سرشناسه : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -
عنوان و نام پديدآور : موسوعه الامام علي بن ابي طالب في الكتاب و السنه و التاريخ/ محمد الري شهري، بمساعده محمدكاظم طباطبائي، محمود طباطبائي نژاد؛ مراجعه النهايه حيدر المسجدي، مجتبي الغيوري.
مشخصات نشر : قم: موسسه دارالحديث العلميه والثقافيه، مركز للطباعه والنشر، 1421ق.= 1379.
مشخصات ظاهري : 8 ج.
فروست : مركز بحوث دا رالحديث؛ 16.
شابك : 300000 ريال: دوره 964-493-216-1 : ؛ ج.1 964-493-217-X : ؛ ج.2 964-493-218-8 : ؛ ج. 3، چاپ دوم 964-493-219-6 : ؛ ج.4 964-493-220-X : ؛ ج. 6، چاپ دوم 964-493-222-6 : ؛ ج.7، چاپ دوم 964-493-223-4 : ؛ 22000ريال: ج.12 964-5985-89-7 :
يادداشت : عربي.
يادداشت : فهرستنويسي بر اساس جلد دوم: 1427ق. = 1385.
يادداشت : چاپ دوم.
يادداشت : ج.1، 3، 4، 6 و 7 (چاپ دوم: 1427ق. = 1385).
يادداشت : ج.4 (چاپ؟: 1427ق.= 1385).
يادداشت : ج.12(چاپ اول: 1421ق.=1379).
يادداشت : كتابنامه.
موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- اثبات خلافت
موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- اصحاب
موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- فضايل
شناسه افزوده : طباطبائي، سيدمحمدكاظم، 1344 -
شناسه افزوده : طباطبايي، محمود، 1239 - 1319ق.
شناسه افزوده : مسجدي، حيدر
شناسه افزوده : غيوري،سيد مجتبي، 1350 -
رده بندي كنگره : BP37/م36م8 1379
رده بندي ديويي : 297/951
شماره كتابشناسي ملي : 1670645
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
ص: 7
القسم السادس : حروب الإمام عليٍّ في ايّام الامارةنظرة عامّة في حروب الإمامالحرب الاُولى : وقعة الجملالحرب الثانية : وقعة صفّينالحرب الثالثة : وقعةُ النّهروان
.
ص: 8
. .
ص: 9
نظرة عامّة في حروب الإماموفيه فصول :الفصل الأوّل : تحذير النبيّ من محاربة الإمامالفصل الثاني : إخبار النبيّ بالفتن بعدهالفصل الثالث : أمر النبيّ بقتال المفتونينالفصل الرابع : دعاء النبيّ على المفتونينالفصل الخامس : دوافع البُغاة في قتال الإمامالفصل السادس : أهداف الإمام في قتال البُغاةالفصل السابع : نبذة من الآراء في قتال البُغاة
.
ص: 10
. .
ص: 11
المدخلتسلّم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مقاليد الخلافة بعد انثيال الناس عليه ، وإقبالهم المنقطع النظير ، وإصرارهم المتواصل . وبيّن سياسته في الحكم بصراحة في أوّل خطبة حماسيّة جليلة له ، وذكر فيها أنّه لن يطيق الامتيازات التي لا أساس لها في الإسلام ، وأنّه سوف يُحدث تغييرا جذريّا في المجتمع ، ويقضي على التفاضل والتمايز الموهوم في كافّة زوايا المجتمع ؛ لأنّ ذلك كلّه من سِمات الجاهليّة التي عادت إلى الناس كهيئتها قبل البعثة النبويّة الشريفة (1) . ومن الواضح أنّ الكثيرين لم يتحمّلوا تلك المساواة ، وامتعضوا من فقدانهم منزلتهم وامتيازاتهم ، ولم يهدأ اُولئك الذين عكّروا الماء عند هجومهم على عثمان ليصطادوا لهم منصبا . ولم يُطِق هذه السياسة الثوريّة العاصفة الوصوليّون النفعيّون الذين تسلّطوا على الاُمّة بلا سابقة ولا شرف باذخ ، وفعلوا ما شاؤوا ، غير مبالين بالحكومة المركزيّة . ولهذا لم تكَد تمضي أيّام قلائل على حكومة الإمام صلوات اللّه عليه حتى بدأت المواجهات ، وتكشّفت الذرائع والحجج الواهية التي اتّصلت فصبغت السنوات الخمس _ التي هي مدّة حكم الإمام عليه السلام _ بصِبغة الحروب والدماء . وكانت تلك المواجهات عسيرة ثقيلة إذا ما نظرنا إلى جذورها ، وكيفيّة تبلور الكيان الذي كان عليه مُوقدوها ، لاسيما أصحاب الجمل والنهروان ، وأصحر الإمام عليه السلام بذلك مرارا ، فقال : «لَو لَم أكُ فيكُم ما قوتِلَ أصحابُ الجَمَلِ وأهل
.
ص: 12
النَّهرَوانِ !» (1) . وقال : «إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري ، بَعدَ أن ماجَ غَيهَبُها (2) ، وَاشتَدَّ كَلَبُها (3) » (4) . تُرى ! من كان قادرا على إبصار ذلك السحاب المركوم من الأفكار الفاسدة ، والجهل المطبق ، والشرك المعقّد ، في ظلّ العناوين البرّاقة الخادعة ؛ كعنوان : الصحابة ، وعنوان السابقين ، ووجوه المتنسّكين الجهلة المتحجّرين أصحاب الجباه التي أثفنها السجود ؟ ! ومن كان متمكّنا من الأمر بقمع هؤلاء وإبادتهم ؟ ! أجل ، كان عمل عليّ عليه السلام عملاً عسيرا ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يرى ذلك كلّه في مرآة الزمن ، فأشار إليه مرارا ، وقال مخاطبا الإمام : «تُقاتِلُ عَلَى التَّأويلِ كَما قاتَلتُ عَلَى التَّنزيلِ» ، وقال : «إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ أخي ووَصِيّي ، يُقاتِلُ بَعدي عَلى تأويلِ القُرآنِ كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ» .وأكثر من ذلك أنّه صلى الله عليه و آله كشف هويّة مُسعّري الحروب ضدّ الإمام ، فقال : «هذا وَاللّهِ قاتِلُ القاسِطينَ وَالنّاكِثينَ والمارِقينَ بَعدي» . من هنا كان بعض الصحابة يتحدّثون عن هذه الحقيقة قبل أن تُقبل الخلافة على الإمام عليه السلام (5) . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله مكلّفا برسالة إبلاغ الدين ، كما كان على عاتقه مهمّة الكشف
.
ص: 13
عمّا سيحدث لهذه الاُمّة في المستقبل ؛ لأنّ دينه يتّصف بالخلود ، وهو لكلّ زمان ومكان . فكان يخبر بتلك المواجهات ، ويعرّف الناس بمُوقدي نار الفتنة _ كما مرّ _ فذكرهم في عِداد أهل الباطل ، وعرّفهم ، على أنّهم شرذمة فتنة ، وفئة باغية ، وقال صلى الله عليه و آله : «يا عَلِيُّ، سَتُقاتِلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ وأنتَ عَلَى الحَقِّ ، فَمَن لَم يَنصُركَ يَومَئِذٍ فَلَيسَ مِنّي» (1) . ومن جانب آخر ، فقد صرّح صلى الله عليه و آله للجميع بأحقّية الإمام عليه السلام في حروبه ، واستقامته فيها ، بعد أن كان يُطري على شخصيّة الإمام ، ويؤكّد أنّه مع الحقّ والحقّ معه دائما (2) ، فقال صلى الله عليه و آله : «أنتَ . . . تُقاتِلُ عَن سُنَّتي» (3) ، وقال : «حَربُ عَلِيٍّ حَربُ اللّهِ» (4) ، وقال : «حَربُكَ حَربي» (5) ، أو : «حَربُكَ حَربي ، وسِلمُكَ سِلمي» (6) ، إلى غيرها من الأحاديث . وبهذا كلّه أفصح رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن مقام الإمام الإلهيّ ؛ لتستبين في المستقبل حقائق الأشخاص والأعمال ، وتتجلّى صفة الحقّ والباطل . وبعد هذه النظرة المقتضبة سنكون مع إضمامة من الأخبار والأسانيد التي تتكفّل بإضاءة ما أوردناه .
.
ص: 14
. .
ص: 15
الفصل الأول : تحذير النبيّ من محاربة الإمامرسول اللّه صلى الله عليه و آله :حَربُ عَلِيٍّ حَربُ اللّهِ ، وسِلمُ عَلِيٍّ سِلمُ اللّهِ (1) .
عنه صلى الله عليه و آله :وَلايَةُ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ وَلايَةُ اللّهِ ، وحُبُّهُ عِبادَةُ اللّهِ ، وَاتِّباعُهُ فَريضَةُ اللّهِ ، وأولِياؤُهُ أولِياءُ اللّهِ ، وأعداؤُهُ أعداءُ اللّهِ ، وحَربُهُ حَربُ اللّهِ ، وسِلمُهُ سِلمُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ (2) .
عنه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: قاتَلَ اللّهُ مَن قاتَلَكَ ، وعادى مَن عاداكَ (3) .
عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، حَربُكَ حَربي ، وحَربي حَربُ اللّهِ (4) .
عنه صلى الله عليه و آله :حَربُكَ _ يا عَلِيُّ _ حَربي ، وسِلمُكَ سِلمي (5) .
.
ص: 16
الإمام عليّ عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله :أنَّهُ تَلا هذِهِ الآيَةَ : «فَأُوْلَئِكَ أَصْحَ_بُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَ__لِدُونَ» (1) ، قيلَ : يا رَسولَ اللّهِ مَن أصحابُ النّارِ ؟ قالَ : مَن قاتَلَ عَلِيّا بَعدي ، اُولئِكَ هُم أصحابُ النّارِ مَعَ الكُفّارِ ؛ فَقَد كَفَروا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُم . ألا وإنَّ عَلِيّا مِنّي ، فَمَن حارَبَهُ فَقَد حارَبَني وأسخَطَ رَبّي . ثُمَّ دَعا عَلِيّا عليه السلام فَقالَ : يا عَلِيُّ ، حَربُكَ حَربي ، وسِلمُكَ سِلمي ، وأنتَ العَلَمُ فيما بَيني وبَينَ اُمَّتي بَعدي (2) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ، حَربُكَ حَربي ، وسِلمُكَ سِلمي ، وحَربي حَربُ اللّهِ ، ومَن سالَمَكَ فَقَد سالَمَني ، ومَن سالَمَني فَقَد سالَمَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ (3) .
الأمالي للطوسي عن عطيّة بن سعد العَوفيّ عن محدوج بن زيد الذُّهلِيّ_ وكانَ في وَفدِ قَومِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَتَلا هذِهِ الآيَةَ : «لَا يَسْتَوِى أَصْحَ_بُ النَّارِ وَ أَصْحَ_بُ الْجَنَّةِ أَصْحَ_بُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ» (4) _ : قُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ مَن أصحابُ الجَنَّةِ ؟ قالَ : مَن أطاعَني وسَلَّمَ لِهذا مِن بَعدي . قالَ : وأخَذَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِكَفِّ عَلِيٍّ عليه السلام _وهُوَ يَومَئِذٍ إلى جَنبِهِ _ فَرَفَعَها ، وقالَ : ألا إنَّ عَلِيّا مِنّي ، وأنَا مِنهُ ، فَمَن حادَّهُ فَقَد حادَّني ، ومَن حادَّني فَقَد أسخَطَ اللّه
.
ص: 17
عَزَّ وجَلَّ . ثُمَّ قالَ : يا عَلِيُّ ، حَربُكَ حَربي ، وسِلمُكَ سِلمي ، وأنتَ العَلَمُ بَيني وبَينَ اُمَّتي . قالَ عَطِيَّةُ : فَدَخَلتُ عَلى زَيدِ بنِ أرقَمَ في مَنزِلِهِ فَذَكَرتُ لَهُ حَديثَ مَحدوجِ بنِ زَيدٍ ، فَقالَ : ما ظَنَنتُ أنَّهُ بَقِيَ مِمَّن سَمِعَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ هذا غَيري ! أشهَدُ لَقَد حَدَّثَنا بِهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله . ثُمَّ قالَ : لَقَد حادَّهُ رِجالٌ سَمِعوا رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قَولَهُ هذا ، وقَد رُدّوا (1) . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ وفاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَينِ عليهم السلام _: أنَا حَربٌ لِمَن حاربَتُم ، وسِلمٌ لِمَن سالَمتُم (3) .
مسند ابن حنبل عن أبي هريرة :نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله إلى عَلِيٍّ وَالحَسَنِ وَالحُسَينِ وفاطِمَةَ فَقالَ : أنَا حَربٌ لِمَن حارَبَكُم ، وسِلمٌ لِمَن سالَمَكُم (4) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، سَتُقاتِلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ وأنتَ عَلَى الحَقِّ ، فَمَن لَم يَنصُركَ يَومَئِذٍ فَلَيسَ مِنّي ! (5)
.
ص: 18
. .
ص: 19
الفصل الثاني : إخبار النبيّ بالفتن بعدهالإمام عليّ عليه السلام :لَمّا أنزَلَ اللّهُ سُبحانَهُ قَولَهُ : «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ» (1) عَلِمتُ أنَّ الفِتنَةَ لا تَنزِلُ بِنا ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَينَ أظهُرِنا ، فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما هذِهِ الفِتنَةُ الَّتي أخبَرَكَ اللّهُ تَعالى بِها ؟ فَقالَ : يا عَلِيُّ ، إنَّ اُمَّتي سَيُفتَنونَ مِن بَعدي . فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، أ وَلَيسَ قَد قُلتَ لي يَومَ اُحُدٍ حَيثُ استُشهِدَ مَنِ استُشهِدَ مِنَ المُسلِمينَ وحيزَت (2) عَنِّي الشَّهادَةُ فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ ، فَقُلتَ لي : أبشِر ؛ فَإِنَّ الشَّهادَةَ مِن وَرائِكَ ؟ ! فَقالَ لي : إنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ ، فَكَيفَ صَبرُكَ إذَن ؟ فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، لَيسَ هذا مِن مَواطِنِ الصَّبرِ ، ولكِن مِن مَواطِنِ البُشرى وَالشُّكرِ . وقالَ : يا عَلِيُّ ، إنَّ القَومَ سَيُفتَنونَ بِأَموالِهِم ، ويَمُنّونَ بِدينِهِم عَلى رَبِّهِم ، ويَتَمَنَّونَ رَحمَتَهُ ، ويَأمَنونَ سَطوَتَهُ . ويَستَحِلّونَ حَرامَهُ بِالشُّبُهاتِ الكاذِبَةِ وَالأَهواءِ السّاهِيَةِ ؛ فَيَستَحِلّونَ الخَمرَ بِالنَّبيذِ ، وَالسُّحتَ بِالهَدِيَّةِ ، وَالرِّبا بِالبَيعِ . قُلتُ: يا رَسولَ اللّهِ، فَبِأَيِّ المَنازِلِ اُنزِلُهُم عِندَ ذلِكَ ؛ أ بِمَنزِلَةِ رِدَّةٍ ، أم بِمَنزِلَة
.
ص: 20
فِتنَةٍ ؟فَقالَ : بِمَنزِلَةِ فِتنَةٍ (1) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في قَولِهِ تَعالى : «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ» (2) _: نَزَلَت في عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ؛ أنَّهُ يَنتَقِمُ مِنَ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ بَعدي (3) .
تاريخ دمشق عن عبد اللّه :خَرَجَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَأَتى مَنزِلَ اُمِّ سَلَمَةَ ، فَجاءَ عَلِيٌّ ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : يا اُمَّ سَلَمَةَ ، هذا _ وَاللّهِ _ قاتِلُ القاسِطينَ وَالنّاكِثينَ وَالمارِقينَ بَعدي (4) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: تُقاتِلُ بَعدِي النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ (5) .
المستدرك على الصحيحين عن أبي أيّوب الأنصاريّ :سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَقولُ لِعَلِيِّ بنِ أبيطالِبٍ : تُقاتِلُ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ بِالطُّرُقاتِ وَالنَّهرَواناتِ وبَالشَّعَفاتِ (6) . قالَ أبو أيّوبَ : قُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، مَعَ مَن تُقاتِلُ هؤُلاءِ الأقوامُ ؟ ! قالَ : مَعَ عَلِيِّ ابنِ أبي طالِبٍ (7) .
.
ص: 21
الإمام الصادق عليه السلام_ في حَديثٍ طَويلٍ _: قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لِاُمِّ سَلَمَةَ : يا اُمَّ سَلَمَةَ اسمَعي وَاشهَدي ! هذا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ سَيِّدُ المُسلِمينَ ، وإمامُ المُتَّقينَ ، وقائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلينَ ، وقاتِلُ النّاكِثينَ وَالمارِقينَ وَالقاسِطينَ . قُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، مَنِ النّاكِثونَ ؟ قالَ : الَّذينَ يُبايِعونَهُ بِالمَدينَةِ ويَنكُثونَهُ بِالبَصرَةِ . قُلتُ : مَنِ القاسِطونَ ؟ قالَ : مُعاوِيَةُ وأصحابُهُ مِن أهلِ الشّامِ . ثُمَّ قُلتُ : مَنِ المارِقونَ ؟ قالَ : أصحابُ النَّهرَوانِ (1) .
المناقب للخوارزمي عن عبد اللّه [بن العبّاس] :خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله مِن عِندِ زَينَبَ بِنتِ جَحشٍ ، فَأَتى بَيتَ اُمِّ سَلَمَةَ _ وكانَ يَومَها مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله _ فَلَم يَلبَث أن جاءَ عَلِيٌّ ، فَدَقَّ البابَ دَقّا خَفِيّا ، فَاستَثبَتَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله الدَّقَّ وأنكَرَتهُ اُمُّ سَلَمَةَ ، فَقالَ لَها رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : قومي فَافتَحي لَهُ البابَ ! فَقالَت : يا رَسولَ اللّهِ ، مَن هذَا الَّذي بَلَغَ مِن خَطَرِهِ ما أفتَحُ لَهُ البابَ ، فَأَتَلَقّاهُ بِمَعاصِمي ، وقَد نَزَلَت فِيَّ آيَةٌ مِن كِتابِ اللّهِ بِالأَمسِ ؟ ! فَقالَ لَها _ كَالمُغضَبِ _ : إنَّ طاعَةَ الرَّسولِ طاعَةُ اللّهِ ، ومَن عَصَى الرَّسولَ فَقَد عَصَى اللّهَ ، إنَّ بِالبابِ رَجُلاً لَيسَ بِالنَّزِقِ (2) ولا بِالخَرِقِ ، يُحِبُّ اللّهَ ورَسولَهُ ، ويُحِبُّهُ اللّهُ ورَسولُهُ . فَفَتَحتُ لَهُ البابَ ، فَأَخَذَ بِعِضادَتَيِ البابِ ، حَتّى إذا لَم يَسمَع حِسّا وَلا حَرَكَة
.
ص: 22
وصِرتُ إلى خِدرِي استَأذَنَ ، فَدَخَلَ . فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أ تَعرِفينَهُ ؟ قُلتُ : نَعَم ، هذا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . قالَ : صَدَقتِ ، سِحنَتُهُ (1) مِن سِحنَتي ، ولَحمُهُ مِن لَحمي ، ودَمُهُ مِن دَمي ، وهُوَ عَيبَةُ (2) عِلمي . اِسمَعي وَاشهَدي ! هُوَ قاتِلُ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ مِن بَعدي . اِسمَعي وَاشهَدي ! هُوَ وَاللّهِ مُحيي سُنَّتي . اِسمَعي وَاشهَدي ! لَو أنَّ عَبدا عَبَدَ اللّهَ ألفَ عامٍ مِن بَعدِ ألفِ عامٍ بَينَ الرُّكنِ وَالمَقامِ ثُمَّ لَقِيَ اللّهَ مُبغِضا لِعَلِيٍّ لَأَكَبَّهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ عَلى مِنخَرَيهِ فِي النّارِ (3) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى أوحى إلَيَّ أنَّهُ جاعِلٌ لي مِن اُمَّتي أخا ووارِثا وخَليفَةً ووَصِيّا . فَقُلتُ : يا رَبِّ ، مَن هُوَ ؟ فَأَوحى إلَيَّ عَزَّ وَجَلَّ : يا مُحَمَّدُ ، إنَّهُ إمامُ اُمَّتِكَ ، وحُجَّتي عَلَيها بَعدَكَ . فَقُلتُ : يا رَبِّ مَن هُوَ ؟ فَأَوحى إلَيَّ عَزَّ وَجَلَّ : يا مُحَمَّدُ، ذاكَ مَن اُحِبُّهُ ويُحِبُّني ، ذاكَ المُجاهِدُ في سَبيلي ، وَالمُقاتِلُ لِناكِثي عَهدي وَالقاسِطينَ في حُكمي وَالمارِقينَ مِن ديني ، ذاكَ وَلِيّي حَقّا ، زَوجُ ابنَتِكَ ، وأبو وُلدِكَ ؛ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ (4) .
شرح نهج البلاغة_ في شَرحِ قَولِهِ عليه السلام : فَلَمّا نَهَضتُ بِالأَمرِ نَكَثَت طائِفَةٌ ، ومَرَقَت اُخرى ، وفَسَقَ آخَرونَ _: فَأَمَّا الطّائِفَةُ النّاكِثَةُ فَهُم أصحابُ الجَمَلِ ، وأمَّا الطّائِفَةُ الفاسِقَةُ فَأَصحابُ صِفّينَ ، وسَمّاهُم رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله القاسِطينَ ، وأمَّا الطّائِفَةُ المارِقَةُ فَأَصحاب
.
ص: 23
النَّهرَوانِ . وأشَرنا نَحنُ بِقَولِنا : «سَمّاهُم رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله القاسِطينَ» إلى قَولِهِ عليه السلام : «سَتُقاتِلُ بَعدِي النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ» ، وهذَا الخَبَرُ مِن دَلائِلِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه و آله ؛ لِأَنَّهُ إخبارٌ صَريحٌ بِالغَيبِ ، لا يَحتَمِلُ التَّمويهَ وَالتَّدليسَ كَما تَحتَمِلُهُ الأخبارُ المُجمَلَةُ ، وصَدَّقَ قولَهُ صلى الله عليه و آله : «وَالمارِقينَ» قَولُه أوَّلاً فِي الخَوارِجِ : «يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . وصَدَّقَ قولَهُ عليه السلام : «النّاكِثينَ» كَونُهُم نَكَثُوا البَيعَةَ بادِئَ بَدءٍ ، وقَد كانَ عليه السلام يَتلو وَقتَ مُبايَعَتِهِم لَهُ : «فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ» (1) . وأمّا أصحابُ صِفّينَ فَإِنَّهُم عِندَ أصحابِنا مُخَلَّدونَ فِي النّارِ ؛ لِفِسقِهِم ، فَصَحَّ فيهِم قَولُهُ تَعالى : «وَ أَمَّا الْقَ_سِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا» (2) . (3)
.
ص: 24
. .
ص: 25
الفصل الثالث : أمر النبيّ بقتال المفتونينالإمام عليّ عليه السلام_ يَومَ النَّهرَوانِ _: أمَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِقِتالِ النّاكِثينَ وَالمارِقينَ وَالقاسِطينَ (1) .
عنه عليه السلام :عَهِدَ إلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله أن اُقاتِلَ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ (2) .
عنه عليه السلام :اُمِرتُ بِقِتالِ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ (3) .
عنه عليه السلام :اُمِرتُ أن اُقاتِلَ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ ، فَفَعَلتُ ما اُمِرتُ بِهِ ؛ فَأَمَّا النّاكِثونَ : فَهُم أهلُ البَصرَةِ وغَيرُهُم مِن أصحابِ الجَمَلِ ، وأمَّا المارِقونَ : فَهُمُ الخَوارِجُ ، وأمَّا القاسِطونَ : فَهُم أهلُ الشّامِ وغَيرُهُم مِن أحزابِ مُعاوِيَةَ (4) .
.
ص: 26
عنه عليه السلام_ في لَومِ العُصاةِ _: ألا وقَد قَطَعتُم قَيدَ الإِسلامِ ، وعَطَّلتُم حُدودَهُ ، وأمَتُّم أحكامَهُ . ألا وقَد أمَرَنِيَ اللّهُ بِقِتالِ أهلِ البَغيِ وَالنَّكثِ وَالفَسادِ فِي الأَرضِ ، فَأَمَّا النّاكِثونَ فَقَد قاتَلتُ ، وأمَّا القاسِطونَ فَقَد جاهَدتُ ، وأمَّا المارِقَةُ فَقَد دَوَّختُ ، وأمّا شَيطانُ الرَّدهَةِ فَقَد كُفيتُهُ بِصَعقَةٍ سُمِعَت لَها وَجْبَةُ (1) قَلبِهِ ، ورَجَّةُ (2) صَدرِهِ (3) .
عنه عليه السلام :أمَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِقِتالِ النّاكِثينَ ؛ طَلحَةَ وَالُّزبَيرِ ، وَالقاسِطينَ ؛ مُعاوِيَةَ وأهلِ الشّامِ ، وَالمارِقينَ ؛ وهُم أهلُ النَّهرَوانِ ، ولَو أمَرَني بِقِتالِ الرّابِعَةِ لَقاتَلتُهُم ! (4)
عنه عليه السلام :أمَا وَاللّهِ لَقَد عَهِدَ إلَيَّ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وقالَ لي : يا عَلِيُّ ، لَتُقاتِلَنَّ الفِئَةَ الباغِيَةَ ، وَالفِئَةَ النّاكِثَةَ ، وَالفِئَةَ المارِقَةَ ! (5)
عنه عليه السلام_ في خُطبَتِهِ الزَّهراءِ _: وَاللّهِ ، لَقَد عَهِدَ إلَيَّ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله _ غَيرَ مَرَّةٍ ولَا اثنَتَينِ ولا ثَلاثٍ ولا أربَعٍ _ فَقالَ : «يا عَلِيُّ ، إنَّكَ سَتُقاتِلُ بَعدِي النّاكِثينَ وَالمارِقينَ وَالقاسِطينَ» ، أفَاُضَيِّعُ ما أمَرَني بِهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، أو أكفُرُ بَعدَ إسلامي ؟ ! (6)
شرح نهج البلاغة_ في شَرح قَولِهِ عليه السلام : ألا وقَد أمَرَنِيَ اللّهُ بِقِتالِ أهلِ البَغيِ وَالنَّكثِ وَالفَسادِ فِي الأَرضِ ، فَأمَّا النّاكِثونَ فَقَد قاتَلتُ ، وأمَّا القاسِطونَ فَقَد جاهَدتُ ، وأمَّا
.
ص: 27
المارِقَةُ فَقَد دَوَّختُ _: قَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أنَّهُ قالَ لَهُ عليه السلام : «سَتُقاتِلُ بَعدِي النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ» ، فَكانَ النّاكِثونَ أصحابَ الجَمَلِ ؛ لِأَنَّهُم نَكَثوا بَيعَتَهُ عليه السلام ، وكانَ القاسِطونَ أهلَ الشّامِ بِصِفّينَ ، وكانَ المارِقونَ الخَوارِجَ فِي النَّهرَوانِ . وفِي الفِرَقِ الثَّلاثِ قالَ اللّهُ تَعالى : «فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ» (1) ، وقالَ : «وَ أَمَّا الْقَ_سِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا» (2) ، وقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : «يَخرُجُ مِن ضِئضِئِ هذا قَومٌ يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَنظُرُ أحَدُكُم فِي النَّصلِ فَلا يَجِدُ شَيئا ، فَيَنظُرُ فِي الفوقِ (3) فَلا يَجِدُ شَيئا ، سَبَقَ الفَرثُ وَالدَّمُ» . وهذَا الخَبَرُ مِن أعلامِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه و آله ، ومِن أخبارِهِ المُفَصَّلَةِ بِالغُيوبِ (4) .
.
ص: 28
. .
ص: 29
الفصل الرابع : دعاء النبيّ على المفتونينالإمام عليّ عليه السلام :وَالَّذي خَلَقَني ولَم أكُ شَيئا ! لَقَد عَلِمَ المُستَحفَظونَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أنَّ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ مَلعونونَ عَلى لِسانِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ ، «وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى» (1) . (2)
عنه عليه السلام :لَقَد عَلِمَ المُستَحفَظونَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ أنَّ أهلَ صِفّينَ قَد لَعَنَهُمُ اللّهُ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ، «وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى» (3) .
الاحتجاج :جاءَ رَجُلٌ مِن أهلِ البَصرَةِ إلى عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ عليه السلام ، فَقالَ : يا عَلِيَّ بنَ الحُسَينِ ، إنَّ جَدَّكَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ قَتَلَ المُؤمِنينَ ! فَهَمَلَت عَينا عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ عليه السلام دُموعا حَتَّى امتَلأََت كَفُّهُ مِنها ، ثُمَّ ضَرَبَ بِها عَلى الحَصى ، ثُمَّ قالَ : يا أخا أهلِ البَصرَةِ ، لا وَاللّهِ ما قَتَلَ عَلِيٌّ مُؤمِنا ، ولا قَتَلَ مُسلِما ، وما أسلَمَ القَومُ ، ولكِنِ استَسلَموا وكَتَمُوا الكُفرَ وأظهَرُوا الإِسلامَ ، فَلَمّا وَجَدوا عَلَى الكُفرِ أعوانا أظهَروهُ .
.
ص: 30
وقَد عَلِمَت صاحِبَةُ الخِدَبِّ (1) وَالمُستَحفَظونَ مِن آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أنَّ أصحابَ الجَمَلِ وأصحابَ صِفّينَ وأصحابَ النَّهرَوانِ لُعِنوا عَلى لِسانِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ ، «وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى» . فَقالَ شَيخٌ مِن أهلِ الكوفَةِ : يا عَلِيَّ بنَ الحُسَينِ ، إنَّ جَدَّكَ كانَ يَقولُ : إخوانُنا بَغَوا عَلَينا ! فَقالَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليه السلام : أما تَقَرَأُ كِتابَ اللّهِ : «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا» (2) ؟ فَهُم مِثلُهُم؛ أنجَى اللّهُ عَزَّوَجَلَّ هودا وَالَّذينَ مَعَهُ ، وأهلَكَ عادا بِالرّيحِ العَقيمِ (3) .
الإمام عليّ عليه السلام :عَلِمَ المُستَحفَظونَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وعائِشَةُ بِنتُ أبي بَكرٍ أنَّ أصحابَ الجَمَلِ وأصحابَ النَّهرَوانِ مَلعونونَ عَلى لِسانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ولايَدخُلونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ (4) .
.
ص: 31
الفصل الخامس : دوافع البغاة في قتال الإمام5 / 1الِاستِعلاءُالإمام عليّ عليه السلام :فَلَمّا نَهَضتُ بِالأَمرِ نَكَثَت طائِفَةٌ ، ومَرَقَت اُخرى ، وقَسَطَ آخَرونَ ، كَأَنَّهُم لَم يَسمَعُوا اللّهَ سُبحانَهُ يَقولُ : «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَ الْعَ_قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1) ، بَلى ! وَاللّهِ لَقَد سَمِعوها ، ووَعَوها ، ولكِنَّهُم حَلِيَتِ الدُّنيا في أعيُنِهِم ، وراقَهُم (2) زِبرِجُها (3) . (4)
شرح نهج البلاغة :جاءَ الزُّبَيرُ وطَلحَةُ إلى عَلِيٍّ عليه السلام بَعدَ البَيعَةِ بِأَيّامٍ ، فَقالا لَهُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، قَد رَأيتَ ما كُنّا فيهِ مِنَ الجَفوَةِ في وِلايَةِ عُثمانَ كُلِّها ، وعَلِمتَ [أنَّ] (5) رَأيَ عُثمانَ كانَ في بَني اُمَيَّةَ ، وقَد وَلّاكَ اللّهُ الخِلافَةَ مِن بَعدِهِ ، فَوَلِّنا بَعضَ أعمالِكَ !
.
ص: 32
فَقالَ لَهُما : اِرضَيا بِقِسمِ اللّهِ لَكُما ، حَتّى أرى رَأيي . وَاعلَما أنّي لا اُشرِكُ في أمانَتي إلّا مَن أرضى بِدينِهِ وأمانَتِهِ مِن أصحابي ، ومَن قَد عَرَفتُ دَخيلَتَهُ (1) . فَانصَرَفا عَنهُ وقَد دَخَلَهُمَا اليَأسُ (2) .
