَ العِلمَ الأوّلَ والعِلمَ الآخِرَ ، وَقَرَأ الكِتابَ الأَوّلَ وَقَرَأ الكِتابَ الآخِرَ ، وكَانَ بَحرا لا يَنزِفُ » (8) . وقد رعى سَلْمان حرمة الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولم يحد عن مسير الحقّ (9) ، وكان أحد القلائل الَّذين قاموا في المسجد النَّبويّ ، ودافعوا عن خلافة الحقّ وحقّ الخلافة (10) . وكان من عشّاق عليّ وآل البيت عليهم السلام ، ومن الأقلّين الَّذين شهدوا الصَّلاة على السَّيِّدة الطَّاهرة فاطمة الزَّهراء عليهاالسلام ، وحضروا دفنها في جوف اللَّيل الحزين (11) . ولاّه عمر على المَدائِن (12) ، فحفلت حكومته بالمظاهر المشرّفة الباعثة على الفخر والاعتزاز ، فهي حكومة تعلوها الرُّؤية الإلهيّة ، ويحيطها الزُّهد والورع ، وهدفها الحقّ والعدل . كان سَلْمان من المعمّرين ، عاش قرابة مئتين وخمسين سنة (13) ، وتوفّي بالمَدائِن (14) أيّام حكومة عمر (15) أو عثمان (16) . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « إنَّ الجَنَّةَ لَتَشتَاقُ إلى ثَلاَثَةٍ : علي ٍّ وعَمَّار ٍ وسَلْمان َ » (17) . وفي حلية الأولياء عن أبي الأسْوَد وزاذان الكِنْدي ّ : كنّا عند علي ّ عليه السلام ذات يوم ، فوافق النَّاس منه طيب نفس ومزاح ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، حدّثنا عن أصحابك . قال : عَن أيِّ أَصحَابِي ؟ قالوا : عن أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله . قال : كُلُّ أَصحَابِ مُحَمّد ٍ صلى الله عليه و آله أَصحَابِي ، فَعَن أيِّهِم ؟ قالوا : عن الَّذين رأيناك تلطفهم بذكرك والصَّلاة عليهم دون القوم ، حدّثنا عن سَلْمان ، قال عليه السلام : مَن لَكُم بمِثِلِ لُقمَانَ الحَكِيمِ ؟ ! ذَاكَ امرُؤ مِنّا وَإلينَا أَهلَ البَيت ِ ، أَدرَكَ العِلمَ الأَوّلَ والعِلمَ الآخِرَ ، وقَرأ الكتابَ الأوّل والكِتابَ الآخِرَ ، بَحرٌ لا يَنزِفُ (18) . وفي الأمالي للطوسيّ عن مَنصور بن بَزرج : قلت لأبي عبد اللّه الصَّادق عليه السلام : ما أكثر ما أسمع منك يا سيّدي ذكر سَلْمان الفارسِي ّ ! فقال : لا تَقُل : الفارِسيّ ، وَلَكِن قُل : سَلْمانُ المُحَمّدِي ، أَ تَدرِي مَا كَثرَةُ ذِكرِي لَهُ ؟ قلت : لا . قال : لِثَلاثِ خِلالٍ : أحدها (19) : إِيثَارُهُ هَوَى أَمِيرِ المُؤمِنينَ عليه السلام عَلَى هَوَى نَفسِهِ . وَالثَّانِيَةُ : حُبُّهُ لِلفُقَراءِ وَاختيِارُهُ إيّاهُم عَلَى أَهلِ الثَّروَةِ وَالعَدَدِ . والثَّالِثَةُ : حُبُّهُ لِلعِلمِ وَالعُلَماء ِ . إنّ سَلْمان َ كَانَ عَبدَا صَالِحا حَنيفا مُسلِما وَما كانَ مِنَ المُشرِكين َ (20) . وفي المستدرك على الصحيحين عن عَوْف بن أبي عُثْمَان النَّهْدي ّ : قال رجل لسَلْمان : ما أشدَّ حُبَّك لعلي ّ عليه السلام ! قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « مَن أَحَبَّ عَلِيّا فَقَد أَحَبّنِي ، وَمَن أَبغَضَ عَلِيّا فَقَد أَبغَضَنِي » (21) . وفي الطبقات الكبرى عن النُّعْمان بن حُمَيْد : دخلت مع خالي على سَلْمان بالمَدائِن وهو يعمل الخوص ، فسمعته يقول : أشتري خوصا بدرهم ، فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم ، فاُعيد درهما فيه ، واُنفِقُ درهما على عيالي ، وأتصدّق بدرهم ، ولو أنّ عمر بن الخَطَّاب نهاني عنه ما انتهيتُ (22) . وفي مروج الذَّهب _ في ذكر سَلْمان الفارسِي ّ _ : كان يلبس الصّوف ، ويركب الحمار ببرذعته (23) بغير إكاف (24) ، ويأكل خبز الشَّعير ، وكان ناسكا زاهدا ، فلمّا احتضر بالمَدائِن قال له سَعْد بن أبي وَقَّاص : أوصني يا أبا عبد اللّه . قال : نعم ، قال : اذكُرِ اللّه َ عِندَ هَمِّكَ إذا هَمَمتَ ، وعِندَ لِسانِكَ إذا حَكَمتَ ، وعِندَ يَدِكَ إذ قَسَمتَ . فجعل سَلْمان يبكي ، فقال له : يا أبا عبد اللّه ، ما يُبكيكَ ؟ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « إنّ فِي الآخِرَةِ عَقَبَةً لا يَقطَعُها إلاّ المُخِفُّونَ » ، وأرى هذه الأساودة حولي ، فنظروا فلم يجدوا في البيت إلاّ إداوة وركوة (25) ومطهرة (26) . وفي الطبقات الكبرى عن أبي سُفْيان عن أشياخه : دخل سَعْد بن أبي وَقَّاص على سَلْمان يعوده ، قال : فبكى سَلْمان ، فقال له سعد : ما يبكيك يا أبا عبد اللّه ؟ توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو عنك راضٍ ، وتلقى أصحابك ، وترد عليه الحوض . قال سَلْمان : واللّه ، ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدُّنيا ، ولكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عهد إلينا عهدا فقال : « لِتَكُن بُلْغَةُ أَحَدِكُم مِنَ الدُّنيا مِثلَ زادِ الرَّاكبِ » . وحولي هذه الأساود . قال : وإنّما حوله جفنة أو مِطهرة أو إجّانة (27) ، قال : فقال له سعد : يا أبا عبد اللّه ، إعهَدْ إلينا بِعَهدٍ نأخذه بعدك . فقال : يا سعد ، اذكُرِ اللّه َ عِندَ هَمِّكَ إذا هَمَمتَ ، وعِندَ حُكمِكَ إذا حَكَمتَ ، وَعِندَ يَدِكَ إذا قَسَمتَ (28) . وفي المعجم الكبير عن بُقَيْرة _ امرأة سَلْمان _ : لمّا حضر سَلْمانَ الموتُ دعاني ، وهو في علِّيَّة (29) لها أربعة أبواب ، فقال : افتحي هذه الأبواب يابُقَيرَة ُ ، فإنّ لي اليوم زوّارا لا أدري من أيّ هذه الأبواب يدخلون عليَّ ، ثمّ دعا بمسِكٍ لَهُ ، ثمّ قال : ادبغيه (30) في تَوْرٍ ، فَفَعلَت ، ثمّ قال : انضحيه حول فراشي ثمّ انزلي فامكثي ، فسوف تطّلعين قربتي (31) على فراشي ، فاطّلعت فإذا هو قد اُخِذَ رُوحُه ، فكأنّه نائم على فراشه ، أو نحوا من هذا (32) . وفي الطبقات الكبرى عن عَطاء بن السَّائِب : إنَّ سَلْمان حين حضرته الوفاة ، دعا بصُرّة من مسك كان أصابها من بَلنجَر (33) ، فأمرَ بها أن تُدافَ وتُجعَلَ حول فراشه ، وقال : فإنّه يحضرني اللَّيلةَ ملائكةٌ يجدون الرِّيح ولا يأكلون الطَّعام (34) .
.
ص: 33
. .
ص: 34
. .
ص: 35
. .
ص: 36
. .
ص: 37
. .
ص: 38
3كتابه عليه السلام إلى أبي ذَرّقال سِبطُ ابنُ الجَوزِي ّ : روى الشَّعْبي ّ عن أبي أراكة ، قال : لمَّا نُفِي أبو ذَرّ إلى الرَبَذَة ، كتَب إليه عليّ عليه السلام :« أمَّا بَعدُ ، يَا أبا ذَر ٍّ ، فإنَّكَ غَضِبْتَ لِلّهِ تَعَالَى ، فَارْجُ مَن غَضِبْتَ لَهُ ، إنَّ القَومَ خَافُوكَ عَلَى دُنْياهُم ، وخِفْتَهُم على ديِنِكَ ، فَاتْرُك لَهُم مَا خافُوكَ عَليهِ ، وَاهرُب مِنهُم لِمَا خِفْتَهُم علَيهِ ، فَما أحوَجَهُم إلى ما مَنَعْتَهُم ، وَما أغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ ، وسَتَعلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَدَا ، فَلَو أنَّ السَّمَاواتِ وَالأرضَ كانَتا رَتْقا عَلَى عَبْدٍ ، ثُمَّ اتَّقَى اللّه َ لَجَعَلَ لَهُ مِنهُما مَخْرَجا ، لا يُؤانِسنَّكَ إلاَّ الحَقُّ ، ولا يُوحِشَنَّكَ إلاَّ الباطِلُ ، فَلَو قبِلْتَ دُنياهُم لأحَبُّوكَ ، وَلَو قَرَضْتَ منها لأمِنُوكَ » . (1)
[ أقول : روى جَماعة من الخاصَّة والعامَّة ، أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام ألقى هذه الكلمة حين نُفي أبو ذَرّ ، وشيّعه هو والحسنان عليهماالسلام ، وعَقِيل ٌ وعَمَّار (2) . ]
أبو ذَرٍّ الغِفارِي ّ (3)جُنْدُب بن جُنادَة ، وهو مشهور بكنيته . صوت الحقّ المدوّي ، وصيحة الفضيلة والعدالة المتعالية ، أحد أجلاّء الصَّحابة ، والسَّابقين إلى الإيمان ، والثَّابتين على الصِّراط المستقيم (4) . كان موحِّدا قبل الإسلام ، وترفّع عن عِبادَة الأصنام (5) . جاء إلى مكّة قادما من البادية ، واعتنق دين الحقّ بكلّ وجوده ، وسمع القرآن . عُدَّ رابعَ (6) من أسلم أو خامسهم (7) ، واشتهر بإعلانه إسلامَه ، واعتقاده بالدين الجديد ، وتقصّيه الحقّ منذ يومه الأوّل (8) . وكان فريدا فذّا في صدقه وصراحة لهجته ، حتَّى قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله كلمته الخالدة فيه ، تكريما لهذه الصِّفة المحمودة النّادرة : « مَا أظَلّتِ الخَضرَاءُ ، ومَا أَقَلّتِ الغَبرَاءُ (9) عَلَى رَجُلٍ أَصدَقَ لَهجَةً مِن أَبي ذَرّ » (10) . وكان من الثّلّة المعدودة الَّتي رعت حرمة الحقّ في خضمّ التَّغيّرات الَّتي طرأت بعد وفاة النَّبي ّ صلى الله عليه و آله (11) ، وتفانى في الدِّفاع عن موقع الولاية العلويّة الرَّفيعة ، وجعل نفسه مِجَنّا للذبّ عنه ، وكان أحد الثَّلاثة الَّذين لم يفارقوا عليّا عليه السلام قطّ (12) . ولنا أن نعدّ من فضائله ومناقبه، صلاته على الجثمان الطَّاهر لسيّدة نساء العالمين فاطمة عليهاالسلام ، فقد كان في عداد من صلّى عليها في تلك اللَّيلة المشوبة بالألم والغمّ والمحنة (13) . وصرخاته بوجه الظُّلم ملأت الآفاق ، واشتهرت في التَّاريخ ؛ فهو لم يصبر على إسراف الخليفة الثَّالث وتبذيره وعطاياه الشَّاذّة ، فانتفض ثائرا صارخا ضدّها ، ولم يتحمّل التَّحريف الَّذي افتعلوه لدعم تلك المناقب المصطنعة ، وقدح في الخليفة، واستنكر توجيه كَعْب الأحْبار لأعماله وممارساته . فقام الخليفة بنفي صوت العدالة هذا إلى الشَّام الَّتي كانت حديثة عهدٍ بالإسلام ، غيرَ مُلمّةٍ بثقافته (14) . ولم يُطِقه معاوية أيضا ؛ إذ كان يعيش في الشَّام كالملوك ، ويفعل ما يفعله القياصرة ، ضاربا بأحكام الإسلام عرض الجدار ، فأقضّت صيحات أبي ذَرّ مضجعه (15) . فكتب إلى عثمان يخبره باضطراب الشَّام عليه إذا بقي فيها أبو ذَرّ ، فأمر بردّه إلى المدينة (16) ، وأرجعوه إليها على أسوأ حال . وقدم أبو ذَرّ المدينة ، ليجد سياسة عثمان على حالها ، فعاد أبو ذرّ إلى طريقته ، فالاحتجاج كان قائما ، والصّيحات مستمرّة ، وقول الحقّ متواصلاً ، فلم يتوقّف أبو ذرّ عن كشف الانحراف . ولمّا لم يُجْدِ التَّرغيب والتَّرهيب معه ، غيّرت الحكومة اُسلوبها معه ، وما هو إلاّ الإبعاد ، لكنّه هذه المرَّة إلى الرَّبَذة (17) ، وهي صحراء قاحلة حارقة ، وأصدر عثمان تعاليمه بمنع مشايعته (18) . ولم يتحمّل أمير المؤمنين عليه السلام هذه الأوامر الجائرة ، فخرج مع أبنائه وعدد من الصَّحابة لتوديعه (19) . وله كلام عظيم خاطبه به وبيّن فيه ظُلامته (20) . وتكلّم من كان معه أيضا، ليعلم الناس أنّ الَّذي أبعد هذا الصَّحابيّ الجليل إلى الرَّبَذَة هو قول الحقّ، ومقارعة الظُّلم، لا غيرها (21) ، وكان إبعاد أبي ذَرّ أحد ممهّدات الثَّورة على عثمان . وذهب هذا الرَّجل العظيم إلى الرَّبَذَة رضيّ الضَّمير ؛ لأنّه لم يتنصّل عن مسؤوليّته في قول الحقّ ، لكنّ قلبه كان مليئا بالألم ؛ إذ تُرك وحده ، وفُصل عن مرقد حبيبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله . يقول عبد اللّه بن حوّاش الكعبي : رأيتُ أبا ذَرّ في الرَّبَذَة ، وهو جالس وحده في ظلّ سقيفةٍ ، فقلت : يا أبا ذَرّ ! وحدك ! فقال : كان الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر شعاري ، وقول الحقّ سيرتي ، وهذا ما ترك لي رفيقا . توفّي أبو ذَرّ سنة 32 ه (22) ، وتحقّقت نبوءة النبي صلى الله عليه و آله في أبي ذرّ حيث قال صلى الله عليه و آله : « يَرحَم اللّه ُ أبا ذَرّ ، يَعِيشُ وحدَهُ ، ويَمُوتُ وَحدَهُ ، ويُحْشَرُ وَحدَهُ » . ووصل جماعة من المؤمنين فيهم مالك الأشْتَر ، بعد وفاة ذلك الصَّحابيّ الكبير الصادع بالحقّ في زمانه، ووسّدوا جسده النَّحيف الثَّرى باحترام وتبجيل (23)24 . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :« مَا أظَلّتِ الخَضرَاءُ ، ولا أقلَّتِ الغَبرَاءُ عَلَى رَجُلٍ أصدَقَ لَهجَةً مِن أبي ذَرّ » (24) . وعنه صلى الله عليه و آله : « مَن سَرَّهُ أَن يَنظُرَ إلَى شَبيهِ عِيسى بنِ مَريَمَ خَلقا وخُلُقا ؛ فَليَنظُر إِلى أَبِي ذَرّ » (25) . وفي سنن الترمذي عن أبي ذَرّ : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « مَا أظَلّتِ الخَضرَاءُ ، وَلا أقلَّتِ الغَبرَاءُ، من ذِي لَهجَةٍ أَصدَقَ وَلاَ أوفَى مِن أَبي ذَرّ ، شِبْهَ عِيسى بنِ مَريَمَ عليه السلام » . فقال عمر بن الخَطَّاب كالحاسد : يا رسول اللّه أ فنعرف ذلك له ؟ قال : نَعَم ، فاعرِفُوهُ لَهُ (26) . وفي مُسنَدِ ابنِ حَنْبَل عن بُرَيْدَة :قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « إنّ اللّه َ عز و جل يُحِبُّ مِن أَصحَابِي أَربَعَةً ، أَخبَرَنِي أنَّهُ يُحبِّهُم ، وَأَمَرَنِي أَن اُحِبَّهُم » . قالوا : مَنْ هم يا رسول اللّه ؟ قال : « إنَّ عَلِيّا مِنهُم ، وأبو ذَرّ الغِفارِيّ ، وسَلْمانُ الفارِسِيّ ، والمِقْدادُ بنُ الأسْوَدِ الكِنْديّ (27) » . وفي أنساب الأشراف : لمّا أعطى عثمان ُ مروانَ بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمئة ألف درهم ، وأعطى زَيْد بن ثابت الأنْصاريّ مئة ألف درهم ، جعل أبو ذَرّ يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول اللّه عز و جل : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ » الآية (28) . فرفع ذلك مروانُ بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل _ عثمان _ إلى أبي ذَرّ ناتلا ً مولاه أن : انْتَهِ عمّا يبلغني عنك ، فقال : أ ينهاني عثمان عن قراءةِ كتابِ اللّه ِ ، وعَيبِ مَن تَركَ أمرَ اللّه ِ ؟ ! فَواللّه ِ لأَن اُرضِيَ اللّه َ بِسَخَطِ عُثمانَ أَحَبُّ إليَّ وخَيرٌ لِي مِن أن اُسخِطَ اللّه َ بِرِضَاهُ ، فَأَغضَبَ عثمانَ ذلك وأَحفَظَهُ (29) ، فَتَصابرَ وكَفَّ . وقال عثمان يوما : أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال ، فإذا أَيسَرَ قَضَى ؟ فقال كَعْب الأحْبار : لا بأس بذلك ! فقال أبو ذَرّ : يابن اليَهُودِيَّينِ ! أ تُعلّمُنا دِينَنا ؟ ! فقال عثمانُ : مَا أكثرَ أَذَاك لي ، وأوَلَعَكَ بِأصحَابي ! (30) وفي أنساب الأشراف عن كُمَيْل بن زِياد : كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذَرّ باللِّحاق بالشام ، وكُنتُ بها في العامِ المُقبِلِ، حين سيّره إلى الرَّبذة (31) . وفي تاريخ اليعقوبيّ : بلغ عثمان أيضا أنّ أبا ذَرّ يقع فيه ، ويذكر ما غيّر وبدّل من سُنَنِ رَسولِ اللّه ِ ، وسُنَنِ أبي بكرٍ وعُمرَ ، فسيّره إلى الشَّام إلى معاوية ، وكان يجلس في المسجد فيقول كما كان يقول ، ويجتمع إليه النَّاس ، حتَّى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه . وكان يقف على باب دمشق ، إذا صلّى صلاة الصُّبح ، فيقول : جاءت القَطارُ تحمِلُ النَّارَ ، لَعَنَ اللّه ُ الآمرِينَ بالمَعرُوفِ والتَّارِكينَ لَهُ ، وَلَعَنَ اللّه ُ النَّاهينَ عَنِ المُنكَرِ وَالآتينَ لَهُ . وكتب معاوية إلى عثمان : إنّك قد أفسدت الشَّام على نفسك بأبي ذَرّ ، فكتب إليه أن : احمِلهُ عَلَى قَتَبٍ (32) بِغَيرِ وِطاء ، فَقَدِمَ بِهِ إلى المَدينَةِ ، وَقَد ذَهَبَ لَحمُ فَخِذَيهِ ، فلمّا دخل إليه وعنده جماعة قال : بَلَغَنِي أَنّك تقول : سَمِعتُ رَسولَ اللّه ِ يقولُ : « إذا كَمُلَت بَنُو اُمَيّةَ ثَلاثينَ رَجُلاً ، اتّخَذُوا بِلادَ اللّه ِ دُوَلاً (33) ، وعِبادَ اللّه ِ خَوَلاً (34) ، ودينَ اللّه ِ دَغَلاً (35) » فقال : نَعَم ، سَمِعتُ رَسولَ اللّه ِ يقولُ ذلِكَ . فقال لهم : أسمعتم رسول اللّه يقول ذلك ؟ فبعث إلى عليّ بن أبي طالب ، فأتاه ، فقال : يا أبا الحسن ! أسَمِعتَ رَسُولَ اللّه ِ يَقُولُ ما حَكاهُ أبو ذَرّ ؟ وقصّ عليه الخبرَ . فقال عليّ : نعم ! قال : وَكيفَ تَشهَدُ ؟ قال : لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « ما أظَلَّتِ الخَضرَاءُ ، ولاَ أقلّتِ الغَبراءُ ذا لَهجَةٍ أَصدَقَ مِن أبي ذَرّ » . فلم يُقِم بالمدينة إلاّ أيّاما حتَّى أرسل إليه عثمان : واللّه لَتَخرُجَنّ عنها ! قال : أ تُخرِجُنِي مِن حَرَمِ رَسُولِ اللّه ِ ؟ قال : نعم ، وأنفُكَ راغِمٌ . قال : فَإلى مَكّةَ ؟ قال : لا ، قال : فَإلى البَصرَةِ ؟ قال : لا ، قال : فَإلى الكُوفَةِ ؟ قال : لا ، وَلكِنْ إلى الرَّبَذَةِ الَّتي خَرَجتَ منها حَتَّى تموتَ بها ! يا مَروانُ ، أخرِجهُ ، ولا تَدَع أحدا يُكَلّمُهُ ، حَتَّى يَخرُجَ . فَأَخرجَهُ عَلَى جَمَلٍ ومَعَهُ امرأَتُهُ وابنَتُهُ ، فخرج وعليّ والحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر وعَمَّار بن ياسِر ينظرون ، فَلَمّا رأى أبو ذَرّ عليّا ، قام إليه فقبَّلَ يَدَهُ ثُمّ بكى وقال : إنّي إذا رَأَيتُكَ ورأيتُ وُلدَكَ، ذَكَرتُ قَولَ رَسُولِ اللّه ِ ، فَلَم أَصبِر حَتَّى أبكي ! فَذَهَبَ عَلِيّ يُكَلّمُهُ ، فقال له مروان : إنّ أمير المؤمنين قد نهى أن يكلّمه أحد ، فرفع عليّ السَّوط فضرب وَجهَ ناقةِ مَروان َ ، وقال : تَنَحَّ ، نَحّاكَ اللّه ُ إلى النَّار ! ثمّ شيّعه ، فكلّمه بكلام يطول شرحه ، وتكلّم كلّ رجل من القوم وانصرفوا ، وانصرف مروان إلى عثمان ، فجرى بينه وبين عليّ في هذا بعض الوحشة ، وتلاحيا كلاما ، فلم يزل أبو ذَرّ بالرَّبَذَة حتَّى توفّي (36) . وفي أنساب الأشراف : كان أبو ذَرّ يُنكِر على معاوية أشياء يفعلها ، وبعث إليه معاوية بثلاثمئة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الَّذي حَرمتُمُونِيهِ عامي هذا قَبِلتُها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها . وبعث إليه حَبيبُ بن مَسْلَمَة الفِهْرِيّ بمئتي دِينار ، فقال : أ ما وجدتَ أهون عليك منّي حين تبعث إليَّ بمال ؟ وردّها . وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية ، إن كانت هذه الدَّار من مال اللّه فهي الخيانة ، وإن كانت من مالِكَ فهذا الإسراف ، فسكت معاوية (37) . وفي أنساب الأشراف : كان أبو ذَرّ يقول : واللّه لقد حَدَثَت أعمال ما أعرفها ، واللّه ما هي في كتاب اللّه ، ولا سنّة نبيّه ، واللّه إنّي لأرى حقّا يُطفأ ، وباطلاً يُحيا ، وصادقا يُكذّب ، وأثَرَة بغِيرِ تُقىً ، وصالِحا مستأثَرا عليه . فقال حَبِيب بنُ مَسْلَمَة لمعاوية : إنّ أبا ذَرّ مفسدٌ عليك الشَّام ، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة ، فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد : فاحمل جُنْدُبا إليَّ على أغلظ مركب وأوعره ، فوجّه معاوية من سار به اللَّيل والنهار . فلمّا قدم أبو ذَرّ المدينة جعل يقول : يستعمل الصِّبيان ، ويحمي الحمى ، ويُقرِّب أولاد الطُّلَقاء . فبعث إليه عثمان : الْحَق بأيّ أرض شئت ، فقال : بمكّة ، فقال : لا ، قال : فَبَيتُ المَقدِس ، قال : لا ، قال : فبأحد المِصرَين (38) ، قال : لا ، ولكنّي مُسَيّرك إلى الرَّبذة ، فسيّرَه إليها ، فلم يزل بها حتَّى مات (39) . وعن قَتادَة : تكلّم أبو ذَرّ بشيء كرهه عثمان فكذّبه ، فقال : ما ظننت أنّ أحدا يكذّبني بعد قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « مَا أَقلَّتِ الغَبرَاءُ ، ولا أطبَقَتِ الخَضْرَاءُ ، عَلَى ذِي لَهْجَة أصدقَ مِن أبِي ذَرّ » ثمّ سيّره إلى الرَّبَذَة . فكان أبو ذَرّ يقول : مَا تَرَكَ الحَقّ لِي صَدِيقا ، فلمّا سار إلى الرَّبَذَة قال : رَدَّني عثمان بعد الهجرة أعرابيّا ! (40) وفي الأمالي للطوسيّ عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة الأنْصاريّ : لمّا قدم أبو ذَرّ على عثمان ، قال : أخبِرني أيّ البلاد أحبّ إليك ؟ قال : مُهاجَري ، فقال : لستَ بمجاوري . قال : فَألحَقُ بحرم اللّه ، فَأكُونُ فيه ؟ قال : لا ، قال : فالكوفة ، أرض بها أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، قال : لا ، قال : فلست بمختار غيرهنّ . فأمره بالمسير إلى الرَّبذة ، فقال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لي : « اسمَع وَأَطِع ، وَانفَذْ حَيثُ قَادُوكَ ، وَلَو لِعَبدٍ حَبَشِيّ مُجَدّع » . فخرج إلى الرَّبذة ، وأقام مدّة ، ثمّ أتى إلى المدينة ، فدخل على عثمان والناس عنده سماطين ، فقال : يا أمير المؤمنين ! إنّك أخرجتني من أرضي إلى أرض ليس بها زرع ولا ضرع إلاّ شُوَيهات ، وليس لي خادم إلاّ محرّرة (41) ، ولا ظلّ يظلّني إلاّ ظلّ شجرة ، فأعطِني خادما وغُنَيمات أعِش فيها ، فحوّلَ وجهه عنه ، فتحوّل عنه إلى السَّماط الآخر ، فقال مثل ذلك . فقال له حَبِيب بن مَسْلَمَة : لك عندي يا أبا ذَرّ ألفُ درهم وخادم وخمسمئة شاة . قال أبو ذَرّ : أعطِ خادمك وألفك وشويهاتك من هو أحوج إلى ذلك منّي ؛ فإنّي إنّما أسأل حقّي في كتاب اللّه . فجاء عليّ عليه السلام فقال له عثمان : ألاَ تُغنِي عَنّا سَفِيهَكَ هذا ؟ قال : أيُّ سَفِيهٍ ؟ قال : أبو ذَرّ ! قال عليّ عليه السلام : لَيسَ بِسَفِيهٍ ، سَمِعتُ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه و آله يَقُولُ : « مَا أظلَّتِ الخَضرَاءُ ، ولاَ أقلَّتِ الغَبرَاءُ ، أَصدَقَ لهجةً مِن أَبِي ذَرّ » أَنزِلهُ بِمَنزِلَةِ مُؤمِنِ آلِ فِرعَون ، « وَ إِن يَكُ كَ_ذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ » (42) . قَالَ عُثمانُ : التُّراب في فيكَ ! قالَ عليّ عليه السلام : بل التُّرابُ في فيكَ ، أنشُدُ باللّه ِ، مَن سَمِعَ رَسَولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يَقولُ ذَلِكَ لِأَبي ذرّ ؟ فقام أبو هُرَيرَة َ وعَشَرَةٌ فَشَهِدُوا بِذلِكَ ، فَوَلّى عليّ عليه السلام (43) . ييييخ وفي الكافي عن أبي جعفر الخَثْعَميّ : لمّا سيّر عثمان أبا ذَرّ إلى الرَّبَذَة ، شيّعه أمير المؤمنين وعَقِيل والحسن والحسين عليهم السلاموعَمَّار بن ياسر ، فلمّا كان عند الوداع ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : يا أبا ذَرّ ، إنَّكَ إِنَّما غَضِبتَ لِلّهِ عز و جل ، فَارجُ مَن غَضِبتَ لَهُ . إنّ القَومَ خَافُوكَ عَلَى دُنياهُمَ ، وَخِفتَهُم عَلَى دِينِكَ ، فَأرحَلُوكَ عَن الفِناءِ وامتَحَنُوكَ بالبلاء . وَوَاللّه ِ لَو كَانَتِ السَّماوَاتُ والأرضُ عَلَى عَبدٍ رَتْقا ، ثُمّ اتّقَى اللّه عز و جل ؛ جَعَلَ لَهُ مِنها مَخرَجا ، فَلا يُؤنِسْكَ إلاّ الحقُّ ، ولاَ يُوحِشْكَ إلاّ الباطِلُ (44) . قال الإمام الصادق عليه السلام : لمّا شيّع أمير المؤمنين عليه السلام أبا ذَرّ رحمه الله ، وشيّعه الحسن والحسين عليهماالسلام ، وعَقِيل بن أبي طالب ، وعبد اللّه بن جعفر ، وعَمَّار بن ياسِر عليهم سلام اللّه ؛ قال لهم أمير المؤمنين عليه السلام : ودِّعُوا أَخَاكُم ؛ فَإنّهُ لابُدَّ للشاخِصِ مِن أَن يَمضِيَ ، وَللمُشَيِّعِ مِن أَن يَرجِعَ . قال : فَتَكَلّمَ كلُّ رَجُلٍ منِهُم عَلَى حِيالِهِ ، فَقَال الحُسَينُ بنُ عَلِيّ عليهماالسلام : رَحِمَكَ اللّه ُ يا أبا ذَرّ ! إنَّ القَومَ إنّما امتَهَنُوكَ بالبَلاء ؛ لأنّكَ مَنَعتَهُم ديِنَكَ ، فَمَنعُوك دُنياهُم ؛ فَمَا أَحوَجَكَ غَدا إلى ما مَنَعتَهُم ، وَأغناكَ عَمّا مَنعُوك . فقال أبو ذَرّ : رَحِمَكُمُ اللّه ُ مِن أَهلِ بَيتٍ ! فَما لِي فِي الدُّنيا مِن شَجَنٍ (45) غَيرَكُم ، إنّي إذا ذَكَرتُكُم ذَكَرتُ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله (46) . وفي الأمالي للمفيد عن أبي جهضم الأزْدِيّ عن أبيه _ بعد معاملة عثمان السَّيِّئة مع أبي ذَرّ : بلغ ذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فبكى حتَّى بلّ لحيته بدموعه ، ثمّ قال : أَهَكَذا يُصنَعَ بِصاحِبِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ؟ ! إنّا للّه ِ وإنّا إليهِ راجِعُون . ثمّ نهض ومعه الحسن والحسين عليهماالسلام ، وعبد اللّه بن العبّاس والفضل وقُثَم وعبيد اللّه ، حتَّى لحقوا أبا ذَرّ ، فشيّعوه ، فلمّا بصر بهم أبو ذَرّ رحمه الله حَنّ إليهم ، وَبَكى عَلَيهِم ، وَقال : بِأبِي وُجُوهٌ إذا رَأيتُها ذَكَرتُ بِها رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وَشَمَلَتنِيَ البركَةُ بِرُؤيَتِها . ثُمّ رَفَعَ يَديهِ إلى السَّماءِ وقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي اُحبُّهُم ، وَلَو قُطّعتُ إربا إربا في مَحَبَّتِهِم ، مَا زلِتُ عَنها ابتِغاءَ وَجهِكَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، فارجِعُوا رَحِمَكُم اللّه ُ ، واللّه َ أَسألُ أَن يَخلُفَنِي فيكُم أحسَنَ الخِلافَةِ . فودّعه القوم ورجعوا وهم يبكون على فراقه (47) . وفي تاريخ اليعقوبي : لم يزل أبو ذَرّ بالرَّبَذَة حتَّى تُوفّيَ ، وَلمّا حضرته الوفاة قالت له ابنته : إنّي وحدي في هذا الموضع ، وأخافُ أن تَغلِبَنِي عليك السِّباعُ . فقال : كلاّ، إنّه سيحضرنِي نفرٌ مُؤمِنُونَ ، فانظُري أَ ترينَ أحَدَا ؟ فقالت : ما أرى أحدا ! قال : ما حضر الوقت ، ثمّ قال : انظري ، هل ترين أحدا ؟ قالت : نعم، أرى ركبا مُقبلِينَ . فقال : اللّه أكبر ، صدق اللّه ورسولُهُ ، حَوِّلِي وجهيَ إلى القبلة ، فإذا حضر القوم فَأقرئيهم منّي السَّلام ، فإذا فرغوا من أمري ، فاذبحي لهم هذه الشَّاة ، وقولي لهم : أقسمت عليكم إن برحتم حتَّى تأكلوا ، ثمّ قُضِي عليه . فأتى القوم ، فقالت لهم الجارية : هذا أبو ذَرّ صاحِبُ رَسُولِ اللّه ِ قَد تُوفّي ، فنزلوا ، وكانوا سبعة نفر ، فيهم حُذَيْفَة بن اليَمان ، والأشْتَر ، فبكوا بكاءً شديدا ، وغسّلوه ، وكفّنوه ، وصلّوا عليه ، ودفنوه . ثمّ قالت لهم : إنّه يُقسِمُ عليكم ألاّ تبرَحُوا حتَّى تأكلُوا ، فذبَحُوا الشَّاةَ وأكلوا ، ثمّ حَمَلُوا ابنَتهُ حتَّى صارُوا بها إلى المدينة (48) .
.
ص: 39
. .
ص: 40
. .
ص: 41
. .
ص: 42
. .
ص: 43
. .
ص: 44
. .
ص: 45
. .
ص: 46
. .
ص: 47
. .
ص: 48
. .
ص: 49
. .
ص: 50
4كتابه عليه السلام إلى قَيْصَر الرُّوملمَّا جلَس عُمَر في الخلافة، جَرى بين رَجل من أصحابه يقال له: الحارث بن سِنان الأزْدِي ُّ ، وبين رَجل من الأنْصار كلام ومنازَعة ، فلَمْ ينتصف له عُمر ، فلَحق الحارث بن سِنان بقيْصر ، وارْتَدَّ عن الإسلام ، ونَسي القرآن كلَّه، إلاَّ قوله تعالى : « وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاْءِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ » (1) ، فسَمع قَيصَرُ هذا الكَلام ، فقال : سَأكْتُب إلى مَلِك العَرب بمسائل ، فإنْ أخْبَرني عنها أطلقت ما عنْدي من الأُسارى ، وإنْ لمْ يخبرني تفسير مسائلي، عهدتُ إلى الأسارى، فعرضتُ عَلَيهِم النَّصرانيَّة ، فمَن قَبل منهم اسْتعبدته ، ومَن لمْ يقبل قتلتُه . فكتَب إلى عُمَر بن الخَطَّاب بمسائل : أحدها سؤاله عن تفسير الفاتِحة ، وعن الماء الَّذي ليْس من الأرض ولا من السَّماء ، وعمَّا يتنفَّس ولا رُوح فيه ، وعن عَصا موسَى ممَّن (2) كانت وما اسمها ، وما طولها ، وعن جاريةٍ بِكر لأخَوَين في الدُّنيا، وهي في الآخِرة لَواحد . فلمَّا وردت هذه المسائل على عُمر لم يعرف تفسيرها ، ففزع في ذلِك إلى عليِّ بن أبي طالب عليه السلام ، فكتَب عليه السلام إلى قيصر : « مِن عَلِيِّ بنِ أبِي طَالبٍ صِهْرِ مُحَمَّدٍ ، وَوَارِثِ عِلْمِهِ ، وَأقْربِ الخَلقِ إليْهِ ، ووَزيرِه ، ومَن حَقَّت لَهُ الوِلاَيَةُ ، وَأُمِرَ الخَلْقُ بِالبَراءَةِ مِن أعْدَائِهِ ، قُرَّةُ عَيْنِ رَسولِ اللّه ِ ، وزَوجُ ابْنَتِهِ ، وأبو وُلْده، إلى قَيصَرَ مَلِكِ الرُّومِ . أمَّا بَعْدُ ، فَإنِّي أحْمَدُ اللّه الَّذي لا إِلَه إلاَّ هُوَ ، عالِمُ الخَفيّاتِ ، ومُنْزِلُ البَرَكاتِ ، مَن يَهدِي اللّه ُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، ومَن يُضْلِل فَلا هادِيَ لَهُ ؛ وَرَدَ كِتابُكَ ، وأَقرَأنِيهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّاب . فأمَّا سُؤالُكَ عَن اسْمَِ اللّه ِ، فإنَّهُ اسْم فيهِ شِفاءٌ من كُلِّ دَاءٍ ، وعَوْنٌ عَلى كُلِّ دَواءٍ . وأمَّا سُؤالُكَ عَنِ « الرَّحْمَ_نِ » ، فَهُوَ عَونٌ لِكُلِّ مَن آمَن بِهِ ، وهُوَ اسْمٌ لَم يَتَسمَّ بِهِ غَيْرُ الرَّحمنِ تَبارَكَ وتَعالَى . وأمَّا «الرَّحِيمِ» ، فرَحِيمُ مَن عَصَى وَتَاب وآمَنَ وعَمِلَ صالِحا . وَأمَّا قَولُهُ : « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَ__لَمِينَ » ، فَذَلِكَ ثَناءٌ مِنَّا عَلَى رَبِّنا تَبارَكَ وتَعالى بِمَا أنْعَم علَيْنا . وأمَّا قَولُهُ : « مَ__لِكِ يَوْمِ الدِّينِ » ، فَإنَّهُ يَملِكُ نَواصِيَ الخَلْقِ يَوْمَ القِيامَةِ ، وكُلّ مَن كَانَ فِي الدُّنيا شَاكَّا أوْ جَبَّارا أدْخلَهُ النَّارَ ، ولا يَمتنَعُ مِن عَذابِ اللّه ِ عز و جلشَاكٌ ولاَ جَبَّارٌ ، وَكُلّ مَن كانَ فِي الدُّنيا طَائِعا مُذْنِبا مَحَا خَطَايَاهُ ، وَأدْخَلَهُ الْجَنَّةَ برَحْمَتِهِ . وأمَّا قولُهُ : « إِيَّاكَ نَعْبُدُ » ، فَإنَّا نَعْبُدُ اللّه َ ، ولا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئا . أمَّا قولُهُ : «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ، فإنَّا نَسْتَعِينُ باللّه ِ عز و جل عَلَى الشَّيْطانِ ، لا يُضلّنا كَما أضلَّكُم . وأمَّا قولُهُ : «اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ» ، فَذَلِكَ الطَّرِيقُ الوَاضِحُ ، مَن عَمِلَ فِي الدُّنيا صَالِحا فإنَّه يسْلُكُ عَلى الصِّراطِ إلى الْجَنَّةِ . وأمَّا قولُهُ: «صِرَ طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» ، فَتِلْكَ النِّعمَةُ الَّتي أنْعَمَها اللّه ُ عز و جلعلَى مَن كانَ قَبْلَنا مِنَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ ، فَنَسْألُ اللّه َ رَبَّنا أنْ يُنْعِمَ علَيْنا . وأمَّا قولُه عز و جل : «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» ، فَأُولَئِكَ اليَهود ُ ، بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّه ِ كُفرا ، فَغَضِبَ عَلَيْهم فجعل منْهم القِرَدَة والخَنازِير ، فَنَسْألُ رَبَّنا أنْ لا يَغضَبَ علَيْنا كمَا غَضِبَ عَلَيْهم . وَأمَّا قولُهُ : «وَ لاَ الضَّآلِّينَ» ، فَأنْتَ وأمْثالُك يا عَابِدَ الصَّلِيْبِ الخَبِيثِ ، ضَلَلتُم بَعْدَ عِيْسَى بْنِ مَريَمَ عليه السلام ، نَسأَلُ رَبَّنا أنْ لا يُضِلَّنا كمَا ضَلَلتُم . وَأمَّا سُؤالُكُ عن المَاءِ الَّذي ليْسَ مِنَ الأَرضِ ولا مِنَ السَّماءِ ، فَذلِكَ الَّذي بَعَثَتهُ بَلْقيسُ إلى سُلَيْمان َ ، وهُوَ عَرَقُ الخَيلِ إذا جَرَت فِي الحُرُوبِ . وأمَّا سؤالكَ عَمَّا يَتنفّسُ ولا رُوحَ فيه ، فَذَلِك الصُّبحُ إذا تَنَفَّسَ . فأمَّا سؤالك عن عَصا موسَى ممَّا كانَت ، ومَا طُولُها ، وما اسْمُها ، ومَا هِيَ ، فإنَّها كانَت يُقال لَها : « البَرنِيَّة »، وتفسير البَرنِيَّة: الزَّابدة ، وكانَت إذا كانَت فيْها الرُّوحُ زَادَت ، وإذا خَرَجَ منها الرُّوحُ نَقَصَت ، وكانت من عَوْسَج (3) ، وكانَت عَشَرةَ أذْرُعٍ ، وكانَت مِنَ الجَنَّة ، أَنزَلَها جَبرائيلُ عليه السلام على شُعَيْب عليه السلام . وأمَّا سُؤالُكَ عَن جَارِيَةٍ تكُونُ في الدُّنيا لأخَوَينِ ، وفي الآخِرةِ لِواحِدٍ ، فَتِلكَ النَّخلةُ، هي في الدُّنيا لِمُؤمِنٍ مِثْلِي ولِكافِرٍ مِثْلِك ، ونَحْنُ مِن وُلْدِ آدَمَ[ عليه السلام ] وهِيَ فِي الآخِرةِ لِلمُسلِمِ دُونَ المُشْرِكِ ، وهِي فِي الجَنَّةِ لَيْست فِي النَّارِ ، وذلِكَ قَولُهُ عليه السلام : « فِيهِمَا فَ_كِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ » (4) » . ثُمَّ طَوى الكتاب وأنْفذَه إليْه ، فلمَّا قرَأه قيصر عهد إلى الأسارى فأطلقهم ، واخْتارهم ، ودَعا أهل مَمْلكَته إلى الإسلام والإيمان بمحمَّد صلى الله عليه و آله ، فاجْتمعت عليْه النَّصارى ، وهمُّوا بِقَتلِهِ ، فأجابهم ، فقال : يا قَوْمُ، إنِّي أرَدتُ أنْ أُجرِّبَكم ، وإنَّما أظهرتُ ما أظهرتُ لأنظُر كيف تكونون؟ فقد حَمَدتُ الآن أمرَكُم عنْد الاخْتبار . فسَكَتُوا واطْمأنُّوا ، فقالوا : كَذلِكَ الظَّنُ بِكَ ، وَكَتَم قَيصَرُ إسلامَهُ حتَّى ماتَ ، وهوَ يقول لخواصِّ أصحابه ومَن يَثِقُ بِهِ : إنَّ عيسَى عليه السلام عبْد اللّه ورسُولُهُ ، وكلمته ألْقاها إلى مَريم ، ومحمَّد ٌ صلى الله عليه و آله نَبيٌّ بعْدَ عيسَى ، وإنَّ عيسَى بشَّر أصحابَه بمحمَّد صلى الله عليه و آله ، ويقول : « مَن أدرَكَهُ فلْيقرأ (5) منِّي السَّلام ، فإنَّه أخِي وعَبدُ اللّه ُ ورَسولُهُ » . وماتَ قَيصَر _ على القوْل _ مسلِما ، فلمَّا ماتَ وتولَّى بعده هِرَقْلُ ، أخْبروه بذلِك ، قال : اكتموا هذا ، وأنْكروه ، ولا تُقِرُّوا بهِ ، فإنَّه إنْ يظهَر طمعَ مَلِكُ العَرب ، وفي ذلك فَسادُنا وهَلاكُنا ، فمَن كان من خواصِّ قَيصَرَ وخَدَمِهِ وأهْلِهِ على هذا الرَّأي كَتَموه ، وهرقل (6) أظْهَر النَّصرانيَّة وقوي أمره ، والحمد للّه وحدَه وصلَّى اللّه على محمَّد وآله الطَّاهرين . (7)
.
ص: 51
. .
ص: 52
. .
ص: 53
. .
ص: 54
5كتابه عليه السلام إلى عمر بن الخَطَّابفي المناقب : استعجم عليه _ عمر _ شيء، ونازع عبد الرَّحمان ، فكتبنا إليه أن يتجشَّم بالحضور ، فكتَب إليهما : « العِلمُ يُؤْتَى ولا يَأتِي » . فقال عمر : هناك شيخٌ من بني هاشم ، وأثارة من علم ، يُؤتَى إليهِ ولا يأتِي . (1)
.
ص: 55
الفصل الثاني : مكاتيبه بعد خلافته حتّى الوصول إلى الكوفة
.
ص: 56
. .
ص: 57
6كتابه عليه السلام إلى معاويةنقل ابن قُتَيْبَة في الإمامة والسِّياسة ، أوَّل كتاب له عليه السلام إلى معاوية قال : _ بعد ذكر ما جرى بعد بيعة النَّاس لعليّ عليه السلام ، وما قال ابن عبَّاس والمُغِيْرَةُ ، وما أجابهما في معاوية _ فكتَب عليٌّ إلى معاوية :« أمَّا بَعدُ ، فَقَد وَلَّيتُكَ ما قِبَلَكَ مِنَ الأمرِ والمالِ ، فَبَايِع مَنْ قِبَلَكَ ، ثُمَّ أَقدِم إليَّ فِي ألفِ رَجُلٍ مِن أَهلِ الشَّامِ » .
فَلَمَّا أتى مُعاوِيَةَ كِتابُ عليّ دَعا بطُومارٍ فكتَب فيه : من معاوية إلى عليّ ، أمَّا بعدُ ، فإنَّه : لَيسَ بَينِي وَبَينَ قَيْسٍ عِتابُغيرَ طَعنِ الكِلَى وَضَرْبِ الرِّقابِ (1) [ ولكن لا يخفى على مَن له أدنَى إلمام بالتَّاريخ، أنَّ هذا الكتاب مفتعل، اختلقه أنصار بنِي أُميَّة قدحا في أمير المؤمنين عليه السلام من جهة ، ومدحا لمعاوية من جهةٍ اُخرى ، أو كذبة من قصَّاص يلقي القصَّة ويختلقها لجَلب النَّاس إليه ، لأنَّ المورِّخين نقلوا: أنَّ المُغيْرَة بن شُعْبَة ، جاء إلى أمير المؤمنينن عليه السلام ، مُظهرا للنُصح ، وطلب منه أن ينصب معاوية لحكومة الشَّام ، حتَّى يتمَّ له الأمر ، ثُمَّ يعزله بعد ذلك، فقال عليّ عليه السلام : « لَستُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدا » أو قريبا من هذا الكلام . ثُمَّ جاء ابن عبَّاس ، فسأل أمير المؤمنين عليه السلام عن مجيء المُغِيْرَة ، فأخبره عليّ عليه السلام بما جاء به ، فصدَّق ابن عبَّاس المُغِيْرَة بن شُعْبَة ، فزجره أمير المؤمنين عليه السلام . (2) وقد بحث المحقِّقون حولَ هذا الأمر ، ودقَّقوا النَّظر في هذه الفكرة ، وهي عدم تولية أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام مُعاوِيَةَ وَلو شهرا ، حَتَّى يسْتقرَّ أمر حكومته ، ويُرسي قواعد خلافته ، وينقطع الخلاف بين المسلمين ، ثُمَّ يعزله متى شاء وأراد ، ولقد بحث ابن أبي الحديد بحثا شافيا حول سياسة أمير المؤمنين عليه السلام ، والفرق بين سياسته وسياسة عمر ومعاوية . (3) وَعَزلُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام عُمَّالَ عثمان عُموما ، ومعاوية خصوصا ، لا يخفى على مَن راجع كتُب التَّاريخ، كالطبري ومروج الذَّهب ، واليعقوبي ، والبحار ، وسفينة البحار ، والغدير ، وأحاديث أمّ المؤمنين . (4) وإذا أردت أنْ تعرِف معاوية ، ونظر النَّبيّ صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام والصَّحابة فيه ، وأعماله الشَّنيعة ، وجناياته على الدِّين وأهله ، فراجع : الغدير : الجزء العاشر والجزء الحادي عشر ، من أوَّلِهما إلى آخرهما ، واقرأهما قراءة تحقيق وتدقيق . مع أنَّ عبائر ابن قُتَيْبَة حاكية عن كون النَّقل كذبا ، لأنَّ ما نقله من قول عليّ عليه السلام للمُغِيرَة : « سِر إلى الشَّام ِ فَقَد وَلَّيتُكَها » . وإباء المُغيْرَة ذلك ، (5) وقوله عليه السلام ذلك لابن عبَّاس ، ورفضه أيضا ، وما نقله _ بعد الكتاب _ من كلام الحسن السِّبط عليه السلام لعليّ عليه السلام ، وما أجابه به في كلام طويل جاء في آخره: « وَ إنَّكَ لَتعلَمُ أَنَّ أباكَ أبرأُ النَّاسِ مِن دَمِهِ » فقال له الحسن عليه السلام : « دَع عَنكَ هذا، واللّه ِ إنِّي لا أظُنّ، بل لا أشُكُّ ، أنَّ ما بِالمَدِينَة من عَاتِقٍ ولا عَذراءَ ولا صَبيٍّ إلاّ وَعَلَيهِ كِفلٌ مِن دَمِهِ » إلى آخر الكلام (6) ، دليلٌ على أنَّ هذا الفصل قد افتعل لأمر دبّر بليل ، مع أنَّ ابن قُتَيْبَة نقل قول عليّ عليه السلام لابن عبَّاس في طَلْحَة والزُّبَيْر ، « وَ لَو كُنتُ مُستَعمِلاً أَحَدا لِضَرِّهِ وَنَفعِهِ لاستَعمَلتُ مُعاوِيَةَ عَلى الشّامِ » . (7) مَعَ أنَّ مُعاوِيَةَ منافقٌ متجاهِر بالفِسق والطُّغْيان ، منذ بدء حياته ، وحَتَّى في زَمَن عمر ، إلى أن نزل به الحتف ولا يمكن لعليّ عليه السلام أن يستعمله على أيّ كورة أو قرية ، وإن شئت أن تعرِف حقيقة معاوية وما يرومه ، وما طوِيَّتُه وأهدافه ، وما كان يبتغيه للإسلام والمسلمين ، فراجع : « النَّصائح الكافية لمن يتولّى معاوية » ، و« أحاديث أمّ المؤمنين » ، وابن أبي الحديد ، والغدير ، وسفينة البحار . (8) وكيف يولّيه أمير المؤمنين عليه السلام ، ويسلّطه على المسلمين ، وهو يقول لابن عبَّاس في كتابه إليه : « فَارْبَعْ أبا الْعَبَّاسِ _ رَحِمَكَ اللّه ُ _ فيما جَرَى عَلَى لِسَانِك ، و يَدِك من خَيْرٍ وشَرٍّ ، فإِنَّا شَرِيكَانِ في ذلك » وقد تقدَّم ، وكَيفَ يُوَلّيهِ وهو يعرفه حقّ المعرفة ، وهو يسمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما نقله الغدير من القول في معاوية ؟ وكيف يصحّ هذا الكتاب مع كتابه عليه السلام إلى معاوية : « وَأمَّا طَلَبُكَ إليّ الشَّامَ ، فَإنِّي لَم أكُن لأُعطِيَكَ مَا مَنَعتُكَ أمسِ » . (9) والَّذي أظنّه هو أنّ هذا الواضع المفتري، قد وضع ذلك الكتاب تبريرا لعمل عمر وعثمان ، حيث ولَّيا معاوية ، وسلّطاه على الاُمَّةِ ، وأطمعاه في الخلافة ، ومهّدا له الأمر . وكيف يصحّ هذا الكتاب ، مع أنَّ معاوية يكتب إلى طَلْحَة والزُّبَيْر وعمَّال عثمان ما نقله ابن أبي الحديد (10) ، يحرّضهم على جدّهم في أعمالهم ، وحفظهم الأصقاع والمُدُنَ الَّتي هم منصوبون عليها من قبل عثمان ؟، وَيحرِّض طَلْحَة والزُّبَيْر على الخلافة ، ويعدهما البيعة ؟. (11) وكيف يصح هذا مع ما ورد في كتابه عليه السلام إلى جَرِير : « وإنَّ المُغيْرَةَ بنَ شُعْبَةَ قَد كَانَ أشارَ عَلَيَّ أن استَعمِلَ مُعاوِيَةَ علَى الشَّامِ ، وَأَنا حِينَئِذٍ بالمَدينَةِ ، فَأبَيتُ ذَلِكَ عَلَيهِ ، وَلَم يَكُنِ اللّه ُ لِيَرانِي أتَّخِذُ المُضِلِّينَ عَضُدا » . نقل البلاذري في أنساب الأشراف : قال أبو مِخْنَف وغيره : وجَّه عليّ عليه السلام المِسْوَر بن مَخْرَمَة الزُّهْريّ إلى معاوية _ رحمه اللّه _ لأخذ البيعة عليه ، وكتب إليه معه : « إنَّ النَّاسَ قَد قَتَلُوا عُثمانَ عَن غَيرِ مشورَةٍ مِنِّي ، وَبَايَعُوا لِي ، فَبَايِع رَحِمَكَ اللّه ُ مُوَفّقا ، وَفِد إليَّ فِي أَشرافِ أهلِ الشَّامِ » ، ولم يذكر له ولاية ، فلمَّا ورد الكتاب عليه ، أبى البيعة لعلي واستعصى . . . . (12) وللبَلاذِري كلام يعلم منه كذب ما نسب إلى ابن عبَّاس في تولية معاوية ، بل يعرف منه ما دبّره معاوية وأعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، وعلم ابن عبَّاس بذلك . قال في أنساب الأشراف : وقال أبو مِخْنَف وغيره : قال المُغِيْرَة بن شُعْبَة ( لعليّ ) : أرى أن تُقِرَّ معاوية على الشَّام ، وَتُثبِتَ ولايته ، وتُوَلّي طَلْحَة والزُّبَيْر المِصرَينِ ، ( كي ) يستقيم لك النَّاس . فقال عبد اللّه بنُ العبَّاس : إنَّ الكوفة والبصرة عين المال ، وإن ولَّيتَهُما إيَّاهما، لم آمن أن يُضَيّقا عَلَيكَ ، وَإن وَلَّيتَ مُعاوِيةَ الشَّامَ لَم تَنفَعكَ وِلايَتُهُ . فقال المُغِيْرَة : لا أرى لك أن تنزع مُلك معاوية ، فانَّه الآن يتَّهمكم بقتل ابن عمّه ، وإن عزلته قاتلَكَ ، فَوَلّهِ وَأطِعنِي . فأبى وقبل قول ابن عبَّاس . (13) وقد نقل البلاذري الكتاب المتقدّم بهذه الصّورة : « إنْ كَانَ عُثمَانُ ابنَ عَمّكَ فَأنَا ابنُ عَمّكَ ، وَإنْ كَانَ وَصَلَكَ فإنِّي أصِلُكَ وَقَد أمرتك عَلَى مَا أنتَ عَلَيهِ فاعمَل فِيه بِالّذي لحقّ (14) عليك » . (15) ]
.
ص: 58
. .
ص: 59
. .
ص: 60
. .
ص: 61
. .
ص: 62
7كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام إلى معاوية في أوَّل ما بويع له بالخلافة :« مِنْ عَبْدِ اللّه ِ عَلِيٍّ أمِيرِ الْمُومِنِينَ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيَانَ : أمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ وإِعْرَاضِي عَنْكُمْ ، حَتَّى كَانَ مَا لا بُدَّ مِنْهُ ولا دَفْعَ لَهُ ، والْحَدِيثُ طَوِيلٌ وَالْكَلامُ كَثِيرٌ ، وقَدْ أدْبَرَ مَا أدْبَرَ ، وأقْبَلَ مَا أقْبَلَ ، فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ ، وأقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْدٍ مِنْ أصْحَابِكَ والسَّلامُ » . (1)
8كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام _ لمَّا بويع بالمدينة _ إلى معاوية :« أمَّا بعدُ ، فإنَّ النَّاس قَتَلوا عُثْمانَ عَنْ غَيْرِ مَشْوِرَةٍ مِنِّي ، وَبَايَعُونِي عن مَشْوِرَةٍ منهُم واجْتِماعٍ ، فإذا أتَاكَ كِتَابِي فبَايِع لِي ، وَأوفِد إليَّ أشْرَافَ أهْلِ الشَّام ِ قِبَلَكَ » . (2)
9كتابه عليه السلام إلى طَلْحَة والزُّبَيْرمن كلام له عليه السلام كلَّم به طَلْحَة والزُّبَيْر بعد بيعته بالخلافة ، وقد عتبا عليه من ترْك مشورتهما ، والاستعانة في الأمور بهما : « لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيرا ، وأرْجَأْتُمَا كَثِيرا . ألا تُخْبِرَانِي أيُّ شَيْءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ ؟ أمْ أيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ ؟ أمْ أيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِين َ ضَعُفْتُ عَنْهُ أمْ جَهِلْتُهُ أمْ أخْطَأْتُ بَابَهُ ؟ واللّه ، مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلافَةِ رَغْبَةٌ ، ولا فِي الْوِلايَةِ إِرْبَةٌ ، ولَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا ، وحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا ، فَلَمَّا أفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللّه ، ومَا وَضَعَ لَنَا ، وأمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ ، ومَا اسْتَنَّ (3) النَّبِي ُّ صلى الله عليه و آله فَاقْتَدَيْتُهُ ، فَلَمْ أحْتَجْ فِي ذَلِك إلَى رَأْيِكُمَا ، ولا رَأْي غَيْرِكُمَا ، ولا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِين َ ، ولَوْ كَانَ ذَلِك لَمْ أرْغَبْ عَنْكُمَا وَلا عَنْ غَيْرِكُمَا . وأمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أمْرِ الأُسْوَةِ ، فَإِنَّ ذَلِك أمْرٌ لَمْ أحْكُمْ أنَا فِيهِ بِرَأْيِي ، ولا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي ، بَلْ وَجَدْتُ أنَا وأنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ، فَلَمْ أحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللّه ُ مِنْ قَسْمِه ، وأمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ ، فَلَيْسَ لَكُمَا واللّه ِ عِنْدِي ولا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى . أخَذَ اللّه بِقُلُوبِنَا وقُلُوبِكُمْ إلَى الْحَقِّ ، وألْهَمَنَا وإيَّاكُمُ الصَّبْرَ . ثم قال عليه السلام : رَحِمَ اللّه رَجُلا رَأى حَقّا فَأَعَانَ عَلَيْه ، أوْ رَأى جَوْرا فَرَدَّهُ ، وكَانَ عَوْنا بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِه » . (4)
.
ص: 63
. .
ص: 64
10كتابه عليه السلام إلى بعض عمَّالهجاء في البحار : رأينا في بعض الكتب القديمة روايةً في كيفيَّة شهادته عليه السلام ، أوردنا منه شيئا ممَّا يُناسب كتابنا هذا على وجه الاخْتصار ، قال : روى أبو الحسن عليّ بن عبداللّه بن محمَّد البَكريّ ، عن لوط بن يَحْيَى ، عن أشْياخه وأسْلافه ، قالوا : لمَّا توفي عُثمان ، وبايع النَّاس أميرَ المؤمنين عليه السلام ، كان رَجلٌ يقال له : حَبيب بن المُنتجَب ، واليا على بعض أطراف اليَمَن من قِبَل عُثمان ، فأقرَّه عليّ عليه السلام علَى عملِه ، وكتَب إليْه كتابا يقول فيه :« بسم اللّه الرّحمن الرحيم من عبْد اللّه أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب إلى حبيب بن المنتجب . سلامٌ عليْك ، أمَّا بَعْدُ ، فإنِّي أحْمدُ اللّه َ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هوَ ، وأُصَلِّي على محمَّدٍ عبْدِهِ ورَسُولِهِ . وبعْدُ فإنِّي وَلَّيتُك ما كُنْتَ عليْهِ لِمِن كانَ مِن قبلُ ، فَأمسِكْ على عَملِكَ ، وإنِّي أوصِيكَ بالعَدْلِ في رَعيَّتِكَ ، والإحسانِ إلى أهْل ممْلَكَتِكَ . واعْلَم أنَّ مَن وُلِّي على رِقاب عَشرَةٍ مِنَ المُسلمين َ _ ولمْ يعدل بينهم _ حَشَرَهُ اللّه ُ يوْمَ القِيامَةِ ، ويَداهُ مغْلُولَتانِ إلى عُنُقِهِ ، لا يَفُكُّها إلاَّ عَدلُهُ في دَارِ الدُّنيا ، فإذا ورَدَ عَليْكَ كِتابِي هذا فاقْرأهُ على مَن قِبلَكَ مِن أهلِ اليَمَن ِ ، وخُذْ لِيَ البَيْعَةَ على مَن حضرَكَ مِن المُسلِمين َ ، فإذا بايعَ القَوْمُ مِثْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ ، فَامْكُث في عَمَلِك ، وأنْفِذْ إليَّ مِنْهُم عَشَرَةً يَكُونُونَ منِ عُقلائِهِم وفُصَحائِهِم وَثِقاتِهِم ، مِمَّن يكون أشدَّهم عَوْنا مِن أهْلِ الفَهمِ وَالشَّجاعَةِ ، عارِفينَ باللّه ِ ، عَالِمينَ بأديَانِهِم ، وَمَا لَهُم ومَا عَلَيْهِم ، وأجوَدَهُم رَأيا ، وَعَليْكَ وَعَلَيْهِمُ السَّلامُ » .
.
ص: 65
وطوى الكتاب وختمه ، وأرسله مع أعرابيّ ، فلمَّا وَصل إليْه قبَّله ووضعَه على عَيْنَيه ورأسهِ ، فلمَّا قرأه ، صَعَدَ المِنبَرَ ، فَحَمِدَ اللّه َ وأثنَى عَلَيهِ . . . (1)
11كتابه عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِيّمن كتاب له عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِي ّ: روى أبو مِخْنَف ، قال : حدَّثني الصَّقعب ، قال : سمِعت عبْد اللّه بن جُنادة ، يحدِّث أنَّ عليَّا عليه السلام لمَّا نَزَلَ الرَّبَذَة ، بَعَثَ هاشِمَ بن عُتْبَة بن أبي وَقَّاص إلى أبي موسَى الأشْعَرِي ّ _ وهو الأمير يَومئِذٍ على الكوفة _ ليَنْفِر إليْه النَّاس ، وكتَبَ إليْه معَه :« مِن عَبْدِ اللّه عليّ أمِيرِ المُؤمِنِينَ إلى عَبْدِ اللّه ِ بنِ قَيْس . أمَّا بَعدُ ، فإنِّي قَدْ بَعَثْتُ إليْكَ هاشِمَ بْنَ عُتْبَة َ ، لِتُشْخِصَ إليَّ مَن قِبَلَكَ مِنَ المُسلِمين َ ، لِيَتَوجَّهُوا إلى قَوْمٍ نَكَثُوا بَيْعَتي ، وَقَتَلُوا شِيْعَتِي ، وَأحْدَثُوا في الإسْلام ِ هَذا الحَدَثَ العَظيمَ ، فأشْخِصْ بالنَّاسِ إليَّ مَعَهُ حيْنَ يَقْدِمُ عَلَيْكَ ، فإنِّي لمْ أُولِّكَ المِصرَ الَّذِي أنْتَ فيهِ ، وَلَمْ أُقِرَّكَ عَلَيْهِ، إلاَّ لِتَكونَ مِن أعوانِي على الحقِّ ، وأنْصارِي علَى هذا الأمرِ ، والسَّلامُ » . (2)
.
ص: 66
12كتابه عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِي ّنقل مصنِّف كتاب معادن الحكمة (1) رحمه الله ، كتابه عليه السلام إلى أبي موسى مع ابن عبَّاس ومحمّد بن أبي بكر من الرَّبَذَة ، وَلكِنّ المسعودي َّ _ في مروج الذَّهب _ نقله بنحو آخر :« اعتَزِل عَمَلَنا يا ابنَ الحائِكِ ، مَذمُوما مَدْحُورا ، فَما هذا أوَّلَ يومِنا مِنكَ ، وإنَّ لكَ فِينا لهَناتٍ وهُنَيَّاتٍ » . (2)
وقد نقله الطَّبري في تاريخه ، هكذا : بعَث [ أمير المؤمنين ] قَرَظَةَ بن كَعْب الأنْصاريّ أميرا على الكوفة ، وكتَب معه إلى أبي موسى :« أمَّا بعدُ ، فقد كنت أرَى أن بُعدَكَ مِن هَذا الأمْرِ الَّذي لم يَجعَلِ اللّه ُ عز و جللَكَ مِنهُ نَصِيبا ، سَيَمْنَعُكَ من رَدّ أمري ، وَقَد بَعَثْتُ الحسنَ بن عليٍّ وَعَمَّار بن ياسِر يَسْتَنْفِران النَّاسَ ، وَبَعثْتُ قَرَظَةَ بن كَعْبٍ واليا على المصر ، فاعتَزِل عَمَلَنا مَذمُوما مَدحُورا ، فإنْ لم تفعل، فإنِّي قد أَمَرْتُهُ أن يُنابِذَكَ ، فإنْ نابَذْتَهُ فَظَفَر بِكَ أنْ يُقَطِّعَكَ آرابا » . (3)
أبو مُوسَى الأشْعَرِيّهو عبد اللّه بن قَيْس بن سُلَيْم، المشهور بأبيموسى الأشْعَرِيّ . من أهل اليمن (4) ، وأحد صحابة النَّبيّ صلى الله عليه و آله (5) . أسلم فيمكّة (6) . وكان حَسَنَ الصَّوت، واشتهربالقراءة (7) . ولاّه النَّبيّ صلى الله عليه و آله على مناطق من اليمن (8) . وولِي البصرة (9) في عهد عمر بعد عزل المُغِيْرَة (10) . عندما كان واليا على البصرة ، فتح كثيرا من مناطق إيران ، منها الأهواز (11) ، وتُستَر (12) ، وقمّ (13) ، وإصفهان (14) ، وجُنديسابور (15) . وظلّ واليا على البصرة في أوّل خلافة عثمان (16) ، ثمّ عزله عثمان وجعل مكانه عبد اللّه بن عامر بن كريز (17) ، الَّذي كان ابن خمس وعشرين سنة (18) . ولمّا ثار أهل الكوفة على عثمان وواليه سعيد بن العاص ، وطلبوا أبا موسى ، وافق عثمان على ذلك ، وولي أبو موسى الكوفة (19) . وعندما تسلّم أمير المؤمنين عليه السلام مقاليد الخلافة، أبقاه في منصبه باقتراح مالك الأشْتَر (20) . وهو الوالي الوحيد الَّذي ظلّ في منصبه من ولاة عثمان (21) . وكان أبو موسى يثبّط النَّاس عن نصرة الإمام عليه السلام في فتنة أصحاب الجمل ، فعزله الإمام (22) ، وأخرجه مالك الأشْتَر من الكوفة (23) . اعتزل أبو موسى القتال في صفِّين (24) وانضمّ إلى القاعدين . ولكن عندما فُرِضَ التَّحكيم على الإمام عليه السلام ، فُرِضَ أبو موسى حَكَما عليه أيضا، بإصرار الأشْعَث بن قَيْس ، والخَزْرَج وبلبلتهم . وكان الإمام عليه السلام يعلم أنّ أبا موسى سيُضيِّع الحقّ بمكيدة عَمْرو بن العاص ، وكذلك كان يعتقد أصحابه الأجلاّء كمالك الأشْتَر ، وابن عبّاس ، والأحْنَف بن قَيْس (25) . وفي آخر المطاف انخدع أبو موسى بمكيدة ابن العاص ، وعجز عن استخلاف عبد اللّه بن عمر ، الَّذي كان صهره (26) ، وكان يطمع فيها (27) . لقد وَهِم أبو موسى بظنّه أ نّه عزل عليّا عليه السلام ومعاوية ، واستغلّ ابن العاص الفرصة بمكره وكيده ، فأبقى معاوية . وعبّر أبو موسى بحماقته هذه عن دوره المخزي في التَّاريخ مرَّة اُخرى ، وساق المجتمع الإسلامي إلى هاوية الدَّمار (28) . ويا عجبا ! فإنّ التَّدقيق في حِوار الرَّجلين، يدلّ على أنّ أبا موسى كان غير مطّلع على موضوع التَّحكيم ، ولم يعلم في الحقيقة كُنهَ ما يريد أن يُحكّمَ فيهِ . لجأ أبو موسى بعد ذلك إلى مكّة (29) . وعندما مَلَكَ معاوية كان يتردّد عليه ، وكان معاوية يحتفي به (30) . وكان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يدعو في صلاته على أبي موسى ، ومعاوية ، وابن العاص (31) . ويدلّ التَّدبّر في حياة أبي موسى الأشعري ، وإنعام النَّظر فيما ذكرناه، أنّه كان جامد الفكر من جهة، ومتلوِّن السُّلوكِ من جهةٍ اُخرى . فلا هو من اُولي الفكر الحركي الفعّال ، ولا هو من أصحاب السَّعي اللاّئق المحمود . لقد كان رجلاً ظاهر التَّنسّك، دون الاهتداء بما يُمليه عليه العقل . مات أبو موسى سنة 42 ه (32) وهو ابن ثلاث وستّين سنةً (33) . قال الإمام عليّ عليه السلام _ في وصف أبي موسى الأشْعَرِيّ _ : « وَ اللّه ِ مَا كَانَ عِندِي مُؤتَمَنا وَلا ناصحا ، وَ لَقَد كَانَ الَّذينَ تَقَدَّمُونِي استَولَوا عَلى مَوَدَّتِهِ ، وَوَلُّوهُ وَسَلَّطُوهُ بالإمرَةِ عَلى النَّاسِ ، وَلَقَد أَردتُ عَزلَهُ ، فَسأَلَني الأشْتَر ُ فيهِ أن اُقرِّهُ ، فَأقرَرتُهُ علَى كُرهٍ مِنّي لَهُ ، وتَحَمّلتُ علَى صَرْفِهِ من بعدُ (34) » . وجاء في مروج الذَّهب _ في ذكر حرب الجمل _ : كاتب عليّ من الرَّبَذَة أبا موسى الأشْعَرِيّ ليستنفر النَّاس ، فثبّطهم أبو موسى وَقَالَ : إنّما هِيَ فِتنَةٌ ، فنُمِيَ (35) ذلك إلى عليّ ، فَوَلّى على الكُوفَةِ قَرَظَةَ بن كَعْبٍ الأنْصاريّ ، وكتب إلى أبي موسى : « اعتزل عَمَلَنا يابنَ الحَائِكِ مَذمُوما مَدُحورا ، فما هذا أوّلَ يَومِنا مِنكَ ، وَإنَّ لَكَ فينا لَهَنَاتٍ وَهُنَيَّاتٍ (36) » . وفي سِيَرِ أعلامِ النبلاء _ عن شَقِيق _ : كنّا مع حُذَيْفَة جلوسا ، فدخل عبد اللّه وأبو موسى المسجد ، فقال : أحدهما منافق، ثمّ قال : إنَّ أشبه النَّاس هَدْيا ودَلاًّ وسَمْتا برسول اللّه صلى الله عليه و آله عبداللّه (37) . وفي شرح نهج البلاغة : روي أنّ عَمَّار ا سُئل عن أبي موسى ، فقال : لقد سمعت فيه من حُذَيْفَة قولاً عظيما ، سمعته يقول : صاحب البُرْنُس (38) الأسْوَد ، ثمّ كلح كلوحا (39) ، علمت منه أنّه كان ليلة العقبة بين ذلك الرَّهط (40) . وفي تاريخ مدينة دمشق عن أبي تِحيَى حُكَيم : كنت جالسا مع عَمَّار ، فجاء أبو موسى فقال : مالي ولك ؟ قال : أ لستُ أخاك ؟ قال : ما أدري، إلاّ أنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يلعنك ليلة الجمل (41) . قال : إنّه قد استغفر لي . قال عَمَّار : قد شهدتُ اللَّعنَ ، ولم أشهد الاستغفار (42) . وفي تاريخ الطبري عن جُوَيْريَّة بن أسماء : قدم أبو موسى على معاوية ، فدخل عليه في بُرنُس أسود ، فقال : السَّلام عليك يا أمين اللّه ! قال : وعليك السَّلام ، فلمّا خرج قال معاوية : قدم الشَّيخُ لاُوَلّيه ، ولا واللّه لا اُولّيه (43) . وفي الغارات عن محمّد بن عبد اللّه بن قارِب : إنّي عند معاوية لجالس ، إذ جاء أبو موسى فقال : السَّلام عليك يا أمير المؤمنين ! قال : وعليك السَّلام ، فلمّا تولّى قال : واللّه لا يلي هذا على اثنين حتَّى يموت (44) . وفي الطبقات الكبرى عن أبي بُرْدَة بن أبي موسى : دخلت على معاوية بن أبي سُفْيَان حين أصابته قرحته ، فقال : هلمّ يابن أخي تحوّل فانظر . قال : فتحوّلتُ ، فنظرتُ ، فإذا هو قد سُبِرَت (45) _ يعني : قرحته _ فقلت : ليس عليك بأس ياأمير المؤمنين . قال: إذ دخل يزيد بن معاوية ، فقال له معاوية : إنْ وَلِيتَ من أمر النَّاس شيئا ، فاستوصِ بهذا ؛ فإنّ أباه كان أخا لي _ أو خليلاً أو نحو هذا من القول _ غير أنّي قد رأيت في القتال ما لم يَرَ (46) .
.
ص: 67
. .
ص: 68
. .
ص: 69
. .
ص: 70
. .
ص: 71
. .
ص: 72
13كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفةمُحَمَّد وطَلْحَة : لمَّا قدم عليٌّ الرَّبَذَة ، أقام بها وسرَّح منها إلى الكوفة مُحَمَّد بن أبي بَكر ومُحَمَّد بن جعفر ؛ وكتب إليهم :« إنِّي اختَرتُكُم علَى الأمصَارِ، وَفَزِعتُ إليكُم لِما حَدَثَ ، فَكُونُوا لدينِ اللّه ِ أعَوانا وَأنصارا ، وَأيِّدونا وَانهَضُوا إلينا ، فالإصلاحُ ما نريدُ ، لِتَعودَ الأُمَّة إخوانا ، وَمَن أَحَبَّ ذَلِكَ وَآثَرَهُ فَقَد أَحَبَّ الحقَّ وآثَرَهُ ، وَمَن أَبغَضَ ذَلِكَ فقد أبغَضَ الحقَّ وَغَمَصَهُ » . (1) وهناك صورة أُخرى لهذا الكتاب : قال أبو جَعْفَر مُحَمَّد بن جَرِير : كتب عليٌّ عليه السلام من الرَّبَذَة إلى أهل الكوفة : « أمَّا بَعدُ ؛ فَإنِّي قد اختَرتُكُم وَآثَرتُ النُّزولَ بَينَ أَظهُرِكُم ، لِمَا أَعرِفُ مِن مَوَدَّتِكُم ، وَحُبِّكُم للّه ِ وَرَسُولِهِ ، فَمَن جَاءَنِي وَنَصَرَنِي فَقَد أجابَ الحَقَّ ، وَقَضَى الذي عَلَيهِ » . (2)
.
ص: 73
[ أقول : هذا ما نقله الطَّبري عن التُّستري َّ ، عن شعيب ، عن سيف ، عن مُحَمَّد وطَلْحَة ،وهو كما قال العلاّمة الأميني رحمه الله :شوّه تاريخه بمكاتبات التُّستريّ الكذَّاب الوضّاع ، عن شعيب المجهول الَّذي لا يعرف ، عن سيف الوضّاع المتروك السَّاقط ، المتّهم بالزَّندقة ، وقد جاءت في صفحاته بهذا الإسناد المشوَّه . (1) وأمَّا رواية أبي مِخْنَف ؛ فإنَّه قال : إنَّ هاشِمَ بنَ عُتْبة لمَّا قدم الكوفة ، دعا أبو موسى _ الأشعري _ السَّائبَ بنَ مالكٍ الأشْعَرِيّ فاستشاره ، فقال _ السائب _ : اتبع ما كتب به إليك ، فأبى ذلك ، وحبس الكتاب ، وبعث إلى هاشِم يتوعّده ويخوّفه . قال السَّائب : فأتيت هاشما فأخبرته برَأي أبي موسى ، فكتب إلى عليّ عليه السلام : لعبد اللّه عليّ أمير المونين ، من هاشم بن عُتْبَة . أمَّا بعدُ يا أمير المونين ، فَإنِّي قدمت بكتابك على امرىًمُشاقّ بعيد الوُدّ ، ظاهر الغلّ والشَّنآن ، فتهدَّدني بالسجن ، وخوّفني بالقتل ، وقد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحلّ بن خليفة أخي طيء ، وهو من شيعتك وأنصارك ، وعنده علمُ ما قِبَلَنا ، فاسأله عمَّا بدا لك ، واكتب إليّ برَأيك ، والسَّلام . قال: فلمَّا قدم المحلّ بكتاب هاشم على عليّ عليه السلام ، سلّم عليه ثُمَّ قال: الحَمدُ للّه ِ الَّذي أدَّى الحقَّ إلى أهلِهِ ، وَوَضَعَهُ مَوضِعَهُ ؛ فَكَرِهَ ذَلِكَ قَومٌ قَد وَاللّه ِ كَرِهُوا نُبُوَّةَ مُحَمّد ٍ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ بارَزُوهُ وَجَاهَدُوهُ ، فَرَدَّ اللّه ُ عَلَيهِم كَيدَهُم فِي نُحوُرِهِم ، وَجَعَلَ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَيهِم . وَاللّه ِ يا أميرَ المُوِنينَ ، لَنُجَاهِدَنَّهُم مَعَكَ في كُلِّ مَوطِنٍ ، حِفظا لِرَسُولِ اللّه صلى الله عليه و آله في أَهلِ بيتِهِ ، إذ صارُوا أعداءً لَهُم بَعدَهُ . فرحّب به عليّ عليه السلام ، وقال له خيرا ، ثُمَّ أجلسه إلى جانبه ، وقرأ كتاب هاشم ، وسأله عن النَّاس ، وعن أبي موسى ، فقال : واللّه يا أمير المونين ، ما أثقُ به ولا آمَنُهُ على خِلافِكَ إنْ وَجَدَ مَن يُساعِدُهُ علَى ذلِكَ . فقال عليّ عليه السلام : « وَاللّه ِ مَا كانَ عِندِي بِمُوتَمنٍ ولا ناصِحٍ ، ولَقَد أرَدتُ عَزْلَهُ، فأتاني الأشْتَر فَسَأَلَنِي أنْ أُقرَّهُ ، وَذَكَر أنَّ أَهلَ الكُوفَة ِ بِهِ رَاضُونَ فأَقرَرتُهُ » . وَرَوى أبو مِخْنَف ٍ ، قال : وبعث عليٌّ عليه السلام من الرَّبَذَة _ بعد وصول المحلّ بن خليفة ، أخي طيء _ عبدَ اللّه بن عبَّاس ، ومُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ إلى أبي موسى ؛ وكتب معهما : « مِن عَبْدِ اللّه ِ عَلِيٍّ أميرِ المُوِنِينَ إلى عَبْدِ اللّه ِ بْنِ قَيْس ٍ ، أمَّا بَعْدُ ؛ يَابنَ الحَائِكِ ، يا... (2) ، فَوَ اللّه ِ إنِّي كُنْتُ لأَرَى أنَّ بُعْدَكَ مِن هَذَا الأمْرِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْك اللّه ُ لَهُ أهْلاً ، وَلا جَعَلَ لَكَ فيْهِ نَصِيبا ، سَيَمْنَعُكَ مِن رَدِّ أمْرِي ، والانْتِزَاءِ عليَّ ، وقَد بَعَثْتُ إليْكَ ابنَ عبَّاس ٍ وَابنَ أبي بَكرٍ ، فَخَلِّهِما والمِصرَ وأهلَهُ ، وَاعْتَزِل عَمَلَنا مَذْؤوما مَدحُورا . فإنْ فَعَلْتَ ، وَإلاَّ فإنِّي قَد أمَرْتُهُما أنْ يُنَابِذاكَ علَى سَواءٍ ، إنَّ اللّه َ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنينَ ، فإذا ظَهَرا عليْك قَطَّعاكَ إرْبا إرْبا ، وَالسَّلامُ على مَن شَكَرَ النِّعْمَةَ ، وَوَفَى بالبَيْعَةِ ، وَعَمِلَ برَجَاءِ العَاقِبةِ . » قال أبو مِخْنَف : فلمَّا أبطأ ابنُ عبَّاس وابنُ أبي بَكر عن عليّ عليه السلام ، وَلم يدرِ ما صنعا ، رحل عن الرَّبَذَة إلى ذي قار فَنَزَلَها ، فَلَمَّا نزلَ ذا قارٍ ، بَعث إلى الكوفة الحسنَ ابنَه عليه السلام وعَمَّارَ بن ياسِر وزَيْد بن صُوحان وقَيْسَ بن سَعْد بن عُبادَة ، ومعهم كتاب إلى أهل الكوفة ، فأقبلوا حَتَّى كانوا بالقادسيّة ، فتلقّاهم النَّاس ، فلمَّا دخلوا الكوفة قرؤوا كتابَ عليٍّ ، وهو ،..... (3)
.
ص: 74
. .
ص: 75
عَمَّارُ بنُ ياسِرعَمَّار بن ياسِر بن عامِر المَذْحِجيُّ ، أبو اليَقْظان ، واُمّه سُمَيَّة ، وهي أوّل من استشهد في سبيل اللّه . وهو من السَّابقين إلى الإيمان والهجرة ، ومن الثَّابتين الرَّاسخين في العقيدة ؛ فقد تحمّل تعذيب المشركين مع أبوَيه، منذ الأيّام الاُولى لبزوغ شمس الإسلام ، ولم يداخله ريب في طريق الحقّ لحظة واحدة (1) . شهد له رسول اللّه صلى الله عليه و آله بأنّه يزول مع الحقّ ، وأنّه الطَّيِّب المطيَّب، وأ نّه مُلى ء إيمانا . وأكّد أنّ النَّار لا تمسُّه أبدا . وهو ممّن حرس _ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ خلافة الحقّ وحقّ الخلافة ، ولم يَنكُب عن الصِّراط المستقيم قطّ (2) ، وصلّى مع أمير المؤمنين عليه السلام على جنازة السَّيِّدة المطهَّرة فاطمة الزَّهراء عليهاالسلام (3) ، وظلّ ملازما للإمام صلوات اللّه عليه . وَلِي الكوفة مدّةً في عهد عمر (4) . وكان قائدا للجيوش في فتح بعض الأقاليم (5) . ولمّا حكم عثمان كان من المعارضين له بجدٍّ (6) . وانتقد سيرته مرارا ، حتَّى همّ بنفيه إلى الرَّبَذَة لولا تَدَخُّلُ الإمامِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، إذ حال دون تحقيق هدفه (7) . ضُرب بأمر عثمان لصراحته ، وفعل به ذلك أيضا عثمان نفسه ، وظلّ يعاني من آثار ذلك الضَّرب إلى آخر عمره (8) . وكان لاشتراكه الفعّال في حرب الجمل ، وتصدّيه لقيادة الخيّالة في جيش الإمام عليه السلام مظهر عظيم . كما تولّى في صفِّين قيادة رجّالة الكوفة والقُرّاء (9) . تحدّث مع عَمْرو بن العاص وأمثاله من مُناوِئي الإمامِ عليه السلام في غيرِ مَوطِنٍ ، وكَشَفَ الحقَّ بمنطقه البليغ واستدلالاته الرَّصينة (10) . وَفي صِفِّين ، استُشهِدَ هذا الصَّحابيّ الجليلُ والنّموذج المتألّق ، فتحقّقت بذلك النبوءة العظيمة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ كان قد خاطبه قائلاً : تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيةُ . وكان له من العمر _ عند استشهاده _ ثلاث وتسعون سنة (11) . نُقل إخبارُ النَّبيّ صلى الله عليه و آله بالغيب حول قتل الفئة الباغية عَمَّارَ بنَ ياسِر بألفاظ متشابهة ، وطرق متعدّدة . وكان النَّاس ينظرون إلى عَمَّار بوصفه المقياس في تمييز الحقّ عن الباطل . واُثر هذا الحديث بصيغة : « تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ » ، وبصيغة : « تَقتُلُ عَمَّارا الفِئَةُ الباغِيَةُ » ، وبصيغة : « تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ » على لسان سبعة وعشرين من الصَّحابة ، وهم : أبو سعيد الخدري ، وعَمْرو بن العاص ، وعبد اللّه بن عَمْرو بن العاص ، ومعاوية ، وأبو هريرة ، وأبو رافع ، وخُزَيْمَة بن ثابِت ، وأبو اليسر ، وعَمَّار ، واُمّ سلمة ، وقَتادَة بن النُّعْمان ، وأبو قَتادَة ، وعثمان بن عفّان ، وجابر بن سَمُرة ، وكَعْب بن مالك ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد اللّه ، وابن مسعود ، وحُذَيْفَة ، وابن عبّاس ، وأبو أيّوب ، وعبد اللّه بن أبي هذيل ، وعبد اللّه بن عمر ، وأبو سعد ، وأبو اُمامة ، وزياد بن الفرد ، وعائِشَة (12) . وصرّح البعض بتواتره كابن عبد البرّ (13) ، والذَّهبي (14) ، والسُّيوطي . وأثار هذا الحديث مشكلة لمعاوية بعد استشهاد عَمَّار ، فحاول توجيهه بقوله : ما نحن قتلناه وإنّما قتله مَنْ جاء به (15) ! فقال الإمام عليه السلام في جوابه : فَرَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله _ إذَنْ _ قاتلُ حَمزَةَ (16) ! وما من شكٍّ في أنّ هذه الصَّفحات القليلة عاجزة عن أن تفي بحقّ تلك الشَّخصيّة العظيمة . وسأختم الحديث عنهُ بمجموعة من الرِّوايات والنصوص التاريخية الَّتي بيّنت لنا غيضا من فيض، فيما يرتبط بهذه القمّة الرَّفيعة شرفا ، واستقامة ، وحرّيّة . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « إنّ الجَنَّةَ لَتَشتَاقُ إلَى ثَلاثَةٍ : عَلِيٍّ وعَمَّارٍ وَسَلْمان » (17) . وقال الإمام عليّ عليه السلام _ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله _ : « يا رَسُولَ اللّه ِ ، إنَّكَ قُلتَ : إنّ الجَنَّةَ لَتَشتَاقُ إلى ثَلاثَةٍ ، فَمَن هَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ ؟ قال صلى الله عليه و آله : أَنتَ مِنهُم وأنتَ أوّلُهُم ، وَسَلْمان ُ الفارسِيّ ؛ فإنّه قَلِيلُ الكِبرِ ، وَهُوَ لَكَ ناصِحٌ ؛ فاتَّخِذْهُ لِنَفسِكَ ، وعَمَّارُ بنُ ياسِر ، شَهِدَ مَعَكَ مَشاهِدَ غيرَ وَاحِدَةٍ ، لَيسَ مِنها إلاّ وَهوُ فيها كثيرٌ خَيرُهُ ، ضَوِيٌّ نُورُهُ ، عَظِيمٌ أجرُهُ (18) » . وَعنهُ عليه السلام :« جَاء عَمَّارُ يَستَأذِنُ علَى النَّبيِّ صلى الله عليه و آله فَقالَ : ائذَنُوا لَهُ ، مَرحَبا بالطَّيِّبِ المُطَيَّبِ » (19) . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « مُلِئ عَمَّار إيمانا إلَى مُشاشِهِ » (20) . (21) وعنه صلى الله عليه و آله : « ابنُ سُمَيَّةَ، ما عُرِضَ عَلَيهِ أمرانِ قَطُّ إلاّ أَخَذَ بالأَرشَدِ مِنهُما » (22) . وعنه صلى الله عليه و آله : « عَمَّارٌ خَلَطَ اللّه ُ الإيمانَ ما بَينَ قَرنِهِ إلى قَدَمِهِ ، وَخَلَطَ الإيمانَ بِلَحمِهِ وَدَمِهِ ، يَزوُلُ مَعَ الحَقّ حَيثُ زَالَ ، وَلَيسَ يَنبَغِي للنَّارِ أن تَأكُلَ مِنهُ شَيئا » (23) . وقال الإمام عليّ عليه السلام _ في وصف عَمَّار _ :« ذَلِكَ امرُؤ خَالَطَ اللّه ُ الإيمانَ بِلَحمِهِ وَدَمِهِ وَشَعرِهِ وبَشَرِهِ ، حَيثُ زَالَ زَالَ مَعهُ ، وَلا يَنبَغِي لِلنّارِ أَن تَأكُلَ منِهُ شيئا » (24) . وقالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : « دَمُ عَمَّار وَلَحمُهُ حَرامٌ علَى النَّارِ أن تَأكُلَهُ أو تَمَسَّهُ » (25) . وقالَ الإمامُ عَليّ عليه السلام _ في وصف عَمَّار بن ياسِر _ : . . . « ذاك امرُؤٌ حَرَّمَ اللّه ُ لَحمَهُ وَدَمَهُ علَى النَّارِ أن تَمسَّ شَيئا مِنهُما » (26) . وقالَ رَسُول اللّه ِ صلى الله عليه و آله : «اللّهُمّ إنَّكَ أَولَعتَهُم بِعَمَّار، يَدعُوهُم إلى الجَنَّةِ ، و يَدعُونَهُ إلى النَّارِ» (27) . وعنه صلى الله عليه و آله : « ما لَهُم وَلِعَمّار ؟ يَدعُوهُم إلى الجَنَّةِ ، وَيَدعُونَهُ إلى النَّارِ ، وَذَاكَ دَأبُ الأشْقِيَاءِ الفُجَّارِ » (28) . وعنه صلى الله عليه و آله : « يا عَمَّارُ بنَ ياسِر ! إن رَأَيتَ عَلِيّا قَد سَلَكَ وَاديِا ، وَسَلَكَ النَّاسُ وادِيا غَيرَهُ، فاسلُكْ مَعَ عَلِيّ ؛ فإنَّهُ لَن يُدْلِيَكَ في رَدَىً ، وَلَن يُخرِجَكَ مِن هُدىً» (29) . وعنه صلى الله عليه و آله : « إذا اختَلَفَ النَّاسُ كانَ ابنُ سُمَيَّةَ مَعَ الحَقّ » (30) . وفي المستدرك على الصحيحين عن حَبَّة العُرَنِيّ : دخلنا مع أبي مسعود الأنْصاري ّ على حُذَيْفَة بن اليَمان أسأله عن الفتن ، فقال : دوروا مع كتاب اللّه حيثما دار ، وانظروا الفئة الَّتي فيها ابن سُمَيَّة فاتّبعوها ؛ فإنّه يدور مع كتاب اللّه حيثما دار . قال : فقلنا له : ومَن ابنُ سُمَيَّة ؟ قال : عَمَّار ، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول لَهُ : لَن تَمُوتَ حَتَّى تَقتُلَكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، تَشرَبُ شُربَةً ضَياح (31) تَكُن آخِرَ رِزقِكَ مِن الدُّنيا (32) . وقال الإمام عليّ عليه السلام : « إنَّ امرَأً مِنَ المُسلِمِينَ لَم يَعظُمْ عَلَيهِ قَتلُ عَمَّارٍ ، ويَدخُلْ عَلَيهِ بِقَتلِهِ مُصِيبَةٌ مُوجِعَةٌ ، لَغيرُ رَشِيد ، رَحِمَ اللّه ُ عَمَّارا يَومَ أسلَمَ ، ورَحِمَ اللّه عَمَّارا يَومَ قُتِلَ ، ورَحِمَ اللّه ُ عَمَّارا يَومَ يُبعَثُ حَيّا ! لَقَد رأيتُ عَمَّارا ما يُذكَرُ مِن أصَحابِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أربَعَةٌ إلاّ كانَ الرَّابِعَ ، وَلا خَمسَةٌ إلاّ كان الخامِسَ ، وَما كان أحدٌ مِن أصحَابِ مُحَمّدٍ صلى الله عليه و آله يَشُكُّ في أنّ عَمَّارا قَد وَجَبَت لَهُ الجَنَّةُ في غَيرِ مَوطِنٍ ، ولا اثنين ، فهنيئا له الجنّة ! عَمَّار مع الحقّ أين دار ، وقاتِلُ عَمَّار في النَّار » (33) . وفي الأمالي للطوسيّ عن عَمَّار : لو لم يبق أحد إلاّ خالف عليّ بن أبي طالب ، لما خالفته ، ولا زالت يدي مع يده ؛ وذلك لأنّ عليّا لم يزَل مع الحقّ منذ بعث اللّه نبيّه صلى الله عليه و آله ؛ فإنّي أشهد أنّه لا ينبغي لأحد أن يُفضِّل عليه أحدا (34) . وفي أنساب الأشراف عن أبي مِخْنَف : إنّ المِقْدادَ بن عَمْرو، وعَمَّار بن ياسِر ، وطَلْحَة والزُّبَيْر، في عدّة من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله كتبوا كتابا، عدّدوا فيه أحداث عثمان ، وخوّفوه ربّه ، وأعلموه أ نّهم مُواثِبوهُ إن لم يقلع . فأخذ عَمَّار الكتاب وأتاه به ، فقرأ صدرا منه ، فقال له عثمان : أ عليَّ تقدم من بينهم ؟ فقال عَمَّار : لأنّي أنصحهم لك ، فقال : كذبت يابن سُمَيَّة ، فقال : وأنا واللّه ابن سُمَيَّة وابن ياسر . فأمر غلمانا له فمدّوا بيديه ورِجلَيهِ ، ثُمّ ضَرَبَهُ عُثما نُ بِرِجلَيه _ وهي في الخفّين _ على مَذاكِيرِهِ ، فأصابَهُ الفتقُ ، وكان ضعيفا كبيرا ، فغُشي عليه (35) . وعن أبي مِخْنَف : كان في بيت المال بالمدينة سَفَطٌ (36) فيه حُليٌّ وجوهر ، فأخذ منه عُثما نُ ما حلّى به بعضَ أهلِهِ ، فأظهر النَّاسُ الطَّعنَ عَلَيهِ في ذَلِكَ، وكلّمُوهُ فيهِ بكلام شديد حتَّى أغضبوه ، فخطب فقال : لَنأخُذَنَّ حاجتنا من هذا الفيء وإنْ رَغِمَتْ اُنوف أقوام . فقال له عليّ عليه السلام : إذا تُمنَعُ مِن ذَلكَ ويُحَالُ بَينَكَ وَبَيَنهُ . وقال عَمَّار بن ياسر : اُشهِدُ اللّه َ أنّ أنفي أوّلُ راغِمٍ مِن ذلك ، فقال عثمان : أ عليَّ يابنَ المَتْكاء (37) تجترِئ ؟ خذوه ، فاُخِذ، ودَخل عثمان فدعا به، فضربه حتَّى غُشي عليه ، ثمّ اُخرج فحُمل حتَّى اُتي به منزل اُمّ سلمة زوج رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فلم يُصَلِّ الظُّهر والعصر والمغرب ، فلمّا أفاق توضّأ وَصَلّى ، وَقالَ : الحمد للّه ، ليس هذا أوّلَ يَومٍ اُوذِينا فيهِ في اللّه ِ . . . . وبلغ عائِشَة ما صُنِعَ بعَمّار ، فَغضِبَت وأخرجت شعرا من شَعرِ رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وثوبا من ثيابه ، ونَعلاً مِن نِعالِهِ ، ثُمّ قالت : ما أسرعَ ما تركتُم سُنَّةَ نبيِّكُم ، وهذا شعره وثوبه ونعله، ولم يَبْلَ بعدُ ! فغضب عثمان غضبا شديدا حتَّى ما درى ما يقول (38) . وفي تاريخ اليعقوبي : لمّا بلغ عثمان وفاة أبي ذَرّ ، قال : رَحِمَ اللّه ُ أبا ذَرّ ! قال عَمَّار : نعم ! رَحِمَ اللّه أبا ذَرّ مِن كُلِّ أَنفُسِنا ، فغلظ ذلك على عثمان . وبلغ عثمان عن عَمَّار كلام ، فأراد أن يُسيّره أيضا ، فاجتمعت بنو مخزوم إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وسألوه إعانتهم ، فقال عليّ عليه السلام : لا نَدَعُ عُثمانَ وَرَأيَهُ . فجلس عَمَّارُ في بيته ، وبلغ عثمان ما تكلّمت به بنو مخزوم ، فَأمسَكَ عَنهُ (39) . وفي الكامل في التاريخ : خَرَجَ عَمَّارُ بنُ ياسِر على النَّاس فقال : اللَّهمَّ إنَّك تَعلَمُ أنِّي لو أعلَمُ أنّ رِضاكَ في أن أقذِفَ بنفسي في هذا البحر لَفَعلتُهُ . اللَّهمَّ إنَّك تَعلَمُ أنِّي لو أعلَمُ أنَّ رِضاكَ في أن أضَعَ ظُبَةَ (40) سيفي في بطني، ثمّ أنحَنِي عليها حتَّى تَخرُجَ مِن ظهري، لفَعَلتُهُ . وإنّي لا أعلَمُ اليومَ عَمَلاً هو أرضَى لَكَ مِن جِهاد هَؤلاءِ الفاسِقينَ ، ولَو أعلَمُ عَمَلاً هُو أرضَى لَكَ مِنُه لَفَعَلتُهُ . واللّه ِ ، إنّي لَأَرَى قَوما ، لَيَضرِبُنَّكُم ضَربا يَرتابُ مِنهُ المُبطلِونَ ، وايمُ اللّه ِ ، لَو ضَرَبُونا حتَّى يبلُغوا بِنا سَعَفَاتِ هَجَر َ ، لَعَلِمتُ أنّا علَى الحقِّ وأنَّهُم علَى الباطِلِ . ثمّ قال : مَن يَبتَغِي رِضوَانَ اللّه ِ رَبِّهِ ولا يَرجِعُ إلى مالٍ وَلا وَلَدٍ ؟ فأتاه عِصابَةٌ ، فقال : اقصُدُوا بِنا هَؤُلاءِ القومَ الَّذينَ يَطلُبُونَ دَمَ عُثمانَ ، واللّه ِ ، ما أرادُوا الطَّلبَ بِدَمِهِ وَلكنّهُم ذاقوا الدُّنيا واستَحَبُّوها ، وعَلِمُوا أنّ الحقَّ إذا لَزِمَهُم حَالَ بَينَهُم وَبَينَ ما يَتَمرَّغُوَن فِيهِ مِنها ، ولَم يَكُن لَهُم سابِقَةٌ يَستَحِقُّونَ بها طاعةَ النَّاسِ والولايةَ عَلَيهِم ، فَخَدَعُوا أَتباعَهُم . وإن قالوا : إمامُنا قُتِلَ مَظلُوما ، لِيَكُونوا بِذلِكَ جَبابِرَةً ملوكا ، فَبَلغُوا ما تَرَونَ ، فَلَولا هذهِ ما تَبِعَهُم مِنَ النَّاسِ رَجُلان . اللّهمّ إن تَنصُرنا فَطالَما نَصَرتَ ، وَإن تَجعَل لَهُمُ الأمرَ فادّخِر لهم بما أحدَثُوا في عبادِكَ العذابَ الأليم (41) . وفي رجال الكشّي عن حمْران بن أعْيَن عن الإمام الباقر عليه السلام : قلت : ما تقول في عَمَّار ؟ قال :« رَحِمَ اللّه ُ عَمّارا ، _ ثلاثا ! _ قَاتَلَ مَعَ أميرِ المُؤمنِينَ صَلَواتُ اللّه ِ عَلَيهِ وآلهِ ، وقُتِلَ شهيدا » . قال: قلت في نفسي : ما تكون منزلة أعظم من هذه المنزلة ؟ فالتفت إليَّ ، فقال : « لَعلّكَ تقول: مثل الثَّلاثة ! هيهات ! » قال قلت : وما علمه أنّه يُقتل في ذلك اليوم ؟ قال : « إنّهُ لمّا رأى الحربَ لا تزدَادُ إلاّ شِدّةً ، وَالقَتلَ لا يزدادُ إلاّ كَثرَةً ، تَرَكَ الصَّفَّ وجاءَ إلى أميرِ المؤمِنينَ عليه السلام ، فقال : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، هو هو ؟ قال : ارجِع إلى صَفِّكَ ، فقالَ لَهُ ذلِكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ ، كُلُّ ذلِكَ يقولُ لَهُ : ارجع إلى صفّك ، فلمّا أنْ كانَ في الثَّالثةِ قال لَهُ : نَعَم . فَرجَعَ إلى صفّه وَهُوَ يقولُ : اليومَ ألقى الأحِبّةَ ، مُحمّد ا وَحِزبَهُ » (42) . وعن الإمام عليّ عليه السلام _ في الدِّيوان المنسوب إليه ممّا أنشده في شهادة عَمَّار _ : « أ لا أيُّها المَوتُ الَّذي لَيسَ تارِكِيأَرِحنِي فَقَد أفنَيتَ كُلَّ خَليلِ أَراكَ مُضِرّا بِالَّذينَ أُحِبُّهُمكَأنَّكَ تَنحُو نَحوَهم بِدَليلِ (43) » وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « بَشّرْ قاتِلَ ابنِ سُمَيَّةَ بالنَّار » (44) . وعنه صلى الله عليه و آله _ في عَمَّار _ : « إنَّ قاتِلَهُ وسالِبَهُ في النَّار » (45) . وعنه صلى الله عليه و آله : « وَيحَ عَمَّارٍ ! تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيةُ ، يَدعُوهُم إلى الجَنَّةِ وَيَدعُونَهُ إلى النَّارِ » (46) . وفي مناقب ابن شهر آشوب : كَثُرَ أصحابُ الحديثِ على شُرَيك ٍ (47) ، وطالبوه بأنّه يُحدّثهم بقول النَّبيّ صلى الله عليه و آله : « تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ » فغضب وقال : أ تدرون أن لا فخر لعليّ أن يُقتل معه عَمَّار ، إنّما الفخر لعَمّار أن يُقتل مع عليّ عليه السلام (48) . وفي الكامل في التاريخ : إنّ أبا الغازية قتل عَمَّارا وعاش إلى زمن الحجّاج ، ودخل عليه فأكرمه الحجّاج ، وقال له : أنت قتلت ابن سُمَيَّة _ يعني عَمَّارا _ ؟ قال : نعم . . . ، ثمّ سأله أبو الغازية حاجته فلم يُجِبه إليها ، فقال _ أبو الغازية _ : نُوَطِّئُ لَهُم الدُّنيا ، ولا يعطونا منها ، ويزعم أ نّي عظيم الباع يوم القيامة ! فقال الحجّاج : أجَل واللّه ِ ، مَن كانَ ضِرسُه مثلَ اُحُد ٍ ، وَفَخِذُه مِثلَ جَبَلِ وَرقَان ، وَمَجلِسُهُ مِثلَ المدينةِ والرَّبَذَة ، إنّه لعظيم الباع يوم القيامة ، واللّه ِ ، لو أنّ عَمَّارا قَتَلَهُ أهلُ الأرضِ كُلّهم لَدَخلوا كلُّهم النَّارَ (49) .
.
ص: 76
. .
ص: 77
. .
ص: 78
. .
ص: 79
. .
ص: 80
. .
ص: 81
. .
ص: 82
. .
ص: 83
. .
ص: 84
. .
ص: 85
. .
ص: 86
هَاشِمُ بنُ عُتْبَةَهاشم بن عُتْبَة بن أبي وَقَّاص المِرْقَالُ ، يُكنَّى أبا عمرو ، وهو ابن أخي سَعْد بن أبي وَقَّاص والمرقالُ هو العارف السَّليم القلب ، وأسد الحروب الباسل . كان من الفضلاء الخيار، وكان من الأبطال البُهَم (1)(2) . من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله الكبار (3) ، وكان نصيرا وفيّا للإمام أمير المؤمنين عليه السلام (4) ، ومن الشُّجعان الأبطال (5) . أسلم يوم الفتح . وذهبت إحدى عينيه في معركة اليرموك (6) . ثمّ سارع إلى نصرة عمّه سَعْد بن أبي وَقَّاص (7) . وتولّى قيادة الجيش في فتح جَلَوْلاء (8) . لُقِّب بالمِرقال ؛ لطريقته الخاصّة في القتال، وفي هجومه على العدوّ (9) . شهد معركة الجمل (10) وصفِّين (11) . وإنّ ملاحمه وخطبه في بيان عظمة الإمام عليّ عليه السلام ، وكشفه ضلال الأمويّين وسيرتهم القبيحة ، كلّها كانت دليلاً على عمق تفكيره ، ومعرفته الحقّ . وثباته عليه . دفع الإمام عليّ عليه السلام رايته العظمى إليه يوم صفِّين (12) . وتولّى قيادة رجّالة البصرة يومئذٍ (13) . استُشهد في صفِّين عند مقاتلته كتيبة أمويّة بقيادة ذو الكلاع (14) . وأثنى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على شجاعته وشهامته وثباته وكياسته (15) . في الاستيعاب عن أبي عمر : أسلم هاشم بن عُتْبَة يوم الفتح ، يعرف بالمرقال ، وكان من الفضلاء الخيار ، وكان من الأبطال البُهَم ، فُقِئت عينه يوم اليرموك ، ثمّ أرسله عمر من اليرموك مع خيل العراق إلى سعد ، كتب إليه بذلك ، فشهد القادسيّة وأبلى بها بلاءً حسنا، وقام منه في ذلك ما لم يقم من أحد ، كان سبب الفتح على المسلمين . وكان بُهْمَة من البُهَم فاضلاً خيّرا . وهو الَّذي افتتح جلولاء ، فعقد له سَعْد لواءً ووجّهه ، وفتح اللّه عليه جلولاء ولم يشهدها سعد (16) . وفي المستدرك على الصحيحين عن محمّد بن عمر : كان ( هاشِم بن عُتْبَة ) أعور ، فقئت عينه يوم اليرموك (17) . وفي الإصابة عن المرزباني : لمّا جاء قتل عثمان إلى أهل الكوفة ، قال هاشم لأبي موسى الأشْعَرِيّ : تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الاُمّة عليّ . فقال : لا تعجل . فوضع هاشم يده على الاُخرى ، فقال : هذه لعليّ وهذه لي ، وقد بايعت عليّا ، وأنشد : اُبايِعُ غَيرَ مُكتَرثٍ عَلِيّاوَ لا أخشَى أمِيرا أشعَرِيّا اُبايِعُهُ وأعلم أن ساُرضِيبِذاكَ اللّه َ حَقّا وَالنَّبيّا (18) وقال الإمام عليّ عليه السلام : « وَقَد أرَدتُ تَولِيَةَ مِصرَ هاشِمَ بنَ عُتْبَةَ ، وَلَو وَلّيتُهُ إيّاها، لَما خَلَّى لَهُم العَرصَةَ ، ولا أنهَزَهُم الفُرصَةَ ، بِلا ذمّ لِمُحمّدِ بنِ أبي بكرٍ ، وَلَقَد كان إليَّ حَبِيبا ، وَكانَ لِي رَبِيبا » (19) . وعنه عليه السلام : « رَحِمَ اللّه ُ مُحَمّدا ، كانَ غُلاما حَدَثا ، أما وَاللّه ِ ، لَقَد كُنتُ أرَدتُ أن اُولّيَ المِرقَالَ هاشِمَ بنَ عُتْبَةَ بنِ أبي وَقَّاص مِصرَ ، وَاللّه ِ ، لَو أنَّهُ وَلِيَها لَمَا خَلَّى لِعَمْرو بنِ العاصِ وَأعوانِهِ العَرْصَةَ ، وَلَما قُتِلَ إلاّ وَسَيفُهُ في يده » (20) . وفي وقعة صفِّين عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكَنود : لمّا أراد عليّ المسير إلى أهل الشَّام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فَحَمِدَ اللّه َ وأثنى عليه وقال : « أمّا بَعدُ ، فإنَّكُم مَيامِينُ الرَّأي ، مَراجِيحُ الحِلْمِ ، مَقاوِيلُ بِالحقِّ ، مُبارَكُو الفِعلِ والأمرِ ، وَقَد أرَدنا المسير إلى عَدوِّنا وَعَدوِّكُم ، فَأشيروا عَلَينا بِرأيِكُم » . فقام هاشم بن عُتْبَة بن أبي وَقَّاص ، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ قال : أمّا بَعدُ يا أمير المؤمنين ، فأنا بالقومِ جِدُّ خَبيرٍ ، هُم لَكَ ولأشياعِكَ أعداءُ ، وَهُم لِمَن يَطلُبُ حَرثَ الدُّنيا أولياءُ ، وَهُم مُقَاتِلوكَ ومُجاهِدُوكَ لا يُبقون جُهدا ، مُشاحّةً على الدُّنيا ، وَضَنّا بما في أيدِيهم مِنها ، وَلَيسَ لَهُم إربَةٌ (21) غَيرَها، إلاّ ما يَخدَعُونَ بِهِ الجُهّالَ مِنَ الطَّلبِ بِدَمِ عُثمانَ بنِ عَفّان . كَذِبوا لَيسوا بِدَمِهِ يَثأرونَ ، ولكِنِ الدُّنيا يَطلبونَ ، فسِرْ بِنا إليهِم ، فَإن أجابوا إلى الحقّ فليس بعد الحقّ إلاّ الضَّلالُ ، وَإن أبَوا إلاّ الشِّقاقَ فَذَلِكَ الظَّنُّ بِهمِ . وَاللّه ِ ، ما أراهم يُبايِعونَ وفيهِم أحدٌ مِمَّن يُطاعُ إذا نهى ، و] لا ] (22) يُسمَعُ إذا أمَرَ (23) . وعن هاشم بن عُتْبَة _ في جواب استنفار عليّ عليه السلام قبل حرب صفِّين _ : سِر بِنا _ يا أمير المؤمنين _ إلى هؤلاءِ القومِ القاسيةِ قلوبُهُم ، الَّذين نَبَذوا كِتابَ اللّه ِ وَراءَ ظُهورِهِم ، وَعَمِلُوا في عِبادِ اللّه ِ بِغَيرِ رِضا اللّه ِ ، فَأحلُّوا حَرامَهُ وحَرَّموا حَلالَهُ ، وَاستَولاهُمُ الشيطانُ وَوَعَدَهُمُ الأباطيلَ وَمنّاهُمُ الأمانِيَ ، حَتَّى أزاغَهُم عَنِ الهُدى وَقَصَدَ بِهِم قَصدَ الرَّدَى ، وَحَبَّبَ إليهمِ الدُّنيا ، فَهُم يُقاتِلونَ علَى دُنياهُم رَغبةً فيها، كَرَغبَتِنا في الآخِرَةِ إنجازَ مَوعودِ رَبّنا . وَأنتَ _ يا أمير المؤمنين _ أقربُ النَّاسِ مِن رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله رَحِما ، وأفضَلُ النَّاسِ سابِقَةً وَقَدَما . وَهُم _ يا أميرَ المؤمنين _ مِنكَ مِثلُ الَّذي عَلِمنا . وَلكِن كُتِبَ عَلَيهِم الشَّقاءُ ، وَمالَت بِهِمُ الأهواءُ، وَكانوا ظالِمينَ . فَأيدينا مَبسوطَةٌ لَكَ بالسَّمعِ والطَّاعَةِ ، وَقُلُوبُنا مُنشَرِحَةٌ لَكَ بِبَذلِ النَّصيحَةِ ، وَأنفُسُنا تَنصُرُكَ _ جَذِلةً (24) _ علَى مَن خَالَفَكَ وتَولّى الأمرَ دُونَكَ . واللّه ما أُحبُّ أنَّ لِي ما في الأرضِ مِمَّا أَقلَّت ، وَما تَحتَ السَّماءِ مِمّا أَظلَّت ، وَأنّي وَاليتُ عَدُوّا لَكَ ، أَو عَادَيتُ وَلِيّا لَكَ . فقال عليّ عليه السلام : « اللَّهمَّ ارزُقهُ الشَّهادَةَ في سَبيلِكَ ، وَالمُرافَقَةَ لِنَبيِّكَ صلى الله عليه و آله » (25) .
.
ص: 87
. .
ص: 88
. .
ص: 89
. .
ص: 90
. .
ص: 91
جَابِرُ بنُ عبدِ اللّه ِ الأنْصارِيّجابر بن عبد اللّه بن عَمْرو الأنْصاريّ ، يُكنّى أبا عبد اللّه . صحابيّ ذائع الصِّيت (1) ، عمّر طويلاً . وكان مع أبيه في تلك اللَّيلة التَّاريخيّة المصيريّة الَّتي عاهد فيها أهل يثرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله على الدِّفاع عنه ودعمه ونصره ، وبيعتهم هي البيعة المشهورة في التَّاريخ الإسلامي ب« بيعة العَقَبَة الثَّانية » (2) . ولمّا دخل النَّبيّ صلى الله عليه و آله المدينة ، صحبه وشهد معه حروبه (3) ولم يتنازل عن حراسة الحقّ وحمايته بعده صلى الله عليه و آله ، كما لم يدّخر وسعا في تبيان منزلة عليٍّ عليه السلام ، والتَّنويه بها (4) . أثنى الأئمّة عليهم السلام على رفيع مكانته في معرفة مقامهم عليهم السلام ، وعلى وعيه العميق للتيّارات المختلفة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومعارف التَّشيُّع خاصّةً ، وعلى فهمه النَّافذ لأسرار القرآن . وأشادوا به واحدا من القلّة الَّذين لم تتفرّق بهم السُّبل بعد النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، ولم يستبِقوا الصِّراط بعده ، بل ظلّوا معتصمين متمسّكين به (5) . قلنا: إنّه عمّر طويلاً؛ لذا ورد اسمه الكريم في صحابة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلا (6) ، والإمام الحسن عليه السلام (7) ، والإمام الحسين عليه السلام (8) ، والإمام السَّجَّاد عليه السلام (9) ، والإمام الباقر (10) ، وهو الَّذي بلّغ الإمام الباقر عليه السلام سلامَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله له (11) . وكان قد شهد صفِّين مع الإمام عليه السلام (12) . وهو أوّل من زار قبر الحسين عليه السلام ، وشهداء كربلاء في اليوم الأربعين من استشهادهم ، وبكى على أبي عبد اللّه كثيرا (13) . والرِّوايات المنقولة عنه بشأن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وما اُثر عنه من أخبار تفسيريّة ، ومناظراته ، تدلّ كلّها على ثبات خُطاه ، وسلامة فكره ، وإيمانه العميق ، وعقيدته الرَّاسخة . ولجابر صحيفة مشهورة أيضا (14) ولأ نّه لم ينصر عثمان في فتنته ، فقد ختم الحجّاج بن يوسف على يده يريد إذلاله بذلك (15) . فارق جابر الحياة سنة 78ه (16) . في علل الشرائع عن أبي الزُّبَيْر المكّيّ : رأيت جابرا متوكّئا على عصاه، وهو يدور في سكك الأنصار ومجالسهم ، وهو يقول : عليّ خير البشر ، فمن أبى فقد كفر . يا معشر الأنصار ! أدّبوا أولادكم على حبّ عليّ ، فمن أبى فانظروا في شأن اُمّه (17) . وقال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ جابِرَ بنَ عَبدِ اللّه ِ الأنْصارِيَّ، كانَ آخِرَ مَن بَقِيَ مِن أصحابِ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه و آله ، وكانَ رَجُلاً مُنقَطِعا إلينا أهلَ البَيتِ » (18) .
.
ص: 92
. .
ص: 93
14كتابه عليه السلام إلى حُذَيْفَة بن اليَمانلمَّا وجَّه عثمان بن عفَّان عمَّاله في الأمصار ، كان فيمن وجَّه، الحارث بن الحَكَم إلى المَدائِن ، فأقام فيها مدَّة يتعسّف أهلها ويُسيءُ معاملتهم ، فوفد منهم إلى عثمان ، وفد يشكوه، وأعلموه بسوء ما يعاملهم به ، وأغلظوا عليه في القول ، فولّى حُذَيْفَة بن اليَمان عليهم _ وذلك في آخر أيَّامه _ فلم ينصرف حُذَيْفَة بن اليَمان عن المَدائِن إلى أن قُتل عثمان ، واسْتُخلِفَ عليُّ بن أبي طالب عليه السلام ، فأقام حُذَيْفَة عليها ، وكتَب إليه :« بسم اللّه الرّحمن الرحيم مِن عَبدِ اللّه ِ عَليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام إلى حُذَيْفَةَ بنِ اليَمانِ ، سَلامٌ علَيْكَ . أمَّا بَعدُ ، فإنِّي قَدْ وَلَّيتُك ما كُنتَ علَيْهِ لِمَن كانَ قَبْلِي مِن حِرَفِ المَدائِنِ ، وَقَدْ جَعَلْتُ إليْكَ أعمالَ الخَراجِ والرَّسْتاقِ، وجِبايَةَ أهْلِ الذِّمَّةِ ، فاجمَعْ إليْك ثِقاتِكَ ومَن أحْبَبْتَ، ممَّن تَرْضى دِينَه وَأمانَتَه ، واسْتَعِن بهِم علَى أعمالِكَ ، فإنَّ ذلِكَ أعزُّ لَكَ وَلِوَليِّكَ ، وأكْبَتُ لِعَدُوِّكَ . وإنِّي آمرُكَ بِتَقْوَى اللّه ِ وَطاعَتِهِ في السِّرِّ والعَلانِيَّةِ ، وأُحَذِّرُك عِقابَهُ في المَغِيب والمَشْهَدِ ، وأتَقَدَّمُ إليْك بالإحسانِ إلى المُحْسِنِ ، والشِدَّةِ على المُعانِدِ ، وآمُرُكَ بالرِّفقِ في أُمورِكَ ، واللِّينِ والعَدلِ على رَعيَّتِكَ ، فإنَّك مسؤولٌ عَن ذلِكَ ، وإنصافِ المظلُومِ ، والعَفوِ عَنِ النَّاسِ ، وَحُسْنِ السِّيرةِ ما اسْتَطَعْتَ ، فإنَّ اللّه َ يَجْزِي المُحسِنينَ . وآمُرُك أنْ تُجْبِي خَراج الأرَضِينَ على الحقِّ والنَّصَفَةِ ، ولا تُجاوِز ما قَدَّمتُ بهِ إليْكَ ، ولا تَدَعَ منْه شَيْئا ، ولا تبتَدِع فيْهِ أمْرا ، ثُمَّ اقسمهُ بَينَ أهلِهِ بالسَّويَّةِ والعَدلِ ، واخْفِض لِرَعيَّتِكَ جَناحَكَ ، وواسِ بَينَهُم في مَجلِسِكَ ، وَليَكُنْ القَريبُ وَالبَعيدُ عِندَكَ في الحقِّ سَواءٌ ، واحْكُم بَينَ النَّاسِ بالحقِّ ، وأقِمْ فيْهِم بالقِسطِ ، ولا تَتَّبِعِ الهَوى ، ولا تَخَفْ في اللّه ِ لَومَةَ لائِمٍ ، فإنَّ اللّه َ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا ، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنونَ . وَقَدْ وَجَّهْتُ إليْكَ كِتابا لتَقْرَأَهُ على أهلِ مملكتِكَ ، لِيَعْلَموا رأيَنا فيهِم، وفي جَميعِ المُسلِمينَ ، فَأَحْضِرْهُم واقْرَأهُ عَلَيْهِمْ ، وخُذْ لنا البَيْعَةَ علَى الصَّغيرِ والكبيرِ مِنْهُم ، إنْ شاءَ اللّه ُ » . (1)
.
ص: 94
15كتابه عليه السلام إلى حُذَيْفَة بن اليَمانلمَّا وَصَل عهْد أمير المؤمنين عليه السلام إلى حُذَيْفَة ، جمع النَّاس وصلّى بهم ، ثُمَّ أمرَ بالكتاب ، فقرأه عليهم وهو : « بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم مِن عَبدِ اللّه ِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ ، أميرِ المُؤمِنينَ ، إلى مَن بَلَغَهُ كِتابِي هذا مِن المُسلِمينَ ، سَلامٌ عليْكُم أمَّا بَعدُ . فَإنِّي أحْمَدُ اللّه َ الَّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ ، وَأسْألُهُ أنْ يُصَلِّيَ علَى مُحمَّد ٍ وَآلِ مُحَمّد ٍ . وَبَعدُ ،فإنَّ اللّه َ تَعالى اختارَ الإسلامَ دِينا لنَفسِهِ وَمَلائِكتِه ورُسُلِهِ ،إحْكاما (1) لِصُنْعِهِ وَحُسْنِ تَدبيرِهِ ، وَنَظَرا مِنهُ لِعبادِهِ ، واختصَّ بِهِ مَن أحبَّ مِن خَلْقهِ ، فبَعَثَ إليْهِم مُحمَّد ا صلى الله عليه و آله وسلمفَعلَّمَهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ، إكْراما وَتَفضُّلاً لِهَذهِ الأمَّةِ ، وَأدَّبَهُم لِكَي يَهْتَدوا ، وجَمَعَهُم لِئَلاَّ يَتَفرَّقُوا ، وَوَقَفهُم لِئَلاَّ يَجُوروا ، فلمَّا قَضَى ما كانَ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ، مَضَى إلى رَحْمةِ اللّه ِ حَمْيدا مَحمُودا . ثُمَّ إنَ بَعضَ المُسلِمينَ أقاموا بَعدَهُ رَجُلَيْنِ رَضُوا بِهُداهُما وَسِيرَتِهِما ، قاما ما شاءَ اللّه ُ ، ثُمَّ تَوفَّاهُما اللّه ُ جل جلاله ، ثُمَّ وَلَّوْا بَعدَهُما الثَّالِثَ فأحْدَثَ أحْداثا ، ووَجَدَتِ الأمَّةُ عليْه فِعالاً ، فاتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، ثُمَّ نَقَمُوا مِنُه فغَيَّرُوا ، ثُمَّ جاؤونِي كتَتابُع الخَيلِ فَبايَعونِي، فأنا أسْتَهْدِي اللّه َ بِهُداهُ ، وأسْتَعِينُهُ علَى التَّقوى . ألا وإنَّ لَكم علَيْنا العَمَلَ بكتابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ، والقِيامَ عَلَيْكُم بِحَقِّهِ ، وإحْياءَ سُنَّتِهِ ، والنُّصحَ لَكُم بالمَغِيبِ والمَشْهَدِ ، وباللّه ِ نَسْتَعِينُ علَى ذَلِكَ ، وَهُو حَسْبُنا وَنِعْمَ الوَكيلُ . وقَد تَوليتُ (2) أمورَكُم حُذَيْفَةَ بنَ اليَمان ، وَهُو مِمَّن أرتَضِي بِهُداهُ ، وأرجو صَلاحَهُ ، وقَد أمَرتُهُ بالإحسانِ إلى مُحْسِنِكِم ، وَالشِّدَّةِ على مُرِيبِكُم ، والرِّفْقِ بِجَميلِكُم ، أسألُ اللّه َ لَنا ولَكُم حُسْنَ الخِيَرةِ والإحسانَ ، ورحْمَتَه الواسِعَةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، والسَّلامُ عَليكُم وَرَحْمَةُ اللّه ِ وبَرَكاتُهُ » . (3)
.
ص: 95
. .
ص: 96
حُذَيْفَةُ بنُ اليَمانحُذَيْفَة بن اليَمان بن جابر ، أبو عبد اللّه العَبْسِيّ . كان من وجهاء الصَّحابة وأعيانهم . وقد أثنى عليه الرِّجاليّون وأصحاب التَّراجم بمزايا ذكروها في كتبهم، كقولهم : كان من نجباء (1) وكبار أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله (2) ، وقولهم : صاحب سرّ النبيّ صلى الله عليه و آله (3) ، وقولهم : وأعلم النَّاس بالمنافقين (4) . وأسرّ إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله أسماء المنافقين (5) وضبط عنه الفتن الكائنة في الاُمّة (6) إلى قيام السَّاعة (7) . لم يشهد بدر ا ، وشهد اُحد ا وما بعدها من المشاهد (8) . كان أحد الَّذين ثبتوا على العقيدة . لم يصبر على تغيير حقّ الخلافة، وخلافةِ الحقِّ بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ووقف إلى جانب عليّ عليه السلام بِخُطىً ثابتة (9) . كان حُذَيْفَة ممّن شهد جنازة السَّيِّدة فاطمة الزَّهراء عليهاالسلام ، وصلّى على جثمانها الطاهر (10) . وليَ المَدائِن في عهد عمر وعثمان (11) . وكان مريضا في ابتداء خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام . مع هذا كلّه لم يُطِق السُّكوت عن مناقبه وفضائله صلوات اللّه عليه ، فصعد المنبر برغم مرضه ، وأثنى عليه أبلغ الثَّناء ، وذكره بقوله : فواللّه ِ إنّهُ لَعلَى الحقِّ آخِرَا وأوّلاً (12) . وقوله : إنَّهُ لَخَيرُ مَن مَضَى بَعدَ نَبيِّكُم . وأخذ لَهُ البيعة (13) ، بعد أن بايعه بنفسه (14) . وأوصى أولاده مؤكّدا عليهم ألاّ يقصّروا في اتّباعه والسَّير وراءه (15) ، وقال لهم : فإنّهُ واللّه ِ علَى الحقِّ ، ومَن خالَفَهُ علَى الباطلِ . ثمّ توفّي بعد سبعة أيّام مضت على ذلك (16) . وقيل : توفّي بعد أربعين يوما (17) . في الأمالي للطوسيّ عن حُذَيْفَة : ألا مَن أرادَ _ وَالَّذي لا إلهَ غَيرُهُ _ أن يَنظُرَ إلى أميرِ المؤمنينَ حَقّا حَقّا ، فَليَنظُر إلى عليِّ بنِ أبي طالِب ، فَوازِروهُ واتّبِعوهُ وانصُروهُ (18) . وفي مروج الذَّهب : كان حُذَيْفَة عليلاً بالكوفة في سنة ستّ وثلاثين ، فبلغه قتل عثمان وبيعة النَّاس لعليّ ، فقال : أخرجوني وادعوا الصَّلاة جامعة ، فوُضِع على المنبر ، فحَمِدَ اللّه َ وأثنى عليهِ وصلّى على النَّبيِّ وعلَى آلهِ ، ثمّ قال : أيُّها النَّاس ! إنَّ النَّاسَ قَد بايَعوا عَلِيّا ؛ فَعَليكُم بِتقَوى اللّه ِ ، وانصُروا عَلِيّا ووازِروهُ ، فواللّه ِ إنّهُ لعلَى الحقِّ آخِرا وأوّلاً ، وإنَّهُ لَخَيرُ مَن مَضَى بَعدَ نَبيِّكُم ومَن بَقِيَ إلى يَومِ القِيامَةِ . ثُمّ أطبَقَ يمينَهُ علَى يَسارِهِ ثُمَّ قالَ : اللَّهمَّ اشهَد ، إنّي قَد بايَعتُ عَلِيّا . وقالَ : الحمدُ للّه ِ الَّذي أبقاني إلى هذا اليوم . وقالَ لابنَيهِ صَفْوَانَ وسَعد ٍ : احمِلانِي ، وكونا مَعَهُ ؛ فَستَكونُ لَهُ حُروبٌ كَثيرِةٌ ، فَيَهلِك فيها خَلقٌ مِنَ النَّاسِ ، فاجتَهِدا أن تُستَشهَدا مَعَهُ ؛ فإنّهُ واللّه ِ علَى الحقِّ ، ومَن خالَفَهُ علَى الباطِلِ . وماتَ حُذَيْفَة ُ بَعدَ هذا اليومِ بِسبعَةِ أيّامٍ (19) . وفي الأمالي للطوسيّ عن أبي راشِد : لمّا أتى حُذَيْفَة َ بيعةُ عليّ عليه السلام ، ضرب بيده (20) واحدة على الاُخرى وبايع له ، وقال : هذهِ بَيعَةُ أميرِ المُؤمِنينَ حَقّا ، فو اللّه ِ لا يُبايَعُ بَعدَهُ لِواحِدٍ مِن قُريش ٍ، إلاّ أصغَرَ أو أبتَرَ يُوَلِّي الحقَّ استَهُ (21) . وفي مجمع الزوائد عن سَيَّار أبي الحَكَم : قالت بنو عبس لحُذَيْفَة : إنّ أمير المؤمنين عثمان قد قُتل ، فما تأمرنا ؟ قال : آمُرُكُم أن تَلزَموا عَمَّار ا . قالوا : إنّ عَمّار ا لا يُفارِقُ عليَّا ! قال : إنّ الحَسَدَ هُو أهلَكَ الجَسدَ ، وإنَّما يُنفِّرُكُم مِن عَمَّار ٍ قُربُهُ مِن عليّ ! فَواللّه ِ لَعَلِيٌّ أفضَلُ مِن عَمَّار ٍ أبعَدَ ما بَينَ التُرابِ والسَّحابِ ، وإنّ عَمَّار ا لَمِنَ الأخيارِ ، وهُوَ يَعلَمُ أنَّهُم إن لَزِموا عَمَّار ا كانوا مَعَ عَلِيٍّ (22) .
.
ص: 97
. .
ص: 98
. .
ص: 99
16كتابه عليه السلام إلى قَيْس بن سَعْد« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمَّا بَعدُ ؛ فَسِرْ إلى القَومِ الَّذِينَ ذَكَرتَ ، فإن دَخَلوا فِيما دَخَلَ فيهِ المُسلِمون َ ، وإلاّ فَناجِزْهُم ، إن شاءَ اللّه ُ » . (1)
أقول : إجمال القصّة ، أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لمَّا تمّت له البيعة ، أرسل إلى مصر قَيْس بن سَعْد بن عُبادَة واليا عليها ، وكتب معه كتابا إلى أهل مصر ، (2) فلمَّا وصل مصر قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وخطبهم ، وحثَّهم على البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام ، فبايعوا إلاّ القليل ، منهم : مَسْلَمَة بن مخلّد ، فداراهم قَيْس وساسهم سياسة حسنة، حيث أراد المخالفون القيام للطلب بثأر عثمان ، فأرسل إليهم قَيْس بالكفّ عن القتال ، فكفّوا على أن لا يطالبهم بالبيعة حَتَّى يتمّ الأمر ، وينجلي الغالب والمغلوب بين العراق والشَّام ، فقبل قَيْس منهم ، وكفّ عنهم ، وكتب قَيْس بذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام : بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمَّا بعدُ ، فإنِّي أُخبِرُكَ _ يا أميرَ المُؤمنِينَ _ أكرَمَهُ اللّه ُ ، أنَّ قِبَلي رِجالاً مُعتَزِلينَ ، سَأَلوني أن أكفَّ عَنهُم ، وأن أدَعَهُم على حالِهِم حَتَّى يستقيمَ أمرُ النَّاسِ ، فنرى ويَروْا رأيهم ، وقَد رأيتُ أن أكفَّ عَنهُم ، وألاّ أتعجَّلَ حَربَهُم ، وأن أتألَّفَهُم فيما بينَ ذلك ، لعلَّ اللّه َ عز و جلأن يُقبِلَ بِقُلُوبِهِم ، ويُفَرّقَهُم عَن ضَلالَتِهِم ، إن شاءَ اللّه ُ . (3) وكتب معاوية ُ إلى قَيْس بن سَعْد يستزلّه ، ويعده الولاية له ولأهل بيته ، فردّه قَيْس ، وجرى بينهما مكاتبات ، فلمَّا يئس معاوية ، وثقل عليه كونه واليا على مصر لِما عَلِمَ من بأسه وسياسته ونجدته . وخاف معاوية ُ جانبه ، وعلم أنّه مادام قَيْس بمصر لا يتمكّن من فتحها ، بل يخاف أن يحمل عليه قَيْس من جهته أيضا ؛ ولذلك احتال معاوية واختلق كتابا ادّعى أنّه من قيس ، وأنّ قيسا موالٍ لمعاوية في سرّه وقرأه على النَّاس ، وأشاع ذلك في العراق ، وروّجه في العراق عيون معاوية وجواسيسه ، كالأشعث وأضرابه . فلمَّا وصل كتاب قَيْس هذا إلى أمير المؤمنين عليه السلام في الكفّ عن المعتزلين، جعلوه دليلاً على الأراجيف المفتعلة في قيس ، وحثّوا جمعا ممَّن لا خبرة له بأسرار الأمور والحوادث ، على الإصرار على عزله ، كل ذلك كان من تدبير أذناب وأيادي معاوية الموجودين سرَّا في الكوفة ، وكانت وظيفة الأشْعَث وأضرابه، هي إلجاء أمير المؤمنين عليه السلام إلى عزل قَيْس ، متذرِّعين بهذه العناوين الباهتة ، وفطن عليّ عليه السلام إلى ذلك التَّدبير الخبيث ، فلم يرَ مناصا من أن كتب إلى قَيْس هذا الكتاب ، يأمره فيه بمناجزة القوم فكتب إليه قَيْس : أمَّا بعدُ ؛ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، العجبُ لَكَ ! تأمُرُني بقتِال قَومٍ كافِّينَ عَنكَ ، لم يَمُدّوا يَدَا للفِتنَةِ ، ولا أرصَدُوا لها ، فأطعِني يا أميرَ المُؤمِنينَ ، وكُفَّ عَنهُم ، فإنَّ الرَّأي تَركُهُم ، والسَّلامُ . (4) ونقل البلاذري في أنساب الأشراف قال : بعث عليٌ قَيْسَ بن سَعْدِ بنِ عُبادَةَ أميرا على مصر ، فكتب إليه معاوية وعَمْرو بن العاص كتابا أغلظا فيه ، وشتماه ، فكتب إليهما بكتاب لطيف قاربهما فيه ، فكتبا إليه يذكران شرفه وفضله ، فكتب إليهما بمثل جواب كتابهما الأوّل ، فقالا : إنَّا لا نطيق مكر قَيْس بن سعد ، ولكنَّا نمكر به عند عليّ ، فبعثا بكتابه الأوَّل إلى عليّ ، فلمَّا قرأه ، قال أهل الكوفة : غَدَرَ واللّه ِ قيسٌ ، فاعزِلهُ . فقال عليّ : « وَيحَكُم، أنا أعلَمُ بِقَيس ، إنَّهُ واللّه ِ ، ما غَدَر ، و لكِنَّها إحدى فِعلاتِهِ » . قالوا : فإنَّا لا نرضى حَتَّى تعزله، فعزله ، وبعث مكانه محمَّد بن أبي بكر . فلمَّا قدم عليه ، قال : إنَّ مُعاوِيَةَ وعَمْرو سَيَمكُرانِ بِكَ ، فَإذا كَتبا إلَيكَ بِكَذا فَاكتُب بِكَذا ، فإذا فَعَلا كَذا فافعَل كذا ، ولا تُخالِف ما آمُرُكَ بِهِ ، فَإن خالَفتَهُ قُتِلتَ . (5) وهكذا عزلَ أمير المؤمنين عليه السلام قيسَ بن سعد ، وبعث مكانه محمَّد بن أبي بكر رحمه الله ، فوقع ما وقع ، وقد اشتبه الأمر على جمعٍ ، فقالوا : إنَّه بعث مكانه الأشْتَر ؛ إذ قصّة قَيْس كانت قبل صفِّين ، وقِصَّةُ الأشْتَر كانت بعد صفِّين .
.
ص: 100
. .
ص: 101
. .
ص: 102
17كتابه عليه السلام إلى أهل مصرمن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر ، كتبه مع قَيْس بن سَعْد بن عُبادَة ، لمَّا بعثَه أميرا علَيْهم وحَاكِما :« بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن عَبْدِ اللّه ِ عليٍّ أمير المؤمنين ، إلى مَن بَلَغَهُ كتابِي هَذا مِنَ المُسْلِمينَ ، سَلامٌ علَيْكم . فإنِّي أحْمَدُ اللّه َ إلَيْكُم الَّذِي لا إله إلاَّ هو ؛ أمَّا بَعدُ ، فإنَّ اللّه َ بِحُسْنِ صُنْعِهِ وتقديرهِ وتَدْبِيرهِ، اخْتارَ الإسلام دينا لِنَفسِه ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ ، وبَعَثَ به الرُسُلَ إلى عبَادِهِ ، وخَصَّ مَن انْتَجَبَ مِن خَلْقِهِ ، فكانَ ممَّا أكْرَم اللّه ُ جل جلاله بِهِ هذهِ الأُمَّةَ ، وخَصَّهُم بِهِ مِنَ الفَضيلَةِ ، أنْ بَعَثَ مُحمَّد ا صلى الله عليه و آله إليهم، فَعَلَّمَهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ، والسُّنَّةَ الفَرائِضَ ، وأدَّبَهم لِكَيْما يَهتدوا ، وجَمَعهم لِكَيْما لا يَتَفَرَّقوا ، وزَكَّاهُم لِكَيْما يَتَطَهَّروا . فلمَّا قَضَى مِن ذلِكَ ما عَلَيْهِ ، قَبَضَهُ اللّه ُ إليْهِ ، فَعَلَيْهِ صَلواتُ اللّه ِ وسَلامُهُ ، ورَحْمَتُه ورِضوانُه، إنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ . ثُمَّ إنَّ المُسلمينَ مِن بَعدِهِ اسْتَخْلَفوا امرأينِ ، مِنْهم صالِحَيْنِ ، عَمَلا بالكتابِ وأحسَنا السِّيرَةَ ، ولمْ يَتَعدَّيا السُّنَّةَ ، ثُمَّ تَوفَّاهُما اللّه ُ فَرَحِمَهُما اللّه ُ، ثم ولي مِن بَعْدِهِما والٍ أحْدَثَ أحْدَاثا ، فوَجَدَتِ الأُمَّةُ علَيْهِ مَقالاً فقالوا ، ثُمَّ نَقَمُوا عَلَيْهِ فَغَيَّروا ، ثُمَّ جاؤونِي فبَايَعُونِي ، فأسْتَهْدِي اللّه َ الهُدى ، وأسْتَعِيْنُهُ علَى التَّقوى . ألا وإنَّ لَكُم علَيْنا العَمَلَ بكتابِ اللّه ِ، وسُنَّةَ رَسُولِهِ والقِيامَ بِحَقِّهِ ، والنُّصْحَ لَكُم بالغَيْبِ ، واللّه ُ المُستعانُ ، وحَسْبُنا اللّه ُ ونِعْمَ الوَكيلُ . وقَد بَعَثْتُ لَكُم قَيْسَ بن سَعْدٍ الأنْصاريّ أميرا ، فَوَازِرُوه وأعِينُوه على الحقِّ ، وقَد أمَرْتُه بالإحْسان إلى مُحْسِنِكم، والشِّدَّةِ علَى مُرِيبِكُم ، والرِّفْقِ بعَوامِّكُم وخَواصِّكم ، وهو ممَّن أرْضَى هَدْيَهُ وأرْجُو صَلاَحَهُ ونَصِيحَتَهُ ، نَسْألُ اللّه َ لَنا ولَكُم عَمَلاً زاكيا ، وثَوابا جَزيلاً ، ورَحْمَةً واسعةً، والسَّلامُ عَليْكُم ورَحْمَةُ اللّه ِ وبَركاتُهُ » . وكَتَب عُبَيد اللّه بن أبي رَافع ، في صَفَر سَنة سِتّ وثلاثين . (1)
.
ص: 103
عُبَيدُ اللّه ِ بنُ أبي رافِعأحد الوجوه المتألّقة في تاريخ التَّشيُّع ، ومن السَّبَّاقين إلى التَّأليف وتدوين العلوم . وكان كاتب أمير المؤمنين عليه السلام (1) ، ومن خاصّته . وشهد معه الجمل (2) ، وصفِّين (3) ، والنَّهروان (4) . عدّه مؤلّفو التَّراجم والرِّجاليّون من روّاد التَّأليف في الثَّقافة الإسلاميّة ، وذكروا بعض كتبه . ومنها : كتاب قضايا أمير المؤمنين ، وتسمية من شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل وصفِّين والنَّهروان من الصَّحابة رضي الله عنهم » (5) . وهذا الكتاب مَعْلَم على نباهة عبيد اللّه ووعيه للوقائع ، ويدلّ على اهتمامه بضبط الحوادث . وكان أخوه _ عليّ بن أبي رافع _ كاتبا للإمام عليه السلام أيضا (6) .
.
ص: 104
عَلِيُّ بنُ أبي رافِععليّ بن أبي رافع . ولد في عهد النَّبيّ صلى الله عليه و آله وسمّاه عليّا (1) . تابعيّ ، من خيار الشِّيعة ، كانت له صحبة مع أمير المؤمنين ، وكان كاتبا له ، وحفظ كثيرا ، وجمع كتابا في فنون من الفقه : الوضوء ، والصَّلاة ، وسائر الأبواب (2) . وكان على بيت مال عليّ عليه السلام (3) ، وكان كاتبه (4) .
18كتابه عليه السلام إلى اُمراء الأجْنادمن كتاب كتبه عليه السلام _ لمَّا استخلف _ إلى أمراء الأجناد :« أمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّمَا أُهْلك مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، أنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ ، وأخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ » . (5)
19كتابه عليه السلام إلى عُثْمان بن حُنَيْف الأنْصاريّوقد بلَغه عليه السلام أنَّ بَعْض المُترفين من أهل البصرة دَعا عثْمان إلى وَلِيمة ، فأجابَه ومَضَى إليْها ، ( قال ) :« أمَّا بَعدُ ، يا بنَ حُنَيف ٍ ، فَقَدْ بلَغَنِي أنَّ رَجُلاً من فِتيَةِ أهْلِ البَصْرَةِ دَعاكَ إلى مأْدُبَة ، فأسْرَعْتَ إليْها ، تُسْتَطَابُ لكَ الألوَانُ ، وتُنْقَلُ إليْكَ الجِفْانُ ، وما ظَنَنْتُ أنَّك تُجِيبُ إلى طَعامِ قَوْمٍ عائِلُهم مَجْفُوٌ ، وغَنِيُّهُم مَدْعُوٌّ ، فانْظر إلى ما تَقْضَمُهُ من هذا المَقْضَمِ ، فما اشْتَبَهَ علَيْكَ عِلْمُهُ فالْفِظْهُ ، وما أيْقَنْتَ بطِيبِ وُجُوْهِهِ فَنلْ مِنْهُ . ألا وإنَّ لكلِّ مأْمُومٍ إماما يَقْتَدي به، ويَسْتَضيءُ بِنُورِ علْمِهِ . ألا وإنَّ إمامَكُم قَدْ اكْتَفى مِن دُنْياهُ بِطِمْرَيْهِ ، ومِن طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ . ألا وإنَّكُم لا تَقْدِرُونَ على ذلِكَ ، ولكِنْ أعِينُوني بوَرَعٍ واجْتِهادٍ ، وعِفَّةٍ وسَدادٍ ، فو اللّه ِ ما كَنَزْتُ مِن دُنْياكُم تِبْرا ، ولا ادَّخَرْتُ من غَنائِمِها وَفْرا ، ولا أعْدَدْتُ لِبَالي ثَوْبَيَّ طِمْرا ، ولا حُزْتُ من أرْضِها شِبْرا ، ولا أخَذْتُ منْه إلاَّ كَقُوتِ أتَانٍ دَبِرَةٍ ، ولَهِيَ في عَيْني أوْهى وأهْوَنُ من عَفْصَةِ مَقِرَةٍ . بَلى كانَت في أيْدينا فَدَكٌ مِن كُلِّ ما أظَلَّتْهُ السَّماءُ ، فَشَحَّت عليها نُفُوسُ قوْمٍ ، وسَخَتْ عنها نُفُوسُ قوْمٍ آخَرينَ ، ونِعْمَ الحَكَمُ اللّه . وما أصْنَع بِفَدَكٍ وغَيْرِ فَدَكٍ ، والنَّفسُ مظَانُّها في غَدٍ جَدَثٌ ؛ تَنْقَطِعُ في ظُلْمِتِهِ آثارُها ، وتَغِيبُ أخبارُها ، وحُفْرةٌ لوْ زِيدَ في فُسْحَتِها، وأوْسَعَتْ يَدا حَافِرِها، لأضْغَطَها الحَجَرُ والمَدَرُ ، وسَدَّ فُرَجَها التُّرابُ المُتراكِمُ ، وإنَّما هِيَ نَفْسي أرُوضُها بالتَّقوى ، لِتَأْتِيَ آمنَةً يَوْمَ الخَوْفِ الأكْبرِ ، وتَثْبُتَ علَى جَوَانِبِ المَزْلَقِ . ولو شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّريقَ إلى مصَفَّى هذا العَسَلِ ، ولُبابِ هذا القَمْحِ ، ونَسائِجِ هذا القَزِّ ، ولكِن هَيْهاتَ أنْ يَغْلِبَني هَوَايَ ، ويَقُودَني جَشَعي إلى تَخَيُّرِ الأطْعِمَةِ ، ولَعلَّ بالْحِجازِ أوْ اليَمَامَةِ مَن لا طَمَعَ لَهُ في القُرْصِ ، ولا عَهْدَ لَهُ بالشّبَعِ ، أوْ أبيتَ مِبْطانا ، وحَوْلي بُطُونٌ غَرْثى وأكْبَادٌ حَرّى ، أوْ أكونَ كَما قالَ القائِلُ : وحَسْبُكَ داءً أنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍوحَوْلَكَ أكبَادٌ تَحِنُّ إلى القِدِّ أأقْنَعُ مِن نَفسِي بأنْ يقالَ هذا أميرُ المُؤمِنينَ ، ولا أُشْارِكُهم في مكارِه الدَّهرِ ، أوْ أكونُ أُسْوَةً لَهُم في جُشُوبَةِ العَيْشِ فمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أكْلُ الطَّيِّباتِ كالْبَهِيمَةِ المَرْبُوطَةِ هَمُّها عَلَفُها ، أو المُرْسَلَةِ شُغْلُها تَقَمّمُها، تَكْتَرِشُ من أعْلاَفها ، وتَلْهو عمَّا يُرادُ بِها ، أوْ أُتْرَكَ سُدىً وأُهْمَلَ عابِثا ، أوْ أجُرَّ حَبْلَ الضَّلالَةِ ، أوْ أعْتَسِفَ طَرِيقَ المَتاهَةِ . وكأنِّي بقائِلِكُم يقولُ : إذا كان هذا قُوتُ ابن أبي طالِبٍ ، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عن قِتالِ الأقْرانِ ، ومُنازَلَةِ الشّجْعَانِ . ألا وإنَّ الشَّجَرَةَ البَرِّيَةَ أصْلَبُ عُوْدَا ، والرَّواتِعَ الخَضِرَةَ أرَقُّ جُلُودا ، والنَّابتاتِ العَذيَّةَ أقْوى وُقُودا وأبْطَأُ خُمُودا ، وأنَا من رسُولِ اللّه ِ كالصِّنْوِ مِنَ الصِّنْوِ ، والذِّرَاعِ من العَضُدِ . واللّه ِ ، لو تظاهَرَتِ العَرَبُ على قِتالي لَما وَلَّيْتُ عنها ، ولوْ أمْكَنَتِ الفُرَصُ مِن رِقابِها لَسارَعْتُ إليْها ، وسَأجْهَدُ في أنْ أُطَهِّر الأرضَ مِن هذا الشَّخصِ المَعْكُوسِ ، والجِسْمِ المَرْكُوسِ، حَتَّى تخْرُجَ المَدَرَةُ من بيْنِ حَبِّ الحَصِيدِ . إليْكِ عَنِّي يا دُنْيا، فَحَبْلُكِ علَى غارِبِكِ قَدْ انْسَلَلْتُ مِن مَخالِبِكِ ، وأفْلَتُّ من حَبائِلِكِ ، واجْتَنَبْتُ الذَّهابَ في مَدَاحِضِكِ ، أيْنَ القوْمُ الَّذينَ غَرَرْتِهِم بمَداعِبِك ، أيْنَ الأمَمُ الَّذينَ فَتَنْتِهِم بِزَخارِفِكِ ؟ ! فهاهُم رَهائِنُ القُبُورِ ، ومَضامِينُ اللُّحُودِ . واللّه ِ ، لوْ كنْتِ شَخْصا مَرئِيا ، وقالَبا حِسِيَّا ، لأقَمْتُ علَيْكِ حُدُودَ اللّه ِ في عِبادٍ غَرَرْتِهِم بالأمانيّ ، وأُمَمٍ ألْقَيْتِهم في المَهاوي ، ومُلُوكٍ أسْلَمْتِهِم إلى التَّلَفِ ، وأوْرَدْتِهِم موَارِدَ البَلاءِ؛ إذْ لا وِرْدَ ولا صَدَرَ. هَيْهات، مَن وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ ، ومَن رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ ، ومَن ازْوَرَّ عَن حِبائِلِكِ وُفِّقَ ، والسَّالمُ مِنْكِ لا يُبالي إنْ ضَاقَ به مُنَاخُه ، والدُّنيا عندَه كيَوْمٍ حانَ انْسِلاخُهُ . اغربي عَنِّي، فو اللّه لا أذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّيني ، ولا أسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِيني ، وأيْمُ اللّه ِ _ يَمِينا أسْتَثْنِي فيها بمَشِيئة اللّه ِ _ لأرُوْضَنَّ نَفْسِي رِياضَةً تَهُشُّ مَعَها إلى القُرْص إِذا قَدَرَت علَيْهِ مَطْعُوما ، وتَقْنَعُ بالمِلْحِ مأدُوما ، ولأدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ ماءٍ نَضَبَ مَعِينُها، مُسْتَفْرَغَةً دُموعُها ، أتَمْتَلِى ءُ السَّائِمَةُ من رَعْيِها فَتَبْرُك، وتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ من عُشْبِها فَتَرْبِضُ ، ويأكُلُ عَلِيٌّ من زَادِهِ فَيَهْجَعُ ؟ قَرَّت إذا عَيْنُهُ ، إذا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنينَ المتَطاوِلَةِ بالْبَهِيمَةِ الهامِلَةِ ، والسَّائِمَةِ المَرْعِيَّةِ ! طوبَى لِنَفْسٍ أدَّتْ إلى ربِّها فَرْضَها ، وعَرَكَتْ بجَنْبِها بُؤسَها ، وهَجَرَتْ في اللَّيْلِ غُمْضَها ، حَتَّى إذا غَلَبَ الكَرَى عليْها افْتَرَشَتْ أرْضَها ، وتَوَسَّدَتْ كَفَّها، في مَعْشَرٍ أسْهَرَ عيُونَهُم خَوْفُ مَعادِهم ، وتَجافَتْ عَن مضاجِعِهِم جنُوبُهم ، وهَمْهَمَتْ بِذكْرِ ربِّهِم شِفاهُهُم ، وتَقَشَّعَت بِطُولِ اسْتْغْفارِهِم ذُنُوبُهُم « أُولَ_ئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (6) . فاتَّقِ اللّه َ يا بنَ حُنَيْف ٍ ، ولتكفف أقْراصُك، لِيَكونَ مِنَ النَّارِ خَلاصُكَ » . (7)
.
ص: 105
. .
ص: 106
. .
ص: 107
. .
ص: 108
20كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفةبسم اللّه الرحمن الرحيم من عليِّ بن أبي طالِب إلى أهل الكوفة :أمَّا بَعدُ ، فإنِّي أُخبِرُكُم عن أمْرِ عثْمانَ، حَتَّى يكونَ أمرُهُ كالْعِيان لَكُم ، إنَّ النَّاس طَعَنُوا علَيْهِ ، فكنْتُ رَجُلاً من المهاجِرين َ، أُكْثِرُ اسْتِعْتابَه وأُقلُّ عِتابَه ، وكانَ طَلْحة ُ والزُّبَيْرُ أهْوَنُ سيْرِهِما فيهِ الوَجِيفُ ، وقدْ كان من عائِشَة َ فيْه فَلْتَةُ غَضَبٍ ، فأُتِيْحَ لهُ قَوْمٌ فقَتَلُوهُ ، وبايَعَني النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكرَهِين ، ولا مُجْبَرِينَ ، بَل طائِعِين مخَيَّرِين . وكانَ طَلْحَة ُ والزُّبَيْر ُ أوَّلَ مَن بايَعَني علَى ما بايَعا عَلَيهِ مَن كانَ قَبْلِي ، ثم اسْتَأْذَنانِي في العُمْرَةِ _ و لم يَكُونا يُريْدانِ العُمْرةَ _ فنَكَثا العَهْدَ ، وآذَنا بالحربِ ، وأخْرَجا عائِشَة َ من بَيْتِها يَتَّخِذَانِها فِتْنَةً ، فَسارا إلى البصرة اخْتيارا لأهلِها ، واخْتَرْتُ السَّيْرَ إليْكُم ، ولَعَمْري ما إيَّايَ تُجِيبونَ ، إنَّما تُجِيبونَ اللّه َ ورَسُولَهُ ، واللّه ِ ما قاتَلْتُهُم وفي نَفسِي مِنهُم شَكٌّ ، وقد بَعَثْتُ إليْكُم وُلْدي الحسن َ وعَمَّار ا وقَيْسا ، مُسْتَنْفِرين بِكُم ، فَكونوا عِنْد ظَنِّي بِكُم » . (1)
21كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفةعنْد مسيره من المدينة إلى البصرة:مِن عَبدِ اللّه ِ عليٍّ أميرِ المؤمنينَ إلى أهْلِ الكُوفَة ِ ، جَبْهَةِ الأنْصَارِ وسَنامِ العَرَب ِ . أمَّا بَعْدُ ، فإنِّي أُخْبِرُكُم عَن أمْرِ عُثْمانَ حَتَّى يكونَ سَمْعُهُ كعِيانِهِ . إنَّ النَّاس طَعَنُوا ، فكنْتُ رَجُلاً من المهاجرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ ، وأُقِلُّ عِتَابَهُ ، وكان طَلْحةُ والزُّبَيْر ُ أهْوَنُ سَيْرهِما فيْه الوَجِيفُ ، وأرْفَقُ حِدَائِهِما العَنِيفُ ، وكانَ مِن عائِشَةَ فيْهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ ، فأُتِيْحَ لهُ قَوْمٌ قَتَلُوهُ ، وبايَعَني النَّاسُ غيْرَ مُسْتَكرَهِينَ ، ولا مُجْبَرِينَ ، بَل طائِعِينَ مخَيَّرِينَ . واعْلَموا أنَّ دارَ الهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأهلِها ، وقَلَعُوا بِها ، وجاشَتْ جَيْشَ المِرْجَلِ ، وقامَت الفِتْنَةُ على القُطْبِ ، فأسْرِعوا إلى أميرِكُم وبادِرُوا جِهادَ عَدُوِّكم ، إنْ شَاءَ اللّه َ . (2)
.
ص: 109
22كتابه عليه السلام إلى عُثْمان بن حُنَيْفمن كتاب له عليه السلام ، كتبه من الرَّبَذة إلى عُثْمان بن حُنَيْف الأنْصاري ّ رحمه الله، لمَّا بلغه عليه السلام مشارَفَةُ طَلْحَة َ والزُّبَيْر ِ وعائِشَة َ ومَن معهم البصرةَ :« مِن عَبْدِ اللّه ِ عليٍّ أميْرِ المُؤمِنينَ إلى عُثْمانَ بْنِ حُنَيْف . أمَّا بَعدُ ، فإنَّ البُغاةَ عاهَدُوا اللّه َ ، ثُمَّ نَكَثُوا وتَوَجَّهُوا إلى مِصْرِكَ ، و ساقَهُم الشَّيْطانُ لِطَلَبِ ما لا يَرْضَى اللّه ُ بِهِ ، واللّه ُ أشَدُّ بأسَا وأشَدُّ تَنْكِيلاً . فإذا قَدِمُوا علَيْك فادْعُهُم إلى الطَّاعة، والرُّجُوعِ إلى الوَفَاءِ بالعَهْدِ والمِيثاقِ الَّذي فارَقُونا عَلَيْهِ ، فإنْ أجابوا فَأَحسِن جِوارَهُم مادَاموا عِنْدَك ، وإنْ أبَوْا إلاَّ التَّمَسُّكَ بحَبْلِ النَّكْثِ والخِلاَف، فنَاجِزْهُم القِتالَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللّه ُ بيْنَكَ وبَيْنَهُم، وهُو خَيْرُ الحاكِمِيْن . وكَتَبْتُ كِتابِي هذا إليْكَ مِنَ الرَّبَذَةِ ، وأنَا مُعَجِّلُ المسِيرَ إليْكَ ، إنْ شاءَ اللّه ُ » . وكتبه عبيداللّه بن أبي رافع في سنة ستٍّ وثلاثين . (1)
.
ص: 110
عُثْمانُ بنُ حُنَيْفعثمان بن حُنَيْف بن واهِب الأنْصاري ّ الأوْسِيّ أخو سَهْل بن حُنَيْف ، من صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله وأحد الأنصار (1) . شهِد اُحدا وما تلاها من غَزَوات (2) . وكان أحد الإثني عشر الَّذين اعترضوا على تغيير الخلافة بعد وفاة النَّبيّ صلى الله عليه و آله (3) . وتولّى مساحة الأرض (4) ، وتعيينَ الخَراجِ (5) في أيّام عُمر َ . وليَ البصرة في خلافة الإمام عليّ عليه السلام . وعندما وصل أصحاب الجمل إلى البصرة قاتلهم في البداية ، وحين أُعلنت الهدنة بينهما ، هجموا عليه ليلاً ، وقتلوا حرّاس دار الإمارة وظفروا به ، وعذّبوه ، ونَتَفوا شعر لحيته (6) . وتُعَدُّ رسالة الإمام عليه السلام إليه حين دُعِيَ إلى وليمة (7) في البصرة ، من الوثائق الدَّالّة على عظمة الحكومة العلويّة ، وضرورة اجتناب الولاة والمسؤولين التّرف والرَّفاهيّة ومُعاشَرَةَ الأثرياءِ والمُفسدينَ . توفّي عثمان ُ أيّامَ حُكومةِ مُعاوِيةَ (8) .
.
ص: 111
23كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفةفقال المفيد رحمه الله : ولمَّا بلغ أمير المونين عليه السلام ما قال وصنع (1) ، غضب غضبا شديدا ، وبعث الحسن عليه السلام وعَمَّار بن ياسِر ، وكتب معهم كتابا فيه :« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن عَبدِ اللّه ِ عليّ بنِ أبي طالبٍ أميرِ المُوِنينَ ، إلى أهلِ الكُوفَة ِ من المُوِنينَ والمُسلمِين َ ، أمَّا بَعدُ ؛ فإنَّ دارَ الهِجرَةِ تَقَلَّعَتْ بِأهلِها فانْقَلَعوا عَنها ، فجاشَتْ جَيْشَ المِرْجَلِ ، وكانَت فاعلةً يوما ما فَعَلتَ ، وقَد ركِبَتِ المرأةُ الجمَلَ ، ونَبَحَتْها كِلابُ الحَوْأبِ ، وقامَت الفتنةُ الباغِيَةُ يَقودُها رِجالٌ يَطلبُونَ بِدَمٍ هُمْ سَفَكُوهُ ، وعِرضٍ هُم شَتَمُوهُ ، وحُرمَةٍ هُمُ انْتَهَكوها ، وأباحُوا ما أباحوا ، يَعتَذِرونَ إلى النَّاسِ دُونَ اللّه ِ « يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَ_سِقِينَ » (2) . اعلموا _ رَحِمَكُمُ اللّه ُ _ أنَّ الجِهادَ مُفتَرَضٌ على العِبادِ ، وَقَد جاءَكُم في دارِكُم مَن يَحُثُّكُم عَلَيهِ ، ويَعرِضُ عَلَيكُم رُشدَكُم ، واللّه ُ يَعلمُ أنِّي لم أجِد بُدَّا مِنَ الدُّخولِ في هذا الأمرِ ، ولَو عَلِمتُ أنَّ أحَدا أولى بِهِ منِّي ما قدِمتُ عَليهِ ، وقد بايَعني طَلْحَة ُ والزُّبَيْر ُ طائِعَيْنِ غَيرَ مُكرَهَين ، ثُمَّ خرَجا يَطلُبانِ بِدَمِ عُثمانَ وَهُما اللَّذانِ فَعَلا بِعُثمانَ ما فَعَلا ، وَعجِبتُ لَهُما ! كَيفَ أطاعا أبا بَكر ٍ وعُمَر َ في البيعةِ ، وأبَيا ذلِكَ عليَّ ، وهما يَعلَمان أنِّي لَستُ بِدُونِ أحدٍ منهُما ، مع أنِّي قد عَرَضتُ عَلَيهِما قبلَ أن يُبايعاني، إن أحبَّا بايَعتُ أحدَهُما ، فقالا: لا نَنْفَسُ ذَلِكَ عَليكَ ، بل نُبايُعكَ ، ونُقَدِّمُكَ عَلَينا بِحَقٍّ ، فبايَعا ثُمَّ نكَثا ، والسَّلامُ علَى أهلِ السَّلامِ . » (3)
.
ص: 112
أقولُ : تقدَّم كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفة مع الحسن عليه السلام وعَمَّار بن ياسِر ، عن نهج البلاغة وغيره ، ونقل مصنّف كتاب معادن الحكمة رحمه الله _ أيضا _ كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفة مع الحسن عليه السلام عن أماليالشَّيخ الطُّوسي رحمه الله ، وروي عن ابن ميثم : أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام أرسل مع الحسن عليه السلام الكتاب الَّذي نقله المصنف رحمه الله (1) ؛ وهذه الرِّوايات مع الاختلاف الشديد بينها ، بحيث لا يحتمل الاتِّحاد فيها جميعا ، إمَّا لإجل أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام أرسل بعضها مع الإمام الحسن السِّبط الأكبر عليه السلام ، وأرسل بعضها بعده ، فقرأه الحسن عليه السلام على النَّاس كما أشار إليه المفيد رحمه اللهفي الجمل (2) . قال : ذكر الواقدي : أنَّ أمير المونين عليه السلام كان أنفذَ إلى أهل الكوفة رسلاً ، وكتب إليهم كتابا عند خروجه من المدينة ، وقبل نزوله بذي قار ، وقال في حديث آخر رواه : إنَّه أنفذ إلى القوم من الرَّبَذَة حين فاتَه ردُّ طَلْحَة والزُبَيْر من الطَّريق . ثُمَّ اتفق الواقدي وأبو مِخْنَف وغيرُهما من أصحاب الِسيَر على ما قدَّمنا ذكرَه ، من إنفاذ الرُّسل ، وكَتْب الكُتب من ذي قار إلى أهل الكوفة ، ليستنفرَهم للجهاد معه، والاستعانة بهم على أعدائه النَّاكثين لِعَهده ، الخارجين عليه لحربه . . . فقال مُحَمَّد بن الحنفية رضى الله عنهلمُحَمَّد بن أبي بَكر : يا أخي، ما عِندَ هذا خَيرٌ فارجِع بِنا إلى أميرِ المُوِنينَ نُخبِرهُ الخبرَ ، فلمَّا رجَعا إليه أخبراه بالحال . وقد كان كتَب معهما كتابا إلى أبي موسى الأشْعَرِيّ : أن يبايع من قِبَله على السَّمع والطَّاعة ، وقال له في كتابه : « ارفَع عَنِ النَّاسِ سَوطَكَ ، وأخْرِجْهُم عن حُجْزَتِكَ ، واجلِس بالعِراقَيْنِ ، فإن خَفَفْت فأَقبِل ، وإن ثَقُلتَ فاقعُد » . (3) [ وغرضنا ممّا تقدّم هو الإشارة إلى أنّه عليه السلام ، كتب كتبا عديدة ، لا كتابا واحدا . فلمَّا تمّت الحرب ، وقتل النَّاكثين ، وهدأت الأوضاع ، كتب أمير المؤمنين عليه السلام ، كُتبا متعدّدة ، منها كتابه إلى أهل الكوفة وهو : ]
.
ص: 113
24كتابه عليه السلام إلى مَن بالكوفة« من عبد اللّه عليّ أمير المونين ، إلى مَن بالكوفة من المسلمين :أمَّا بَعدُ ؛ فإنِّي خَرَجتُ مَخرَجي هذا ؛ إمَّا ظالِما ، وإمَّا مَظلُوما ، وإمَّا باغِيا ، وإمَّا مَبغيَّا عليّ ، فأَنشُدُ اللّه َ رَجُلاً بَلَغَهُ كِتابي هذا إلاَّ نَفَرَ إليَّ ، فإن كُنتُ مَظلوما أعانَنِي ، وإن كُنتُ ظالِما استَعتَبنِي ، والسَّلامُ . »
قال أبو مِخْنَف : فحدَّثني موسى بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلَى ، عن أبيه ، قال : أقبلنا مع الحسن وعَمَّار بن ياسِر من ذي قار ٍ ، حَتَّى نزلنا القادسيَّة . . .قال : فلمَّا دخل الحسن وعَمَّار الكوفة ، اجتمع إليهما النَّاس ، فقام الحسن فاستنفر النَّاس . . . [ وقام بعده عَمَّار فخطب . . . ] ، قال : فلمَّا سمع أبو موسى خطبة الحسن وعَمَّار ، قام فصعد المنبر ،[ وخطب، وجرى كلام بينه وبين عَمَّار . . . ] . قال أبو جعفر ( الطبري ) : وأتت الأخبار عليَّا عليه السلام باختلاف النَّاس بالكوفة ، فقال : للأشْتَر : أنت شفعتَ في أبي موسى ، أن أُقِرّه على الكوفة ، فاذهب فأصلِح ما أفسدتَ، فقام الأشْتَر ، فشخص نحو الكوفة ، فأقبل حَتَّى دخلَها والنَّاس في المسجد الأعظم ، فجعل لا يمرّ بقبيلة إلاَّ دعاهم ، وقال : اتَّبِعوني إلى القصر حتى وصل القصر ، فاقتحمه وأبو موسى يومئذ يخطب النَّاس على المنبر ، ويثبّطهم ، وعَمَّار يخاطبه ، والحسن عليه السلام يقول : « اعتزلْ عملَنا ، وتنحَّ عن مِنبَرِنا ، لا أُمَّ لَكَ » . قال أبو جعفر ( الطبري ) : فروى أبو مَريم الثَّقَفيّ ، قال : واللّه ِ إنِّي لفي المسجد يومئذٍ، إذْ دخل علينا غِلمان أبي موسى ، يشتدّون ويبادِرُون أبا موسى : أيُّها الأمير ، هذا الأشْتَر قد جاء فدخل القصر ، فضربنا وأخرجنا . فنزل أبو موسى من المِنْبَر ، وجاء حَتَّى دخل القصر ، فصاح به الأشْتَر : اخرُج من قصرنا لا أمَّ لك ، أخرج اللّه نفسَك ! فو اللّه إنَّك لمن المنافقين قديما . قال : أَجِّلْني هذه العشيَّة ، قال : قد أجَّلتك ، ولا تبيتنّ في القصر . ودخل النَّاس ينتهبون متاعَ أبي موسى ، فمنعهم الأشْتَر ، وقال : إنِّي قد أخرجتُه وعزلتُه عنكم . فكفَّ النَّاس حينئذ عنه . قال أبو جعفر ( الطبري ) : فروى الشَّعْبيّ عن أبي الطُّفيل ، قال : قال عليّ عليه السلام : يأتيكُم مِن الكُوفَةِ اثنا عَشَرَ ألفِ رَجُلٍ ورَجُلٌ واحِدٌ ، فَوَ اللّه لَقَعدتُ علَى نَجَفَةِ (1) ذي قار ، فأحَصيتُهُم واحدا واحدا ، فما زادوا رَجُلاً ، ولا نَقَصُوا رَجُلاً . (2)
.
ص: 114
. .
ص: 115
25كتابه عليه السلام إلى طَلْحَة والزُّبَيْرمن كتاب له عليه السلام إلى طَلْحَة والزُّبَيْر ، مع عِمْرَان بن الحُصَيْن الخُزاعِي ّ :« أمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ عَلِمْتُمَا وإنْ كَتَمْتُمَا، أنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أرَادُونِي ، ولَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي ، وإِنَّكُمَا مِمَّنْ أرَادَنِي ، وبَايَعَنِي ، وإنَّ الْعَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَانٍ غَالِبٍ ، ولا لِعَرَضٍ حَاضِرٍ ، فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ فَارْجِعَا وتُوبَا إلَى اللّه مِنْ قَرِيبٍ ، وإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ، فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ وإِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ . ولَعَمْرِي مَا كُنْتُمَا بِأَحَقِّ الْمُهَاجِرِين َ بِالتَّقِيَّةِ والْكِتْمَانِ ، وإِنَّ دَفْعَكُمَا هَذَا الأَمْرَ مِنْ قَبْلِ أنْ تَدْخُلا فِيهِ، كَانَ أوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ . وقَدْ زَعَمْتُمَا أنِّي قَتَلْتُ عُثْمَانَ ، فَبَيْنِي وبَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وعَنْكُمَا مِنْ أهْلِ الْمَدِينَة ِ ، ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَ ، فَارْجِعَا أيُّهَا الشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا ، فَإِنَّ الآنَ أعْظَمَ أمْرِكُمَا الْعَارُ ، مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَجَمَّعَ الْعَارُ والنَّارُ ، والسَّلامُ » . (1)
26كتابه عليه السلام إلى طَلْحَة والزُبَيْر وعائِشَة[ نقل مصنِّف كتاب معادن الحكمة كتابه إليهم (2) ، ولكن أخرج في أحاديث أمّ المؤمنين (3) هذا الكتاب عن التَّذكرة، لسِبط ابن الجُوزِي ّ بنحوٍ آخرَ ، يلزم نقله هنا إتماما للفائدة : ] قال : ثُمَّ إنَّ عليَّا لمَّا قارب البصرة كتب إلى طَلْحَة ، والزُّبَيْر ، وعائِشَةَ ومن معهم كتابا لتركيب الحجَّة عليهم : « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عَبدِ اللّه ِ عليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى طَلْحَةَ والزُبَيْرِ وعائِشَةَ ، سلامٌ عليكم : أمَّا بَعدُ ؛ يا طَلْحَة ُ والزُّبَيْر ُ ، قد عَلِمْتُما أنِّي لَم أُرِدِ البَيعةَ حَتَّى أُكرِهتُ عَلَيها ، وَأَنتُم مِمَّن رَضِيَ ببيعتي ، فإن كُنتُما بايَعتُما طائِعَينِ فَتوبا إلى اللّه ِ تعالى ، وارجِعا عَمَّا أنتُما عَلَيهِ ، وَإن كُنتُما بايَعتُما مُكرَهَينِ ، فَقَد جَعَلتُما لِيَ السَّبيلَ عَلَيكُما بإظهارِكُما الطَّاعةَ وكِتْمانِكُما المَعصِيَةَ ، وأنت يا طَلْحَة ُ ، ياشَيخَ المُهاجرين َ ؛ وأَنتَ يازُبَيْر ُ ، فارِسُ قُرَيش ٍ ، وَدفْعُكُما هذا الأمرَ قبلَ أنْ تَدْخُلا فِيهِ ، فكان أوسَعَ لَكُما من خُروجِكُما مِنُه قَبلَ إقرارِكُما . وأَنتِ يا عائِشَة ُ ، فإنَّكِ خَرجْتِ من بَيتِكِ عاصِيَةً للّه ِ ولِرَسولِهِ ، تطلُبينَ أَمرا كان عَنكِ مَوْضوعا ، ثُمَّ تَزْعُمِينَ أنَّكِ تُريدينَ الإصلاحَ بينَ المُسلِمين َ ، فخبِّرِيني: ما للنساءِ ، وقَوْدِ الجُيوشِ ، والبُروزِ للرِجالِ ، والوُقوعِ بين أهلِ القبلة ِ ، وسَفكِ الدِّماءِ المُحرَّمةِ ، ثُمَّ إنَّكِ طَلَبْتِ _ على زعمِكِ _ بِدَمِ عثمان َ ، وَما أنتِ وذَاك ! عثمان ُ رجُلٌ من بني أُميّة َ ، وأَنْتِ من تيم ٍ ، ثُمَّ بالأمسِ تَقولِينَ في ملاًمِن أصحابِ رَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله : اقتلوا نَعْثَلاً ، قَتَلَهُ اللّه ُ فَقَد كَفَرَ ، ثُمَّ تَطلُبِينَ اليَومَ بدِمِهِ ! فاتّقي اللّه َ ، وارجِعِي إلى بَيتِكِ ، واسبلِي عَلَيكِ سِترَكِ ، والسَّلامُ » . (4)
.
ص: 116
. .
ص: 117
27كتابه عليه السلام إلى عائِشَةقال المفيد في كتاب الجُمَل : ثُمَّ دعا عبدَ اللّه بنَ عبَّاس ، فقال :« انطَلِق إلَيهِم فناشِدْهُم [ أي طَلْحَة والزُّبَيْر وعائِشَة ومَن تابعهم ] وذَكِّرْهُمُ العَهْدَ الَّذي لِيَ في رِقابِهِم » . . . قال [ ابن عبَّاس ] فخرجتُ فرجعت إلى عليٍّ ، وقد دخل البيوت بالبصرة ، فقال : « ما ورَاءَكَ ؟ » فأخبرتُه الخبر ، فقال : « اللّهُمَّ افْتَح بَيْنَنا وبَينَ قَومِنا بالحَقِّ وأنتَ خَيرُ الفاتِحينَ » ثُمَّ قال : ارجِع إلى عائشةَ ، صلى الله عليه و آله ، وخَوِّفْها مِنَ الخِلافِ « علَى اللّه ِ عز و جل ، ونَبْذِها عَهْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه و آله ، وَقُل لها : إنَّ هذه الأُمورَ لا تُصْلِحُها النِّساءُ ، وَإنَّكِ لم تُؤْمَرِي بِذلِكَ ، فَلِمَ تَرْضَي بالخُروجِ عَن أمرِ اللّه ِ في تَبَرُّجِكِ ، و( خُروجِكِ من ) بَيتِكِ الَّذي أمَرَكِ النَّبيُّ صلى الله عليه و آله بالمُقامِ فيه، حَتَّى سِرْتِ إلى البَصرَة ِ ، فَقَتَلْتِ المُسلمِين َ ، وعَمِدْتِ إلى عُمَّالي فأخْرجْتِهم ، وفتَحْتِ بَيتَ المالِ ، وَأمَرتِ بالتَّنكيل بالمُسلِمينَ ، وأبَحْتِ دِماءَ الصَّالِحينَ ! فارْعَيْ وراقِبي اللّه َ عز و جل ، فقد تعْلَمِينَ أنَّكِ كُنتِ أشدَّ النَّاسِ على عُثمانَ ، فما هذا ممَّا مَضى ؟ ! » . (1)
.
ص: 118
28كتابه عليه السلام إلى عائِشَة« بسم اللّه الرحمن الرحيم أمَّا بَعدُ ، فإنَّكِ خَرَجْتِ مِن بَيْتكِ عاصِيَةً للّه ِ تعالى ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله ، تَطْلُبِين أمْرا كانَ عَنْكِ مَوضُوعا ، ثُمَّ تَزْعُمِينَ أنَّكِ تُريدِينَ الإصْلاحَ بَيْنَ الناسِ ، فَخَبِّرينِي: ما لِلنِّساءِ وَقوْدِ العَساكِرِ ؟ زَعَمْتِ أنَّك طالِبةٌ بدَمِ عُثمانَ ، وعُثمانُ رَجُلٌ من بَنِي أميَّة َ ، وأنْتِ امرأةٌ مِن بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّة َ . وَلَعَمْرِي إنَّ الَّذِي عَرَّضَكِ للبَلاء ، وَحَمَلَكِ علَى المَعْصيةِ لأعْظَمُ إليْكِ ذَنْبا مِن قَتَلَةِ عُثمانَ . وَما غَضِبْتِ حَتَّى أُغْضِبْتِ ، ولاَهِجْتِ حَتَّى هُيِّجْتِ، فاتَّقي اللّه َ يا عائِشَةُ ، وارْجِعِي إلى مَنْزِلِكِ ، واسْبِلِي عَلَيْكِ سِتْرَكِ ، والسَّلامُ » .
فجاء الجواب إليه عليه السلام : يا بن أبي طالب ، جلّ الأمْر عن العِتاب ، ولنْ نَدْخل في طَاعتك أبَدا ، فاقض ما أنت قاض والسَّلام . (1)
29كتابه عليه السلام إلى أمّ هانئ بنت أبي طالبوكَتَبَ أميرُ المُوِنينَ عليه السلام إلى أمّ هانئ، بنت أبي طالب :« سَلامٌ عَلَيكِ ، أحمَدُ إليكِ اللّه َ الَّذي لا إلَه إلاَّ هُوَ ، أمَّا بَعْدُ ؛ فإنَّا التقَيْنا مَعَ البُغاةِ والظَّلَمَةِ في البَصرةِ ، فأعطانا اللّه ُ النَّصرَ عَلَيهِم بحَوِلِهِ وَقُوَّتِهِ ، وأعطاهُم سُنَّةَ الظَّالِمينَ ؛ فقُتِلَ مِنهُم طَلْحَةُ والزُبَيْرُ وعبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَتَّاب ِ ، وجمعٌ لا يُحصى ، وَقُتِلَ مِنَّا بنو مَجْدُوع ٍ ، وابنا صُوحان ، وعِلْباء ُ ، وهند ٌ ، وثُمامَة ُ، فِيمَن يُعَدُّ مِنَ المُسلمِين َ رَحِمَهُم اللّه ُ ، والسَّلامُ . » (2)
.
ص: 119
[ أقول : طَلْحَة والزُبَيْر هما رأسا البُغاة ، ومُسَعِّرا الحرب في الجمل ، وحالهما في الصَّحابة أشهر وأبين من أن يذكر في هذا المختصر ، ومن أراد فليراجع الكتب المؤلفة في تراجم الصَّحابة ، كأُسْد الغابَة ، والإصابة ، والاستيعاب ، بل الكتب المؤلّفة في التَّاريخ والسِّيرة ، وكذا الكتب المؤلفة في الكلام في الإمامة ، كالشافي وتلخيصه ، وإحقاق الحقّ ، وكتاب الجُمَلِ للمُفيد رحمه الله ] .
« عبد الرحمن بن عَتّاب »عبد الرَّحمن بن عَتَّاب بن اُسَيْد القُرَشيّ الأمويّ، كان من أنصار عثمان في حياته وبعد مماته ، وكان مع عائِشَة يوم الجمل ، يصلّي بالنَّاس بأمرها ، لمَّا وقع الخلافُ بين طَلْحَة والزُبَيْر في الإمامة في الصَّلاة . (1) وقيل: كانت الصَّلاة لعبداللّه بن الزُّبَيْر ، ولمَّا استعرت نار الحرب ، بارز عبد الرَّحمن الأشْتَر َ فأفلت جريضا (2)(3) ، وكان على ميسرة العسكر، فأخذ خطام الجمل وقتل . (4) فقال له قائل : لَشَدَّ ما أطريتَ هذا الفتى مُنذُ اليوم يا أميرَ المُونين َ ، قال : « إنَّهُ قامَ عَنِّي وعَنهُ نِسوَةٌ لَم يَقُمنَ عَنكَ » . (5)
.
ص: 120
« بنو مَخْدُوع »« بنو مَخْدُوع » بالميم والخاء المعجمة ، والدَّال المهملة ، والواو والعين المهملة ، كما في نسخة الجُمَل ، وتكملة المنهاج . وفي الطَّبري جاء: « بني مَحْدُوج » بالحاء المهملة ، والجيم بدل الخاء والعين (1) ، وفي مَوضِعٍ آخر: جعل ابنَ مَحْدُوج البَكري ّ من رؤساء النَّافرين إلى حرب الجمل من الكوفة (2) . فالصَّحيح هو مَحْدُوج لا مخدوع ، وكما قال ابن الأثير في الكامل « وقُتِلَ رجال من بني مَحْدُوج »، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلاً (3) ، وعلى كل حال ، فهم كما قال الطَّبري : كانت لَهُمُ الرِّئاسَةُ من أهل الكوفة (4) . وقال البلاذري : وكانت وقعة الجمل بالخُرَيبَةِ (5) ، وحَسَّان الَّذي ذكره ( هو ) _ يعني الأعْوَر الشّنيّ في شعره : ما (6) قاتلَ اللّه ُ أقوَاما هُمُ قَتَلوايَومَ الخُرَيبَةِ عِلْباءا وحَسَّانا وابنَ المُثَنَّى أصابَ السَّيفُ مَقتَلَهُوخيرَ قُرَّائِهم زَيْدَ بنَ صُوحانا حَسَّان بن مَحْدُوج بن بِشْر بن خُوط ، كان معه لواء بَكرِ بن وائل ، فقُتِلَ فأخذه أخوه حُذَيْفَة بن مَحْدُوج فأصيب ، ثُمَّ أخذه بعده عدّة من الحوطيين (7) ، فقتلوا حَتَّى تحاموه . (8) وقال ابن حَجَر : حَسَّان بن خُوط بن مِسْعَر . . . نسبه ابن الكَلبِي ّ ، وقال : كان شريفا في قومه ، وكان وافِد بَكر بن وائل إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وعاش حَتَّى شهد الجمل مع عليّ ، ومعه ابناه : الحارث وبشر ؛ وأخوه بِشْر بن خُوط وأقاربه ، وكان لواء عليّ مع حسين بن مَحْدُوج بن بِشْر بن خُوط ، فقُتِل، فأخذه أخوه حُذَيْفَة فقُتِل ؛ فأخذه عمُّهما الأسْوَد بن بِشْر بن خُوط فقُتِل . . . وبِشْر بن حَسَّان هو القائل : أنا ابنُ حَسَّانِ بنِ خُوطٍ وأَبِيرَسُولُ بَكْرٍ كُلِّها إلى النَّبيّ وأخرج عَمْرو بن شَبَّه في وقعة الجمل من طريق قَتادَة ، قال : كانت راية بَكر بن وائل في بني ذُهْل مع الحارث بن حَسَّان فقتل ، وقتل معه ابنه وخمسةٌ من إخوته ، وكان الحارث يقول : أنَا الرَّئيس الحارِثُ بنُ حَسَّانْلاِلِ ذُهْلٍ ولاِلِ شَيْبَانْ (9) وجعل صاحب الغدير حسّان بن مخدوج في عداد قرَّاء الكوفة ووجوه أهلها ، ممَّن كان يسامر سعيد بن العاص ، كالأشْتَر ، وزَيْد وصَعْصَعَة ابني صُوحان العبديين، وقال : هو الَّذي ابتدأ الكلام في تفضيل السَّواد على الجبل، حَتَّى انتهى الأمر إلى تسيير من سيَّره من رجال الفضل . (10) وحَسَّان بن مَخدُوج ، كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان معه يوم صفِّين ، وجعل له رئاسة كِنْدَة لمَّا عزل عنها الأشْعَث بن قَيْس . ومشى الأشْتَر ، وعَدِيّ الطَّائيّ ، وزَحْر بن قَيْس ، وهانئ بن عروة ، فقاموا إلى عليّ عليه السلام ، فقالوا : يا أمير المونين ، إنَّ رئاسة الأشْعَث لا تصلُح إلاَّ لمثله ، وما حَسَّان بن مخدوج مثل الأشْعَث . فغضب ربيعة . . . وإنَّ حَسَّان بن مخدوج مشى إلى الأشْعَث بن قَيْس برايته حَتَّى ركزَها في داره ، فقال الأشْعَث : إنَّ هذه الرَّاية عظمت على عليّ ، وهو واللّه أخفُّ عليَّ من زِفِّ النَّعام (11) . . . والأشْعَث كان من أعداء أمير المؤمنين ، وكان رئيس كندة وربيعة . . . فلم يشأ أمير المؤمنين أن يعطي له هذه الرِّئاسة؛ لما يعلم من عداوته ، فجعلها لحسَّان . . . وهذا يدلّ على مكانة حسَّان ، وإخلاصه ، وتقديمه المصلحة العامَّة على المصلحة الخاصَّة ، ولم يقبل الأشْعَث ما عرضه عليه حسَّان ، وبقيت رئاسة القبيلتين لحسَّان ، ثُمَّ تلافى الأمرَ أميرُ المؤمنين عليه السلام ، فولّى الأشْعَث على ميمنة أهل العراق . (12) ذكر الشَّيخ رحمه الله في رجاله (13) ، في أصحاب عليّ عليه السلام حَسَّان بن مخزوم ، ولم يذكر هذا ، والمظنون أنَّه قد صحَّف مخدوج بمخزوم ، وإن المذكور في كلام الشَّيخ هو هذا ، وإنَّ ابن مخزوم لا وجود له ، ولا يمكن أن يكون قد صُحِّفَ مخزوم بمخدوج ، للتصريح في الأبيات السَّابقة بأنَّه ابن مخدوج . (14) وذكر ابن قُتَيْبَة _ في وقعة الجمل _ : أنَّ عليَّا عليه السلام عقد لبَكر ، وتَغْلِب ، وأفناء ربيعة ، راية، وولَّى عليهم مَحْدُوج الذُّهْلِيّ . (15) وقال الطَّبري في وقعة الجمل : وكانت راية بَكر بن وائل من أهل الكوفة في بني ذُهْل ، كانت مع الحارث بن حَسَّان بن خُوط الذُّهْلِيّ ، فقال : أبو العَرفاء الرَّقاشيّ : أبق على نفسك وقومك ، فأقدم وقال : يا معشر بَكر بن وائل ، إنَّه لم يكن أحد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله مثل منزلة صاحبكم فانصروه ، فأقدم فقتل وقتل ابنه، وقتل خمسة إخوة له . . . . وقال ابنه : أنْعى الرَّئيسَ الحارِثَ بن حَسَّانْلاِلِ ذُهْلٍ ولاِلِ شَيْبانْ وقتل رجل من بني مَحْدُوج ، وكانت الرِّياسة لهم من أهل الكوفة (16) قال ابن خلدون في بيان النَّافرين من الكوفة : ونفر النَّاس مع الحسن كما قلنا ، وكان الأمراء على أهل النَّفر: على كِنانَة وأسَد وتَميم والرَّباب ومُزَينة ، مَعْقِلُ بنُ يسار الرِّياحيّ . وعلى قبائل قَيْس ، سَعْد بن مسعود الثَّقَفيّ ، عمّ المختار . وعلى بَكر وتَغْلِب وَعْلَةُ بنُ مجدوح الذُّهْلِيّ . (17) وقال أيضا : وكانت راية بَكر بن وائل في بني ذُهل ، مع الحرث بن حسَّان ، فقتل في خمسة من بني أهلهِ، ورجال من بني مَحْدُوج ، وخمسة وثلاثين من بني ذُهل . (18) وبِشْر بن حَسَّان الذُّهْلِيّ الكوفيّ ، ذكره الشَّيخ في رجاله في أصحاب الصَّادق عليه السلام ، وفي لسان الميزان : بِشْر بن حَسَّان الرَّملي ، ذكره أبو جَعْفَر الطُّوسيّ في رجال الشِّيعة ، من الرُّواة عن جَعْفَر الصَّادق عليه السلام انتهى . وابدال الذُّهْلِيّ بالرُّملي من تحريف النُّسَّاخ أو ابن حجر . (19) والحسين بن محذوج بن بِشْر بن حُوط بن مِسْعَر الشَّيْبانيّ ، قال : من جملة حاملى اللِّواء مع أمير المؤمنين عليه السلام في الجمل ، وقتل معه. أقول: ولم يذكر مستنده . (20) و « خُوط » على ما ذكره ابنا حَجَر والأثير وأبو عمر في معاجمهم : هو بالحاء المعجمة ، وفي أنساب الأشراف والطَّبقات : بالحاء المهملة . (21)
.
ص: 121
. .
ص: 122
. .
ص: 123
. .
ص: 124
زيد بن صوحانزيد بن صُوحان ، يقال : إنَّ له صحبة ، قال الكلبي : كان قد أدرك النَّبيّ صلى الله عليه و آله وصحبه ، قال أبو عَمْرو : كذا قال ، ولا أعلم له صحبة ، ولكنَّه ممِّن أدرك النَّبيّ مسلما. وعن الرّشاطيّ أنَّ له وفادة . وكان فاضلاً ديِّنا خيِّرا سيَّدا في قومه، هو وإخوته ، وكان معه راية عبدالقَيس يوم الجمل . (1) وكان أكبر من صَعْصَعَة . (2) وروي من وُجُوه، أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه و آله كان في مسيرةٍ له ، إذ هَوَّم فجعل يقول : « زَيدٌ وما زيدٌ ! جُنْدُب وما جُنْدُب » ! فسئل عن ذلك ، فقال : « رَجُلانِ مِن أمَّتي ، أمَّا أحدُهُما فتَسْبِقُهُ يَدُهُ إلى الجَنَّةِ ، ثُمَّ يتْبَعُها سائِرُ جَسَدِهِ . . . » . وكانت بيده راية عبد القَيس يوم الجمل . (3) وروي من وُجُوه أنَّه قال : شدّوا عليَّ ثيابي ، ولا تنزعوا عنّي ثوبا ، ولا تغسلوا عنّي دما ، فإنِّيرجلٌ مخاصم . _ أو قال: فإنَّا قوم مخاصمون . (4) وعن قُدامَة قال: كنت في جيشٍ عليهم سَلْمان ، فكان زَيْدُ بن صوحان يؤمُّهم بأمره بدون سليمان (5) . (6) وعن عبد الرَّحمن بن مسعود العبديّ ، قال : سمعت عليّا عليه السلام يقول : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله :« مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إلى رَجُلٍ يَسبِقُهُ بَعضُ أعضائِهِ إلى الجَنَّةِ، فَليَنظر إلى زَيْدِ بنِ صُوحان » . وتحقّق هذا الكلام النَّبويّ الَّذي كان فضيلة عظيمة لزيد في حرب جلولاء (7) . (8) وقد قطعت يد زَيْد يوم القادسية (9) ، أو جلولاء (10) ، وعاش بعد ذلك عشرين سنة (11) . كان زيد فيمن سيّرَهُ عثمان ُ من أهل الكوفة إلى الشَّام (12) ، وجرى بينهم وبين معاوية كلام حَتَّى أغلظ على الأشْتَر فحبسه، فقام عَمْرو بن زُرَارَة ، فقال : لئن حبسته لتجدنّ من يمنعه ، فأمر بحبس عمرو ، فتكلَّم القوم ، وقالوا: أحسن جوابنا يامعاوية ، وتكلَّم في هذا المضمار، صَعْصَعَة بن صُوحان ، فجبهه معاوية بكلام غليظ وقال معاوية يوما فيما قال : إنّ قريشا قد عرفت أنّ أبا سُفْيَان أكرمها ، وابن أكرمها، إلاَّ ما جعل اللّه لنبيِّه صلى الله عليه و آله ، فإنَّه انتجبه وأكرمه ، ولو أنّ أبا سُفْيَان ولد النَّاس كلّهم، لكانوا حلماء . فقال له صَعْصَعَة بن صُوحان : كَذِبتَ، قد ولدهم خيرٌ من أبي سُفْيَان ، مَن خَلَقَهُ اللّه ُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فيهِ من رُوحِهِ ، وأمَرَ المَلائِكَة َ فسَجدوا لَهُ ، فَكانَ فيهم البَرُّ والفاجِرُ والكيِّسُ والأحمَقُ . قال : ومن المجالس الَّتي دارت بينهم : إنَّ معاوية قال لهم : أيُّها القوم ، ردُّوا خيرا ، واسكنوا وتفكّروا ، وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين ، فاطلبوه وأطيعوني . فقال له صَعْصَعَة : لَستَ بأهلٍ لذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية اللّه . فقال : إنّ أوَّل كلام ابتدأتُ به أن أمرتكم بتقوى اللّه ، وطاعة رسوله ، وأن تعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرَّقوا . فقال صَعْصَعَة : بل أمرتَ بالفرقة ، وخلاف ما جاء به النَّبيّ صلى الله عليه و آله . فقال : إن كنت فعلتُ فإنِّى الآن أتوب ، وآمركم بتقوى اللّه وطاعته ، ولزوم الجماعة ، وأن توقّروا أئمّتكم وتطيعوهم . فقال صَعْصَعَة : إذا كنت تبت، فإنّا نأمرك أن تعتزل أمرك ، فإنَّ في المسلمين من هو أحقّ به منك، ممَّن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من أبيك ، وهو أحسن قَدما في الإسلام منك . فقال معاوية : إنَّ لي في الإسلام لقدما، وإن كان غيري أحسن قدما منِّي، لكنَّه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه منِّي ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخَطَّاب ، فلو كان غيري أقوى منِّي، لم يكن عند عمر هوادة لي ولغيري ، ولا حدث ما ينبغي له أن اعتزل عملي (13) . فتكلّم زَيْد في بعض هذه المجالس فقال : إن كنَّا ظالمين فنحن نتوب ، وإن كنَّا مظلومين فنحن نسأل اللّه العافية ، فقال له معاوية : يازيد ، إنَّكَ امرؤ صدق ، وأذن له بالرجوع إلى الكوفة . . . كان زَيْد بن صُوحان يحبُّ سَلْمان ، فمن شدّة حبّه له اكتنى أبا سَلْمان ، وكان يُكنَّى أبا عبداللّه ، ويقال: أبا عائشة (14) . كان زَيْد بن صُوحان يقوم باللّيل ويصوم النَّهار ، وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها ، فإن كان ليكرهها إذا جاءت ممَّا كان يلقى فيها ، فبلغ سَلْمان ما كان يصنع ، فأتاه فقال : أين زيدٌ ؟ قالت امرأته: ليس هاهنا ، قال : فإنِّي أقسم عليك لما صنعت طعاما ، ولبست محاسن ثيابك ، ثُمَّ بعثت إلى زَيْد ، قال فجاء زَيْد ، فقرب الطَّعام ، فقال سَلْمان : كُلْ يا زُيَيْد ، قال : إنِّي صائم ، قال : كلْ يا زُيَيْد لا ينقص _ أو تنقص _ دينك ، إنَّ شرّ السَّير الحقحقة (15) ، إنَّ لعينك عليك حقَّا ، وإنّ لبدنك عليك حقَّا ، وإنَّ لزوجتك عليك حقَّا ، كلْ يا زييد فأكل ، وترك ما كان يصنع . وقد خاطبه: يا زُيَيْد بالتَّصغير ، لِيُشعِره بخطأ ما كان عليه (16) . عن أبي سُلَيْمان قال : لمَّا ورد علينا سَلْمان الفارسِيّ ، أتيناه نستقرئه القرآن ، فقال : إنَّ القرآن عربي فاستقرئوه رجلاً عربيا ، فكان يُقرِئُنا زَيْد بن صُوحان ، ويأخذ عليه سَلْمان ، فإذا أخطأ ردّ عليه سَلْمان (17) . قال سَلْمان لزيد : كيف أنت يا زَيْد إذا اقتتل القرآن والسلطان ؟ قال : أكون مع القرآن ، قال : نِعمَ الزيدُ أنتَ إذا (18) . قال زَيْد ذلك ، وعمل به طيلة حياته بعد الرَّسول صلى الله عليه و آله ، إلى أن غربت شمس وجوده في البصرة ، في حرب الجمل ، حينما اقتتل السُّلطان والقرآن ، فنصر زَيْد القرآن وقتل دونه . ] كان زَيْد من أمراء السَّائرين إلى عثمان من الكوفة مع الأشْتَر (19) . لمّا خرج النَّاكثون إلى البصرة ، وخرج أمير المؤمنين عليه السلام على أثرهم ، كتبت عائِشَة إلى زَيْد من البصرة ، وكان زَيْد وقتئذٍ بالكوفة : مِن عائِشَة أُمِّ المُؤمنِينَ إلى ابنِها الخالِصِ زَيْدِ بنِ صُوحان ، سلامٌ عَليكَ . أمَّا بَعدُ : فإنَّ أباك كانَ رأسا في الجاهليَّةِ ، وَسيِّدا في الإسلام ِ ، وَإنَّكَ من أبيك بمنزلة المصلِّي مِنَ السّابقِ ، يُقالُ : كادَ أو لَحِقَ ، وَقَد بلَغكَ الَّذي كان في الإسلام من مصاب عثمان بن عُفَّان ، ونحن قادِمُونَ عَليكَ ، والعِيانُ أشفى لَكَ من الخَبرِ ، فإذا أتاكَ كتابِي هذا، فثبّط النَّاسَ عَن عليِّ بنِ أبي طالب ٍ ، وكُن مَكانَكَ حَتَّى يأتِيَكَ أمري ، والسَّلامُ . فكتب إليها : مِن زَيْدِ بنِ صُوحان إلى عائِشَة أمِّ المؤمنين ، سلامٌ عَلَيكِ ، أمَّا بعد ، فإنَّكِ أُمرتِ بأمِرٍ وَأُمرِنا بِغَيرِهِ ، أُمِرتِ أن تَقرّي في بَيتِكِ ، وأُمرِنا أن نُقاتِلَ حَتَّى لا تكونَ فِتنَةٌ . فَتَرَكتِ ما أُمِرتِ بِهِ ، وَكَتَبتِ تَنْهينا عَمَّا أُمِرنا بِهِ ، والسَّلامُ (20) . [ ولمَّا ثبّط أبو موسى النَّاس عن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام ، وأخذ يجادل مع عَمَّار والحسن السِّبط عليه السلام ]وجعل أبو موسى يُكَفْكِفُ النَّاس ، ثُمَّ انطلق حَتَّى أتى المنبر ، وسكَّن النَّاس ، وأقبل زَيْدٌ على حمار حَتَّى وقف بباب المسجد ، ومعه الكتابان: من عائِشَة إليه، وإلى أهل الكوفة ، وقد كان طلب كتاب العامّة ، فضمَّه إلى كتابه ، فأقبل بهما ، ومعه كتاب الخاصَّة وكتاب العامَّة : أمَّا بَعدُ ، فثبّطوا أيُّها النَّاس ، واجلِسُوا في بُيوتِكُم إلاَّ عن قتلة عثمان بن عُفَّان ، فلمَّا فرغ من الكتاب قال : أُمِرَتْ بأمرٍ ، وَأمِرْنا بأمرٍ ، أُمِرَتْ أن تَقَرَّ في بَيتِها ، وأُمِرْنا أنْ نقاتِلَ حَتَّى لا تكونَ فتنةٌ ؛ فأَمَرَتْنا بما أُمِرَتْ بِهِ ، ورَكِبتْ ما أُمِرْنا بِهِ . [ فأجابه ] شَبَثُ بنُ رِبْعيّ ، ثُمَّ تكلَّم أبو موسى ، يأمر النَّاس بالكفِّ عن النَّفر إلى الجهاد، فقام زَيْد فشال يده المقطوعة ، فقال : يا عبداللّه بن قَيْس ؛ ردّ الفرات عن دِراجه ، اردده من حيث يجيء حَتَّى يعود كما بدأ ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد ؛ فدع عنك ما لست مدركه . ثُمَّ قرأ : « الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ » (21) . سيروا إلى أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ (22) . فنفر النَّاس وكان من رؤسائهم زَيْدُ بن صُوحان ، وكان معه راية عبد القَيس ، وكان زيد مع علي عليه السلام قدّام الجمل، فقال له رجل من قومه : تنحّ إلى قومك ، مالك ولهذا الموقف ! ألست تعلّم أنَّ مضرَ بحيالك ، وأنَّ الجمل بين يديك ، وأنَّ الموت دونه ! فقال : الموتُ خَيرٌ مِنَ الحياةِ ، المَوتُ ما أريدُ ، فأصيبَ (23) . قال زَيْد : يا أمير المؤمنين ، ما أراني إلاَّ مقتولاً . قال له _ عليّ عليه السلام _ : « وَ ما عِلمُكَ بِذلِكَ يا أبا سُلَيْمان » ؟ قال : رأيت يدي نزلت من السَّماء، وهي تستشيلني (24) . لمَّا صرع زَيْد بن صُوحان رحمه الله يوم الجمل ، جاء أمير المؤمنين عليه السلام حَتَّى جلس عند رأسه ، فقال : « رَحَمِكَ اللّه ُ يا زَيْدُ ، قَد كُنتَ خَفيفَ المَؤونَةِ ، عَظيمَ المَعُونَةِ » . قال : فرفع زَيْد رأسه إليه ، وقال : وأنت، فجزاك اللّه ُ خيرا يا أمير المؤمنين ، فواللّه ِ ، ما عَلِمتُكَ إلاّ باللّه ِ عليما ، وفي أمّ الكتابِ عَليما حكيما ، وإنَّ اللّه َ في صَدرِكَ لَعظِيمٌ ، واللّه ِ ، ما قاتَلتُ مَعَكَ علَى جَهالَةٍ ، ولكنّي سَمعِتُ أمّ سَلَمة ، زوجَ النَّبيّ صلى الله عليه و آله تقول : سَمِعتُ رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يقول : مَن كُنتُ مولاهُ فعليٌّ مَولاهُ ، اللَّهمَّ والِ مَن والاهُ ، وَعادِ مَن عاداهُ ، وانصُر مَن نَصَرَهُ ، واخذُل مَن خَذَلَهُ ، فَكَرِهتُ واللّه ِ ، أن أخذلَكَ فيَخذلُنِيَ اللّه ُ . قال الفضل بن شاذان : . . . ثُمَّ عرف النَّاس بعده، فمن التَّابعين ورؤسائهم وزُهَّادهم زَيْد بن صُوحان (25) . [ وزيد فيمن عدَّه ابن أبي الحديد من القائلين بتفضيل عليٍّ عليه السلام فقال ] : من قال بتفضيله على النَّاس كافّة من التَّابعين فَخَلْقٌ كثير، كأويس القرني ، وزَيْد بن صُوحان (26) . وقد عدّه الشَّيخ رحمه الله ، في رجاله، من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً : إنَّه كان من الأبدال، قتل يوم الجمل (27) . وفي الاختصاص عن أبي جعفر عليه السلام قال : « شَهِدَ مَعَ عَلِيّ بنِ أبي طالبِ عليه السلام من التَّابعين، ثلاثةُ نَفَرٍ بصِفِّينَ ، شَهِدَ لَهُم رسُول اللّه ِ صلى الله عليه و آله بالجنَّةِ، ولم يَرَهُم : أويسُ القرنيّ ، وزَيْدُ بنُ صُوحان العبدي ، وجُنْدُبُ الخيرِ الأزْدِيّ ، رحمة اللّه عليهم (28) . وعن الأصبغ بن نباتة قال : لمَّا أن أصيب زَيْد بن صُوحان يوم الجمل ، أتاه عليّ عليه السلام وبه رمق ، فوقف عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فهو لِما به فقال : « رَحَمِكَ اللّه ُ يا زَيْدُ فَواللّه ِ ما عَرَفناكَ إلاّ خَفِيفَ المؤونةِ كَثِيرَ المَعونَةِ » . قال : فرفع إليه رأسه ، فقال : وَأنتَ يَرحَمُكَ اللّه ُ ، فو اللّه ما عَرَفتُكَ إلاّ باللّه ِ عالِما ، وبآياتِهِ عارفا ، واللّه ِ ، ما قاتلتُ مَعَكَ مِن جَهلٍ ، ولكنّي سَمِعتُ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمانِ يقول : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « عليّ أميرُ البررة ، وقاتِلُ الفَجَرة ، مَنصورٌ مَن نَصَرهُ ، مَخذولٌ مَن خَذَلَهُ ، ألا وإنَّ الحقَّ مَعَهُ ، ألا وإنَّ الحقَّ مَعهُ يَتبَعُهُ ، ألا فَمِيلوا مَعَهُ » (29) . [ نقل في المعيار والموازنة كلاما له في الكوفة ، يقرِّظ عليَّا عليه السلام ويستنفر قال : ثُمَّ قام زَيْد بن صُوحان : فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قال : أيُّها النَّاس ، ما في اللّه ولا في نبيّه من شكّ، ولا بالحقّ والباطل من خفاء ، وإنَّكم على أمر جدد ، وصراط قيّم ، إنَّ بيعةَ عليٍّ بَيعةٌ مَرضِيَّةٌ ، لا تُقبض عنها يدُ مُوقِنٍ ولا يبسُطُ إليها مُخطي كفّهُ . أيُّها النَّاس، هل تعلمون لأميرِ المؤمنينَ عليٍّ من خَلَفٍ ؟ هَل تَنقَمونَ لَهُ سابِقَةً ؟ أو تَذمّونَ لَهُ لاحِقَةً ؟ أو تَرَونَ بِهِ أوَدَا ؟ أو تَخافونَ مِنهُ جَهلاً ؟ أوَ ليسَ هو صاحِبَ المواطنِ الَّتي من فضلها لا تعدلون به ؟ فَمَن عَمودُ هذا الأمرِ ونظامُهُ إلاّ هُوَ ؟ وقَد جاءنا أمرُ اللّه ِ ، وسَمعِناهُ قبل مَجيئِهِ ، ولابدَّ لَهُ من أن يتمَّ كأنِّي أنظرُ إليهِ . ثُمَّ رفع صوته ينادي : عِبادَ اللّه ِ ، إنِّي لَكُم ناصِحٌ ، وعَلَيكُم مُشفِقٌ ، أُحِبُّ أن تَرشُدوا ولا تغوُوا ، وَإنَّهُ لابدَّ لهذا الدِّين مِن والٍ يُنصِفُ الضَّعيفَ مِنَ الشَّديدِ ، ويأخَذُ للمَظلومِ بِحَقِّهِ مِنَ الظَّالمِ ، ويُقيِمُ كِتابَ اللّه ِ ، ويُحيي سُنَّةَ مُحمَّدٍ صلى الله عليه و آله . ألا وإنَّه لَيسَ أحدٌ أفقَهَ في دينِ اللّه ِ ، ولا أعلَم بكتابِ اللّه ِ ، ولا أقربَ مِن رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله مِن أميرِ المُؤمنِينَ عليِّ بنِ أبي طالب ٍ ، فانفِروا إلى أميرِ المُؤمِنين َ، وسيّد المسلمين ، وسيروا على اسمِ اللّه ِ ، فإنَّا سائِرونَ ، « أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ » (30) . (31) وفي الطَّبقات في ترجمة صَعْصَعَة : وكان خطيبا ، وكان من أصحاب عليّ بن أبي طالب ، وشهد معه الجمل ، هو وأخواه زَيْد ٌ وسيحان ُ ابنا صُوحان ، وكان سَيحانُ الخطيبَ قَبلَ صَعْصَعَةَ ، وكانَت الرَّايةُ يَومَ الجمل ِ في يَدِهِ ، فَقُتِلَ فأخذها زَيْدٌ فَقُتِلَ ، فأخذها صَعْصَعَة (32) . قال المسعودي في مروج الذَّهب : فقال ابن عبَّاس له ] أي لصَعْصَعَة ]: فأين أخواك منك يا بن صُوحان ؟ صِفْهُما لِأَعرِفَ وزَنكُم ، قال : أمَّا زَيْد فكما قال أخو غَنِيّ : فَتىً لا يُبالي أنْ يَكونَ بِوَجْهِهِإذا سَدَّ خلاَّتِ الكِرامِ شُحُوبُ إذا ما تَرَاآهُ الرِّجَالُ تحفَّظُوافلم ينطِقُوا العوراَءَ وهوَ قَرِيبُ حَلِيفُ النَّدى يَدْعوالنَّدى فَيُجِيبُهُإِلَيهِ وَيَدعُوُه النَّدى فَيُجِيبُ يَبيتُ النّدى يا أُمَّ عَمْروضَجِيعَهُإذا لم يَكُن في المُنْقِياتِ حَلُوبُ كأنَّ بُيوتَ الحيِّ ما لَمْ يَكُنْ بِهابَسَابِسُ ما يُلْفَى بِهِنَّ عَرِيبُ في أبيات ، كان واللّه ِ ، يا بن عبَّاس عظيمَ المُروءةِ ، شريفَ الاُخُوَّةِ ، جليلَ الخطرِ ، بعيدَ الأثرِ ، كَميشَ العُروَةِ ، أليفَ البَدوَةِ ، سَلِيمَ جَوانِحِ الصَّدرِ ، قَليلَ وَساوِسِ الدّهرِ ، ذاكرا للّه ِ طرفَيِ النَّهار وَزُلَفا من اللّيل ، الجوع والشّبع عنده سيّان ، لا يُنافِسُ في الدُّنيا ، وأقلّ أصحابه مَن يُنَافِسُ فيها ، يُطيلُ السّكوتَ ، ويحفَظُ الكلامَ ، وإن نَطَقَ نَطَقَ بعُقَامٍ ، يَهرَبُ مِنُه الدُعَّار الأشرار ، وَيألَفُهُ الأحرار الأخيار ، فقال ابن عبَّاس : ما ظَنُّكَ بِرَجُلٍ مِن أهلِ الجنَّة، رَحِمَ اللّه ُ زَيْد ا (33) . زيد بن صُوحان بن حُجْر العبدي أخو صَعْصَعَة وسيحان . كان خطيبا (34) مصقعا وشجاعا ثابت الخُطى (35) ، وكان من العظماء ، والزُّهَّاد ، والأبدال (36) ، ومن أصحاب أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام الأوفياءِ (37) . أسلم في عَهدِ النَّبيّ صلى الله عليه و آله فعُدَّ مِنَ الصَّحابة ِ (38) . وله وفادة على النَّبيّ صلى الله عليه و آله (39) . وكان لزيد لسان ناطق بالحقّ مبيّن للحقائق ، فلم يُطق عثمان وجوده بالكوفة ، فنفاه إلى الشَّام (40) . وعندما بلور الثّوار تحرّكهم المناهض لعثمان ، التحق بهم أهل الكوفة في أربع مجاميع ؛ كان زَيْدٌ على رأس أحدها (41) . واشترك في حرب الجمل (42) ، وأخبر بشهادته (43) . كتبت إليه عائِشَةُ تدعوه إلى نُصرتها ، فلمّا قرأ كتابها نطق بكلام رائع نابه . . . (44) . كان لسانا ناطقا معبّرا في الدِّفاع عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان له باعٌ في دعمه وحمايته . (45) . وفي تاريخ مدينة دمشق عن أبي سُلَيْمان : لمّا ورد علينا سَلْمان الفارسِيّ أتيناه نستقرئه القرآن ، فقال : إنّ القرآن عربي فاستقرئوه رجلاً عربيّا . وكان يقرئنا زَيْد بن صوحان ، ويأخذ عليه سَلْمان ، فإذا أخطأ ردَّ عليه سَلْمان (46) . وعن أبي قُدامَة : كان سَلْمان علينا بالمَدائِن ، وهو أميرنا ، فقال : إنّا اُمرنا أن لا نؤمّكم ، تقدّم يا زَيْد ، فكان زَيْد بن صوحان يؤمّنا ويخطبنا (47) . وفي الطبقات الكبرى عن مِلْحان بن ثروان : إنَّ سَلْمان كان يقول لزيد بن صوحان يوم الجمعة : قُم فَذَكِّر قَومَك (48) . وعن ابن أبي الهُذيل : دعا عمر بن الخَطَّاب زَيْد بن صوحان فضَفَنه (49) على الرَّحل كما تَضفنون (50) اُمراءكم ، ثمّ التفت إلى النَّاس فقال : اصنعوا هذا بزيد وأصحاب زَيْد (51) . عن عبد اللّه بن أبي الهذيل : إنّ وفد أهل الكوفة قدموا على عمر ، وفيهم زَيْد بن صوحان . . . وجعل عمر يرحل لزيد ، وقال : يا أهل الكوفة ، هكذا فاصنعوا بزيد وإلاّ عذّبتكم (52) . وعن إبراهيم : كان زَيْد بن صوحان يُحدّث ، فقال أعرابي : إنّ حديثك ليُعجِبني، وإن يدك لتُريبني . فقال : أ وَ ما تراها الشّمال ؟ فقال : واللّه ِ ما أدري، اليمين يقطعون أم الشّمال ؟ فقال زَيْد : صدق اللّه « الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَ نِفَاقًا وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ » (53)(54) . وفي البرصان والعرجان : زَيْدُ بن صوحان العبدي ، الخطيب الفارس القائد ، وفي الحديث المرفوع : « يَسبِقُهُ عُضوٌ مِنهُ إلى الجَنّةِ » . وزَيْد هو الَّذي قال لعليّ بن أبي طالب رحمة اللّه عليهما : إنّي مقتولٌ غدا . قال :« وَلِمَ » ؟ قال : رأيت يدي في المنام، حتَّى نزلت من السَّماء فاستشلت يدي . فلمّا قتله عمير بن يثربي مبارزة ، ومرّ به عليّ بن أبي طالب وهو مقتول، فوقف وقال : « أَما واللّه ِ ما عَلِمتُكَ إلاّ حاضِرَ المَعونَةِ ، خَفِيفَ المَؤونَةِ » . (55)
.
ص: 125
. .
ص: 126
. .
ص: 127
. .
ص: 128
. .
ص: 129
. .
ص: 130
. .
ص: 131
. .
ص: 132
. .
ص: 133
. .
ص: 134
. .
ص: 135
. .
ص: 136
. .
ص: 137
اُوَيْسٌ القَرَنِيّهو اُويسُ بنُ عامرٍ بنِ جَزْء المُرادي القَرَنِي . كان طاهر الفطرة ، سَليم الفكرة ، ووجها متألّقا في التَّاريخ الإسلامي . أسلم على عهد النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، لكنّه ما رآه (1) . لذا عُدَّ في التَّابعين . وصفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بأنّه أفضل التَّابعين وأعلاهم شأنا (2) ، وصرّح بأنّه يشفع لخلق كثيرين يوم القيامة (3) . وكان في عداد الزُّهَّادِ المشهورينَ (4) ، وأحد ثمانيتهم المعروفين (5) . لم يكن له حضور مشهور فيالقضايا الاجتماعيّة، وكان نَصِبا (6) في العبادة، ونُقل أنّه ربَّما أمضى اللَّيل كلّه ساجدا. شهد مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الجمل ، وصفِّين ، وعاهده على الشَّهادة في صفِّين . وفيها نال ذلك الوسام مخضبا بدمه ، ودُفن هناك (7) . وقد وصف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام اُويسا ، وصفا يبيّن منزلته الرَّفيعة ، حين قال : « إذا كانَ يَومُ القِيامَةِ نادى مُنادٍ . . . أينَ حوارِيّو عليِّ بنِ أَبي طالِبٍ . . . فَيَقومُ عَمْرو بنُ الحَمِق . . . واُويسُ القَرَنِيِّ » (8) . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « خَليلي مِن هذهِ الاُمّةِ اُويسُ القَرَنِي » (9) . وفي صحيح مسلم عن اُسير بن جابر : كان عمر بن الخَطَّاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن ، سألهم : أفيكم اُويس بن عامر ؟ حتَّى أتى على اُويس ، فقال : أنت اُويس بن عامر ؟ قال : نعم ، قال : من مُراد ، ثمّ من قَرَن ؟ قال : نعم ، قال : فكان بِكَ برص فبرأت منه إلاّ موضع درهم ؟ قال : نعم .قال : لك والدة ؟ قال : نعم . قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « يَأتي عَلَيكُم اُويسُ بنُ عامِر مع أمدادِ أهلِ اليَمن ِ من مُراد ، ثمّ مِن قَرَن ، كانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرأ مِنهُ إلاّ مَوضِعَ دِرهَمٍ ، لَهُ والِدَةٌ هو بها بَرّ ، لَو أقسمَ علَى اللّه ِ لأبرَّهُ ؛ فإن استَطَعتَ أن يَستغفِرَ لَكَ فافعَل » فاستغفرْ لي ، فاستغفرَ له . فقال له عمر : أين تريد ؟ قال : الكوفة ، قال : أ لا أكتب لك إلى عاملها ؟ قال : أكون في غبراء (10) النَّاس أحبّ إليَّ . قال : فلمّا كان من العام المقبل حجّ رجل من أشرافهم ، فوافق عمر ، فسأله عن اُويس ، قال : تركته رثّ البيت ، قليلَ المتاعِ (11) . وفي المستدرك على الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : لمّا كان يومُ صفِّين نادى منادٍ من أصحاب معاوية أصحابَ عليّ : أفيكم اُويسُ القَرَني ؟ قالوا : نعم ، فضرب دابّته حتَّى دخل معهم ، ثمّ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « خَيرُ التَّابِعينَ اُويسُ القَرَنِيّ » (12) . وفي حلية الأولياء عن أصبغ بن زَيْد : إنّما منعَ اُويسا أن يقدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله برُّه باُمّه (13) . وفي خصائص الأئمّة _ عن الأصبغ بن نباتة _ : كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام بصفِّين فبايعه تسعة وتسعون رجلاً ، ثمّ قال : أينَ تَمامُ المئةِ ؟ فَقَد عَهِدَ إليَّ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أنّه يُبايُعِني في هذا اليومِ مئةُ رَجُلٍ ، فقال : فجاء رجل عليه قباء صوف، متقلّد سيفين ، فقال : هلمّ يدك اُبايعك ، فقال على ما تبايعني ؟ قال : على بذل مهجة نفسي دونك . قال : وَمَن أنتَ ، قال : اُويس القرني ، فبايعه فلم يزل يُقاتل بين يديه حتَّى قُتل ، فوُجد في الرَّجَّالة مقتولاً (14) . وقال الإمام الكاظم عليه السلام : « إذا كانَ يَومُ القِيامَةِ . . . يُنادي مُنادٍ : أين حواريّو عليّ بنِ أبي طالبٍ عليه السلام وَصيّ محمّدِ بنِ عبدِ اللّه ِ رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ؟ فيقوم عَمْرو بن الحَمِق الخُزاعِيّ ، ومُحمّد بنُ أبي بَكرٍ ، ومَيثَمُ بنُ يَحْيَى التَّمَّار ُ مَولَى بَني أسَد ٍ ، وَاُويسُ القَرَني » (15) . وفي الأمالي للطوسي : قيل لاُويس بن عامر القرني : كيف أصبحت يا أبا عامر ؟ قال : ما ظنُّكُم بمن يرحل إلى الآخرة كلّ يوم مرحلة، لا يدري إذا انقضى سفره أعَلَى جنّة يرد أم على نار ؟ (16) وفي حلية الأولياء عن أصبغ بن زَيْد : كان اُويس القرني إذا أمسى يقول : هذه ليلة الرُّكوع ، فيركع حتَّى يُصبِ_ح . وكان يقول إذا أمسى : هذه ليلة السُّجود ، فيسجد حتَّى يُصبح . وكان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الفضل من الطَّعام والثِّياب ، ثمّ يقول : اللهمّ من مات جوعا فلا تؤاخذني به ، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به (17) .
.
ص: 138
. .
ص: 139
. .
ص: 140
. .
ص: 141
سَيْحانُ بنُ صُوحان العبديبالسين المهملة ، والياء المثنّاة من تحت ، والحاء المهملة كما في القاموس عن ابن الأثير في الكامل ، وسَبْحان : بالباء المُوحَّدة بدل الياء كما عنونه أيضا في التَّنقيح والقاموس (1) ، والصَّحيح الأوَّل كما صرَّح به الجزري ، ويؤيّده نسخة الطَّبقات . كان أحد الأمراء في قتال أهل الرِّدَّة ، وقد تقدّم أنَّهم كانوا لا يؤمّرون إلاّ الصَّحابة ، ويقال: إنَّ سَيْحان قتل يوم الجمل (2) . كان هو وإخوته خطباء ، خطب هو يوم استنفار أهل الكوفة إلى الجمل ، وقال : « أيُّها النَّاسُ ، إنَّهُ لا بُدَّ لِهذا الأَمرِ ، وهَؤلاءِ النَّاسِ مِن وَالٍ يَدفَعُ الظَّالِمَ ، وَيُعِزّ المَظلومَ ، وَيَجمَعُ النَّاسَ ، وهذا واليكم ، يَدعوكُم لِيَنظُرَ فيما بَينَهُ وبَينَ صاحِبَيهِ ، وهو المأمونُ على الأمَّة، الفقيهُ في الدِّينِ ، فمن نهض إلَيهِ فَإنَّا سائِرونَ مَعَهُ » (3) . من خطبائهم _ عبد القَيس _ المشهورين : صَعْصَعَة بن صُوحان وزَيْد بن صُوحان وسَيْحان بن صُوحان (4) . وقد تقدَّم عن الطَّبقات : أنَّ سَيْحان كان الخطيب قبل صَعْصَعَة ، وكان ممّا قال معاوية في أبناء صُوحان : أنَّهم مخاريق الكلام (5) . قال الطَّبري _ في أخبار المرتدّين بعد النَّبيّ صلى الله عليه و آله _ : وقد رأى المسلمون الخلَلَ ، ورأى المشركون الظَفَر ، جاءت المسلمين موادُّهم العُظْمى من بني ناجية ، وعليهم الخِرّيت بن راشد ، ومن عبد القَيس وعليهم سَيْحان بن صُوحان . . . (6) . ودفن مع أخيه زَيْد في قبرٍ واحدٍ (7) .
.
ص: 142
صَعْصَعَة بن صُوحان العبديهو صعصعةُ بن صُوحان بن حُجْر . . . بنُ لكيز بن أفصى بن عبد القَيس الرِّبْعيّ العبدي ، كان مسلما على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولم يلقه، صَغُر عن ذلك (1) . عدَّه الشَّيخ رحمه الله من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وعدَّهُ البرقيّ من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام (2) . قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « ما كانَ مع أميرِ المؤمنين َ عليه السلام من يَعرِفُ حَقَّهُ إلاّ، صَعْصَعَة وأصحابه (3) . وكان صَعْصَعَةُ مِنَ الَّذِين قالوا بتفضيل عليّ عليه السلام على النّاس كافّة (4) . كان سيّدا من سادات قومه عبد القَيس ، وكانَ فَصيحا ، خطيبا ، عاقلاً ، لَسِنا ، دَيِّنا ، فاضلاً ، بليغا ، يُعَدّ في أصحاب عليّ عليه السلام ، وله مع معاوية مواقف ، قال الشَّعْبي : كنت أتعلّم منه الخطب (5) . وقال الجاحظ : وشأن عبد القَيس عَجَبٌ ، وذلك : أنَّهم بعد مُحارَبة إياد ٍ تفرَّقوا فرقَتين ، ففِرقةٌ وقعتْ بعُمَان ، وشِقِّ عُمَان ، وهم خطباء العرب . . . ومن خطبائهم المشهورين، صَعْصَعَة بن صُوحان ، وزَيْد بن صُوحان وسَيْحان بن صُوحان (6) . وكان يضرب بخطبته المثل ، ويقال هو أخطب من صَعْصَعَة (7) . وقد مدحه أمير المؤمنين عليه السلام بالفصاحة، فقال فيه : « هذا الخطيب الشَّحشح » يريد به : الماهر بالخطبة الماضي فيها ، وقال ابن أبي الحديد : هذه الكلمة قالها عليّ عليه السلام لصَعْصَعَة بن صُوحان العبدي رحمه الله ، وكفى صَعْصَعَة بها فخرا، أن يكون مثل عليّ عليه السلام يثني عليه بالمهارة وفصاحة اللّسان ، وكان صَعْصَعَة من أفصح النَّاس (8) . حضر صَعْصَعَة مجلس عمر بن الخَطَّاب ، وهو يشاور أصحابه في مال أرسله أبو موسى ، وكان ألف ألف درهم، فقسَّمه وفَضُل منه فضلة، ماذا يصنع به ؟ فقام صَعْصَعَة _ وهو غلام شابّ _ فقال : يا أمير المؤمنين، إنَّما تُشاوِرُ النَّاسَ فيما لَم ينزل فِيهِ قرآن ، فأمَّا ما نزلَ بِهِ القُرآن ، فضعْه مواضعه الَّتي وضعه اللّه _ عز و جل _ فيها . فقال : صدقت (9) . وفي الغدير للأميني : لمَّا عزل عثمان الوليد بن عُقْبَة عن الكوفة ، ولاّها سعيد بن العاص ، وأمره بمداراة أهلها ، فكان يجالس قرّاءها ، ووجوه أهلها ، ويسامرهم، فيجتمع عنده منهم : مالك بن الحارث الأشْتَر النَّخَعيّ ، وزَيد وصَعْصَعَة ابنا صُوحان العبديّان . . . فإنَّهم لَعِندَهُ وقد صلّوا العصر، إذ تذاكروا السَّواد والجبل ، ففضّلوا السَّواد ، وقالوا : هو ينبت ما ينبت الجبل وله هذا النَّخل ، وكان حَسَّان بن مَحْدُوج الذُّهْلِيّ ، الَّذي ابتدأ الكلام في ذلك ، فقال عبد الرَّحمن بن خُنيس الأسدي _ صاحب شرطة _ : لوددت أنَّهُ للأمير ، وإنَّ لكم أفضل منه . فقال له الأشْتَر : تمنَّ للأمير أفضل منه ، ولا تمنَّ له أموالنا . فقال عبد الرَّحمن : ما يضرّك من تمنّى حَتَّى تزوي ما بين عينيك ، فواللّه ِ ، لو شاء كان له . فقال الأشْتَر : واللّه ، لو رام ذلك ما قدر عليه . فغضب سعيد ، وقال : إنَّما السَّواد بستان لقريش . فقال الأشْتَر : أتجعلُ مَراكِزَ رِماحِنا، وما أفاء اللّه علينا، بستانا لك ولقومك ؟ واللّه ، لو رامه أحدٌ لقُرع قرعا يتصأصأ (10) منه . ووثب بابن خنيس فأخذته الأيدي . فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان ، وقال : إنِّي لا أملك من الكوفة مع الأشْتَر وأصحابه . . . فكتب إليه ( عثمان ) أن : سيِّرهم إلى الشَّام . . . فسيَّر سعيد الأشْتَر ، ومن كان وثب مع الأشْتَر ، وهم : زَيْد وصَعْصَعَة ابنا صُوحان . . . ( فنزلوا دمشق ) فبرَّهم معاوية وأكرمهم ، ثُمَّ إنَّه جرى بينه وبين الأشْتَر قولٌ، حَتَّى تغالظا فحبسه معاوية . . . فقال لهم معاوية : إنَّكم قومٌ من العرب ، ذووا أسنان وألسنة ، وقد أدركتم بالإسلام شرفا . . . وقد بلغني أنَّكم ذممتم قريشا ، ونقمتم على الولاة فيها ، ولولا قريش لكنتم أذلَّة ، إنَّ أئمَّتكم لكم جُنَّة، فلا تفرَّقوا عن جُنَّتكم . . . . فقال له صَعْصَعَة بن صُوحان : أمَّا قريش ، فإنَّها لم تكن أكثر العرب ، ولا أمنعها في الجاهليَّة ، وإنَّ غيرها من العرب لأكثر منها وأمنع . فقال معاوية : إنَّك لخطيب القوم ، ولا أرى لك عقلاً ، وقد عرفتكم الآن ، وعلمت أنَّ الَّذي أغراكم قلّة العقول . . . . وروى الحسن المَدائِني : أنَّه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات والمخاطبات بينهم ، وإنَّ معاوية قال لهم في جملة ما قاله : إنَّ قريشا قد عرفت أنَّ أبا سُفْيَان أكرمها ، وابن أكرمها، إلاّ ما جعل اللّه لنبيِّه صلى الله عليه و آله ، فإنَّه انتجبه ، وأكرمه ، ولو أنَّ أبا سُفْيَان ولد النَّاس كلّهم لكانوا حلماء . فقال له صَعْصَعَة بن صُوحان : كذبت، وقد وَلدهم خيرٌ من أبي سُفْيَان ، من خلقه اللّه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البَرُّ والفاجر، والكيِّس والأحمق . قال : ومن المجالس الَّتي دارت بينهم ، أنَّ معاوية قال لهم : أيُّها القوم ردّوا خيرا ، واسكنوا ، وتفكّروا ، وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين ، فاطلبوه وأطيعوني . فقال له صَعْصَعَة : لست بأهل لذلك ، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية اللّه . فقال : إنَّ أوَّل كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى اللّه ، وطاعة رسوله ، وأن تعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرَّقوا . فقال صَعْصَعَة : بل أمرت بالفرقة ، وخلاف ما جاء به النَّبيّ صلى الله عليه و آله . فقال : إن كنتُ فعلتُ فإنِّي الآن أتوب، وآمركم بتقوى اللّه ، وطاعته ، ولزوم الجماعة ، وأن توقّروا أئمَّتكم ، وتطيعوهم . فقال صَعْصَعَة : إذا كنت تبت، فإنَّا نأمرك أن تعتزل أمرك ؛ فإنَّ في المسلمين من هو أحقُّ به منك، ممَّن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من أبيك ، وهو أحسن قَدما في الإسلام منك . فقال معاوية : إنَّ لي في الإسلام لقدما ، وإن كان غيري أحسن قدما منِّي ، لكنَّه ليس في زماني أحدٌ أقوى على ما أنا فيه منِّي ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخَطَّاب ، فلو كان غيري أقوى منِّي، لم يكن عند عمر هوادة لي ولغيري . . . (11) . [ وعندما ] حبس معاوية صَعْصَعَة بن صُوحان العبدي ، وعبد اللّه بن الكَوَّاء اليَشكُري ، ورجالاً من أصحاب عليّ ، مع رجال من قريش . فدخل عليهم معاوية يوما ، فقال : نَشَدتُكُم باللّه ِ إلاّ ما قلتم حقَّا وصدقا ، أيَّ الخلفاء رأيتموني ؟ فقال ابن الكَوَّاء : لولا أنَّك عزمت علينا، ما قلنا ، لأنَّك جبَّارٌ عنيد ، لا تراقب اللّه في قتل الأخيار ، ولكنَّا نقول : إنَّك ما علمنا واسِعُ الدُّنيا ، ضيِّق الآخرة ، قريب الثّرى ، بعيد المَرْعَى ، تجعلُ الظُّلماتِ نورا ، والنُّورَ ظُلُماتٍ ، فقال معاوية : إنَّ اللّه أكرم هذا الأمر بأهل الشَّام الذَّابِّينَ عن بَيْضته ، التَّاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق . . . . ثُمَّ تكلَّم صَعْصَعَة فقال : تكلَّمتَ يا بنَ أبي سُفْيَان َ فأبلَغتَ، ولم تَقصُر عمَّا أردتَ ، وليس الأمرُ على ما ذكرت ، أنَّى يكونُ الخليفةُ مَن مَلَكَ النَّاسَ قهرا ، ودَانَهم كِبرا ، واستولى بأسبابِ الباطلِ كَذِبا ومَكرا ؟ أما واللّه ِ ، مالَكَ في يَومِ بَدر ٍ مضرب ولا مَرمى ، ومَا كُنتَ فيه إلاّ كما قال القائل : « لا حلِّي ولا سيري » ، ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنَّفير ممَّن أجْلَبَ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإنَّما أنتَ طليقٌ ابن طَلِيقٍ ، أطلقكما رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فأنَّى تَصلُحُ الخِلافَةُ لِطَليقٍ ؟ فقال معاوية : لولا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول : قابَلتُ جَهلَهُمُ حِلما ومَغفِرَةًوالعفو عَن قُدرَةٍ ضَرْبٌ مِنَ الكَرَمِ (12) قال الأحمدي عفى اللّه عنه : ولِصَعْصَعَةَ مَواقفُ ساعية مع معاوية في خلافة عثمان ، حينما نُفي إلى الشَّام ، وفي خلافة عليّ عليه السلام حينما أرسله مع الكتاب للاحتجاج، أو أرسله في صفِّين حين منع معاوية الماء ، وبعد شهادة أمير المؤمنين ، بعد دخول عليه السلام معاوية الكوفة ، وحينما قَدِمَ وفْدُ العِراق إلى الشَّام (13) . كما أنَّ له موقفا مع عثمان بن عفَّان . (14) وسيأتي في مكانه إن شاء اللّه . شَهِدَ صَعْصَعَة مشاهد عليّ عليه السلام كلّها (15) ، وجرح في الجمل ، وكان على عبد القَيس في صفِّين (16) . قال المسعودي : لمَّا انصرف عليّ من الجمل قال لآذِنهِ : « مَنْ بِالبابِ مِن وُجوهِ العَرَب ِ ؟ » قال : محمَّد بن عمير بن عُطارد التَّيمي ّ ، والأحنف بن قَيس ، وصَعْصَعَة بن صُوحان العبدي ، في رجال سمّاهم ، فقال : إئذَن لهم ، فدخلوا فسلّموا عليه بالخلافة ، فقال لهم : أنتم وجوه العرب عندي ، ورؤساء أصحابي ، فأشيروا عليَّ في أمر هذا الغلام المُترَف _ يعني معاوية _ فافتنَّتْ بهم المَشورة عليه ، فقال صَعْصَعَة : إنَّ معاوية أتْرَفَه الهوى ، وحُبِّبَت إليهِ الدُّنيا ، فَهانَت عَليهِ مَصارِعُ الرِّجالِ ، وَابتاعَ آخِرَتَهُ بِدُنياهُم ، فإن تَعمَل فيهِ بِرَأيٍ تَرشُدْ وتُصِبْ ، إنْ شاءَ اللّه ُ ، والتَّوفيقُ باللّه ِ ، وبِرَسولِهِ ، وبِكَ يا أميرَ المُؤمِنين َ ، والرّأي أن تُرسِلَ لَهُ عَينا مِن عُيونِكَ ، وثقةً من ثِقاتِكَ بكِتابٍ تَدعوهُ إلى بيعَتِكَ ، فإن أجاب وأناب كانَ لَهُ مالَكَ ، وعَلَيهِ ما عَلَيكَ ، وإلاّ جاهدته وصبرت لقضاء اللّه ، حَتَّى يأتِيَكَ اليقينُ ، فقال عليّ : « عَزمتُ عَلَيكَ يا صَعْصَعَةُ ، إلاّ كَتبتَ الكِتابَ بِيدَيكَ ، وتَوجّهت َ بِهِ إلى مُعاوِيَةَ ، واجعل صَدرَ الكتابِ تحذيرا وتخويفا، وعَجزَهُ استِتابَةً واستنابَةً ، ولْيَكُن فاتِحَةُ الكِتابِ : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ، مِن عبدِ اللّه ِ عليٍّ أميرِ المُؤمِنين َ إلى معاوية ، سَلامٌ عَلَيكَ ، أمَّا بعدُ : ثُمَّ اكتب ما أشَرْتَ بِهِ عَلَيَّ ، واجعَل عُنوانَ الكتابِ : « أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ » (17) » . قال : اعْفِنِي من ذلك . قال : « عَزمتُ عَليكَ لَتفعلَنَّ » . قال : أفعل ، فخرج بالكتاب ، وتجهّزَ وسار حَتَّى ورد دمشق ، فأتى باب معاوية ، فقال لاِذنهِ : استأذِن لرسول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب _ وبالباب أزْفَلة (18) من بني أميّة _ فَأخَذَتهُ الأيدِي والنِّعالُ لِقَولِهِ ، وهو يقول : « أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي اللّه ُ » ، وكثُرتِ الجَلبَةُ واللَّغطُ ، فاتّصل ذلك بمعاوية ، فوجَّه مَن يكشفُ النَّاسَ عنه ، فكشفوا ، ثُمَّ أذِنَ لهم فدخلوا . فقال لهم : مَن هذا الرّجلُ ؟ فقالوا : رَجلٌ من العرب ، يقال له : صَعْصَعَة بن صُوحان ، معه كتاب من عليّ . فقال : واللّه ِ ، لقد بلَغني أمرُهُ ، هذا أحدُ سهامِ عليّ ، وخُطَباءِ العرب ِ ، ولقد كنت إلى لِقائِهِ شَيِّقا ، ائذن لَهُ يا غُلامُ . فدخل عليه فقال : السَّلام عليك يا بن أبي سُفْيَان ، هذا كِتابُ أميرِ المُؤمنِين َ . فقال معاوية : أما إنَّه لو كانت الرُّسُلُ تُقتلُ في جاهليَّةٍ أو إسلامٍ لَقتلتُك ، ثُمَّ اعترضه مُعاويةُ في الكلامِ ، وأراد أن يستخرجه ليعرف قريحته أطبعا أم تكلّفا ، فقال : مِمَّنِ الرَّجُلُ ؟ قال : من نزار ٍ . قال : وما كان نزار ٌ ؟ قال : كان إذا غزا نكسَ (19) ، وإذا لقي افترس ، وإذا انصرف احترس . قال : فمن أيّ أولاده أنت ؟ قال : مِن ربيعة . قال : وما كانَ ربيعة ُ ؟ قال : كان يُطيلُ النِّجادَ (20) ، ويَعُولُ العبادَ ، ويَضرِبُ ببقاعِ الأرضِ العِمَادَ . قال : فَمِن أيِّ أولادهِ أنتَ ؟ قال : من جدِيلَة َ . قال : وما كان جديلة ُ ؟ قال : كانَ في الحربِ سَيفا قاطِعا ، وفي المَكرُماتِ غَيثا نافِعا ، وفي اللِّقاءِ لَهَبا ساطعا . قال : فمن أيّ أولاده أنت ؟ قال : من عَبدِ القَيس . قال : وما كانَ عبدُ القَيس ؟ قال : كان خصيبا (21) خضرما (22) أبيض وهّابا لضيفه ما يجد ، ولا يسأل عمَّا فَقدَ ، كَثِيرَ المَرَقِ ، طيِّبَ العَرَقِ ، يَقومُ للناس مقامَ الغيثِ مِنَ السَّماءِ . قال : ويحك يا بن صُوحان ! فما تركت لهذا الحيّ من قريش مجْدا ولا فخْرا . قال : بلى واللّه ِ ، يا بن أبي سُفْيَان ، تركت لهم ما لا يصلح إلاّ بِهِم ، ولَهُم، تركت الأبيض والأحمر ، والأصفر والأشقر ، والسَّرير والمنبر ، والمُلك إلى المحشر ، وأنَّى لا يكون ذلك كذلك، وهم مَنَارُ اللّه ِ في الأرض، ونجومه في السَّماء ؟ ففرح معاوية ، وظَنَّ أنَّ كلامه يشتمل على قريش كلّها ، فقال : صدقت يا بن صُوحان ، إنَّ ذلِكَ لَكذلِكَ . فَعرفَ صَعْصَعَةُ ما أراد ، فقال : ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد ، بَعُدتُم عَن اُنُفِ المَرعى ، وعَلَوتُم عَن عَذبِ الماءِ . قال : فلم ذلك؟ ويلَكَ يا بنَ صُوحان ؟ قال : الويلُ لِأهل النَّارِ ، ذلِكَ لِبني هاشِم . قال : قُم ، فأخْرَجُوُهُ . فقال صَعْصَعَة : الصّدقُ يُنبئُ عَنكَ لا الوَعيدُ ، من أراد المشاجرة قبل المحاورة . فقال معاوية : لشيء ما سَوَّدَه قومُهُ ، وَدَدتُ واللّه ِ ، أنّى من صُلبِهِ ، ثُمَّ التَفتَ إلى بني أميَّة ، فقال : هكذا فلتَكُنِ الرِّجالُ . . . (23) . قال معاوية يوما _ وعنده صَعْصَعَة ، وكان قدم عليه بكتاب عليّ ، وعنده وجوه النَّاس _ : الأرضُ للّه ِ ، وأنا خَلِيفةُ اللّه ِ ، فما آخُذُ مِن مالِ اللّه ِ فهو لي ، وما تركتُ مِنهُ كان جائزا لي . فقال صَعْصَعَة : تُمَنِّيكَ نَفسُكَ ما لا يَكونُ جَهْلاً مُعاوِيَ لا تَأثَمِ فقال معاوية : يا صَعْصَعَةُ ، تعلّمتَ الكلامَ . قال : العِلمُ بالتَّعلُّم ، ومَن لا يعلَمُ يَجهلُ . قال معاوية : ما أحْوَجَكَ إلى أن أُذيقَكَ وَبَالَ أمرِكَ ! قال : ليس ذلِكَ بِيَدِكَ ، ذلك بِيَدِ الَّذي لا يُؤَخِّرُ نفسا إذا جاءَ أجلُها . قال : ومَن يَحولُ بَيني وبَينَكَ ؟ قال : الَّذي يَحولُ بَيَن المرءِ وقلبه . قال معاوية : اتَّسعَ بَطنُكَ للكلامِ كما اتَّسعَ بَطنُ البعيرِ للشعيرِ . قال : اتّسع بَطنُ مَن لا يشبَعُ ، ودعا عَلَيهِ مَن لا يجمَعُ (24) . شَهِدَ صَعْصَعَةُ بن صُوحان وَقعةَ صِفِّين ، وكان على عَبدِ القَيس ، وأرسَلَهُ أمير المُؤمنِينَ عليه السلام إلى معاوية حينما كان معه الماء (25) . أرسَلَهُ أميرُ المُؤمنينَ عليه السلام إلى الخوارج قبل وقعة النَّهروان ؛ إتماما للحُجَّةِ (26) . وفي الاختصاص : _ عن مِسْمَعِ بنِ عَبدِاللّه ِ البَصريّ عَن رجل _ : لمَّا بعث عليّ بن أبي طالب عليه السلام صَعْصَعَة بن صُوحان إلى الخوارج قالوا له : أرأيت لو كان عليٌّ معنا في موضعنا أتكون معه ؟ قال : نعم . قالوا : فأنت إذا مُقلِّدٌ عَلِيّا دِينَكَ ،ارجع فلا دِينَ لَكَ . فقال لهم صَعْصَعَة : وَيلَكُم، ألا أُقلّد من قلّد اللّه َ فأحسَنَ التَّقليدَ ، فاضطَلَعَ بأمرِ اللّه ِ صِدِّيقا، لم يزل أولم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا اشتدَّت الحرب قَدَّمه في لهواتها فَيَطَأُ صماخها بأخمصه (27) ، ويُخمِدُ لهبها بِحَدِّهِ، مكدودا في ذاتِ اللّه ِ، عَنهُ يعبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله والمسلمون ، فأنَّى تصرفون ؟ وأين تذهبون ؟ وإلى مَن ترغبون ؟ وعمَّن تَصدُفُون ؟ عن القمر الباهر ، والسِّراج الزَّاهر ، وصراطِ اللّه ِ المستقيم ، وسبيل اللّه المقيم (28) ، قاتَلَكُم اللّه ُ ، أنَّى تُؤفَكونَ ؟ أفي الصِّدِّيقِ الأكبرِ ، والغرض الأقصى تَرمونَ ؟ طاشَت عُقولُكُم ، وغارت حُلومُكُم ، وشاهَت وجوهُكُم ، لقد عَلَوتُمُ القُلَّةَ من الجَبَلِ ، وباعَدتُم العَلّةَ مِنَ النَّهلِ ، أتستهدِفونَ أميرَ المُؤمِنين َ صلواتُ اللّه ِ عَلَيهِ، ووصيّ رسول اللّه ِ صلى الله عليه و آله ؟ لَقد سوّلت لكم أنفسكم خُسرانا مبينا . فَبُعدا وسُحقا للكفرَةِ الظَّالمين ، عَدَلَ بِكُم عَنِ القصدِ الشَّيطانُ ، وعَمَّى لَكُم عن واضِحِ الحُجَّةِ الحِرمانُ . فقال عبد اللّه بن وهب الرَّاسبيّ : نطقت يا بن صُوحان بشقشقة بعير ، وهدرت فأطنبتَ في الهدير ، أبلغ صاحِبَكَ ، أنَّا مقاتلوه علَى حُكم اللّه ِ والتَّنزيلِ . . . فقال صَعْصَعَة : كأنِّي أنظر إليك يا أخا راسب ، مُترمِّلاً بدمائك ، يَحجَلُ الطَّيرُ بأشلائِكَ (29) ، لا تُجاب لَكم داعِيَةٌ ، ولا تُسمعُ لَكم واعِيَةٌ ، يستحلُّ ذلك منكم إمام هدى . . . (30) . ( قال أحمد بن النَّصر : كنت عند أبي الحسن الثَّاني _ الرضا _ عليه السلام ، قال : ولا أعلم إلاّ قام ونفض الفراش بيده ، ثُمَّ قال : لي يا أحمد ُ ، إنَّ أميرَ المُؤمنينَ عليه السلام ، عاد صَعْصَعَة بن صوحان في مَرَضِهِ ، فقال : « يا صَعْصَعَة، لا تَتَّخِذ عِيادَتي لَكَ اُبَّهَةً عَلَى قَومِكَ » . قال : فلمَّا قال أمير المؤمنين لصَعْصَعَة هذه المقالة ، قال صَعْصَعَة : بلى واللّه ِ ، أعدُّها مِنَّةً مِنَ اللّه ِ عَلَيَّ وفَضلاً . قال : فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « إن كُنتَ _ ما عَلِمتُكَ _ لَخفِيفَ المَؤونَةِ حَسَنَ المَعونَةِ » . قال : فقال صَعْصَعَةُ : وأنت واللّه ِ ، يا أمير المؤمنين ، ما عَلِمتُكَ إلاّ باللّه ِ عليما ، وبالمؤمنين رَؤوفا رَحِيما (31) . وإليكَ صورة أخرى للحديث : عن ابن نباتة قال : خرجنا مع أمير المؤمنين عليه السلام ، حَتَّى انتهينا إلى صَعْصَعَة بن صُوحان ، فإذا هو على فراشه، فلمَّا رأى عَلِيَّا عليه السلام خَفّ لَهُ ؛ فقال عليّ عليه السلام : « لا تتّخِذَنَّ زِيارَتَنا إيَّاكَ فَخرَا علَى قَومِكَ » . قال : لا ؛ يا أمير المؤمنين ، ولكن ذُخرا وأجرا . فقال لَهُ _ عليه السلام _ : « واللّه ِ ، ما كُنتُ عَلِمتُكَ إلاّ خَفيفَ المَؤونَةِ، كثيرَ المَعونَةِ » . فقال صَعْصَعَة : وأنت واللّه ِ ، يا أميرَ المُؤمِنينَ ، ما عَلِمتُكَ إلاّ أنَّكَ باللّه ِ لَعلِيمٌ ، وإنَّ اللّه َ في عَينِكَ لَعظِيمٌ ، وأنَّك في كتابِ اللّه ِ لَعلِيٌّ حكيمٌ ، وأنَّك بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ (32) . ولمَّا ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين عليه السلام ، جاء صَعْصَعَة عائدا ، فلم يكن له عليه إذنٌ ، فقال صَعْصَعَةُ للآذِنِ : قل له: يَرحَمُكَ اللّه ُ يا أميرَ المُؤمِنين َ ، حيّا وميّتا ، فواللّه ، لقد كانَ اللّه ُ في صَدرِكَ عَظِيما ، ولَقد كُنتَ بِذاتِ اللّه ِ علِيما ، فأبلَغَهُ الآذِنُ مقالة صَعْصَعَة ، فقال له عليٌّ عليه السلام : قُل لَه: وأنتَ يَرحَمُكَ اللّه ُ ، فَلَقد كُنتَ خَفيفَ المَؤونَةِ ، كثيرَ المَعونَةِ (33) . ( قال الرَّاوي : ) ولمَّا اُلحد أمير المؤمنين عليه السلام ، وقف صَعْصَعَة بن صُوحان العبدي رضى الله عنهعلى القبر ، ووضع إحدى يديه على فؤاده، والأُخرى قد أخذ بها التُّراب ويضرب به رأسه ، ثُمَّ قال : بأبي أنت وأمّي يا أمير المؤمنين ، ثُمَّ قال : هنيئا لك يا أبا الحسن ، فلقد طاب مَولِدُكَ ، وقَوِيَ صَبرُكَ ، وَعَظُمَ جِهادُكَ ، وظَفَرتَ بِرَأيِكَ ، ورَبِحَت تِجارَتُكَ ، وقَدِمتَ علَى خَالِقِكَ ، فتلقَّاكَ اللّه ُ بِبِشارَتِهِ ، وحفَّتكَ مَلائِكَتُهُ ، واستَقرَرتَ في جِوارِ المُصطَفى ، فأكرمَكَ اللّه ُ بِجِوارهِ ، ولَحِقتَ بِدَرَجةِ أخيكَ المُصطَفى ، وشَرِبتَ بِكأسِهِ الأوفى ، فأسألُ اللّه َ أن يَمُنَّ عَلَينا باقتِفائِنا أَثَرَكَ والعملِ بِسِيرتِكَ ، والموالاةِ لأوليائِكَ ، والمعاداةِ لأعدَائِكَ ، وأن يحشرنا في زُمرةِ أوليائِكَ ، فَقد نِلتَ ما لَم يَنلهُ أحدٌ ، وأدركتَ ما لَم يُدرِكهُ أحَدٌ ، وجاهَدتَ في سبيلِ ربِّكَ _ بَينَ يَدَي أخِيكَ المُصطَفى _ حَقَّ جِهادِهِ ، وقُمتَ بِدينِ اللّه ِ حَقَّ القيامِ ، حَتَّى أقمتَ السُّننَ ، وأبَّرت الفتن (34) ، واستقامَ الإسلامُ ، وانتظَمَ الإيمانُ ، فَعَليكَ منِّي أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ ، بِكَ اشتدَّ ظهرُ المُؤمِنينَ ، واتَّضحت أعلامُ السُّبُلِ ، واُقيمَت السُّنَنُ ، وما جُمِعَ لأَحَدٍ مَناقِبُكَ وخِصالُكَ ، سَبقتَ إلى إجابةِ النَّبيِّ صلى الله عليه و آله مُقدِّما مُؤثِرا ، وسارَعتَ إلى نُصرَتِهِ ، ووقَيتَهُ بِنَفسِكَ ، ورَمَيتَ سَيفَكَ ذا الفقارِ في مواطن الخوفِ والحذرِ ، قَصَمَ اللّه ُ بِكَ كُلَّ جَبَّارٍ عَنيد ، ودلَّ بِكَ كُلَّ ذي بأسٍ شَدِيد ، وهدمَ بِكَ حُصونَ أهلِ الشِّرك ِ والكفر والعدوان والرّدى ، وقَتَلَ بِكَ أهلَ الضَّلال ِ مِنَ العِدى ، فهنيئا لَكَ يا أمِيرَ المُؤمِنين َ ، كنت أقرب النَّاس من رسول اللّه صلى الله عليه و آله قربا ، وأوَّلهم سلما ، وأكثرهم علما وفهما ، فهنيئا لك يا أبا الحسن ، لقد شرَّفَ اللّه ُ مَقامَكَ ، وكُنتَ أقربَ النَّاسِ إلى رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله نَسَبا ، وأوَّلَهُم إسلاما ، وأوفاهُم يَقينا وأشدَّهُم قلبا ، وأبذَلَهُم لِنَفسِهِ مُجاهِدا ، وأعظمَهُم في الخير نصيبا ، فلا حرمنا اللّه ُ أجرَك ، ولا أذلَّنا بَعدَكَ ، فواللّه ، لقد كانت حياتُكَ مَفاتِحَ للخَيرِ ومغالق للشّر ، وإنَّ يومك هذا مفتاح كُلِّ شرٍّ ومِغلاقُ كُلِّ خَيرٍ ، ولَو أنَّ النَّاسَ قَبِلوا مِنكَ لأَكَلوا مِن فَوقِهِم ومِن تحتِ أرجُلِهم ، ولكنَّهم آثروا الدُّنيا على الآخرة . ثُمَّ بكى بكاءا شديدا ، وأبكى كُلَّ مَن كان معه . . . (35) عن عاصم بن أبي النجود ، عمَّن شهد ذلك : أنَّ معاوية حين قدم الكوفة ، دخل عليه رجال من أصحاب عليّ عليه السلام ، وكان الحسن عليه السلام قد أخذ الأمان لرجال منهم، مُسَمَّينَ بأسمائهم وأسماءِ آبائهم ، وكان فيهم صَعْصَعَة . فلمَّا دخل عليه صَعْصَعَة ، قال معاوية لصَعْصَعَة : أما واللّه ، أنِّي كنت لأبغض أن تدخل في أماني ، قال : وأنا واللّه ِ ، أبغض أن أسمّيك بهذا الإسم ، ثُمَّ سلّم عليه بالخلافة . قال : فقال معاوية : إن كُنتَ صادِقا فاصعد المنبر فالعن عليّا . قال : فصعد المنبر ، وحمد اللّه وأثنى عليه ، ثُمَّ قال : أيُّها النَّاسُ، أتيتُكُم مِن عِندِ رَجُلٍ قَدَّمَ شرَّهُ ، وأخَّرَ خَيرهُ ، وأنَّهُ أمرني أن ألعَنَ عليّا ، فالعنوهُ لعنهُ اللّه ُ ، فضجَّ أهلُ المسجِدِ بِآمين . فلَمَّا رجع إليه فأخبَرهُ بما قال ، قال : لا واللّه ِ ، ما عَنيتَ غيري ، ارجع حَتَّى تسمّيه باسمِهِ . فرجع وصعد المنبر ، ثُمَّ قال : أيُّها النَّاس ، إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب ، فالعنوا من لعن عليّ بن أبي طالب . قال : فضجّوا بآمين . قال : فلمَّا خبر معاوية ، قال : لا واللّه ، ما عنى غيري ، أخرِجوه، لا يُساكِنُني في بلد ، فأخرَجوه (36) . ذكر العَلائِي ُّ في أخبار زياد : أنَّ المُغِيْرَة َ نفى صَعْصَعَة _ بأمر معاوية _ من الكوفة إلى الجزيرة ، أو إلى البحرين ، وقيل: إلى جزيرةِ ابن كافان ، فمات بها (37) . روى سِبط ابن الجوزِي ّ مسندا عن عَمْرو بن يَحْيَى ، قال : مرَّ صَعْصَعَة على المُغِيرَة ِ ، فقال له : من أين أقبلت ؟ قال : من عند الوليّ التَّقيّ، الجواد الحييّ، الحليم الوفيّ، الكريم الخفيّ ، المانع بسيفه ، الجوادِ بكفّهِ ، الوريّ زَندُه ، الكثير رِفدُه ، الَّذي هو من ضئضئي (38) أشرافٍ أمجادٍ ليوثٍ أنجادٍ ، ليس بأقعادٍ (39) ولا أنكادٍ (40) ، ليس في أمره بِوَغدٍ ، ولا في قوله فَنَدٌ ، ليس بالطائش النّزق ، ولا بالرَّائث (41) المَذِق (42) ، كريم الآباء ، شريف الأبناء ، حسن البلاء ، ثاقب السَّناء ، مُجرّبٌ مَشهورٌ ، وشجاعٌ مَذكورٌ ، زاهدٌ في الدُّنيا راغبٌ في الأُخرى . فقال المُغِيرَة ُ : هذه صفات الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام (43) . وقال صَعْصَعَة أيضا _ في مدح عليّ عليه السلام _ : كان فينا كأحدنا ، لِينَ جانِبٍ ، وشدَّةَ تواضُعٍ ، وسهولَةَ قِيادٍ ، وكُنَّا نَهابُهُ مَهابَةَ الأسيرِ المَربوطِ ، للسيَّافِ الواقفِ على رأسِهِ (44) . [ أقول: هؤلاء أبناء صُوحان _ رضوان اللّه ِ عليهم _ كلّهم خطباءُ ، فصحاءُ ، علماءُ، أبرار أتقياء ، وهم كما قال عَقِيل _ على رواية المسعودي _ ] قال معاوية لعَقِيل : وإنَّما أردتُ أن أسألَكَ عَن أصحابِ عَلِي ٍّ ، فإنَّكَ ذو مَعرفَةٍ بهم . فقال عَقِيل : سل عمَّا بدا لك . فقال : ميِّز لي أصحاب عليّ ، وابدأ بآل صُوْحَان ؛ فإنَّهم مخاريق الكلام 45 . قال : أمَّا صَعْصَعَة ، فعظيم الشَّأن ، عضب اللِّسان ، قائد فرسان ، قاتل أقران ، يرتق ما فتق ، ويفتق ما رتق ، قليل النَّظير . وأمَّا زَيْد وعبد اللّه ، فإنَّهما نهران جاريان ، يصب فيهما الخُلْجان ، ويغاث بهما البلدان ، رَجُلاَ جِدٍّ لا لَعِبَ معهُ ، وبنو صُوحان كما قال الشّاعر : إذا نَزَلَ العَدُوُّ فَإنَّ عِنديأُسودا تَخلِسُ الأُسْدَ النُّفوسا فاتَّصل كلام عَقِيل بصَعْصَعَة فكتب إليه : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ؛ ذكْرُ اللّه أكبرُ ، وبِهِ يَستَفتِحُ المُستَفتِحونَ ، وأنتم مفاتيح الدُّنيا والآخرة ؛ أمَّا بعدُ ، فقد بلغ مولاكَ كلامُكَ لِعدوِّ اللّه وعدوِّ رسوله ، فحمدْتُ اللّه على ذلك ، وسألته أن يفيء بك إلى الدَّرجة العليا ، والقضيب الأحمر ، والعمود الأسْوَد ، فإنَّه عمودٌ مَن فارقه فارق الدِّين الأزهر ، ولئن نزعَتْ بك نفسك إلى معاوية طلبا لما له ، إنَّك لذو علم بجميع خصاله ، فاحذر أن تعلق بِكَ نارُه، فيضلّك عن الحجَّة ، فإنَّ اللّه َ قد رفَعَ عَنكُم _ أهلَ البيتِ _ ما وضَعَهُ في غَيرِكُم ، فما كان من فضلٍ أو إحسانٍ، فَبِكُم وَصَل إلينا ، فأجَلَّ اللّه ُ أقدارَكُم ، وحَمَى أخطاركم ، وكتب آثارَكم ، فإنَّ أقدارَكُم مَرضِيَّةٌ ، وأخطارَكم مَحمِيَّةٌ ، وآثارَكُم بَدْرِيَّةٌ ، وأنتم سلِمُ اللّه ِ إلى خَلقِهِ ، ووسيلَتُهُ إلى طُرُقِهِ ، وأيْدٍ عَلِيَّةٌ ، ووجُوهٌ جَلِيَّةٌ ، وأنتم كما قال الشَّاعر : فما كانَ مِن خَيرٍ أَتَوهُ فَإنَّماتَوَارَثَهُ آباءُ آبائِهِم قَبْلُ وهَل يُنبِتُ الخطِّيُّ إلاّ وشِيجَةًوتُغْرَسُ إلاّ في مَنابِتِها النَّخلُ . . . (45) ومن شعر صَعْصَعَة : هَلاّ سَألتَ بَني الجارود: أيُّ فَتَىًعِندَ الشَّفاعة والبابِ ابنُ صُوحانا كُنَّا وكانوا كَأُمٍّ أرضَعَت وَلَداعُقَّت ولَم تُجزَ بالإحسانِ إحسانا وقوله يرثي عليّ بن أبي طالب عليه السلام : ألا مَنْ لِي بِاُنسِكَ يا أُخَيَّا ؟ومَنْ لِي أنْ أبُثَّكَ ما لَدَيّا ؟ طَوَتكَ خُطوبُ دَهرٍ قَد تَوالىلِذاكَ خُطُوبُهُ نَشرا وَطَيّا فَلَو نَشَرَت قُواكَ لِيَ المَناياشَكَوتُ إليكَ ما صَنَعَت إليّا بَكَيتُكَ يا عَلِيُ بِدُرِّ عَينِيفَلَم يُغنِ البُكاءُ عَلَيكَ شَيّا كَفى حُزنا بِدَفنِكَ ثُمَّ إنِّينَفَضتُ تُرابَ قَبرِكَ مِن يَدَيّا وكانَت في حَياتِكَ لي عظاتٌوأنتَ اليومَ أوعَظُ مِنكَ حَيّا فيا أسفي عَلَيكَ وطُولَ شَوقيألا لَو أنَّ ذلِكَ رَدَّ شَيّا وقوله يرثيه أيضا : هَل خَبَّرَ القبرُ سائِليهِأم قَرَّ عَينا بِزائِريهِ أَم هَل تُراهُ أحاطَ عِلما ؟بِالجَسَدِ المُستَكِنِّ فيهِ لَو عَلِمَ القَبرُ مَنْ يُوارِيتاهَ علَى كُلِّ مَن يَلِيهِ يا مَوتُ ماذا أَرَدتَ مِنِّيحَقَّقتَ ما كُنتُ اتَّقيهِ يا مَوتُ لَو تَقبَلُ افتداءًلَكُنتُ بالرُّوحِ افتَديهِ دَهرٌ رَماني بِفَقدِ إلفيأذمُّ دَهري وأشتَكيهِ (46) [ والَّذي يظهر لمن يتتبّع كتاب «الغارات » وكتاب «وقعة صفِّين » ، أنَّ صَعْصَعَة هو أحد رواة وقعة صفِّين ، وغيرها من الحوادث في عصر عليّ عليه السلام . وقال في التَّنقيح : وهو ] صعصعة ] الَّذي روى عهد عليّ عليه السلام ، لمالك بن الحارث الأشْتَر رضوانُ اللّه ِ عليه . وصَعْصَعَة : بصادين مُهمَلَتَينِ مفتوحتين، بعد كُلِّ صاد عينٌ مُهمَلَةٌ ، أُولاهما ساكنة والثَّانية مفتوحة] . وكان صَعْصَعَة من شهود وصيَّته صلوات اللّه عليه، في أمواله وصدقاته . (47) ولمّا بويع أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بالخلافة، قام صَعْصَعَة بن صُوحان فقال : واللّه _ يا أمير المؤمنين _ لقد زيَّنتَ الخِلافَةَ وما زَانَتكَ ، ورَفَعتَها وما رَفَعَتكَ ، ولَهِيَ إليكَ أحوَجُ مِنكَ إليها (48) . وكان صَعْصَعَة رسول أمير المؤمنين عليه السلام إلى طَلْحَة والزُّبَيْر . وكان من كبار أصحاب الإمام عليّ عليه السلام (49) ، ومن الَّذين عرفوه حقّ معرفته، كما هو حقّه (50) . قال عنه الجاحظ في البيان والتبيين : وإنّما أردنا بهذا . . . . . الدلالة على تقديم صعصعة بن صوحان في الخطب، وأدلُّ من كلّ دلالة، استنطاقُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام له (51) . أثنى عليه أصحاب التَّراجم بقولهم : كان شريفا ، أميرا ، فصيحا ، مفوّها ، خطيبا ، لسنا ، ديّنا ، فاضلاً (52) . وعندما ثار الناس على عثمان ، واتّفقوا على خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، قام هذا الرَّجل الَّذي كان عميق الفكر ، قليل المثيل في معرفة عظمة عليٍّ عليه السلام _ وكان خطيبا مصقعا _ فعبّر عن اعتقاده الصَّريح الرَّائع بإمامه . وعندما أشعل موقدو الفتنة فتيل الحرب على أمير المؤمنين عليه السلام في الجمل ، كان إلى جانب الإمام عليه السلام ، وراوي وقائع صفِّين (53) . وكذلك وقف إلى جانبه عليه السلام في حرب النَّهروان ، واحتجّ على الخوارج بأحقّيّة إمامه وثباته (54) . وجعله الإمام عليه السلام شاهدا على وصيّته (55) ، فسجّل بذلك فخرا عظيما لهذا الرَّجل . ونطق صَعْصَعَة بفضائل الإمام ومناقبه، أمام معاوية وأجلاف بني اُميّة مرارا ، وكان يُنشد ملحمة عظمته أمام عيونهم المحملقة ، ويكشف عن قبائح معاوية ومثالبه بلا وجَل (56) . وكم أراد منه معاوية أن يطعن في عليّ عليه السلام ، لكنّه لم يلقَ إلاّ الخزي والفضيحة ، إذ جُوبِه بخطبه البليغة الأخّاذة (57) . آمنه معاوية _ مكرها _ بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام ، وصلح الإمام الحسن عليه السلا (58) ، فاستثمر صَعْصَعَة هذه الفرصة ضدّ معاوية . وكان معاوية دائم الامتعاض من بيان صَعْصَعَة الفصيح المعبّر، وتعابيره الجميلة في وصف فضائل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يخفِ هذا الامتعاض (59) . توفّي صَعْصَعَة أيّام حكومة معاوية (60) . في الأمالي للطوسيّ عن صَعْصَعَة بن صُوحان : دخلت على عثمان بن عفّان في نفر من المصريّين ، فقال عثمان : قدّموا رجلاً منكم يكلّمني ، فقدّموني ، فقال عثمان : هذا !؟ وكأنّه استحدثني . فقلت له : إنّ العلمَ لو كان بالسنِّ، لم يكن لي ولا لَكَ فيهِ سَهمٌ ، ولكنَّهُ بالتَّعلُّم . فقال عثمان : هاتِ . فقلت : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم « الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَ ءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ » (61) . فقال عثمان : فينا نزلت هذه الآية . فقلت له : فَمُر بالمعروف وانْهَ عن المنكر . فقال عثمان : دع هذا، وهات ما معك . فقلت له : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم « الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ » (62) إلى آخر الآية . فقال عثمان : وهذه أيضا نزلت فينا ، فقلت له : فأعطنا بما أخذت من اللّه . فقال عثمان : يا أيُّها النَّاس ، عليكم بالسمع والطَّاعة ، فإنَّ يدُ اللّه على الجماعة، وإنّ الشَّيطان مع الفذّ (63) ، فلا تستمعوا إلى قول هذا ، وإنّ هذا، لا يدري مَن اللّه ، ولا أين اللّه . فقلت له : أمّا قولك : عليكم بالسَّمع والطَّاعة » ، فإنّك تريد منّا أن نقول غدا : « رَبَّنَآ إِنَّ_آ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ » (64) ، وأمّا قولك : أنا لا أدري مَنِ اللّه ُ ، فإنَّ اللّه َ ربُّنا وربُّ آبائِنا الأوّلينَ ، وأمّا قولك : إنّيلا أدري أينَ اللّه ُ ، فإنَّ اللّه تَعالى بالمِرصادِ . قال : فغضب وأمر بصرفنا وغلّق الأبوابَ دُونَنا (65) . وفي ديوان المعاني عن محمّد بن عباد : تكلّم صَعْصَعَة عند معاوية بكلام أحسن فيه، فحسده عَمْرو بن العاص ، فقال : هذا بالتَّمرِ أبصرُ مِنهُ بالكلامِ ! قال صَعْصَعَة : أجل ! أجودُهُ ما دَقَّ نَواهُ، ورَقَّ سَحاؤُه (66) وعَظُمَ لِحاؤهُ (67) ، والرِّيحُ تنفِجُهُ (68) ، والشَّمسُ تُنضِجُهُ، والبرد يَدمِجُهُ ، ولكنّك يابن العاص لا تمرا تَصِفُ، ولا الخيرَ تَعرِفُ ، بل تَحسِدُ فَتُقرِفُ . فقال معاوية ( لعمرو ) : رغما ! فقال عمرو : أضعافُ الرَّغمِ لَكَ ! وما بي إلاّ بعضَ ما بِكَ (69) . وفي تاريخ الطبريّ عن الشَّعْبيّ _ في ذكر قيام الكوفيّين على سعيد بن العاص _ : . . . . فكتب سعيد إلى عثمان يخبره بذلك ويقول : إنّ رهطا من أهل الكوفة _ سمّاهم له عشرة _ يؤلّبون ويجتمعون على عيبك وعيبي، والطَّعن في ديننا ، وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا . فكتب عثمان إلى سعيد أن : سيّرهم إلى معاوية _ ومعاوية يومئذٍ على الشَّام _ . فسيّرهم _ وهم تسعة نفر _ إلى معاوية ، فيهم : مالك الأشْتَر ، وثابت بن قَيْس بن مُنقع ، وكُمَيْل بن زياد النَّخَعيّ ، وصَعْصَعَة بن صُوحان . . . . (70) وفي العقد الفريد : دخل صَعْصَعَة بن صُوحان على معاوية ، ومعه عَمْرو بن العاص ، جالس على سريره ، فقال : وسّع له على ترابيّة فيه . فقال صَعْصَعَة : إنّي واللّه لترابيّ ، منه خلقت وإليه أعود ، ومنه اُبعث ، وإنّك لمارج (71) من مارج من نار (72) . وفي تاريخ الطبري عن مُرَّة بن مُنْقذ بن النُّعْمان _ في ذكر خروج الخوارج في زمن معاوية ، وسعي المُغِيْرَة لتعيين قائد الجند _ : لقد كان صَعْصَعَة بن صُوحان قام بعد مَعْقِل بن قَيْس ، وقال : ابعثني إليهم أيُّها الأمير ، فأنا واللّه ، لدمائهم مستحلّ ، وبحملها مستقلّ . فقال : اجلس ، فإنّما أنت خطيب . فكان أحفظه ذلك ، وإنّما قال ذلك؛ لأ نّه بلغه أنّه يعيب عثمان بن عفّان ، ويُكثر ذكر عليّ ويفضّله ، وقد كان دعاه ، فقال : إيّاك أن يبلغني عنك أنّك تُعيب عثمان عند أحد من النَّاس ، وإيّاك أن يبلغني عنك أنّك تُظهر شيئا من فضل عليّ علانية ، فإنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أجهله ، بل أنا أعلم بذلك ، ولكنّ هذا السُّلطان قد ظهر ، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس ، فنحن ندع كثيرا ممّا اُمرنا به ، ونذكر الشَّيء الَّذي لا نجد منه بدّا ، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيّةً ، فإن كنت ذاكرا فضله، فاذكره بينك وبين أصحابك، وفي منازلكم سرّا ، وأمّا علانيةً في المسجد ، فإنّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا ، ولا يعذرنا به . فكان يقول له : نعم أفعل ، ثمّ يبلُغه أنّه قد عاد إلى ما نهاه عنه ، فلمّا قام إليه، وقال له : ابعثني إليهم ، وجد المُغِيْرَة َ قد حقد عليه، لخلافه إيّاه ، فقال : اجلس ، فإنّما أنت خطيب ، فَأحفَظَهُ . فقال له : أ وَما أنا إلاّ خطيب فقط ؟ ! أجل واللّه ، إنّي للخطيب الصَّليب الرَّئيس ، أما واللّه ِ ، لو شهدتني تحت راية عبد القيس يوم الجمل ، حيث اختلفت القنا ، فشؤون (73) تُفرى ، وهامة تُختلى ، لعلمتَ أنّي أنا اللَّيث الهِزبر . فقال : حسبك الآن ، لعمري لقد اُوتيت لسانا فصيحا (74) . وفي مروج الذَّهب : وفد عليه ( أي معاوية ) عَقِيلُ بن أبي طالب منتجعا وزائرا ، فرحّب به معاوية ، وسرّ بوروده ، لاختياره إيّاه على أخيه ، وأوسعه حلما واحتمالاً ، فقال له : يا أبا يزيد ، كيف تركت عليّا ؟ ! فقال : تركته على ما يحبّ اللّه ورسوله، وألفيتُكَ على ما يكره اللّه ورسوله . فقال له معاوية : لولا أنّك زائر، منتجع جنابنا، لرددت عليك أبا يزيد جوابا تألم منه ، ثمّ أحبّ معاوية أن يقطع كلامه، مخافة أن يأتي بشيء يخفضه ، فوثب عن مجلسه ، وأمر له بنزل (75) ، وحمل إليه مالاً عظيما ، فلما كان من غد جلس، وأرسل إليه فأتاه ، فقال له : يا أبا يزيد ، كيف تركت عليّا أخاك ؟ ! قال : تركته خيرا لنفسه منك ، وأنت خير لي منه . فقال له معاوية : أنت واللّه ، كما قال الشَّاعر : وإذا عَدَدتَ فَخارَ آلِ مُحرِّقٍفالمجدُ مِنهم في بَنِي عَتَّابِ فمحلّ المجد من بني هاشم منوط فيك يا أبا يزيد ، ما تغيّرك الأيام واللَّيالي . فقال عَقِيل : اصبِر لِحَربٍ أنتَ جانِيهالابُدّ أن تَصلَى بِحامِيها وأنت واللّه ، يا بن أبي سُفْيَان كما قال الآخر : وإذا هوازِنُ أقبلَت بِفَخارِهايوما فَخَرتُهُمُ بآلِ مُجاشِعِ بِالحامِلينَ علَى المَوالي غُرمَهُموالضَّارِبينَ الهامَ يَومَ الفازِعِ ولكن أنت يا معاوية ، إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفخر ؟ فقال معاوية : عزمت عليك _ أبا يزيد _ لمَّا أمسكت ، فإنّي لم أجلس لهذا ، وإنّما أردت أن أسألك عن أصحاب عليّ ؛ فإنّك ذو معرفة بهم . فقال عَقِيل : سَل عمّا بدا لَكَ . فقال : ميّز لي أصحاب عليّ ، وابدأ بآل صوحان ، فإنَّهُم مخاريِقُ الكَلامِ . . . (76) .
.
ص: 143
. .
ص: 144
. .
ص: 145
. .
ص: 146
. .
ص: 147
. .
ص: 148
. .
ص: 149
. .
ص: 150
. .
ص: 151
. .
ص: 152
. .
ص: 153
. .
ص: 154
. .
ص: 155
. .
ص: 156
. .
ص: 157
. .
ص: 158
. .
ص: 159
. .
ص: 160
. .
ص: 161
. .
ص: 162
. .
ص: 163
. .
ص: 164
. .
ص: 165
. .
ص: 166
. .
ص: 167
ثَابِتُ بنُ قَيْس ٍثابت بن قَيْس بن الخَطيم الأنصاريّ الظَّفَرِيّ . أحد الصَّحابة . كان مع النَّبيّ صلى الله عليه و آله في اُحد (1) ، ويقال : إنّه جُرح فيها اثنتي عشرةَ جراحة (2) ، وسمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الحاسر . واشترك في الغزوات الَّتي تلتها أيضا (3) ، وكان ثابت الخُطى ، شديد النَّفس (4) . عندما ثار النَّاس على عثمان ، واستدعى ولاته على الأمصار إلى المدينة للمشورة ، استخلف سعيد بن العاص _ والي الكوفة _ يومئذٍ ثابتا عليها (5) . وذكر المؤرّخون أنّ الإمام عليّا عليه السلام ولاّه على المَدائِن (6) . وكان معاوية يهابه (7) . وظلّ على المَدائِن _ إلى أن استعمل معاوية المُغِيرَة على الكوفة ، فعزله (8) . كان ثابت مع الإمام عليه السلام في حروبه الثّلاث (9) . في تاريخ بغداد _ في ذِكر ثابت بن قَيْس بن الخطيم _ : شهد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله اُحد ا والمشاهد بعدها . ويقال : إنّه جُرح يوم اُحد اثنتي عشرة جراحة . وعاش إلى خلافة معاوية ، واستعمله عليّ بن أبي طالب على المَدائِن (10) . وفي اُسد الغابة : شهد ثابت مع عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه الجمل وصفِّين والنَّهروان (11) . وفي تاريخ بغداد عن عبد اللّه بن عَمَّارة بن القداح : كان ثابت بن قَيْس بن الخطيم شديد النَّفس ، وكان له بلاء مع عليّ بن أبي طالب ، واستعمله عليّ بن أبي طالب على المَدائِن ، فلم يزل عليها حتَّى قدم المُغِيْرَة بن شُعْبَة الكوفة ، وكان معاوية يتّقي مكانه (12) .
.
ص: 168
. .
ص: 169
عِلْباء بن الهَيْثَم السّدوسي ّ من رَبِيعةبكسرِ أوَّلهِ وسُكونِ اللاّمِ بَعدَها مُوَحَّدَةً ، [ أي: بكسر العين المهملة، واللام السَّاكنة، والباء الموحَّدَة المفتوحة، والألف والهمزة . قال في القاموس : وعلبا بالكسر ممدودا اسم رجل ] ، أدرك عِلْباء الجاهليَّة والإسلام ، وشهد الفتوح في عهد عمر ، ثُمَّ شهد الجمل فاستشهد بها . (1) عن الأصمعي : حدَّثني شيخ في مجلس أبي عَمْرو بن العلاء ، أنَّ أهل الكوفة أوفدوا عِلْباء بن الهَيْثم السّدوسي ّ إلى عمر ، فرأى هيئةً رَثَّة ، فلمَّا تكلَّم في حاجته أحسن ؛ فقال : لكلّ أناس في جَملهم خَير . (2) ] والمعنى : أنَّ خبره فوق منظره ] . كان عِلْباء من الَّذِين ثاروا على عثمان حَتَّى قتلوه (3) . إنَّ عليَّا عليه السلام قال : « مَن يَحمِلُ علَى الجَمَلِ ؟ » ، فانتدب له هند بن عَمْرو الجَمَليّ المرادي ّ ، فاعترضه عَمَّار بن يثربي ّ ، فقتله . ثُمَّ حمل عِلْباء بن الهَيْثم فاعترضه ابن يثربي ّ فقتله . (4) ولكن قال الطَّبريّ : إنَّ عليَّا قال : « مَن رَجُلٌ يَحمِلُ علَى الجَمَلِ ؟ » فحمل هند بن عَمْرو ، ثُمَّ سَيْحانُ بنُ صُوحان ، ثُمَّ عِلْباءُ بن الهَيْثم (5) . وقال ابن عبد ربّه : وقُتل من أصحاب عليّ خمسمئة رجل ، لم يُعرف منهم إلاّ عِلْباءُ بن الهَيْثم ، وهِنْد الجَمَليّ ، قتلهما ابن اليثربي ّ (6) . وقال ابن أعثم : خرج عَمْرو بن يثربي ّ من أصحاب الجمل ، حَتَّى وقف بين الصفّين قريبا من الجمل ، ثُمَّ دعا إلى البراز ، وسأل النِّزال ، فخرج إليه عِلْباء بن الهَيْثم ، من أصحاب عليّ رضى الله عنه ، فشدَّ عليه عمرو ، فقتله (7) . قال ابن أبي الحديد :[ في الجواب عن الطَّعن في سياسة عليّ عليه السلام ، بمفارقة أصحابه إيَّاه ] ، والجواب : إنَّا أوَّلاً ، لا ننكر أن يكون كلُّ مَن رَغب في حطام الدُّنيا ، وزخرفها ، وأحبّ العاجل من ملاذّها وزينتها، يميل إلى معاوية الَّذي يبذُل منها كُلَّ مطلوب ، ويسمَحُ بكلّ مأمولٍ ، ويطعِم خراج مصر عَمْرو بن العاص ، ويضمَن لذي الكِلاع ، وحَبِيب بن مَسْلَمَة َ _ ما يوفي على الرَّجاء والاقتراح . وعليّ عليه السلام ، لا يعدل _ فيما هو أمينٌ عليه من مال المسلمين _ عن قضيّة الشَّريعة ، وحكم الملّة ، حَتَّى يقول خالد بن معمّر السّدوسي ، لعِلْباء بن الهَيْثم _ وهو يحمله على مفارقة عليّ عليه السلام ، واللّحاق بمعاوية _ : اتَّقِ اللّه َ يا عِلْباءُ في عشيرَتِكَ ، وانظر لنفسك ولِرَحِمِكَ، ماذا تؤمِّل عند رجل أردته على أن يزيدَ في عطاء الحسن والحسين دريهماتٍ يسيرةٍ، ريثما يرأبان بها ظَلَفَ عَيشهِما ، فأبى وغضب، فلم يفعل (8) . [ هذه القضية _ إن صحّت _ إنّما تدلّ على عظم إخلاص الَّذين اتَّبعوا عليَّا عليه السلام ، ووازروه ، ونصروه حَتَّى قُتلوا دونه . ومنهم عِلْباء بن الهَيْثم السّدوسي رضى الله عنه . يمكن أن يشكل أحد فيقول : إنَّ عِلْباء مات يوم الجمل ، كما في هذا الكتاب والكتاب المتقدّم ، وهو ما نقله أرباب السّير والتراجم، كما في ترجمته في قاموس الرِّجال ، والطَّبري ّ ، وأنساب الأشراف ، والإصابة ، وابن أبي الحديد (9) . فكيف نصدّق بما دار بين السَّدوسي وبين علباء؟ والحال أنَّ لحوق المنافقين بمعاوية كان بعد وقعة الجمل ، بل بعد وقعة صفِّين ؟ والجواب هو: أنّ لحوق المنافقين بمعاوية ، لم يحدّد بفترة ما بعد الجمل وصفّين ، بل يجد المتتبّعُ أن أهل الدُّنيا وملذّاتها، مضافا إلى الذين كانوا ينصرون عثمان بن عفّان، قد التحقوا بمعاوية من مختلف الأمصار كالمدينة والكوفة والبصرة وغيرها منذ البداية، أي قبل حرب الجمل ، وحتى آخر أيّام حياته، عليه أفضل الصلاة والسلام ] .
.
ص: 170
. .