الإمام عليّ عليه السلام_ في وَصفِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ _: كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَرجُو الأَمرَ لَهُ ، ويَعطِفُهُ عَلَيهِ دونَ صاحِبِهِ ، لا يَمُتّانِ إلَى اللّهِ بِحَبلٍ ، ولا يَمُدّانِ إلَيهِ بِسَبَبٍ . كُلُّ واحِدٍ مِنهُما حامِلُ ضَبٍّ لِصاحِبِهِ ، وعَمّا قَليلٍ يُكشَفُ قِناعُهُ بِهِ ! وَاللّهِ ! لَئِن أصابُوا الَّذي يُريدونَ لَيَنتَزِعَنَّ هذا نَفسَ هذا ، ولَيَأتِيَنَّ هذا عَلى هذا . قَد قامَتِ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، فَأَينَ المُحتَسِبونَ ! فَقَد سُنَّت لَهُمُ السُّنَنُ ، وقُدِّمَ لَهُمُ الخَبَرُ ، ولِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ ، ولِكُلِّ ناكِثٍ شُبهَةٌ . وَاللّهِ لا أكونُ كَمُستَمِعِ اللَّدمِ ؛ يَسمَعُ النّاعِيَ ، ويَحضُرُ الباكِيَ ، ثُمَّ لا يَعتَبِرُ ! (3)
الإرشاد :لَمَّا اتَّصَلَ بِهِ [بِعَلِيٍّ عليه السلام ] مَسيرُ عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إلَى البَصرَةِ مِن مَكَّةَ ، حَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : قَد سارَت عائِشَةُ وطَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَدَّعِي الخِلافَةَ دونَ صاحِبِهِ ، فَلا يَدَّعي طَلحَةُ الخِلافَةَ إلّا أنَّهُ ابنُ عَمِّ عائِشَةَ ، ولا يَدَّعيهَا الزُّبَيرُ إلّا أنَّهُ صِهرُ أبيها ، وَاللّهِ لَئِن ظَفِرا بِما يُريدانِ لَيَضرِبَنّ الزُّبَيرُ عُنُقَ طَلحَةَ ، ولَيَضرِبَنَّ طَلحَةُ عُنُقَ الزُّبَيرِ ؛ يُنازِعُ هذا عَلَى المُلكِ هذا (4) .
تاريخ الطبري عن عتبة بن المغيرة بن الأخنس :خَلا سَعيدُ [بنُ العاصِ بنِ مَروانَ ]بِطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، فَقالَ : إن ظَفِرتُما ، لِمَن تَجعَلانِ الأَمرَ ؟ أصدِقاني !
.
ص: 33
قالا : لِأَحَدِنا ؛ أيُّنَا اختارَهُ النّاسُ . قالَ : بَلِ اجعَلوهُ لِوَلَدِ عُثمانَ ؛ فَإِنَّكُم خَرَجتُم تَطلُبونَ بِدَمِهِ . قالا : نَدَعُ شَيوخَ المُهاجِرينَ ونَجعَلُها لِأَبنائِهِم !؟ (1)
تاريخ الطبري عن ابن عبّاس :خَرَجَ أصحابُ الجَمَلِ في سِتِّمِئَةٍ ، مَعَهُم : عَبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي بَكرَةَ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ صَفوانَ الجُمَحِيُّ ، فَلَمّا جاوَزا بِئرَ مَيمونٍ (2) إذا هُم بِجَزورٍ قَد نُحِرَت ونَحرُها يَنثَعِبُ (3) ، فَتَطَيَّروا . وأذَّنَ مَروانُ حينَ فَصَلَ مِن مَكَّةَ ، ثُمَّ جاءَ حَتّى وَقَفَ عَلَيهِما ، فَقالَ : أيَّكُما اُسَلِّمُ بِالإِمرَةِ ، واُؤَذِّنُ بِالصَّلاةِ ؟ ! فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ : عَلى أبي عَبدِ اللّهِ . وقالَ مُحَمَّدُ بنُ طَلحَةَ : عَلى أبي مُحَمَّدٍ . فَأرسَلَت عائِشَةُ إلى مَروانَ ، فَقالَت : ما لَكَ ! أ تُريدُ أن تُفَرِّقَ أمرَنا ؟ ! لِيُصَلِّ ابنُ اُختي ! فَكانَ يُصَلّي بِهِم عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ ، حَتّى قَدِمَ البَصرَةَ . فَكانَ مُعاذُ بنُ عُبَيدِ اللّهِ يَقولُ : وَاللّهِ لَو ظَفِرنا لَافتَتَنّا ؛ ما خَلَّى الزُّبَيرُ بَينَ طَلحَةَ وَالأَمرِ ، ولا خَلّى طَلحَةُ بَينَ الزُّبَيرِ وَالأَمرِ ! (4)
الجمل :لَمّا أصبَحوا [النّاكِثونَ بَعدَ استيلائِهِم عَلَى البَصرَةِ] ، اجتَمَعَ النّاسُ إلَيهِم ، وأذَّنَ مُؤذِّنُ المَسجِدِ لِصَلاةِ الغَداةِ ، فَرامَ (5) طَلحَةُ أن يَتَقَدَّمَ لِلصَّلاةِ بِهِم ، فَدَفَعَهُ الزُّبَيرُ وأرادَ أن يُصَلِّيَ بِهِم ، فَمَنَعَهُ طَلحَةُ ، فَما زالا يَتَدافَعانِ حَتّى كادَتِ الشَّمسُ أن تَطلُعَ .
.
ص: 34
فَنادى أهلُ البَصرَةِ : اللّهَ اللّهَ يا أصحابَ رَسولِ اللّهِ فِي الصَّلاةِ ، نَخافُ فَوتَها ! فَقالَت عائِشَةُ : مُروا أن يُصَلِّي بِالنّاسِ غَيرُهُما . فَقالَ لَهُم يَعلَى بنُ مُنيَةَ : يُصَلّي عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ يَوما ، ومُحَمَّدُ بنُ طَلحَةَ يَوما ، حَتّى يَتَّفِقَ النّاسُ عَلى أميرٍ يَرضَونَهُ . فَتَقَدَّمَ ابنُ الزُّبَيرِ ، وصَلّى بِهِم ذلِكَ اليَومَ (1) .
راجع : ص 100 (بدء الخلاف) .
5 / 2الحِقدُالإمام عليّ عليه السلام_ عِندَ التَّهَيُّؤِ لِقِتالِ القاسِطينَ _: ألا إنَّ خِضابَ النِّساءِ الحِنّاءُ ، وخِضابَ الرِّجالِ الدِّماءُ ، وَالصَّبرُ خَيرٌ في عَواقِبِ الاُمورِ ، ألا إنَّها إحَنٌ (2) بَدرِيَّةٌ ، وضَغائِنُ اُحُدِيَّةٌ ، وأحقادٌ جاهِلِيَّةٌ ، _ وقَرَأَ _ : «فَقَ_تِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لآَ أَيْمَ_نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ» (3)(4) .
الإقبال_ في دُعاءِ النُّدبَةِ في وَصفِ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: ويُقاتِلُ عَلَى التَّأويلِ، ولا تَأخُذُهُ فِي اللّهِ لَومَةُ لائِمٍ ، قَد وَتَرَ (5) فيهِ صَناديدَ (6) العَرَبِ ، وقَتَلَ أبطالَهُم ، وناوَشَ (7)
.
ص: 35
ذُؤبانَهُم ، وأودَعَ قُلوبَهُم أحقادا بَدرِيَّةً ، وخَيبَرِيَّةً ، وحُنَينِيَّةً ، وغَيرَهُنَّ ، فَأَضَبَّت (1) عَلى عَداوَتِهِ ، وأكَبَّت عَلى مُنابَذَتِهِ ، حَتّى قَتَلَ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ (2) .
بلاغات النساء عن اُمّ الخير بنت الحريش البارقيّة_ في وَصفِ أعداءِ الإمامِ عَلِيٍّ عليه السلام في حَربِ صِفّينَ _: إنَّها إحَنٌ بَدرِيَّةٌ ، وأحقادٌ جاهِلِيَّةٌ ، وضَغائِنُ اُحُدِيَّةٌ ، وَثَبَ بِها مُعاوِيَةُ حينَ الغَفلَةِ ؛ لِيُدرِكَ بِها ثاراتِ بَني عَبدِ شَمسٍ (3) .
وقعة صفّين عن عبد اللّه بن بديل بن ورقاء الخزاعي_ في حَربِ صِفّينَ _: يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ القَومَ لَو كانُوا اللّهَ يُريدونَ أو للّهِِ يَعمَلونَ ما خالَفونا ! ولكِنَّ القَومَ إنَّما يُقاتِلونَ فِرارا مِنَ الاُسوَةِ (4) ، وحُبّا لِلأَثَرَةِ (5) ، وضَنّا (6) بِسُلطانِهِم ، وكُرها لِفِراقِ دُنياهُمُ الَّتي في أيديهِم ، وعَلى إحَنٍ في أنفُسِهِم ، وعَداوَةٍ يَجِدونَها في صُدورِهِم؛ لِوَقائِعَ أوقَعتَها _ يا أميرَ المُؤمِنينَ _ بِهِم قَديمَةٍ ، قَتَلتَ فيها آباءَهُم وإخوانَهُم . ثُمَّ التَفَتَ إلَى النّاسِ فَقالَ : فَكَيفَ يُبايِعُ مُعاوِيَةُ عَلِيّا وقَد قَتَلَ أخاهُ حَنظَلَةَ ، وخالَهُ الوَليدَ ، وَجدَّهُ عُتبَةَ في مَوقِفٍ واحِدٍ ! وَاللّهِ ما أظُنُّ أن يَفعَلوا ، ولَن يَستَقيموا لَكُم دونَ أن تُقَصَّدَ (7) فِيهِمُ المُرّانُ (8) ، وتُقَطَّعَ عَلى هامِهِمُ السُّيوفُ ، وتُنثَرَ حَواجِبُهُم
.
ص: 36
بِعَمَدِ الحَديدِ ، وتَكونَ اُمورٌ جَمَّةٌ بَينَ الفَريقَينِ (1) .
وقعة صفّين :ذَكَروا أنَّهُ اجتَمَعَ . . . عُتبَةُ بنُ أبي سُفيانَ وَالوَليدُ بن عُقبَةَ ، ومَروانُ بنُ الحَكَمِ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ ، وَابنُ طَلحَةَ الطَّلحاتِ ، فَقالَ عُتبَةُ : إنَّ أمرَنا وأمرَ عَلِيٍّ لَعَجَبٌ ، لَيسَ مِنّا إلّا مَوتورٌ مُحاجٌّ ؛ أمّا أنا فَقَتَلَ جَدّي ، وَاشتَرَكَ في دَمِ عُمومَتي يَومَ بَدرٍ ، وأمّا أنتَ يا وَليدُ فَقَتَلَ أباكَ يَومَ الجَمَلِ ، وأيتَمَ إخوَتَكَ ، وأمّا أنتَ يا مَروانُ فَكَما قالَ الأَوَّلُ : وأفلَتَهُنَّ عَلباءٌ جَريضا ولَو أدرَكنَهُ صَفِرَ الوِطابُ قالَ مُعاوِيَةُ : هذَا الإِقرارُ ، فَأَينَ الغُيُرُ ؟ قالَ مَروانُ : أيَّ غُيُرٍ تُريدُ ؟ قالَ : اُريدُ أن يُشجَرَ بالرِّماحِ . فَقالَ : وَاللّهِ إنَّكَ لَهازِلٌ ، ولَقَد ثَقَّلنا عَلَيكَ (2) .
المناقب للخوارزمي :ويُروى في يَومِ السّادِسِ وَالعِشرينَ مِن حُروبِ صِفّينَ : اجتَمَعَ عِندَ مُعاوِيَةَ المَلأَُ مِن قَومِهِ ، فَذَكَروا شَجاعَةَ عَلِيٍّ وشَجاعَةَ الأَشتَرِ ، فَقالَ عُتبَةُ بنُ أبي سُفيانَ : إن كانَ الأَشتَرُ شُجاعا ، لكِنَّ عَلِيّا لا نَظيرَ لَهُ في شَجاعَتِهِ وصَولَتِهِ وقُوَّتِهِ ! ! قالَ مُعاوِيَةُ : ما مِنّا أحَدٌ إلّا وقَد قَتَلَ عَلِيٌّ أباهُ ، أو أخاهُ ، أو وَلَدَهُ ؛ قَتَلَ يَومَ بَدرٍ أباكَ يا وَليدُ ، وقَتَلَ عَمَّكَ يا أبَا الأَعوَرِ يَومَ اُحُدٍ ، وقَتَلَ يَابنَ طَلحَةَ الطَّلحاتِ أباكَ يَومَ الجَمَلِ ، فَإِذَا اجتَمَعتُم عَلَيهِ أدرَكتُم ثَأرَكُم مِنهُ ، وشَفَيتُم صُدورَكُم (3) .
راجع : ج 2 ص 346 (من تخلّف عن بيعته) .
.
ص: 37
5 / 3الحَسَدُالأمالي للمفيد عن الحسن بن سلمة :لَمّا بَلَغَ أميرَ المُؤمِنينَ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ مَسيرُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وعائِشَةَ مِن مَكَّةَ إلَى البَصرَةِ . . . فَقامَ أبُو الهَيثَمِ بنُ التَّيِّهانِ وقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ حَسَدَ قُرَيشٍ إيّاكَ عَلى وَجهَينِ : أمّا خِيارُهُم ؛ فَحَسَدوكَ مُنافَسَةً فِي الفَضلِ ، وَارتِفاعا فِي الدَّرَجَةِ ، وأمّا أشرارُهُم ؛ فَحَسَدوكَ حَسَدا أحبَطَ اللّهُ بِهِ أعمالَهُم ، وأثقَلَ بِهِ أوزارَهُم ، وما رَضوا أن يُساووكَ حَتّى أرادوا أن يَتَقَدَّموكَ ، فَبَعُدَت عَلَيهِمُ الغايَةُ ، وأسقَطَهَمُ المِضمارُ . وكُنتَ أَحقَّ قُرَيشٍ بِقُرَيشٍ ؛ نَصَرتَ نَبِيَّهُم حَيّا ، وقَضَيتَ عَنهُ الحُقوقَ مَيِّتا . وَاللّهِ ما بَغيُهُم إلّا عَلى أنفُسِهِم ، ونَحنُ أنصارُكَ وأعوانُكَ ، فَمُرنا بِأَمرِكَ ! ثُمَّ أنشَأَ يَقولُ : إنَّ قَوما بَغَوا عَلَيكَ وكادو كَ وعابوكَ بِالاُمورِ القِباحِ لَيسَ مِن عَيبِها جَناحُ بَعوضِ فيكَ حَقّا ولا كَعُشرِ جَناحِ أبصَروا نِعمَةً عَلَيكَ مِنَ اللّ _هِ وقَرما (1) يَدُقُّ قَرنَ النِّطاحِ وإماما تَأوِي الاُمورُ إلَيهِ ولِجاما يُلينُ غَربَ الجِماحِ (2) حاكِما تُجمَعُ الإمامَةُ فيهِ هاشِمِيّا لَهُ عِراضُ البِطاحِ حَسَدا لِلَّذي أتاكَ مِنَ اللّ _هِ وعادوا إلى قُلوبٍ قَراحِ ونُفوسٌ هُناكَ أوعِيَةُ البُغ _ضِ عَلَى الخَيرِ لِلشَّقاءِ شِحاحِ مِن مُسِرٍّ يُكِنُّهُ حُجُبُ الغَي _بِ ومِن مُظهِرِ العَداوَةِ لاحِ يا وَصِيَّ النَّبِيِّ نَحنُ مِنَ الحَ _قِّ عَلى مِثلِ بَهجَةِ الإِصباحِ فَخِّذِ (3) الأَوسَ وَالقَبيلَ مِنَ الخَز رَجِ بِالطَّعنِ فِي الوَغى وَالكِفاحِ لَيسَ مِنّا مَن لَم يَكُن لَكَ فِي اللّ _هِ وَلِيّا عَلَى الهُدى وَالفَلاحِ (4)
.
ص: 38
الإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَةٍ لَهُ عِندَ خُروجِهِ لِقتالِ أهلِ البَصرَةِ وفيها يَذُمُّ الخارِجينَ عَلَيهِ _: ما لي ولِقُرَيشٍ ! وَاللّهِ لَقَد قاتَلتُهُم كافِرينَ ، ولَاُقاتِلَنَّهُم مَفتونينَ ، وإنّي لَصاحِبُهُم بِالأَمسِ كَما أنَا صاحِبُهُمُ اليَومَ . وَاللّهِ ما تَنقِمُ مِنّا قُرَيشٌ إلّا أنَّ اللّهَ اختارَنا عَلَيهِم ، فَأَدخَلناهُم في حَيِّزِنا ، فَكانوا كَما قالَ الأَوَّلُ : أدَمتَ لَعَمري شُربَكَ المَحضَ صابِحا وأكلَكَ بِالزُّبدِ المُقَشَّرَةَ البُجرا ونَحنُ وَهَبناكَ العَلاءَ ولَم تكُن عَلِيّا وحُطنا حَولَكَ الجُردَ وَالسُّمرا (1)
راجع : ج 2 ص 385 (تعذّر بعض الإصلاحات) . و ج 5 ص 65 (الخليل بن أحمد) .
5 / 4الحِرصُالأمالي للطوسي عن مالك بن أوس :بَعَثَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] إلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ فَدَعاهُما ، ثُمَّ قالَ لَهُما : أ لَم تَأتِياني وتُبايِعاني طائِعَينِ غَيرَ مُكرَهَينِ ، فَما أنكَرتُم ! أ جَورٌ في حُكمٍ ، أوِ استِئثارٌ في فَيءٍ؟ ! قالا : لا . قالَ عليه السلام : أو في أمرٍ دَعَوتُماني إلَيهِ مِن أمرِ المُسلِمينَ فَقَصَرتُ عَنهُ؟ ! قالا : مَعاذَ اللّهِ .
.
ص: 39
قالَ عليه السلام : فَمَا الَّذي كَرِهتُما مِن أمري حَتّى رَأَيتُما خِلافي ؟ قالا : خِلافَكَ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ فِي القَسمِ ، وَانتِقاصَنا حَقَّنا مِنَ الفَيءِ ؛ جَعَلتَ حَظَّنا فِي الإِسلامِ كَحَظِّ غَيرِنا مِمّا أفاءَ اللّهُ عَلَينا بِسُيوفِنا مِمَّن هُوَ لَنا فَيءٌ فَسَوَّيتَ بَينَنا وبَينَهُم (1) .
الجمل :صارا [طَلحَةُ وَالزَّبَيرُ] إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَخَطَبَ إلَيهِ طَلحَةُ وِلايَةَ العِراقِ ، وطَلَبَ مِنهُ الزُّبَيرُ وِلايَةَ الشّامِ . فَأَمسَكَ عليه السلام عَن إجابَتِهِما في شَيءٍ مِن ذلِكَ . فَانصَرَفا وهُما ساخِطانِ مِنهُ ، فَعَرَفا ما كانَ غَلَبَ في ظَنِّهِما قَبلُ مِن رَأيِهِ عليه السلام ، فَتَرَكاهُ يَومَينِ أو ثَلاثَةَ أيّامٍ ، ثُمَّ صارا إلَيهِ وَاستَأذَنا عَلَيهِ ، فَأَذِنَ لَهُما ، وكانَ في عُلِّيَّةٍ (2) في دارِهِ ، فَصَعِدا إلَيهِ وجَلَسا عِندَهُ بَينَ يَدَيهِ ، وقالا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، قَد عَرَفتَ حالَ هذِهِ الأَزمِنَةِ وما نَحنُ فيهِ مِنَ الشِّدَّةِ ، وقَد جِئناكَ لِتَدفَعَ إلَينا شَيئا نُصلِحُ بِهِ أحوالَنا ، ونَقضي بِهِ حُقوقا عَلَينا ! فَقالَ عليه السلام : قَد عَرَفتُما مالِي بِيَنبُعَ (3) ، فَإِن شِئتُما كَتَبتُ لَكُما مِنهُ ما تَيَسَّرَ ! ! فَقالا : لا حاجَةَ لَنا في مالِكَ بِيَنبُعَ . فَقالَ لَهُما : فَما أصنَعُ ؟ فَقالا لَهُ : أعطِنا مِن بَيتِ المالِ شَيئا فيهِ لَنا كِفايَةٌ . فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : سُبحانَ اللّهِ ! وأَيُّ يَدٍ لي في بَيتِ المالِ ! ذلِكَ لِلمُسلِمينَ ، وأنَا خازِنُهُم وأمينٌ لَهُم ، فَإِن شِئتُما رَقَيتُ المِنبَرَ وسَأَلتُهُم ذلِكَ مِمّا شِئتُما ، فَإِن أذِنوا فيهِ فَعَلتُ . وأنّى لي بِذلِكَ وهُوَ لِكافَّةِ المُسلِمينَ ؛ شاهِدِهِم وغائِبِهِم ! ! لكِنّي اُبلى ¨
.
ص: 40
لَكُما عُذرا . قالا : ما كُنّا بِالَّذي يُكَلِّفُكَ ذلِكَ ، ولَو كَلَّفناكَهُ لَما أجابَكَ المُسلِمونَ . فَقالَ لَهُما : فَما أصنَعُ ؟ قالا : سَمِعنا ما عِندَكَ (1) .
المناقب للخوارزمي عن أبي بشير الشيباني :لَم يَكُن [بَعدَ بَيعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام ]إلّا يَسيرا حَتّى دَخَلَ عَلَيهِ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، فَقالا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ أرضَنا أرضٌ شَديدَةٌ ، وعِيالَنا كَثيرٌ ، ونَفَقَتَنا قَليلَةٌ ! قالَ : أ لَم أقُل لَكُم إنّي لا اُعطي أحَدا دونَ أحَدٍ ؟ ! قالا : نَعَم . قالَ : فَأْتوني بِأَصحابِكُم ، فَإِن رَضوا بِذلِكَ أعطَيتُكُم ، وإلّا لَم اُعطِكُم دونَهُم . ولَو كانَ عِندي شَيءٌ أعطَيتُكُم مِنَ الَّذي لي؛ لَوِ انتَظَرتُم حَتّى يَخرُجَ عَطائي أعطَيتُكُم مِن عَطائي . فَقالا : ما نُريدُ مِن مالِكَ شَيئا . وخَرَجا مِن عِندِهِ . فَلَم يَلبَثا إلّا قَليلاً حَتّى دَخَلا عَلَيهِ ، فَقالا : أ تَأذَنُ لَنا فِي العُمرَةِ ؟ قالَ : ما تُريدانِ العُمرَةَ ، ولكِن تُريدانِ الغُدرَةَ (2) .
دعائم الإسلام :رُوّينا عَن عَلِيٍّ عليه السلام أنَّهُ أمَرَ عَمَّارَ بنَ ياسِرٍ ، وعُبيدَ اللّهِ بنَ أبي رافِعٍ ، وأبَا الهَيثَمِ بنَ تَيِّهانَ ، أن يُقَسِّموا فَيئا بَينَ المُسلِمينَ ، وقالَ لَهُم : اِعدِلوا فيهِ ، ولا تُفَضِّلوا أحَدا عَلى أحَدٍ .
.
ص: 41
فَحَسَبوا ، فَوَجَدُوا الَّذي يُصيبُ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ المُسلِمينَ ثَلاثَةَ دَنانيرَ ، فَأَعطَوُا النّاسَ . فَأَقبَلَ إلَيهِم طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، ومَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُمَا ابنُهُ ، فَدَفَعوا إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُم ثَلاثَةَ دَنانيرَ . فَقالَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ : لَيسَ هكَذا كانَ يُعطينا عُمَرُ ! فَهذا مِنكُم أو عَن أمرِ صاحِبِكُم ؟ قالوا : بَل هكَذا أمَرَنا أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام . فَمَضَيا إلَيهِ ، فَوَجَداهُ في بَعضِ أموالِهِ قائِما فِي الشَّمسِ عَلى أجيرٍ لَهُ يَعمَلُ بَينَ يَدَيهِ ، فَقالا : تَرى أن تَرتَفِعَ مَعَنا إلَى الظِّلِّ ؟ قالَ : نَعَم . فَقالا لَهُ : إنّا أتَينا إلى عُمّالِكَ عَلى قِسمَةِ هذَا الفَيءِ ، فَأَعطَوا كُلَّ واحِدٍ مِنّا مِثلَ ما أعطَوا سائِرَ النّاسِ ! قالَ : وما تُريدانِ ؟ ! قالا : لَيسَ كَذلِكَ كانَ يُعطينا عُمَرُ ! قالَ : فَما كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يُعطيكُما ؟ فَسَكَتا ، فَقالَ : أ لَيسَ كانَ صلى الله عليه و آله يَقسِمُ بِالسَّوِيَّةِ بَينَ المُسلِمينَ مِن غَيرِ زِيادَةٍ ؟ ! قالا : نَعَم . قالَ : أفَسُنَّةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أولى بِالاِتِّباع عِندَكُما ، أم سُنَّةُ عُمَرَ ؟ ! قالا : سُنَّةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ولكِن يا أميرَ المُؤمِنينَ لَنا سابِقَةٌ وغَناءٌ وقَرابَةٌ ، فإِن رَأَيتَ ألّا تُسَوّيَنا بِالنّاسِ فَافعَل . قالَ : سابِقَتُكُما أسبَقُ ، أم سابِقَتي ؟ قالا : سابِقَتُكَ . قالَ : فَقَرابَتُكُما أقرَبُ ، أم قَرابَتي ؟ قالا : قَرابَتُكَ . قالَ : فَغَناؤُكُما أعظَمُ أم غَنائي ؟ قالا : بَل أنتَ يا أميرَ المُؤمِنينَ أعظَمُ غَناءً . قالَ : فَوَاللّهِ ، ما أنَا وأجيري هذا في هذَا المالِ إلّا بِمَنزِلَةٍ واحِدَةٍ ! ! (1)
.
ص: 42
مروج الذهب :لَمّا رَأى مُعاوِيَةُ القَتلَ في أهلِ الشّامِ وكَلَبَ (1) أهلِ العِراقِ عَلَيهِم ، اِستَدعى بِالنُّعمانِ بنِ جَبَلَةَ التَّنوخِيِّ _ وكانَ صاحِبَ رايَةِ قَومِهِ في تَنوخَ (2) وبَهراءَ (3) _ وقالَ لَهُ : لَقَد هَمَمتُ أن اُوَلِّيَ قَومَكَ مَن هُوَ خَيرٌ مِنكَ مُقدَما (4) ، وأنصَحُ مِنكَ دينا . فَقالَ لَهُ النُّعمانُ : إنّا لَو كُنّا نَدعو قَومَنا إلى جَيشٍ مَجموعٍ لَكانَ في كَسعِ (5) الرِّجالِ بَعضُ الأَناةِ (6) ، فَكَيفَ ونَحنُ نَدعوهُم إلى سُيوفٍ قاطِعَةٍ ، ورُدَينِيَّةٍ (7) شاجِرَةٍ ، وقَومٍ ذَوي بَصائِرَ نافِذَةٍ ! ! وَاللّهِ لَقَد نَصَحتُكَ عَلى نَفسي ، وآثَرتُ مُلكَكَ عَلى ديني ، وتَرَكتُ لِهَواكَ الرُّشدَ وأَنَا أعرِفُهُ ، وحُدتُ عَنِ الحَقِّ وأنَا اُبصِرُهُ ، وما وُفِّقتُ لِرُشدٍ حينَ اُقاتِلُ عَلى مُلكِكَ ابنَ عَمِّ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وأوَّلَ مُؤمِنٍ بِهِ ومُهاجِرٍ مَعَهُ ، ولَو أعطَيناهُ ما أعطَيناكَ لَكانَ أرأَفَ بِالرَّعِيَّةِ ، وأجزَلَ فِي العَطِيَّةِ ، ولكِن قَد بَذَلنا لَكَ الأَمرَ ، ولابُدَّ مِن إتمامِهِ كانَ غَيّا أو رُشدا ، وحاشا أن يَكونَ رُشدا ، وسَنُقاتِلُ عَن تينِ الغَوطَةِ (8) وزَيتونِها ؛ إذ حُرِمنا أثمارَ الجَنَّةِ وأنهارَها . وخَرَجَ إلى قَومِهِ ، وصَمَدَ إلَى الحَربِ (9) .
راجع : ص 97 (تأهّب الناكثين للخروج على الإمام) .
.
ص: 43
5 / 5الجَهالَةُالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كتابٍ لَهُ إلى عَقيلٍ _: ألا وإنَّ العَرَبَ قَدِ اجتَمَعَت عَلى حَربِ أخيكَ اليَومَ اجتِماعَها عَلى حَربِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله قَبلَ اليَومِ ، فَأَصبَحوا قَد جَهِلوا حَقَّهُ ، وجَحَدوا فَضلَهُ (1) .
تاريخ الطبري عن أبي البختري الطائي :أطافَت ضَبَّةُ والأَزدُ بِعائِشَةَ يَومَ الجَمَلِ ، وإذا رِجالٌ مِنَ الأَزدِ يأخُذونَ بَعرَ الجَمَلِ فَيَفُتّونَهُ ويَشُمّونَهُ ، ويَقولونَ : بَعرُ جَمَلِ اُمِّنا ريحُهُ رِيحُ المِسكِ ! (2)
مروج الذهب_ في وَصفِ مُعاوِيَةَ _: وبَلَغَ مِن إحكامِهِ لِلسِّياسَةِ وإتقانِهِ لَها وَاجتِذابِهِ قُلوبَ خَواصِّهِ وعَوامِّهِ أنَّ رَجُلاً مِن أهلِ الكوفَةِ دَخَلَ عَلى بَعيرٍ لَهُ إلى دِمَشقَ _ في حَالَةِ مُنصَرَفِهِم عَن صِفّينَ _ فَتَعَلَّقَ بِهِ رَجُلٌ مِن دِمَشقَ ، فَقالَ : هذِهِ ناقَتي ، اُخِذَت مِنّي بِصِفّينَ ! فَارتَفَعَ أمرُهُما إلى مُعاوِيَةَ ، وأقامَ الدِّمَشقِيُّ خَمسينَ رَجُلاً بَيِّنَةً يَشهَدون أنَّها ناقَتُهُ . فَقَضى مُعاوِيَةُ عَلَى الكوفِيِّ ، وأمَرَهُ بِتَسليمِ البَعيرِ إلَيهِ . فَقالَ الكوفِيُّ : أصلَحَكَ اللّهُ ، إنَّهُ جَمَلٌ ، ولَيسَ بِناقَةٍ ! فَقالَ مُعاوِيَةُ : هذا حُكمٌ قَد مَضى . ودَسَّ إلَى الكوفِيِّ بَعدَ تَفَرُّقِهِم فَأَحضَرَهُ ، وسَأَلَهُ عَن ثَمَنِ بَعيرِهِ ، فَدَفَعَ إلَيهِ ضِعفَهُ ، وبَرَّهُ وأحسَنَ إلَيهِ ، وقالَ لَهُ : أبلِغ عَلِيّا أنّي اُقاتِلُهُ بِمِئَةِ ألفٍ ، ما فيهِم مَن يُفَرِّقُ بَينَ النّاقَةِ وَالجَمَلِ ! !
.
ص: 44
وقَد بَلَغَ مِن أمرِهِم في طاعَتِهِم لَهُ أنَّهُ صَلّى بِهِم عِندَ مَسيرِهِم إلى صِفّينَ الجُمُعَةَ في يَومِ الأَربِعاءِ ، وأعاروهُ رُؤوسَهُم عِندَ القِتالِ ، وحَمَلوهُ بِها ، ورَكَنوا إلى قَولِ عَمرِو بنِ العاصِ : إنَّ عَلِيّا هُوَ الَّذِي قَتَلَ عَمّارَ بنَ ياسِرٍ حينَ أخرَجَهُ لِنُصرَتِهِ . ثُمَّ ارتَقى بِهِمُ الأَمرُ في طاعَتِهِ إلى أن جَعَلوا لَعَن عَلِيٍّ سُنَّةً ؛ يَنشَأُ عَلَيهَا الصَّغيرُ ، ويَهلِكُ عَلَيهَا الكَبيرُ (1) .
راجع : ج 2 ص 69 (بغض قريش) . و ج 7 ص 71 (بواعث بغضه) .
.
ص: 45
الفصل السادس : أهداف الإمام في قتال البغاة6 / 1إحياءُ الدّينِمسند ابن حنبل عن أبي سعيدٍ الخدريّ :كُنّا جُلوسا نَنتَظِرُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَخَرَجَ عَلَينا مِن بَعضِ بُيوتِ نِسائه _ قالَ : _ فَقُمنا مَعَهُ ، فَانقَطَعَت نَعلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيها عَلِيٌّ يَخصِفُها ، فَمَضى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ومَضَينا مَعَهُ ، ثُمَّ قامَ يَنتَظِرُهُ ، وقُمنا مَعَهُ . فَقالَ : إنَّ مِنكُم مَن يُقاتِلُ عَلى تَأويلِ هذَا القُرآنِ كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ ، فَاستَشرَفنا وفينا أبو بكرٍ وعُمَرُ ، فَقالَ : لا ، ولكِنَّهُ خاصِفُ النَّعلِ . قالَ : فَجِئنا نُبَشِّرُهُ ، _ قال : _ وكَأَنَّهُ قَد سَمِعَهُ (1) .
.
ص: 46
الإمام زين العابدين عليه السلام :اِنقَطَعَ شِسعُ (1) نَعلِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَدَفَعَها إلى عَلِيٍّ عليه السلام يُصلِحُها ، ثُمَّ مَشى في نَعلٍ واحِدَةٍ غَلوَةً (2) أو نَحوَها ، وأقبَلَ عَلى أصحابِهِ فَقالَ : إنَّ مِنكُم مَن يُقاتِلُ عَلى التَّأويلِ كَما قاتَلَ مَعي عَلَى التَّنزيلِ ! فَقالَ أبو بَكرٍ : أنَا ذاكَ ، يا رَسولَ اللّهِ ؟ ! قالَ : لا . فَقالَ عُمَرُ : فَأَنَا يا رَسولَ اللّهِ ؟ !قالَ : لا . فَأَمسكَ القَومُ ، ونَظَرَ بَعضُهُم إلى بَعضٍ ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : لكِنَّهُ خاصِفُ النَّعلِ _ وأومَأَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام _ وإنَّهُ المُقاتِلُ عَلَى التَّأويلِ إذا تُرِكَت سُنَّتي ونُبِذَت ، وحُرِّفَ كِتابُ اللّهِ ، وتَكَلَّمَ فِي الدّينِ مَن لَيسَ لَهُ ذلِكَ ، فَيُقاتِلُهُم عَلِيٌّ عليه السلام عَلى إحياءِ دينِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ (3) .
الإمام الباقر عليه السلام :جاءَ رَجُلٌ إلى عَلِيٍّ عليه السلام وهُوَ عَلى مِنبَرِهِ ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أ تَأذَنُ لي أن أتَكَلَّمَ بِما سَمِعتُ عَن عَمّارِ بنِ ياسِرٍ يَرويهِ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ فَقالَ : اِتَّقُوا اللّهَ ولاتَقولوا عَلى عَمّارٍ إلّا ما قالَهُ _ حَتّى قالَ ذلِكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ _ ثُمَّ قالَ لَهُ : تكََلَّم . قالَ : سَمِعتُ عَمّارا يَقولُ : سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : أنَا اُقاتِلُ عَلَى التَّنزيلِ ، وَعَلِيٌّ يُقاتِلُ عَلَى التَّأويلِ . فَقالَ عليه السلام : صَدَقَ عَمّارٌ ورَبِّ الكَعبَةِ، إنَّ هذِهِ عِندي لَفي ألفِ كَلِمَةٍ تَتبَعُ كُلَّ كَلِمَةٍ ألفُ كَلِمَةٍ (4) .
المناقب للخوارزمي عن أبي ذرّ الغفاري :كُنتُ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهُوَ بِبَقيعِ الغَرقَدِ (5) ، فَقالَ :
.
ص: 47
وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ ، إنَّ فيكُم رَجُلاً يُقاتِلُ النّاسَ مِن بَعدي عَلى تَأويلِ القُرآنِ كَما قاتَلتُ المُشرِكينَ عَلى تَنزيلِهِ ، وهُم يَشهَدونَ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ ، فَيَكبُرُ قَتلُهُم عَلَى النّاسِ ، حَتّى يَطعَنوا عَلى وَلِيِّ اللّهِ ، ويَسخَطوا عَمَلَهُ كَما سَخِطَ موسى أمرَ السَّفينَةِ وقَتلَ الغُلامِ وأمرَ الجِدارِ ، وكانَ خَرقُ السَّفينَةِ وقَتلُ الغُلامِ وإقامَةُ الجِدارِ للّهِِ رضِىً ، وسَخِطَ ذلِكَ موسى . أرادَ بِالرَّجُلِ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام (1) .
كفاية الأثر عن أنس بن مالك :سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ : أوصياءُ الأَنبِياءِ الَّذينَ [ يَقومونَ مِن ] (2) بَعدِهِم بِقَضاءِ دُيونِهِم ، وإنجازِ عِداتِهِم ، ويُقاتِلونَ عَلى سُنَّتِهِم . ثُمَّ التَفَتَ إلى عَلِيٍّ عليه السلام ، فَقالَ : أنتَ وَصِيّي ، وأخي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، تَقضي دَيني ، وتَنحو (3) عِداتي ، وتُقاتِلُ عَلى سُنَّتي ؛ تُقاتِلُ عَلَى التَّأويلِ كَما قاتَلتُ عَلَى التَّنزيلِ (4) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :أيُّهَا النّاسُ ! لا اُلفِيَنَّكُم بَعدي تَرجِعونَ كُفّارا ؛ يَضرِبُ بَعضُكُم رِقابَ بَعضٍ ، فَتَلقَوني في كَتيبَةٍ كَمَجَرِّ السَّيلِ الجَرّارِ ! ألا وإنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ أخي ، ووَصِيّي ، يُقاتِلُ بَعدي عَلى تَأويلِ القُرآنِ كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ (5) .
عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، أنتَ . . . تُقاتِلُ بَعدي عَلى التَّأويلِ كَما قاتَلتُ عَلَى التَّنزيلِ (6) .
.
ص: 48
عنه صلى الله عليه و آله :أنَا اُقاتِلُ عَلى تَنزيلِ القُرآنِ ، وعَلِيٌّ يُقاتِلُ عَلى تَأويلِ القُرآنِ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ فِي الحِكَمِ المَنسوبَةِ إلَيهِ _: عَجَبا لِسَعدٍ وابنِ عُمَرَ ؛ يَزعُمانِ أنّي اُحارِبُ عَلَى الدُّنيا ! ! أفَكانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يُحارِبُ عَلَى الدُّنيا ؟ ! فَإِن زَعَما أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله حارَبَ لِتَكسيرِ الأَصنامِ ، وعِبادَةِ الرَّحمنِ ، فَإِنَّما حارَبتُ لِدَفعِ الضَّلالِ ، وَالنَّهيِ عَنِ الفَحشاءِ وَالفَسادِ . أفَمِثلي يُزَنُّ (2) بِحُبِّ الدُّنيا ! وَاللّهِ ، لَو تَمَثَّلَت لي بَشَرا سَوِيّا لَضَرَبتُها بِالسَّيفِ ! (3)
6 / 2الدِّفاعُ عَنِ السُّنَّةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنتَ أخي ، وأبو وُلدي ، تُقاتِلُ عَن سُنَّتي ، وتُبرِئُ ذِمَّتي (4) .
الإمام عليّ عليه السلام :طَلَبَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَوَجَدَني في حائِطٍ نائِما ، فَضَرَبَني بِرِجلِهِ ، قالَ : قُم ، فَوَاللّهِ لَاُرضِيَنَّكَ ! أنتَ أخي ، وأبو وُلدي ، تُقاتِلُ عَلى سُنَّتي . مَن ماتَ عَلى عَهدي فَهُوَ في كَنزِ اللّهِ ، ومَن ماتَ عَلى عَهدِكَ فَقَد قَضى نَحبَهُ ، ومَن ماتَ بِحُبِّكَ بَعدَ مَوتِكَ خَتَمَ اللّهُ لَهُ بِالأَمنِ وَالإيمانِ ما طَلَعَت شَمسٌ أو غَرَبَت (5) .
.
ص: 49
6 / 3مُكافَحَةُ البِدعَةِالإمام عليّ عليه السلام :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : إنَّ اللّهَ قَد كَتَبَ عَلَيكَ جِهادَ المَفتونينَ ، كَما كَتَبَ عَلَيَّ جِهادَ المُشرِكينَ . فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما هذِهِ الفِتنَةُ الَّتي كُتِبَ عَلَيَّ فيهَا الجِهادُ ؟ قالَ : قَومٌ يَشهَدونَ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ ، وأنّي رَسولُ اللّهِ ، وهُم مُخالِفونَ لِلسَنَّةِ . فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ : فَعَلامَ اُقاتِلُهُم وهُم يَشهَدونَ كَما أشهَدُ ؟ ! قالَ : عَلَى الإحداثِ فِي الدّينِ ، ومُخالَفَةِ الأَمرِ . فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ، إنَّكَ كُنتَ وعَدتَنِي الشَّهادَةَ ، فَاسأَلِ اللّهَ أن يُعَجِّلَها لي بَينَ يَدَيكَ . قالَ : فَمَن يُقاتِلُ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ ؟ ! (1)
الأمالي للطوسي عن أبي سعيدٍ الخدريّ :أخبَرَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيّا بِما يَلقى بَعدَهُ ، فَبَكى عليه السلام وقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، أسأَلُكَ بِحَقّي عَلَيكَ ، وقَرابَتي مِنكَ ، وحَقِّ صُحبَتي إيّاكَ ، لَمّا دَعَوتَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ أن يَقبِضَني إلَيهِ ؟ فَقالَ صلى الله عليه و آله : أ تَسأَلُني أن أدعُوَ رَبّي لِأَجَلٍ مُؤَجَّلٍ ؟ قالَ : فَعَلامَ اُقاتِلُهُم ؟ قالَ : عَلَى الإِحداثِ فِي الدّينِ (2) .
.
ص: 50
6 / 4مُكافَحَةُ الفُجورِالمستدرك على الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه :سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهُوَ آخِذٌ بِضَبعِ (1) عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رضى الله عنهوهُوَ يَقولُ : «هذا أميرُ البَرَرَةِ ، قاتِلُ الفَجَرةِ ، مَنصورٌ مَن نَصَرَهُ ، مَخذولٌ مَن خَذَلَهُ» ، ثُمَّ مَدَّ بِها صَوتَهُ (2) .
تاريخ بغداد عن جابر بن عبد اللّه :سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ الحُدَيبِيَةِ وهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عَلِيٍّ يَقولُ : «هذا أميرُ البَرَرَةِ ، وقاتِلُ الفَجَرَةِ ، مَنصورٌ مَن نَصَرَهُ ، مَخذولٌ مَن خَذَلَهُ» ، يَمُدُّ بِها صَوتَهُ (3) .
.
ص: 51
الفصل السابع : لمحة من الآراء في قتال البُغاة7 / 1أبو أيّوبَ الأنصارِيُالمستدرك على الصحيحين عن أبي أيّوب الأنصاري_ في خِلافَةِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ _: أمَرَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ بِقِتالِ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ (1) .
تاريخ دمشق عن أبي أيّوب الأنصاريّ_ في خِلافَةِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ _: أمَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِقِتالِ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ (2) .
المعجم الكبير عن محنف بن سليم :أتَينا أبا أيّوبَ الأنصارِيَّ وهُوَ يَعلِفُ خَيلاً لَهُ بِصَعنَبى (3) ، فَقِلنا (4) عِندَهُ ، فَقُلتُ لَهُ : أبا أيّوبَ ، قاتَلتَ المُشرِكينَ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ثُمَّ جِئتَ تُقاتِلُ المُسلِمينَ ؟ ! قالَ : إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَني بِقِتالِ ثَلاثَةٍ : النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ ، فَقَد
.
ص: 52
قاتَلتُ النّاكِثينَ ، وقاتَلتُ القاسِطينَ ، وأنَا مُقاتِلٌ إن شاءَ اللّهُ المارِقين؛ بالشَّعَفاتِ، بِالطُّرُقاتِ، بِالنَّهراواتِ (1) ؛ وما أدري ما هُم ! (2)
تاريخ بغداد عن علقمة والأسود :أتَينا أبا أيّوبَ الأنصارِيَّ عِندَ مُنصَرَفِهِ مِن صِفّينَ، فَقُلنا لَهُ : يا أبا أيّوبَ ! إنَّ اللّهَ أكرَمَكَ بِنُزولِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وبِمَجيءِ ناقَتِهِ؛ تَفَضُّلاً مِنَ اللّهِ وإكراما لَكَ حَتّى أناخَت بِبابِكَ دونَ النّاسِ ، ثُمَّ جِئتَ بِسَيفِكَ عَلى عاتِقِكَ تَضرِبُ بِهِ أهلَ لا إلهَ إلَا اللّهُ ؟! فَقالَ : يا هذا ! إنَّ الرّائِدَ لا يَكذِبُ أهلَهُ ، وإنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَنا بِقِتالِ ثَلاثَةٍ مَعَ عَلِيٍّ : بِقِتالِ النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ . فَأَمَّا النّاكِثونَ : فَقَد قابَلناهُم (3) ؛ أهلُ الجَمَلِ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ. وأمَّا القاسِطونَ : فَهذا مُنصَرَفُنا مِن عِندِهِم _ يَعني مُعاوِيَةَ وعَمرا _ . وأمّا المارِقونَ : فَهُم أهلُ الطَّرفاواتِ، وأَهلُ السُّعَيفاتِ، وأَهلُ النُّخَيلاتِ، وأَهلُ النَّهرَواناتِ؛ وَاللّهِ ما أدري أينَ هُم ! ولكِن لابُدَّ مِن قِتالِهِم إن شاءَ اللّهُ (4) .
7 / 2أبو سَعيدٍ الخُدرِيُّتاريخ دمشق عن أبي سعيد الخدري :أمَرَنا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِقِتالِ النّاكِثينَ وَالقاسِطين
.
ص: 53
وَالمارِقينَ ، فَقُلنا : يا رَسولَ اللّهِ ، أمَرتَنا بِقِتالِ هؤُلاءِ، فَمَعَ مَن ؟ قالَ : مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، مَعَهُ يُقتَلُ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ (1) .
7 / 3حُذَيفَةُفتح الباري عن زيد بن وهب :بَينا نَحنُ حَولَ حُذَيفَةَ إذ قالَ : كَيفَ أنتُم وقَد خَرَجَ أهلُ بَيتِ نَبِيِّكُم صلى الله عليه و آله فِرقَتَينِ يَضرِبُ بَعضُهُم وُجوهَ، بَعضٍ بِالسَّيفِ ؟ فَقُلنا : يا أبا عَبدِ اللّهِ، وإنَّ ذلِكَ لَكائِنٌ ؟! فَقالَ بَعضُ أصحابِهِ : يا أبا عَبدِ اللّهِ، فَكَيفَ نَصنَعُ إن أدرَكنا ذلِكَ الزَّمانَ ؟ قالَ : اُنظُرُوا الفِرقَةَ الَّتي تَدعو إلى أمرِ عَلِيٍّ فَالزَموها، فَإِنَّها عَلىَ الهُدى (2) .
7 / 4عَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَالاستيعاب عن عبد اللّه بن عمر :ما آسى عَلى شَيءٍ إلّا أنّي لَم اُقاتِل مَعَ عَلِيٍّ رضى الله عنهالفِئَةَ الباغِيَةَ ! (3)
المستدرك على الصحيحين عن الزهري :أخبَرَني حَمزَةُ بنُ عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ أنَّهُ بَينَما هُوَ جالِسٌ مَعَ عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ إذ جاءَهُ رَجُلٌ مِن أهلِ العِراقِ فَقالَ : يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ : إنّي وَاللّهِ لَقَد حَرَصتُ أن أتَسَمَّتَ بِسَمتِكَ وأقتَدِيَ بِكَ في أمرِ فُرقَةِ النّاسِ ، وأعتَزِلَ الشَّرَّ مَا استَطَعتُ ، وإنّي أقرَأُ آيَةً مِن كِتابِ اللّهِ مُحكَمَةً قَد
.
ص: 54
أخَذَت بِقَلبي، فَأَخبِرني عَنها . أرَأَيتَ قَولَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «وَ إِن طَ_آئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَ_تِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُواْ إِنَ اللَّهَ يُحِبُ الْمُقْسِطِينَ » (1) ؟ أخبِرني عَن هذِهِ الآيَةِ . فَقالَ عَبدُ اللّهِ : ما لَكَ ولِذلِكَ ؟ اِنصَرِف عَنّي ، فَانطَلَقَ حَتّى تَوارى عَنّا سَوادُهُ ، وأقبَلَ عَلَينا عَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ ، فَقالَ : ما وَجَدتُ في نَفسي مِن شَيءٍ فيأمرِ هذِهِ الآيَةِ ما وَجَدتُ في نَفسي أنّي لَم اُقاتِل هذِهِ الفِئَةَ الباغِيَةَ كَما أمَرَنِيَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ (2) .
7 / 5عمّارُ بنُ ياسِرٍوقعة صفّين عن عمّار بن ياسر_ لِعَمرِو بنِ العاصِ _: أمَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن اُقاتِلَ النّاكِثينَ، وقَد فَعَلتُ . وأمَرَني أن اُقاتِلَ القاسِطينَ ، فأَنتُم هُم . وأمَّا المارِقونَ فَما أدري اُدرِكُهُم أم لا (3) .
راجع : ص 453 (استشهاد عمّار بن ياسر) .
7 / 6اُمُّ سَلَمَةَ زَوجَةُ النَّبِيِّالمناقب للخوارزمي عن شهر بن حوشب :كُنتُ عِندَ اُمِّ سَلَمَةَ، فَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقيلَ : مَن أنتَ ؟
.
ص: 55
قالَ : أنَا أبو ثابِتٍ مَولى أبي ذَرٍّ . قالَت : مَرحَبا بِأَبي ثابِتٍ ، اُدخُل. فَدَخَلَ فَرَحَّبَت بِهِ . فقالت : أينَ طارَ قَلبُكَ حينَ طارَتِ القُلوبُ مَطايِرَها ؟ قالَ : مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام . قالَت : وُفِّقتَ ، وَالَّذي نَفسُ اُمِّ سَلَمَةَ بِيَدِهِ؛ لَسَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : عَلِيٌّ مَعَ القُرآنِ وَالقُرآنُ مَعَ عِلِيٍّ ، لَن يَفتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ . ولَقَد بَعَثتُ ابني عُمَرَ وَابنَ أخي عَبدَ اللّهِ _ أبي اُمَيَّةَ _ وأمَرتُهُما أن يُقاتِلا مَعَ عَلِيٍّ مَن قاتَلَهُ ، ولَولا أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَنا أن نَقِرَّ في حِجالِنا (1) _ أو في بُيوتِنا _ ، لَخَرَجتُ حَتّى أقِفَ في صَفِّ عَلِيٍّ (2) .
7 / 7أئِمَّةُ أهلِ السُّنَّةِمناقب أبي حنيفة عنه أنّه قال :ما قاتَلَ أحَدٌ عَلِيّا رضى الله عنه لِيَرُدَّهُ إلَى الحَقِّ إلّا وكانَ عَلِيٌّ أولى بِالحَقِّ مِنهُ ، ولَولاهُ ما عَلِمَ أحَدٌ كَيفَ السّيرَةُ في قِتالِ المُسلِمينَ (3) .
أيضا :لا شَكَّ أنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ قاتَلا عَلِيّا بَعدَما بايَعاهُ وحالَفاهُ (4) .
أيضا :سُئِلَ الإمامُ [أبو حَنيفَةَ] عن قِتالِ يَومِ الجَمَلِ . فَقالَ : سارَ عَلِيٌّ رضى الله عنهفيهِ بِالعدَلِ ، وهُوَ الَّذي عَلَّمَ المُسلِمينَ قِتالَ أهلِ البَغيِ (5) .
.
ص: 56
الاعتقاد والهداية عن ابن خزيمة(1) : كُلُّ مَن نازَعَ أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ في إمارَتِهِ فَهُوَ باغٍ ، عَلى هذا عَهِدتُ مَشايِخَنا، وبِهِ قالَ ابنُ إدريسَ؛ يَعنِي الشّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللّهُ (2) .
الفرق بين الفِرق عن أبي منصور 3_ في بَيانِ الاُصولِ الَّتِي اجتَمَعَ عَلَيها أهلُ السُّنَّةِ _الفرق بين الفِرق عن أبي منصور (3) : قالوا بإِمامَةِ عَلِيٍّ في وَقتِهِ ، وقالوا بِتَصويبِ عَلِيٍّ في حُروبِهِ بِالبَصرَةِ ، وبِصِفّينَ ، وبِنَهرَوانَ . . . . وقالوا في صِفّينَ : إنَّ الصَّوابَ كانَ مَعَ عَلِيٍّ رضى الله عنه ، وإنَّ مُعاوِيَةَ وأصحابَهُ بَغَوا عَلَيهِ بِتَأويلٍ أخطَؤوا فيهِ ؛ ولَم يَكفُروا بِخَطَئِهِم (4) .
فيض القدير عن عبد القاهر الجرجاني 6_ في كِتابِ الإِمامَةِ _فيض القدير عن عبد القاهر الجرجاني 7 : أجمَعَ فُقَهاءُ الحِجازِ وَالعِراقِ مِن فَريقَيِ الحَديثِ وَالرَّأيِ ، مِنهُم : مالِكٌ والشّافِعِيُّ وأبو حَنيفَة
.
ص: 57
وَالأَوزاعِيُّ ، وَالجُمهورُ الأَعظَمُ مِنَ المُتَكَلِّمينَ وَالمُسلِمينَ : أنَّ عَلِيّا مُصيبٌ في قِتالِهِ لِأَهلِ صِفّينَ ، كَما هُوَ مُصيبٌ في أهلِ الجَمَلِ ، وأنَّ الَّذينَ قاتَلوهُ بُغاةٌ ظالِمونَ لَهُ ، لكِن لا يُكَفَّرونَ بِبَغيِهِم (1) .
التذكرة عن أبي المعالي 2التذكرة عن أبي المعالي (2) : عَلِيٌّ رضى الله عنه كانَ إماما حَقّا في تَولِيَتِهِ ، ومُقاتِلوهُ بُغاةٌ (3) .
شرح صحيح مسلم :وكانَ عَلِيٌّ رضى الله عنه هُوَ المُحِقُّ المُصيبُ في تِلكَ الحُروبِ ، هذا مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ (4) .
أيضا_ في حَديثِ عَمّارٍ _: قالَ العُلَماءُ : هذَا الحَديثُ حُجَّةٌ ظاهِرَةٌ في أنَّ عَلِيّا رضى الله عنهكانَ مُحِقّا مُصيبا (5) .
سير أعلام النبلاء :لا نَرتابُ أنَّ عَلِيّا أفضَلُ مِمَّن حارَبَهُ ، وأنَّهُ أولى بِالحَقِّ 7 .
البداية والنهاية :هذا مَقتَلُ عَمّارِ بنِ ياسِرٍ مَعَ أميرِ المُؤمِنينَ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، قَتَلَهُ أهلُ الشّامِ ، وبانَ وظَهَرَ بِذلِكَ سِرُّ ما أخبَرَ بِهِ الرَّسولُ صلى الله عليه و آله مِن أنَّهُ تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، وبان
.
ص: 58
بِذلِكَ أنَّ عَلِيّا مُحِقٌّ وأنَّ مُعاوِيَةَ باغٍ (1) .
فتح الباري_ بَعدَ ذِكرِ حَديثِ عَمّارٍ _: وفي هذَا الحَديثِ عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ ، وفَضيلَةٌ ظاهِرَةٌ لِعَلِيٍّ ولِعَمّارٍ ، ورَدٌّ عَلَى النَّواصِبِ الزّاعِمينَ أنَّ عَلِيّا لَم يَكُن مُصيبا في حُروبِهِ (2) .
أيضا_ بَعدَ ذِكرِ حَديثِ الخَوارِجِ _: وفي هذَا الحَديثِ مِنَ الفَوائِدِ غَيرُ ما تَقَدَّمَ مَنقَبَةٌ عَظيمَةٌ لِعَلِيٍّ ، وأنَّهُ كانَ الإِمامَ الحَقَّ ، وأنَّهُ كانَ عَلَى الصَّوابِ في قِتالِ مَن قاتَلَهُ في حُروبِهِ فِي الجَمَلِ وصِفّينَ وغَيرِهِما (3) .
أيضا_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ إِن طَ_آئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ . . .» (4) _: فيهَا الأَمرُ بِقِتالِ الفِئَةِ الباغِيَةِ ، وقَد ثَبَتَ أنَّ مَن قاتَلَ عَلِيّا كانوا بُغاةً (5) .
مجموع فتاوى ابن تيميّة_ بَعدَ ذِكرِ حَديثِ: عَمّارٌ تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ _: وهذا أيضا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ إمامَةِ عَلِيٍّ ووُجوبِ طاعَتِهِ ، وأنَّ الدّاعِيَ إلى طاعَتِهِ داعٍ إلَى الجَنَّةِ ، وَالدّاعِيَ إلى مُقاتَلَتِهِ داعٍ إلَى النّارِ _ وإن كانَ مُتَأَوِّلاً _ وهُوَ دَليلٌ عَلى أنَّهُ لَم يَكُن يَجوزُ قِتالُ عَلِيٍّ . وعَلى هذا فَمُقاتِلُهُ مُخطِئٌ وإن كانَ مُتَأَوِّلاً ، أو باغٍ بِلا تَأويلٍ ، وهُوَ أصَحُّ القَولَينِ لِأَصحابِنا ، وهُوَ الحُكمُ بِتَخطِئَةِ مَن قاتَلَ عَلِيّا ، وهُوَ مَذهَبُ الأَئِمَّةِ الفُقَهاءِ الَّذينَ فَرَّعوا عَلى ذلِكَ قِتالَ البُغاةِ المُتَأَوِّلينَ (6) .
.
ص: 59
كلامٌ في إصابة الإمام في جميع حروفهقال أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان الملقّب بالمفيد : ومن الدليل على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مصيبا في حروبه كلّها ، وأنّ مخالفيه في ذلك على ضلال ، ما تظاهرت به الروايات عن النبيّ صلى الله عليه و آله من قوله : «حَربُكَ يا عَلِيُّ حَربي ، وسِلمُكَ يا عَلِيُّ سِلمي» (1) ، وقوله صلى الله عليه و آله : «يا عَلِيُّ، أنَا حَربٌ لِمَن حارَبَكَ، وسِلمٌ لِمَن سالَمَكَ» (2) . وهذان القولان مرويّان من طريقي العامّة والخاصّة والمنتسبة من أصحاب الحديث إلى السنّة ، والمنتسبين منهم إلى الشيعة ، لم يعترض أحد من العلماء الطعن على سندهما ، ولا ادّعى إنسان من أهل المعرفة بالآثار كذب رواتهما . وما كان هذا سبيله وجب تسليمه والعمل به ، إذ لو كان باطلاً لما خلت الاُمّة من عالم منها ينكره ويكذّب رواته ، ولا سلم من طعن فيه ، ولعرف سبب تخرّصه وافتعاله ، ولاُقيم دليل اللّه سبحانه على بطلانه ، وفي سلامة هذين الخبرين من جميع ما ذكرناه حجّة واضحة على ثبوتهما حسبما بيّنّاه .
.
ص: 60
ومن ذلك : الرواية المستفيضة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال لأمير المؤمنين عليه السلام : «تُقاتِلُ يا عَلِيُّ عَلى تَأويلِ القُرآنِ ، كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ» (1) . وقوله _ لسهيل بن عمرو ومن حضر معه لخطابه على ردّ من أسلم من مواليهم _ : «لَتَنتَهُنَّ يا مَعشَرَ قُرَيشٍ أو لَيَبعَثِ اللّهُ عَلَيكُم رَجُلاً يَضرِبُكُم عَلى تَأويلِ القُرآنِ كَما ضَرَبتُكُم عَلى تَنزيلِهِ ». فَقالَ لَهُ بَعضُ أصحابِهِ : مَن هُوَ يا رَسولَ اللّهِ ، هُوَ فُلانٌ ؟ قالَ : «لا ». قالَ : فَفُلانٌ ؟ قالَ : «لا ، ولكِنَّهُ خاصِفُ (2) النَّعلِ فِي الحُجرَةِ» . فَنَظَروا فَإِذا عَلِيٌّ عليه السلام فِي الحُجرَةِ يَخصِفُ نَعلَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله (3) .
.
ص: 61
ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام : «تُقاتِلُ بَعدِي النّاكِثينَ وَالقاسِطينَ وَالمارِقينَ» (1) . والقول في هذه الرواية كالأخبار التي تقدّمت ، قد سلمت من طاعن في سندها بحجّةٍ ، ومن قيام دليل على بطلان ثبوتها ، وسلّم لروايتها الفريقان فدلّ على صحّتها . ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله : «عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ ، اللّهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ حَيثُما دارَ» (2) . وهذا أيضا خبر قد رواه محدّثو العامّة ، وأثبتوه في الصحيح عندهم ، ولم يعترض أحدهم لتعليل سنده ، ولا أقدم منهم مقدم على تكذيب ناقله ، وليس توجد حجّة في العقل ولا السمع على فساده ، فوجب الاعتقاد بصحّته وصوابه . ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله : «اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، وَانصُر مَن نَصَرَهُ ، وَاخذُل مَن خَذَلَهُ» (3) . وهذا في الرواية أشهر من أن يحتاج معه إلى جمع السند له ، وهو أيضا مسلّم عند نقلة الأخبار . وقوله صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام : «قاتَلَ اللّهُ مَن قاتَلَكَ ، وعادَى اللّهُ مَن عاداكَ» (4) . والخبر بذلك مشهورٌ وعند أهل الرواية معروفٌ مذكور . ومن ذلك : قوله صلى الله عليه و آله : «مَن آذى عَلِيّا فَقَد آذاني ، ومَن آذاني فَقَد آذَى اللّه
.
ص: 62
تَعالى» (1) . فَحكمَ أنّ الأذى له عليه السلام أذى اللّه ، والأذى للّه جلّ اسمه هلاك مخرج عن الإيمان ، قال اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا» (2) . وأمثال ما أثبتناه _ من هذه الأخبار في معانيها الدالّة على صواب أمير المؤمنين عليه السلام وخطأ مخالفيه _ كثيرة ، إن عملنا على إيراد جميعها ، طال به الكتاب وانتشر به الخطاب ، وفيما أثبتناه منه للحقّ كفاية للغرض الذي نأمله ، إن شاء اللّه تعالى (3) . أقول : راجع كلام ابن أبي الحديد في أنّ الإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله حقّ الإمام عليّ عليه السلام وأنّه لو سلّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه ؛ لأنّه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنّه قال : «عَلِيٌّ مَعَ الحَقِّ ، وَالحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدورُ حَيثُما دارَ» ، وقال له غير مرّة : «حَربُكَ حَربي، وسِلمُكَ سِلمي» (4) .
.
ص: 63
الحرب الاُولى : وقعة الجمل؛ فتنة النّاكثينوفيه فصول :الفصل الأول : مواصفات الحربالفصل الثاني : هويّة رؤساء الناكثينالفصل الثالث : تأهّب الناكثين للخروج على الإمامالفصل الرابع : تأهّب الإمام لمواجهة الناكثينالفصل الخامس : استنصار الإمام من أهل الكوفةالفصل السادس : احتلال البصرةالفصل السابع : من ذي قار إلى البصرةالفصل الثامن : جهود الإمام لمنع القتالالفصل التاسع : القتالالفصل العاشر : بعد الظفر
.
ص: 64
. .
ص: 65
الفصل الأول : مواصفات الحرب1 / 1تاريخُهاذكر بعض المؤرّخين أنّ معركة الجمل وقعت في جمادى الاُولى (1) عام (36 ه ) ، بينما أكّد بعض آخر أنّها وقعت في جمادى الثانية (2) من العام نفسه ، ولم تدُم أكثر من يوم واحد (3) . وتاريخ الرسالتين اللتين بعثهما الإمام إلى أهالي المدينة والكوفة بعد انتهاء الحرب يؤيّد الرأي الأوّل . فقد جاء في ختام هاتين الرسالتين : «وكَتَبَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ أبي رافِعٍ في جُمادَى الاُولى مِن سَنَةِ سِتٍّ وثَلاثينَ مِنَ الهِجرَةِ» (4) .
.
ص: 66
النقطة الجديرة بالاهتمام فيما يخصّ تاريخ وقوع أوّل حرب داخليّة في عهد حكومة الإمام عليه السلام هي أنّ هذه الحرب وقعت بعد خمسة أشهر فقط من مبايعة الناس إيّاه ، وأنّه بقي مشغولاً بإخماد الفتن الداخليّة طوال عهد حكومته الذي استمرّ لأقلّ من خمس سنوات . وهذا يعني أنّه لم تسنح له الفرصة للبناء ولتنفيذ سياساته وخططه . ولكنّه في الوقت ذاته لم يفرّط بأيِّ فرصة ، وقدّم في عهد حكومته أفضل وأبدعها أساليب الحكم ، وخلّف أكبر رقم في ميدان البناء والإعمار.
1 / 2مَكانُهاالبصرة : مدينة تقع في أقصى الجنوب الشرقي للعراق، قرب الحدود مع إيران والكويت . بُنيت البصرة مع الكوفة في عهد الخليفة الثاني وبأمره . وكانت مركزا عسكريّا تنطلق منه الجيوش الإسلاميّة لدى فتحها بلاد الشرق (1) . وعندما عزم الناكثون على محاربة أمير المؤمنين عليه السلام ، صاروا يبحثون عن مدينة عسكريّة . ولم تكن هناك مدينة تحمل هذه الخصوصيّة غير البصرة والكوفة . ونظرا لطبيعة علاقة أهالي الكوفة بالإمام عليّ عليه السلام ، وتنفُّذ بعض رؤوس الناكثين بين أهالى البصرة ، فقد وقع اختيارهم على البصرة . وقعت معركة الجمل في الزّابوقة (2) ؛ التي هي في ضواحي البصرة ، أو فى ¨
.
ص: 67
الزاوية (1) ؛ التي كانت واحدة من أحياء البصرة، أو في الخريبة (2) .
1 / 3عَدَدُ المُشارِكينَ فيهابلغ قوام الجيشين في معركة الجمل خمسين ألفا ، شكّل جيش الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عشرين ألفا منهم (3) ، وشكّل جيش الناكثين ثلاثين ألفا (4) . ومن اللافت للنظر في جيش الإمام عليه السلام أنّ بين اُمرائه عددا من وجوه الصحابة المعروفين بطهرهم ، وجلالتهم ، والتزامهم ، وتعبّدهم .
1 / 4قادَةُ جَيشِ الإِمامِقائد الخيّالة : عمّار بن ياسر 5 .
.