ص: 171
هِند بن عَمْرو الجَمَلي ّبفتح الجيم ، أدرك الجاهليَّة ، وولاَّه عمر على نصارى بني تَغْلِب سنة سبع عشرة ، وكان قاتلُ هند عبد اللّه بن يثربيّ الضَّبيّ ، وفي ذلك يقول : إن تَقْتُلُوني فأنَا ابن يَثْربيقاتِلْ عليَّا وهِنْد الجَمَليّ (1) وقتل يوم الجمل مع عليّ ، واستدركه ابن فتحون (2) . قال السمعاني : هند بن عَمْرو الجَمَلي ّ ، كان مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل ، وقتل معه ، قتله ابن يثربي (3) . قال الطَّبريّ : فقال عليّ : « مَن رجُلٌ يَحمِلُ على الجَمَلِ ؟ » فانتدب له هند بن عَمْرو المراديّ ، فاعترضه ابن يثربي ّ ، فاختلفا ضربتين ، فقتله ابن يثربيّ (4) . وعدّ الطَّبري ّ هند ا من رؤساء النافرين من الكوفة إلى حرب الجمل ، قال: فكان رؤساء الجماعة: القعقاعُ بن عمرو ، وسعرُ بنُ مالك ، وهند بن عَمْرو و ... (5) . قال في القاموس : وفي جمل المفيد رحمه الله، والإمامة والسِّياسة : أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام ، استعملَ على ساقَتِه (6) هنْدا المرادي ّ ، ثُمَّ الجَمَلي ّ ، وهو الَّذي قال فيه عُمر : سيّدُ أهل الكوفة ، اسمُه اسمُ امْرأة (7) . وفي معارف ابن قُتَيْبَة أنَّه قتل في صفِّين (8) ، [ وهو خطأ ] . [ و ] لمَّا بعث أمير المؤمنين عليه السلام الحسن عليه السلام إلى الكوفة ، لاستنفار النَّاس إلى الجمل ، فخطبهم وحضّهم على الجهاد . . . فقام هِنْد بن عُمر ، فقال : إنَّ أمير المؤمنين قد دعانا ، وأرسل إلينا رسله حَتَّى جاءنا ابنه ، فاسمعوا إلى قوله ، وانتهوا إلى أمره، وانفروا إلى أميركم، فانظروا معه فيهذا الأمر، وأعينوه برأيكم (9) . أمر عُمر نعيما _ بعد فتح الرَّي ّ _ أن يرسل أخاه سُويد بن مقرّن ، ومعه هند بن عَمْرو الجَمَليّ ، وغيره إلى قومِس . فهو شهِد فتح الرَّي ّ وقومِس . (10) قال البلاذري : وكان هند الجَمَلي ّ يقول وهو يقاتل حَتَّى قتل : أضرِبُهُم جَهدِي بِحَدِّ المُنصَلِوالمَوتُ دُونَ الجَمَلِ المُجَلَّلِ إن تَحمِلوا قُدما عَلَيَّ أَحمِلِ . (11) [ ومهما يكن من أمر، فإنّ حضور هؤلاء الصفوة في حرب الجمل ، تحت راية أمير المؤمنين عليه السلام ، وقتلهم دونه ، دليلٌ على مقامهم المعنوي السَّامي ، وعلى شدّة وعيهم ونضجهم ، هذا مضافا إلى أنَّهم كانوا من رؤساء النَّافرين إليه ، ومن الخُطباء الدَّاعين إليه ، الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر ، الأمر الذي جعله _ صلوات اللّه عليه _ يذكرهم في كتابيه إلى الكوفة والمدينة ، كلُّ ذلك دليل على سُموِّ مقامهم في المجتمع الإسلامي ، وفي كلا المصرين ، حيث خصّهم بالذكر دون سائر الشُّهداء الكِبار ، رحمةُ اللّه ِ عليهِم جميعا ] .
.
ص: 172
. .
ص: 173
خَالِدُ بنُ مُعَمَّرخالد بن المُعَمَّر بن سُلَيْمان السَّدوسي ّ . كان من أصحاب الإمام عليّ ، ومن كبار قبيلة ربيعة (1) . شهد الجمل . وكان من رؤساء البصرة الاُوَل الَّذين استجابوا للإمام عليه السلام ، عند عزمه على قتال معاوية ، وأسرعوا إلى نصرته (2) . وكانت قبيلة ربيعة من كبار القبائل الَّتي شهدت حرب صفِّين ، ولها فيها دور أساسيّ مهمّ (3) . [ حاول معاوية ترغيبه ، وكاتَبه ، ووعده بولاية خراسان ، ولكنّ الإمام عليه السلام لم يعر ذلك اهتماما ، واستمرّ خالد قائدا لربيعة ، إلاّ أنّ تضعضعه في الأحداث اللاّحقة للحرب كان واضحا ] . وعندما رُفعت المصاحف على الرِّماح ، قال خالد للإمام عليه السلام : ما البقاء إلاّ فيما دعا القوم إليه ، إن رأيتَه . وإن لم تره فرأيك أفضل (4) . وخان خالد الإمام الحسن عليه السلام (5) ، وذهب إلى معاوية وبايعه . فكرّمه وولاه على أرمينية . وقيل في هذا المجال : مُعاوِيَ أمِّرْ خالِدَ بنَ مُعمَّرٍفإنَّكَ لولا خَالِدٌ لَم تُؤَمَّرا ومات خالد قبل وصوله إليها (6) . وجاء في بعض المصادر أنّه مدح الإمام عليّا عليه السلام بمحضر معاوية ، وقال في حبّه إيّاه : اُحبُّهُ واللّه ِ ، على حِلمِهِ إذا غَضِب ، ووفائِهِ إذا عقد ، وصِدقِهِ إذا أكَّدَ ، وعدلِهِ إذا حَكَمَ (7) .
.
ص: 174
. .
ص: 175
30كتابه عليه السلام لِماهوْيهنقل الطَّبري ّ ، عن عليّ بن محمَّد المَدائِني ّ ، عن أبي زكريَّا العَجْلانِي ّ ، عن أبي إسحاق ، عن أشياخه ، قال : قدم ماهَوْيهِ أبراز _ مَرْزُبان مرْو _ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد الجمل مقرَّا بالصُّلح ، فكتَب له علي ٌّ كتابا إلى دَهاقين مرْو ، والأساورة، والجُند سلارين، ومَن كان في مرْو : « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى ، أمَّا بعدُ ، فإنَّ ماهوْيهِ أبراز _ مَرْزبان مَرْو _ جاءني ، وإنِّي رضيتُ عنه » . وكتب سنة ستّ وثلاثين . (1) .
31كتابه عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِي ّمن كِتاب له عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِيّ ، وهو عاملُه على الكوفة ، وقد بلَغه عنه تثبيطه النَّاس عن الخروج إليه، لمَّا نَدَبهم لحَرب أصحاب الجَمَل : « مِنْ عَبْدِ اللّه عَلِيٍّ أمِيرِ الْمُومِنِينَ إلَى عَبْدِ اللّه بْنِ قَيْس ٍ . أمَّا بعدُ ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْك قَوْلٌ، هُوَ لَك وعَلَيْك ، فَإذَا قَدِمَ رَسُولِي عَلَيْك فَارْفَعْ ذَيْلَك ، واشْدُدْ مِئْزَرَك ، واخْرُجْ مِنْ جُحْرِك ، وانْدُبْ مَنْ مَعَك ، فإنَّ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ ، وإِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ ، وايْمُ اللّه لَتُوتَيَنَّ حَيْثُ أنْتَ ، ولا تُتْرَك حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُك بِخَاثِرِك ، وذَائِبُك بِجَامِدِك ، وحَتَّى تُعْجَلَ عَنْ قِعْدَتِك ، وتَحْذَرَ مِن أمَامِك كَحَذَرِك مِن خَلْفِك ، ومَا هِيَ بِالْهُوَيْنَى الَّتي تَرْجُوه ، ولَكِنَّهَا الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى ، يُرْكَبُ جَمَلُهَا ، ويُذَلَّلُ صَعْبُها ، ويُسَهَّلُ جَبَلُهَا ، فَاعْقِلْ عَقْلَك ، وامْلِك أمْرَك ، وخُذْ نَصِيبَك وحَظَّك ، فإن كَرِهْتَ فَتَنَحَّ إِلَى غَيْرِ رَحْبٍ ، ولافِي نَجَاةٍ، فَبِالْحَرِيِّ لَتُكْفَيَنَّ وأنْتَ نَائِمٌ، حَتَّى لا يُقَالَ: أيْنَ فُلانٌ ، واللّه إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ ، ومَا أُبَالِي مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ ، والسَّلامُ » . (2)
.
ص: 176
32كتابه عليه السلام إلى أهل المدينة[ روى المفيد رحمه الله كتابه عليه السلام إلى أهل المدينة ، بعد وقعة الجمل ] قال :ثُمَّ رجع إلى خَيْمَته ، فاستدْعى عُبيد اللّه بن أبي رافع _ كاتِبه _ وقال : « اُكتب إلى أهل المدينة : بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن عَبدِ اللّه ِ عليّ بنِ أبي طالب ٍ ، سَلامٌ عَلَيكُم . فإنِّي أحمَدَ اللّه َ إلَيكُم الَّذي لا إلهَ إلاّ هُوَ ، أمَّا بَعدُ : فإنَّ اللّه َ بمَنِّهِ ، وَفَضْلِهِ ، وَحُسنِ بَلائِهِ عِندي وعِندَكُم ، حَكَمٌ عَدْلٌ ، وقَد قالَ سُبحانَهُ في كتابِهِ _ وقَولُهُ الحقُّ _ : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَ إِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ » (1) . وإنِّي مُخبِرُكُم عنَّا ، وعَمَّن سِرنا إليهِ من جُموعِ أَهلِ البَصرَة ِ ، وَمَن سارَ إليهِم مِن قُرَيش ٍ وَغَيرِهِم مَعَ طَلْحَة َ والزُبَيْرِ ، ونَكْثِهما على (2) ما قد علِمتم من بيعتي ، وهُما طائِعان، غيرُ مُكرَهَينِ ، فَخَرجتُ مِن عِندِكُم فِيمَن خَرجتُ، ممِّن سارَعَ إلى بَيعَتي ، وإلى الحقّ (3) حَتَّى نزلْتُ ذا قار ٍ ، فنفر معي مَن نفَرَ من أهل الكوفَةِ ، وقدم طَلْحَة ُ والزُّبَيْرُ البصرةَ ، وصنَعا بِعامِلي عُثمانَ بنِ حُنَيْفٍ ما صنَعا ! فَقدَّمتُ إليهم الرُّسُلَ ، وأعْذَرتُ كلّ الإعْذار . ثُمَّ نزلْتُ ظهْرَ البَصرَةِ ، فأعذرْتُ بالدَّعاءِ ، وقَدَّمتُ الحُجَّةَ ، وأقلْتُ العَثْرَةَ ، والزَّلَّةَ ، واسْتَتَبْتُهما ومَن معهما من نَكْثِهم بيعتي ، ونقْضهما عَهدي ، فأبوْا إلاَّ قتالي وقتالَ مَن مَعِي ، والتَّمادي في الغَيِّ ، فلم أجدْ بُدَّا من مناصَفَتِهِم لي ، فناصَفْتُهُم بِالجهادِ ، فَقتلَ اللّه ُ مَن قتلَ مِنهُم ناكِثا ، وولَّى مَن ولَّى منهم ، وغَمدْتُ السُّيوفَ عَنهُم ، وأخذْتُ بالعَفوِ فِيهم ، وأجريْتُ الحقَّ والسُّنَّةَ في حُكمِهم ، واخترْت لهم عاملاً استَعمِلُهُ عَلَيهِم ، وهُو عبدُ اللّه ِ بنُ العبَّاس ، وإنِّي سائِرٌ إلى الكوفَةِ إن شاءَ اللّه ُ تعالى » . وكتب عبيد اللّه بن أبي رافع ، في جُمادى الأُولى مِن سَنَةِ سِتٍّ وثلاثِينَ مِنَ الهِجرَةِ (4) .
.
ص: 177
وقال العلاّمة الآمُلي : ولعلَّ الوجه في عدم ذكر الرَّضي _ كتابه عليه السلام إلى أهل المدينة _ في النَّهج، كان ذلك ، أعني أنَّ كتابه إلى أهل المدينة ، كان قريبا من كتابه إلى أهل الكوفة في ألفاظه ومعانيه . (1) [ أقول : لعلَّ مراده من قوله إنَّ عِلَّة عدم نقل السَّيِّد الرضي ّ هذا، هو عِلَّةُ عَدمِ نقلهِ كتابه إلى أهل الكوفة ؛ لأنَّ الشريف الرضي لم ينقل الكتابين معا ، وإنَّما نقل جملاً من كتابه إلى أهل الكوفة ] .
.
ص: 178
33كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفةكتابه عليه السلام إلى أهل الكوفة بعد فتح البصرة :« وجَزَاكُم اللّه ُ مِن أهْل مِصْرٍ _ عن أهْل بَيْت نبِيِّكم _ أحْسنَ ما يَجْزِي الْعَامِلِينَ بطاعَتِه، والشَّاكِرينَ لِنعْمَته ، فقد سَمِعْتُمْ وأطعْتُم ، ودُعِيتُم فأجَبْتُم » (1) .
[ وقد نقلنا هذا الكتاب بتمامه في موضع آخر من هذا الكتاب، نقلاً عن كتاب الجمل للمفيد رحمه الله، واكتفينا هنا بموضع الحاجة منه ].
34كتابه عليه السلام إلى قَرَظَةَ بن كَعْبكتابه عليه السلام إلى قَرَظَةَ بن كَعْب وأهل الكوفة : رَوى عمرُ بن سعد ، عن يزيد بن أبي الصَلْت ، عن عامر الأسدِي : أنَّ عليَّا كَتب بفتح البصرة _ مع عَمْرو بن سَلَمَة الأرْحَبي ّ _ إلى أهل الكوفة :« مِن عَبدِ اللّه ِ عليّ بنِ أبي طالبٍ، أميرِ المُوِنينَ عليه السلام إلى قَرَظَةَ بنِ كَعْب ٍ ومَن قِبَلَهُ مِنَ المُسلمِين َ ، سَلامٌ عَليكُم ؛ فإنِّي أحمَدُ اللّه َ إليكُم الَّذي لا إله إلاَّ هو ، أمَّا بعدُ ، فإنَّا لَقِينا القومَ النَّاكِثين َ لِبَيْعَتِنا ، المُفَرِّقينَ لِجماعَتِنا ، الباغِين علَينا مِن أُمَّتِنا ، فَحاجَجْناهُم إلى اللّه ِ ، فنَصَرنا اللّه ُ عَلَيهِم ، وقُتِلَ طَلْحَة ُ والزُّبَيْرُ ، وقد تَقَدَّمْتُ إليهما بالمَعْذِرَةِ ، واستشْهَدتُ عَليهِما صُلَحاءَ الأُمَّةِ ، ونَكْثِهما (2) بالبيعة ؛ فما أطاعا المُرشِدينَ ، ولا أجابا النَّاصِحينَ ، ولاذَ أهلُ البَصرَة ِ بِعائِشَةَ ، فقُتِل حَولَها عالَم جَمٌّ لا يُحصِي عدَدَهُم إلاّ اللّه ُ ، ثُمَّ ضرَبَ اللّه ُ وجْهَ بقيَّتِهِم فأدبروا ، فما كانت ناقةُ الحِجْر بأشأمَ منها على أهلِ ذلِكَ المِصرِ ، مع ما جاءَت بهِ مِنَ الحُوبِ (3) الكبير في معصيتها لربِّها ونبيِّها ، واغْتِرار من اغترَّ بِها ، وما صَنعتْه من التَّفرِقَةِ بَينَ المُوِنينَ ، وسَفكِ دِماءِ المُسلمين بلا بيِّنَةٍ ولا مَعْذِرَةٍ ولا حُجَّة لها . فلمَّا هزمَهُم اللّه ُ أمرتُ أنْ لا يُقتَل مُدبِرٌ ، ولا يُجهَزَ على جرِيحٍ ، ولا يكشَفَ عورَةٌ ولا يُهتَكَ سَترٌ ، ولا يُدخَلَ دارٌ إلاَّ بإذنِ أهلِها ، وقد آمنتُ النَّاسَ . وقد استُشهِد مِنَّا رِجالٌ صالِحونَ ، ضاعَفَ اللّه ُ لَهُم الحسناتُ ، ورفَعَ درجاتِهِم ، وأثابَهُم ثوابَ الصَّابِرينَ ، وجزاهُم مِن أَهلِ مِصرٍ عَن أهلِ بَيتِ نَبِيِّهِم أحْسنَ ما يَجْزي العامِلينَ بِطاعَتِهِ ، والشَّاكِرينَ لِنعمَتِهِ ، فقد سَمِعْتُم وأطعْتم ودُعيِتم فأجبْتم ، فنعم الإخوانُ والأعوانُ على الحَقِّ أنتُم ، والسَّلامُ عَليكُم ورَحمُة اللّه ِ وبَركاتُهُ » . كتب عبيد اللّه بنُ أبي رافع ، في رجب سَنَة ستٍّ وثلاثين . (4) صورة أُخرى من الكتاب المتقدّم إلى قرظَة بن كعب وأهل الكوفة : الطبري عن السّري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن مُحَمَّد وطَلْحَة ، قالا : كتب عليّ بالفتح _ فتح البصرة _ إلى عامله بالكوفة حينَ كتَب في أمرها ، وهو يومئذ بمكّة : « مِن عَبدِ اللّه ِ عَلي ٍّ أميرِ المُؤمِنين َ ، أمَّا بَعدُ ، فإنَّا التَقَينا في النِّصفِ مِن جُمادى الآخِرَةِ بالخُرَيبَةِ ، فناءٍ مِن أفنِيَةِ البَصرَة ِ ، فأعطاهُم اللّه ُ عز و جلسُنَّةَ المُسلِمين َ ، وقُتِلَ مِنَّا ومنهم قتلى كثيرةٌ ، وأصيب ممَّن أصيب منَّا : ثُمامَةُ بنُ المُثَنَّى ، وهِندُ بنُ عَمرو ، وعِلْباءُ بن الهَيْثم ، وسَيحان ، وزَيْد ُ ابنا صُوحان ، ومَحْدُوج » .
.
ص: 179
. .
ص: 180
وكتب عبد اللّه بن رافع ، وكان الرَّسول زفر بن قَيْس إلى الكوفة ، بالبشارة في جُمادى الآخرة . (1) [ أقول : تقدَّم الكلام في سند هذا الكتاب، وبعض ألفاظه ، ما لا يخفى ما فيه من الإجمال ، وعدم وضوح بعض الفقرات، كقوله عليه السلام : « فأعطاهُمُ اللّه ُ سُنَّةَ المُسلمين َ » ، إذ لو رجع الضَّمير إلى أهل البصرة وطَلْحَة والزُبَيْر _ كما هو الظَّاهر _ ، فأمير المؤمنين عليه السلام أقرَّ بأنَّ اللّه تعالى أعطى مخالفيه سُنَّةَ المسلِمين . ولو رجع الضَّمير إلى «أهل الكوفة » الَّذِين هم أنصاره عليه السلام ، فالأنسب أن يقول : أعطانا . ولو رجع الضَّمير إلى المتحاربين من عسكره وعسكر مخالفيه ، فهو إقرار بأنَّ أعداءه مسلمون ، وأنَّهم أُعطوا سُنَّةَ المسلمين . ثُمَّ ما المرادُ من سُنَّةِ المسلمين ؟ أهو الشَّهادة ؟ أو نصر اللّه الموعود به في القرآن الكريم ؟ والصَّحيح _ في رأينا _ ما يأتي في كتابه عليه السلام إلى أُمّ هاني : « فأعطانا اللّه ُ النَّصرَ بِحَولهِ وَقُوَّتهِ وأعطاهُم سُنَّة الظَّالمينَ » .
قَرَظَةُ بن كَعْب الأنْصاريّ الخَزْرَجيّويقال : قَرَظَةَ بن عَمْرو بن كَعْب ؛ وهو أحد العشرة الَّذِين وجّههم عمر إلى الكوفة من الأنصار _ وكان فاضلاً _ ليفقّه النَّاس . شهد قَرَظَةُ مشاهِدَ النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، أُحُد وما بعدها ، وهو آخر من فتح الرَّي ّ في ولاية أبي موسى الكوفة لعثمان ، هذا نقله البلاذري ، وقال الآخرون : وهو الَّذي فتح الرَّي ّ سنة ثلاث وعشرين ، وسكن الكوفة . شهد قَرَظَة مشاهد عليٍّ كُلّها ، وولاّه عليّ عليه السلام الكوفة حين سار إلى حرب الجمل ، وعزل أبا موسى عنها ، ولمَّا خرج إلى صفِّين حمله معه ، وولاّها أبا مسعودٍ الأنْصاري ّ . (2) وبعد رجوعه عليه السلام عن البصرة بعثه إلى البِهْقُبَاذات (3) . (4) وقال ابن أبي الحديد : وهو كاتب عين التَّمر ، يجبي خراجها لعليّ عليه السلام . وفي الغارات : وهو بجانب عين التَّمر ، يجبي خراجها لعليّ عليه السلام . (5) ] ونقل في الغارات _ أيضا _ قصَّةً ، لَعلَّها تَدُلُّ على خِيانتهِ لعليّ عليه السلام ] .
.
ص: 181
35كتابه عليه السلام إلى عبد اللّه بن عبَّاسوهو عامله على البصرة : « واعْلَم أنَّ البَصْرةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ ، ومَغْرِسُ الْفِتَنِ ، فَحَادِث ْ أهْلَهَا بِالإحسَان إلَيهِم ، واحْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عن قُلُوبِهِمْ ، وقد بَلَغَنِي تَنَمُّرُك لِبَنِي تَمِيم ٍ ، وغِلْظَتُك عَلَيهِم ، وإِنَّ بَنِي تَمِيم ٍ لم يَغِبْ لهم نجْمٌ إلاَّ طَلَعَ لهم آخَرُ ، وإِنَّهُم لم يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ (1) في جَاهِلِيَّةٍ ولا إسلام ٍ ، وإنَّ لهم بِنَا رَحِما مَاسَّةً ، وقَرَابَةً خَاصَّةً ، نحن مَأْجُورُونَ على صِلَتِها ، ومَأْزورونَ على قَطِيعَتِها ، فَارْبَعْ أبا الْعَبَّاس ِ _ رَحِمَكَ اللّه ُ _ فيما جَرَى على لِسَانِكَ ، ويَدِكَ من خَيْرٍ وشَرٍّ ، فإِنَّا شَرِيكَانِ في ذلك . وكُنْ عِندَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ ، ولا يَفِيلَنَّ (2) رَأْيِي فيك ، والسَّلام » . (3) [ وقد نقل ابنُ مَيثَم َ صَدرَهُ هكذا : ] « أمَّا بَعدُ ؛ خَيرُ النَّاسِ عِندَ اللّه ِ غدا ، أعمَلُهم بِطاعَته ِ فيما عَلَيهِ ولَهُ ، وأقواهم بالحقّ وإن كان مُرَّا ، أ لا وإنَّهُ _ بالحَقّ _ قامت السَّماوات والأرض فيما بين العباد ، فَلتَكُن سَريرَتُكَ فِعلاً ، وليَكن حُكمُكَ واحِدا ، وطريقَتُكَ مستقيمة . واعلم أنَّ البَصرة مَهْبَط إبليس » . (4) [ هذا ، ولكن نقل نَصْر ، أنَّ عليَّا عليه السلام ، كتب إلى عبد اللّه بن عامر ما يقارب صدره ، قال : ] « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عَبدِ اللّه ِ عَلِي ٍّ أميرِ المُوِنين َ ، إلى عَبدِ اللّه ِ بنِ عامِر ، أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ خَيرَ النَّاسِ عِندَ اللّه ِ عز و جل ، أقوَمُهُم للّه ِ بِالطاعَةِ فِيما لَهُ وعَلَيهِ ، وأقْولُهُم بالحَقِّ ولو كانَ مُرَّا ، فإنَّ الحقّ ، بهِ قامَت السَّماواتُ والأرضُ ، ولتَكُن سَريرَتُكَ كَعَلانِيَتِكَ ، وليَكُن حُكمُكَ واحِدا ، وطرِيقَتُكَ مُستَقِيمَةً ؛ فإنَّ البَصرَة مَهبِطُ الشَّيطان ، فلا تَفتَحَنَّ علَى يدِ أحَدٍ مِنهُم بابا، لا نطيق سدَّهُ نحنُ ولا أنت ، والسَّلام . » (5) [ أقول : قال المفيد رحمه الله في كتاب الجمل : ] وروَى أبو مِخْنَف _ لوطُ بن يَحْيَى _ قال : لمَّا استعمل أميرُ المونين عليه السلام عبد اللّه بن العبَّاس على البصرة ، خَطَب النَّاسَ فَحَمِدَ اللّه َ ، وأثنى عَلَيهِ ، وصلَّى علَى رَسولِهِ ، ثُمَّ قال : « يا مَعاشِرَ النَّاسِ ، قد استَخلَفتُ عَلَيكُم عبد اللّه بن العبَّاس ، فاسْمَعوا له ، وأطيعوا أمرَه ، ما أطاع اللّه َ ورسولَهُ ، فإن أحدَثَ فيكُم أو زاغَ (6) عَن الحقّ، فأعلِموني أعزِلْهُ عَنكُم ؛ فإنِّي أرجو أن أجِده عفِيفا تقيَّا وَرِعا ، وإنِّي لم أُوَلِّهِ عَلَيكُم ، إلاَّ وأنا أظنُّ ذلِكَ بِهِ ؛ غَفَر اللّه ُ لنا ولكم » . (7) [ ونقل الكليني رحمه الله خطبة له عليه السلام _ بعد انقضاء حرب الجمل _ ولعلّ ما نقلَهُ المفيد رحمه اللهشطر منه ، ولذلك نوردها هنا : ] مُحَمَّد بنُ يَحْيَى ، عن أحْمدَ بن مُحَمَّد بن عِيسَى ، عن الحَسَن بن مَحْبُوب ، عن مُحَمَّد بن النُّعْمَان أبِي جَعْفَر الأحْوَل ، عن سَلاّم بن المُسْتَنِير ، عن أبِي جَعْفَر عليه السلام ، قال : إِنَّ أمِيرَ المُومِنِين عليه السلام ، لَمَّا انْقَضَتِ القِصَّةُ فيما بَيْنَه وبيْن طَلْحَة والزُبَيْر وعَائِشَة بالبصرة ، صَعِدَ المِنْبَر ، فَحَمِدَ اللّه َ وأثْنَى عليه وصَلَّى على رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ثُمَّ قال : « يا أيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الدُّنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، تَفْتِنُ النَّاسَ بالشَّهَوَاتِ ، وتُزَيِّنُ لَهُم بِعَاجِلِها ، وأيْمُ اللّه ِ إنَّهَا لَتَغُرُّ مَنْ أمَّلَها ، وتُخْلِفُ مَنْ رَجَاها ، وسَتُورِثُ أقوَاما النَّدَامَةَ والحَسْرَة بإقبَالِهم عَلَيها ، وتَنَافُسِهِمْ فيها ، وحَسَدِهِمْ ، وبَغْيِهِمْ على أهل الدِّينِ والفَضْل فيها ، ظُلْما وعُدْوَانا ، وبَغْيا وأشَرا وبَطَرا ، وبِاللّه ، إنَّهُ ما عَاشَ قَوْمٌ _ قَطُّ _ في غَضَارَةٍ من كَرَامَة نِعَمِ اللّه ِ في مَعَاشِ دُنْيَا ، ولا دَائِمِ تَقْوَى في طَاعَة اللّه ، والشُكْر لِنِعَمِه ، فَأزَالَ ذَلك عنهم ، إِلاّ مِن بَعدِ تَغْيِيرٍ من أنْفُسِهِم ، وتَحْوِيلٍ عن طَاعَة اللّه ِ ، والحَادِثِ من ذُنُوبِهِمْ ، وقِلَّةِ مُحَافَظَةٍ ، وتَرْكِ مُرَاقَبَةِ اللّه ِ جَلَّ وعَزَّ وتَهَاوُنٍ بشكر نِعْمَة اللّه ، لِأنَّ اللّه عز و جل يقول في مُحْكَم كِتَابِه : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَ إِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ » (8) . ولَو أنَّ أهْلَ المَعَاصِي ، وكَسَبَةَ الذُّنُوبِ ، إذا هُم حَذِرُوا زَوَالَ نِعَمِ اللّه ِ ، وحُلُولَ نَقِمَتِه ، وتَحْوِيلَ عَافِيَتِه ، أيْقَنُوا أنَّ ذَلك مِنَ اللّه ِ جَلَّ ذِكْرُهُ _ بمَا كَسَبَتْ أيْدِيهم _ ، فَأقْلَعُوا وتَابُوا ، وفَزِعُوا إلى اللّه جَلَّ ذِكْرُه ، بِصِدْقٍ مِن نِيَّاتِهِم ، وإِقْرَارٍ مِنهُم بِذُنُوبِهِم ، وإِسَاءَتِهِم ، لَصَفَحَ لَهُمْ عن كُلِّ ذَنبٍ ، وإذا لَأقَالَهُمْ كُلَّ عَثْرَةٍ ، ولَرَدَّ عَلَيهِم كُلَّ كَرَامَةِ نِعْمَةٍ ، ثُمَّ أعَادَ لهم من صَلاَح أمْرِهم ، ومِمَّا كانَ أنْعَمَ بِهِ عليهم ، كُلَّ مَا زَالَ عَنهُم ، وأُفْسِدَ عليهم . فَاتَّقُوا اللّه َ أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ ، واسْتَشْعِرُوا خَوْفَ اللّه جَلَّ ذِكْرُهُ ، وأخْلِصُوا اليقِينَ ، وتُوبُوا إِلَيه من قَبِيحِ ما اسْتَفَزَّكُمُ الشَّيْطَانُ مِن قِتَالِ وَلِيِّ الأمْرِ ، وأهْلِ العِلم بعد رَسُولِ اللّه صلى الله عليه و آله ، وما تَعَاوَنْتُمْ عَلَيهِ مِن تَفْرِيقِ الجَمَاعَةِ ، وتَشَتُّتِ الأمْرِ وفَسَادِ صَلاحِ ذَاتِ البَيْنِ ، إِنَّ اللّه َ عز و جل يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ، ويَعْفُو عن السَّيِّئَات ، ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ » . (9) [ و نقل المفيد رحمه الله هذه الخطبة بنحو آخر، وهي هكذا : ] من كلامه عليه السلام بالبصرة ، حينَ ظهرَ على القوم ، بعدَ حمدِ اللّه ِ والثَّناءِ عليه : « أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ اللّه َ ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ ، ومَغفِرَةٍ دائِمَةٍ ، وعَفوٍ جَمٍّ ، وعِقابٍ أليمٍ ؛ قضَى أنَّ رَحمَتَهُ ومَغفِرَتَهُ وعفوَه لأهل طاعتِهِ من خلقهِ ، وبِرحمَتِهِ اهتدى المهتدونَ ، وقضَى أنَّ نِقْمَتَه وسَطَواته وعقابَهُ على أهلِ مَعصيتِهِ من خلقِهِ ، وبعدَ الهُدى والبيِّناتِ ما ضلَّ الضَّالُّونَ . فما ظَنُّكم _ يا أهل البصرة _ وقد نكثْتُم بيعتي ، وظاهَرْتُم علَيَّ عَدُوِّي ؟ » فقامَ إليه رجلٌ ، فقال : نَظُنُّ خيرا ، ونَراك قد ظَفِرْتَ وقَدَرْتَ ، فإنْ عاقبْتَ فقد اجترمْنا ذلك ، وإن عفوْتَ فالعفوُ أحبُّ إلى اللّه ِ . فقال : « قَد عَفوْتُ عَنكُم ، فإيَّاكُم والفِتنَةَ ، فإنَّكم أوَّلُ الرَّعيَّةِ نَكَثَ البيعةَ ، وشقَّ عصا هذه الأُمَّةِ » . قال : ثُمَّ جلسَ للناس فبايَعوه . (10) [ وروى السَّيِّد الرضيّ في النَّهج كلامه عليه السلام في ذمّ أهل البصرة بعد وقعة الجمل : ] « كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وأَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ ، رَغَا فَأَجَبْتُمْ ، وعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ ، أَخْلاقُكُم دِقَاقٌ ، وعَهْدُكُم شِقَاقٌ ، ودِينُكُمْ نِفَاقٌ ، ومَاوكُمْ زُعَاقٌ ، والْمُقِيمُ بين أَظْهُرِكُم مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِه ، والشَّاخِصُ عنكم مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ من رَبِّه ، كأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُوجُو سَفِينَةٍ ، قد بَعَثَ اللّه ُ عليها العَذَابَ من فَوْقِهَا ومن تَحْتِهَا ، وغَرِقَ مَن في ضِمْنِهَا . وفي رِوَايَة : وأيْمُ اللّه ِ ، لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ، حَتَّى كأَنِّي أَنْظُرُ إلى مَسْجِدِها كَجُوجُو سَفِينَةٍ أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ » . (11) قال المسعودي : وخطب النَّاس خطبةً طويلة ، يقول فيها : « يا أهلَ السَبْخَةِ ، يا أهلَ المؤْتَفِكَةِ ، ائتفكتِ بأهلِكِ مِنَ الدَّهرِ ثلاثا ، وعلى اللّه ِ تمامُ الرَّابعة ، يا جُنْدَ المرأةِ ، يا أتباع البهيمة . . . » . (12) قال المفيد رحمه الله : ورَوى أبو مِخْنَف لوط بن يَحْيَى ، عن رجاله ، قال : لمَّا أرادَ أميرُ المونين عليه السلام التَوجُّهَ إلى الكوفة ، قام في أهل البصرة ، فقال : « ما تَنْقِمونَ عَليَّ يا أهلَ البَصرة ِ ؟ _ وأشار إلى قميصه وردائِهِ ، فقال : _ واللّه ، إنَّهما لَمِن غَزْل أهلي ، ما تَنْقِمون منِّي يا أهلَ البصرة ِ ؟ _ وأشار إلى صُرَّةٍ في يدِهِ فيها نَفَقَتُهُ ، فقال : _ واللّه ِ ، ما هي إلاَّ مِن غَلَّتي بالمدينة ؛ فإنْ أنا خَرَجْتُ مِن عندِكُم بأكثَرَ ممَّا تَرَوْن ، فأنا عِندَ اللّه ِ مِنَ الخائِنينَ . » (13) [ و ] نقل السَّيِّد الرضيّ رحمه الله : أنَّه عليه السلام أوصى إلى ابن عبَّاس عند استخلافه إيَّاه على البصرة : « سَعِ النَّاس بِوَجْهِكَ ، ومَجْلِسِكَ وحُكْمِك ، وإِيَّاكَ والْغَضَبَ ، فإِنَّهُ طَيْرَةٌ من الشَّيْطَانِ ، واعْلَم أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللّه ِ ، يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ ، ومَا بَاعَدَك من اللّه ، يُقَرِّبُك من النَّار » . (14) وقال المفيد رحمه الله : رَوى الواقدي عن رجاله ، قال : لمَّا أراد أمير المونين عليه السلام الخروج من البصرة استخلف عليها عبد اللّه بن العبَّاس ، وأوصاه، فكان في وصيَّته له أن قال : « يا ابنَ عبَّاس ، عَليكَ بِتقوى اللّه ِ ، والعدلِ بمَن وُلِّيت علَيهِ ، وأنْ تَبسُطَ للناسِ وَجهَكَ ، وتُوَسِّعَ عَلَيهِم مَجلِسَكَ ، وتَسَعَهم بِحِلمِكَ ، وإيَّاكَ والغضبَ ، فإنَّه طِيَرةٌ مِنَ الشَّيطانِ ، وإيَّاكَ والهَوى ، فإنَّه يَصُدُّكَ عن سبيلِ اللّه ِ ، واعْلَم أنَّ ما قرَّبَك مِنَ اللّه ِ ، فهوَ مُباعِدُكَ مِنَ النَّارِ ، وما باعَدَكَ مِنَ اللّه ِ، فهو مُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ ، واذكر اللّه َ كثيرا ، ولا تَكن مِنَ الغافِلينَ » . (15)
.
ص: 182
. .
ص: 183
. .
ص: 184
. .
ص: 185
. .
ص: 186
[ و ] رُوي أنَّ ابن عبَّاس كان قد أضرَّ ببني تميم ، حين وُلِّيَ البصرةَ من قِبَلِ عليّ عليه السلام ؛ للّذي عرفهم به من العداوة يوم الجمل ، لأنَّهم كانوا من شيعة طَلحَة والزُبَيْر وعائِشَة ، فحمل عليهم ابن عبَّاس ، وأقصاهم ، وتنكّر عليهم ، وعيَّرهم بالجمل ، حَتَّى كان يسمِّيهم: شيعة الجمل ، وأنصار عسكر ، وهو _ عسكر _ اسم جملِ عائِشةَ ، وحزب الشَّيطان ، فاشتدَّ ذلك على نفر من شيعة عليّ عليه السلام ، من بني تميم ، منهم حارثة بن قُدامَة ، وغيره ، فكتب بذاك حارثة إلى عليّ ، يشكو إليه ابن عبَّاس . فكتب عليه السلام إلى ابن عبَّاس هذا الكتاب . (1)
.
ص: 187
وهنا أُمور ينبغي التنبيه عليهاالأوّل :قوله عليه السلام : « اعلم أنَّ البصرة مَهبِطُ إبليس » أي: موضع هبوطه، وهذا إمَّا أن يكون : حينما أخرج من الجنَّة ، وأهبط إلى الأرض ، عند قوله تعالى : « فقال فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّ_غِرِينَ ». (1) أو لأنَّ البصرة بعيدة عن العلم والعلماء ، ولأجل ذلك صار كأنَّها مهبط إبليس ومأواه ، وفيها فَرَخَ ودَرَجَ . أو لأنَّها لكثرة المعاصي والفجور والفسوق، صارت كأنَّها مأوى إبليس وموطنه . أو لأنَّ فيها خواصّ طبيعيَّة، أوجبت كثرة أسباب العصيان ، وصارت كأنَّها مأوى إبليس ، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام ، حينما خرج من البصرة : « الحمدُ للّه ِ الذي أخرَجَني مِن أخبثِ البلادِ وأخْشَنِها تُرابا ، وأسْرعِها خَرابا ، وأقرَبِها من الماء ، وأبْعَدِها من السَّماء ، بها مَغيضُ الماء ، وبها تِسعَة أعْشار الشَّرّ ، وهي مسكنُ الجنِّ » . (2) أو أنَّها موطن شياطين الإنس، من أعوان الشَّيطان . [ وقوله عليه السلام : « فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالإحسَان إليهم » أي بعد أن كان حال البصرة ذلك ، من نفوذ إبليس فيهم فتعهدهم بالإحسان ، واحلل عقدة الخوف عنهم ، ودارهم بما تخمد به الفتن ، وتبدِّل به الأضغان والأحقاد، بالحبّ والوداد والمؤانسة والألفة ، ولا تدع مجالاً لوساوس الشَّيطان الرَّجيم ] . قال ابن الأثير : « حادثوا هذه القلوب بذكر اللّه ، فإنَّها سريعة الدّثور ، أي اجلوها واغسلوا الدَّرن عنها ، وتعاهدوها بذلك . . . » (3) . ففي المقام أمره الأمير عليه السلام ، أن يجلو قلوب أهلها ، ويغسل دَرَنَ الأحقادِ والضَّغائن ، ورين الوساوس المؤذيةِ المُودِيَةِ عنها بصقال الإحسان وماء البرّ . والتَنَمُّر على القوم : الغِلظة عليهم، والمعاشرة معهم بأخلاق النَّمر ، والنَّمر : سَبُع معروف ، أصغر من الأسد وأخبث وأجرأ منه ، وتنمّر له :أي تنكّر له وتغيَّر . والوَغْم _ بالفتح فسكون _ : الحَرب والقِتال والتِرَة والذّحل الثَّقيل . وفي النَّهاية : وفي حديث عليّ عليه السلام : « إنَّ بني تَميم لم يُسبَقوا بِوَغْمٍ في جاهليَّةٍ ولا إسلام » . الوغم : التِرَة ، يعني أنَّهم كانوا أهل بأس وقوَّة وشجاعة وحميَّة ، أي : لا ينبغي التَّنمّر والغِلظة على طائفة بلغوا في البأس والنَّجدة هذه المرتبة . أو أنَّهم لم يسبقوا بوغم في جاهليَّة ولا إسلام ، أي : لم يسبقهم أحد كان له حِقد وغيظ عليهم، فتنكَّر لهم وغلظ عليهم ، تشفِّيا منهم ونكاية بهم ؛ لقوّتهم وقهرهم . ويمكن أن يكون المراد : أنَّهم لشجاعتهم يقتحمون ويأخذون بالتّرَة والذّحل ، فلا يجوز تهييجهم، وإثارة غيظهم . (4) وقوله: « إِنَّ بَنِي تَمِيم ٍ لم يَغِبْ لهم نجْمٌ إلاَّ طَلَعَ لهم آخَرُ » ، كنّى عليه السلام بالنَّجم عن أشراف تميم وساداتهم، الَّذِين يقتدى ويهتدى بهم وبفعالهم ، والمراد : أنَّ بني تميم قوم فيهم من السَّادة العظماء، والرِّجال الكِبار كثيرون ، بحيث لم يمت منهم أحد من عظمائهم، إلاّ طلع فيهم آخر ، فأنار وأضاء . فكلّ قوم فيهم الرِّجال الكبار، ذوو الفضائل والفواضل ، لا ينبغي الشِّدة والتَّنمّر لهم لوجود هؤلاء ، أو لأنَّ قوما يولد وينشأ فيهم هؤلاء، ينبغي أن يكرموا . ويبدو أنّ هذه الأسباب هي التي دعت أمير المؤمنين عليه السلام ، أن يحذّر ابن عبّاس منهم، ويأمره بإكرامهم (5) .
.
ص: 188
. .
ص: 189
الثَّاني :إنَّ قوله عليه السلام : « إِنَّهُم لم يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ » يشعِر بكَثرة حروبهم ، وما تمتاز به هذه القبيلة من تاريخ حربي في الجاهليَّة والإسلام ، ولهم أيَّام معروفة في التَّاريخ، لا بأس بذكرها مختصرا : 1 _ يوم النِّسار : ( بالنون المكسورة والسِّين ) كان بين ضَبَّة وتَميم ، قادها حاجب بن زُرَارَة . 2 _ يوم الفِجار : كان بين بَكر وتَميم . 3 _ يوم الفِجار : ( بكسر الفاء وفتح الجيم ) ، وكان أربعة أيَّام ويوم واحد منها بين بَكر بن وائل وتميم . 4 _ يوم العُضالي : يوم بَكر بن وائل وتَميم ، وهو آخر أيَّامهم ،( وقيل يوم الفضال ) . 5 _ يوم الصّفقة : يوم أمر كسرى هَوْذَة بن عليّ بالايقاع ببني تَميم ، بسبب عير كسرى الَّتي كان يجريها هَوْذَة بن علي ّ ، فلمَّا سارت ببلاد حَنْظَلَة اقتطعوها برَأي صَعْصَعَة وناجية ، جدَّا الفَرَزْدَق ، فأوقع بهم هَوْذَة ، فقتلهم خدعة . 6 _ يوم القُصَيبَة : وهو يوم كان لعمرو بن هند على تميم ، فانتصر عليهم وأحرق منهم . 7 _ يوم جزع ظلال : كان بين فَزَارَة وتَميم . 8 _ يوم الغَبيط : كان لشَيْبان من رَبِيعة ، على بني يَرْبُوع من تَميم ، وقيل كان لتَميم على شَيْبان . 9 _ يوم الكُفَافَة : كان بين فَزَارَة وبني عَمْرو ، وبني تَميم . 10 _ يوم بُسيان : كان لبني فَزَارَة على تَميم . 11 _ يوم النِّباج : كان لبني تميم على شَيْبان ؛ وفي الكامل : على بَكر بن وائل . 12 _ يوم الزّويرين : كان لشَيْبان على تَميم . 13 _ يوم رَحْرَحَان الثَّاني : كان بين تَميم وبنى عامِر . 14 _ يوم طَخفة : كان لبني يَرْبُوع ( من تَميم )، على قابوس ، المُنْذِر بن ماء السَّماء . 15 _ يوم اَرام : كان لتَغْلِب على بني يَرْبُوع . 16 _ يوم عاقل : كان بين جُشَم ، وبين بني حَنْظَلَة من تَميم . 17 _ يوم قُراقِر : كان لمجاشع من تميم ، على بَكر بن وائل . 18 _ يوم أُوَارة الثَّاني : كان بين بني عَمْرو بن هند وبني تميم . 19 _ يوم الصُلَيْب : كان بين بَكر بن وائِل ، وبني تميم . 20 _ يوم ظهر : كان بين عَمْرو بن تَميم وضَبَّة . 21 _ الفزعاء : كان بين بني مالك ، وبني يَرْبُوع . 22 _ يوم مَلْهَم : كان بين بني تَميم ، وبني حنيفة . 23 _ يوم داب : كان لبني يَرْبُوع على بني كلاب . 24 _ يوم زَروُد : كان بين بني تَغْلِب، وبني يَرْبُوع . 25 _ يوم الوقد : كان لبني تَميم ، على بني عامر . 26 _ يوم الهَرير : كان لبني تَميم ، على بَكر بن وائل . 27 _ يوم نَجران : كان لبني تَميم على بني الحارث بن كَعْب . 28 _ يوم الفَروق : كان لقَيْس ، على سَعْد تَميم . 29 _ يوم الكُلاب (1) الأوَّل : لتَميم ، على مَذْحِج . 30 _ يوم الوَقيط : لبَكر _ من ربيعة _ على تَميم . 31 _ يوم ثَيْتَل : لتَميم على بَكر ، وثَيْتَل ، ماء على مراحل من البصرة . 32 _ يوم جَدود : لبني مِنْقَر _ من تَميم _ على بَكر من ربيعة . 33 _ يوم ذي طُلُوع : لبني يَرْبُوع _ من تميم _ على بَكر _ من ربيعة _ . 34 _ يوم الإياد : لبني يَرْبُوع _ من تَميم _ على بَكر ، ويسمّى: يوم العطالى ، ويوم الإفاقة ، ويوم مليحة ، ويوم أعشاش . 35 _ يوم زُبالَة : وهو لشَيْبان على تَميم . 36 _ يوم مُبايض : وهو _ أيضا _ لشَيْبان على تَميم . 37 _ يوم الشّيِّطين : لبَكر على تميم ، والشَّيِّطان واديان . 38 _ يوم الوَقَبَى : لتميم على بَكر . 39 _ يوم الشِّباك : لبني القَصاف _ من تَميم _ على تَميم اللّه بن ثَعْلَبَة من بَكر . 40 _ يوم شِعْب جَبَلَةَ : لعامر من قَيْس وحلفائهم على تَميم وحلفائهم . 41 _ يوم ذي نَجَب : لبني تَميم على بني عامر . 42 _ يوم الصَّرائِم : بين عَبس ويَرْبُوع . 43 _ يوم الرِّغام : لبني يَرْبُوع _ من تَميم _ على كُلاب بن قَيْس . 44 _ يوم المروَّة : لتَميم ، على عامر بن قَيْس . 45 _ يوم صُؤر : لبني حَنْظَلة على بني رِياح ، وكلاهما من تَميم . 46 _ يوم ذي أَحْثال : لبني تَميم مع بَكر بن وائل . 47 _ يوم الغَول الأوَّل : بين تَميم ، وبَكر بن وائل . 48 _ يوم الغَول الثَّاني : بين تَميم وبني غَسَّان . 49 _ يوم الجبات : بين تَميم وبَكر بن وائل . 50 _ يوم إراب : بين تَغْلِب ، وبني تَميم . 51 _ يوم الوَتِدَة : بين بني تَميم ، وعامِر بن صَعْصَعة . 52 _ يوم مَلْزَق : كان لبني تَميم ، على عامِر وعَبْس . 53 _ يوم الشُّعبية . 54 _ يوم الكُلاب الثَّاني : لبني تَميم ، مع بني الحارث بن كَعب . 55 _ يوم مُسَلِّحَة : لبني تَميم ، على عِجْل ، غَزا فيه قَيْس بن عاصِم ، وبنو غِيَرَة بالنّباج ثَيْتَل إلى جنب مسلحة . 56 _ يوم الزُخَيْخ : لتَميم على اليَمَن . 57 _ يوم جَهْجُوه . 58 _ يوم الرَّحمان . 59 _ يوم ذات الشُّقوق : لبني تَميم وأسَد . 60 _ يوم شوير . 61 _ يوم صَعْفُوق : لبَكر على تَميم . 62 _ يوم فَيْحان : بين تَميم ورَبيعة . 63 _ يوم سَفوان : بين تَميم وشَيْبان ومازِن . 64 _ يوم الشَقِيق : لبَكر على تَميم . 65 _ يوم تقا : بين تَميم وشَيْبان . 66 _ يوم مخطط : لبني يَربُوع على بَكر . 67 _ يوم جَدُود : بين بَكر بن وائل ، وبني مِنْقَر من تَميم . 68 _ يوم خَوّ : بين أسَد وبني يَربُوع . 69 _ يوم السِّتار : بين تَميم وبَكر . 70 _ يوم سَفار : بين تَميم وبَكر . 71 _ يوم نعف قُشاوَة : بين شَيْبان وتَميم . 72 _ يوم بارق : بين تَميم وتَغْلِب والنَّمر . 73 _ يوم اِقرن : بين تَميم وعَبْس . 74 _ يوم فَلْج : لبَكر بن وائل على تَميم . (2)
.
ص: 190
. .
ص: 191
. .
ص: 192
. .
ص: 193
. .
ص: 194
وفضائل تميم كثيرة :منها : كثرة عددهم ، وأكثرهم في بني كَعْب بن سَعْد . ومنها : الإفاضة في الجاهليَّة ، كان ذلك في بني عُطارد ، وهم يتوارثونهُ كابرا عن كابر، حَتَّى جاء الإسلام . ومنها : إنَّ منهم بيوتا شريفة ، ورجالاً كِبارا ، منهم : قَيْس بن عاصم ، الَّذي قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ( هذا سيّد أهل الوبر ). (1) ومنهم : زُرَارَة بن عدس ، يقال عنه : إنَّه أشرف البيوت في بني تميم ، وكان حكيما من قضاة تميم ، وكان رئيسهم يوم شويحط . (2) ومنهم : حاجب بن زُرَارَة ، الَّذي وفد على كسرى ، وتكلَّم عنده ، هو وأكثَمُ بن صَيْفِي ّ . ووفد ثانيا _ لمّا منع كسرى تَميما من ريف (3) العراق _ وتكلَّم بما أعجب كسرى ، ثُمَّ رهن عندهُ قوسه ، ليفي بما وعده من الشَّرط للإذن بالدخول في ريف العراق . وسُمّي: أوفى العرب ، ووفد إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله مع تَميم . (4) ومنهم : عُطارد بن حاجب بن زُرَارَة ، وفد على كسرى فطلب قوس أبيه ، ووفد على النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وهو رئيس تَميم ، فأسلم على يديه ، وأهدى إليه صلى الله عليه و آله تلك القوس فلم يقبلها، فباعها من رجل بأربعة آلاف درهم . قال الجاحظ : ومن خطباء العرب ، عُطارد بن حاجب بن زُرَارَة ، وهو كان الخطيب عند النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وقال فيه الفَرَزْدَق : ومنَّا خطيب لا يعاب وحاملأغرّ إذا التفت عليه المجامع وفد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله سَ نَة تسع ، وقيل: سَنَة عشر ، والأوَّل أصح ، وأهدى إليه ثوب ديباج كساه إيَّاه كسرى ، واستعمله النبيّ صلى الله عليه و آله على الصَّدقات في بني تميم . (5) ومنهم : صَعْصَعَة بن ناجِية ، وهو أوَّل من أحيا الموؤودات قبل الإسلام ، وقد اشترى ثلاثمئة موؤودة ، فأعتقهنَّ وربّاهنَّ ، وقرى مئة ضيف ، وكان من أشراف بني مجاشع في الجاهليَّة والإسلام . (6) ومنهم : غالب بن صَعصَعة ، وهو أبو الفَرَزْدَق ، وهو الَّذي قرى مئة ضيف ، واحتمل عشر ديَّاتٍ، لقوم لا يعرفهم ، وفيه قال الفَرَزْدَق : فَلِلهِ عينا مَنْ رَأى مِثْلَ غالِبٍقَرَى مئةً ضَيْفا ولَمْ يَتَكَلَّمِ ولقي عليَّا بالبصرة ، وأدخل عليه الفَرَزْدَق ، وكان مشهورا بالجود . (7) ومنهم : خالد بن عَتَّاب ، الذي كان في الجاهليَّة أجود العرب ، قال ذلك الفَرَزْدَق عند سُلَيْمان ، فلم ينكره . (8) ومنهم : أحلم العرب أحْنَف بن قَيْس ، يضرب به المثل حلما ، وله كلمات قصار ، وخطب ، وله مواقف مع معاوية ، وزِياد ، وطَلْحَة ، والزُّبَيْر ، وله نصائحُ لقومه ، ودفاع عن العجم ، وله موقفٌ مع عمر . (9) ومنهم : الحَرِيش بن هِلال السَعْديّ ،يقال فيه : أنَّه كان أشجع العرب ، ذكره الفَرَزْدَق عند سُلَيْمان مُفاخَرَةً، فلم ينكره . ومنهم : عُتَيْبَة بن الحارث بن شهاب اليَربُوعيّ ، ولو ذكره الفَرَزْدَق لسُلَيْمان ، وقال : إنَّه أشجع العرب ، لكان غير مدافع . قالوا : كانت العرب تقول : لو وقع القمر إلى الأرض، لما التقفه إلاَّ عُتَيْبَة بن الحارث ، لمهارته بالرُّمح ، وكان يقال له : صياد الفوارس ، وسمّ الفوارس . وهو الَّذي أسر بِسْطام بن قَيْس . . . وهو المُقدَّم على فرسان العرب كلّها . . . (10) ومنهم : هند بن أبي هالة ، أكرم النَّاس عمَّا وعمَّةً وجدَّا وجدَّةً ، ابن خَدِيجة عليهاالسلام ، من أبي هالة ، فتبناه النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، قتل مع عليّ عليه السلام يوم الجمل ، وهو الَّذي روى الحسن والحسين عليهماالسلام عنه أوصاف النَّبيّ صلى الله عليه و آله . (11) ومنهم : أكثَمُ بن صَيْفِي ّ ، أحكم العرب في الجاهليَّة ، أحد بني أسَد بن عَمْرو بن تميم ، كان أكثر أهل الجاهليَّة حِكَما ومَثَلاً وموعظةً سائرة . وكتب إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وأجابه رسول اللّه صلى الله عليه و آله . (12) ومنهم : ذو الأعْواز ، كان له خَراج على مُضر ، خَراج توِّيه إليه حَتَّى شاخ ، فكان يحمل على سرير، فيطاف به على مياه العرب ؛ فَيوَّى إليه الخَراج . ومنهم : هلال بن أحوز المازني ّ ، الَّذي ساد تَميما كلّها في الإسلام ، ولم يسدّها غيره . (13) ومنهم : لَقِيط بن زُرَارَة ، الَّذي قاد تَميما يوم جَبلَّة . (14) ومنهم : قعقاع بن مَعْبَد بن زُرَارَة ، له صحبة، كان يقال له : تيَّار الفرات ؛ لسخائه ، وكان من سادات تَميم . (15) ومنهم : قعقاع بن عَمْرو التَميمي ّ ، أخو عاصِم ، كان من الشُّجْعان الفُرسان . (16) ومنهم : مُحَمَّد بن عُميْر بن عُطارِد بن حاجِب بن زُرَارَة ، وهو ممَّن كتب إلى الحسين عليه السلام ، وكان أحد أمراء عليّ عليه السلام بصفِّين . (17) ومنهم : ضِرَار بن القعقاع من بني دارم ، في قصَّة حكاها الأصْمعيّ ، إلى أن قال : لمَّا دخل ضِرَار المسجد، فلم تبق حبوة إلاَّ حلَّت إعظاما له ، ثُمَّ جلس فتحمَّل جميع ما كان بين الأحياء في ماله ، ثُمَّ انصرف ، وهو من رؤساء بني تَميم . (18) ومنهم : عَتَّاب بن هرمي بن رِياح ، من بَني رَباح بن يَربُوع ، كانت له ردافة الملوك ، ملوك آل المُنْذِر ، وورث ذلك بنوه كابرا عن كابر ، حَتَّى قام الإسلام . (19) ومنهم : عَتَّاب بن وَرْقاء ، يقال : أنَّه أحلم العرب ، وهو من أجود العرب ، وهو شجاع فاتك . (20) ومنهم : عَمْرو بن الأهْتَم المِنْقَري ّ ،الخطيب عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، و عند عمر بن الخَطَّاب ، وكان شاعرا ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ لمّا أعجبه كلام عمرو _ : « إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحرا » . ويضرب به المثل في البلاغة ، وقد عدَّه الجاحظ : ممَّن يجمع الشِّعر والخطابة ، وكان يُدعى المُكَحَّل؛ لجماله ، وهو الَّذي قيل فيه : إنَّما شعره حُلَل منتشرة بين أيدي الملوك ، تأخذه منه ما شاءت ، ولم يكن في بادية العرب أخطب منه . (21) ومنهم : الأقْرَع بن حابِس ، وفد إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله مع عُطارد بن حاجِب ، وزِبْرِقان بن بَدر ، وقَيْس بن عاصِم ، وغيرهم من الأشراف ، وهم الَّذِين نادوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله من وراء الحُجُرات ، وجاؤوا إليه بخطيبهم وشاعرهم للمفاخرة ، وكان شريفا في الجاهليَّة والإسلام ، وكان حَكَما في الجاهليَّة ، وكان من المؤلّفة قلوبهم ، وكان رئيسا في يوم لشَيْبان على تَميم ، ويفتخر الفَرَزْدَق بشجاعته . (22) ومنهم : زِبْرِقان بن بَدر ، كان من الوافدين إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وجعله على صدقات عَوْف والرَّباب ، وكان شاعرا يعادل بالحُطَيئَة والمُخَبَّلِ . وكان له ثلاثة أسماء : منها القمر ، وسُمِّي بذلك لصفرة عمامته ولسؤدده وسخائه ، وهو شاعر وفد تميم عند النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وكان سيّدا في الجاهليَّة ، وعظيم القدر في الإسلام . (23) ومنهم : الحُتات _ بِشْر _ بن يَزيد المُشاجِعي ّ التَميميّ الدَّارِميّ ، كان من الوافدين إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وكان أعرف الناس بمواقع العيوب ، وأبصرهم بدقيقها وجليلها . (24) ومنهم : أُحَيْمِر بن خَلَف بن بهدَلة بن عَوْف بن كَعْب بن سَعْد بن زَيْد مناة بن تَميم . ولمَّا قال المُنْذِر بن المُنْذِر بن ماء السَّماء ذات يوم _ وعندَه وفودُ العرب _ ، ودعا بِبُردَي أبيه محرِّق بن المُنْذِر ، فقال : ليَلْبَس هذين أعزُّ العَرَب ، وأكرمُهم حَسَبا ، فأحجَمَ النَّاس ، فقال أحيمر بن بهدَلة . . . بن تَميم: أنا لهما ، قال الملك : بماذا ؟ قال : بأنَّ مُضر َ أكرمُ العرب ، وأعزُّها وأكثرها عَديدا ، وأنَّ تَميما كاهِلها وأكثرها ، وأنَّ بَيْتَها وعددها في بني بَهدلة بن عَوْف ، وهو جَدَّي ، . . .وقال : أنا أبو عَشرَة ، وأخو عَشرَة وعمّ عَشرَة . . . (25) ومنهم : قَيْس بن عاصِم المِنْقَري ّ ، فهو في سادات بني مِنْقَر من تَميم ، ويعدّ من سادات أهل الوبر ، ومن حُلماء تَميم ، وممَّن حرَّم الخمر على نفسه في الجاهليَّة . (26) ومنهم : جارية بن قُدامَة ، وحارِثة بن بَدر ، وزَيْد بن جَبَلَة ، وأعْيَن بن ضُبَيْعَة ، واُحَيْمِر بن عبد اللّه ، ونَعِيم بن زَيْد . قال الجاحظ : ولإياد وتَميم في الخُطب خَصلة _ ثُمَّ نقل كلام قَيْس بن ساعدة وعَمْرو بن الأهْتَم والأحْنَف _ وقال : ومن خطباء بني تَميم عَمْرو بن الأهْتَم . . . وصَفْوَان بن عبد اللّه بن الأهْتَم ، وعبد اللّه بن عبد اللّه بن الأهْتَم . . .و محمَّد الأحْوَل بن خاقان ، ومعمَّر بن خاقان ، ومؤمّل بن خاقان ، وخاقان بن المؤمّل بن خاقان ، وصَبَاح بن خاقان ، والحَكَم بن النَّضْر ، وهو أبو العَلاء المِنْقَري ّ ، والخَزْرَج بن الصَّدِي ّ ، وعَمَّار بن سُلَيْمان ، وعبد اللّه وجَبْر ، ابنا حَبِيب ، وعبد اللّه وعبَّاس ابنا رُؤبة وخِدَاش بن لَبيد . (27) وفي شجاعة بني تميم ، قال دَغْفَل النّسَّابة : « حُجْرٌ أخشَنُ ، إن دنوت منه آذاك ، وإن تركتَه خلاّك » . (28) هؤلاء جمع من رجال تَميم ، فمن أراد تفصيل تراجمهم وبلاغتهم وفصاحتهم وعلمهم وسخائهم وشجاعتهم ، فليراجع المصادر المتقدّمة . هؤلاء فيهم الجواد والشُّجاع، والحليم والحكيم، والخطيب في الجاهليَّة والإسلام . وقد عبّر أمير المؤمنين عليه السلام عن هؤلاء ، بالنُّجوم ، مدحا لهم بما فيهم من كرائم الأخلاق والصِّفات الفاضلة ، وإن كان منهم اتّباع مسيلمة وسجاح ، ومنهم اتّباع بني أُميَّة ، وقتلة سيِّد الشُّهداء ، أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام ، وكان منهم اتّباع طَلْحَة والزُّبَيْر وعائِشَة ، واتّباع عبد اللّه بن الحَضْرَمِي ّ . وفي الحقيقة مدح عليه السلام الصِّفات الفاضلة والمواقف الكريمة ، لأنَّ الفضائل ممدوحة ، ولو كانت في فاسق أو فاجر . . .
.
ص: 195
. .
ص: 196
. .
ص: 197
. .
ص: 198
. .
ص: 199
. .
ص: 200
. .
ص: 201
الثَّالث :إنَّ في بيان قوله عليه السلام « و إنَّ لهم بِنَا رَحِما مَاسَّةً » إلى آخر قوله عليه السلام « مَأْزُورُونَ على قَطِيعَتِهَا » لابُدَّ من بيان أُمور : الأوَّل : إنَّ من المعلوم _ وبنصّ القرآن الكريم _ وجوب صِلة الأرحام ، وحرمة قطعها ، قال اللّه عز و جل : « وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ » (1) ، وقال سبحانه : « فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ » (2) و « وَ يَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَ_سِرُونَ » . (3) ويدلُّ عليه من السُّنَّة ، الأحاديث المتواترة ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حديث : « ألاَّ إنّ فِي التَّبَاغُضِ الحَالِقَةَ ، لا أعْنِي حَالِقَةَ الشَّعْرِ ، و لَكِنْ حَالِقَةَ الدِّينِ . (4) وعن أبي عَبد اللّه ِ عليه السلام : اتَّقُوا الحَالِقَةَ ، فَإِنَّهَا تُمِيتُ الرِّجَالَ . قُلْتُ : ومَا الحَالِقَةُ ؟ فقال قَطِيعَةُ الرَّحِمِ » . (5) [ ونقل ] عُثْمَانُ بن عِيسَى ، عن بَعض أصْحَابِنَا ، عن أبِي عَبد اللّه عليه السلام قال : قُلْتُ له : إِنَّ إخوَتِي وبَنِي عَمِّي قد ضَيَّقُوا عليَّ الدَّار ، وألْجؤونِي منها إلى بَيْتٍ ، ولو تَكَلَّمْتُ أخَذْتُ ما في أيدِيهم ، قال : فَقَال لي : « اصْبِر ، فَإِنَّ اللّه َ سَيَجْعَلُ لكَ فَرَجا » . قَال : فَانْصَرَفْتُ ، ووَقَعَ الوَبَاءُ في سَنَةِ إِحْدَى وثَلاثِين ومئَةٍ ، فَمَاتُوا واللّه ِ كُلُّهُمْ ، فما بَقِي مِنهم أحَدٌ . قال : فَخَرَجْتُ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَليه ، قال : « ما حَالُ أهْلِ بَيْتِكَ ؟ » قال : قُلْتُ لَه : قد مَاتُوا واللّه ِ كُلُّهُم ، فمَا بَقِيَ مِنهم أحَدٌ . فَقَال : « هُو بِمَا صَنَعُوا بِكَ، وبِعُقُوقِهِمْ إِيَّاكَ ، وقَطْع رَحِمِهِم بُتِرُوا ، أ تُحِبُّ أنَّهُم بَقوا وأنَّهُم ضَيَّقُوا عَلَيْك ؟ » قال : قُلْت : إِي واللّه . (6) وعن أبي جعفر عليه السلام : « في كِتَاب عَلِيٍّ عليه السلام : ثَلاثُ خِصَالٍ لا يَمُوتُ صَاحِبُهُنَّ أبَدا حَتَّى يَرَى وَبَالَهُنَّ : البَغْيُ ، وقَطِيعَةُ الرَّحِم ، واليَمِينُ الكَاذِبَةُ يُبَارِزُ اللّه َ بها ، وإِنَّ أعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابا لَصِلَةُ الرَّحِم ، وإِنَّ القَوْمَ لَيَكُونُونَ فُجَّارا ، فَيَتَوَاصَلُونَ فَتَنْمِي أمْوَالُهُمْ ويُثْرُونَ ، وإِنَّ اليَمِينَ الكَاذِبَةَ وقَطِيعَةَ الرَّحِمِ ، لَتَذَرَانِ الدِّيَارَ بَلاقِعَ مِنْ أهْلِها ، وتَنْقُلُ الرَّحِمَ ، وإِنَّ نَقْلَ الرَّحِمِ انْقِطَاعُ النَّسْلِ » . (7) وعن أبي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قال : قَال أمِيرُ المُومِنِينَ عليه السلام فِي خُطْبَتِه : « أعُوذُ بِاللّه ِ مِن الذُّنُوبِ الَّتي تُعَجِّلُ الفَنَاءَ » ، فَقَام إِلَيْه عَبْدُ اللّه بنُ الكَوَّاء اليَشْكُرِي ُّ ، فَقَال : يَا أمِيرَ المُومِنِين َ ، أوَ تَكُونُ ذُنُوبٌ تُعَجِّلُ الفَنَاء ؟ فَقَال عليه السلام : « نَعَم ويْلَكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ ، إِنَّ أهْل البَيْت لَيَجْتَمِعُونَ ويَتَوَاسَوْنَ وهُمْ فَجَرَةٌ ، فَيَرْزُقُهُمُ اللّه ُ ، وإِنَّ أهْلَ البَيْتِ لَيَتَفَرَّقُون ويَقْطَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضا ، فَيَحْرِمُهُمُ اللّه ُ وهُم أتْقِيَاءُ » . (8) وقال أمِيرُ المُومِنِين عليه السلام : « إِذَا قَطَّعُوا الأرْحَامَ ، جُعِلَتِ الأمْوَالُ فِي أيْدِي الأشْرَارِ . (9) وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ في وصيَّته لعليّ عليه السلام _ : قال اللّه جل جلاله : وعزَّتي وجَلالي ، لا يَدخُلُها مُدمِنُ خَمرٍ، ولا نَمَّامٌ، ولا دَيُّوثٌ، ولا شُرطيٌّ، ولا مُخَنَّثٌ ولا نَبَّاشٌ، ولا عَشَّارٌ، ولا قاطِعُ رَحِمٍ » ، الحديث . (10) وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّة : مُدمِنُ خمرٍ ، ومُدمِنُ سِحرٍ ، وقاطع رَحِمٍ » . . . (11) وعنه صلى الله عليه و آله قال : « أخبرني جبرئيل عليه السلام ، أنَّ ريحَ الجنَّة يُوجَدُ مِن مَسيرَةِ ألفِ عامٍ، ما يَجِدُها عاقٌ ولا قاطِعُ رَحِمٍ » . . . (12) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدَّالة على حرمة قطع الرَّحم ، وكونه معصية كبيرة من الكبائر . وإن أردت الوقوف على الأحاديث الواردة عن النَّبي ّ العظيم صلى الله عليه و آله وعترته الطَّاهرة عليهم السلام ، فراجع المصادر التي أشرنا إليها في الهامش؛ حَتَّى تقف على أهميَّة صلة الرحم ، وخطورة القطيعة ، وآثارهما الدُّنيويَّة ، والأُخرويَّة ، والفرديَّة ، والإجتماعيَّة ، والماديَّة ، والمعنويَّة ؛ أعاذنا اللّه _ تبارك وتعالى _ من القطيعة ، ووفّقنا لصلة الأرحام ، إن شاء اللّه . (13) الثَّاني : ما المراد من الرَّحم والأرحام في هذا المقام ؟ ومَن هم ؟ فهل يقتصر على بطن أو بطون معيَّنة أم لا ؟ قال شيخنا البهائي قدس سره : قصر العلماء الرَّحم على مَن يحرم نكاحه ، والظَّاهر أنَّه كل مَن عُرِفَ بِنسبَتهِ وإن بَعُد ، ويؤيده ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : « فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الْأَرْضِ وتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ » (14) أنَّها نزلت في بني أُميَّة ، وما صدر عنهم ، بالنِّسبة إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام (15) . ولا يخفى كم من البعد بين الأئمّة عليهم السلام وبني أُميَّة من النَّسب . وقال العلاّمة السَّيِّد في شرح الصَّحيفة ، في شرح الرَّوضة الثَّانية : سُمّيت القرابةُ رَحِما ؛ لكونهم يرجعون إلى رحم واحدة ، واختلف العلماء في تحقيق معناها ، فقيل : هي خلاف الأجنبي ، فتعمّ القرابة والوصلة من الولاء ، ذكره القيّومي في المصباح . وقيل : هي قرابة الرَّجل من طرفيه : آبائه وإن علوا ، وأبنائه وإن سَفَلوا ، وما يتّصل بالطرفين من الأعمام والعمّات والإخوة والأخوات وأولادهم . وقيل : هي الرَّحم الَّتي تجب صلتها ، كلّ رحم بين اثنين ، لو كان ذكرا لم يتناكحا ، فعلى هذا ، لا يدخل أولاد الأعمام وأولاد الأخوال . وقيل : هي _ الرحم _ نسبة واتصال بين المنتسبين اللّذين تجمعهما رحم واحدة . قيل : وهذا يشبه أن يكون دوريّا ، وليس بدوريّ ، لأنَّ الرَّحم الواقعة في التَّعريف ، بمعنى موضع تكوين الولد فلا دور ، هذا معنى قول بعضهم : الرحم تعمُّ كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بَعُد ، وهو أقرب إلى الصَّواب ، ويدلّ عليه ما رواه عليّ بن إبراهيم ، في تفسير قوله تعالى : « فَهَلْ عَسَيْتُمْ . . . » _ وذكر الرِّواية المتقدّمة _ . (16) وقال العلاّمة القرطبي في تفسيره : الرَّحم اسم لكافَّة الأقارب ، من غير فرق بين المَحرَمِ وغيره . وأبو حنيفة يعتبر الرَّحم المحرم ، في منع الرجوع في الهبة ، ويجوز الرُّجوع في حقّ بني الأعمام، مع أنَّ القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ... (17) وروى السُّيوطي فقال : وأخرج الطَّيالسي والحاكم وصحّحه ، والبيهقي عن ابن عبَّاس رحمه الله ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « اعرفوا أنسابَكُم ، تَصِلوا أرحامَكُم ، فإنَّه لَأقرَبُ لِرَحِمٍ إذا قُطِعَت وإن كانت قريبة ، ولا بُعدَ لها إذا وُصِلَت وإن كانت بَعيدَةً » . (18) وعن الإمام الرِّضا عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « لمَّا أُسرِيَ بي إلى السَّماءِ رأيتُ رَحِما مُتعلِّقةً بالعرش ، تشكو رَحِما إلى رَبِّها ، فَقُلتُ لها : كم بَينَكِ وبَينها مِن أبٍ ؟ فَقالَت : نلتقي في أربَعِينَ أبا » . (19) وعن داوود بن كثير الرِّقي ّ ، قال : كنت جالسا عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، إذ قال مبتدئا من قِبَل نفسه : « يا داودُ ، لَقد عُرِضَت عليَّ أعمالُكم يَومَ الخميسِ ، فَرأيتُ فيما عُرِضَ عليَّ من عَمَلِكَ ، صِلَتكَ لابن عَمِّكَ فلان ، فسرَّني ذلك » . . .الحديث . (20) عن ميسر قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : يا ميسرُ ، لقد زِيدَ في عُمُرِكَ ، فأيّ شيءٍ تَعمَلُ؟ قال : كنت أجيرا _ وأنا غُلامٌ _ بخمسة دراهم فكنتُ أجريها على خالي (21) . (22) عن سالمة ، مولاة أبي عبد اللّه عليه السلام قالت : كُنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، حين حضرته الوفاة ، فأُغمي عليه ، فلمَّا أفاق ، قال : أعطوا الحسنَ بنَ عليِّ بن الحسين و _ هو _ الأفطس سبعين دينارا . . . يا سالمةُ إنَّ اللّه َ خَلَقَ الجَنَّة وطيَّبها وطيَّب ريحها ، وإنَّ ريحَها لَتُوجَدُ مِن مَسيرَةِ ألفي عامٍ ، ولا يَجِدُ ريحها عاقٌّ ولا قاطعُ رحمٍ . (23) وقال الشَّهيد رحمه الله : التَّرغيب في صلة الأرحام ، والكلام فيها في مواضع ، الأوَّل : ما الرَّحم ؟ الظَّاهر أنَّه المعروف بنسبه وإن بَعُدَ ، إن كان بعضه آكد من بعض ، ذَكَرا كان أو أُنثى ، وقصره بعض العامَّة على المحارم الَّذين يحرُم التَّناكح بينهم، إن كانوا ذكورا وإناثا ، وإن كانوا من قبيل يقدر أحدهما ذكرا والآخر أُنثى ، فإن حَرُمَ التَّناكح فهو الرَّحم . . . . وهذا بالإعراض عنه حقيق ، فإنَّ الوضع اللُّغوي يقتضي ما قلناه ، والعرف أيضا والأخبار دلّت عليه ، وفيها تباعد بآباء كثيرة وقوله تعالى : « فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ » (24) ، عن عليّ عليه السلام : أنَّها نزلت في بني أُميَّة ، أورده عليّ بن إبراهيم رحمه الله في تفسيره ، وهو يدلّ على تسمية القرابة المتباعدة رحما . (25) وقال النَّراقي ّ رحمه الله : المراد بالرَّحم الَّذي يحرم قطعه وتجب صلته ، ولو وهب له شيء لا يجوز الرُّجوع عنه ، هو مطلق القريب المعروف بالنَّسب ، وإن بعُد النَّسب وجاز النِّكاح . (26) وفي حديث طويل قال الصَّادق عليه السلام ، للمنصور الدَّوانيقي : « فَصِلْ رَحِمَكَ يَزِدِ اللّه ُ في عُمُرِكَ ، ويُخفّف عَنكَ الحِسابَ يومَ حَشرِكَ » ، فقال المنصور : قد صَفَحتُ عَنكَ لِقَدرِكَ ، وتجاوَزتُ عَنكَ لِصِدقِكَ . . . (27) ولمَّا أحضره المنصور ، حدَّثه عليه السلام بحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « الرَّحِمُ حَبلٌ مَمدودٌ مِنَ الأرضِ إلى السَّماءِ ، يَقولُ : مَن قَطَعنِي قَطَعَهُ اللّه ُ . . . » الحديث . (28) وعنه عليه السلام _ فيما أورده على المنصور _ : « إنَّ رسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله قال : رأيت رَحِما متعلِّقة بالعرشِ ، تشكو إلى اللّه تعالى عز و جل قاطعها ، فقلت : يا جَبرَئِيل ُ كَم بَينَهُم ؟ قال : سَبعَةُ آباء . . . » . وعنه عليه السلام _ فيما قال للمنصور أيضا _ : «أنتَ ابنُ عَمّي وأمسُّ الخَلقِ بي رَحِما ». (29) وعنه عليه السلام عندما وقع بينه وبين عبد اللّه بن الحسن كلام ، ارتفعت فيه أصواتهما ، فبكّر عليه السلام وخرج إلى عبد اللّه ، وقال : « إنِّي مَرَرتُ البارِحَةَ بآيةٍ مِن كتابِ اللّه ِ فَأقلقني ، قال : وما هي ؟ قال : قوله عز و جل : « وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ » (30) . . .» (31) . وفي كلام الحسين عليه السلام المعروف أنَّه قال لعُمر بن سَعْد : « قَطَعَ اللّه ُ رَحِمَكَ . . . كما قَطَعتَ رَحِمي » (32) . وقال صلى الله عليه و آله : تَعلَّموا مِن أنسابِكُم ما تَصِلونَ بِهِ أرحامَكُم ، فإنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ محبّةٌ في الأهل ، مَثراةٌ في المالِ ، منسأةٌ في الأثر . (33) [ أقول : « الرَّحم » ليس في معناها حقيقة شرعيَّة ، ولا متشرّعية ، بل تطلق على معناها اللُّغوي ، والظَّاهر منها : هو إنَّ الرَّحم نسبة بين اثنين تجمعها رحم واحدة ، كما اختاره السَّيِّد في الشَّرح ، والشَّهيد في القواعد ، والقرطبي في تفسيره ، وما نقل عن شيخنا البهائيّ رحمه الله . قال في القاموس : الرَّحِم بالكسر كَكَتِف ، بيت مَنْبِتِ الولدِ ، ووعاؤه، والقرابَة أو أصلُها وأسبابُها . (34) قال الرَّاغب : الرَّحِمُ ، رَحِمُ المرأة ، وامْرَأةٌ رَحُومٌ تَشْتَكي رَحِمَها ، ومنه استُعير الرَّحِمُ للقرابةِ ، لكونهم خارجين مِن رَحِمٍ واحدة . (35) ويؤيّد ما ذكرنا ما جاء في الحديث : أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : « لمَّا أُسري بي إلى السماء، رأيتُ رَحِما مُتعلِّقةً بالعرش تشكو رَحِما إلى ربِّها ، فقلت لها : كَم بَينَكِ وبينها مِن أبٍ ؟ فقالت : نلتقي في أربعين أبا » . (36) يؤيّده ما تقدَّم من الحديث : « فقلت : يا جَبرئِيلُ كَم بَينَهم ؟ قال : سَبعةُ آباء » ، وما تقدّم أيضا من تفسير الآية « . . .وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ . . . » (37) بأنَّها نزلت في بني أُميَّة مع بُعدِ ما بين أُميَّة ، كمعاوية ويزيد ، والحسين عليه السلام من النَّسَب . ويؤيّد ذلك، الأمر بمعرفة الأنساب لِصلَةِ الأرحام ، إذ لو كان المرادُ القريبَ منهم لم يحتج إلى تعلّم الأنساب ، وكذا يؤيّد كونها أعمّ من العمودين، وشمولها لبني الأعمام والأخوال، ما تقدّم أيضا من الرِّوايات . قال في لسان العرب _ بعد ذكر اشتقاقها _ : وأصلها الرَّحم الَّتي هي مَنْبِت الولد وهي الرِّحِم . ] وعن [الجوهري : الرَّحِمُ القرابة . . .قال ابن الأثير : ذوو الرَّحم هم الأقارب ، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب . (38) ] ثُمَّ أخذ في بيان اختلاف الفقهاء في من ينعتق على الإنسان ، وما قيل من القيود خارج عن المعنى الحقيقي ، والقيود التي أخذت في موضوع الحكم شرعا أو عقلاً في ملك الأرحام أو الهبة للأرحام أو الوقف أو الوصيّة للأرحام ، وكذلك تقييد الشَّهيد رحمه اللهوالشَّيخ البهائي بقوله : المعروف بنسبه ، تقييدٌ عقلي ، لأنَّ المجهول لا يقع موردا للتكليف ، إن كان المراد الجهل المركب أو البسيط الَّذي لا يمكن رفعه ، وتقييد شرعي، إذا قلنا بعدم وجوب حفظ الأنساب البعيدة _ كما هو كذلك _ . ] [ ويؤيّد ما ذكرنا قوله عليه السلام في هذا الكتاب : « وإنَّ لهم بنا رَحِما ماسَّةً وقَرابةً خاصّة » ، إذ المراد ظاهرا أنَّ نسب كُلِّ واحد من بني هاشم وبني تميم ، ينتهي إلى إلياس بن مضر ، لأنَّ هاشما هو ابن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مُرَّة بن كَعْب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانَة بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكَة بن إياس بن مضر ، كما في ترجمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله من أُسْد الغابَة ، ونهاية الإرب للقلقشندي ّ ، وسيرة ابن هِشام (39) ، والبحار (40) عن المناقب لابن شهر آشوب (41) ، أنَّه أسقط كَعْبا (42) بين مُرَّة ولُؤي ّ ، كما أنَّ في معجم القبائل (43) ذكر النَّسب وأسقط كِنانَة ، وكلاهما سهو ؛ لما تقدم من نقل الأعاظم ، ولما ذكره وشرحه الحَلبي ُّ في السِّيرة (44) ، ودحلان أيضا في السِّيرة بهامش الحَلبي ّ ، وابن الأثير في الكامل (45) ، وفي البِداية والنِّهاية (46) ناقلاً ذلك عن النَّبيّ صلى الله عليه و آله ومروج الذَّهب (47) . وتميم هو ابن مرّة بن أدّ بن طابخة بن إليْاس بن مُضِر ، كما في نهاية الإرب (48) ، ومعجم القبائل (49) ، وبين أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلاموبين مُضَر ما يقرب من عشرين أبا ، ومع ذلك اعتبرها علي عليه السلام رحما ماسّة . كما إنَّ الحسين عليه السلام قال لِعُمَر بن سعد : « قَطعتَ رَحِمي » ، مع أنَّه _ عمر _ ابن سَعْد بن أبي وَقَّاص بن وُهَيْب بن عبْد مَنَاف بن زُهْرَة بن كِلاب بن مُرَّة ، وهم يلتقون مع هاشم في كِلاب بن مُرَّة . قال العلاّمة المجلسي ّ رحمه الله في البحار _ بعد نقل جمّ من الأخبار _ : اعلم إنَّ العلماء اختلفوا في الرَّحم الَّتي يلزم صلتها ، فقيل : الرَّحم والقرابة نسبةٌ واتصال بين المنتسبين يجمعها رحم واحدة ، وقيل : الرَّحم عبارة عن قرابة الرَّجل من جهة طرفيه : آبائه وإن علوا ، وأولاده وإن سفلوا ، وما يتّصل بالطرفين من الإخوان والأخوات وأولادهم والأعمام والعمَّات . وقيل : الرَّحم الَّتي تجب صلتها، كلُّ رَحِمٍ بين اثنين ، لو كان ذكرا لم يتناكحا فلا يدخل فيهم أولاد الأعمام والأخوال ، وقيل : هي عامٌّ في كل ذي رحم من ذوي الأرحام المعروفين بالنَّسب محرَّمات أو غير محرَّمات ، وإن بعدوا ، وهذا أقرب إلى الصَّواب ، بشرط أن يكونوا في العرف من الأقارب ، وإلاَّ فجميع النَّاس يجمعهم آدم وحوَّاء . وأمَّا القبائل العظيمة كبني هاشم في هذا الزَّمان ، هل يعدُّون أرحاما ؟ فيه إشكال ويدلُّ على دخولهم فيها ، ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : « فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ » (50) أنَّها نزلت في بني أُميَّة ، وما صدر منهم بالنِّسبة إلى أهل البيت عليهم السلام . قال ابن الأثير في النِّهاية : فيه من أراد أن يطول عمره ، فليصل رحمه ، وقد تكرَّر في الحديث ذكر صلة الرَّحم ، وهي كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النَّسب والأصهار ، والتَّعطُّف عليهم ، والرِّفق بهم ، والرِّعاية لأحوالهم ، وكذلك إن بعدوا وأساؤوا ، وقطع الرَّحم ضد ذلك كلّه ، يقال : وصَلَ رَحِمَهُ يَصِلُها وَصْلاً وصِلَةً، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة، فكأنَّه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر، انتهى . وقال الشَّهيد الثَّاني رحمه الله : اختلف الأصحاب في أنَّ القرابة من هم ؟ لعدم النَّصِّ الوارد في تحقيقه ، فالأكثر أحالوه على العرف ، وهم المعروفون بنسبه عادة سواء في ذلك الوارث وغيره . وللشيخ قول بإنصرافه إلى مَن يتقرَّب إليه ، إلى آخر أب وأُمّ في الإسلام ، ولا يرتقي إلى آباء الشِّرك ، وإن عرفوا بقرابته عرفا ، لقوله صلى الله عليه و آله : « قطع الإسلام أرحام الجاهليَّة » ، وقوله تعالى لنوح عن ابنه : « إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ » (51) . وقال ابن الجنيد : مَن جعل وصيَّته لقرابته وذوي رحمه _ غير مسمَّين _ كانت لمن تقرَّب إليه من جهة ولده أو والديه ، ولا أختار أن يتجاوز بالتَّفرقة ولد الأب الرَّابع ؛ لأنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يتجاوز ذلك في تفرقة سهم ذوي القربى من الخمس ، ثُمَّ على أيِّ معنى حمل يدخل فيه الذَّكر والاُنثى ، والقريب والبعيد ، والوارث وغيره ، ولا فرق بين ذوي القرابة وذوي الرَّحم ، انتهى . فإذا عرفت هذا فاعلم أنَّه لا ريب في حسن صلة الأرحام ، ولزومها في الجملة ، ولها درجات متفاوتة بعضها فوق بعض ، وأدناها الكلام والسَّلام ، وترك المهاجرة ، ويختلف ذلك أيضا باختلاف القدرة عليها ، والحاجة إليها . فمن الصِّلة ما يجب ومنها ما يستحبُّ ، والفرق بينهما مشكل ، والاحتياط ظاهر ، ومن وصل بعض الصِّلة ولم يبلغ أقصاها ومن قصر عن بعض ممَّا ينبغي أو عمَّا يقدر عليه ، هل هو واصل أو قاطع ؟ فيه نظر ؛ وبالجملة ، التَّمييز بين المراتب الواجبة والمستحبة في غاية الإشكال ، واللّه أعلم بحقيقة الحال ، والاحتياط طريق النَّجاة . (52) قلت : اتَّضح ممَّا تقدَّم ما في كلام المجلسي ّ رحمه الله من النَّظر ، لأنَّ القيود التَّعلقية أو الشرعيَّة المستفادة من الدَّليل الشَّرعي، لا توجب الضيق في المفهوم ، نعم إذا ثبت قيد أخذنا به، وإلاَّ يجب الأخذ بإطلاق الدَّليل مالم أن يسقط الوجوب بالحرج . وأمَّا ما ذكره ابن الأثير من شموله للمصاهرة، وجعله العلاّمة الشَّارح الآملي احتمالاً بقوله : ويمكن أن تكون إشارة إلى المصاهرة التي كانت بين الأمير عليه السلام وبين بني تميم ، فإنَّ إحدى زوجاته كانت ليلى بنت مسعود الحنظليَّة ، من بني تميم ، وولّدت له عبيد اللّه ، وأبا بكر كما في تاريخ اليعقوبي (53) . ففيه : أنَّ الأرحام لا تشمل المصاهرة مفهوما ، مع أنَّ مصاهرة عليّ عليه السلام مع بني تميم، لا تعدّ قرابة لابن عبَّاس ، يعني أنَّ صهر إنسان لا يعدّ قريبا ورحما لابن عمّه ، والظَّاهر من الكلام أنَّ الرَّحم لهما، والصِّلة لازمة عليها . الثَّالث : إنَّ قطع الرّحم حرام قطعا ، والصِّلة إذا كان عدمها محقّقا للقطع تكون واجبة ، وأمَّا الزَّائد عن هذا الحدّ، كما إذا كان بين رحمين صلة كاملة ، ولكنَّ أحدهما يطلب من الآخر شيئا أزيد من ذلك ، بحيث لو لم يعطه لم يعدّ قاطعا مطلقا ، فهل هذا حرام، والإعطاء واجب ؟ لأنَّه قطع نسبي أم لا ؟ وقد تقدَّم كلام العلاّمة المجلسي ّ رحمه الله وتردّده في ذلك . وقال العلاّمة النَّراقي ّ رحمه الله : والمراد بقطعه : أن يؤذيه بالقول أو الفعل، أو كان له شدَّة احتياج إلى ما يقدر عليه زيادة على حاجته ، من سكنى وملبوس ومأكول فيمنعه ، أو أمكنه أن يدفع عنه ظلم الظَّالم ولم يفعله ، أو هاجره غيظا وحقدا من دون أن يعوده إذا مرض ، أو يزوره إذا قدم من سفره ، وأمثال ذلك ، فإنَّ جميع ذلك ، وأمثالها قطع للرحم ، وأضدادها من دفع الأذيّة ، ومواساته بماله ، وزيارته ، وإعانته باللِّسان واليد والرِجل والجاه وغير ذلك صلة . ثُمَّ الظَّاهر تحقيق الواسطة بين القطع والصِّلة ، إذ كلُّ إحسان ولو كان ممّا لا يحتاج إليه قريبه ، وهو محتاج إليه يسمّى صلة ، وعدمه لا يسمّى قطعا . (54) قوله عليه السلام : « فَارْبَعْ أبا الْعَبَّاسِ » ، يعني قف وتثبّت في جميع ما يصدر منك من قول أو فعل ، ولا تعجل، من رَبَعَ كمَنَعَ : وقف وانتظر وتحبَّس ، ومنه قولهم : أربع عليك، أو على نفسك، أو على ظلمك (55) ، وقوله: أبا العبّاس ، تكريم له حيث ذكره بالكنية . وقوله عليه السلام : « لا يَفِيلَنَّ رَأْيِي فيك » ، مِن فيَّل رأيه تفييلا ، إذا قبّحه وضعَّفه وخطَّأه . يعني : حيث أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام رآه أهلاً لهذا المقام الخطير، فإنَّ عمله على خلاف الحقّ، يوجب ضعف رأيه عليه السلام فيه . وقوله عليه السلام : « فإِنَّا شَرِيكَانِ في ذلك » ، علَّة لقوله : « فَارْبَعْ » ، وهذا يعطى معنى لطيفا في الآمر والمأمور، من نسبة الأفعال التَّسبيبيّة إلى المسبّب ، ونسبة فعل المأمور إلى الآمر . وإنَّما كان الأمير عليه السلام شريكه فيه ، لأنَّه كان سببا بعيدا فيما جرى على يد ابن عبَّاس ولسانه ، وهو كان نائبا عنه ، وسببا قريبا في أفعاله وأقواله وكلَّ ما صنع بالرَّعيَّة ، فإنَّما هو مستند له عليه السلام ، وإلاَّ لما كان له مكنة وقدرة على ذلك . (56) أقول : التَّسبيب إذا كان عن قصد وإرادة من المسبّب، تُعدّ أفعال المأمور فعلاً للمسبّب والآمر ، ويعاقب به ويثاب عليه في الدُّنيا والآخرة ، ولكن إذا كان الأمير عليه السلام نصبه للعدل، وإجراء أحكام الإسلام، لا يُعدّ فعله _ عرفا _ فعلاً للأمير عليه السلام ، فكيف عدّ فعله فعلاً له ، وصار شريكا معه في الأجر والوزر ؟ ويحتمل أن يكون التَّسبيب _ ولو من دون قصد _ في خصوص الحكومة الإسلامية وعمَّالها موجبا للوزر أو الأجر عند اللّه ، تشديدا في المؤاخذة ، كي يكون ذلك باعثا للأئمَّة على الدِّقة البالغة ، والاهتمام الأكيد ، والفحص والبحث في نصب العمَّال ، واستعمال الأشخاص في الأُمور المرتبطة بالحكومة ، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى الأشْتَر رضى الله عنه بقوله : « فاستعملهم اختِبارا ، ولا تُولِّهم مُحاباةً وأثَرةً ، فإنَّهما جِماعٌ من شُعَب الجور والخيانة . . .ثُمَّ تفقَّدْ أعمالهم ، وابعث العُيون من أهل الصِّدقِ والوفاءِ عليهم . . .فإنْ أحدٌ منهم بَسطَ يَدَهُ إلى خيانَةٍ اجتمَعت بها عَلَيهِ عندَكَ أخبارُ عُيُونِكَ ، اكتفَيتَ بذلِكَ شاهِدا ، فَبسَطْتَ عليهِ العُقوبَةَ في بدنه ( يديه ) وأخذتَه بما أصابَ مِن عَمَلِهِ . . . ». (57) وفي عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام على ما ادّعاه القاضي النُّعْمان في الدَّعائم : ممّا ينبغي أن ينظر فيه الوالي من أمر عمَّاله : انظر في أُمور عمَّالك الَّذِين تستعملهم ، فَلْيَكُنْ استعمالُكَ إيَّاهم اختيارا ، ولا يَكُنْ محاباةً ، ولا إيثارا ، فإنَّ الأثَرَةَ بالأعمالِ ، والمحاباةَ بها جِماعٌ مِن شُعَبِ الجَوْرِ والخِيانَةِ للّه ِ ، وإدخالِ الضَّررِ على النَّاسِ ، ولَيْسَتْ تَصْلُحُ أُمورُ النَّاسِ ولا أُمورُ الوُلاةِ، إلاَّ بِصَلاحِ مَنْ يَستَعِينُونَ بهِ علَى أُمُورِهِم . . .ثُمَّ لا تَدَعْ مَعَ ذَلِكَ تَفَقُدَ أَعْمالِهِم ، وبِعْثَةَ العُيونِ عَلَيهِم مِن أَهْلِ الأمانَةِ والصِّدقِ . (58) ] ويمكن أن يقال : إنَّ الفعل الصَّادر عن العامل المنصوب، فعل تسبيبيٌّ للأمير ، وإن لم يعاقب عليه ، لعدم رضاه بذلك ونهيه عنه ، وله آثار طبيعيَّة ووضعيَّة لا يتفاوت بالعلم والجهل والرِّضا وعدمه ، فهو عليه السلام يحذِّر ابن عبَّاس عن عمل قبيح هو عليه السلام شريكه فيه ، من جهة أنّه عليه السلام هو الذي نصبه عاملاً، وقدرة ابن عبّاس وصلاحياته ناشئة عن هذا التنصيب . ومن الآثار الوضعيَّة آثاره الاجتماعيَّة ، حيث إنَّ تنمره يورث غيظا وحنقا وعداوةً بين تميم، وبين الحكومة الحقّة ، وبينهم وبين عليّ عليه السلام . وكذا سائر أعمال ابن عبّاس ، إمَّا تُوجب حسن نظر النَّاس وميلهم إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وانجذابهم إلى الحكومة الإلهيَّة ، وإمَّا توجب شناعة وصورة شوهاء تجاه الحكومة العلويَّة ، وبغضا وعداوةً لأمير المؤمنين عليه السلام . ويحتمل أن يكون المراد شركته عليه السلام في أعمال ابن عبّاس ، من جهة إيجاب الاحتياط من قِبَل الشَّارع ، والمؤاخذة على ترك الاحتياط ، لا مشاركته في العقاب المترتب على هذا الفعل] .
.
ص: 202
. .
ص: 203
. .
ص: 204
. .
ص: 205
. .
ص: 206
. .
ص: 207
. .
ص: 208
. .
ص: 209
. .
ص: 210
. .
ص: 211
. .
ص: 212
. .
ص: 213
. .
ص: 214
. .
ص: 215
. .
ص: 216
36كتابه عليه السلام إلى معاويةقال الشَّيخ الأدِيب أبو بكر بن عبْد العَزِيز البُسْتي ّ ، بالأسانيد الصِّحاح ، أنَّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمَّا رَجع من وَقْعة الجَمل ، كَتَب إليه معاوية بن أبي سُفْيَان عليه اللَّعنة : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم من عبد اللّه ِ وابن عبدِ اللّه ِ مُعاويَةُ بنُ أبي سُفْيَان ، إلى عليِّ بنِ أبي طالب . أمَّا بَعدُ ، فقد اتَّبعتَ ما يَضرُّكَ ، وتركتَ ما يَنفَعُكَ ، وخالفتَ كِتاب اللّه ِ وسُنَّةَ رَسُوله صلى الله عليه و آله ، وقد انْتَهى إليَّ ما فعلتَ بحَوارِييّ رَسول اللّه صلى الله عليه و آله : طَلْحَة ، والزُّبَيْر ، وأُمِّ المؤمنين عايشة ، فوَ اللّه ، لأرمينَّك بشهابٍ لا تُطفِئُهُ المياهُ ، ولا تُزَعْزِعُهُ الرِّياح ، إذا وَقعَ وقَبَ ، وإذا وقَبَ ثقَبَ ، وإذا ثقَبَ نَقبَ ، وإذا نَقبَ التهبَ ، فلا تغرَّنَّكَ الجُيوشُ واستعِدَّ للحربِ ، فإنِّي مُلاقِيكَ بجُنودٍ لا قِبَلَ لَكَ بها ، والسَّلامُ . فلمَّا وَصَل الكتاب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وفكَّه وقَرأه ، ودَعا بدَوَاةٍ وقِرْطَاس ، وكتَب إليهِ : « بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم مِن عبدِ اللّه ِ وابنِ عَبْدِهِ عَلِيِّ بنِ أبي طالب ٍ ، أخي رَسولِ اللّه ِ ، وابنِ عَمِّهِ ، ووَصِيِّهِ ، ومُغَسِّلِهِ ، ومُكَفِّنِهِ ، وقَاضِي دَيْنِهِ ، وزَوْج ابْنَتِهِ البَتُولِ ، وأبي سِبْطَيْهِ الحَسن ِ والحُسَيْن ِ ، إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفْيَان . أمَّا بَعْدُ ، فإنِّي أفْنَيْتُ قوْمَك يوْمَ بَدْرٍ ، وقَتَلْتُ عَمَّك وخالَكَ وجَدَّكَ ، والسَّيْفُ الَّذِي قَتَلْتُهم بهِ معي ، يَحْمِلُهُ سَاعِدِي بِثَباتٍ مِن صَدْري ، وقُوَّةٍ من بَدَنِي ، ونُصْرَةٍ مِن ربِّي ، كمَا جعَلَه النَّبي ّ صلى الله عليه و آله فِي كَفِّي . فواللّه ِ ، ما اخْتَرْتُ علَى اللّه ِ ربَّا ، ولا علَى الإسلام دِينا ، ولا علَى مُحَمَّد صلى الله عليه و آله نبِيَّا ، ولا علَى السَّيْف بَدَلاً ، فبَالِغْ من رأْيِكَ ، فاجْتَهِد ولا تُقَصِّر ، فقَد اسْتَحْوَذَ علَيْك الشيطانُ ، واسْتَفزَّك الجَهلُ والطُّغيانُ ، وسَيَعْلَم الَّذِينَ ظَلَموا أيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبونَ ، والسَّلام على مَنِ اتَّبعَ الهُدى ، وخَشِيَ عَواقِبَ الرَّدى » . (1)
.
ص: 217
. .
ص: 218
37كتابه عليه السلام إلى معاويةنقل ابن قُتَيْبَة في كتاب الإمامة :أنَّه لمَّا فرَغ عليه السلام من وَقعة الجَمل ، بايع له القوم جميعا، وبايع له أهل العراق ، واستقام له الأمر بها ، فكتب إلى معاوية : « أمَّا بعدُ ، فإنَّ القضاءَ السَّابِقَ ، والقَدَرَ النَّافِذَ يَنْزِلُ من السَّماء كقَطْر المَطَر ، فتَمْضِي أحكامُهُ عز و جل ، وتَنْفَذُ مَشِيئَتُهُ بغَيْر تَحابِّ المخْلُوقِينَ ، ولا رِضا الآدَميِّينَ ، وقَدْ بلَغَكَ ما كان مِنْ قَتْلِ عُثْمانَ وبَيْعة النَّاسِ عامَّةً إيَّاي ، ومصارِعَ النَّاكثين لي ، فادْخُل في ما دَخَلَ النَّاسُ فيهِ ، وإلاَّ فأنَا الَّذِي عَرَفْتَ ، وحَوْلي مَن تعْلَمُهُ ، والسَّلام » . (1)
[ هذا الكتاب كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية بعد وقعة الجمل ، كما صرَّح به المؤرِّخون ، ويدلُّ عليه مضمون الكتاب ، والشَّارح الآملي جعل الكتاب الَّذي نقله مصنِّف كتاب معادن الحكمة (2) رحمه الله ، وهذا الكتاب، أوَّل كتاب كتبه عليه السلام إلى معاوية ، قال : ويمكن أن يكون هذه الكتب الثَّلاث كتابا واحدا فتفرَّق ، كما قدَّمنا كثيرا من نظائره ، وممَّا يؤيِّده ، أنَّ الدِّينوري بعد نقل الكتاب ، قال : ثُمَّ إنَّ معاوية انتخب رجلاً من عبس ، وكان له لسان ، فكتب إلى عليّ عليه السلام كتابا ، عنوانه: من معاوية إلى عليّ ، وداخله: بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، لا غير ؛ فلمَّا قدم الرَّسول، دفع الكتاب إلى عليّ ، فعرف عليّ عليه السلام ما فيه ، وأنَّ معاوية محارب له ، وأنَّه لا يجيبه إلى شيء ممَّا يريد ، وقد نقل قريبا من هذا الكلام الشَّارح المعتزلي في شرح النَّهج ، وهو : فلمَّا جاءه _ معاوية _ هذا الكتاب _ يعني به الكتاب المذكور في النَّهج _ وصل بين طومارين أبيضين ، ثم طواهما وكتب عنوانهما من معاوية بن أبي سُفْيَان إلى عليّ بن أبي طالب ، قال جَرِير : ودفعهما معاوية إليَّ لا أعلم ما فيهما، ولا أظنُّهما إلاَّ جوابا ، وبعث معي رجلاً من بنِي عبس لا أدري ما معه ، فخرجنا حَتَّى قدمنا إلى الكوفة ، واجتمع النَّاس في المسجد لا يشكّون أنَّها بيعة أهل الشَّام ، فلمَّا فتح عليّ عليه السلام الكتاب لم يجد شيئا . . . واللّه العالم . وقد روي أنَّه كتب إلى معاوية مع جَرِير : أنِّي قد عَزلتُكَ فَفَوِّضِ الأمرَ إلى جَرِير ، والسَّلام . (3) قلت : كلامه هذا مبنيّ على أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكتب إلى معاوية شيئا إلى انقضاء حرب الجمل ، مع أنَّه عليه السلام كتب إلى معاوية بعد بيعة النَّاس له من المدينة كما في الطَّبري (4) ، ونقل إرسالَ العبسي حينئذٍ ابنُ أبي الحديد (5) ، ونقلهُ مصنِّفُ معادن الحكمة (6) ، مع أنَّ الحكم باتِّحاد هذه الكتب الثَّلاثة أيضا بعيدٌ ، لأنَّ ما ذكره المصنِّف كتاب معادن الحكمة برقم29 ، وقد صرَّح السَّيّد في نهج البلاغة أنَّه كُتِبَ في أوَّل ما بويع له ، وما ذكره مصنِّفُ كتابِ معادن الحكمة برقم18 ، وذكره في نهج البلاغة برقم6، وذكر نصر (7) أنَّه أرسله مع جَرِير بعد وروده عليه السلام الكوفة ، وأورده ابن أبي الحديد عنه (8) ، وهذا الكتاب كتبه إليه بعد وقعة الجمل ، ولعلَّه كتبه من البصرة ، ولا وجه للاتِّحاد أصلا ، ونقل ابنُ أبي الحديد (9) : إنَّ أوَّل كتاب كتب إلى معاوية : « أمَّا بعدُ ، فإنَّ النَّاس قتلوا عثمان . . . » إلى آخر ما نقله مصنِّف معادن الحكمة (10) . ولا غرو في أن يكتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية كُتُبا متعددة ، يدعوه إلى البيعة . (11) ]
.
ص: 219
. .
ص: 220
38كتابه عليه السلام إلى معاوية« أمَّا بعدُ ، فَو اللّه ِ ما قَتَلَ ابنَ عَمِّكَ غَيرُكَ ، وإنِّي أرجو أَنْ أُلحِقُكَ بهِ علَى مِثلِ ذَنْبِهِ وأعظَمِ مِن خَطيئَتِهِ ، وإنَّ السَّيفَ الَّذي ضَرَبْتُ بِهِ أباكَ وأهلَكَ لَمَعِي دائِمٌ ، واللّه ِ ما استَحدَثتُ دِينا، ولا استَبْدَلتُ نَبِيَّا ، وإنِّي على المِنْهاجِ الَّذي تَرَكْتُموهُ طائِعينَ ، وأُدخِلْتُم فيهِ كارِهينَ . » (1)
39كتابه عليه السلام إلى معاويةنقل المفيد رحمه الله في الإختصاص : كتب معاوية بن أبي سُفْيَان إلى عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه : بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؛ أمَّا بعدُ ، يا علي ّ ، لأضْرِبَنَّك بشِهابٍ قاطِعٍ ، لا يذكّيه الرِّيح ، ولا يطفئه الماء ، إذا اهتزَّ وقَع ، وإذا وقَع نقَب ، والسَّلام . فلمَّا قرَأ عليّ عليه السلام كتابه ، دعَا بدواةٍ وقِرطاس ، ثُمَّ كتَب : « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمَّا بعدُ يا مُعاوِيَةُ ، فقد كَذِبْتَ ، أنَا عليُّ بنُ أبي طالِب ، وأنَا أبو الحَسَنِ والحُسَيْن ِ ، قاتِلُ جَدِّكَ ، وعمِّكَ ، وخالِكَ ، وأبيِكَ ، وأنَا الَّذي أفْنَيْتُ قَوْمَكَ في يَوْمِ بدْر ٍ ، ويوم فتْح ٍ ، ويوم أُحدٍ ، وذلك السَّيْفُ بيَدِي تحْمِلُه ساعِدي بجُرْأةِ قلبِي ، كما خلَّفَه النَّبيُّ صلى الله عليه و آله بكَفِّ الوصيِّ ، لمْ أسْتَبْدِل باللّه ربَّا ، وبمحمَّد ٍ صلى الله عليه و آله نبيَّا ، وبالسَّيف بدَلاً ، والسَّلام على مَن اتَّبع الهُدى » . (2)
.
ص: 221
40كتابه عليه السلام إلى أشْعَث بن قَيْسمن كتاب له عليه السلام إلى أشْعَث بن قَيْس عامل أذربيجان :« وإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ ، ولَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أمَانَةٌ ، وأنْتَ مُسْتَرْعىً لِمَنْ فَوْقَكَ ، لَيْسَ لَكَ أنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ ، ولا تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَةٍ ، وفي يَدَيْكَ مَالٌ مِن مَال اللّه عز و جل ، وأنْتَ مِن خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إلَيَّ ، ولَعَلِّي ألاَّ أكُونَ شَرَّ وُلاتِكَ لَكَ ، والسَّلامُ » . (1)
قال نصر : محمَّد بن عُبَيْد اللّه ، عن الجُرْجَاني ّ ، قال : لمَّا بُويِع علي ٌّ وكتَب إلى العُمَّال ، كتَب إلى الأشْعَث بن قَيْس مع زياد بن مَرْحَب الهَمْدانِي ّ ، والأشْعَث ُ على آذربيجان عاملٌ لعثمان ، وقد كان عَمْرو بن عثمان تزوَّج ابنة الأشْعَث بن قَيْس قبل ذلك ، فكتَب إليه علي ّ :« أمَّا بَعْدُ ، فلَوْلا هَناتٌ كُنَّ فِيْكَ، كنْتَ المقدَّمَ في هذا الأمر قَبْل النَّاس ، ولَعَلَّ أمرك يحْمِلُ بعْضُهُ بَعْضا إنْ اتَّقيتَ اللّه َ ، ثُمَّ إنَّهُ كانَ من بَيْعة النَّاس إيِّايَّ ما قَدْ بَلَغكَ ، وكان طَلْحَة ُ والزُّبَيْرُ مِمَّنْ بايَعانِي ، ثُمَّ نَقَضا بيعتِي على غَيْر حَدَثٍ ، وأخْرَجا أُمَّ المونين وسَارَا إلى البصرة ، فسرتُ إليْهما فالْتَقينا ، فدَعوْتُهم إلى أنْ يَرجعوا فيما خَرَجُوا منْه فأبَوا ، فأبلغْتُ في الدُّعاءِ ، وأحسنْتُ في البقيَّةِ ، وإنَّ عملَكَ ليْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ ، ولكِنَّهُ أمَانَةٌ ، وفي يديك مالٌ مِن مالِ اللّه ِ ، وأنْتَ من خُزَّانِ اللّه ِ عليْه حتَّى تُسَلِّمَهُ إلَيَّ ، ولعلِّي ألاَّ أكونَ شَرَّ وُلاتِكَ لكَ إنْ اسْتَقَمْت ، ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه » . (2)
.
ص: 222
41كتابه عليه السلام إلى الأشْعَثقال اليعقوبي : وكتب إلى عمَّاله يستحثهم بالخَراج ، فكتب إلى الأشْعَث بن قَيْس ، وكان عامله بأذربيجان :« أمَّا بعدُ ؛ إنَّما غرَّك مِن نَفسِكَ ، وجرَّأك على آخرك إملاءُ اللّه ِ لكَ ، إذ ما زِلتَ قديما تأكُلُ رِزقَهُ ، وتُلحِدُ في آياتِهِ ، وتَستَمتِعُ بِخَلاقِكَ ، وتُذهِبُ بحسناتِكَ إلى يَومِكَ هذا ، فإذا أتاكَ رَسُولي بِكتابي هذا فأقْبِلْ واحمِلْ ما قِبَلَكَ مِن مالِ المُسلِمين َ ، إن شاءَ اللّه ُ » . (1)
[ أقول : نقل المصنّف كتابه لأمير المؤمنين عليه السلام إلى الأشْعَث بن قَيْس ، يخبره بما جرى من حرب الجمل ، ويطالبه بالمال، وفي لهجته عليه السلام لين وموعظة ، كما في قوله: وأنَّه لولا هَنات كنَّ منك كنت المقدّم في هذا الأمر . ونقله _ الكتاب ذاته _ النَّهج برقم 48 ، ولكنَّ كتابه عليه السلام هذا فيه تشديد وتوبيخ ، ويحتمل أ نّه قد صدر من الأشْعَث فيما بين هذين الكتابين ما يوجب هذا التّوبيخ ، ولكنّي لم أجد العمل الَّذي ارتكبه . ولقد كان الأشعث بن قَيْس قد اعترض على أمير المؤمنين بقوله: يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك . ] [ ومن كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قَيْس وهو على منبر الكوفة يخطب ، فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشْعَث فيه ، فقال: يا أمير المونين ، هذه عليك لا لك ، فخفض عليه السلام إليه بصره ثُمَّ قال : « ما يُدْرِيكَ ما عَليَّ ممَّا لي؟ عَليك لَعْنَةُ اللّه ِ ولَعنةُ اللاّعِنِين، حَائِكٌ ابنُ حَائكٍ مُنَافِقٌ ابنُ كافِرٍ ، واللّه ِ لقد أَسَرَك الكفرُ مَرَّةً ، والإِسْلام ُ أُخْرى ، فما فَدَاك مِن وَاحدَةٍ مِنهُما مالُكَ ، ولا حَسبُكَ وإنَّ امرأً دَلَّ على قومِهِ السَّيْفَ وساقَ إِليهمُ الحَتْفَ ، لَحَرِيٌّ أنْ يَمْقُتَهُ الأَقْرَبُ ، ولايَأْمَنَهُ الأبْعَدُ » . قال السَّيِّد الشَّريف رحمه الله: يريد عليه السلام أنَّه أُسر في الكفر مرَّة ، وفي الإسلام مرَّة . وأمَّا قوله: دلَّ عليه السلام على قومه السَّيف ، فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة ، غرَّ فيه قومه ، ومكر بهم حَتَّى أوقع بهم خالد ، وكان قومه بعد ذلك يسمّونه عرف النَّار ، وهو اسم للغادر عندهم . الأسر الأوَّل ، كان قبل الإسلام حين خرج الأشْعَث يطلب ثارا ، لمَّا قتلت « مراد » الأشجّ (2) ، فأسر الأشْعَث ، ففدي بثلاثة آلاف بعير ، كما قيل . وأمَّا الأسر الثَّاني في الإسلام ، فإنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمَّا قَدِمَتْ كِنْدَة حُجَّاجا قبل الهجرة ، عرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله نفسَه عليهم ، كما كان يعرِضُ نفسَه على أحياء العرب ، فدفعه بنو وَليعَة _ من بني عَمْرو بن معاوية _ ولم يقبلوه ، فلمَّا هاجر صلى الله عليه و آله وتمهّدت دعوتُه ، وجاءته وفود العرب ، جاءه وفد كِنْدَة ، فيهم الأشْعَث وبنو وَليعَة ، فأسلموا ، فأطعم رسول اللّه صلى الله عليه و آله بني وَليعَة طُعْمة من صدقات حَضْرَموت ، وكان قد استعمل على حَضْرَموت زياد بن لَبيد البياضي ّ الأنْصاريّ ، فدفعها زياد إليهم فأبَوْا أخذها ، وقالوا : لا ظَهْر لنا فابعث بها إلى بلادنا على ظَهْر من عندك ، فأبى زياد ، وحَدَث بينهم وبين زياد شرّ، كاد يكون حربا ، فرجع منهم قوم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، و كتب زياد إليه يشكوهم . وفي هذه الوَقعة كان الخبر المشهور عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إذ قال لبني وَلِيعَة : « لَتَنْتَهُنَّ يا بني وَلِيعَة ، أو لأبعَثنَّ عليكم رجلاً عَدِيل نفسي ، يقتُل مُقاتِلَتكم ، ويَسْبي ذراريّكم » . قال عمر بن الخَطَّاب : فما تمنيت الإمارة إلاّ يومئذ ، وجعلت أنصِب له صدري رجاء أن يقول : هو هذا ، فأخذ بيد عليّ عليه السلام ، وقال : هو هذا . ثُمَّ كتب لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى زياد فوصلوا إليه بالكتاب ، وقد توفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وطار الخبر بموته إلى قبائل العرب ، فارتدَّتْ بنو وَلِيعَة ، وغَنَّتْ بَغاياهم ، وخَضبْنَ له أيديَهُنَّ . ] وأعانهم الأشْعَث فوقع بينهم وبين المسلمين حرب أسر فيها الأشْعَث ، وسلّم قومه إلى السَّيف ، وقتل منهم ثمانمئة ، ولعنه لذلك المسلم والكافر ، ولقّب بعرف النَّار . ] (3) وكان الأشْعَثُ من المنافقين في خلافة عليّ عليه السلام ، وهو في أصحاب أمير المونين عليه السلام ، كما كان عبد اللّه بن أُبيّ بن سَلُول في أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، كل واحد منهما رأسُ النِّفاق في زمانه . (4) وعزله عليّ عليه السلام عن رياسة كِنْدَة ، ثُمَّ طال الكلام في ذلك ، فولاّه ميمنته ، وهي ميمنة أهل العراق . (5) وغلب على الماء في صفِّين حميّة . (6) وعبَّر أمير المؤمنين عليه السلام بابن الخمارّة . (7) وقال عليه السلام : أيُّها النَّاسُ إنَّ الأشْعَثَ لا يَزِنُ عِندَ اللّه ِ جناحَ بَعوضَةٍ ، وإنَّه أقلُّ في دينِ اللّه ِ مِن عَفطَةِ عنز (8) . (9) وقال ابن أبي الحديد : كلُّ فساد كان في خلافة عليّ عليه السلام ، وكل اضطراب حَدَث فأصلُه الأشْعَث . (10) بايع وسلَّم على الضَّبّ بإمارة المؤمنين . (11) وألزم أمير المؤمنين عليه السلام بالتَّحكيم ، بل هو الَّذي أسّسه . (12) وشرك الأشْعَث في قتل أمير المؤمنين عليه السلام ، وابنته في قتل الحسن عليه السلام ، وولده محمَّد في قتل مسلم بن عقيل ، وقَيْس بن الأشْعَث في قتل الحسين عليه السلام . (13) وفي أنساب الأشراف : ويقال : ولاّه _ بعد قدومه من أذربيجان _ حلوانَ ونواحيها ، فكتب إليه هذا الكتاب وهو فيها . (14)
.
ص: 223
. .
ص: 224
. .
ص: 225
. .
ص: 226
الأشْعَثُ بنُ قَيْسالأشْعَث بن قَيْس بن مَعْدِيكَرِب الكِنْديّ ، يُكنّى أبا محمّد ، واسمه مَعْدِ يكَرِب (1) . من كبار اليمن ، وأحد الصَّحابة (2) . عَوِرت عينه في حرب اليرموك (3) . وهو وجه مشبوه مُريب متلوّن ، رديء الطَّبع ، سيّئ العمل في التَّاريخ الإسلامي . ارتدّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الدِّين واُسِر ، فعفا عنه أبو بكر ، وزوّجه اُخته (4) . وكان أبو بكر يُعرب عن ندمه ، ويتأسّف لعفوه (5) . زوّج بنته لابن عثمان في أيّام خلافته (6) . ونصبه عثمان واليا على آذربايجان (7) . وكان يهبه مئة ألف درهم من خراجها سنويّا (8) . عزل الإمام عليّ عليه السلام الأشْعَث عن آذربايجان ، ودعاه إلى المدينة (9) ، فهمّ بالفرار في البداية ، ثمّ قدم المدينة بتوصية أصحابه ، ووافى الإمامَ عليه السلام (10) . تولّى رئاسة قبيلته كِنْدَة في حرب صفِّين (11) ، وكان على ميمنة الجيش (12) . وتزعّم الأشْعَث التَّيّار الَّذي فرض التَّحكيمَ (13) وفرض أبا موسى الأشْعَرِي ّ على الإمام عليه السلام . وعارض اختيارَ ابن عبّاس ومالك الأشْتَر حكَمَين عن الإمام عليه السلام بصراحة (14) ، ونادى بيمانيّة أحد الحكمين (15) . وله يدٌ في نشوء الخوارج ، كما كان له دور كبير في إيقاد حرب النَّهروان ، مع أنّه كان في جيش الإمام عليه السلام (16) . وهو ممّن كان يعارض الإمام عليه السلام وأعماله داخل الجيش بكلّ ما يستطيع (17) ، حتَّى عُدَّت مواقفه أصل كلّ فساد واضطراب (18) . وكان شرسا إلى درجة أنّه هدّد الإمامَ عليه السلام مرّةً بالقتل (19) . وسمّاه الإمام عليه السلام منافقا ولعنه (20) . وكان ابن ملجم يتردّد على داره (21) ، وهو الَّذي أشار على المذكور بالإسراع يوم عزمه على قتل الإمام عليه السلام (22) . ونحن وإن لم نمتلك دليلاً تاريخيّا قطعيّا على صلته السِّرِّية بمعاوية ، لكن لابدّ من الالتفات إلى أنّ الأيادي الخفيّة تعمل بحذر تامّ وكتمان شديد ، ولذا لم تنكشف إلاّ نادرا . لكنَّ ملفّ جنايات هذا البيت المشؤوم يمكن عدّه وثيقة معتبرة على علاقته، بل وعلاقة اُسرته بأعداء أهل البيت عليهم السلام ، وممّا يعزّز ذلك تعبير الإمام عنه بالمنافق . قامت بنته جعدة بسمّ الإمام الحسن عليه السلام (23) . وتولّى ابنه محمّد إلقاء القبض على مسلم بن عَقِيل بالكوفة ، بعد أن آمنه زورا ، ثمّ غدر به (24) وكلُّ إناء بالَّذي فيه ينضحُ . وكان ابنه الآخر قَيْس (25) من اُمراء جيش عمر بن سعد بكربلاء ، ولم يقلّ عن أبيه ضعَةً ونذالةً ؛ إذ سلب قطيفة الإمام الحسين عليه السلام ، فاشتهر بقيس القطيفة (26) . هلك الأشْعَث سنة 40 ه (27) ، فخُتم ملفّ حياته الدَّنِسُ الملوَّثُ بالعار . في شرح نهج البلاغة عن الأعْمَش : إنّ جَرِير ا والأشْعَث خرجا إلى جبّان (28) الكوفة ، فمرّ بهما ضبٌّ يعدو ، وهما في ذمّ عليّ عليه السلام ، فنادياه : يا أبا حِسْل ، هلمّ يدك نبايعك بالخلافة ، فبلغ عليّا عليه السلام قولهما ، فقال : أما إنّهما يُحشران يوم القيامة وإمامُهما ضبّ (29) . وقال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ الأشْعَث بن قَيْس شرك في دم أمير المؤمنين عليه السلام ، وابنته جعدة سمّت الحسن عليه السلام ، ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين عليه السلام (30) » . وفي تاريخ مدينة دمشق عن إبراهيم : ارتدّ الأشْعَث بن قَيْس وناس من العرب لمّا مات نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله فقالوا : نُصلّي ولا نُؤدّي الزَّكاة ، فأبى عليهم أبو بكر ذلك ، قال : لا أحلّ عقدة عقدها (31) رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولا أعقد عقدة حلّها رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولا أنقصُكم شيئا ممّا أخذ منكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولاُجاهدنّكم ، ولو منعتموني (32) عقالاً ممّا أخذ منكم نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله ، لجاهدتكم عليه ، ثمّ قرأ : « وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ » (33) الآية . فتحصّن الأشْعَث بن قَيْس هو وناس من قومه في حصن ، فقال الأشْعَث : اجعلوا لسبعين منّا أمانا فجعل لهم ، فنزل بعد سبعين ، ولم يُدخل نفسه فيهم ، فقال أبو بكر : إنّه لا أمان لك ، إنّا قاتلوك ، قال : أفلا أدلّك على خير من ذلك ؟ تستعين بي على عدوّك ، وتزوّجني اُختك ، ففعل (34) . وفي الأخبار الطوال : كان ( الأشْعَث ) مقيما بأذربيجان طول ولاية عثمان بن عفّان ، وكانت ولايته ممّا عتب النَّاس فيه على عثمان ؛ لأنّه ولاّه عند مصاهرته إيّاه ، وتزويج ابنة الأشْعَث من ابنه (35) . وفي وقعة صفِّين عن الأشْعَث بن قَيْس _ من خطبته في أذربيجان بعد بيعة الناس مع عليّ عليه السلام _ : أيُّها النَّاس ! إنّ أمير المؤمنين عثمان ولاّني أذربيجان ، فهلك وهي في يدي ، وقد بايع النَّاس عليّا ، وطاعتنا له كطاعة من كان قبله ، وقد كان من أمره وأمر طَلْحَة والزُّبَيْر ما قد بلغكم ، وعلي ٌّ المأمون على ما غاب عنّا وعنكم من ذلك الأمر . فلمّا أتى منزله دعا أصحابه فقال : إنّ كتاب عليّ قد أوحشني ، وهو آخذ بمال أذربيجان ، وأنا لاحق بمعاوية . فقال القوم : الموت خير لك من ذلك ، أ تدع مِصرَك وجماعة قومك وتكون ذَنَبا لأهل الشَّام ؟ ! فاستحيى فسار حتَّى قدم على عليّ (36) . وفي تاريخ اليعقوبي _ في كتابة وثيقة التَّحكيم واختلافهم في تقديم الإمام وتسميته بإمرة المؤمنين _ : فقال أبو الأعْوَر السَّلمي ّ : لا نُقدّم عليّا ، وقال أصحاب عليّ : ولا نُغيّر اسمه ولا نكتب إلاّ بإمرة المؤمنين ، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتَّى تضاربوا بالأيدي ، فقال الأشْعَث : امحوا هذا الإسم ، فقال له الأشْتَر : واللّه _ يا أعور ! _ لهممتُ أن أملأ سيفي منك ، فلقد قتلتُ قوما ما هم شرّ منك ، وإنّي أعلم أنّك ما تحاول إلاّ الفتنة ، وما تدور إلاّ على الدُّنيا وإيثارها على الآخرة ! (37) وقال الإمام عليّ عليه السلام : « أمّا هذا الأعْوَر _ يعني الأشْعَث _ فإنّ اللّه لم يَرفَعْ شَرَفا إلاّ حَسدَهُ ، ولا أظهرَ فضلاً إلاّ عابَهُ ، وهو يُمنّي نفسَهُ ويخدَعُها ، يخافُ ويرجو ، فهو بينَهُما لا يَثِقُ بواحِدٍ مِنهُما ، وقد مَنّ اللّه ُ عليهِ بأن جَعَلهُ جبانا ، ولو كان شَجاعا لقتلَهُ الحقُّ (38) » . وقال الإمام الصادق عليه السلام : « حدّثتني امرأةٌ مِنّا ، قالت : رأيتُ الأشْعَثَ بنَ قَيْسٍ دخَلَ على عليٍّ عليه السلام فأغلَظَ لَهُ عليّ ، فعرَضَ لَهُ الأشْعَثُ بِأَنْ يَفتِكَ بِهِ . فقال له عليّ عليه السلام : أبالموتِ تُهدِّدُني ؟ ! فو اللّه ِ ما اُبالي وَقَعتُ علَى المَوتِ ، أو وقَعَ المَوتُ علَيَّ (39) » . وفي تاريخ مدينة دمشق عن قَيْس بن أبي حازم : دخل الأشْعَث بن قَيْس على عليّ في شيء ، فتهدّده بالموت ، فقال عليّ : بالموت فتهدّدني ! ما اُبالي سَقَطَ عَليَّ أو سَقَطْتُ عَلَيهِ . هاتوا لَهُ جامِعَةً وقَيْدا ، ثمّ أومأ إلى أصحابه فطَلبُوا إليهِ فيهِ ، قال : فَترَكَهُ (40) . وفي شرح نهج البلاغة : كلّ فساد كان في خلافة عليّ عليه السلام ، وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشْعَث ، ولولا محاقّته (41) أمير المؤمنين عليه السلام في معنى الحكومة في هذه المرّة، لم تكن حرب النَّهروان ، ولكان أمير المؤمنين عليه السلام ينهض بهم إلى معاوية ، ويملك الشَّام ؛ فإنّه صلوات اللّه عليه حاول أن يسلك معهم مسلك التَّعريض والمواربة (42) . وفي المثل النَّبويّ صلوات اللّه على قائله : الحربُ خُدعَةٌ ، وذاك أنّهم قالوا له : تُبْ إلى اللّه ممّا فعلت كما تُبنا ننهضْ معك إلى حرب أهل الشَّام ، فقال لهم كلمة مجملة مرسلة يقولها الأنبياء والمعصومون ، وهي قوله : أستغفر اللّه من كلّ ذنب ، فرضوا بها ، وعدّوها إجابة لهم إلى سؤلهم ، وصفَتْ له عليه السلام نيّاتهم ، واستخلص بها ضمائرهم ، من غير أن تتضمّن تلك الكلمة اعترافا بكفر أو ذنب . فلم يتركه الأشْعَث ، وجاء إليه مستفسرا وكاشفا عن الحال ، وهاتكا ستر التّورية والكناية ، ومخرجا لها من ظلمة الإجمال وستر الحيلة إلى تفسيرها بما يُفسد التَّدبير ، ويُوغِر الصُّدور ، ويُعيد الفتنة ، ولم يستفسره عليه السلام عنها إلاّ بحضور من لا يمكنه أن يجعلها معه هُدْنة على دَخَن (43) ، ولا ترقيقا عن صَبوح (44) ، وألجأه بتضييق الخناق عليه إلى أن يكشف ما في نفسه ، ولا يترك الكلمة على احتمالها ، ولا يطويها على غَرّها (45) ، فخطب بما صدع به عن صورة ما عنده مجاهرة ، فانتقض ما دبّره ، وعادت الخوارج إلى شبهتها الاُولى ، وراجعوا التَّحكيم والمُروق . وهكذا الدُّول الَّتي تظهر فيها أمارات الانقضاء والزَّوال ، يُتاح لها أمثال الأشْعَث من اُولي الفساد في الأرض « سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْامِن قَبْلُ وَ لَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً » (46)(47) .
.
ص: 227
. .
ص: 228
. .
ص: 229
. .
ص: 230
. .
ص: 231
. .
ص: 232
. .
ص: 233
42كتابه عليه السلام إلى معاويةإِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أبَا بَكْر ٍ وعُمَر َ وعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أنْ يَخْتَارَ ، ولا لِلْغَائِبِ أنْ يَرُدَّ ، وإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِين َ والأَنْصَار ِ ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وسَمَّوْهُ إِمَاما كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ ، فَإِنْ أبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ ، ووَلاَّهُ اللّه مَا تَوَلَّى ، ولَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أبْرَأ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ ، ولَتَعْلَمَنَّ أنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ ، إِلاَّ أنْ تَتَجَنَّى ، فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ والسَّلامُ . (1)
هذا الكتاب من كتبه عليه السلام مع جَرِير بن عبْد اللّه البَجَلِي ّ إلى معاوية ، حين نزعه من همدان . قال ابن عساكر : أخبرنا أبو عبد اللّه البلخي ، أخبرنا أحمد بن الحسن بن خيرون ، أخبرنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا أحمد بن إسحاق الطَّيبيّ ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحسين ، أخبرنا أبو سَعيد يَحْيَى بن سُلَيْمان الجُعْفِيّ ، أخبرنا نَصْر بن مُزاحم ، أخبرنا عمر بن سَعْد الأسَديّ عن نُمَيْر بن وعلة ، عن عامر الشَّعْبي ّ ، أنَّ عليَّا عليه السلام حين قدم من البصرة نزَع جَرِير ا همدان ، فجاء حتى نزل الكوفة ، فأراد عليّ أن يبعث إلى معاوية رسولاً . فقال له جَرِير : ابعثني إلى معاوية ، فإنَّه لم يزل لي مستنصحا ، وودَّا فآتيه فأدعوه على أنْ يسلِّم لك هذا الأمر ويجامعك على الحقّ ، على أن يكون أميرا من أُمرائك ، وعاملاً من عمَّالك ما عمل بطاعة اللّه ، واتَّبع ما في كتاب اللّه ، وأدعو أهل الشَّام إلى طاعتك وولايتك ، وجلّهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألاَّ يعصوني . فقال له الأشْتَر : لا تبعثه ودعه لا تصدقه ، فو اللّه ، إنِّي لأظنُّ أن هواه هواهم ، ونيته نيتهم . فقال له علي : دعه حتَّى ننظر ما يرجع به إلينا ، فبعثه عليّ عليه السلام ، وقال له حين أراد أنْ يبعثه : « إنَّ حولي من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله من أهل الدِّين والرَّأي من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيك : إنك من خَيْر ذي يمن ، ايت معاوية بكتابي ، فإنْ دخل فيما دخل فيه المسلمون ، وإلاَّ فانْبذ إليْه ، وأعلمه أنِّي لا أرضَى به أميرا ، وأنَّ العامَّة لا ترضى به خليفة » . فانطلق جَرِير حتَّى أتى الشام ونزل بمعاوية فدخل عليه ، فحمد اللّه وأثنى علَيْه ، وقال : أمَّا بعدُ ، يا معاوية فإنَّه قَدْ اجتمع لابن عمِّك أهل الحرمين ، وأهل المصرين ، وأهل الحجاز ، وأهل اليمن ، وأهل مصر ، وأهل العروض وعمان ، وأهل البحرين ، واليمامة ، فلم يبق إلاَّ أهل هذه الحصون الَّتي أنْت فيها لو سال عليها سيل من أوديته غرقها ، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك ، إلى مبايعة هذا الرجل ، ودفع إليه كتاب عليّ بن أبي طالب وفيه : « بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم أمَّا بعدُ ، فإنَّ بَيْعَتِي بالمَدِيْنَةِ لَزِمَتْكَ وأنْتَ بالشَّامِ ، لأنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أبَا بَكْر ٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ عَلَى مَا بويعوا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أنْ يَخْتَارَ ، ولا لِلْغَائِبِ أنْ يَرُدَّ ، وإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِين َ والأَنْصَار ِ ، فَإذا اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ فسمَّوه إِمَاما كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أوْ رغبة رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ ، فَإِنْ أبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ ، ووَلاَّهُ اللّه مَا تَوَلَّى ، ويُصْلِيه جَهَنَّم وسَاءَتْ مَصِيرا . وإنَّ طَلْحَة والزُّبَيْر بايَعانِي ، ثُمَّ نَقَضا بَيْعَتِي ، وكان نَقْضُهُما كَرَدِّهِما ، فجاهَدْتُهما على ذلك حتَّى جاءَ الحقُّ وظَهَرَ أمْرُ اللّه ِ وهُم كارِهون ، فادْخُل فيما دَخَلَ فيه المُسْلِمُون َ ، فإنَّ أحَبَّ الأُمور إليَّ فيْك العافِية ، إلاَّ أنْ تَتَعرَّض للبَلاء ، فإنْ تَعَرَّضْتَ له قاتَلْتُك واسْتَعَنْتُ اللّه علَيْك . وقَدْ أكْثَرْتَ في قَتَلَةِ عُثْمان ، فَادخُل فيما دَخَلَ فيْهِ المسْلمون َ ، ثُمَّ حاكِم القَوْم إليَّ أحْمِلُك وإيَّاهم على كِتاب اللّه ، فأمَّا تِلْك الَّتي تُريدُها فَخُدْعَةُ الصَّبيِّ عن اللَّبَن . ولَعَمْرِي لَئِن نَظَرْتَ بعقلِك دُوْنَ هَواكَ ، لَتجِدُنِي أبرَأ قرِيش ٍ من دَم عُثمان . واعْلَم أنَّك من الطُّلَقاء ِ الَّذِين لا تَحِلُّ لهم الخِلافَةُ ، ولا تَعْرِضُ فيهم الشُّورى ، وقد أرْسَلْتُ إليْكَ وإلى مَن قِبَلَك جَرِيرَ بن عبْد اللّه ، وهو من أهل الإيمان والهِجْرَة ، فبايِعْ ، ولا قوَّة إلاَّ باللّه » . (2)
.
ص: 234
. .
ص: 235
. .
ص: 236
43كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام أجاب به معاوية لمَّا وَصل ردّ كتابه إليه عليه السلام :« أمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ أتَانَا كتابُكَ ، كِتابُ امْرِئٍ لَيْسَ لَه بَصَرٌ يَهْدِيه ، ولا قائِدٌ يُرْشِدُه ، دَعاهُ الهَوى فأجابَه ، وقَادَهُ فاتَّبَعَه ، زَعَمْتَ أنَّك إنَّما أفْسَدَ علَيْك بَيْعَتِي خَفْورِي لِعُثمانَ . ولَعَمْرِي ما كنْتُ إلاَّ رَجُلاً من المهاجِرين ، أوْرَدْتُ كَما أوْرَدُوا، وأصْدَرْتُ كما أصْدَرُوا ، وما كان اللّه لِيَجْمَعَهم على ضَلالَةٍ ، ولا لِيَضْرِبَهم بِالعَمى ، وما أمَرْتُ فَلَزِمَتْنِي خَطِيْئَةُ الأمْر ، ولا قَتَلْتُ فأخافُ على نَفسِي قِصاصَ القاتِل . وأمَّا قولك : إنَّ أهلَ الشَّام هُمْ حُكَّامُ أهل الحِجاز ؛ فهاتِ رَجُلاً من أهل الشَّام يُقْبَل في الشُّورى ، أوْ تَحِلُّ لَه الخِلافَةُ ، فإنْ سَمَّيْتَ كَذَّبَك المهاجِرون والأنصار ونَحْنُ نأتِيك بِه مِن أهل الحِجاز . وأمَّا قولك : إدفَعْ إليَّ قَتَلَةَ عُثمان ؛ فما أنْتَ وذَاكَ وهاهُنا بَنُو عُثمان ، وهُم أوْلى بذلك منك ، فإنْ زَعَمْتَ أنَّك أقْوَى علَى طَلَب دَم عُثْمان منْه فارْجِع إلى البَيْعَة الَّتي لَزِمَتْك ، وحاكِم القَوْم إليَّ . وأمَّا تَمْييزُك بينَ أهل الشَّام والبَصْرَة وبَيْنَك وبينَ طَلْحَة والزُّبَيْر ، فلَعَمْرِي ما الأمْر هناك إلاَّ واحدٌ ، لأنَّها بَيْعَةٌ عامَّةٌ لا يَتَأتَّى فيهَا النَّظَرُ ، ولا يُسْتأنَفُ فيْها الخِيار . وأمَّا قَرابَتي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقِدَمِي في الإسْلام فلَو اسْتَطَعْتَ دَفْعَه لَدَفَعْتَهُ . (1)
.
ص: 237
44كتابه عليه السلام إلى جرير بن عبد اللّهفقال نصر : حدَّثني مُحَمَّد بن عُبيد اللّه عن الجرجاني قال : لمّا قدم عليٌّ عليه السلام الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل ، كاتب العمّال ، فكتب إلى جَرِير بن عبْد اللّه البَجَلِيّ مع زحر بن قَيْس الجُعْفِي ّ ، وكان جَرِير عاملاً لعثمان على ثغر هَمْدان :« أمَّا بعدُ ؛ « إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَ إِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ » (1) وإنّي أُخبِرُكَ عَن نبأ مَنْ سِرنا إليهِ مِن جُموعِ طَلْحَة َ والزُبَيْر عِندَ نَكْثِهِم بَيعَتِي، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حُنَيْف ، إنّي نهضت من المدينة بالمهاجرين والأنصار حَتَّى إذا كنت بالعذيب ، بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن عليّ ، وعبد اللّه بن عبّاس ، وعَمَّار بن ياسر ، وقَيْسَ بن عُبادَة ، فاستَنْفَرتُهم فأجابُوا ، فَسِرْتُ بِهِم حَتَّى نزلتُ بِظَهرِ البَصرَةِ ، فأعذَرتُ في الدُّعاءِ ، وأقَلْتُ العَثْرةَ، وناشَدْتُهُم عَهدَ بَيعَتِهِم ، فأبَوا إلاَّ قتالي ، فاستعنتُ اللّه َ عَلَيهِم ، فقُتِلَ مَن قُتِل ، وولّوا مُدبرينَ إلى مِصرِهم، وسأَلوني ما كُنتُ دعوتُهُم إليهِ قَبلَ اللِّقاءِ ، فَقَبِلتُ العافِيَةَ ، ورَفعتُ السَّيفَ ، واستعمَلْتُ عَلَيهِم عبدَ اللّه ِ بنَ العبّاسِ ، وسرت إلى الكوفة ؛ وقد بعثت إليك زحر بن قَيْس ، فاسألْهُ عمّا بدَّا لَكَ والسَّلامُ » . (2)
قال : فلمَّا قرأ جَرِيرُ الكتابَ ، قامَ فقالَ : أيُّها النَّاسُ ، هذا كتاب أمير المونين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وهو المأمون على الدِّين والدُّنيا ، وقد كان من أمره وأمر عدوّه ما نحمدُ اللّه عليه، وقد بايعه النَّاس الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والتَّابعين بإحسان ، ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقَّهم بها ، ألا وإنَّ البقاء في الجماعة ، والفناء في الفرقة ، وإنَّ عليَّا حاملكم على الحقّ ما استقمتم ، فإن ملتم أقام ميلكم . فقال النَّاس : سمعا وطاعةً ، رضينا رضينا . فكتب جَرِير إلى عليّ عليه السلام جواب كتابه بالطاعة . . . (3) ثُمَّ نقل ما جرى من شعر ابن أخت جَرِير ، وخطبة زحر بن قَيْس ، وشعر جَرِير ، نصَّ فيه أنَّ عليَّا عليه السلام هو وصيّ النَّبيّ صلى الله عليه و آله وأشعار من غيرها . قال نصر : فقبل الأشْعَث البيعة وسمع وأطاع، وأقبل جَرِير سائرا من ثغر همدان حَتَّى ورد عليّ عليه السلام الكوفة فبايعه، ودخل فيما دخل فيه النَّاس من طاعته ولزوم أمره . (4) أقول : لكنَّ في أشعار ابن أخت جَرِير إيحاء إلى اتهامه جَرِيرا بعدم الإخلاص له، وميله إلى العثمانيين . قال ابن أبي الحديد : قالوا: وكان الأشْعَث بن قَيْس الكِنْدي ّ، وجَرِير بن عبد اللّه البَجَلِيّ يبغضانه ، وهدم عليّ عليه السلام دار جَرِير بن عبد اللّه . قال إسماعيل بن جَرِير : هدم عليّ دارنا مرَّتين . وروى الحارث بن حُصَيْن ، أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله دفع إلى جَرِير بن عبد اللّه نعلين من نعاله ، وقال : احتفظ بهما فإنَّ ذهابهما ذَهاب دينك فلمَّا كان يوم الجمل ذهبت إحداهما، فلمَّا أرسله عليّ عليه السلام إلى معاوية ذهبت الأخرى ، ثُمَّ فارق عليَّا و . . . عن الأعمش أنَّ جَرِيرا والأشْعَث خرجا إلى جبَّان الكوفة ، فمرَّ بهما ضبّ يعدو وهما في ذم عليّ عليه السلام فنادياه : يا أبا حسل ؛ هلمَّ يدك نبايعك بالخلافة فبلغ عليَّا عليه السلام قولهما ، فقال : « أما إنَّهما يحشران يوم القيامة وإمامهما ضبّ » . (5) فقال الآبي : قال بعض قريش : أتيت الكوفة فتَبوَّأْت بها منزلاً ، ثُمَّ خرجت أُريد عليَّا عليه السلام ، فلقيني في الطَّريق وهو بين الأشْعَث بن قَيْس ، وجَرِير بن عبد اللّه ، فلمَّا رآني خرج من بينهما فسلَّم عليّ ، فلمَّا سكت قلت : يا أمير المؤمنين ، مَن هذان ؟ وما رأيهما ؟ فقال : « أمّا هذا الأعْوَر _ يعني الأشْعَث _ فإنَّ اللّه َ لم يَرفعْ شَرَفا إلاَّ حَسَدَهُ ، ولم يَسُنَّ دينا إلاَّ بَغَاهُ ، وهو يُمَنِّي نفسَهُ ويخدَعُها ، فهو بينهما لا يَثِقُ بواحدة مِنهُما ، ومنَّ اللّه ُ عليهِ أن جعَلَهُ جَبانا ، ولو كان شجاعا لَقد قَتَلهُ الحَقّ بَعدُ . وأمَّا هذا الأكشفُ _ يعني جَرِيرا _ عبد الجاهليّة، فهوَ يَرى أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَحقِرُهُ ، فَهُو مُمتَلِى ءٌ بأْوا (6) ، وهو في ذلك يألبُ (7) حُجْرا يؤْويه ، ومنصبا يُغنيه . وهذا الأعْوَر يُغوِيهِ ويطغيه ، إنْ حَدَّثَهُ كَذِبَهُ ، وإنْ قامَ دُونَهُ نكَصَ عنهُ ، فَهُما كالشَّيطانِ « إِذْ قَالَ لِلاْءِنسَ_نِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَ__لَمِينَ » » (8) . قال : فقلت له : واللّه يا أمير المؤمنين لقد نزلت بشرِّ منزل ، ما أنت إلاَّ بين الكلب والذِّئب . قال : « هو عَمَلُكم يا معشَر قُريشٍ ، واللّه ِ ما خَرَجْتُ مِنكُمْ إلاَّ أنّي خِفْتُ أن تَلِجُّوا بي فأَلِجَّ بِكُم » . (9) قال نصر : فلمّا أراد عليّ عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولاً ، فقال له جَرِير : ابعثني يا أمير المونين إليه ؛ فإنَّه لم يزل لي مسْتخِصَّا وودَّا ، آتيه فأدعوه ، على أن يسلّم لك هذا الأمر ، ويجامعك على الحقّ ، على أن يكون أميرا من أُمرائك ، وعاملاً من عمّالك، ما عمل بطاعة اللّه ، واتبع ما في كتاب اللّه ، وأدعو أهل الشَّام إلى طاعتك وولايتك فجلّهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت إلاَّ يعصوني . فقال له الأشْتَر : لا تبعثْه ولا تصدِّقه ؛ فو اللّه إنّي لأظنَّ هواه هواهم ، ونيّته نيّتهم . فقال له عليّ عليه السلام : « دَعْهُ حَتَّى نَنظُرَ ما يَرجِعُ بهِ إلينا » . [ أقول :أراد أمير المؤمنين عليه السلام أن يرسل جَرِيرا إلى معاوية فخالفه الأشْتَر ] فبعثه عليّ عليه السلام ، وقال له حين أراد أن يبعثه : « إنَّ حولي من أصحابِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله من أهلِ الرَّأي والدِّين مَن قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول اللّه فيك :إنَّك مِن خَيرِ ذي يَمَنٍ ، ائت معاوية بكتابي ، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون ، وإلاَّ فانبِذْ إليه وأعلمه أنّي لا أرضى بهِ أميرا، وأنَّ العامّة لا ترضى به خليفة » . فانطلق جَرِير حَتَّى أتى الشَّام ونزل بمعاوية . . . (10) الجرجاني قال : كان معاوية قد أتى جَرِيرا قبل ذلك في منزله ، فقال له : يا جَرِير ؛ إنّي قد رأيت رأيا ، قال : هاته ، قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشَّام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي بيعة ، وأُسلِّم له هذا الأمر ؛ وأكتب إليه بالخلافة . فقال جَرِير : اكتُبْ ما أردتَ أكتبْ مَعَكَ . فكتب معاوية بذلك إلى عليّ ، فكتب عليّ عليه السلام إلى جَرِير : « أمَّا بعدُ ؛ فإنَّما أرادَ مُعاوِيَةُ ألاَّ يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحبّ، وأراد أن يَريثَكَ ويبطئك حَتَّى يَذُوقَ أهلَ الشَّام ؛ وإنَّ المُغِيْرَة بنَ شُعْبَة َ قد كان أشار عليَّ أن أستَعمِلَ مُعاوِيَةَ على الشَّام ، وأنا حينئذ بالمدينة ، فَأبَيتُ ذلِكَ عَليهِ ، ولم يكن اللّه ليراني أتَّخِذَ المُضلِّينَ عَضُدا ، فإن بايَعَكَ الرَّجُلُ ؛ وإلاَّ فأقْبِلْ والسَّلام » . [ أقول : أبطأ جَرِير عند معاوية حَتَّى اتَّهمه النَّاس ، وقال عليّ عليه السلام : وقَّت الرسول وقتا لا يُقيمُ بعدَهُ إلاَّ مَخدُوعا أوْ عاصيا . وأبطأ على عليّ عليه السلام حَتَّى أيس منه . ] فقال نصر : وفشا كتاب معاوية في العرب ، فبعَث إليه الوليد بن عُقْبَة : مُعاوِيَ إنَّ الشَّامَ شَامُكَ فاعتَصِمْبِشامِكَ لاتُدخِلْ عَلَيكَ الأفاعِيا (11)
.