ص: 68
قائد الساقة : هند المرادي (1) . قائد المقدّمة : عبد اللّه بن عبّاس (2) . قائد الميمنة : الإمام الحسن عليه السلام (3) . قائد الميسرة : الإمام الحسين عليه السلام (4) . صاحب الراية : محمّد ابن الحنفيّة (5)(6) .
1 / 5قادَةُ جَيشِ النّاكِثينَقائد الحرب : الزبير بن العوّام (7) . قائد الخيّالة : طلحة بن عبيد اللّه (8) .
.
ص: 69
قائد خيّالة الميمنة : مروان بن الحكم (1) . قائد خيّالة الميسرة : هلال بن وكيع الدارمي (2) . قائد الرجّالة : عبد اللّه بن الزبير (3) . قائد رجّالة الميمنة : عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد (4) . قائد رجّالة الميسرة : عبد الرحمن بن الحارث (5) . صاحب الراية : عبد اللّه بن حكيم (6)(7) .
1 / 6أكابِرُ أصحابِ الإِمامِشارك الكثير من أكابر أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله في معركة الجمل إلى جانب الإمام عليّ عليه السلام ، إلّا أنّ الروايات تختلف في ذكر عددهم ؛ فبعض المصادر يصرّح بأن
.
ص: 70
عددهم كان ثمانين من أهل بدر ، وألفا وخمسمئة من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله . ويذكر آخر أنّ عدد المشاركين في هذه المعركة من أصحاب الرسول كان ثمانمئة من الأنصار ، وأربعمئة ممّن شهدوا بيعة الرضوان . ومن بين الشخصيّات البارزة التي شاركت في جيش الإمام عليّ عليه السلام يمكن الإشارة إلى كلّ من : أبي أيّوب الأنصاري وأبي الهيثم بن التيّهان وخزيمة بن ثابت وعبد اللّه بن بديل وعبد اللّه بن عبّاس وعثمان بن حنيف وعديّ بن حاتم وعمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعمر بن أبي سلمة وهاشم بن عتبة . وشخصيّات كبيرة اُخرى مثل : اُويس القرني ، جارية بن قدامة ، حجر بن عديّ ، زيد بن صوحان ، سيحان بن صوحان ، صعصعة بن صوحان ، مالك الأشتر ، شريح بن هاني ، محمّد بن أبى بكر ، محمّد ابن الحنفيّة . وكان بين اُولئك الذين وقفوا إلى جانب الإمام عليه السلام شخصيّتان مؤثّرتان جدّا : الاُولى : عمّار بن ياسر ، فبالنظر إلى اشتهار ما تنبّأ به الرسول صلى الله عليه و آله حول مصيره ، كان وجوده في جيش الإمام عليّ عليه السلام كفيلاً بعدم وقوف كلّ من يؤمن بالرسول صلى الله عليه و آله ضدّ جيش الإمام ، ولهذا يُروى أنّ الزبير لمّا بلغه أنّ عمّارا مع عليّ عليه السلام «اِرتابَ بِما كانَ فيهِ» . والثانية : ابن اُمّ سلمة ، وكان وجوده دليلاً على تأييد زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله لجبهة الإمام ، وهذا التأييد وإن كان لا يرقى إلى مكانة عائشة الحسّاسة يوم الجمل ، ولكن كان له تأثير كبير في أذهان عموم الناس .
الأمالي للطوسي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى :شهد مع عليّ عليه السلام يوم الجمل ثمانون من أهل
.
ص: 71
بدر ، وألف وخمسمِئةٍ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله (1) .
تاريخ الإسلام عن سعيد بن جبير :كانَ مَعَ عَلِيٍّ يَومَ وَقعَةِ الجَمَلِ ثَمانِمِئَةٍ مِنَ الأَنصارِ ، وأربَعُمِئَةٍ مِمَّن شَهِدَ بَيعَةَ الرِّضوانِ (2) .
الأخبار الطوال :إنَّ الزُّبَيرَ لَمّا عَلِمَ أنَّ عَمّارا مَعَ عَلِيٍّ رضى الله عنه ارتابَ بِما كان فيهِ ؛ لِقَولِ رَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله : «الحَقُّ مَعَ عَمّارٍ» ، و«تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ» (3) .
تاريخ الطبري عن عبد الرحمن بن أبي عمرة :قامَت اُمُّ سَلَمَةَ فَقالَت : يا أميرَ المُؤمِنينَ، لَولا أن أعصِيَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ وأنَّكَ لا تَقبَلُهُ مِنّي؛ لَخَرَجتُ مَعَكَ ، وهذَا ابني عُمَرُ _ وَاللّهِ ، لَهُوَ أعَزُّ عَلَيَّ مِن نَفسي _ يَخرُجُ مَعَكَ فَيَشهَدُ مَشاهِدَكَ . فَخَرَجَ، فَلَم يَزَل مَعَهُ (4) .
1 / 7وُجوهُ أصحابِ الجَمَلِكان وجوه أصحاب الجمل من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله والمقرّبين إليه ، وكان في جيشهم أيضا أشراف وأكابر آخرون . فقد كان فيهم عائشة وطلحة والزبير
.
ص: 72
ومروان بن الحكم وعبد اللّه بن عامر وكعب بن سور ، وغيرهم ممّن كانوا يؤيّدون عثمان أو لا يطيقون تحمّل عدالة الإمام عليه السلام . وقد كان حضور أشخاصٍ كطلحة والزبير وعائشة في المعركة باعثا على وقوع غير ذوي البصيرة _ ممّن ينظرون إلى الحقّ من خلال الشخصيّات البارزة _ في الشك والحيرة ، أو الانضمام إلى جيش أصحاب الجمل . ولأجل تنوير عقول أمثال هؤلاء الناس قال أمير المؤمنين عليه السلام قولته المشهورة : «إنَّ الحَقَّ لا يُعرَفُ بِالرِّجالِ ؛ اِعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أهلَهُ» .
راجع : ص 132 (التباس الأمر على من لا بصيرة له) .
1 / 8عَدَدُ القَتلى فيهاقُتل في معركة الجمل من جيش الإمام عليّ عليه السلام خمسة آلاف (1) . وتُجمع النصوص التاريخيّة كلّها على هذا العدد بدون أدنى اختلاف . ولكن هناك اختلاف كبير بين هذه النصوص حول عدد قتلى جيش الجمل، بحيث لا يمكن التعويل كثيرا على أيٍّ منها . فقد ذكرت بعض الأخبار التاريخيّة أنّ عدد من قُتل منهم عشرون ألفا (2) ، بينما جاء في أخبار اُخرى أنّه قُتل منهم ثلاثة عشر ألفا (3) ، وعلى خبرٍ آخر عشرة
.
ص: 73
آلاف (1) ، أو خمسة آلاف (2) . وجاء في نقل سيف بن عمر أنّه قُتل منهم خمسة آلاف ، وهو _ في العادة _ ينقل الأخبار الكاذبة ، أو يختلقها من عنده . وما ذُكر من أنّ عدد قتلى أصحاب الجمل كان عشرة آلاف ، وإن لم يأتِ في مصادر تاريخيّة كثيرة ، إلّا أنّ نبوءة الإمام عليّ عليه السلام في عدد قتلاهم تؤيّد هذا المعنى . فقد قال لمّا بلغه خروج عائشة : «وقَد _ وَاللّهِ _ عَلِمتُ أنَّهَا الرّاكِبَةُ الجَمَلَ؛ لا تَحُلُّ عُقدةً، ولا تَسيرُ عَقَبَةً، ولا تَنزِلُ مَنزِلاً إلّا إلى مَعصِيَةٍ ، حَتّى تُورِدَ نَفسَها ومَن مَعَها مَورِدا يُقتَلُ ثُلُثُهُم ، ويَهرُبُ ثُلُثُهُم ، ويَرجِعُ ثُلُثُهُم (3) » . وبما أنّ عدد أصحاب الجمل كان ثلاثين ألفا (4) ، فيجب أن يكون عدد قتلاهم عشرة آلاف . وذكر الشيخ المفيد في كتاب الجمل أنّ مجموع القتلى بلغ خمسةً وعشرين ألفا ، فإذا نقص منها خمسة آلاف ممّن قتلوا في جيش الإمام يبقى العدد عشرون ألفا ، وهذا يؤيّد النصّ الوارد في أنّ عدد من قُتل منهم عشرون ألفا . وواصل الشيخ المفيد يقول : وروى عبد اللّه بن الزبير رواية شاذّة أنّهم كانوا خمسة عشر ألفا . قيل : ويوشك أن يكون قول ابن الزبير أثبت . ولكنّ القول بذلك باطل ؛ لبعده عن جميع ما قاله أهل العلم به (5) .
.
ص: 74
وكلام اُمّ أفعى مع عائشة _ الذي ورد في عيون الأخبار _ يؤيّد صحّة هذا القول . على أنّه ذكرت بعض المصادر أنّ مجموع قتلى الفريقين كان ثلاثين ألفا (1) ، فيما ذكرت اُخرى أنّه كان عشرين ألفا (2) .
عيون الأخبار :دَخَلَت اُمُّ أفعَى العَبدِيَّةُ عَلى عائِشَةَ [بَعدَ وَقعَةِ الجَمَلِ ]فَقالَت : يا اُمَّ المُؤمِنينَ ، ما تَقولينَ فِي امرَأَةٍ قَتَلَت ابنا لَها صَغيرا ؟ قالَت : وَجَبَت لَهَا النّارُ . قالَت : فَما تَقولينَ فِي امرَأَةٍ قَتَلَت مِن أولادِها الأَكابِرِ عِشرينَ ألفا ؟! قالَت : خُذوا بِيَدِ عَدُوَّةِ اللّهِ (3) .
.
ص: 75
الفصل الثاني : هويّة رؤساء الناكثينتُعدّ معركة الجمل من الحوادث الجديرة بالتأمّل في التاريخ الإسلاميّ ؛ وإنّ في التعرّف على دوافع مسعّريها وأهدافهم تذكيرا للمرء وتنبيها له لمعرفة رجاله الذين يقتدي بهم ويسير على نهجهم . إنّنا نلحظ في النصوص التاريخيّة التي تحدّثت عن تنظيم القوّات وأهدافها وبواعثها نقاطا تثير التأمّل . منها : الأهواء ، والنزعات الدنيويّة ، واستغلال بعض الوجهاء لتحفيز عامّة الناس . ومنها : ممارسات مكتنزي الثروات ، وطلّاب السلطة ، ومَنْ وجد حياته المترفة مهدّدة بالخطر . النقطة الاُخرى التي ينبغي ألّا ننساها هي كيفيّة مواجهة أشخاصٍ من الصحابة عليّا عليه السلام ، في حين أنّهم كانوا يدّعون الإسلام والسبق إليه ! ومن جانب آخر ، وجاهة عامّة الأشخاص الذين كان موقفهم في معركة الجمل يتعارض تماما مع موقفهم في زمان عثمان . وننقل فيما يأتي بإيجاز نصوصا تتحدّث عن حياة الذين أوقدوا تلك الحرب ، وندعوا القرّاء إلى التأمّل فيها .
.
ص: 76
2 / 1خَصائِصُهُمالعقد الفريد :كانَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ يَقولُ : «بُليتُ بأَنَضِّ النّاسِ ، وأنطَقِ النّاسِ ، وأطوَعِ النّاسِ فِي النّاسِ» . يُريدُ بِأَنَضِّ النّاسِ : يَعلَى بنَ مُنيَةَ ؛ وكانَ أكثَرَ النّاسِ ناضّا (1) ، ويُريدُ بِأَنطَقِ النّاسِ : طَلحَةَ بنَ عُبَيدِ اللّهِ ، وأطوَعِ النّاسِ فِي النّاسِ: عائِشَةَ اُمَّ المُؤمِنينَ (2) .
الإمام عليّ عليه السلام :إنّي بُليتُ بِأَربَعَةٍ : أدهَى النّاسِ وأَسخاهُم ؛ طَلحَةَ ، وأَشجَعِ النّاسِ ؛ الزُّبَيرِ ، وأَطوَعِ النّاسِ فِي النّاسِ ؛ عائِشَةَ ، وأَسرَعِ النّاسِ إلى فِتنَةٍ ؛ يَعلَى بنِ اُمَيَّةَ (3) .
عنه عليه السلام :وَاللّهِ ، لَقَد مُنيتُ بِأَربَعٍ لَم يُمنَ بِمِثلِهِنَّ أحَدٌ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله : مُنيتُ بِأَشجَعِ النّاسِ ؛ الزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ ، وبِأَخدَعِ النّاسِ ؛ طَلحَةَ بنِ عُبيدِ اللّهِ ، وبِأَطوَعِ النّاسِ فِي النّاسِ ؛ عائِشَةَ بنتِ أبي بَكرٍ ، وبِمَن أعانَ عَلَيَّ بِأَنواعِ الدَّنانيرِ؛ يَعلَى بنِ مُنيَةَ (4) .
عنه عليه السلام :إنّي مُنيتُ بِأَربَعَةٍ ما مُنِيَ أحَدٌ بِمِثلِهِنَّ : مُنيتُ بِأَطوَعِ النّاس فِي النّاسِ ؛ عائِشَةَ بِنتِ أبي بَكرٍ ، وبِأَشجَعِ النّاسِ ؛ الزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ ، وبِأَخصَمِ النّاسِ ؛ طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ ، وبِأَكثَرِ النّاسِ مالاً ؛ يَعلَى بنِ مُنيَةَ التَّميمِيِّ ؛ أعانَ عَلَيَّ بِأَصواعِ الدَّنانيرِ (5) .
.
ص: 77
عنه عليه السلام :حارَبَني خَمسَةٌ : حارَبَني أطوَعُ النّاسِ في النّاسِ ؛ عائِشَةُ ، وأشجَعُ النّاسِ ؛ الزُّبَيرُ ، وأمكَرُ النّاسِ ؛ طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللّهِ ؛ لَم يُدرِكهُ ماكِرٌ قَطُّ ، وحارَبَني أعبَدُ النّاسِ ؛ مُحَمَّدُ بنُ طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ ؛ كانَ مَحمودا حَتَّى استَزَلَّهُ أبوهُ ؛ فَخَرَجَ بِهِ ، وحارَبَني أعطَى النّاسِ ؛ يَعلَى بنُ مُنيَةَ ؛ كانَ يُعطِي الرَّجُلَ الواحِدَ الثَّلاثينَ دينارا وَالسِّلاحَ وَالفَرَسَ عَلى أن يُقاتِلَني (1) .
عنه عليه السلام :مُنيتُ _ أو بُليتُ _ بِأَطوَعِ النّاسِ في النّاسِ ؛ عائِشَةَ ، وبِأَدهَى النّاسِ ؛ طَلحَةَ ، وبِأَشجَعِ النّاسِ ؛ الزُّبَيرِ ، وبِأَكثَرِ النّاسِ مالاً ؛ يَعلَى بنِ مُنيَةَ ، وبِأَجوَدِ قُرَيشٍ ؛ عَبدِ اللّهِ بنِ عامِرٍ (2) .
2 / 2عائِشَةُهي عائشة بنت أبي بكر ، وزوج النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله (3) . توفّي عنها النبيّ ولها من العمر ثماني عشرة سنةً (4) . حظيت باحترام بالغ في عهد أبي بكر وعمر ، بَيْدَ أنّ عثمان قلّل من شأنها ومن احترامها ؛ فبرز الخلاف بينهما (5) إلى درجة أنّها كانت تحرّض الناس على قتله بقولها : اقتلوا نعثلاً فقد كفر (6) ! وحين حاصر الثوّار عثمان ذهبت إلى مكّة ، وظلّت
.
ص: 78
فيها إلى أن قُتِل (1) . وعندما قُتل عثمان ، كانت تتطلّع إلى خلافة طلحة (2) والزبير (3) . ولمّا تناهى إلى سمعها استخلاف أمير المؤمنين عليه السلام رجعت من منتصف الطريق إلى مكّة ، ونادت بظُلامة عثمان مطالبة بثأره (4) . وعلى الرغم من أنّ موقفها من قتل عثمان كان واضحا للناس ؛ ومنهم من كان يذكّرها به ، بَيْدَ أنّهم كانوا يحترمونها ويسمعون كلامها ؛ إجلالاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولاُمومتها المؤمنين . كانت خطيبة وأديبة (5) ؛ وملمّة إلماما تامّا بسجايا العرب ، وتعرف مواطن ضعفهم ، لذا كانت قادرة على تحريضهم (6) . وكان طلحة والزبير يعلمان أنّ الطريق الوحيد للنصر وتسلّم الخلافة هو تعبئة الناس بواسطة عائشة ؛ فلم يضيّعا هذه الفرصة . كانت عائشة تجاهر بعدائها للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وتذكر أنّ بينها وبينه ما يكون بين المرأة وبين أحمائها (7) .
.
ص: 79
ولولا وجاهتها لما استطاع طلحة والزبير تعبئة الناس للحرب . وكانت فارسة الحلبة بعد مقتل طلحة والزبير (1) . مع هذا كلّه ، أرجعها الإمام عليه السلام إلى المدينة باحترامٍ تامّ (2) . واصلت عداءها للإمام عليه السلام على الرغم من إصحارها بالندم مرارا على ما فرّطت في جنبه يوم الجمل (3) . أظهرت سرورها بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام (4) ، وسجدت لذلك شكرا (5) ! وحالت دون دفن الإمام الحسن عليه السلام عند جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله (6) . ماتت سنة سبع وخمسين أو ثمانٍ وخمسين من الهجرة (7) .
2 / 3طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللّهِأحد السابقين إلى الإسلام (8) ، ومن كبار الصحابة . آخى الزبيرَ قبل الهجرة (9) . كان
.
ص: 80
تاجرا ، وعندما وقعت معركة بدر كان قد ذهب في تجارة إلى الشام (1) . أثنى عليه أهل السُّنّة ، وعَدُّوه من العشرة المبشَّرة (2) . كان الخلفاء يحترمونه بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله . اختاره عمر في الشورى السداسيّة ، لكنّه اعتزل لمصلحة عثمان (3) . كان في غاية الدهاء والسياسة (4) . حصل على ثروة طائلة في عصر عثمان ؛ بسبب الأموال التي كان قد أعطاها إيّاه بلا حساب (5) . وَهَبه عثمان مرّةً دَيْنا كان عليه بلغ خمسين ألف درهم ، وقال له : معونةً على مروءتك (6) ! ! كان من ملّاكي الأرض الكبار ، حتى كان يُغِلّ بالعراق ما بين أربعمئة ألف إلى خمسمئة ألف ، ويُغلّ بالسَّراة (7) عشرة آلاف دينار (8) . خلّف بعد موته ثروةً قدِّرت بثلاثين مليون درهم (9) . لم يُولِّه عثمان على مصر من الأمصار مع أنّه كان يعظّمه ، ويعود ذلك إلى أنّه كان يهتمّ كثيرا بأقاربه وبِطانته ، ومن هنا توتّرت العلاقة بينهما (10) ، كما أعرض عثمان
.
ص: 81
أيضا عن أهمّ سندٍ له في الماضي وهو عبد الرحمن بن عوف (1) . كان طلحة يطمح إلى الخلافة (2) ؛ فكتب إلى البصرة ، والكوفة ، وغيرهما من الأمصار محرّضا أهلها على قتل عثمان (3) . وكان بيت المال بيده في جريان قتل عثمان (4) ، بَيْدَ أنّه لم يستطع أن يطالب بالخلافة ؛ لاتّهامه بالمشاركة في قتله ؛ فبايع أميرَ المؤمنين عليه السلام ، والعجيب أنّه أوّل شخص يبايع . لم يظفر طلحة بالخلافة ، ويضاف إلى ذلك أنّه حُرِمَ من الامتيازات التي كانت له في عهد عثمان . ممّا حدا به إلى إعلان معارضته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فأوقد نار الحرب مع الزبير ، وعائشة ، وغيرهما . وكان يقول : إنّا داهَنّا في أمر عثمان ، فلا نجد اليوم شيئا أمثل من أن نبذل دماءنا فيه (5) ! ! ! قُتل طلحة في معركة الجمل سنة 36 ه ، بسهم رماه به مروان بن الحكم مِن خلفه (6) .
الطبقات الكبرى عن محمّد بن إبراهيم :كانَ طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللّهِ يُغِلُّ بِالعِراقِ ما بَينَ أربَعِمِئَةِ ألفٍ إلى خَمسِمِئَةِ ألفٍ ، ويُغِلُّ بِالسَّراةِ عَشرَةَ آلافِ دينارٍ أو أقَلَّ أو أكثَرَ (7) .
.
ص: 82
الطبقات الكبرى عن إسحاق بن يحيى عن موسى بن طلحة :أنَّ مُعاوِيَةَ سَأَلَهُ : كَم تَرَكَ أبو مُحَمَّدٍ _ يَرحَمُهُ اللّهُ _ مِنَ العَينِ ؟ قالَ : تَرَكَ ألفَي ألفِ دِرهَمٍ ومِئَتَي ألفِ دِرهَمٍ ، ومِئَتَي ألفِ دينارٍ ، وكانَ مالُهُ قَدِ اغتيلَ . كانَ يُغِلُّ كُلَّ سَنَةٍ مِنَ العِراقِ مِئَةَ ألفٍ سِوى غَلّاتِهِ مِنَ السَّراةِ وغَيرِها ، ولَقَد كانَ يُدخِلُ قُوتَ أهلِهِ بِالمَدينَةِ سَنَتَهُم مِن مَزرَعَةٍ بِقَناةٍ كانَ يَزرَعُ عَلى عِشرينَ ناضِحا ، وأَوَّلُ مَن زَرَعَ القَمحَ بِقَناةٍ هُوَ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : عاشَ حَميدا سَخِيّا شَريفا ، وقُتِلَ فَقيرا ، رَحِمَهُ اللّهُ ! (1)
الطبقات الكبرى عن إبراهيم بن محمّد بن طلحة :كانَت قيمَةُ ما تَرَكَ طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللّهِ مِنَ العَقارِ وَالأَموالِ وما تَرَكَ مِنَ النّاضِّ ثَلاثينَ ألفَ ألفِ دِرهَمٍ ، تَرَكَ مِنَ العَينِ ألفَي ألفٍ ومِئَتَي ألفِ دِرهَمٍ ، ومِئَتَي ألفِ دينارٍ ، وَالباقي عُروضٌ (2)(3) .
مروج الذهب_ في ذِكرِ أحوالِ طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ في خِلافَةِ عُثمانَ _: اِبتَنى دارَهُ بِالكوفَةِ ، المَشهورَةَ بِهِ هذَا الوَقتِ ، المَعروفَةَ _ بِالكُناسَةِ _ بِدارِ الطَّلحِيّينَ ، وكانَ غَلَّتُهُ مِنَ العِراقِ كُلَّ يَومٍ ألفَ دينارٍ ، وقيلَ أكثَرُ مِن ذلِكَ ، وبِناحِيَةِ الشَّراةِ (4) أكثَرُ مِمّا ذَكَرنا ، وشَيَّد دارَهُ بِالمَدينَةِ وبَناها بِالآجُرِّ والجَصِّ وَالسّاجِ (5) .
تاريخ الطبري عن موسى بن طلحة :كانَ لِعُثمانَ عَلى طَلحَةَ خَمسونَ ألفا ، فَخَرَجَ عُثمانُ يَوما إلَى المَسجِدِ ، فَقالَ لَهُ طَلحَةُ : قَد تَهَيَّأَ مالُكَ فَاقبِضهُ .
.
ص: 83
قالَ : هُوَ لَكَ يا أبا مُحَمَّدٍ ! مَعونَةً لَكَ عَلى مُروءَتِكَ (1) .
راجع : ج 2 ص 137 (ما أعطى طلحة بن عبيداللّه ) و ص 196 (تحريض طلحة) .
2 / 4الزُّبَيرُ بنُ العَوّامِهو ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، وهو رابع من أسلم ، أو خامسهم (2) ، وكان من الصحابة الشجعان (3) المشهورين ، وشهد مشاهد النبيّ صلى الله عليه و آله كلّها (4) ، وجُرح عدّة مرّات ، عدّه أهل السنّة أحد العشرة المبشّرة بالجنّة (5) . امتنع من بيعة أبي بكر ، وكان من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام ، وأصحابه الاُوَل (6) ، قيل : إنّه حضر دفن السيّدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام (7) ، ممّا يدلّ على قربه من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . كان أحد الستّة الذين رشّحهم عمر للشورى ، واعتزل نصرةً للإمام عليّ عليه السلام (8) . وكان صهر أبي بكر (9) ، بيد أنّه أمضى سنوات من عمره إلى جانب
.
ص: 84
أمير المؤمنين عليه السلام . وقال عليه السلام فيه : ما زال الزبير رجلاً منّا أهلَ البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه (1) . وهذا يدلّ على أنّ عبد اللّه بن الزبير كان مثيرا للفتنة ، وهو ما سنشير إليه لاحقا . كَنَز الزبير ثروة طائلة في عهد عثمان (2) ، بلغت عند موته خمسين ألف دينار ، وألف فرس ، وألف عبد وأمَة (3) . لكنّه لم يتولَّ منصبا . وكان يساعد الثوّار الذين نهضوا ضدّ عثمان (4) ، بل طالب بقتله ؛ علّه يتقلّد أمر الخلافة . وبايع عليّا عليه السلام بعد قتل عثمان (5) ، ولكنّه لمّا حُرم من الإمارة ، ومن الامتيازات التي كانت له في عصر عثمان ، رفع لواء المعارضة بوجه أمير المؤمنين عليه السلام (6) يحرّضه على ذلك ولدُه عبد اللّه . توجّه إلى مكّة مع طلحة متظاهرَين أنّهما يريدان العمرة (7) ، وهناك نسّقا مع عائشة وغيرها ، ثمّ اتّفقوا على إشعال فتيل «الجمل» ، واعتزل الزبير الحرب بعد كلام أمير المؤمنين عليه السلام معه ، لكنّه اغتيل على يد ابن جرموز (8) .
مروج الذهب_ في ذِكرِ أحوالِ الزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ في خِلافَةِ عُثمانَ _: بَنى دارَهُ بِالبَصرَةِ ؛
.
ص: 85
وهِيَ المَعروفَةُ في هذَا الوَقتِ _ وهُوَ سَنَةُ اثنَتَينِ وثَلاثينَ وثَلاثِمَئةٍ _ تَنزِلُها التُّجّارُ وأَربابُ الأَموالِ وأَصحابُ الجَهازِ مِنَ البَحرِيّينَ (1) وغَيرِهِم ، وَابتَنى أيضا دورا بِمِصرَ وَالكوفَةِ وَالإسكَندَرِيَّةِ ، وما ذَكَرنا مِن دَورِهِ وضِياعِهِ فَمَعلومٌ غَيرُ مَجهولٍ إلى هذِهِ الغايَةِ . وبَلَغَ مالُ الزُّبَيرِ بَعدَ وَفاتِهِ خَمسينَ ألفَ دينارٍ ، وخَلَّفَ الزُّبَيرُ ألفَ فَرَسٍ ، وألفَ عَبدٍ وأمَةٍ ، وخِطَطا (2) بِحَيثُ ذَكَرنا مِنَ الأَمصارِ (3) .
الطبقات الكبرى :كانَ لِلزُّبَيرِ أربَعُ نِسوَةٍ ، ورُبِّعَ الثُّمنُ ، فَأَصابَ كُلَّ امرَأَةٍ ألفُ ألفٍ ومِئَةُ ألفٍ . قالَ : فَجَميعُ مالِهِ خَمسَةٌ وثَلاثونَ ألفَ ألفٍ ومِئَتا ألفٍ (4) .
2 / 5عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِولد في السنة الاُولى من الهجرة بالمدينة ، وهو أوّل مولود من أولاد المهاجرين (5) . وكان حفيد أبي بكر (6) . وله دور مهمّ في انحراف أبيه ، وإيقاد حرب الجمل .
.
ص: 86
وقال فيه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : «ما زالَ الزُّبَيرُ رَجُلاً مِنّا أهلَ البَيتِ حَتّى نَشَأَ ابنُهُ المَشؤومُ عَبدُ اللّهِ» (1) . وبذل قصارى جهده في تولية أبيه الخلافة بعد مقتل عثمان ، إلّا أنّه لم يُفلح في ذلك ، وكان حلقة الوصل بين عائشة من جهة ، والزبير وطلحة من جهة اُخرى (2) . وعندما عزم الزبير على اعتزال القتال حاول أن يُثنيه عمّا هو بسبيله مستخدما ضروب الحيل الأخلاقيّة والعاطفيّة (3) . ولمّا لم يبق أحد حول جمل عائشة ، أخذ بزمامه ، وجُرح جرحا بليغا في اصطراعه مع مالك الأشتر . وكان يرغب في قتل مالك حتى لو كلّفه ذلك نفسَه ، لذا كان يقول وهما مصطرعان : اُقتُلوني ومالِكا وَاقتُلوا مالِكا مَعي ! (4) عفا عنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعد الحرب ، بطلبٍ من عائشة (5) . وكان مغرورا منبوذا حتى إنّ معاوية لم يحترمه ولم يُبالِ به (6) . ولم يبايع يزيدَ بعد هلاك معاوية . وتوطّن مكّة حفظا لنفسه (7) ثمّ تسلّط عليها
.
ص: 87
فهاجمها جيش يزيد لدحره ، واحترقت الكعبة ، ودُمّرت في ذلك الهجوم (1) . لكنّ عبد اللّه نجا عندما بلغ مكّة خبرُ هلاك يزيد (2) . ثمّ ادّعى الخلافة سنة 64 ه (3) ، واستولى على الحجاز واليمن والعراق وخراسان (4) . وطلب البيعة من عبد اللّه بن عبّاس ، ومحمّد ابن الحنفيّة ، فلم يستجيبا له ، فعزم على إحراقهما ، بَيْدَ أنّهما نجَوَا بعد حملة المختار (5) . قُتل ابن الزبير ، ثمّ صُلب في عهد عبد الملك بن مروان سنة 73 ه ، بعدما أغار الحجّاج على مكّة والمسجد الحرام (6) .
شرح نهج البلاغة :ومِنَ المُنحَرِفينَ عَنهُ [عَلِيٍّ عليه السلام ] المُبغِضينَ لَهُ : عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ... كانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَقولُ : «ما زالَ الزُّبَيرُ مِنّا أهلَ البَيتِ حَتّى نَشَأَ ابنُهُ عَبدُ اللّهِ ، فَأَفسَدَهُ» . وَعَبدُ اللّهِ هُوَ الَّذي حَمَلَ الزُّبَيرَ عَلَى الحَربِ ، وهُوَ الَّذي زَيَّنَ لِعائِشَةَ مَسيرَها إلَى البَصرَةِ ، وكانَ سَبّابا فاحِشا ، يُبغِضُ بَني هاشِمٍ ، ويَلعَنُ ويَسُبُّ عَلِيَّ بن
.
ص: 88
أبي طالِبٍ عليه السلام (1) .
مروج الذهب عن مساور بن السائب :أنَّ ابنَ الزُّبَيرِ خَطَبَ أربَعينَ يَوما لا يُصَلّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وقالَ : لا يَمنَعُني أن اُصَلِّيَ عَلَيهِ إلّا أن تَشمَخَ رِجالٌ بِآنافِها (2) . قالَ ابنُ أبِي الحَديدِ بَعدَ ذِكرِهِ لِهذَا الخَبَرِ : وفي رِوايَةِ مُحَمَّدِ بنِ حَبيبٍ وأَبي عُبَيدَةَ مُعَمَّرِ بنِ المُثَنّى : إنَّ لَهُ اُهَيلَ سوءٍ يُنغِضونَ (3) رُؤوسَهُم عِندَ ذِكرِهِ (4) .
مقاتل الطالبيّين_ في ذِكرِ عَبدِ اللّهِ بنِ الزُّبَيرِ _: هُوَ الَّذي بَقِيَ أربَعينَ جُمعَةً لا يُصَلّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله في خُطبَتِهِ حَتَّى التاثَ (5) عَلَيهِ النّاسُ ، فَقالَ : إنَّ لَهُ أهلَ بَيتِ سوءٍإذا صَلَّيتُ عَلَيهِ أو ذَكَرتُهُ أتلَعوا (6) أعناقَهُم ، وَاشرَأَبّوا لِذِكرِهِ ، وفَرِحوا بِذلِكَ ، فَلا اُحِبُّ أن اُقِرَّ عَينَهُم بِذِكرِهِ!! (7) .
2 / 6مَروانُ بنُ الحَكَمِكان مروان بن الحكم شخصا مشبوها ، ورجلاً انتهازيّا يميل إلى اثارة الفتن والاضطرابات ، ويمثّل تجسيدا للشخص المرسوس في أوساط حركة لا ينسجم مع مسارها ولا يعتقد بقيمها ولا يتماشى مع مُثُلها . وأمثال هؤلاء الأشخاص يُلحقون أضرارا فادحة بالتيّار الفكري أو السياسي الذى ينتمون إليه .
.
ص: 89
إنّ التأثير العميق الذي كان لمروان على عثمان من جهة ، والرغبة الجامحة في إيجاد حكومة مجرّدة من القيم من جهة اُخرى ، فضلاً عن عدم اعتقاده بالثقافة الإسلاميّة ، جعل له دورا مهمّا في التطوّرات التي عصفت بالمجتمع الإسلامي آنذاك . لقد كان له دور جدير بالتأمّل في تأجيج نار الغضب من جديد في نفوس الثائرين على عثمان ، وتعجيل اضطرام المناحرات حول دار الخلافة . والمترجَم له هو ابن عمّ عثمان . وُلدَ في مكّة أو في الطائف ، ولكن لمّا كان النبيّ صلى الله عليه و آله قد نفى أباه الحكم بن أبي العاص إلى الطائف ، فقد ذهب معه إليها ؛ لذلك لم يَرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله (1) . وسبب نفي الحَكَم إلى الطائف هو نظره في داخل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله ، أو استهزاؤه بعمله وسيرته صلى الله عليه و آله (2) . لَعَنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : «وَيلٌ لِاُمَّتي مِمّا في صُلبِ هذا» (3) . وعندما تقلّد عثمان أمر الخلافة ، أعاد عمّه وابن عمّه إلى المدينة ، وبالغ في إكرامهما (4) وأغدق عليهما الأموال (5) وفسح المجال لمروان أن يتدخّل في شؤون الخلافة ؛ فأصبح كاتبه ، بل منظّر حكومته حقّا .
.
ص: 90
لا ريب في أنّ ركون عثمان إلى مروان ، وطاعته طاعةً مطلقة كان لها دور مهمّ في قتله (1) . وكان مروان غِرّا لا حظّ له من آداب الإسلام في المعاشرة ؛ لأنّه كان يعيش خارج المدينة منذ طفولته بوصفه طريدَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وجُرح أثناء دفاعه عن عثمان (2) ، وضرب على قفاه فقُطع أحد علباويه ، فعاش بعد ذلك أوقص (3) ، وكان يلقّب «خيط باطل» لدقّة عنقه (4) ثمّ فرّ بعد مقتل عثمان إلى مكّة ، ولحق بالمتمرّدين ؛ أي أصحاب الجمل (5) . وكان على الميمنة في حرب الجمل (6) ، وله فيها دور ماكر . وقَتل في مَعْمعتها طلحةَ ؛ لأنّه كان يحسبهُ قاتلَ عثمان (7) ، وجُرح في الحرب (8) ، بيد أنّ الإمام عليه السلام عفا عنه (9) ، ثمّ التحق بمعاوية (10) ، واشترك معه في حرب صفّين (11) . تولّى حكم المدينة سنة 42 ه (12) ، وهو الذي حال دون دفن الإمام الحسن عليه السلام عند
.
ص: 91
جدّه المصطفى صلى الله عليه و آله (1) . تأمّر مروان على المسلمين بعد يزيد بن معاوية ، لكنّه لم يحكم أكثر من تسعة أو عشرة أشهر (2) ، فتحقّق فيه كلام الإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ؛ إذ كان قد شبّه قِصَرَ إمارته ب « لَعْقَةِ الكَلبِ أنفَهُ» (3) ، ثمّ تسلّط أبناؤه من بعده ، فتأسّس الكيان المروانيّ الذي كان له دور خبيث سيّئ في تشويه المعارف الإسلاميّة ودمار المجتمع الإسلاميّ . هلك مروان سنة 65 ه (4) .
المعجم الكبير عن ثوبان :إنَّ رَسولَ اللّهِ قالَ : اُريتُ بَني مَروانَ يَتَعاوَرونَ (5) مِنبَري ، فَساءَني ذلِكَ (6) .
المستدرك على الصحيحين عن أبي هريرة :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ : «إنّي اُريتُ في مَنامي كَأَنَّ بَنِي الحَكَمِ بنِ أبِي العاصِ يَنزونَ (7) عَلى مِنبَري كَما تَنزُو القِرَدَةُ» . قالَ : فَما رُؤِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله مُستَجمِعا ضاحِكا حَتّى تُوُفِّيَ (8) .
.
ص: 92
المعجم الكبير عن أبي قبيل :إنَّ ابنَ مَوهَبٍ أخبَرَهُ أنَّهُ كانَ عِندَ مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ ، فَدَخَلَ عَلَيهِ مَروانُ ، فَكَلَّمَهُ في حَوائِجِهِ ، فَقالَ : اِقضِ حاجَتي يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَوَاللّهِ إنَّ مُؤنَتي لَعَظيمَةٌ ؛ إنّي أصبَحتُ أبا عَشرَةٍ ، وأخا عَشرَةٍ ، وعَمَّ عَشرَةٍ ، فَلَمّا أدبَرَ مَروانُ وَابنُ عَبّاسٍ جالِسٌ مَعَ مُعاوِيَةَ عَلى سَريرِهِ ، فَقالَ مُعاوِيَةُ : أنشُدُكَ اللّهَ يَابنَ عَبّاسٍ ، أما تَعلَمُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ : «إذا بَلَغَ بَنُو الحَكَمِ ثَلاثينَ رَجُلاً اتّخَذوا مالَ اللّهِ بَينَهُم دُوَلاً ، وعِبادَهُ خَوَلاً ، وكِتابَهُ دَغَلاً (1) ، فَإِذا بَلَغوا تِسعَةً وتِسعينَ وأربَعَمِئَةٍ كانَ هَلاكُهُم أسرَعَ مِنَ الثَّمَرَةِ» ؟ قالَ ابنُ عَبّاسٍ : اللّهُمَّ نَعَم . . . قالَ مُعاوِيَةُ : أنشُدُكَ اللّهَ يَابنَ عَبّاسٍ ، أما تَعلَمُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ذَكَرَ هذا ، فَقالَ : «أبُو الجَبابِرَةِ الأَربَعَةِ»؟ قالَ ابنُ عَبّاسٍ : اللّهُمَّ نَعَم (2) .
نهج البلاغة :قالوا : اُخِذَ مَروانُ بنُ الحَكَمِ أسيرا يَومَ الجَمَلِ ، فَاستَشفَعَ الحَسَنَ وَالحُسَينَ عليهماالسلام إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَكَلَّماهُ فيهِ ، فَخَلّى سَبيلَهُ ، فَقالا لَهُ : يُبايِعُكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ؟ فَقالَ عليه السلام : أ وَلَم يُبايِعني بَعدَ قَتلِ عُثمانَ ؟ لا حاجَةَ لي في بَيعَتِهِ! إنَّها كَفٌّ يَهودِيَّةٌ، لَو بايَعَني بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسُبَّتِهِ (3) ، أما إنَّ لَهُ إمرَةً كَلَعقَةِ الكَلبِ أنفَهُ ، وهُوَ أبُو الأكبُشِ الأَربَعَةِ ، وسَتَلقَى الاُمَّةُ مِنهُ ومِن وُلدِهِ يَوما أحمَرَ ! (4)
.
ص: 93
2 / 7عَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍعبد اللّه بن عامر بن كُرَيْز ، ابن خال عثمان (1) ، عيّنةٌ ماثلة من الذين تمرّغوا في الرفاه ، فانْبَرَوا للقيم الإنسانيّة مُشاكِسين لها ومُخاصمين . ولّاه عثمان على البصرة وهو ابن أربع وعشرين أو خمس وعشرين سنة (2) ، كما كان يلي بلاد فارس أيضا (3) . عزله أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل عثمان ، فَنَهب بيتَ مال البصرة ، وفرّ إلى مكّة (4) ، وكانت معرفته بالبصرة هي التي دفعت أصحاب الجمل إلى التوجّه نحوها (5) ، وهو أحد الذين جهّزوا الجيش بالمال الذي سرقه من خزانة البصرة ، فأنفق مليون درهم ، وتبرّع بمائة بعير لقتال أمير المؤمنين عليه السلام (6) .
.
ص: 94
لاذ بالفرار بعد معركة الجمل قاصدا الشام (1) ، وفيها صاهر معاوية (2) ، وكان معه في حرب صفّين (3) ، كما شارك في قتال الإمام الحسن عليه السلام ، وصار واسطة في الصلح (4) ، ثمّ ولي البصرة ثلاث سنوات اُخرى في عهد معاوية (5) . حياته مَعْلَم على عبادته للدنيا وجشعه في استغلال بيت المال . وهكذا . . . أ ليس عجيبا أن يذكروا في ترجمته أنّه «كان أحد الأجواد الممدوحين» (6) ؟ ! هلك ما بين سنة 57 إلى 59 ه (7) .
2 / 8يَعلَى بنُ مُنيَةَ (8)صهر الزبير (9) ، وعامل أبو بكر (10) وعمر وعثمان على اليمن 11 ، عزله
.
ص: 95
أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل عثمان ، فنهب بيت مال اليمن (1) ولجأ إلى مكّة ومعه ستّمائة ألف درهم وستّمائة بعير (2) ، فالتحق فيها بعائشة وطلحة والزبير ، وتعهّد بنفقات الحرب ، فدفع أربعمائة ألف درهم للمحاربين ، وجعل الإبل تحت تصرّفهم (3) . وهو الذي اشترى الجمل الذي كانت عليه عائشة (4) . وله ثروة طائلة أيضا ، وكان أحد الصحابة الذين سَطَوا على بيت المال ، فملؤوا جيوبهم منه . ويا عجبا إذا اشتهر بالجود والكرم (5) ! ! ومن المحتمل أنّه مات في أيّام معاوية (6) .
الجمل :لَمَّا اتَّصَلَ بِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام خَبَرُ ابنِ أبي رَبيعَةَ وَابنِ مُنيَةَ وما بَذَلاهُ مِنَ المالِ في شِقاقِهِ وَالفَسادِ عَلَيهِ قالَ : وَاللّهِ إن ظَفِرتُ بِابنِ مُنيَةَ وَابنِ أبي رَبيعَةَ لَأَجعَلَن
.
ص: 96
أموالَهُما في مالِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ . ثُمَّ قالَ : بَلَغَني أنَّ ابنَ مُنيَةَ بَذَلَ عَشرَةَ آلافِ دينارٍ في حَربي ! مِن أينَ لَهُ عَشرَةُ آلافِ دينارٍ ؟ سَرَقَها مِنَ اليَمَنِ ثُمَّ جاءَ بِها ! لَئِن وَجَدتُهُ لَاخُذَنَّهُ بِما أقَرَّ بِهِ . فَلَمّا كانَ يَومُ الجَمَلِ وَانكَشَفَ النّاسُ هَرَبَ يَعلَى بنُ مُنيَةَ (1) .
.
ص: 97
الفصل الثالث : تأهّب الناكثين للخروج على الإمام3 / 1دَسائِسُ مُعاوِيَةَشرح نهج البلاغة عن قيس بن عرفجة :لَمّا حُصِرَ عُثمانُ أبرَدَ مَروانُ بنُ الحَكَمِ بِخَبَرِهِ بَريدَينِ : أحَدَهُما إلَى الشّامِ وَالآخَرَ إلَى اليَمَنِ _ وبِها يَومَئِذٍ يَعلَى بنُ مُنيَةَ _ ومَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما كِتابٌ فيهِ : إنَّ بَني اُمَيَّةَ فِي النّاسِ كَالشّامَةِ الحَمراءِ ، وإِنَّ النّاسَ قَد قَعَدوا لَهُم بِرَأسِ كُلِّ مَحَجَّةٍ ، وعَلى كُلِّ طَريقٍ ، فَجَعَلوهُم مَرمَى العُرّ (1) وَالعَضيهَةِ (2) ، ومَقذَفَ القَشبِ (3) وَالأَفيكَةِ ، وقَد عَلِمتُم أنَّها لَم تَأتِ عُثمانَ إلّا كَرها تُجبَذُ (4) من وَرائِها ، وإنّي خائِفٌ إن قُتِلَ أن تَكونَ مِن بَني اُمَيَّةَ بِمَناطِ الثُّرَيّا إن لَم نَصِر كَرَصيفِ الأَساسِ المُحكَمِ ، ولَئِن وَهى عَمودُ البَيتِ لَتَتَداعَيَنَّ جُدرانُهُ ، وَالَّذي عيبَ عَلَيهِ إطعامُكُمَا الشّام
.
ص: 98
وَاليَمَنَ ، ولاشَكَّ أنَّكُما تابِعاهُ إن لَم تَحذَرا ، وأَمّا أنَا فَمُساعِفٌ كُلَّ مُستَشيرٍ ، ومُعينٌ كُلَّ مُستَصرِخٍ ، ومُجيبٌ كُلَّ داعٍ ، أتَوَقَّعُ الفُرصَةَ فَأَثِبُ وَثبَةَ الفَهدِ أبصَرَ غَفلَةَ مُقتَنَصِهِ ، ولَولا مَخافَةُ عَطَبِ البَريدِ وضَياعِ الكُتُبِ لَشَرَحتُ لَكُما مِنَ الأَمرِ ما لا تَفزَعانِ مَعَهُ إلى أن يَحدُثَ الأَمرُ ، فَجِدّا في طَلَبِ ما أنتُما وَلِيّاهُ ، وعَلى ذلِكَ فَليَكُنِ العَمَلُ إن شاءَاللّهُ . . . . فَلَمّا وَرَدَ الكِتابُ عَلى مُعاوِيَةَ أذَّنَ فِي النّاسِ الصَّلاةَ جامِعَةً ، ثُمَّ خَطَبَهُم خُطبَةَ المُستَنصِرِ المُستَصرِخِ ، وفي أثناءِ ذلِكَ وَرَدَ عَلَيهِ قَبلَ أن يَكتُبَ الجَوابَ كِتابُ مَروانَ بِقَتلِ عُثمانَ . . . . فَلَمّا وَرَدَ الكِتابُ عَلى مُعاوِيَةَ أمَرَ بِجَمعِ النّاسِ ، ثُمَّ خَطَبَهُم خُطبَةً أبكى مِنهَا العُيونَ ، وقَلقَلَ القُلوبَ ، حَتّى عَلَتِ الرَّنَّةُ ، وَارتَفَعَ الضَّجيجُ ، وهَمَّ النِّساءُ أن يَتَسَلَّحنَ . ثُمَّ كَتَبَ إلى طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ ، وَالزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ ، وسَعيدِ بنِ العاصِ ، وعَبدِ اللّهِ بنِ عامِرِ بنِ كُرَيزٍ ، وَالوَليدِ بنِ عُقبَةَ ، ويَعلَى بنِ مُنيَةَ ؛ وهُوَ اسمُ اُمِّهِ ، وإنَمَّا اسمُ أبيهِ اُمَيَّةُ . فَكانَ كِتابُ طَلحَةَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّكَ أقَلُّ قُرَيشٍ في قُرَيشٍ وِترا ، مَعَ صَباحَةِ وَجهِكَ ، وسَماحَةِ كَفِّكَ ، وفَصاحَةِ لِسانِكَ ؛ فَأَنتَ بِإزاءِ مَن تَقَدَمَّكَ فِي السّابِقَةِ ، وخامِسُ المُبَشَّرينَ بِالجَنَّةِ ، ولَكَ يومُ أُحُدٍ وشَرَفُهُ وفَضلُهُ ، فَسارِع رَحِمَكَ اللّهُ إلى ما تُقَلِّدُكَ الرَّعِيَّةُ مِن أمرِها مِمّا لا يَسَعُكَ التَّخَلُّفَ عَنهُ ، ولا يَرضَى اللّهُ مِنكَ إلّا بِالقِيامِ بِهِ ، فَقَد أحكَمتُ لَكَ الأمرَ قِبَلي ، وَالزُّبَيرُ فَغَيرُ مُتَقَدِّمٍ عَلَيكَ بِفَضلٍ ، وأَيُّكُما قَدَّمَ صاحِبَهُ فَالمُقَدَّمُ الإِمامُ، وَالأَمرُ مِن بَعدِهِ لِلمُقَدِّمِ لَهُ ، سَلَكَ اللّهُ بِكَ قَصدَ المُهتَدينَ ، ووَهَبَ لَكَ رُشدَ المُوَفَّقينَ ، وَالسَّلامُ .
.
ص: 99
و كَتَبَ إلَى الزُّبَيرِ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّكَ الزُّبَيرُ بنُ العَوّامِ بنِ أبي خَديجَةَ ، وَابنُ عَمَّةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وحَوارِيُّهُ وسَلَفُهُ ، وصِهرُ أبي بَكرٍ ، وفارِسُ المُسلِمينَ ، وأَنتَ الباذِلُ فِي اللّهِ مُهجَتَهُ بِمَكَّةَ عِندَ صَيحَةِ الشَّيطانِ ، بَعَثَكَ المُنبَعِثُ فَخَرَجتَ كَالثُّعبانِ المُنسَلِخِ بِالسَّيفِ المُنصَلِتِ ، تَخبِطُ خَبطَ الجَمَلِ الرَّديعِ (1) ، كُلُّ ذلِكَ قُوَّةُ إيمانٍ وصِدقُ يَقينٍ ، وسَبَقَت لَكَ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله البِشارَةُ بِالجَنَّةِ ، وجَعَلَكَ عُمَرُ أحَدَ المُستَخلَفينَ عَلَى الاُمَّةِ . وَاعلَم يا أبا عَبدِ اللّهِ ، أنَّ الرَّعِيَّةَ أصبَحَت كَالغَنَمِ المُتَفَرِّقَةِ لِغَيبَةِ الرّاعي ، فَسارِع رَحِمَكَ اللّهُ إلى حَقنِ الدِّماءِ ، ولَمِّ الشَعَثِ ، وجَمعِ الكَلِمَةِ ، وصَلاحِ ذَاتِ البَينِ قَبلَ تَفاقُمِ الأَمرِ ، وَانتِشارِ الاُمَّةِ ؛ فَقَد أصبَحَ النّاسُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ عَمّا قَليلٍ يَنهارُ إن لَم يُرأَب (2) ، فَشَمِّر لِتَأليفِ الاُمَّةِ ، وَابتَغِ إلى رَبِّكَ سَبيلاً ، فَقَد أحكَمتُ الأَمرَ عَلى مَن قِبَلي لَكَ ولِصاحِبِكَ ، عَلى أنَّ الأَمرَ لِلمُقدَّمِ ، ثُمَّ لِصاحِبِهِ مِن بَعدِهِ ، جَعَلَكَ اللّهُ مِن أئِمَّةِ الهُدى ، وبُغاةِ الخَيرِ وَالتَّقوى ، وَالسَّلامُ (3) .
شرح نهج البلاغة :بَعَثَ [مُعاوِيَةُ] رَجُلاً مِن بَني عُمَيسٍ ، وكَتَبَ مَعَهُ كِتابا إلَى الزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ وفيهِ : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، لِعَبدِ اللّهِ الزُبَيرِ أميرِ المُؤمِنينَ مِن مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ ، سَلامٌ عَلَيكَ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّي قَد بايَعتُ لَكَ أهلَ الشّامِ ، فَأَجابوا وَاستَوسَقوا (4) كَما يَستَوسِقُ الجَلَبُ (5) ، فَدونَكَ الكوفَةَ والبَصرَةَ ، لا يَسبِقكَ إلَيها ابنُ أبي طالِبٍ ؛ فَإِنَّه لا شَيءَ بَعدَ هذَينِ المِصرَينِ . وقَد بايَعتُ لِطَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ مِن بَعدِكَ ، فَأَظهِرَا الطَّلَبَ بِدَمِ عُثمانَ ، وَادعُوَا
.
ص: 100
النّاسَ إلى ذلِكَ ، وَليَكُن مِنكُمَا الجِدُّ والتَّشميرُ ، أظفَرَكُمَا اللّهُ ، وخَذَلَ مُناوِئَكُما ! ! فَلَمّا وَصَلَ هذَا الكِتابُ إلَى الزُّبَيرِ سُرَّ بِهِ ، وأَعلَمَ بِهِ طَلحَةَ وأَقرَأَهُ إيّاهُ ، فَلَم يَشُكّا في النُّصحِ لَهُما مِن قِبَلِ مُعاوِيَةَ ، وأَجمَعا عِندَ ذلِكَ عَلى خِلافِ عَلِيٍّ عليه السلام (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ لَهُ قَبلَ حَربِ الجَمَلِ في شَأنِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ _: ويا عَجَبا لِاستِقامَتِهِما لِأَبي بَكرٍ وعُمَرَ وبَغيِهِما عَلَيَّ ! وهُما يَعلَمانِ أنّي لَستُ دونَ أحَدِهِما ، ولَو شِئتُ أن أقولَ لَقُلتُ . ولَقَد كانَ مُعاوِيَةُ كَتَبَ إلَيهِما مِنَ الشّامِ كِتابا يَخدَعُهُما فيهِ ، فَكَتَماهُ عَنّي ، وخَرَجا يوهِمانِ الطَّغامَ (2) أنَّهُما يَطلُبانِ بِدَمِ عُثمانَ (3) .
3 / 2بَدءُ الخِلافِالإمامة والسياسة :ذَكَروا أنَّ الزُّبَيرَ وطَلحَةَ أتَيا عَلِيّا _ بَعدَ فَراغِ البَيعَةِ _فَقالا : هَل تَدري عَلى ما بايعَناكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ عَلِيٌّ : نَعَم ، عَلَى السَّمِع وَالطّاعَةِ ، وعَلى ما بايَعتُم عَلَيهِ أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ . فَقالا : لا ، ولكِنّا بايَعناكَ عَلى أنّا شَريكاكَ فِي الأَمرِ . قالَ عَلِيٌّ : لا ، ولكِنَّكُما شَريكانِ فِي القَولِ وَالاِستِقامَةِ وَالعَونِ عَلَى العَجزِ وَالأَوَدِ (4)(5) .
.
ص: 101
الإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا قالَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ لَهُ عليه السلام : نُبايِعُكَ عَلى أنّا شُرَكاؤُكَ في هذَا الأَمرِ ، قالَ _: لا ولكِنَّكُما شَريكانِ فِي القُوَّةِ وَالاِستِعانَةِ ، وعَونانِ عَلَى العَجزِ وَالأَوَدِ (1) .
تاريخ اليعقوبي :أتاهُ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ فَقالا : إنَّهُ قَد نالَتنا بَعدَ رَسولِ اللّهِ جَفوةٌ (2) ، فَأَشرِكنا في أمرِكَ ! فَقالَ : أنتُما شَريكايَ فِي القُوَّةِ وَالاِستِقامَةِ ، وعَونايَ عَلَى العَجزِ وَالأَوَدِ (3) .
راجع : ص 31 (دوافع البغاة في قتال الإمام) .
3 / 3إظهارُ الشَّكاةِالإمامة والسياسة :كانَ الزُّبَيرُ لا يَشُكُّ فِي وِلايَةِ العِراقِ ، وطَلحَةُ فِي اليَمَنِ ، فَلَمّا استَبانَ لَهُما أنَّ عَلِيّا غَيرُ مُوَلّيهِما شَيئا ، أظهَرا الشَّكاةَ ؛ فَتَكَلَّمَ الزُّبَيرُ في مَلَاءٍ مِن قُرَيشٍ ، فَقالَ : هذا جَزاؤُنا مِن عِلِيٍّ ! قُمنا لَهُ في أمرِ عُثمانَ ، حَتّى أثبَتنا عَلَيهِ الذَّنبَ ، وسَبَّبنا لَهُ القَتلَ ، وهُوَ جالِسٌ في بَيتِهِ وكُفِيَ الأَمرَ . فَلمّا نالَ بِنا ما أرادَ ، جَعَلَ دونَنا غَيرَنا . فَقالَ طَلحَةُ : مَا اللَّومُ إلّا أنّا كُنّا ثَلاثَةً مِن أهلِ الشّورى ، كَرِهَهُ أحَدُنا وبايَعناهُ ، وأَعطَيناهُ ما في أيدينا ، ومَنَعَنا ما في يَدِهِ ؛ فَأَصبَحنا قَد أخطَأنا ما رَجَونا . قالَ : فَانتَهى قَولُهُما إلى عَلِيٍّ ، فَدَعا عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ وكانَ استَوزَرَهُ ، فَقالَ لَهُ : بَلَغَكَ قَولُ هذَينِ الرَّجُلَينِ ؟ قالَ : نَعَم ، بَلَغَني قَولُهُما . قالَ : فَما تَرى ؟ قالَ : أرى أنَّهُما أحَبَّا الوِلايَةَ ؛ فَوَلِّ البَصرَةَ الزُّبَيرَ ، ووَلِّ طَلحَةَ الكوفَةَ ؛ فَإِنَّهما لَيسا بِأَقربَ إلَيكَ مِنَ الوَليدِ وَابنِ عامِرٍ مِن عُثمانَ . فَضَحِكَ عَلِيٌّ ، ثُمَّ قالَ : وَيحَكَ ، إنّ العِراقَينِ بِهِمَا الرِّجال
.
ص: 102
وَالأَموالُ ، ومَتى تَمَلَّكا رِقابَ النّاسِ يَستَميلَا السَّفيهَ بِالطَّمَعِ ، ويَضرِبَا الضَّعيفَ بِالبَلاءِ ، ويَقوَيا عَلَى القَوِيِّ بِالسُّلطانِ ، ولَو كُنتُ مُستَعمِلاً أحَدا لِضُرِّهِ وَنَفعِهِ لَاستَعمَلتُ مُعاوِيَةَ عَلَى الشّامِ ، ولولا ما ظَهَرَ لي مِن حِرصِهِما عَلَى الوِلايَةِ ، لَكانَ لي فيهِما رَأيٌ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ عليه السلام كَلَّمَ بِهِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ بَعدَ بَيعَتِهِ بِالخِلافَةِ ، وقَد عَتَبا عَلَيهِ مِن تَركِ مَشورَتِهِما وَالِاستِعانَةِ فِي الاُمورِ بِهِما _: لَقَد نَقَمتُما يَسيرا ، وأَرجَأتُما كثَيرا . أ لا تُخبِرانّي ، أيُّ شَيءٍ كانَ لَكُما فيهِ حَقٌّ دَفَعتُكُما عَنهُ ؟ أم أيُّ قِسمٍ استَأثَرتُ عَلَيكُما بِهِ ؟ أم أيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إلَيَّ أحَدٌ مِنَ المُسلِمينَ ضَعُفتُ عَنهُ ، أم جَهِلتُهُ ، أم أخطَأتُ بابَهُ ؟ وَاللّهِ ، ما كانَت لي فِي الخِلافَةِ رَغبَةٌ ، ولا فِي الوِلايَةِ إربَةٌ (2) ، ولكِنَّكُم دَعَوتُموني إلَيها ، وحَمَلتُموني عَلَيها ، فَلَمّا أفضَت إلَيَّ نَظرتُ إلى كِتابِ اللّهِ وما وَضَعَ لَنا ، وأَمَرَنا بِالحُكمِ بِهِ فَاتَّبَعتُهُ ، ومَا استَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله فَاقتَدَيتُهُ ، فَلَم أحتَج في ذلِكَ إلى رَأيِكُما ، ولا رَأيِ غَيرِكُما ، ولا وَقَعَ حُكمٌ جَهِلتُهُ فَأَستَشيرَكُما وإِخواني مِنَ المُسلِمينَ ، ولَو كانَ ذلِكَ لَم أرغَب عَنكُما ، ولا عَن غَيرِكُما . وأَمّا ما ذَكَرتُما مِن أمرِ الاُسوَةِ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ أمرٌ لَم أحكُم أنَا فيهِ بِرَأيي ، ولا وَلَيتُهُ هَوىً مِنّي ، بَل وَجَدتُ أنَا وأَنتُما ما جاءَ بِهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله قَد فُرِغَ مِنهُ ، فَلَم أحتَج إلَيكُما فيما قَد فَرَغَ اللّهُ مِن قَسمِهِ ، وأَمضى فيهِ حُكمُهُ ، فَلَيسَ لَكُما _ وَاللّهِ _ عِندي ولا لِغَيرِكُما في هَذا عُتبى (3) . أخَذَ اللّهُ بِقُلوبِنا وقُلوبِكُم إلَى الحَقِّ ، وأَلهَمَنا وإِيّاكُمُ الصَّبرَ .
.
ص: 103
_ ثُمَّ قالَ عليه السلام : _ رَحِمَ اللّهُ رَجُلاً رَأى حَقّا فَأَعانَ عَلَيهِ ، أو رَأى جَورا فَرَدَّهُ ، وكانَ عَونا بِالحَقِّ عَلى صاحِبِهِ (1) .
3 / 4خُروجُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إلى مَكَّةَفي أعقاب عدّة أيّام من المداولات التي أجراها طلحة والزبير مع الإمام في سبيل الحصول على بعض المناصب الحكوميّة (2) ، وكسب الامتيازات الاقتصاديّة ، ولم تتمخّض هذه المباحثات إلّا عن رفضه الانصياع لمطاليبهم ، تناهى إليهم خبر إعلان عائشة في مكّة عن معارضتها للإمام ، والبراءة من قتلة عثمان . ومن جهة اُخرى فقد فرّ بعض عمّال عثمان برفقة الأموال التي نهبوها من بيت المال إلى مكّة خوفا من حساب الإمام لهم . وهكذا فقد عزم كلّ من طلحة والزبير على الذهاب إلى مكّة ، والإعلان عن معارضتهما لحكومة الإمام من هناك . فجاءاه وهما يضمران هذه النيّة .
الجمل :فَلَمّا دَخَلا [ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ] عَلَيهِ قالا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! قَد جِئناكَ نَستَأذِنُكَ لِلخُروجِ فِي العُمرَةِ . فَلَم يَأذَن لَهُما . فَقالا : نَحنُ بَعيدُو العَهدِ بِها ، اِئذَن لَنا فيها . فَقالَ لَهُما : وَاللّهِ، ما تُريدانِ العُمرَةَ، ولكِنَّكُما تُريدانِ الغُدرَةَ ! وإِنَّما تُريدانِ البَصرَةَ ! فَقالا : اللّهُمَّ غَفرا ، ما نُريدُ إلَا العُمرَةَ .
.
ص: 104
فَقالَ لَهُما عليه السلام : اِحلِفا لي بِاللّهِ العَظيمِ أنَّكُما لا تُفسِدانِ عَلَيَّ اُمورَ المُسلِمينَ ، ولا تَنكُثانِ لي بَيعَةً ، ولا تَسعَيانِ في فِتنَةٍ . فَبَذَلا ألسِنَتُهُما بِالأَيمانِ الوَكيدَةِ فيمَا استَحلَفَهُما عَلَيهِ مِن ذلِكَ . فَلَمّا خَرَجا مِن عِندِهِ لَقِيَهُمَا ابنُ عَبّاسٍ فَقالَ لَهُما : فَأَذِنَ لَكُما أميرُ المُؤمِنينَ ؟قالا : نَعَم . فَدَخَلَ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَابتَدَأَهُ عليه السلام وقالَ : يَابنَ عَبّاسٍ ، أ عِندَكَ خَبَرٌ ؟ فَقالَ : قَد رَأَيتُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ . فَقالَ لَهُ : إنَّهُمَا استَأذَناني فِي العُمرَةِ ، فَأَذِنتُ لَهُما بَعدَ أنِ استَوثَقتُ مِنهُما بِالأَيمانِ ألّا لا يَغدِرا ولا يَنكُثا ولا يُحدِثا فَسادا ، وَاللّهِ يَا بنَ عَبّاسٍ ما قَصَدا إلَا الفِتنَةَ ، فَكَأَنّي بِهِما وقَد صارا إلى مَكَّةَ لِيَستَعينا عَلى حَربي ؛ فَإِنَّ يَعلَى بنَ مُنيَةَ الخائِنَ الفاجِرَ قَد حَمَلَ أموالَ العِراقِ وفارِسَ لَيُنفِقَ ذلِكَ ، وسَيُفسِدُ هذانِ الرَّجُلانِ عَلَيَّ أمري ، ويَسفِكانِ دِماءَ شيعَتي وأَنصاري . فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ : إذا كانَ عِندَكَ الأَمرُ كَذلِكَ فَلِمَ أذِنتَ لَهُما ؟ وهَلّا حَبَستَهُما وأوثَقتَهُما بِالحَديدِ ، وكَفَيتَ المُسلِمينَ شَرَّهُما ! فَقالَ لَهُ عليه السلام : يَابنَ عَبّاسٍ ! أ تَأمُرُني أن أبدَأَ بِالظُّلمِ ، وبِالسَّيِّئَةِ قَبلَ الحَسَنَةِ ، واُعاقِبَ عَلَى الظِّنَّةِ وَالتُّهَمَةِ ، وآخُذَ بِالفِعلِ قَبلَ كَونِهِ ؟ كَلّا ! وَاللّهِ لا عَدَلتُ عَمّا أخَذَ اللّهُ عَلَيَّ مِنَ الحُكمِ بِالعَدلِ ، ولَا القَولِ بِالفَصلِ (1) .
الجمل عن بكر بن عيسى :إنَّ عَلِيّا عليه السلام أخَذَ عَلَيهِمَا العَهدَ وَالميثاقَ أعظَمَ ما أخَذَهُ عَلى أحَدٍ مِن خَلقِهِ ألّا يُخالِفا ولا يَنكُثا ، ولا يَتَوَجَّها وَجها غَيرَ العُمرَةِ حَتّى يَرجِعا إلَيهِ ،
.
ص: 105
فَأَعطَياهُ ذلِكَ مِن أنفُسِهِما ، ثُمَّ أذِن لَهُما فَخَرَجا (1) .