ص: 238
. .
ص: 239
. .
ص: 240
. .
ص: 241
45كتابه عليه السلام إلى مُحَمَّد بن أبي بَكرعن كَعْب قال : كنت مع مُحَمَّد بن أبي بَكر حيث قدم مصر ، فلمَّا أتاها قرأ عليهم عهده :« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا ما عهد عبد اللّه عليّ أمير المونين إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر حين ولاّه مصر : أمره بتقوى اللّه والطَّاعة له في السِّرِّ والعلانيَّة ، وخوف اللّه في المغيب والمشهد ، وأمره باللِّين للمسلم ، وبالغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذِّمّة ، وبالإنصاف للمظلوم ، وبالشدّة على الظَّالم ، وبالعفو عن النَّاس ، وبالإحسان ما استطاع ، واللّه ُ يَجزِي المُحسِنينَ ويُعذِّبُ المُجرِمينَ . وأمره أن يَدعُوَ مَنْ قِبَلَهُ إلى الطَّاعَةِ والجَماعَةِ ؛ فإنَّ لَهُم في ذلِكَ مِنَ العاقِبَةِ وعظيمِ المَثُوبَةِ ما لا يُقدِّرونَ قَدرَهُ ، ولا يَعرِفُونَ كُنهَهُ ، وأمرَهُ أن يَجبِي خَراجَ الأرضِ علَى ما كانَتْ تُجبَى عَلَيهِ مِنْ قَبلُ ، ولا يَنتَقِصْ مِنهُ ولا يَبتَدِعْ فيهِ ، ثُمَّ يَقسِمُهُ بينَ أهْلِهِ كَما كانوا يَقسِمُونَهُ عليهِ مِنِ قَبْلُ . وأمرَهُ أنْ يُلِينَ لَهُم جَناحَهُ ، وأَنْ يُساوي بَينَهُم فِي مَجْلِسِهِ ووجهه ، ولْيَكُنِ القَرِيبُ والبَعِيدُ عِندَهُ في الحَقِّ سَواءٌ ، وأمَرَهُ أنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بالحَقِّ ، وأنْ يَقومَ بالقِسْطِ ، ولا يتَّبِعَ الهَوى ، ولا يَخافَ فِي اللّه ِ لَومَةَ لائِمٍ ، فإنَّ اللّه َ مَعَ مَنْ اتّقاهُ ، وآثَرَ طاعَتَهُ علَى ما سِواهُ ، والسَّلامُ » .
.
ص: 242
وكتبه عُبيدُاللّه ِ بنُ أبي رافعٍ مَولَى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله لِغُرَّةِ شَهْرِ رَمَضانَ ، سَنَةَ سِتٍّ وثلاثين . (1)
مُحَمّدُ بنُ أبي بَكرهو محمّد بن عبد اللّه بن عثمان ، وهو محمّد بن أبي بكر بن أبي قُحافة ، واُمُّه أسماء بنت عُمَيس ، وُلد في حجّة الوداع ( سنة 10 ه ) بذي الحُلَيفة (2) ، في وقتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد تهيّأ مع جميع أصحابه لأداء حجّة الوداع . اُمّه أسماء بنت عُمَيس . كانت في البداية زوجة جعفر بن أبي طالب (3) ، وهاجرت معه إلى الحبشة (4) . وبعد استشهاد جعفر تزوّجها أبو بكر (5) ، وبعد موته تزوّجها أمير المؤمنين عليه السلام . فانتقلت إلى بيته مع أولادها ، وفيهم محمّد الَّذي كان يومئذٍ ابن ثلاث سنين (6) . نشأ في حِجر الإمام عليه السلام (7) إلى جانب الحسن والحسين عليهماالسلام ، وامتزجت روحه بمعرفة وحبّ أهل البيت عليهم السلاموكان الإمام عليه السلام يقول أحيانا ملاطفا : « مُحمّدٌ ابني مِن صُلْبِ أبي بَكرٍ » (8) . وكان محمّد في مصر أيّام حكومة عثمان ، وبدأ فيها تعنيفه وانتقاده له (9) ، واشترك في الثَّورة عليه (10) . وكان إلى جانب الإمام عليه السلام بعد تصدّيه للخلافة . وهو الَّذي حمل كتابه إلى أهل الكوفة قبل نشوب حرب الجمل (11) ، وكان على الرَّجَّالة فيها (12) . وبعد غلبة الإمام عليه السلام تولّى متابعة الشُّؤون المتعلّقة بعائِشَةَ بأمر الإمام عليه السلام (13) ، وأعادها إلى المدينة (14) . كان محمّد مجدّا في الجهاد والعبادة ، ولجدّه في عبادته سُمّي عابد قريش (15) . وهو جدّ الإمام الصَّادق عليه السلام من الاُمّهات 16 . ولاّه الإمام عليه السلام على مصر سنة 36 ه بعد عزل قَيْس بن سَعْد عنها (16) . ولمّا تخاذل أصحاب الإمام عن نصرته عليه السلام ، وتركوه وحيدا ، اغتنم معاوية هذه الفرصة واستطاع أن يغتال هذا النَّصير المخلص باُسلوب غادر خبيث ، واستطاع حينئذٍ أن يسخّر مصر تحت قدرته . كان الإمام عليه السلام يُثني عليه ويذكره بخير في مناسبات مختلفة ويقول : « لَقَد كانَ إليَّ حبيبا، وكانَ لِي رَبِيبا (17) ، فَعِندَ اللّه ِ نَحتَسِبُهُ ولَدا ناصِحا وعامِلاً كادحا، وسيفا قاطعا، ورُكنا دافِعا » (18) . في صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللّه الأنْصاري ّ_ في ذكر حجّة الوداع _ : حتَّى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر (19) . وفي اُسد الغابة _ في ذكر محمّد بن أبي بكر _ : كان له فضل وعبادة ، وكان عليّ يُثني عليه ، وهو أخو عبد اللّه بن جعفر لاُمّهِ ، وأخو يَحْيَى بن عليّ لاُمّه (20) . وفي ذكر محمّد بن أبي بكر : تزوّج عليّ باُمّه أسماء بنت عميس بعد وفاة أبي بكر ، وكان أبو بكر تزوّجها بعد قتل جعفر بن أبي طالب ، وكان ربيبه في حِجْره . وشهد مع عليّ الجمل ، وكان على الرَّجَّالة ، وشهد معه صفِّين ، ثمّ ولاّه مصر فقتل بها (21) . وفي شرح نهج البلاغة : كان محمّد ربيبه وخرّيجه ، وجاريا عنده مجرى أولاده ، رضع الولاء والتَّشيُّع مُذ زمن الصِّبا ، فنشأ عليه ، فلم يكن يعرف له أبا غير عليّ ، ولا يعتقد لأحدٍ فضيلة غيره ، حتَّى قال عليّ عليه السلام : محمّد ابني من صلب أبي بكر (22) . وعن الإمام عليّ عليه السلام _ في ذكر محمّد بن أبي بكر والتَّفجّع عليه _ : إنّه كان لي ولدا ، ولولدي وولد أخي أخا (23) .
.
ص: 243
. .
ص: 244
. .
ص: 245
46كتابه عليه السلام إلى مُحَمَّد بن أبي بَكركتابه عليه السلام إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر وأهل مصر : فقال إبراهيم : فحدّثنا يَحْيَى بن صالح ، فقال حدّثنا مالك بن خالد الأسديّ ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، عن عباية . أنَّ عليَّاً _ عليه السلام _ كتب إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر وأهل مصر :« أمَّا بَعدُ ؛ فإنّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّه ِ في سِرِّ أَمْرِكَ وعَلانِيَّتِهِ وعلَى أيِّ حالٍ كُنْتَ عَلَيها ، واعلَمْ أنَّ الدُّنيا دارُ بلاءٍ وفَناءٍ ، والآخرةَ دارُ بقاءٍ وجَزاءٍ ؛ فَإنِ استَطَعْتَ أنْ تُوثِرَ ما يَبْقَى علَى ما يَفْنَى فافْعَلْ ، فإنَّ الآخِرَةَ تَبقَى وإنَّ الدُّنيا تَفْنَى ، رَزَقَنا اللّه ُ وإيَّاكَ بَصَرا لِ_ما بَصَّرَنا ، وفهما لمِا فَهَّمَنا حَتَّى لا نُقَصِّر عَمَّا أمرَنا بِهِ، ولا نَتَعدَّى إلى ما نَهانا عَنْهُ ، فإنَّه لابُدَّ لَكَ مِن نَصيبِكَ مِنَ الدُّنيا وأنْتَ إلى نَصِيبِكَ مِنَ الآخِرَةِ أحوجُ ، فإنْ عَرَضَ لكَ أمران : أحدُهُما لِلآخِرَةِ والآخَرُ للدُّنيا فابْدَأ بِأَمرِ الآخِرَةِ ، ولْتَعظُمْ رَغْبَتُكَ في الخيرِ، ولتَحسُن فيهِ نِيَّتُكَ ، فإنَّ اللّه َ عز و جل يُعطِي العبدَ علَى قَدْرِ نِيَّتِهِ ، وإذا أحَبَّ الخيرَ وأهلَهُ ولَم يَعمَلْهُ كانَ إنْ شاءَ اللّه ُ كَمَنْ عَمِلَهُ ، فإنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله فقالَ حِينَ رَجَعَ مِن تَبُوك : لَقدْ كانَ بالمَدِينَةِ أقوامٌ ما سِرْتُم مِن مَسيرٍ ولا هَبَطْتُم مِنْ وادٍ إلاَّ كانُوا مَعَكُم ، ما حَبَسَهُم إلاَّ المَرَضُ، يقول : كانَتْ لَهُم نِيَّةٌ . ثُمَّ اعلَمْ يا مُحَمّدُ ، أنِّي ولَّيتُكَ أعظَمَ أجنادِي في نَفسِي أهلَ مِصر َ ، وإذْ وَلَّيتُكَ ما وَلَّيتُكَ مِن أمْرِ النَّاسِ ، فأنْتَ مَحقُوقٌ أنْ تَخافَ فِيهِ علَى نَفْسِكَ وَتحذَرَ فيهِ علَى دِينِكَ ولَو كانَ ساعَةً مِن نَهارٍ ، فإنِ استَطَعتَ أنْ لا تُسخِطَ فيها رَبَّكَ لِرِضى أحَدٍ مِن خَلقِهِ فافعَلْ ، فَإنَّ في اللّه ِ خَلَفا مِن غَيرِهِ ولَيسَ في شيءٍ غَيرِهِ خَلَفٌ مِنهُ ، فاشتدَّ على الظَّالِمِ ، وَلِنْ لِأهْلِ الخَيرِ وَقرِّبهُم إليكَ واجعَلهُم بِطانَتَكَ وإخوانَكَ ، والسَّلامُ » . (1)
.
ص: 246
. .
ص: 247
[ أقول : نقل مصنِّفُ كتاب معادن الحكمة كتابه إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر ، حين قلَّدهُ مِصر َ عن النَّهج ، ولكنَّه قسّم منه جزءا من كتابه المفصّل المشتمل على مسائل كثيرة، الَّذي نقله المُصنِّف، من قوله عليه السلام : « واعلم يا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ ، قد ولّيتك . . . وليس في شيء سواه خلف منه » ، وقسّم أيضا جزءا منه نقله المصنِّف « واعلموا عباد اللّه أنَّ المتقين ذهبوا . . . » ، على اختلاف في الألفاظ ومواضع الجملات ، ويأتي نقله بعد هذا أيضا . ولعل السَّيِّد كانت عنده رواية لم تصل إلينا . وما ذكرناه نحن عن الغارات أيضا ، ذيله موجود في الكتاب الطَّويل ، وفي شرح المعتزلي نقل هذا الكتاب عن إبراهيم الثَّقَفي ّ في الغارات ، وقال : كتب عليّ عليه السلام إلى أهل مصر لمَّا بعث مُحَمَّد بن أبي بَكر إليهم كتابا يخاطبهم به ، ويخاطب مُحمّد ا أيضا ، ثُمَّ نقل الكتاب، والضَّمائر فيه بخطاب الجمع ، كقوله « أُوصِيكُم ، آمرُكُم ، مِنكُم و . . . ، ومراده من مخاطبته محمّدا قوله عليه السلام : « ثُمَّ اعلم يا محمّد . . . » ]
47كتابه عليه السلام لمُحَمَّد بن أبي بَكر وأهل مصرقال إبراهيم الثَّقَفي ّ : كتب مُحَمَّد بن أبي بَكر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو إذ ذاك بمصر، عاملها لعليٍّ عليه السلام ، يسأله جوامع من الحرام والحلال والسُّنَنِ والمواعظ ؛ فكتب إليه : لعبدِ اللّه ِ أميرِ المُوِنين َ مِن مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ ؛ سلامٌ عليكَ فإنِّي أحمَدُ إليكَ اللّه َ الَّذي لا إله إلاَّ هوَ ، أمَّا بَعدُ ؛ فإن رأى أميرُ المُوِنينَ _ أرانا اللّه ُ وجَماعَةَ المُسلِمينَ فيهِ أفضلَ سُرورِنا وأملَنا فيهِ _ أن يكتُبَ لنا كِتابا فيهِ فَرائِضُ ، وأشياء مِمّا يُبتلى بهِ مِثلي مِنَ القضاءِ بينَ النَّاسِ فَعَلَ ؛ فإنَّ اللّه َ يُعظِّمُ لِأمِيرِ المُوِنينَ الأجرَ ، ويُحسِنَ لَهُ الذُّخْرَ . فكتب إليه عليٌّ عليه السلام :« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد اللّه ِ أميرِ المُوِنينَ عليِّ بنِ أبي طالب ، إلى مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ وأهلِ مِصر ؛ سلامٌ عَلَيكُم ، فإنِّي أحمَدُ إليكُمُ اللّه َ الَّذي لا إله َ إلاَّ هُوَ ، أمَّا بَعْدُ ؛ فَقَدْ وَصَلَ إليّ كتابُكَ ، فَقَرأتُهُ وفَهِمتُ ما سألتَني عَنهُ ، وأعجَبنِي اهتِمامُكَ بِما لابُدَّ لَكَ مِنهُ، وما لا يُصلِحُ المُسلِمين َ غَيرُهُ ، وظَننتُ أنَّ الَّذي دَلَّكَ عَلَيهِ نِيَّةٌ صالِحَةٌ ، ورَأْيٌ غيرُ مَدخُولٍ ولا خَسيسٍ ، وقَد بعثتُ إليكَ أبوابَ الأقضِيَةِ جامِعا لكَ فيها ، ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ ، وحَسْبُنا اللّه ُ ونِعمَ الوَكيلُ » . وكتب إليه عمّا سأله من القضاء ، وذكر الموت ، والحساب ، وصفة الجنّة والنَّار ، وكتب في الإمامة ، وفي الوضوء ، ومواقيت الصَّلاة ، وفي الرُّكوع والسُّجود ، وفي الأدب ، وفي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، وفي الصَّوم والاعتكاف ، وفيالزَّنادقة ، وفي نصرانيّ فجر بامرأة مُسْلِمة ، وفي أشياء كثيرة لم يُحفظ منها غير هذه الخصال ؛ وحدّثنا ببعض ما كتب إليه . ثُمَّ نقل إبراهيم الكتاب المتقدم إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر وأهل مصر ، ثُمَّ قال : عن عبد اللّه بن الحسن ، عن عباية قال : كتب عليّ عليه السلام إلى مُحَمَّد وأهل مصر : « أمَّا بعدُ ؛ فإنِّي أُوصيكُم بِتقوَى اللّه ِ والعَمَلِ بما أنتُم عَنْهُ مسؤولونَ ، فَأنتُم بهِ رَهْنٌ وأنتُمْ إليهِ صائِرونَ ، فإنَّ اللّه َ عز و جل يَقُولُ : « كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » (1) وقال : « وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ » (2) وقال : « فَوَرَبِّكَ لَنَسْئلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ » (3) . فاعلَمُوا عبِادَ اللّه ِ أنَّ اللّه َ سائِلُكُم عَنِ الصَّغِيرِ مِن أعمالِكُم والكَبيرِ ، فإنْ يُعذِّبْ فَنَحْنُ أظلَمُ ، وإنْ يَعفُ فَهوَ أرحَمُ الرَّاحِمينَ . واعلموا أنَّ أقربَ ما يكُونُ العبدُ إلى الرَّحمَةِ والمَغفِرَةِ حِينَ يَعمَلُ بِطاعَةِ اللّه ِ ومُناصَحَتِهِ في التَّوبَةِ ، فعليكُم بِتَقوى اللّه ِ عز و جل ، فَإنَّها تَجمَعُ مِنَ الخَيرِ ما لا يَجمَعُ غَيرُها ، وَيُدرَكُ بِها مِنَ الخَيرِ ما لا يُدرَكُ بِغَيرِها ؛ خيرُ الدُّنيا وخَيرُ الآخِرَةِ ، يَقولُ اللّه ُ : « وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَ_ذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ » (4) . واعلموا عِبادَ اللّه ِ ، أنَّ المُوِنَ يَعمَلُ لِثَلاثٍ : إمّا لِخَيرِ الدُّنيا ، فإنَّ اللّه َ يُثيبَهُ بِعَمَلِهِ في الدُّنيا ، قالَ اللّه ُ سبحانه : « وَ ءَاتَيْنَ_هُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّ__لِحِينَ » (5) فَمَنْ عَمِلَ للّه ِ تَعالى أعطاهُ أجرَهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، وكفاهُ المُهِمَّ فيهما ، وقَد قالَ : « يَ_عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَ_ذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ وَ سِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّ_بِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ » (6) فما أعطاهُم اللّه ُ في الدُّنيا لَمْ يُحاسِبْهُم بِهِ في الآخِرَةِ ، قال : « لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَ زِيَادَةٌ » (7) فالحُسنى هِيَ الجَنَّةُ ، والزِّيادَةُ هِيَ الدُّنيا ، وإمَّا لخير الآخِرَة ؛ فإنَّ اللّه َ يُكَفِّرُ عَنهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ سَيِّئةً ، يقول : « إِنَّ الْحَسَنَ_تِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَ لِكَ ذِكْرَى لِلذَّ كِرِينَ » (8) حَتَّى إذا كانَ يَومُ القِيامَةِ حُسِبَتْ لَهُم حَسَناتُهُم ، وأُعطُوا بِكُلِّ واحدةٍ عَشْرَ أمثالِها إلى سَبعِمئَةِ ضِعْفٍ ؛ فَهُو الَّذي يَقُولُ : « جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَ_آءً حِسَابًا » (9) ويقولُ عز و جل : « فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَ هُمْ فِى الْغُرُفَ_تِ ءَامِنُونَ » (10) فارغَبُوا فِيهِ ، واعمَلُوا بهِ ، وتَحَاضُّوا عَلَيهِ . واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ أنَّ المُوِنينَ المُتَّقينَ ذَهبُوا بِعاجِلِ الخَيرِ وآجِلِهِ ، شَارَكُوا أهلَ الدُّنيا في دُنياهُم ، ولَمْ يُشارِكُهم أهلُ الدُّنيا في آخِرَتِهِم ، يقولُ اللّه ُ عز و جل : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَ_تِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَ_مَةِ كَذَ لِكَ نُفَصِّلُ الأَْيَ_تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » (11) سَكَنوا الدُّنيا بأفضَلِ ما سُكِنَتْ ، وأكلُوها بأفضلِ ما أُكِلَتْ ، شارَكُوا أهلَ الدُّنيا في دُنياهُم ؛ أكَلُوا مِن أفضلِ ما يأكُلونَ ، وشَرِبُوا مِن أفضلِ ما يَشرَبُونَ ، ولَبِسُوا مِن أفضلِ ما يَلبَسُونَ ، وسَكَنُوا بأفضلِ ما يَسكُنونَ ، وتزوَّجُوا مِن أفضلِ ما يَتَزَوَّجُونَ ، ورَكِبُوا مِن أفضلِ ما يَركَبُونَ ، أصابُوا لَذَّةَ الدُّنيا مَعَ أهلِ الدُّنيا ، مَعَ أنَّهم غَدا مِن جِيرانِ اللّه ِ عز و جل يَتَمنَّونَ عليهِ ، فَيُعطِيهِم ما يَتَمنَّونَ ، لا يَرُدُّ لَهُم دَعوَةً ولا يَنقُصُ لَهُم نَصِيبٌ مِن لَذَّةٍ ، فإِلى هذا يَشتَاقُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقلٌ ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ . واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ ، أنَّكُم إنِ اتَّقيتُم ربَّكُم وحَفِظْتُم نَبيَّكُم في أهلِ بَيتِهِ فَقَد عَبدتُموهُ بِأفضَلِ ما عُبِدَ ، وذَكَرتُموهُ بأَفضلِ ما ذُكِرَ ، وشَكَرتُمُوهُ بأفضلِ ما شُكِرَ ، وأخَذْتُم بأفضَلِ الصَّبرِ ، وجَاهَدتُم بأفضَلِ الجهادِ ، وإنْ كانَ غَيرُكُم أطولَ صَلاةً مِنكُم ، وأكثَرَ صِياما ؛ إذ كُنْتُم أتقى للّه ِ ، وأنصَحَ لِأولِياءِ الأمرِ مِن آلِ مُحَمَّد ٍ وأخشَعَ . واحذَرُوا عِبادَ اللّه ِ الموتَ ونُزُولَهُ، وخُذوا لَهُ عُدَّتَهُ ، فإنَّهُ يَدخُلُ بِأمرٍ عَظِيمٍ ، خَيرٌ لا يَكونُ مَعَهُ شَرٌّ أبدا ، وشَرٌّ لا يكونُ مَعَهُ خَيرٌ أبدا ، فَمَنْ أقربُ إلى الجَنَّةِ مِن عامِلِها ؟ ! ومَنْ أقربُ إلى النَّارِ مِن عامِلِها ؟ ! إنَّه ليسَ أحَدٌ مِن النَّاسِ تُفارِقُ رُوحَهُ جَسَدَهُ حَتَّى يعلَمَ إلى أيِّ المَنزِلَينِ يَصيرُ ! إلى الجَنَّةِ أو إلى النَّارِ ؟ أعدوٌّ هُو للّه ِ أم هُوَ وَلِيٌّ لَهُ ؟ فإن كانَ ولِيّا للّه ِ فُتِحَت لَهُ أبوابُ الجَنَّةِ ، وشُرِعَتْ لَهُ طُرُقُها ، ورَأى ما أعَدَّ اللّه ُ لَهُ فِيها ، فَفَرِغَ مِن كُلِّ شُغلٍ ، وَوُضِعَ عَنهُ كُلُّ ثِقلٍ ، وإنْ كانَ عَدُوَّا للّه ِ فُتِحَت لَهُ أبوابُ النَّارِ ، وشُرِعَتْ لَهُ طُرُقُها ، ونَظَر إلى ما أعدَّ اللّه ُ لَهُ فِيها ، فاستقبَلَ كُلَّ مَكرُوهٍ ، وتَركَ كُلَّ سُرورٍ ؛ كُلُّ هذا يَكونُ عِندَ المَوتِ ، وعِندَهُ يَكونُ بِيقينٍ ، فقال اللّه تعالى : « الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَ_مٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » (12) ويقول : « الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءِ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَ بَ جَهَنَّمَ خَ__لِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ » (13) . واعلموا عِبادَ اللّه ِ أنَّ الموتَ لَيس مِنهُ فَوتٌ ، فاحذَروهُ قَبلَ وقوعِهِ ، وأعدِّوا لَهُ عُدَّتَهُ ، فإنَّكم طُرَدَاءُ (14) المَوتِ وجدُّوا لِلثوابِ ، إنْ أقمتم لَهُ أخَذَكُم ، وإنْ هَربتُم مِنهُ أدركَكَمْ ، فَهو ألزَمُ لَكُم مِن ظلِّكم ، مَعقودٌ بِنواصِيكُم ، والدُّنيا تَطوي من خَلفِكُم ، فأَكثِرُوا ذِكرَ المَوتِ عِندَما تُنازِعُكُم إليهِ أنفسُكُم مِنَ الشَّهواتِ ، فإنَّه كَفى بالمَوتِ واعظا ، وكان رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله كَثيرا ما يُوصِي أصحابَهُ بِذِكرِ المَوتِ فَيَقولُ : أكثِروا ذِكرَ المَوتِ فَإنَّهُ هادِمُ اللَّذَّاتِ ، حَائِلٌ بَينَكُم وبَينَ الشَّهواتِ . واعلمُوا عِبادَ اللّه ِ ، أنَّ ما بَعدَ المَوتِ أشدُّ مِنَ المَوتِ لِمَن لَم يَغفِرِ اللّه ُ لَهُ ويَرحَمُهُ ، واحذَرُوا القَبرَ وضَمَّتَهُ وضِيقَهُ وظُلْمَتَهُ وغُربَتَهُ ، فإنَّ القبرَ يَتكَلَّمُ كُلَّ يومٍ ، ويَقولُ : أنا بيتُ التُّرابِ ، وأنا بَيتُ الغُربَةِ ، وأنا بَيتُ الدُّودِ ، والهَوامِّ ، والقَبر رَوضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ ، أو حُفرَةٌ مِن حُفَرِ النَّارِ ، إنَّ المُسلِمَ إذا دُفِنَ قالَت لَهُ الأرضُ : مَرحَبا وأهلاً ، قَد كُنتَ مِمَّنْ أُحِبُّ أن يَمشِي علَى ظَهرِي ، فَإذا وَلِيتُكَ فَسَتَعلَمُ كَيفَ صُنعِي بِكَ ؛ فَيتَّسِعَ لَهُ مدَّ البَصَرِ ، وإذا دُفِنَ الكَافِرُ قالَت لَهُ الأرضُ : لا مَرحَبا ولا أهلاً ، قَد كُنتَ مِمَّنْ أُبغِضُ أن يَمشِي علَى ظَهرِي ، فإذا وَلِيتُكَ فَسَتَعلَمُ كيفَ صُنعِي بِكَ ؛ فَتَنضَمُّ عليهِ حَتَّى تَلتَقِي أضلاعُهُ ، واعلَمُوا أنّ المَعِيشَة الضَّنْكَ الَّتي قال اللّه تعالى : « فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا » (15) هِيَ عذابُ القَبرِ ، وإنَّهُ لَيُسلّطُ علَى الكافِرِ في قبرِهِ تِسعَة وتسعين تِنّينا تَنهَشُ لَحمَهُ حَتَّى يُبعَثَ ، لو أنَّ تِنّينا مِنها نَفَخَ في الأرضِ ما أنبتَتْ رِيعَها أبدا . واعلموا عِبادَ اللّه ِ أنَّ أنفُسَكُم وأجسادَكُم الرَّقيقَةَ النَّاعِمَةَ الَّتي يَكفيها اليسيرُ مِنَ العِقابِ ضَعِيفَةٌ عَنْ هذا ؛ فإنِ استطَعتُم أن تَرحَمُوا أنفُسَكُم وأجسادَكُم مِمّا لا طاقَةَ لَكُم بِهِ ولا صَبْرَ لَكُم علَيهِ ، فَتَعمَلُوا بِما أحبَّ اللّه ُ سُبحانَهُ ، وتَترُكُوا ما كَرِهَ ؛ فافعَلُوا ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ . واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ أنَّ ما بَعدَ القَبرِ أشدُّ مِنَ القَبرِ ، يَومٌ يَشِيبُ فيهِ الصَّغِيرُ ، ويَسكَرُ فيهِ الكَبِيرُ ، ويَسقُطُ فِيهِ الجَنِينُ ، وتَذهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمّا أرضَعَتْ ، واحذَرُوا يَوما عَبُوسا قَمطَرِيرا ، يوما كانَ شَرُّهُ مُستَطِيرا ، أما إنَّ شَرَّ ذلِكَ اليَومِ وفَزَعَهُ استَطارَ ، حَتَّى فَزِعَت مِنهُ المَلائِكَة ُ الَّذِين لَيستْ لَهُم ذُنوُبٌ ، والسَّبعُ الشِّدادُ ، والجِبالُ الأوتادُ ، والأرضُونَ المِهادُ ، وانشقَّتِ السَّماءُ فهي يَومَئذٍ واهية ، وتغيَّرَتْ فكانَتْ وَرِدَةً كالدِّهانِ ، وكانَتِ الجِبالُ سَرابا بعدما كانَتْ صُمّا صِلابا ، يقول سبحانه : « وَ نُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَ_وَ تِ وَ مَن فِى الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ » (16) فَكيفَ بِمَنْ يَعصِيهِ بالسَّمعِ والبَصرِ واللِّسانِ واليَدِ والرِّجلِ والفرْجِ والبَطنِ ، إن لم يغفر اللّه ُ ويرحَمُ . واعلَمُوا عِبادَ اللّه ِ أنَّ ما بَعدَ ذلِكَ اليَومِ أشدُّ وأدهى علَى مَنْ لَمْ يَغفِرِ اللّه ُ لَهُ مِن ذلِكَ اليومِ ، فإنَّهُ يقضي ويَصيرُ إلى غيرِهِ ؛ إلى نارٍ قَعرُها بَعيدٌ ، وحَرُّها شَدِيدٌ ، وعذابُها جديدٌ ، وشَرابُها صَدِيدٌ ، ومقامِعُها حَدِيدٌ ، لا يَفتَرُ عَذابُها ، ولا يَموتُ ساكِنُها ، دارٌ لَيستْ للّه ِ سُبحانَهُ فيها رَحمَةٌ ، ولا يُسمَعُ فيها دَعوَةٌ . واعلَموا عِبادَ اللّه ِ أنَّ مَعَ هذا رَحمَةَ اللّه ِ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء لا تَعجَزُ عَنِ العِبادِ ، وجَنَّةً عَرضُها كَعَرضِ السَّماواتِ والأرضِ أُعِدَّتْ للمُتَّقينَ ، خيرٌ لا يَكونُ مَعَهُ شرٌّ أبدا ، وشهوَةٌ لا تَنفَدُ أبدا ، ولَذَّةٌ لا تفنى أبدا ، ومجمعٌ لا يتفرَّقُ أبدا ، قَومٌ قد جَاوَروا الرَّحمنَ ، وقامَ بَينَ أيديهِم الغِلمانُ ، بِصِحافٍ مِن ذَهَبٍ فيها الفاكِهَةُ والرَّيحانُ . فقال رجل : يا رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، إنِّي أُحِبُّ الخيلَ، أ في الجَنَّةِ خَيلٌ ؟ _ قال : نَعَم ، والذي نَفسي بيدِهِ ، إنَّ فيها خيلاً من ياقوتٍ أحمَر عليها يَركَبُونَ ، فَتَدِفّ بِهِم خِلالَ وَرقِ الجَنَّةِ . قال رجل : يا رسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، إنِّي يُعجِبُني الصَّوتُ الحسَنُ ؛ أ في الجَنَّةِ الصَّوتُ الحَسَنُ ؟ _ قال : نعم ، والَّذي نفسي بيده ، إنَّ اللّه َ لَيَأمُرُ لِمَن أحَبَّ ذلِكَ مِنهُم بِشَجَرٍ يُسمِعُهُ صَوتا بالتَّسبيحِ ما سَمِعَتْ الآذان بِأحسنَ مِنهُ قَطُّ . قال رجل : يا رسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، إنِّي أحبُّ الإبلَ ، أ في الجنَّةِ إبِلٌ ؟ قال : نعم ، والَّذي نفسي بيدِهِ ، إنَّ فيها نَجائِبَ مِن ياقوتٍ أحمَرَ ، عليها رِحالُ الذَّهَبِ ، قد أُلحِفَتْ بِنَمارِقِ الدِّيباجِ ، يَركَبونَ فَتَزِفُّ بِهِم خِلالَ ورَقِ الجَنَّةِ ، وإنَّ فيها صُوَرُ رِجالٍ ونساءٍ يَركبونَ مَراكِبَ أهلِ الجَنَّةِ ، فإذا أعجَبَ أحدَهُم الصُّورَةُ قال : اجعَلْ صُورَتي مِثلَ هذهِ الصُّورَةِ ، فَيَجعَلُ صُورَتَهُ عليها ، وإذا أعجَبَتهُ صُورَةُ المَرأةِ قال : رَبِّ اجعل صُورَةَ فُلانَةَ زَوجَتِهِ مِثلَ هذهِ الصُّورَةِ ، فَيَرجِعُ وقد صارَت صُورَةُ زَوجَتِهِ علَى ما اشتهى . وإنَّ أهل الجنَّة يزورونَ الجَبَّار كُلَّ جُمُعَةٍ ، فيكونُ أقربُهُم مِنهُ علَى مَنابِرَ مِن نُورٍ ، والَّذِين يَلُونَهُم علَى مَنابِرَ مِن ياقُوتٍ، والَّذِين يَلُونَهُم علَى مَنابِرَ مِن زَبَرجَدٍ ، والَّذِين يَلُونَهم علَى مَنابِرَ مِن مِسكٍ ، فبينا هُم كَذلِكَ يَنظُرونَ إلى نُورِ اللّه ِ جَلَّ جَلالُهُ ، وينظُرُ اللّه ُ في وُجوهِهِم ، إذ أقبَلَتْ سَحابَةٌ تَغشاهُم فَتُمطِرُ علَيهِم مِنَ النِّعْمةِ واللَّذَّة والسُّرورِ والبَهجَةِ ما لا يَعلَمُه إلاَّ اللّه ُ سُبحانَهُ . ثُمَّ قال : بلى إنَّ مَعَ هذا ما هُوَ أفضلُ مِنهُ ، رِضوانُ اللّه ِ الأكبرُ ، فلو أنَّنا لَمْ يُخَوِّفنا بِبَعضِ ما خَوَّفَنا ، لَكُنَّا مَحقُوقِينَ أن يَشتَدَّ خوفُنا مِمَّا لا طاقَةَ لنا بِهِ، ولا صَبرَ لَنا عَليهِ ، وأنْ يَشتَدَّ شَوقُنا إلى ما لا غِنَى لَنا عَنهُ ، ولابُدَّ لَنا مِنهُ ، فإنِ استطَعتُم عِبادَ اللّه ِ أن يشتدَّ خَوفُكُم مِن ربِّكُم ، ويَحسُنَ بهِ ظنُّكم فافعَلُوا ، فإنَّ العبدَ إنَّما تكونُ طاعَتُهُ على قَدرِ خَوفِهِ ، إنَّ أحسَنَ النَّاسِ طَاعَةً للّه ِ أشدُّهُم لَهُ خَوفا .
.
ص: 248
. .
ص: 249
. .
ص: 250
. .
ص: 251
. .
ص: 252
. .
ص: 253
. .
ص: 254
في الصَّلاة والوضوء :انظرْ يا مُحَمَّد ُ ، صلاتَكَ كَيفَ تُصلِّيها ، فَإنّما أنتَ إمامٌ يَنبَغِي لَكَ أن تُتِمَّها وأن تَحفَظَها بالأرْكانِ، ولا تُخَفّفها، وأن تُصلّيها لِوَقتِها ، فإنَّه ليسَ مِن إمامٍ يُصَلّي بِقَومٍ فَيَكونُ في صَلاتِهِم نَقصٌ إلاَّ كانَ إثْمُ ذلِكَ علَيهِ ، ولا يُنقِصُ ذلك مِن صَلاتِهِم شَيئا . ثُمَّ الوضوءُ ، فإنَّهُ مِن تَمامِ الصَّلاةِ ، اغسل كَفّيك ثَلاثَ مرّاتٍ ، وتَمضْمَضْ ثَلاثَ مَرّاتٍ ، واستَنْشِقْ ثَلاثَ مَرّاتٍ ، واغسِلْ وجهَكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ ، ثُمَّ يدَكَ اليُمنى ثَلاثَ مرّاتٍ إلى المِرفَقِ ، ثُمَّ يَدَكَ الشِّمالَ ثَلاثَ مَرّاتٍ إلى المِرفَقِ ، ثُمَّ امسح رأسَكَ ، ثُمَّ اغسل رجلَكَ اليُمنى ثَلاثَ مَرّاتٍ ، ثُمَّ اغسِلْ رِجلَكَ اليُسرى ثَلاثَ مَرّاتٍ ، فَإنِّي رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه و آله هكذا كان يَتَوضَّأُ ، قال النَّبي صلى الله عليه و آله : الوُضوءُ نِصفُ الإيمانِ . انظر صَلاةَ الظُّهرِ فَصَلِّها لِوَقتِها ، لا تَعجَلْ بِها عَنِ الوَقتِ لِفَراغٍ ، ولا تُوّرها عَنِ الوَقتِ لِشُغلٍ ، فَإنَّ رَجُلاً جاءَ إلى رسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله فَسأَلَهُ عَن وَقتِ الصَّلاةِ ، فَقالَ صلى الله عليه و آله : أتانِي جَبرئيل ُ فأرانِي وَقتَ الصَّلاةِ ، فصلّى الظُّهر حِينَ زَالَتِ الشَّمسُ ، ثُمَّ صَلَّى العَصرَ ، وهي بيضاءُ نَقِيَّةٌ ، ثُمَّ صَلَّى المَغرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمسُ ، ثُمَّ صلَّى العِشاءَ حِينَ غابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ فأَغلَسَ (1) بهِ والنُّجوم مُشتبِكَةٌ ، كان النَّبي صلى الله عليه و آله كذا يُصَلّي قَبلَكَ ، فإن استطَعتَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ أنْ تَلتَزِمَ السُّنَّةَ المَعرُوفَةَ ، وتَسلُكَ الطَّرِيقَ الواضِحَ الَّذي أخَذُوا ؛ فافعَلْ ، لَعَلَّكَ تَقدِمُ علَيهِم غدا . ثُمَّ انظر رُكوعَكَ وسُجُودَكَ ، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه و آله كان أتمَّ النَّاسِ صَلاةً ، وأحفَظهُم لَها ، وكانَ إذا رَكَعَ قال : سُبحانَ ربِّيَ العَظِيمَ وبِحَمدِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، وإذا رَفَعَ صُلبَهُ قالَ : سَمِعَ اللّه ُ لِمَن حَمِدَهُ ؛ اللَّهمَّ لَكَ الحَمدُ ، مِل ءَ سَماواتِكَ ومِل ءَ أرضِكَ ومل ءَ ما شِئتَ مِن شيءٍ ؛ فإذا سجَدَ قالَ : سُبحانَ رَبِّي الأعلَى وبِحَمْدِهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ . اعلَمْ يا مُحَمَّد ُ ، أنَّ كُلَّ شيءٍ مِن عَمَلِكَ يَتبَعُ صلاتَكَ ، واعلَم أنَّ مَن ضَيَّعَ الصَّلاةَ فهُو لِغَيرِها أضيَعُ ، أسألُ اللّه َ الَّذي يَرى ولا يُرَى وهُو بالمَنْظَرِ الأعلَى أنْ يجعَلَنا وإيَّاكَ مِمَّنْ يُحِبُّ ويَرضى حَتَّى يَبعَثَنا وإيَّاكُم علَى شُكرِهِ ، وذِكرِهِ ، وحُسنِ عِبادَتِهِ ، وأداءِ حَقِّهِ ، وعلَى كُلِّ شيءٍ اختارَهُ لنا مِن دُنيانا ودِينِنا وأُولانا وأُخرانا ، جَعَلَنا اللّه ُ وإيَّاكم مِنَ المُتَّقِينَ الَّذين « لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُون َ » (2) .
.
ص: 255
. .
ص: 256
في الوصيَّة :إنِ استَطعْتُم يا أهلَ مِصر ، ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ أنْ يُصَدّقَ قَولُكُم فِعلَكُم وسِرُّكم عَلانِيَتَكُم ، ولا تُخالِفُ ألسِنَتِكُم قُلوبَكُم فافعَلُوا ، عَصَمَنا اللّه ُ وإيِّاكُم بالهُدَى ، وسَلَكَ بِنا وبِكُم المَحَجّةَ الوُسطى ، وإيِّاكُم ودَعوَةَ الكَذّابِ ابنِ هند ٍ ، وتأمَّلُوا واعلَمُوا أ نَّه لا سواءٌ إمامُ الهُدى ، وإمامُ الرَّدَى ، ووصيُّ النَّبيّ ، وعدوُّ النَّبيّ ، جَعَلنا اللّه ُ وإيِّاكُم مِمَّنْ يُحِبُّ ويَرضَى ، وقَد قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه و آله : إنّي لا أخافُ علَى أُمَّتي مُوِنا ولا مُشرِكا ، أمَّا المُوِنُ ، فيمنَعُهُ اللّه ُ بإيمانِهِ وأمَّا المُشرِكُ ، فَيُخزيهِ اللّه ُ بِشِركهِ ، ولكنّي أخافُ عليكُم كُلَّ مُنافِقٍ عالِمِ اللِّسانِ ، يَقولُ ما تَعرِفُونَ ، ويَعمَلُ ما تُنكِرونَ ، ليسَ بهِ خَفاءٌ ، وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه و آله : من سرَّتهُ حسناتُهُ وساءَتهُ سيّئاتُهُ فذلِكَ المُوِنُ حَقا ، وقَد كانَ يَقولُ : خِصلَتانِ لا تَجتَمِعانِ في مُنافِقٍ ، حُسنُ سَمتٍ ، وفِقهٌ في سُنَّةٍ . اعلَم يا مُحَمَّد ُ : أنَّ أفضلَ الفِقهِ : الورَعُ فِي دينِ اللّه ِ ، والعَمَلِ بطاعَتِهِ ، أعانَنا اللّه ُ وإيَّاكَ علَى شُكرِهِ ، وذكرِهِ ، وأداءِ حقِّهِ ، والعَمَلِ بِطاعَتِهِ إنَّه سَمِيعٌ قريبٌ . ثُمَّ إنّي أُوصِيكَ بِتَقوى اللّه ِ في سِرِّ أمرِكَ وعَلانِيَتِهِ ، وعلَى أيِّ حالٍ كُنتَ علَيها ؛ جَعَلَنا اللّه ُ وإيَّاكَ مِنَ المُتّقينَ ، ثُمَّ أوصِيكَ بسَبعٍ هُنَّ جَوامِعُ الإسلام ِ : اخشَ اللّه َ ولا تَخشَ النَّاسَ في اللّه ِ ، فإنَّ خيرَ القَولِ ما صَدَّقَهُ العَمَلُ ، ولا تَقضِ في أمرٍ واحدٍ بِقضاءين مُختَلِفَينِ فَيتَناقَضُ أمرُكَ وتَزِيغُ عَنِ الحقِّ ، وأحِبَّ لِعامّةِ رَعِيَّتِكَ ما تُحِبُّ لِنَفسِكَ وأهلِ بَيتِكَ ، واكرَه لَهُم ما تَكرَهُ لِنَفسِكَ وأهلِ بَيتِكَ والزَمِ الحُجَّةَ عِندَ اللّه ِ ، وأصلِحْ أحوالَ رَعِيَّتِكَ ، وخُضِ الغَمَراتِ إلى الحَقِّ ، ولا تَخَفْ في اللّه ِ لَومَةَ لائِمٍ ، وانصَحْ لِمَنِ استَشارَكَ ، واجعَل نفسَكَ أُسوَةً لِقَريبِ المُسلِمين َ وبعيدِهِم .
.
ص: 257
في الصوم والاعتكاف :وعليك بالصَّوم فإنَّ رسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله عَكَفَ عَاما في العَشرِ الأُوَلِ مِن شَهرِ رَمضانَ ، وعكَفَ فِي العامِ المُقبِلِ في العَشرِ الأوسَطِ مِن شَهرِ رَمضانَ ، فلَمَّا كانَ العامَ الثَّالِثَ رَجَعَ مِن بَدر ٍ فَقَضى اعتكافَهُ فَنامَ ، فرأى فِي مَنامِهِ لَيلَة القَدرِ فِي العَشرِ الأواخِرِ ، كَأنَّهُ يَسجُد في ماءٍ وطينٍ فلَمَّا استيقَظَ رَجَعَ مِن لَيلَتِهِ وأزواجِهِ وأُناسٍ مَعَهُ مِن أصحَابِهِ ، ثُمَّ إنَّهم مَطَروا ليلةَ ثلاثٍ وعِشرينَ فَصَلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه و آله حين أصبَحَ ، فرأى في وَجهِ النَّبيَّ صلى الله عليه و آله الطِّينَ ، فلَم يَزلْ يعتَكِفُ في العَشرِ الأواخِرِ مِن شَهرِ رَمضانَ حَتَّى تَوفَّاهُ اللّه ُ . وقال النَّبيّ صلى الله عليه و آله : مَن صامَ رَمضانَ ثُمَّ صامَ سِتَّةَ أيَّامٍ مِن شَوَّالٍ فَكأنَّما صامَ السَّنَةَ ، جعل اللّه ُ خُلَّتَنا وَوُدَّنا خُلَّةَ المُتّقينَ ، وَوُدّ المُخلصين ، وجمعَ بيننا وبينَكُم في دَارِ الرِّضوانِ إخوانا علَى سُرُرٍ مُتقابِلينَ ، إن شاءَ اللّه ُ أَحسِنُوا يا أهلَ مِصر مُوزرَةَ مُحَمَّد ٍ ، واثبِتُوا علَى طاعَتِكُم تَرِدُوا حَوضَ نَبِيِّكم صلى الله عليه و آله » . (1)
قال إبراهيم : حدَّثني عبد اللّه بن مُحَمَّد بن عثمان ، عن عليّ بن مُحَمَّد بن أبي سيف ، عن أصحابه ؛ أنَّ عليَّا عليه السلام ، لمَّا أجاب مُحَمَّد بن أبي بَكر بهذا الجواب ، كان ينظر فيه ويتعلّمه ويقضي به ، فلمَّا ظهر عليه وقُتِل ، أخذ عَمْرو بن العاص كتبه أجمع ، فبعث بها إلى معاوية بن أبي سُفْيَان ، وكان معاوية ينظر في هذا الكتاب ويعجبه ، فقال الوليد بن عُقْبَة وهو عند معاوية _ لمَّا رأى إعجاب معاوية به _ : مُر بهذه الأحاديثِ أن تحرق ، فقال له معاوية : مه يا بن أبي مُعَيط ، إنَّه لا رأي لك ، فقال له الوليد : إنَّه لا رأي لك ، أ فمن الرَّأي أن يعلم النَّاس أنَّ أحاديث أبي تراب عندك ؟ ! تتعلّم منها وتقضي بقضائه ؟ ! فعلام تقاتله ؟ ! فقال معاوية : ويحك ، أ تأمرني أن أحرق علما مثل هذا ؟ ! واللّه ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح ، فقال الوليد : إن كنت تعجب من علمه وقضائه ،فعلام تقاتله ؟ فقال معاوية : لولا أنَّ أبا تراب قتل عثمان ، ثُمَّ أفتانا لأخذنا عنه ، ثُمَّ سكت هنيئة ثُمَّ نظر إلى جلسائه فقال : إنَّا لا نقول : إنَّ هذه من كتب عليّ بن أبي طالب ، ولكنَّا نقول : إن هذه من كتب أبي بَكر الصِّدِّيق كانت عند ابنه محمّد ، فنحن نقضي بها ونفتي . فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أُمية ، حَتَّى ولِّي عمر بن عبد العزيز ، فهو أظهر أنَّها من أحاديث عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فلمَّا بلغ عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنَّ ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتدّ ذلك عليه . قال أبو إسحاق : فحدّثنا بَكر بن بكّار ، عن قَيْس بن الرَّبيع ، عن ميسرة بن حبيب ، عن عَمْرو بن مُرَّة ، عن عبد اللّه بن سلمة ؛ قال : صلّى بنا عليّ عليه السلام ، فلمَّا انصرف قال : لقد عَثَرتُ عَثْرةً لا أعتَذِرْسَوفَ أَكِيسُ بَعدَها وأستَمِرْ وأجمَعُ الأمرَ الشَّتيتَ المُنتَشرْ قلنا : ما بالك يا أمير المونين ؟ _ سمعنا منك كذا ؟ _ قال : « إنِّي استعملت مُحَمَّد بن أبي بَكر على مصر ، فكتب إليّ أنَّه لا علم لي بالسُّنَّة ، فكتبت إليه كتابا فيه السُّنَّة ، فقتل وأُخذ الكتاب » . (2) فقال ابن ابي الحديد : قلت : الأليق أن يكون الكتاب الَّذي كان معاوية ينظر فيه ويعجب منه ويفتي به ويقضي بقضاياه وأحكامه، هو عهد عليّ عليه السلام إلى الأشْتَر ، فإنَّه نسيج وحده ، ومنه تعلّم النَّاس الآداب والقضايا والأحكام والسِّياسة ، وهذا العهد صار إلى معاوية لمَّا سمّ الأشْتَر ، ومات قبل وصوله إلى مصر ، فكان ينظر فيه ويعجب منه ، وحقيق من مثله أن يقتنى في خزائن الملوك . (3)
.
ص: 258
. .
ص: 259
48عهد له عليه السلام إلى محمَّد بن أبي بكرمن عهد له عليه السلام إلى محمَّد بن أبي بكر ، حين قلَّده مصر :« فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَك ، وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَك ، وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَك ، وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ ، حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِك لَهُمْ ، ولا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ من عَدْلِك عَلَيْهِمْ ، فإنَّ اللّه تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِن أَعْمَالِكُمْ ، والْكَبِيرَةِ والظَّاهِرَةِ الْمَسْتُورَةِ ، فإن يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ ، وإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ . واعْلَمُوا عِبَادَ اللّه ، أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنيا وآجِلِ الآخِرَةِ ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنيا فِي دُنْيَاهُمْ ، ولَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنيا فِي آخِرَتِهِمْ ، سَكَنُوا الدُّنيا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ ، وأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنيا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ ، وأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ ، والْمَتْجَرِ الرَّابِحِ ، أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنيا فِي دُنْيَاهُمْ ، وتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللّه غَدا فِي آخِرَتِهِمْ ، لا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ ولا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِن لَذَّةٍ . فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللّه الْمَوْتَ وقُرْبَهُ ، وأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ ، فإنَّه يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وخَطْبٍ جَلِيلٍ ، بِخَيْرٍ لا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَدا ، أَوْ شَرٍّ لا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَدا ، فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِن عَامِلِهَا ، ومَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ من عَامِلِهَا ، وأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ ، إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ ، وإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ ، وهُوَ أَلْزَمُ لَكُم من ظِلِّكُمْ ، الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ ، والدُّنيا تُطْوَى مِن خَلْفِكُمْ . فَاحْذَرُوا نَارا قَعْرُهَا بَعِيدٌ ، وحَرُّهَا شَدِيدٌ ، وعَذَابُهَا جَدِيدٌ ، دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ ، ولا تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ ، ولا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ ، وإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللّه ، وأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا ، فإنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِن رَبِّهِ ، وإِنَّ أَحْسَنَ النَّاس ظَنّا بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفا لِلَّهِ . واعْلَمْ يَا محمَّدُ بنَ أَبِي بَكْرٍ ، أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُك أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْر َ ، فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِك ، وأَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِك ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ لَك إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ الدَّهر . ولا تُسْخِطِ اللّه بِرِضَا أَحَدٍ مِن خَلْقِهِ ، فإنَّ فِي اللّه خَلَفا مِن غَيْرِهِ ، ولَيْسَ مِنَ اللّه خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ . صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا الْمُوقَّتِ لَهَا ، ولا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ ، ولا تُوخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاشْتِغَالٍ ، واعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِن عَمَلِك تَبَعٌ لِصَلاتِك . ومنه : فَإِنَّهُ لا سَوَاءٌ إِمَامُ الْهُدَى وإِمَامُ الرَّدَى ، ووَلِيُّ النَّبِيِّ وعَدُوُّ النَّبِيِّ ، ولَقَدْ قَال لِي رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إِنِّي لا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُومِنا ولا مُشْرِكا ، أَمَّا الْمُومِنُ فَيَمْنَعُهُ اللّه بِإِيمَانِهِ ، وأَمَّا الْمُشْرِك فَيَقْمَعُهُ اللّه بِشِرْكِهِ ، ولَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ عَالِمِ اللِّسَانِ ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ ، ويَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ » . (1)
.
ص: 260
. .
ص: 261
49كتابه عليه السلام إلى مُحَمَّد بن أبي بَكرعن قامُوس بن مُخارِق : إنَّ مُحَمَّد بن أبي بَكر كتب إلى عليّ ، سأله عن مُسلِمَينِ تزنْدقا ، وعن مُسلم زنى بنصرانيَّة ، وعن مُكاتَبٍ مات وترك بقيّة كتابته ، وترك وُلدا أحرارا ، فكتب إليه عليّ عليه السلام :« أمَّا اللَّذان تزندقا ، فإن تابا ، وإلاَّ فاضرب أعناقهما ، وأمَّا المسلم فأقم عليه الحدَّ ، وادفع النَّصرانيَّة إلى أهل ذمَّتها ، وأمَّا المكاتب فيؤدّي بقيّة كتابته ، وما بقي فَلِوُلْدِه الأحرار » . (1)
[ صورة أُخرى لنقل الغارات : ] الحارث عن أبيه قال : بعث عليّ عليه السلام مُحَمَّد بن أبي بَكر أميرا على مصر ، فكتب إلى عليّ عليه السلام يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانيَّة ، وعن زنادقة فيهم من يعبد الشمس والقمر ، وفيهم من يعبد غير ذلك ، وفيهم مرتدٌّ عن الإسلام ، وكتب يسأله عن مكاتب مات وترك مالاً وولدا ، فكتب إليه عليّ عليه السلام :« أن أقم الحدّ فيهم على المسلم الَّذي فجر بالنَّصرانيَّة ، وادفع النَّصرانيّة إلى النَّصارى يقضون فيها ما شاءوا ، وأمره في الزَّنادقة أن يقتل من كان يدَّعي الإسلام ويترك سائرهم يعبدون ما شاءوا ، وأمره في المكاتب إن كان ترك وفاء لمكاتبته فهو غريم بيد مواليه يستوفون ما بقي من مكاتبته وما بقي فلولده . » (2)
.
ص: 262
50كتابه عليه السلام إلى محمَّد بن أبي بكرروى الشَّيخ في التَّهذيب : أحمد بن محمَّد بن عيسى ، عن محمَّد بن عيسى ، عن عبد اللّه بن المُغِيْرَة ، عن إسماعيل بن أبي زياد ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام :أنَّ محمَّد بن أبي بكر كتَب إلى عليّ عليه السلام يسأله عن الرَّجل يزني بالمرأة اليهوديَّة والنَّصرانيَّة ، فكتَب عليه السلام إليه : « إنْ كان محْصِنا فارجمه ، وإنْ كان بِكْرا فاجْلده مئة جَلْدَة ، ثُمَّ انفِهِ ، وأمَّا اليهوديَّة فابْعَث بها إلى أهل ملَّتها فليقضوا فيها ما أحبُّوا » (1) .
51كتابه عليه السلام إلى عبد اللّه عمرأنَّه قطع ( أمير المؤمنين عليه السلام ) العَطاءَ عمَّن لم يشهد معه ، وأقامهم مقام أعراب المسلمين ، وإنَّ ابن عمر كتَب إليه ، يسأله العَطاء ، فكتَب إليه عليّ عليه السلام :« شَكَكْتَ في حرْبِنا ، فَشَكَكْنا في عطائِك » . (2)
.
ص: 263
52كتابه عليه السلام إلى أُسَامَة بن زَيْدقال ابن أبي الحديد : روى عاصِم بن أبي عامِر البَجَلِي ّ ، عن يَحْيَى بن عَرْوة ، قال : كان أبي إذا ذكر عليَّا نال منه ، وقال لي مرَّة : يا بُنَيَّ واللّه ، ما أحجم النَّاسُ عنه إلاَّ طلَبَا للدُّنيا ، لقد بعث إليه أُسامَة بن زَيْد ، أن ابعث إليَّ بعطائي ، فواللّه ِ ، إنَّك لتعلم أنَّك لو كنت في فَم أسَد لدخلتُ معك ، فكتَب إليه :« إنَّ هذا المال لمَن جاهَد عليه ، ولكنَّ لي مالاً بالمدينة فأصِب منه ما شئت » . (1)
[ الظَّاهر أنَّه عليه السلام كتب إليه الكتاب ، ثُمَّ اعتذر إليه أُسامَة بيمينه على أن لا يقتل من يشهد الشَّهادتين ، كما في قاموس الرِّجال ، وأُسْد الغابَة ، فقبل منه العذر ، فكتب إلى عامله بالمدينة ما تقدَّم ؛ ويحتمل أن يكون المراد عطاءه الَّذي عيَّنه عمر _ خمسة الآف _ فيكون الَّذي كتبه إلى العامل يتعلَّق بإعطائه العطاء الَّذي فرضَه هو له ، وما منعه إيَّاه فهو ما فرضَه عمر له . (2) ]
53كتابه عليه السلام إلى ابن عبَّاسفي اختلاف أهل البصرة : وكان عليّ قد استخلف ابن عبَّاس على البصرة ، فكتب عبد اللّه بن عبَّاس إلى عليّ ، يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه عليّ : « مِن عبدِ اللّه ِ عَليٍّ أميرِ المُوِنين َ ، إلى عَبدِ اللّه ِ بنِ عبَّاس ٍ ، أمَّا بَعدُ ؛ فالحَمدُ للّه ِ ربِّ العالَمِينَ ، وصلَّى اللّه ُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ عَبدِهِ ورَسُولِهِ . أمَّا بَعدُ ؛ فقَدْ قَدِمَ عليَّ رَسُولُكَ ، وذكرتَ ما رأيت َ وبلغَكَ عَن أهلِ البَصرَة ِ بَعدَ انصرافِي ، وسَأُخبِرُكَ عَنِ القَومِ : هُم بينَ مُقيمٍ لِرَغبَةٍ يَرجُوها ، أو عُقُوبَةٍ يَخشَاها . فأرغِبْ راغِبَهم بالعَدلِ عَليهِ ، والإنصافِ لَهُ والإحسانِ إليهِ ، وَحُلَّ عُقدَةَ الخوفِ عَن قُلوبِهِم ؛ فإنَّهُ ليسَ لأُمراءِ أهلِ البَصرَةِ في قُلوبِهِم عِظَمٌ إلاَّ قليلٌ منهم . وانتهِ إلى أمرِي ولا تَعدُهُ ، وأحسِنْ إلى هذا الحيِّ مِن رَبيعَةَ ، وكُلِّ مَنْ قِبَلَكَ ، فأَحسِنْ إليهِم ما استَطَعتَ إن شاءَ اللّه ُ ، والسَّلامُ » .
.
ص: 264
وكتب عبد اللّه بن أبي رافع في ذي القعدة ، سَنَة سبع وثلاثين . (1)
54كتابه عليه السلام إلى مِخْنَف بن سُلَيْم :عن عليّ عليه السلام أنَّه استعمل مِخْنَف بن سُلَيْم على صدقات بَكر بن وائل ، وكتب له عهدا كان فيه :« فَمَنْ كانَ مِن أَهلِ طاعَتِنا مِن أهلِ الجَزيرَة ِ ، وفيما بَينَ الكُوفَة ِ وأرضِ الشَّام ِ ، فَادَّعى أنَّهُ أدّى صَدَقَتُه إلى عُمَّالِ الشَّام ِ وهُو في حوزَتِنا مَمنُوعٌ قَد حمَتْهُ خَيلُنا ورِجالُنا ، فَلا تُجِزْ لَهُ ذلِكَ ، وإنْ كانَ الحقُّ على ما زَعَم ، فإنَّهُ ليسَ لَهُ أن يَنزِلَ بِلادَنا ويوِّي صَدَقَة مالِهِ إلى عَدوِّنا » . (2)
.
ص: 265
مِخْنَفُ بنُ سُلَيْممِخْنَف بن سُلَيْم بن الحارث الأزْدِيّ الغامديّ ، كان من صحابة النَّبيّ صلى الله عليه و آله (1) ، وعليّ عليه السلام (2) . وكان يحمل راية قبيلته _ الأزْد _ يوم الجَمل (3) ، وقد جرح في هذه الحرب (4) . وقبل صفِّين طلب منه الإمام عليه السلام أن يأتي إلى الكوفة ، ويرافقه في مسيره إلى صفِّين . وتولّى قيادة قبيلته (5) وبعض القبائل الاُخرى في حرب صفِّين (6) . ولاّه الإمام عليه السلام على أصفهان (7) وهَمَدان (8) . وكلّفه عليه السلام مرّةً بجمع الضَّرائب في أرض الفرات حتَّى منطقة بكر بن وائل ، وظلّ مسؤولاً عليها بُرهةً . وكتب إليه في هذه المهمّة تعليمات رفيعة ، هي في غاية الرَّوعة والقيمة والوعظ والتَّذكير (9) . ومِخْنَف هذا هو الجدّ الأعلى للمؤرّخ الشِّيعي الجليل أبي مِخْنَف (10) . ونُقلت عن الإمام عليه السلام كلمات في مدحه وذمّه (11) . في اُسد الغابة : مِخْنَف بن سُلَيْم ، له صحبة . واستعمله عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه على مدينة أصفهان ، وشهد معه صفِّين ، وكان معه رايةُ الأزْد (12) .
.
ص: 266
55كتابه عليه السلام إلى عامله بالموصلابن مَحْبُوب ٍ ، عن مَالِك بن عَطِيَّة َ ، عن أبِيه ، عن سَلَمَةَ بن كُهَيْل ٍ ، قال : أُتِيَ أمير المُومِنِين عليه السلام بِرَجُلٍ قد قَتَل رَجُلاً خَطَأً ، فقال له أمير المُومِنِين عليه السلام : « مَن عَشِيرَتُكَ وقَرَابَتُك » ؟ فقال ما لِي بِهَذِه البَلْدَةِ عَشِيرَةٌ ، ولا قَرَابَةٌ . قال فقال : « فَمِن أيِّ أهْلِ البُلْدَان أنْت » ؟ فقال : أنَا رَجُلٌ من أهْل المَوْصِل ، وُلِدْتُ بِها وَلِي بِها قَرَابَةٌ ، وأهْل بَيْتٍ . قال : فسَألَ عنه أمير المُومِنِين عليه السلام ، فلَمْ يَجِدْ له بالكُوفَة قَرَابَةً ، ولا عَشِيرَةً . قال : فكَتَب إلَى عَامِلِه علَى المَوْصِل : « أمَّا بَعْدُ ، فإنَّ فُلان بن فُلانٍ وَحِلْيَتُهُ كذا وكذا ، قَتَلَ رَجُلاً من المُسْلِمِين خَطَأً ، فذَكَر أنَّه رَجُلٌ من المَوْصل ، وأنَّ له بِها قَرَابَة ،ً وأهْلَ بَيْتٍ وقد بَعَثْتُ به إلَيْك مع رَسُولِي فُلان بن فلان ، وَحِلْيَتُهُ كذا وكذا ، فإذا وَرَد عليْك إنْ شَاء اللّه ُ ، وقَرَأْتَ كِتابِي فافْحَصْ عن أمْرِه ، وسَلْ عن قَرَابَتِه من المُسْلِمِين ، فإنْ كان من أهْل المَوْصِل ِ ، مِمَّن وُلِد بها ، وأصَبْتَ له بها قَرَابَةً من المُسْلِمِين فاجْمَعْهُم إليْكَ ، ثُمَّ انظُر فإنْ كان منهم رَجُلٌ يَرِثُه له سَهْمٌ في الكتاب ، لا يَحْجُبُهُ عن مِيرَاثه أحَدٌ من قَرَابَتِه ، فألْزِمه الدِّية وخُذْهُ بها نُجُوما في ثَلاث سِنِينَ ، فإنْ لم يكُن له من قَرَابَتِه أحَدٌ له سَهْمٌ في الكِتَاب ، وكان قَرَابَتُهُ سَوَاءً في النَّسَب ، وكان له قَرَابَةٌ ، من قِبَل أبيه ، وأُمِّه في النَّسب سَوَاءً فَفُضَّ الدِّيَّةَ على قَرَابَتِه من قِبَل أبِيهِ ، وعلى قَرَابَتِه من قِبَل أُمِّه من الرِّجال المُدْرِكينَ المُسْلِمِين َ ، ثُمَّ اجْعَلْ على قرابَتِهِ مِن قِبَلِ أبِيهِ ثُلُثَي الدِّيَّةِ ، واجْعل على قَرَابَتِه من قِبَل أُمِّه ثُلُثَ الدِّيَّةِ ، وإنْ لم يكُن له قَرَابَةٌ من قِبَل أبِيه فَفُضَّ الدِّيَّة على قَرَابَتِه من قِبَل أُمِّهِ من الرِّجال المُدْرِكِينَ المُسْلِمين ، ثُمَّ خُذْهُمْ بها واسْتَأْدِهم الدِّيَّةَ في ثَلاث سِنِينَ ، فإنْ لم يكُن لَه قَرَابَةٌ من قِبَل أُمِّه ولا قَرَابَةٌ من قِبَل أبِيه فَفُضَّ الدِّيَّة على أهْل المَوْصِل مِمَّن وُلِدَ بها ونَشَأ ، ولا تُدْخِلَنَّ فيهم غَيرَهم من أهل البَلَد ، ثُمَّ اسْتَأْدِ ذلك منهم في ثَلاث سِنِينَ ، في كُلِّ سَنَةٍ نَجْما حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ إنْ شَاءَ اللّه ُ . وإن لم يكن لِفُلانِ بنِ فلانٍ قَرَابَةٌ من أهل المَوْصِل ِ ولا يكونُ من أهْلِها ، وكان مُبْطِلاً فَرُدَّهُ إليَّ مع رَسُولِي فُلان بن فلانٍ ، إِنْ شَاءَ اللّه ُ ، فأنَا ولِيُّهُ ، والمُوِّي عنه ولا أُبْطِلُ دَمَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ . (1)
.
ص: 267
56كتابه عليه السلام إلى معاوية« مِن عبْد اللّه أميرِ المؤمنينَ عليِّ بن أبي طَالِب إلى معاوية . أمَّا بَعْدُ ، إنَّ اللّه تَبارَك وتَعالَى ذا الجَلال والإكْرام ، خَلَقَ الخَلْقَ ، واخْتَارَ خِيَرَةً مِن خَلْقِه ، واصْطَفَى صَفْوَةً مِن عِبادِهِ ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، ويَخْتارُ ما كان لَهم الخِيَرةُ سُبْحانَ اللّه وتَعالَى عمَّا يُشْرِكون ، فأمَرَ الأمْرَ ، وشَرَعَ الدِّينَ ، وقَسَّمَ القِسَمَ على ذلِك ، وهو فاعِلُه وجاعِلُه ، وهو الخالِقُ ، وهو المُصْطَفي ، وهو المُشَرِّع ، وهو القاسِمُ ، وهو الفاعل لِما يَشاءُ ، له الخَلْقُ ولَه الأمْرُ ، ولَه الخِيَرةُ والمَشِيَّةُ والإرادةُ ، والقُدْرةُ والمُلْكُ والسُّلطانُ . أرْسَلَ رَسولَه خِيَرَتَه وصَفْوَتَه بالهُدى ودِين الحقِّ ، وأَنْزَل علَيْه كتابَه فيْه تِبيانُ كلِّ شَيْءٍ من شَرائع دِيْنِه ، فَبَيَّنَه لِقَوْم يَعْلَمون ، وفَرَضَ فيه الفَرائِضَ ، وقَسَمَ فيْه سِهاما أحَلَّ بعْضَها لبعْضٍ ، وحَرَّمَ بعْضَها لبَعْض . بَيِّنْها يا مُعاوِيَةُ ، إنْ كُنْتَ تَعلَمُ الحُجَّةَ ، وضَرَبَ أمْثالاً لا يَعْلَمُها إلاَّ العالِمُونَ ، فأنَا سائِلُكَ عنْها أوْ بعْضِها إنْ كنْتَ تعْلَمُ ، واتَّخَذَ الحُجَّةَ بأرْبَعَةِ أشْياءٍ على العالَمِينَ ، فمَا هِيَ يا مُعاوِيَةُ ، ولِمَن هِي ؟ . واعْلَم أنَّهنَّ حجَّةٌ لَنا أهْلَ البَيْت علَى مَن خَالَفَنا ونَازَعَنا وفَارَقَنا وبَغى علَيْنا ، والمُسْتَعانُ اللّه ُ ، علَيْهِ تَوكَّلْتُ ، وعليْه فلْيَتوَكَّلِ المتَوَكِّلون . وكانت جُمْلَةُ تَبْلِيغِه رِسالَةَ رَبِّه فِيما أمَرَهُ وشَرَعَ وفَرَضَ وقَسَمَ جُمْلَةُ الدِّين ، يقول اللّه : « أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمْرِ مِنكُمْ » (1) ، هي لَنا أهْلَ البَيت ، لَيْسَت لكم . ثُمَّ نَهَى عن المُنازَعَة والفُرْقَة ، وأمَرَ بالتَّسْلِيم والجَماعَة ، فكُنْتم أنْتم القوْم الَّذِين أقْرَرْتُم للّه ِِ ولِرَسُولِهِ بذلِكَ فأخْبَرَكُم اللّه ُ أنَّ مُحَمَّد ا صلى الله عليه و آله لمْ يَكُ « أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَ لَ_كِن رَّسُولَ اللَّهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ » (2) ، وقال عز و جل : « أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَ_بِكُمْ » (3) ، فأنْت وشُرَكاؤُك يا معاويَةُ ، القَوْمُ الَّذِينَ انْقَلَبُوا على أعْقابِهِم ، وارْتَدُّوا ونَقَضُوا الأمْرَ والعَهْدَ فيما عاهَدُوا اللّه َ ، ونَكَثُوا البَيْعَةَ ، ولمْ يَضُرُّوا اللّه َ شَيْئا . ألَمْ تَعْلَم يا معاوِيَةُ ، أنَّ الأئمَّةَ مِنَّا لَيْستْ مِنْكُم ، وقَد أخْبَرَكُم اللّه ُ أنَّ أُولي الأمْرِ المسْتَنْبِطو العِلمَ ، وأخْبَرَكم أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ الَّذي تَخْتَلِفون فيْه يُرَدُّ إلى اللّه وإلى الرَّسول وإلى أُولِي الأمر المُسْتَنْبطي العِلمَ ، فمَن أوْفى بما عاهَدَ اللّه َ عليهِ يَجِد اللّه َ مُوفِيا بعَهدِهِ ، يقول اللّه : « وَ أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّ_ىَ فَارْهَبُونِ » (4) ، وقال عز و جل : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَ هِيمَ الْكِتَ_بَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَ_هُم مُّلْكًا عَظِيمًا » (5) . وقال للنَّاس بَعدَهم : « فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ » (6) ، فتَبَوَّأ مقْعَدَك من جَهَنَّم « وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا » . (7) ، نَحْنُ آلُ إبراهيم َ المَحسودُون وأنْتَ الحاسِدُ لَنا ، خَلَقَ اللّه ُ آدم َ بيَدِهِ ، ونَفَخَ فيه من رُوحِه ، وأسْجَدَ لَهُ المَلائِكَة َ ، وعَلَّمَهُ الأسماءَ كُلَّها ، واصْطَفاهُ على العالَمِين ، فَحَسدَه الشَّيْطانُ ، فكانَ من الغَاوِين ، ونُوحا حَسَدَه قومُه إذْ قالُوا : « مَا هَ_ذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ » (8) ، ذَلِك حَسَدَا منْهم لِنُوح أنْ يُقِرّوا لَه بالفَضْلِ وهُو بَشَرٌ ، ومِن بعْدِه حَسَدُوا هُودَا إذْ يَقول قَوْمه : « مَا هَ_ذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَ لَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ » (9) ، قالوا ذلِك حَسَدا أنْ يُفَضِّل اللّه ُ مَن يَشاءُ ، ويَخْتَصُّ برَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ ، ومِن قَبْل ذلِك ابْنُ آدَم َ قابِيل قَتَل هابِيل حَسَدا ، فكانَ من الخاسرين ، وطَائِفَةٌ من بَنِي إسرائيل « إِذْ قَالُواْ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَ_تِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » (10) . فلَمَّا بَعَثَ اللّه لَهم طالُوت مَلِكا حَسَدُوه وقالوا « أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا » (11) ، وزَعَمُوا أنَّهم « أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ » . (12) ، كلُّ ذَلِك نَقُصُّ علَيْك مِن أنْباء ما قَدْ سَبَقَ ، وعِنْدَنا تَفْسِيرُه وعِندَنا تَأوِيلُه « وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى » (13) ، ونَعْرِفُ فيْكم شِبْهَهُ وأمْثالَهُ « وَ مَا تُغْنِى الْأَيَ_تُ وَ النُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ » (14) . وكانَ نَبِيُّنا صلوات اللّه عليه ، فلمَّا جاءَهم كَفَرُوا بِه حَسَدا مِن عنْد أنْفُسِهم أنْ يُنَزِّل اللّه مِن فَضْلِهِ علَى مَن يَشاءُ من عِبادِهِ ، حَسَدا مِن القَوْمِ على تَفْضِيلِ بَعْضِنا على بَعْضٍ . ألا ونَحْنُ أهْلَ البَيْت ِ ، آلُ إبراهيم َ المَحسودون ، حُسِدْنا كَما حُسِدَ آباؤُنا مِن قَبْلِنا ، سُنَّةً ومَثَلاً ، قال اللّه _ تعالى _ : وآلُ إبراهيم ، وآلُ لُوط ، وآلُ عِمران ، وآلُ يَعقوب ، وآلُ موسَى ، وآلُ هَارون ، وآلُ دَاوود ؛ فنَحْنُ آلُ نَبِيِّنا محمَّد صلى الله عليه و آله . ألَم تَعْلَم يا معاوِيَةُ « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَ هِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ_ذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ » (15) ، ونَحْنُ أُولوا الأرحام ، قال اللّه تعالى : « النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ أَزْوَ جُهُ أُمَّهَ_تُهُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَ_بِ اللَّهِ » (16) . نَحْنُ أهلُ البَيْت ٍ اخْتارَنَا اللّه ُ ، واصْطَفانَا ، وجَعَل النُبُوَّةَ فيْنا ، والكتابَ لَنا ، والحِكْمَةَ ، والعلْمَ ، والإيمانَ ، وبَيْتَ اللّه ِ ، ومَسْكنَ إسماعِيل َ ، ومَقامَ إبراهيم َ ؛ فالمُلْكُ لَنا _ وَيْلَك _ يا مُعاوِيَةُ ، ونَحنُ أوْلَى بإبراهيم ، ونَحْنُ آلُه وآلُ عِمْران ، وأوْلى بعِمران ، وآلُ لوط ، ونحن أوْلى بلُوط ، وآلُ يَعْقُوب ، ونَحْنُ أوْلى بيَعْقُوب ، وآلُ موسَى ، وآلُ هارون ُ وآلُ داوود ، وأوْلى بهم ، وآلُ محمَّد ، وأوْلى به . ونَحْنُ أهلُ البَيْت الَّذِي أذَهَب اللّه عَنْهم الرِّجْسَ وطَهَّرَهُم تَطْهِيرا ، ولِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ في خاصَّة نَفْسِه وذُرِّيَته وأهْلِه ، ولِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيَّةٌ في آلِهِ . ألَمْ تَعْلَم أنَّ إبراهيم َ أوْصَى بابْنَه يَعْقوب َ ، ويَعقوب أوْصى بَنِيْه إذْ حَضَرَه المَوْتُ ، وإنَّ محمَّد ا أوْصى إلَى آلِه سُنَّةَ إبْراهيم والنَبِيِّين ؛ اقْتِداءً بهم ، كمَا أمَرَه اللّه ، لَيس لَك منْهم ولا منْه سُنَّةُ النَبِيِّين ، وفِي هذِه الذُّريَّة الَّتي بعضُها من بَعْضٍ قال اللّه ُ لإبراهِيم َ وإسْماعِيل َ ، وهما يَرْفَعانِ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ : « رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ » (17) ، فنَحْنُ الأمَّة المُسْلِمة ، وقالا : « رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَ_تِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَ_بَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ » (18) ، فنَحْنُ أهلُ هذِه الدَّعوَة . ورَسُولُ اللّه ِ مِنَّا ، ونَحنُ منْه ، وبَعْضُنا من بَعْض ، وبَعْضُنا أوْلى ببَعْض فِي الوِلايَة والمِيراثِ « ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (19) . وعَلَيْنا نَزَلَ الكِتابُ ، وفِينا بُعِثَ الرَّسولُ ، وعَلَيْنا تُلِيَت الآياتُ ، ونَحْنُ المُنْتَحِلُونَ للكتاب والشُّهداءُ علَيْهِ ، والدُّعاةُ إليْهِ ، والقُوّامُ بِهِ ، « فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ » (20) . أفَغَيْرَ اللّه يا معاويَةُ تَبتغِي رَبَّا ، أم غَيْرَ كتابِهِ كتابا ، أمْ غَيْرَ الكَعْبَة _ بيْتُ اللّه ِ ومَسْكَنُ إسْماعِيل َ ومقامُ أبِينا إبراهيم َ _ تَبْغي قِبْلَةً ، أمْ غَيْرَ مِلَّتِه تَبْغِي دينا ، أمْ غَيْرَاللّه تَبْغِي مَلِكا ؟ فَقدْ جَعَلَ اللّه ُ ذلِكَ فِينا ، فَقَدْ أبْدَيْتَ عَداوَتَك لَنا وحَسَدَك وبُغْضَكَ ونَقْضَك عَهْدَ اللّه ِ ، وتَحْرِيفَك آياتِ اللّه ِ ، وتَبْدِيلَكَ قولَ اللّه ِ ، قال اللّه ُ لإبراهيم َ : « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ » (21) ، أفَتَرْغَبُ عن مِلَّتِهِ وقَد اصْطَفاهُ اللّه ُ في الدُّنيا ، وهُوَ في الآخِرة من الصَّالِحين ، أمْ غَيْرَ الحَكَمِ تبغِي حَكَما ، أمْ غَيْرَ المُسْتَحْفِظ منَّا تَبْغِي إماما . الإمامَةُ لإبراهيم وذُرِّيتِهِ ، والمؤمِنونَ تَبَعٌ لَهُم لا يَرْغَبونَ عَن مِلَّتِهِ ، قال : « فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى » (22) . أدْعُوكَ يا معاويَةُ إلى اللّه ِ ورسولِهِ ، وكتابِهِ ، ووَلِيِّ أمرِهِ ، الحَكيِمِ مِنْ آلِ إبراهيم َ ، وإلَى الَّذِي أقْرَرْتَ بِه _ زَعَمْتَ _ إلى اللّه ِ ، والوَفاءِ بِعَهْدِهِ ، « وَمِيثَ_قَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا » (23) ، « وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ » (24) « مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ » (25) ، « وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَ_ثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَ_نَكُمْ دَخَلاَ بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ » (26) ، فَنَحْنُ الأُمَّةُ الأرْبى ، « وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ » (27) . إتَّبعْنا واقْتَدِ بِنا ، فإنَّ لَنا آلَ إبراهيم َ على العالَمين مُفْتَرَضٌ ، فإنَّ الأفْئِدةَ مِنَ المُؤمِنينَ والمُسْلِمينَ تَهْوِي إلَيْنا ، وذلِكَ دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِم ، فَهَل تَنْقِم مِنَّا إلاَّ أنْ آمَنَّا باللّه وما أُنْزِل إلَيْنا ، واقْتَدَيْنا ، واتَّبَعْنا مِلَّةَ إبراهيم َ صَلَواتُ اللّه علَيْه وعلَى محمَّد وآلِهِ » . 28
.
ص: 268
. .
ص: 269
. .
ص: 270
. .
ص: 271
. .
ص: 272
. .
ص: 273
فكتب معاوية : مِن معاويَة بن أبي سُفْيَان إلى عَليّ بن أبِي طالب ، قد انْتَهى إليَّ كتابك ، فأكثرتَ فيه ذكْر إبراهيم وإسماعيل وآدم ونوح ٍ والنَّبيِّين ، وذكر محمَّد صلى الله عليه و آله وقرابتكم منه ومنزلتكم وحقَّكَ ، ولَمْ تَرض بقرابَتِكَ من محمَّد ٍ صلى الله عليه و آله حتَّى انْتَسبت إلى جَميع النَّبيِّين . أ لا وإنَّما كان محمَّد ٌ رسولاً من الرُّسُلِ إلى النَّاسِ كافَّةً ، فبلَّغ رِسالاتِ ربّهِ ، لا يَملِكُ شَيئا غَيْرَهُ . أ لا وإنَّ اللّه ذَكر قَوْما جَعلوا بَيْنه وبَين الجَنَّة نَسبا ، وقد خفت عليك أنْ تضارعهم . أ لا وإنَّ اللّه أنزَل في كتابه أنَّه « لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَ لَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلِّ » (1) ، فأخْبرنا ما فَضل قرابتك ؟ وما فَضل حَقِّكَ ؟ وأيْن وجدتَ اسْمك في كتاب اللّه ، ومُلْكَكَ وإمامَتَكَ وفَضلَكَ ؟ أ لا وإنَّما نقتدي بمَن كان قبْلنا من الأئمَّة والخُلفاء ، الَّذين اقْتديت بهم ، فكنْت كمَن اخْتار ورَضي ، ولَسْنا منْكم . قُتل خَلِيفتنا أميْر المونين عثْمان بن عفَّان ، وقال اللّه ُ : « وَ مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا » (2) ، فَنحنُ أوْلى بعثمان وذُرِّيَّته ، وأنتم أخذْتموه على رضىً من أنفسكم ، جعلتموه خليفة وسمعتم له وأطعتم . فأجابه عليّ عليه السلام : « أمَّا الَّذِي عَيَّرتَنِي بِه يا مُعاويَة ُ مِن كِتابي وكَثْرَة ذِكْرِ آبائِي إبراهيم َ وإسماعِيل َ والنَّبيِّين َ ، فإنَّه مَن أحَبَّ آباءَه أكْثَرَ ذِكْرَهُم ، فَذِكْرُهم حُبُّ اللّه ِ ورَسُولِهِ ، وأنَا أُعَيِّرُك بِبُغْضِهم ، فإنَّ بُغْضَهم بُغْضُ اللّه ِ ورَسُولِهِ ، وأُعَيِّرُك بِحُبِّك آباءَكَ ، وكَثْرَةِ ذِكْرِهِم ، فإنَّ حُبَّهُم كُفْرٌ . وأمَّا الَّذِي أنْكَرتَ مِن نَسَبِي مِن إبْراهيم َ وإسْماعيل َ ، وقَرابَتي مِن مُحمَّد ٍ صلى الله عليه و آله ، وفَضْلِي وحَقِّي ومُلْكِي وإمامَتي ، فإنَّك لم تَزَل منْكِرا لذلِكَ ، لم يُؤمِن به قَلْبُك ، ألا وإنَّما نحن أهلَ البَيْت كذلِكَ ، لا يُحِبُّنا كافِرٌ ولا يُبْغَضُنا مؤْمِنٌ . والَّذِي أنْكَرْتَ من قول اللّه عز و جل : « فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَ هِيمَ الْكِتَ_بَ وَالْحِكْمَة َ وَءَاتَيْنَ_هُم مُّلْكًا عَظِيمًا » (3) ، فأنْكَرْتَ أنْ يكونَ فِيْنا فَقَدْ قال اللّه : « النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ أَزْوَ جُهُ أُمَّهَ_تُهُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَ_بِ اللَّهِ » (4) ، ونَحْنُ أوْلى بِه . والَّذِي أنْكَرْتَ من إمامَة محَمَّد صلى الله عليه و آله ، زَعَمْتَ أنَّه كانَ رَسُولاً ، ولَمْ يكن إمامَا ، فإنَّ انْكارَك علَى جَمِيْع النَّبِيِّين الأئمَّة ، ولَكِنَّا نَشْهَدُ أنَّه كانَ رَسُولاً نَبِيَّا إماما ، صَلَّى اللّه علَيْه وآلِهِ ، ولِسانُك دَلِيلٌ على ما في قَلْبِك ، وقال اللّه تعالى : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَ_نَهُمْ * وَلَوْ نَشَآءُ لَأَرَيْنَ_كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَ_هُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَ__لَكُمْ » (5) . ألا وقد عَرَفْناك قَبْلَ اليَوْم ، وعَداوَتَكَ وحَسَدَكَ ومَا في قَلْبِك من المَرَض الَّذِي أخْرَجَهُ اللّه ُ . والَّذِي أنْكَرْتَ مِن قَرابَتي وحَقِّي ، فإنَّ سَهْمَنا وحَقَّنا في كتاب اللّه قَسَمَه لَنا مَع نَبِيِّنا فقال: « وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه ُو وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى » (6) ،وقال : « وَ ءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ » (7) أوَ لَيْس وَجَدْتَ سَهْمَنا مَع سَهْم اللّه ورَسُولِه ، وسَهْمَك معَ الأبْعَدِين لا سَهْمَ لَك إنْ فارَقْتَه ، فَقَدْ أثْبَتَ اللّه سَهْمَنا وأسْقَطَ سَهْمَك بِفِراقِك . وأنْكَرْتَ إمامَتِي ومُلْكِي ، فهَل تَجِدُ في كتاب اللّه قوله لاِل إبراهيم : واصْطَفاهُم علَى العالَمِين (8) ، فهُو فَضَّلَنا على العالَمِين ، أوَ تَزْعَمُ أنَّكَ لَسْتَ مِنَ العالَمِينَ ، أوَ تَزْعَم أنَّا لَسْنا مِن آلِ إبْراهيم ، فإنْ أنْكَرْتَ ذلِك لَنا فَقَدْ أنْكَرْتَ محمَّد ا صلى الله عليه و آله ، فهو منَّا ونَحْنُ منْهُ ، فإنْ اسْتَطَعْتَ أنْ تُفَرِّقَ بَيْنَنا وبَيْن إبراهيم َ صَلَواتُ اللّه علَيْهِ ، وإسماعِيل َ ومُحَمَّد ٍ وآلِهِ في كِتابِ اللّه ِ فافْعَلْ » . (9)
.
ص: 274
. .
ص: 275
. .
ص: 276
57كتابه عليه السلام إلى معاويةقال الحافظ ابن عساكر : أخبرنا أبو القاسم المُستملي ، أنبأنا أبو بكر البيهقي ، أنبأنا أبو عبد اللّه الشَّحامي الحافظ ، حدَّثني أبو منصور محمَّد بن عبد اللّه الفقيه الزَّاهد ، أنبأنا أبو عمرو أحمد بن محمَّد النَّحوي ، بأسناد له : أنَّ يَحْيَى بن خالد البَرْمَكي ّ لمَّا حُبِس ، كتَب من الحبْس إلى الرَّشيد : إنَّ كلَّ يوم يمضي من بؤس (1) يمضي من نعمتك مثله ، والموعد المحشر ، والحكم الدَّيَّان ، وقد كتبت إليك بأبيات كتب بها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، إلى معاوية بن أبي سُفْيَان : أما واللّه ِ إنَّ الظُّلمَ شُؤمٌوما زالَ المُسِيءُ هو الظَّلُومُ إلَى الدَيَّانِ يوْمَ الدِّينِ نَمْضِيوعِندَ اللّه ِ يَجْتَمِعُ الخُصُومُ تَنامُ ولمْ تنَمْ عَنْكَ المَناياتَنَبَّهْ لِلْمَنِيَّةِ يا نَؤوْمُ لأمرٍ مّا تصَرَّمَتِ اللَّياليلأمرٍ ما تحَرَّكتِ النُّجومُ (2) [ أقول : هذه الأبيات موجودة في الدِّيوان بزيادات وهي : ] « أما واللّه ِ إنَّ الظُّلمَ شُؤْمٌولا زال المُسِي هو الظَّلومُ إلى الديَّانِ يَوْمَ الدِّينِ نَمْضيوعند اللّه يَجتمِع الخُصُومُ ستَعلَمُ في الحِسابِ إذا التَقَيناغَدَا عِندَ المَليكِ مَنِ الغَشُومُ ستَنْقَطِعُ اللَّذاذَةُ عَن أُناسٍمِنَ الدُّنيا وتَنقَطِعُ الهُمُومُ لأمرٍ مَّا تصرَّفَتِ اللَّياليلأمرٍ مَّا تحَرَّكَتِ النُّجُومُ سَلِ الأيَّامَ عَن أُمَمٍ تَقَضَّتْسَتُخْبِرُكَ المَعالِمُ والرُّسُومُ تَرومُ الخُلْدَ في دارِ المَنايافَكَمْ قَد رَامَ مِثلَكَ ما تَرُومُ تَنام ولم تَنَمْ عَنْكَ المَناياتَنَبَّهْ لِلْمَنِيَّة يا نَؤومُ لَهَوْتَ عَنِ الفَناءِ وأنتَ تَفنىفَما شيءٌ مِنَ الدُّنيا يَدُومُ تَموتُ غَدَا وأنتَ قريرُ عَيْنٍمِنَ العَضلات في لُجَجٍ تَعُومُ » (3)
.
ص: 277
كتابه عليه السلام إلى معاويةروى أبو عبيدة : قال كتب معاوية إلى أمير المونين عليه السلام : إنَّ لي فضائل كثيرة : كان أبي سيِّدا في الجاهليَّة ، وصِرْتُ مَلِكا في الإسلام ، وأنا صهرُ رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وخال المونين ، وكاتب الوحي . فقال أمير المونين عليه السلام : « أبِالفضَائِلِ يَبغي عَليَّ ابنُ آكِلَةِ الأكبادِ ، اكتب إليهِ يا غُلامُ : مُحمَّدٌ النَّبيُّ أخِي وصِنْوِيوحمْزَةُ سَيِّدُّ الشُّهداءِ عَمِّي وجعْفَرٌ الَّذي يُضْحِي وَيُمْسِييَطِيرُ مَعَ المَلائِكَةِ ابنُ أُمِّي وبنْتُ مُحَمَّدٍ سَكَنِي وعِرْسِيمَسُوطٌ لَحْمُها بِدَمي وَلَحْمِي وسِبْطا أحمَدٍ ولداي مِنهافأيُّكُمُ لَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِي سَبَقْتُكم إلى الإسلامِ طُرَّاغُلاما ما بَلغتُ أوانَ حِلمِي وصلَّيتُ الصَّلاةَ وكُنتُ طِفْلاًمُقِرّا بالنَّبِي في بطْن أمِّي وأوْجَبَ لي ولايَتَه علَيْكمرَسُولُ اللّه ِ يَوْمَ غَديرِ خُمِّ أنا الرَّجل الَّذي لا تُنكِرُوهُليومِ كَريهةٍ وليوم سِلمِ فوَيلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثمَّ وَيْلٌلِمَنْ يَلْقَى الإلَهَ غَدا بِظُلْمي . » فقال معاوية : أخفوا هذا الكتاب، لا يقرؤهُ أهلُ الشَّام فيميلوا إلى ابن أبي طالب . (1)
.
ص: 278
58كتابه عليه السلام إلى معاويةعن الجاحظ في كتاب الغرَّة ، قال : كتب عليّ عليه السلام إلى معاوية :« غرَّكَ عِزُّك ، فصار قِصارُ ذلك ذُلَّك ، فاخشَ فاحِشَ فِعلِكَ ، فَعَلَّكَ تُهدى بِهذا . » (1)
59كتابه عليه السلام إلى معاوية« أمَّا بعدُ ، فإنّ الدُّنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، ذاتُ زِيْنَةٍ وبَهْجَةٍ ، لم يَصْبُ إليْها أحَدٌ إلاَّ وشَغَلَتْه بِزيْنَتِها عَمَّا هو أنْفَعُ له منها ، وبالآخِرَةِ أُمِرنا ، وعَلَيْها حُثِثْنا ، فَدَعْ _ يا مُعاوِيَةُ _ ما يَفْنى ، واعْمَل لِما يَبْقى ، واحْذَر المَوْت َالَّذِي إليْه مَصِيرُكَ ، والحِسابَ الَّذِي إليْه عاقِبَتُكَ . واعْلَم أنَّ اللّه تعالى إذَا أرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا حالَ بينَه وبينَ ما يَكْرَهُ ، ووَفَّقَه لطاعَتِهِ ، وإذا أرَادَ اللّه ُ بِعَبدٍ سُوءا أغْراهُ بالدُّنيا وأنْساهُ الآخِرَةَ ، وبَسَطَ له أمَلَه ، وعاقَه عمَّا فيْه صَلاحُه . وقد وَصَلني كتابُك فَوَجَدتُكَ تَرْمِي غَيْرَ غَرَضِكَ ، وتَنْشُدُ غَيْرَ ضَالَّتِكَ ، وتَخْبِطُ في عَمايَةٍ ، وتَتِيهُ في ضَلالَةٍ ، وتَعْتَصِمُ بغَيْر حُجَّة ، وتَلُوذُ بأضْعَفِ شَبْهَةٍ . فأمَّا سُؤالُك المُتارَكَةَ والإقْرارَ لَكَ على الشَّام ، فلو كنْتُ فاعِلاً ذلِكَ اليوْمَ ، لَفَعَلْتُهُ أمْسِ . وأمَّا قولُك : إنَّ عُمَرَ وَلاَّكَهُ ، فَقَدْ عَزَلَ مَن كان وَلاَّه صاحِبُهُ ، وعَزَلَ عثْمان مَن كان عُمَر وَلاَّه ، ولم يُنْصَب للنَّاس إمامٌ إلاَّ لِيَرى مِن صَلاح الأمَّة إماما قَدْ كانَ ظهَرَ لِمَن قبْلَهُ ، أوْ أخْفى عنْهُم عَيْبَهُ والأمرُ يَحْدُثُ بعْدَه الأمرُ ، ولكلِّ وَالٍ رَأْيٌ واجْتِهادٌ . فَسُبْحَانَ اللّه ِ ، مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةِ ، والْحَيْرَةِ الْمُتَّبَعَةِ ، مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ ، واطِّرَاحِ الْوَثَائِقِ ، الَّتي هِيَ لِلَّهِ طِلْبَةٌ ، وعَلَى عِبَادِهِ حُجَّةٌ . فَأَمَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ عَلَى عُثْمَانَ ، وقَتَلَتِهِ ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ ، وخَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ والسَّلامُ » . (2) ومن كلام له عليه السلام في معنى قتل عثمان ، وهو حكم له على عثمان ، وعليه وعلى النَّاس بما فعلوا ، وبراءة له من دمه : « لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلاً ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِرا ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ : خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، ومَنْ خَذَلَهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ : نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، وأَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ ، اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الأَثَرَةَ ، وجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ ، ولِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ والْجَازِعِ » . (3)
.
ص: 279
. .
ص: 280
60كتابه عليه السلام إلى معاويةومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا ، وهو من محاسن الكتب :« أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُك تَذْكُرُ فيه اصْطِفَاءَ اللّه ِ مُحَمَّد ا صلى الله عليه و آله لِدِينِهِ وتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ بمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنا الدَّهْرُ مِنْك عَجَبا ؛ إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاءِ اللّه تَعَالَى عِنْدَنَا ، ونِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا ، فَكُنْتَ فِي ذَلك كَنَاقِلِ التَّمْرِ إلى هَجَرَ ، أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إلى النِّضَالِ ، وزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الإِسْلامِ فُلانٌ وفُلانٌ ، فَذَكَرْتَ أَمْرا إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَك كُلُّهُ ، وإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ . ومَا أَنْتَ والْفَاضِلَ والْمَفْضُولَ ، والسَّائِسَ والْمَسُوسَ ، ومَا لِلطُّلَقَاءِ وأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ والتَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ ، وتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ ، وتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ ، هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا ، وطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا . أَلا تَرْبَعُ أَيُّهَا الإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ ، وتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ ، وتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ ، فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ ، ولا ظَفَرُ الظَّافِرِ ، وإِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ ، رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ . أَ لا تَرَى _ غَيْرَ مُخْبِرٍ لَك ،َ ولَكِنْ بِنِعْمَةِ اللّه أُحَدِّثُ _ أَنَّ قَوْما اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللّه تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِين َ ، والأَنْصَار ِ ، ولِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ : سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ ، وخَصَّهُ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاتِهِ عَلَيْهِ ، أَ ولا تَرَى أَنَّ قَوْما قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللّه _ ولِكُلٍّ فَضْلٌ _ حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ ، قِيلَ : الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وذُو الْجَنَاحَيْنِ ، ولَوْلا مَا نَهَى اللّه عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُومِنِينَ ، ولا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ ، فَدَعْ عَنكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ (1) ، فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا ، والنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا ، لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا ، ولا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا ، فَنَكَحْنَا وأَنْكَحْنَا فِعْلَ الأَكْفَاءِ ، ولَسْتُمْ هُنَاكَ ، وأَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ ، ومِنَّا النَّبِيُّ ومِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ ، ومِنَّا أَسَدُ اللّه و مِنْكُمْ أَسَدُ الأَحْلافِ ، ومِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، ومِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ ، ومِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، ومِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وعَلَيْكُمْ . فَإِسْلامُنَا قَدْ سُمِعَ ، وجَاهِلِيَّتُنَا لا تُدْفَعُ ، وكِتَابُ اللّه يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا ، وهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى : « وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَ_بِ اللَّهِ » (2) . وقَوْلُهُ تَعَالَى : « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَ هِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ_ذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ » (3) ، فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ ، وتَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ ، ولَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُون َ عَلَى الأَنْصَار ِ يَوْمَ السَّقِيفَة ِ بِرَسُولِ اللّه صلى الله عليه و آله فَلَجُوا عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ ، فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ ، وإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالأَنْصَار ُ عَلَى دَعْوَاهُمْ . وزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ ، وعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ ، فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ ، فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ . وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا. وقُلْتَ : إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ ، ولَعَمْرُ اللّه لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ ، وأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ ، ومَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوما ، مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّا فِي دِينِهِ ، ولا مُرْتَابا بِيَقِينِهِ ، وهَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا ، ولَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا . ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وأَمْرِ عُثْمَانَ فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ ، فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ ، وأَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ ؟ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ واسْتَكَفَّهُ ؟ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ ، وبَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ ، حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ ؟ كلاَّ واللّه لقَدْ يَعْلَمُ اللّه ُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ، والْقائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ : هَلُمَّ إِلَيْنا ولا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً . ومَا كُنْتُ لأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثا ، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وهِدَايَتِي لَهُ ، فَرُبَّ مَلُومٍ لا ذَنْبَ لَهُ . وَقَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ. وَمَا أَرَدْتُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وما تَوْفِيقِي إلاّ بِاللّهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ أُنِيبُ . وذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي ولأَصْحَابِي عِنْدَكَ إلاَّ السَّيْفُ ، فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ ! مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب ِ عَنِ الأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ وبِالسَّيْفِ مُخَوَّفِينَ ؟ ! فَلَبِّثْ قَلِيلاً يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ فَسَيَطْلُبُك مَنْ تَطلُبُ ، ويَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ ، وأَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِين َ والأَنْصَار ِ ، والتَّابِعِين َ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ ، سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ ، مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ ، أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ ، وقَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ ، وسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ ، قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وخَالِكَ وجَدِّكَ وأَهْلِكَ ، « وَ مَا هِىَ مِنَ الظَّ__لِمِينَ بِبَعِيد ٍ » (4) . (5)
.
ص: 281
. .
ص: 282
. .
ص: 283
61كتابه عليه السلام إلى معاوية[ نقل مصنّف كتاب معادن الحكمة كتابه عليه السلام إلى معاوية عن نهج البلاغة ، ثُمَّ نقل عن الشَّارح البحراني ، أنَّ الكتاب المنقول ملتقط من كتاب ذكر السَّيِّد رحمه الله منه فصلاً سابقا برقم « 9 » ، ثُمَّ نقل الكتاب بتمامه عن البحراني ، ثُمَّ نقل فصلاً من الكتاب عن ابن أبي الحديد (1) ، مصرّحا بأنَّ بين نقله ونقل البحراني اختلافا كبيرا ؛ فأحببنا نقله عن ابن أبي الحديد بتمامه ، تتميما وتعميما للفائدة . فقال ابن الحديد : بعد نقله كتاب معاوية بن أبي سُفْيَان إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، مع أبي مسلم الخولاني ، وما جرى بينه وبين أبي مسلم الخولاني وكان جوابه عليه السلام : ]« أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ أخا خَوْلان َ قَدِمَ عَلَيَّ بِكتابٍ مِنك َ تَذكُرُ فيهِ مُحَمّد ا صلى الله عليه و آله ، وما أنعَم اللّه ُ بهِ عليهِ مِنَ الهُدى والوحي ، فالحمدُ للّه ِ الَّذي صدَقه الوعْدَ ، وأيَّدَهُ بالنَّصر ، ومكَّن لَهُ في البلادِ ، وأظهرَهُ علَى أهْلِ العَداوَةِ والشَّنآن من قومه ، الَّذِينَ وَثَبوا علَيهِ ، وشَنِفُوا لَهُ ، وأظهَرُوا تَكذِيبَهُ ، وبارَزُوه بالعَداوَةِ ، وظاهَروا على إخراجِهِ وعلَى إخراجِ أصحَابِهِ وأهلِهِ ، وألّبُوا عليهِ العَرَب َ ، وجادَلوهُم علَى حَربِهِ ، وجَهَدوا في أمرِهِ كُلَّ الجَهْدِ ، وَقَلَبوا لَهُ الأُمورَ حَتَّى جاءَ الحَقُّ وظَهرَ أمرُ اللّه ِ وهُم كارِهُونَ ، وكان أشدُّ النَّاس عليه تأليبا وتحريضا أُسرَتَهُ ، والأدنى فالأدنى مِن قَومِهِ ، إلاَّ مَن عَصَمَ اللّه ُ . وذكرتَ أنَّ اللّه َ تعالَى اجتبى لَهُ مِنَ المُسلِمينَ أعوانا أيَّدهُ اللّه ُ بِهِم ، فَكانُوا في مَنازِلِهم عِندَهُ علَى قَدرِ فَضائِلِهم في الإسلام ِ ، فكان أفضَلَهُم _ زعَمتَ _ في الإسلام ِ ، وأنصَحَهُم للّه ِ وَلِرَسُولِهِ الخَليفَةِ ، وخَليفَةِ الخَليفَةِ ، ولعَمرِي إنَّ مكانَهُما في الإسلام لَعظِيمٌ ، وإنَّ المُصابَ بِهما لَجُرحٌ في الإسلام شَدِيدٌ ، فَرَحِمَهُما اللّه ، وجَزَاهما أحسَنَ ما عَمِلا ! وذكرتَ أنَّ عثمان َ كانَ في الفَضلِ تالِيا ، فإن يَكُ عُثمانُ مُحسِنا فسَيجزيهِ اللّه ُ بإحسانِهِ ، وإنْ يَكُ مُسيئا فسَيَلقى رَبَّا غَفُورا لا يتعاظَمُهُ ذنْبٌ أنْ يَغفِرَهُ ، ولَعَمرِي إنِّي لأرجُو إذا أعطَى اللّه ُ النَّاسَ علَى قَدرِ فَضائِلِهم في الإسلام ، ونَصيحَتِهم للّه ِ ولِرَسُولِهِ ، أن يَكُونَ نَصيبُنا في ذلِكَ الأوفرَ . إنَّ محمّد ا صلى الله عليه و آله لمَّا دعا إلى الإيمانِ باللّه ِ والتوحيدِ لَهُ ، كنَّا أهلَ البَيت ِ ، أوَّل مَن آمَن بِهِ وصَدَّقَهُ فيما جاء ، فبتْنا أحوالا كاملةً مجرّمة (2) تامَّة ، وما يُعبَدُ اللّه ُ في رَبْعٍ ساكِنٍ مِنَ العَرَب ِ غَيرَنا ، فأراد قومُنا قتل نبيِّنا ، واجتياحَ أصلِنا ، وهمُّوا بنا الهموم ، وفعَلوا بنا الأفاعيل ، ومنَعونا المِيرة (3) ، وأمسكوا عنَّا العَذْبَ ، وأحْلسُونا الخَوفَ . وجعَلوا علَينا الأرصادَ والعُيونَ ، واضطرّونا إلى جَبَلٍ وَعْرٍ ؛ وأوْقَدوا لَنا نارَ الحرْبِ ، وكتَبوا بينهم كتابا لا يوكِلُوننا ولا يُشارِبونَنا ، ولا يناكِحُونَنا ، ولا يُبايِعونَنا ، ولا نأمَنُ مِنهُم حَتَّى ندفَعَ إليهِم محمّد ا فَيقتُلوه ويمثِّلوا بِهِ ، فلَم نَكُن نأمَنُ فِيهِم إلاَّ مِن مَوْسِمٍ إلى مَوْسِمٍ ، فَعزَمَ اللّه ُ لَنا علَى منعِهِ ، والذَّبِّ عن حَوْزتِهِ ، والرَّمي مِن وراءِ حُرمَتِهِ ، والقيامِ بأسيافِنا دُونَهُ في ساعاتِ الخَوفِ باللَّيل والنَّهار ، فمُوِنُنا يَرجو بِذَلِكَ الثَّوابَ ، وكافِرُنا يُحامي عَنِ الأصلِ ، وأمَّا مَن أسلَم مِن قُرَيش ٍ فإنَّهُم مِمَّا نحنُ فيهِ خَلاءٌ ، مِنهُم الحَليفُ المَمنُوعُ ، ومِنهُم ذو العَشِيرةِ الَّتي تُدافِعُ عَنهُ ، فلا يبغيه أحدٌ مِثلَ ما بغانا بِهِ قومُنا مِنَ التَّلفِ ، فَهُم مِنَ القتْلِ بِمَكانِ نجْوةٍ وأمْنٍ ، فكانَ ذلِكَ ما شاءَ اللّه ُ أن يَكُونَ . ثُمَّ أمرَ اللّه ُ تَعالى رسولَهُ بالهِجرَةِ ، وأذِنَ لَهُ بَعدَ ذلِكَ في قِتالِ المُشركِين َ ، فكان إذا احمَرّ البأسُ ، ودُعِيَتْ نَزالِ (4) أقامَ أهلَ بيتِهِ ، فاستَقدَمُوا ، فَوقَى أصحابَهُ بِهِم حَدَّ الأسنَّةِ والسُّيُوفِ ، فَقُتِلَ عُبيدَة ُ يَومَ بَدْر ٍ ، وحَمزة ُ يَومَ أُحد ٍ ، وجَعْفَر ُ وزَيْد ٌ يَومَ مُوَة ، وأراد مَن لَو شِئتُ ذَكَرتُ اسمَهُ مِثلَ الَّذي أرادوا من الشَّهادة مع النَّبيّ صلى الله عليه و آله غيرَ مَرّةٍ ، إلاَّ أنَّ آجالهم عُجِّلَت ، ومَنيَّته أُخِّرت ، واللّه ُ ولِيُّ الإحسانِ إليهِم ، والمِنَّةِ علَيهِم ، بما أسلفوا من أمر الصَّالحات ، فما سَمِعْتُ بأحَدٍ ، ولا رأيتُهُ هو أنصَحُ في طاعَةِ رَسولِهِ ، ولا لِنبيِّهِ ، ولا أصبرَ على اللأواء (5) والسَّرَّاء والضَّرَّاء وحين البأس ، ومَواطِنِ المَكْروهِ مَعَ النَّبيّ صلى الله عليه و آله من هَواءِ النَّفر الَّذِينَ سَمَّيتُ لَكَ ، وفي المهاجرين خيرٌ كثيرٌ يُعرَف ، جَزاهُمُ اللّه ُ خَيرا بأحسَنِ أعمالِهِم . وذكرتَ حسدي الخلفاءَ وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم ؛ فأمَّا البغيُ فمعاذَ اللّه ِ أن يَكُونَ ، وأمَّا الإبطاءُ عَنهُم والكراهِيَةُ لأمرِهِم ، فَلَستُ أعتَذِرُ إلى النَّاس مِن ذلِكَ ؛ إنَّ اللّه َ تعالى ذكره لمّا قَبَضَ نبيَّه صلى الله عليه و آله . قالت قريش : منَّا أميرٌ ، وقالت الأنصار : منَّا أميرٌ ؛ فقالت قريش : منَّا محمّد ، نحن أحقّ بالأمر ، فَعَرفَتْ ذلِكَ الأنصار ُ ، فَسَلَّمَت لَهُمُ الوِلايَةَ والسُّلطانَ ، فإذا استحقّوها بمُحَمَّد ٍ صلى الله عليه و آله دُونَ الأنصار ِ ، فإن أولى النَّاسِ بمُحَمَّد ٍ أحقُّ بِهِ مِنهُمْ ، وإلاّ فإنَّ الأنصار َ أعظمُ العرب فيها نصيبا ، فلا أدري : أصحَابي سَلِموا مِن أنْ يَكونوا حَقِّي أخَذُوا ، أو الأنصار ُ ظَلَموا ؟ بل عَرَفتُ أنَّ حَقِّي هُوَ المأخُوذُ ، وقد تركته لَهُم تجاوُزا للّه ِ عَنهم . وأمَّا ما ذكرتَ من أمرِ عُثمانَ ، وقطيعَتِي رَحِمَهُ ، وتَأليبي علَيهِ ، فإنَّ عُثمانَ عَمَلَ ما قَد بَلَغَكَ ، فصَنعَ النَّاسُ بهِ ما رأيتَ ، وإنَّكَ لَتَعلَمُ أنِّي قَد كُنتُ في عُزْلةٍ عَنهُ إلاَّ أنْ تَتَجنّى ؛ فَتَجَنَّ ما بَدا لَكَ . وأمَّا ما ذكرتَ مِن أمرِ قتلِهِ عُثمانَ ، فإنِّي نَظَرتُ في هذا الأمرِ ، وضرَبتُ أنفَهُ وعينَهُ ، فَلم أرَ دَفعَهُم إليك ولا إلى غَيرِكَ ، ولعَمرِي لَئِن لَمْ تَنزِعْ عَن غَيِّكَ وشِقاقِكَ لَتَعرِفَنَّهُم عَن قليلٍ يَطلِبونَكَ لا يُكَلِّفونَكَ أنْ تَطلُبَهم في بَرّ ولا بَحر ، ولا سهل ولا جبَل ، وقد أتاني أبوكَ حينَ وَلَّى النَّاسُ أبا بَكر ٍ ، فقال : أنت أحقُّ بِمقامِ مُحَمّد ٍ ، وَأولَى النَّاس بِهذا الأمرِ ، وأنَا زعيمٌ لَكَ بِذلِكَ علَى مَن خَالَفَ ، ابسُطْ يَدَكَ أُبايِعْكَ ؛ فلم أفعل ، وأنتَ تعلَمُ أنَّ أباكَ قَد قالَ ذلِكَ وأرادَهُ، حَتَّى كُنتُ أنا الَّذي أبَيْتُ ؛ لِقُربِ عَهدِ النَّاسِ بالكُفرِ مَخافَةَ الفُرقَةِ بَينَ أهلِ الإسلام ِ ، فأَبوكَ كانَ أعرَفُ بِحقِّي مِنكَ ، فإن تَعرِفْ مِن حَقِّي ما كانَ أبُوكَ يَعرِفُ تُصِبْ رُشدَك ، وإنْ لَمْ تَفعَل فَسيُغنِي اللّه ُ عَنكَ ، والسَّلامُ . » (6)
.
ص: 284
. .
ص: 285
. .
ص: 286
وفي المناقب : ذكر قسما لم يوجد في معادن الحكمة ، قال : جاء أبو مسلم الخولاني بكتاب من عنده _ يعني معاوية _ إلى أمير المؤمنين عليه السلام يذكر فيه : وكان أنصحهم للّه خليفته ، ثُمَّ خليفة خليفته ، ثُمَّ الخليفة الثَّالث المقتول ظلما ، فَكُلَّهم حَسَدتَ ، وعلى كُلِّهم بَغيتَ . . . إلى آخر ما سيأتي ، فلمَّا وصل الخولاني وقرأ الكتاب على النَّاس قالوا : كلّنا قاتلون ، ولأفعاله منكرون ، فكان جواب أمير المؤمنين عليه السلام :« وبَعدُ ؛ أنِّي رأيتُ قد أكثرتَ في قَتَلَةِ عُثمانَ ، فادخُلْ فِيما دخَلَ فِيهِ المُسلِمون َ مِن بَيعَتِي ، ثُمَّ حاكِمِ القومَ إليَّ أحمِلْك ، وإيَّاهُم على كِتابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نبِيِّهِ صلى الله عليه و آله . وأمَّا تلك التي تُريدُها فإنَّها خُدعَةُ الصَّبيِّ عن اللَّبنِ ، ولعَمرِي لَئِن نَظَرتَ بِعَقلِكَ دُونَ هَواكَ لَعَلِمتَ أنِّي مِن أبرأ النَّاسِ مِن دمِ عُثمانَ ، وقَد عَلِمتَ أنَّكَ مِن أبناءِ الطُّلقاء ِ الَّذِين لا تَحِلُّ لَهُم الخِلافَةُ . » (1)
.
ص: 287
62كتابه عليه السلام إلى معاويةروى العلاّمة المجلسي رحمه الله في البحار ، عن تاريخ ابن أعثَم الكوفي كتابا ، أظنُّ كونه جملاً مختصرة من كتابه عليه السلام إلى معاوية مع أخي خولان المتقدّم ذكره ، ولكن حيث كان معاوية الَّذي هذا الكتاب جوابه مخالف للكتاب الَّذي جاء به أخو خولان ، أحببنا ايراده هنا أوَّلاً ، ثُمَّ ايراد كتاب معاوية . نصّ كتاب أمير المؤمنين عليه السلام :« أمَّا بعدُ ؛ فإنَّه أتاني كِتابُكَ تذكر فيهِ حسدي للخُلفاء ِ وإبطائي عَليهِم ، والنَّكيرِ لأمرِهم ، فلستُ أعتَذِرُ مِن ذلِكَ إليكَ ولا إلى غَيرِكَ ، وذلِكَ أنَّه لمَّا قُبِضَ النبيُّ صلى الله عليه و آله ، واختلف الأُمَّة ، قالَت قريش ُ : مِنَّا الأميرُ ، وقالت الأنصار : بل منَّا الأميرُ ؛ فقالَت قُريشٌ : مُحمَّدٌ صلى الله عليه و آله مِنَّا ونَحنُ أحَقُّ بالأمرِ مِنكُم فسلّمت الأنصارُ لِقُريشٍ الولايةَ والسُّلطانَ ، فإنَّما تَستحِقُّها قريشٌ بِمحمَّدٍ صلى الله عليه و آله دُونَ الأنصارِ ، فَنحنُ _ أهلَ البَيت ِ _ أحقُّ بِهذا الأمرِ مِن غَيرِنا _ إلى قوله عليه السلام _ وقَدْ كانَ أبوكَ أبو سُفْيَان َ جاءَني في الوَقتِ الَّذي بايَعَ النَّاسُ فيه أبا بَكر ٍ ، فقال لِي : أنتَ أحقُّ بِهذا الأمرِ من غَيرِكَ ، وأنا يدُكَ علَى مَن خالَفَكَ ، وإن شِئتَ لأملأنَّ المَدينَة َ خَيلاً ورَجلاً على ابنِ أبي قُحافة َ ، فلَمْ أقبَلْ ذلِكَ ، واللّه ُ يعلَمُ أنَّ أباكَ قد فَعَلَ ذلِكَ ، فَكُنتُ أنا الَّذي أبَيتُ عَليهِ مَخافَةَ الفُرقَةِ بينَ أهلِ الإسلامِ ، فإنْ تَعرِفْ مِن حَقِّي ما كانَ أبوكَ يَعرِفُهُ لِي فَقَد أصبْتَ رُشدَكَ ، وإنْ أبيتَ فَها أنا قاصِدٌ إليك ، والسَّلام . » (1)
.
ص: 288
نصّ كتاب معاوية : أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ الحسدَ عَشرَةُ أجزاء ، تِسعَةٌ مِنها فِيكَ ، وواحِدٌ منها في سائِرِ النَّاسِ ، وذلِكَ أنَّه لم تَكُن أُمورُ هذهِ الأُمَّةِ لِأحَدٍ بَعدَ النَّبيِّ صلى الله عليه و آله إلاّ ولَهُ قَدْ حَسَدْتَ ، وعَلَيهِ قد بَغَيتَ ، عَرَفنا ذلِكَ مِنكَ في نَظَرِكَ الشّزرِ ، وقَولِكَ الهَجْرِ ، وتَنَفُّسِكَ الصُّعداءَ ، وإبطائِكَ علَى الخُلَفاءِ ، تُقادُ إلى البَيعَةِ كَما يُقادُ الجَمَلُ الشَّارِدُ ، حَتَّى تُبايِعَ وأنت كارِهٌ ، ثُمَّ إنِّي لا أنسى فِعلَكَ بِعُثمانَ بنَ عَفَّانَ في البَرِّ والبَحرِ والجِبَالِ والرِّمالِ ، حَتَّى تَقتُلَهم أو لتَلحَقَنَّ أرواحُنا باللّه ِ . والسَّلام . (1)
.
ص: 289
63كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا عن كتاب منه :« أَمَّا بَعْدُ ، فَإنَّا كُنَّا نَحْنُ وأَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الأُلْفَةِ والْجَمَاعَة ، فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَمْسِ ، أَنَّا آمَنَّا وكَفَرْتُمْ ، والْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وفُتِنْتُمْ ، ومَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إلاَّ كَرْها ، وبَعْدَ أَنْ كان أَنْفُ الإِسْلامِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اللّه صلى الله عليه و آله حَرْبا . وذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَة َ والزُّبَيْرَ ، وشَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ ونَزَلْتُ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ ، وذَلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ ، فَلا عَلَيْكَ ، ولا الْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ ، وذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي الْمُهَاجِرِين َ والأَنْصَارِ ، وقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ (1) ، فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذَلِكَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ اللّه ُ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ ، وإِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قال أَخُو بَنِي أَسَد ٍ : مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْبِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وجُلْمُودِ وعِنْدِي السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ وخَالِكَ وأَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ ، وإِنَّكَ واللّه مَا عَلِمْتُ الأَغْلَفُ الْقَلْبِ ، الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ ، والأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ : إِنَّكَ رَقَيتَ سُلَّما أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لا لَكَ ، لأَنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ ، ورَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ ، وطَلَبْتَ أَمْرا لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ ، ولا فِي مَعْدِنِهِ ، فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ ؟ وقَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَامٍ وأَخْوَالٍ حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ وتَمَنِّي الْبَاطِلِ عَلَى الْجُحُودِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَيْثُ عَلِمْتَ ، لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيما ولَمْ يَمْنَعُوا حَرِيما ، بِوَقْعِ سُيُوفٍ مَا خَلا مِنْهَا الْوَغَى ، ولَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَيْنَى ، وقَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ ، فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ ، ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إلَيَّ أَحْمِلْكَ ، وإِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللّه تَعَالَى . وأَمَّا تِلْكَ الَّتي تُرِيدُ ، فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ ، والسَّلامُ لأَهْلِهِ . (2)
.
ص: 290
64كتابه عليه السلام إلى معاوية« مِن عبْد اللّه علي ٍّ أميْرِ المؤمِنين َ عليه السلام إلى مُعاوِية بْن أبِي سُفْيَانَ . أمَّا بعدُ ، فإنَّ الدُّنيا دَارُ تِجارَةٍ ، ورِبْحُها أوْ خُسْرُها الآخِرَة ، فالسَّعيْدُ مَن كانَتْ بِضاعَتُه فِيها الأعْمالَ الصَالِحَةَ ، ومَن رأى الدُّنيا بعَيْنِها ، وقَدَّرَها بِقَدَرِها ، وإنِّي لأعِظُكَ معَ عِلْمِي بسابِقِ العِلْم فِيْكَ ممَّا لا مَرَدَّ لَه دُونَ نَفاذِهِ ، ولكِنَّ اللّه َ تعالى أَخَذَ علَى العُلَماء أنْ يُؤَدُّوا الأمَانَةَ ، وأنْ يَنْصَحوا الغَوِيَّ والرَّشِيد ، فاتَّق اللّه ، ولا تَكُن ممَّن لا يَرجو للّه ِ وَقارا ، ومَن حَقَّتْ علَيْه كَلِمَةُ العَذاب ، فإنَّ اللّه بالْمِرصَاد . وإنَّ دُنْياكَ سَتُدْبِر عنْك ، وسَتَعُودُ حَسْرَةً علَيْك ، فاقْلَعْ عمَّا أنْتَ علَيْه مِن الغَيِّ والضَّلال علَى كِبَر سِنِّك ، وفَنَاء عُمْرِك ، فإنَّ حالَكَ اليَوْمَ كحَالِ الثَّوْبِ المَهِيلِ الَّذِي لا يُصْلَح من جانِبٍ إلاَّ فَسَدَ من آخَر . وقد أَرْدَيْتَ جِيلاً مِنَ النَّاسِ كَثِيرا خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ ، وأَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ ، تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ ، وتَتَلاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ ، فَجَازُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ ، ونَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، وتَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ، وعَوَّلُوا عَلَى أَحْسَابِهِمْ ، إلاَّ مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ ، فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ ، وهَرَبُوا إِلَى اللّه مِنْ مُوَازَرَتِكَ ، إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الصَّعْبِ ، وعَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ . فَاتَّقِ اللّه يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ ، وجَاذِبِ الشَّيْطَانَ قِيَادَك ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ ، والآخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ ، والسَّلامُ » . (1)
.
ص: 291
65كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام إلى معاوية أيضا ، ولمَّا بلَغ كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، كتب عليه السلام إليه مجيبا له :« أمَّا بعدُ ، فإنَّ ما أتَيْتَ بِه من ضَلالِكَ لَيْس بِبَعيد الشَّبَهِ مِمَّا أتَى بهِ أهْلُكَ وقَومُكَ الَّذِينَ حَمَلَهُم الكُفرُ ، وتَمَنِّي الأباطِيل عَلى حَسَد مُحمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، حَتَّى صُرِعوا مصارِعَهُم حَيْثُ عَلِمْتَ ، لم يَمْنَعوا حَرِيما ولَم يَدْفَعوا عظِيْما ، وأنَا صاحِبُهم في تِلكَ المواطِنِ ، الصَّالي بحَربِهم والفالُّ لِحَدِّهم ، والقاتلُ لرؤوسهم ورؤوس الضَّلالة ، والمُتْبِعُ _ إنْ شَاءَ اللّه ُ _ خَلَفَهم بِسَلَفِهم ، فبِئسَ الخَلَفُ خَلفٌ أتْبَع سَلَفا مَحَلُّه ومَحَطُّه النَّار ، والسَّلام » . (1)
66كتابه عليه السلام إلى معاوية« من عبد اللّه علي ّ أمير المؤمنين ، إلى مُعاوِيَةَ بنِ صَخر ٍ ، أمَّا بَعدُ ؛ فإنَّكَ مِن كافِرٍ وُلِدتَ فَقَربتَ وأشبَهْتَ آباءَكَ وأجدادَكَ وعمَّكَ وأخاكَ وخالَكَ ، إذ حملَهُم الشَّكُّ وتَمَنِّي الأباطِيلِ بالجُحُودِ علَى نبيِّ اللّه صلى الله عليه و آله ، فصُرِعُوا مصَارِعَهُم حيثُ قَد عَلِمتَ، لَمْ يَمنَعُوا حَرِيما، ولا دَفعُوا عَظِيما، وأنا صاحِبُهُم في تِلكَ المواطِنِ ، والفالُّ لِحَدِّهِم ، والقاتِلُ لِصَناديدهِمِ صنادِيدَ الضَّلالَةِ ومُتابِعي الجَهالَةِ ، وأنت خَلفَهُم فَبِئسَ الخَلَفُ يَتْبَعُ السَّلَفَ في نارِ جَهَنَّمَ ، واللّه ُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالِمينَ . »
.
ص: 292
[ أقول هذا جواب لكتاب من معاوية وهو : ] قال : فكتب إليه معاوية : أمَّا بعدُ ؛ فَقَدْ أبيتَ في الغَيِّ إلاَّ تَمادِيا لاِبنِ السَّودَاءِ عَمَّارِ بنِ ياسِر وأصحابِهِ ، فَقَدْ عَلِمْتَ بأنَّهُ إنَّما ( لا ) يَدعُوكَ إلى ذلِكَ إلاَّ مَصرَعُكَ وحَيْنُكَ الَّذي لابُدَّ لَكَ مِنهُ ، فإنْ كُنتَ غيرَ مُنتَهٍ فازدَدْ غَيّا ، فَطاشَ في المُطاوَلةِ حِلمُكَ ، وعَزُبَ عَنِ الحَقِّ فَهمُكَ ، وأنت راكبٌ لأسوأ الأُمُورِ ، ومُعْضِلٌ عَنِ الحَقِّ بِغَيرِ فِكرَةٍ في الدِّينِ ولا رَوِيَّةٍ ، ثُمَّ تَكونُ العاقِبَةُ لِغَيرِكَ _ والسَّلامُ _ . (1)
67كتابه عليه السلام إلى معاوية« مِن عَبدِ اللّه ِ عَلي ٍّ أميرِ المُؤمِنين َ إلى مُعاوِيَةَ بنِ صَخْر ٍ . أمَّا بَعدُ ؛ فالعَجَبُ لِما تَتَمنَّى وما يَبلُغُني عَنك َ ، وما أعرَفَني بِمَنزِلَتِكَ الَّتي أنتَ إليها كائِنٌ ، ولَيسَ إبطائِي عَنكَ إلاَّ لِوقَتٍ أنا بِهِ مُصدّقٌ وأنتَ بِهِ مُكَذّبٌ ، وكأَنِّي بِكَ وأنتَ تَعُجُّ في الحَربِ عَجِيجَ الجِمالِ بأَثقالِها ، وكَأنِّي بِكَ وأنتَ تَدعُوني يابنَ آكِلَةِ الأكبادِ جَزَعا مِنَ النِّفاقِ المُتَتابِعِ والقَضاءِ الواقِعِ ومَصارِعَ بَينَ مَصارِعَ ، إلى كِتابِ اللّه ِ ، وأنتُم بِهِ كافِرونَ ، ولِحُدودِهِ جاحِدُونَ » . [ هذا الكتاب ، جواب لكتاب من معاوية ، هذا هو : ] أمَّا بعدُ ؛ فقد طال في الغيِّ إدرَاجُكَ ، وعَنِ الحَربِ إبطاؤكَ ، وعَنِ النِّفاقِ تَقاعُسُكَ ، وعَنِ الوُقوفِ جِداتُكَ ، وتوعد وعيدَ البَطَلِ المُحامِي ، وتَروغُ رَوَغانَ الثَّعلَبِ المُواري ، ما أَعدَّكَ لِكتاب ! وأكَلَّكَ عَنِ الضِّرابِ الَّذي لا بُدَّ لكَ فِيهِ مِن لقاءِ أسبابٍ ، صادِقَةٍ نِيَّاتُهم ، شَديدَةٍ بَصائِرُهم ، يَضرِبُون عَنِ الحَقِّ مَن التَوى ، ويُوفُونَ بالعَهدِ مَنْ إليهِمْ ضَوَى ، وما أقربَ ما تَعرِفُ إنْ لَمْ يَتَدارَكُكَ اللّه ُ مِنهُ برَحمَتِهِ ، ويُخْرجُكَ مِن أثَرِ الغِوايَةِ الَّتي طالَ فيها تَجَبُّركَ ، وعَن قَريبٍ تَعرِفُ عاقِبَةَ فِعلِكَ ، وكَفى باللّه ِ علَيكَ رَقيبا _ والسَّلام . (2) [ صورة أخرى للكتاب المتقدّم، على رواية المعتزلي عن المَدائِني : ] « أمَّا بَعدُ ؛ فَما أعجَبَ ما يأتيني مِنكَ ، وما أعلَمَنِي بِما أنتَ إليهِ صائِرٌ ! وليسَ إبطائي عَنكَ إلاَّ تَرَقُّبا لِما أنتَ لَهُ مُكَذِّبٌ ، وأنا بِهِ مُصدِّقٌ ، وكَأَنِّي بِكَ غَدا وأنت تَضِجُّ مِنَ الحَربِ ضجيجَ الجمالِ مِنَ الأثقالِ ، وستَدعُوني أنتَ وأصحابُكَ إلى كِتابٍ تُعظِّمونَهُ بِألسِنَتِكُم وتجحَدُونَهُ بِقُلوبِكُم ، والسَّلامُ . » (3)
.
ص: 293
68كتابه عليه السلام إلى معاوية« لَيتِمَّنَّ النُّورُ علَى كُرْهِكَ ، ولَيُنْفذَنَّ العِلمُ بصَغارِك ، ولَتُجازَيَنَّ بِعَمَلِكَ ، فَعِثْ في دُنْياكَ المُنقَطِعَةِ عَنْكَ ما طَابَ لَكَ ، فكأنَّكَ بِباطِلِكَ وقَدِ انْقَضَى ، وبِعَمَلِكَ وقَدْ هَوَى ، ثُمَّ تَصِيرُ إلى لَظَى ، لَم يَظلِمْكَ اللّه ُ شَيئا ، وما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للِعَبيدِ » . (1)
.
ص: 294
69كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتابهِ عليه السلام إلى مُعاوِيَةَ لمّا بلَغَهُ عليه السلام كتابُ مُعاوِيةَ :« أمَّا بَعْدُ ، فإنَّ مَساوِيكَ مَعَ عِلْمِ اللّه ِ تَعالى فِيْك َ، حالَتْ بيْنَك وبَيْنَ أنْ يَصْلُحَ لَكَ أمْرُكَ ، وأنْ يَرْعَوِي قَلْبُك . يابْنَ الصَّخرِ اللَّعِينِ زَعَمْتَ أنْ يَزِنَ الجِبالَ حِلْمُكَ ، ويَفْصِلَ بيْنَ أهْلِ الشَّكِّ عِلْمُكَ ، وأنْتَ الجِلْفُ المُنافِقُ الأغْلَفُ القَلْبُ ، القَلِيلُ العَقْل ، الجَبانُ الرَّذْلُ ، فإنْ كُنْتَ صادِقا فِيما تَسْطُرُ ، ويُعِينُك علَيْهِ أخُو بَنِي سَهْمٍ ، فَدَعِ النَّاسَ جانِبا ، وتَيَسَّرْ لِما دَعَوْتَنِي إليْه من الحَرْب ، والصَّبرِ على الضَّرْبِ ، وأعْفِ الفَرِيْقَينِ من القِتالِ ، ليُعْلَمَ أيُّنا المَرينُ علَى قَلْبِه ، المُغَطَّى علَى بَصَرِهِ ، فأنَا أبُو الحَسَن ، قاتِل جَدِّكَ وأخِيْكَ وخَالِكَ ، وما أنْتَ مِنْهم ببَعِيدٍ ، والسَّلامُ » . (1)
70كتابه عليه السلام إلى معاوية« أمَّا بَعْدُ ، فطَالَ ما دَعوْتَ أنْتَ وأوْلياؤُك أوْلِياءُ الشَّيْطان ِ الحقَّ أساطِيرَ ، ونَبَذْتُمُوه وَراءَ ظُهُورِكم، وحَاوَلْتُم إطفاءَه بأفْواهِكُم، « وَيَأْبَى اللَّهُ إِلآَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ و وَلَوْ كَرِهَ الْكَ_فِرُونَ» (2) . ولَعَمْرِي لَيُنْفذَنَّ العلِمُ فيْكَ ، ولَيتِمَّنَّ النُّورُ بصِغَرِك وقَماءَتِك ، ولَتُخْسأنَّ طَرِيدا مدحورا ، أوْ قَتِيلاً مَثْبورا ، ولَتُجزَيَنَّ بعَمَلِك حَيْثُ لا ناصِرَ لَكَ ، ولا مُصَرِخَ عِنْدكَ ، وقد أسْهَبْتَ في ذِكْر عثمان ، ولَعَمْرِي ما قَتَلَه غَيْرُك ، ولا خَذَلَه سِواك ، ولقد تَرَبَّصْتَ بهِ الدَّوائِرَ ، وتَمَنَّيتَ له الأمانيَّ طَمَعا فِيما ظَهَر مِنْكَ ، ودَلَّ علَيْه فِعْلُك ، وإنِّي لأرجو أنْ أُلْحِقَكَ بِهِ على أعْظَمَ من ذَنْبهِ ، وأكْبَرَ مِن خَطِيئَتِهِ . فأنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب صاحِبُ السَّيْفِ ، وإنَّ قائمَهُ لَفِي يَدِي ، وقد عَلِمْتَ مَن قَتَلْتُ بهِ مِن صَنادِيدِ بَنِي عَبْدِ شَمْس ٍ ، وفَراعِنَةِ بَنِي سَهْم ٍ وجُمَح ، وبَنِي مَخْزُوم ، وأيْتَمْتُ أبْناءَهُم ، وأيَّمْتُ نِساءَهم ، وأُذَكِّرُك ما لَسْتَ لَه ناسِيا يوم قَتَلْتُ أخاكَ حَنْظَلَةَ ، وجَرَرْتُ بِرِجْلِهِ إلى القَلِيبِ ، وأسَرْتُ أخاكَ عَمْرا ، فجَعَلْتُ عُنُقَهُ بيْنَ ساقَيْهِ رِباطا ، وطَلَبْتُكَ فَفَرَرْتَ ولَكَ حُصاصٌ ، فلوْلا أنِّي لا أتْبَعُ فارَّا لَجَعَلْتُكَ ثالِثَهُما ، وأنا أُوْلِي لَكَ باللّه ِ أليَّةً بَرَّةً غَيْرَ فاجِرَةٍ ، لئِن جَمَعَتْني وإيَّاك جوامِعُ الأقْدار ، لأتْرُكنَّك مَثَلاً يَتَمَثَّلُ بِهِ النَّاسُ أبَدا ، ولأُجَعْجِعَنَّ بِكَ في مَناخِكَ ، حَتَّى يَحْكُمَ اللّه بَيْني وبيْنَكَ ، وهو خَيْرُ الحاكِمين . ولئِن أنْسَأَ اللّه ُ في أجَلِي قليلاً لأغْزِيَنَّكَ سَرايا المُسلِمينَ ، ولأَنْهَدَنَّ إليْك في جَحْفَلٍ مِن المهاجرين والأنصار ، ثُمَّ لا أقْبَلُ لَكَ مَعْذِرةً ولا شَفاعَةً ، ولا أُجِيبُكَ إلى طَلَبٍ وسؤالٍ ، ولَتَرجِعنَّ إلى تحَيُّرِكَ وتَرَدُّدِكَ وتَلَدُّدِكَ فَقَدْ شاهَدْتَ وأبْصَرتَ ، ورَأيْتَ سُحُبَ المَوْتِ كَيْفَ هَطَلَتْ عَلَيكَ بصَيِّبِها، حَتَّى اعْتَصَمْتَ بكتابٍ أنْتَ وأبوك أوَّلُ مَن كَفَر وكَذَّب بنُزُولِهِ ، ولَقَد كنْتُ تَفَرَّسْتُها وآذَنْتُك إنَّك فاعِلُها وقَد مَضى منها ما مَضى ، وانْقَضَى مِن كَيْدِك فيها ما انْقَضى ، وأنَا سائِرٌ نحْوَكَ علَى أثَرِ هذا الكِتاب . فاخْتَر لِنَفسِكَ وانْظر لَها ، وتَدارَكْها ، فإنَّك إنْ فَطِرْتَ واسْتَمْرَرتَ علَى غَيِّك وغُلَوائِك حَتَّى يَنْهَد إليْكَ عِبادُ اللّه ِ ، أُرْتِجَتْ عليْك الأمور ، ومُنِعْتَ أمْرا هو اليَوْمَ مِنْكَ مقْبولٌ . يا بن حَرْبٍ ، إنَّ لِجاجَكَ في مُنازَعَةِ الأمْرِ أهْلَهُ مِن سِفاهِ الرَّأي ، فلا يُطْمِعنَّك أهلُ الضَّلال ، ولا يُوبِقنَّك سَفَهُ رَأي الجُهَّالِ . فَوَ الَّذِي نَفْسُ عليٍّ بيَدِهِ لَئِن بَرَقَتْ في وَجْهك بارقَةٌ من ذِي الفَقار ، لَتُصْعَقَنَّ صَعْقَةً لا تُفِيقُ منْها حَتَّى يَنْفَخَ في الصُّور ، النَّفخةَ الَّتي يَئِستَ مِنْها « كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَ_بِ الْقُبُورِ » (3) » . (4)
.
ص: 295
. .
ص: 296
71كتابه عليه السلام إلى عبْد اللّه بن عامِر« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد اللّه علي ّ أمير المونين إلى عبد اللّه بن عامر : أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ خير النَّاس عند اللّه عز و جل أقومُهم للّه ِ بالطاعَةِ فيما لَهُ وعلَيهِ ، وأقْولُهُم بالحَقِّ ولو كانَ مُرَّا ، فإنَّ الحَقَّ بِهِ قامَتِ السَّماواتُ والأرضُ ، ولتَكُنْ سَرِيرَتُكَ كعلانِيَتِكَ ، ولِيَكُن حُكمُكَ واحدا ، وطريقَتُكَ مُستقيمةً ؛ فإنَّ البَصرةَ مَهبِطُ الشَّيطانِ ، فلا تَفْتَحَنَّ علَى يَدِ أحَدٍ مِنهُم بَابا لا نُطِيقُ سدَّهُ نَحنُ ولا أنتَ ، والسَّلام . » (1) [ أقول : عبد اللّه بن عامر هذا، إن كان هو عبد اللّه بن عامر بن كريز ، ابن خال عثمان ، عامل عثمان على البصرة ، وقد قُتِل عثمان وهو عليها، ومن الممكن أن يكتب إليه الإمام عليه السلام بعد ذلك وقبل عزله . ولكنَّ ظاهر كلام نَصْر ، أنَّ هذا الكتاب كان بعد وقعة الجمل ، حين كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمَّاله ، فلقي طَلْحَة والزُّبَيْر ورجع معهما إلى البصرة فلا مجال لِأن يكتب عليه السلام إليه ، مع أنَّ مضمون الكتاب لا يناسب عبد اللّه . وإن كان عبد اللّه غيره فلم أعثر عليه ، والَّذي أظنّ أن عبد اللّه بن عامر تصحيف ، والصَّحيح عبد اللّه بن العبَّاس ، والظَّاهر أنَّه خطأ النُّسَّاخ أو سهو الرُّواة ، والصَّواب : إلى عبد اللّه بن عبَّاس ، إذ لم يولّ أميرُ المؤمنين عليه السلام عبد اللّه بن عامر ساعةً ، بل ولا آنا على البصرة ، بل عزله وجميع عمَّال عثمان .الخ . (2) ]
.
ص: 297
72كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفةلمَّا ظَهَر علَى القَوْم بالبَصرة ، كَتَب بالفَتح إلى أهْل الكوفة :« بِسمِ اللّه ِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ مِن عَبْدِ اللّه ِ علَي ٍّ أميْرِ الموِنين َ إلى أهْلِ الكُوفَة ِ : سَلامٌ علَيْكُم ، فإنِّي أحْمَدُ إلَيْكُمُ اللّه َ الَّذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ . أمَّا بَعْدُ ، فإنَّ اللّه َ حَكَمٌ عَدْلٌ لا يُغَيِّرُ ما بقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرِوا ما بأنْفُسِهم ، وإذا أرادَ اللّه ُ بقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وما لَهُم مِن دُوْنِهِ مِن وَالٍ . أخْبِرُكُم عَنَّا وعَمَّن سِرنا إليْهِ مِن جُمُوعِ أهلِ البَصرَة ِ ، ومَن تَأَشَّبَ إليْهِم مِن قُرَيْشٍ وغَيْرِهِم مع طَلْحَة والزُّبَيْر ، ونَكثِهم صَفْقةَ أيْمانِهم ، فنَهضْتُ من المدِينة ِ حِيْنَ انْتَهَى إليَّ خَبرُ مَن سَارَ إليْها وجَماعَتِها ، وما صنعوا بعامِلي عُثمانَ بنِ حُنَيِف ٍ ، حتَّى قدمت ذا قَار ٍ ، فبَعثْتُ الحسنَ بْنَ علي ٍّ ، وعَمَّارَ بنَ ياسِر ، وقَيْسَ بنَ سَعْد ، فاسْتنْفرتُكُم بِحَقِّ اللّه ِ وحَقِّ رَسُولِهِ وَحَقِّي ، فأقْبلَ إليَّ إخوانُكُم سِراعا حتَّى قَدِموا علَيَّ ، فَسِرتُ بهم حَتَّى نَزَلتُ ظَهْرَ البَصرةِ ، فأعْذرتُ بالدُّعاء ، وقُمتُ بالحُجَّةِ ، وأقَلْتُ العَثرةَ والزِّلَّةَ مِن أهْلِ الرَّدَّةِ من قُريشٍ وغَيْرِهم ، واسْتتْبتُهُم من نَكثِهم بَيْعتِي وعَهْد اللّه عليْهم ، فأبَوْا إلاَّ قِتالي وقِتالَ مَن مَعِي ، والتَّمادي في البَغْي ، فَنَاهَضتُهم بالجهاد ، فَقَتلَ اللّه مَن قَتَلَ منْهم نَاكِثا ، ووَلَّى مَن ولَّى إلى مِصرِهِم ، وقُتِل طَلْحَة ُ والزُّبَيْرُ على نَكْثِهما وشِقاقِهِما ، وكانَتِ المرأةُ علَيْهم أشأَمَ من نَاقَةِ الحِجر ، فخُذِلُوا وأُدْبِروا وتقطّعتْ بهم الأسْباب ، فلمَّا رأوْا ما حلَّ بِهِم سَألونِي العَفوَ ، فقَبلْتُ مِنْهم ، وغَمَدتُ السَّيفَ عَنْهُم ، وأجريتُ الحقَّ والسُنَّةَ بيْنَهم ، واسْتعملْتُ عبْدَ اللّه بن العبَّاس علَى البَصرة ، وأنَا سَائِرٌ إلَى الكُوفَةِ ، إنْ شَاءَ اللّه ُ ، وقَد بعثتُ إليْكم زَحْرَ بنَ قَيْسٍ الجُعْفِي ّ ، لِتَسألوهُ فيُخْبِرَكُم عَنَّا وعنهُم ، وردَّهُم الحقَّ علَيْنا ، وردَّ اللّه ِ لَهُم وهُم كارِهونَ ، والسَّلامُ عليْكُم ورَحْمةُ اللّه ِ وبَرَكاتُهُ » . (1)
.
ص: 298
73كتابه عليه السلام إلى مروان[ جمع معاوية النَّاس . . . ] حَتَّى نزل بأوّل منزل من دمشق ، فضرب عسكره هنالِكَ لكي تتلاحق به النَّاس، وكتب مَروان إلى علي ٍّ رضى الله عنهأبياتا من الشِّعر يقول مطلعها : نسير إلى أهل العِراق وأنَّنالَنعلَمُ ما في السَّيرِ مِن شَرَفِ القَتلِ فلمَّا ورد هذا الشِّعرُ عَلى أهلِ العِراق ، عَلِمَ علي ٌّ وأصحابُه بأنَّ مُعاويِةَ فَصَلَ من دمِشقَ إلى ما قبله ، فقال للنَّجاشيّ بن الحارث : « أجب مروان على شعره هذا » ؛ فأجابه النَّجاشي وهو يقول شعرا مطلعها : نَسيرُ إليكُمْ بالقَبائِلِ والقَناوإن كانَ فيما بَينَنا شَرَفُ القَتْلِ (1)
.
ص: 299
74كتابه عليه السلام إلى معاويةقال ابن قُتَيْبَة في الإمامة والسِّياسة ، بعد نقله كتاب معاوية الآتي : فأجابه علي ّ :« أمَّا بعدُ ، فَقدِّرِ الأُمورَ تَقديرَ مَن يَنظُرُ لِنَفسِهِ دُونَ جُندٍ ، ولا يشْتَغِلُ بالهَزْلِ مِن قَولِهِ ، فلعَمري لَئِنْ كانَت قُوَّتي بأَهلِ العِراقِ ، أوْثَقُ عِندي مِن قُوَّتي باللّه ِ ومَعرِفَتي بهِ ، فلَيسَ عِندَهُ باللّه ِ تَعالَى يَقينٌ مَنْ كانَ علَى هذا . فناجِ نفسَكَ مُناجاةَ مَنْ يَستَغنِي بالجِدِّ دُونَ الهَزْلِ ، فإنَّ في القَول سِعَةً ، ولَن يُعذَرَ مِثلُكَ فيما طَمَحَ إليهِ الرِّجالُ . وأمَّا ما ذَكرتَ مِن أنَّا كُنَّا وإيَّاكُم يَدا جامِعَةً ، فَكُنَّا كَما ذَكَرْتَ ، فَفرَّقُ بيننا وبَينَكُم أنَّ اللّه َ بَعَثَ رَسُولَه مِنَّا ، فآمنَّا به وكَفَرتُم . ثُمَّ زَعمْتَ أنِّي قَتلتُ طَلْحَة َ والزُّبَيْرَ ، فَذلِكَ أمرٌ غِبتَ عَنهُ ولم تَحضَرْهُ ، ولو حَضَرْتَهُ لَعِلمتَهُ ، فلا عَليكَ ، ولا العذرُ فيهِ إليكَ ، وزَعَمْتَ أنَّكَ زائرِي في المُهاجرينَ ، وقَدِ انقطَعَتِ الهِجرَةُ حينَ أُسِرَ أخوكَ ، فإنْ يكُ فِيكَ عَجَلٌ فاستَرفِه (1) ، وإنْ أزرك فجديرٌ أنْ يكونَ اللّه ُ بَعثنِي عَليكَ للنَقِمَةِ مِنكَ ، والسَّلامُ . »
[ نصّ كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، والَّذي كان هذا الكتاب جوابا له : ] سلام اللّه على من اتَّبع الهُدى ، أمَّا بعدُ ، فإنَّا كنَّا نَحنُ وإيَّاكُم يَدا جامِعَةً ، وأُلفَةً أليفةً ، حَتَّى طَمعتَ يابَن أبي طالِب فتغيَّرتَ ، وأصبحت تُعِدُّ نفسَكَ قَوِيّا على مَن عادَاكَ ، بطغامِ أهلِ الحِجاز ِ ، وأوباشِ أهلِ العِراق ِ ، وحَمْقى الفُسطاطِ ، وغَوغَاءِ السَّوادِ ، وأيمُ اللّه ، لَينجَلِيَنَّ عنك حمقاها ، وليَنقَشِعَنَّ عَنكَ غَوغاوا انقشاع السحاب عن السَّماء . قتلتَ عُثمانَ بن عَفَّانَ ، ورَقَيتَ سُلَّما ، أطْلَعكَ اللّه ُ علَيهِ مَطْلعَ سُوءٍ علَيكَ لا لَكَ . وقَتَلتَ الزُّبَيْرَ وطَلْحَة َ ، وشَرَّدْتَ بأُمّكَ عائِشَةَ ، ونَزَلْتَ بَينَ المِصرَين ، فَمَنَّيتَ وتَمَنَّيْتَ ، وخُيِّل لَكَ أنَّ الدُّنيا قَدْ سُخِّرَت لَكَ بِخَيلِها ورِجلِها ، وإنَّما تَعرِفُ أُمنِيَّتَكَ لَو قَد زُرْتُكَ في المُهاجِرينَ مِن أهلِ الشَّام ِ بَقِيَّةِ الإسلامِ ، فَيُحيطُونَ بِكَ مِن وَرائِكَ ، ثُمَّ يَقضي اللّه ُ عِلْمَهُ فِيكَ ، والسَّلامُ على أولياءِ اللّه ِ . (2)
.
ص: 300
75كتابه عليه السلام إلى معاوية« أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا ، وابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ، ولَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا ، ولابِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا ، وإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَى بِهَا ، وقَدِ ابْتَلانِي اللّه ُ بِكَ وابْتَلاكَ بِي ، فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الآخَرِ ، فَعَدَوْتَ عَلَى الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآن ِ ، فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي ولالِسَانِي ، وعَصَيْتَهُ أَنْتَ وأَهْلُ الشَّام ِ بِي ، وأَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ ، وقَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ ، فَاتَّقِ اللّه َ فِي نَفْسِكَ ، ونَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ ، واصْرِفْ إِلَى الآخِرَةِ وَجْهَكَ ، فَهِيَ طَرِيقُنَا وطَرِيقُكَ ، واحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللّه ُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ الأَصْلَ وتَقْطَعُ الدَّابِرَ ، فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللَّهِ أَلِيَّةً (1) غَيْرَ فَاجِرَةٍ ، لَئِنْ جَمَعَتْنِي وإِيَّاكَ جَوَامِعُ الأَقْدَارِ ، لا أَزَالُ بِبَاحَتِكَ حَتّى يَحْكُمَ اللّه ُ بَيْنَنا ، وهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ( و السَّلام ) » . (2)
.
ص: 301
76كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا عن كتاب منه :« وأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لأُعْطِيَك َ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ . وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَب َ إلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ ، أَ لا ومَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ ، فَإلَى الْجَنَّة ، ومَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإلَى النَّارِ . وأَمَّا اسْتِوَاونَا فِي الْحَرْبِ والرِّجَالِ ، فَلَسْتَ بِأَمْضَى علَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ ، ولَيْسَ أَهْلُ الشَّام ِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ الْعِرَاق ِ عَلَى الآخِرَةِ . وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف ٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ ، ولَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّة ُ كَهَاشِم ٍ ، ولا حَرْب ٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِب ِ ، ولا أَبُو سُفْيَان َ كَأَبِي طَالِب ٍ ولا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ ، ولا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ ، ولا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ ، ولا الْمُومِنُ كَالْمُدْغِلِ ، ولَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفا هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ ! وفِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ ، ونَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ ، ولَمَّا أَدْخَلَ اللّه الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجا ، وأَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الأُمَّةُ طَوْعا وكَرْها ، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وإِمَّا رَهْبَةً ، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ ، وذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ ، فَلا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيبا ، ولا عَلَى نَفْسكَ سَبِيلاً ، والسَّلامُ » . (1)
.
ص: 302
77كتابه عليه السلام إلى معاوية« أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ آنَ لَك أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِن عِيَانِ الأُمُورِ ، فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلافِك بِادِّعَائِك الأَبَاطِيلَ ، واقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ والأَكَاذِيبِ ، وبِانْتِحَالِك مَا قَدْ عَلا عَنْكَ ، وابْتِزَازِك لِمَا قَدِ اخْتُزِنَ دُونَك فِرَارا مِنَ الْحَقِّ ، وجُحُودا لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَك مِنْ لَحْمِك ودَمِك ، مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُك ، ومُلِئَ بِهِ صَدْرُك ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاّ الضَّلالُ الْمُبِينُ ، وبَعْدَ الْبَيَانِ إلاّ اللَّبْسُ ؟ ! فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ واشْتِمَالَهَا علَى لُبْسَتِهَا ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلابِيبَهَا ، وأَغْشَتِ الأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا ، وقَدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْك ذُو أَفَانِينَ مِنَ الْقَوْلِ ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْم ، وأسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا مِنْك عِلْمٌ ولا حِلْمٌ ، أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ (1) ، والْخَابِطِ فِي الدِّيمَاسِ (2) ، وتَرَقَّيْتَ إلَى مَرْقَبَةٍ بَعِيدَةِ الْمَرَامِ ، نَازِحَةِ الأَعْلامِ ، تَقْصُرُ دُونَهَا الأَنُوقُ (3) ، ويُحَاذَى بِهَا الْعَيُّوقُ (4) ! وحَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدِي صَدْرا أَوْ وِرْدا ، أَوْ أُجْرِيَ لَك عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ عَقْدا أَوْ عَهْدا ، فَمِنَ الآنَ فَتَدَارَك نَفْسَك وانْظُرْ لَهَا ، فَإِنَّك إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّى يَنْهَدَ إِلَيْك عِبَادُ اللّه أُرْتِجَتْ عَلَيْك الأُمُورُ ، ومُنِعْتَ أَمْرا هُوَ مِنْك الْيَوْمَ مَقْبُولٌ ، والسَّلامُ » . (5)
.
ص: 303
78كتابه عليه السلام إلى معاوية« أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي عَلَى التَّرَدُّدِ فِي جَوَابِك ، والاسْتِمَاعِ إلَى كِتَابِك لَمُوَهِّنٌ رَأْيِي ، ومُخَطِّئٌ فِرَاسَتِي ، وإنَّك إِذْ تُحَاوِلُنِي الأُمُورَ ، وتُرَاجِعُنِي السُّطُورَ ، كَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ تَكْذِبُهُ أَحْلامُهُ ، والْمُتَحَيِّرِ الْقَائِمِ يَبْهَظُهُ مَقَامُهُ ، لا يَدْرِي أَ لَهُ مَا يَأْتِي أَمْ عَلَيْهِ ، ولَسْتَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِيهٌ . وأُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْلا بَعْضُ الاسْتِبْقَاءِ لَوَصَلَتْ إِلَيْك مِنِّي قَوَارِعُ تَقْرَعُ الْعَظْمَ ، وتَهْلِسُ اللَّحْمَ . واعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَك عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِك ، وتَأْذَنَ لِمَقَالِ نَصِيحَتِك ، والسَّلامُ لأَهْلِهِ » (1)
79كتابه عليه السلام إلى معاوية« أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا ، ولَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئا ، إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصا عَلَيْهَا ولَهَجا بِهَا ، ولَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا ، ومِنْ وَرَاءِ ذَلِك فِرَاقُ مَا جَمَعَ ، ونَقْضُ مَا أَبْرَمَ ، ولَو اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِي ، السَّلامُ » . (2)
.
ص: 304
80كتابه عليه السلام إلى أهل البصرة« وقَدْ كَانَ مِن انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وشِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ ، فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ ، ورَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ ، وقَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ ، فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ الأُمُورُ الْمُرْدِيَةُ ، وسَفَهُ الارَاءِ الْجَائِرَةِ ، إلَى مُنَابَذَتِي وخِلافِي ، فَهَا أَنَا ذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي ، ورَحَلْتُ رِكَابِي ، ولَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ ، لأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لا يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَل ِ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ لاعِقٍ ، مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ ، ولِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ ، غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَما إلَى بَرِيٍّ ، ولا نَاكِثا إلَى وَفِيٍّ » . (1)
81كتابه عليه السلام إلى عَمْرو بن العاص« فإنَّك قَدْ جَعَلْتَ دِينَك تَبَعا لدُّنيا امْرِئٍ ظَاهِرٍ غَيُّهُ، مَهْتُوك ٍ سِتْرُهُ، يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ، ويُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِه ، فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ ، وطَلَبْتَ فَضْلَهُ ، اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَام يَلُوذُ بِمَخَالِبِه ، ويَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِن فَضْلِ فَرِيسَتِهِ ، فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاك وآخِرَتَك ولَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ ، فإنْ يُمَكِّنِّي اللّه منْك ومِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا، وإِنْ تُعْجِزَا وتَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌّ لَكُمَا، والسَّلامُ». (2)
.
ص: 305
82كتابه عليه السلام إلى معاويةالحسيْن بْن عبْد اللّه السَّكيني : عن أبي سعيد البَجَلِيّ ( النَّحليّ ) ، عن عبْد الملك بْن هارون ، عن أبي عبْد اللّه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام ، قال :لمَّا بلَغَ أميرَ المؤمِنِين عليه السلام أمْرُ معاوِيَةَ ، وأنَّه في مئة ألف ، قال : مِن أيِّ القوْمِ ؟ قالوا : مِن أهْل الشَّام ، قال عليه السلام : لا تَقولوا : من أهلِ الشَّامِ ، ولكن قُولُوا : مِن أهْلِ الشُّؤمِ ، هُم مِن أبْناء مُضر ، لُعِنوا على لِسانِ داوود َ ، فجَعَل اللّه ُ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ » ، ثُمَّ كتَب عليه السلام إلى معاوية : « لا تَقْتُلِ النَّاسَ بَيْنِي وبَيْنَكَ ، و ( لكِن ) هَلمَّ إلى المُبارَزَةِ ، فإنْ أنَا قَتلتُكَ فإلى النَّار أنْتَ ، وتَسْتَريْحُ النَّاسُ منْكَ ومِن ضَلالَتِكَ ، وإن قَتَلتَنِي فأَنَا إلى الْجَنَّة ، ويُغْمدُ عَنْك السَّيفُ الَّذِي لا يَسعنِي غَمدَهُ حَتَّى أردَّ مَكْرَكَ وبِدعَتكَ . وأَنَا الَّذِي ذَكَر اللّه ُ اسْمَهُ في التَّوْرَاةِ والإنْجِيلِ بِمُوازَنَةِ رَسُوُلِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وأنَا أوَّلُ مَن بايَعَ رَسوُلَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله تَحْتَ الشَّجَرَةِ فِي قولِهِ : « لَّقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ » (1) » . (2)
.
ص: 306
83كتابه عليه السلام إلى معاوية« فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا ، واجْتِيَاحَ أَصْلِنَا ، وهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ ، وفَعَلُوا بِنَا الأَفَاعِيلَ ، ومَنَعُونَا الْعَذْبَ ، وأَحْلَسُونَا الْخَوْفَ ، واضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ ، وأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ ، فَعَزَمَ اللّه لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ ، والرَّمْيِ مِن وَرَاءِ حُرْمَتِهِ . مُومِنُنَا يَبْغِي بِذَلِك الأَجْرَ ، وكَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الأَصْلِ ، ومَنْ أَسْلَمَ مِن قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ ، أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ ، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ . وكَانَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وأَحْجَمَ النَّاسُ ، قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ والأَسِنَّةِ ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بن الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْر ٍ ، وقُتِلَ حَمْزَة ُ يَوْمَ أُحُد ٍ ، وقُتِلَ جَعْفَر ٌ يَوْمَ مُوتَة َ . وأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ ، ولَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ ، ومَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ ، فَيَا عَجَبا لِلدَّهْرِ ، إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي ، ولَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتي لا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لا أَعْرِفُهُ ، ولا أَظُنُّ اللّه يَعْرِفُهُ ، والْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ . وأَمَّا مَا سَأَلْتَ مِن دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْك ، فإنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْك ، ولا إِلَى غَيْرِك ، ولَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تنْزِعْ عَنْ غَيِّك وشِقَاقِك ، لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَك ، لا يُكَلِّفُونَك طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ ولا بَحْرٍ ، ولا جَبَلٍ ولا سَهْلٍ ، إِلاَّ أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوؤك وِجْدَانُهُ ، وزَوْرٌ لا يَسُرُّك لُقْيَانُهُ ، والسَّلامُ لأَهْلِهِ » . (1)
.
ص: 307
84كتابه عليه السلام إلى معاوية« أمَّا بَعدُ ؛ فَقدْ قَرأتُ كِتابَكَ فَكَثُر ما يُعجِبُني مِمَّا خَطَّتْ فيهِ يَدُكَ ، وأطنَبتَ فيهِ مِن كَلامِكَ ، ومن البَلاءِ العَظيمِ ، والخَطبِ الجَليلِ على هذهِ الأُمَّةِ ، أن يكونَ مِثلُكَ يَتَكلّمُ ، أو يَنظُرُ في عَامَّةِ أمرِهِم ، أو خاصَّتِهِ وأنتَ مَن تَعلَمُ ، وابنُ مَن قَد عَلِمتَ ، وأنا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ ، وابنُ مَن تَعلَمُ . وسأُجيبُكَ فيما قَد كَتبْتَ بِجَوابٍ لا أظنُّكَ تَعقِلُهُ أنتَ ، ولا وَزِيرُكَ ابنُ النَّابِغَة ِ عَمْرو ، المُوافِقُ لَكَ كَما وافَقَ شَنٌّ طَبَقة ، فإنَّهُ هُوَ الَّذي أمرَكَ بِهذا الكِتَابِ ، وزيَّنَهُ لَكَ ، أو حَضَرَكُما فيهِ إبليسُ ومَرَدَةُ أصحابِهِ _ وفي رواية أخرى : ومَرَدَةُ أبالِسَتِهِ _. وإنَّ رسول (1) صلى الله عليه و آله قَد كانَ خَبَّرني أنَّهُ رأى علَى مِنبَرِهِ إثني عَشَرَ رَجُلاً أئمَّةَ ضَلالَةٍ مِن قُريشٍ ، يَصعَدُون علَى مِنبرِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، ويَنزِلُونَ علَى صُورَةِ القُرودِ ، يَرُدُّونَ أُمَّتَهُ علَى أدبارِهِم عَن الصِّراطِ المُستقيم . اللَّهمَّ وقد خبَّرني بأسمائهم رَجُلاً رَجُلاً ، وكَم يَملِكُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُم، واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ ، عَشَرَةٌ مِنهُم من بَني أُميَّة َ ، ورَجُلَينِ مِن حَيَّينِ مُختَلِفَينِ مِن قُريْشٍ ، عَلَيهِما مِثلُ أوزَارِ الأمَّةِ جَميعا إلى يَوْمِ القِيامَةِ ، ومِثلُ جَميعِ عَذابِهِم ، فليس دَمٌ يُهراقُ في غَيرِ حَقِّهِ ، ولا فَرْجٍ يُغشَى ، ولا حُكمٍ بِغَيرِ حَقٍّ ، إلاّ كانَ عَلَيهِما وُزرَهُ . وسمعته يقول : إنَّ بني أبي العاص إذا بلَغوا ثَلاثِينَ رَجُلاً جَعَلوا كِتابَ اللّه ِ دَخَلاً ، وعبادَ اللّه ِ خَوَلاً ، ومالَ اللّه ِ دُوَلاً . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يا أخي إنَّكَ لَسْتَ كَمِثلي ، إنَّ اللّه َ أمرنِي أنْ أصدَعَ بالحَقِّ . وأخبرني أنَّه يَعصِمُني مِنَ النَّاسِ ، فأمَرَني أنْ أُجاهِدَ ولَو بِنَفسي ، فقال : « فَقَ_تِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ » (2) وقال : « حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ » (3) ، وقَد مَكَثْتُ بِمَكَّة َ ما مَكَثْتُ لم أُؤمَر بقتالٍ ، ثُمَّ أَمَرني بالقِتالِ ، لِأ نَّهُ لا يُعرَفُ الدِّين إلاَّ بي ، ولا الشَّرايِعُ ، ولا السُّنَنُ والأحكام والحدود والحلال والحرام ، وإنَّ النّاسَ يَدَعُونَ بَعدِي ما أمرَهُم اللّه ُ بهِ ، وما أمَرَهُم فِيكَ مِن وِلايَتِكَ ، وما أظهَرتُ مِن مَحَبَّتِكَ متعمِّدين غَيرَ جاهِلينَ ، مُخالَفَةً لِما أنزَلَ اللّه ُ فِيكَ ، فإن وَجدتَ أعوانا علَيهِم فَجاهِدهُم ، فإن لم تجدْ أعوانا فاكفُفْ يَدَكَ ، واحقِنْ دَمَكَ ، فإنَّك إن نابَذتَهم قَتلُوكَ ، وإن تابَعُوكَ وأطاعُوكَ فاحمِلْهُم على الحَقِّ ، وإلاّ فادعُ النَّاسَ ، فإن استجابُوا لَكَ ووازَرُوكَ فَنابِذْهُم وجاهِدْهُم ، وإنْ لَم تَجِدْ أعوانا فاكفُفْ يَدَكَ واحقِنْ دَمَكَ . واعلَم أنَّكَ إنْ دَعَوْتَهم لم يَستَجِيبُوا لَكَ ، فَلا تَدَعَنَّ عَن أنْ تَجعَلَ الحُجَّةَ علَيهِم ، إنَّكَ يا أخي لَستَ مثلي ، إنِّي قد أَقمْتُ حُجَّتَكَ ، وأظهرتُ لَهُم ما أنزَلَ اللّه ُ فِيكَ ، وإنَّهُ لم يُعلَم أنِّي رَسولُ اللّه ِ ، وأنَّ حَقِّي وطاعَتي واجِبانِ حَتَّى أظهرتُ ذلِكَ ، وأمّا أنتَ فإنِّي كُنتُ قَد أظهَرتُ حُجَّتَكَ ، وقُمتُ بأمْرِكَ ، فإن سَكتَّ عنهم لم تأثَمْ غير أنَّه أحبُّ أن تَدعُوهُم ، وإنْ لَم يستجيبوا لَكَ ، ولَم يقبَلُوا مِنكَ، وتَظاهَرَتْ علَيكَ ظَلَمَةُ قُريشٍ فَدَعْهُم ، فإنِّي أخافُ علَيكَ إن ناهَضتَ القومَ ، ونابَذْتَهم ، وجاهَدتهم، مِن غَيرِ أنْ يَكُونَ مَعَكَ فِئَةٌ تَقْوى بِهِم أنْ يَقْتُلُوكَ ، والتَّقِيَّةُ مِن دينِ اللّه ِ ، ولا دِينَ لِمَن لا تَقِيَّةَ لَهُ . وإنَّ اللّه َ قَضَى الاختِلافَ ، والفُرقَةَ على هذهِ الأُمَّةِ ، ولَو شاءَ لَجَمَعَهُم علَى الهُدى ، ولَم يَختَلِفْ إثنانِ مِنها ، ولا مِن خَلقِهِ ، ولَم يَتَنازَعْ في شَيءٍ مِن أمرِهِ ، ولَمْ يَجْحَدِ المَفضُولُ ذا الفَضْلِ فَضلَهُ ، ولَو شاءَ عَجَّل مِنهُ النِّقمَةَ ، وكانَ مِنهُ التَّغييرُ حِينَ يُكذَّبُ الظَّالِمُ ، ويعلَمُ الحقُّ أينَ مَصِيرُهُ ، واللّه ُ جَعَلَ الدُّنيا دارَ الأعْمالِ ، وجَعَلَ الآخِرَةَ دارَ الثَّوابِ والعِقابِ ، « لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَ__واْ بِمَا عَمِلُواْ وَ يَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى » (4) ، فَقُلتُ شُكرا للّه ِ علَى نَعمائِهِ ، وصَبْرا على بَلائِهِ ، وتسلِيما ورضِىً بِقَضائِهِ . ثُمَّ قال صلى الله عليه و آله : يا أخي ، أبشِرْ فَإنَّ حَياتَكَ ومَوتَكَ مَعِي ، وأنتَ أخِي ، وأنتَ وَصيّي ، وأنتَ وَزِيري ، وأنتَ وارِثي ، وأنتَ تُقاتِلُ علَى سُنَّتِي ، وأنت مِنِّي بِمَنزِلَةِ هارُون َ مِن مُوسى ، ولَكَ بِهارُونَ أُسْوةٌ حَسَنَةٌ ، إذ استَضعَفَهُ أهلُهُ ، وتَظاهَرُوا عَليهِ ، وكادوا يَقْتُلونَهُ ، فاصبِرْ لِظُلمِ قُرَيشٍ إيَّاكَ، وتَظاهُرَهُم عَليكَ ، فإنَّها ضَغائِنُ في صُدورِ قَومٍ لَهُم أحقادُ بَدر ٍ ، وتِراتُ أُحُد ٍ . وإنَّ مُوسى أمرَ هارُونَ حِينَ استَخلَفَهُ في قومِهِ ، إن ضَلُّوا فوجَدَ أعوانا أن يجاهِدَهُم بِهِم ، فإن لم يَجِدْ أعوانا أن يَكُفَّ يَدَه ويَحْقِنَ دَمَهُ ، ولا يُفَرِّقَ بَينَهُم فافْعَل أنتَ كَذلِكَ ، إن وَجَدتَ عَلَيهِم أعوانا فَجاهِدْهُم ، وإن لَم تجِدْ أعوانا فاكفُفْ يَدَكَ ، واحقِنْ دَمَكَ ، فإنَّكَ إنْ نابَذتَهُم قَتلُوكَ . واعلَم أنَّك إن لَم تَكُفَّ يَدَك وتَحقِنَ دَمَكَ ، إذا لَم تَجِدْ أعوانا تَخَوَّفتُ عَليكَ أن يَرجِعَ النَّاسُ إلى عِبادَةِ الأصنامِ ، والجُحُودِ بأنِّي رَسُولُ اللّه ِ ، فاستَظهِرْ بالحُجَّةِ عَليهِم ، ودَعهُم لِيَهْلِكَ النَّاصبونَ لَكَ والباغُونَ علَيكَ ، ويَسْلَمَ العَامَّةُ والخَاصَّةُ ، فإذا وجَدْتَ يَوما أعوانا على إقامَةِ كتابِ اللّه ِ والسُّنَّةِ ، فَقاتِلْ علَى تأويلِ القُرآنِ ، كما قاتَلْتَ علَى تَنْزيلِهِ ، فإنَّما يَهلِكُ مِنَ الأُمَّةِ مَن نصَبَ لَكَ ، أو لِأحَدٍ من أوصيائِكَ ، وعادَى وجَحَدَ ودانَ بِخِلافِ ما أنتمُ علَيهِ . ولعَمري يا مُعاوِيَة ُ ، لو تَرَحَّمتُ علَيكَ ، وعلَى طَلْحَة َ ، والزُّبَيْرِ ، كان تَرَحُّمِي علَيكُم ، واستِغْفاري لَكُم لعنةً علَيكُم وعذابا ، وما أنت وطَلْحَة ُ والزُّبيرُ ب أعظَمَ جُرْما ، ولا أصغَرَ ذَنْبا ، ولا أهوَنَ بِدعَةً وضَلاَلةً مِنَ الَّذِينَ أسَّسا لَكَ ولِصاحِبِكَ الَّذي تَطُلبُ بِدَمِهِ ، وَوَطَّئا لَكُما ظُلمَنا أهلَ البَيت ِ ، وحَمَلاكُم علَى رِقابِنا ، قالَ اللّه ُ تبارَكَ وتعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَ_بِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّ_غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَ_ؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ » (5) ، فَنَحنُ النَّاسُ ، ونَحنُ المَحسُودونَ ، قال اللّه ُ عز و جل : « فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَ هِيمَ الْكِتَ_بَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَ_هُم مُّلْكًا عَظِيمًا » (6) ، فالمُلكُ العَظِيمُ أن جَعَلَ مِنهُم أئمَّةً ، مَن أطاعَهُم أطاعَ اللّه َ ، ومَن عصاهُم عصَى اللّه َ ، والكتاب ، والحكمة ، والنُّبوة ، فَلِمَ يُقرُّونَ بِذلِكَ في آلِ إبراهِيم َ ، وينكرونه في آل محمَّد صلى الله عليه و آله . يا معاوية ُ ، فإن تَكْفُر بِها أنتَ وصاحِبُكَ ومَن قِبلَكَ مِن طَغَامِ أهلِ الشَّامِ واليَمَن ِ والأعْرَاب ِ ، أعراب رَبِيعَة َ ومُضَر َ جفاة الأُمَّة : فقد وكّل اللّه ُ بها قوما ليسوا بها بكافرين (7) . يا مُعاوِيَة ُ إنَّ القرآن حَقٌّ ، ونُورٌ ، وهُدىً ، ورَحمَةٌ ، وشِفاءٌ للمُؤمِنينَ ، والَّذِينَ لا يُؤمِنونَ في آذانِهِم وَقر، وهوَ عَلَيهِم عمى (8) . يا مُعاوِيَة ُ إنَّ اللّه َ لم يَدَعْ صِنفا من أصْنافِ الضَّلالَةِ والدُّعاةِ إلى النَّارِ ، إلاّ وقد رَدَّ عَلَيهِم ، واحْتَجَّ عَلَيهِم في القُرآن ِ ، ونهى عن اتِّباعِهِم ، وأنزَلَ فِيهِم قُرآنا ناطِقا ، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ، إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : ليسَ مِنَ القُرآن ِ آيَةٌ إلاّ ولَها ظَهْرٌ وبَطْنٌ ، ومَا مِن حَرْفٍ إلاّ ولَهُ تأويلٌ : « وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّ سِخُونَ فِى الْعِلْمِ » (9) . وفي رواية أخرى : « وما مِنْهُ حَرْفٌ إلاّ ولَهُ حَدٌّ مُطَّلِعٌ على ظَهْرِ القُرآن ِ وبَطنِهِ وتأويلِهِ : « وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّ سِخُونَ فِى الْعِلْمِ » ، الرَّاسخونَ في العِلْمِ ، نَحنُ آلَ مُحمَّد ٍ ، وأمرُ اللّه ِ سايِرُ الأُمَّةِ ، أن يقولُوا آمَنَّا بهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنا ، وما يَذَّكَرُ إلاّ أُولُو الألبابِ ، وأن يُسَلِّموا إليْنا ، ويَرُدُّوا الأمرَ إلينا ، وقَد قَالَ اللّه ُ : « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ » (10) ، هم الَّذِين يَسألونَ عَنهُ ويطلُبونَهُ . ولَعَمري لو أنَّ النَّاسَ حِينَ قُبِضَ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله سلَّموا لَنا ، واتّبعونا ، وقلّدُونا أُمورَهُم ، لأكلُوا من فَوقِهِم ومِنْ تَحْتِ أرجُلِهِم ، ولَما طَمِعْتَ أنتَ يا مُعاوِيَة ُ ، فَما فاتَهُم مِنَّا أكْثَرُ مِمَّا فاتَنا مِنهُم . ولقد أنزل اللّه فِيَّ وفِيكَ آياتٍ مِن سُورَةِ خاصَّةِ الأُمَّةِ يُؤَوّلونها علَى الظَّاهِرِ ، ولا يَعلَمونَ ما الباطِنُ ، وهِيَ في سُورَةِ الحَاقَّةِ : فأمَّا مَن أوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ . . . وأمَّا مَن أوتِيَ كِتابَهُ بِشمالِهِ . . . وذلِكَ أنَّهُ يُدعى (11) بكل إمام ضلالة ، وإمام هُدى ، ومع كلِّ واحد منهما أصحابُهُ ، الَّذِين بايعوه فيُدعى بِي وبِكَ . يا مُعاوِيَة ُ ، وأنْتَ صاحِبُ السِّلسِلَةِ الَّذي يقول : « يَ__لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَ_بِيَهْ * وَ لَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ » (12) ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله يقول ذلِكَ ، وكَذلِكَ كلُّ إمامِ ضَلالَةٍ كانَ قَبْلَكَ أو يَكُونُ بَعدَكَ ، لَهُ مِثلُ ذلِكَ مِن خِزي اللّه ِ وعَذابِهِ . ونزل فيكم قولُ اللّه ِ عز و جل : « وَ مَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَ_كَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ » (13) ، وذلِكَ إنَّ رَسُولَ اللّه ِ رأى إثني (14) عشر إماما من أئمَّةِ الضَّلالَةِ علَى مِنبَرِهِ ، يَردُّونَ النَّاسَ علَى أدبارِهِم القَهقَرى ، رَجُلان مِن قُرَيْشٍ ، وعَشَرَةٌ مِن بَني أُمَيَّةَ ، أوَّلُ العَشَرَةِ صاحِبُكَ الَّذي تَطلُبُ بِدَمِهِ ، وأَنتَ وابنُكَ وسَبْعَةٌ مِن وُلدِ الحَكَمِ بنِ أبي العاصِ ، أوَّلُهُم مَروَان ُ ، وقد لَعَنهُ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وطَردَهُ وما وَلَدَ ، حِينَ أسمع نبيّنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله (15) . إنِّا أهلُ بَيتٍ ، اختارَ اللّه ُ لَنا الآخِرَةَ علَى الدُّنيا ، ولَم يَرْضَ لَنا الدُّنيا ثَوابا ، وقد سَمِعْتَ رَسولَ اللّه ِ ، أنتَ ووزِيرُكَ وصُوَيْحِبُكَ يقولُ : إذا بلَغ بنو أبي العاص ِ ثَلاثِينَ رَجُلاً اتَّخذوا كِتابَ اللّه ِ دَخَلاً ، وعِبادَ اللّه ِ خَوَلاً ، ومالَ اللّه ِ دُوَلاً . يا مُعاوِيَة ُ ، إنَّ نبيَّ اللّه ِ زَكَرِيَّا نُشِرَ بالمِنشارِ ، ويَحْيَى ذُبِحَ وقَتَلهُ قَومُهُ ، وهو يَدعُوهُم إلى اللّه ِ عز و جل ، وذلِكَ لِهَوانِ الدُّنيا علَى اللّه ِ ، إنَّ أولياءَ الشَّيطانِ قَدْ حارَبُوا أولياءَ الرَّحمنِ ، قال اللّه : « إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِ_ايَ_تِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » (16) . يا مُعاوِيَة ُ ، إنَّ رسولَ اللّه ِ قد أخبرني أنَّ أمَّتَهُ سَيَخضِبُونَ لِحيَتي مِن دَمِ رَأسِي ، وأنِّي مُستَشْهَدٌ ، وسَتلِي الأُمَّةَ مِن بَعدِي ، وأنَّكَ ستَقتُلُ ابنيَ الحَسَنَ غَدْرا بالسُّمِّ ، وأنَّ ابنَكَ يَزيد َ لعنهُ اللّه سَيقتُلُ ابنِيَ الحُسين َ ، يَلِي ذلِكَ مِنهُ ابنُ زانِيَةٍ ، وأنَّ الأُمَّةَ سَيلِيها مِن بَعْدِكَ سَبعَةٌ مِن وُلدِ أبي العَاص ِ ، ووُلدِ مَروان بنِ الحَكَم ِ ، وخَمسَةٌ مِن وُلدِهِ تكمِلة إثني (17) عشرَ إماما . قَد رآهُم رَسولُ اللّه ِ يَتَواثَبونَ علَى مِنْبَرِهِ تَواثُبَ القِرَدَةِ ، يَردُّونَ أُمَّتَه عَن دينِ اللّه ِ على أدبارِهِم القَهقرى ، وأنَّهم أشدُّ النَّاسِ عَذابا يَومَ القيامَةِ ، وأنَّ اللّه َ سَيُخرِجُ الخِلافَةَ مِنهُم بِراياتٍ سُودٍ ، تُقبِلُ مِنَ المَشرِقِ يُذِلِّهُم اللّه ُ بِهِم ، ويَقتُلُهم تَحتَ كُلِّ حَجَرٍ . وأنَّ رَجُلاً مِن وُلدِكَ مَيشُومٌ ومَلعونٌ ، جِلْفٌ جافٍ ، مَنكوسُ القَلبِ ، فظٌّ غَلِيظٌ قاسٍ ، قَد نَزَعَ اللّه ُ مِن قَلبِهِ الرَّأفَةَ والرَّحمَةَ ، أخوالُهُ مِن كلبٍ . كأنِّي أنظرُ إليهِ ، ولو شِئتُ لسمَّيتُهُ ووَصفْتُهُ، وابنُ كَم هُوَ ، فَيبعَثُ جَيشا إلى المَدِينَة ِ فِيدخُلُونَها ، فَيُسرِفُونَ فيها فِي القتلِ والفَواحِشِ ، ويَهرَبُ مِنهُم رَجُلٌ من وُلدِي زكِيٌّ تَقِيٌّ الَّذي يملأ الأرضَ عَدْلاً وقِسْطا كَما مُلِئتْ ظُلْما وجَورا . وإنِّي لأعرف اسمَهُ وابنَ كَم هُو يومَئِذٍ ، وعلامَتُه ، وهُو مِن ولد ابني الحسين عليه السلام الَّذي يَقتُلُهُ ابنُكَ يَزيِد ُ ، وهُو الثَّائِرُ بِدَمِ أبيهِ فيهرَبُ إلى مَكَّة َ ، ويَقتُلُ صاحِبُ ذلِكَ الجَيشِ رَجُلاً مِن وُلدي زكِيّا بَرِيئا عِندَ أحجارِ الزَّيت ِ ، ثُمَّ يَصِيرُ ذلِكَ الجيشُ إلى مَكَّة َ ، وإنِّي لأعلَمُ اسمَ أميرِهِم ، وعُدَّتَهم ، وأسماءهم ، وسِمات خيولهم . فإذا دخلوا البيداء ، واستوت بِهِمُ الأرضُ خُسِفَ بِهِم قال اللّه عز و جل : « وَ لَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ » (18) ، قال : مِن تَحتِ أقدامِهِم ، فلا يبقى مِن ذلِكَ الجَيشُ أحدٌ غَيرُ رَجُلٍ واحِدٍ ، يَقْلِبُ اللّه ُ وجْهَهُ مِن قِبَلِ قَفاهُ ، ويبعَثُ اللّه ُ للمَهدي ّ أقواما يُجمَعُونَ مِن أطرافِ الأرضِ قَزْعٌ كَقَزْعِ الخَريفِ . واللّه ِ إنِّي لأعرِفُ أسماءهُم ، واسمَ أميرِهِم ، ومُناخَ رِكابِهِم فَيَدخُلُ المَهدِي ُّ الكَعبَة َ ، ويَبكِي ويَتضرَّعُ ، قال جلّ وعزّ : « أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ » (19) ، هذا لَنا خاصّةً أهلَ البَيت ِ . أما واللّه ِ يا مُعاوِيَة ُ ، لقد كَتبتُ إليكَ هذا الكِتابَ ، وإنِّي لأعلَمُ أنَّكَ لا تَنتَفِعُ بِهِ ، وأنَّك ستَفرَحُ إذا أخبَرتُكَ أنَّكَ سَتَلي الأمرَ وابنُكَ بَعدَكَ ، لِأنَّ الآخِرَةَ لَيستْ مِن بالِكَ ، وأنَّكَ بالآخرةِ لَمِنَ الكافِرينَ ، وسَتندَمُ كما نَدِمَ مَنْ أسّسَ هذا الأمر لَكَ ، وحَمَلَكَ علَى رِقابِنا حِينَ لَم تَنفَعْهُ النَّدامَةُ . ومِمَّا دعاني إلى الكِتابِ بِما كَتبتُ بِهِ ، إنِّي أمرْتُ كاتِبي أن يَنسَخَ ذلِكَ لِشِيعَتي وأصحابي ، لعلّ اللّه َ أن يَنفَعهُم بِذلِكَ ، أو يقرأه واحِدٌ مِن قِبَلَكَ فَخَرجَ اللّه ُ بهِ مِنَ الضَّلالَةِ إلى الهُدى ، ومِنْ ظُلْمِكَ ، وظلم أصحابِكَ ، وفِتنَتِكُم ، وأحببتُ أن أحتجّ عليك » .
.
ص: 308
. .
ص: 309
. .
ص: 310
. .
ص: 311
. .
ص: 312
. .
ص: 313
. .
ص: 314
فكتب إليه معاوية : هنيئا لَكَ يا أبا الحسن تَملُّكَ الآخِرَةَ ، وهنيئا لنا تَمَلُّكَ الدُّنيا . (1) [ هذا الكتاب لا يخلو عن الاضطراب في المتن والتكرار ، كما لا يخفى على من تدبّره ] .
.
ص: 315
الفصل الثالث : مكاتيبه من الكوفة إلى نهاية حرب صفّين
.
ص: 316
. .
ص: 317
85كتابه عليه السلام إلى معاويةكتابه عليه السلام إلى معاوية لمَّا أراد المسير إلى الشَّام . قال شيخ الطَّائفة ، محمَّد بن الحسن الطُّوسي رحمه الله ، عن الشَّيخ المفيد محمَّد بن محمَّد بن النُّعْمان رحمه الله ، عن أبي عبد اللّه محمَّد بن عِمْرَان المرزباني ، عن محمَّد بن موسى ، عن هِشام ، عن أبي مِخْنَف لوط بن يَحْيَى ، قال : حدَّثنا عبد اللّه بن عاصم ، قال : حدَّثنا جُبَيْر بن نوف ، قال : لمَّا أرادَ أمير المؤمنين عليه السلام المسير إلى الشَّام ، اجتمع إليه وجوه أصحابه ، فقالوا : لو كتبت يا أمير المؤمنين إلى معاوية وأصحابه قبل مسيرنا إليهم كتابا تدعوهم إلى الحقّ ، وتأمرهم بما لهم فيه الحظّ ، كانت الحجّة تزداد عليهم قوّة . فقال أمير المؤمنين عليه السلام لعبيد اللّه بن أبي رافع كاتبه : اكتب :« بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين ، إلى معاوية بن أبي سُفْيَان ومَن قِبَلَه من النَّاس ، سَلامٌ عليْكم . فإنِّي أحْمَدُ إليْكم اللّه الَّذِي لا إله إلاَّ هو . أمَّا بعدُ ، فإنَّ للّه ِ عِبادا آمَنوا بالتَّنْزيلِ وعَرَفوا التَّأْويلَ وفُقِّهوا في الدِّين ، وبيَّنَ اللّه ُ فضْلَهم في القُرآنِ الحَكيم ، وأنْتَ يا مُعاوِيَة ُ وأبوكَ وأهْلُكَ في ذلِكَ الزَّمانِ أعداءُ الرَّسولِ ، مُكَذِّبونَ بالكتابِ ، مُجْمِعونَ على حَرْبِ المُسلمِينَ ، مَن لَقِيتُم مِنهُم حَبَسْتُموهُ وعَذَّبتُموهُ وقَتَلْتُموهُ ، حَتَّى إذا أرادَ اللّه ُ تَعالى إعزازَ دِينِهِ وإظهارَ رسُولِهِ ، دَخَلَتِ العَرَب ُ في دِينهِ أفواجا ، وأسْلَمَتْ هذه الأمَّةُ طَوعا وكُرها ، وكُنتم مِمَّن دَخَلَ في هذا الدِّينِ إمَّا رَغَبةً ، وإمَّا رَهْبَةً ، فلَيْس يَنْبَغي لَكُم أنْ تُنازِعُوا أهلَ السَّبقِ ومَنْ فازَ بالفَضلِ ، فإنَّهُ مَن نازَعَهُ مِنكُم فبِحُوبٍ وظُلْمٍ ، فلا يَنْبغي لِمَن كانَ لَهُ قلْبٌ أنْ يَجَهَلَ قدْرَهُ ، ولا يَعْدُوَ طَوْرَهُ ، ولا يُشْقِيَ نفسَهُ بالتماس ما لَيْسَ لَهُ . إنَّ أوْلى النَّاسِ بِهذا الأمرِ قَديما وحَدِيِثا أقرَبُهُم بِرَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وأعلَمُهم بالكتابِ ، وأقدَمُهم في الدِّينِ ، وأفْضَلُهم جِهادا ، وأوَّلُهم إيمانا ، وأشدُّهُم اضْطِلاعا بما تَجْهَلُهُ الرَّعيَّةُ مِن أمْرِها ، فاتَّقوا اللّه َ الَّذِي إليهِ تُرْجَعونَ ، ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطِلِ لتُدحِضوا بِهِ الحَقَّ . واعلَموا أنَّ خِيارَ عِبادِ اللّه ِ الَّذِينَ يَعمَلونَ بما يعلَمونَ ، وأنَّ شرَّهم الجُهَلاءُ الَّذين يُنازِعُونَ بالجَهلِ أهلَ العِلمِ . ألا وإنِّي أدعُوكَ إلى كتابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه و آله ، وحَقْنِ دِماءِ هذهِ الأمَّةِ ، فإنْ قَبِلتُم أصَبْتُم رُشْدَكم ، وهُدِيتُم لِحَظِّكُم ، وإنْ أبَيْتُم إلاَّ الفُرْقَةَ وشَقَّ عَصا هذهِ الأمَّةِ ، لم تَزْدادوا مِنَ اللّه ِ إلاَّ بُعْدا ، ولَم يَزْدَدْ عَليْكُم إلاَّ سُخْطا ، والسَّلام » .
.
ص: 318
قال فكتب إليه معاوية : أمَّا بعدُ ، إنَّه : لَيْسَ بَيْني وبَيْنَ قَيْسٍ عتابُغيرُ طَعْنِ الكُلى وجَزِّ الرِّقابِ فلمَّا وقف أمير المؤمنين عليه السلام على جوابه بذلك ، قال : « إنَّكَ لا تَهدِي مَن أحْبَبْتَ ، ولكِنَّ اللّه َ يَهدي مَنْ يشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيم » (1) . (2)
.
ص: 319
86كتابه عليه السلام إلى ابن عبَّاسكتابه عليه السلام إلى ابن عبَّاس وأهل البصرة : كتبه عليه السلام إليه لمَّا استنفر المسلمين إلى المسير إلى الشَّام لقطع يد المتمرِّدين ، وأيدي الظَّالمين : « أمَّا بَعدُ ؛ فأشخِصْ إليَّ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ المُسلمينَ والمُوِنينَ ، وذَكِّرهُم بَلائي عِندَهُم وعَفْوِي عَنهُم ، واستبقائي لَهُم ، ورغِّبهُم في الجهادِ ، وأعْلِمهُم الَّذي لَهُم في ذَلِكَ مِنَ الفَضلِ » . [ فلمّا وصل الكتاب إلى ابن عبَّاس ، قام في النَّاس ] فقرأ عليهم كتاب عليّ عليه السلام ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثُمَّ قال : أيُّها النَّاسُ ، استَعِدُّوا للمَسيرِ إلى إمامِكُم ، وانفروا في سَبيلِ اللّه ِ خِفافا وثِقالاً ، وجاهِدُوا بأموالِكُم وأنْفُسِكُم ، فإنَّكُم تُقاتِلونَ المُحِلِّينَ القاسِطين َ ، الَّذِينَ لا يقرؤون القُرآنَ ، ولا يَعرِفونَ حُكمَ الكِتابِ ، ولا يَدِينونَ دِينَ الحَقِّ ، معَ أميرِ المُوِنينَ وابنِ عَمِّ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، الآمِرِ بالمَعرُوفِ ، والنَّاهي عَنِ المُنكَرِ ، والصَّادِعِ بالحَقِّ ، والقَيِّمِ بالهُدى ، والحاكم بِحُكمِ الكتابِ ، الَّذي لا يَرتَشي فِي الحُكمِ ، ولا يُداهِنُ الفُجَّارَ ، ولا تأخُذُهُ في اللّه ِ لَومَةُ لائِمٍ . فَقامَ الأحْنَفُ بنُ قَيْس ، فقال: نعم، واللّه لَنُجِيبَنَّكَ، ولَنَخرُجَنَّ مَعكَ علَى العُسرِ واليُسرِ، والرِّضا والكُرهِ، نَحْتَسِبُ في ذلِكَ الخَيرَ، ونَأمُلُ مِنَ اللّه ِ العظيمِ مِنَ الأجرِ. وقامَ إليهِ خالِدُ بنُ المُعَمَّرِ السَّدُوسي ، فقال : سَمِعْنا وأطَعْنا ، فَمتَى استَنفرْتَنا نَفَرْنا ، ومَتى دَعَوْتَنا أجَبنا . وقامَ إليهِ عَمْرو بنُ مَرجُومٍ العَبدِي ، فَقالَ : وَفَّقَ اللّه ُ أميرَ المُوِنينَ ، وجَمَعَ لَهُ أمرَ المُسلِمينَ ، ولَعَن المُحِلِّينَ القاسِطِين َ ، الَّذِينَ لا يقرؤونَ القُرآنَ ، نَحنُ واللّه ِ عَليهِم حَنِقونَ ، ولَهُم في اللّه ِ مُفارِقُونَ ، فَمَتى أرَدْتَنا صَحِبَكَ خَيْلُنا ورَجْلُنا . وَأجابَ النَّاسُ إلى المسيرِ ، ونَشَطُوا وخَفُّوا ، فاستعمَلَ ابنُ عبَّاس علَى البَصْرَةِ أبا الأسْوَدِ الدُّوي ، وخَرجَ حَتَّى قَدِمَ على علي ٍّ ، ومَعَهُ رُؤوسُ الأخْماس ِ : خالِدُ بنُ المُعَمَّرِ السَّدُوسي ، على بَكرِ بنِ وائل ؛ وعَمْرو بنُ مَرجُومٍ العَبدِي ، على عَبدِ القَيس ِ ؛ وصَبرةُ بنُ شَيْمانَ الأزْدِي ُّ ، علَى الأزْد ِ ؛ والأحْنَفُ بنُ قَيْس ٍ ، على تَميم وضَبَّة َ والرَّباب ِ ؛ وشُرَيكُ بنُ الأعْوَرِ الحارثي ُّ ، على أهلِ العالِيَة ِ . فَقَدِموا علَى عليٍّ عليه السلام بالنُّخَيلَة ِ . . . (1)
.
ص: 320
. .
ص: 321
87كتابه عليه السلام إلى عمر بن أبي سَلمةمن كتاب له عليه السلام إلى عمر بن أبي سَلمة المَخْزومي ّ ، وكان عامله على البحرين ، فعزله ، واستعمل النُّعْمانَ بنَ عَجْلان الزُّرَقي ّ مكانَهُ :« أَمَّا بَعْدُ ، فَإنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنَ عَجْلانَ الزُّرَقِي َّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، ونَزَعْتُ يَدَك بِلا ذَمٍّ لَك ، ولا تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ ، فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلايَةَ ، وأَدَّيْتَ الأَمَانَةَ ، فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ ، ولا مَلُومٍ ، ولا مُتَّهَمٍ ، ولا مَأْثُومٍ ، فَلَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ ، وأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي ، فَإِنَّك مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ ، وإِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللّه » . (1)
النُعْمانُ بنُ العَجْلانفي الإصابة عن المُبَرِّد : أنّ عليّ بن أبي طالب استعمل النُّعْمان هذا على البَحرَين ، فجعل يُعطي كلّ من جاءه من بني زُرَيْق ٍ ، فَقالَ فيهِ الشَّاعر ، وهو أبو الأسود الدُّؤلي : أرَى فِتنَةً قَدْ ألهَتِ النَّاسَ عَنكُمُفَنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالِبِ فإنّ ابنَ عَجْلانَ الَّذي قَدْ عَلِمتُمُيُبَدِّدُ مالَ اللّه ِ فِعْلَ المُناهِبِ (2)
88كتابه عليه السلام إلى معاويةفقالَ ابنُ الأعْثَم : وسارَ مُعاوِيةُ بِخَيلِهِ ورَجْلِهِ حَتَّى نَزلَ في صِفِّين ، في ثلاثةٍ وثمانينَ ألفا ، وذلك لأيّامٍ خلَتْ من المُحرَّمِ ، فسبَقَ إلى سُهولَةِ الأرضِ وسَعَةِ المَرعى وقُربِ الفُرات ِ فَنزَلَ هُنالِكَ ؛ ثُمَّ إنَّهُ بنى بُنيانا لَهُ ، وضُرِبَتِ القِبابُ والخِيامُ والفَساطِيطُ ، وبُنِيَتِ المَعالِفُ لِلخَيلِ ، واجتَمَعَتْ إليهِ العَساكِرُ مِن أطرافِ البلادِ فَصارَ في عِشرينَ ومئة ألفٍ ؛ ثُمَّ إنَّه كَتبَ إلى علي ٍّ رضى الله عنه بهذِهِ الأُرجُوزَةِ : لا تَحَسَبنَّ يا عَلِيُّ غَافِلاًلأُورِدَنَّ الكُوفَةَ القَبائِلا والمَشرِفيّ والقَنا الذَّوابِلامِن عامِنا هذا وعاما قابِلا فكتب إليه علي ّ رضى الله عنه بهذه الأبيات : « أصبَحْتَ مِنِّي يابَن هِنْدٍ جَاهِلالأَرْمِيَنَّ مِنْكُمُ الكَواهِلا تِسعِينَ ألفا رامِحا ونابِلايَزْدَجِرُونَ الأرضَ والسَّواهِلا بِالحَقِّ والحَقُّ يُزيِحُ البَاطِلاهذا لَكَ العامُ وزُرنِي قَابِلا » . (3)
.
ص: 322
89كتابه عليه السلام إلى معاويةفقال نصر : عَمْرو بن شمر ، عن جابر ، عن مُحَمَّد بن علي ّ وزَيْد بن حسن ، ومُحَمَّد _ يعني ابن المطَّلب _ قالوا : استعمل عليّ عليه السلام على مقدمته الأشْتَر بن الحارث النَّخَعيّ ، وسار عليّ في خمسين ومئة ألف من أهل العراق ، وقد خنَست طائفةٌ من أصحاب علي ّ ، وسار معاوية في نحو من ذلك من أهل الشَّام ، واستعمل معاوية على مقدَمته سُفْيَان بن عمرو : أبا الأعْوَر السَّلمي . فلمّا بلغ معاوية أنَّ عليَّا يتجهّز ، أمر أصحابه بالتَّهيُّو. فلمَّا استتب لعليّ أمره سار بأصحابه ، فلمَّا بلغ معاوية مسيره إليه سار بقَضِّه وقضيضه نحو عليّ عليه السلام ، واستعمل على مقدمته سُفْيَان بن عمرو ، وعلى ساقته ابن أرطاة العامري _ يعني بُسر ا _ فساروا حَتَّى توافَوا جميعا بقُناصِرين إلى جنب صفِّين . فأتى الأشْتَر صاحب مقدّمة معاوية ، وقد سبقه إلى المعسكر على الماء ، وكان الأشْتَر في أربعة آلاف من متبصِّري أهل العراق ، فأزالوا أبا الأعْوَر عن معسكره ، وأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضّه وقضيضه ، فلما رأى ذلك الأشْتَر انحاز إلى عليّ عليه السلام ، وغلب معاوية على الماء ، وحال بين أهل العِراق وبينه ، وأقبل عليّ عليه السلام حَتَّى إذا أراد المعسكر، إذا القوم قد حالوا بينه وبين الماء . ثُمَّ رجع إلى الحديث بإسناده إلى الأوَّل . ثُمَّ إنَّ عليَّا عليه السلام طلب موضعا لعسكره ، وأمر النَّاس أن يضعوا أثقالهم _ وهم مئة ألف أو يزيدون _ فلمَّا نزلوا تسرَّع فوارسُ من فوارس عليّ على خيلهم إلى معاوية _ وكانوا في ثلاثين ومئة _ ولم ينزل بعد معاوية ، فناوشوهم القتال واقتتلوا هَوِيَّا (1) . (2) ( كتاب معاوية إلى عليّ عليه السلام : ) فقال نصر : عمر بن سعد ، عن سَعْد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : كتب معاوية إلى عليّ عليه السلام : عافانا اللّه وإيَّاك . ما أحسنَ العَدْلَ والإنصافَ مِن عَمَلٍوأقبحَ الطيشَ ثُمَّ النَّفْشَ فِي الرَّجُلِ وكتب بعده : اربِطْ حِمارَكَ لا يُنزَعْ سَوِيَّتهُإذا يُرَدُّ وقَيْدُ العَيْرِ مَكرُوبُ لَيْسَتْ تَرى السِّيدُ زَيْدا في نُفُوسِهِمُكما تَراهُ بَنو كُوزٍ ومَرْهُوبُ إنْ تَسألُوا الحَقَّ يُعطَى الحَقَّ سائِلُهُوالدِّرْعُ مُحْقَبَةٌ والسَّيْفُ مَقْرُوبُ أو تَأْنَفُونَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ أُنُفٌلا نَطعَمُ الضَّيمَ إنَّ السُمَّ مَشرُوبُ قال : وأمر عليّ عليه السلام النَّاس ، فوُزِّعوا عن القتال ، حَتَّى تأخذ أهل المصافّ مصافّهم ، ثُمَّ قال: « أيُّها النَّاسُ ، هذا مَوقِفٌ من نَطُف فيهِ نَطُفَ يَومَ القِيامَةِ ، ومَنْ فَلَجَ فيهِ فلَجَ يَومَ القِيامَةِ » . ثم قال علي ٌّ ، لمّا نزل مُعاويةُ بصِفِّين : لَقدْ أتاكُم كاشِرا عَن نابِهِيُهَمِّطُ النَّاسَ علَى اعْتزابِهِ فلي_أتِن_ا الدَّهُ_ر بِم_ا أت_ى بِ_هِ وكتب عليّ إلى معاوية : فإنَّ لِلحرَبِ عُراما شَرَراإنَّ عَلَيها قائِدا عَشَنْزَرا يَنصِفُ مَن أجْحَر أو تَنَمَّراعلَى نَواحِيها مِزَجّا زَمْجَرا إذا ونَيْنَ ساعَةً تغَشْمَرا وقال أيضا : ألَمْ تَرَ قَومِي إذ دَعاهُمْ أَخوهُمُأجابُوا وإنْ يَغضَبْ علَى القَوْمِ يَغْضَبُوا هُمُ حَفَظُوا غَيبِي كما كُنْتُ حافِظالِقَومِيَ أُخرى مِثْلَها إذْ تَغيَّبُوا بَنو الحَرْبِ لَم يَقْعُدْ بِهِم أُمَّهاتُهُموآباوُمْ آباءُ صِدْقٍ فأَنجَبُوا . فَتراجَعَ النَّاس إلى مُعسكَرِهِم ، وذهب شبابٌ من النَّاس وغِلمانِهِم يَستَقونَ ، فمنعَهُم أهلُ الشَّام . (3)
.
ص: 323
. .
ص: 324
. .
ص: 325
90كتابه عليه السلام إلى زياد بن النَّضْر وشُرَيْح« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن عَبدِ اللّه ِ عليّ أميرِ المُونين َ ، إلى زياد بنِ النَّضْر ِ وشُرَيْحِ بنِ هانئ ، سلام عليكما ، فإنّي أحمَدُ إليكُما اللّه َ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ . أمَّا بَعدُ ؛ فَإنّي قَد وَلَّيتُ مُقَدِّمتي زِيادَ بنَ النَّضْر ِ وأَمَّرتُهُ عليها ، وشُرَيْح ٌ علَى طائِفَةٍ مِنها أميرٌ ، فإنْ أنتُما جَمَعكُما بأسٌ فَزِيادُ بنُ النَّضْر ِ علَى النَّاسِ ، وإنِ افتَرقْتُما فَكُلُّ واحِدٍ مِنكُما أميرُ الطَّائِفَةِ الَّتي وَلَّيناهُ أمرَها . واعلَما ، أنَّ مُقدّمَةَ القَومِ عُيونُهُم ، وعُيونُ المُقَدِّمَةِ طَلائِعُهُم ، فإذا أنتُما خَرجتُما مِن بِلادِكُما فلا تَسأما مِن توجيهِ الطَّلائِعِ ، ومِن نَفْض الشِّعاب والشَّجر والخَمَر (1) في كُلِّ جانِبٍ ، كي لا يَغتَرَّ كُما عَدُوّ ، أو يَكونَ لَكُم كَمِينٌ . ولا تُسيِّرُنَّ الكتائِبَ والقبائِلَ مِن لَدُنِ الصَّباحِ إلى المَساءِ إلاَّ على تَعبِيَةٍ . فإنْ دهَمَكُم داهِمٌ ، أو غَشِيَكُم مَكروهٌ ، كُنْتُم قَد تَقَدَّمتُم في التَّعبِيَةِ . وإذا نَزَلتُم بِعَدُوٍّ ، أو نَزَلَ بِكُم ، فلْيَكُن مُعَسكَرُكُم في قُبُلِ الأشرافِ ، أو سِفَاحِ الجبالِ ، أو أثناءِ الأنهارِ ، كَيْما يَكُونَ ذلِكَ لَكُم رِدْءا ، وتكون مُقاتِلَتُكُم مِن وَجْهٍ واحدٍ أو اثنَينِ ، واجعَلُوا رُقَباءَكُم في صياصي الجِبالِ ، وَبِأعالي الأَشرافِ ، وَمناكِبِ (2) الهِضابِ يَروْنَ لَكُم ، لِئَلاّ يأتِيكُم عَدُوٌّ مِن مَكانِ مَخافَةٍ أو أمْنٍ . وإيَّاكُم والتَّفرُّق ، فإذا نَزَلْتُم فانزِلوا جَميعا ، وإذا رَحَلتُم فارحَلُوا جَمِيعا ، وإذا غَشِيَكُم لَيلٌ فَنَزلْتُم فَحُفُّوا عَسكَرَكُم بالرِّماحِ والأترِسَةِ ، ورماتُكُم يَلُونَ تِرسَتَكُم ورماحَكُم . وما أقمَتُم فَكذلِكَ فافعَلُوا ، كي لا تُصابَ لَكُم غَفلَةٌ ، ولا تُلفَى مِنكُم غِرَّةٌ ، فَما قومٌ حَفُّوا عَسكَرهُم بِرِماحِهِم وتِرسَتِهِم مِن ليلٍ أو نهارٍ ، إلاَّ كانُوا كأنَّهُم في حُصُونٍ . واحرِسا عَسكَركُما بأنفُسِكُما ، وإيَّاكُما أن تَذوقا نَوْما حَتَّى تُصبِحا ، إلاّ غِرارا أو مَضْمَضَةً . ثُمَّ لِيَكُنْ ذلِكَ شَأنَكُما ودأبَكُما ، حَتَّى تَنتَهِيا إلى عَدُوِّكُما . وليَكُنْ عِندي كُلَّ يومٍ خَبَرُكُما ، ورسولٌ مِن قِبَلِكُما ، فإنّي _ ولا شَيءَ إلاَّ ما شاءَ اللّه ُ _ حَثِيثُ السَّيرِ في آثارِكُما ، علَيكُما في حَربِكُما بالتَّودَةِ ، وإيَّاكُم والعَجَلَةِ ، إلاَّ أن تُمكِنَكُم فُرْصَةٌ بَعدَ الإعذارِ والحُجَّةِ . وإيَّاكُما أن تُقاتِلا حَتَّى أقدِمَ عَليكُما ، إلاَّ أن تُبدَءآ ، أو يأتِيَكُما أمري إن شاءَ اللّه ُ ، والسَّلامُ » . (3) قال نصر : عمر بن سَعْد ، حدَّثني يزيدُ بنُ خالِد بنُ قَطَن : أنَّ عليَّا حين أراد المسير إلى النُّخيلة دعا زيادَ بن النَّضْر ، وشُرَيْحَ بنَ هانِئ _ وكانا على مَذْحِج والأشْعَرِيين _ قال : « يا زيادُ ، اتَّقِ اللّه َ في كُلِّ مُمْسىً ومُصْبَحٍ ، وخَف ِْ علَى نفسِكَ الدُّنيا الغَرُورَ ، ولا تأمَنْها علَى حالٍ مِنَ البلاءِ ، واعلَم أنَّكَ إن لم تَزَعْ نَفسَكَ عَن كَثيرٍ مِمَّا يُحَبُّ مَخافَةَ مكروهةِ ، سَمَتْ بِكَ الأهواءُ إلى كَثيرٍ من الضُّرِّ . فَكُن لِنَفْسِكَ مانِعا وازِعا مِنَ البغْيِ والظُّلْمِ والعُدوانِ ؛ فَإنِّي قَدْ ولَّيتُكَ هذا الجُندَ ، فلا تَستَطِيلَنَّ عَلَيهِم ، وإنَّ خَيرَكُم عِندَ اللّه ِ أتقاكُم . وتُعلَّم من عالِمِهِم ، وعَلِّم جاهِلَهُم ، واحلُم عَن سَفيهِهِم ، فإنَّك إنَّما تُدرِكُ الخَيرَ بالحِلمِ ، وكُفَّ الأذى والجَهلِ » .
.
ص: 326
. .
ص: 327
فقال زياد : أوصيت يا أمير المونين حافظا لوصيَّتك ، مؤدّبا بأدبِك ، يرى الرُشد في نفاذ أمرك ، والغيَّ في تضييع عهدك . فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد ولا يختلفا ، وبعثهما في اثني عشر ألفا على مقدِّمته شُرَيْح بن هانئ على طائفة من الجند ، وزياد على جماعة . فأخذ شُرَيْح يعتزل بمن معه من أصحابه على حِدَةٍ ، ولا يقرب زياد بن النَّضْر ، فكتب زياد ( إلى عليّ عليه السلام ) مع غلام له أو مولىً يقال له شَوذَب : « لِعبدِ اللّه ِ عليٍّ أمير المونين من زياد بن النَّضْر ، سلام عليك ، فإنِّي أحمَدُ إليكَ اللّه َ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ . أمَّا بَعدُ ؛ فإنَّك وَلَّيتَنِي أمرَ النَّاسِ ، وإنَّ شُرَيْحا لا يَرى لِي علَيهِ طاعَةً ولا حَقّا ، وذلِكَ مِن فِعلِهِ بي استخفافٌ بأمرِكَ ، وتَرْكٌ لِعَهْدِكَ ، والسَّلام » . وكتب شُرَيْح بن هانئ : سلام عليك ، فإنِّي أحمَدُ إليكَ اللّه َ الَّذي لا إله إلاَّ هُوَ . أمَّا بَعدُ ؛ فإنَّ زياد بن النَّضْر حِينَ أشرَكتَهُ في أمْرِكَ ، ووَلَّيتَهُ جُنْدا مِن جُنُودِكَ ، تَنَكَّرَ واستكبَرَ ومالَ بِهِ العُجْبُ والخُيَلاءُ والزَّهُو إلى ما لا يَرضاهُ الرَّبُّ تبارَكَ وتَعالى مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ ، فإنْ رأى أميرُ المُوِنين َ أن يعزِلَهُ عَنّا ، ويبعث مكانَهُ مَن يُحِبُّ فَلْيَفعَل ، فإنَّا لَهُ كارِهونَ ، والسّلامُ . [ فكتب أمير المؤمنين عليه السلام إليهما هذا الكتاب ] . (1)
.
ص: 328
زياد بن النَّضْر الحارثيله إدراك (1) ، [ من عيون أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وشيعته المخلصين ، وأعوانه على اقامة الدِّين ، وحسم مادّة المنافقين ، وإخماد نار الفاسقين ، ومن الملبِّين لدعوته ، والمسرعين إلى دعوته ، له خطوات راسية ، وأعمال زاكية في الحكومة العلويّة الحقّة ، وهو من الَّذِين غضبوا للّه حين عصي في أرضه ، وقد ضرب الجور سرادقه ، لمّا عمّ ظلم عثمان وعمّاله وشمل البلاد الإسلاميّة ، وتحرّك للناس للأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، وخرجوا على عثمان ، وقصدوا المدينة المنوّرة ، ]خرج من الكوفة جمع منهم زياد بن النَّضْر الحارثي . (2) [ ولمّا شاور أمير المؤمنين عليه السلام في أمر القاسطين _ مُعاويةَ وأهلِ الشَّام _ بعد فتح البصرة ، والقفول إلى الكوفة ، فتكَلّم يَزيد بن قَيْس ، وأشار بالحرب وعدم التَّأخير والتَّأني في ذلك ] فقال زياد بن النَّضْر : لقد نصح لكَ يا أميرَ المونينَ يَزيدُ بنُ قَيْس ٍ ، وقالَ ما يَعرِفُ ، فَتَوكَّل علَى اللّه ِ وثِقْ بهِ ، واشخَصْ بِنا إلى هذا العَدُوِّ راشدا مُعانا ، فإن يُرِدِ اللّه ُ بِهِم خَيْرا لا يَدعُوكَ رَغْبةً عَنكَ إلى مَنْ لَيسَ مِثلَكَ في السَّابِقَةِ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه و آله / ، والقِدَمِ في الإسلامِ ، والقَرابةِ مِن مُحمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وإلاَّ يُنيبوا ويَقْبَلُوا ويأبَوا إلاَّ حَرْبَنا نجدْ حَرْبَهم علَينا هيِّنا ، ورَجَوْنا أن يَصرَعَهُمُ اللّه ُ مَصارِعَ إخوانِهم بالأمسِ . (3) و[ عن ] نَصْر ، عن أبي رَوْق قال : قال زياد بن النَّضْر الحارثيّ لعبد اللّه بن بُدَيْل بن وَرْقاء : إنَّ يومَنا ويَوْمَهُم لَيومٌ عَصِيبٌ ، ما يَصبِرُ عَلَيهِ إلاَّ كلُّ مُشيَّعِ القَلبِ (4) ، صادق النِّيَّةِ ، رابِطُ الجَأْشِ . وأيمُ اللّه ِ ما أَظُنُّ ذلِكَ اليومَ يبقى مِنّا ومِنهُم إلاَّ الرُّذَال . قال عبد اللّه بن بُدَيْل : واللّه ِ أظُنُّ ذلِكَ . فقال علي ٌّ : لِيَكُنْ هذا الكَلامُ مَخْزونا في صُدُورِكُما ، لا تُظهِراهُ ولا يَسمَعْهُ مِنكُما سامِعٌ . إنَّ اللّه َ كَتبَ القَتلَ علَى قَوْمٍ ، والمَوتَ علَى آخَرِينَ ، وكُلٌّ آتِيهِ مَنِيَّتُهُ كما كَتَبَ اللّه ُ لَهُ فَطُوبى . لِلمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللّه ِ ، والمَقتُولِينَ في طاعَتِهِ . (5) فلمّا عزم عليه السلام على الميسر جعل زياد ا على مقدمته في ثمانية الآف ، وأوصاه بما تقدَّم . (6) [ وفي أيَّام صفِّين ] كرهوا أن يلقوا جمع أهل العِراق بجمع أهل الشَّام ، لما خافوا ، الا يكون فيه من الاستئصال والهلاك ، فكان عليّ عليه السلام يُخرجُ مرَّة الأشْتَر ، ومرَّة حُجْر بن عَدِيّ الكِنْديّ ، ومرَّة شَبَث بنَ رِبْعِيّ . . . ومرَّة زيادَ بنَ النَّضْرِ الحارثي ، . . . وكان الأشْتَر أكثرهم خروجا . (7) وكان زياد من هؤلاء الرُّؤساء الشُّجعان . [ إلى أن حان أوانُ اعتزال الخوارج ] فقالت الخوارج : استبقتم أنتم وأهلُ الشَّام إلى الكفر كفَرَسَي رِهان . بايع أهل الشَّام معاوية على ما أحبّوا وكرهوا ، وبايعتم أنتم عليّا ، على أنَّكم أولياء من والى ، وأعداء مَن عادى ، فقال لهم زياد : واللّه ما بسط عليّ يده فبايعناه قطّ ، إلاَّ على كتاب اللّه وسُنَّة نبيِّهِ صلى الله عليه و آله وسلم ، ولكنَّكم لمَّا خالفتموهُ جاءتهُ شِيعَتهُ ، فقالوا : نَحنُ أولياءُ مَنْ وَالَيتَ ، وأعداءُ مَنْ عادَيتَ ، ونَحنُ كذالِكَ وهُو علَى الحَقِّ والهدى ، ومَن خالَفَهُ ضَالّ مُضِلٌّ . (8) [ شهد زياد بن النَّضْر مقتل رُشَيْد الهَجَريّ ] قال إبراهيم : وحدَّثني إبراهيم بن العبَّاس النَّهْديّ ، حدَّثني مبارك البَجَلِيّ عن أبي بَكر بن عَيَّاش ، قال : حدَّثني المُجالِدُ عن الشَّعْبيّ عن زياد بن النَّضْر الحارثيّ ، قال : كنت عند زياد ، وقد أُتِيَ برُشَيْد الهَجَريّ _ وكان من خواصّ أصحاب عليّ عليه السلام _ فقال له زياد : ما قَالَ خَلِيلُكَ لَكَ إنَّا فاعِلونَ بِكَ ؟ قال : تَقطَعونَ يَدِي ورِجْلي وتَصلِبُونَني ، فقال زياد : أما واللّه ِ لَأُكَذِبَنَّ حَدِيثَهُ ، خلّوا سبيله ، فلمَّا أراد أن يخرج قال : رُدُّوهُ لا نَجِدُ شَيئا أصلَحَ مِمّا قالَ لَكَ صاحِبُكَ ، إنَّكَ لا تَزالُ تَبغي لَنا سُوءا إنْ بقيت ، اقطعوا يَدَيهِ ورِجلَيهِ ، فَقطَعُوا يَدَيهِ ورِجْلَيهِ وهُوَ يَتكَلَّمُ ، فقال : اصلبوه خنقا في عنقه ، فقال رُشَيْد : قد بَقِيَ لي عندَكُم شَيءٌ ما أراكُم فَعَلتُموهُ ، فَقالَ زياد : اقطعوا لِسانَهُ ، فلمَّا أخرجوا لِسانَهُ لِيقطَعَ ، قال : نفّسوا عنّي أتكلَّم كلمةً واحدة ، فنفَّسوا عنه ، فقال : هذا واللّه ِ تَصدِيقُ خَبَرِ أميرِ المُوِنينَ ، أخبَرني بِقَطعِ لِسانِي ، فَقَطَعُوا لِسانَهُ وصلَبوهُ . (9)
.
ص: 329
. .
ص: 330
شُرَيْح بن هانئ بن يزيد الحارث بن كَعْبأدرك النَّبي صلى الله عليه و آله ودعا له . . .وكان من أعيان أصحاب علي ٍّ ، وشهد معه حروبه ، وشهد الحَكَمينِ بِدَومةِ الجندل ِ ، وبقي دهرا طويلاً ، وسار إلى سجستان َ غازيا ، فَقُتل بها سَنَةَ ثمانٍ وسَبعِينَ ، (1) وكان من أُمراءِ عليٍّ عليه السلام في وَقعَةِ الجَمَل ِ . (2) [ فقال أبو عمر ، وكان من أجلّة أصحابِ عَلي ٍّ : لمّا كتبَ أميرُ المؤمِنينَ عليه السلام إلى الكُوفَة ِ ، يَستَنفِرُهُم إلى حَربِ الجَمَل ِ ، وقرأ الكِتابَ على النَّاس ، قام خطباء الكوفة ، شُرَيْحُ بنُ هانى ء وغيره فقالوا : ] واللّه لقد أردنا أن نركب إلى المدينة حَتَّى نعلم علم عثمان ، فقد أنبأنا اللّه به في بيوتنا ، ثُمَّ بذلوا السَّمع والطَّاعة ، وقالوا : رضينا بأمير المؤمنين ، ونطيع أمره ولا نتخلّف عن دعوته ، واللّه لو لم يستنصرنا لنصرناه سمعا وطاعةً . (3) ولمّا عزم أمير المؤمنين عليه السلام على المسير إلى صفِّين ، جعله على مُقَدمَتِهِ في أربعة الآف ، (4) [ ووصّى بما تقدم عن نهج البلاغة ؛ وله في حرب صفِّين مقام سام ، لا ينسى ولا يخفى على من راجع ] . قال : ابن قُتَيْبَة : وذكروا أنَّ عليَّا استشارَ النَّاس _ فأشاروا عليه بالمُقامِ بالكوفة عامَهُ ذلِكَ ، غير الأشْتَر النَّخَعيّ ، وعَدِيّ بن حاتم ، وشُرَيْح بن هانى ء ، فإنَّهم قاموا إلى علي ّ ، فتكلَّموا بلِسانٍ واحِدٍ ، فَقَالُوا : إنَّ الَّذِينَ أشارُوا علَيكَ بالمُقامِ ، إنَّما خَوَّفُوكَ بِحَربِ الشَّام ِ ، وليس في حَربِهِم شيءٌ أخوفُ مِنَ المَوتِ ونحن نريده . فقال لهم: « انَّ استعدادي لحرب أهل الشَّام ، وجَرِير عندهم إغلاق للشام ... » . (5) لمّا انتهى الأمر في صفِّين إلى الموادعة ، وحكم الحكمين ، بعث عليّ عليه السلام أربعمئة رجل إلى دومة الجندل ، وعليهم شُرَيْح بن هانئ الحارثي ، وبعث عبد اللّه بن عبَّاس يصلّي بهم ويلي أمورهم . (6) نصر : وفي حديث مُحَمَّد بن عبيداللّه عن الجرجاني قال : لمّا أراد أبو موسى المسير، قام شُرَيْح فأخذ بيد أبي موسى ، فقال : يا أبا موسى ، إنَّك قد نصبت لأمر عظيم لا يُجبرُ صدْعه ، ولا يُستقَالُ فتْقه ، ومهما تَقُلْ شيئا لَكَ أو علَيْكَ يثبتْ حقّه ، ويُرَ صحَّته ، وإنْ كان باطلاً ، وإنَّه لا بقاء لأهل العِراق إنْ مَلَكها معاوية ، ولا بأس على أهل الشَّام إنْ مَلَكها عليّ . وقد كانت منك تثبيطةٌ أيّامَ قَدِمتَ الكُوفَة َ ، فإن تَشَفعْها بمثلها يكن الظَّنُّ بك يقينا ، والرَّجاء منك يأسا . وقال شُرَيْح في ذلك : أبا مُوسى رُمِيتَ بِشَرِّ خَصْمٍفَلا تُضِعِ العِراقَ فَدَتْكَ نَفسِي وأعْطِ الحَقَّ شامَهُمُ وخُذْهُفَإنَّ اليومَ في مَهَلٍ كَأَمْسِ وإنَّ غدا يَجِيءُ بِما علَيهِيَدورُ الأمرُ مِنْ سَعْدٍ وَنَحْسِ ولا يَخدَعْكَ عَمرو ، إنَّ عَمْراعَدُوُّ اللّه ، مَطْلعَ كُلِّ شَمْسِ لَهُ خُدَعٌ يَحارُ العَقلُ فِيهامُمَوَّهَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِلَبْسِ فلا تجعل مُعاوِيةَ بنَ حَربٍكَشَيخٍ في الحوادِثِ غَيرِ نَكْسِ هداه اللّه للإسلامِ فَرداسوِى بنتِ النَّبيِّ ، وأيُّ عِرْسِ (7)
.
ص: 331
. .
ص: 332
. .
ص: 333
رُشَيدٌ الهَجَرِيّرُشَيْد الهَجَريّ من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الواعين الرَّاسخين (1) . وعُدّ من أصحابِ الإمامِ الحسنِ (2) والإمام الحُسين عليهماالسلام أيضا (3) ، كان أمير المؤمنين عليه السلام يعظّمه ويُسمّيه رُشَيد البلايا . وقد علّمه أمير المؤمنين عليه السلام علم المنايا والبلايا وما وراء عالم الشَّهادة ، فعُرف بعالِم البلايا والمنايا (4) . قال له الإمام عليه السلام يوما : كيف صَبرُكَ إذا أرسَل إليكَ دَعِيُّ بني اُميّةَ ، فقطع يَدَيْكَ ورِجْلَيْكَ ولِسانَكَ ؟ فقلت : ياأمير المؤمنين ، أ يكون آخر ذلك إلى الجنّة ؟ . . . (5) وهكذا جسّد عظمة الصَّبر ، ودلّ على صلابته في محبّته أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه . ولمّا آن ذلك الأوان فعل زياد بن أبيه فعلته ، ولم يتنازل رُشيد ٌ عن الحقّ إلى أن استشهد وصلب (6) . في الأمالي للطوسيّ عن بنت رُشَيْد الهَجَري ّ عن رُشَيْد الهَجَري ّ : قال لي حبيبي أمير المؤمنين عليه السلام : يا رُشَيْد ، كيف صَبرُكَ إذا أرسلَ إليْكَ دَعِيُّ بَني اُميَّةَ فقطَعَ يَديْكَ ورجِلَيكَ ولِسانَكَ ؟ فَقُلتُ : يا أميرَ المؤُمِنينَ ، أ يَكونُ آخِرُ ذلِكَ إلى الجَنَّةِ ؟ قال : نَعَم يا رُشَيْد ، وأنتَ مَعِي في الدُّنيا والآخِرَةِ . قالت : فوَاللّه ما ذهبت الأيّام حتَّى أرسل إليه الدّعيُّ عبيد اللّه بن زياد (7) ، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام ، فأبى أن يتبرّأ منه ، فقال له ابن زياد : فبأيّ ميتة قال لك صاحبك تموت ؟ قال : أخبرني خليلي صلوات اللّه عليه : «أنّكَ تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرّأ ، فتقدّمني فتقطع يديّ ورِجليَّ ولساني » . فقال : واللّه ِ ، لاُكذّبنَّ صاحِبَكَ ، قدّموه فاقطعوا يده ورجله واتركوا لسانه ، فقطعوه ثمّ حملوه إلى منزلنا . فقلت له : يا أبه جُعلت فداك ، هل تجد لما أصابك ألما ؟ قال : واللّه ، لا يابُنيَّةُ إلاّ كالزُّحام بين الناس . ثمّ دخل عليه جيرانه ومعارفه يتوجّعون له ، فقال : ايتوني بصحيفة ودواة ، أذكر لكم ما يكون ممّا أعلمنيه مولاي أمير المؤمنين عليه السلام . فأتوه بصحيفة ودواة ، فجعل يذكر ويُملي عليهم أخبار الملاحم والكائنات ويسندها إلى أمير المؤمنين عليه السلام . فبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إليه الحجّام حتَّى قطع لسانه ، فمات من ليلته تلك رحمه اللّه (8) . وفي الإرشاد عن زياد بن النَّضْر الحارثيّ : كنت عند زياد إذ اُتي برُشَيْد الهَجَريّ ، فقال له زياد : ما قال لك صاحبك _ يعني عليّا عليه السلام _ إنّا فاعلون بك ؟ قال : تقطعون يديَّ ورجليَّ وتصلبونني . فقال زياد : أمَ واللّه ِ ، لاُكَذِّبَنَّ حديثه ، خلّو سبيله . فلمّا أراد أن يخرج قال زياد : واللّه ، ما نجد له شيئا شرّا ممّا قال صاحبه ، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه . فقال رُشَيْد : هيهات ، قد بقي لي عندكم شيء أخبرني به أمير المؤمنين عليه السلام . قال زياد : اقطعوا لسانه . فقال رُشَيْد : الآن واللّه ، جاء تصديق خبر أمير المؤمنين عليه السلام (9) .
.
ص: 334
. .
ص: 335
91كتابه عليه السلام إلى الأشْتَرفأرسل عليّ إلى الأشْتَر ، فقال :« يا مالِ (1) ، إنَّ زياد ا وشُرَيْحا أرسلا إليَّ يُعلماني ، أنَّهما لقِيا أبا الأعْوَرِ السَّلَمي ّ في جندٍ من أهلِ الشَّامِ بسُورِ الرُّوم ِ ، فَنبَّأَنِي الرَّسولُ أنَّه تركَهُم مُتواقِفَينِ . فالنَّجاءُ إلى أصحابِكَ النَّجاءُ . فإذا أتَيتَهُم فأنتَ عَليهِم ، وإيَّاكَ أن تَبدأ القومَ بِقِتالٍ ، إلا أن يبدؤوكَ ، حَتَّى تلقاهُم وتسمَعَ مِنهُم ؛ ولا يَجرِمَنَّكَ شنآنُهُم علَى قِتالِهِم قَبلَ دُعائِهم والإعذارِ إليهِم مرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ . واجَعل علَى مَيمَنَتِكَ زِيادا ، وعلَى مَيسرَتِكَ شُرَيْحا ، وقِفْ بينَ أصحابِكَ وسَطا ، ولا تَدْنُ مِنهُم دُنُوَّ مَن يُرِيُد أن يُنشِبَ الحَربَ ، ولا تَبَاعَدَ مِنهُم تَباعُدَ مَن يَهابُ البأسَ ، حَتَّى أقْدِم عليكَ ؛ فإنِّي حَثِيثُ السَّيرِ إليكَ إن شاءَ اللّه ُ » . وكانَ الرَّسولُ الحارثَ بن جُمْهان الجُعْفِيّ . (2) وفي كتابه إلى أهل مصر « وإنّي قَد بَعثْتُ إليكُم عَبْدا مِن عِبادِ اللّه ِ ، لا يَنامُ أيَّامَ الخَوفِ ، ولا يَنكُلُ عَنِ الأعداءِ حَذارِ الدَّوائِرِ ، مِن أشدِّ عَبيدِ اللّه ِ بأسا وأكرَمِهِم حَسَبا أضرُّ على الفُجَّارِ مِن حَرِيقِ النَّارِ ، وأبعَدُ النَّاسِ مِن دَنَسٍ أو عارٍ ، وهُو مالِكُ بنُ الحارِثِ الأشْتَر ِ ، لا نابِيَ الضِّرْسِ ، ولا كَليلَ الحَدِّ ، حَلِيمٌ في الحَذَرِ ، رَزِينٌ في الحَرْبِ ، ذو رأيٍ أصيلٍ وصَبرٍ جَمِيلٍ . . . فَإنّهُ لا يُقْدِمُ ولا يُحْجِمُ إلاَّ بأمرِي . . . » (3) .
.
ص: 336
فقال ابن أبي الحديد في شرح الكتاب : ثُمَّ أمرهم بأن يطيعوه في جميع ما يأمرهم به من الإقدام والإحجام ، وقال : إنَّهُ لا يُقدّم ولا يُوّر إلاَّ عن أمري ، وهذا إن كان قاله مع أنَّه قد سنح له أن يعمل برَأيهِ في أمور الحرب من غير مراجعته فهو عظيم جدّا ، لأنَّه يكون قد أقامه مقام نفسه ، وجاز أن يقول إنَّه لا يفعل شيئا إلاَّ عن أمري ، وإن كان لا يراجعه في الجزئيات على عادة العرب في مثل ذلك ، لأنَّهم يقولون فيمن يثقون به نحو ذلك . . . هذا القول عن الأشْتَر ، لأنَّه قد قرَّر معه بينه وبينه ألاّ يعمل شيئا قليلاً ولا كثيرا إلاَّ بعد مراجعته ، فيجوز ، ولكنَّ هذا بعيد ؛ لأنَّ المسافة طويلة بين العِراق ومصر وكانت الأمور هناك تقف وتفسد . (1) [ ولا يخفى على أحد أهمية وقيمة هذه الكلمات التي صدرت عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، المعصوم الَّذي لا يخاف لومة لائم ولا يتكلّم ولا يكتب إلاَّ بِحَقٍّ . ]
.
ص: 337
92كتابه عليه السلام إلى زياد بن النَّصْر وشُرَيْح« أمَّا بَعدُ ؛ فَإنِّي قَد أمَّرتُ علَيكُما مالِكا ، فاسمَعا لَهُ وأطِيعَا أمرَهُ ؛ فإنَّهُ مِمَّن لا يُخافُ رَهَقُهُ ولا سِقاطُهُ ، ولا بُطوُ عَمَّا الإسراعُ إليهِ أحزَمُ ، ولا الإسرَاعُ إلى ما البُط ءُ عَنهُ أمثَلُ ، وقد أمَرتُهُ بِمِثلِ الَّذي أمرتُكُما : ألاّ يَبدأَ القَومَ بقِتالٍ حَتَّى يَلقاهُم فيدْعُوَهم ويَعْذِرَ إليهِم ، إن شاءَ اللّه ُ » . (1)
قال خالد بن قَطَن ( الحارثي ) :فلمَّا قطع عليّ الفراتَ دعا زيادَ بن النَّضْر ، وشُرَيْح بن هانئ ، فسرَّحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الَّذي كانا عليه حين خرجا من الكوفة ، في اثني عشر ألفا . وقد كانا حين سرَّحهما من الكوفة مقدِّمة له أخذا على شاطى ء الفرات ، من قِبَل البَرِّ ممَّا يلي الكوفة ، حَتَّى بلغا عانات ، فبلغهما أخْذ عليّ على طريق الجزيرة ، وبلغهما أنَّ معاوية أقبل في جنود الشَّام من دمشق لاستقبال عليّ ، فقالا : لا واللّه ما هذا لنا برَأي : أن نسير وبيننا وبين أمير المونين هذا البحر ! ما لنا خير أن نلقى جموعَ أهل الشَّام بقلّة من عددنا ، منقطِعين من العدد والمَدَد . فذهبوا ليعبروا من عانات ، فمنعهم أهلُ عانات ، وحبسوا عندهم السُّفن ، فأقبلوا راجعين حَتَّى عبروا من هِيت ، ثُمَّ لحقوا عليَّا بقرية دون قِرقِيسيا وقد أرادوا أهل عانات فتحصنَّوا منهم ، فلمَّا لحقت المقدِّمة عليَّا قال : « مُقدِّمتي تأتي مِن ورائي ؟ » فتقدَّم إليه زياد وشُرَيْح ُ فأخبراه بالرَّأي الَّذي رأيا ، فقال : «قد أصَبتُما رُشدَكُما » . فلمَّا عَبَر الفرات قدَّمهما أمامَهُ نحو مُعاوَيِة َ ، فلمَّا انتَهوا إلى معاوية ، لقيهم أبو الأعْوَر السَّلمي ّ في جند أهل الشَّام ، فدعَوهم إلى الدُّخول في طاعة أمير المونين فأبوا ، فبعثوا إلى عليّ : إنّا قد لقينا أبا الأعْوَر السَّلمي ّ بِسُور الرُّوم في جند من أهل الشَّام ، فدعوناه وأصحابه إلى الدُّخول في طاعتك فأبَوا علينا ، فمرنا بأمرك . [ ألا ترى مدح أمير المؤمنين عليه السلام الأشْتَر بقوله : « لا يُخافُ رَهَقُهُ » ، والرَّهَقُ مُحَرَّكَةٌ : السَّفَهُ ورُكوبُ الشَّرّ ، والظُّلم وغشيانُ المَحارِمِ إنْ كانَ مَصْدَرا ، وأمّا إن كانَ إسما من الإرهاقِ فَهُو بمعنى حَمْلِ الإنسانِ علَى ما لا يُطِيقُ ، وعلى التُّهمةِ والإثْمِ ، أي لا يخاف أن يغشى المحارِمَ ويظلمَ النَّاسَ ويَخُونَ المُسلِمينَ ، أو يحملهم على ما لا يُطيقون ، يعني أنَّه مأمون من هذه الجهات ، كما أنَّ قوله عليه السلام « ولا سِقاطِهِ » بالكسر : يعني العثرةَ والزلّة يدلّ ، على أنَّ الأشْتَر مأمون أيضا من جهة عثاره ، فهو مأمون من أن يرتكب شيئا فيه الإثْمُ والفسادُ عمدا وخطأً ، كما أنَّ قوله عليه السلام : « و لا بُطؤهُ عمَّا الإسراعُ إليهِ أحزَمُ » ، يفيد كمال العقل والتدبير في الحرب ، بحيث صار مأمونا عن الإبطاء إذا كان الإسراع موافقا للحزم والاحتياط ، أو الإسراع فيما كان الإبطاءُ فيه موافقا للحزم والاحتياط . هذه الأوصاف الَّتي وصف بها الأشْتَر تقرب من أوصاف العصمة ، كما أنَّهُ عليه السلام أوصاه عند إرسالِهِ إلى مِصر َ فقال : « فاخرُجْ فإنّي لَم أُوصِكَ اكتفيت برَأيك َ » ].
.
ص: 338
. .
ص: 339
زِيادُ بنُ النَّضْرزياد بن النَّضْر الحارثي ، كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام (1) الأجلاّء ، ومن أعوانِهِ المخلصين ، وأحد اُمراء الجيش (2) ، وتدلّ أقواله ومواقفه في صفِّين وغيرها من المشاهد ، على أنّه كان ذا وعي عميق ومعرفة رفيعة بشخصيّة المولى أمير المؤمنين عليه السلام . أشار في موقف من مواقفه إلى سبق الإمام عليه السلام في الإيمان ، ومنزلته العالية عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وأكّد على القتال في صفِّين من خلال تصوير دقيق (3) . كان من رُؤساء الكوفيّين الَّذين قدموا المدينة للاحتجاج على عثمان (4) . وكان من اُمراء جيش الإمام عليّ عليه السلام ، وتولّى في صفِّين قيادة مقدّمة الجيش مع شُرَيْح بن هاني (5) ، ولمّا صاروا في مقابل العدوّ، أمّر عليهما الإمام مالكَ الأشْتَر (6) . كان زياد صاحب لواء قبيلة مَذْحِج في المعركة (7) ، وكانت له صولات عظيمة في معارك ذي الحجّة (8) . وأوفده الإمام عليه السلام لمفاوضة أصحاب النَّهروان قبل الحرب (9) . أجل ، لقد كان طاهر القلب ، شجاعا ، خيّرا كريما ، مطيعا مخلصا لأمير المؤمنين عليه السلام .
.
ص: 340
شُرَيْحُ بنُ هانِئشُرَيْح بن هانئ بن يزيد الحارثي ، يُكنَّى أبا المِقْدَام ، كان من المُخضرَمين (1) ، أدرك النَّبيّ ولم يره (2) ، وكان من أكابر التَّابعين (3) ، ومن كبار أصحاب عليّ عليه السلام (4) وشهد معه المشاهِدَ (5) ، وكان أميرا في الجمل (6) ، وفي صفِّين من اُمراء مقدّمة الجيش وعلى الميسرة (7) . ولمّا بعث عليّ عليه السلام أبا موسى إلى دومة الجندل (8) بعث معه أربعمئة عليهم شُرَيْح بن هانئ (9) . وعندما ذُكر اسمه في زمرة الشَّاهدين على حُجْر بن عَدِي ّ ، أنفذ إلى معاوية كتابا كذّب فيه ذلك وأثنى على حُجْر (10) . قتل شُرَيْح بن هانئ في سجستان سنة 78 ه_ (11) ، وهو ابن مئة وعشرين سنة (12) .
.
ص: 341
93كتابه عليه السلام إلى جَرِير بن عبْد اللّهكتابه عليه السلام إلى جَرِير بن عبد اللّه البَجَلِيّ لمَّا أرسله إلى معاوية :« أمَّا بعدُ ؛ فإذا أتاكَ كتابي ، فاحمِلْ مُعاويةَ على الفَصلِ (1) ، وخُذهُ بالأمرِ الجَزمِ ، ثُمَّ خَيِّرهُ بينَ حَربٍ مُجَلِيَةٍ (2) ، أو سِلْمٍ مُخزِيَةٍ ، فإنْ اختارَ الحَربَ فانْبِذْ إليْهِ ، وإنْ اختارَ السِّلمَ ، فَخُذ بَيعتَهُ (3) والسَّلام » . (4)
قال ابن أعْثَم : ثُمَّ كتب النَّجاشيّ _ شاعر علي رضى الله عنه _ إلى جَرِير أبياتا مِنَ الشِّعرِ مطلَعُها : ألا لَيتَ شِعرِي والحوادثُ جَمَّةٌألِلَّعْبِ سارَ المالِكِيُّ جَرِيرُ فلمّا انتهى الكتاب إلى جَرِير ، أتى معاوية ، فأقرأه الكتاب ، فقال له : يا معاوية إنَّه لا يطبع على قلب إلاَّ بذنب ، ولا يشرح صدر إلاَّ بتوبة ، ولا أظنّ قلبك إلاَّ مطبوعا ، أراك قد وقفت بين الحقّ والباطل كأنَّك تنتظر شيئا في يَدَيْ غيرك . فقال معاوية : ألقاك بالفيصل أوّل مجلس إن شاء اللّه . فلمَّا بايع معاوية أهل الشَّام وذاقهم ، قال : يا جَرِيرُ الحَقْ بصاحبك ، وكتب إليه بالحرب . . . قال نَصْر بن مزاحم : حدَّثنا صالح بن صَدَقَة بإسناده فقال : قال :لمّا رجع جَرِير إلى عليّ عليه السلام كثر قول النَّاس في التُّهمة لجَرِير في أمر معاوية ، فاجتمع جَرِير والأشْتَر عند عليّ عليه السلام فقال الأشْتَر : أما واللّه يا أمير المونين أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الَّذي أرخى خناقه ، وأقام عنده حَتَّى لم يدع بابا يرجو فتحه ( روحه ) إلاَّ فتحه ، ولا بابا يخاف أمره إلاَّ سدّه . فقال جَرِير : لو كنت واللّه أتيتهم لقتلوكَ وخوَّفهُ بعمرو وذي الكلاع وحوشب ( ذي ظليم ) ، وقال : إنَّهم يزعمون أنّك من قتلة عثمان . فقال الأشْتَر : واللّه لو أتيتهم يا جَرِير لم يُعِيني جوابها ، ولم يثقل عليَّ محملها ، ولحملت معاوية على خطّة أُعجله فيها عن الفكر . قال : فائتهم إذا ، فقال : الآن وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشَّرّ . وروى نَصْر عن نُمَيْر بن وعلة ، عن الشَّعْبيّ قال : اجتمع جَرِير والأشْتَر عند عليّ فقال عليه السلام الأشْتَر : أليس قد نهيتك يا أمير المونين أن تبعث جَرِيرا وأخبرتك بعداوته وغِشِّهِ ؛ وأقبل الأشْتَر يشتمه ويقول : يا أخا بُجَيلة ، إنَّ عثمان اشترى منك دينك بهمدان ، واللّه ما أنت بأهل أن تترك تمشي فوق الأرض ، إنَّما أتيتهم لتتَّخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ، ثُمَّ رجعت إلينا من عندهم تهدّدنا بهم وأنت واللّه منهم ، ولا أرى سعيك إلاَّ لهم ، لئن أطاعني فيك أمير المونين ليحبسنَّك وأشباهك في حبس لا تخرجون منه حَتَّى تستتم( تستبين ) هذه الأمور ، ويُهلِكَ اللّه ُ الظَّالمين . فقال جَرِير : وددت واللّه أن لو كنت مكاني بعثت ، إذن واللّه لم ترجع . قال : سمع جَرِير مثل ذلك من قوله : فارق عليَّا عليه السلام فلحق بقرقيسياء . . . (5) [ أقول : والَّذي لم يظهر لي إلى الآن ، هو المصلحة الموجودة في إرساله إلى معاوية ، مع ما كان يقال فيه من ميله إلى عثمان وإلى معاوية ، فهل كان هو ناصحا ثُمَّ انحرف وتغيّر حَتَّى هدم عليّ عليه السلام داره ؟ أو كان في إرساله مع الوثوق به صَلاح عظيم لا ندركه ، وقال بعض : إنَّ إرساله عليه السلام جَرِيرا ، فيه مدح ولكنَّه فارقه وانحرف بعد ، وأرجو أن يتَّضح ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى .
.
ص: 342
. .
ص: 343
زحر بن قَيْس الجُعْفِيّبالزَّاء المعجمة ثُمَّ الحاء المهملة ثُمَّ الرَّاء المهملة _ بعثه أمير المؤمنين عليه السلام رسولاً إلى جَرِير ، وأنزله المَدائِن في جَماعة جعلهم هناك رابطة . ونقل الطَّبري : أنَّه في من شهد على حُجْر وأصحابه ، وذكره في أصحاب ابن مطيع في خروج المختار ، ثُمَّ في أصحاب شمر بن ذي الجوشن ، ثُمَّ في أصحاب مُصْعَب على المختار ، ثُمَّ في جند المروانيّة على مُصْعَب (1) ، وحاملاً لرأس الحسين عليه السلام ، وعلى أهله وأصحابه أناخوا ببابه ، والقائل عند يزيد ما قال . (2) هذا ولكن من المحتمل أن يكون الصَّحابيّ حامل لكتاب أمير المؤمنين عليه السلام ، غير الَّذي شهد على حُجْر وأصحابه وشهد كربلاء وحمل الرُّؤوس الشَّريفة . قال العلاّمة التُّستريّ رحمه الله : . . . إلا أنَّ اتّحاده غير مقطوع . (3) فالظَّاهر ، أنَّ حامل كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى جَرِير ، وحامل كتابه عليه السلام من البصرة إلى الكوفة ، والخطيب عند جَرِير ، والشَّاعر يوم الجمل ، هو زحر بن قَيْس شهد على حجر ، والشَّاهد في معركة كربلاء ، وحامل الرُّؤوس المباركة ، والقائل عند يزيد ما قال من الفرية والأباطيل . (4) أعاذنا اللّه من الخذلان وسوء المآب وغلبة الشَّقاء .
.
ص: 344
94كتابه عليه السلام إلى جَرِير بن عبْد اللّهمن كتاب له عليه السلام إلى جَرِير بن عبد اللّه البَجَلِيّ ، لمَّا أرسَلهُ إلى معاوية :« أَمَّا بَعْدُ ، فَإذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ علَى الْفَصْلِ ، وخُذْهُ بِالأَمْرِ الْجَزْمِ ، ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ ، أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ ، فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ ، وإِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ ، والسَّلامُ » . (1)
95كتابه عليه السلام إلى معاويةقال معاوية في رسالةٍ كتبها إلى أمير المؤمنين عليه السلام : أمَّا بَعْدُ ، فإنَّكَ المطبوعُ علَى قلبِكَ ، المُغَطَّى على بَصرِكَ ؛ الشَّرُّ من شِيمَتِكَ ، والعُتُوُّ مِن خَليْقَتِكَ ، فشمِّر للحرب ، واصْبِر للضَّربِ ، فواللّه لِيَرْجِعَنَّ الأمرُ إلى ما عَلِمْتَ ، والعاقبةُ للمتّقين . هيهاتَ هيهاتَ ، أخطأكَ ما تَمنَّى ، وهَوَى قَلبُكَ فِيما هَوَى ، فأرْبَعْ على ظِلْعِك ، وقِسْ شِبْرَك بِفِترِكَ ، تَعلم أيْنَ حالُكَ مِن حالِ مَن تَزِنُ الجبالَ حِلمُهُ ، ويَفصِل بيْنَ أهلِ الشَّكِّ عِلمُه ، والسَّلام . فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام :« أمَّا بَعْدُ ، يا ابنَ صَخْرٍ ، يا ابنَ اللَّعينِ ، يَزِنُ الجِبالَ فيْما زَعَمْتَ حِلمُكَ ، ويَفْصِلُ بَيْنَ أهْلِ الشَّكِّ عِلمُكَ ، وأنْتَ الجاهِلُ القَليلُ الفِقْهِ ، المُتَفاوِتُ العَقلِ ، الشَّارِدُ عَنِ الدِّينِ . وقُلتَ : فشَمِّر للحربِ ، واصْبِرْ ، فإنْ كنْتَ صادِقا فيْما تَزعُمُ ويُعينُك عَلَيْهِ ابنُ النَّابِغَة ِ ، فدَعِ النَّاسَ جانبِا ، وأعْفِ الفَريْقَينِ مِنَ القِتالِ ، وابرُزْ إليَّ لِتَعلَمَ أيُّنا المَرِينُ علَى قلْبهِ ، المُغَطَّى علَى بصَرِهِ ، فأنَا أبو الحَسَن ِ حقَّا ، قاتِلُ أخيكَ وخالِكَ وجدِّكَ شَدْخا يَوْمَ بَدْر ٍ ، وَذلِكَ السَّيفُ معي ، وبِذَلِكَ القلبِ ألْقَى عَدُوِّي » . (2)
.
ص: 345
96كتابه عليه السلام إلى معاوية« وإِنَّ الْبَغْيَ والزُّورَ يُوتِغَانِ( يذيعان ) الْمَرْءَ فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ ، ويُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ ، وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ ، وقَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْرا بِغَيْرِ الْحَقِّ فَتَأَلَّوْا عَلَى اللّه فَأَكْذَبَهُمْ ، فَاحْذَرْ يَوْما يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ ، ويَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ ، وقَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ ولَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ ، ولَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا ، ولَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ ، والسَّلامُ » . (1)
.
ص: 346
97كتابه عليه السلام إلى معاويةنقل في البحار ، كتابه عليه السلام إلى معاوية مع جَرِير ، قال : يروى أنَّ الكتاب الَّذي كتبه مع جَرِير كانت صورته :« إنِّي قد عَزَلتُكَ ، فَفوِّض الأمرَ إلى جَرِيرٍ ، والسَّلامُ » . (1)
98كتابه عليه السلام إلى مِخْنَف بن سُلَيْمكتابه عليه السلام إلى مِخْنَف بن سُلَيْم وغيره من العمّال : قال نصر : وفي حديث عمر بن سَعْد قال : وكتب علي ٌّ إلى عُمَّاله ، فكتب إلى مِخْنَف بن سُلَيْم :« سلامٌ علَيكَ ، فإنّي أحمَدُ اللّه َ إليكَ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ ، أمَّا بَعدُ ؛ فإنَّ جِهادَ مَنْ صَدَفَ عَنِ الحَقِّ رَغبَةً عَنهُ ، وهَبّ في نُعاسِ العَمى والضَّلالِ ، اختيارا لَهُ فَرِيضَةٌ علَى العارِفينَ . إنَّ اللّه َ يرضى عَمَّن أرضاهُ ، ويَسْخَطُ على مَن عَصاهُ ، وإنّا قَد هَمَمْنا بالمَسيرِ إلى هَواءِ القَومِ ، الَّذِينَ عَمَلوا في عِبادِ اللّه ِ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللّه ُ ، واستأثَرُوا بالفيءِ ، وعَطَّلوا الحُدودَ ، وأماتُوا الحَقَّ ، وأظهَروا في الأرضِ الفَسادَ ، واتَّخذُوا الفاسِقينَ ولِيجَةً مِن دُونِ المُوِنينَ ، فإذا وَلِيٌّ للّه ِ أعظَمَ أحْداثَهُم أبغَضوهُ وأقصَوهُ وحرَموهُ ، وإذا ظالِمٌ ساعَدَهُم على ظُلمِهِم أحبُّوه وأدنَوْهُ وبَرُّوهُ ، فَقَد أصَرُّوا على الظُّلمِ ، وأجمَعوا علَى الخِلافِ ، وقَدِيما ما صَدُّوا عَنِ الحَقَّ ، وتعاوَنُوا علَى الإثمِ ، وكانوا ظالِمينَ ، فإذا أُتيتَ بِكتابي هذا فاستَخلِفْ علَى عَمَلِكَ أوثَقَ أصْحابِكَ في نَفْسِكَ ، وأقْبِلْ إلينا ، لَعلَّكَ تَلْقى هذا العَدُوَّ المُحِلَّ ، فتأمُرُ بالمَعرُوفِ وتَنهى عَنِ المُنكَرِ وتُجامِعُ الحَقَّ ، وتُبايِنُ الباطِلَ ، فإنَّهُ لا غَناءَ بِنا ، ولا بِكَ عَن أجْرِ الجِهادِ ، وحَسبُنا اللّه ُ ونِعمَ الوَكِيلُ ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ العَلِيِّ العَظِيمِ » . وكتب عَبدُ اللّه ِ بنُ أبي رافِع ، سنةَ سبعٍ وثلاثين . (2)
.
ص: 347
لمّا فتح اللّه لأمير المؤمنين عليه السلام البصرة ، وقفل إلى الكوفة ، شاور أصحابه في أمر معاوية ، وتكلّم فيه أصحابه الكرام وعزموا على المسير ، كتب عليه السلام إلى مِخْنَف وسائر عمّاله هذا الكتاب . نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سَعْد ، عن إسماعيل بن يزيد والحارث بن حصيرة ، عن عبد الرَّحمن بن عبيد بن أبي الكَنُود ، قال : لمّا أراد عليّ المسير إلى أهل الشَّام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد اللّه وأثنى عليه وقال : « أمَّا بَعدُ ؛ فإنَّكم مَيامِينُ الرَّأي ، مَراجِيحُ الحِلْمِ ، مَقاوِيلُ بِالحَقِّ ، مُبارَكو الفِعلِ والأمْرِ . وقد أردنا المَسيرَ إلى عَدوِّنا وعَدُوِّكم ، فأشيروا علَينا برَأْيِكُم ». فقام هاشم بن عُتْبَة بن أبي وَقَّاص ، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ، ثُمَّ قال : أمَّا بَعدُ ؛ يا أميرَ المونين ، فأنا بالقومِ جِدُّ خَبير ، هم لَكَ ولِأشياعِكَ أعداءٌ ، وهُم لِمَن يَطلُبُ حَرثَ الدُّنيا أولياءُ ، وَهُم مُقاتِلُوكَ ومُجاهِدُوكَ لا يُبقونَ جَهْدا مَشاحَّةً على الدُّنيا وضَنّا بِما في أيدِيهم مِنها ، وليس لَهُم إربَةٌ غَيرَها إلاَّ ما يَخدعُونَ بهِ الجُهَّالَ مِنَ الطَّلبِ بِدَمِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ ، كَذِبوا ليسوا بِدَمِهِ يَثأرونَ ، ولكِنَّ الدُّنيا يَطلُبونَ ، فَسِرْ بنا إليهِم ، فَإنْ أجابُوا إلى الحَقِّ فَليسَ بَعدَ الحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ ، وإنْ أبَوا إلاّ الشِّقاقَ فذلِكَ الظَّنُّ بِهِم ، واللّه ِ ، ما أراهُم يُبايِعونَ وفيهِم أحَدٌ مِمَّنْ يُطاعُ إذا نَهى ولا يُسمَعُ إذا أمرَ . (1) ] ثُمَّ تكلّم بعده عَمَّار ، وقَيْس بن سَعْد بن عُبادَة ، وسَهْلُ بنُ حُنَيْف ٍ ، والأشْتَرُ مالِكُ بنُ الحارِث ِ ، ومَعْقِلُ بنُ قَيْسٍ اليَرْبُوعي ّ ، ثُمَّ الرِّياحي ُّ ، وعَدِيّ بنُ حاتَم ٍ الطَّائيّ ، وأبو زينب بنُ عَوْف ، ويَزيد بن قَيْس ، وزياد بن النَّضْر ، وزَيْد بن حُصَيْن الطَّائي ّ ، وعبدُ اللّه بن بُدَيْل بن وَرْقاء الخُزاعِي ّ ، وحُجْر بن عَدِي ّ ، وعَمْرو بن الحَمِق ، كلّهم يظهرون الطَّاعة والنَّصيحة ، وأنَّهم سِلْمٌ لمَن سَالَمه ، وحَرب لمَن حارَبه ، وإن اختلفوا في التَّعجيل في الحرب والتَّأنِّي والمكاتبة وإتمام الحُجَّة ، والَّذي أشار بالتأنِّي وإتمامِ الحُجَّةِ هو عَدِيُّ بنُ حاتم ، وكُلٌّ يتكلّم ويردّ على من يُخالِفهُ . ] فقال عليّ عليه السلام : « الطَّرِيقُ مُشترَكٌ ، والنَّاسُ في الحَقِّ سَواءٌ ، ومَن اجتهَدَ رأيهُ في نَصيحَةِ العامّةِ فَلهُ ما نوى وقَدْ قَضى ما علَيهِ » . [ وجاء جمع متّهمون بأنَّهم يكاتبون معاوية بن أبي سُفْيَان ، كعبد اللّه بن المُعْتم ّ العَبْسِيّ وحَنْظَلَة بن الرَّبيع التَّميمي ّ ، وتكلّما وأظهرا أنَّ الصَّلاح في ترك حرب معاوية ، أو في الحرب مع عدم العجلة . ] فقام إليه مَعْقِل بن قَيْس اليَرْبُوعي ّ ، ثُمَّ الرِّياحي ، فقال : يا أمير المونين ، إنَّ هؤلاء واللّه ، ما أتوك بنصح ولا دخلوا عليك إلاَّ بغشّ ، فاحذرهم فإنَّهم أدنى العدوّ . فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المونين ، إنَّه بلغني أنَّ حَنْظَلَة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حَتَّى تنقضي غزاتك ثُمَّ تنصرف . وقام إلى عليّ عليه السلام عَيَّاش بن رَبيعة ، وقائد بن بُكَيْر العَبْسيان ، فقالا : ياأمير المونين ، إنَّ صاحبنا عبد اللّه بن المُعْتمّ قد بلغنا أنّه يكاتب معاوية فاحبسه ، أو أمكنّا منه نحبسه حَتَّى تنقضي غزاتك ، وتنصرف . فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم ، وأشار عليكم بالرَّأي فيما بينكم وبين عدوّكم . فقال لهما عليّ عليه السلام : « اللّه ُ بيني وبينَكُم ، وإليهِ أَكِلُكُم ، وبهِ أستَظهِرُ عليكُم ، اذهَبُوا حَيثُ شِئتُم » . [ فهربا إلى معاوية . . . ] (2) [ فلمّا تمَّت المشاورة ، وعزم أمير المؤمنين عليه السلام على المسير إلى قتال أهل الشَّام ، كتب إلى عمّاله كُتبا ، ومنها ما كتب إلى مِخْنَف بن سُلَيْم الأزْدِيّ ، وهو هذا الكتاب . ] قال نصر : وكتب إلى أمراء أعماله كلّهم بنحو ما كتب به إلى مِخْنَف بن سُلَيْم ، وأقام ينتظرهم . (3) وقال أبو جَعْفَر الإسكافي : فلمَّا أراد أمير المؤمنين عليه السلام المسير إلى معاوية ، كتب إلى عمّاله نسخة واحدة . (4)
.
ص: 348
. .
ص: 349
. .
ص: 350
مِخْنَف بن سُلَيْم بن الحارث بن عَوْفمن غامد من الأزْد ، أسلم وصحب النَّبيّ صلى الله عليه و آله . (1) ثُمَّ سكن الكوفة ، وكان نقيب الأزْد فيها ، واستعمله أمير المؤمنين عليه السلام بعد فتح البصرة ورجوعه إلى الكوفة على إصبهان وهمدان ، وكتب إليه هذا الكتاب ، وأشخصه إلى الكوفة لحرب الشَّام ، فقال له : « استخلِفْ علَى عَمَلِكَ أوْثَقَ أصحابِكَ في نَفْسِكَ » ، فاستخلف مِخْنَف الحارثَ بنَ أبي الحارث ِ علَى إصبهان ، وسعِيدَ بنَ وَهَب ٍ علَى همدان ، وكلاهُما من قومِهِ وأقبل حَتَّى شَهِدَ صفِّين ، (2) وكان علَى الأزْد ِ وبُجَيلَة وخثعم والأنصار وخزاعة . (3) عدَّه ابن سَعْد من أهل العلم والفضل ، ومن أصحابِ النَّبيّ صلى الله عليه و آله الَّذِين نزلوا الكوفة . (4) وقال ابن حَجَر : رواياته في كتب السُّنن كثيرة . وقال الطَّبري في حرب البصرة : خرج إلى عليّ من الكوفة إثنا عشر ألف رجل ، وهم أسباع ، . . . وسبع بُجَيلَة وأنمار وخثعم والأزْد عليهم مِخْنَف بن سُلَيْم الأزْدِيّ . (5)
.
ص: 351
عَدِيُّ بنُ حاتِمعديّ بن حاتم بن عبد اللّه الطَّائيّ ، يُكَنَّى أبا طريف ، ابن سخيِّ العرب ِ المشهور حاتم الطَّائي (1) ، وأحد الصَّحابة (2) . تولّى عَدِي ّ رئاسة قبيلته ، وحضر عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله سنة ( 7 ه ) وأسلم (3) ، فأكرمه ورعى حرمته (4) . ظلّ وفيّا للولاية العلويَّة بعد وفاة النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، وذاد عن حريم الحقّ والولاية (5) . شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام مشاهده (6) . ولمّا لحق أحد أولاده بمعاوية ، برئ منه (7) . وكلماته أمام مساعير الفتنة دليل على وعيه العميق للحوادث ، وإدراكه السليم لموقف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وثباته على صراط الحقّ ، ومن كلماته : أيُّها النَّاس ، إنّه واللّه ِ ، لو غيرُ علي ٍّ دعانا إلى قتالِ أهلِ الصَّلاةِ ما أجبناهُ . . . (8) . اختاره الإمام عليه السلام لِمفاوَضَةِ العَدُوِّ في صفِّين بسبب منطقه البليغ (9) . قتل أحد أولاده في إحدى حروب الإمام ، كما فقد إحدى عينيه (10) . وكان معاوية يعظّمه ويرعى حرمته ، بَيْد أنّه كان يذكر الإمام عليه السلام في مناسبات مختلفة ويُثني عليه . ولم يتنازل عن موقفه الحقّ أمام معاوية (11) . توفي حوالي سنة 68 ه (12) ، وله من العمر مئة وعشرون سنة (13) . في الإمامة والسياسة _ في ذكر حرب صفِّين واختلاف أصحاب الإمام في استمرار القتال _ : ثمّ قام عَدِيّ بن حاتم فقال : أيُّها النَّاس ، إنّه واللّه ، لو غير علي ّ دعانا إلى قتال أهل الصَّلاة ما أجبناهُ ، ولا وقع بأمر قطّ إلاّ ومعه من اللّه برهان ، وفي يديه من اللّه سبب ، وإنّه وقف عن عثمان بشبهة ، وقاتل أهلَ الجَمَل ِ على النَّكثِ ، وأهلَ الشَّام على البغي (14) . وفي وقعة صفِّين : جاء عَدِيّ بن حاتم يلتمس عليّا ، ما يطأ إلاّ على إنسان ميّت أو قدم أو ساعد ، فوجده تحت رايات بكر بن وائل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ألا نقوم حتَّى نموت ؟ فقال عليّ :« ادنُه » ، فدنا حتَّى وضع اُذنه عند أنفه ، فقال : « ويحَكَ ، إنّ عامّةَ مَن معِي يَعصِيني ، وإنّ مُعاوِيةَ فِيمَن يُطِيعُهُ ولا يعصيه » (15) . وفي الجمل _ في ذكر أحداث ما قبل حرب الجمل _ : أقبل أمير المؤمنين عليه السلام على عديّ بن حاتم فقال له : يا عَدِيّ ، أنتَ شاهِدٌ لنا ، وحاضِرٌ مَعَنا وما نَحنُ فِيهِ ؟ فقال عَدِي ّ : شهدتك أو غبت عنك فأنا عندما أحببت ، هذه خيولنا معدّة ، ورماحنا محدّدة ، وسيوفنا مجرّدة ، فإن رأيت أن نتقدّم تقدّمنا ، وإنْ رأيت أن نُحجم أحجمنا ، نحن طوع لأمرك ، فَأْمُر بما شئت ، نسارع إلى امتثال أمرك (16) . وفي تاريخ الطبري عن جعفر بن حُذَيْفَة : إنّ عائذ بن قَيْس الحِزمري واثب عَدِيّ بن حاتم في الرَّاية بصفِّين _ وكانت حِزمر أكثر من بني عَدِي ّ رهط حاتم _ فَوثب عليهم عبد اللّه بن خليفة الطَّائيّ البَوْلاني عند عليّ ، فقال : يا بني حِزمر ، على عَدِي ّ تتوثّبون ! وهل فيكم مثل عَدِي ّ ؟ أو في آبائكم مثل أبي عديّ ؟ ! أ ليس بحامي القِربَةِ ومانع الماء يومَ رَويِّة ؟ أ ليس بابن ذي المِرباع وابن جواد العرب ؟ ! أ ليس بابن المُنهِبِ مالَهُ ومانعِ جارَهُ ؟ ! أ ليس من لم يغدر ولم يفجُر ، ولم يجهل ولم يبخل ، ولم يمنُن ولم يجبن ؟ ! هاتوا في آبائكم مثل أبيه ، أو هاتوا فيكم مثله . أ وَليس أفضلَكُم في الإسلام ؟ ! أ وَليس وافِدَكُم إلى رسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ؟ ! أ ليس برأسِكُم يَومَ النُّخَيلَة ِ ، ويومَ القادِسيَّة ِ ، ويومَ المَدائِن ِ ، ويومَ جَلولاء الوقيعة ، ويوم نهاوند ، ويوم تُستَر ؟ ! فما لكم وله ؟ ! واللّه ِ ، ما مِن قومِكُم أحدٌ يطلُب مِثلَ الَّذي تطلبون . فقال له عليّ بن أبي طالب عليه السلام : « حَسبُكَ يابنَ خَليفَة ، هَلُمّ أيُّها القومُ إليّ » ، وعلي َّ بجماعة طيّئ ، فأتوه جميعا ، فقال عليّ عليه السلام :« مَن كانَ رأسُكُم في هذهِ المَواطِنِ ؟ » قالت له طيّئ : عَدِيّ . فقال له ابن خليفة : فسلهم يا أمير المؤمنين ، أ ليسوا راضين مسلّمين لعديّ الرِّياسة ؟ ففعل ، فقالوا : نعم ، فقال لهم : عَدِيٌّ أحقّكم بالرَّايةِ ، فسلّموها له . فقال عليّ _ وضجّت بنو الحِزْم _ : « إنّي أراهُ رأسَكُم قَبلَ اليَومِ ، ولا أرى قومَهُ كُلَّهم إلاّ مُسلّمينَ لَهُ غَيرَكُم » ، فأتّبع في ذلك الكثرة ، فأخذها عَدِيّ (17) . وفي وقعة صفِّين عن المحلّ بن خليفة : لمّا توادع عليّ عليه السلام ومعاوية بصفِّين ، اختلفت الرُّسل فيما بينهما رجاء الصُّلح ، فأرسل عليّ بن أبي طالب إلى معاوية عَدِيّ بن حاتم ، وشَبَث بن رِبْعيّ ، ويَزيد بن قَيْس ، وزياد بن خصفة ، فدخلوا على معاوية ، فحمد اللّه عَدِيُّ بن حاتم وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع اللّه به كلمتنا واُمّتنا ، ويحقن اللّه به دماء المسلمين ، وندعوك إلى أفضلها سابقة ، وأحسنها في الإسلام آثارا ، وقد اجتمع له النَّاس ، وقد أرشدهم اللّه بالَّذي رأوا فأتوا ، فلم يبقَ أحد غيرك وغير من معك ، فانتهِ يا معاوية من قبل أن يصيبك اللّه وأصحابك بمثل يوم الجمل . فقال له معاوية : كأنّك إنّما جئت متهدّدا ولم تأتِ مصلحا . هيهات يا عَدِيّ ، كلاّ واللّه ، إنّي لابنُ حرب ، ما يُقعقَعُ لي بالشنان (18) . أما واللّه ، إنّك لمن المُجلبين على ابن عفّان ، وأنت لمن قتلتِه ، وإنّي لأرجو أن تكون ممّن يقتله اللّه . هيهات يا عَدِي ّ ، قد حلبت بالساعد الأشدّ (19) . وفي مروج الذَّهب : ذكر أنّ عَدِيّ بن حاتم الطَّائيّ دخل على معاوية ، فقال له معاوية : مافعلت الطَّرفات _ يعني أولاده _ ؟ قال : قُتلوا مع عليّ . قال : ما أنصفك عليّ ، قتل أولادك وبقّى أولاده . فقال عَدِي ّ : ما أنصفتُ عليّا ، إذ قتل وبقيت بعده . فقال معاوية : أما إنّه قد بقيت قطرة من دم عثمان ، ما يمحوها إلاّ دم شريف من أشراف اليمن . فقال عَدِيّ : واللّه ، إنّ قلوبنا الَّتي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإنّ أسيافنا الَّتي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فترا لندنينّ إليك من الشَّرّ شبرا ، وإنّ حزّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم ، لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليّ ، فسلِّمِ السَّيفَ يا مُعاويةُ لباعِثِ السَّيفِ . فقال معاوية : هذه كلمات حكم فاكتبوها . وأقبل على عَدِيّ محادثا له كأنّه ما خاطبه بشيء (20) . وفي المحاسن والمساوئ : إنّ عَدِيّ بن حاتم دخل على معاوية بن أبي سُفْيَان فقال : يا عَدِيّ ، أين الطَّرَفات ؟ يعني بنيه طريفا وطارفا وطرفة . قال : قُتلوا يوم صفِّين بين يدي عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه . فقال : ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدّم بنيك وأخّر بنيه ! قال : بل ما أنصفت أنا عليّا ؛ إذ قُتل وبقيتُ ! قال : صف لي عليّا . فقال : إنّ رأيت أن تُعفيني . قال : لا أعفيك . قال : كان واللّه ِ ؟ بعيدَ المدى وشديدَ القوى ، يَقولُ عدلاً ويَحكُمُ فصلاً ، تتفجّر الحكمةُ من جوانبهِ ، والعلمُ مِن نَواحيهِ ، يستوحش من الدُّنيا وزهرتها ، ويستأنِسُ بالليل ووحشته ، وكان واللّه ، غزيرَ الدَّمعة ، طويلَ الفِكرَةِ ، يُحاسِبُ نفسَهُ إذا خَلا ، ويُقلِّبُ كَفّيهِ علَى ما مضَى ، يُعجِبُهُ مِنَ اللِّباسِ القصيرُ ، ومِنَ المَعاشِ الخَشِنُ ، وكانَ فينا كأحَدِنا ، يُجيبنا إذا سألناهُ ويُدنينا إذا أتَيناهُ ، ونَحنُ مَعَ تقريبِهِ لَنا وقُربِهِ مِنّا لا نُكَلّمُه لِهَيبتهِ ، ولا نرفَعُ أعيُنَنا إليهِ لِعظمَتِهِ ، فإن تَبسَّمَ فَعَنِ اللُّؤلؤِ المَنظُومِ ، يُعظِّمُ أهلَ الدِّينِ ، يَتحبَّبُ إلى المَساكِينِ ، لا يخافُ القَوِيُّ ظُلمَهُ ، ولا ييأس الضَّعيف من عدله . فاُقسِمُ ، لَقدْ رأيتُهُ ليلةً وقَد مَثُلَ في محرابِهِ ، وأرخى اللَّيلُ سِربالَهُ وغَارَتْ نُجومُهُ ، ودُموعُهُ تتحادَرُ على لِحيَتِهِ وهو يَتملمَلُ تَملمُلَ السَّليمِ ، ويَبكِي بُكاءَ الحَزينِ ، فكأنّي الآنَ أسمَعُهُ وهُو يَقولُ : « يا دنيا ، أ إليَّ تعرّضْتِ ؟ أم إليَّ أقبَلْتِ ؟ غُرِّي غيري ، لا حانَ حَينُكِ ، قَد طَلّقتُكِ ثَلاثا لا رَجعَةَ لِي فِيكِ ، فَعيشُكِ حَقيرٌ وخَطَرُكِ يَسِيرٌ ، آهٍ مِن قِلَّةِ الزَّادِ وبُعدِ السَّفَرِ وقِلّةِ الأَنيسِ ! » قال : فوكفت عينا معاوية ينشّفهما بِكُمّه ، ثمّ قال : يَرحم اللّه ُ أبا الحسن ! كان كذا فكيف صبرك عنه ؟ قال : كصبر من ذبح ولدها في حِجرها ، فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها . قال : فكيف ذكرك له ؟ قال : وهل يتركني الدَّهر أن أنساه ! (21)
.
ص: 352
. .
ص: 353
. .
ص: 354
. .
ص: 355
. .
ص: 356
. .
ص: 357
مالِكُ بنُ حَبيبمالك بن حَبيب اليَرْبُوعيّ من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام البررة ، وعندما تحرّك الإمام عليه السلام تلقاء صفِّين ، تركه في الكوفة ليعبّئ النَّاس لنصرته . وكان قد ساءه عدم حضوره المعركة معه ، لكنّ الإمام عليه السلام وعده بالأجر العظيم ، وكان مالك على شرطة الإمام عليه السلام في الكوفة (1) . في وقعة صفِّين : أخذ مالك بن حَبيب رجلاً وقد تخلّف عن عليّ فضرب عنقه ، فبلغ ذلك قومه ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى مالك ، فنتسقّطه لعلّه أن يقرّ لنا بقتله ، فإنّه رجل أهوج . فجاؤوا فقالوا : يا مالِك ُ ، قتلتَ الرَّجُل ؟ قال : اُخبركم أنّ النَّاقة ترأم (2) ولدها . اخرجوا عنّي قبَّحكم اللّه ، أخبرتكم أنّي قتلته (3) .
.
ص: 358
99كتابه عليه السلام إلى ابن بُدَيْلذكروا أنَّه قدم عبد اللّه بن بُدَيْل بن وَرْقاء الخُزاعِيّ إلى الأنبار ، وأتبعه كتابا منه [ وهذا نصّه : ]« من عَبدِ اللّه ِ علي ّ أميرِ المؤمنين ، إلى عَبدِ اللّه ِ بنِ بُدَيْل ٍ ، سلامٌ علَيكَ . أمَّا بَعْدُ ؛ فإنَّهُ بَدا لِيَ المَقامُ بِشاطِى ء الفُراتِ لِحمَّامِ عبد اللّه ، فليجئني عَبدُ اللّه بِنُ عبَّاسٍ بِمَنْ مَعَهُ ، وحُرَيْثَ بنَ جابِر ٍ . وانظُر جُندَكَ فأقِم بِهِم بالمَكانِ الَّذي أنتَ بِهِ ، وإيَّاكَ ومُواقَعَةَ أحَدٍ مِن خَيلِ العَدُوِّ حَتَّى أتقدَّمَ علَيكَ وأَذْكِ (1) العُيونَ نَحوهُم ، ولْيَكُن مَعَ عُيونِكَ مِنَ السِّلاحِ ما يُباشِرونَ بِهِ القِتالَ ، ولْتَكُن عُيونُكَ الشُّجعانُ مِن جُندِكَ ، فَإنَّ الجَبانَ لا يأتِيكَ بِصِحَّةِ الأمرِ . وانتَهِ إلى أمرِي ومَن قِبلَكَ بإذنِ اللّه ِ ، والسَّلامُ . » (2)
عَبدُ اللّه ِ بنُ بُدَيْلعبد اللّه بن بُدَيْل بن وَرْقاء الخُزاعِيّ ، أسلم قبل فتح مكّة (3) ، وشهد حُنَينا ، والطائف ، وتبوك (4) ، أشخصه النَّبيّ صلى الله عليه و آله إلى اليمن مع أخيه عبد الرَّحمن (5) . عدّه المؤرّخون من عظماء أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأعيانهم (6) . اشتركَ عبدُ اللّه ِ في الثَّورة علَى عُثمان (7) . ثمّ كان إلى جانب الإمام أمير المؤمنين عضدا صلبا وصاحبا مُضحّيا . وشهد معه الجمل ، وصفِّين . وكان في صفِّين قائد الرَّجّالة (8) أو قائد الميمنة ، وتولّى رئاسة قُرّاء الكوفة أيضا (9) . تدلّ خُطبه وأقواله على أنّه كان يتمتّع بوعي عظيم في معرفة أوضاع عصره ، واُناس زمانه ، ودوافع أعداء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (10) . وقف عند قيام الحرب بكلّ ثبات ، وقال : إنّ معاوية ادّعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّن لهم الضَّلالة . . . وأنتم واللّه ، على نورٍ من ربّكم ، وبرهانٍ مبين (11) . دنا من معاوية بشجاعة محمودة ، وصولة لا هوادة فيها . فلمّا رأى معاوية أنّ الأرض قد ضاقت عليه بما رحُبت ، أمر أن يرضخ بالصَّخر والحجارة ويُقضى عليه . فاستشهد عبد اللّه (12) ، وسمّاه معاوية : كبش القوم ، وذكر شجاعته واستبساله متعجّبا (13) ، وذهب إلى أنّه فذّ لا نظير له في القتال . وعُدّ عبد اللّه أحد دُهاة العرب الخمسة (14) . واستشهد أخوه عبد الرَّحمن في صفِّين أيضا (15) . ودافع عبد اللّه عن إمامه حتَّى آخر لحظة من حياته بكلّ ما اُوتي من جُهد . وعندما طلب منه رفيق دربه وصاحبه الأسْوَد بن طهمان الخُزاعِيّ أن يوصيه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، قال : اُوصيك بتقوى اللّه ، وأن تُناصِحَ أمير المؤمنين ، وأن تقاتل معه المُحلّين حتَّى يظهر الحقّ أو تلحق باللّه ، وأبلغه عنّي السَّلام . . . » . وعندما بلغ الإمام صلوات اللّه عليه سلامه قال : رحمه اللّه ! جاهد معنا عدوّنا في الحياة ، ونصح لنا في الوفاة (16) . في وقعة صفِّين عن زَيْد بن وَهَب : إنّ عبد اللّه بن بُدَيْل قام في أصحابه فقال : إنّ معاوية ادّعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهلَهُ ومَن ليس مِثلَه ، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّن لهم الضَّلالة ، وزرع في قلوبهم حُبّ الفتنة ، ولبّس عليهم الأمر ، وزادهم رجسا إلى رجسهم ، وأنتم واللّه ، على نور من ربّكم وبرهان مبين . قاتلوا الطَّغام الجُفاة ولا تخشَوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربّكم ظاهر مبروز ؟ ! « أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ » (17) وقد قاتلتهم مع النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، واللّه ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرّ ، قوموا إلى عدوّ اللّه وعدوّكم (18) .
.
ص: 359
. .
ص: 360
. .
ص: 361
100كتابه عليه السلام إلى الأسْوَد بن قَطَنة« مِن عَبدِ اللّه ِ عليٍّ أميرِ المُوِنينَ إلى الأسْوَدِ بنِ قَطَنَة . أمَّا بعدُ ؛ فَإنَّهُ مَن لَمْ يَنْتَفِعْ بِما وُعِظَ لم يَحذَرْ ما هُوَ غابِرٌ (1) ، ومَنْ أعجَبتْهُ رَضِيَ بِها ، ولَيستْ بِثِقَةٍ . فاعتَبِرْ بِما مَضَى تَحذر ما بَقِيَ ، واطبَخْ لِلمُسلمِينَ قِبَلَكَ مِنَ الطِّلاءِ (2) ما يَذهَبُ ثُلثاهُ ، وأكثِرْ لَنا من لَطَفِ الجُندِ ، واجَعلْهُ مكانَ ما علَيهمِ مِن أرَزاقِ الجُندِ ؛ فَإنَّ للوِلْدانِ علَينا حَقَّا ، وفِي الذُّريَّةِ مَن يُخافُ دُعاوُ ، وهُو لَهُم صالِحٌ ، والسَّلام . » (3)
.