3 / 5دَعوَةُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ عائِشَةَ إلَى الخُروجِ (2)أنساب الأشراف عن صالح بن كيسان وأبي مخنف :قالوا : قَدِمَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ عَلى عائِشَةَ ، فَدَعَواها إلَى الخُروجِ ، فَقالَت : أ تَأمُرانّي أن اُقاتِلَ ؟ فَقالا : لا ، ولكِن تُعلِمينَ النّاسَ أنَّ عُثمانَ قُتِلَ مَظلوما ، وتَدعيهِم إلى أن يَجعَلُوا الأمرَ شورى بَينَ المُسلِمينَ ؛ فَيَكونوا عَلَى الحالَةِ الَّتي تَرَكَهُم عَلَيها عُمَرُ بنُ الخَطّابِ ، وتُصلِحينَ بَينَهُم (3) .
الفتوح :خَرَجَ الزُّبَيرُ وطَلحَةُ إلى مَكَّةَ ، وخَرَجَ مَعَهُما عَبدُ اللّهِ بنُ عامِرِ بنِ كُرَيزٍ؛ وهُوَ ابنُ خالِ عُثمانَ ، فَجَعَلَ يَقولُ لَهُما : أبشِرا ! فَقَد نِلتُما حاجَتَكُما ، وَاللّهِ لَأَمُدَّنَّكُما بِمِئَةِ ألفِ سَيفٍ . قالَ : وقَدِموا مَكَّةَ وبِها يَومَئِذٍ عائِشَةُ ، وحَرَّضوها عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ ، وكانَ مَعَها جَماعَةٌ مِن بَني اُمَيَّةَ ، فَلَمّا عَلِمَت بِقُدومِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ فَرِحَت بِذلِكَ وَاستَبشَرَت ، وعَزَمَت عَلى ما أرادَت مِن أمرِها (4) .
الجمل :لَمّا عَرَفَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ مِن حالِها [أي عائِشَةَ] وحالِ القَومِ عَمِلا عَلَى اللَّحاق
.
ص: 106
بِها وَالتَّعاضُدِ عَلى شِقاقِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَاستَأذَناهُ فِي العُمرَةِ . . . وسارا إلى مَكَّةَ خالِعَينِ الطّاعَةَ ، ومُفارِقَينِ الجَماعَةَ . فَلَمّا وَرَدا إلَيها فيمَن تَبِعَهُما مِن أولادِهِما وخاصَّتِهِما وخالِصَتِهِما طافا بِالبَيتِ طَوافَ العُمرَةِ ، وسَعَيا بَينَ الصَّفا والمَروَةِ ، وبَعَثا إلى عائِشَةَ عَبدَ اللّهِ بنَ الزُّبَيرِ وقالا لَهُ : اِمضِ إلى خالَتِكَ ، فَأَهدِ إلَيهَا السَّلامَ مِنّا وقُل لَها : إنَّ طَلحَةَ والزُّبَيرَ يُقرِئانِكِ السَّلامَ ويَقولانِ لَكِ : إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عُثمانَ قُتِلَ مَظلوما ، وإِنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ابتَزَّ النّاسَ أمرَهُم ، وغَلَبَهُم عَلَيهِ بِالسُّفَهاءِ الَّذينَ تَوَلَّوا قَتلَ عُثمانَ ، ونَحنُ نَخافُ انتِشارَ الأَمرِ بِهِ ؛ فَإِن رَأَيتِ أن تَسيري مَعَنا لَعَلَّ اللّهَ يَرتُقُ بِكِ فَتقَ هذِهِ الاُمَّةِ ، و يَشعَبُ بِكِ صَدعَهُم ، وَيلُمُّ بِكِ شَعَثَهُم (1) ، ويُصلِحُ بِكِ اُمورَهُم . فَأَتاها عَبدُ اللّهِ ، فَبَلَّغَها ما أرسَلاهُ بِهِ ، فَأَظهَرَتِ الاِمتِناعَ مِن إجابَتِهِما إلَى الخُروجِ عَن مَكَّةَ ، وقالَت : يا بُنَيَّ ، لَم آمُر بِالخُروجِ ، لكِنّي رَجَعتُ إلى مَكَّةَ لِاُعلِمَ النّاسَ ما فُعِلَ بِعُثمانَ إمامِهِم ، وأَنَّهُ أعطاهُمُ التَّوبَةَ ، فَقَتَلوهُ تَقِيّا نَقِيّا بَرِيّا ، ويَرَونَ في ذلِكَ رَأيَهُم ، ويُشيرونَ إلى مَنِ ابتَزَّهُم أمرَهُم وغَصَبَهُم مِن غَيرِ مَشورَةٍ مِنَ المُسلِمينَ ولا مُؤامَرَةٍ ، بِتَكَبُّرٍ وتَجَبُّرٍ ، ويَظُنُّ أنَّ النّاسَ يَرَونَ لَهُ حَقّا كَما كانوا يَرَونَهُ لِغَيرِهِ . هَيهاتَ هَيهاتَ ! يَظُنُّ ابنُ أبي طالِبٍ يَكونُ في هذَا الأَمرِ كَابنِ أبي قُحافَةَ ، لا وَاللّهِ ، ومَن فِي النّاسِ مِثلُ ابنِ أبي قُحافَةَ ؟ تَخضَعُ إلَيهِ الرِّقابُ ، ويُلقى إلَيهِ المَقادُ ، ولِيَها وَاللّهِ ابنُ أبي قُحافَةَ فَخَرَجَ مِنها كَما دَخَلَ ، ثُمَّ وَلِيَها أخو بَني عَدِيٍّ ، فَسَلَكَ طَريقَهُ ، ثُمَّ مَضَيا فَوَلِيَهَا ابنُ عَفّانٍ ؛ فَرَكِبَها رَجُلٌ لَهُ سابِقَةٌ ومُصاهَرَةٌ بِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وأَفعالٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله مَذكورَةٌ ، لا يَعمَلُ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ مِثلَ ما عَمِلَهُ في ذاتِ اللّهِ ،
.
ص: 107
وكانَ مُحِبّا لِقَومِهِ ، فَمالَ بَعضَ المَيلِ ، فَاستَتَبناهُ فَتابَ ثُمَّ قُتِلَ ، فَيَحِقُّ لِلمُسلِمينَ أن يَطلُبوا بِدَمِهِ . فَقالَ لَها عَبدُ اللّهِ : فَإِذا كانَ هذا قُولَكِ في عَلِيٍّ يا اُمَّه ، ورَأيَكِ في قاتِلي عُثمانَ ، فَمَا الَّذي يُقعِدُكِ عَنِ المُساعَدَةِ عَلى جِهادِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ وقَد حَضَرَكِ مِنَ المُسلِمينَ مَن فيهِ غِنىً وكِفايَةٌ فيما تُريدينَ ؟ فَقالَت : يا بُنَيَّ اُفَكِّرُ فيما قُلتَ وتَعودُ إلَيَّ . فَرَجَعَ عَبدُ اللّهِ إَلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ بِالخَبَرِ ، فَقالا لَهُ : قَد أجابَت اُمُّنا _ وَالحَمدُ للّهِِ _ إلى ما نُريدُ ، ثُمَّ قالا لَهُ : باكِرها فِي الغَدِ ، فَذَكِّرها أمرَ المُسلِمينَ ، وأَعلِمها أنّا قاصِدانِ إلَيها لِنُجَدِّدَ بِها عَهدا ، ونُحكِمُ مَعَها عَقدا ، فَباكَرَها عَبدُ اللّهِ ، وأَعادَ عَلَيها بَعضَ ما أسلَفَهُ مِنَ القَولِ إلَيها ، فَأَجابَت إلَى الخُروجِ ونادى مُناديها : إنَّ اُمُّ المُؤمِنينَ تُريدُ أن تَخرُجَ تَطلُبَ بِدَمِ عُثمانَ ، فَمَن كانَ يُريدُ أن يَخرُجَ فَليَتَهَيَّأ لِلخُروجِ مَعَها . وصارَ إلَيها طَلحَةُ ، فَلَمّا بَصُرَت بِهِ قالَت لَهُ : يا أبا مُحَمَّدٍ قَتَلتَ عُثمانَ وبايَعتَ عَلِيّا ؟ فَقالَ لَها : يا اُمَّه ، ما مَثَلي إلّا كَما قالَ الأَوَّلُ : نَدِمتُ نَدامَةَ الكُسَعِيِّ (1) لَمّا رَأَت عَيناهُ ما صَنَعَت يَداهُ و جاءَهَا الزُّبَيرُ فَسَلَّمَ عَلَيها ، فَقالَت لَهُ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ! شَرِكتَ في دَمِ عُثمانَ ، ثُمَّ بايَعتَ عَلِيّا ، وأَنتَ وَاللّهِ أحَقُّ مِنهُ بِالأَمرِ ؟ فَقالَ لَهَا الزُّبَيرُ : أمّا ما صَنَعتُ مَعَ عُثمانَ فَقَد نَدِمتُ مِنهُ وهَرَبتُ إلى رَبّي مِن ذَنبي في ذلِكَ ، ولَن أترُكَ الطَّلَبَ بِدَمِ عُثمانَ . وَاللّهِ ما بايَعتُ عَلِيّا إلّا مُكرَها ، اِلتَفَّ بِه
.
ص: 108
السُّفَهاءُ مِن أهلِ مِصرَ وَالعِراقِ ، وسَلّوا سُيوفَهُم وأَخافُوا النّاسَ حَتّى بايَعوهُ . (1) وصارَ إلى مَكَّةَ عَبدُ اللّهِ بنُ أبي رَبيعَةَ _ وكانَ عامِلَ عُثمانَ عَلى صَنعاءَ _ فَدَخَلَها وقَدِ انكَسَرَ فَخِذُهُ ، وكانَ سَبَبُ ذلِكَ ما رَواهُ الواقِدِيُّ عَن رِجالِهِ : أنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِابنِ أبي رَبيعَةَ حَصرُ النّاسِ لِعُثمانَ أقبَلَ سَريعا لِنُصرَتِهِ ، فَلَقِيَهُ صَفوانُ بنُ اُمَيَّةَ ، وهُوَ عَلى فَرَسٍ يَجري وعَبدُ اللّه بنُ أبي رَبيعَةَ علَى بَغلَةٍ ، فَدَنا مَنهَا الفَرَسُ ، فَحادَت فَطَرَحَتِ ابنَ أبي رَبيعَةَ وكَسَرَت فَخِذَهُ ، وعَرَفَ أنَّ النّاسَ قَد قَتَلوا عُثمانَ ، فَصارَ إلى مَكَّةَ بَعدَ الظُّهرِ ، فَوَجَدَ عائِشَةَ يَومَئِذٍ بِها تَدعو إلَى الخُروجِ لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ ، فَأَمَرَ بِسَريرٍ، فَوُضِعَ لَهُ سَريرٌ فِي المَسجِدِ ، ثُمَّ حُمِلَ وَوُضِعَ عَلَيهِ وقالَ لِلنّاسِ : مَن خَرَجَ لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ فَعَلَيَّ جَهازُهُ ، فَجَهَّزَ ناسا كَثيرا ، فَحَمَلَهُم ولَم يَستَطِعِ الخُروجَ مَعَهُم لِما كانَ بِرِجلِهِ (2) .
3 / 6تَخطيطُ النّاكِثينَ لِلحَربِإنّ شورى الناكثين جديرة بالتأمّل ، فقد اجتمعوا في مكّة من أجل التخطيط لمواجهة أمير المؤمنين عليه السلام . وجلس طلحة ، والزبير ، وعائشة ، ومروان بن الحكم ، ويعلى بن منية ، وعبد اللّه بن عامر ، وعبد اللّه بن الزبير ، ونظائرهم ليعيّنوا موضع القتال ، ويرسموا خطّة الحرب ، وأساليب المواجهة . وكان لكلّ واحدٍ من هؤلاء مواصفاته الخاصّة ؛ فطلحة والزبير كانا لاهثَين وراء السلطة ، وفي أنفسهما هوى الرئاسة والخلافة ، ومروان رجل ماكر ، مريب ، بعيد عن الدين ، وعبد اللّه بن عامر شخص موتور فَقَدَ سلطته بعد أن ملأ جيوبه بدنانير بيت المال ودراهمه ، وهكذا كان يعلى بن منية ؛ فامتزج حبّ السلطة ، ونزعة الترف ،
.
ص: 109
وبلبلة الهوَس بفتنة عمياء تمخّضت عنها معركة الجمل . واختارت هذه الشرذمة البصرة بعد مداولات كثيرة ، ذلك أنّهم من جهة لم يثقوا بمعاوية ؛ فيذهبوا إلى الشام ، ومن جهة اخرى إنّهم كانوا يبتغون مدينة هي في الوقت نفسه قاعدة عسكرية ولم تكن مدينة غير الكوفة والبصرة لها هذه الخصوصيّة ، فاختاروا البصرة لميل أهل الكوفة للإمام عليّ عليه السلام ، وميل أهل البصرة إلى عثمان ، مضافا إلى نفوذ ابن عامر في البصرة لأنّه كان حاكما عليها ، وهذا ما يساعدهم في استقطاب الناس والحصول على معلومات ضروريّة تخدم موقف الحرب .
الإمامة والسياسة :قالَ الزُّبَيرُ : الشّامُ بِهَا الرِّجالُ وَالأَموالُ ، وعَلَيها مُعاوِيَةُ ، وهُوَ ابنُ عَمِّ الرَّجُلِ ، ومَتى نَجتَمِع يُوَلِّنا عَلَيهِ . وقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ : البَصرَةُ ؛ فَإِن غَلَبتُم عَلِيّا فَلَكُمُ الشّامُ ، وإِن غَلَبَكُم عَلِيٌّ كانَ مُعاوِيَةُ لَكُم جُنَّةً ، وهذِهِ كُتُبُ أهلِ البَصرَةِ إلَيَّ . فَقالَ يَعلَى بنُ مُنيَةَ (1) _ وكانَ داهِيا _ : أيُّهَا الشَّيخانِ ! قَدِّرا قَبلَ أن تَرحَلا أنَّ مُعاوِيَةَ قَد سَبَقَكُم إلَى الشّامِ وفيهَا الجَماعَةُ ، وأنتُم تَقدَمونَ عَلَيهِ غَدا في فُرقَةٍ ، وهُوَ ابنُ عَمِّ عُثمانَ دونَكُم ؛ أ رَأَيتُم إن دَفَعَكُم عَنِ الشّامِ ، أو قالَ : أجعَلُها شورى ، ما أنتُم صانِعونَ ؟ أ تُقاتِلونَهُ أم تَجعَلونَها شورى فَتَخرُجا مِنها ؟ وأَقبَحُ مِن ذلِكَ أن تأتِيا رَجُلاً في يَدَيهِ أمرٌ قَد سَبَقَكُما إلَيهِ ، وتُريدا أن تُخرِجاهُ مِنهُ! فَقالَ القَومُ : فَإِلى أينَ ؟ قالَ : إلَى البَصرَةِ (2) .
.
ص: 110
الفتوح :شاوَروا فِي المَسيرِ فَقالَ الزُّبَيرُ : عَلَيكُم بِالشّامِ ! فيهَا الرِّجالُ والأَموالُ ، وبِها مُعاوِيَةُ ؛ وهُوَ عَدُوٌّ لِعَلِيٍّ . فَقالَ الوَليدُ بنُ عُقبَةَ : لا وَاللّهِ ما في أيديكُم مِنَ الشّامِ قَليلٌ ولا كَثيرٌ ! وذلِكَ أنَّ عُثمانَ بنَ عَفّانٍ قَد كانَ استَعانَ بِمُعاوِيَةَ لِيَنصُرَهُ وقَد حوصِرَ ، فَلَم يَفعَل وتَرَبَّصَ حَتّى قُتِلَ ، لِذلِكَ يَتَخَلَّصُ لَهُ الشّامُ ، أفَتَطمَعُ أن يُسَلِّمَها (1) إلَيكُم ؟ مَهلاً عَن ذِكرِ الشّامِ وعَلَيكُم بِغَيرِها (2) .
تاريخ الطبري :ثُمَّ ظَهَرا _ يَعني طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ _ إلى مَكَّةَ بَعدَ قَتلِ عُثمانَ بِأَربَعَةِ أشهُرٍ وَابنُ عامِرٍ بِها يَجُرُّ الدُّنيا ، وقَدِمَ يَعلَى بنُ اُمَيَّةَ مَعَهُ بِمالٍ كَثيرٍ ، وزِيادَةٍ عَلى أربَعِمِئَةِ بَعيرٍ ، فَاجتَمَعوا في بَيتِ عائِشَةَ ، فَأَرادُوا الرَّأيَ ، فَقالوا : نَسيرُ إلى عَلِيٍّ فَنُقاتِلُهُ . فَقالَ بَعضُهُم : لَيسَ لَكُم طاقَةٌ بِأَهلِ المَدينَةِ ، ولكِنّا نَسيرُ حَتّى نَدخُلَ البَصرَةَ وَالكوفَةَ ، ولِطَلحَةَ بِالكوفَةِ شيعَةٌ وهَوىً ، ولِلزُّبَيرِ بِالبَصرَةِ هَوىً ومَعونَةٌ . فَاجتَمَعَ رَأيُهُم عَلى أن يَسيروا إلَى البَصرَةِ وإلَى الكوفَةِ . فَأَعطاهُم عَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ مالاً كَثيرا وإِ بِلاً ، فَخَرَجوا في سَبعِمِئَةِ رَجُلٍ مِن أهلِ المَدينَةِ ومَكَّةَ ، ولَحِقَهُمُ النّاسُ حَتّى كانوا ثَلاثَةَ آلافِ رَجُلٍ (3) .
.
ص: 111
3 / 7تَحذيرُ اُمِّ سَلَمَةَ عائِشَةَ عَنِ الخُروجِالجمل :بَلَغَ اُمَّ سَلَمَةَ اجتِماعُ القَومِ وما خاضوا فيهِ ، فَبَكَت حَتَّى اخضَلَّ خِمارُها ، ثُمَّ دَعَت بِثِيابِها ، فَلَبِسَتها وتَخَفَّرَت ومَشَت إلى عائِشَةَ لِتَعِظَها وتَصُدَّها عَن رأيِها في مُظاهَرَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام بِالخِلافِ ، وتَقعُدَ بِها عَنِ الخُروجِ مَعَ القَومِ . فَلَمّا دَخَلَت عَلَيها قالَت : إنَّكِ سُدَّةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَينَ اُمَّتِهِ ، وحِجابُكِ مَضروبٌ عَلى حُرمَتِهِ ، وقَد جَمَعَ القُرآنُ ذَيلَكِ ؛ فَلا تَندَحيهِ ، ومَكَّنَكِ خُفرَتَكِ ؛ فَلا تُضحيها ، اللّهَ اللّهَ مِن وَراءِ هذِهِ الآيَةِ ! قَد عَلِمَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَكانَكِ ؛ فَلَو أرادَ أن يَعهَدَ إلَيكِ لَفَعَلَ ، بَل نَهاكِ عَن الفَرطَةِ فِي البِلادِ . إنَّ عَمودَ الدّينِ لا يُقامُ بِالنِّساءِ إن مالَ ، ولا يُرأَبُ بِهِنَّ إن صُدِعَ ، حُمادَياتُ النِّساءِ : غَضُّ الأَطرافِ ، وخَفُّ الأعطافِ ، وقَصرُ الوَهازَةِ ، وضَمُّ الذُّيولِ . ما كُنتِ قائِلَةً لَو أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله عارَضَكِ بِبَعضِ الفَلَواتِ ، ناصَّةً قَلوصا مِن مَنهَلٍ إلى آخَرَ ! قَد هَتَكتِ صَداقَتَهُ ، وتَرَكتِ حُرمَتَهُ وعُهدَتَهُ ؟! إنَّ بِعَينِ اللّهِ مَهواكِ ، وعَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ترِدينَ . وَاللّهِ لَو سِرتُ مَسيرَكِ هذا ثُمَّ قيلَ لي : اُدخُلِي الفِردَوسَ ، لَاستَحيَيتُ أن ألقى مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله هاتِكَةً حِجابا قَد سَتَرَهُ عَلَيَّ . اِجعَلي حِصنَكِ بَيتَكِ ، وقاعَةَ البَيتِ قَبرَكِ ، حَتّى تَلقَينَهُ ، وأَنتِ عَلى ذلِكَ أطوَعُ ما تَكونينَ للّهِِ ما لَزِمتيهِ (1) ، وأَنصَرُ ما تَكونينَ لِلدِّينِ ما جَلَستِ عَنهُ .
.
ص: 112
فَقالَت لَها عائِشَةُ : ما أعرَفَني بِوَعظِكِ ، وأَقبَلَني لِنُصحِكِ ! ولَنِعمَ المَسيرُ مَسيرٌ فَزِعتُ إلَيهِ ، وأَنَا بَينَ سائِرَةٍ أو مُتَأَخِّرَةٍ ، فَإِن أقعُد فَعَن غَيرِ حَرَجٍ ، وإن أسِر فَإلى ما لابُدَّ مِنَ الِازدِيادِ مَنهُ 1(1) .
3 / 8رَسائِلُ عائِشَةَ إلى وُجوهِ البِلادِتاريخ الطبري :كَتَبَت عائِشَةُ إلى رِجالٍ مِن أهلِ البَصرَةِ ، وكَتَبَت إلَى الأَحنَفِ بنِ قَيسٍ ، وصَبرَةَ بنِ شَيمانَ ، وأَمثالِهِم مِنَ الوُجوهِ ، ومَضَت حَتّى إذا كانَت بِالحُفَيرِ (2) انتَظَرَتِ الجَوابَ بِالخَبَرِ (3) .
الكامل في التاريخ :كَتَبَت عائِشَةُ إلى أهلِ الكوفَةِ بِما كانَ مِنهُم ، وتَأمُرُهُم أن يُثَبِّطُوا النّاسَ عَن عَلِيٍّ ، وتَحُثُّهُم عَلى طَلَبِ قَتَلَةِ عُثمانَ ، وكَتَبَت إلى أهلِ اليَمامَةِ وإِلى أهل
.
ص: 113
المَدينَةِ بِما كانَ مِنهُم أيضا (1) .
تاريخ الطبري عن مجالد بن سعيد :لَمّا قَدِمَت عائِشَةُ البَصرَةَ كَتَبَت إلى زَيدِ بنِ صوحانَ : مِن عائِشَةَ بِنتِ أبي بَكرٍ اُمِّ المُؤمِنينَ حَبيبَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلَى ابنِها الخالِصِ زَيدِ بنِ صوحانَ ، أمّا بَعدُ : فَإِذا أتاكَ كِتابي هذا فَاقدَم ، فَانصُرنا عَلى أمِرنا هذا ؛ فَإِن لَم تَفعَل فَخَذِّلِ النّاسَ عَن عَلِيٍّ . فَكَتَبَ إلَيها : مِن زَيدِ بنِ صوحانَ إلى عائِشَةَ بِنتِ أبي بَكرٍ الصِدّيقِ حَبيبَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، أمّا بَعدُ : فَأَنَا ابنُكِ الخالِصُ إنِ اعتَزَلتِ هذَا الأَمرَ ، ورَجَعتِ إلى بَيتِكِ ، وإِلّا فَأَنَا أوَّلُ مَن نابَذَكِ . قالَ زَيدُ بنُ صوحانَ : رَحِمَ اللّهُ اُمَّ المُؤمِنينَ ! اُمِرَت أن تَلزَمَ بَيتَها ، واُمِرنا أن نُقاتِلَ ، فَتَرَكَت ما اُمِرَت بِهِ وأَمَرَتنا بِهِ ، وصَنَعَت ما اُمِرنا بِهِ ونَهَتنا عَنهُ ! (2)
راجع: ص 158 (قيس بن سعد و زيد بن صوحان) .
3 / 9تَأَهُّبُ عائِشَةَ لِلخرُوجِالجمل :لَمّا رَأَت عائِشَةُ اجتِماعَ مَنِ اجتَمَعَ إلَيها بِمَكَّةَ عَلى مُخالَفَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، والمُبايَنَةِ لَهُ وَالطّاعَةِ لَها في حَربِهِ تَأَهَّبَت لِلخُروجِ . وكانَت في كُلِّ يَومٍ تُقيمُ مُنادِيَها يُنادي بِالتَّأَهُّبِ لِلمَسيرِ ، وكانَ المُنادي يُنادى ¨
.
ص: 114
ويَقولُ : مَن كانَ يُريدُ المَسيرَ فَليَسِر ؛ فَإِنَّ اُمَّ المُؤمِنينَ سائِرَةٌ إلَى البَصرَةِ تَطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ بنِ عَفّانَ المَظلومِ (1) .
تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :نادَى المُنادي : إنَّ اُمَّ المُؤمِنينَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرَ شاخِصونَ إلَى البَصرَةِ ، فَمَن كانَ يُريدُ إعزازَ الإِسلامِ ، وقِتالَ المُحِلّينَ ، وَالطَّلَبَ بِثَأرِ عُثمانَ، ولَم يَكُن (2) عِندَهُ مَركَبٌ ، ولَم يَكُن لَهُ جَهازٌ ؛ فَهذا جَهازٌ ، وهذِهِ نَفَقَةٌ (3) .
3 / 10اِستِرجاعُ عائِشَةَ لَمّا سَمِعَت بِاسمِ جَمَلِهاشرح نهج البلاغة :لَمّا عَزَمَت عائِشَةُ عَلَى الخُروجِ إلَى البَصرَةِ طَلَبوا لَها بَعيرا أيِّدا (4) يَحمِلُ هَودَجَها ، فَجاءَهُم يَعلَى بنَ اُمَيَّةَ بِبَعيرِهِ المُسَمّى عَسكَرا ؛ وكانَ عَظيمَ الخَلقِ شَديدا ، فَلَمّا رَأَتهُ أعجَبَها ، وأنشَأَ الجَمّالُ يُحَدِّثُها بِقُوَّتِهِ وشِدَّتِهِ ، ويَقولُ في أثناءِ كَلامِهِ : عَسكَرٌ . فَلَمّا سَمِعَت هذِهِ اللَّفظَةَ استَرجَعَت وقالَت : رُدّوهُ لا حاجَةَ لي فيهِ ، وذَكَرَت حَيثُ سُئِلَت أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ذَكَرَ لَها هذَا الاِسمَ ، ونَهاها عَن رُكوبِهِ ، وأمَرَت أن يُطلَبَ لَها غَيرُهُ ، فَلَم يوجَد لَها ما يُشبِهُهُ ، فَغُيِّرَ لَها بِجِلالٍ (5) غَيرَ جِلالِهِ وقيلَ لَها : قَد أصَبنا لَكِ أعظَمَ مِنهُ خَلقا ، وأَشَدَّ قُوَّةً ، واُتِيَت بِهِ فَرَضِيَت (6) .
.
ص: 115
3 / 11اِستِرجاعُ عائِشَةَ لَمّا وَصَلَت إلى ماءِ الحَوأَبِتاريخ اليعقوبي :مَرَّ القَومُ فِي اللَّيلِ بِماءٍ يُقالُ لَهُ : ماءَ الحَوأَبِ (1) ، فَنَبَحَتهُم كِلابُهُ ، فَقالَت عائِشَةُ : ما هذَا الماءُ ؟ قالَ بَعضُهُم : ماءُ الحَوأَبِ . قالَت : إنّا للّهِِ وإِنّا إلَيهِ راجِعونَ ! رُدّوني رُدّوني ! هذَا الماءُ الَّذي قالَ لي رَسولُ اللّهِ : «لا تَكونِي الَّتي تَنبَحُكِ كِلابُ الحَوأَبِ» . فَأَتاهَا القَومُ بِأَربَعينَ رَجُلاً ، فَأَقسَموا بِاللّهِ أنَّهُ لَيسَ بِماءِ الحَوأَبِ!! (2)
شرح نهج البلاغة عن ابن عبّاس وعامر الشعبي وحبيب بن عمير :لَمّا خَرَجَت عائِشَةُ وطَلَحَةُ وَالزُّبَيرُ مِن مَكَّةَ إلَى البَصرَةِ ، طَرَقَت ماءَ الحَوأَبِ _ وهُوَ ماءٌ لِبَني عامِرِ بنِ صَعصَعَةَ _ فَنَبَحَتهُمُ الكِلابُ ، فَنَفَرَت صِعابُ إبِلِهِم . فَقالَ قائِلٌ مِنهُم : لَعَنَ اللّهُ الحَوأَبَ ؛ فَما أكثَرَ كِلابَها ! فَلَمّا سَمِعَت عائِشَةُ ذِكرَ الحَوأَبِ ، قالَت : أ هذا ماءُ الحَوأَبِ ؟ قالوا : نَعَم ، فَقالَت : رُدّوني رُدّوني ، فَسَأَلوها ما شَأنُها ؟ ما بَدا لَها ؟ فَقالَت : إنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «كَأَنّي بِكِلابِ ماءٍ يُدعَى الحَوأَبَ ، قَد نَبَحَت بَعضَ نِسائي» ثُمَّ قالَ لي : «إيّاكِ يا حُميراءُ أن تَكونيها !» . فَقالَ لَهَا الزُّبَيرُ : مَهلاً يَرحَمُكِ اللّهُ ؛ فَإِنّا قَد جُزنا ماءَ الحَوأَبِ بِفَراسِخَ كَثيرَةٍ . فَقالَت : أ عِندَكَ مَن يَشهَدُ بِأَنَّ هذِهِ الكِلابَ النابِحَةَ لَيسَت عَلى ماءِ الحَوأَبِ ؟ فَلَفَّقَ لَهَا الزُّبَيرُ وطَلحَةُ خَمسينَ أعرابِيّا جَعَلا لَهُم جُعلاً ، فَحَلَفوا لَها ، وشَهِدوا أن
.
ص: 116
هذَا الماءَ لَيسَ بِماءِ الحَوأَبِ ، فَكانَت هذِهِ أوَّلُ شَهادَةِ زورٍ فِي الإِسلامِ ! فَسارَت عائِشَةُ لِوَجهِها (1) .
الجمل عن العرني_ دَليلُ أصحابِ الجَمَلِ _: سِرتُ مَعَهُم فَلا أمُرُّ عَلى وادٍ ولا ماءٍ إلّا سَأَلوني عَنهُ ، حَتّى طَرَقنا ماءَ الحَوأَبِ ، فَنَبَحَتنا كِلابُها ، قالوا : أيُّ ماءٍ هذا ؟قُلتُ : ماءُ الحَوأَبِ . قالَ : فَصَرَخَت عائِشَةُ بِأَعلى صَوتِها ، ثُمَّ ضَرَبَت عَضُدَ بَعيرِها فَأَناخَتهُ ، ثُمَّ قالَت : أنَا وَاللّهِ صاحِبَةُ كِلابِ الحَوأَبِ طُروقا ، رُدّوني ! تَقولُ ذلِكَ ثَلاثا ، فَأَناخَت وأَناخوا حَولَها وهُم عَلى ذلِكَ ، وهِيَ تَأبى ، حَتّى كانَتِ السّاعَةُ الَّتي أناخوا فيها مِنَ الغَدِ . قالَ : فَجاءَهَا ابنُ الزُّبَيرِ فَقالَ : النَّجاءَ النَّجاءَ (2) ! ! فَقَد أدرَكَكُم وَاللّهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ! قالَ : فَارتَحَلوا وشَتَموني ، فَانصَرَفتُ (3) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لِنسِائِهِ _: لَيتَ شِعري، أيَّتُكُنَّ صاحِبَةُ الجَمَلِ الأَدَببِ (4) ، الَّتي تَنبَحُها كِلابُ الحَوأَبِ ، فَيُقتَلُ عَن يَمينِها وعَن يَسارِها قَتلى كَثيرَةٌ ، ثُمَّ تَنجو بَعدَما كادَت ؟ ! (5)
.
ص: 117
المستدرك على الصحيحين عن اُمّ سلمة :ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله خُروجَ بَعضِ اُمَّهاتِ المُؤمِنينَ ، فَضَحِكَت عائِشَةُ ، فَقالَ : اُنظُري يا حُمَيراءُ أن لا تَكوني أنتِ ! ثُمَّ التَفَتَ إلى عَلِيٍّ فَقالَ : إن وَليتَ مِن أمرِها شَيئا فَارفُق بِها (1) .
تَعليقٌ :قال ناصر الدين الألباني (2) في كتاب سلسلة الأحاديث الصحيحة _ بعد ذكر حديث كلاب الحوأب _ : إنّ الحديث صحيح الإسناد ، ولا إشكال في متنه . . . فإنّ غاية ما فيه أنّ عائشة لمّا علمت بالحوأب كان عليها أن ترجع ، والحديث يدلّ أنّها لم ترجع ! وهذا ممّا لا يليق أن يُنسب لاُمّ المؤمنين . وجوابنا على ذلك : أنّه ليس كلّ ما يقع من الكُمّل يكون لائقا بهم ؛ إذ لا عصمة إلّا للّه وحده . والسنّي لاينبغي له أن يغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصافّ الأئمّة الشيعة المعصومين ! ولا نشكّ أنّ خروج اُمّ المؤمنين كان خطأً من أصله ، ولذلك همّت بالرجوع حين علمت بتحقّق نبوءة النبيّ صلى الله عليه و آله عند الحوأب ، ولكنّ الزبير أقنعها بترك الرجوع بقوله : عسى اللّه أن يُصلح بكِ بين الناس . ولا نشكّ أنّه كان مخطئا في ذلك أيضا . والعقل يقطع بأنّه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين
.