ص: 362
[ أقول : الأسْوَد بن قَطَنة ، كما في نصر الموجود عندي ، وقَطَبَة كما في البحار ، وفي نهج البلاغة ، وشرح البحراني : قطيبة ، بالياء ثُمَّ الباء . وفي الإصابة : الأسْوَد بن قطبة أبو مُفَزِّر ، بفتح الفاء وتشديد الزَّاء المكسورة بعدها راء . قال الدَّارقطني في المؤتلف : شهد القادسية ، وله فيها أشعار كثيرة ، هو رسول سَعْد بن أبي وَقَّاص بسبي جلولاء إلى عمر ، وهو شاعر المسلمين في تلك الأيَّام ، ذكره سيف في الفتوح ، وقال أيضا : وكان مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر ، ثُمَّ ذكر أبياتا من شعره . وقال الحميدي : لم أقف إلى الآن على نسب الأسْوَد بن قطبة ، وقرأت في كثير من النُّسخ أنَّه حارثي من بني الحارث بن كَعْب ، ولم أتحقَّق ذلك ، والَّذي يغلب على ظنّي أنَّه الأسْوَد بن زَيْد بن قطبة بن غنم الأنْصاريّ من بني عبيد بن عَدِيّ ، ذكره أبو عمر في الاستيعاب ، وقال : إنَّ موسى بن عُقْبَة عدَّه فيمن شهد بدر ا ، انتهى . وذكره الطَّبري كثيرا بكنيته . . .و نسبه إلى تميم ، وله عليه السلام كتاب آخر _ نقله المصنّف نقلاً عن نهج البلاغة _ ، يفيد أنَّه صاحب جند حلوان . (1) ]
101كتابه عليه السلام إلى الأسْوَد بن قُطبةمن كتاب له عليه السلام إلى الأسْوَد بن قُطبة صاحب جند حُلوان : « أمَّا بعدُ ، فإنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِك كَثِيرا مِنَ الْعَدْلِ ، فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاس عِنْدَك فِي الْحَقِّ سَوَاءً ، فإنَّه لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ ، فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ ، وابْتَذِلْ نَفْسَك فِيما افْتَرَضَ اللّه ُ عَلَيْك ، رَاجِيا ثَوَابَهُ ، ومُتَخَوِّفا عِقَابَهُ . واعْلَمْ أَنَّ الدُّنيا دَارُ بَلِيَّةٍ ، لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً ، إِلاَّ كَانَتْ فَرْغَتُهُ علَيْه حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وأَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَك عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ أَبَدا . ومِنَ الْحَقِّ عَلَيْك حِفْظُ نَفْسِك ، والاحْتِسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِك ، فإنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْك مِن ذَلِك أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِك ، والسَّلامُ » . (2)
.
ص: 363
102كتابه عليه السلام إلى أميرين من أمراء جيشه« وقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وعَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا ، مَالِكَ بنَ الْحَارِثِ الأَشْتَر َ ، فَاسْمَعَا لَهُ ، وأَطِيعَا ، واجْعَلاهُ دِرْعا ومِجَنّا ، فإنَّه مِمَّنْ لا يُخَافُ وَهْنُهُ ، ولا سَقْطَتُهُ ، ولا بُطْوهُ عَمَّا الإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ ، ولا إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ . » (1)
103كتابه عليه السلام إلى أُمرائه على الجيشمِن عَبْدِ اللّه عليِّ بن أبِي طالِب ٍ أميرِ المُومِنِين إلى أصْحَابِ الْمَسَالِح ِ . أَمَّا بعْدُ ، فإنَّ حَقّا على الْوَالِي ألاَّ يُغَيِّرَهُ على رَعِيَّتِه ِ فَضْلٌ نَالَهُ ، ولا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ ، وأنْ يَزِيدَهُ ما قَسَمَ اللّه لهُ مِن نِعَمِهِ دُنُوّا من عِبَادِه ، وعَطْفا على إخْوَانِهِ . أ لا وإنَّ لكُم عِنْدي ألاَّ أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّا إلاَّ في حَرْبٍ ، ولا أَطْوِي دُونَكُمْ أمْرا إلاَّ في حُكْمٍ ، ولا أُوخِّرَ لكُم حَقّا عن مَحَلِّه ، ولا أَقِفَ بهِ دُونَ مَقْطَعِهِ ، وأَنْ تَكُونُوا عِنْدي في الْحَقِّ سَوَاءً ، فَإذا فَعَلْتُ ذَلِكَ وجَبَتْ لِلّهِ عليْكُمُ النِّعْمَةُ ، ولِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ ، وألاَّ تَنْكُصُوا عن دَعْوَةٍ ، ولا تُفَرِّطُوا في صَلاحٍ ، وأنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إلى الْحَقِّ ، فَإنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لي علَى ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ علَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ ، ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ ، ولا يَجِدُ عندِي فيها رُخْصَةً فَخُذُوا هذا من أُمَرَائِكُمْ ، وأَعْطُوهُمْ من أَنْفُسِكُمْ ما يُصْلِحُ اللّه ُ بهِ أَمْرَكُم ، والسَّلامُ . (2)
.
ص: 364
104كتابه عليه السلام إلى أُمراء الأجنادوإلى العُمَّالِ الَّذِينَ يَطأُ الجَيشُ عَمَلَهُم :« مِنْ عَبْدِ اللّه ِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُومِنِينَ إلى مَن مَرَّ بهِ الْجَيْشُ مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وعُمَّالِ الْبِلاد : أَمَّا بَعْدُ ؛ فإنِّي قد سَيَّرْتُ جُنُودا ، هِي مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اللّه ُ ، وقد أَوْصَيْتُهُمْ بما يَجِبُ للّه ِ علَيهِم مِن كَفِّ الأَذَى ، وصَرْفِ الشَّذَى ، وأَنَا أَبْرَأُ إلَيكُم ، وإلَى ذِمَّتِكُم مِن مَعَرَّة الْجَيْشِ ، إلاَّ مِنْ جَوْعَةِ المُضْطَرِّ لا يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَبا إلى شِبَعِه ، فَنَكِّلُوا مَن تَنَاوَلَ مِنْهم شَيْئا ظُلْما عَن ظُلْمِهِم ، وكُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُم عَن مُضَارَّتِهِم ، والتَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيما اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُم ، وأَنا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُم ، وما عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِن أَمْرِهِم ، وما لا تُطِيقُونَ دَفْعَهُ إلاَّ بِاللّه ِ وبي ، فَأَنَا أُغَيِّرُهُ بِمَعُونَةِ اللّه ِ ، إنْ شَاءَ اللّه ُ » . (1) قال نصر : وفي حديث عمر أيضا بإسناده ، ثُمَّ قال : إنَّ عليَّا كتب إلى أُمراء الأجناد : « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن عَبدِ اللّه ِ علِيٍّ أميرِ المُونينَ ، أمَّا بَعدُ ؛ فإنّي أبرأُ إلَيكُمْ وإلى أْهلِ الذِّمَّةِ مِن مَعَرَّةِ الجَيشِ ، إلاَّ مِن جَوعةٍ إلى شَبْعَةٍ ، ومِن فَقْرٍ إلى غِنَىً ، أو عَمىً إلى هُدَىً ؛ فإنَّ ذلك علَيهِم . فاعزِلُوا النَّاسَ عَنِ الظُّلمِ والعُدوانِ ، وخُذُوا علَى أيدي سُفهائِكُم ، واحتَرسِوا أن تَعمَلُوا أعْمالاً لا يَرضى اللّه ُ بِها عنَّا ، فَيَرُدَّ علينا وعَلَيكُم دُعاءَنا ، فإنَّ اللّه َ تعالى يقولُ : « قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا » (2) فإنَّ اللّه َ إذا مَقَتَ قَوْما مِنَ السَّماءِ هَلكُوا في الأرْضِ ، فَلا تألُوا أَنْفُسَكُم خَيْرا ، ولا الجُنْدَ حُسنَ سِيرَةٍ ، ولا الرَّعِيَّةَ مَعونَةً ، ولا دِينَ اللّه ِ قُوَّةً ، وأَبلُوا في سَبِيلِهِ ما استوجَبَ عَلَيكُمْ ، فَإنَّ اللّه َ قَدِ اصطَنَعَ عِندَنا وعِندَكُمْ ما يَجِبُ علَينا أن نَشكُرَهُ بِجُهدِنا ؛ وأن نَنصُرَهُ ما بلَغَتْ قَوَّتُنا . ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه ِ » . وكتب أبو ثروان . (3)
.
ص: 365
105كتابه عليه السلام إلى جنودهقال نصر : وفي كتاب عمر بن سَعْد أيضا : وكتب إلى جنوده يخبرهم بالَّذي لهم والَّذي عليهم :« مِنْ عَبدِ اللّه ِ عَلِيٍّ أميرِ المُوِنينَ ، أمَّا بَعْدُ ؛ فَإنَّ اللّه َ جَعَلَكُم في الحَقِّ جَميعا سَواءً ، أسوَدكُم وأحْمرَكُم ، وجَعَلَكُم مِن الوالِي وجَعَلَ الوالِيَ مِنكُمْ بِمَنْزِلَةِ الوالِدِ مِنَ الوَلَدِ ، وبِمَنْزِلَةِ الوَلَدِ مِنَ الوالِدِ الَّذي لا يَكْفِيهِم مَنعُهُ إيَّاهُمْ طلبَ عَدُوِّهِ والتُّهمَةِ بهِ ، ما سَمِعْتُم وأطَعْتُم وقَضَيتُم الَّذي علَيكُم . وإنَّ حَقَّكُم علَيهِ إنصافُكُم ، والتَّعدِيلُ بَينَكُم ، والكَفُّ عن فَيئِكُم . فإذا فَعلَ ذلِكَ مَعكُم وَجَبتْ عَلَيكُم طاعَتُهُ بِما وافَقَ الحَقَّ ، ونُصرَتُهُ علَى سِيرَتِهِ ، والدَّفْعُ عَن سُلطانِ اللّه ِ ؛ فَإنَّكُم وَزَعَةُ (1) اللّه ِ في الأرضِ ، فَكُونُوا لَهُ أعوانا ، ولدِينِهِ أَنْصارا ، ولا تُفسِدُوا في الأرضِ بَعدَ إصلاحِها ، إنَّ اللّه َ لا يُحِبُّ المُفسِدينَ » . (2)
.
ص: 366
106كتابه عليه السلام إلى معاوية[ أورده مصنّف كتاب معادن الحكمة رحمه الله كتابه عليه السلام إلى معاوية (1) ، عن السَّيِّد رحمه اللهفي نهج البلاغة ، ونقل صدره عن البحراني (2) ، ولكنَّ نقل ابن أبي الحديد الكتاب بنحوٍ آخر قال : ] واعلم أنَّ هذه الخطبة [ يريد الكتاب الَّذي نقله السَّيِّد في نهج البلاغة (3) ، ونقله عنه المصنف وأوَّلُه : وكيف أنتَ إذا تَكَشَّفَتْ عَنكَ جَلابِيبُ ما أنتَ فيهِ ] قد ذكرها نَصْر بن مزاحم في كتاب صفِّين على وجه يقتضي أنَّ ما ذكره الرَّضِيُ رحمه اللهمنها ، قد ضمَّ إليه بعضَ خطبة أخرى ، وهذه عادَتَهُ ، لأنَّ غَرَضَه الْتِقاط الفصيح والبليغ من كلامه ، والَّذي ذكره نَصْر بن مُزاحم هذه صورته : [ صورة الكتاب على نصّ المعتزليّ ]« مِن عَبدِ اللّه ِ عَلِيٍّ أميرِ المُوِنينَ إلى مُعاوِيَة َ بنِ أبي سُفْيانَ : سَلامٌ علَى مَنِ اتَّبعَ الهُدى ، فإنِّي أحمَد إلَيْكَ اللّه َ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ . أمَّا بَعدُ ؛ فَإنَّكَ قَد رأيْتَ مُرورَ الدُّنيا وانقَضاءها وتَصَرُّمَها وتَصَرُّفَها بِأَهلِها ، وخيرُ ما اكتُسِبَ مِنَ الدُّنيا ما أصابَهُ العِبادُ الصَّالِحونَ مِنها مِنَ التَّقوى ، ومَن يَقِسِ الدُّنيا بِالآخِرَةِ يَجِدْ بَينَهما بَعِيدا . واعلَمْ يا مُعاوِيَة ُ ، أنَّك قَدِ ادَّعَيتَ أمْرا لستَ مِن أهلِهِ لا فِي القَديمِ ولا في الحَديثِ ، ولَسْتَ تَقولُ فيهِ بأمرٍ بَيِّنٍ يُعرَفُ لَهُ أثرٌ ، ولا عَلَيْكَ مِنهُ شاهِدٌ مِن كِتابِ اللّه ِ ، ولَسْتَ مُتعلِّقا بِآيَةٍ مِن كِتابِ اللّه ِ ، ولا عَهْدٍ مِن رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَكَيْفَ أنتَ صانِعٌ إذا تقشَّعَتْ عَنكَ غَيابَةُ ما أنتَ فيهِ مِن دنيا قَدْ فَتَنَتْ بِزِينَتِها ، ورَكَنْتَ إلى لَذَّاتِها ، وخُلِّيَ بَينَكَ وبَينَ عَدُوِّكَ فِيها ، وهُوَ عَدُوٌّ وكَلِبٌ مُضِلٌّ جاهِدٌ مُليح ، ملحّ مع ما قد ثَبَتَ في نَفْسِكَ من جِهَتِها ، دَعَتْكَ فأجَبتَها ، وقادَتْكَ فاتَّبعْتَها ، وأمَرَتْكَ فأَطعْتَها ، فَاقْعَسْ (4) عَن هذا الأمْرِ ، وخُذْ أُهبَةَ الحِسابِ ؛ فَإنَّهُ يُوشِكُ أن يَقِفَكَ واقِفٌ علَى ما لا يُجِنَّك مِجَنٌّ . ومتَى كُنتُم يا مُعاوِيَة ُ ، ساسَةَ الرَّعيَّةِ ، أو وُلاةً لأمْرِ هذهِ الأمَّةِ ، بِلا قَدَمٍ حَسَنٍ ، ولا شَرَفٍ تَليدٍ على قَومِكُم ، فاستَيْقَظْ مِن سِنَتِكَ ، وارجِعْ إلى خالِقِكَ ، وشَمِّر لِما سَيْنزِلُ بِكَ ، ولا تُمَكِّنْ عَدُوَّكَ الشَّيطانَ مِنْ بُغْيَتِهِ فِيكَ ، مَعَ أنِّي أعْرِفُ أنَّ اللّه َ ورَسُولَهُ صادِقانِ . نَعوذُ باللّه ِ مِن لُزومِ سابِقِ الشَّقاءِ ، وإلاَّ تَفْعَلْ فإنِّي أُعلِمْكَ ما أغفَلْتَ مِن نَفْسِكَ ، إنَّك مُترَفٌ ، قَد أخَذَ مِنكَ الشَّيطانُ مأْخَذَهُ ، فَجَرى مِنكَ مَجرَى الدَّمِ في العُروقِ ، ولَستَ مِن أئمَّةِ هذهِ الأمَّةِ ولا مِن رُعَاتِها . واعلَم أنَّ هذا الأمرَ لو كانَ إلى النَّاسِ أو بِأيديهِم لحَسَدُوناهُ ، ولامْتَنُّوا علَينا بهِ ، ولكِنَّهُ قَضَاءٌ مِمَّن مَنَحَناهُ واختَصَّنا بهِ علَى لِسانِ نَبيِّهِ الصَّادِقِ المُصَدَّقِ ، لا أفلَحَ مَن شَكَّ بَعدَ العِرفانِ والبَيِّنَةِ ! رَبِّ احكُم بَينَنا وبَينَ عَدُوِّنا بالحَقِّ ، وأنتَ خَيرُ الحاكِمينَ » . (5)
.
ص: 367
. .
ص: 368
[ أقول : نقل المعتزلي الكتاب عن صفِّين لنصر ، مع أنَّ بينه وبين ما في كتاب نَصْر الموجود بونا بعيدا ، وقال الشَّارح العلاّمة الآملي : واعلم أنَّ بين صورة كتاب الأمير عليه السلام على نسخة كتاب صفِّين _ الَّتي نقلت عنه _ وبين صورته على نسخته الَّتي نقلها الفاضل الشَّارح المعتزلي في شرحه على النَّهج بونا بعيدا ، وتفاوتا كثيرا ، ولسنا نعلم كيفية تطرّق مثل هذا الاختلاف الفاحش إلى كتاب واحد ، ولم يحضرني نسخة مصحّحة من كتاب صفِّين ، ولا نسخ متعددة منه ، لحكمنا على صحَّة نسخة ، ولا يبعد أن يقال : إذا كان لابدَّ من اختيار نسخة من بين النُّسخ وترجيحها على غيرها ، فالمختار هو ما في النَّهج ، لمكانة الرَّضيّ في معرفة فنون الكلام وبخصوص أساليبه . . . (1) وأمَّا بخصوص ما قاله الشَّارح المعتزلي : . . .قد ضمَّ إليه بعضَ خطبة أخرى ، وهذه عادتَه ، لأنَّ غَرَضَه الْتِقاط الفصيح والبليغ من كلامه ؛ ففيه ما لا يخفى ، وهو أنَّ غرض الشَّريف رحمه الله الْتِقاط الفصيح ( لا مزج خطبة أو كتاب بخطبة أو كتاب ) ولازمه حذف بعض من الكتاب أو الخطبة ، وغاب عنه ، إنَّ ما نسبه إلى السَّيِّد خيانة في النَّقل وكذب في الحديث ، وهو أتقى وأورع من ذلك . وحجته في ذلك ، خلوُّ رواية نَصْر بن مزاحم من بعض فقرات هذا الكتاب ، ولو كان الأمرُ كما ذكر ، لنبَّه عليه الرَّضِيُّ ، فقد عرفت احتياطه في النَّقل ، وتثبُّتهُ في الرِّواية . . . وعلى كلّ حال ، فنحن إنّما نورد نصّ نَصْر أيضا لتتميم الفائدة ، وهذا هو : ] « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن عَبدِ اللّه ِ عَلِيٍّ أميرِ المُوِنينَ إلى مُعاوِيَة َ بنِ أبي سُفْيَانَ : سَلامٌ علَى مَنِ اتَّبعَ الهُدى ، فَإنِّي أحمَدُ اللّه َ إليكَ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ . أمَّا بعدُ ؛ فإنَّكَ قَدْ رأيْتَ مِنَ الدُّنيا وتَصَرُّفِها بِأهْلِها ، وإلى ما مَضَى مِنْها ، وخيرُ ما بَقِيَ من الدُّنيا ما أصابَ العِبادُ الصَّادِقُونَ فِيما مَضَى ، ومَن نَسِيَ الدُّنيا نِسيَانَ الآخِرَةِ يَجِدْ بَينَهُما بَوْنا بَعِيدا . واعلَمْ يا مُعاوِيَة ُ ، أنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ أمرا لَسْتَ مِن أهلِهِ لا فِي القدَمِ ، ولا فِي الوِلايَةِ ، ولَسْتَ تَقولُ فيهِ بِأمْرٍ بَيِّنٍ تُعرَفُ لَكَ بهِ أثَرَةٌ ، ولا لَكَ عَليهِ شاهِدٌ مِن كِتابِ اللّه ِ ، ولا عَهْدٌ تَدَّعِيهِ مِن رَسُولِ اللّه ِ ، فكَيفَ أنْتَ صانِعٌ إذا انْقَشَعَتْ عَنكَ جَلابِيبُ ما أنتَ فِيهِ ، مِن دُنيا أبْهَجَتْ بِزِينَتِها ، وَرَكَنْتَ إلى لَذَّتِها ، وخُلِّيَ فيها بَينَكَ وبين عَدُوٍّ جاهِدٍ مُلِحٍّ ، معَ ما عَرَضَ فِي نَفْسِكَ مِن دُنيا قَدْ دعَتْكَ فأَجَبتَها ، وقادَتْكَ فاتَّبعْتَها ، وأمَرَتْكَ فأطَعْتَها . فاقْعَس عَن هذا الأمرِ ، وخُذْ أُهبةَ الحِسابِ ؛ فإنَّهُ يُوشَكُ أن يَقِفَكَ واقِفٌ علَى ما لا يُجِنَّك مِنهُ مِجَنٌّ . ومَتى كُنتُمْ يا مُعاوِيَة ُ ، ساسَةً للرَعِيَّةِ ، أو وُلاةً لأمْرِ هذهِ الأمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ حَسَنٍ ، ولا شَرَفٍ سابِقٍ علَى قَوْمِكُم . فشمِّر لِما قَدْ نَزَلَ بِكَ ، ولا تُمَكِّنِ الشَّيطانَ مِن بُغْيَتِهِ فِيكَ ، مَعَ أنِّي أعرِفُ أنَّ اللّه َ ورسُولَهُ صادِقان . فَنَعوذُ باللّه ِ مِن لُزُومِ سابِقِ الشَّقاءِ ، وإلاَّ تَفعَلْ أُعلِمْكَ ما أغفَلَكَ مِن نَفْسِكَ ، فَإنَّكَ مُترَفٌ قَد أخَذَ مِنكَ الشَّيطانُ مَأْخَذَهُ ، فَجَرى مِنكَ مَجرى الدَّمِ في العُروقِ . واعلَم أنَّ هذا الأمرَ لَو كانَ إلى النَّاسِ أو بأيديهِم لَحَسَدُونا ، وامتَنُّوا بهِ علَيْنا ، ولَكِنَّهُ قَضاءٌ مِمَّن امتَنَّ بهِ علَينا علَى لِسانِ نَبيِّهِ الصَّادِقِ المُصَدَّقِ . لا أفلَحَ مَنْ شَكَّ بَعدَ العِرفانِ والبَيِّنَةِ . اللّهُمَّ احكُمْ بَيننا وبَيْنَ عَدُوِّنا بالحَقِّ ، وأنتَ خَيرُ الحاكِمينَ » . فكتب معاوية : بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من معاوية بن أبي سُفْيَان إلى عليّ بن أبي طالب : أمَّا بعد ، فدع الحسد ، فإنَّك طالما لم تنتفِعْ به ، ولا تُفسِد سابقةَ قِدَمك بشَرَهِ نَخوَتِكَ ، فإنَّ الأعمال بخواتيمها ، ولا تمحقْ سابقتك في حقِّ من لا حقَّ لك في حقّه ، فإنَّك إن تفعل لا تضرُّ بذلك إلاّ نفسَكَ ، ولا تمحقُ إلاَّ عملَكَ ، ولا تُبطِلُ إلاَّ حجَّتكَ . ولعَمري ، ما مضى لك من السَّابقات لشبيهٌ أن يكون ممحوقا ؛ لِما اجترأت عليه من سفْك الدِّماء ، وخلاف أهلِ الحقِّ. فاقرأ سورة الفلق، وتعوَّذْ باللّه ِ من شرِّ نفسك، فإنَّك الحاسد إذا حسد. (2) [ قال الأحمديّ : استدلّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الكتاب على رواية نَصْر على ولايته بالنَّصّ ، وطالب فيما يدَّعيه نصّا ].
.
ص: 369
. .
ص: 370
. .
ص: 371
107كتابه عليه السلام إلى معاويةشيخ الطَّائفة محمَّد بن الحسن الطُّوسيّ رحمه الله ، عن محمَّد بن محمَّد قال : أخبرني أبو الحسن عليُّ بن محمَّد الكاتب ، قال : حدَّثنا الأجْلَحُ ، عن حَبيب بن أبي ثابت ، عن ثَعْلَبة بن يزَيْد الحِمَّانِيّ ، قال : كتَب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى معاوية بن أبي سُفْيَان :« أمَّا بعدُ ، فإنَّ اللّه تعالى أنْزَل إليْنا كتابَه ولم يَدَعْنا في شُبْهَةٍ ، ولا عُذْرَ لِمَن رَكَب ذَنْبا بجَهالَةٍ ، والتَّوْبَةُ مبْسُوطَةٌ ، « وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » (1) ، وأنتَ ممَّن شَرَعَ الخِلافَ ؛ متمادِيا في غِرَّةِ الأملِ ، مُختَلِفَ السِّرِّ والعَلانِيَةِ ، رَغْبةً في العاجِلِ ، وتَكْذِيبا بالآجِلِ ، وكأنَّكَ قَدْ تذَكَّرتَ ما مَضَى مِنْكَ فلَمْ تَجِدْ إلى الرُّجُوعِ سَبِيلاً » . (2)
108كتابه عليه السلام إلى عَمْرو بن العاصشيخ الطَّائفة محمَّد بن الحسن الطُّوسي رحمه الله ، عن محمَّد بن محمَّد قال : أخبرني أبو الحسن عليّ بن محمَّد الكاتب ، قال : حدَّثنا الأجْلَحُ ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ثَعْلَبة بن يزَيْد الحِمَّانِيّ ، قال : كتَب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه إلى عَمْرو بن العاص :« مِنْ عَبدِ اللّه ِ أميرِ المُؤمِنينَ إلى عَمْرو بن العاص . أمَّا بَعدُ ، فإنَّ الَّذِي أعْجَبَكَ مِمَّا تَلَوَّيْتَ مِنَ الدُّنيا ووَثِقْتَ بهِ مِنها مُنْقَلِبٌ عَنْكَ ، فلا تَطْمَئِنَّ إلى الدُّنيا ، فإنَّها غَرَّارَةٌ ، ولَو اِعْتَبَرْتَ بِما مَضَى حَذَرْتَ ما بَقِيَ ، وانْتَفَعْتَ مِنها بما وُعِظْتَ بهِ ، ولكنَّك تبَعْتَ هَواكَ وآثَرْتَهُ ، ولوْلا ذلِكَ لمْ تُؤثِرْ علَى ما دَعَوْناك إليْهِ غَيْرَهُ ، لأنَّا أعْظَمُ رَجاءً وأوْلى بالحُجَّةِ ، والسَّلامُ . » (3)
.
ص: 372
109كتابه عليه السلام إلى عَمْرو بن العاص« مِن عَبْدِ اللّه ِ علَيٍّ أميْر المُومِنينَ إلَى الأبْتَرِ بْنِ الأبْتَرِ عَمْرو بْن العَاصِ بْن وائِلٍ ، شانِئ مُحمَّدٍ وآلِ محمَّد في الجَاهِلِيَّة والإسْلام ، سَلامٌ علَى مَنِ اتَّبعَ الهُدَى . أمَّا بَعْدُ ، فإنَّك تَركتَ مرُوءَتَكَ لامْرِىًفاسِقٍ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ ، يَشِينُ الكَرِيْمَ بمَجْلِسهِ ، ويُسَفِّهُ الحَلِيمَ بخِلْطَتِهِ ، فصَارَ قلْبُك لِقَلْبِهِ تَبَعا ، كما قيل : وافَقَ شَنٌّ طَبَقَةَ ؛ فَسَلَبَكَ دِينَك وأمانَتَكَ ودُنياكَ وآخِرَتَك ، وكانَ عِلْمُ اللّه ِ بالِغا فِيكَ . فَصِرْتَ كالذِّئبِ يَتْبَعُ الضَّرْغامَ إذا ما اللَّيلُ دَجى ، أوْ أتَى الصُّبْحَ يَلْتَمِسُ فاضِلَ سُوِهِ وحَوايَا فَرِيْسَتِهِ ، ولكِن لا نَجاةَ مِنَ القَدَرِ ، ولو بالحَقِّ أَخَذْتَ لأدْرَكْتَ ما رَجَوْتَ ، وقَدْ رَشَدَ مَن كانَ الحَقُّ قائِدَهُ ، فإنْ يُمْكِنِ اللّه ُ مِنْكَ ومِن ابْنِ آكِلَةِ الأكْبادِ ، ألْحَقْتُكُما بِمَنْ قَتَلَهُ اللّه ُ مِن ظَلَمَةِ قُرَيْشٍ علَى عَهْدِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وإنْ تُعْجِزا وتَبْقيا بَعْدُ فاللّه ُ حَسْبُكُما ، وكَفى بانْتِقامِهِ انْتِقاما ، وبعِقابِهِ عِقابا ، والسَّلامُ » . (1)
.
ص: 373
110كتابه عليه السلام إلى معاوية« أمَّا بعدُ ؛ فإنَّك قد ذُقْتَ ضَرَّاءَ الحَرْبِ وأذَقتها ، وإنِّي عَارضٌ عليكُمْ ما عَرَضَ المُخارِقُ علَى بني فالَج : أيا راكِبا إمّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْبَنِي فالَجٍ حَيْثُ استقَرَّ قَرَارُها هَلُمُّوا إليْنا لا تَكونُوا كأنَّكُمْبَلاقِعُ أَرْضٍ طارَ عَنها غُبارُها سُلَيْمُ بنُ مَنْصُورٍ أناسَ بِحَرَّةٍوأَرْضُهُم أَرْضٌ كَثِيرٌ وبارُها » . (1)
111كتابه عليه السلام إلى معاويةوكتَب معاويَة إلى أميْر المؤمنين عليه السلام : أمَّا بعدُ ، فإنَّ الهَوى يُضِلُّ من اتَّبعه ، والحِرص يُتْعِبُ الطَّالِبَ المَحرومَ ، وأحمد العاقبتين ما هدى إلى سَبيل الرَّشاد ، ومِنَ العجب العجيب ذامٌّ ومادِحٌ ، وزاهِدٌ وراغِبٌ ، ومُتوكِّلٌ وحَريص ؛ كلاما ضربته لَك مثلاً ، لتدبّر حكمته ، بجميع الفهم ، ومباينة الهوى ، ومناصحة النَفس . فلَعَمْرِي يا بن أبي طالب لولا الرَّحِمُ الَّتي عَطفتني عليك ، والسَّابقةُ الَّتي سَلفت لَكَ ، لقد كان اخْتَطفتكَ بَعضُ عُقبانِ أهْلِ الشَّام ، فيصعد بك في الهَواء ، ثُمَّ قَذفك على دَكادِك شَوامِخ الأبصار ، فأُلفيتَ كسحيق الفِهر ، على صن الصَّلابَة لا يَجد الذَّرُّ فيْك مرتعا . ولقد عزمت عزمةَ مَن لا يعطفه رقَّة الأنذار إن لم تباين ما قرَّبتَ بِه أملَك ، وطَالَ له طَلْيُكَ ، ولأُورِدنَّكَ موردا تسْتَمِرُّ النَّدامة ، إن فسخ لَك في الحَياة ، بَل أظُنُّك قَبل ذلِك من الهَالِكين ، وبِئْس الرَّأي رَأي يورد أهلَه إلى المَهالك ، ويمنِّيَهم العَطَب إلى حِينَ لاتَ مَناص . وقد قذفَ بالحقِّ على الباطل ، وظَهر أمْر اللّه وهم كارِهون ، وللّه ِ الحُجَّة البالِغة ، والمِنَّةُ الظَاهِرَةُ ، والسَّلام . فلمَّا جاءَ كتابه إلى أمير المؤمنين وقَرأه ، أجابه بما لفظه : « مِن عَبْدِ اللّه ِ أميْرِ المُؤمِنينَ عليِّ بنِ أبي طَالبٍ ، إلى مُعاوِيَة َ بنَ أبي سُفْيَان . أمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ أتَانَا كتابُك بِتَنْوِيقِ المَقالِ وضَرْبِ الأمْثالِ ، وانْتِحالِ الأعْمالِ ، تَصِفُ الحِكْمَةَ ولَسْتَ مِن أهْلِها ، وتَذْكُرُ التَّقْوَى وأنْتَ علَى ضِدِّها ، قَدْ اتَّبَعْتَ هَواكَ فَحادَ بِكَ عَن طَريقِ الحُجَّةِ ، وألْحَجَ (2) بِكَ عن سَواء السَّبيل ، فأنْتَ تَسْحَبُ أذْيالَ لَذَّاتِ الفِتَنْ ، وتَخْبِطُ في زَهْرَة الدُّنْيا ، كأنَّك لَسْتَ تُوقِنُ بأوْبَة البَعْثِ ولا برَجْعَةِ المُنْقَلَبِ ، قَدْ عَقَدْتَ التَّاجَ ، ولَبِسْتَ الخَزَّ ، وافْتَرَشْتَ الدِّيباج ، سُنَّةً هِرَقْلِيَّةً ، ومُلْكا فارِسيَّا ، ثُمَّ لم يُقْنِعْك ذلِك ، حَتَّى يَبْلُغَنِي أنَّك تَعْقِدُ الأمْرَ مِن بَعْدك لِغَيْرِكَ ، فيهلِكُ دُونَك فتُحاسَبُ دُونَهُ ، ولَعَمْرِي لَئِن فَعَلْتَ ذلِك ، فمَا وَرِثْتَ الضَّلالَة عن كَلالةٍ ، وإنَّك لاَبْنُ مَن كانَ يَبْغِي علَى أهْلِ الدِّينِ ، ويَحْسُدُ المُسلمينَ . وذَكَرْتَ رَحِما عَطَفَتْكَ عليَّ ، فأقْسِمُ باللّه الأعَزِّ الأجلِّ ، أنْ لوَ نازَعَك هذا الأمْرَ في حَياتِك مَن أنْتَ تُمَهِّدُ لهُ بعْد وَفاتِك ؛ لَقَطَعْتَ حَبْلَهُ ، وأبَنْتَ أسْبابَهُ . وأمَّا تَهْدِيدُكَ لِي بالمَشارِب الوبيئة (3) ، والمَوارِد المُهْلِكة ، فأنَا عَبدُ اللّه ِ علِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، أبْرِزْ إليَّ صَفْحَتَكَ ، كَلاَّ ورَبِّ البَيْت ؛ ما أنْتَ بأبِي عُذْرٍ عِنْد القِتال ، ولا عِنْدَ مُناطَحَةِ الأبْطالِ ، وكأنِّي بِكَ لَوْ شَهِدْتَ الحَرْبَ وقَدْ قامَتْ علَى سَاقٍ ، وكَشَّرَتْ عَن مَنْظَرٍ كَرِيهٍ ، والأَرواحُ تَخْتَطِفُ اخْتِطافَ البَازِيِّ زَغِبَ القَطا ، لَصِرْتَ كالمُوَلَّهَةِ الحَيْرانَةِ ، تَضْرِبُها العَبْرَةُ بالصَّدْمَةِ ، لا تَعْرِفُ أعْلَى الوادِي مِن أسْفَلِهِ . فَدَعْ عَنْكَ ما لَسْتَ أهْلَهُ ، فإنَّ وَقْعَ الحُسَامِ غَيْرُ تَشْقِيقِ الكَلامِ ، فَكَم عَسْكَرٍ قَدْ شَهِدْتُهُ وقَرْنٍ نَازَلتُهُ ، . . . اصْطِكاكَ قُرَيْشٍ بَيْنَ يَدَي رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، إذْ أنْتَ وأبُوكَ وهو . . . وأنْتَ اليَوْمَ تُهَدِّدُني . فاُقْسِمُ باللّه ِ ، أنْ لَو تُبْدِي الأيَّامُ عَن صَفْحَتِكَ ، لَنَشَب فِيْكَ مِخْلَبُ لَيْثٍ هَصُوُرٍ ، لا يَفُوتُهُ فَرِيسَةٌ بالمُراوَغَةِ ، كيفَ وأنَّى لَكَ بِذلِكَ ، وأنْتَ قَعِيدَةُ بِنْتِ البِكْرِ المُخَدَّرَة ، يَفْزَعُها صَوْتُ الرَّعْدِ ، وأنَا عليُّ بن أبِي طالِب ، الَّذِي لا أُهَدَّدُ بالقِتالِ ، ولا أُخَوَّفُ بالنِّزالِ ، فإن شِئْتَ يا مُعاوِيَة ُ فابْرزْ ، والسَّلام » . فلمَّا وَصَل هذا الجواب إلى معاوية بن أبي سُفْيَان ، جَمَع جماعة من أصحابه ، ومنهم عَمْرو بن العاص ، فَقَرَأه علَيْهم ، فقال لَه عمرو : قدْ أنْصَفك الرَّجل ،كم رجل أحسن في اللّه قدْ قتل بينكما ، ابْرُزْ إليْهِ . فقال له : أبا عَبدِ اللّه ِ أخطأتَ إستَكَ الحُفرَةَ ، أنَا أبْرز إليه ، مع علمي أنَّه ما برز إليه أحد قَطُّ إلاَّ وقتله ، لا واللّه ِ ، ولكنِّي سأبْرِزُكَ إليهِ . (4)
.
ص: 374
. .
ص: 375
. .
ص: 376
112كتابه عليه السلام إلى معاوية« وكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْك جَلابِيبُ مَا أَنْتَ فِيه ، مِن دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا ، وخَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا ، دَعَتْك فَأَجَبْتَهَا ، وقَادَتْك فَاتَّبَعْتَهَا ، وأَمَرَتْك فَأَطَعْتَهَا ، وإنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ علَى ما لا يُنْجِيك مِنْهُ مِجَنٌّ فَاقْعَسْ عَنْ هَذَا الأَمْر ، وخُذْ أُهْبَةَ الْحِسَابِ ، وشَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِك ، ولا تُمَكِّنِ الْغُوَاةَ مِنْ سَمْعِك ، وإلا تَفْعَلْ أُعْلِمْك مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِك ، فَإِنَّك مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْك مَأْخَذَهُ ، وبَلَغَ فِيك أَمَلَهُ ، وجَرَى مِنْك مَجْرَى الرُّوحِ والدَّمِ . ومَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ ، ووُلاةَ أَمْرِ الأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ ، ولا شَرَفٍ بَاسِقٍ ، ونَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ ، وأُحَذِّرُك أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِيا فِي غِرَّةِ الأُمْنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْعَلانِيَةِ والسَّرِيرَةِ ، وقَدْ دَعَوْتَ إلى الْحَرْبِ ، فَدَعِ النَّاسَ جَانِبا ، واخْرُجْ إلَيَّ ، وأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ ، لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ علَى قَلْبِهِ ، والْمُغَطَّى علَى بَصَرِهِ ، فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّك وأَخِيك وخَالِك شَدْخا يَوْمَ بَدْرٍ ، وذَلِك السَّيْفُ مَعِي ، وبِذَلِك الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي ، مَا اسْتَبْدَلْتُ دِينا ، ولا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّا ، وإِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ ، ودَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ ، وزَعَمْتَ أَنَّك جِئْتَ ثَائِرا بِدَمِ عُثْمَانَ ، ولَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمَانَ ، فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاك إِنْ كُنْتَ طَالِبا ، فَكَأَنِّي قَدْ رَأَيْتُك تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إذا عَضَّتْك ضَجِيجَ الْجِمَالِ بِالأَثْقَالِ ، وكَأَنِّي بِجَمَاعَتِك تَدْعُونِي جَزَعا مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ ، والْقَضَاءِ الْوَاقِعِ ، ومَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ إلَى كِتَاب اللّه ، وهِي كَافِرَةٌ جَاحِدَةٌ ، أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ . (1)
.
ص: 377
113كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام أجاب به معاوية ، لمَّا كتَب إليْه في صفِّين بما نصُّه : مِن عبْد اللّه معاوية بن أبي سُفْيَان إلى عليّ بن أبي طالب . أمَّا بعدُ ، فإنَّ اللّه تعالى يقول في محكم كتابه : « وَ لَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَ_ئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » (1) ، وإنِّي أُحَذِّرك اللّه أنْ تُحْبطَ عملَك ، وسابقتك بشقِّ عَصا هذه الأمَّة وتَفْريق جماعتها ، فاتِّق اللّه ، واذْكُر موْقِف القِيامة ، وأقْلع عمَّا أسْرفتَ فيه من الخَوْض في دِماء المسلمينَ ، وإنِّي سمعتُ رسُول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « لوْ تَمالأ أهْل صَنْعاء وعَدَن على قَتل رَجل وَاحد من المسلمين ، لأكبَّهم اللّه على مَناخِرهم في النَّار » فكيف يكون حال مَن قتل أعلام المسلمين ، وسادات المهاجرين ، بَلَه ما طحنتْ رحى حربه من أهل القرآن ، وذي العبادة والإيمان ، من شيخ كبير ، وشَابّ غرير ، كلّهم باللّه تعالى مؤمن ، وله مخلص ، وبرسوله مُقِرّ عارف ، فإنْ كنت أبا حسن إنَّما تحارب على الإمرة والخلافة . فلَعَمْرِي لو صحّت خلافتك لَكنت قريبا من أنْ تعذر في حرب المسلمين ، ولكنَّها ما صحَّت لك ، أنَّى بصحّتها وأهل الشَّام لم يدخلوا فيها ولم يرتضوا بها ! وخَفِ اللّه َ وسَطواتِهِ ، واتِّق بأسه ونكاله ، وأغمد سَيْفك عَنِ النَّاسِ ، فقد واللّه أكلَتهُمُ الحَربُ ، فلم يبقَ منهم إلاَّ كالثَّمد (2) في قرارة الغدير ، واللّه المستعان . فكتب علي عليه السلام إليه جوابا عن كتابه : « من عبْد اللّه عليٍّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سُفْيَان . أمَّا بعدُ ، فَقَدْ أَتَتْنِي منْك مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ ، ورِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ ، نَمَّقْتَهَا بِضَلالِك ، وأَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِك ، وكِتَابُ امرئ لَيْسَ لَه بصَرٌ يَهْدِيه ، ولا قائِدٌ يُرْشِدُه ، دَعاهُ الهَوى فأجَابَه ، وقَادَه الضَّلالُ فاتَّبَعَه ، فَهَجَر لاغِطا ، وضَلَّ خابِطا . فأمَّا أمْرُك لي بالتَّقْوى فأرْجُو أنْ أكونَ من أهْلِها ، وأسْتَعِيذُ باللّه من أنْ أكونَ من الَّذين إذا أُمِروا بها أَخَذَتْهُم العِزَّةُ بالإثْم . وأمَّا تَحْذِيُرك إيَّاي أنْ يَحبَطَ عَمَلي وسابِقَتِي في الإسلام ، فلَعَمرِي ، لو كنْتُ البَاغِي علَيْك لكَان لَك أنْ تُحْذِّرَنِي ذلِك ، ولكنِّي وَجَدْتُ اللّه تعالى يقول : « فَقَ_تِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ » (3) ، فَنَظَرْنا إلى الفِئَتَيْن ، أمَّا الفِئَة الباغِيَةُ فَوَجَدْناها الفِئَةَ الَّتي أنْتَ فيْها ، لأنَّ بَيْعَتي بالمَدِيْنة لَزِمَتْك وأنْتَ بالشَّام ، كمَا لَزِمَتْك بَيْعَةُ عُثمان بالمَدينة وأنْتَ أمِيرُ لَعُمَرَ علَى الشَّام ، وكما لَزِمَتْ يَزِيد َ أخاكَ بَيْعَةُ عُمَرَ ، وهو أميرٌ لأبي بَكْرٍ على الشَّام . وأمَّا شقُّ عَصا هذِه الأمَّة فأنَا أحَقُّ أنْ أنْهاك عنْه . فأمَّا تَخْوِيفُك لي مِن قَتْل أهْلِ البَغْي ، فإنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمَ رَنِي بقِتالِهم وقَتْلِهم ، وقال لأصحابه : إنَّ فيْكم مَن يُقَاتِل علَى تَأوِيل القُرآن كمَا قاتَلْتُ علَى تَنْزِيْلِة . وأشارَ إليَّ وأنَا أوْلى مَنِ اتَّبَعَ أمْرَه . وأمَّا قولُك : إنَّ بَيْعَتي لمْ تَصِحَّ لأنَّ أهْلَ الشَّام لم يدْخُلُوا فيْها ؛ كيْفَ وإنَّما هي بَيْعَةٌ واحدةٌ ، تَلْزَم الحاضِرَ والغائِبَ ، لا يُثَنَّى فيْها النَّظَرُ ، ولا يُسْتَأنَفُ فيْها الخِيار ، الخارِجُ منْها طاعِنٌ ، والمُرَوِّي فيْها مُداهِنٌ ، فارْبَع على ظَلْعِك ، وانْزَعْ سِرْبالَ غَيِّك ، واتْرُك ما لا جَدْوى له علَيْك ، فلَيْس لَك عِنْدي إلاَّ السَّيْفُ ، حَتَّى تَفِئَ إلى أمْر اللّه صاغِرا وتَدْخُلَ في البَيْعَة راغِما ، والسَّلام » . (4)
.
ص: 378
. .
ص: 379
114كتابه عليه السلام إلى معاويةمن كتاب له عليه السلام أجاب به ما كتبه إليه معاوية بن أبي سُفْيَان . قال نَصْر بن مزاحم رحمه الله : لمَّا انْتَهى إلى معاوية قول أمير المؤمنين عليه السلام : إنِّي مناجِزٌ القوْمَ إذا أصبَحتُ ، وغادٍ علَيْهِم بالغَداةِ أُحاكِمُهُم إلى اللّه ِ عز و جل ؛ وشِعرُ مُعاوِيَةَ بنَ الضَّحَّاكِ ، وشعر الأشْتَر هاله ذلك ، وقال : قَدْ رأيت أن أكتب إلى عليَّ كتابا أسأله الشام _ وهو الشَّيء الأوَّل الَّذي ردّني عنه _ وألقي في نفسه الشَّك والرَّيبة . فضحك عَمْرو بن العاص ، ثُمَّ قال : أين أنت يا معاوية من خُدعَةِ عليٍّ ؟ ! فقال : ألَسنا بَنِي عبْد مَناف ؟ قال : بلَى ولَكن لَهُمُ النُّبوَّةُ دُونَكَ ، وإن شئت أنْ تكتب فاكتب . فكتب معاوية إلى علي مع رجل من السَّكاسِك ِ يقال له : عبد اللّه بن عُقْبَة ، وكان من ناقلة أهل العراق فكتب عليه السلام : أمَّا بَعدُ ، فإنِّي أظنُّك أن لو علمتُ أنَّ الحرْب تَبْلُغ بِنا وبِك ما بَلَغَتْ وعَلِمْنا ، لم يَجْنها بَعْضنا على بَعْض . وإنِّا وإن كنَّا قَد غُلِبْنا على عُقُولنا فقَد بقي لَنا منها ما نَنْدَم به على ما مَضى ونصلح به ما بقي ، وقد كنتُ سألتُك الشَّام على ألاّ يلزمني لَكَ طاعَةٌ ولا بيعة ، فأبَيْتَ ذلك علَيَّ ، فأعطاني اللّه ُ ما مَنعْتَ ، وأنَا أدْعُوك اليوْمَ إلى ما دَعَوْتُكَ إليْه أمسِ ، فإنِّي لا أرْجُو مِنَ البَقاءِ إلاَّ ما تَرجُو ، ولا أخافُ مِنَ المَوْتِ إلاَّ ما تَخافُ ، وقد واللّه رقّت الأجنادُ ، وذَهَبَتِ الرِّجالُ ، ونحْنُ بَنو عبْدِ منافٍ لَيْسَ لِبعْضِنا على بَعْضٍ فضلٌ ، إلاَّ فضْلٌ لا يَستذِلُّ بهِ عَزيزٌ ، ولا يسترقُّ به حرّ ، والسَّلام . فلمَّا انْتَهى كتاب معاوية إلى عليّ قرأه ثم قال : « العَجَبُ لِمُعاوِيَةَ وكتابِهِ » ، ثُمَّ دَعا عليٌّ عُبَيْد اللّه بن أبي رافع كاتبه فقال : اكتب إلى معاوية : « أمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ جاءَنِي كتابُكَ تَذْكُرُ أنَّك لَوْ عَلِمْتَ وعَلِمْنا أنَّ الحَرْب تَبْلُغُ بِنا وبِكَ ما بَلَغَتْ لمْ يَجْنِها بَعْضُنا على بَعْض ، فإنَّا وإيَّاك منْها في غايَةٍ لمْ تَبْلُغْها ، وإنِّي لو قُتِلْتُ في ذاتِ اللّه ِ وحَيِيتُ ، ثُمَّ قُتِلْتُ ، ثُمَّ حَيِيتُ سَبْعِين مَرَّةً لمْ أرْجِعْ عَنِ الشِّدَّةِ في ذَاتِ اللّه ِ ، والجهادِ لأعداءِ اللّه ِ . وأمَّا قولُكَ : إنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِن عُقُولِنا ما نَنْدَمُ بِهِ علَى ما مَضْى ، فَإنِّي ما نَقَصْتُ عَقْلِي ، ولا نَدِمْتُ علَى فِعْلِي . فأمَّا طَلَبُك الشَّامَ ، فإنِّي لَمْ أكُنْ لاُعْطِيكَ اليَوْمَ ما مَنَعْتُكَ أمْسِ . وأمَّا اسْتِواؤُنا في الخَوْفِ والرَّجاء ، فإنَّكَ لسْتَ أمْضى علَى الشَّكِّ مِنِّي علَى اليَقِينِ وليْسَ أهلُ الشَّامِ بأحْرَصَ علَى الدُّنيا مِن أهْلِ العِراقِ علَى الآخِرةِ . وأمَّا قَولُكَ : إنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف ، لَيْسَ لِبَعْضِنا على بَعْضٍ فَضْلٌ ؛ فلَعَمْرِي إنَّا بَنُو أبٍ واحدٍ ، ولكِن لَيْسَ أُميَّة َ كَهاشِم ، ولا حَرْبٌ كَعَبْد المُطَّلِب ِ ، ولا أبو سُفْيَان كأبِي طالِبٍ ، ولا المُهاجِرُ كالطَّلِيقِ ، ولا المُحِقُّ كالمُبْطِلِ . وفي أيْدِينا ( بعد ) فَضْلُ النُّبوَّةِ الَّتي أذْلَلْنا بِها العَزيزَ ، وأعْزَزْنا بِها الذَّليلَ ، والسَّلامُ » . (1)
.
ص: 380
. .
ص: 381
115كتابه عليه السلام إلى معاوية« أمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ أتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ [ مُوصَّلَةٌ ، ورِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ ، نَمَّقْتَهَا بِضَلالِكَ ، وأَمْضَيْتَهَا ب_ِ ] (1) _سُوءِ رَأْيِكَ ، وكِتَابٌ لَيْسَ بِبَعِيدِ الشَّبَهِ مِنْكَ ، حَمَلَك علَى الوُثُوبِ علَى ما لَيْسَ لَكَ فيْهِ حَقٌّ . ولوْلا عِلْمِي بِكَ وما قَد سَبَقَ مِن رَسُول اللّه ِ صلى الله عليه و آله فِيْكَ مِمَّا لا مَرَدَّ لَهُ دُونَ إنْفاذِهِ ، إذا لَوَعَظْتُك ، ولكنَّ عِظَتِي لا تَنْفَعُ مَن حَقَّتْ علَيْه كَلِمةُ العَذابِ ، ولَمْ يَخَفِ العِقابَ ، ولا يَرْجُو للّه ِ وَقارا ، ولَمْ يَخَفْ لَهُ حَذارا . فَشَأْنُك وما أنْتَ علَيْهِ مِنَ الضَّلالَةِ ، والحَيْرَةِ والجَهَالَةِ ، _ تَجِدِ اللّه َ في ذلِكَ بالمِرصَادِ _ مِن دُنْياكَ المُنْقَطِعَةِ ، وتَمَنِّيْك الأباطيلَ ، وقَدْ عَلِمْتَ ما قال النَّبيُّ صلى الله عليه و آله فِيْكَ وفي أمِّكَ وأبِيكَ ، والسَّلام » . (2)
.
ص: 382
116كتابه عليه السلام إلى معاوية« إنَّ بيْعَتِي شَمِلَت الخاصَّ والعامَّ ، وإنَّما الشُّورى لِلمُؤمِنين مِنَ المُهاجِرين َ الأوَّلِينَ والسَّابِقينَ بالإحسانِ مِنَ البَدْريّين َ ، وإنَّما أنتَ طَلِيقٌ بنُ طَلِيقٍ ، لَعِينٌ بنُ لَعِينٍ ، وَثَنيٌّ بنُ وَثَنيٍّ ، ليسَتْ لَكَ هِجْرةٌ ، ولا سابِقَةٌ ، ولا مَنْقَبةٌ ، ولا فَضِيلَةٌ ، وكانَ أبُوكَ مِنَ الأحزابِ الَّذِينَ حارَبُوا اللّه َ وَرَسُولَهُ ، فنَصَرَ اللّه ُ عبدَهُ ، وصَدَقَ وعْدَهُ ، وهَزَم الأحزابَ وحْدَهُ » . ثُمَّ وقَع عليه السلام في آخر الكلام : « ألَمْ تَرَ قَوْمِي إذْ دَعاهُم أخُوهُمُأجابُوا وإنْ يَغْضَبْ عَلى القَوْمِ يَغْضَبوا » (1)
117كتابه عليه السلام إلى معاوية[ نقل الكتاب نَصْر وإبراهيم الثَّقَفيّ بصورة تخالف رواية النَّهج كثيرا ، فلذلك أحببنا نقله هنا : ] _ في قبوله عليه السلام التَّحكيم _ كتَب إليه عليُّ بن أبي طالب :« مِن عَبدِ اللّه ِ عَليٍّ أميرِ المُونِينَ إلى مُعاوِيَة َ بنِ أبي سُفْيَانَ ، أمَّا بَعدُ ، فإنَّ أفضَلَ ما شَغَلَ بهِ المَرءُ نَفسَهُ اتِّباعُ ما يُحْسِنُ بهِ فِعلَهُ ، ويَستوجِبُ فَضْلُهُ ، ويَسْلُمُ من عيبِهِ . وإنَّ البغيَ والزُّورَ يُزْرِيان بالمَرءِ في دينِهِ وَدُنياهُ ، ويُبديانِ مِن خَلَلهِ عِندَ من يُغْنيهِ ما استَرعاهُ اللّه ُ ما لا يُغْني عَنهُ تَدبيرُهُ ، فاحذرِ الدُّنيا فإنَّهُ لا فرَحَ فِي شيءٍ وَصَلْتَ إليهِ مِنها ، وَلَقد عَلِمْتَ أنَّكَ غَيرُ مُدرِكٍ ما قُضِي فَواتُهُ ، وقد رامَ قَومٌ أمرا بِغَيرِ الحَقِّ فتأوَّلُوا علَى اللّه ِ تَعالى ، فأكذَبَهُم ومَتَّعَهُم قليلاً ، ثم اضطَرَّهُم إلى عَذابٍ غَلِيظٍ . فاحذَر يوما يَغتبِطُ فيهِ مَنْ أحْمَدَ عاقِبَةَ عَمَلِهِ ، وَيَندمُ فيهِ مَن أمكَنَ الشَّيطانَ من قِيادِهِ ، ولَمْ يُحادَّهُ فَغَرَّتْهُ الدُّنيا واطْمأنَّ إليها ؛ ثُمَّ إنَّك قَد دعوتَني إلى حُكمِ القُرآنِ ، ولَقدْ عَلِمْتُ أنَّكَ لَسْتَ مِن أهلِ القُرآنِ ، وَلَسْتَ حُكْمَهُ تُرِيدُ ، واللّه ُ المُستعانُ ، وقَد أجبنا القُرآنَ إلى حُكمِهِ ، ولَسْنا إيَّاكَ أجَبْنا ، ومَنْ لَمْ يَرضَ بِحُكْمٍ فقد ضَلَّ ضَلالاً بعيدا » . (2) [ أقول : هذا الكتاب جواب لكتاب عليّ عليه السلام ، نقلهُ نَصْر وإبراهيم الثَّقَفيّ ، واللَّفظ لنصر : ] ( أمّا بعدُ ) ، أنَّ الأمرَ قَد طالَ بَينَنا وبَينَكَ ، وكُلُّ واحِدٍ مِنَّا يَرَى أنَّهُ عَلى الحَقِّ فيما يطلُبُ مِن صاحِبِهِ ، ولَنْ يُعطِي واحدٌ منَّا الطَّاعَةَ للآخَرِ ، وقَد قُتِلَ فيما بَينَنا بَشَرٌ كَثِيرٌ ، وأنَا أتخَوَّفُ أن يَكونَ ما بَقِيَ أشدَّ مِمَّا مضَى ، وإنَّا ( سوف ) نُسْألُ عَن ذلِكَ المَوطِنِ ، ولا يُحاسَبُ بهِ غَيرِي وغَيرُكَ ، فَهلْ لك في أمْرٍ لَنا ولَكَ فيهِ حَياةٌ وعُذرٌ وبرَاءةٌ ، وصَلاحٌ لِلأُمَّةِ ، وحَقْنٌ للدِماءِ ، وأُلْفَةٌ لِلدِّينِ ، وذَهابٌ للضَّغائِنِ والفِتَنِ ؛ أن يَحكُمَ بَينَنا وبينَكَ حَكَمانِ رضِيَّانِ ، أحدُهُما مِن أصحَابِي والآخَرُ مِن أصحابِكَ ، فَيَحكُمان بِما في كِتاب اللّه ِ بَينَنا ؛ فإنَّهُ خَيرٌ لِي ولَكَ ، وأقْطَعُ لِهذهِ الفِتَنِ . فاتَّقِ اللّه َ فيما دُعِيتَ لَهُ ، وارْضَ بِحُكمِ القُرآنِ إنْ كُنتَ مِن أهلِهِ ، والسَّلامُ . (3)
.
ص: 383
. .
ص: 384
118كتابه عليه السلام إلى عَمْرو بن العاصكتابه عليه السلام إلى عَمْرو بن العاص بن وائل السَّهميّ :« أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا ، ولَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئا ، إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصا يَزيدُه فيْهَا رَغبةً ، ولَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ ، ومِنْ وَرَاءِ ذَلِك فِرَاقُ مَا جَمَعَ ، والسَّعِيدُ مَن وُعِظَ بِغَيْرِه ، فَلا تُحْبِط أبا عبْد اللّه أجْرَك ، ولا تُجارِ مُعاوِيَة َ في باطِلهِ » . (1)
119كتابه عليه السلام إلى عَمْرو بن العاص[ نقل مصنّف كتاب معادن الحكمة رحمه الله كتابه عليه السلام إلى عَمْرو من أمالي الشَّيخ رحمه الله (2) ، ونقله نصر بنحو آخر : ] قال : كتب عليّ عليه السلام إلى عَمْرو بن العاص كتابا ( قبل رفع المصاحِف ) ، صدره « أمَّا بعدُ ، فإنَّ الدُّنيا مَشْغلَةٌ . . . » ، وقد نقله المصنّف (3) ، فأجابه عَمْرو بن العاص : أمَّا بعدُ ، فإنَّ ما فيه صلاحنا وألفتنا الإنابة إلى الحقِّ ، وقد جعلنا القرآن حكَمَا بيننا ، فأجبنا إليه ، وصبر الرَّجل منَّا نفسَه على ما حكَم عليه القرآن ، وعذرَه النَّاس بعد المُحاجزَةِ ، والسَّلام . فكتب إليه عليّ عليه السلام : « أمَّا بعدُ ، فإنَّ الَّذي أعْجَبَك مِنَ الدُّنيا ممَّا نازَعَتْكَ إليهِ نَفْسُكَ ، ووَثِقْتَ بهِ مِنها لَمُنْقَلِبٌ عَنكَ ، ومُفارِقٌ لَكَ ، فلا تَطْمَئِنَّ إلى الدُّنيا ، فإنَّها غَرَّارَةٌ ، ولَوِ اعْتَبَرتَ بِما مضى لَحَفِظْتَ ما بَقِيَ ، وانْتفعْتَ بما وُعِظْتَ بهِ ، والسَّلامُ » . (4) [ ذكر نصر (5) كتابه عليه السلام الأوَّل وجوابه ، وفيه الدَّعوة إلى الشُّورى ، وأنَّه كتبه إليه قبل الخروج إلى صفِّين ، وذكر في موضع آخر (6) الكتاب الأوَّل وهذا الجواب ، ثُمَّ نقل هذا الكتاب ، ومِنَ العجَبِ اتَّحادُ الكتابِ الأوَّلِ في المقامين . ]
.
ص: 385
120كتابه عليه السلام إلى سَعْد بن مَسعودقال اليعقوبي :كتب عليه السلام إلى سَعْد بن مَسعود عمّ المختار بن أبي عُبيد ، وهو على المَدائِن :« أمَّا بعدُ ؛ فَإنَّكَ قَد أدَّيتَ خَراجَكَ ، وأطَعْتَ رَبَّكَ ، وأرْضَيْتَ إمامَكَ فِعلَ المُبرِّ التَّقيِّ النَّجيبِ ، فَغَفرَ اللّه ُ ذَنْبَكَ ، وتَقَبَّلَ سَعْيَكَ ، وحَسُنَ مآبُكَ » . (1)
.
ص: 386
سَعْدُ بنُ مَسْعودٍ الثَّقَفِيّسَعْد بن مَسعود الثَّقَفيّ عمّ المختار بن أبي عُبيد ، من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الأوفياء . وقيل : من أصحاب رسول اللّه (1) . ذكرت بعض المصادر أنّه اصطدم يوما بعَمّار بن ياسِر الَّذي كان واليا على الكوفة من قبل عمر (2) . ولاّه (3) الإمام عليه السلام في البداية على منطقة الزَّوابي (4) ، وعندما تحرّك الإمام عليه السلام تلقاء صفِّين ، ولاّه على المَدائِن (5)(6) . أثنى عليه الإمام عليه السلام في رسالة له ، وذكره بالتَّقوى والنّجابة ، ودعا له (7) . لمّا جُرح الإمام الحسن عليه السلام في ساباط (8) وناله سوء من أصحابه ، التجأ إلى سَعْد بن مسعود (9) . كان المختار بن أبي عبيد الثَّقَفيّ ابن أخيه (10) الَّذي استخلفه الإمام عليه السلام على المَدائِن (11) . ويُنسَب إليه أيضا المحدِّث والمؤرّخ الشيعي الكبير إبراهيم الثَّقَفيّ الكوفي (12) . في الفهرست : سَعْد بن مسعود أخو أبي عبيد بن مسعود عمّ المختار ، ولاّه عليّ عليه السلام على المَدائِن ، وهو الَّذي لجأ إليه الحسن عليه السلام يوم ساباط (13) . وقال الإمام عليّ عليه السلام _ في كتابه إلى سَعْد بن مسعود الثَّقَفيّ عامله على المَدائِن وجوخا (14) _ : « أمّا بَعدُ ، فَقَدْ وَفّرتَ علَى المُسلِمينَ فَيْأهُم وأَطَعْتَ رَبَّكَ ، ونَصَحْتَ إمامَكَ ، فِعْلَ المُتَنزِّهِ العَفيفِ ، فَقَدْ حَمَدْتُ أمْرَكَ ، ورضِيتُ هَدْيَكَ ، وأَبَبْتَ (15) رُشدَكَ ، غَفَرَ اللّه ُ لَكَ ، والسَّلامُ » (16) .
.
ص: 387
121كتابه عليه السلام إلى سَهْل بن حُنَيْفكتابه عليه السلام إلى سَهْل بن حُنَيْف وهو على المدينة [ نقلوا لهذا الكتاب صورا مختلفة : إحداها ما أورده مصنف معادن الحكمة (1) ، والثَّانية ما نقله اليعقوبي ، وهي : ] « أمَّا بَعدُ ؛ فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ رِجَالاً مِن أهْلِ المَدِينَةِ خَرجُوا إلى مُعاوِيَة َ ، فَمَنْ أدرَكْتَهُ فامنَعْهُ ، ومَن فاتَكَ فلا تأسَ عَليهِ ، فبُعدا لَهُم ، فَسوْفَ يَلْقَوْن غَيّا ، أمَّا لو بُعْثِرَتِ القُبورُ ، واجتَمَعَتِ الخُصومُ ، لَقدْ بَدا لَهُم مِنَ اللّه ِ ما لَمْ يَكونُوا يَحتَسِبونَ ، وقد جاءَني رَسولُكَ يَسأَلُني الإذنَ فأقْبِلْ ، عفا اللّه ُ عَنَّا وعَنْكَ ، ولا تَذَرْ خَلَلاً ، إن شاءَ اللّه ُ تعالَى . » (2) [ والثَّالِثَةُ : ما نقله أنساب الأشراف ، وهي : ] كتب عليه السلام إلى سَهْل بن حُنَيْف عامله على المدينة : « أمَّا بَعدُ ، فإنَّه بَلَغَنِي أنَّ رجِالاً مِن أهْلِ المَدِينَةِ يَخرُجُون إلى مُعاوِيَة َ ، فَلا تأْسَفْ عَليهِم ، فَكَفى لَهُم غَيَّا ، ولَكَ مِنهُم شافِيا فِرارُهُم مِنَ الهُدى والحَقِّ ، وإيضاعُهُم إلى العَمى والجَهْلِ ، وإنَّما هُمْ أهلُ دُنيا مُقبِلُونَ علَيها ، قد علموا أنَّ النَّاسَ يَقبَلُونَ في الحَقِّ أُسوَة ، فَهَربُوا إلى الأثَرَةِ ، فسُحقا لَهُم وبُعْدا ، أما لَو بُعثِرَتِ القُبُور ، « وَ حُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ » ، واجتَمَعَتِ الخُصومُ ، وقَضَى اللّه ُ بَينَ العِبادِ بالحَقِّ ، لَقدْ عَرَفَ القَومُ ما يَكسِبونَ ، وقَد أتاني كِتابُكَ تَسأَلُني الإذْنَ لَكَ فِي القُدومِ ، فأقدِمْ إذا شِئْتَ ، عَفا اللّه ُ عَنَّا وعَنْكَ ، والسَّلامُ . » (3) [ ونقل الشيخ الصَّدوق في الأمالي رسالة له عليه السلام إلى سَهْل بن حُنَيْف ، والمظنون أنَّها قطعة من كتابه عليه السلام إلى عثمان بن حُنَيْف عامله عليه السلام على البصرة ، وإنَّما جاء التَّحريف من النُّسَّاخ ، حيث اشتبه عليهم اسم عثمان فبدلوه باسم سهل ، ولكِنَّا ننقلها هنا كي يتبيّن للقارِئ صحَّةُ ما قلنا ، روى الصَّدوق رحمه اللهبسندين ]أنَّ أمير المونين عليه السلام قال في رسالته إلى سَهْل بن حُنَيْف رحمه الله : « واللّه ِ ، ما قَلَعتُ بابَ خَيْبَرَ ورَمَيْتُ بهِ خَلْفَ ظَهرِي أربَعينَ ذِراعا بِقُوّةٍ جَسَديَّة ، ولا حَرَكَةٍ غِذائيَّةٍ ، لَكِنِّي أُيِّدْتُ بِقُوَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ ، ونَفْسٍ بِنُورِ رَبِّها مُضِيَّةٍ ، وأنا مِن أحمَدَ كالضَّوءِ مِنَ الضَّوءِ ، واللّه ِ ، لَو تَظاهَرَتِ العَرَبُ علَى قِتالِي لَمَا ولَّيتُ ، ولو أمْكَنَتْنِي الفُرصَةُ مِن رِقابِها لَمَا بَقَّيتُ ، ومَن لَمْ يُبالِ متى حَتْفُه عَليهِ ساقِطٌ فجَنَانُهُ في المُلِمّات رابِطٌ » . (4) استخلف أمير المؤمنين سَهْل بن حُنَيْف على المدينة حين خرج من المدينة إلى البصرة ، فلمَّا انقضى حرب الجمل استأذنه في اللُّحوق به ، فأذن الإمام عليه السلام له في ذلك ، فلحق به وشهد حرب صفِّين ثُمَّ ولاّه فارس . وشهد بدر ا وثبت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم أحد ، وكان يَدفَعُ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، مات سهل بالكوفة ، وصلّى عليهِ أميرُ المؤمنين عليه السلام سنة38 . (5) [ لمَّا أراد عليٌّ عليه السلام الشُّخوصَ إلى صِفِّين ] قام سَهْلُ بن حُنَيْف ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثُمَّ قال : يا أمير المونين ، نحن سِلْمٌ لمَن سالمْتَ ، وحرْبٌ لمَن حاربْتَ ، ورأيُنا رأيك ، ونحن كفُّ يمينك ، وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشُّخوص ، وتخبرهم بما صنع اللّه لهم في ذلك من الفضل ، فإنَّهم أهل البلد وهم النَّاس ، فإن استقاموا لك استقام لك الَّذي تريد وتطلب ، وأمَّا نحن فليس عليك منَّا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك . (6) [ هو من السَّابقين الأوَّلين الرَّاجعين إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقام وقتئذٍ ] قام سَهْل بن حُنيف ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النَّبيّ محمَّد وآله ، ثُمَّ قال : يا معاشر قريش اشهدوا على أنِّي أشهد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقد رأيته في هذا المكان _ يعني الرَّوضة _ وقد أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وهو يقول : أيُّها النَّاس ، هذا عليّ إمامكم من بعدي ، ووصيّي في حياتي ، وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأوَّل مَن يصافحني على حوضي ، فطوبى لمَن اتبعه ونصره ، والويل لمَن تخلف عنه وخذله . (7)
.
ص: 388
. .
ص: 389
. .
ص: 390
سَهلُ بنُ حُنَيْفسَهْل بن حُنَيْف بن واهب الأنْصاريّ الأوْسِيّ ، أخو عثمان بن حُنَيْف (1) . من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأحد البدريّين (2) . شهد حروب النَّبيّ صلى الله عليه و آله كلّها (3) . وعندما اشتدّ القتال في اُحد وفرّ جمع كبير من المسلمين كان سهل ممّن ثبت مع النَّبيّ صلى الله عليه و آله (4) . كان سهل من السَّبَّاقين إلى الدِّفاع عن الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، إذ رعى حُرمة خلافة الحقّ (5) . وهو من القلائل الَّذين صدعوا بذَودهم عن الإمام عليه السلام (6) . اختاره الإمام عليه السلام لولاية الشَّام ، لكنّ جنود معاوية حالُوا دون وصوله إليها (7) . ثمّ ولاّه الإمام عليه السلام على المدينة (8) . وفي صفِّين دعاه إلى الالتحاق به وجعل مكانه تمّام بن عبّاس (9) . وكان فيها أميرا على خيّالة من جند البصرة (10) . ثمّ ولي فارس ، ولكنّه عُزل بسبب الفوضى وتوتّر الأوضاع فيها ، فاستعمل الإمام عليه السلام مكانه زياد بن أبيه باقتراح عبد اللّه بن عبّاس (11) . توفّي بالكوفة سنة 38 ه (12) ، وأثنى عليه الإمام عليه السلام كثيرا عند دفنه (13) . في الاُصول السِّتَّة عشر عن ذَرِيْح المحاربيّ : ذكر ( أبو عبد اللّه عليه السلام ) سَهْلَ بن حُنَيْف فقال : كان من النُّقباء (14) ، فقلت له : من نقباء نبيّ اللّه الإثني عشر ؟ فقال : نعم ، كان من الَّذين اختيروا من السَّبعين ، فقلت له : كفلاء على قومهم ، فقال : نعم ، إنّهم رجعوا وفيهم دم فاستنظروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى قابل ، فرجعوا ففزعوا من دمهم واصطلحوا ، وأقبل النَّبيّ صلى الله عليه و آله معهم . وذكر سهلا ً فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : ما سبقه أحد من قريش ولا من النَّاس بمنقبة ، وأثنى عليه وقال : لمّا ماتَ جَزعَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام جزعا شديدا ، وصلّى عليه خمسَ صلوات وقال : لو كان معي جبل لارفضّ (15)(16) . وفي رجال الكشّيّ عن الحَسن بن زَيْد : كبّر عليّ بن أبي طالب عليه السلام على سَهْل بن حنيف سبع تكبيرات ، وكان بدريّا ، وقال : لو كبّرتُ علَيهِ سبعينَ لكانَ أهلاً (17) . وقال الإمام عليّ عليه السلام _ وقد توفّي سَهْل بن حُنَيْف الأنْصاريّ بالكوفة بعد مرجعه معه من صفِّين ، وكان أحبّ النَّاس إليه _ : « لو أحَبّني جَبَلٌ لتَهافَتَ » (18) .
.
ص: 391
. .
ص: 392
122كتابه عليه السلام إلى المُنْذِر بن الجارُود[ نقل مصنف كتاب معادن الحكمة رحمه الله (1) كتابا له عليه السلام إلى المُنْذِر بن الجارود العَبديّ ، نقلاً عن نهج البلاغة ، ولكِنَّ اليعقوبيّ نقله بنحو آخر يباين نقلَ السَّيِّد ، أوردناه هنا تتميما للفائدة : ] كتب إلى المُنْذِر بن الجارود وهو على اصْطخر : « أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ صَلاحَ أبِيكَ غرَّنِي مِنكَ ، فإذا أنتَ لا تَدَعُ انقِيادَا لِهواكَ أزرَى ذلِكَ بِكَ ، بَلَغَنِي أنَّكَ تَدَعُ عَملَكَ كَثِيرا ، وتَخرُجُ لاهِيا بِمنْبَرِها ، تَطلُبُ الصَّيدَ ، وتلعَبُ بالكِلابِ ، وأُقسِمُ لَئِن كانَ حَقَّا لَنُثِيبَنَّكَ فِعلَكَ ، وجاهِلُ أهلِكَ خَيرٌ مِنكَ ، فأقبِلْ إليَّ حِينَ تنظُرُ في كتابي ، والسَّلام » . فأقبل ، فعزله وأغرمه ثلاثين ألفا ، ثُمَّ تركها لصَعْصَعة بن صُوحان بعد أن أحلفه عليها ، فحلف ، وذلك أنَّ عليَّا دخل على صَعْصَعة يعوده ، فلمّا رآه عليّ ، قال : « إنَّكَ ما عَلِمْتُ حَسنَ المعونة خفيف المؤونة » (2) . فقال صَعْصَعة : وأنتَ واللّه ِ ، يا أميرَ المُؤمِنينَ عليم ، وأنَّهُ في صدرك عظيم . فقال له عليّ : « لا تَجعَلْها أبّهَةً علَى قَومِكَ أَنْ عادَكَ إمامُكَ » . قال : لا ، يا أمير المؤمنين ، ولكنَّه مَنٌّ مِنَ اللّه ِ علَيَّ أن عادني أهلُ البيت ، وابنُ عمّ رسول ربّ العالمين . قال : غياث ، فقال له صَعْصَعة : يا أمير المؤمنين ، هذه ابنة الجارود ، تعصر عينيها كلَّ يوم لحبسك أخاها المُنْذِر ، فأخرجه ، وأنا أضمن ما عليه في أعطيات ربيعة . فقال له عليّ : « ولِمَ تَضمَنْها ، وزَعَم لنا أنَّهُ لَم يأْخُذها ، فليحلِفْ ونُخرجُهُ » . فقال له صَعْصَعة : أراه واللّه سيحلف . قال : وأنا واللّه أظنّ ذلك . وقال عليّ : « أمَا أنَّه نظَّار في عِطفَيهِ ، مُختَالٌ في بُردَيهِ ، نقَّال في شِراكِيْهِ ، فَلْيَحلِفْ بَعدُ ، أو لِيدَعَ » ، فحلف فخلَّى سبيلَهُ . (3) [ عبدي ، نسبة إلى عبد القيس ، وقد ذكره ابن أبي الحديد (4) ، وهو الَّذي كتب إليه الحسين عليه السلام فيمن كتب إليه من أشراف البصرة إلاَّ المُنْذِر ، فإنَّه خان وجاء بالكتاب والرَّسول إلى ابن زياد . (5) ]
.
ص: 393
. .
ص: 394
المُنْذِرُ بنُ الجارُودِ العَبدِيّالمُنْذِر بن الجارود العَبديّ ، واسم الجارود بِشْر بن عَمْرو بن حُبَيْش ، من صحابة الإمام عليّ عليه السلام (1) ، وكان على قسم صغير من جيشه في معركة الجَمل (2) . ولاّه الإمام عليه السلام على إصْطَخر (3) ، وكان حسن الظَّاهر ، لكنّه مضطرب الباطن ، وليس له ثبات . خان المُنْذِرُ الإمامَ عليه السلام في بيت المال ، واستأثر بقسم منه لِنَفْسهِ ، فكتب إليه الإمام كتابا عليه السلام عنّفه فيه . وبعد استلامه كتابَ الإمام جاء إلى الكوفة ، فعزله الإمام عليه السلام ، وحكم عليه بدفع ثلاثين ألف درهم ، وحبسه ، ثمّ أطلقه بشفاعة صَعصَعة بن صُوحان (4) . ولي بعض المناطق في أيّام عبيد اللّه بن زياد (5) الَّذي كان صهره (6) . وعندما عزم الإمام الحسين عليه السلام على نهضتهِ العُظمى كاتب كثيرا من الشَّخصيّات المعروفة ودعاهم إلى نُصرتِهِ والدِّفاع عَن الحقِّ . وكان المُنْذِرُ أحدَ الَّذين راسلهم الإمام عليه السلام ، لكنّه سلَّم الرِّسالة والرَّسول إلى عبيد اللّه بن زياد ، فيا عجبا من فعلته هذه (7) ! مات المُنْذِر سنة 61 ه (8) . في الغارات عن الأعْمَش : كان عليّ عليه السلام ولّى المُنْذِر بن الجارود فارسا فاحتاز مالاً من الخَراج ، قال : كان المال أربعمئة ألف درهم ، فحبسه عليّ عليه السلام ، فشفع فيه صَعْصَعَة بن صُوحان إلى عليّ عليه السلام وقام بأمره وخلّصه (9) . وفي الأخبار الطِوال : قد كان الحسين بن عليّ رضى الله عنه كتب كتابا إلى شيعته من أهل البصرة مع مولى له يسمّى سَلْمان نسخته : « بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ، مِنَ الحُسينِ بنِ عليٍّ إلى مالِك بنِ مِسْمَع ِ والأحْنَفِ بنِ قَيْس ٍ ، والمُنْذِر بنِ الجارود ومسعود بن عَمْرو وقَيْس بن الهَيْثم ، سلامٌ عليكُم ، أمّا بَعدُ ، فإنّي أدعوكُم إلى إحياءِ مَعالِمِ الحَقِّ وإماتَةِ البِدَعِ ، فإن تُجيبوا تَهتَدُوا سُبُلَ الرَّشادِ ، والسَّلام » . فلمّا أتاهم هذا الكتاب كتموه جميعا إلاّ المُنْذِرُ بن الجارود ، فإنّه أفشاه ، لتزويجه ابنته هندا من عبيد اللّه بن زياد ، فأقبل حتَّى دخل عليه ، فأخبره بالكتاب ، وحكى له ما فيه ، فأمر عبيد اللّه بن زياد بطلب الرَّسول ، فطلبوه ، فأتوه به ، فضربت عنقه (10) .
.
ص: 395
. .
ص: 396
123كتابه عليه السلام إلى مالك بن كَعْب الأرْحَبيّوهو عامله على عين التَّمر :« أمَّا بعدُ ؛ فاستخلِفْ عَلى عَمَلِكَ ، واخرُج في طائِفَة ٍ مِن أصحابِكَ ، حَتَّى تَمرَّ بأَرضِ كُورَةِ السَّوادِ ، فتسألُ عَن عُمّالي ، وتنظرُ في سِيرَتِهم ، فِيما بَينَ دِجلَة َ والعُذَيْب (1) ، ثُمَّ ارجع إلى البِهقُباذات (2) ، فَتَولَّ مَعونَتَها ، واعمَلْ بِطاعَةِ اللّه ِ فيما ولاّكَ مِنها ، واعلَم أنَّ كُلَّ عَملِ ابنِ آدمَ مَحفوظٌ عَليهِ مَجزِيّ بهِ ، فاصنَع خَيْرا ، صَنَعَ اللّه ُ بِنا وبِكَ خَيْرا ، وأعلِمْني الصِّدق فِيما صَنَعْتَ ، والسَّلامُ » . (3) [ وفي نقل بصورة أخرى ، لا بأس بإيرادها : ] « أمَّا بَعدُ ؛ فاستَخلِفْ علَى عَمَلِكَ ، واخرُجْ في طائِفة ٍ مِن أصْحابِكَ ، حَتَّى تَمُرَّ بأرضِ السَّوادِ كُورةً كُورةً ، فتسأَلُهم عَن عُمَّالِهِم ، وتَنظُرَ في سِيرَتِهِم ، حَتَّى تَمُرَّ بِمَنْ كان مِنهُم فِي ما بَينَ دِجلَة َ والفُرات ِ ، ثُمَّ ارجِعْ إلى البِهقُباذات ، فَتَولَّ مَعونَتَها ، واعمَلْ بِطاعَةِ اللّه ِ فِي ما ولاَّك مِنها . واعلَمْ أنَّ الدُّنيا فانِيَةٌ ، وأنَّ الآخِرَةَ باقِيَةٌ ، وأنَّ عَمَل ابنَ آدَمَ مَحفوظٌ علَيهِ ، وأنَّك مجزيّ بما أسلَفتَ ، وقادِمٌ علَى ما قدَّمْتَ مِن خَيْرٍ ، فاصنَعْ خَيْرا ، تَجِدْ خَيْرا . (4)
.
ص: 397
[ أقول : كَعْب بن مالك لم أجده فيما بين يديّ من الكتب ، وإن كان لفظ اليعقوبي والخَراج كما ذكرناه ، والظَّاهر أنَّه مُصَحَّفُ مالك بن كَعْب الأرْحَبيّ الهَمْدانِيّ ، الحاكم في عين التَّمر من قِبَل أمير المؤمنين عليه السلام ، كما في الطَّبري (1) والقاموس (2) ، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، الموالين المخلصين المناصحين له. وفي الغارات : أنَّ النُّعْمان بن بشير أغار على شيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، فقصد عين التَّمر ، وفيه مالك بن كَعْب معه مئة نفر ، فوقع بينهما حرب شديد ، فاستسلموا للموت ، فاستصرخ مِخْنَف بن سُلَيْم ، فأمدّه بابنه مع خمسين رجلاً ، فشدّوا على أهل الشَّام ، فدفعوهم ، ونجا مالك بن كَعْب ، فكتب إلى عليّ عليه السلام : ] أمَّا بعدُ ؛ فقد نزل بنا النُّعْمان بن بشير في جمع من أهل الشَّام ، كالظَّاهر علينا ، وكان عظم أصحابي متفرقين ، وكنَّا للذي كان منهم آمنين ، فخرجنا إليهم رجالاً مصلتين ، فقاتلناهم حَتَّى المساء ، واستصرخنا مِخْنَف بن سُلَيْم ، فبعث إلينا رجالاً من شيعة أمير المونين عليّ عليه السلام وولده عند المساء ، فَنِعمَ الفتى ونعم الأنصار كانوا ، فحملنا على عدوّنا وشددنا عليهم ، فأنزل اللّه علينا نصره ، وهزم عدوّه ، وأعزَّ جنده ، والحمد للّه ربّ العالمين ، والسَّلام عليك ياأمير المونين ، ورحمة اللّه وبركاته . (3) [ شهد مالك صفِّين ، واسمه مكتوب في الصُّلح ، كما نقله الطَّبري . (4) وهو الَّذي أجاب دعوة أمير المؤمنين عليه السلام حين حثَّ النَّاس على المسير إلى مصر لنصرة محمَّد بن أبي بكرٍ رحمه الله ، فقال : ] يا أمير المونين إندب النَّاس معي ، فإنَّه لاعطر بعد عروس، لِمِثْلِ هذا اليوم كُنتُ ، أدَّخِرُ نفسي ، وإنَّ الأجر لا يأتي إلاّ بالكَرّةِ . ثُمَّ التفت إلى النَّاس وقال : اتقوا اللّه ، وأجيبوا إمامكم ، وانصروا دعوته ، وقاتلوا عدوَّكم ، وأنا أسير إليهم يا أمير المونين . (5) [ نقل في الأنساب صورة أخرى من هذا الكتاب ، وهي : ] وكتب عليه السلام إلى مالك بن كَعْب الأرْحَبيّ : « إنِّي ولَّيتُكَ مَعونَةَ البِهقُباذات ِ ، فآثِرْ طاعَةَ اللّه ِ ، واعلَمْ أنَّ الدُّنيا فانِيَةٌ ، والآخِرَةَ آتِيَةٌ ، واعمَلْ صالِحا تُجْزَ خَيْرا ، فإنَّ عَمَلَ ابنِ آدَمَ مَحفُوظٌ عَليهِ ، وإنَّهُ مَجزِيٌّ بهِ ، فَعَلَ اللّه ُ بِنا وبِكَ خَيْرا والسَّلامُ » . (6) [ كأنَّ البلاذريّ لَخَّصهُ وأسقطَ أوَّلَهُ . وقال الثَّقَفيّ في الغارات ما ملخّصه : ] عبد الرَّحمن بن جُنْدُب عن أبيه : أنَّ أهل دومة الجندل من كلب ، لم يكونوا في طاعة عليّ عليه السلام ، ولا معاوية . . . فذكرهم معاوية مرَّة ، فبعث إليهم مسلم بن عُقْبَة المُرِّيّ فسألهم الصَّدَقة ، وحاصَرهُم ، فبَلَغ ذلِكَ عَليَّا عليه السلام ، وامرأ القيس بن عَدِيّ أصهاره ، فبعث إلى مالك بن كَعْب ، فقال : « استَعْمِلْ علَى عَينِ التَّمر ِ رَجُلاً ، وأقبِلْ إليَّ » . فولاّها عبد الرَّحمن بن عبد اللّه بن كَعْب الأرْحَبيّ ، وأقبل إلى عليّ عليه السلام ، فسرَّحه في ألف فارس ، فما شعر مسلم بن عُقْبَة إلاّ ومالك بن كَعْب إلى جنبه نازلاً ، فتواقفا قليلاً ، ثُمَّ إنَّ النَّاس اقتتلوا ، واطَّردوا يومهم ذلك إلى اللَّيل ، لم يستفز بعضهم من بعض شيئا ، حَتَّى إذا كان من الغد ، صلَّى مسلم بأصحابه ، ثُمَّ انصرف ، وأقام مالك بن كَعْب في دومة الجندل يدعوهم إلى الصُّلح عشرا ، فلم يفعلوا ، فرجع إلى عليّ عليه السلام . (7)
.
ص: 398
. .
ص: 399
مالِكُ بنُ كَعْبمالك بن كَعْب الأرْحَبيّ ، من أصحاب الإمام عليّ عليه السلام ، ومن أركان حكومته . كان واليا على عين التَّمر (1) ، وبِهقُباذات (2) ، مضافا إلى إشرافه على عمل سائر المسؤولين في الكوفة والجزيرة . وممّا يُثنى عليه شجاعته الَّتي أبداها قبال هجوم النُّعْمان بن بشير على عين التَّمر ؛ فإنّه واجه جيش النُّعْمان الَّذي قوامه ألفي فارس بسريّة قوامها مِئةُ مقاتل فقط ، حتَّى وصل الإسناد العسكري إليه ، واضطرّ النُّعْمان إلى الفرار (3) . كما استدعي لمواجهة جيش مسلم بن عُقْبَة المُرِّيّ في دومة الجندل ، فكان موفّقا في هذه المهمّة أيضا . وممّا يدلّ على حسن معرفته ؛ إظهار استعداده لإعانة محمّد بن أبي بكر في الوقت الَّذي لم يلبِّ دعوة الإمام أحد . في الغارات عن عبد اللّه بن حَوزة الأزْدِيّ : كنت مع مالك بن كَعْب حين نزل بنا النُّعمان بن بَشِير وهو في ألفين ، وما نحن إلاّ مئة ، فقال لنا : قاتلوهم في القرية واجعلوا الجدر في ظهوركم ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة ، واعلموا أنّ اللّه تعالى ينصر العشرة على المئة ، والمئة على الألف ، والقليل على الكثير ، ممّا يفعل اللّه ذلك . ثمّ قال : إنّ أقرب من هاهنا إلينا من شيعة عليّ عليه السلام وأنصاره وعُمّاله قَرَظةُ بن كَعْب ومِخْنَف بن سليم ، فاركض إليهما وأعلمهما حالنا ، وقل لهما : فلينصرانا بما استطاعا . فأقبلت أركض وقد تركته وأصحابه ، وإنّهم ليترامون بالنَّبل ، فمررت بقرظة بن كَعْب فاستغثته ، فقال : إنّما أنا صاحب خراجٍ وما معي أحدٌ اُغيثه به ، فمضيت حتَّى أتيت مِخْنَف بن سُلَيْم فأخبرته الخبر ، فسرّح معي عبد الرَّحمن بن مِخْنَف في خمسين رجلاً ، وقاتلهم مالك بن كَعْب وأصحابه إلى العصر ، فأتيناه وقد كسر هو وأصحابه جفون (4) سيوفهم واستسلموا للموت ، فلو أبطأنا عنهم هلكوا ، فما هو إلاّ أن رآنا أهل الشَّام قد أقبلنا عليهم أخذوا ينكصون عنهم ويرتفعون ، ورآنا مالك وأصحابه فشدّوا عليهم حتَّى دفعوهم عن القرية واستعرضناهم ، فصرعنا منهم رجالاً ثلاثة وارتفع القوم عنّا ، وظنّوا أنّ وراءنا مددا ، ولو ظنّوا أنّه ليس غيرنا لأقبلوا علينا وأهلكونا ، وحال بيننا وبينهم اللَّيل فانصرفوا إلى أرضهم . (5) وفي أنساب الأشراف : بعث معاوية ( مسلم ) بن عُقْبَة المُرِّيّ إلى أهل دومة الجندل (6) _ وكانوا قد توقّفوا عن البيعة لعليّ ومعاوية جميعا _ فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته ، وبلغ ذلك عليّا فبعث إلى مالك بن كَعْب الهَمْدانِيّ أن خلّف على عملك من تثق به وأقبل إليَّ . ففعل واستخلف عبد الرَّحمن بن عبد اللّه الكِنْديّ ، فبعثه عليٌّ إلى دومة الجندل في ألف فارس ، فلم يشعر مسلم إلاّ وقد وافاه ، فاقتتلوا يوما ثمّ انصرف مسلم منهزما ، وأقام مالك أيّاما يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعليّ ، فلم يفعلوا وقالوا : لا نبايع حتَّى يجتمع النَّاس على إمام . فانصرف (7) . وفي تاريخ الطبري _ بعد أن ذكر خطبة الإمام عليه السلام يستنفر النَّاس لإغاثة محمّد بن أبي بكر وأصحابه ، وعدم استجابة النَّاس له عليه السلام _ : فقام إليه مالك بن كَعْب الهَمْدانِيّ ثمّ الأرْحَبيّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اندب النَّاس فإنّه لا عطر بعد عروس (8) ، لمثل هذا اليوم كنت أدّخر نفسي ، والأجر لا يأتي إلاّ بالكرّة ، اتّقوا اللّه وأجيبوا إمامكم ، وانصروا دعوته ، وقاتلوا عدوّه ، أنا أسير إليها يا أمير المؤمنين ، قال : فأمر عليّ مناديه سعد ا ، فنادى في النَّاس : ألا انتَدِبُوا إلى مِصرَ مَعَ مالِكِ بنِ كَعْب ٍ (9) .
.
ص: 400
. .
ص: 401
. .
ص: 402
124كتابه عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِيّنقل البَلاذري في أمر خِرّيت بن راشِد :فكتب عليّ إلى أبي موسى الأشْعَرِيّ :« إنِّي كنتُ أمرتُكَ بالمُقامِ في دِيرِ أبي موسَى فِيمَنْ ضَمَمتُ إليكَ إلى أنْ يَتَّضِحَ خَبَرُ القَوْمِ الظَّالِمِي أنْفُسِهِم الباغِينَ علَى أهْلِ دِينِهِم ، وقَدْ بَلَغنِي أنَّ جَماعَةً مَرُّوا بِقَرْيَةٍ ، يُقال لَها : « نفر » ، فَقَتلُوا رَجُلاً مِن أهْلِ السَّوادِ مُصَلِّيا ، فانَهَضْ إليْهِم علَى اسْمِ اللّه ِ ، فَإنْ لَحِقْتَهُم فادعُهُم إلى الحَقِّ ، فإنْ أَبوْهُ فنَاجِزْهُم ، واسْتَعِنْ باللّه ِ عَليهِم » .
ففاتوه ولم يلقهم ، وذلك قبلَ خُروج أبي مُوسى للحَكَم . (1) لقد اشتبه الأمر على البلاذري ، وفي الحقيقة هذا صورة أخرى من كتابه عليه السلام إلى زياد بن حفصة .
.
ص: 403
125كتابه في الصلحكتاب الصلح بينه عليه السلام وبين معاوية : [ أورد مصنف كتاب معادن الحكمة (1) قصّة الحَكَمين عن أمالي الشَّيخ الطُّوسيّ رحمه الله ، واقتصر على ما جرى وقتئذ من كلام معاوية وعَمْرو بن عاص لعنهما اللّه تعالى حول مَحوِ كلمة أمير المؤمنين من الكتاب ، وكلام الأحنف والأشْعَث وكلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم ينقل نصّ الكتاب ، ولعلّه لِزَعْمٍ أنَّه ليسَ مِن مَكتوباتِهِ بِخَطّ يدِهِ ، ولا من إملاء كان منه عليه السلام ،قال : ] أخبرنا مُحَمَّد بن محمّد ، فقال أخبرني أبو عُبيد اللّه مُحَمَّد بن عِمْرَان المرزباني ، فقال حدَّثنا مُحَمَّد بن موسى ، فقال حدَّثني مُحَمَّد بن أبي السّري ، فقال حدّثنا هِشام ، عن أبي مِخْنَف ، عن عبد الرَّحمن بن جُنْدُب ، عن أبيه ، قال : لمَّا وقع الاتفاق على كتب القضيَّة بين أمير المونين عليه السلام وبين معاوية بن أبي سُفْيَان ، حضر عَمْرو بن العاص في رجال من أهل الشَّام ، وعبد اللّه بن عبَّاس في رجال من أهل العراق ، فقال أمير المونين عليه السلام للكاتب : اكتب : « هذا ما تقاضى عَليهِ أميرُ المُوِنين َ عليُّ بنُ أبي طالب ٍ ومُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَان . . . (2) وعلى كل حال ، فنحن ننقله على صوره المختلفة : قال نصر : عَمْرو بن شمر ، عن جابر ، عن زَيْد بن حسن ، قال عمرو : قال جابر : سمعت زَيْد بن حسن ، _ وذكر كتاب الحَكمين ، فزاد فيه شيئا على ما ذكره مُحَمَّد بن عليّ الشَّعْبيّ ، في كَثرة الشُّهود ، وفي زيادة في الحروف ونقصان ، أملاها عَليَّ من كتاب عنده ، فقال : هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب ومعاوية ُ بن أبي سُفْيَانَ وشيعتُهما ، فيما تراضَيَا به من الحُكم بكتاب اللّه ِ ، وسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه و آله ، قضيَّة علي ٍّ على أهل العراق ، ومَن كان من شيعته مِن شاهد أو غائب ، وقضيَّة معاوية على أهل الشَّام ، ومَن كان من شيعته مِن شاهد أو غائب . إنَّا رضينا أن نَنزل عند حُكم القرآن فيما حَكم ، وأن نَقِف عند أمره فيما أمَر ، وإنَّه لا يجمع بيننا إلاَّ ذلك . وإنَّا جعلْنا كتاب اللّه فيما بيننا حَكَما فيما اختلفْنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نُحيِي ما أحيا ، ونُميت ما أمات . على ذلك تقاضَيَا ، وبه تراضَيَا . وإنَّ عليَّا وشيعتَه رضُوا أن يَبعثُوا عبد اللّه بنَ قَيْس ٍ ناظِرا ومحاكما ، ورضي معاوية ُ وشيعته أن يبعثوا عَمْرو بن العاص ناظِرا ومحاكِما ؛ على أنَّهما أخذوا عليهما عهدَ اللّه وميثاقَه ، وأعظَمَ ما أخَذَ اللّه ُ على أحد من خلقه ، لَيَتَّخذان الكتابَ إماما فيما بُعِثا له ، لا يَعدُوَانه إلى غيره في الحُكم بما وجداه فيه مسطورا ؛ وما لم يجداه مسمًّى في الكتاب ردَّاه إلى سنَّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله الجامعة ، لا يتعمّدان لهما خلافا ، ولا يتَّبعان في ذلك لهما هوىً ، ولا يدخلان في شُبهة . وأخذ عبد اللّه بن قَيْس وعَمْرو بن العاص على علي ٍّ ومعاوية َ عهدَ اللّه وميثاقَه بالرِّضا بما حَكَما به من كتاب اللّه وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه و آله ، وليس لهما أن ينقضا ذلك ، ولا يخالفاه إلى غيره ، وأنَّهما آمنان في حكومتهما على دمائهما ، وأموالهما ، وأهلهما ما لم يعدُوَا الحقَّ ، رضِي بذلك راضٍ أو أنكرَه منكِر ، وأنَّ الأُمَّة أنصارٌ لهما على ما قَضَيا به من العدل . فإن توُفِّي أحد الحكَمين قبل انقضاء الحكومة فأميرُ شيعته وأصحابُه يختارون مكانَه رجلاً ، لا يألون عن أهل المَعْدَلة والإقساط ، على ما كان عليه صاحبُه ، من العهد والميثاق والحكم بكتاب اللّه وسنَّة رسوله صلى الله عليه و آله ، وله مثلُ شرط صاحبه . وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلِشيعته أن يولُّوا مكانَه رجلاً يرضَون عدلَه . وقد وقعت القضيَّةُ ومعها الأمنُ والتفاوضُ ووَضْعُ السِلاح والسَّلام والموادَعة . وعلى الحكَمين عهدُ اللّه وميثاقُه ألاّ يألُوا اجتهادا ، ولا يتعمَّدا جَوْرا ، ولا يَدخُلا في شُبْهة ، ولا يَعْدُوَا حُكْمَ الكتاب وسنَّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فإن لم يفعلا بَرِئت الأُمّة ( سقط من كتاب ابن عُقْبَة ) من حكمهما ، ولا عهدَ لهما ولا ذِمَّة . وقد وجبَت القضيَّةُ على ما قد سُمِّي في هذا الكتاب من مواقع الشُّروط ، على الأميرين والحكَمين والفريقين ، واللّه أقرب شهيدا ، وأدنى حفيظا . والنَّاس آمِنُون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل ، والسِلاحُ موضوع ، والسُبُل مخلاّة ، والغائب والشَّاهدُ من الفريقين سَواءٌ في الأمن ، وللحكمين أن يَنزِلا منزلاً عَدْلاً بين أهل العِراق وأهل الشَّام ، ولا يحضرهما فيه مَن أحبَّا ، عن مَلاَمنهما وتَرَاض . وإنَّ المسلمين قد أجَّلُوا القاضيين إلى انسلاخ رمضان ، فإن رأى الحكَمان تعجيل الحكومة فيما وُجَّها له عجّلاها ، وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإنَّ ذلك إليهما . فإنْ هما لم يحكما بكتاب اللّه وسُنَّة نبيِّهِ صلى الله عليه و آله إلى انقضاء الموسم ، فالمسلمون على أمرهم الأوَّل في الحرب . ولا شرط بين واحد من الفريقين . وعلى الاُمَّة عهدُ اللّه وميثاقُه على التَّمام ، والوفاء بما في هذا الكتاب ، وهم يدٌ على من أراد فيه إلحادا وظلما ، أو حاوَلَ له نَقْضا . وشهد بما في الكتاب من أصحاب عليّ : عبد اللّه بن عبَّاس ، والأشْعَث بن قَيْس ، والأشْتَر مالك بن الحارث ، وسعيد بن قَيْس الهَمْدانِيّ ، والحُصَيْن والطُّفَيل ابنا الحارث بن المطَّلب ، وأبو اُسَيْد مالك بن ربيعة الأنْصاريّ ، وخَبَّاب بن الأرَتّ ، وسَهْل بن حُنَيْف ، وأبو اليَسَر بن عَمْرو الأنْصاريّ ، ورفاعَة بن رافع بن مالك الأنْصاريّ وعَوْف بن الحارث بن المطَّلب القُرَشيّ ، وبُرَيْدَة الأسْلميّ ، وعُقْبَة بن عامر الجُهَنيّ ، ورافع بن خَدِيْج الأنْصاريّ ، وعَمْرو بن الحَمِق الخُزاعِيّ ، والحسن والحسين ابنا عليّ عليهماالسلام وعبد اللّه بن جَعْفَر الهاشِميّ ، والنُّعْمَان بن عَجْلان الأنْصاريّ ، وحُجْر بن عَدِيّ الكِنْديّ ، ووَرْقاء بن مالكِ بن كَعْب الهَمْدانِيّ ، وربيعة بن شُرَحْبِيل ، وأبو صفرة بن يزيد ، والحارث بن مالك الهَمْدانِيّ ، وحُجْر بن يزيد ، وعُقْبَة بن حُجَيّة ، ( إلى هنا السقط ) . ومن أصحاب معاوية : حَبِيب بن مَسْلَمَة الفِهْرِيّ ، وأبو الأعْوَر بن سُفْيَان السَّلميّ ، وبُسْرِ بن أرْطاة القُرَشيّ ، ومعاوية بن خَدِيْج الكِنْديّ ، والمُخارِق بن الحارث الحِمْيَرِيّ ، ورَعْبَل بن عَمْرو السَّكسَكيّ ، وعبد الرَّحمن بن خالد المخزوميّ ، وحمزة بن مالك الهَمْدانِيّ ، وسُبَيْع بن يَزيد الهَمْدانِيّ ، ويَزيد بن الحرّ الثَّقَفيّ ، ومسروق بن حرملة العكّيّ ، ونُمَيْر بن يَزيد الحِمْيَرِيّ ، وعبد اللّه بن عَمْرو بن العاص ، وعَلْقَمَة بن يزيد الكلبي ، وخالد بن المعرِّض السَّكسَكيّ ، وعَلْقَمَة بن يزيد الجرميّ ، وعبد اللّه بن عامر القُرَشيّ ، ومروان بن الحَكم ، والوليد بن عُقْبَة القُرَشيّ ، وعُتْبَة بن أبي سُفْيَان ، ومُحَمَّد بن أبي سُفْيَان ومُحَمَّد بن عَمْرو بن العاص ، ويَزيد بن عُمَر الجُذاميّ ، وعَمَّار بن الأحوص الكلبيّ ، ومَسْعَدَة بن عَمْرو التُجيبِيّ ، والحارث بن زياد القينيّ ، وعاصم بن المنتشر الجُذاميّ ، وعبد الرَّحمن بن ذي الكِلاع الحِمْيَرِيّ ، والقباح بن جلهمة الحِمْيَرِيّ ، وثُمامَة بن حوشب ، وعَلْقَمَة بن حُكَيْم ، وحَمْزة بن مالك . وإنَّ بيننا على ما في هذه الصَّحيفة عهدَ اللّه وميثاقه . وكتب عُمر يوم الأربعاء لثلاثَ عشرة ليلةً بقيت من صفر، سَنَة سبع وثلاثين (3) . [ صورة ثانية ] صورة أُخرى من وثيقة التَّحكيم : نصر عن عمر بن سَعْد قال : حدَّثني أبو إسحاق الشَّيْبانيّ ، قال : قرأت كتاب الصُّلح عند سعيد بن أبي بردة ، في صحيفة صفراء عليها خاتَمان ، خاتَم من أسفلها ، وخاتَم من أعلاها ، في خاتم عليّ : « مُحَمَّد رسول اللّه » ، وفي خاتم معاوية : « مُحَمَّد رسول اللّه » . فقيل لعليّ حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشَّام : أ تقرُّ أنَّهم مونون مسلمون ؟ فقال عليّ : « ما أقِرُّ لمعاويةَ ولا لأصحابه ، أنَّهم مونون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية ما شاء ، ويقرّ بما شاء لنفسه وأصحابه ، ويسمّي نفسَه وأصحابه ما شاء » . فكتبوا : « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سُفْيَان ، قاضَى عليُّ بن أبي طالب على أهل العِراق ومن كان معه من شيعته من المونين والمسلمين ، وقاضَى معاوية ُ بن أبي سُفْيَان على أهل الشَّام ومن كان معه من شيعته من المونين والمسلمين : إنَّا نَنزل عند حُكم اللّه وكتابه ، وألاَّ يجمعَ بيننا إلاَّ إيَّاه ، وأنَّ كتاب اللّه بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته : نُحيي ما أحيا القرآن ، ونُميت ما أمات القرآن . فما وجد الحكمان في كتاب اللّه بيننا وبينكم فإنَّهما يَتَّبِعانهِ ، وما لم يجداه في كتاب اللّه أخَذَا بالسنَّة العادلة الجامعة غير المُفرِّقة ، والحَكمان عبد اللّه بن قَيْس وعَمْرو بن العاص . وأخذنا عليهما عهد اللّه وميثاقَه ليقضيا بما وجدا في كتاب اللّه ، فإن لم يجِدا في كتاب اللّه فالسنَّة الجامعة غير المفرِّقة . وأخذ الحكمانِ من عليٍّ ومعاوية ومن الجُندَيْنِ _ ممّا هما عليه من أمر النَّاس ، بما يرضيان به من العهد والميثاق والثِّقة من النَّاس أنَّهما آمنان على أموالهما وأهليهما . والأمَّة لهما أنصار على الَّذي يقضيان به عليهما . وعلى المونين والمسلمين من الطَّائفتين كلتيها عهد اللّه ، أنَّا علَى ما في هذه الصَّحيفة ، ولنَقُومَنَّ عليه ، وإنَّا عليه لَأَنصارٌ . وإنَّها قد وجبت القضيَّة بين المونين بالأمن والاستقامة ووضع السِّلاح أينما ساروا ، على أنفسهم ، وأموالهم ، وأهليهم ، وأرضيهم ، وشاهدهم ، وغائبهم ، وعلى عبد اللّه بن قيس وعَمْرو بن العاص عهدُ اللّه وميثاقُه ليحكمان بين الأمَّة بالحقِّ ، ولا يُرَّدانها في فرقة ولا بحرب حَتَّى يقضيا . وأجلُ القضيّة إلى شهر رمضان فإنْ أحبَّا أن يعجِّلا عَجَّلا . وإن توفّي واحد من الحكمين فإنَّ أميرَ شيعته يختار مكانَه رجلاً لا يألو عن المَعْدَلة والقسط ، وإنَّ ميعاد قضائهما الَّذي يقضيان فيه مكانٌ عدلٌ بين أهل الشَّام وأهل الكوفة ، فإن رضيا مكانا غيرَه فحيث رضيِا لا يحضرهما فيه إلاَّ من أرادا . وأن يأخذ الحَكمان مَن شاءا من الشُّهود ، ثُمَّ يكتبوا شهادتَهم على ما في الصَّحيفة . ونحن بَرَاءٌ من حُكم بغير ما أنزل اللّه . اللهمَّ إنِّا نَستعينُكَ على من تَرَك ما في هذه الصَّحيفة ، وأراد فيها إلحادا وظلما . وشهد على ما في الصَّحيفة عبد اللّه بن عبَّاس ، والأشْعَث بن قَيْس ، وسعيد بن قَيْس ، ووَرْقاء بن سميّ ، وعبد اللّه بن الطُفَيل ، وحُجْر بن يزيد ، وعبد اللّه بن جمل ، وعُقْبَة بن جارية ، ويزيد بن حُجيَّة ، وأبو الأعْوَر السَّلميّ ، وحَبِيب بن مَسْلَمَة ، والمُخارِق بن الحارث ، وزِمْل بن عمرو ، وحمزة بن مالك ، وعبد الرَّحمن بن خالد ، وسُبَيْع بن يَزيد ، وعَلْقَمَة بن مَرْثَد ، وعُتْبَة بن أبي سُفْيَان ، ويزيد بن الحرّ . وكتب عُميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرةَ بقيت من صفر ، سَنَة سبع وثلاثين » . (4) [ صورة ثالثة نصّ عليها البلاذري : ] « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سُفْيَان ، قاضى عليّ على أهل العِراق، ومن كان من شيعتهم من المونين والمسلمين ، وقاضى معاوية على أهل الشَّام ، ومن كان من شيعتهم من المونين والمسلمين . إنَّا نَنزل عند حكم اللّه وبيننا كتاب اللّه فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما يُحْيي ونُميتُ ما أمات ، فما وجدَ الحَكَمانِ في كتابِ اللّه ِ فَإنَّهما يتبعانِهِ ، وما لم يجداه مِمَّا اختلفنا فيه في كتاب اللّه أمضيا فيه السُّنَّة العادلة الحسنة الجامعة غيرَ المفرِّقة . والحَكَمان : عبد اللّه بن قَيْس وعَمْرو بن العاص ، وأخذنا عليهما عهدَ اللّه وميثاقَهُ ، ليحكمان بما وجدَا في كتاب اللّه نصَّا ، فما لم يجداه في كتاب اللّه مسمّى عمَلا فيه بالسنَّة الجامعة غير المفرِّقة . وأخذا من عليّ ومعاوية ومن الجند كليهما ، ومِمَّن تأمَّر عليهِ مِنَ النَّاسِ عَهدَاللّه ِ ، لَيقبلَنَّ ما قضيَا بهِ عَليهِما ، وأخذَا لأنفسهما الَّذي يرضيَان بهِ مِنَ العَهدِ والثِّقة مِنَ النَّاس ؛ أنَّهما آمنانِ علَى أنفسهما ، وأهليهما ، وأموالهما ، وأنَّ الأمَّة لَهما أنصارٌ على ما يقضيَان به على عليٍّ ومعاوية ، وعلى المونين والمسلمين مِنَ الطَّائفتينِ كِلَيهما . وإنَّ على عَبد اللّه ِ بن قَيْس ٍ وعَمْرو بنِ العاص عَهدُ اللّه ِ وميثاقُهُ أن يُصلِحَا بينَ الأمَّةِ ، ولا يردّاها إلى فُرقَةٍ ولا حربٍ . وإنَّ أجل القضيَّة إلى شهر رمضان ، فَإنْ أحبَّا أن يعجّلاها دون ذلك عجّلا ، وإن أحبَّا أن يوّراها من غير ميل مِنهما أخّراها ، وإن مات أحد الحكَمين قبل القضاء ، فإنَّ أميرَ شيعته وشيعته يختارون مكانه رجلاً ، لا يألون عن أهل المَعْدَلة والنَّصيحة والإقساط ، وأن يكون مكان قضيتهما الَّتي يقضيانها فيه مكانَ عَدلٍ بين الكوفة والشَّام والحجاز ، ولا يحضرهما فيه إلاَّ مَن أرادا ، فإن رضيَا مكانا غيره فحيث أحبَّا أن يقضِيَا ، وأن يأخذ الحكَمان من كلِّ واحد من شاءآ من الشُّهود ، ثُمَّ يكتبوا شهادتهم في هذه الصَّحيفة أنَّهم أنصار على من ترك ما فيها : اللهمَّ نستنصرك على مَن ترك ما في هذه الصَّحيفة ، وأراد فيها إلحادا أو ظلما . وشهد من كل جُند على الفريقين عشرة ، من أهل العراق : عبد اللّه بن عبَّاس ، الأشْعَث بن قَيْس ، سعيد بن قَيْس الهَمْدانِيّ ، وقاء بن سَمّي (5) ، وعبد اللّه بن طُفَيل ، وحُجْر بن يزيد الكِنْديّ ، وعبد اللّه بن حجل البَكريّ (6) ، وعُقْبَة بن زياد ، ويزيد بن حُجيَّة التَّيميّ ، ومالك بن كَعْب الأرْحَبيّ » . (7) [ نقل في مجموعة الوثائق نصّ الكتاب ، ثُمَّ ذكر ما في الطَّبري في الحواشي ، ثُمَّ ذكر نصوص الجاحظ ، والبلاذري ّ ، وإسماعيل التَّيمي ّ ، ونحن ننقل عنه النَّصَّين ] نصّ الجاحظ : « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سُفْيَان . قاضى عليّ بن أبيطالب على أهل العِراق ومن كان معه من شيعته من المونين والمسلمين ، وقاضى معاوية بن أبي سُفْيَان على أهل الشَّام ، ومن كان معه من شيعته من المونين والمسلمين . إنَّا نَنزِلُ عِندَ حُكمِ اللّه ِ في كتابهِ فيما اختلفا فيهِ ، مِن فاتحته إلى خاتمته ، نُحيي ما أحيا ، ونُميتُ ما أماتَ ، فما وجدنا في كتاب اللّه مسمّى أخذنا به ، وما لم نجده في كتاب اللّه مسمّى ، فالسنَّة العادلة الجامعة غَيرُ المُفرِّقةِ فيما اختلفا فيه . والحكَمان : عبد اللّه بن قَيْس الأشْعَرِيّ ، وعَمْرو بن العاص ، وقد أخذ عليّ ومعاوية عليها عهد اللّه ليحكما بما وجدا في كتاب اللّه ، وما لم يجدا في كتاب اللّه مسمّى فالسنَّة العادلة الجامعة غير المفرِّقة . وقد أخذ الحَكَمان من عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سُفْيَان الَّذي يرضيان من العهد والميثاق ، لَيرْضَيانِ بما يقضيانه فِيهما مِن خَلعِ مَنْ خَلَعا ، وتأميرِ مَن أمَّرا . وأخذا من عليٍّ ومعاوية والجندين كليهما الَّذي يَرضَيانِهِ مِنَ العهدِ والميثاق ، وأنَّهما آمنان على أنفسهما وأموالهما ، والأمَّة لهما أنصار على ما يَقضِيانِ بهِ عَليهِما ، وأعوانٌ على مَن بدَّل وغيَّر . وأنَّه قد وجبت القضيَّة مِنَ المُؤمر والآمر ، والاستفاضة ورفع السِّلاح أين ما شاءوا ، وكانوا على أنفسهم وأهاليهم وأموالهم وأرضهم ، وشاهدهم وغائبهم . وعلى عبد اللّه بن قَيْس وعَمْرو بن العاص عهدُ اللّه وميثاقُه لَيَقضِيان بين الأمَّة ، ولا يذراهم في التَّفرقة والحرب حَتَّى يقضيا . وآخر أجلِ القضيّةِ بينَ النَّاسِ في انسلاخِ شَهرِ رَمضانَ ، فإنْ أحبّا أن يُعجِّلا ذلِكَ عجَّلا . وإنْ أحبّا أن يؤخّرا ذلك عن مَلأ منهما وتراض أخّرا . وإن هلك أحدُ الحكَمين فإنَّ أميرَ الشيعة والشِّيعة يختارون مكانَهُ رجُلاً لا يألونَ عَن أهلِ المَعْدَلةِ والاقتصاد ، وإنَّ ميعاد القضيَّة إن يقضيا بمكان من أهلِ الحجاز ِ وأهل الشَّام سواء ، لا يحضرهما فيه إلاَّ من أرادا . فإن أحبَّا أن يكون بأذرُحٍ وبِدَوْمَةِ الجَندلِ كان ، وإن رضيا مكانا غيره حيث أحبَّا فليقضيا على عليّ ومعاوية ، وأن يَجتمعا على الحكَمينِ . شهد عبد اللّه بن عبَّاس ، والأشْعَث بن قَيْس ، وسَعيد بن قَيْس ، ووَرْقاء بن سميّ البَكري الخارقيّ ، وعبد اللّه بن طُفَيل البِكاويّ . . . (8) [ صورة رابعة ] نصّ إسماعيل التَّيميّ : هذا ما قاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سُفْيَان ، قاضى عليّ على أهل العِراق ومَن كان معه من شيعته من المؤمنين ، وقاضى معاوية على أهل الشَّام ومَن كان معه من شيعته من المسلمين ، إنَّا نَنزل على حكم اللّه وكتابه ، فما وجد الحكَمان في كتاب اللّه فهما يتبعانه ، وما لم يجدا في كتاب اللّه فالسنَّة العادلة تجمعهما ، وأنَّهما آمنان على أموالهما وأنفسهما وأهاليهما . والأمَّة أنصار لهما على الَّذي يقضيان عليه ، وعلى المُؤمنين والمسلمين . والطَّائفتان كلتاهما عليهما عهد اللّه أن يفيا بما في هذه الصَّحيفة على أنَّ بين المسلمين الأمن ووضع السِّلاح . وعلى عبد اللّه بن قَيْس وعَمْرو بن العاص عهد اللّه وميثاقه ، ليحكما بين النَّاس بما في هذه الصَّحيفة ، على أنَّ الفريقين يرجعان سنة ، فإذا انقضت السَّنة ، إن أحبَّا أن يردا ذلك ردّا . وإن أحبَّا زادا فيها ما شاءا . اللّهمَّ إنَّا نستنصرك على مَن ترك ما في هذه الصَّحيفة ، وشهد على الصَّحيفة من كلِّ فريق عشرة أنفس ، فشهد من أصحاب عليّ رضى الله عنه : عبد اللّه بن عبَّاس ، والأشْعَث بن قَيْس ، وحُجْر بن أوبر ، وفلان وفلان ، وشهد من أهل الشَّام : أبو الأعْوَر السَّلميّ ، وحبيب بن مَسْلَمَة الفِهْرِيّ ، وعُتْبَة بن أبي سُفْيَان ، وفلان وفلان . وكتب يوم الأربعاء ، سَنَة سبع وثلاثين . (9) [ أقول : لقد أطلنا الكلام في نقل الصُّور المختلفة من الكتاب لكثير الفائدة ، ولا بأس بنقل قِصّة الحكَمَين وعللها مع مراعاة الاختصار : ] طال الحرب بين أهل العِراق والشَّام من شوال سَنَة 36 ، إلى أن آل إلى ما آل من قصَّة الحَكَمَين في صفر من سَنَة 37 ، (10) حَتَّى لقد بلغت الوقايع تسعين وقعة ، وحَتَّى قتل من أهل العِراق خمسة وعشرون ألفا ، ومن أهل الشَّام خمسة وأربعون ألفا . (11) فلمّا وقعت ليلة الهرى ر وقتل من أشراف الشَّام والعِراق جمع كثير وقتل من سائر النَّاس جمع لا يحصى ولاح علائم الفتح لأهل العِراق وآثار الذُّلّ والهوان والدمار في أهل الشَّام ،فقال عليّ عليه السلام : اغدُوا عَلَيهِم إن شاءَ اللّه ُ تَعالى اضطرَبَتْ أقدامُهُم ، وسقَطَ في أيديهم . فشاور معاوية عَمْرو بن العاص ، فأشار عليه برفع المصاحف ، فأمرا أهل الشَّام أن يرفعوا المصاحِفَ علَى الرِّماح ، فرفعوا المصاحِفَ عَلى الرِّماح ، فرفعوها واستقبلوا عساكر أهل العِراق بمصاحفهم ، واستقبلوا عليَّا عليه السلام بمئة مُصْحَفٍ ، ووضعوا في كل مجنبة مئتي مصحَف ، وكان جميعا خمسمئة مصحف ، وهم يقولون : يا مَعشَر العرب ِ ، اللّه َ اللّه َ في نسائِكم وبناتِكم ، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غَدا إذا فنيتم ، اللّه َ اللّه َ في دينكم ، هذا كتاب اللّه بيننا وبينكم . (12) فقال عَمْرو حينما شاوره فأشار عليه بما أشار : إنَّ رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء ، وهو يريد الفناء ، وأهل العِراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشَّام لا يخافون عليَّا إن ظفر بهم ، ولكن ألق إليْهِم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإنْ ردُّوه ادعُهم إلى كتاب اللّه حكما فيما بينك وبينهم ، فإنَّك بالغٌ به حاجتك في القوم ، فإنِّي لم أزل أؤخِّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه ، فعرف ذلك معاوية فقال : صدقت . (13) نجح معاوية في احتياله وخدعه ، لاسيَّما مع ما عمله أيادي معاوية في عساكر أمير المؤمنين كالأشْعَث و . . . وجهل النَّاس بما دبّر وسيقع . قال نصر : عَمْرو بن شمر ، عن جابر ، عن الشَّعْبيّ ، عن صَعْصَعَة ، قال : قام الأشْعَث بن قَيْس الكِنْديّ ليلةَ الهَرير في أصحابه من كِنْدَة ، فقال : الحمدُ للّه ، أحمَدُه وأستعينهُ ، وأُومِنُ به ، وأتوكَّلُ عليه ، وأستَنصِرُهُ ، وأستغفِرهُ ، وأستخِيرُه ، وأستهديهِ ، ( وأستشيره وأستشهد به ، ) فإنَّه مَن يَهْدِ اللّه فلا مُضِلَّ لَهُ ، ومَن يُضْلِل فلا هادي لَهُ ، وأشهد أن لا إله إلاَّ اللّه ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّد ا عبده ورسوله صلى الله عليه و آله . ثُمَّ قال : قَدْ رأيتُم يا مَعشَرَ المُسلِمينَ ما قَدْ كانَ في يَومِكُم هذا الماضِي ، وما قَدْ فُنِيَ فيه مِنَ العرب ِ ، فَو اللّه ِ ، لَقَد بَلَغْتُ مِنَ السِّنِّ ما شاءَ اللّه ُ أنْ أَبلُغَ ، فَما رأيتُ مِثْلَ هذا اليَوْمِ قطُّ . ألا فلْيُبلِّغ الشَّاهِدُ الغائِبَ ، أنَّا إنْ نَحنُ تواقَفْنا غَدَا إنَّهُ لِفَناءِ العَرَب ِ وضَيعَةِ الحُرُماتِ . أما واللّه ، ما أقولُ هذه المَقالَةَ جَزَعا مِنَ الحَتفِ ، ولكنِّي رَجُل مُسِنٌّ أخافُ علَى ( النِّساء و ) الذّراري غَدا إذا فنينا ، اللَّهمَّ إنَّك تَعْلَمُ أنِّي قَدْ نَظَرْتُ لِقَوْمِي ، ولأَهْلِ دِيني فَلَمْ آلُ ، وما تَوفيقي إلاَّ باللّه ِ ، عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وإليهِ أُنِيبُ ، والرَّأيُ يُخطِئُ ويُصِيبُ ؛ وإذا قضى اللّه ُ أمرا أمضاه على ما أحَبَّ العبادُ أو كرهوا . أقول قولي هذا ، وأستَغفِرُ اللّه َ ( العظيم ) لِي ولَكُم . قال صَعْصَعَة : فانطَلَقتْ عُيونُ مُعاوِيَة َ إليهِ بِخُطْبَةِ الأشْعَثِ ، فقال : أصابَ ورَبِّ الكعبة ، لَئِنْ نَحنُ التَقينا غَدا لتمِيلَنَّ الرُّوم ُ علَى ذَرارِينا ونِسائِنا ، ولَتَمِيلَنَّ أهل فارِس على نساء أهلِ العِراق ِ وذراريهم ، وإنَّما يُبصِرُ هذا ذَوُو الأحْلامِ والنُّهى . اربِطُوا المَصاحِفَ علَى أطرافِ القَنا . قال صَعْصَعَة : فَثارَ أهلُ الشَّام ِ فنادوا في سواد اللَّيل : يا أهْلَ العراق ِ ، مَن لِذَرارينا إنْ قَتَلْتُمونا ؟ ومَنْ لِذَرارِيكُم إنْ قَتلْناكُم ؟ اللّه َ اللّه َ في البقيَّة . فأصبح أهلُ الشَّام ، وقَدْ رَفعُوا المَصاحِفَ على رؤوس الرِّماحِ وقلّدوها الخيل ، والنَّاس على الرَّايات قد اشتهوا ما دعوا إليه ، ورُفِعَ مُصحفُ دِمَشق َ الأعظم تَحمِلُهُ عَشرَةُ رِجالٍ على رؤوس الرِّماح ، ونادوا : يا أهلَ العِراق ِ ، كتابُ اللّه ِ بَينَنا وبَينكُمْ . وأقبل أبو الأعْوَر السَّلمي ّ على بِرذونٍ أبيض ، وقد وضَعَ المُصحَفَ علَى رأسِهِ يُنادي : يا أهلَ العِراق ِ ، كتابُ اللّه بيننَا وبَينكُمْ . وأقبلَ عَدِيُّ بنُ حاتَم فقال : يا أمير المونين ، إن كان أهلُ الباطل لا يقومون بأهل الحقّ ، فإنَّه لَم يُصَبْ عُصبةٌ مِنَّا إلاَّ وقد أصيب مِثلُها منهم ، وكلٌّ مقروحٌ ، ولكنَّا أمثَلُ بقيةً منهم . وقد جزِع القوم وليس بعد الجزَع إلاَّ ما تحبّ ، فناجز القوم ، فقام الأشْتَر النَّخَعيّ ، فقال : يا أمير المونين ، إنَّ معاوية لا خَلَف له من رجاله ، ولك بحمد اللّه الخَلف ، ولو كان له مثلُ رجالك لم يكن له مثلُ صبرِك ولا بَصَرك ، فاقرع الحديدَ بالحديد ، واستعن باللّه الحميد . ثُمَّ قام عَمْرو بن الحَمِق ، فقال : يا أمير المونين ، إنَّا واللّه ، ما أجبناك ولا نصرناك عصبيَّةً على الباطل ، ولا أجَبْنا إلاَّ اللّه عز و جل ، ولا طلبنا إلاَّ الحقّ ، ولو دعانا غيرُك إلى ما دعوتَ إليه لاستشرى فيه اللَّجاج ، وطالَتْ فيهِ النَّجوى ؛ وقد بلغ الحقُّ مقْطَعَه ، وليس لنا معك رأي . فقام الأشْعَث بن قَيْس مغضبَا ، فقال : يا أمير المونين ، إنَّا لك اليوم على ما كنَّا عليه أمس ، وليس آخر أمرِنا كأوَّله ، وما من القوم أحدٌ أحْنَى على أهل العِراق ولا أوْترَ لأهل الشَّام منِّي ؛ فأجِبِ القومَ إلى كتاب اللّه ، فإنَّك أحقُّ به منهم ، وقد أحبّ الناس البقاءَ وكرهوا القتال . (14) فلمَّا تداعى النَّاس إلى الصُّلح بعد رفع المصاحف ، وتكلَّم مَن تكلَّم من الفريقين ، وتكلّم كُردوس بن هانئ البَكريّ ، وشَقِيق بن ثور البَكريّ ، وحُرَيْث بن جابر ، وخالد بن المعمَّر ، والحُضين الرِّبْعيّ ، ورِفاعَة بن شَدَّاد ، وابن عبَّاس ، والأشْتَر ، وسُفْيَان بن ثور ، وسَهْل بن حُنَيْف ، وعَدِيّ بن حاتم ، وعَمْرو بن الحَمِق . فمال الأشْتَر وعَدِيّ ، وكردوس بن هانئ ، وحُرَيْث بن جابر والحضين بن الرِّبْعيّ إلى الحرب ، ومال الأشْعَث ، وشَقِيق ، وخالد بن المعمر إلى الموادعة . (15) قال عليّ عليه السلام حين رفعت المصاحف : « اللّهمَّ إنَّكَ تَعلَمُ أنَّهُم ما الكتابَ يُريدونَ ، فاحكُم بَينَنا وبَينَهُم ، إنَّكَ أنتَ الحَكَمُ الحَقُّ المُبينُ . » (16) وقال عليه السلام بعد اختلاف أصحابه : « إنَّه لم يَزَلْ أمرِي مَعَكُمْ علَى ما أحِبُّ إلى أنْ أخذَتْ مِنكُمُ الحَرْبُ ، وقدْ واللّه ِ أخذَتْ مِنكُمْ وتَرَكَتْ ، وأخذَتْ مِن عَدُوِّكُم فَلم تَترُكْ ، وإنَّها فِيهِم أنْكَى وأنْهَك . ألا إنِّي كُنتُ أمسِ أميرَ المُوِنينَ ، فأصبَحتُ اليَوْمَ مأمُورا ، وكُنتُ ناهِيا ، فأصبَحْتُ مَنهِيّا ، وقَد أحبَبتُمُ البَقاءَ ، ولَيس لِي أنْ أحمِلَكُم على ما تَكرهونَ . » (17) وقد دعى معاوية عليَّا عليه السلام إلى متاركة الحرب على أن يكون له الشَّام ، فأبى عليّ عليه السلام ، فتكلَّم رؤساء القبائل ، وطال الكلام فيما بينهم بالخطب والأشعار . (18)
.
ص: 404
. .
ص: 405
. .
ص: 406
. .
ص: 407
. .
ص: 408
. .
ص: 409
. .
ص: 410
. .
ص: 411
. .
ص: 412
. .
ص: 413
. .
ص: 414
. .
ص: 415
. .
ص: 416
. .
ص: 417
. .
ص: 418
خطبة علي في التَّحكيموفي حديث عمر بن سعد ، لمَّا رفع أهل الشَّام المصاحف على الرِّماح يَدعون إلى حُكمِ القرآن ، قال عليٌّ عليه السلام :« عِبادَ اللّه ِ إنِّي أحقُّ مَن أجابَ إلى كتابِ اللّه ِ ، ولكنَّ معاوية َ ، وعَمْرو بنَ العاص ، وابن أبي مُعَيط ، وحَبِيبَ بن مَسْلَمَة ، وابنَ أبي سَرْح ٍ ، ليسوا بأصحابِ دينٍ ولا قُرآنٍ ، إنِّي أعْرَفُ بِهِم مِنكُم ، صَحِبْتُهُم أطفالاً ، وصَحِبتُهم رِجالاً ، فكانوا شرَّ أطفالٍ ، وشَرَّ رِجالٍ ، إنَّها كَلِمَةُ حقٍّ يُراد بِها باطِلٌ ، إنَّهم واللّه ِ ، ما رَفَعُوها أنَّهم يَعرِفُونها ويعملون بها ، ولكنَّها الخَديعةُ ، والوَهَنُ ، والمَكِيدَةُ . أعِيرُوني سواعِدَكُم وجَماجمَكُم ساعَةً واحِدَةً ، فَقدْ بلَغَ الحَقُّ مَقطَعَهُ ، ولَمْ يَبقَ أن يُقطَعَ دابِرُ الَّذِين ظلَموا » .
فجاءَه زُهاءُ عشرين ألفا مقنَّعين في الحديد شاكِي السِّلاحِ ، سيُوفُهم على عواتقِهِم ، وقد اسودَّتْ جِباهُهُم مِنَ السُّجودِ ، يتقدَّمهم مِسْعَرُ بن فَدَكيّ ، وزَيْد بن حُصَيْن ، وعصابةٌ من القرّاء الَّذِين صاروا خوارج من بعدُ ، فنادَوه باسمه لا بإمرةِ المونين : يا عليّ ، أجبِ القومَ إلى كتاب اللّه إذْ دُعيت إليه ، وإلاَّ قتلناك ، كما قتَلْنا ابنَ عفَّان ، فواللّه ِ ، لَنَفعَلنَّها إنْ لم تُجِبهم . فقال لهم : « ويْحَكُم ، أنا أوَّلُ مَن دَعا إلى كتابِ اللّه ِ ، وأوَّلُ مَن أجابَ إليهِ ، وليسَ يَحِلُّ لِي ، ولا يَسعُنِي في ديني أن أُدعَى إلى كتابِ اللّه ِ فَلا أَقبلُه ، إنِّي إنَّما أقاتِلُهم ليَدِينوا بِحُكْمِ القُرآنِ ، فإنَّهُم قد عَصَوا اللّه َ فِيما أمرَهُم ، ونَقَضُوا عَهْدَه ، ونَبَذُوا كِتابَهُ ، ولَكنِّي قَد أعلَمْتُكُم أنَّهُم قَد كادُوكُم ، وأنَّهم لَيسوا العَمَلَ بِالقُرآنِ يُرِيدُونَ » . قالوا : فابعث إلى الأشْتَر ليأتيك ، وقد كان الأشْتَر صبيحة ليل الهرير قد أشرف على عَسْكَرِ مُعاوِيةَ لِيَدْخُلَهُ . (1) قال نَصْر : فحدَّثني فضيل بن خَدِيْج ، عن رَجُلٍ مِنَ النَّخَع ، قال : رأيت إبراهيمَ بن الأشْتَر دخل على مُصْعَب بن الزُبَيْر فسأله عن الحال كيف كانت ، فقال : كنت عند عليّ حين بعث إلى الأشْتَر أن يأتيه ، وقد كان الأشْتَر أشرف على معسكر معاوية ليدخله ، فأرسل إليه عليٌّ يزيد بن هانئ : « أن ائتِني » . فأتاه فبلَّغه . فقال : الأشْتَر ائته ! فقل له : ليس هذه بالساعة الَّتي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي ، إنِّي قد رجوت اللّه أن يفتح لي فلا تعْجِلْنِي . فرجع يزيد بن هانئ إلى عليّ فأخبره ، فما هو إلاَّ أن انتهى إلينا حَتَّى ارتفع الرَهَج ، وعلَتِ الأصواتُ مِن قِبَلِ الأشْتَر ، وظهرت دلائل الفتح والنَّصر لأهل العِراق ، ودلائل الخِذلان والإدبار على أهل الشَّام . فقال له القوم : واللّه ، ما نراك إلاَّ أمرتَه بقتال القوم ، قال : « أ رأيتموني سارَرْتُ رَسُولي إليه ؟ أليس إنَّما كلّمته على رؤوسكم عَلانِيةً وأنتم تسمعون » . قالوا : فابعث إليه فَليأْتِكَ ، وإلاَّ فو اللّه اعتزلْناك . قال : « ويحك يا يزيد ، قل له أقبِلْ إليَّ ، فإنَّ الفتنة قد وقعَتْ » . فأتاه فأخبره ، فقال له الأشْتَر : أ لِرفع هذه المصاحف ؟ قال : نعم ، قال :أما واللّه ، لقد ظننت أنَّها حين رُفعت ستُوقع اختلافا وفرقة ، إنَّها من مشورة ابن النَّابغة _ يعني عَمْرو بن العاص _ قال : ثُمَّ قال ليزيد : ويحك ألا ترى إلى ما يَلقَون ، ألا ترى إلى الَّذي يَصنعُ اللّه لنا ، أيبتغي أن ندع هذا وننصرف عنه ؟ ! فقال له يزيد : أتحبُّ أنَّك ظفرت هاهنا وأنَّ أمير المونين بمكانه الَّذي هو به يُفرَج عنه ، ويُسلَّم إلى عدوِّه ؟ ! قال : سبحان اللّه ، لا واللّه ما أحبُّ ذلك . قال : فإنَّهم قالوا : لتُرسِلنَّ إلى الأشْتَر فليَأتينَّك ، أو لَنقتُلنَّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان ، أو لنُسْلمنَّك إلى عدوِّك . قال : فأقبل الأشْتَر حَتَّى انتهى إليهم ، فصاح فقال : يا أهل الذُلِّ والوَهْنِ ، أحين عَلَوْتم القومَ فظنُّوا أنَّكم لهم قاهرون ورفعوا المصاحف يَدعونكم إلى ما فيها ؟ ! وقد واللّه ، تركوا ما أمر اللّه ُ بهِ فيها ، وسُنَّة مَن أُنزِلَت علَيهِ ، فلا تجيبوهم . أمهلوني فُوَاقا (2) ، فإنِّي قد أحسَستُ بالفَتحِ . قالوا : لا . قال : فأمهلوني عَدْوةَ الفَرسِ ، فإنِّي قد طمعت في النَّصر . قالوا : إذنْ ندخلَ معك في خطيئتك . قال : فحدِّثوني عنكم _ وقد قُتل أماثِلُكم وبقي أراذلكم _ متى كنتم محقِّين ، أحِين كنتم تقتلون أهل الشَّام ، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقُّون ؟ فقتلاكم إذن الَّذِين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم في النَّار . قالوا : دعنا مِنكَ يا أشْتَرُ ، قاتلناهم في اللّه ِ وندع قِتالَهُم في اللّه ِ ، إنَّا لسنا نُطيعُك فاجتنِبْنا . قال : خُدِعْتم واللّه ِ فانخدعتم ، ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السُود ، كنَّا نظنُّ أنَّ صلاتكم زَهادةٌ في الدُّنيا وشوقٌ إلى لقاء اللّه ، فلا أرى فِراركم إلاَّ إلى الدُّنيا من الموت . ألا فقُبْحا يا أشباه النِّيبِ الجَلاَّلة ، ما أنتم برَائين بعدها عِزَّا أبدا ، فابعَدوا كما بعِد القومُ الظَّالمون . فَسبُّوه وسبَّهم ، وضربوا بسياطهم وجهَ دابّتهِ ، وضرب بسوطه وُجوهَ دَوَابِّهِم ، فصاح بِهِم عليٌّ فكَفُّوا . وقال الأشْتَر : يا أمير المونين ، احمل الصَّفَّ على الصَّفِّ يُصْرَع القوم . فتصايَحوا : أنَّ عليَّا أمير المونين قد قبِل الحكومة ، ورضِي بحُكم القرآن ، ولم يَسعْه إلاَّ ذلك . قال الأشْتَر : إن كان أمير المونين قد قبِل ورضي بِحُكْمِ القرآن ، فقد رضيِتُ بما رضِي أمير المونين . فأقبل النَّاس يقولون : قد رضِي أمير المونين ، قد قَبِل أمير المونين . وهو ساكتٌ لا يَبِضُّ (3) بِكَلمةٍ ، مُطرِقٌ إلى الأرض . (4) [ لمَّا قبل أمير المؤمنين ذلك ، كرها اتفق أهل الشَّام على عَمْرو بن العاص حكما ] فقال الأشْعَث والقُرَّاء الَّذِين صاروا خوارجَ فيما بعد : فإنَّا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشْعَرِيّ . فقال لهم عليّ : « إنِّي لا أرضى بِأَبي مُوسى ، ولا أرى أن أُوَلِّيه » . فقال الأشْعَث ، وزَيْد بن حُصَيْن ، ومِسْعَر بن فَدَكيّ في عصابة من القُرَّاء : إنَّا لا نرضى إلاَّ به ، فإنَّه قد حذَّرنا ما وقعنا فيه . قال عليّ : « فَإنَّهُ ليس لِي بِرِضا ، وقد فارقَني وخَذَّل النَّاس عنِّي ثُمَّ هربَ ، حَتَّى أمَّنته بعد أشهر . ولكِنْ هذَا ابنُ عبَّاسٍ أُولِّيه ذلِكَ » . قالوا : واللّه ، ما نبالي ، أ كنتَ أنت أو ابن عبَّاس ، ولا نريد إلاَّ رجلاً هو منك ومن معاوية سواءٌ ، وليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر . قال عليّ : « فإنِّي أجعل الأشْتَر » . قال نصر : قال عَمْرو فحدَّثني أبو جناب ، قال : قال الأشْعَث : وهل سَعَّر الأرض علينا غيرُ الأشْتَر ، وهل نحن إلاَّ في حكم الأشْتَر . . . وفي حديث عمر ، قال : قال عليّ : « قد أبيتُم إلاَّ أبا موسى » ؟ قالوا : نعم . قال : « فاصنَعُوا ما أرَدْتُم » . (5) قال نصر : وفي كتاب عمر بن سعد : « هذا ما تقاضى عليهِ علِيٌّ أمير المونين » ، فقال معاوية : بئس الرَّجل أنا إن أقررتُ أنَّه أمير المونين ثُمَّ قاتلتُه . وقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنَّما هو أميركم ، وأمَّا أميرنا فلا . فلمَّا أُعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الأحنف : لا تمحُ اسم إمرة المونين عنك ؛ فإنِّي أتخوَّف إن محوتَها ألاَّ ترجع إليك أبدا ، لا تمحُها وإن قَتَل النَّاس بعضهم بعضا . فأبى مَلِيَّا من النَّهار أن يمحُوَها ، ثُمَّ إنَّ الأشْعَث بن قَيْس جاء ، فقال : امحُ هذا الاسم . فقال عليّ : « لا إله إلاَّ اللّه ، واللّه ُ أكبر ، سُنَّةٌ بِسُنَّة ، أمَا واللّه ِ ، لَعَلَى يَدِي دارَ هذا يَومَ الحُدَيبية ، حين كتبتُ الكِتابَ عَن رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : هذا ما تصالَحَ عليهِ مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وسُهيلُ بنُ عمرو ، فقال سُهيل : لا أُجيبُكَ إلى كتابٍ تسمّي ( فيه ) رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، ولَو أعلَمُ أنَّكَ رَسولُ اللّه ِ لَمْ أقاتِلْكَ ، إنِّي إذا ظَلَمتُكَ إن مَنَعتُكَ أن تَطُوفَ بِبَيتِ اللّه ِ وأنتَ رَسُولُ اللّه ِ ، ولكن اكتب مُحَمَّد بن عبد اللّه أُجبْكَ . فقال محمَّد صلى الله عليه و آله : يا عليّ إنِّي لَرسُولُ اللّه ِ ، وإنِّي لمُحَمَّد بن عبد اللّه ، ولَن يَمحُوَ عنِّي الرِّسالَةَ كِتابي إليهِمْ مِن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللّه ِ ، فاكتب : مُحَمَّدُ بن عبد اللّه . فراجَعَني المُشركونَ في هذا إلى مُدَّةٍ . فاليوم أكتبُها إلى أبنائهم كما كَتَبها رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله إلى آبائِهِم سُنَّةً ومَثَلاً » . فقال عَمْرو بن العاص : سُبحانَ اللّه ِ ، ومثل هذا شبَّهتَنا بالكفَّار ونحن مونون . فقال له عليّ : « يا بنَ النَّابِغَةِ ، ومتى لَم تَكُنْ للكافِرينَ وَلِيَّا ولْلِمُسلمِينَ عَدُوَّا ؟ وهل تُشبِهُ إلاَّ أُمَّكَ الَّتي وَضَعَت بِكَ » . فقام عمرو ، فقال : واللّه ِ ، لا يجمع بيني وبينك مَجلِسٌ أبدا بعدَ هذا اليوم . فقال عليّ : « واللّه ، إنِّي لأَرجو أن يُظهِرَ اللّه ُ عَلَيكَ وعلَى أصحابِكَ » . قال : وجاءت عِصابَةٌ قد وضعوا سُيُوفَهم علَى عواتقهم ، فقالوا : يا أمير المونين مُرْنا بما شئت . فقال لهم ابن حُنَيْف : أيُّها النَّاس ، اتَّهِموا رَأيَكُم ، فَواللّه ِ ، لقد كنَّا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم الحديبية ، ولو نرى قتالاً لقاتلنا ، وذلك في الصُّلح الَّذي صالَح عليهِ النَّبيُّ صلى الله عليه و آله . (6) [ وعلى كل حال ، لقد ابتلي أمير المؤمنين عليه السلام بأُمور : منها أنَّه ابتلي بأعداء لا يعتنقون مبدءا ، ولا يعتقدون أمرا من مبدأ ومعاد ، ولا يلتزمون بقانون أخلاقي ، ولا يتركون ظلما ، ولا جورا ، ولا جناية قليلاً ولا كثيرا يقدرون عليه كعَمْرو بن العاص ، ومروان ، وبُسْر بن أرطاة ، وزياد . . . ] . قال أبو جَعْفَر الإسكافي مُحَمَّد بن عبد اللّه المعتزلي : فلم يؤت عليّ رضى الله عنهفي أموره لسوء تدبير كان منه ، أو لغلط في رأي ، غير أنَّه كان يؤثر الصَّواب عند اللّه في مخالفة الرَّأي ، ولا يؤثر الرَّأي في مخالفة رضا ربّه . وقد كانت له خاصَّة من أهل البصائر واليقين من المهاجرين والأنصار ، مثل ابن عبَّاس ، وعَمَّار ، والمقداد ، وأبي أيّوب الأنْصاريّ ، وخُزَيْمَة بن ثابت ، وأبي الهَيْثم بن التّيهان ، وقَيْس بن سَعْد بن عُبادَة الأنْصاريّ ، ومَن أشبه هؤلاء من أهل البصيرة والمعرفة ، فأفنتهم الحروب واخترمهم الموت . وحصل معه من العامَّة قوم لم يتمكَّن العلم من قلوبهم ، تبعوه مع ضعف البصيرة واليقين ، ليس لهم صبر المهاجرين ، ولا يقين الأنصار ، فطالت بهم تلك الحروب ، واتصلت بعضها ببعض ، وفني أهل البصيرة واليقين ، وبقي من أهل الضَّعف في النِّيَّة ، وقصر المعرفة من قد سئموا الحرب ، وضجروا من القتل ، فدخلهم الفشل ، وطلبوا الرَّاحة ، وتعلَّقوا بالأعاليل ، فعندها قام فيهم خطيبا ، فقال : ( أيُّها النَّاسُ المُجتَمِعةُ أبدانُهم ، المُختلِفَةُ أهواؤُهُم ، كَلامُكُم يُوهِي الصُمَّ الصِّلابَ ، وفِعلُكُم يُطمِعُ فِيكُم الأَعداءَ ، تقولونَ في المجالِسِ كَيْت وكَيْت ، فإذا جاء القِتالُ قُلتُم : حيدي حَيادِ . . . ) . (7) [ أقول : لمَّا انتهت حرب صفِّين إلى تحكيم الحَكَمَين ، ومتاركة الحرب ، وكتب الصُّلح على خلاف رأي أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه المخلصين ، شرع معاوية في الإغارة على العِراق والحجاز واليمن وقتل شيعة علي عليه السلام ، وتهديم الأمن العام في البلاد الاسلامية ، وقتل النُّفوس حَتَّى الأطفال ونهب الأموالِ . فأوّل من أمره معاوية ُ بهذا العَملِ الشَّنيعِ غير الإنساني والإسلامي ، هو الضَّحَّاك بن قَيْس فأتى الثَعْلبية وأغار على الحاج ، وبعث أمير المؤمنين عليه السلام على أثره حُجْر بن عديّ رضى الله عنه في أربعة الآفٍ حَتَّى طردَهُ عَنِ بلادِ أميرِ المُؤمنينَ عليه السلام . قال الثَّقَفيّ : أوّل غارة كانت بالعِراق ، غارة الضَّحَّاك بن قَيْس على أهل العِراق ، وكانت بعد ما حكم الحكمان وقبل قتل أهل النَّهر ، وذلك أنَّ مُعاوِيةَ لمَّا بلغه أنَّ عليَّا عليه السلام بعد تحكيم الحكَمَين تحمَّل إليه مقبلا فهاله أمره فخرج من دمشق معسكرا ، وبعث إلى كور الشَّام فصاح فيها : أن عليَّا قد سار إليكم وكتب إليهم نسخة واحدة فقرأت على النَّاس : « أمَّا بعدُ ؛ فإنَّا كنَّا قد كتبنا بيننا وبين عليٍّ كتابا ، وشرطنا فيه شُرُوطا ، وحكَّمنا رجلين . . . » فاجتمع إليه النَّاس من كلِّ كورة ، وأرادوا المسير إلى صفِّين ، فاستشارهم ، وقال : إنَّ عليَّا قد خرج إليكم مِنَ الكُوفَةِ ، وعَهْدُ العاهِدِ بهِ أنَّه فارَقَ النُّخيلَةَ . فقال له حَبِيب بن مَسْلَمَة : فإنّي أرى أن نخرج حَتَّى ننزل منزلنا الَّذي كنّا فيه ؛ فإنه منزل مبارك قد متعنا اللّه به ، وأعطانا من عدونا فيه النَّصَف ، وقال له عَمْرو بن العاص : إني أرى لك أن تسير بالجنود، حَتَّى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة ، فإن ذلك أقوى لجندك ، وأذلُّ لِأهلِ حَرْبِكَ . فقال معاوية : واللّه إني لأعرف أنَّ الرَّأي الَّذي تقول ؛ ولكِنَّ النَّاس لا يطيقون ذلك ، قال عمرو : أنَّها أرض رفيعة . فقال معاوية : واللّه إنّ جهد النَّاس أن يبلغوا منزلهم الَّذي كانوا به ، يعني صفِّين . فمكثوا يجيلون الرَّأي يومين أو ثلاثة ، حَتَّى قدمت عليهم عيونهم : أن عليَّا اختلف عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة ، وأنَّه قد رجع عنكم إليهم فكثر سرور النَّاس بانصرافه عنهم ؛ وما أُلقي من الخلاف بينهم . فلم يزل معاوية معسكرا في مكانه منتظرا لما يكون من عليّ وأصحابه ، وهل يقبل عليّ بالنَّاس أم لا ؟ فما برح معاوية حَتَّى جاءه الخبر أن عليَّا قد قتل تلك الخوارج وأراد بعد قتلهم أن يقبل إليه بالنَّاس وأنهم استنظروه ودافعوه ، فسُرَّ بذلك هو ومن قبله من النَّاس . عن عبد الرَّحمن بن مَسْعَدَة الفَزَارِيّ قال : جاءنا كتاب عَمَّار بن عُقْبَة بن أبي مُعَيط من الكوفة ونحن معسكرون مع معاوية ، نتخوف أن يفرغ عليّ من خارجته ثم يقبل إلينا ونحن نقول : إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الَّذي نستقبله به مكاننا الَّذي لقيناه فيه العام الماضي، وكان في كتاب عَمَّارة : أمَّا بعدُ ؛ فإن عليَّا خرج عليه عِلِّيةُ أصحابه ونُسَّاكهم فخرج إليهم فقتلهم ، وقد فسد عليه جنده وأهل مصره ووقعت بينهم العداوة ، وتفرَّقوا أشد الفرقة ، فأحببت إعلامك لتحمد اللّه والسَّلام . قال : فقرأه معاوية عليّ وعلى أخيه وعلى أبي الأعْوَر السَّلميّ ، ثُمَّ نظر إلى أخيه عُتْبَة وإلى الوليد بن عُقْبَة ، وقال للوليد : لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا ، قال : فضحك الوليد وقال : إنّ في ذلك أيضا لنفعا . . . قال : فعند ذلك دعا معاوية الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْريّ وقال له : سر حَتَّى تمرَّ بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليهما ، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى ، ولا تقيمن لخيل بلغك أنَّها قد سرَّحت إليك لتلقاها فتقاتلها ، فسرَّحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف جريدة خيل . قال : فأقبل الضَّحَّاك يأخذ الأموال ويقتل من لقي من الأعراب ، حَتَّى مرَّ بالثَّعلبيَّة فأغار خيله على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثُمَّ أقبل فلقي عَمْرو بن عميس بن مسعود الذُّهْلِيّ ، وهو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ف قتله في طريق الحاج عند القطقطانة وقتل معه ناس من أصحابه . قال أبو رَوْق : فحدَّثني أبي أنَّه سمع عليَّا عليه السلام _ وقد خرج إلى النَّاس _ وهو يقول على المنبر : « يا أهل الكوفة اخرجوا إلى العبد الصَّالح عَمْرو بن عميس ، وإلى جيوش لكم قد أصيب منها طرف ، اخرجوا فقاتلوا عدوَّكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين » . قال : فردُّوا عليه ردَّا ضعيفا ورأى منهم عجزا وفشلا فقال : « واللّه ِ لَوَدِدْتُ أنَّ لي بِكُلِّ مِئةِ رَجُلٍ مِنْكُم رَجُلاً مِنهُم ، وَيْحَكُم اخرُجُوا مَعِي ثُمَّ فرّوا عَنِّي إن بدا لكم ، فو اللّه ما أكرَهُ لِقاءَ ربِّي علَى نِيَّتي وبَصِيرَتي ، وفي ذلِكَ رَوحٌ لِي عَظِيمٌ وفَرَجٌ مِنْ مُناجاتِكُم ومُقاساتِكُم ومُداراتِكُم مِثلَ ما تُداري البكارُ العُمْدَةَ والثِّيابَ المُتهتِرَةَ، كُلَّما خِيطَتْ مِن جَانِبٍ تَهتّكَتْ علَى صاحِبِها مِن جانِبٍ آخَرَ » . ثُمَّ نزل فخرج يمشي حَتَّى بلغ الغَرِيَيَّن ، ثُمَّ دعا حُجْر بن عَدِيّ الكِنْديّ من خيله فعقد له راية على أربعة آلاف ، ثُمَّ سرّحه فخرج حَتَّى مرَّ بالسَّماوة ، وهي أرض كلب ، فلقي بها إمرأ القَيس بنَ عَدِيّ بنَ أوس بن جابر بن كَعْب بن عليم الكلبي ، أصهار الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فكانوا أدلاّءه على طريقه وعلى المياه ، فلم يزل مُغِذَّا في أثر الضَّحَّاكِ حَتَّى لَقِيَهُ بِناحِيَةِ تدمر ، فواقفه فاقتتلوا ساعة ، فقتل من أصحاب الضَّحَّاك تسعة عشر رجلاً ، وقتل من أصحاب حُجْر رجُلانِ : عبد الرَّحمن وعبد اللّه الغامدي ، وحجز اللَّيل بينهم فمضى الضَّحَّاك ، فلمَّا أصبحوا لم يجدوا له ولأصحابِهِ أثرا وكان الضَّحَّاكُ يقولُ بعد : أنا الضَّحَّاك بن قَيس ، أنا أبو أنيس ، أنا قاتل عَمْرو بن عميس . عن مِسْعَر بن كِدام قال : قال عليّ عليه السلام : « لَوَدَدْتُ أنَّ لِي بأهْلِ الكُوفَةِ _ أو قال بأصحابي _ ألفا مِن بَني فِراس » . عن زَيْد بن وهب قال : كتب عَقِيل بن أبي طالب رضى الله عنه إلى عليّ أمير المونين عليه السلام حين بلغه خذلان أهل الكوفة وعصيانهم إياه : بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لعبد اللّه عليّ أمير المونين ، من عَقِيل بن أبي طالب : سلامٌ عليكَ فإنِّي أحمَدُ إليكَ اللّه َ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ ، أمَّا بَعْدُ ؛ فَإنَّ اللّه َ حارِسُكَ مِن كُلِّ سُوءٍ وعاصِمُكَ من كلِّ مَكروهٍ وعلى كُلِّ حالٍ ؛ إني خَرَجْتُ إلى مَكَّةَ مُعتَمِرا فَلَقِيتُ عَبْدَ اللّه ِ بنَ سَعْدِ بنِ أبي سَرْحٍ في نحوٍ مِن أربَعِينَ شابَّا مِن أبناءِ الطُّلَقاءِ فَعَرفْتُ المُنكرَ في وُجُوهِهِم ، فقلت لهم : إلى أيْنَ يا أبناءَ الشَّانِئينَ ؟ أبِمُعاوِيَةَ تَلحَقُونَ ؟ عداوة واللّه ِ مِنكُم قَدِيما غير مُستَنْكَرةٍ ، تُريدونَ بِها إطفاءَ نُورِ اللّه ِ وتَبدِيلِ أمرِهِ ، فأسمَعَنِي القَوْمُ وأَسمَعْتُهُم . فلمّا قَدِمْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ أهلَها يَتَحدَّثون أنَّ الضَّحَّاكَ بنَ قَيْسٍ أغار علَى الحِيرَةِ فاحتمَلَ من أموالهم ما شاء ، ثُمَّ انكفأ راجعا سالما ، فَأُفٍّ لحياةٍ في دَهْرٍ جَرَّأ عَلَيْكَ الضَّحَّاكَ ، وما الضَّحَّاكُ ؟ ! فقع بقرقر ، وقد توهَّمت حيث بلغني ذلك ، أن شيعتك وأنصارك خذلوك، فاكتب إليَّ يابن أمّي برأيك ، فَإن كنت الموت تريد تحمّلتُ إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا متّ ، فو اللّه ما أحبُّ أن أبقى في الدُّنيا بعدك فواقا ، وأقسم بالأعز الأجل أنَّ عيشا نعيشه بعدك في الحياة لغير هنيء ولا مريء ولا نجيع ، والسَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللّه ِ وبَرَكاتُهُ . فأجابه عليّ عليه السلام « بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . . . » إلى آخر ما تقدم . (8) كانت هذه الواقعة بعد الحكمين وقبل قتل الخوارج في النَّهروان ، ولكنَّ ظاهر كلام ابن قُتَيْبَة خلافه ، وإنّ المكاتبة كانت في أوّل خروجه عليه السلام من المدينة قبل حرب الجمل ، ولكنّه بعيد للغاية ؛ إذ غارة الضَّحَّاك كان بعد الحكمين قطعا ، وقد جمع في الكتاب _ على نقل ابن قُتَيْبَة _ بين إخباره عن خروج طَلْحَة والزُبَيْر وغارة الضَّحَّاك (9) . الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْريّ أبو أنيس الَّذي اشترك مع معاوية في مظالمه وجناياته ، بل في مظالم يزيد بن معاوية أيضا ، إذ هو الَّذي مهّد الأمر لبيعة يزيد وأقعده على أريكة الحكومة الإسلاميّة ، وسلَّطه على المسلمين . ولاّه معاوية الكوفة ثُمَّ عزله ثُمَّ ولاّه دمشق ، وشهد موت معاوية ، وصلّى عليه وبايع النَّاس ليزيد ، فلمّا مات يزيد بن معاوية ثُمَّ معاوية بن يزيد دعا الضَّحَّاك إلى نفسه ، ثُمَّ إلى ابن الزبير فقاتلَهُ مروان ، فقُتل الضَّحَّاك بمرج راهط . وقال فيه عَقِيل رضى الله عنه عند معاوية : أما واللّه لقد كان أبوه جيّد الأخذ لِعَسبِ (10) التُّيوس . . . وكان عليّ عليه السلام يلعن جمعا منهم الضَّحَّاك بن قَيْس ؛ كان على شرطة معاوية ، وله في الحروب معه بلاء عظيم . وعلى كل حال ، كان الرَّجل من رجال حكومة معاوية ويزيد ، ومن مشيّدي بنيانها ودعائمها وأركانها . (11)
.
ص: 419
. .
ص: 420
. .
ص: 421
. .
ص: 422
. .
ص: 423
. .
ص: 424
. .
ص: 425
. .
ص: 426
. .
ص: 427
. .
ص: 428
. .
ص: 429
. .
ص: 430
حُجْرُ بنُ عَدِيّحُجْرُ بن عَدِيّ بن معاوية الكِنْديّ ، أبو عبد الرَّحمن ، وهو المعروف بحجر الخير ، وابن الأدبر (1) كان جاهليّا إسلاميّا (2) ، وفد على النَّبيّ (3) ، وله صحبة (4) . من الوجوه المتألّقة في التَّاريخ الإسلامي ، ومن القمم الشَّاهقة السَّاطعة في التَّاريخ الشيعي . جاء إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله وأسلم وهو لم يزل شابّا . وكان من صفاته : تجافيه عن الدُّنيا ، وزهده ، وكثرة صلاته وصيامه ، واستبساله وشجاعته ، وشرفه ونُبله وكرامته ، وصلاحه وعبادته (5) . وكان معروفا بالزُّهد (6) ، مستجاب الدَّعوة لِما كان يحمله من روح طاهرة ، وقلب سليم ، ونقيبة محمودة ، وسيرة حَميدة (7) . ولم يسكت حُجْر قطّ أمام قتل الحقّ وإحياء الباطل والرُّكون إليه . من هنا ثار على عثمان مع سائر المؤمنين المجاهدين (8) . ولم يألُ جهدا في تحقيق حاكميّة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فعُدّ من خاصّة أصحابه (9) وشيعته (10) المطيعين . اشترك حُجْر في حروب الإمام عليه السلام . وكان في الجمل (11) قائدا على خيّالة كِنْدَة (12) ، وفي صفِّين (13) أميرا على قبيلته (14) ، وفي النَّهروان قاد ميسرة (15) الجيش أو ميمنته (16) . وكان فصيح اللِّسان ، نافذ الكلام ، يتحدّث ببلاغة ، ويكشف الحقائق بفصاحة . وآية ذلك كلامه الجميل المتبصّر في تبيان منزلة الإمام عليه السلام (17) . وكان نصير الإمام الوفيّ المخلص ، والمدافع المجدّ عنه . ولمّا أغار الضَّحَّاك بن قيس على العراق ، أمره الإمام عليه السلام بصدّه ، فهزمه حُجْر ببطولته وشجاعته ، وأجبره على الفرار (18) . اطّلع حُجْر على مؤامرة قتل الإمام عليه السلام قبل تنفيذها بلحظات ، فحاول بكلّ جهده أن يتدارك الأمر فلم يُفلح (19) . واغتمّ لمقتله كثيرا . وكان من أصحاب الإمام الحسن عليه السلام الغيارى الثَّابتين (20) . وقد جاش دم غيرته في عروقه حين سمع خبر الصُّلح ، فاعترض (21) ، فقال له الإمام الحسن عليه السلام : لو كان غيرُك مثلَك لَما أمضيتُه (22) . وكان قلبه يتفطّر ألما من معاوية . وطالما كان يبرأ من هذا الوجه القبيح لحزب الطلقاء الَّذي تأمّر على المسلمين ، ويدعو عليه مع جمع من الشِّيعة (23) . وهو الحزب الَّذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وصفه بأنّه ملعون . وكان حُجْر يقف للدفاع عن العقيدة وأهل البيت عليهم السلام بلا وجلٍ ، ويُعنّف المُغِيْرَة الَّذي كان فريدا في رجسه وقبحه ورذالته ، وقد تسلّط على الكوفة في أثناء حكومة الطُّلقاء ، وكان يطعن في عليٍّ عليه السلام وشيعته (24) . وضاق معاوية ذرعا بحجر وبمواقفه وكشفه الحقائق ، وصلابته ، وثباته ، فأمر بقتله وتمّ تنفيذ أمره ، فاستشهد (25) ذلك الرَّجل الصَّالح في مَرْج عذراء (26) ، سنة 51 ه ، مع ثلّة من رفاقه (27) . وكان حُجْر وجيها عند النَّاس ، وذا شخصيّة محبوبة نافذة ، ومنزلة حسنة ، فكَبُر عليهم استشهاده (28) ، واحتجّوا على معاوية ، وقرّعوه على فعله القبيح هذا . وكان الإمام الحسين عليه السلام (29) ممّن تألّم كثيرا لاستشهاده ، واعترض على معاوية في رسالة بليغة له أثنى فيها ثناءً بالغا على حُجْر ، وذكر استفظاعه للظلم ، وذكّر معاوية بنكثه للعهد ، وإراقته دم حُجْر الطَّاهر ظلما وعدوانا . واعترضت عائِشَة (30) أيضا على معاوية من خلال ذكرها حديثا حول شهداء مرج عذراء (31) . وكان معاوية _ على ما اتّصف به من فساد الضَّمير _ يرى قتل حُجْر من أخطائه ، ويعبّر عن ندمه على ذلك (32) ، وقال عند دنوّ أجلِه : لو كان ناصحٌ لَمَنعنا من قتله (33) ! وقتل مُصْعَب بن الزُّبَيْر ولدَي حُجْر : عبيد اللّه ، وعبد الرَّحمن صبرا (34) . وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد أخبر باستشهاده من قبل ، وشبّه استشهاده ، وصحبه باستشهاد أصحاب الاُخدود . في الأمالي للطوسيّ عن رَبيعة بن ناجِذ _ بعد غارة سُفْيَان بن عَوْف الغامِديّ ، واستنفار الإمام عليّ عليه السلام النَّاس وتقاعد أصحابه _ : قام حُجْر بن عَدِيّ وسَعْد بن قيس فقالا : لا يسوؤكُ اللّه ُ يا أمير المؤمنين ! مُرْنا بأمرك نتّبعْه ، فواللّه العظيم ، ما يعظم جزعنا على أموالنا أن تَفرّقَ ، ولا على عشائرنا أن تُقتل في طاعتك (35) . وفي تاريخ اليعقوبيّ _ في ذكر غارة الضَّحَّاك على القطقطانة (36) ودعوته عليه السلام الناس للخروج إلى قتاله : قام إليه حُجْر بن عَدِيّ الكِنْديّ فقال : يا أمير المؤمنين ! لا قرّب اللّه منّي إلى الجنّة من لا يحبّ قربك ، عليك بعادة اللّه عندك ؛ فإنّ الحقّ منصور ، والشَّهادة أفضل الرِّياحين ، اندب معي النَّاس المناصحين ، وكن لي فئة بكفايتك ، واللّه فئة الإنسان وأهله ، إنّ الشَّيطان لا يفارق قلوب أكثر الناس حتَّى تفارق أرواحهم أبدانهم . فتهلّل وأثنى على حُجْر جميلاً ، وقال : لا حرمكَ اللّه ُ الشَّهادةَ ؛ فإنّي أعلم أنّك من رجالها (37) . وفي وقعة صفِّين عن عبد اللّه بن شَريك : قام حُجْر فقال : يا أمير المؤمنين ! نحن بنو الحرب وأهلها ، الَّذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها (38) ، ولنا أعوان ذوو صلاح ، وعشيرة ذات عدد ، ورأي مجرّب ، وبأس محمود ، وأزمّتنا منقادة لك بالسمع والطَّاعة ؛ فإن شرّقت شرّقنا ، وإن غرّبت غرّبنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلناه . فقال عليّ : أكُلُّ قومِكَ يرى مِثلَ رأيِكَ ؟ قال : ما رأيت منهم إلاّ حسنا ، وهذه يدي عنهم بالسَّمع والطَّاعة ، وبحسن الإجابة ، فقال له عليّ خيرا (39) . وقال الإمام عليّ عليه السلام : يا أهلَ الكُوفَةِ ! سيُقتَلُ فِيكُم سَبعةُ نَفرٍ خِيارُكُم ، مَثَلُهم كَمَثلٍ أصحابِ الاُخدُودِ ، مِنهُم حُجْرُ بنُ الأدبَرِ وأصحَابُهُ (40) . وفي الأغاني عن المُجالِد بن سَعيد الهَمْدانِيّ ، والصَّقعب بن زُهْيَر ، وفُضيل بن خَدِيْج ، والحسن بن عُقْبَة المراديّ : إنّ المُغِيْرَة بن شُعْبَة لمّا ولي الكوفة كان يقوم على المنبر ، فيذمّ عليّ بن أبي طالب وشيعته ، وينال منهم ، ويلعن قتلة عثمان ، ويستغفر لعثمان ويزكّيه ، فيقوم حُجْر بن عَدِيّ فيقول : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّ امِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ » (41) وإنّي أشهد أنّ من تذمّون أحقّ بالفضل ممّن تُطرُون ، ومن تزكّون أحقّ بالذَّمّ ممّن تعيبون . فيقول له المُغِيْرَة : يا حُجْر ! ويحك ! اكفف من هذا ، واتّق غضبة السُّلطان وسطوته ؛ فإنّها كثيرا ما تقتل مثلك ، ثمّ يكفّ عنه . فلم يزل كذلك حتَّى كان المُغِيْرَة يوما في آخر أيّامه يخطب على المنبر ، فنال من عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ولعنه ، ولعن شيعته ، فوثب حُجْر فنعر نعرةً أسمعت كلّ من كان في المسجد وخارجه . فقال له : إنّك لا تدري أيُّها الإنسان بمن تولع ، أوَهرمت ! مر لنا بأعطياتنا وأرزاقنا ؛ فإنّك قد حبستها عنّا ، ولم يكن ذلك لك ولا لمن كان قبلك ، وقد أصبحت مولعا بذمّ أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين . فقام معه أكثر من ثلاثين رجلاً يقولون : صدق واللّه حُجْر ! مر لنا بأعطياتنا ؛ فإنّا لا ننتفع بقولك هذا ، ولا يُجدي علينا . وأكثروا في ذلك . فنزل المُغِيْرَة ودخل القصر ، فاستأذن عليه قومه ، ودخلوا ولاموه في احتماله حجر ا ، فقال لهم : إنّي قد قتلته . قال : وكيف ذلك ؟ ! قال : إنّه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه ، فيأخذه عند أوّل وهلة ، فيقتله شرّ قتلة . إنّه قد اقترب أجلي ، وضعف عملي ، وما اُحبّ أن أبتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم ، وسفك دمائهم ، فيسعدوا بذلك وأشقى ، ويعزّ معاوية في الدُّنيا ، ويذلّ المُغِيْرَة في الآخرة ، سيذكرونني لو قد جرّبوا العمّال (42) . في الطبقات الكبرى _ في ذِكر أحوال حُجْر بن عَدِيّ _ : ذكر بعض رواة العلم : أنّه وفد إلى النَّبيّ صلى الله عليه و آله مع أخيه هانئ بن عَدِيّ ، وشهد حُجْر القادسيّة وهو الَّذي افتتح مَرج عَذرا ، وكان في ألفين وخمسمئة من العطاء . وكان من أصحاب عليّ بن أبي طالب ، وشهد معه الجمل وصفِّين . فلمّا قدم زياد بن أبي سُفْيَان واليا على الكوفة ، دعا بحجر بن عَدِيّ فقال : تعلم أنّي أعرفك ، وقد كنت أنا وإيّاك على ما قد علمت _ يعني من حبّ عليّ بن أبي طالب _ وإنّه قد جاء غير ذلك ، وإنّي أنشدك اللّه أن تقطر لي من دمك قطرة فأستفرغه كلّه ، أملِكْ عليك لسانك ، وليسعك منزلك . . . وكانت الشِّيعة يختلفون إليه ويقولون : إنّك شيخنا ، وأحقّ النَّاس بإنكار هذا الأمر . وكان إذا جاء إلى المسجد مشوا معه ، فأرسل إليه عَمْرو بن حُرَيْث _ وهو يومئذٍ خليفة زياد على الكوفة ، وزياد بالبصرة _ أبا عبد الرَّحمن ، ما هذه الجماعة وقد أعطيت الأمير من نفسك ما قد علمت ؟ فقال للرسول : تُنكرون ما أنتم فيه ؟ إليك وراءك أوسع لك ، فكتب عَمْرو بن حُرَيْث بذلك إلى زياد ، وكتب إليه : إن كانت لك حاجة بالكوفة فالعجل . . . فأرسل إليه الشّرط والبخاريّة فقاتلهم بمن معه ، ثمّ انفضّوا عنه واُتي به زياد وبأصحابه فقال له : ويلك ما لك ؟ فقال : إنّي على بيعتي لمعاوية لا اُقيلها ولا أستقيلها ، فجمع زياد سبعين من وجوه أهل الكوفة فقال : اكتبوا شهادتكم على حُجْر وأصحابه ، ففعلوا ثمّ وفدهم على معاوية ، وبعث بحجر وأصحابه إليه . . . فقال معاوية بن أبي سُفْيَان : أخرجوهم إلى عذرا فاقتلوهم هنالك . قال : فحُملوا إليها ، فقال حُجْر : ما هذه القرية ؟ قالوا : عذراء ، قال : الحمد للّه ! أما واللّه إنّي لأوّل مسلم نبّح كلابها في سبيل اللّه ، ثمّ اُتي بي اليوم إليها مصفودا . ودُفع كلّ رجل منهم إلى رجل من أهل الشَّام ليقتله ، ودُفع حُجْر إلى رجل من حمير فقدّمه ليقتله فقال : يا هؤلاء ، دعوني اُصلّي ركعتين ، فتركوه فتوضّأ وصلّى ركعتين ، فطوّل فيهما ، فقيل له : طوّلت ، أجزعت ؟ فانصرف فقال : ما توضّأت قط إلاّ صلّيت ، وما صلّيت صلاةً قطّ أخفّ من هذه ، ولئن جزعت لقد رأيت سيفا مشهورا ، وكفنا منشورا وقبرا محفورا . وكانت عشائرهم جاؤوا بالأكفان، وحفروا لهم القبور ، ويقال : بل معاوية الَّذي حفر لهم القبور وبعث إليهم بالأكفان . وقال حُجْر : اللَّهمَّ إنّا نستعديك على اُمّتنا ؛ فإنّ أهل العراق شهدوا علينا ، وإنّ أهل الشَّام قتلونا . قال : فقيل لحجر : مدّ عنقك ، فقال : إنّ ذاك لَدَمٌ ما كنت لاُعِينَ عليه ، فقُدّم فضُربت عنقه . (43) عن محمّد قال : لمّا اُتي بحجر فاُمر بقتله ، قال : ادفنوني في ثيابي ؛ فإنّي اُبعث مخاصِما . (44) في تاريخ الطبريّ عن أبي إسْحاق : بعث زياد إلى أصحاب حُجْر حتَّى جمع اثني عشر رجلاً في السِّجن . ثمّ إنّه دعا رؤوس الأرباع ، فقال : اشهدوا على حُجْر بما رأيتم منه . فشهد هؤلاء الأربعة : أنّ حُجْرا جمع إليه الجموع ، وأظهر شتم الخليفة ، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين ، وزعم أنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ في آل أبي طالب (45) . وفي الأغاني : كتب أبو بُرْدَة بن أبي موسى : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ، هذا ما شهد عليه أبو بُرْدَة بن أبي موسى للّه ربّ العالمين ؛ شهد أنّ حُجْر بن عَدِيّ خلع الطَّاعة ، وفارق الجماعة ، ولعن الخليفة ، ودعا إلى الحرب والفتنة ، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة ، وخلع أمير المؤمنين معاوية ، وكفر باللّه كفرةً صلعاء (46) . وفي الأغاني : قال لهم _ أي لحجْر وأصحابه السِّتَّة _ رسولُ معاوية : إنّا قد اُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ واللَّعن له ؛ فإن فعلتم هذا تركناكم ، وإن أبيتم قتلناكم ، وأمير المؤمنين يزعم أنّ دماءكم قد حلّت بشهادة أهل مصركم عليكم ، غير أنّه قد عفا عن ذلك ، فابرؤوا من هذا الرَّجل يُخْلِ سبيلكم . قالوا : لسنا فاعلين ، فأمر بقيودهم فحُلّت ، واُتي بأكفانهم فقاموا اللَّيل كلّه يُصلّون ، فلمّا أصبحوا قال أصحاب معاوية : يا هؤلاء ، قد رأيناكم البارحة أطلتم الصَّلاة ، وأحسنتم الدُّعاء ، فأخبرونا ما قولكم في عثمان ؟ قالوا : هو أوّل من جار في الحكم ، وعمل بغير الحقّ . فقالوا : أمير المؤمنين كان أعرف بكم . ثمّ قاموا إليهم وقالوا : تبرؤون من هذا الرَّجل ؟ قالوا : بل نتولاّه (47) . وأيضا في الأغاني : قال لهم حُجْر : دعوني اُصلّي ركعتين ؛ فإنّي واللّه ما توضّأت قطّ إلاّ صلّيت ، فقالوا له : صلّ ، فصلّى ثمّ انصرف ، فقال : واللّه ما صلّيت صلاةً قطّ أقصر منها ، ولولا أن يروا أنّ ما بي جزع من الموت ، لأحببت أن أستكثر منها . ثمّ قال : اللَّهمَّ إنّا نستعديك على اُمّتنا ؛ فإنّ أهل الكوفة قد شهدوا علينا ، وإنّ أهل الشَّام يقتلوننا ، أما واللّه لئن قتلتمونا ؛ فإنّي أوّل فارس من المسلمين سلك في واديها ، وأوّل رجل من المسلمين نبحته كلابها . فمشى إليه هدبة بن الفيّاض الأعْوَر بالسيف ، فأرعدت خصائله (48) ، فقال : كلاّ ، زعمت أنّك لا تجزع من الموت ؛ فإنّا ندعك ، فابرأ من صاحبك . فقال : ما لي لا أجزع ، وأنا أرى قبرا محفورا ، وكفنا منشورا ، وسيفا مشهورا ، وإنّي واللّه إن جزعت لا أقول ما يُسخط الرَّبّ ، فقتله (49) . وأيضا في الأغاني عن أبي مِخْنَف عن رجاله : فكان مَن قُتل منهم سبعة نفر : حُجْر بن عَدِيّ ، وشَريك بن شَدَّاد الحَضْرَمِيّ ، وصَيْفِيّ بن فسيل الشَّيْبانيّ ، وقَبِيْصَة بن ضُبَيْعَة العَبْسِيّ ، ومُحْرِز بن شهاب المِنْقَريّ ، وكِدام بن حَيَّان العَنزيّ ، وعبد الرَّحمن بن حسّان العَنزي (50) . وفي تاريخ اليعقوبيّ : قالت عائِشَة لمعاوية حين حجّ ، ودخل إليها : يا معاوية ، أ قتلت حُجْر ا وأصحابه ! فأين عزب حلمك عنهم ؟ أما إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : يُقتَلُ بِمَرجِ عَذرَاءَ نَفَرٌ يَغضَبُ لَهُم أهلُ السَّماواتِ ، قال : لم يحضرني رجل رشيد ، يا أمّ المؤمنين ! (51) وفي الأغانيّ عن عبْد المَلِك بن نَوْفل : كانت عائِشَة تقول : لولا أنّا لم نُغيّر شيئا قطّ ، إلاّ آلت بنا الاُمور إلى أشدّ ممّا كنّا فيه ، لغيّرنا قتل حُجْر ، أما واللّه إن كان لمسلما ما علمته حاجّا معتمرا (52) . وفي تاريخ اليعقوبيّ : روي أنّ معاوية كان يقول : ما أعدّ نفسي حليما بعد قتلي حجر ا وأصحاب حُجْر (53) . وفي تاريخ الطبريّ عن ابن سِيْرِين _ في معاوية _ : بلغنا أنّه لمّا حضرته الوفاة جعل يُغرغِر بالصَّوت ويقول : يومي منك يا حُجْر يوم طويل (54) .
.
ص: 431
. .
ص: 432
. .
ص: 433
. .
ص: 434
. .
ص: 435
. .
ص: 436
. .
ص: 437
. .
ص: 438
. .
ص: 439
. .
ص: 440
. .
ص: 441
الضَّحّاكُ بنُ قَيْسٍ الهِلالِيّفي الكامل في التاريخ : في هذه السَّنة ( 38 ه ) بعد مقتل محمّد بن أبي بكر ، واستيلاء عَمْرو بن العاص على مصر ، سيّر معاوية عبد اللّه بن عَمْرو الحَضْرَمِيّ إلى البصرة . . . فسار ابن الحَضْرَمِيّ حتَّى قدم البصرة . . . فخطبهم وقال : إنّ عثمان إمامكم إمام الهدى، قتل مظلوما، قتله عليّ ، فطلبتم بدمه فجزاكم اللّه خيرا. فقام الضَّحَّاك بن قَيْس الهلالي ، وكان على شُرطة ابن عبّاس ، فقال : قبّح اللّه ما جئتنا به وما تدعونا إليه ، أتيتنا واللّه ، بمثل ما أتانا به طَلْحَة والزُّبير ، أتيانا وقد بايعنا عليّا واستقامت اُمورنا ، فحملانا على الفرقة حتَّى ضرب بعضنا بعضا ، ونحن الآن مجتمعون على بيعته ، وقد أقال العثرة ، وعفا عن المسيء ، أ فتأمرنا أن ننتضي أسيافنا ويضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا ؟ واللّه ، ليوم من أيّام عليٍّ خير من معاوية وآل معاوية . . . (1)
.
ص: 442
أبو أيّوبَ الأنْصارِيّهو خالد بن زَيْد بن كُلَيب ، أبو أيّوب الأنْصاريّ الخَزْرَجيّ ، وهو مشهور بكنيته . من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله . نزل النَّبيّ صلى الله عليه و آله في داره عند هجرته إلى المدينة (1) . شهد أبو أيّوب حروب النَّبيّ جميعها (2) . وكان بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله من السَّابقين إلى الولاية ، والثَّابتين في حماية حقّ الخلافة (3) ، ولم يتراجع عن موقفه هذا قطّ (4) . وعُدَّ من الإثني عشر الَّذين قاموا في المسجد النَّبويّ بعد وفاة النَّبيّ صلى الله عليه و آله ، ودافعوا عن حقّ عليّ عليه السلام بصراحة (5) . لم يَدَع أبو أيّوب ملازمة الإمام عليه السلام وصحبته. واشترك معه في كافّة حروبه الَّتي خاضها ضدّ مثيري الفتنة (6) . وكان على خيّالته في النَّهروان (7) ، وبيده لواء الأمان . ولاّه الإمام على المدينة (8) ، لكنّه فرّ منها حين غارة بُسْر بن أرطاة عليها (9) . وعَقَد له الإمام عليه السلام في الأيّام الأخيرة من حياته الشَّريفة لواءً على عشرة آلاف ، ليتوجّه إلى الشَّام مع لواء الإمام الحسين عليه السلام ، ولواء قَيْس بن سَعْد لحرب معاوية ، ولكنّ استشهاد الإمام عليه السلام حال دون تنفيذ هذه المهمّة ، فتفرّق الجيش ، ولم يتحقّق ما أراده الإمام عليه السلام (10) . وكان أبو أيّوب من الصَّحابة المكثرين في نقل الحديث . وروى في فضائل الإمام عليه السلام أحاديث جمّة . وهو أحد رواة حديث الغدير (11) ، وحديث الثَّقلين ، وكلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإمام عليه السلام حين أمره بقتال النَّاكثين ، والقاسطين ، والمارقين (12) ، ودعوتهِ صلى الله عليه و آله أبا أيّوب أن يكون مع الإمام عليه السلام (13) . توفّي أبو أيّوب بالقسطنطينيّة سنة 52 ه ، عندما خرج لحرب الرُّوم ، ودُفن هناك (14) . في وقعة صفِّين عن الأعْمَش : كتب معاوية إلى أبي أيّوب خالد بن زَيْد الأنْصاريّ _ صاحب منزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكان سيّدا معظّما من سادات الأنصار ، وكان من شيعة عليّ عليه السلام _ كتابا ، وكتب إلى زياد بن سُمَيَّة _ وكان عاملاً لعليّ عليه السلام على بعض فارس _ كتابا ؛ فأمّا كتابه إلى أبي أيّوب فكان سطرا واحدا : لا تنسى شَيْباءُ أبا عُذرتها ، ولا قاتلَ بِكرها . فلم يدرِ أبو أيّوب ما هو ؟ فأتى به عليّا وقال : يا أمير المؤمنين ! إنّ معاوية ابن آكّالة الأكباد ، وكهف المنافقين ، كتب إليَّ بكتاب لا أدري ما هو ؟ فقال له عليّ : « وأيْنَ الكِتابُ ؟ » فدفعه إليه فقرأه وقال : « نَعَمْ ، هذا مَثَلٌ ضَربهُ لَكَ ، يَقُولُ : ما أنسى الَّذي لا تَنسى ، الشَّيْباءُ لا تنسى أبا عذرتها » ، والشّيباء : المرأة البكر ليلة افتضاضها ، لا تنسى بعلها الَّذي افترعها أبدا ، ولا تنسى قاتل بِكرها ؛ وهو أوّل ولدها . كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان (15) .
.
ص: 443
. .
ص: 444
أبو الهَيْثَمهو مالك بنُ التَّيِّهانِ بن مالك أبو الهَيْثَم الأنْصاريّ ، وهو مشهور بكنيته . من أوائل الأنصار الَّذين أسلموا في مكّة قبل هجرة النَّبيّ صلى الله عليه و آله (1) . وكان قبل الإسلام موحّدا أيضا ولم يعبد الأصنام . (2) وشهد مشاهد النَّبيّ صلى الله عليه و آله جميعها (3) ، وهو ممّن روى حديث الغدير (4) . وكان من السَّابقين في معرفة الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ سبق إلى معرفة خلافة الحقّ (5) ، ولم يتنازل عنها إلى غيرها (6) ، وهو أحد الإثني عشر الَّذين احتجّوا في مسجد النَّبيّ مدافعين عن الإمام عليه السلام ، ومعارِضين لتغيير مسار الخلافة (7) . وهكذا كان ؛ فقد رافق الإمام عليه السلام منذ بداية تبلور خلافته ، وتصدّى مع عَمَّار بن ياسِر لأخذ البيعة مِنَ النَّاس (8) . جعله الإمام عليه السلام وعَمَّارَ بن ياسِر على بيت المال . وهو آية على نزاهته (9) . وعندما ذكر الإمامُ عليه السلام بلَوعةٍ وألم _ وهو في وحدته ومحنة نُكول أصحابه وضعفهم _ أحِبَّته الماضين الَّذين ثبتوا على الطَّريق ، ذكر فيهم مالك بن التَّيِّهان ، وتأسّف على فقده (10) . واختلف المؤرّخون في وقت وفاته ، لكن يستبين من خطبة الإمام عليه السلام ، الَّتي ذكر فيها اسمه وتأوَّه على فقده وفقد عَمَّار بن ياسر ، وخُزَيْمَة بن ثابت ذي الشهادتين ، قائلاً : « أينَ إخوانِيَ الَّذين رَكَبُوا الطَّرِيقَ ومضَوا علَى الحَقِّ ؟ أينَ عَمَّارُ ؟ وأينَ ابنُ التَّيِّهانِ ؟ وأينَ ذو الشَّهادَتَينِ ؟ وأين نُظَراؤُهُم مِن إخوانِهِم الَّذين تَعاقَدُوا علَى المَنِيَّةِ ، واُبرِدَ بِرؤوسِهِم إلى الفَجَرةِ ؟ » يستبين أنّه استُشهد في صفِّين (11) . وبه صرّح ابن أبي الحديد (12) ، والعلاّمة التُّستريّ (13) .
.
ص: 445
. .
ص: 446
خُزَيْمَةُ بنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِخُزَيْمَة بن ثابت بن الفاكِه الأنْصاريّ الأوْسِيّ يُكنَّى أبا عَمَّارة . ويلقّب بذي الشهادتين . من الشَّخصيّات المتألّقة بين صحابة النَّبيّ صلى الله عليه و آله . شهد اُحد ا وبقيّة المشاهد (1) . وإنّما اشتهر بذي الشَّهادتين ؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله جعل شهادته شهادة رجلين (2) . وكان خُزَيْمَة أحد الأفراد القلائل الَّذين ثبتوا على حقّ الخلافة و خلافة الحقّ بعد النَّبيّ صلى الله عليه و آله (3) ، إذ قام في المسجد رافعا صوته بالدفاع عن خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام . واحتجّ بالمنزلة الَّتي خصّه بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فشهد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله جعل أهل بيته عليهم السلاممعيارا لمعرفة الحقّ من الباطل ، ونصبهم أئمّة على العباد (4) . وشهد خُزَيْمَة حروب أمير المؤمنين عليه السلام وكان ثابت الخُطى فيها . رُزق الشَّهادة بعد استشهاد عَمَّار بن ياسر (5) . في رجال الكشّي عن أبي إسحاق : لمّا قُتل عَمَّار ، دخل خُزَيْمَة بن ثابت فسطاطه ، وطرح عنه سلاحه ، ثمّ شنّ عليه الماء فاغتسل ، ثمّ قاتل حتَّى قُتل (6) . وفي أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : كنت بصفِّين فرأيت رجلاً أبيض اللِّحية ، معتمّا متلثّما ، ما يُرى منه إلاّ أطراف لحيته ، يقاتل أشدّ قتال ، فقلت : يا شيخ ! تقاتل المسلمين ؟ فحسر لثامه ، وقال : أنا خُزَيْمَة ، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « قاتِلْ مَعَ عليٍّ جَمِيعَ مَن يُقاتِلُ » (7) .
.
ص: 447
126كتابه عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِيّمن كتاب له عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِيّ جَوابا في أمْر الحَكَمَين ، ذكره سَعِيد بن يَحْيَى الأمَوي في كتاب المَغازيّ :« فَإِنَّ النَّاس قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِن حَظِّهِمْ ، فَمَالُوا مَعَ الدُّنيا ونَطَقُوا بِالْهَوَى ، وإِنِّي نَزَلْتُ مِن هَذَا الأَمْرِ مَنْزِلا مُعْجِبا ، اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ، وأَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَلَقا ، ولَيْسَ رَجُلٌ _ فَاعْلَمْ _ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ محمَّد صلى الله عليه و آله وأُلْفَتِهَا مِنِّي ، أَبْتَغِي بِذَلِك حُسْنَ الثَّوَابِ ، وكَرَمَ الْمَآبِ ، وسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي ، وإِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي علَيْه ، فإنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ والتَّجْرِبَةِ ، وإِنِّي لأَعْبَدُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِلٍ ، وأَنْ أُفْسِدَ أَمْرا قَدْ أَصْلَحَهُ اللّه ، فَدَعْ مَا لا تَعْرِفُ ، فإنَّ شِرَارَ النَّاس طَائِرُونَ إِلَيْك بِأَقَاوِيلِ السُّوءِ ، والسَّلامُ » . (1)
.
ص: 448
127كتابه عليه السلام إلى أبي موسى الأشْعَرِيّنقل ابن عبد ربّه في العِقد الفريد : إنَّ أبا موسى بعد قصَّة الحكَمَين خرَج من فَوره إلى مكَّة َ مستعيذا بها من عليّ ، وحلَف أنْ لا يكلِّمه أبدا فأقام بمكَّة حينا حَتَّى كتَب إليه معاوية : _ ثُمَّ نقل كتاب معاوية إلى أبي موسى ، وكتاب أبي موسى إليه فقال : _ فبلغ عليَّا كتابُ أبي موسى الأشْعَرِيّ ، فكتَب إليه : « سَلامٌ عَليْكَ ، أمَّا بَعدُ ، فإنَّكَ امرؤٌ ظَلَمكَ الهَوى ، واستَدْرَجَكَ الغُرورُ ، حَقَّقَ بِكَ حُسنَ الظَّنِّ لزومُك بَيْتَ اللّه ِ الحَرامِ غَيْرَ حاجٍّ ، وَلا قاطِنٍ ، فاستَقِلِ اللّه َ يُقِلْكَ ؛ فَإنَّ اللّه َ يَغْفِرُ ولا يَغْفُلُ ، وأحَبُّ عبادِهِ إليهِ التَّوابونَ ، وكتبَه سَماك بن حَرب » . فكتَب إليه أبو موسى : سلامُ عليكم ، فإنَّه واللّه ، لولا أنِّي خشيتُ أنْ يَرفعك منِّي منعُ الجواب إلى أعظم ممَّا في نفسك لم أُجبك ، لأنَّه ليس لي عندك عُذر يَنْفعني ، ولا قُوَّة تمنعني ، وأمَّا قولك « ولزومي بيتَ اللّه ِ الحَرامِ غيرَ حاجٍّ ولا قاطِنٍ » ، فإنِّي اعتزلتُ أهلَ الشَّام ، وانقطعتُ عن أهل العراق ، وأصبت أقواما صغّروا من ذنبي ما عظَّمتم ، وعظَّموا من حقِّي ما صغَّرتم ، إذ لم يكن لي منكم وليٌّ ولا نصير . (1) ونقل أبي قُتَيْبَة الكتاب ، ولكنَّه نقله بصورة أخرى لا بدَّ من إيرادها هنا : أمَّا بَعدُ ، فَإنَّكَ امرؤ ضَلَّلَكَ الهَوى ، واستَدْرَجَكَ الغُرورُ ، فاستَقِلِ اللّه َ يُقِلْكَ عَثرَتَكَ ، فإنَّه مَنِ استقالَ اللّه َ أقالَهُ ، إنَّ اللّه َ يَغفِرُ ولا يُغيِّرُ ، وأحَبُّ عبادِهِ إليهِ المُتَّقون ، والسلام . (2)
.
ص: 449
128كتابه عليه السلام إلى عَمْرو بن أبي سَلَمَة] نقل مصنف كتاب معادن الحكمة رحمه الله (1) كتابا له عليه السلام إلى بعض عُمَّاله خاليا من ذكر اسم المكتوب إليه ، نقله عن السَّيِّد رحمه الله ، ولكنْ نقل اليعقوبي كتابا له عليه السلام إلى عَمْرو بن أبي سلمة الأرْحَبيّ يقرب من الكتاب الَّذي نقله المصنف رحمه الله ، ويمكن أن يكونا كتابا واحدا ، وإن كان القريب عندي تعدُّدهما ، لاختلاف مضمونهما كثيرا ، وهو : [« أمَّا بَعْدُ ، فإنَّ دَهاقِينَ عَمَلِكَ شَكَوا غِلْظَتَكَ ، ونَظَرْتُ في أمرِهِمْ فما رأيْتُ خَيْرا ، فَلْتَكُن مَنْزِلَتُكَ بين مَنزِلَتَينِ : جلبابُ لينٍ بِطَرفٍ مِنَ الشِّدَّةِ في غَيرِ ظُلْمٍ ولا نَقْصٍ ، فإنَّهم أحيونا صاغرين ، فَخُذْ ما لَكَ عِندَهُم وهُم صاغِرونَ ، ولا تتَّخِذْ من دُونِ اللّه ِ وليَّا ، فَقَدْ قالَ اللّه ُ عز و جل : « لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً » (2) ، وقال عز و جل في أهل الكتاب : « لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَ_رَى أَوْلِيَآءَ » (3) ، وقال تبارك وتعالى : « وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » (4) ، وقَرِّعْهُم بِخَراجِهِم . وقابِلْ في ورَائِهِم ، وإيَّاك ودِماءَهُم ، والسَّلام » . (5)
.
ص: 450
] وإذا رجعت إلى كتاب معادن الحكمة فلسوف ترى فرقا واضحا بينهما ، يبعد معه اتحادهما . . .ولم أجد في المعاجم الموجودة عندي ما يتعلّق بهذا الكتاب ، إلاّ أنَّ في الجمل للمفيد رحمه الله ، إنَّ كتاب عليّ عليه السلام إلى الكوفة بعد فتح البصرة ، أرسله مع عَمْرو بن أبي سلمة الأرْحَبيّ . ]
129كتابه عليه السلام إلى قَرَظَةَ بن كَعْبكتب _ يعني أمير المؤمنين عليه السلام _ إلى قَرَظَةَ بن كَعْب الأنْصاريّ :« أمَّا بَعدُ ، فإنَّ رِجالاً مِن أهلِ الذِّمَّةِ مِن عَملِكَ ذكرُوا نَهْرا في أرضِهِم قَد عفا وادَّفَنَ ، وفيهِ لَهُم عِمارَةٌ عَلى المُسلِمينَ ، فانْظُر أنتَ وهُم ، ثُمَّ اعمُر وأصلِحْ النَّهرَ ، فلَعَمرِي لأن يَعمُروا أحبُّ إلينا مِن أن يَخرُجُوا وأنْ يَعجَزُوا أو يُقَصِّروا في واجِبٍ مِن صَلاحِ البلادِ ، والسَّلامُ » . (1) [ وتوجد صورة أخرى عن أنساب الأشراف للبلاذريّ ،] كتب عليه السلام إلى قَرَظَة بن كَعب: « أمَّا بَعدُ ؛ فَإنَّ قَوْما مِن أهْلِ عَمَلِكَ أتَوْني ، فَذَكرُوا أنَّ لَهُم نَهْرا قَد عَفا ودَرَس ، وأنَّهم إن حَفَرُوه واستَخرَجُوه عَمَرتْ بِلادُهُم ، وقَوَوا علَى خَراجِهِم ، وزَادَ فيءُ المُسلِمينَ قِبَلَهُم ، وسأَلونِي الكِتابَ إلَيكَ لِتأْخُذَهُم بِعَمَلِهِ ، وتَجْمَعَهُم لِحَفْرِهِ والإنفاقِ علَيهِ ، ولَسْتُ أرى أَنْ أجْبُرَ أحَدا علَى عَمَلٍ يَكْرَهُهُ ، فادعُهُم إليْكَ ، فإنْ كان الأمرُ في النَّهرِ علَى ما وصفُوا ، فمَن أحبَّ أن يَعْمَلَ فَمُرْهُ بِالعَمَلِ ، والنَّهرُ لِمَنْ عَمِلَهُ دُونَ مَن كَرِهَهُ ، ولأن يَعمُروا ويَقوَوا أحبُّ إليَّ مِن أنْ يَضْعُفُوا ، والسَّلامُ . » (2)
.
ص: 451
قَرَظَةُ بنُ كَعْبٍ الأنْصارِيّقرظة بن كَعْب بن ثَعْلَبة الأنْصاريّ الخَزْرَجيّ ، يُكنّى أبا عمر . من صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله (1) وفقهائهم (2) . اشترك في غزوة اُحد وما تلاها من غزوات (3) . فتح الرَّي في زمن عمر (4) . وليَ الكوفة (5) ، وبِهْقُباذات (6) ، وخراج ما بين النهرين في خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (7) . كان مع الإمام عليه السلام في حروبه (8) ، وتوفّي في أيّام خلافة الإمام عليه السلام بالكوفة ، فصلّى عليه الإمام عليه السلام (9) . في الاستيعاب : ولاّه _ قَرظَةَ بن كَعْب الأنْصاريّ _ عليُّ بن أبي طالب على الكوفة ، فلمّا خرج عليّ إلى صفِّين حمله معه وولاّها أبا مسعود البدري (10) . وشهد قرظة بن كَعْب مع عليّ مشاهده كلّها ، وتوفّي في خلافته في دارٍ ابتناها بالكوفة ، وصلّى عليه عليُّ بن أبي طالب (11) .
.
ص: 452
أبو مَسْعودٍ البَدْرِيّهو عُقْبَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبة ، أبو مسعود البَدريّ ، وهو مشهور بكنيته . من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله (1) . اشترك في حروبه كلّها إلاّ بدرا (2) . عندما تقلّد الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أمر الخلافة ، قام وأثنى عليه ، وعدّ بيعته كبيعة العَقَبة ، والرِّضوان ، وحثّ النَّاس على بيعته عليه السلام (3) . وحين توجّه الإمام عليه السلام إلى صفِّين ، استخلفه على الكوفة (4) . لم يشترك هذا الرَّجل في حرب من حروب الإمام عليه السلام (5) . مات أبو مسعود سنة 40 ه (6) .
.
ص: 453
. .
ص: 454
130كتابه عليه السلام إلى رُفاعَة بن شَدَّاد[ كان رُفاعَة بن شَدَّاد البَجَلِيّ _ بضمّ الرَّاء _ من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو أحد أولئك النَّفر الَّذِين وُفِّقوا لدفن أبي ذرّ مع الأشْتَر رحمه الله ، وهو من الفضائل الكبيرة ؛ لشهادة الرَّسول العظيم بإيمانهم في حديث مشهور بين العامَّة والخاصَّة ، وقد شهد معه عليه السلام صفِّين ، وكان على بجيلة ، وله كلام في رفع أهل الشَّام المصاحف . (1) ثُمَّ جعله أمير المؤمنين عليه السلام قاضيا على الأهواز ، وكتَب إليه كتابا في الأحكام ، يوصيه فيه بأمور ، وقد نقله دعائم الإسلام متفرِّقا ، ونقله عنه العلاّمة المحدِّث النُّوري في المستدرك ، ونهج السَّعادة ، ولم أجده مجتمعا ، وأشار إليه المحدِّث القمِّي رحمه اللهفي سفينة البحار في ترجمة رُفاعَة . ثُمَّ هو من الَّذِين كتبوا إلى الحسين عليه السلام ولم ينصروه ، ثُمَّ تابوا ، وهو من رؤساء التَّوَّابين الَّذِين خرجوا إلى عَين الوردة ، وقاتلوا أهل الشَّام ، ولكنَّه لم يكن مستقتلاً كما ، استقتل سُلَيْمان والمُسَيَّب بن نَجَبَة ، وعبد اللّه بن سَعْد ، وعبد اللّه بن وال ، فلمَّا قتل هؤلاء رجع إلى الكوفة ، وخرج في أخذ الثَّار ، وقتل حينئذٍ . ] (2) وهاك نصّ الكتاب ، نذكره مجتمعا ونشير إلى مواضعه من الدَّعائم وغيره : « لا تُطَلُّ الدِّماءُ ، ولا تُعَطَّلُ الحُدودُ » (3) . « أقِم الحُدودَ في القَريبِ يَجتَنِبْها البَعيدُ ، لا تُطَلُّ الدِّماءُ ، ولا تُعَطَّلُ الحدودُ » (4) . « دَارِئ عَنِ المُؤْمِنِ ما استَطَعْتَ ، فإنَّ ظَهْرَه حِمَى اللّه ِ ، ونفسَه كريمةٌ علَى اللّه ِ ، ولَهُ أن يَكُونَ ثَوابُ اللّه ِ ، وظالِمُهُ خَصْمُ اللّه ِ ، فَلا يَكونُ خَصْمَك اللّه ُ » (5) . « لا تَقْضِ وأنْتَ غَضْبَانٌ ، ولا من النَّوم سَكْران » (6) . « اعْلَم يا رُفاعَة أنَّ هذهِ الإمارَةَ أمانَةٌ ، فمَن جَعَلَها خِيانَةً فَعلَيْهِ لَعنةُ اللّه ِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ، ومَنِ استَعْمَلَ خائِنا فإنَّ محمَّدا صلى الله عليه و آله بَرِيءٌ منه في الدُّنيا والآخِرَةِ » . (7) « ذَرِ المَطَامِعَ ، وخالِفِ الهَوَى ، وزَيِّن العِلْمَ بسَمْتٍ صالِحٍ ، نِعْمَ عَوْنُ الدِّينِ الصَّبرُ ، لو كانَ الصَّبرُ رجلاً لكان رَجُلاً صالِحا ، وإيَّاك والمَلاَلَةَ ، فإنَّها من السُّخْفِ والنَّذَالَةِ ، لا تُحْضِر مَجْلِسَكَ مَن لا يَشبَهُكَ ، وتَخَيَّرْ لوِردِكَ ، اقضِ بالظَّاهِرِ ، وفَوِّضْ إلى العَالِمِ الباطِن ، دَعْ عنكَ أظُنُّ وأحسِبُ ، وأرَى لَيْسَ في الدِّينِ إشكالٌ ، لا تُمارِ سَفِيها ، ولا فَقِيها ، أمَّا الفقيهُ ، فيَحْرِمَكَ خَيْرَه . وأمَّا السَّفيهُ فيُحزِنُكَ شرُّه ، لا تُجادِل أهلَ الكِتابِ إلاَّ بالَّتي هِيَ أحسَنُ بالكتاب والسُّنَّةِ ، لا تُعَوِّدْ نفسَكَ الضَّحكَ ، فإنَّه يَذهَبُ بالبَهاءِ ، ويُجَرِّى ءُ الخُصومَ علَى الاعتداءِ . إيَّاكَ وقَبولَ التُّحَفِ مِنَ الخُصومِ ، وحاذِرِ الدُّخْلَةَ ، مَن ائتَمَنَ امرأةً حَمْقاءَ ، ومَن شاوَرَها فَقَبِلَ مِنها نَدِمَ ، احْذَر مِن دَمْعَةِ المُوِنِ ، فَإنَّها تَقْصِفُ من دَمَّعها ، وتُطفِئُ بُحُورَ النِّيرَانِ عَن صاحِبِها ، لا تَنْبُز الخُصومَ ، ولا تَنْهرْ السَّائِلَ ، ولا تُجالِسْ في مَجلِسِ القَضاءِ غَيْرَ فَقِيهٍ ، ولا تُشاوِرْ في الفُتيا ، فإنَّما المَشورةُ في الحَرْبِ ومَصالِحِ العاجِلِ ، والدِّينُ ليسَ هُوَ بالرَّأي ، إنَّما هُوَ الاتِّبَاعُ ، لا تُضَيِّعِ الفَرائِضَ ، وتَتَّكِلْ علَى النَّوافِلِ ، أحسِن إلى مَنْ أساءَ إليك ، واعْفُ عَمَّن ظلَمَكَ ، وادعُ لِمَن نَصَرَكَ ، وأعْطِ مَن حَرَمَك وتَواضَعْ لِمَنْ أعطَاكَ ، واشكُر اللّه َ على ما أوْلاَكَ ، واحْمَدْهُ علَى ما أبْلاَكَ . العِلْمُ ثَلاثةٌ : آيةٌ مُحكَمةٌ ، وسُنَّةٌ مُتبَعَةٌ ، وفريضَةٌ عادِلةٌ ، ومَلاَكُهُنَّ أمرُنَا » . (8) « لا تَستعمِل مَن لا يُصدِّقُكَ ، ولا يُصَدِّقُ قَوْلَكَ فِينا ، وإلاَّ فاللّه ُ خَصْمُكَ وطالِبُكَ ، لا تُوَلِّ أمرَ السُّوقِ ذا بِدْعَةٍ وإلاَّ فأنْتَ أعلَمُ » . (9) « مَنْ تَنقّصَ نبيَّا فلا تُناظِرْهُ » . (10) عن عليّ عليه السلام أنَّه كتب إلى رُفاعَة ، وهو رُفاعَة بن شَدَّاد ، وكان قاضيا لعليّ عليه السلام بالأهواز : « أنْ يأمُرَ القصَّابِينَ أنْ يُحْسِنوا الذَّبحَ ، فمَن صمَّم فَلْيُعَاقِبْهُ ، وْليُلْقِ ما ذَبَحَ إلى الكِلابِ » . (11) « لا قِسْمَةَ فيما لا يَتَبَعَّضُ ، يعني ما لا يَتَجَزَّأُ على أنْصِباءِ الشُّرَكاءِ » . (12) « أدِّ أمانَتَكَ ، وَوَفِّ صَفْقَتَكَ ، ولا تَخُنْ مَن خَانَكَ ، وأحسِن إلى مَن أساءَ إليْكَ ، وكافِ مَن أحسَنَ إليْكَ ، واعْفُ عَمَّن ظلَمكَ ، وادْعُ لمَن نَصَرَكَ ، وأَعْطِ مَن حَرَمَكَ ، وتواضَعْ لِمَنْ أعْطاكَ ، واشْكُر اللّه َ كَثِيرا على ما أولاكَ ، واحمَدْهُ على ما أبْلاكَ » . (13) « إنْهَ عَنِ الحُكْرَةِ ، فمَن رَكَبَ النَّهْيَ ، فأَوْجِعْهُ ، ثُمَّ عَاقِبْه بإظهار ما احْتُكِر ». (14) « وإيَّاكَ والنَّوحَ علَى المَيِّتِ بِبَلَدٍ يَكُونُ لَكَ بهِ سُلْطانٌ » . (15) كتَب عليّ عليه السلام إلى رُفاعَة ؛ يأمُرُه بطَرْد أهل الذِّمَّة من الصَّرْف . (16) « لا حِمى إلاَّ مِن ظَهْر مُوِنٍ ، وظَهْر فَرَسٍ مُجاهِدٍ ، وحَرِيمِ بئرٍ ، وحَرِيم نهْرٍ ، وحرِيمِ حِصْنٍ ، والحُرْمةِ بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ وهِيَ الحُجُبُ ، وحَرِيمٍ بَيْنَ الحَلالِ والحَرامِ ، لا مَرْتَعَ فيهِ ، وحرِيمٍ لا يوَنُ في الأوَّلين والآخرين ، وحرِيمٍ حَرَّمَتْهُ الرَّحِمُ ، وحَرِيمِ ما جاوَزَ الأربَعَ مِنَ الحَرائِرِ ، وحَرِيمِ القَضاء » . (17) عليّ عليه السلام : _ أنَّه استَدْرَك على ابن هَرْمَةَ خِيَانَةً ، وكان على سُوق الأهواز ، فكتَب إلى رُفاعَة _ « إذا قَرأْتَ كتابِي فَنَحِّ ابنَ هَرْمَةَ عَنِ السُّوقِ ، وأوقِفْهُ للنَّاسِ ، واسْجُنْهُ ، ونادِ علَيْهِ ، واكتُبْ إلى أهْلِ عَمَلِكَ تُعْلِمُهُم رَأيِي فيهِ ، ولا تَأْخُذْكَ فيهِ غَفلةٌ ولا تَفرِيطٌ فَتَهلِكَ عِندَ اللّه ِ ، وأعْزِلُكَ أَخْبَثَ عزلَةٍ ، وأُعِيذُكَ باللّه ِ مِن ذلِكَ ، فإذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فَأخرِجْهُ مِنَ السِّجْنِ واضْرِبْهُ خَمْسَةً وثَلاثينَ سَوْطا ، وطُفْ بهِ إلى الأَسْواقِ ، فَمَنْ أتى علَيهِ بشاهِدٍ فحَلِّفْهُ مَعَ شاهدِهِ ، وادفَعْ إليْهِ مِن مَكْسَبِهِ ما شُهِدَ بهِ عَلَيْهِ ، ومُرَّ بهِ إلى السِّجنِ مُهانَا مَقْبوحا مَنْبوحا ، واحْزِمْ رِجلَيْهِ بحِزَامٍ ، وأخْرِجْهُ وَقْتَ الصَّلاةِ ، ولا تَحُلْ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن يأتِيه بمَطْعَمٍ أو مَشْرَبٍ أو مَلْبَسٍ أو مَفْرَشٍ ، ولا تَدَعْ أحَدا يَدخُلُ إليهِ مِمَّن يُلَقِّنُهُ اللُّدَدَ ، ويُرَجِّيهِ الخُلُوصَ ، فَإنْ صَحَّ عِندَكَ أنَّ أحدا لَقَّنَهُ ما يَضُرُّ بهِ مُسلِما فاضْرِبهُ بالدِّرَّة فاحبِسْهُ حَتَّى يَتُوبَ ، ومُرْ بإخراجِ أهْلِ السِّجْنِ في اللَّيلِ إلى صَحْنِ السِّجْنِ ليتفَرَّجُوا غَيْرَ ابنِ هَرْمَةَ ، إلاَّ أنْ تَخافَ مَوتَهُ فتُخْرِجَهُ مَعَ أهلِ السِّجْنِ إلى الصَّحْنِ ، فإنْ رأيْتَ بهِ طَاقَةً أو استطاعَةً فاضربْهُ بَعْدَ ثَلاثِينَ يَوْما خَمْسَةً وثَلاثِينَ سَوْطا بَعْدَ الخَمْسَةِ والثَّلاثِينَ الأُولى ، واكتُبْ إلَيَّ بما فعَلتَ في السُّوقِ ، ومَنِ اختَرْتَ بَعْدَ الخائِنِ ، واقطَعْ عَنِ الخائِنِ رِزقَهُ . (18)
.
ص: 455
. .
ص: 456
. .
ص: 457
. .
ص: 458
[ أقول : ولم يوجد هذا الكتاب إلاَّ في دعائم الإسلام ، وفي البحار (1) عن كتاب قضاء الحُقوقِ للصُّوري ، وظاهِرُ الدَّعائم في الموارد ، أنَّه كتاب واحد مشتمل على أحكام كثيرة ، نقله الدَّعائم متفرقا ، كقوله : « أنَّه كتب كتابا إلى رُفاعَةَ بن شَدَّاد كان فيه » ، وقوله : « أنَّه كتب إلى رُفاعَة لمَّا استقضاه على الأهواز فيه . . . » ، والعبارات الأخر لا دلالة فيها على وحدة الكتاب ، ولا على تعدّده ، بل المظنون أنَّ الكتاب في ابن هَرْمَة كتاب مستقلّ ، وقد اعترف بما ذكرنا في نهج السَّعادة ، قال : لم أجد هذا الكتاب إلاَّ في دعائم الإسلام ، وصاحب الدَّعائم لم يذكره متواليا ومُنظَّما ، بل قسَّمه على الأبواب والمواضيع المختلفة من كتابه ، على ما هو ديدن الفقهاء من ذكر كل فقرة من الكلام والحديث الواحد ، في الباب الَّذي يلائمه . . .ثُمَّ لا يخفى أنَّه لا دليل على وحدة الكتاب ، بل المظنون أنَّ ما ذكره عليه السلام في قضية ابن هَرْمَة كتاب مستقلّ . . . (2) ] .
.
ص: 459
131كتابه عليه السلام إلى مالك الأشْتَرمن كتاب له عليه السلام كتَبَه إلى مالك بن الحارث الأشْتَر رحمه الله ، وهو عاملُه على الجَزيرة ، لمَّا فسدت مصر على محمَّد بن أبي بكر رحمه الله . قال : أبو مِخْنَف ، عن يَزيد بن ظَبْيَان الهَمْدانِيّ ما ملخَّصه : أنَّه لمَّا قتل أهل خربتا ابن مضاهم الكلبي ، خرَج معاوية بن حُدَيْج الكِنْديّ السَّكونيّ ، فدَعا إلى الطَلب بدَم عثمان ، فأجابَه ناس آخرون ، وفَسدت مصر على محمَّد بن أبي بكر ، فبَلَغ عليَّا ، فقال عليه السلام : « ما لِمِصْر إلاَّ أحدُ الرَّجُلَينِ : قَيْسُ بنُ سَعْدِ بنِ عُبادَةَ أو مالِكُ الأشْتَر » . فلمَّا انْقضى أمْر الحَكَمَيْن، كَتَب عليّ عليه السلام إلى مالك الأشْتَر رحمه الله وهُو يَومَئذٍ بنَصِيبَين: « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ ، وأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأَثِيمِ ، وأَشُدُّ بِهِ الثَّغْرَ الْمَخُوفِ ، وكنْتُ وَلَّيْتُ محمَّد بنَ أبي بَكْر مِصرَ ، فَخَرَجتْ علَيْه بها خَوارِجٌ ، وهُو غُلامٌ حَدثٌ ، لَيْسَ بِذِي تَجْرِبَةٍ للْحَرب ، ولا بِمُجَرِّبٍ للأشْياءِ ، فاقْدِم علَيَّ لِنَنْظُرَ في ذلِكَ فِيما يَنبغي ، واسْتَخلِفْ على عمَلِكَ أهْلَ الثِّقَةِ والنَّصِيحَةِ مِن أصْحابِكَ ، والسَّلامُ » . فأقْبل مالك حتَّى دَخَل على أمير المؤمنين عليه السلام ، فحدَّثه حَدِيث أهل مصر ، وقال له : « لَيْس لها غَيْرُكَ ، أُخْرج رَحِمَكَ اللّه ُ ، فإنِّي إنْ لَمْ أُوصِكَ اكتَفيتُ بِرَأيِكَ ، واسْتَعِنْ باللّه ِ علَى ما أهمَّكَ ، فاخلُطِ الشِّدَّةَ باللّينِ ، وارفُقْ ما كانَ الرِّفْقُ أبلغُ ، واعتَزِمْ بالشِّدَّةِ حِيْنَ لا يُغْني عَنْكَ إلاَّ الشِّدَّةَ » . فخَرج الأشْتَر رحمه الله ، وأتى رَحله ، وتهيَّأ للخروج إلى مصر ، وقدَّم أمير المؤمنين عليه السلام أمَامَه كتابا إلى أهل مصر . . . (1)
.
ص: 460
مالِكٌ الأشْتَرهو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النَّخَعيّ الكوفيّ ، المعروف بالأشْتَر ؛ الوجه المشرق ، والبطل الَّذي لا يُقهَر ، واللّيث الباسل في الحروب ، وأصلب صحابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأثبتهم . وكان الإمام عليه السلام يثق به ويعتمد عليه ، وطالما كان يُثني على وعيه وخبرته ، وبطولته ، وبصيرته ، وعظمته ، ويفتخر بذلك . وليس بأيدينا معلومات تُذكر حول بدايات وعيه . وكان أوّل حضوره الجاد في فتح دمشق وحرب اليرموك (1) ، وفيها اُصيبت عينه (2) فاشتهر بالأشْتَر (3) . وكان مالك يعيش في الكوفة . وكان طويل القامة ، عريض الصَّدر ، طلق اللّسان (4) ، عديم المثيل في الفروسيّة (5) . وكان لمزاياه الأخلاقيّة ومروءته ومَنعته وهيبته واُبّهته وحيائه ، تأثيرٌ عجيب في نفوس الكوفيّين ؛ من هنا كانوا يسمعون كلامه ، ويحترمون آراءه . ونُفي مع عدد من أصحابه إلى حِمْص (6) في أيّام عثمان بسبب اصطدامه بسعيد بن العاص والي عثمان (7) . ولمّا اشتدّت نبرة المعارضة لعثمان عاد إلى الكوفة ، ومنع واليه _ الَّذي كان قد ذهب إلى المدينة آنذاك _ من دخولها (8) . واشترك في ثورة المسلمين على عثمان (9) ، وتولّى قيادة الكوفيّين الَّذين كانوا قد توجّهوا إلى المدينة ، وكان له دور حاسم في القضاء على حكومة عثمان (10) . وكان يصرّ على خلافة الإمام عليّ عليه السلام بفضل ما كان يتمتّع به من وعي عميق ، ومعرفةٍ دقيقة برجال زمانه ، وبالتَّيّارات والحوادث الجارية يومذاك (11) . من هنا كان نصير الإمام عليه السلام وعضده المقتدر عند خلافته . وقد امتزجت طاعته وإخلاصه له عليه السلام بروحه ودمه ، وكان الإمام عليه السلام أيضا يحترمه احتراما ، خاصّا ويقيم وزنا لآرائه في الاُمور . وكان له رأي في بقاء أبي موسى الأشْعَرِيّ واليا على الكوفة ، ارتضاه الإمام عليه السلام وأيّده (12) ، مع أنّه عليه السلام كان يعلم بمكنون فكر أبي موسى ، ولم يكن له رأي في بقائه (13) . وعندما كان أبو موسى يثبّط النَّاس عن المسير مع الإمام عليه السلام في حرب الجمل ، ذهب مالك إلى الكوفة ، وأخرج أبا موسى _ الَّذي كان قد عزله الإمام عليه السلام _ منها ، وعبّأ النَّاس من أجل دعم الإمام عليه السلام والمسير معه في الحرب ضدّ أصحاب الجمل (14) . وكان له دور حاسم وعجيب في الحرب . وكان على الميمنة فيها (15) . واصطراعه مع عبد اللّه بن الزُّبير مشهور في هذه المعركة (16) . ولي مالك الجزيرة (17) _ وهي تشمل مناطق بين دجلة والفرات _ بعد حرب الجمل . وكانت هذه المنطقة قريبة من الشَّام الَّتي كان يحكمها معاوية (18) . واستدعاه الإمام عليه السلام قبل حرب صفِّين . وكان على مقدّمة الجيش في البداية ، وقد هَزم مقدّمة جيش معاوية . ولمّا استولى جيش معاوية على الماء ، وأغلق منافذه بوجه جيش الإمام عليه السلام ، كان لمالك دور فاعل في فتح تلك المنافذ والسَّيطرة على الماء (19) . وكان في الحرب مقاتلاً باسلاً مقداما ، رابط الجأش مجدّا مستبسلاً ، وقد قاتل بقلبٍ فتيّ وشجاعة منقطعة النَّظير (20) . وتولّى قيادة الجيش مع الأشْعَث (21) ، وكان على خيّالة الكوفة طول الحرب (22) ، وأحيانا كان يقود أقساما اُخرى من الجيش . (23) وفي معارك ذي الحجّة الاُولى كانت المسؤوليّة الأصليّة والدَور الأساس للقتال على عاتقه (24) . وفي المرحلة الثَّانية _ شهر صفر _ كان يقود القتال أيضا يومين في كلّ ثمانية أيّام (25) . وكان له مظهر عجيب في المنازلات الفرديّة للقتال ، وفي حلّ عُقَد الحرب ، وعلاج مشاكل الجيش ، والنُّهوض بعب ء الحرب ، والسَّير بها قُدما بأمر الإمام عليه السلام . بَيد أنّ مظهره الباهر الخالد قد تجلّى في الأيّام الأخيرة منها ، بخاصّة يوم الخميس و ليلة الهَرير . وكان يوم الخميس وليلة الجمعة _ ليلة الهرير _ مسرحا لعرض عجيب تجلّت فيه شجاعته ، وشهامته ، واستبساله ، وقتاله بلا هوادة ، إذ خلخل نظم الجيش الشَّامي ، وتقدّم صباح الجمعة حتَّى أشرف على خيمة القيادة (26) . وصار هلاك العدو أمرا محتوما ، وبينا كان الظُّلم يلفظ أنفاسه الأخيرة ، والنَّصر يلتمع في عيون مالك ، تآمر عَمْرو بن العاص ونشر فخّ مكيدته ، فأسرعت جموع من جيش الإمام _ وهم الَّذين سيشكّلون تيّار الخوارج _ ومعهم الأشْعَث إلى مؤازرته ، فازداد الطِّين بلّةً بحماقتهم . وهكذا جعلوا الإمام عليه السلام في وضعٍ حَرِج ليقبل الصُّلح ، ويُرجعَ مالكا عن موقعه المتقدّم في ميدان الحرب . وكان طبيعيّا في تلك اللّحظة المصيريّة الحاسمة العجيبة أن يرفض مالك ، ويرفض معه الإمام عليه السلام أيضا ، لكن لمّا بلغه أنّ حياة الإمام في خطر ، عاد بروح ملؤها الحزن والألم ، فأغمد سيفه ، ونجا معاوية الَّذي أوشك أن يطلب الأمان من موت محقَّق ، وخرج من مأزق ضاق به ! ! (27) وشاجر مالك الخوارجَ والأشْعَثَ ، وكلّمهم في حقيقة ما حصل ، وأنبأهم ، بما يملك من بصيرة وبُعد نظر ، أنّ جذر تقدّسهم يكمن في تملّصهم من المسؤوليّة ، وشغفهم بالدُّنيا (28) . وحين اقترح الإمام عليه السلام عبدَ اللّه بن عبّاس للتَّحكيم ورفَضه الخوارج والأشْعَث ، اقترح مالكا ، فرفضوه أيضا مصرِّين على يمانيّة الحَكَم ، في حين كان مالك يمانيّ المحتد ، وهذا من عجائب الاُمور ! (29) وعاد مالك بعد صفِّين إلى مهمّته (30) . ولمّا اضطربت مصر على محمّد بن أبي بكر وصعب عليه أمرها وتمرّد أهلها ، انتدب الإمام عليه السلام مالكا وولاّه عليها (31) . وكان قد خَبَر كفاءته ، ورفعته ، واستماتته ، ودأبه ، ووعيه ، وخبرته في العمل (32) . وكانت تعليماته عليه السلام الحكوميّة _ المشهورة بعهد مالك الأشْتَر _ أعظم وأرفع وثيقة للحكومة وإقامة القسط ، وهي خالدة على مَرِّ التَّاريخ (33) . وكان معاوية قد عقد الأمل على مصر ، وحين شعر أنّ جميع خططه ستخيب بذهاب مالك إليها ، قضى عليه قبل وصوله إليها . وهكذا استُشهد ليث الوغى ، والمُقاتل الفذّ ، والنَّاصر الفريد لمولاه ، بطريقة غادرة ، بعدما تناول من العسل المسموم بسمّ فتّاك ، وعرجت روحه المشرقة الطَّاهرة إلى الملكوت الأعلى (34) . وحزن الإمام عليه السلام لمقتله ، حتَّى عَدّ موته من مصائب الدَّهر (35) . وأبّنه فكان تأبينه إيّاه فريدا ؛ كما أنّ وجود مالك كان فريدا له في حياته عليه السلام (36) . ولمّا نُعي إليه عليه السلام مالك ، وبلغه خبر استشهاده المؤلم ، صعد المنبر وقال : « ألا إنّ مالِكَ بنَ الحارِثِ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ ، وأوْفى بِعَهْدِهِ ، ولَقِيَ رَبَّهُ ، فَرَحِمَ اللّه ُ مالِكا ! لو كان جبلاً لَكانَ فَذّا ، ولو كانَ حَجَرا لكانَ صَلْدا . لِلّهِ مالِكٌ ! وما مالِكُ ! وهَلْ قامَتِ النِّساءُ عَنْ مِثْلِ مالِك ! وهَلْ مَوجُودٌ كَمالِك ! » (37) . ومعاوية الَّذي كان فريدا أيضا في خبث طويّته ورذالته وضَعَته وقتله للفضيلة ، طار فرحا باستشهاد مالك ، ولم يستطع أن يخفي سروره ، فقال من فرط فرحه : كان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان ، فقُطعت إحداهما يوم صفِّين _ يعني عَمَّار بن ياسر _ وقُطعت الاُخرى اليوم ، وهو مالك الأشْتَر (38) . وكلّما كان يذكره الإمام عليه السلام ، يثقل عليه الغمّ والحزن ، ويتحسّر على فقده . وحين ضاق ذرعا من التَّحرّكات الجائرة لأهل الشَّام ، وتألّم لعدم سماع جُنده كلامه ، وتأوّه على قعودهم وخذلانهم له في اجتثاث جذور الفتنة ، قال رجل : استبانَ فقدُ الأشْتَر على أهل العراقِ . لو كان حيَّا لقلَّ اللَّغط ، ولَعَلِمَ كلُّ امرئٍ مايقول (39) . نطق هذا الرَّجل حقّا ، فلم يكن أحد في جيش الإمام عليه السلام مثل مالك . في تنبيه الخواطر : حكي أنّ مالكا الأشْتَر رضى الله عنه كان مجتازا بسوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة منه ، فرآه بعض السُّوْقة (40) فازدرى (41) بزيّه ؛ فرماه ببندقة تهاونا به ، فمضى ولم يلتفت ، فقيل له : ويلك ! أ تدري بمن رميت ؟ فقال : لا ، فقيل له : هذا مالك صاحب أمير المؤمنين عليه السلام ، فارتعد الرَّجل ومضى إليه ليعتذر منه ، فرآه وقد دخل مسجدا وهو قائم يصلّي ، فلمّا انفتل أكبّ الرَّجل على قدميه يقبّلهما ، فقال : ما هذا الأمر ؟ ! فقال : أعتذر إليك ممّا صنعت ، فقال : لا بأس عليك ، فو اللّه ، ما دخلت المسجد إلاّ لأستغفرنّ لك (42) . وفي المناقب للخوارزميّ عن أبي هانى ء بن معمَّر السَّدوسيّ _ في ذكر غلبة جند معاوية على الماء في حرب صفِّين _ : كنت حينئذٍ مع الأشْتَر وقد تبيّن فيه العطش ، فقلت لرجل من بني عمّي : إنّ الأمير عطشان ، فقال الرَّجل : كلّ هؤلاء عِطاش ، وعندي إداوة (43) ماء أمنعه لنفسي ، ولكنّي اُوثره على نفسي ، فتقدّم إلى الأشْتَر فعرض عليه الماء ، فقال : لا أشرب حتَّى يشرب النَّاس (44) . وفي تاريخ مدينة دمشق عن أبي حُذَيْفَة إسْحاق بن بِشْر _ في ذكر وقعة اليرموك _ : ومضى خالد يطلب عُظْمَ (45) النَّاس حتَّى أدركهم بثَنِيَّةِ العُقاب (46) ، وهي تهبط الهابط المُغَرِّب منها إلى غوطة دمشق ، يدرك عُظْمَ النَّاسِ حتَّى أدركهم بغوطة دمشق ، فلمّا انتهوا إلى تلك الجماعة من الرُّوم ، وأقبلوا يرمونهم بالحجارة من فوقهم ، فتقدّم إليهم الأشْتَر وهو في رجال من المسلمين ، فإذا أمامهم رجل من الرُّوم جسيم عظيم ، فمضى إليه حتَّى وقف عليه ، فاستوى هو والرُّومي على صخرة مستوية ، فاضطربا بسيفيهما ، فأطرّ الأشْتَر كفّ الرُّوميّ ، وضرب الرُّوميّ الأشْتَر بسيفه فلم يضرّه ، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه ، فوقعا على الصَّخرة ، ثمّ انحدرا ، وأخذ الأشْتَر يقول _ وهو في ذلك ملازم العلج لا يتركه _ : « قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَ لِكَ اُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ » (47) . قال : فلم يزل يقول ذلك حتَّى انتهى إلى مستوى الخيل وقرار ، فلمّا استقرّ وثب على الرُّوميّ فقتله ، وصاح في النَّاس : أنْ جُوزوا . قال : فلمّا رأت الرُّوم أنّ صاحبهم قد قُتل ، خلّوا الثَّنية وانهزموا . قالوا : وكان الأشْتَر الأحسن في اليرموك ، قالوا : لقد قتل ثلاثة عشر (48) . وفي وقعة صفِّين عن سِنان بن مالك _ في مواجهة مقدّمة الجيش قبل حرب صفِّين _ : قلت له ( لأبي الأعْوَر ) : إنّ الأشْتَر يدعوك إلى مبارزته ، فسكت عنّي طويلاً ثمّ قال : إنّ خفّة الأشْتَر وسوء رأيه ، هو الَّذي دعاه إلى إجلاء عمّال عثمان من العراق ، وافترائه عليه يقبّح محاسنه ، ويجهل حقّه ، ويُظهر عداوته . ومن خفّة الأشْتَر وسوء رأيه أنّه سار إلى عثمان في داره وقراره ، فقتله فيمن قتله ، فأصبح مبتغىً بدمه ؛ لا حاجة لي في مبارزته . قال : قلت له : قد تكلّمت فاستمع منّي حتَّى اُخبرك ، قال : فقال : لا حاجة لي في جوابك ، ولا الاستماع منك ، اذهب عنّي ، وصاح بي أصحابه ، فانصرفت عنه (49) . وفي شرح نهج البلاغة _ في وصف الأشْتَر _ : كان شديد البأس ، جوادا رئيسا حليما فصيحا شاعرا ، وكان يجمع بين اللِّين والعنف ، فيسطو في موضع السَّطوة ، ويرفق في موضع الرِّفق (50) . وفي سِيَرِ أعلامِ النبلاء : ملك العرب ، مالك بن الحارث النَّخَعيّ ، أحد الأشراف والأبطال المذكورين . حدَّث عن عمر ، وخالد بن الوليد ، وفُقِئت عينه يوم اليرموك ، وكان شهما مُطاعا زَعِرا (51) ، ألّب على عثمان وقاتله ، وكان ذا فصاحة وبلاغة . شهد صفِّين مع عليّ عليه السلام ، وتميّز يومئذٍ ، وكاد أن يهزم معاوية ، فحمل عليه أصحاب عليٍّ لمّا رأوا مصاحف جند الشَّام على الأسنّة يدعون إلى كتاب اللّه ، وما أمكنه مخالفة عليٍّ ، فكفّ (52) . وفي شرح نهج البلاغة : قد روى المحدّثون حديثا يدلّ على فضيلة عظيمة للأشْتَر رحمه الله ، وهي شهادة قاطعة من النَّبيّ صلى الله عليه و آله بأنّه مؤمن ، روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب في حرف الجيم ، في باب جُنْدَب ، قال أبو عمر : لمّا حضرت أبا ذَرّ الوفاة وهو بالرَّبَذَة بكت زوجته اُمّ ذَرّ ، فقال لها : ما يُبكيك ؟ فقالت : ما لي لا أبكي وأنت تموت بفَلاةٍ من الأرض ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا ، ولابدّ لي من القيام بجهازك ؟ ! فقال : أبشري ولا تبكي ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة ، فيصبران ويحتسبان فيريان النَّار أبدا » ؛ وقد مات لنا ثلاثة من الولد . وسمعتُ أيضا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول لنفر أنا فيهم : « لَيموتنّ أحدكم بفلاةٍ من الأرض ، يشهده عصابة من المؤمنين » ، وليس من اُولئك النَّفر أحد إلاّ وقد مات في قرية وجماعة . فأنا _ لا أشكّ _ ذلك الرَّجل ، واللّه ، ما كَذبت ولا كُذِّبت ، فانظري الطريق . قالت اُمّ ذَرّ : فقلت : أنّى وقد ذهب الحاجّ وتقطّعت الطُّرق ؟ ! فقال : اذهبي فتبصّري . قالت : فكنت أشتدّ إلى الكثيب ، فأصعد فأنظر ، ثمّ أرجع إليه فاُمرِّضه ، فبينا أنا وهو على هذه الحال ، إذ أنا برجال على ركابهم ، كأنّهم الرَّخم (53) ، تَخُبّ بهم رواحلهم ، فأسرعوا إليَّ حتَّى وقفوا عليَّ ، وقالوا : يا أمةَ اللّه ، ما لك ؟ فقلت : امرُؤ من المسلمين يموت ، تكفّنونه ؟ قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذَرّ . قالوا : صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ قلت : نعم ، ففدّوه بآبائهم واُمّهاتهم ، وأسرعوا إليه حتَّى دخلوا عليه ، فقال لهم : أبشروا فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول لنفر أنا فيهم : « ليموتَنَّ رجلٌ مِنكُم بِفَلاةٍ مِنَ الأرضِ تَشْهَدُهُ عِصابَةٌ مِنَ المُؤمِنينَ » ، وليس من اُولئك النَّفر إلاّ وقد هلك في قرية وجماعة ، واللّه ، ما كَذبت ولا كُذِّبت ، ولو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم اُكفَّن إلاّ في ثوب لي أو لها ؛ وإنّي أنشدكم اللّه ألاّ يكفّنني رجل منكم كان أميرا أو عَريفا أو بريدا (54) أو نقيبا (55) ! قالت : وليس في اُولئك النَّفر أحد إلاّ وقد قارف بعض ما قال ، إلاّ فتىً من الأنصار قال له : أنا اُكفّنك يا عمّ في ردائي هذا ، وفي ثوبين معي في عَيْبتي من غزل اُمّي . فقال أبو ذَرّ : أنت تكفِّنني ، فمات فكفّنه الأنْصاريّ وغسّله النَّفر الَّذين حضروه وقاموا عليه ودفنوه ؛ في نفر كلّهم يمان . روى أبو عمر بن عبد البرِّ قبل أن يروي هذا الحديث في أوّل باب جُندب : كان النفر الَّذين حضروا موتَ أبي ذَرّ بالرَّبَذَة مصادفة جماعة ؛ منهم حُجْر بن الأدْبَر ، ومالك بن الحارث الأشْتَر . قلت : حُجْر بن الأدبَر هو حُجر بن عَدِيّ الَّذي قتله معاوية ، وهو من أعلام الشيعة وعظمائها، وأمّا الأشْتَر فهو أشهر في الشِّيعة من أبي الهُذَيل في المعتزلة (56) .
.
ص: 461
. .
ص: 462
. .
ص: 463
. .
ص: 464
. .
ص: 465
. .
ص: 466
. .
ص: 467
. .
ص: 468
. .
ص: 469
. .
ص: 470
. .
ص: 471
عَمرُو بنُ الحَمِقِ الخُزاعِيّعمرو بن الحَمِق بن الكاهن الخُزاعِيّ . صحابيّ جليل من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله (1) ، وأمير المؤمنين عليه السلام (2) ، والإمام الحسن عليه السلام (3) . أسلم بعد الحديبية (4) ، وتعلّم الأحاديث من النَّبيّ صلى الله عليه و آله . وكان من الصَّفوة الَّذين حرسوا حقّ الخلافة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ فوقف إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام بإخلاص (5) . واشترك في ثورة المسلمين على عثمان ، ورفع صوت الحقّ إزاء التَّغيّرات الشَّاذّة الَّتي حصلت في هذا العصر (6) . شهد حروب أمير المؤمنين عليه السلام ، وساهم فيها بكلّ صلابة وثبات (7) . وكان ولاؤه للإمام عليه السلام عظيما حتَّى قال له : ليتَ أنّ في جُندي مئةً مِثلَكَ (8) . أجل ، كان عَمْرو مهتديا ، عميق النَّظر . وكان من بصيرته بحيث يرى نفسه فانيا في عليّ عليه السلام ، وكان يقول له بإيمانٍ ووعي : ليس لنا معك رأي . وكان عَمْرو صاحبا لحجر بن عَدِيّ ورفيق دربه . وصيحاته المتعالية ضدّ ظلم الاُمويّين (9) هي الَّتي دفعت معاوية إلى الهمّ بقتله . وقتله سنة 50 ه ، بعد أن كان قد سجن زوجته الكريمة بغية استسلامه (10) . واُرسل برأسه إلى معاوية (11) . وهو أوّل رأس في الإسلام يُحمَل من بلد إلى بلد (12) . عبّر عنه الإمام أبو عبد اللّه الحسين عليه السلام بالعبد الصَّالح الَّذي أبْلَتْه العبادة ، وذلك في رسالته البليغة القارعة الَّتي بعثها إلى معاوية ، ووبّخه فيها لارتكابه جريمة قتله (13) . خخ قال الإمام الكاظم عليه السلام : « إذا كان يوم القيامة . . . ينادي منادٍ : أين حواري عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وصيّ محمّد بن عبد اللّه رسول اللّه ؟ فيقوم عَمْرو بن الحَمِق الخُزاعِيّ ، ومحمّد بن أبي بكر ، وميثم بن يَحْيَى التَّمَّار مولى بني أسَد ، واُويس القرني » (14) . وفي وقعة صفِّين _ في أحداث ما بعد رفع المصاحف _ : قام عَمْرو بن الحَمِق فقال : يا أمير المؤمنين ! إنّا واللّه ، ما أجبناك ولا نصرناك عصبيّة على الباطل ، ولا أجبنا إلاّ اللّه عز و جل ، ولا طلبنا إلاّ الحقّ ، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لاستشرى (15) فيه اللِّجاج ، وطالت فيه النَّجوى ، وقد بلغ الحقّ مقطَعه ، وليس لنا معك رأي (16) وعن عبد اللّه بن شريك : قال عَمْرو بن الحَمِق : إنّي واللّه ، يا أمير المؤمنين ، ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يُرفع ذكري به ، ولكن أحببتك لخصال خمس : إنّك ابن عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأوّل من آمن به ، وزوج سيّدة نساء الاُمّة فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه و آله ، وأبو الذرّيّة الَّتي بقيت فينا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد . فلو أنّي كُلِّفت نقل الجبال الرَّواسيّ ، ونزح البحور الطَّواميّ (17) حتَّى يأتي عليَّ يومي في أمر اُقوِّي به وليّك ، واُوهن به عدوّك ، ما رأيت أنّي قد أدّيت فيه كلّ الَّذي يحقّ عليَّ من حقّك . فقال أمير المؤمنين عليّ : اللَّهُمَّ نوِّر قَلْبَهُ بالتُّقى ، واهدِهِ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ ، ليتَ أنَّ فِي جُندي مئةً مِثلَكَ ! فقال حُجْر : إذا واللّه ، يا أمير المؤمنين ، صحّ جندُك ، وقلّ فيهم من يغشّك (18) . وفي تاريخ الطبري : _ في ذكر طلب زياد ومتابعته أصحابَ حُجْر _ : فخرج عَمْرو بن الحَمِق ورُفاعَة بن شَدَّاد حتَّى نزلا المَدائِن ، ثمّ ارتحلا حتَّى أتيا أرض المَوصِل (19) ، فأتيا جبلاً فكَمِنا فيه ، وبلغ عامل ذلك الرّستاق أنّ رجلين قد كمنا في جانب الجبل ، فاستنكر شأنهما _ وهو رجل من همدان يقال له : عبد اللّه بن أبي بلتعة _ فسار إليهما في الخيل نحو الجبل ومعه أهل البلد ، فلمّا انتهى إليهما خرجا . فأمّا عَمْرو بن الحَمِق فكان مريضا ، وكان بطنه قد سَقَى (20) ، فلم يكن عنده امتناع ، وأمّا رُفاعَة بن شَدَّاد _ وكان شابّا قويّا _ فوثب على فرس له جواد ، فقال له : اُقاتل عنك ؟ قال : وما ينفعني أن تقاتل ! انجُ بنفسك إن استطعت ، فحمل عليهم ، فأفرجوا له ، فخرج تنفِر به فرسه ، وخرجت الخيل في طلبه _ وكان راميا _ فأخذ لا يلحقه فارس إلاّ رماه فجرحه أو عقره ، فانصرفوا عنه ، واُخذ عَمْرو بن الحَمِق ، فسألوه : من أنت ؟ فقال : من إن تركتموه كان أسلم لكم ، وإن قتلتموه كان أضرّ لكم ، فسألوه ، فأبى أن يُخبرهم ، فبعث به ابن أبي بلتعة إلى عامل الموصل _ وهو عبد الرَّحمن بن عبد اللّه بن عثمان الثَّقَفيّ _ فلمّا رأى عَمْرو بن الحَمِق عرفه ، وكتب إلى معاوية بخبره . فكتب إليه معاوية : إنّه زعم أنّه طعن عثمان بن عفّان تسع طعنات بمشاقص (21) كانت معه ، وإنّا لا نريد أن نعتدي عليه ، فاطعنْه تسع طعنات كما طعن عثمان ، فاُخرج فطُعن تسع طعنات ، فمات في الاُولى منهنّ أو الثَّانية (22) وفي تاريخ اليعقوبي : بلغ عبدَ الرَّحمن بن اُمّ الحكم _ وكان عامل معاوية على الموصل _ مكانُ عَمْرو بن الحَمِق الخُزاعِيّ ، ورُفاعَة بن شَدَّاد ، فوجّه في طلبهما ، فخرجا هاربين ، وعَمْرو بن الحَمِق شديد العلّة ، فلمّا كان في بعض الطَّريق لدغت عمرا حيّة ، فقال : اللّه أكبر ! قال لي رسول اللّه : « يا عمرو ! ليشترك في قتلك الجنّ والإنس » ثمّ قال لرُفاعَة : امض لشأنك ؛ فإنّي مأخوذ ومقتول . ولحقته رسل عبد الرَّحمن بن اُمّ الحكم ، فأخذوه وضُربت عنقه ، ونُصب رأسه على رمح ، وطِيفَ به ، فكان أوّل رأس طيف به في الإسلام . وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق ، فلمّا أتى رأسه بعث به ، فوُضع في حِجرها ، فقالت للرسول : أبلغ معاوية ما أقول : طالبه اللّه بدمه ، وعجّل له الويل من نقمه ! فلقد أتى أمرا فريّا ، وقتل بَرّا نقيّا ! وكان أوّل من حبس النِّساء بجرائر الرِّجال (23) . وفي الاختصاص : كان عَمْرو بن الحَمِق الخُزاعِيّ شيعة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فلمّا صار الأمر إلى معاوية انحاز إلى شهرزور من الموصل ، وكتب إليه معاوية : أمّا بَعدُ ؛ فإنّ اللّه َ أطفأَ النَّائِرَةَ (24) ، وأخْمَدَ الفِتنَةَ ، وجَعَل العاقِبَةَ للمُتّقينَ ، ولست بأبعدِ أصحابِكَ هِمَّةً ، ولا أشدّهم في سُوءِ الأثرِ صُنْعا ، كلّهم قد أسهل بطاعتي ، وسارَعَ إلى الدُّخُولِ فِي أمْرِي ، وقَدْ بَطُؤ بِكَ ما بَطُؤَ ، فَادخُلْ فِيما دخَلَ فِيه النَّاسُ ، يُمْحَ عَنْكَ سالِفُ ذُنُوبِكَ ، ومُحِيَ داثِرُ حَسَناتِكَ ، ولَعَلِّي لا أكونُ لَكَ دُونَ مَن كانَ قَبلِي إنْ أبقَيْتَ واتّقيْتَ ووَقَيْتَ وأحْسَنْتَ ، فأقدِمْ عَلَيَّ آمِنا فِي ذِمَّةِ اللّه ِ وذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه و آله ، مَحفُوظا مِن حَسَدِ القُلوبِ وإحَنِ الصُّدُورِ ، وكَفَى باللّه ِ شَهِيدَا . فلم يقدم عليه عَمْرو بن الحَمِق ، فبعث إليه من قتله وجاء برأسه ، وبعث به إلى امرأته فوُضع في حِجرها ، فقالت : سترتموه عنّي طويلاً ، وأهديتموه إليَّ قتيلاً ! فأهلاً وسهلاً من هديّة غير قالية ولا مقليّة ، بلّغ أيُّها الرَّسول عنّي معاوية ما أقول : طلب اللّه بدمه ، وعجّل الوبيل من نقمه ! فقد أتى أمرا فريّا ، وقتل بارّا تقيّا ! فأبلغْ أيُّها الرَّسول معاوية ما قلتُ . فبلّغ الرَّسول ما قالت ، فبعث إليها ، فقال لها : أنت القائلة ما قلتِ ؟ قالت : نعم ، غير ناكلة عنه ولا معتذرة منه ، قال لها : اُخرجي من بلادي ، قالت : أفعل ، فو اللّه ، ما هو لي بوطن ولا أحنُّ فيها إلى سجن ، ولقد طال بها سهري ، واشتدّ بها عبري ، وكثر فيها دَيني من غير ما قرّت به عيني . فقال عبد اللّه بن أبي سرح الكاتب : يا أمير المؤمنين ! إنّها منافقة فألحقها بزوجها ، فنظرت إليه فقالت : يا من بين لحييه كجثمان الضِّفدع ، أ لا قُلْتَ مَنْ أنعَمَكَ خِلَعا وأصفاكَ كِساءً ! إنّما المارِقُ المُنافِقُ مَنْ قَال بِغَيرِ الصَّوابِ ، واتّخَذَ العِبادَ كالأَرْبابِ ، فاُنزِلَ كُفرُهُ في الكتابِ ! فأومى معاوية إلى الحاجب بإخراجها ، فقالت : وا عجباه من ابن هند ، يشير إليَّ ببنانه ، ويمنعني نوافذ لسانه ، أما واللّه ، لأبقرنّه بكلام عتيد كنواقد الحديد ، أو ما أنا بآمنة بنت الشَّريد (25) . وقال الإمام الحسين عليه السلام _ من كتابه إلى معاوية _ : « أوَلسْتَ قاتِلَ عَمْرو بنِ الحَمِقِ صاحبِ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله ، العبدِ الصَّالحِ الَّذي أبْلَتهُ العِبادَةَ فَنحَلَ جِسمُهُ وصَفِرَتْ لَونُهُ ، بَعدَ ما آمَنْتَهُ وأعْطَيْتَهُ مِن عُهُودِ اللّه ِ ومواثِيقِهِ ، مالَو أعطَيْتَهُ طائِرا لنزَلَ إليْكَ مِن رَأسِ الجَبَلِ ، ثُمَّ قَتَلْتَهُ جُرأَةً علَى رَبِّكَ ، واستِخْفافا بِذلِكَ العَهْدِ ؟ » (26)
.
ص: 472
. .
ص: 473
. .
ص: 474
. .
ص: 475
. .
ص: 476
. .
ص: 477
. .
ص: 478
132كتابه عليه السلام إلى أهل مصرمن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر لمَّا وَلَّى عليْهم الأشْتر :« مِنْ عَبدِ اللّه عَلِيٍّ أَميرِ الْمُومِنِينَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ غَضِبُوا لِلَّهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ ، وذُهِبَ بِحَقِّهِ ، فَضَرَبَ الْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى الْبَرِّ والْفَاجِرِ ، والْمُقِيمِ والظَّاعِنِ ، فَلا مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ ، ولا مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ . أمَّا بَعدُ ، فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْدا مِن عِبَادِ اللّه ، لا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ ، ولا يَنْكُلُ عَنِ الأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ ، أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِن حَرِيقِ النَّار ، وهُوَ مَالِك بن الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ ، فَاسْمَعُوا لَهُ ، وأَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيما طَابَقَ الْحَقَّ ، فإنَّه سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللّه ، لا كَلِيلُ الظُّبَةِ (1) ، ولا نَابي (2) الضَّرِيبَةِ ، فإنَّ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا ، وإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا ، فَأَقِيمُوا ، فإنَّه لا يُقْدِمُ ولا يُحْجِمُ ، ولا يُوخِّرُ ولا يُقَدِّمُ ، إِلاَّ عَنْ أَمْرِي ، وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ ، وشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ » . (3)
133كتابه عليه السلام إلى الأشْتَر النَّخَعِيّمن كتاب له عليه السلام كتَبَه للأشْتَر النَّخَعيّ لمَّا ولاَّه على مصر وأعمالها ، حين اضطرب أمر أميرها محمَّد بن أبي بكر ؛ وهو أطوَلُ عهْد كتَبَه وأجمعه للمحاسن :« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا ما أمَرَ به عَبدُ اللّه عَلِيٌّ أمير الْمُومِنِينَ مَالِك بن الْحَارِثِ الأشْتَرَ في عَهْدِهِ إليْه حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا ، وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلا حَ أَهْلِهَا ، وعِمَارَةَ بِلادِهَا ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللّه ، وإِيْثَارِ طَاعَتِهِ ، واتِّبَاعِ ما أَمَرَ به فِي كِتَابِهِ ، مِن فَرَائِضِهِ وسُنَنِهِ ، الَّتي لا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا ، ولا يَشْقَى إلاَّ مع جُحُودِهَا وإِضَاعَتِهَا ، وأَنْ يَنْصُرَ اللّه سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ ويَدِهِ ولِسَانِهِ ، فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مِن نَصَرَهُ ، وإِعْزَازِ مِن أَعَزَّهُ ، وأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِن الشَّهَوَاتِ ، ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ ما رَحِمَ اللّه . ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِك ، أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُك إلى بِلادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَك مِن عَدْلٍ وجَوْرٍ ، وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِن أُمُورِك في مِثْلِ ما كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِن أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَك ، ويَقُولُونَ فِيك ما كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ ، وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ علَى الصَّالِحِينَ بِما يُجْرِي اللّه لَهُمْ علَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إلَيْك ، ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ، فَامْلِك هَوَاك ، وشُحَّ بِنَفْسِك عَمَّا لا يَحِلُّ لَك ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الانْصَافُ مِنْهَا فِيما أَحَبَّتْ أو كَرِهَتْ . وأَشْعِرْ قَلْبَك الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ ، واللُّطْفَ بِهِمْ ، ولا تَكُونَنَّ علَيْهم سَبُعا ضَارِيا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ : إمَّا أَخٌ لَك فِي الدِّينِ ، أو نَظِيرٌ لَك فِي الْخَلْقِ ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ ، وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ ، ويُوتَى علَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَإِ ،فَأَعْطِهِمْ مِن عَفْوِك وصَفْحِك ، مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَك اللّه مِن عَفْوِهِ وصَفْحِهِ ، فَإِنَّك فَوْقَهُمْ ووَالِي الامْرِ عَلَيْك فَوْقَك ، واللّه فَوْقَ مَن وَلاّك ، وقَدِ اسْتَكْفَاك أَمْرَهُمْ وابْتَلاك بِهِمْ . ولا تَنْصِبَنَّ نَفْسَك لِحَرْبِ اللّه ، فَإنَّهُ لا يَدَ لَك بِنِقْمَتِهِ ، ولا غِنَى بِك عَنْ عَفْوِهِ ورَحْمَتِهِ ، ولا تَنْدَمَنَّ علَى عَفْوٍ ولا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ ، ولا تُسْرِعَنَّ إلى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً ، ولا تَقُولَنَّ إنِّي مُومَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ ، فَإِنَّ ذَلِك إدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ ، ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ ، وتَقَرُّبٌ مِن الْغِيَرِ ، وإذَا أَحْدَثَ لَك ما أَنْتَ فِيهِ مِن سُلْطَانِك أُبَّهَةً أو مَخِيلَةً ، فَانْظُرْ إلى عِظَمِ مُلْك اللّه فَوْقَك ، وقُدْرَتِهِ مِنْك علَى ما لا تَقْدِرُ عَلَيْه من نَفْسِك ، فَإِنَّ ذَلِك يُطَامِنُ إلَيْك مِن طِمَاحِك ، ويَكُفُّ عَنْك مِن غَرْبِك ، ويَفِيءُ إِلَيْك بِما عَزَبَ عَنْك مِن عَقْلِك . إيَّاك ومُسَامَاةَ اللّه فِي عَظَمَتِهِ ، والتَّشَبُّهَ به فِي جَبَرُوتِهِ ، فَإِنَّ اللّه يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ، ويُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ . أَنْصِفِ اللّه ، وأَنْصِفِ النَّاسَ مِن نَفْسِك ، ومِن خَاصَّةِ أَهْلِك ، ومَنْ لَك فِيهِ هَوًى من رَعِيَّتِك ، فَإِنَّك إن لا تَفْعَلْ تَظْلِمْ ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللّه كَانَ اللّه خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ ، ومَنْ خَاصَمَهُ اللّه أَدْحَضَ حُجَّتَهُ ، وكَانَ لِلَّهِ حَرْبا حَتَّى يَنْزِعَ أو يَتُوبَ ، ولَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إلى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللّه ، وتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِن إقَامَةٍ علَى ظُلْمٍ ، فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ ، وهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ . ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إلَيْك أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ ، وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ ، وأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ ، وإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مع رِضَى الْعَامَّةِ ، ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ علَى الْوَالِي مَؤونَةً فِي الرَّخَاءِ ، وأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ في الْبَلاءِ ، وأَكْرَهَ لِلانْصَافِ ، وأَسْأَلَ بِالالْحَافِ ، وأَقَلَّ شُكْرا عِنْدَ الاعْطَاءِ ، وأَبْطَأَ عُذْرا عِنْدَ الْمَنْعِ ، وأَضْعَفَ صَبْرا عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْر ،ِ مِن أَهْلِ الْخَاصَّةِ ، وإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ ، وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ ، والْعُدَّةُ لِلاعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الاُمَّةِ ، فَلْيَكُنْ صِغْوُك لَهُمْ ، ومَيْلُك مَعَهُمْ . لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِك مِنْك ، وأَشْنَأَهُمْ عِنْدَك ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ ، فإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوبا ، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا ، فَلا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْك مِنْهَا فَإنَّمَا عَلَيْك تَطْهِيرُ ما ظَهَرَ لَك ، واللّه ُ يَحْكُمُ علَى ما غَابَ عَنْك ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ ما اسْتَطَعْتَ ، يَسْتُرِ اللّه مِنْك ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِن رَعِيَّتِك . أَطْلِقْ عَن النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ ، واقْطَعْ عَنْك سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ ، وتَغَابَ عَنْ كُلِّ ما لا يَضِحُ لَك ، ولا تَعْجَلَنَّ إلى تَصْدِيقِ سَاعٍ ، فَإنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ ، وإنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ . ولا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِك بَخِيلا يَعْدِلُ بِك عَنِ الْفَضْلِ ، ويَعِدُك الْفَقْرَ ، ولا جَبَانا يُضْعِفُك عَنِ الامُورِ ، ولا حَرِيصا يُزَيِّنُ لَك الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ ، فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ . إنَّ شَرَّ وُزَرَائِك مَنْ كان لِلاشْرَارِ قَبْلَك وَزِيرا ، ومَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ ، فَلا يَكُونَنَّ لَك بِطَانَةً ، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ ، وإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ ، وأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ ونَفَاذِهِمْ ، ولَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وأَوْزَارِهِمْ وآثَامِهِمْ ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِما عَلَى ظُلْمِهِ ، ولا آثِما عَلَى إِثْمِهِ ،أُولَئِك أَخَفُّ عَلَيْك مَؤونَةً ، وأَحْسَنُ لَك مَعُونَةً ، وأَحْنَى عَلَيْك عَطْفا ، وأَقَلُّ لِغَيْرِك إِلْفا ، فَاتَّخِذْ أُولَئِك خَاصَّةً لِخَلَوَاتِك وحَفَلاتِك . ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَك أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَك ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْك مِمَّا كَرِهَ اللّه لأوْلِيَائِهِ وَاقِعا ، ذَلِك مِن هَوَاك حَيْثُ وَقَعَ ، والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ والصِّدْقِ ، ثُمَّ رُضْهُمْ علَى أن لا يُطْرُوك ، ولا يَبْجَحُوك بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ ، وتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ . ولا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَك بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ ، فَإِنَّ فِي ذَلِك تَزْهِيدا لأهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ ، وتَدْرِيبا لأهْلِ الإسَاءَةِ علَى الإسَاءَةِ ، وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ ما أَلْزَمَ نَفْسَهُ ، واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إلى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِن إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ ، وتَخْفِيفِهِ الْمؤونَاتِ عَلَيْهِمْ ، وتَرْك اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى ما لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ ، فَلْيَكُنْ مِنْك فِي ذَلِك أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَك به حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِك ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْك نَصَبا طَوِيلا ، وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّك به لَمَنْ حَسُنَ بَلاوك عِنْدَهُ ، وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّك به لَمَنْ سَاءَ بَلاوك عِنْدَهُ . ولا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الامَّةِ ، واجْتَمَعَتْ بِهَا الالْفَةُ ، وصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ ، ولا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْءٍ مِن مَاضِي تِلْك السُّنَنِ ، فَيَكُونَ الأجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا ، والْوِزْرُ عَلَيْك بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا . وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ، ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ ما صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِك ، وإِقَامَةِ ما اسْتَقَامَ به النَّاسُ قَبْلَك . واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ ، ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ، فَمِنْهَا جُنُودُ اللّه ، ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ والْخَاصَّةِ ، ومِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ ، ومِنْهَا عُمَّالُ الإنْصَافِ والرِّفْقِ ، ومِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ والْخَرَاجِ مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ ومُسْلِمَةِ النَّاسِ ، ومِنْهَا التُّجَّارُ وأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ ، ومِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِن ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ وكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللّه له سَهْمَهُ ، ووَضَعَ علَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ ، أو سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله عَهْدا مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظا . فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللّه حُصُونُ الرَّعِيَّةِ ، وزَيْنُ الْوُلاةِ ، وعِزُّ الدِّينِ ، وسُبُلُ الأمْنِ ، ولَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ ،ثُمَّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللّه لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ به عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ ، ويَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ ، ويَكُونُ مِن وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ، ثُمَّ لا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ ، والْعُمَّالِ ، والْكُتَّابِ ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ ، ويَجْمَعُونَ مِن الْمَنَافِعِ ، ويُوتَمَنُونَ عَلَيْهِ من خَوَاصِّ الأمُورِ وعَوَامِّهَا ، ولا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعا إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْه مِن مَرَافِقِهِمْ ، ويُقِيمُونَهُ مِن أَسْوَاقِهِمْ ، ويَكْفُونَهُمْ مِن التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ما لا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ ، ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى من أَهْلِ الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ ومَعُونَتُهُمْ ، وفِي اللّه لِكُلٍّ سَعَةٌ ، ولِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ ما يُصْلِحُهُ ، ولَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِن حَقِيقَةِ ما أَلْزَمَهُ اللّه مِن ذَلِك إِلاَّ بِالاهْتِمَامِ والاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ ، وتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ ، والصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أو ثَقُلَ . فَوَلِّ مِن جُنُودِك أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِك لِلّهِ ولِرَسُولِهِ ولإمَامِك ، وأَنْقَاهُمْ جَيْبا ، وأَفْضَلَهُمْ حِلْما ، مِمَّنْ يُبْطِئُ عن الْغَضَبِ ، ويَسْتَرِيحُ إلى الْعُذْرِ ، ويَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ ، ويَنْبُو عَلَى الأقْوِيَاءِ ، ومِمَّنْ لا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ ، ولا يَقْعُدُ به الضَّعْفُ . ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ والأحْسَابِ ، وأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ والشَّجَاعَةِ والسَّخَاءِ والسَّمَاحَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ ، وشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ ، ثُمَّ تَفَقَّدْ مِن أُمُورِهِمْ ما يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِن وَلَدِهِمَا ، ولا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِك شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ ، ولا تَحْقِرَنَّ لُطْفا تَعَاهَدْتَهُمْ به وإِنْ قَلَّ ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إلى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَك ، وحُسْنِ الظَّنِّ بِك ، ولا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا ، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِن لُطْفِك مَوْضِعا يَنْتَفِعُونَ بِهِ ، ولِلْجَسِيمِ مَوْقِعا لا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ . ولْيَكُنْ آثَرُ رُؤوسِ جُنْدِك عِنْدَك مَنْ واسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ ، وأَفْضَلَ علَيْهم مِن جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ ، ويَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِن خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ ، حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّا وَاحِدا فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ ، فَإنَّ عَطْفَك علَيْهم يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْك ، وإنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ ، وظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ وإِنَّهُ لا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إلاَّ بِسَلامَةِ صُدُورِهِمْ ، ولا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاَّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاةِ الأمُورِ وقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ ، وتَرْك اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ ، فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ ، ووَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ علَيْهم ، وتَعْدِيدِ ما أَبْلَى ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ ، وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللّه . ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ما أَبْلَى ، ولا تَضُمَّنَّ بَلاءَ امْرِئٍ إلى غَيْرِهِ ، ولا تُقَصِّرَنَّ به دُونَ غَايَةِ بَلائِهِ ، ولا يَدْعُوَنَّك شَرَفُ امْرِئٍ إلى أَنْ تُعْظِمَ مِن بَلائِهِ ما كَانَ صَغِيرا ، ولا ضَعَةُ امْرِئٍ إلى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِن بَلائِهِ مَا كَانَ عَظِيما ، وارْدُدْ إلى اللّه ورَسُولِهِ ما يُضْلِعُك مِنَ الْخُطُوبِ ، ويَشْتَبِهُ عَلَيْك مِنَ الأمُورِ ، فَقَدْ قَالَ اللّه تعالى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ : « يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَ_زَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» (4) ، فَالرَّدُّ إِلَى اللّه الأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ ، والرَّدُّ إلى الرَّسُولِ الأخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ . ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِك فِي نَفْسِك مِمَّنْ لا تَضِيقُ به الأمُورُ ، ولا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ، ولا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ ، ولا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إلى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ ، ولا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ ، ولا يَكْتَفِي بِأَدْنَى ، فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ ، وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ ، وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّما بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ ، وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأمُورِ ، وأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ ، مِمَّنْ لا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ ، ولا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ ، وأُولَئِك قَلِيلٌ ، ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ ما يُزِيلُ عِلَّتَهُ وتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إلى النَّاسِ ، وأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْك ما لا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِن خَاصَّتِك ، لِيَأْمَنَ بِذَلِك اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَك ، فَانْظُرْ فِي ذَلِك نَظَرا بَلِيغا ، فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيرا فِي أَيْدِي الأشْرَارِ ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى ، وتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا . ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِك ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَارا ، ولا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً ، وأَثَرَةً فَإِنَّهُما جِمَاعٌ مِن شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ ، وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ مِن أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ . والْقَدَمِ فِي الإسْلامِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاقا ، وأَصَحُّ أَعْرَاضا ، وأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقا ، وأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الأمُورِ نَظَرا ، ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ ، فَإِنَّ ذَلِك قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ ، وغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ ما تَحْتَ أَيْدِيهِمْ ، وحُجَّةٌ عليْهم إنْ خَالَفُوا أَمْرَك ، أو ثَلَمُوا أَمَانَتَك ، ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ ، وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ علَيْهم ، فَإِنَّ تَعَاهُدَك فِي السِّرِّ لأمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ ، والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ . وتَحَفَّظْ مِنَ الأعْوَانِ ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَه ، إلى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَك أَخْبَارُ عُيُونِك اكْتَفَيْتَ بِذَلِك شَاهِدا ، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ ، وأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِن عَمَلِهِ ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ ، ووَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ ، وقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ . وتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ فِي صَلاحِهِ وصَلاحِهِمْ صَلاحا لِمَنْ سِوَاهُمْ ، ولا صَلاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ ، لأنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وأَهْلِهِ . ولْيَكُنْ نَظَرُك فِي عِمَارَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِن نَظَرِك فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ ، لأنَّ ذَلِك لا يُدْرَك إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ ، ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ ، وأَهْلَك الْعِبَادَ ، ولَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً ، فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلا أو عِلَّةً ، أو انْقِطَاعَ شِرْبٍ ، أو بَالَّةٍ (5) ، أو إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ ، أو أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ به أَمْرُهُمْ ، ولا يَثْقُلَنَّ عَلَيْك شَيْءٌ خَفَّفْتَ به الْمَؤونَةَ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ به عَلَيْك فِي عِمَارَةِ بِلادِك ، وتَزْيِينِ وِلايَتِك مع اسْتِجْلابِك حُسْنَ ثَنَائِهِمْ ، وتَبَجُّحِك بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ ، مُعْتَمِدا فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ من إِجْمَامِك لَهُمْ ، والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِن عَدْلِك علَيْهم ، ورِفْقِك بِهِمْ ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأمُورِ ما إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ علَيْهم مِن بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ به ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ ما حَمَّلْتَهُ ، وإِنَّمَا يُوتَى خَرَابُ الأرْضِ مِن إِعْوَازِ أَهْلِهَا ، وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاةِ عَلَى الْجَمْعِ ، وسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ ، وقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ . ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِك ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِك خَيْرَهُمْ ، واخْصُصْ رَسَائِلَك الَّتي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَك ، وأَسْرَارَك بِأَجْمَعِهِمْ ، لِوُجُوهِ صَالِحِ الأخْلاقِ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْك فِي خِلافٍ لَك بِحَضْرَةِ مَلاء ، ولا تَقْصُرُ به الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِك عَلَيْك ، وإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْك فِيمَا يَأْخُذُ لَك ، ويُعْطِي مِنْك ، ولا يُضْعِفُ عَقْدا اعْتَقَدَهُ لَك ، ولا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاقِ ما عُقِدَ عَلَيْك . ولا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الأمُورِ ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ . ثُمَّ لا يَكُنِ اخْتِيَارُك إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِك ، واسْتِنَامَتِك ، وحُسْنِ الظَّنِّ مِنْك ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ ، وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ ، ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِك مِنَ النَّصِيحَةِ والأمَانَةِ شَيْءٌ ، ولَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَك ، فَاعْمِدْ لأحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَرا ، وأَعْرَفِهِمْ بِالأمَانَةِ وَجْها ، فَإِنَّ ذَلِك دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِك لِلَّهِ ، ولِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ . واجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِن أُمُورِك رَأْسا مِنْهُمْ لا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا ولا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا ، ومَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِك مِن عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ . ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ ، وأَوْصِ بِهِمْ خَيْرا : الْمُقِيمِ مِنْهُمْ ، والْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ ، والْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ ، وأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ ، وجُلابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ والْمَطَارِحِ فِي بَرِّك وبَحْرِك وسَهْلِك وجَبَلِك ، وحَيْثُ لا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا ولا يَجْتَرِؤونَ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لا تُخَافُ بَائِقَتُهُ ، وصُلْحٌ لا تُخْشَى غَائِلَتُهُ ، وتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِك ، وفِي حَوَاشِي بِلادِك ، واعْلَمْ مع ذَلِك أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقا فَاحِشا ، وشُحّا قَبِيحا ، واحْتِكَارا لِلْمَنَافِعِ ، وتَحَكُّما فِي الْبِيَاعَاتِ ، وذَلِك بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ ، وعَيْبٌ عَلَى الْوُلاةِ ، فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه و آله مَنَعَ مِنْهُ ، ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعا سَمْحا ، بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وأَسْعَارٍ ، لا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِك إِيَّاهُ فَنَكِّلْ به ، وعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ . ثُمَّ اللّه اللّه ، فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ ، مِنَ الْمَسَاكِينِ ، والْمُحْتَاجِينَ ، وأَهْلِ الْبُوسَى ، والزَّمْنَى ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعا ومُعْتَرّا ، واحْفَظ لِلَّهِ ما اسْتَحْفَظَك من حَقِّهِ فِيهِمْ ، واجْعَلْ لَهُمْ قِسْما مِن بَيْتِ مَالِك ، وقِسْما مِن غَلاتِ صَوَافِي الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ ، فَإِنَّ لِلأقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأدْنَى ، وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ، فلا يَشْغَلَنَّك عَنْهُمْ بَطَرٌ ، فَإِنَّك لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِك التَّافِهَ ، لإحْكَامِك الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ ، فَلا تُشْخِصْ هَمَّك عَنْهُمْ ، ولا تُصَعِّرْ خَدَّك لَهُمْ ، وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْك مِنْهُمْ ، مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ ، وتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ ، فَفَرِّغْ لأولَئِك ثِقَتَك مِن أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْك أُمُورَهُمْ ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإعْذَارِ إلى اللّه يَوْمَ تَلْقَاهُ ، فَإِنَّ هَولاءِ مِن بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إلى الإنْصَافِ مِن غَيْرِهِمْ ، وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إلى اللّه فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ . وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ ، مِمَّنْ لا حِيلَةَ لَهُ ، ولا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ ، وذَلِك عَلَى الْوُلاةِ ثَقِيلٌ ، والْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ . وقَدْ يُخَفِّفُهُ اللّه عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ ، فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ، ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِاللّه لَهُمْ . واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْك قِسْما ، تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَك ، وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِسا عَامّا ، فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَك ، وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَك ، وأَعْوَانَك ، من أَحْرَاسِك وشُرَطِك حَتَّى يُكَلِّمَك مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه و آله يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ : لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُوخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ ؛ ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ ، ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ والأنَفَ ، يَبْسُطِ اللّه عَلَيْك بِذَلِك أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ ، ويُوجِبْ لَك ثَوَابَ طَاعَتِهِ ، وأَعْطِ ما أَعْطَيْتَ هَنِيئا ، وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ . ثُمَّ أُمُورٌ مِن أُمُورِك لا بُدَّ لَك من مُبَاشَرَتِهَا ، مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِك بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُك ، ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْك بِمَا تَحْرَجُ به صُدُورُ أَعْوَانِك . وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ ، فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ ما فِيهِ ، واجْعَلْ لِنَفْسِك فِيمَا بَيْنَك وبَيْنَ اللّه أَفْضَلَ تِلْك الْمَوَاقِيتِ ، وأَجْزَلَ تِلْك الأقْسَامِ ، وإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ ، إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ ، وسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ ، ولْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ ما تُخْلِصُ به لِلَّهِ دِينَك إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتي هِيَ لَهُ خَاصَّةً ، فَأَعْطِ اللّه مِنْ بَدَنِك فِي لَيْلِك ونَهَارِك ، ووَفِّ ما تَقَرَّبْتَ به إلى اللّه مِنْ ذَلِك ، كَامِلا غَيْرَ مَثْلُومٍ ولا مَنْقُوصٍ ، بَالِغا مِن بَدَنِك ما بَلَغَ . وإِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِك لِلنَّاسِ فَلا تَكُونَنَّ مُنَفِّرا ، ولا مُضَيِّعا ، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ به الْعِلَّةُ ولَهُ الْحَاجَةُ ، وقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه و آله حِينَ وَجَّهَنِي إلى الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ ؟ فَقَالَ : صَلِّ بِهِمْ كَصَلاةِ أَضْعَفِهِمْ ، وكُنْ بِالْمُومِنِينَ رَحِيما . وأَمَّا بَعْدُ : فَلا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَك عَنْ رَعِيَّتِك ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ ، وقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأمُورِ ، والاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ ما احْتَجَبُوا دُونَهُ ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ ، ويَعْظُمُ الصَّغِيرُ ، ويَقْبُحُ الْحَسَنُ ، ويَحْسُنُ الْقَبِيحُ ، ويُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ ، وإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لا يَعْرِفُ ما تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ به مِنَ الامُورِ ، ولَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ ، وإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ ، إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُك بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ ، فَفِيمَ احْتِجَابُك مِن وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ ، أو فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ ، أو مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِك إِذَا أَيِسُوا مِن بَذْلِك ، مع أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْك مِمَّا لا مَؤونَةَ فِيهِ عَلَيْك مِن شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ ، أو طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ . ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً ، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ ، وقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ ، فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِك بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْك الأحْوَالِ ، ولا تُقْطِعَنَّ لأحَدٍ مِن حَاشِيَتِك ، وحَامَّتِك قَطِيعَةً ، ولا يَطْمَعَنَّ مِنْك فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أو عَمَلٍ مُشْتَرَك يَحْمِلُونَ مَؤونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِك لَهُمْ دُونَك وعَيْبُهُ عَلَيْك فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ . وأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ ، وكُنْ فِي ذَلِك صَابِرا مُحْتَسِبا ، وَاقِعا ذَلِك مِن قَرَابَتِك وخَاصَّتِك حَيْثُ وَقَعَ ، وابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْك مِنْهُ ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِك مَحْمُودَةٌ ، وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِك حَيْفا فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِك ، واعْدِلْ عَنْك ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِك ، فَإِنَّ فِي ذَلِك رِيَاضَةً مِنْك لِنَفْسِك ، ورِفْقا بِرَعِيَّتِك ، وإِعْذَارا تَبْلُغُ به حَاجَتَك مِن تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ . ولا تَدْفَعَنَّ صُلْحا دَعَاك إِلَيْهِ عَدُوُّك ، ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا ، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِك ، ورَاحَةً مِن هُمُومِك ، وأَمْنا لِبِلادِك ، ولَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِن عَدُوِّك بَعْدَ صُلْحِهِ ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ ، واتَّهِمْ فِي ذَلِك حُسْنَ الظَّنِّ ، وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَك وبَيْنَ عَدُوِّك عُقْدَةً ، أو أَلْبَسْتَهُ مِنْك ذِمَّةً ، فَحُطْ عَهْدَك بِالْوَفَاءِ . وارْعَ ذِمَّتَك بِالأمَانَةِ ، واجْعَلْ نَفْسَك جُنَّةً دُونَ ما أَعْطَيْتَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِن فَرَائِضِ اللّه شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعا مع تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ ، وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِن تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ ، وقَدْ لَزِمَ ذَلِك الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ ، لِمَا اسْتَوْبَلُوا (6) مِن عَوَاقِبِ الْغَدْرِ ، فَلا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِك ، ولا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِك ، ولا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّك ، فَإِنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلَى اللّه إِلاّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ ، وقَدْ جَعَلَ اللّه عَهْدَهُ وذِمَّتَهُ أَمْنا أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ ، وحَرِيما يَسْكُنُونَ إلى مَنَعَتِهِ ، ويَسْتَفِيضُونَ إلى جِوَارِهِ ، فَلا إِدْغَالَ ولا مُدَالَسَةَ ، ولا خِدَاعَ فِيهِ ، ولا تَعْقِدْ عَقْدا تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ ، ولا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ والتَّوْثِقَةِ ، ولا يَدْعُوَنَّك ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَك فِيهِ عَهْدُ اللّه إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، فَإِنَّ صَبْرَك عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وفَضْلَ عَاقِبَتِهِ ، خَيْرٌ مِن غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ ، وأَنْ تُحِيطَ بِك مِنَ اللّه فِيهِ طِلْبَةٌ لا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاك ولا آخِرَتَك . إِيَّاك والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْنى لِنِقْمَةٍ ، ولا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ ، ولا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ ، وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ من سَفْك الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا ، واللّه سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَك بِسَفْك دَمٍ حَرَامٍ ، فَإِنَّ ذَلِك مِمَّا يُضْعِفُهُ ويُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ ، ويَنْقُلُهُ ولا عُذْرَ لَك عِنْدَ اللّه ، ولا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ، لأنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ . وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وأَفْرَطَ عَلَيْك ، سَوْطُك أو سَيْفُك أو يَدُك بِالْعُقُوبَةِ ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً ، فَلا تَطْمَحَنَّ بِك نَخْوَةُ سُلْطَانِك عَنْ أَنْ تُودِّيَ إلى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ . وإِيَّاك والإعْجَابَ بِنَفْسِك ، والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُك مِنْهَا وحُبَّ الإطْرَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِك مِن أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ ، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِن إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ . وإِيَّاك والْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِك بِإِحْسَانِك ، أو التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِن فِعْلِك ، أو أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَك بِخُلْفِك ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإحْسَانَ ، والتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ ، والْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللّه والنَّاسِ ، قال اللّه تَعَالَى : « كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ » (7) . وإِيَّاك والْعَجَلَةَ بِالامُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا ، أو التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا ، أو اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ ، أو الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ ، فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ ، وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ . وإِيَّاك والاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ ، والتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى به مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ ،فإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْك لِغَيْرِك ، وعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْك أَغْطِيَةُ الأمُورِ ويُنْتَصَفُ مِنْك لِلْمَظْلُومِ . أمْلِك حَمِيَّةَ أَنْفِك ، وسَوْرَةَ حَدِّك ، وسَطْوَةَ يَدِك ، وغَرْبَ لِسَانِك ، واحْتَرِسْ مِن كُلِّ ذَلِك بِكَفِّ الْبَادِرَةِ ، وتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُك ، فَتَمْلِك الاخْتِيَارَ ، ولَنْ تَحْكُمَ ذَلِك مِن نَفْسِك ، حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَك بِذِكْرِ الْمَعَادِ إلى رَبِّك . والْوَاجِبُ عَلَيْك أَنْ تَتَذَكَّرَ ما مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَك مِن حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ ، أو سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أو أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه و آله ، أو فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللّه فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا به فِيهَا ، وتَجْتَهِدَ لِنَفْسِك فِي اتِّبَاعِ ما عَهِدْتُ إِلَيْك فِي عَهْدِي هَذَا ، واسْتَوْثَقْتُ به مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْك ، لِكَيْلا تَكُونَ لَك عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِك إلى هَوَاها . وأَنَا أَسْأَلُ اللّه بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ ، وعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ أَنْ يُوَفِّقَنِي وإِيَّاك لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ الإقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ ، وإلى خَلْقِهِ مع حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ ، وجَمِيلِ الأثَرِ فِي الْبِلادِ ، وتَمَامِ النِّعْمَةِ وتَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ ، وأَنْ يَخْتِمَ لِي ولَك بِالسَّعَادَةِ والشَّهَادَةِ ، إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللّه صَلَّى اللّه ُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ ، وسَلَّمَ تَسْلِيما كَثِيرا ، والسَّلامُ » . (8)
.
ص: 479
. .
ص: 480
. .
ص: 481
. .
ص: 482
. .
ص: 483
. .
ص: 484
. .
ص: 485
. .
ص: 486
. .
ص: 487
. .
ص: 488
. .
ص: 489
. .
ص: 490
. .
ص: 491
. .
ص: 492
134كتابه عليه السلام إلى أهل مصرمن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشْتَر لمّا وَلاَّه أمارتها :« أمَّا بعدُ ، فإنَّ اللّه سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله نَذِيرا لِلْعَالَمِينَ ، ومُهَيْمِنا عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، فَلَمَّا مَضَى عليه السلام تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِن بَعْدِهِ ، فَوَ اللّه مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي ، ولا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِن بَعْدِهِ صلى الله عليه و آله عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، ولا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِن بَعْدِه ، فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاس عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي ، حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاس قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلامِ ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ محمَّد صلى الله عليه و آله ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْما أو هَدْما ، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِن فَوْتِ وِلايَتِكُمُ الَّتي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ ، أو كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْك الأَحْدَاثِ ، حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ ، وزَهَقَ واطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَهَ . ومِنه : إِنِّي واللّه لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِدا وهُمْ طِلاعُ الأَرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ ولا اسْتَوْحَشْتُ ، وإِنِّي مِن ضَلالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ ، والْهُدَى الَّذِي أَنَا علَيْه لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِن نَفْسِي ويَقِينٍ مِن رَبِّي ، وإِنِّي إلَى لِقَاءِ اللّه لَمُشْتَاقٌ ، وحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ ، ولَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاوهَا وفُجَّارُهَا ، فَيَتَّخِذُوا مَ_الَ اللّه دُوَلاً ، وعِبَادَهُ خَوَلاً ، والصَّالِحِينَ حَرْبا ، والْفَاسِقِينَ حِزْبا ، فإنَّ مِنْهُمُ الَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ ، وجُلِدَ حَدّا فِي الإِسْلامِ ، وإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى الإِسْلامِ الرَّضَائِخُ (1) ، فَلَوْلا ذَلِك مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ ، وتَأْنِيبَكُمْ ، وجَمْعَكُمْ وتَحْرِيضَكُمْ ، ولَتَرَكْتُكُمْ إِذْ أَبَيْتُمْ ووَنَيْتُمْ . أَلا تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ قَدِ انْتَقَصَتْ ، وإِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ افْتُتِحَتْ ، وإِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى ، وإِلَى بِلادِكُمْ تُغْزَى ؟ ! انْفِرُوا رَحِمَكُمُ اللّه إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ ، ولا تَثَّاقَلُوا إِلَى الأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْف ، وتَبُوءُوا بِالذُّلِّ ، ويَكُونَ نَصِيبُكُمُ الأَخَسَّ ، وإِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الأَرِقُ ، ومَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ ، والسَّلامُ » . (2)
.
ص: 493
135كتابه عليه السلام إلى محمَّد بن أبي بكرمن كتاب له عليه السلام إلى محمَّد بن أبي بكر ، لمَّا بلَغه توجُّده (1) من عَزْلِه بالأشْتَر عن مصر ، ثُمَّ توفّي الأشْتَر في توجُّهه إلى هُناك قَبْل وصوله إليْها : « أمَّا بعدُ ، فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُك مِن تَسْرِيحِ الأَشْتَرِ إِلَى عَمَلِك ، وإِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِك اسْتِبْطَاءً لَك فِي الْجَهْدِ ، ولا ازْدِيَادا لَك فِي الْجِدِّ ، ولَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ من سُلْطَانِك ، لَوَلَّيْتُك مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْك مَؤونَةً ، وأَعْجَبُ إِلَيْك وِلايَةً . إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ ، كَانَ رَجُلا لَنَا نَاصِحا ، وعَلَى عَدُوِّنَا شَدِيدا نَاقِما ، فَرَحِمَهُ اللّه ، فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ ، ولاقَى حِمَامَهُ ، ونَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ ، أَوْلاهُ اللّه رِضْوَانَهُ ، وضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ ، فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّك ، وامْضِ عَلَى بَصِيرَتِك ، وشَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَك ، وادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّك ، وأَكْثِرِ الاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ ، يَكْفِك مَا أَهَمَّك ، ويُعِنْك عَلَى مَا يُنْزِلُ بِك ، إِنْ شَاءَ اللّه » . (2)
.
ص: 494
( قتل مُحَمَّد بن أبي بَكر رحمه الله ) إن عَمْرو بن العاص لمَّا قتل كِنانَة ، أقبل نحو مُحَمَّد بن أبي بَكر ، وقد تفرّق عنه أصحابه ، فلمَّا رأى ذلك مُحَمَّد خرج يمضي في الطَّريق حَتَّى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق فآوى إليها ، وجاء عَمْرو بن العاص حَتَّى دخل الفسطاط ، وخرج معاوية بن حُدَيْج في طلب مُحَمَّد بن أبي بَكر حَتَّى انتهى إلى علوج على قارعة الطَّريق ، فسألهم هل مرَّ بكم أحدٌ تنكرونه ؟ قالوا : لا ، فقال أحدهم : إنِّي دخلت تلك الخربة ، فإذا أنا فيها برجل جالس ، فقال ابن حُدَيْج : هو هو وربّ الكعبة ، فانطلقوا يركضون حَتَّى دخلوا عليه ، واستخرجوه وقد كاد يموت عطشا ، فأقبلوا به نحو الفسطاط . قال : ووثب أخوه عبد الرَّحمن بن أبي بَكر إلى عَمْرو بن العاص _ وكان في جنده _ فقال : واللّه لا يقتل أخي صبرا ، ابعث إلى معاوية بن حُدَيْج فانهه عن قتله ، فأرسل عَمْرو إلى معاوية أن ائتني بمحمّد ، فقال معاوية : أ قتلتم كِنانَة بن بشر ابن عمي ، وأُخلّي عن محمّد ؟ ! هيهات ؛ أ كفَّاركم خيرٌ من أولئكم ، أم لكم برَاءةٌ في الزُّبُر . فقال محمّد : اسقوني قطرةً من الماء ، فقال معاوية : لا سقاني اللّه إن سقيتك قطرةً أبدا ، إنَّكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حَتَّى قتلتموه ظاميا محرما ، فسقاه اللّه من الرَّحيق المختوم ، واللّه لأقتلنَّك يا بن أبي بَكر وأنت ظمآن ، فيسقيك اللّه من الحميم والغسلين . فقال له مُحَمَّد بن أبي بَكر : يا بن اليهوديَّة النَّسَّاجة ، ليس ذلك إليك ولا إلى من ذكرت ، إنَّما ذلك إلى اللّه يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه ، وهم أنت وقُرناو ومن تولاّك وتولّيته ، واللّه لو كان سيفي في يدي ما بلغتم منِّي ما بلغتم . فقال له معاوية بن حُدَيْج لعنه اللّه : أ تدري ما أصنع بك ؟ ! أدخلك جوف هذا الحمار الميت ، ثُمَّ أحرقه عليك بالنَّار . فقال محمّد : إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم ذلك بأولياء اللّه ، وأيم اللّه ، إنِّي لأرجو أن يجعل اللّه هذه النَّار الَّتي تخوّفني بها عليَّ بردا وسلاما كما جعلها على إبراهيم خليله ، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه ، وإنِّي لأرجو أن يحرقك اللّه ، وإمامك _ يعني معاوية بن أبي سُفْيَان _ وهذا ، وأشار إلى عَمْرو بن العاص ، بنار تلظَّى عليكم كلَّما خبت زادها سعيرا . فقال له معاوية : إنِّي لا أقتلك ظلما ، إنَّما أقتلك بعثمان . فقال له محمّد : وما أنتَ وعثمان ؟ إنَّ عثمان عمل بغير الحقّ ، وبدَّل حُكْمَ القُرآن ، وقد قال اللّه عز و جل : « ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِك هُمُ الْكافِرُونَ » (1) « وأُولئِك هُمُ الظّالِمُونَ وأُولئِك هُمُ الْفاسِقُونَ » (2) ، فنقمنا عليه أشياء عملها ؛ فأردنا أن يختلع من عملنا فلم يفعل ، فقتله من قتله من النَّاس . فغضب معاوية بن حُدَيْج ، فقدمه فضرب عنقه ، ثُمَّ ألقاه في جوف حمار ، وأحرقه بالنَّار . قال : فلمَّا بلغ خبر شهادته عليَّا عليه السلام ، حزن على مُحَمَّد بن أبي بَكر حَتَّى رئي ذلك فيه ، وتبيَّن في وجهه ، وقام في النَّاس خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثُمَّ قال : « ألا وإنَّ مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظُّلم ، الَّذين صدّوا عن سبيل اللّه ، وبغوا الإسلام عِوَجا ، ألا وإنَّ مُحَمَّد بن أبي بَكر قد استشهد _ رحمه الله _ فعند اللّه نحتسبه ، أما واللّه لقد كان ما علمت ممّن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ، ويبغض شكل الفاجر ، ويحبّ هَين المُون ، وإنّي واللّه ، ما ألوم نفسي على تقصير ولا عجز ، وإنِّي بمقاساة الحرب لجدّ بصير ، وإنِّي لأقدم على الأمر ، وأعرف وجه الحزم ، وأقوم بالرَّأي المصيب ، فأستصرخكم معلنا ، وأناديكم نداء المستغيث معربا ، فلا تسمعون لي قولاً ، ولا تطيعون لي أمرا ، تصيّرون الأمور إلى عواقب المساءة ، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثَّار ، ولا تنقض بكم الأوتار ، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضعٍ وخمسين يوما ، فجرجرتم عليّ جرجرة الجمل الأشدق ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نيّة في جهاد العدوّ ، ولا رأي له في اكتساب الأجر ، ثُمَّ خرج إليّ منكم جنيدٌ متذائبٌ ضعيفٌ ، كأنَّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، فأُفٍ لكم . ثُمَّ نزل فدخل رحله . » (3)
.