ص: 118
وقع فيهما مئات القتلى ، ولا شكّ أنّ عائشة هي المخطئة لأسباب كثيرة وأدلّة واضحة ، ومنها : ندمها على خروجها ، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها ، وذلك ممّا يدلّ على أنّ خطأها من الخطأ المغفور ، بل المأجور ! ! (1) أقول : إنّنا نقلنا هذا الكلام للاستدلال على اتّفاق الشيعة والسنّة على خطأ عائشة في إشعال معركة الجمل ، بحيث إنّ شخصا مثل الألباني قبل بهذا الأمر وسلّم به ! ولا يخفى ما في تبريراتِهِ لهذا الخطأ من قبل عائشة .
3 / 12مُناقَشاتُ عَائِشَةَ وسَعيدٍالإمامة والسياسة :لَمّا نَزَلَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وعائِشَةُ بِأَوطاسٍ مِن أرضِ خَيبَرَ ، أقبَلَ عَلَيهِم سَعيدُ بنُ العاصي عَلى نَجيبٍ (2) لَهُ ، فَأَشرَفَ عَلَى النّاسِ ومَعَهُ المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ ، فَنَزَلَ وتَوَكَّأَ عَلى قَوسٍ لَهُ سَوداءَ ، فَأَتى عائِشَةَ . فَقالَ لَها : أينَ تُريدينَ يا اُمَّ المُؤمِنينَ ؟ قالَت : اُريدُ البَصرَةَ . قال : وما تَصنَعينَ بِالبَصرَةِ ؟ قالَت : أطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ . قالَ : فَهؤُلاءِ قَتَلَةُ عُثمانَ مَعَكِ ! ثُمَّ أقبَلَ عَلى مَروانَ فَقالَ لَهُ : وأَنتَ أينَ تُريدُ أيضا ؟ قالَ : البَصرَةَ . قالَ : وما تَصنَعُ بِها ؟ قالَ : أطلُبُ قَتَلَةَ عُثمانَ . قالَ : فَهؤُلاءِ قَتَلَةُ عُثمانَ مَعَكَ ! إنّ هذَينِ الرَّجُلَينِ قَتَلا عُثمانَ «طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ» ، وهُما يُريدانِ الأَمرَ لِأَنفُسِهِما ، فَلَمّا غَلَبا عَلَيهِ قالا : نَغسِلُ الدَّمَ بِالدَّمِ ، وَالحَوبَة
.
ص: 119
بِالتَّوبَةِ . ثُمَّ قالَ المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ : أيُّهَا النّاسُ ! إن كُنتُم إنَّما خَرَجتُم مَعَ اُمِّكُم ؛ فَارجِعوا بِها خَيرا لَكُم ، وإن كُنتُم غَضِبتُم لِعُثمانَ ؛ فَرُؤَساؤُكُم قَتَلوا عُثمانَ ، وإن كُنتُم نَقَمتُم عَلى عَلِيٍّ شَيئا ؛ فَبَيِّنوا ما نَقَمتُم عَلَيهِ ، أنشُدُكُمُ اللّهَ فِتنَتَينِ في عامٍ واحِدٍ . فَأَبَوا إلّا أن يَمضوا بِالنّاسِ ، فَلَحِقَ سَعيدُ بنُ العاصي بِاليَمَنِ ، ولَحِقَ المُغيرَةُ بِالطّائِفِ ، فَلَم يَشهَدا شَيئا مِن حُروبِ الجَمَلِ ولا صِفّينَ (1) .
.
ص: 120
. .
ص: 121
الفصل الرابع : تأهّب الإمام لمواجهة الناكثين4 / 1اِستِشارَةُ الإِمامِ أصحابَهُ فيهِمكان معاوية قد أخضع الشام لسلطته عدّة سنين ، بيدٍ مبسوطة وهيمنة قيصريّة ، ولم يردعه أحد من الخلفاء الماضين عن أعماله قطّ . وكان يعرف أميرَ المؤمنين عليه السلام حقّ معرفته ، ويعلم علم اليقين أنّه لا يتساهل معه أبدا . فامتنع عن بيعته ، ورفع قميص عثمان ، ونادى بالثأر له مستغلّاً جهل الشاميّين ، وتأهّب للحرب (1) . فتجهّز الإمام عليه السلام لقمع هذا الباغي ، وعيّن الاُمراء على الجيش ،وكتب إلى عمّاله في مصر ، والكوفة ، والبصرة يستظهرهم بإرسال القوّات اللازمة . وبينا كان يعدّ العدّة لذلك بلغه تواطؤ طلحة والزبير وعائشة في مكّة ، وإثارتهم للفتنة ، وتحرّكهم صوب البصرة (2) ، فرأى عليه السلام أنّ إخماد هذه الفتنة أولى ، لذلك دعا وجهاء أصحابه واستطلع آراءهم . ويستوقفنا حقّا اُسلوب هذا الحوار ، وآراء أصحابه ، وموقفه الحاسم عليه السلام من قمع
.
ص: 122
البغاة ، وقد اشترك في الحوار المذكور : عبد اللّه بن عبّاس ، ومحمّد بن أبي بكر ، وعمّار بن ياسر ، وسهل بن حُنيف ، واقترح عبد اللّه بن عبّاس عليه أن يأخذ معه اُمّ سلمة أيضا ، فرفض صلوات اللّه عليه ذلك ، وقال : «فَإِنّي لا أرى إخراجَها مِن بَيتِها كَما رَأَى الرَّجُلانِ إخراجَ عائِشَةَ» (1) . ولِمَ ذاك ؟ ذاك لأنّه عليه السلام لم يفكّر إلّا بالحقّ ، لا بالنصر كيفما كان .
تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :كَتَبَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] إلى قَيسِ بنِ سَعدٍ أن يَندُبَ النّاسَ إلَى الشّامِ ، وإلى عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ ، وإلى أبي موسى مِثلَ ذلِكَ ، وأقبَلَ عَلَى التَّهَيُّؤِ وَالتَّجَهُّزِ ، وخَطَبَ أهلَ المَدينَةِ ، فَدَعاهُم إلَى النُهوضِ في قِتالِ أهلِ الفُرقَةِ وقالَ : . . . اِنهَضوا إلى هؤُلاءِ القَومِ الَّذينَ يُريدونَ يِفَرِّقونَ جَماعَتَكُم ؛ لَعَلَّ اللّهَ يُصلِحُ بِكُم ما أفسَدَ أهلُ الآفاقِ ، وتَقضونَ الَّذي عَلَيكُم . فَبَينا هُم كَذلِكَ إذ جاءَ الخَبَرُ عَن أهلِ مَكَّةَ بِنَحوٍ آخَرَ وتَمامٍ عَلى خِلافٍ (2) ، فَقامَ فيهِم بِذلِكَ فَقالَ : . . . ألا وإنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ واُمَّ المُؤمِنينَ قَد تَمالَؤوا عَلى سُخطِ إمارَتي ، ودَعَوُا النّاسَ إلَى الإِصلاحِ ، وسَأَصبِرُ ما لَم أخَف عَلى جَماعَتِكُم ، وأكُفُّ إن كَفّوا ، وأقتَصِرُ عَلى ما بَلَغَني عَنهُم . (3)
الجمل :ولَمَّا اجتَمَعَ القَومُ عَلى ما ذَكَرناهُ مِن شِقاقِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وَالتَّأَهُّبِ لِلمَسيرِ إلَى البَصرَةِ ، وَاتَّصَلَ الخَبَرُ إلَيهِ ، وجاءَهُ كِتابٌ بِخَبَرِ القَومِ ، دَعَا ابنَ عَبّاسٍ ، ومُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ ، وعَمّارَ بنَ ياسِرٍ ، وسَهلَ بنَ حُنَيفٍ ، وأَخبَرَهُم بِالكِتابِ وبِما عَلَيهِ القَومُ مِنَ المَسيرِ .
.
ص: 123
فَقالَ مَحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ : ما يُريدونَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ فَتَبَسَّمَ عليه السلام وقالَ : يَطلُبونَ بِدَمِ عُثمانَ ! فَقالَ مُحَمَّدٌ : وَاللّهِ ، ما قَتَلَ عُثمانَ غَيرُهُم ! ثَمَّ قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : أشيروا عَلَيَّ بِما أسمَعُ مِنكُمُ القَولَ فيهِ . فَقالَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ : الرَّأيُ المَسيرُ إلَى الكوفَةِ ؛ فَإِنَّ أهلَها لَنا شيعَةٌ ، وقَدِ انطَلَقَ هؤُلاءِ القَومُ إلَى البَصرَةِ . وقالَ ابنُ عَبّاسٍ : الرَّأيُ عِندي يا أميرَ المُؤمِنينَ أن تُقَدِّمَ رَجُلاً إلَى الكوفَةِ فَيُبايِعونَ لَكَ ، وتَكتُبَ إلَى الأَشعَرِيِّ أن يُبايِعَ لَكَ ، ثُمَّ بَعدَهُ المَسيرُ حَتّى نَلحَقَ بِالكوفَةِ ، وتُعاجِلَ القَومَ قَبلَ أن يَدخُلُوا البَصرَةَ ، وتَكتُبَ إلى اُمِّ سَلَمَةَ فَتَخَرُجَ مَعَكَ ؛ فَإِنَّها لَكَ قُوَّةٌ . فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : بَل أسيرُ بِنَفسي ومَن مَعِيَ فِي اتِّباعِ الطَّريقِ وَراءَ القَومِ ، فَإِن أدرَكتُهُم فِي الطَّريقِ أخَذتُهُم ، وإن فاتوني كَتَبتُ إلَى الكوفَةِ وَاستَمدَدتُ الجُنودَ مِنَ الأَمصارِ وسِرتُ إلَيهِم . وأَمّا اُمُّ سَلَمَةَ فَإِنّي لا أرى إخراجَها مِن بَيتِها كَما رَأَى الرَّجُلانِ إخراجَ عائِشَةَ . فَبَينَما هُم في ذلِكَ إذ دَخَلَ عَلَيهِم اُسامَةُ بنُ زَيدِ بنِ حارِثَةَ وقالَ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام : فِداكَ أبي واُمّي ! لا تَسِر سَيرا واحِدا ، وَانطَلِق إلى يَنْبُعَ ، وخَلِّف عَلَى المَدينَةِ رَجُلاً ، وأقِم بِما لَكَ ؛ فَإِنَّ العَرَبَ لَهُم جَولَةٌ ثُمَّ يَصيرونَ إلَيكَ . فَقالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : إنَّ هذَا القَولَ مِنكَ يا اُسامَةُ إن كانَ عَلى غَيرِ غِلٍّ في صَدرِكَ فَقَد أخطَأتَ وَجهَ الرَّأيِ فيهِ ، لَيسَ هذا بِرَأيِ بَصيرٍ ، يَكونُ وَاللّهِ كَهَيئَةِ الضَّبُعِ في مغَارَتِها . فَقالَ اُسامَةُ : فَمَا الرَّأيُ ؟ قالَ : ما أشَرتُ بِهِ ، أو ما رَآهُ أميرُ المُؤمِنينَ لِنَفسِهِ . ثُمَّ نادى أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام فِي النّاسِ : تَجَهَّزوا لِلمَسيرِ ؛ فَإِنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ قَد نَكَثَا البَيعَةَ ، ونَقَضَا العَهدَ ، وأَخرَجا عائِشَةَ مِن بَيتِها يُريدانِ البَصرَةَ لِاءِثارَةِ الفِتنَةِ ، وسَفك
.
ص: 124
دِماءِ أهلِ القِبلَةِ . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيهِ إلَى السَّماءِ فَقالَ : اللّهُمَّ إنَّ هذَينِ الرَّجُلَين قَد بَغَيا عَلَيَّ ، ونَكَثا عَهدي ، ونَقَضا عَقدي ، وشَقّاني بِغَيرِ حَقٍّ مِنهُما كانَ في ذلِكَ ، اللّهُمَّ خُذهُما بِظُلمِهِما لي ، وأَظفِرني بِهِما ، وَانصُرني عَلَيهِما» (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا اُشيرَ عَلَيهِ بِأَلّا يَتَّبِعَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ ولا يَرصُدَ لَهُمَا القِتالَ _: وَاللّهِ لا أكونُ كَالضَّبُعِ ؛ تَنامُ عَلى طولِ اللَّدمِ (2) حَتّى يَصِلَ إلَيها طالِبُها ، ويَختِلَها راصِدُها ، ولكِنّي أضرِبُ بِالمُقبِلِ إلَى الحَقِّ المُدبِرَ عَنهُ ، وبِالسّامِعِ المُطيعِ العاصِيَ المُريبَ أبدا حَتّى يَأتيَ عَلَيَّ يَومي . فَوَاللّهِ ما زِلتُ مَدفوعا عَن حَقّي مُستَأثَرا عَلَيَّ مُنذُ قَبَضَ اللّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله حَتّى يَومِ النّاسِ هذا (3) .
4 / 2خُطبَةُ الإِمامِ لَمّا بَلَغَهُ خَبَرُ النّاكِثينَالإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ لَهُ حينَ بَلَغَهُ خَبَرُ النّاكِثينَ بِبَيعَتِهِ _: ألا وإِنَّ الشَّيطانَ قَد ذَمَّرَ حِزبَهُ (4) ، وَاستَجلَبَ جَلَبَهُ ؛ لِيَعودَ الجَورُ إلى أوطانِهِ ، ويَرجِعَ الباطِلُ إلى نِصابِهِ ، وَاللّهِ ما أنكَروا عَلَيَّ مُنكَرا ، ولا جَعَلوا بَيني وبَينَهُم نَصِفا . وإِنَّهُم لَيَطلُبونَ حَقّا هُم تَرَكوهُ ، ودَما هُم سَفَكوهُ ؛ فَلَئِن كُنتُ شَريكَهُم فيهِ ؛ فَإِنَّ لَهُم لَنَصيبَهُم مِنهُ ، ولَئِن كانوا وَلوهُ دوني ، فَمَا التَّبِعَةُ إلّا عِندَهُم ، وإنَّ أعظَمَ حُجَّتِهِم
.
ص: 125
لَعَلى أنفُسِهِم ، يَرتَضِعونَ اُمّا قَد فَطَمَت ، ويُحيونَ بِدعَةً قَد اُميتَت . يا خَيبَةَ الدّاعي ! مَن دَعا ! وإلامَ اُجيبَ ! وإنّي لَراضٍ بِحُجَّةِ اللّهِ عَلَيهِم ، وعِلمِهِ فيهِم . فَإِن أبَوا أعطَيتُهُم حَدَّ السَّيفِ، وكَفى بِهِ شافِيا مِنَ الباطِلِ ، وناصِرا لِلحَقِّ . ومِنَ العَجَبِ بَعثُهُم إلَيَّ أن أبرُزَ لِلطِّعانِ ! وأن أصبِرَ لِلجِلادِ ! هَبِلَتهُمُ الهَبولُ ! لَقَد كُنتُ وما اُهَدَّدُ بِالحَربِ ، ولا اُرَهَّبُ بِالضَّربِ ! وإنّي لَعَلى يَقينٍ مِن رَبّي ، وغَيرِ شُبهَةٍ مِن ديني (1) .
عنه عليه السلام_ في خُطبَتِهِ حينَ نُهوضِهِ إلَى الجَمَلِ _: إنّي بُليتُ بِأَربَعَةٍ : أدهَى النّاسِ وأَسخاهُم ؛ طَلحَةَ ، وأشَجَعِ النّاسِ ؛ الزُّبَيرِ ، وأطوَعِ النّاسِ فِي النّاس ؛ عائِشَةَ ، وأُسرَعِ النّاسِ إلى فِتنَةٍ ؛ يَعلَى بنِ اُمَيَّةَ . وَاللّهِ ، ما أنكَروا عَلَيَّ شَيئا مُنكرا ، ولَا استَأثَرتُ بِمالٍ ، ولا مِلتُ بِهَوىً ، وإنَّهُم لَيَطلُبونَ حَقّا تَرَكوهُ ، ودَما سَفَكوهُ ، ولَقَد وَلوهُ دوني ، وإن كُنتُ شَريكَهُم فِي الإِنكارِ لِما أنكَروهُ . وما تَبِعَةُ عُثمانَ إلّا عِندَهُم ، وإنَّهُم لَهُمُ الفِئَةُ الباغِيَةُ ؛ بايَعوني ونَكَثوا بَيعَتي ، ومَا استَأنَوا بي حَتّى يَعرِفوا جَوري مِن عَدلي ، وإنّي لَراضٍ بِحُجَّةِ اللّهِ عَلَيهِم ، وعلِمِهِ فيهِم ، وإِنّي مَعَ هذا لَداعيهِم ومُعذِرٌ إلَيهِم ؛ فَإِن قَبِلوا فَالتَّوبَةُ مَقبولَةٌ ، وَالحَقُّ أولى ما انصُرِفَ إلَيهِ ، وإن أبَوا أعطَيتُهُم حَدَّ السَّيفِ ، وكَفى بِهِ شافِيا مِن باطِلٍ وناصِرا (2) .
عنه عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ في مَعنى (3) طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ حينَ بَلَغَهُ خُروجَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إلَى
.
ص: 126
البَصرَةِ لِقِتالِهِ _: قَد كُنتُ وما اُهَدَّدُ بِالحَربِ ، ولا اُرَهَّبُ بِالضَّربِ ، وأَنَا عَلى ما قَد وَعَدَني رَبّي مِنَ النَّصرِ ، وَاللّهِ مَا استَعجَلَ مُتَجَرِّدا لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ إلّا خَوفا مِن أن يُطالَبَ بِدَمِهِ ؛ لاِنَّهُ مَظِنَّتُهُ ، ولَم يَكُن فِي القَومِ أحرَصُ عَلَيهِ مِنهُ ، فَأَرادَ أن يُغالِطَ بِما أجلَبَ فيهِ ؛ لِيَلتَبِسَ الأَمرُ ، ويَقَعَ الشَّكُّ . ووَاللّهِ ما صَنَعَ في أمرِ عُثمانَ واحِدَةً مِن ثَلاثٍ : لَئِن كانَ ابنُ عَفّانَ ظالِما _ كَما كانَ يَزعُمُ _ لَقَد كانَ يَنبَغي لَهُ أن يُوازِرَ قاتِليهِ ، وأَن يُنابِذَ ناصِريهِ . ولَئِن كانَ مَظلوما لَقَد كانَ يَنبَغي لَهُ أن يَكونَ مِنَ المُنَهنِهينَ (1) عَنهُ ، وَالمُعَذِّرينَ فيهِ. ولَئِن كانَ في شَكٍّ مِنَ الخَصلَتَينِ ، لَقَد كانَ يَنبَغي لَهُ أن يَعتَزِلَهُ ويَركُدَ جانِبا ، ويَدَعَ النّاسَ مَعَهُ . فَما فَعَلَ واحِدَةً مِنَ الثَّلاثِ ، وجاءَ بِأَمرٍ لَم يُعرَف بابُهُ ، ولَم تَسلَم مَعاذيرُهُ! (2)
الإرشاد :ولَمَّا اتَّصَلَ بِهِ مَسيرُ عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إلَى البَصرَةِ مِن مَكَّةَ، حَمِدَ اللّهَ وأثَنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : قَد سارَت عائِشَةُ وطَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ؛ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَدَّعِي الخِلافَةَ دونَ صاحِبِهِ ، لا يَدَّعي طَلحَةُ الخِلافَةَ إلّا أنَّهُ ابنُ عَمِّ عائِشَةَ ، ولا يَدَّعيهَا الزُّبَيرُ إلّا أنَّهُ صِهرُ أبيها ، وَاللّهِ لَئِن ظَفِرا بِما يُريدانِ لَيَضرِبَنَّ الزُّبَيرُ عُنُقَ طَلحَةَ ، ولَيَضرِبَنَّ طَلحَةُ عُنُقَ الزُّبَيرِ ، يُنازِعُ هذا عَلى المُلكِ هذا ! وقَد _ وَاللّهِ _ عَلِمَت أنَّهَا الرّاكِبَةُ الجَمَلَ ، لا تَحُلُّ عُقدَةً ، ولا تَسيرُ عَقَبةً ، ولا تَنزِلُ مَنزِلاً إلّا إلى مَعصِيَةٍ ؛ حَتّى تورِدُ نَفسَها ومَن مَعَها مَورِدا يُقتَلُ ثُلُثُهُم ، ويَهرُبُ ثُلُثُهُم ، ويَرجِعُ ثُلُثُهُم . وَاللّهِ إنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ لَيَعلَمانِ أنَّهُما مُخطِئانِ وما يَجهَلانِ ، ولَرُبَّ (3) عالِمٍ قَتَلَه
.
ص: 127
جَهلُهُ وعِلمُهُ مَعَهُ لا يَنفَعُهُ . وَاللّهِ لَيَنَبَحَنَّها كِلابُ الحَوأَبِ ، فَهَل يَعتَبِرُ مُعتَبِرٌ أو يَتَفَكَّرُ مُتَفَكِّرٌ ؟! ثُمَّ قالَ : قَد قامَتِ الفِئَةُ الباغِيَةُ ؛ فَأَينَ المُحسِنونَ ؟ (1)
4 / 3خُروجُ الإِمامِ مِنَ المَدينَةِالمستدرك على الصحيحين عن أبي الأسود الدؤلي عن الإمام عليّ عليه السلام :أتاني عَبدُ اللّهِ بنُ سَلامٍ وقَد وَضَعتُ رِجلي فِي الغَرزِ (2) وأنَا اُريدُ العِراق، فَقالَ : لا تَأتِ (3) العِراقَ ؛ فَإنَّكَ إن أتَيتَهُ أصابَكَ بِهِ ذُبابُ (4) السَّيفِ . قالَ عَلِيٌّ : وَايمُ اللّهِ ، لَقَد قالَها لي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله قَبلَكَ . قالَ أبُو الأَسودِ : فَقُلتُ في نَفسي: ، يا اَللّهُ ، ما رَأَيتُ كَاليَومِ رَجُلاً مُحارِبا (5) يُحَدِّثُ النّاسَ بِمِثلِ هذا (6) .
تاريخ الطبري :بَلَغَ عَلِيّا الخَبَرُ _ وهُوَ بِالمَدينَةِ _ بِاجتِماعِهِم عَلَى الخُروجِ إلَى البَصرَةِ ، وبِالَّذِي اجتَمَعَ عَلَيهِ مَلَؤُهُم ؛ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وعائِشَةُ ومَن تَبِعَهُم ، وبَلَغَهُ قَولُ عائِشَةَ ، وخَرَجَ عَلِيٌّ يُبادِرُهُم في تَعبِيَتِهِ الَّتي كانَ تَعَبّى بِها إلَى الشّامِ ، وخَرَجَ مَعَهُ مَن نَشِطَ مِنَ الكوفِيّينَ وَالبَصرِيّينَ مُتَخَفِّفينَ في سَبعِمِئَةِ رَجُلٍ ، وهُوَ يَرجو أن يُدرِكَهُم ، فَيَحولَ بَينَهُم وبَينَ الخُروجِ ، فَلَقِيَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ سَلامٍ فَأَخَذَ بِعِنانِهِ وقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ لا
.
ص: 128
تَخرُج مِنها ؛ فَوَاللّهِ لَئِن خَرَجتَ مِنها لا تَرجِعُ إلَيها ، ولا يَعودُ إلَيها سُلطانُ المُسلِمينَ أبَدا ، فَسَبّوهُ فَقالَ : دَعُوا الرَّجُلَ ؛ فَنِعمَ الرَّجُلُ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله . وسارَ حَتَّى انتَهى إلَى الرَّبَذَةِ فَبَلَغَهُ مَمَرُّهُم ، فَأَقامَ حينَ فاتوهُ يَأتَمِرُ بِالرَّبَذَةِ (1) .
الجمل :ثُمَّ خَرَجَ في سَبعِمِئَةِ رَجُلٍ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، وَاستَخلَفَ عَلَى المَدينَةِ تَمّامَ بنَ العَبّاسِ ، وبَعَثَ قُثَمَ بنَ العَبّاسِ إلى مَكَّةَ ، ولَمّا رَأى أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام التَّوَجُّهَ إلَى المَسيرِ طالِبا لِلقَومِ رَكِبَ جَمَلاً أحمَرَ وقادَ كُمَيتا (2) وسارَ وهُوَ يَقولُ : سيروا أبابيلَ وحُثُّوا السَّيرا كَي نَلحَقَ التَّيمِيَّ وَالزُّبَيرا إذ جَلَبَا الشَّرَّ وعافَا الخَيرا يا رَبِّ أدخِلهُم غَدا سُعَيرا وسارَ مُجِدّا فِي السَّيرِ حَتّى بَلَغَ الرَّبَذَةَ ، فَوَجَدَ القَومَ قَد فاتوا ، فَنَزَلَ بِها قَليلاً ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحوَ البَصرَةِ ، وَالمُهاجِرونَ وَالأَنصارُ عَن يَمينِهِ وشِمالِهِ ، مُحدِقونَ بِهِ مَعَ مَن سَمِعَ بِمَسيرِهِم ، فَاتَّبَعَهُم حَتّى نَزَلَ بِذي قارٍ فَأَقامَ بِها (3) .
4 / 4كِتابُ الإِمامِ إلى أهلِ الكوفَةِ عِندَ المَسيرِ مِنَ المَدينَةِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى أهلِ الكوفَةِ عِندَ مَسيرِهِ مِن المَدينَةِ إلَى البَصرَةِ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَليٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى أهلِ الكوفَةِ ؛ جَبهَةِ الأَنصارِ ، وسَنامِ العَرَبِ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّي اُخبِرُكُم عَن أمرِ عُثمانَ حَتّى يَكونَ سَمعُهُ كَعِيانِهِ : إنَّ النّاسَ طَعَنوا عَلَيهِ ، فَكُنتُ رَجُلاً مِنَ المُهاجِرينَ اُكثِرُ استِعتابَهُ ، واُقِلُّ عِتابَهُ ، وكانَ طَلحَةُ وَالزُّبَير
.
ص: 129
أهوَنُ سَيرِهِما فيهِ الوَجيفُ (1) ، وأرفَقُ حِدائِهِمَا العَنيفُ ، وكانَ مِن عائِشَةَ فيهِ فَلتَةُ غَضَبٍ ، فَاُتيحَ لَهُ قَومٌ فَقَتَلوهُ ، وبايَعَنِي النّاسُ غَيرَ مُستَكرَهينَ ولا مُجبَرينَ ، بَل طائِعينَ مُخَيَّرينَ . وَاعلَموا أنَّ دارَ الهِجرَةِ قَد قَلَعَت بِأَهلِها وقَلَعوا بِها ، وجاشَت جَيشَ المِرجَلِ (2) ، وقامَتِ الفِتنَةُ عَلَى القُطبِ ، فَأَسرِعوا إلى أميرِكُم ، وبادِروا جِهادَ عَدُوِّكُم ، إن شاءَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ (3) .
4 / 5خُطبَةُ الإِمامِ لَمّا أرادَ المَسيرَ إلَى البَصرَةِشرح نهج البلاغة عن الكلبي :لَمّا أرادَ عَلِيٌّ عليه السلام المَسيرَ إلَى البَصرَةِ ، قامَ فَخَطَبَ النّاسَ ، فَقالَ _ بَعدَ أن حَمِدَ اللّهَ وصلّى عَلى رَسولِهِ صلى الله عليه و آله _ : إنَّ اللّهَ لَمّا قَبَضَ نَبِيَّهُ استَأثَرَت عَلَينا قُرَيشٌ بِالأَمرِ ، ودَفَعَتنا عَن حَقٍّ نَحنُ أحَقُّ بِهِ مِنَ النّاسِ كافَّةً ، فَرَأَيتُ أنَّ الصَّبرَ عَلى ذلِكَ أفضَلُ مِن تَفريِقِ كَلِمَةِ المُسلِمينَ وسَفكِ دِمائِهِم . وَالنّاسُ حَديثو عَهدٍ بِالإِسلامِ ، وَالدّينُ يُمخَضُ مَخضَ الوَطبِ (4) ، يُفسِدُهُ أدنى وَهنٍ ، ويَعكِسُهُ أقَلُّ خُلفٍ . فَوَلِيَ الأَمرَ قَومٌ لَم يَألوا في أمرِهِمُ اجتِهادا ، ثُمَّ انتَقَلوا إلى دارِ الجَزاءِ ، وَاللّهُ وَلِى
.
ص: 130
تَمحيصِ سَيِّئاتِهِم ، وَالعَفوِ عَن هَفَواتِهِم . فَما بالُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، ولَيسا مِن هذَا الأَمرِ بِسَبيلٍ ! لَم يَصبِرا عَلَيَّ حَولاً ولا شَهرا حَتّى وَثَبا ومَرَقا ، ونازَعاني أمرا لَم يَجعَلِ اللّهُ لَهُما إلَيهِ سَبيلاً ، بَعدَ أن بايَعا طائِعَينِ غَيرَ مكرَهَينِ ، يَرتَضِعانِ اُمّا قَد فَطَمَت ، ويُحيِيانِ بِدعَةً قَد اُميتَت . أ دَمَ عُثمانَ زَعَما ! وَاللّهِ مَا التَّبِعَةُ إلّا عِندَهُم وفيهِم ، وإِنَّ أعظَمَ حُجَّتِهِم لَعَلى أنفُسِهِم ، وأَنَا راضٍ بِحُجَّةِ اللّهِ عَلَيهِم وعَمَلِهِ فيهِم ، فَإِن فاءا وأَنابا فَحَظَّهُما أحرَزا ، وأَنفُسَهُما غَنِما ، وأَعظِم بِها غَنيمَةً ! وإِن أبَيا أعطَيتُهُما حَدَّ السَّيفِ ، وكَفى بِهِ ناصِرا لِحَقٍّ، وشافِيا لِباطِلٍ ! ثُمَّ نَزَلَ (1) .
4 / 6نُزولُ الإِمامِ بِالرَّبَذَةِالإرشاد :لَمّا تَوَجَّهَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام إلَى البَصرَةِ نَزَلَ الرَّبَذَةَ (2) ، فَلَقِيَهُ بِها آخِرُ الحاجّ، فَاجتَمَعوا لِيَسمَعوا مِن كَلامِهِ وهُوَ في خِبائِهِ ، قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَأَتَيتُهُ فوََجَدتُهُ يَخصِفُ نَعلاً ، فَقُلتُ لَهُ : نَحنُ إلى أن تُصلِحَ أمرَنا أحوَجُ مِنّا إلى ما تَصنَعُ ! فَلَم يُكَلِّمني حَتّى فَرَغَ مِن نَعلِهِ ، ثُمَّ ضَمَّها إلى صاحِبَتِها ثُمَّ قالَ لي : قَوِّمَها ؟ فَقُلتُ : لَيسَ لَها قيمَةٌ . قالَ : عَلى ذاكَ ! قُلتُ : كِسرُ دِرهَمٍ ! قالَ : وَاللّهِ لَهُما أحَبُّ إلَيَّ مِن أمرِكُم هذا، إلّا أن اُقيمَ حَقّا أو أدفَعَ باطِلاً . قُلتُ : إنَّ الحاجَّ قَد اِجتَمَعوا لِيَسمَعوا مِن كَلامِكَ ، فَتَأذَنُ لي أن أتَكَلَّمَ ؛ فَإِن كان
.
ص: 131
حَسَنا كانَ مِنكَ ، وإِن كانَ غَيرَ ذلِكَ كانَ مِنّي ؟ قالَ : لا ، أنَا أتَكَلّمُ . ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدري _ وكانَ شَثنَ (1) الكَفَّينِ _ فَآلَمَني ، ثُمَّ قامَ فَأَخَذتُ بِثَوبِهِ فَقُلتُ : نَشَدتُكَ اللّهَ وَالرَّحِمَ ! قالَ : لا تَنشُدني . ثُمَّ خَرَجَ فَاجتَمَعوا عَلَيهِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأَثنى عَلَيه، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ اللّهَ تَعالى بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ولَيسَ فِي العَرَبِ أحَدٌ يَقرَأُ كِتابا ولا يَدَّعي نُبُوَّةً ، فَساقَ النّاسَ إلى مَنجاتِهِم ، أمَ وَاللّهِ ما زِلتُ في ساقَتِها ؛ ما غَيَّرتُ ولا خُنتُ حَتّى تَوَلَّت بِحَذافيرِها . ما لي ولِقُرَيشٍ ؟ أمَ وَاللّهِ لَقَد قَاتَلتُهُم كافِرينَ ، ولَاُقاتِلَنَّهُم مَفتونينَ ، وإِنَّ مَسيري هذا عَن عَهدٍ إلَيَّ فيهِ ، أمَ وَاللّهِ : لَأَبقُرَنَّ الباطِلَ حَتّى يَخرُجَ الحَقُّ مِن خاصِرَتِهِ . ما تَنقَمُ مِنّا قُرَيشٌ إلّا أنَّ اللّهَ اختارَنا عَلَيهِم فَأَدخَلناهُم في حَيِّزِنا، وأَنشَدَ : أدَمتَ (2) لَعَمري شُربَكَ المَحضَ خالِصا وأَكلَكَ بِالزُّبدِ المُقَشَّرَةَ البُجرا ونَحنُ وَهَبناكَ العَلاءَ ولَم تَكُن عَلِيّا وحُطنا حَولَكَ الجُردَ وَالسُّمرا (3)
4 / 7كِتابُ الإِمامِ إلى والِي البَصرَةِالإمام عليّ عليه السلام_ فِي كِتابِهِ إِلى عُثمانَ لَمّا بَلَغَهُ مُشارَفَةُ القَومِ البَصرَةَ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ ، أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ البُغاةَ عاهَدُوا اللّهَ ثُمَّ نَكَثوا وتَوَجَّهوا إلى مِصرِكَ ، وساقَهُمُ الشَّيطانُ لِطَلَبِ ما لا يَرضَى اللّهُ بِهِ ، وَاللّهُ أشَدُّ بَأسا وأَشَدُّ تَنكيلاً . فَإِذا قَدِموا عَلَيكَ فَادعُهُم إلَى الطّاعَةِ وَالرُّجوعِ إلَى الوَفاءِ بِالعَهدِ وَالميثاقِ الَّذي فَارَقونا عَلَيهِ ، فَإِن أجابوا فَأَحسِن جِوارَهُم ما داموا عِندَكَ ، وإن أبَوا
.