ص: 495
. .
ص: 496
. .
ص: 497
كِنانَة بن بِشْر بن عَتَّاب التُجِيبيكان ممن قتل عثمان . (1) وكان من الَّذِين غضبوا للّه حين عصي في أرضه ، وكان من أولياء أمير المؤمنين النَّاصحين ، صاحب البأس والتَّجربة . (2) كان ممن يحرّض النَّاس بمصر على عبد اللّه بن سَعْد بن أبي سَرْح ، الخائن المنافق . قال الطَّبري : إنَّ عثمان أرسل رجالاً إلى الأمصار عيونا على الولاة ، ورجع كلّهم يخبر عن الصَّلاح عدا عمّارا ، فإنَّه لم يرجع عن مصر ، حَتَّى جاءه كتاب عبد اللّه بن سَعْد فيه : بأنَّ عمَّارا قد استماله قوم بمصر ، وقد انقطعوا إليه ، منهم كِنانَة بن بشر . (3) كان كِنانَة من الَّذِين خرجوا من مصر إلى المدينة ، وكان من الرُّؤساء . (4) ( وكان ممّن دخل على عثمان مع مُحَمَّد بن أبي بَكر ) ، ورفع كِنانَة بن بِشْر بن عَتَّاب مَشاقصَ كانت في يده ، فوجأ بها في أصل أُذن عثمان ، فمضت حَتَّى دخلت في حلقه ، ثُمَّ علاه بالسَّيف حَتَّى قتله . (5)
.
ص: 498
136كتابه عليه السلام إلى قَيْس بن سَعْد بن عُبادَةقال اليعقوبي : قال غياث : ولمَّا أجمع عليّ عليه السلام على قتال معاوية ، كتب أيضا إلى قيس :« أمَّا بعدُ ؛ فاستَعْمِلْ عَبْدَ اللّه ِ بنَ شُبَيْلٍ الأحْمَسِيّ خَلِيفَةً لكَ ، وأَقْبِلْ إليَّ ، فَإنَّ المُسلِمينَ قَدْ أجْمَعَ مَلَوهُم ، وانقَادَتْ جَماعَتُهُم ، فَعَجِّلِ الإقْبالَ ، فَأنا سأَحْضُرَنَّ إلى المحلّين عِندَ غُرَّةِ الهِلالِ ، إن شاء اللّه ، وَما تَأخُّرِي إلاّ لَكَ ، قَضَى اللّه ُ لَنا ولَكَ بالإحسانِ في أمْرِنا كُلِّهِ » . (1) [ وفي أنساب الأشراف صورة أخرى لهذا الكتاب ، وهي : ] « أمَّا بَعْدُ؛ فاستَعْمِلْ علَى عَمَلِكَ عَبدَاللّه ِ بنَ شُبَيْلٍ الأحْمَسِيّ ، وأَقْبِلْ فَإنَّهُ قَد اجتَمَعَ مَلأُ المُسلِمينَ ، وَحَسُنَتْ طَاعَتُهُم ، وانقادَتْ لِي جَماعَتُهُم ، ولا يَكُنْ لَكَ عَرْجَةٌ ولا لَبْثٌ ،فَإِنَّا جَادُّونَ مُغِذُّونَ وَنَحْنُ شَاخِصُونَ إلى المحلّين ، وَلَمْ أُؤَخِّرِ المَسِيرَ ، إلاّ انتظارا لِقُدومِكَ عَلَيْنا ، إنْ شَاءَ اللّه ُ ، والسَّلامُ » . (2)
قَيْسُ بنُ سَعْدِ بنِ عُبادَةقيس بن سَعْد بن عُبادَة الأنْصاريّ الخَزْرَجيّ السَّاعدي ، هو أحد الصَّحابة (3) ومن كبار الأنصار . وكان يحظى باحترام خاصّ بين قبيلته والأنصار وعامّة المسلمين (4) ، وكان شجاعا ، كريم النَّفس ، عظيما ، مطاعا في قبيلته (5) . وكان طويل القامة ، قويّ الجسم ، معروفا بالكرم (6) ، مشهورا بالسَّخاء (7) . حمل اللواء في بعض حروب النَّبيّ صلى الله عليه و آله (8) . وهو من السَّبَّاقين إلى رعاية حرمة الحقّ (9) ، والدفاع عن خلافة الحقّ و حقّ الخلافة ، وإمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله (10) . وكان من صحابة الإمام عليه السلام المقرّبين وحماته الثَّابتين في أيّام خلافته عليه السلام . ولاّه عليه السلام على مصر (11) ، فاستطاع بحنكته أن يُسكت المعارضين ويقضي على جذور المؤامرة (12) . حاول معاوية آنذاك أن يعطفه إليه ، بَيْدَ أنّه خاب ولم يُفلح . وبعد مدّة استدعاه الإمام عليه السلام وأشخص مكانه محمّد بن أبي بكر لحوادث وقعت يومئذٍ (13) . وكان قَيْس قائدا لشرطة الخميس (14) ، وأحد الاُمراء في صفِّين ، إذ ولي رجّالة البصرة فيها (15) . تولّى قيادة الأنصار عند احتدام القتال (16) وكان حضوره في الحرب مهيبا . وخطبه في تمجيد شخصيّة الإمام عليه السلام ، ورفعه علم الطَّاعة لأوامره عليه السلام ، وحثّ اُولي الحقّ وتحريضهم على معاوية ، كلّ ذلك كان أمارة على وعيه العميق ، وشخصيّته الكبيرة ، ومعرفته بالتَّيّارات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاُمور الجارية ، وطبيعة الوجوه يومذاك (17) . ولاّه الإمام عليه السلام على أذربيجان (18) . وشهد قَيْس معه صفِّين والنَّهروان (19) ، وكان على ميمنة الجيش (20) . ولمّا عزم الإمام عليه السلام على قتال معاوية بعد النَّهروان ، ورأى حاجة الجيش إلى قائد شجاع مجرَّب متحرّس أرسل إليه ليشهد معه الحرب (21) . وفي آخر تعبئة للجيش من أجل حرب المفسدين والمعتدين ، صعد الإمام عليه السلام على حجارة وخطب خطبة كلّها حرقة وألم ، وذكر الشُّجعان من جيشه _ ويبدو أنّ هذه الخطبة كانت آخر خطبة له _ ثمّ أمّر قَيْسا على عشرة آلاف . كما عقد للإمام الحسين عليه السلام على عشرة آلاف ، ولأبي أيّوب الأنْصاريّ على عشرة آلاف ، ومن المؤسف أنّ الجيش قد تخلخل وضعه بعد استشهاده عليه السلام (22) . وكان قَيْس أوّل من بايع الإمام الحسن عليه السلام بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام ، ودعا الناس إلى بيعته من خلال خطبة واعية له (23) . وكان على مقدّمة جيشه عليه السلام (24) . ولمّا كان عبيد اللّه بن العبّاس أحد اُمراء الجيش ، كان قَيْس مساعدا له ، وحين فرّ عبيد اللّه إلى معاوية صلّى قَيْس بالنَّاس الفجر ، ودعا المصلّين إلى الجهاد والثَّبات والصُّمود ، ثمّ أمرهم بالتَّحرّك (25) . وبعد عقد الصُّلح بايع قَيْس معاوية بأمر الإمام عليه السلام (26) ، فكرّمه معاوية ، وأثنى عليه (27) . وعُدَّ قَيْس أحد الخمسة المشهورين بين العرب بالدهاء (28) . وفارق قَيْس الحياة في السِّنين الأخيرة من حكومة معاوية (29) . في سِيَرِ أعلامِ النبلاء عن عَمْرو بن دِينار : كان قَيْس بن سَعْد رجلاً ضخما ، جسيما ، صغير الرَّأس ، ليست له لحية ، إذا ركب حمارا خطّت رجلاه الأرض (30) . وفي اُسد الغابة عن ابن شهاب : كان قَيْس بن سَعْد يحمل راية الأنصار مع النبيّ صلى الله عليه و آله . قيل : إنّه كان في سريّة فيها أبو بكر وعمر ، فكان يستدين ويطعم النَّاس ، فقال أبو بكر وعمر : إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه ، فمشيا في الناس ، فلمّا سمع سَعْد قام خلف النَّبيّ صلى الله عليه و آله فقال : من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخَطَّاب ؟ يُبخّلان عليَّ ابني (31) . وفي تاريخ بغداد عن عروة : باع قَيْس بن سَعْد مالاً من معاوية بتسعين ألفا ، فأمر مناديا فنادى في المدينة : من أراد القرض فليأتِ منزل سعد . فأقرض أربعين أو خمسين ، وأجاز بالباقي ، وكتب على من أقرضه صكّا ، فمرض مرضا قلّ عوّاده ، فقال لزوجته قريبة بنت أبي قحافة _ اُخت أبي بكر _ : يا قريبة ، لِمَ ترين قلّ عوّادي ؟ قالت : للذي لك عليهم من الدَّين . فأرسل إلى كلّ رجلٍ بصكّه (32) . وفي الاستيعاب : من مشهور أخبار قَيْس بن سَعْد بن عُبادَة : أنّه كان له مال كثير ديونا على النَّاس ، فمرض واستبطأ عوّاده ، فقيل له : إنّهم يستحيون من أجل دَينك ، فأمر مناديا ينادي : من كان لقيس بن سَعْد عليه دَين فهو له ، فأتاه النَّاس حتَّى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه (33) . وفي تاريخ الإسلام عن موسى بن عُقْبَة : وقفت على قَيْس عجوزٌ ، فقالت : أشكو إليك قلّة الجرذان . فقال : ما أحسنَ هذه الكناية ! املؤوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا (34) . وفي شُعب الإيمان عن قَيْس بن سعد : لولا أنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : « المكر والخديعة في النَّار » ، لكنت أمكر هذه الاُمّة (35) . وفي تهذيب الكمال عن ابن شهاب : كانوا يَعُدُّون دُهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة رَهط ، يقال لهم : ذوو رأي العرب في مكيدتهم : معاوية بن أبي سُفْيَان وعَمْرو بن العاص وقَيْس بن سَعْد بن عُبادَة والمُغِيْرَة بن شُعْبَة ، ومن المهاجرين عبد اللّه بن بُدَيْل بن وَرْقاء الخُزاعِيّ . وكان قَيْس بن سَعْد وابن بُدَيْل مع عليّ (36) . وفي سِيَرِ أعلامِ النبلاء عن أحمد بن البرقيّ : كان ( قيس ) صاحب لواء النَّبيّ صلى الله عليه و آله في بعض مغازيه ، وكان بمصر واليا عليها لعليّ عليه السلام (37) . وفي تاريخ الطبري عن الزُّهْريّ : كانت مصر من حين عليّ ، عليها قَيْس بن سَعْدبن عُبادَة ، وكان صاحب راية الأنصار مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكان من ذوي الرَّأي والبأس ، وكان معاوية بن أبي سُفْيَان وعَمْرو بن العاص جاهدَين على أن يُخرجاه من مصر ليغلِبا عليها ، فكان قد امتنع فيها بالدهاء والمكايدة ، فلم يقدرا عليه ، ولا على أن يفتتحا مصر . وفي تاريخ الطبري عن سَهْل بن سَعْد : لمّا قتل عثمان وولي عليّ بن أبي طالب الأمر ، دعا قَيْس بن سَعْد الأنْصاريّ فقال له : سر إلى مصر فقد ولّيتُكَها ، واخرج إلى رحلك ، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتَّى تأتيها ومعك جند ، فإنّ ذلك أرعب لعدوّك وأعزّ لوليّك ، فإذا أنت قدمتها إن شاء اللّه ، فأحسن إلى المحسن ، واشتدّ على المريب ، وارفُق بالعامّة والخاصَّة ، فإنَّ الرِّفق يُمنٌ . فقال له قَيْس بن سعد : رحمك اللّه يا أمير المؤمنين ، فقد فهمتُ ما قلتَ ، أمّا قولك : اخرج إليها بجند ، فو اللّه لئن لم أدخلها إلاّ بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا ، فأنا أدعُ ذلك الجند لك ، فإن أنت احتجت إليهم كانوا منك قريبا ، وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عُدّة لك ، وأنا أصير إليها بنفسي وأهل بيتي . وأمّا ما أوصيتني به من الرِّفق والإحسان ، فإن اللّه عز و جلهو المستعان على ذلك . قال : فخرج قَيْس بن سَعْد في سبعة نفر من أصحابه حتَّى دخل مصر (38) . وفي الكامل في التاريخ : خرج قَيْس حتَّى دخل مصر في سبعة من أصحابه ... ، فصعد المنبر فجلس عليه ، وأمر بكتاب أمير المؤمنين فقرئ على أهل مصر بإمارته ، ويأمرهم بمبايعته ومساعدته وإعانته على الحقّ ، ثمّ قام قَيْس خطيبا وقال : الحمد للّه الَّذي جاء بالحقّ وأمات الباطل وكبت الظَّالمين ، أيُّها النَّاس ، إنَّا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا صلى الله عليه و آله ، فقوموا أيُّها النَّاس فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة رسوله ، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم . فقام النَّاس فبايعوا ، واستقامت مصر ، وبعث عليها عمّاله إلاّ قرية منها يقال لها : خَرنبا ، فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان ، عليهم رجل من بني كِنانَة ثمّ من بني مُدلج اسمه يزيد بن الحرث ، فبعث إلى قَيْس يدعو إلى الطَّلب بدم عثمان . وكان مَسْلَمَة بن مخلّد قد أظهر الطَّلب أيضا بدم عثمان ، فأرسل إليه قَيْس : ويحك أعليَّ تثب ؟ ! فواللّه ، ما اُحبّ أنّ لي ملك الشَّام إلى مصر وأنّي قتلتك ! فبعث إليه مَسْلَمَة : إنّي كافّ عنك ما دمت أنت والي مصر . وبعث قَيْس _ وكان حازما _ إلى أهل خَرنبا : إنّي لا اُكرهكم على البيعة ، وإنّي كافّ عنكم ، فهادنهم وجبى الخراج ليس أحد ينازعه (39) . وفي تاريخ الطبري عن أبي مِخْنَف : لمّا أيس معاوية من قَيْس أن يتابعه على أمره ، شقّ عليه ذلك ؛ لما يعرف من حزمه وبأسه ، وأظهر للناس قِبله أنّ قَيْس بن سَعْد قد تابعكم ، فادعوا اللّه له ، وقرأ عليهم كتابه الَّذي لان له فيه وقاربه . قال : واختلق معاوية كتابا من قَيْس بن سعد ، فقرأه على أهل الشَّام : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ، للأمير معاوية بن أبي سُفْيَان من قَيْس بن سعد ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليكم اللّه الَّذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد ، فإنّي لمّا نظرت رأيت أنّه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برّا تقيّا ، فنستغفر اللّه عز و جل لذنوبنا ، ونسأله العصمة لديننا . ألا وإنّي قد ألقيت إليكم بالسِّلم ، وإنّي أجبتك إلى قتال قَتلة عثمان ، إمام الهدى المظلوم ، فعوّل عليَّ فيما أحببت من الأموال والرِّجال اُعجّل عليك ، والسَّلام . فشاع في أهل الشَّام أنّ قَيْس بن سَعْد قد بايع معاوية بن أبي سُفْيَان ، فسرّحت عيون عليّ بن أبي طالب إليه بذلك ، فلمّا أتاه ذلك أعظمه وأكبره ، وتعجّب له ، ودعا بنيه ، ودعا عبد اللّه بن جعفر فأعلمهم ذلك ، فقال : ما رأيكم ؟ فقال عبد اللّه بن جعفر : يا أمير المؤمنين ، دَع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، اعزل قَيْسا عن مصر . قال لهم عليّ : « إنّي واللّه ، ما اُصدّق بهذا على قَيْس » . فقال عبد اللّه : يا أمير المؤمنين ، اعزله ، فو اللّه ، لئن كان هذا حقّا لا يعتزل لك إن عزلته (40) . وفي تاريخ الطبري عن أبي مِخْنَف : جاء كتاب من قَيْس بن سَعْد فيه : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ، أمّا بعد ، فإنّي اُخبر أمير المؤمنين أكرمه اللّه أنّ قِبلي رجالاً معتزلين قد سألوني أن أكفّ عنهم ، وأن أدعهم على حالهم حتَّى يستقيم أمر الناس ، فنرى ويروا رأيهم ، فقد رأيت أن أكفّ عنهم ، وألاّ أتعجّل حربهم ، وأن أتألّفهم فيما بين ذلك لعلّ اللّه عز و جل أن يُقبل بقلوبهم ، ويفرّقهم عن ضلالتهم ، إن شاء اللّه . فقال عبد اللّه بن جعفر : يا أمير المؤمنين ، ما أخوفني أن يكون هذا ممالأة لهم منه ، فمُره يا أمير المؤمنين بقتالهم ، فكتب إليه عليّ : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ، أمّا بعد ، فسر إلى القوم الَّذين ذكرت ، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلاّ فناجزهم ، إن شاء اللّه . فلمّا أتى قَيْس بن سَعْد الكتاب فقرأه ، لم يتمالك أن كتب إلى أمير المؤمنين : أمّا بعد يا أمير المؤمنين ، فقد عجبت لأمرك ، أ تأمرني بقتال قوم كافّين عنك ، مُفرّغيك لقتال عدوّك ؟ ! وإنّك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوّك ، فأطعني يا أمير المؤمنين ، واكفُف عنهم ، فإنّ الرَّأي تركهم ، والسَّلام ... فبعث عليٌّ محمّد بن أبي بكر على مصر وعزل عنها قَيْسا (41) . وفي تاريخ الطبري عن كَعْب الوالبي : إنّ عليّا كتب معه ( أي محمّد بن أبي بكر ) إلى أهل مصر كتابا ، فلمّا قدم به على قَيْس ، قال له قَيْس : ما بال أمير المؤمنين ؟ ! ما غيّره ؟ أدخل أحد بيني وبينه ؟ قال له : لا ، وهذا السُّلطان سلطانك ! قال : لا ، واللّه ، لا اُقيم معك ساعة واحدة . وغضب حين عزله ، فخرج منها مقبلاً إلى المدينة ، فقدمها ، فجاءه حسّان بن ثابت شامتا به _ وكان حسّان عثمان يّا _ فقال له : نزعك عليّ بن أبي طالب ، وقد قتلت عثمان فبقي عليك الإثم ، ولم يحسن لك الشكر ! فقال له قَيْس بن سعد : يا أعمى القلب والبصر ، واللّه ، لولا أن اُلقِيَ بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك ، اخرج عنّي . ثمّ إنّ قَيْسا خرج هو وسَهْل بن حُنَيْف حتَّى قدما على عليّ ، فخبّره قَيْس فصدّقه عليّ ، ثمّ إنّ قَيْسا وسهلاً شهدا مع عليّ صفِّين (42) . وفي سِيَرِ أعلامِ النُبَلاء عن الزُّهْريّ : قدم قَيْس المدينة فتوامر (43) فيه الأسْوَد بن أبي البختري ومروان أن يُبيّتاه ، وبلغ ذلك قَيْسا ، فقال : واللّه ، إنّ هذا لقبيح أن اُفارق عليّا وإن عزلني ، واللّه ، لألحقنّ به . فلحق به ، وحدّثه بما كان يعتمد بمصر . فعرف عليّ أنّ قَيْسا كان يداري أمرا عظيما بالمكيدة ، فأطاع عليٌّ قَيْسا في الأمر كلّه ، وجعله على مقدّمة جيشه (44) . وفي الغارات عن المَدائِنيّ عن أصحابه : فسدت مصر على محمّد بن أبي بكر ، فبلغ عليّا توثّبهم عليه ، فقال : ما لمصر إلاّ أحد الرَّجلين : صاحبنا الَّذي عزلناه عنها بالأمس _ يعني قَيْس بن سَعْد _ أو مالك بن الحارث الأشْتَر . وكان عليّ عليه السلام حين رجع عن صفِّين قد ردّ الأشْتَر إلى عمله بالجزيرة ، وقال لقيس بن سعد : أقم أنت معي على شرطتي حتَّى نفرغ من أمر هذه الحكومة ، ثمّ اُخرج إلى أذربيجان ، فكان قَيْس مقيما على شرطته (45) . وفي تاريخ الطبري عن الزُّهْريّ : جعل عليّ عليه السلام قَيْس بن سَعْد على مقدّمته من أهل العراق إلى قبل أذربيجان ، وعلى أرضها ، وشرطة الخميس الَّذي ابتدعه من العرب ، وكانوا أربعين ألفا ، بايعوا عليّا عليه السلام على الموت ، ولم يزل قَيْس يدارئ ذلك البعث حتَّى قُتل عليّ عليه السلام (46) . [ أقول : قَيْس ، هو قَيْس بن سَعْد بن عُبادَة ، الصَّحابي العظيم ، سيّد الخَزْرَج ، الخطيب البليغ ، والشَّاعر المُفَلِّق ، من أركان الشِّيعة وأكابرهم ، ومن المخلصين لأمير المؤمنين عليه السلام ، والمتفانين فيه ، والَّذِين لا ينسى التَّاريخ الإسلامي مواقفهم النَّبيلة ، وحقّ على العالم البشري أن يقف موقف التَّبجيل والأحترام والتَّقدير له ، جيلاً بعد جيل . إنَّ قَيْسا رجل الشِّيعة ، أعرف من أن يكتب عنه القلم ، وأعظم من تحوم حوله العبارة ، فلقد كتب عنه كل مورِّخ ومحدِّث ، وبحث حوله كل من أراد التنقيب في التَّاريخ الإسلامي ، وإنَّك لتجد اسمه في مختلف المعاجم ، كأُسْد الغابَة ، والإصابة ، والاستيعاب ، والقاموس ، وترجمه العلاّمة المفضال الحجّة الأميني قدس سره ، في كتابه القيّم « الغدير » ، ونحن بدورنا نذكر هنا طرفا من أخباره ومآثره وآثاره وشؤون حياته ، إن شاء اللّه ، ونترك الاستقصاء في البحث عن جميع ما له علقة به إلى رسالة مفردة ، نسأل اللّه أن يوفّقنا لإنجازها في المستقبل القريب . شمائله : كان قَيْس رجلاً ضخما حسنا طويلاً ، وكان من الَّذِين طولهم عشرة أشبار ، بأشبار أنفسهم ، وقيل ثمانية عشر شبرا في عرض خمسة أشبار ، وليس في وجهه لحْية ، ولا شَعْرة واحدة ، وكان أصلها سناطا (47) ، وكان إذا ركب الفرس المشرف رجلاه تخطّان الأرض ، وفي المثل السَّائر : « سراويل قَيْس » ، وخلاصة القول أنّه كان له جثّة عظيمة ، ووجه جميل ، ويدان قويّتان ، يعلو ولا يعلى عليه ، له بسطة في الجسم وبسالة . (48) وأمّا فروسيّته ، فلا يوجد تاريخ إسلامي ولا معجم ، إلاّ وفيه جميل الثَّناء على فروسيّته وشجاعته وبأسه وشدّته في عهد النَّبيّ صلى الله عليه و آله والوليّ عليه السلام ، لأنَّه كان حامل راية الأنصار مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكان من النَّبيّ صلى الله عليه و آله بمنزلة صاحب الشُّرطة من الأمير مع النَّجدة والشَّجاعة ، وكان حامل راية الأنصار مع الوليّ عليه السلام أيضا ، وله مواقف باسلة في حرب صفِّين ، وقد بلغ من غيظ معاوية لعنه اللّه منه ، أنَّه كان يقنت ويلعن قَيْسا . وينص المورّخون أنَّه قد غمَّه رجال من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، منهم قَيْس ، وكان أشدّ النَّاس بعد أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان معاوية يقول : واللّه ، إنَّ قَيْسا يريد أن يفنينا غدا ، ان لم يحبسه عنّا حابس الفيل ، وسيأتي بعضٌ من كلمات قَيْس الخالدة . (49) وأمَّا دهاؤه ورأيه وعقله فهو ممَّا أطبق عليه أصحاب المعاجم ، قال أبو عمر : كان أحد الفضلاء الجلّة أو أحد دهاة العرب ، وأهل الرَّأي والمكيدة في الحروب مع النَّجدة والبسالة ، وتبعه أيضا ابن حَجَر وابن الأثير ، وأوفى دليل على ذلك آراؤه وأساليبه في إمارته ، بل هو في الطَّبقة العُليا من أصحاب الرَّأي والنُّهى ، وهو القائل : « لولا أنِّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : المكر والخديعة في النَّار ، لكنت من أمكر هذه الأُمّة » . وكان يقول : « لولا الإسلام لمكرت مكرا لا تطيقه العرب » . بل كان معاوية يخاف من دهاء قَيْس ورأيه . (50) إنَّ قَيْسا لمَّا قدِم المدينة فأخافه مروان والأسود بن أبي البختري ؛ حَتَّى إذا خاف أن يؤخذ أو يُقتَل ركب راحلته ، فظهر إلى عليّ ، فكتب معاوية إلى مروان والأسْوَد يتغيَّظ عليهما ، ويقول : أمددتُما عليَّا بقيس بن سَعْد ورأيه ومكايَدته ، فواللّه لو أنَّكما أمددتُماه بثمانية آلاف مقاتل ماكان ذلك بأغيظَ إليَّ من إخراجكما قَيْس بن سَعْد إلى عليّ . (51) وقال الطَّبري : فقدم قَيْس على عليّ ، فلمَّا أنبأه الحديث ، وجاءهم قتل محمَّد بن أبي بكر ، عرف أنَّ قَيْس بن سَعْد كان يوازي ( يقاسي ) أمورا عظاما من المكائدة . (52) هذا ، وقد مرَّ أنَّ عليَّا عليه السلام كان عالما بذلك ، ولكن الجأوه إلى عزل قَيْس ، وفي الغدير : عن الحلبي : من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لرأى العجب من وفور عقله . (53) وعن البداية والنِّهاية : ولاّه عليّ نيابة مصر ، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته ، لمعاوية وعَمْرو بن العاص . (54) وفي الغدير : بعد ذكره كلام المُغِيْرَة ونصيحته لأمير المؤمنين عليه السلام في إقرار معاوية على عمله وإبائه عليه السلام عن قبوله قال : فقام قَيْس بن سعد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنَّ المُغِيْرَة أشار عليك بأمر لم يُرد اللّه به ، فقدَّم فيه رجلاً وأخَّر فيه أخرى ، فإن كان لك الغلبة يقرَّب إليك بالنَّصيحة ، وإن كانت لمعاوية يقرَّب إليه بالمشورة ، ثُمَّ أنشأ يقول : يَكادُ ومَن أرسى بُثَيرا (55) مَكانَهُمُغِيْرَةُ أنْ يقوى علَيْكَ مُعاوِيَهْ وَكُنْتَ بِحَمْدِ اللّه ِ فِينا مُوَفَّقاوتِلْكَ الَّتي أرءاكها غَيْرُ كافِيَهْ فَسُبْحانَ مَنْ عَلّى السَّماءَ مَكانَهاوأرْضا دَحاها فاستقرَّتْ كماهِيَهْ (56) وسعى معاوية بكلّ مكيدته أن يكيد قَيْسا ، وهو بمصر ، أو يكيده وهو أمير عسكر الإمام السِّبط الأكبر عليه السلام ، فلم يتمكّن من ذلك ، وعجز عن خداعه . (57) وبالجملة ، لا يشكّ من له أدنى إلمام بالتَّاريخ والمعاجم في عقل قَيْس ودهائه وحزمه ورأيه ، ومن الأدلة على ذلك كلماته الخالدة الدَّالة على دقَّة في ملاحظة ، وعمَّن في التَّفكّر وسداد في الرَّأي ، ونحن نورد منها ما عثرنا عليه : خطابته : 1 _ لمَّا وصل كتاب قثُمَّ بن عبَّاس من مكّة إلى أمير المؤمنين عليه السلام يخبره أنَّ طَلْحَة والزُّبير وعائِشَة قد خرجوا من مكّة ، يريدون البصرة ، وقد استنفروا النَّاس ، فلم يَخِفَّ معهم إلاّ من لا يعتد بمسيره ، ومن خلفت بعدك فعلى ما تحبّ . فلمَّا قدم على عليّ كتابه غمَّه ذلك ، وأعظمه النَّاس ، وسقط في أيديهم ، فقام قَيْس بن سَعْد بن عُبادَة ، فقال : يا أمير المونين ، إنَّه واللّه ، ما غمُّنا بهذين الرَّجلين كغمِّنا بعائِشَة ، لأنَّ هذين الرَّجلين حلال الدَّم عندنا ؛ لبيعتهما ونكثهما ، ولأنَّ عائِشَة من علمت مقامها في الإسلام ، ومكانها من رسول اللّه ، مع فضلها ودينها وأمومتها منَّا ومنك ، ولكنَّهما يقدمان البصرة ، وليس كلُّ أهلها لهما ، وتقدِم الكوفة ، وكل أهلها لك ، وتسير بحقّك إلى باطلهم ، ولقد كنَّا نخاف أن يسيرا إلى الشَّام ، فيقال : صاحبا رسول اللّه ، وأُمُّ المونين ، فيشتدّ البلاء ، وتعظم الفتنة ، فأمَّا إذا أتيا البصرة ، وقد سبقت إلى طاعتك ، وسبقوا إلى بيعتك ، وحكم عليهم عاملك ، ولا واللّه ، ما معهما مثل ما معك ، ولا يقدمان على مثل ما تقدِم عليه ، فسر فإنَّ اللّه معك . (58) 2 _ لمَّا قدم قَيْس مصر ، وقرأ كتاب أمير المؤمنين عليه السلام على النَّاس ، قام قَيْس خطيبا ، فقال : الحمد للّه الَّذي جاء بالحقّ ، وأمات الباطل وكبت الظَّالمين ، أيُّها النَّاس ، إنَّا قد بايعنا خير من نعلم بعد محمّد نبيّنا صلى الله عليه و آله ، فقوموا أيُّها النَّاس ، فبايِعوا على كتاب اللّه عز و جل وسنّة رسوله صلى الله عليه و آله ، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعةَ لنا عليكم . (59) 3 _ ولمَّا أراد عليه السلام المسير إلى صفِّين ، قام قَيْس بن سَعْد بن عُبادَة ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثُمَّ قال : يا أمير المونين ، انكمش بنا إلى عدوّنا ، ولا تعرد (60) ، فو اللّه لجهادهم أحبّ إليَّ من جهاد التّرك والرُّوم ، لإدهانهم في دين اللّه واستذلالهم أولياء اللّه من أصحاب محمَّد صلى الله عليه و آله من المهاجرين والأنصار والتَّابعين بإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيّروه ، وفيؤنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم فيما يزعمون قطين (61) . (62) 4 _ لمَّا عزم أمير المؤمنين عليه السلام على الخروج من المدينة إلى العراق ، وخالفه قوم قال قَيْس : يا أمير المونين ، ما على الأرض أحد أحبّ إلينا أن يقيم فينا منك ، لأنَّك نجمنا الَّذي نهتدي به ، ومفزعنا الَّذي نصير إليه ، وإن فقدناك لتُظْلِمَنّ أرضُنا وسماوا ، ولكن واللّه ، لو خلّيتَ معاوية للمكر ، لَيرومَنَّ مصر ، ولَيُفسِدَنَّ اليمنَ ، ولَيطْمَعَنَّ في العراق ، ومعه قوم يمانيّون قد أُشربوا قتل عثمان ، وقد اكتفوا بالظَّنّ عن العلم ، وبالشكِّ عن اليقين ، وبالهوى عن الخير ، فسر بأهل الحجاز وأهل العراق ، ثُمَّ ارمه بأمر يضيق فيه خناقهُ (63) ، ويقصر له من نفسه . فقال عليه السلام : « أَحسنْتَ واللّه ِ ، يا قَيْسُ » . (64) 5 _ دعا معاوية يوما النُّعْمان بن بَشير بن سَعْد الأنْصاريّ ، ومَسْلَمَة بن مخلّد الأنْصاريّ ، ولم يكن معه من الأنصار غيرهما ، فقال : يا هذان ، لقد غمَّني ما لقيت من الأوس والخَزْرَج ، صاروا واضعِي سيوفهم على عواتقهم يدعُون إلى النِّزال ، حَتَّى _ واللّه _ جبَّنوا أصحابي ، الشُجاع والجبان ، وحتى _ واللّه _ ما أسأل عن فارس من أهل الشَّام إلاَّ قالوا قتلتْه الأنصار . أمَا واللّه ، لألقينَّهم بحَدِّي وحديدي ، ولأُعبِّيَنَّ لكلِّ فارسٍ منهم فارسا ينشَبُ في حلْقِه ، ثُمَّ لأرمينَّهم بأعدادهم من قريش ، رجال لم يغْذُهُم التَمرُ والطَفَيْشَل (65) ، يقولون نحن الأنصار ، قد واللّه ، آوَوْا ونَصَروا ، ولكن أفسدوا حقَّهم بباطلهم . ] فأجابه النُّعْمانُ ومَسْلَمَةُ ] . . . وانتهى الكلامُ إلى الأنصار ، فجمع قَيْسُ بن سَعْد الأنْصاريّ الأنصارَ ، ثُمَّ قام خطيبا فيهم ، فقال : إنَّ معاوية قد قال ما بَلَغكم ، وأجاب عنكم صاحباكم ، فلعَمري لئن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه بالأمس ، وإن وتَرْتُموه في الإسلام فقد وتَرْتُموه في الشِّرك ، وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدِّين الَّذي أنتم عليه ، فجِدُّوا اليوم جِدّا تُنْسونَه به ما كان أمس ، وجدُّوا غدا جِدّا تُنْسُونه به ما كان اليوم ، وأنتم مع هذا اللِّواء الَّذي كان يقاتل عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل ، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب . وأمَّا التَمر ، فإنَّا لم نغرِسْه ، ولكن غلبنا عليه مَن غَرسَه . وأمَّا الطَّفيشل ، فلو كان طعامَنا لَسُمِّينا به اسما ، كما سُمِّيت قريش السَّخينة . ثُمَّ قال قَيْس بن سَعْد في ذلك : يا ابْنَ هِنْدٍ دَعِ التَّوثُّبَ في الحَرْبِإذا نَحْنُ في البِلادِ نَأَيْنا نحنُ مَنْ قَدْ رَأَيْتَ فَادْنُ إذا شِئْتَبِمَنْ شِئْتَ فِي العَجَاجِ إليْنا إنْ بَرَزْنا بالجَمْعِ نَلقَكَ في الجَمْعِوإنْ شِئْتَ مَحْضَةً أسْرَيْنا فالقَنَا في اللَّفيفِ نَلْقَكَ فِي الخَزْرَجِندعُو فِي حَرْبِنا أبَوَيْنا أيَّ هذين ما أرَدْتَ فَخُذْهُلَيْسَ مِنَّا ولَيْسَ مِنْكَ الهُوَينا ثُمَّ لا تَنْزِعُ العَجَاجَةُ (66) حَتَّىتَنْجَلي حربُنا لنا أو عَلَينا ليتَ ما تطلُبُ الغَداةَ أتاناأنعَمَ اللّه ُ بالشَهادَةِ عَيْنا إنَّنا إنَّنا الَّذِين إذا الفتحَشَهِدْناوخَيْبَرا وحُنَيْنا بَعْدَ بَدْرٍ وتِلْكَ قاصِمَةُ الظَهْرِوبِالنَّضِيرِ ثَنَيْنا يومَ الاحزاب قد علم النَّاسشفَينا مَن قَبلَكُم واشتفينا فلمَّا بلغ شعرُه معاوية ، دعا عَمْرو بن العاص ، فقال : ما ترى في شتْم الأنصار ؟ قال : أرى أن تُوعِد ولا تشتُم ، ما عسى أنْ نقول لهم ؟ إذا أردتَ ذمَّهم فذُمَّ أبدانَهم ولا تذمَّ أحسابهم . قال معاوية : إنَّ خطيب الأنصار قَيْسَ بن سَعْد يقوم كلَّ يوم خطيبا ، وهو واللّه ، يريد أن يُفنِينا غدا إن لم يحبِسْه عنَّا حابس الفيل ، فما الرَّأي ؟ قال : الرَّأي التَّوكُل والصَّبر . (67) 6 _ [ سأل يوما معاويةُ النُّعْمانَ بن بَشير أن يخرج إلى قَيْس ويعاتبه ويسأله السلم ، ] فخرج النُّعْمان حَتَّى وَقَف بين الصَّفّين ، فقال : يا قَيْس ، أنا النُّعْمان بن بشير . فقال قَيْس : هِيه يا ابن بشير ، فما حاجتُك ؟ فقال النُّعْمان : يا قَيْس إنَّه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنَفْسه ، ألسْتُم معشر الأنصار ، تعلمون أنَّكم أخطأتم في خذْل عثمان َ يوم الدَّار ، وقَتلتمْ أنصارَه يوم الجمل ، وأقحمتم خيولَكم على أهل الشَّام بصفِّين ، فلو كنتم إذْ خذلتُم عثمانَ خذَلْتم عليَّا لكانت واحدة بواحدةً ، ولكنَّكم خذلتم حَقَّا ونصرتُم باطلاً ، ثُمَّ لم ترضوا أن تكونوا كالنَّاس ، حَتَّى أعلَمْتُم في الحرب ، ودعوتم إلى البِراز ، ثُمَّ لم ينزِل بعليٍّ أمرٌ قطُّ إلاَّ هَوَّنتم عليه المُصِيبة ، ووعدتموه الظَّفر ، وقد أخذت الحربُ منَّا ومنكم ما قد رأيتم ، فاتَّقوا اللّه في البقيَّة . فضحك قَيْس ، ثُمَّ قال : ما كنتُ أراك يا نُعْمان تجترِئُ على هذه المقالة ، إنَّه لا ينصح أخَاه مَن غشَّ نفسه ، وأنتَ واللّه الغاشُّ الضَّالّ المضلّ . أمَّا ذِكرك عثمان َ ، فإن كانت الأخبارُ تكفيك فخُذْها منِّي واحدةً ، قَتَل عثمان مَن لستَ خيرا منه ، وخذَله مَن هو خيرٌ منك . وأمَّا أصحاب الجمل فقاتلناهم على النَّكْث . وأمَّا معاوية فواللّه أن لو اجتمعت عليه العرب ( قاطبةً ) لقاتلته الأنصار . وأمَّا قولك : إنّا لسنا كالنَّاس ، فنحن في هذه الحرب كما كنَّا مع رسول اللّه ، نت ّقي السُّيوف بوجوهنا ، والرِّماحَ بنُحُورنا ، حَتَّى جاء الحقُّ وظهر أمرُ اللّه ِ وهُم كارِهون ، ولكن انظُر يا نُعْمان ، هل ترى مع معاوية إلاَّ طليقا أو أعرابيَّا أو يمانيَّا مُسْتَدْرَجا بغُرور . انظُر أينَ المهاجرون والأنصار والتَّابعون بإحسان ، الَّذِين رضي اللّه عنهم ؟ ثُمَّ انظُر هل ترَى مع معاوية غيرَك وصُوَيحِبِكَ ؟ ولستما واللّه ببدرِيَّين ولا عَقَبيَّين ولا أُحُدِيَّيْنِ ، ولا لكما سابقةٌ في الإسلام ، ولا آية في القرآن . ولعَمري لئن شغبتَ علينا ، لقد شَغَب علينا أبوك . وقال قَيْس في ذلك : والرَّاقصاتِ بِكُلِّ أشعثَ أغْبَرٍخُوصِ العُيونِ تحثُّها الرُكبانُ ما ابن المُخَلَّدِ ناسيا أسيافَنافيمن نحاربُه ولا النُّعْمانُ تَركا البَيانَ وفِي العِيانِ كِفَايَةٌلو كانَ يَنْفَعُ صاحِبَيْهِ عِيَانُ ثُمَّ إنَّ عليَّا عليه السلام دعا قَيْس بن سعد ، فأثنى عليه خيرا وسوَّده على الأنصار . (68) 7 _ [ لمَّا تخلَّف جمع من أهل المدينة عن عليّ عليه السلام ، قال الأشْتَر لعليّ عليه السلام : ]دعني يا أمير المونين ، أُوقع بهواء الَّذِين يتخلّفون عنك . فقال له علي عليه السلام : « كُفَّ عَنِّي » ، فانصرف الأشْتَر وهو مغضب . ثُمَّ إنَّ قَيْس بن سَعْد لقي مالكا الأشْتَر في نفرٍ من المهاجرين والأنصار ، فقال قَيْس للأشْتَر : يا مالِكُ ، كلَّما ضاقَ صدرُك بشيءٍ أخرجته ، وكلَّما استبطأت أمرا استعجلته ، إنَّ أدب الصَّبر التَّسليم ، وأدب العجلة الأناة ، وإنَّ شرَّ القول ما ضاهى العيب ، وشرَّ الرَّأي ما ضاهى التُّهمة ، وإذا ابتليت فاسأل ، وإذا أُمرت فأطع ، ولا تسأل قبل البلاء ، ولا تكلّف قبل أن ينزل الأمر ، فإنَّ في أنفسنا ما في نفسك ، فلا تشقّ على صاحبك . (69) 8 _ قال اليعقوبي : _ في صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية _ وأتاه قَيْس بن سَعْد بن عُبادَة ، فقال : بايع قَيْس ! قال : إنْ كنتُ لأكره مثل هذا اليوم ، يا معاوية . فقال له : مه ، رحمك اللّه ! فقال : لقد حرصت أن أفرّق بين روحك وجسدك قبل ذلك ، فأبى اللّه ، يا ابن أبي سُفْيَان ، إلاَّ ما أحبّ . قال : فلا يُردّ أمر اللّه . قال : فأقبل قَيْس على النَّاس بوجهه ، فقال : يا معشر النَّاس ، لقد اعتضتم الشَّرّ من الخير ، واستبدلتم الذُّلّ من العزّ ، والكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المونين ، وسيّد المسلمين ، وابن عمّ رسول ربّ العالمين ، وقد وليَكُم الطَّليق ابن الطليق يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم ، أم طبع اللّه على قلوبكم ، وأنتم لا تعقلون . فجثا معاوية على ركبتيه ، ثُمَّ أخذ بيده ، وقال : أقسمت عليك ! ثُمَّ صفق على كفّه ، ونادى النَّاس : بايع قَيْس ! فقال ، كذبتم ، واللّه ، ما بايعت . (70) 9 _ قال معاوية لقيس بن سعد : رحِم اللّه أبا حسن ؛ فلقد كان هشَّا بشَّا ذا فُكاهة . قال قَيْس : نعم كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يمزَحُ ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تُسرّ حَسْوا في ارتِغاء (71) ، وتعيبه بذلك ! أمَا واللّه ، لقد كان مع تلك الفُكاهة والطّلاقة أهيَبَ من ذي لِبْدتيْن قد مسّه الطَّوى ؛ تلك هيبة التَّقوى ، وليس كما يهابك طَغامُ أهل الشَّام . (72) 10 _ دخل قَيْس بن سَعْد بعد وفاة عليّ ، ووقوع الصُّلح في جَماعة من الأنصار على معاوية ، فقال لهم معاوية : يا معشر الأنصار بِمَ تطلبون ما قبلي ؟ فواللّه لقد كنتم قليلاً معي كثيرا عليَّ ، ولفللتم حَدِّي يوم صِفِّين حَتَّى رأيت المنايا تلظَّى في أسنّتكم ، وهجوتموني في أسلافي بأشَدَّ من وقع الأسنّة ، حَتَّى إذا أقام اللّه ما حاولتم ميله قلتم : ارْعَ فينا وصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ه يهات ، يأبى الحَقينُ العِذرَةَ (73) . فقال قَيْس : نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به اللّه ، لا بما تمتُّ به إليك الأحزاب ، وأمَّا عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك . وأمَّا هجاؤنا إيَّاك ، فقول يزول باطله ، ويثبت حقّه. وأمَّا استقامة الأمر فعلى كره كان منّا . وأمَّا فَلُّنا حدّك يوم صفِّين ، فإنَّا كنَّا مع رجل نرى طاعَتَه طاعة اللّه . وأمَّا وصيّة رسول اللّه بنا ، فمن آمن به رعاها بعده . وأمَّا قولك : « يأبى الحقين العذرة » فليس دون اللّه يد تحجزك منَّا يا معاوية . (74) 11 _ لمَّا فرّ عبيد اللّه بن العبَّاس ولحِق بمعاوية ، خرج قَيْس وصلّى بالجند ، ثُمَّ خطبهم فقال : أيُّها النَّاس ، لا يهولنَّكم ولا يَعظُمَنَّ عليكم ما صنع هذا الرَّجل الوله الورع ( أي الجبان ) ، إنَّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قطُّ ، إنَّ أباه عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كَعْب بن عَمْرو الأنْصاريّ ، فأتى به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأخذ فداءه فقسَّمه بين المسلمين ، وإنَّ أخاه ولاَّه عليّ أمير المؤمنين على البصرة ، فسرق مال اللّه ومال المسلمين ، فاشترى به الجواري ، وزعم أنَّ ذلك له حلال ، وإنَّ هذا ولاّه على اليمن فهرب من بُسر بن أرطاة ، وترك ولده حَتَّى قتلوا ، وصنع الآن هذا الَّذي صنع . (75) [ وأمَّا سخاء قَيْس وإمارته في العهد النَّبويّ ، وفي حكومة الوصيّ ، وشرفه وزهده وفضله وحياته ووفاته ، فعليك بكتب المعاجم والتَّاريخ ، فلقد أطال الأميني قدس سره الكلام في الغدير ، وأجاد وأفاد للّه درّه وعليه أجره ، فلو أردنا أن نكتب عنه بما يحقّ له ويستحقّه لكان كتابا ضَخْما خارِجا عن شرط الكتاب ، ولا غُرو أن يكون قَيْس كذلك بعد أن أدرك رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، و لازمه ونهل منه واستفاد ، وكان منه صلى الله عليه و آله بمنزلة الشُّرطة من الأمير ، يلي ما يلي من أموره ، وكان صاحب راية الأنصار في بعض غزواته صلى الله عليه و آله ، واستعمله على الصَّدقة . وولاّه أمير المؤمنين عليه السلام مصر ، ثُمَّ شرطته ، ثُمَّ ولاّه آذربايجان ، وحضر معه حروبه على مقدمته تارة ، وعلى رجَّالة أهل البصرة أخرى ، وسوّده على الأنصار ، وبايع الإمام المجتبى عليه السلام ، وكان على مقدّمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعدما مات عليٌّ ، وتبايعوا على الموت ، وفي أهل بيته قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « الجُودُ شِيمَةُ أهْلِ ذَلِكَ البَيْتِ » . وقال صلى الله عليه و آله : « اللّهمّ اجعَلْ صَلواتِكَ ورَحمَتكَ علَى آلِ سَعْدِ بنِ عُبادَةَ ، اللَّهمَّ ارحَمْ سَعْدا وآلَ سَعْدٍ » . وقال صلى الله عليه و آله لسَعْد وقَيْس : « بارَكَ عَلَيْكُما يا أبا ثابِتٍ ، فَقَدْ أفلَحْتَ ، إنَّ الأخلاف بيد اللّه ، فمَن شاءَ أنْ يَمنحَهُ مِنها خلَفَا صالِحا مَنحَهُ ، ولقَدْ مَنحَكَ اللّه ُ خَلَفا صالِحا » . ونختم ترجمته بكلام المسعودي في مروج الذَّهب : قال : وقد كان قَيْس بن سَعْد من الزُّهد والدِّيانة والميل إلى عليٍّ بالموضع العظيم ، وبلغ من خوفه اللّه وطاعته إيَّاه ، أنَّه كان يصلِّي ، فلمَّا أهوى للسجود إذا في موضع سجوده ثعبان عظيم مطوّق ، فمال عن الثُّعبان برَأسه ، وسجد إلى جانبه ، فتطوّق الثُّعبانُ برقبته ، فلم يقصر من صلاته ، ولا نقص منها شئيا ، حَتَّى فرغ ، ثُمَّ أخذ الثُّعبان فرمى به ، كذلك ذكر الحسن بن عليّ بن عبد اللّه بن المُغِيْرَة ، عن معمّر بن خلاّد ، عن أبي الحسن عليِّ بن موسى الرِّضا (76) ] .
.
ص: 499
. .
ص: 500
. .
ص: 501
. .
ص: 502
. .
ص: 503
. .
ص: 504
. .
ص: 505
. .
ص: 506
. .
ص: 507
. .
ص: 508
. .
ص: 509
. .
ص: 510
. .
ص: 511
. .
ص: 512
. .
ص: 513
. .
ص: 514
. .
ص: 515
. .
ص: 516
. .
ص: 517
. .
ص: 518
. .
ص: 519
. .
ص: 520
. .
ص: 521
. .
ص: 522
. .
ص: 523
عَبدُ اللّه ِ بنُ شُبَيْلٍ الأحْمَسِيّكان واليا على آذربايجان مدّةً (1) . وعندما فُتحت ثانيةً سنة 24 ه أو 25 ه توجّه إليها أميرا على مقدّمة الجيش (2) . أثنى عليه الإمام عليّ عليه السلام بالتَّواضع وحسن السيرة والهدي (3) .
الأحْنَفُ بنُ قَيْسالأحنف بن قَيْس بن معاوية ، أبو بحر التَّميميّ السَّعدي ، والأحنف لقب له لحَنَفٍ (4) كان برجله ، واسمه الضَّحَّاك ، وقيل : صخر ، من كبار تميم (5) . أسلم على عهد النَّبيّ صلى الله عليه و آله (6) ، لكنّه لم يَرَهُ (7) . حُمِدَ بالحلم والسِّيادة ، وربّما أفرط مترجموه في نقل بعض الأمثلة من حلمه وسيادته (8) . وكان الأحنف من اُمراء الجيش في فتح خراسان أيّام عمر (9) . وفتح مَرْو في عصر عثمان (10) . واعتزل الإمامَ أمير المؤمنين عليّا عليه السلام في حرب الجمل (11) ، فتبعه أربعة آلاف من قبيلته تاركين عائِشَة ، (12) ودَعته عائِشَة إلى اللِّحاق بها ، فلم يُجِب ودحض موقفها بكلام بصير واعٍ . (13) وكان من قادة جيش الإمام عليه السلام في معركة صفِّين (14) ، واقترح أن يمثّل الإمام عليه السلام في التَّحكيم بدل أبي موسى (15) . واعتزل في فتنة ابن الحَضْرَمِيّ ولم يدافع عن الإمام عليه السلام . وكانت سياسته ترتكز على المسامحة والموادعة ، ومسايرة قومه وقبيلته ، والابتعاد عن التَّوتّر (16) . وكانت له منزلة حسنة عند معاوية (17) ، لكنّه لم يتنازل عن مدح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والثَّناء عليه (18) وتعظيمه يومئذٍ . وكاتَبه الإمام الحسين عليه السلام قبل ثورته فلم يُجِبه (19) . وإنْ صحّ هذا ( أي عدم استجابته لدعاء الإمام عليه السلام ) ؛ فهو دليل على ركونه إلى الدُّنيا ، وتزعزع عقيدته . وكانت تربطه بمُصْعَب بن الزُّبَيْر صداقة ، من هنا رافقه في مسيره إلى الكوفة (20) . مات الأحنف سنة 67 ه (21) . في تاريخ مدينة دمشق عن عبد اللّه بن المبارك : قيل للأحنف بن قيس : بأيّ شيء سوّدك قومك ؟ قال : لو عاب النَّاس الماءَ لم أشربه (22) . وفي الجمل _ في ذكر حرب الجَمل _ : بعث إليه ( عليٍّ عليه السلام ) الأحنفُ بن قَيْس رسولاً يقول له : إنّي مقيم على طاعتك في قومي ؛ فإنْ شئتَ أتيتك في مئتين من أهل بيتي فعلتُ ، وإن (23) شئتَ حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد . فبعث إليه أمير المؤمنين عليه السلام : بل أحبس وكفّ . فجمع الأحنف قومه ، فقال : يا بني سعد ! كُفّوا عن هذه الفتنة ، واقعدوا في بيوتكم ؛ فإن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم لم يُهيّجوكم ، وإن ظهر عليٌّ سلمتم . فكَفّوا وتركوا القتال (24) . وفي الجمل : لمّا جاء رسول الأحنف وقد قدم على عليٍّ عليه السلام بما بذل له من كفّ قومه عنه ، قال رجل : يا أمير المؤمنين ، من هذا ؟ قال : هذا أدهَى العَرَبِ وخَيرُهُم لقومه . فقال عليّ عليه السلام : « كَذلِكَ هُوَ ، وإنّي لأُمثِّلُ بينه وبين المُغِيْرَة بن شُعْبَة ؛ لزِمَ الطَّائفَ ، فأقام بها ينتظر على من تستقيم الاُمّة » ! فقال الرَّجل : إنّي لأحسب أنّ الأحنف لأسرع إلى ما تحبّ من المُغِيْرَة (25) . وفي وقعه صفِّين _ في ذكر إعزام الحكمين في آخر حرب صفِّين _ : قام الأحنف بن قيس إلى عليّ عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي خيّرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني ، وأكفّ عنك بني سعد ، فقلت : كفّ قومك فكفى بكفّك نصيرا ، فأقمت بأمرك . وإنّ عبد اللّه بن قَيْس رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المُدية ، وهو رجل يمانٍ ، وقومه مع معاوية . وقد رُمِيتَ بحجر الأرض وبمن حارب اللّه ورسوله ، وإنّ صاحب القوم من ينأى حتَّى يكون مع النَّجم ، ويدنو حتَّى يكون في أكفّهم . فابعثني وواللّه لا يحلّ عقدة إلاّ عقدتُ لك أشدّ منها . فإن قلت : إنّي لست من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ فابعث رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، غير عبد اللّه بن قيس ، وابعثني معه . فقال عليّ : إنّ القومَ أتَوني بِعَبْدِ اللّه ِ بنِ قَيْسٍ مُبَرْنَسا (26) ، فقالوا : ابعث هذا ؛ فقد رضينا به . واللّه بالغُ أمره (27) . وفي وقعة صفِّين _ بعد ذكر دعوة الإمام عليه السلام أهل البصرة لقتال معاوية ، وقراءة ابن عبّاس كتابه عليه السلام عليهم _ : فقام الأحنف بن قَيْس فقال : نعم ، واللّه لنُجِيبَنَّك ، ولنخرجنّ مَعكَ على العسر واليسر ، والرِّضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من اللّه العظيم من الأجر (28) . وفي تاريخ مدينة دمشق : إنّ الأحنف بن قَيْس دخل على معاوية ، فقال : أنت الشَّاهر علينا سيفك يوم صفِّين ، والمخذِّل عن أمّ المؤمنين ؟ ! فقال : يا معاوية ! لا تردّ الاُمور على أدبارها ؛ فإنّ السُّيوف الَّتي قاتلناك بها على عواتقنا ، والقلوب الَّتي أبغضناك بها بين جوانحنا ، واللّه لا تمدّ إلينا شبرا من غدرٍ إلاّ مددنا إليك ذراعا من خَتْر (29) ، وإن شئت لتستصفينّ كدر قلوبنا بصفوٍ من عفوك . قال : فإنّي أفعل (30) . وفي العقد الفريد عن أبي الحباب الكِنْديّ عن أبيه : إنّ معاوية بن أبي سفيان ، بينما هو جالس وعنده وجوه النَّاس ، إذ دخل رجل من أهل الشَّام ، فقام خطيبا ، فكان آخر كلامه أن لعن عليّا ، فأطرق النَّاس وتكلّم الأحنف ، فقال : يا أمير المؤمنين ! إنّ هذا القائل ما قال آنفا ، لو يعلم أنّ رضاك في لعن المرسلين للعنهم ! فاتّقِ اللّه ودعْ عنك عليّا ؛ فقد لقي ربّه ، واُفرد في قبره ، وخلا بعمله ، وكان واللّه _ ما علمنا _ المُبرِّز بسبقه ، الطَّاهر خُلقه ، الميمون نقيبته (31) ، العظيم مصيبته . فقال له معاوية : يا أحنف ! لقد أغضيت العين على القذى ، وقلت بغير ما ترى ، وأيم اللّه لتصعدنّ المنبر فلتلعنَنَّهُ طوعا أو كرها ، فقال له الأحنف : يا أمير المؤمنين ! إن تُعفِني فهو خير لك ، وإن تجبرني على ذلك فو اللّه لا تجري به شفتاي أبدا ، قال : قم فاصعد المنبر . قال الأحنف : أما واللّه مع ذلك لاُنصفنّك في القول والفعل . قال : وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني ؟ قال : أصعد المنبر ، فأحمد اللّه بما هو أهله ، واُصلّي على نبيّه صلى الله عليه و آله ، ثمّ أقول : أيُّها الناس ، إنّ أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليّا ، وإنّ عليّا ومعاوية اختلفا فاقتتلا ، وادّعى كلّ واحد منهما أنّه بُغي عليه وعلى فئته ؛ فإذا دعوت فأمِّنوا رحمكم اللّه . ثمّ أقول : اللَّهمَّ العن أنت وملائِكَتُكَ وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه ، والعن الفئة الباغية ، اللَّهمَّ العنهم لعنا كثيرا . أمِّنوا رحمكم اللّه ! يا معاوية ! لا أزيد على هذا ولا أُنقص منه حرفا ، ولو كان فيه ذهاب نفسي . فقال معاوية : إذن نُعفيك يا أبا بحر (32) . وفي عيون الأخبار عن السَّكن : كتب الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما إلى الأحنف يدعوه إلى نفسه فلم يردّ الجواب ، وقال : قد جرّبنا آل أبي الحسن ، فلم نجد عندهم إيالة للملك (33) ، ولا جمعا للمال ، ولا مكيدة في الحرب (34) .
.
ص: 524
. .
ص: 525
. .
ص: 526
. .
ص: 527
. .
ص: 528
. .
ص: 529
137كتابه عليه السلام إلى أهل الأمصارمن كتاب له عليه السلام كتبه إلى أهل الأمصار يقصُّ فيه ما جرى بينه وبين أهل صفِّين :« وكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا والْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّام ، والظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ ، ونَبِيَّنَا وَاحِدٌ ، ودَعْوَتَنَا في الإِسْلامِ وَاحِدَةٌ ، ولا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الإِيمَانِ بِاللَّهِ ، والتَّصْدِيقِ بِرَسُولِه ، ولا يَسْتَزِيدُونَنَا ، الأَمْرُ وَاحِدٌ ، إلاَّ ما اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ ، ونَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ . فَقُلْنَا : تَعَالَوْا نُدَاو مَا لا يُدْرَك الْيَوْمَ بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ وتَسْكِينِ الْعَامَّةِ ، حَتَّى يَشْتَدَّ الأَمْرُ ويَسْتَجْمِعَ ، فَنَقْوَى عَلَى وَضْعِ الْحَقِّ مَوَاضِعَهُ ، فَقَالُوا : بَلْ نُدَاوِيهِ بِالْمُكَابَرَةِ ، فَأَبَوْا حَتَّى جَنَحَتِ الْحَرْبُ ، ورَكَدَتْ ، ووَقَدَتْ نِيرَانُهَا وحَمِشَتْ . فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا وإِيَّاهُمْ ، ووَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِينَا وفِيهِمْ ، أَجَابُوا عِنْدَ ذَلِك إلَى الَّذِي دَعَوْنَاهُمْ إلَيْه ، فَأَجَبْنَاهُمْ إلَى مَا دَعَوْا ، وسَارَعْنَاهُمْ إلَى مَا طَلَبُوا ، حَتَّى اسْتَبَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ، وانْقَطَعَتْ مِنْهُمُ الْمَعْذِرَةُ ، فَمَنْ تَمَّ عَلَى ذَلِك مِنْهُمْ فَهُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللّه مِنَ الْهَلَكَةِ ، ومَنْ لَجَّ وتَمَادَى فَهُوَ الرَّاكِسُ الَّذِي رَانَ اللّه عَلَى قَلْبِه ، وصَارَتْ دَائِرَةُ السَّوْءِ عَلَى رَأْسِه » . (1)
138كتابه عليه السلام لنِصارى نَجْرانروى أبو يوسف في الخَراج ، قال : روى الأعْمَش ، عن سالِم بن أبي الجَعْد ، قال : . . .ثُمَّ كتب لهم عليّ رضى الله عنه :« بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا كتابٌ من عبد اللّه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام لأَهْلِ نَجْرانَ : إنَّكم أتيْتُمونِي بكِتابٍ مِنَ اللّه ِ فيهِ شَرطٌ لكُم علَى أنفُسِكُم وأَموالِكُم ، وأنِّي وفيتُ لَكُم بما كَتبَ لَكُم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله ، وأبو بكرٍ ، وعُمَرَ ، فمَن أتى علَيْهِم مِنَ المُسلمِينَ فَلْيَفِ لَهُم ، ولا يُضامُوا ، ولا يُضْلَموا ، ولا يُنْتَقَص حقّ من حقوقهم » ، وكتَب عبد اللّه بن أبي رافع ، لعشر خلوْن من جُمادى الآخِرَة ، سَنَة سبْع وثلاثين ، منذ وَلجَ رسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله . (2)
.
ص: 530
وصورة ما نقله المعتزلي : « أمَّا بعدُ ؛ فقد قدم عليَّ رسولك ، وقرأت كتابك ، تذكر فيه حال أهل البصرة واختلافهم بعد انصرافي عنهم ، وسأخبرك عن القوم: وهم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو خائف من عقوبة يخشاها ، فأرغب راغبهم بالعدل عليه والإنصاف له والإحسان إليه ، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم ، وانته إلى أمري ولا تعدّه ، وأحسن إلى هذا الحيّ من ربيعة وكل من قبلك ، فأحسن إليه ما استطعت ، إن شاء اللّه » . (1) صورة ثالثة برواية البلاذري : « أتاني كتابك، تذكر ما رأيت من أهل البصرة بعد خروجي عنهم، وإنّما هم مقيمون لرغبة يرجونها، أو عقوبة يخافونها، فأرغب راغبهم، واحلل عقدة الخوف عند راهبهم بالعدل والإنصاف له، إن شاء اللّه ». (2)
.
ص: 531
139كتابه عليه السلام إلى يزيد بن قيسقال اليعقوبي : كتب عليّ عليه السلام إلى عمَّاله يستحِثُّهم بالخَراج ، فكتب إلى يزيد بن قَيْس الأرْحَبيّ :« أمَّا بَعدُ ؛ فإنّك أبطأتَ بِحَمْلِ خَراجِكَ ، وما أدري ما الَّذي حَمَلَكَ علَى ذلِكَ ، غير أنِّي أُوصِيكَ بِتَقوى اللّه ِ ، واُحذِّرُكَ أن تُحبِطَ أجرَكَ وتُبْطِلَ جِهادَكَ بِخِيانَةِ المُسلِمينَ ، فاتّقِ اللّه َ وَنزِّهْ نَفْسَكَ عَنِ الحَرامِ ، ولا تَجعَل لِي عَليْكَ سَبِيلاً ، فلا أجِدُ بُدَّا مِنَ الإيقاع بِكَ ، وأعزِزِ المُسلِمينَ ، ولا تَظْلِمِ المُعاهِدينَ ، « وَ ابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ وَ لاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَ أَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ » » (1) (2) . [ وهناك صورة أخرى من هذا الكتاب ، وهي : ] « أُوصِيكَ بِتقوى اللّه ِ ، وأُحذِّرُكَ أَنْ تُحْبِطَ أجرَكَ ، وَتُبْطِلَ جِهادَكَ ، فَإنَّ خِيانَةَ المُسلِمينَ مِمَّا يُحبِطُ الأجْرَ ، ويُبطِلُ الجِهادَ ، فاتَّق اللّه َ ربَّكَ ، « وَ ابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ وَ لاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَ أَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ » (3) » (4)
.
ص: 532
يزيد بن قَيْس الهَمْدانِيّ ثُمَّ الأرْحَبيّهو من شهود الوصيَّة على رواية الكافي والوافي والبحار ، له إدراك ، وكان رئيسا كبيرا فيهم . قال مُجالِد بن سَعيد : لمَّا سار سَعيد بن العاص حين كان أمير الكوفة لعثمان ، فثار عليه أهل الكوفة ، فتوجَّه إلى عثمان ، فاجتمع قرَّاء الكوفة ، فامَّروا عليهم يزيد بن قَيْس هذا ، ثُمَّ كان مع عليّ في حروبه ، وولاّه شرطته ، ثُمَّ ولاّه بعد ذلك إصبهان والرَّيّ وهَمْدان ، وإيَّاه عنى القائل بعد ذلك يخاطب معاوية من أبيات : مُعَاوِيَ إنْ لا تُسْرِع السَّيْرَ نَحْوَنَافَبَايِعْ عَلِيَّا أو يَزيدَ اليَمَانِيا . (1) كان يزيد بن قَيْس من الثَّائرين على عثمان بالكوفة ، والنَّاقمين عليه شديدا ، لقد أعلن خلعه في المسجد ، وهو من السَّائرين إلى سعيد بن العاص ، حَتَّى ردّوه من العُذيب إلى المدينة . قال ابن سعد : وأقبل سعيد بن العاص حَتَّى نزل العُذيب _ وكان سعيد عامل عثمان على الكوفة _ فدعا الأشْتَر يزيد بن قَيْس الأرْحَبيّ ، وعبد اللّه بن كِنانَة العَبْديّ ، وكانا مِحْرَبين ، فعقد لكل واحد منهما على خمسمئة فارس ، وقال لهما : سيرا إلى سعيد بن العاص فأزْعِجاه وألْحِقاه بصاحبه ، فإن أبَى فاضربا عنقه وَأتياني برَأسه . . . (2) . وكان يزيد بن قَيْس ممّن سيّره عثمان (3) . ولمَّا استنفر أمير المؤمنين عليه السلام أهل الكوفة إلى حرب الجمل فخرجوا على الصَّعب والذَّلول كان رؤساؤهم . . .ويزيد بن قَيْس ، ومعهم أتباعهم وأمثال لهم ليسوا دونهم ، إلاّ أنَّهم لم يؤمَّروا ؛ منهم حُجْر بن عَدِيّ ؛ وابن مَحْدُوج البَكريّ وأشباه لهما (4) . وكان يوم الجمل معه راية أمير المؤمنين عليه السلام ، أخذها بعد أن أخذها عشرة من أهل الكوفة وقتلوا ، خمسة منهم من هَمْدان ، فأخذها يزيد وقال مُتَمَثِّلاً : قَدْ عِشْتِ يا نَفْسُ وَقَدْ غَنِيتِدَهْرا فقَطْكِ اليَومَ ما بَقِيتِ أطْلُب طولَ العُمْر ما حَييتِ فثبتت الرَّاية في يده (5) ولمَّا رجع عليّ عليه السلام من البصرة ونزل الكوفة ، بعث يزيد بن قَيْس الأرْحَبيّ على المَدائِن وجُوخَا كلِّها (6) . إلى أن أراد أمير المؤمنين عليه السلام أن يسير إلى الشَّام ، فدعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، وأحضر بعض عمَّاله من عظمائهم وشجعانهم ، فأستشارهم فقال كلُّ ما عنده من الرَّأي ، فدخل يزيد بن قَيْس فقال : يا أمير المؤمنين نحن على جَهاز وعدّة ، وأكثر النَّاس أهل قوَّة ، ومن ليس به بمضعَّف وليس به علَّة . فَمُرْ منادِيك فلينادِ النَّاس يخرجوا إلى معسكرهم بالنُّخيلَة ؛ فإنَّ أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النَّؤوم ، ولا مَن إذا أمكنَه الفُرَصُ أجَّلها واستشار فيها ، ولا من يؤخّر الحربَ في اليوم إلى غدٍ وبعد غد . فقال زياد بن النَّضْر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيدُ بن قيس (7) . [ و ] لمَّا توادع عليّ عليه السلام ومعاوية بصفِّين _ في شهر محرّم الحرام _ اختلفت الرُسل فيما بينهما رجاءَ الصُلح ، فأرسل عليّ بن أبي طالب إلى معاوية َ عَدِيّ بن حاتم ، وشَبَثَ بن رِبْعِيّ ، ويزيد بن قَيس ، وزياد بن خَصَفة ، فدخلوا على معاوية . . . وتكلَّم يزيد بن قَيْس الأرْحَبيّ فقال : إنَّا لم نأتِك إلاّ لنبلِّغك ، ما بُعثنا به إليك ، ولنؤدِّيَ عنك ما سمِعنا منك ، لن ندَعَ أن ننصحَ لك ، وأن نذكرَ ما ظنَنَّا أنّ لنا به عليك حجَّةً ، أو أنَّه راجعٌ بك إلى الأُلفة والجماعة ، إنَّ صاحبَنا لَمَن قد عَرَفتَ وعرف المسلمون فضلَه ، ولا أظنُّه يخفى عليك أنَّ أهل الدِّين والفضل لن يعدلوك بعليّ عليه السلام ، ولن يميِّلُوا (8) بينك وبينه . فاتّق اللّه يا معاوية ، ولا تخالف عليَّا ، فإنَّا واللّه ، ما رأينا رجلاً قطُّ أعملَ بالتَّقوى ، ولا أزْهَد في الدُّنيا ، ولا أجمَع لخصال الخير كلِّها منه (9) . [ و ] خطب يزيد بن قَيْس بصفِّين يحرّض النَّاس في اليوم السَّابع ، وكان من الأيّام العظيمة وذا أهوال شديدة ، قتل فيه عبد اللّه بن بُدَيْل الخُزاعِيّ _ فقال : إنَّ المسلم السَّليم مَن سلم دينُه ورأيه ، إنَّ هؤلاء القوم واللّه ، ما إن يقاتلونا على إقامة دينٍ رأونا ضيَّعناه ، ولا إحياء عدلٍ رأونا أمَتْناه ، ولا يقاتلونا إلاّ على إقامة الدُّنيا ؛ ليكونوا جبابرةً فيها ملوكا ، فلو ظهروا عليكم _ لا أراهم اللّه ظهورا ولا سرورا _ إذا ألْزَمُوكم مثلَ سعيدٍ والوليد وعبد اللّه بن عامر السَّفيه ، يحدِّث أحدهم في مجلسه بِذَيْتَ وذيت ، ويأخذُ مال اللّه ، ويقول : هذا لي ولا إثْمَ عليَّ فيه ، كأنَّما أعطى تُراثَه من أبيه ، وإنَّما هو مال اللّه أفاءه اللّه علينا بأسيافنا ورماحنا . قاتلوا عبادَ اللّه القومَ الظَّالمين ، الحاكمين بغير ما أنزل اللّه ، ولا تأخذْكم في جهادهم لومةُ لائم ؛ إنَّهم إن يظهروا عليكم يُفسِدوا دينَكم ودنياكم ، وهم مَن قد عرفتُم وجرَّبتُم . واللّه ، ما أرادوا إلى هذا إلاّ شرَّا . وأستغفر اللّه العظيم لي ولكم (10) . [ وقد ] عدَّه الشَّيخ في رجاله من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال : كان عامله على الرَّيّ وهَمْذان وإصبهان (11) . وقال أبو نعيم : يزيد بن قَيْس الأرْحَبيّ ولاّه عليّ بن أبي طالب إصبهان والرَّيّ وهمذان ، ففرَّق عليٌّ لمَّا مات ( يزيد ) عمله بين ثلاثة نفر ، فاستعمل مِخْنَف بن سُلَيْم على إصبهان ، وعُمَر بن سَلمة على هَمْدان ، وآخر على الرَّيّ (12) . هذا يزيد بن قَيْس ، وكلماته ، وعقائده ، ووثوق الأمير عليه السلام به ، وكفايته في عمله ، حَتَّى ولاّه عملاً فُرّق بعده بين ثلاثة من رجاله ، ولكن يظهر من الطَّبريّ أنَّه كان قبل نصبه للولاية على إصبهان من رؤساء الخوارج ، وهذا ممَّا أشكل عليّ ، فلا بأس بنقل عبارته بلفظها ، قال : لمَّا اعتزل الخوارج عليَّا سَنَة 37 أو 38 ، وثبت إليه الشِّيعة _ فقالوا : في أعناقنا بَيعة ثانية ، نحن أولياءُ مَن والَيت ، وأعداءُ مَن عادَيت . فقالت الخوارج : استبقتم أنتم وأهل الشَّام إلى الكُفر ، كَفَرَسَي رهان ، بايع أهلُ الشام معاوية على ما أحبّوا وكرهوا ، وبايعتم أنتم عليَّا على أنَّكم أولياءُ مَن والى وأعداءُ مَن عادَى . فقال لهم زياد بن النَّضْر : واللّه ، ما بسط عليٌّ يدَه إلاّ على كتاب اللّه عز و جل ، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه و آله ، ولكنَّكم لمّا خالفتموه جاءته شيعتُه ، فقالوا : نحن أولياء مَن والَيت ، وأعداءُ مَن عادَيت ، ونحن كذلك ، وهو على الحقّ والهدى ، ومَن خالفه ضالٌّ مُضِلّ . وبعث عليّ بن عبَّاس إليهم ، فقال : لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حَتَّى آتيك . فخرج إليهم حَتَّى أتاهم ، فأقبلوا يكلّمونه ، فلم يصبر حَتَّى راجعهم . . . وبعث عليّ زياد بن النَّضْر إليهم ، فقال : انظر بأيّ رؤوسهم هم أشدّ إطافة ، فنظر فأخبره أنَّه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيدَ بن قيس ، فخرج عليّ في النَّاس حَتَّى دخل إليهم ، فأتى فُسطاط يزيد بن قيس ، فدخله فتوضَّأ فيه وصلّى ركعتين ، وأمَّره على إصبهان والرَّيّ ، ثُمَّ خرج حَتَّى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عبَّاس . . . (13) . ذكر الطَّبريّ : أقبلت الخوارج ، فلمَّا أن دنَوا من النَّاس نادَوا يزيد بن قيس ، فكان يزيد بن قَيْس على إصبهان . فقالوا : يا يزيد بن قيس ، لا حُكْم إلاّ للّه ، وإن كرهتْ إصبهان ! (14) اشترك في الثَّورة على عثمان (15) ، وشهد الجمل (16) وصفِّين مع الإمام عليه السلام . وكان أحد الَّذين بعثهم الإمام عليه السلام إلى معاوية في حرب صفِّين (17) . مال إلى الخوارج في فتنتهم الَّتي أوقدوا نارها ، بَيْدَ أنّ الإمام عليه السلام فصله عنهم ، وولاّه على إصفهان والرَّي (18) . وكان مع الإمام عليه السلام في النَّهروان ، واحتجّ الخوارج على ذلك (19) . ولي المَدائِن (20) وجُوخَا (21) مدّةً ، ( ويبدو أنّ ذلك كان في الفترة الواقعة بين الجمل وصفِّين ) . (22) وبعد النَّهروان كان عامل الإمام عليه السلام على إصفهان (23) ، وهَمَدان (24) .
.
ص: 533
. .
ص: 534
. .
ص: 535
. .
ص: 536
. .
ص: 537
. .
ص: 538
140كتابه عليه السلام إلى الامام الحسن عليه السلامذكر محمَّد بن يعقوب الكليني في كتاب( الرَّسائل ) بإسناده إلى أبي جعفر بن عَنْبَسة ، عن عبَّاد بن زياد الأسدي ، عن عَمْر بن أبي المِقْدَام ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : لمَّا أقبَل أمير المؤمنين عليه السلام من صفِّين كتب إلى ابنه الحسن عليه السلام :« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منَ الوالِد الْفَانِ ، المُقِرِّ للزَّمانِ ، المُدْبِر العُمْرِ ، المُسْتَسْلِمِ لِلدَّهر ، الذَّامِ لِلدُّنيا ، السَّاكِنِ مسَاكِنَ المَوْتى ، والظَّاعِن عنْها غَدا ، إلى المولود المُؤَمِّل ما لا يُدْرَكُ ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَن قدْ هَلَكَ ، غَرَضِ الأسْقامِ ، ورَهِينَةِ الأيَّامِ ، ورَمِيَّةِ المَصائِبِ ، وعَبْدِ الدُّنيا ، وتاجِرِ الغُرُور ، وغَرِيم المَنايَا ، وأسيرِ المَوْتِ ، وحَلِيفِ الهُمُوم ، وقَرِين الأحْزان ، ونُصُبِ الآفاتِ ، وصَريعِ الشَّهواتِ ، وخَلِيفَةِ الأمْواتِ . أمَّا بعدُ ، فإنَّ فِيما تَبَيَّنْتُ من إدْبارِ الدُّنيا عَنِّي ، وجُمُوحِ الدَّهْرِ علَيَّ ، وإقبالِ الآخِرَةِ إليَّ ، ما يَزَعُنِي (1) عن ذِكْر مَن سِوايَ ، والإهْتِمام بما ورائيَ ، غيرَ أنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بي دُونَ هُموم النَّاس هَمُّ نفْسِي ، فَصَدفَنِي رأيي ، وصَرَفَني عن هوايَ ، وصَرَّحَ لي مَحْضُ أمْري ، فأفْضَى بي إلى جدٍّ لا يَكون فيه لَعِبٌ ، وصِدْقٍ لا يَشُوبُه كَذِبٌ ، ووَجَدْتُك بَعضِي ، بل وَجَدْتُك كُلِّي حَتَّى كأنَّ شَيْئا لو أصابَك أصابَني ، وكأنَّ الموت لوْ أتاك أتانِي ، فَعَنانِي من أمرك ما يَعْنِينِي من أمْر نَفسِي ، فَكَتَبْتُ إليك ، مُسْتَظِهرا (2) به إنْ أنَا بقيِتُ لكَ أو فَنيتُ . فإني أوْصِيك بتَقْوَى اللّه ، أي بُنَيَّ ، ولُزُوم أمرِه ، وعِمارَة قلبِك بذكْرِه ، والاعْتِصام بحَبْلِه ، وأيُّ سَبَب أوْثَقُ من سَبَبٍ بيْنَك وبَيْن اللّه ، إنْ أنْتَ أخَذْتَ به ؟ أحْيِ قَلْبَك بالمَوْعِظَة ، وأمِتْهُ بالزَّهْادة ، وقَوِّه باليَقِين ، ونَوِّرْه بالحِكْمَة ، وذَلِّلْهُ بِذِكْر المَوْت ، وقَرِّرْه بالفَناء ، وبَصِّرْه فجائِع الدُّنيا ، وحَذِّرْه صَوْلَةَ الدَّهر ، وفُحْشِ تَقَلُّبِ اللَّيالي والأيَّام ، واعْرِض عليْه أخبارَ الماضِين ، وذَكِّرْه بما أصابَ مَن كان قبلك من الأوَّلين ، وسِرْ في ديارِهم ، وآثارِهِم ، فانْظُر فيما فَعَلوا ، وعمّا انتقلوا ، وأيْنَ حَلُّوا ونَزَلُوا ، فإنَّك تَجِدُهُم قد انْتَقَلُوا عن الأحِبَّة ، وحَلُّوا ديارَ الغُرْبَة ، وكأنَّك عن قَلِيلٍ قد صِرْتَ كأحَدِهِم ، فأصْلِح مَثَواك ، ولا تَبْعِ آخِرَتَك بدُنْياك . ودَعِ القَوْل فِيما لا تَعْرِفُ ، والخِطابَ فِيما لم تُكَلَّف ، وأمْسِكْ عن طَريق إذا خِفْتَ ضَلالَتَه ، فإنَّ الكَفَّ عنْد حَيْرَة الضَّلالَ خَيْرٌ من رُكُوب الأهْوال ، وَأْمُر بالمَعْرُوف تَكُن من أهلِهِ ، وأنْكِر المُنْكَرَ بيدك ولسانِك ، وبايِنْ مَن فَعَلَه بجُهْدِك ، وجاهِدْ في اللّه حقَّ جهادِه ، ولا تأخُذْك في اللّه لوْمَةُ لائِم ، وخُضِ الغَمَرات للحقِّ حَيْثُ كان ، وتَفَقَّه في الدِّين ، وعَوِّدْ نفْسَك التَّصبّر على المَكْرُوه ، ونِعْمَ الخُلُقُ التَّصَبُرُ ، وأَلْجِئْ نفْسَك في الأُمور كلِّها إلى إلهِك ، فإنَّك تُلْجِئُها إلى كَهْف حَريزٍ ، ومانِعٍ عَزِيزٍ ، وأخْلِص في المسْألَة لِرَبِّكَ ، فإنَّ بيَده العَطاءَ والحِرْمانَ ، وأكْثِرِ الاسْتِخارَةَ ، وتَفَهَّم وَصِيَّتِي ، ولا تَذْهَبَنَّ عنْها صَفْحا ، فإنَّ خَيْر القَوْل ما نَفَعَ ، واعلَم أنَّه لا خَيْرَ في علْم لا يَنْفَع ، ولا يُنْتَفَعُ بعلْمٍ لا يَحِقُّ تَعَلُّمُه . أي بُنَيَّ إنَّي لَمَّا رأيْتُني قد بَلَغْتُ سِنَّا ، ورأيْتنِي أزْداد وَهْنا ، بادَرْتَ بوَصِيَّتِي إليك ، وأوردتُ خصالاً منْها ، قبْلَ أنْ يعْجَلَ بِي أجَلِي دُونَ أنْ أُفْضِي إليك بما في نفسِي ، وأن أُنْقَصَ في رأيِي كمَا نُقِصْتُ في جسمِي ، أو يَسْبِقَني إليك بَعْضُ غَلَبات الهَوى وفِتَنِ الدُّنْيا ، فتَكون كالصَّعْب النَّفُور ، وإنَّما قلْبُ الحَدَث كالأرض الخاليَة ما أُلقِي فيها من شَيء إلاَّ قَبِلَتْه ، فبادَرْتُك بالأدب قبْلَ أنْ يَقْسُو قَلبُك ، ويَشْتَغِل لُبُّك ، لتَسْتَقبِلَ بجِدِّ رَأيك من الأمْر ما قَدْ كفَاك أهْلُ التَّجارُب بُغْيَتَه وتَجْرِبَتَه ، فتَكونَ قَدْ كُفِيتَ مَؤونَة الطَّلب ، وعُوفِيتَ من عِلاج التَّجْرِبَة ، فأتاك من ذلِك ما قَدْ كنَّا نأتيه ، واسْتَبَان لَكَ ما رُبَّما أظْلَمَ علَيْنا منهُ . أي بُنَيَّ إنِّي وإنْ لم أكنْ عُمِّرتُ عُمُرَ مَنْ كانَ قَبْلِي ، فَقَدْ نَظَرْتُ في أعمالهم ، وفَكَّرتُ في أخبارِهِم ، وسِرْتُ في آثارهم ، حَتَّى عُدْتُ كأحَدِهِم ، بل كأ نِّي بما انْتَهى إليَّ مِن أُمُورهم قَدْ عُمِّرْتُ مع أوَّلهم إلى آخِرهِمِ ، فعرفْتُ صَفوَ ذلِك من كَدَرِهِ ، ونَفْعَهُ من ضَرَرِهِ ، فاسْتَخْلَصتُ لَكَ من كلِّ أمْر نخيلَهُ ، وتَوَخَّيتُ لَكَ جَميلَه ، وصَرَفْتُ عنْك مَجْهُولَه ، ورأَيتُ حيث عَنانِي من أمْرك ما يَعْنِي الوالِدَ الشَّفِيقَ ، وأجْمَعتُ علَيْه من أدَبك ، أنْ يكون ذلِك وأنْت مُقْبِلُ العُمْر ومُقْتَبَلُ الدَّهر ، ذُو نِيَّةٍ سَلِيمة ، ونفْسٍ صافِية ، وأنْ أبْتَدئك بتَعْلِيم كتاب اللّه وتأويلِه ، وشَرائِعِ الإسْلامِ وأحكامِهِ ، وحَلالِه وحرامِهِ ، لا أُجاوِزُ ذلِك بك إلى غَيْرِه ، ثُمَّ أشْفَقْتُ أنْ يَلْتَبِس علَيْك ما اخْتَلَف النَّاسُ فيْه من أهوائهم ، مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ علَيْهم ، فكانَ إحْكامُ ذلِك لَكَ على ما كَرِهْتُ من تَنْبِيْهِك لَهُ ، أحَبَّ إليَّ من إسلامِكَ إلى أمْرٍ لا آمَنُ علَيْك بهِ الهَلَكَةَ ، ورَجَوْتُ أنْ يُوَفِّقَك اللّه فيْه لِرُشْدك ، وأنْ يَهدِيَكَ لِقَصدِكَ ، فعَهِدْتُ إلَيْك وَصِيَّتِي هذه . واعْلَم يا بُنَيَّ أنْ أحَبَّ ما أنْتَ آخِذٌ به إليَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللّه ِ ، والاقْتِصارُ على ما فرَضَهُ اللّه ُ علَيْكَ ، والأخْذُ بما مَضى عليْه الأوَّلون من آبائك ، والصَّالحون من أهل بيتك ، فإنَّهم لم يَدَعُوا أنْ نَظَروا لأنفسهم كمَا أنْت ناظِرٌ ، وفَكَّروا كمَا أنْتَ مُفَكِّرٌ ، ثُمَّ رَدَّهم آخِرُ ذلِكَ إلى الأخذِ بما عَرَفُوا ، والإمْساكِ عمَّا لمْ يُكَلَّفوا ، فإنْ أبَتْ نفسُك أنْ تَقبَل ذلِكَ دُونَ أنْ تَعْلَمَ كمَا عَلِمُوا ، فَلْيَكُنْ طَلَبُك ذلِك بتَفَهُّمٍ وتَعَلُّمٍ ، لا بتَوَرُّط الشُّبُهات ، وغُلُوِّ الخصومات ، وابْدَأ قبْلَ نَظَرِكَ في ذلِكَ بالاستِعانَةِ بإلهِكَ ، والرَّغبةِ إليْهِ في تَوْفِيقِكَ ، وتركِ كلِّ شائِبَةٍ أولَجَتْكَ في شُبْهَةٍ ، أو أسْلَمَتْكَ إلى ضَلالَةٍ ، فإذا أيقَنْتَ أنْ قَدْ صَفى قَلْبُكَ ، فخَشَعَ ، وتَمَّ رأيُك فاجْتَمَعَ ، وكان هَمُّك في ذلِك هَمَّا واحدا ، فانْظُر فِيما فَسَّرْتُ لَكَ ، وإنْ أنْت لم يجتَمِعْ لَكَ ما تُحِبُّ مِن نَفسِكَ ، وفَراغِ نظَرِكَ وفِكْرِكَ ، فاعْلَم أنَّكَ إنَّما تَخْبِطُ العَشْواءَ ، وتَوَرَّطُ الظَّلماءَ ، ولَيْسَ طالِبُ الدِّين مَن خَبَطَ أو خَلَطَ ، والإمساكُ عن ذلِك أمْثَلُ ، فَتَفَهَّمْ يَابُنَيَّ وَصِيَّتِي، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ ، وَأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعيدُ ، وَأَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعافِي، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إلاّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللّه ُ عَلَيْهِ مِنْ النَّعْمَاءِ ، وَالاِبْتِلاَءِ ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لاَ نَعْلَمُ ، فَإنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ بِهِ فَإنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ خُلِقْتَ جَاهِلاً ثُمَّ عَلِمْتَ . وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ، ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ فاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ وَسَوَّاكَ ، وَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ وَإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَمِنْهُ شَفَقَتُكَ . وَاعْلَمْ يَابُنَيَّ أَنَّ أَحَدا لَمْ يُنْبئْ عَنِ اللّه ِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه و آله . فَارْضَ بِهِ رَائِدا ، وَإلَى النَّجَاةِ قَائِدا ، فَإنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً . وَإنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرَ لِنَفْسِكَ _ وَإنِ اجْتَهَدْتَ _ مَبْلَغَ نَظَريَ لَكَ . وَاعْلَمْ يَابُنَيَّ أنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَريكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ ، وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهِ ، وَلكِنَّهُ إلهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ . لاَيُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أحَدٌ ، وَلاَ يَزُولُ أَبَدا . وَلَمْ يَزَلْ أَوَّلَ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ بِلاَ أَوَّليَّةٍ ، وَآخِرَ بَعْدَ الْأشيَاءِ بِلا نِهَايَةٍ . عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبيَّتُهُ بِإحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَر . فَإذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ ، وقِلَّةِ مَقْدرَتِهِ ، وكَثْرَةِ عَجْزِهِ ، وَعَظيمِ حاجتِهِ إلى ربّه في طلب طاعته ، والرهبةِ مِنْ عُقوبتِهِ ، والشَّفقةِ مِنْ سُخْطِهِ ، فإنّهُ لم يأمرك إلاّ بحسن ، ولم ينهك إلاّ عن قبيح . وإنَّ أوَّل ما أبدؤك به من ذلِك وآخِرَه أنِّي أحْمَدُ اللّه إلهَ الأوَّلين والآخِرين ، وربَّ مَن في السَّماوات والأرضين ، بما هو أهلُه ، وكمَا يَجِبُ ويَنْبَغي له ، ونَسْألُه أنْ يُصلِّي على محمَّد وآل محمَّد ، صلَّى اللّه علَيْهم وعلى أنبِياء اللّه بصلاة جميعِ مَن صلَّى عليْه من خَلْقه ، وأن يُتِمَّ نعمتَه علَيْنا بما وَفَّقَنا له من مسْألته بالاستجابَة لَنا ، فإنَّ بِنعمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالحات . يا بُنَيَّ إنِّي قَدْ أنْبَأتُك عن الدُّنيا وحالها وانتِقالِها وزَوالِها بأهلها ، وأنبأتُك عن الآخِرة وما أعَدَّ اللّه لأهلها فيها ، وضَرَبْتُ لَكَ أمْثالاً لتَعْتَبِر بها وتَحْذُوا علَيْها . إنَّما مَثَلُ مَن خَبَر الدُّنيا مَثَلُ قَوْم سَفْرٍ نَبا بِهِم مَنْزِلٌ جَدِيبٌ ، فأمُّوا مَنْزِلاً خَصِيبا وجَنابا مَرِيعا فاحْتَمَلوا وَعْثاءَ الطَّريقِ ، وفِراقَ الصَّدِيق ، وخشُونَةَ السَّفَر في الطَّعام والمَنام وجُشُوبَةَ المَطْعَم ؛ ليَأتُوا سَعَةَ دارِهم ومَنْزِلَ قَرارِهم ، فلَيْسَ يَجِدون لشَيْء من ذلِك ألَما ، ولا يَرَوْن لِنَفَقةٍ مَغْرَما ، ولا شَيْء أحَبُّ إليْهم ممَّا قرَّبهم من منْزِلهم ، ومَثَلُ مَن اغترَّ بها كقوْم كانوا في منْزل خَصِيبٍ فنَبَا بِهم إلى منْزِل جَدِيب ، فليْس شَيْءٌ أكْرَه إليْهم ولا أفْظَعَ عندهم من مُفارَقَة ما هم فيْه ، إلى ما يَهْجُمُون علَيْه ويَصِيرون إليْه . ثُمَّ فَزَعْتُك بأنْواع الجَهالاتِ ، لئَلاَّ تعُدَّ نفسَك عالِما ، لأنَّ العالم مَن عرَف أنَّ ما يَعْلَمُ فِيما لا يَعْلَمُ قَلِيلٌ ، فَعَدَّ نفسَه بذلِك جاهِلاً ، وازْدادَ بما عرَف من ذلِك في طلب العِلم اجتهادا ، فما يَزالُ للْعِلم طالِبا ، وفيه راغبِا ، ولَه مسْتَفِيدا ، ولأهلِه خاشِعا ، ولرأيه مُتَّهِما ، وللصَّمْتِ لازِما ، وللخطأ جاحِدا ، ومنه مُسْتَحِييا ، وإنْ وَرَدَ عليْه مالا يعرِفُ لم يُنْكِر ذلِك ، لِما قَرَّر به نفسَه من الجِهالة ، وإنَّ الجاهل مَن عَدَّ نفسَه لِما جهِل من معرفة العلم عالِما ، وبرأيِه مكْتَفِيا ، فما يَزالُ للعلماء معانِدا ، وعليْهم زارِيا ، ولِمَن خالَفه مُخَطِّئا ، ولِما لا يعرِفُ مِنَ الأُمورِ مُضَلِّلاً ، فإذا ورَدَ عليْه من الأمر ، مالا يعْرِفُه أنْكَرَه وكَذَّبَ به ، وقال بجَهالَته : ما أعرِف هذا ، وما أراهُ كان ، وما أظُنُّ أنْ يكون ، وأنَّى كان ولا أعرِف ذلِك ، لِثِقَتِه برأيِه ، وقِلَّةِ معْرِفَتهِ بجَهالَتهِ ، فَما يَنْفَكُّ ممَّا يرى فِيما يَلْتَبِسُ علَيْه برأيه ، ممَّا لا يَعرِفُ للجَهلِ مُسْتفيدا ولِلحقِّ مُنْكِرا ، وفي اللَّجاجَة متجرِّئا ، وعن طلب العلم مسْتَكْبِرا . يا بُنَيَّ فتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي ، واجعَل نفسِك ميزانا فِيما بينك وبين غَيْرِك ، فأحْبِبْ لغَيْرِك ما تُحبُّ لنفسِك ، واكْرَه له ما تَكْرَه لها ، ولا تظْلِم كمَا لا تُحبُّ أنْ تُظْلَم ، وأحْسِن كمَا تُحبُّ أنْ يُحْسَنَ إليْكَ ، واسْتَقْبِحْ لِنفسِكَ ما تسْتَقْبِحُ من غَيْرِك ، وارْضَ من النَّاس بما تَرْضَاه لهم مِن نفسك ، ولا تَقُل ما لا تَعلَم ، بل لا تَقُل كلَّ ما عَلِمْت ، ممَّا لا تُحبُّ أنْ يُقال لَكَ . واعلَم أنَّ الإعجابَ ضِدُّ الصَّوابِ وآفةُ الألبابِ فاسعَ في كَدْحِكَ ، ولا تَكُنْ خازِنا لِغَيْرِكَ ، وإذا هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أخْشَعَ ما تكونُ لِرَبِّكَ . واعلم يا بُنَيَّ أنَّ أمامَك طريقا ذا مَسافَة بعيدَةٍ ومَشَقّة شديدةٍ ، وأهوالٍ شديدَةٍ ، وأنَّه لا غِنى بِكَ فِيْهِ عَن حُسْنِ الإرتيادِ ، وقَدِّرْ بلاغَكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ ، فَلا تَحْمِلَنَّ على ظَهْرك فوْقَ بلاغِك فيكونُ ثقِيلاً ووَبالاً علَيْك ، وإذا وجدْتَ مِن أهْلِ الفاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ زادَك إلى يوْم القِيامَةِ فيُوافِيكَ بِهِ غَدا ، حَيْثُ تَحتاجُ إليْهِ فاغْتَنِمْهُ ، وحَمِّلْهُ إيَّاهُ ، واغْتَنِم مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حالِ غِناكَ ، وجعَلَ يوم قضاءه لك في يَومِ عُسْرَتِكَ ، وحمِّلْه إيَّاه ، وأكْثِر مِن تَزْويدِهِ وأنت قادرٌ ، فلَعلَّك تطلُبُه فلا تَجِدُهُ . واعْلَم أنَّ أمامَك عَقَبَةً كَؤودا المُخِفُّ فيها أحسنُ حالاً مِنَ المُثقلِ، والمُبْطئ عليها أقبحُ حالاً من المُسرعِ، وأنّ مهبطَكَ بها لا محالَةَ ، علَى جنَّة أو نارٍ ، فارْتَدْ لنَفسِكَ قبلَ نزُولِكَ ووَطِّئَ المَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ ، فليْسَ بعدَ الموْت مسْتَعْتَبٌ ، ولا إلى الدُّنيا مُنْصَرَفٌ . واعلَم أنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزائِنُ مَلَكوتِ الدُّنيا والآخِرَةِ قَدْ أذِنَ لِدُعائِكَ ، وتَكَفَّلَ لإجابَتِكَ ، وأمَرَك أنْ تسْأَلَه ليُعْطِيَكَ وتستَرْحِمَه ليَرْحَمَك ، وهو رَحيمٌ كريمٌ ، لم يَجعل بينك وبينَه مَن يَحْجُبُك عنه ، ولم يُلْجِئْك إلى مَن يَشْفَعُ لَكَ إليْهِ ، ولم يَمْنَعْكَ إنْ أسَأْتَ مِنَ التَّوبَةِ ، ولم يُعَيِّرْكَ بالإنابَةِ ، ولم يُعاجِلْكَ بالنَّقِمَةِ ، ولم يَفْضَحْكَ حَيْثُ تَعَرَّضْتَ للْفَضِيحَةِ ، ولم يُناقِشْكَ بالجَريْمَةِ ، ولم يُؤيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ ، ولم يُشَدِّدْ علَيْك في التَّوبَةِ ، فجَعَل توْبَتَك التَّوَرُّعَ مِنَ الذَّنْبِ ، وحَسَبَ سَيِّئَتَك واحِدَةً ، وحَسَنَتَكَ عَشْرا ، وفَتَحَ لَكَ بابَ المَتابِ والاستِعْتابِ ، فمَتَى شِئْتَ نادَيْتَهُ سمِع نِداءَكَ ونَجْواك ، فأفْضَيْتَ إليْه بحاجَتِك ، وأبْثَثْتَهُ ذاتَ نَفسِكَ ، وشكوْتَ إليْه هُمُومَك ، واسْتَكْشَفْتَه كرُوبَكَ ، واسْتَعَنْتَه على أُمورِكَ ، وسألتَه مِنْ خزائِنِ رحْمَتِهِ ما لا يَقدِرُ على إعطائِهِ غَيْرُهُ : مِن زيادة الأعْمارِ ، وصِحَّةِ الأبْدانِ ، وسِعَة الأرزاق ، ثُمَّ جَعَل في يَديْكَ مفاتيحَ خزائنِهِ ، بِما أذِنَ فيْه مِن مَسْألَتِهِ ، فمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بالدُّعاء أبوابَ خزائِنِهِ ، فألْحِحْ علَيْهِ بِالمَسألَةِ يَفْتَحْ لَكَ بابَ الرَّحْمَةِ ، ولا يُقْنِطُكَ إنْ أبطَأَتْ عَلَيْكَ الإجابَةُ ، فإنَّ العَطِيَّةَ على قَدْرِ المَسألَةِ ، ورُبَّما أُخِّرَتْ عَنْكَ الإجابةُ لِيَكونَ أطوَلَ في المَسْألَةِ ، وأجْزَلَ للعَطِيَّةِ ، ورُبَّما سألْتَ الشَيْء فلا تُؤتاه فلم تَؤْتِه ، وأُوتَيْتَ خَيْرَا منْه عاجِلاً أو آجِلاً ، أو صِرْتَ إلى ما هو خَيْرٌ لَكَ ، فَلَرُبَّ أمْرٍ قَدْ طلَبْتَهُ فيْهِ هَلاكُ دينِكَ ودُنياكَ لو أُوْتِيتَهُ ، ولتكن مسألتُك فِيما يَعْنِيكَ ممَّا يَبْقى لَكَ جَمالُهُ ، ويُنْفى عنْك وَبالُهُ ، فإنَّ المال لا يَبْقى لَكَ ولا تَبْقى لَهُ ، فإنَّه يوشَك أنْ تَرى عاقِبَةَ أمْرِك حَسَنا أو سَيِّئا أو يَعْفُوَ العَفُوُّ الكريم . واعلَم يا بُنَيَّ أنَّك إنَّما خُلِقْتَ للآخِرةِ لا للدُّنيا ، وللفَناءِ لا للبَقاءِ ، وللموْتِ لا للحَياةِ ، وأنَّك في مَنْزِلِ قُلْعَةٍ ودارِ بُلْغَةٍ ، وطريقٍ إلى الآخِرَةِ ، وأنَّك طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لا يَنْجو منه هارِبُهُ ، ولابُدَّ أنَّه مُدْرِكهُ ، فكن منْه على حذَرٍ أنْ يدرِكَك وأنت على حالٍ سَيِّئةٍ قَدْ كنتَ تُحَدِّثُ نفسَك منْها بالتَّوبَةِ ، فيَحُولَ بينك وبين ذلِك ، فإذا أنْتَ قَدْ أهلَكْتَ نَفسَكَ . يا بُنَيَّ أكْثِر مِنْ ذِكْرِ المَوْتِ ، وذكْرِ ما تَهْجُمُ عَليْهِ ، وتُفْضي بَعْدَ الموْتِ إليْهِ ، واجعلْه أمامَكَ حَيْثُ تَراه ، حَتَّى يأتيك وقد أخذْتَ منْه حِذْرَك ، وشَدَدْتَ لَهُ أزْرَكَ ، ولا يأتيك بَغْتَةً فَيَبْهَرَك ، ولا يأخُذَك على غِرَّتِك ، وأكْثِر ذكْر الآخِرة وما فيها من النَّعيم والعذاب الأليم ، فإنَّ ذلِك يُزَهِّدُك في الدُّنيا ويُصَغِّرُها عِنْدَكَ . وإيَّاك أنْ تَغْتَرَّ بما تَرى من إخْلاد أهل الدُّنيا إليْها ، وتَكالُبِهِم عليْها ، فَقَدْ نَبَّأك اللّه جل جلالهعنْها ، ونَعَتْ لَكَ نفسَها ، وتَكَشَّفَتْ لَكَ عَن مَساوِيها ، فَإنَّما أهلُها كِلابٌ عاوِيَةٌ ، وسِباعٌ ضارِيةٌ ، يَهِرُّ بعضُها بعْضا ، ويأكُلُ عزيزُها ذليلَها ، ويَقْهَر كبيرُها صغِيرَها ، وكثيرُها قَلِيلَها ، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ ، وأخرَى مُحْفَلَةٌ مُهْمَلَةٌ ، قَدْ أضَلَّت عقُولَها ، ورَكِبَتْ مَجْهُولَها ، سُروحُ عاهَةٍ في وادِ وَعْثٍ ، ليْسَ لها راعٍ يُقِيمُها ، ولا مُسِيمٌ يُسيمُها ، لَعِبَتْ بهم الدُّنيا ، فَلَعِبُوا بها ، ونَسُوا ما وَراءَها ، رُوَيْدا حَتَّى يُسْفِرَ الظَّلامُ ، كأن ورَبِّ الكعْبة ، يوشَك مَن أسْرَع أنْ يلْحَق . واعلْم يا بُنَيَّ ، أنَّ كلَّ مَن كانت مَطِيَّتُه اللَّيْلَ والنَّهارَ فإنَّهُ يُسارُ به ، وإنْ كان لا يَسِيْر ، أبَى اللّه إلاّ خَرابَ الدُّنيا وعِمارَةَ الآخِرة . يا بُنَيَّ ، فإنْ تَزْهَد فِيما زَهَّدْتُكَ فيْه وتَعْزِفُ نفسُكَ عنْها فهي أهلُ ذلك ، وإنْ كنْتَ غَيْرَ قابِلٍ نَصِيحَتي إيَّاك فيْها ، فاعلَم يقينا أنَّك لن تَبْلُغَ أمَلَك ، ولا تَعْدُو أجلَكَ ، فإنَّك في سبيل مَن كان قبلَك ، فخَفِّضْ في الطَّلَبِ ، وأجمِل في المُكْتَسَبِ ، فإنَّه ربَّ طَلَبٍ قَدْ جرَّ إلى حَرْب ، وليس كلُّ طالب بناجٍ ، ولا كلُّ مُجْمل بمُحْتاج ، وأكرِم نفسَك عن كلّ دَنِيَّة ، وإن ساقَتْك إلى الرَّغائِب ، فإنَّك لن تُعتاض بما تَبْذُلُ شَيْئا من دِينك وعِرْضِك بثَمَن ، وإنْ جَلَّ . ومِن خَيْرِ حَظِّ امْرى ءٍ قَرينٌ صالِحٌ ، فقارِنْ أهلَ الخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُم ، وبايِنْ أهلَ الشَرِّ تَبِنْ مِنْهم ، لا يَغْلِبنَّ علَيْك سُوْءُ الظَّن ، فإنَّه لا يَدَعُ بينك وبينَ صَدِيقٍ صَفْحا ، بئس الطَّعام الحَرامُ ، وظُلْمُ الضَّعيف أفْحَشُ الظُّلم ، والفاحِشَةُ كاسْمِها ، والتَّصَبُّرُ على المَكروهِ يَعْصِمُ القلْبَ ، وإذا كان الرِّفْقُ خُرْقا كان الخُرْقُ رِفقا ، ورُبَّما كان الدَّاءُ دواءً ، ورُبَّما نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ ، وغَشَّ المُسْتَنْصَحُ المُتَنَصِّحَ . إيَّاك والإتَّكال على المُنى ، فإنَّها بَضائِعُ النَّوْكى ، زكِّ قلبَك بالأدَبِ كمَا يُذكْى النَّارُ بالحَطَبِ ، لا تَكن كَحاطِب اللَّيْلِ ، وغُثاءِ السَّيْلِ ، وكُفرُ النِّعمَةِ لُؤْمٌ ، وصُحْبَةُ الجاهِلِ شُؤمٌ ، والعقلُ حِفْظُ التَّجارب ، وخَيْر ما جَربْت ما وَعَظَكَ ، ومن الكَرَمِ لِينُ الشِّيَم ، بادِر الفُرصَة قبْل أنْ تكون غُصَّةً ، ومن الحَزْم العَزْم ، ومن سَبَب الحِرمان التَّوانِي ، لَيْسَ كلّ طالِب يُصيبُ ، ولا كلّ غائِب يَؤُوبُ ، ومن الفَساد إضاعَةُ الزَّاد ، ومَفْسَدةُ المَعاد ، لكلِّ امْرئ عاقِبَةٌ ، رُبَّ يَسِير أنْمَى من كَثير ، ولا خَيْرَ في مُعِين مَهِينٍ ، ولا في صَدِيق ظَنِين ، ولا تَبيتَنَّ من أمر على عُذْرٍ ، مَن حَلُم سادَ ، ومَن تَفَهَّم ازدادَ ، ولقاءُ أهلِ الخَيْر عِمارَةُ القلْبِ ، ساهِلِ الدَّهرَ ما ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ . وإيَّاك أنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجاج ، وإنْ قارَفْتَ سَيِّئَةً فعَجِّلْ مَحوَها بالتَّوبَةِ ، ولا تَخُنْ مَنْ ائتَمَنَكَ وإنْ خانَكَ ، ولا تُذِعْ سِرَّهُ وإن أذاعَ سِرَّكَ ، ولا تُخاطِرْ بشَيْء رَجاءَ أكْثَر منْه ، واطلُب فإنَّه يأتيك ما قَسَم لَكَ ، والتَّاجِر مُخاطِرٌ ، خُذْ بالفَضْلِ ، وأحْسِنْ البَذْلَ ، وقُل للنَّاسِ حُسْنا ، وأحسنُ كَلِمَة حِكَم جامعَةٍ أنْ تُحِبُّ للنَّاس ما تُحِبُّ لنفسِك ، وتَكْرَهَ لَهُم ما تُكرَهُ لَها ، إنَّك قلَّ ما تَسْلَمُ ممَّن تَسَرَّعْتَ إليْهِ أنْ تَنْدَمَ أو تَتَفَضَّلَ علَيْه . واعلَم أنَّ من الكَرَم الوَفاءُ بالذَّمَم ، والدَّفْعُ عن الحُرَم ، والصُّدود آيَةُ المَقْتِ ، وكَثْرَةُ التَّعلُّل آيَةُ البُخْلِ ، ولَبَعضُ إمساكِكَ على أخِيْكَ مَعَ لُطْفٍ خَيْرٌ من بَذْلٍ مَعَ عُنْفٍ ، ومِنَ الكَرَم صِلةُ الرَّحِم ، ومَن يَثِقُ بِكَ أو يَرجو صلَتَك ، أوْ يرْجُوك أو يَثِقُ بصلتَك إذا قَطَعْتَ قَرابَتَك ، والتَّجَرُّم (3) وجْهُ القطِيعَة ، إحْمل نفسَك من أخيك عنْد صَرْمه إيَّاك على الصِّلَة ، وعند صُدُودِهِ علَى لُطْفِ المَسألَةِ ، وعِنْدَ جُمُودِهِ علَى البَذْلِ ، وعنْد تَباعُدِهِ علَى الدُّنُوِّ ، وعِنْدَ شِدَّتِهِ علَى اللِّينِ ، وعنْد تجَرُّمِهِ على الإعذارِ ، حَتَّى كأنَّك لَهُ عبْدٌ ، وكأنَّه ذو نِعْمَة علَيْكَ ، وإيَّاك أنْ تضَعَ ذلِكَ في غَيْر موْضِعِهِ ، أو تفْعَلَهُ في غَيْر أهلِهِ . ولا تَتَّخِذَنَّ عدُوَّ صَدِيقك صديقا فتُعادِي صدِيقَكَ ، ولا تَعمَلْ بالخَدِيعَةِ ، فإنَّها خُلُقٌ لَئِيم ، وامْحَض أخاك النَّصيحة حَسَنةً كانت أو قبِيحَةً ، وساعِدْهُ على كلِّ حالٍ ، وزُلْ مَعَهُ حَيْثُ زال ، ولا تَطْلُبَنَّ مجازاتِ أخِيكَ وإنْ حَثا التُّرابَ بفِيكَ ، وجُدْ على عدُوِّك بالفَضْلِ ، فإنَّه أحرَى للظَّفَر ، وتسَلَّم من الدُّنيا بحُسِنِ الخُلُقِ ، وتَجرُّعِ الغَيْظَ ، فإنِّي لم أرَ جُرْعَةً أحْلَى منْها عاقِبَة ولا ألَذَّ منْها مَغَبَّةً ، ولا تَصْرِم أخاك على ارْتِياب ، ولا تَقْطَعْه دُونَ استعتابٍ ، ولِنْ لمَن غالَظَكَ ، فَإنَّهُ يوشَك أنْ يَلِين لَكَ . ما أقبَحَ القَطِيعةَ بَعْدَ الصِّلَةِ ، والجَفاءَ بَعْدَ الإخاءِ ، والعَداوَةَ بعْدَ المَوَدَّةِ ، والخِيانَةَ لِمَنِ ائتَمَنَكَ ، والغَدْرَ بِمَنِ استأمَنَ إليْكَ ، وإن أنْتَ غَلَبَتْكَ قَطِيعَةُ أخِيكَ فاسْتَبِق لَهُ مِن نَفسِكَ بَقِيَّةً يرجِعُ إليْها إنْ بَدَا له ذلِك يوْما ما ، ومَن ظَنَّ بِكَ خَيْرا فصَدِّق ظَنَّهُ ، ولا تُضيِّعَنَّ حَقَّ أخِيكَ اتِّكالاً على ما بَيْنَكَ وبَيْنَهُ ، فإنَّه لَيْسَ لَكَ بأخ مَنْ أضَعْتَ حَقَّهُ . ولا يَكُنْ أهلُكَ أشْقَى النَّاسِ بِكَ ، ولا تَرْغَبنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ ، ولا يكونَنَّ أَخوكَ أقوَى علَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ علَى صِلَتِهِ ، ولا يَكُونَنَّ على الإساءَةِ أقوَى مِنْكَ علَى الإحْسانِ ، ولا على البُخْلِ أقوَى مِنْكَ علَى البَذْلِ ، ولا علَى التَّقْصِيرِ مِنْكَ علَى الفَضْلِ ، ولا يكْبرَنَّ عَلَيْكَ ظُلم مَن ظَلَمكَ ، فَإنَّه إنَّما يسْعَى في مَضَرَّتِهِ ونَفْعِكَ ، ولَيْسَ جَزاءُ مَن سَرَّك أنْ تَسُوءَه . واعلَم يا بُنَيَّ ، أنَّ الرِزقَ رِزقان : رِزقٌ تَطْلُبُه ، ورِزقٌ يَطْلُبُكَ ، فإنْ لم تَأتِه أتَاك . واعلَم يا بُنَيَّ أنَّ الدَّهر ذُو صُرُوفٍ ، فلا تكن ممَّن يَشْتَدُّ لائِمِتُه ، ويقِلُّ عنْد النَّاس عُذْرُه ، ما أقبحَ الخُضوعَ عنْدَ الحاجَة ، والجَفاءَ عِنْدَ الغَناء ، وإنَّما لَكَ من دُنياك ما أصْلَحْتَ بهِ مَثْواكَ ، فأنْفِق في حقٍّ ، ولا تَكن خازِنا لغَيْرِك ، وإنْ كنتَ جازَعا على ما يَفْلِت من بين يديك ، فاجْزَع على ما لم يَصِل إليْك ، واستَدْلِل على ما لم يكن بما كان ، فإنَّما الأمور أشْباهٌ ، ولا تكَفِّر نعْمَة ، فإنَّ كُفْر النِّعْمَة من ألْأمِ الكُفْرِ . واقْبَل العُذْرَ ، ولا تكونَنَّ مِمَّن لا ينْتَفِعُ مِنَ العِظَةِ إلاَّ بما لَزِمَهُ إزالَتُهُ ، فَإنَّ العاقِلَ يَتَّعِظُ بالأدَبِ ، والبَهائِمُ لا تَتَّعِظُ إلاَّ بالضَّرْبِ ، إعْرِف الحَقَّ لِمَنْ عرَفَهُ ، رَفِيعا كانَ أو وَضِيعا ، واطْرَح عَنْكَ وارِداتِ الهُمُومِ بعَزائِمِ الصَّبرِ وحُسْنِ اليَقِين . مَن تَرَك القصْدَ حادَ ، ونِعْمَ حَظُّ المَرْءِ القُنُوعُ ، ومن شَرِّ ما صَحِبَ المَرْءُ الحَسَدُ ، وفي القُنوطِ التَّفريطُ ، والشُّحُّ يَجلِبُ المَلامَةَ ، والصَّاحِبُ مُناسِبٌ ، والصَّدِيقُ مَن صَدَقَ غَيْبُهُ ، والهَوى شَرِيكُ العَمَى ، ومِنَ التَّوفِيقِ الوُقُوفُ عِنْدَ الحِيَرةِ ، ونِعْمَ طارِدُ الهُمُومِ اليَقينُ ، وعاقِبَةُ الكَذِبِ النَّدَمُ ( الذَّمُّ ) وفي الصِّدْق السَّلامَة . ورُبَّ بعِيدٍ أقْرَب من قَرِيبٍ ( ورُبَّ قَريب أبْعَدُ من بَعيدٍ ) والغَريبُ مَن لم يَكن له حَبِيبٌ ، لا يَعْدِمُك من شَفِيق ( مِن حَبِيبٍ ) سُوءُ الظَّنِّ ، ومَن حَمَّ ظَمَأَ ، ومَن تَعَدَّى الحَقَّ ضاقَ مَذْهَبُه ، ومَن اقْتَصَر على قَدْرِه كان أبْقى له . نِعْم الخُلُق التَّكرُّمُ ، وألْأمُ اللُّؤم البَغي عنْد القدْرَة ، والحَياءُ سَبَبٌ إلى كلِّ جَمِيلٍ ، وأوْثَقُ العُرى التَّقوى ، وأوْثَقُ سَبَبٍ أخَذْتَ به سَبَبٌ بينك وبين سرَّك مَن أعْتَبَك ، والإفراط في المَلامَة يَشِبُّ نِيرانَ اللّجاجَة ( اللَّجاج ) كم مِن دَنِفٍ ( قَدْ ) نجَى ، وصَحِيحٍ قَدْ هَوَى ، وقد يكون اليأسُ إدراكا إذا كان الطَّمع هلاكا ، ولَيْس كلُّ عَوْرَة تظْهَرُ ، ولا ( كلُّ ) فَريضَة تُصابُ ، ورُبَّما أخطأ البَصيرُ قصْدَه ، وأصابَ الأعْمى رُشْدَه ، وليْس كلُّ مَن طَلَب وَجَد ، ولا كلُّ مَن تَوَقَّى نَجى . أخِّر الشَّرَّ فإنَّك إذا شِئت تَعَجَّلْتَه وأحسِن إنْ أحْبَبْت أنْ يُحْسَن إليْك ، ( و ) احْتَمِل أخاك على ما فيْه ، ولا تُكْثِر العِتابَ ، فإنَّه يورِثُ الضَّغِينَةَ ( ويَجرُّ إلى البغْضَة ) ، واسْتَعْتِب مَن رَجَوْتَ عُتْباهُ ، وقَطِيعَةُ الجاهِلِ تَعْدِل صِلَة العاقِل ، ومن الكَرَم مَنْعُ الحَزْم ، مَن كابَر الزَّمان عَطِب ، ومَن تَنَقَّم علَيْه غَضِبَ . ما أقْرَبَ النَّقِمَة من أهْل البَغْي ، وأخْلَقَ بمَن غَدَرَ إلاَّ يُؤفى له ، زَلَّةُ المتَوَقِّي أشَدُّ زَلَّةٍ ، وعِلَّةُ الكِذب أقْبَحُ عِلَّة ، والفَسادُ يُبِيرُ الكَثِيرَ ، والاقتِصادُ يُنْمي اليَسِير ، والقِلَّةُ ذِلَّةٌ ، وبِرُّ الوالدَيْن من أكْرَم الطِّباع ( مِن كَرَم الطَّبيعَة ) ، والمخافِتُ شَرَّا يَخاف ، والزَّلَلُ مع العَجَل ، ولا خَيْرَ في لَذَّةٍ تَعْقِب نَدَما ، العاقلُ مَن وَعَظَتْه التَّجارب ، ورَسُولُك تَرجُمان عقلِك ، والهُدَى يَجْلُو العَمى ، ولَيْسَ مع الخِلاف ائتلافٌ . مَن خَبَر خوَّانا فَقَدْ خان ، لَنْ يُهلِك مَن اقْتَصد ، ولَنْ يَفْتَقِر مَن زَهد ، يُنْبِئُ عن أمْر دَخيلُه ، رُبَّ باحِثٍ عن حَتْفِه ، ولا تَشُوبَنَّ بثِقَةٍ رَجاءً ، وما كلُّ ما يُخْشى يَصيِرُ ، ولَرُبَّ هزْلٍ قَدْ عادَ جِدا ، مَن أمِن الزَّمان خانَه ، ومَن تعَظَّم عليْه أهانَه ، ومَن تَرَغَّمَ عليْه أرْغَمَه ، ومَن لَجَأ إليْه أسْلَمَه ، ولَيْسَ كلُّ مَن رَمَى أصابَ ، وإذا تَغَيَّر السُّلطانُ تَغَيَّر الزَّمان ، خَيْرُ أهْلِك مَن كَفاك ، المزاحُ يُورِث الضَّغائِن ، أعْذَرَ مَن اجْتَهد ، ورُبَّما أكْدَى الحَرِيص . رأسُ الدِّين صِحَة اليَقين ، وتمامُ الإخلاص تَجَنُّب ( تَجَنُّبك ) المعاصي ، وخَيْرُ المَقال ما صَدَّقَه الفِعال ، السَّلامةُ مع الاسْتِقامَة ، والدُّعاء مِفتاحُ الرَّحمة ، سَلْ عن الرَّفيق قبلَ الطَريق ، وعن الجَار قبلَ الدَّار ، وكنْ من الدُّنيا على قلْعَةٍ ، أجمِل مَن أذَلَّ علَيْك ، ( كذا ) واقْبِل عُذْرَ مَن اعْتَذَر إليْك ، وخُذْ العَفْو من النَّاس ، ولا تَبْلُغ من أحدٍ مكْرُوها ، أطِع أخاك وإنْ عَصاك ، وصَلْه وإنْ جَفاك ، وعَوِّد نفسَك السَّماح ، وتَخَيَّر لها مِن كلِّ خُلْقٍ أحسنَه ، فإنَّ الخَيْرَ العادَةُ . وإيَّاك أنْ تكْثِر من الكَلام هَذَرا ، وأنْ تكون مضْحِكا ، وإنْ حَكَيْتَ ذلِك عن غَيْرك ، وأنْصِف من نفسك ( قبلَ أنْ يُنْتَصَف منك ) . وإيَّاك ومشاوَرَة النِّساء ، فإنَّ رأيَهنَّ إلى الأفَن ، وعَزْمَهُنَّ إلى الوَهَن ، واكفُفْ عليْهِنَّ مِن أبصارِهنَّ بحِجابِك إيَّاهنَّ ، فإنَّ شِدَّة الحِجاب خَيْرٌ لَك ولَهنَّ مِن الارتِياب ، ولَيْسَ خروجُهُنَّ بأشدّ من دُخول مَن لا يُوثَقُ به عليهِنَّ ، وإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ لا يعْرِفنَ غَيْرَك من الرِّجال فافعل ، ولا تُمَلِّك المَرأة من الأمر ( من أمرها ) ما جاوز نفسها ، فإنَّ ذلِك أنْعَمُ لحالِها ، وأرْخَى لِبالِها ، وأدْوَمُ لجمالِها ، فإنَّ المرأة رَيْحانَةٌ ، وليسَتْ بقَهرِمانَة ، ولا تَعْدُ بكَرامَتها نفسها ، ولا تُطمِعْها في أنْ تَشْفَع لغَيْرها ( بغَيْرها ) ، فَيَميِل مَن شَفَعْت له علَيْك معها ، ولا تُطِل الخلْوَةَ مع النِّساء ، فيُمَلِّلَنَّك وتُمَلِّلُهُنَّ ، واستَبْق من نفسك بقيَّةً ، فإنهَّ إمْساكَك عنهنَّ وهُنَّ يَرَيْنَ أنَّك ذو اقْتِدارٍ خَيْرٌ من أنْ يَعْثُرن ( يظْهَرنَ ) منْك على انْكِسار ( علَى انْتِشار ) . وإيَّاك والتَّغايُر في غَيْر موْضِع الْغِيْرة ( غِيرَةٍ ) ، فإنَّ ذلِك يدْعُو الصَّحِيحَةَ مِنهُنَّ إلى السَّقم ( والبَريئة إلى الرَّيْب ) ، ولكنْ أحْكِم أمْرَهنَّ ، فإنْ رأيْتَ عَيْبا ( ذنْبا ) فعَجِّل النَّكِيرَ على الكَبير والصَّغير . وإيَّاك أنْ تُعاقِب فيَعْظمُ الذَّنْب ويَهُونُ العَتبُ ، ولا تكُن عبْدَ غَيْرك وقد جعَلَك اللّه حُرَّا ، وما خَيٌْر بخَيْر لا يُنال إلاَّ بشَرٍّ ، ويُسْر لا يُنال بعُسْر . وإيَّاك أنْ تُوجِفَ بك مطايَا الطَّمع ( فتُورِدَك مناهِل الهَلَكَة ) ، وإنْ استطعتَ أنْ لا يكون بينك وبين اللّه ذو نِعْمَة فافْعل ، فإنَّك مُدْرِكٌ قِسَمَك وآخِذٌ سَهْمَك ، وإنَّ اليسيرَ من اللّه أكْرَمُ وأعظمُ من الكَثير من خَلْقه ، وإنْ كان كلٌّ منْه ، فإنْ نظرتَ _ فلله المثلُ الأعلَى _ فِيما تَطْلُبُ من المُلوك ومن دونهم من السَّفَلَة ؛ لعَرَفْت أنَّ لَكَ في يسير ما تطلُبُ ( تُصِيبُ ) من المُلُوك إفتخارا ، وأنَّ علَيْك في كَثير ما تطلُب من الدُّناة عارا ، إنَّك لَيْسَ بائعا شَيْئا من دينك وعِرضك بثَمَنٍ ، والمغْبُون مَن غَبَن نفسَه من اللّه ، فخُذ من الدُّنيا ما أتاك ، وتولَّ ممَّا تولَّى عنْك ، فإنْ أنْتَ لم تَفعَل فأجْمَل في الطَّلَب . وإيَّاك ومقارَبَة مَن رَهِبْتَه على دينك وعِرضك ، وباعِد السُّلطان لتَأمَنَ خُدَع الشَّيطان ، وتقول ما تَرى إنَّك تَرْغَب ، وهكذا هلَك مَن كان قبلَك ، إنَّ أهل القِبْلَة قَدْ أيقنوا بالمَعاد ، فلو سمِعتَ بعضَهم يَبِيع آخرتَه بالدُّنيا لم تُطِب بذلك نفسَا ، وقَدْ يَتَحيَّل ( يتَخَبَّله ) الشَّيْطانُ بخُدَعِه ومَكْرِه حَتَّى يُورِطَه في هَلَكةٍ بعَرَض من الدُّنيا يَسيرٍ حقِير ، ويَنْقُلَه من شَيْء إلى شَيْء حَتَّى يؤيسه من رَحْمَة اللّه ، ويُدخله في القُنوط ، فيَجِد الرَّاحة إلى ما خالَف الإسلام وأحكامه . فإنْ أبتْ نفسُك إلاَّ حُبَّ الدُّنيا وقرْبَ السُّلطان فخالَفَتْك إلى ما نَهَيْتُك عنه ممَّا فيه رُشدُك فامْلِك علَيْك لسانَك فإنَّه لا ثِقَة للْمُلُوك عنْد الغَضَب ، فلا تَسْأَل عن أخبارِهم ، ولا تَنْطِق بأسْرارِهم ، ولا تدْخُل فِيما بينهم ، وفي الصَّمت السَّلامة من النَّدامَة ، وتَلافِيك ما فَرَط من صَمْتِك أيْسَرُ من إدراك ما فاتَ من مَنْطِقك ( فائِدةِ ما فات من مَنْطقك ) ، وحفْظُ ما في الوِعاء بِشدِّ الوِكاء ، وحِفْظُ ما في يديك أحَبُّ إليك ( إليَّ ) من طلَب ما في يد غَيْرِك ، ولا تُحدِّث إلاَّ عن ثِقَة كَذَّابا ، والكِذْب ذُلٌّ ، وحُسْنُ التَّدبير مع الكَفاف أكْفَى لَكَ من الكَثير مع الإسراف ، وحُسْنَ اليَأس خَيْرٌ من الطَّلب إلى النَّاس ، والعِفَّةُ مع الحِرْفَة خَيْرٌ من سُرور مع فجور ، والمرءُ أحْفَظُ لِسِرِّه ، ورُبَّ ساعٍ فِيما يَضُرُّه ، مَن أكثَر أهْجَر ، ومَن تَفَكَّر أبْصَر . وأحْسِن لِلْمَمالِيك الأدب ، وأقْلِل الغَضَبَ ، ولا تُكْثِر العَتَب في غَيْر ذَنْبٍ ، فإذا اسْتَحقَّ أحدٌ منهم ذَنْبا فأحْسِن العَفو ( فأحسِن العدل ) ، فإنَّ العفو مع العدل أشَدُّ من الضَّرب لمَن كان له عقلٌ ، ولا تُمْسِك مَن لا عقل له ، وخَفِ القِصاص ، واجعل لكل امْرءٍ منهم عمَلاً تأخُذُه به ، فإنَّه أحَرى أنْ لا يَتَواكَلوا . وأكِرم عَشِيرَتَك ، فإنَّهم جَناحُك الَّذِي به تَطِير ، وأصْلُك الَّذِي إليه تَصِير ، ويدُك الَّذِي بها تَصولُ ، ( وهُمُ العُدَّة عِنْد الشِّدَّة ) ، أكرِم كريمَهم ، وعُدْ سَقيمَهم ، وأشْركهم في أمورهم ، وتَيَسَّر عنْد معْسُورِهم . واسْتَعِنو باللّه علَى أمورك ، فإنَّه أكَفى مُعِينٍ ، وأسْتَوْدِع اللّه دِينَك ودُنياك ، وأسألُه خَيْرَ القَضاء لَكَ في العاجِلَة والآجِلَة ، والدُّنيا والآخِرة ، والسَّلام ( علَيْكَ ورَحْمَةُ واللّه وبَرَكاتُه ) » . (4)
.
ص: 539
. .
ص: 540
. .
ص: 541
. .
ص: 542
. .
ص: 543
. .
ص: 544
. .
ص: 545
. .
ص: 546
. .
ص: 547
. .
ص: 548
. .
ص: 549
. .
ص: 550
. .
ص: 551
. .
ص: 552
141كتابه عليه السلام إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر« أمَّا بعدُ ؛ فَقدْ جاءَنِي رسُولُكَ بِكتابِكَ تَذْكُرُ أنَّ ابنَ العاصِ قَد نَزلَ أَدانِيَ مِصرَ في جَيْشٍ جرّارٍ ، وأنَّ مَنْ كانَ علَى مِثْلِ رأْيهِ قَدْ خَرَجَ إليْهِ ، وخُروجُ مَنْ كَانَ يَرى رَأيَهُ خيرٌ لَكَ مِن إقامَتِهِ عِنْدَكَ ، وَذكَرْتَ أنَّكَ قَد رَأيْتَ مِمَّن قِبَلَكَ فَشَلاً ؛ فَلا تَفْشَلْ وإنْ فَشَلُوا ، حَصِّن قَريَتَكَ ، واضمُمْ إلَيْكَ شِيعَتَكَ وأَذْكِ (1) الحَرَسَ في عَسْكَرِكَ ، واندُبْ إلى القَوْمِ كِنانَةَ بنَ بِشْرٍ ، المَعرُوفَ بالنَّصِيحَةِ والتَّجرِبَةِ والبَأْسِ ؛ وأنا نادِبٌ إليْكَ النَّاسَ علَى الصَّعْبِ والذَّلولِ ، فاصبِرْ لِعَدُوِّكَ وامْضِ علَى بَصِيرَتِكَ ، وقاتِلْهُم علَى نِيَّتِكَ ، وجاهِدْهُمْ مُحتَسِبا للّه ِ ، وإنْ كانَت فِئتُكَ أقَلَّ الفِئتَينِ ؛ فَإنَّ اللّه َ يُعِزُّ القَلِيلَ ويَخْذِلُ الكَثِيرَ ، وقَدْ قَرَأْتُ كِتابَيْ الفاجِرَيْنِ المُتَحابَّيْنِ علَى المَعصِيَةِ ، والمُتلائِمَيْنِ علَى الضَّلالَةِ ، والمُرتَشِيَيْنِ اللَّذين استمتعا بخلاقهما ، فلا يَهُدَنَّك إرعادُهما وإبراقُهُما ، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله ، فَإنَّكَ تجدُ مَقالاً ما شِئْتَ ، والسَّلامُ . » (2)
.
ص: 553
[ أقول : لمَّا آل أمر التحكيم إلى ما آل إليه، جمع معاوية من كان معه من قريش ، وفيهم عَمْرو بن العاص وحَبِيب بن مَسْلَمَة ، وشاورهم في أمر مصر ، وتكلَّم من تكلَّم ، وأجمع رأيهم على مكاتبة شيعة عثمان بمصر فكاتبوهم ، ثُمَّ عزموا على إرسال عَمْرو بن العاص إليها في ستة آلاف رجل ] ، فخرج عَمْرو حَتَّى دنا مصر ، ولاقى مُحَمَّد بن أبي بَكر عامل عليّ على مصر ، فنزل أداني مصر فاجتمعت إليه العثمانيّة ، فأقام بها ، وكتب إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر : أمَّا بعدُ ؛ فتنحّ عنّي بدمك يابن أبي بَكر ، فإنِّي لا أحبّ أن يصيبك منِّي ظفر ، وإنَّ النَّاس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ، ورفض أمرك ؛ وندموا على اتِّباعك ، وهم مُسْلِمُوك لو قد التقت حلقتا البطان (1) ، فاخرج منها إنِّي لك من النَّاصحين ، والسَّلام . قال : وبعث عَمْرو أيضا مع هذا الكتاب بكتاب معاوية إليه ، وفيه : أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ غبّ البغي والظُّلم عظيم الوبال ، وإنَّ سفك الدَّم الحرام لا يسلم صاحبه من النَّقمة في الدُّنيا ، والتَّبعة الموبقة في الآخرة ، وما نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا ، ولا أسوأ له عيبا ، ولا أشدّ عليه خلافا منك ، سعيت عليه في السَّاعين ، وساعدت عليه مع المساعدين ، وسفكت دمه مع السَّافكين ، ثُمَّ أنت تظنّ أنّي عنك نائمٌ ، ثُمَّ تأتي بلدةً فتأمن فيها وجلُّ أهلها أنصاري ؛ يرون رأيي ، ويرفعون قولي ، ويستصرخونني عليك ، وقد بعثت إليك قوما حناقا عليك ، يستسفكون دمك ، ويتقرّبون إلى اللّه بجهادك ، قد أعطوا اللّه عهدا ليقتلنَّك ، ولو لم يكن منهم إليك ما قالوا ، لقتلك اللّه بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه ، فأُحذرك وأُنذرك ، وأحبّ أن يقتلوك بظلمك ووقيعتك وعدوانك على عثمان يوم الدَّار ، تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه وأوداجه ، ولكنّي أكره أن تقتل ، ولن يُسَلِّمَكَ اللّه ُ من القصاص أين كنت والسَّلام . قال : فطوى مُحَمَّد بن أبي بَكر كتابيهما ، وبعث بهما إلى عليّ عليه السلام ، وكتب إليه : أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ العاصي ابن العاص قد نزل أداني مصر ، واجتمع إليه من أهل البلد كلُّ من كان يرى رأيهم ، وقد جاء في جيش جرّار ، وقد رأيت ممّن قبلي بعض الفشل ، فإن كان لك في أرض مصر حاجةٌ فأمددني بالأموال والرِّجال ، والسَّلام . [ فكتب إليه عليّ عليه السلام . . . ما تقدَّم . وكتب مُحَمَّد إلى معاوية وعَمْرو جواب كتابهما ، وأقبل عَمْرو بن العاص إلى مصر واستنفر عليّ عليه السلام أهل الكوفة ، فرأى فيهم التَّواني والتَّواكل والفشل ، فوعظهم فلم ينفعهم الوعظ والإنذار ، فقرب عَمْرو من مصر ، فقام مُحَمَّد في أهل مصر خطيبا وقال ، في آخرها : ] انتدبوا إلى هؤلاء رحمكم اللّه مع كِنانَة بن بشر ، ومن يجيب معه من كِنْدَة ، فانتدب معه نحو ألفي رجل ، وخرج مُحَمَّد في نحو ألفين ، واستقبل عَمْرو كِنانَة وهو على مُقدّمَةِ محمّد ، فأقبل عَمْرو نحو كِنانَة ، فلمَّا دنا منه سرّح نحوه الكتائب كتيبةً بعد كتيبة ، فجعل كِنانَة لا يأتيه كتيبةٌ من كتائب أهل الشَّام إلاَّ شدّ عليها بمن معه فيضربها حَتَّى يلحقها بعمرو ، ففعل ذلك مرارا ، فلمَّا رأى عَمْرو ذلك ، بعث إلى معاوية بن حُدَيْج الكِنْديّ فأتاه في مثل الدَّهم (2) ، فلمَّا رأى كِنانَة ذلك الجيش نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه ، فضاربهم بسيفه وهو يقول : وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلاَّ بِإِذْنِ اللّه كِتابا مُوجَّلاً ، ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُوتِهِ مِنْها ، ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الآخِرَةِ نُوتِهِ مِنْها ، وسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ . ثُمَّ ضاربهم بسيفه حَتَّى استشهد رحمه الله . (3)
.
ص: 554
. .
ص: 555
142كتابه عليه السلام إلى سَعْد بن مسعودوقال الطَّبري : لمّا أراد عليّ عليه السلام المسير إلى معاوية بعد قصّة الحَكَمين كتب إلى سَعْد بن مسعود الثَّقَفيّ ، وهو عامله على المَدائِن :« أمَّا بَعدُ ؛ فإنِّي قد بَعَثْتُ إليك زيادَ بنَ خَصَفَة ، فأشخِص مَعَهُ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ مُقاتِلَةِ أهْلِ الكُوفَةِ ، وعَجِّلْ ذلك ، إن شاء اللّه ُ ، ولا قوَّة إلاّ باللّه » . (1)
.
ص: 556
[ أقول : سَعْد بن مسعود الثَّقَفيّ عمّ المختار بن أبي عبيد ، ذكره البخاري في الصَّحابة ، والطَّبرانيّ فيمن له صحبة ، وذكر أبو مِخْنَف أنَّ عليَّا ولاّه بعض عمله ، ثُمَّ استصحبه معه إلى صفِّين . (1) ] قال نصر : وبعث سَعْد بن مسعود إلى أُستان الزّوابيّ ، والزّوابيّ ، (2) ولمّا أراد أمير المؤمنين عليه السلام المسير إلى صفِّين أمَّره على قَيْس ، وعبد القَيْس أحد أسباع الكوفة . (3) وظاهر الطَّبري ، أنَّ سَعْدا خرج مع من خرج بين الكوفة إلى ذي قار ، وشهد الجَمل مع عليّ عليه السلام ، وكان على سُبْع قيس ، فلمَّا انقضت الحرب ، وأراد عليّ عليه السلام المسير إلى الشَّام ، وورد المَدائِن ، شَخص معه من فيها من المقاتلة ، وولّى على المَدائِن سَعْد بن مسعود الثَّقَفيّ ، عمّ المختار بن أبي عبيد . وظاهره أنَّه لم يشهد صفِّين ، بل كان ابتداء عمله بعد الجمل حين ورد عليّ عليه السلام المَدائِن ، وهو يريد صفِّين ، وظاهر عبارة نصر ، أنَّه ولاّه إيَّاها بعد وقعة الجمل ، وأشخصه معه إلى صفِّين . وكان سَعْد على المَدائِن فلمَّا وقع التَّحكيم ، وخرجت الخوارج ، فمرّوا على المَدائِن ، فتحذر منهم سعد ، وأغلق أبوابَ المَدائِنِ ، وخرج في طلبهم في خمسمئة ، ولحقهم بالكرخ حَتَّى حجَزَ بينهُمُ اللَّيلُ ، وخرجت الخوارج في ظُلمةِ اللَّيلِ ، وعبروا النَّهر ، فرجع سعد إلى المَدائِن ، فلمَّا سار عليّ عليه السلام إليهم سار سَعْد معه . ولمَّا أراد أمير المؤمنين عليه السلام المسير إلى صفِّين ثانيا ، كتب إليه الكتاب المتقدّم ، ولمَّا قتل _ صلوات اللّه عليه _ أقرّه الحسنُ عليه السلام على عمله ، فلمَّا جرح الحسن عليه السلام بالمَدائِن نزل على سعد ، فأقام يعالج جرحه ، فقال المختار لسعد _ وهو غلام شابّ _: هل لك في الغِنى والشَّرف ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : تستوثق الحسن ، وتَستأمِن به إلى معاوية . فقال : عليك لَعنةُ اللّه ِ ، أثِبُ علَى ابنِ بنتِ رسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فأُوثِقُهُ ! بئس الرَّجُلُ أنتَ ! (4)
.
ص: 557
. .
ص: 558
. .
ص: 559
القهرس التفصيلي .
ص: 560
. .
ص: 561
. .
ص: 562
. .
ص: 563
. .
ص: 564
. .
ص: 565
. .
ص: 566
. .
ص: 567
. .
ص: 568
. .