ص: 132
إلَا التَّمَسُّكَ بِحَبلِ النَّكثِ وَالخِلافِ فَناجِزهُمُ القِتالَ حَتّى يَحكُمَ اللّهُ بَينَكَ وبيَنَهُم وهُوَ خَيرُ الحاكِمين . وكَتَبتُ كِتابي هذا إلَيكَ مِنَ الرَّبَذَةِ ، وأَنَا مُعَجِّلٌ المَسيرَ إلَيكَ إن شاءَ اللّهُ . وكَتَبَهُ عُبَيدُ اللّهِ بنُ أبي رافِعٍ في سَنَةِ سِتٍّ وثَلاثينَ (1) .
4 / 8اِلتِباسُ الأَمرِ عَلى مَن لا بَصيرَةَ لَهُتاريخ اليعقوبي :وقالَ لَهُ [لِعَلِيٍّ عليه السلام ]الحارِثُ بنُ حَوطٍ الرّانِيُّ : أظَنُّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ وعائِشَةَ اجتَمَعوا عَلى باطِلٍ ؟ فَقالَ : يا حارِثُ ! إنَّهُ مَلبوسٌ عَلَيكَ ، وإِنَّ الحَقَّ وَالباطِلَ لا يُعرَفانِ بِالنّاسِ ، ولكنِ اعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أهلَهُ ، وَاعرِفِ الباطِلَ تَعرِفْ مَن أتاهُ (2) .
الأمالي للطوسي عن أبي بكر الهُذَلِيّ :دَخَلَ الحارِثُ بنُ حَوطٍ اللَّيثِيُّ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبيطالِبٍ عليه السلام فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، ما أرى طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ وعائِشَةَ احتَجّوا إلّا عَلى حَقٍّ ؟ فَقالَ : يا حارِثُ ، إنَّكَ إن نَظَرتَ تَحتَكَ ولَم تَنظُر فَوقَكَ جُزتَ عَنِ الحَقِّ ؛ إنَّ الحَقَّ وَالباطِلَ لا يُعرفانِ بِالنّاسِ ، ولكِنِ اعرِفِ الحَقَّ بِاتِّباعِ مَنِ اتَّبَعَهُ ، وَالباطِلَ بِاجتِنابِ مَنِ اجتَنَبَهُ . قالَ : فَهَلّا أكونُ كَعَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ وسَعدِ بنِ مالِكٍ ؟ فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : إنَّ عَبدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ وسَعدا خَذَلَا (3) الحَقَّ ولَم يَنصُرَا الباطِلَ ، مَتى كانا إمامَينِ فِي الخَيرِ فَيُتَّبَعانِ ؟ ! (4)
.
ص: 133
شرح نهج البلاغة عن أبي مخنف :وقامَ رَجُلٌ إلى عِلِيٍّ عليه السلام فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أيُّ فِتنَةٍ أعظَمُ مِن هذِهِ ؟ إنَّ البَدرِيَّةَ لَيَمشي بَعضُها إلى بَعضٍ بِالسَّيفِ ! فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : وَيحَكَ! أ تَكونُ فِتنَةٌ أنَا أميرُها وقائِدُها ؟ ! وَالَّذي بَعَثَ مُحَمَّدا بِالحَقِّ وكَرَّمَ وَجهَهُ ، ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ ، ولا ضَلَلتُ ولا ضُلَّ بي، ولا زَلَلتُ ولا زُلَّ بي ، وإنّي لَعَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي ؛ بَيَّنَهَا اللّهُ لِرَسولِهِ ، وبَيَّنَها رَسولُهُ لي ، وسَاُدعى يَومَ القِيامَةِ ولا ذَنبَ لي ، ولَو كانَ لي ذَنبٌ لَكفَّرَ عَنّي ذُنوبي ما أنَا فيهِ مِن قِتالِهِم (1) .
شرح نهج البلاغة :خَرَجَ طارِقُ بنُ شِهابٍ الأَحمَسِيُّ يَستَقبِلُ عَلِيّا عليه السلام وقَد صارَ بِالرَّبَذَةِ طالِبا عائِشَةَ وأصحابَها ، وكانَ طارِقٌ مِن صَحابَةِ عَلِيٍّ عليه السلام وشيعَتِهِ ، قالَ : فَسَأَلتُ عَنهُ قَبلَ أن ألقاهُ؛ ما أقدَمَهُ ؟ فَقيلَ : خالَفَهُ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وعائِشَةُ ، فَأَتَوُا البَصرَةَ ، فَقُلتُ في نَفسي : إنَّهَا الحَربُ ! أ فَاُقاتِلُ اُمَّ المُؤمِنينَ وحَوارِيَّ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟إنَّ هذا لَعَظيمٌ ! ثُمَّ قُلتُ : أ أَدَعُ عَلِيّا وهُوَ أوَّلُ المُؤمِنينَ إيمانا بِاللّهِ وابنُ عَمِّ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ووَصِيُّهُ ؟ هذا أعظَمُ ! ثُمَّ أتَيتُهُ فَسَلَّمتُ عَلَيهِ ، ثُمَّ جَلَستُ إلَيهِ فَقَصَّ عَلَيَّ قِصَّةَ القَومِ وقِصَّتَهُ (2) .
فتح الباري عن العلاء أبي محمّد عن أبيه :جاءَ رَجُلٌ إلى عِلِيٍّ وهُوَ بِالزّاوِيَةِ ، فَقالَ : عَلامَ تُقاتِلُ هؤُلاءِ ؟ قالَ : عَلَى الحَقِّ ، قالَ : فَإِنَّهُم يَقولونَ إنَّهُم عَلَى الحَقِّ ؟قالَ : اُقاتِلُهُم عَلَى الخُروجِ مِنَ الجَماعَةِ ، ونَكثِ البَيعَةِ (3) .
راجع : ج 2 ص 425 (الإلتزام بالحقّ في معرفة الرجال) .
.
ص: 134
. .
ص: 135
الفصل الخامس : استنصار الإمام من أهل الكوفة5 / 1كِتابُ الإِمامِ إلى أهلِ الكُوفَةِ مِنَ الرَّبَذَةِتاريخ الطبري :عَن يَزيدَ الضَّخمِ قالَ : لَمّا أتى عَلِيّا الخَبَرُ وهُوَ بِالمَدينَةِ بِأَمرِ عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ أنَّهُم قَد تَوَجَّهوا نَحوَ العِراقِ ، خَرَجَ يُبادِرُ وهُوَ يَرجو أن يُدرِكَهُم ويَرُدَّهُم ، فَلَمَّا انتَهى إلَى الرَّبَذَةِ أتاهُ عَنهُم أنَّهُم قَد أمعَنوا (1) ، فَأَقامَ بِالرَّبَذَةِ أيّاما ، وأتاهُ عَنِ القَومِ أنَّهُم يُريدونَ البَصرَةَ ، فَسُرِّيَ (2) بِذلِكَ عَنهُ ، وقالَ : إنَّ أهلَ الكوفَةِ أشَدُّ إلَيَّ حُبّا ، وفيهِم رُؤوسُ العَرَبِ وأعلامُهُم ... . [و] عَن مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي لَيلى عَن أبيهِ قالَ : كَتَبَ عَلِيٌّ إلى أهلِ الكوفَةِ : بِسمِ اللّه الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، أمّا بَعدُ ؛ فَإِنِّي اختَرتُكُم والنُّزولَ بَينَ أظهُرِكُم لِما أعرِفُ مِن مَوَدَّتِكُم وحُبِّكُم للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله ، فَمَن جاءَني ونَصَرَني فَقَد أجابَ الحَقَّ وقَضَى الَّذي عَلَيهِ (3) .
.
ص: 136
تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :لَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ الرَّبَذَةَ أقامَ بِها ، وسَرَّحَ مِنها إلَى الكوفَةِ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ ، ومُحَمَّدَ بنَ جَعفَرٍ وكَتَبَ إلَيهِم : إنِّي اختَرتُكُم عَلَى الأَمصارِ ، وفَزِعتُ إلَيكُم لِما حَدَثَ ؛ فَكونوا لِدينِ اللّهِ أعوانا وأنصارا ، وأيِّدونا وانهَضوا إلَينا ؛ فَالإِصلاحُ ما نُريدُ ؛ لِتَعودَ الاُمَّةُ إخوانا ، ومَن أحَبَّ ذلِكَ وآثَرَهُ فَقَد أحَبَّ الحَقَّ وآثَرَهُ ، ومَن أبغَضَ ذلِكَ فَقَد أبغَضَ الحَقَّ وغَمِصَهُ (1) . فَمَضَى الرَّجُلانِ وبَقِيَ عَلِيٌّ بِالرَّبَذَةِ يَتَهَيَّأُ ، وأرسَلَ إلَى المَدينَةِ ، فَلَحِقَهُ ما أرادَ مِن دابَّةٍ وسِلاحٍ ، وأمِرَ أمرُهُ (2) ، وقامَ فِي النّاسِ فَخَطَبَهُم وقالَ : إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ أعَزَّنا بِالإِسلامِ ، ورَفَعَنا بِهِ ، وجَعَلَنا بِهِ إخوانا بَعدَ ذِلَّةٍ وقِلَّةٍ وتَباغُضٍ وتَباعُدٍ ، فَجَرَى النّاسُ عَلى ذلِكَ ما شاءَ اللّهُ ؛ الإِسلامُ دينُهُم ، وَالحَقُّ فيهِم ، وَالكِتابُ إمامُهُم ، حَتّى اُصيبَ هذَا الرَّجُلُ بِأَيدي هؤُلاءِ القَومِ الَّذينَ نَزَغَهُمُ الشَّيطانُ لِيَنزَغَ بَينَ هذِهِ الاُمَّةِ ، ألا إنَّ هذِهِ الاُمَّةَ لابُدَّ مُفتَرِقَةٌ كَمَا افتَرَقَتِ الاُمَمُ قَبلَهُم ، فَنَعوذُ بِاللّهِ مِن شَرِّ ما هُوَ كائِنٌ . (3)
شرح نهج البلاغة عن عبد الرحمن بن يسار القرشي_ في ذكرِ كِتابِ عَلِيٍّ عليه السلام إلى أهلِ الكوفَةِ _: لَمّا نَزَلَ عَلِيٌّ عليه السلام الرَّبَذَةَ مُتَوَجِّهاً إلَى البَصرَةِ بَعَثَ إلَى الكوفَةِ مُحَمَّدَ بنَ جَعفَرِ بنِ أبي طالِبٍ ، ومُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ الصِّدّيقِ ، وكَتَبَ إلَيهِم هذَا الكتابَ (4) وزادَ فى ¨
.
ص: 137
آخِرِهِ : فَحَسبي بِكُم إخواناً ، ولِلدّينِ أنصارا، ف_ _ «انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَ_هِدُواْ بِأَمْوَ لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» (1) ... . قالَ : لَمّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ جَعفَرٍ ، ومَحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ الكوفَةَ استَنفَرَا النّاسَ ، فَدَخَلَ قَومٌ مِنهُم عَلى أبي موسى لَيلاً فَقالوا لَهُ : أشِر عَلَينا بِرَأيِكَ فِي الخُروجِ مَعَ هذَينِ الرَّجُلَينِ إلى عَلِيٍّ عليه السلام ، فَقالَ : أمّا سَبيلُ الآخِرَةِ فَالزَموا بُيوتَكُم ، وأمّا سَبيلُ الدُّنيا فَاشخَصوا مَعَهُما ! فَمَنَعَ بِذلِكَ أهلَ الكوفَةِ مِنَ الخُروجِ . وبَلَغَ ذلِكَ المُحَمَّدَينِ ، فَأَغلَظا لِأَبي موسى ، فَقالَ أبو موسى : وَاللّهِ إنَّ بَيعَةَ عُثمانَ لَفي عُنُقِ عَلِيٍّ وعُنُقي وأعناقِكُما ، ولَو أرَدنا قِتالاً ما كُنّا لِنَبدَأَ بَأَحَدٍ قَبلَ قَتَلَةِ عُثمانَ . فَخَرجا مِن عِندِهِ ، فَلَحِقا بِعَلِيٍّ عليه السلام فَأَخبَراهُ الخَبَرَ (2) .
5 / 2بَعثُ الإمامِ هاشِمَ بنَ عُتبَةَ إلى أبي موسى لِيَستَنفِرَ النّاسَتاريخ الطبري عن أبي ليلى :خَرَجَ هاشِمُ بنُ عُتبَةَ إلى عَلِيٍّ بِالرَّبَذَةِ ، فَأَخبَرَهُ بِقُدومِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ وقَولِ أبي موسى ، فَقالَ : لَقد أرَدتُ عَزلَهُ وسَأَلنِي الأَشتَرُ أن اُقِرَّهُ . فَرَدَّ عَلِيٌّ هاشِما إلَى الكوفَةِ وكَتَبَ إلى أبي موسى : إنّي وَجَّهتُ هاشِمَ بنَ عُتبَةَ لِيُنهِضَ مَن قِبَلَكَ مِنَ المُسلِمينَ إلَيَّ ، فَأَشخِصِ النّاسَ ؛ فَإِنّي لَم اُوَلِّكَ الَّذي أنتَ بِهِ إلّا لِتَكونَ مِن أعواني عَلَى الحَقِّ .
.
ص: 138
فَدَعا أبو موسَى السّائِبَ بنَ مالِكٍ الأشعَرِيَّ ، فَقالَ لَهُ : ماتَرى ؟ قالَ : أرى أن تَتَّبِعَ ما كَتَبَ بِهِ إِلَيكَ . قالَ : لكِنّي لا أرى ذلِكَ ! فَكَتَبَ هاشِمٌ إلى عَلِيٍّ : إنّي قَد قَدِمتُ عَلى رَجُلٍ غالٍّ مُشاقٍّ ظاهِرِ الغِلِّ والشَّنَآنِ . وبَعَثَ بِالكِتابِ مَعَ المُحِلِّ بنِ خَليفَةَ الطّائِيِّ (1) .
الجمل :خَرَجَ [الإمامُ عَلِيٌّ عليه السلام ] في سَبعِمِئَةِ رَجُلٍ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ . . . ثُمَّ دَعا هاشِمَ بنَ عُتبَةَ المِرقالَ ، وكَتَبَ مَعَهُ كِتابا إلى أبي موسَى الأَشعَرِيِّ _ وكانَ بِالكوفَةِ مِن قِبَلِ عُثمانَ _ وأمَرَهُ أن يوصِلَ الكِتابَ إلَيهِ لِيَستَنفِرَ النّاسَ مِنها إلَى الجِهادِ مَعَهُ ، وكانَ مَضمونُ الكِتابِ : بِسمِ اللّهِالرَّحمنِ الرَّحيمِ ، مِن عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى عَبدِ اللّهِ بنِ قَيسٍ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّي أرسَلتُ إلَيكَ هاشِمَ بنَ عُتبَةَ (المِرقالَ) لِتُشخِصَ مَعَهُ مَن قِبَلَكَ مِنَ المُسلِمينَ لِيَتَوَجَّهوا إلى قَومٍ نَكَثوا بَيعَتي ، وقَتَلوا شيعَتي ، وأحدَثوا في هذِهِ الاُمَّةِ الحَدَثَ العَظيمَ ، فَأَشخِص بِالنّاسِ إلَيَّ مَعَهُ حينَ يَقدَمُ عَلَيكَ (2) ولا تَحبِسهُ ؛ فَإِنّي لَم اُقِرَّكَ فِي المِصرِ الَّذي أنتَ فيهِ إلّا أن تَكونَ مِن أعواني وأنصاري عَلى هذَا الأَمرِ ، وَالسَّلامُ . فَقَدِمَ هاشِمٌ بِالكِتابِ عَلى أبي موسَى الأَشعَرِيِّ ، فَلَمّا وَقَفَ عَلَيهِ دَعَا السّائِبَ بنَ مالِكٍ الأَشعَرِيَّ ، فَأَقرَأَهُ الكِتابِ ، وقالَ لَهُ : ماتَرى ؟ فقالَ السّائِبُ : اِتَّبِع ما كَتَبَ بِهِ إلَيكَ ، فَأَبى أبو موسى ذلِكَ ، وكَسَرَ الكِتابَ ومَحاهُ ، وبَعَثَ إلى هاشِمِ بنِ عُتبَةَ يُخِوِّفُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ بِالسِّجنِ ، فَقالَ السّائِبُ بنُ مالِكٍ : فَأَتَيتُ هاشِما فَأَخبَرتُهُ بِأَمرِ أبي موسى ، فَكَتَبَ هاشِمٌ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام :
.
ص: 139
أمّا بَعدُ ؛ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَإِنّي قَدِمتُ بِكِتابِكَ عَلَى امرِئٍ عاقٍّ شاقٍّ ، بَعيدِ الرُّحمِ (1) ، ظاهِرِ الغِلِّ وَالشِّقاقِ ، وقَد بَعَثتُ إلَيكَ بِهذَا الكِتابِ مَعَ المُحِلِّ بنِ خَليفَةَ أخي طَيِّىٍ، وهُوَ مِن شيعَتِكَ وأنصارِكَ ، وعِندَهُ عِلمُ ما قِبَلِنا ، فَاسأَلهُ عَمّا بَدا لَكَ ، وَاكتُب إلَيَّ بِرَأيِكَ أتَّبِعهُ ، وَالسَّلامُ . فَلَمّا قَدِمَ الكِتابُ إلى عَلِيٍّ عليه السلام وقَرَأَهُ ، دَعَا الحَسَنَ ابنَهُ ، وعَمّارَ بنَ ياسِرٍ ، وقَيسَ بنَ سَعدٍ فَبَعَثَهُم إلى أبي موسى ، وكَتَبَ مَعَهُم : مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى عَبدِ اللّهِ بنِ قَيسٍ: أمّا بَعدُ ؛ يَابنَ الحائِكِ ! ! وَاللّهِ إنّي كُنتُ لَأَرى أنَّ بُعدَكَ مِن هذَا الأَمرِ _ الَّذي لَم يَجعَلكَ اللّهُ لَهُ أهلاً ، ولا جَعَلَ لَكَ فيهِ نَصيبا _ سَيَمنَعُكَ مِن رَدِّ أمري ، وقَد بَعثَتُ إلَيكَ الحَسنَ وعَمّارا وقَيسا ، فَأَخلِ لَهُمُ المِصرَ وأهلَهُ ، وَاعتَزِل عَمَلَنا مَذموما مَدحوراً ، فَإِن فَعَلتَ وإلّا فَإِنّي أمَرتُهُم أن يُنابِذوكَ عَلى سَواءٍ ، إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخائِنينَ ، فَإِن ظَهَروا عَلَيكَ قَطَّعوكَ إربا إربا ، وَالسَّلامُ عَلى مَن شَكَرَ النِّعمَةَ ورَضِيَ بِالبَيعَةِ ، وعَمِلَ للّهِِ رَجاءَ العاقِبَةِ (2) .
5 / 3إرسالُ الإِمامِ ابنَهُ إلَى الكوفَةِتاريخ الطبري عن أبي ليلى :بَعَثَ عَلِيٌّ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ وعَمّارَ بنَ ياسِرٍ يَستَنفِرانِ النّاسَ ، وبَعَثَ قَرَظَةَ بنَ كَعبٍ الأَنصارِيَّ أميرا عَلَى الكوفَةِ ، وكَتَبَ مَعَهُ إلى أبي موسى : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد كُنتُ أرى أنَّ بُعدَكَ مِن هذَا الأَمرِ الَّذي لَم يَجعَلِ اللّهُ عَزَّوجَلَّ لَكَ مِنهُ نَصيبا سَيَمنَعُكَ مِن رَدِّ أمري ، وقَد بَعَثتُ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ وعمّارَ بنَ ياسِرٍ يَستَنفِران
.
ص: 140
النّاسَ ، وبَعَثتُ قَرَظَةَ بنَ كَعبٍ والِيا عَلَى المِصرِ ، فَاعتَزِل مَذموما مَدحورا ؛ فَإِن لَم تَفعَل فَإِنّي قَد أمَرتُهُ أن يُنابِذَكَ ؛ فَإِن نَابَذتَهُ فَظَفِرَ بِكَ أن يُقَطِّعَكَ آرابا . فَلَمّا قَدِمَ الكِتابُ عَلى أبي موسَى اعتَزَلَ ، ودَخَلَ الحَسنُ وعَمّارٌ المَسجِدَ ، فَقالا : أيُّهَا النّاسُ ، إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَقولُ : إنّي خَرَجتُ مَخرَجي هذا ظالِما أو مَظلوما ، وإنّي اُذَكِّرُ اللّهَ عَزَّوجَلَّ رَجُلاً رَعى للّهِِ حَقّاً إلّا نَفَرَ ؛ فَإِن كُنتُ مَظلوما أعانَني ، وإن كُنتُ ظالِما أخَذَ مِنّي . وَاللّهِ إنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ لَأَوَّلُ مَن بايَعَني ، وأوَّلُ مَن غَدَرَ ، فَهَلِ استَأثَرتُ بِمالٍ أو بَدَّلتُ حُكما ؟ فَانفِروا ؛ فَمُروا بِمَعروفٍ ، وَانهَوا عَن مُنكَرٍ (1) .
شرح نهج البلاغة عن أبي مِخنَف عن موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه :أقبَلنا مَعَ الحَسَنِ وعَمّارِ بنِ ياسِرٍ مِن ذي قارٍ (2) حَتّى نَزَلنَا القادِسِيَّةَ ، فَنَزَلَ الحَسَنُ وعَمّارٌ ونَزَلنا مَعَهُما ، فَاحتَبى (3) عَمّارٌ بِحَمائِلِ سَيفِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ يَسأَلُ النّاسَ عَن أهلِ الكوفَةِ وعَن حالِهِم ، ثُمَّ سَمِعتُهُ يَقولُ : ما تَرَكتُ في نَفسي حَزَّةً أهَمَّ إلَيَّ مِن ألّا نَكونَ نَبَشنا عُثمانَ مِن قَبرِهِ ، ثُمَّ أحرَقناه بِالنّارِ . قال : فَلَمّا دَخَلَ الحَسَنُ وعَمّارٌ الكوفَةَ اجتَمَعَ إلَيهِمَا النّاسُ ، فَقامَ الحَسَنُ فَاستَنفَرَ النّاسَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وصَلّى عَلى رَسولِهِ ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! إنّا جِئنا نَدعوكُم إلَى اللّهِ ، وإلى كِتابِهِ ، وسُنَّةِ رَسولِهِ ، وإلى أفقَهِ مَن تَفَقَّهَ مِنَ المُسلِمينَ ، وأعدَلِ مَن تُعدِّلونَ ، وأفَضلِ مَن تُفَضِّلونَ ، وأوفى مَن تُبايِعونَ ،
.
ص: 141
مَن لَم يَعِبهُ القُرآنُ ، ولَم تُجَهِّلهُ السُّنَّةُ ، ولَم تَقعُد بِهِ السابِقَةُ . إلى مَن قَرَّبَهُ اللّهُ تَعالى إلى رَسولِهِ قَرابَتَينِ : قَرابَةَ الدّينِ ، وقَرابَةَ الرَّحِمِ . إلى مَن سَبَقَ النّاسَ إلى كُلِّ مَأثَرَةٍ . إلى مَن كَفَى اللّهُ بِهِ رَسولَهُ وَالنّاسُ مُتَخاذِلونَ ، فَقَرُبَ مِنهُ وهُم مُتَباعِدونَ ، وصَلّى مَعَهُ وهُم مُشرِكونَ ، وقاتَلَ مَعَهُ وهُم مُنهَزِمونَ ، وبارَزَ مَعَهُ وهُم مُحجِمونَ ، وصَدَّقَهُ وهُم يُكَذِّبونَ . إلى مَن لَم تُرَدَّ لَهُ رايَةٌ (1) ولا تُكافَأُ لَهُ سابِقَةٌ ، وهُوَ يَسأَلُكُمُ النَّصرَ ، ويَدعوكُم إلَى الحَقِّ ، ويَأمُرُكُم بِالمَسيرِ إلَيهِ لِتُوازِروهُ وتَنصُروهُ عَلى قَومٍ نَكَثوا بَيعَتَهُ ، وقَتَلوا أهلَ الصَّلاحِ مِن أصحابِهِ ، ومَثَّلوا بِعُمّالِهِ ، وَانتَهَبوا بَيتَ مالِهِ ، فَاشخَصوا إلَيهِ رَحِمَكُمُ اللّهُ ، فَمُروا بِالمَعروفِ ، وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ ، وَاحضَروا بِما يَحضَرُ بِهِ الصالِحونَ . قالَ أبو مِخنَفٍ : حَدَّثَني جابِرُ بنُ يَزيدٍ قالَ : حَدَّثَني تَميمُ بنُ حِذيَمٍ النّاجِيُّ قالَ : قَدِمَ عَلَينَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ عليه السلام وعَمّارُ بنُ ياسِرٍ يَستَنفِرانِ النّاسَ إلى عَلِيٍّ عليه السلام ومَعَهُما كَتابُهُ ، فَلَمّا فَرَغا مِن قِراءَةِ كِتابِهِ قامَ الحَسَنُ _ وهُوَ فَتىً حَدَثٌ وَاللّهِ إنّي لاُرثي لَهُ مِن حَداثَةِ سِنِّهِ وصُعوبَةِ مَقامِهِ _ فَرَماهُ النّاسُ بِأَبصارِهِم وهُم يَقولونَ : اللّهُمَّ سَدِّد مَنطِقَ ابنِ بِنتِ نَبِيِّنا ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى عَمودٍ يُتَسانَدُ إلَيهِ _ وكانَ عَليلاً مِن شَكوى بِهِ _ فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ العَزيزِ الجَبّارِ ، الواحِدِ القَهّارِ ، الكَبيرِ المُتَعالِ «سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَن جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْف بِالَّيْلِ وَ سَارِب بِالنَّهَارِ » (2) أحمَدُهُ عَلى حُسنِ البَلاءِ ، وتَظاهُرِ النَّعماءِ ، وعَلى ما أحبَبنا وكَرِهنا مِن شِدَّةٍ ورَخاءٍ ، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ ، وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وأنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ ، اِمتَنَّ عَلَينا بِنُبُوَّتِهِ ، وَاختَصَّهُ بِرِسالَتِهِ وأنزَلَ عَلَيهِ وَحيَهُ ، وَاصطَفاهُ عَلى جَميعِ خَلقِهِ ، وأرسَلَهُ إلَى الإِنسِ وَالجِن
.
ص: 142
حينَ عُبِدَتِ الأَوثانُ ، واُطيعَ الشَّيطانُ ، وجُحِدَ الرَّحمنُ ، فَصَلَّى اللّهُ عَلَيهِ وعَلى آلِهِ ، وجَزاهُ أفضَلَ ما جَزَى المُسلِمينَ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّي لا أقولُ لَكُم إلّا ما تَعرِفونَ ؛ إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عَليَّ بنَ أبي طالِبٍ أرشَدَ اللّهُ أمرَهُ ، وأعَزَّ نَصرَهُ ، بَعَثني إلَيكُم يَدعوكُم إلَى الصَّوابِ ، وإلَى العَمَلِ بِالكِتابِ ، وَالجِهادِ في سَبيلِ اللّهِ ، وإن كانَ في عاجِلِ ذلِكَ ما تَكرَهونَ ؛ فَإِنَّ في آجِلِهِ ما تُحِبّونَ إن شاءَ اللّهُ ، ولَقَد عَلِمتُم أنَّ عَلِيّا صَلّى مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَحدَهُ ، وأنَّهُ يَومَ صَدَّقَ بِهِ لَفي عاشِرَةٍ مِن سِنِّهِ ، ثُمَّ شَهِدَ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله جَميعَ مشَاهِدِهِ ، وكانَ مِنِ اجتِهادِهِ في مَرضاةِ اللّهِ وطاعَةِ رَسولِهِ وآثارِهِ الحَسَنَةِ فِي الإِسلامِ ما قَد بَلَغَكُم ، ولَم يَزَل رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله راضِيا عَنهُ حَتّى غَمَّضَهُ بِيَدِهِ ، وغَسَّلَهُ وحدَهُ ، وَالمَلائِكَةُ أعوانُهُ ، وَالفَضلُ ابنُ عَمِّهِ يَنقُلُ إلَيهِ الماءَ ، ثُمَّ أدخَلَهُ حُفرَتَهُ ، وأوصاهُ بِقَضاءِ دَينِهِ وعِداتِهِ وغَيرِ ذلِكَ مِن اُمورِهِ ، كُلُّ ذلِكَ مِن مَنِّ اللّهِ عَلَيهِ ، ثُمَّ وَاللّهِ ما دَعا إلى نَفسِهِ ، ولَقَد تَداكَّ النّاسُ عَلَيهِ تَداكَّ الإِبِلِ الهيمِ عِندَ وُرودِها ، فَبايَعوهُ طائِعينَ ، ثُمَّ نَكَثَ مِنهُم ناكِثونَ بِلا حَدَثٍ أحدَثَهُ ، ولا خِلافٍ أتاهُ ، حَسَدا لَهُ وبَغيا عَلَيهِ . فَعَلَيكُم عِبادَ اللّهِ بَتَقوىَ اللّهِ وطاعَتِهِ ، وَالجِدِّ وَالصَّبرِ وَالاِستِعانَةِ بِاللّهِ ، وَالخُفوفِ إلى ما دَعاكُم إلَيهِ أميرُ المُؤمِنينَ ، عَصَمَنَا اللّهُ وإيّاكُم بِما عَصَمَ بِهِ أولِياءَهُ وأهلَ طاعَتِهِ ، وألهَمَنا وإيّاكُم تَقواهُ ، وأعانَنا وإيّاكُم عَلى جِهادِ أعدائِهِ ، وأستَغفِرُ اللّهَ العَظيمَ لي ولَكُم . ثُمَّ مَضى إلَى الرُّحبَةِ (1) فَهَيَّأَ مَنزِلاً لِأَبيهِ أميرِ المُؤمِنينَ . قالَ جابِرٌ : فَقُلتُ لِتَميمٍ : كَيفَ أطاقَ هذَا الغُلامُ ما قَد قَصَصتَهُ مِن كَلامِهِ ؟ فَقالَ : ولَما سَقَطَ عَنّي مِن قَولِهِ أكثَرُ ، ولَقَد حَفِظتُ بَعضَ ما سَمِعتُ .
.
ص: 143
قالَ أبو مِخنَفٍ : ولَمّا فَرَغَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ عليه السلام مِن خُطبَتِهِ ، قامَ بَعدَهُ عَمّارٌ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى رَسولِهِ ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! أخو نَبِيُّكُم وابنُ عَمِّهِ يَستَنفِرُكُم لِنَصرِ دينِ اللّهِ ، وقَد بَلاكُمُ اللّهُ بِحَقِّ دينِكُم وحُرمَةِ اُمِّكُم ، فَحَقُّ دينِكُم أوجَبُ وحُرمَتُهُ أعظَمُ . أيُّهَا النّاسُ ! عَلَيكُم بِإِمامٍ لا يُؤَدَّبُ ، وفَقيهٍ لا يُعَلَّمُ ، وصاحِبِ بَأسٍ لا يَنكُلُ ، وذي سابِقَةٍ فِي الإِسلامِ لَيسَت لِأَحَدٍ ، وإنَّكُم لَو قَد حَضَرتُموهُ بَيَّنَ لَكُم أمرَكُم إن شاءَ اللّهُ (1) .
5 / 4مَوقِفُ أبي موسى مِن مَندوبِيِ الإِمامِتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :خَرَجَ أبو موسى فَلَقِيَ الحَسَنَ ، فَضَمَّهُ إلَيهِ وأقبَلَ عَلى عَمّارٍ ، فَقالَ : يا أبَا اليَقظانِ أ عَدَوتَ فيمَن عَدا عَلى أميرِ المُؤمِنينَ ؛ فَأَحلَلتَ نَفسَكَ مَعَ الفُجّارِ ! فَقالَ : لَم أفعَل، ولِمَ تَسوؤُني (2) ؟ وقَطَعَ عَلَيهِمَا الحَسَنُ فَأَقبَلَ عَلى أبي موسى فَقالَ : يا أبا موسى ! لِمَ تُثَبِّطُ النّاسَ عَنّا ؟ فَوَاللّهِ ما أرَدنا إلَا الإِصلاحَ ، ولا مِثلُ أميرِ المُؤمِنينَ يُخافُ عَلى شَيءٍ ، فَقالَ : صَدَقتَ بِأَبي أنتَ واُمّي ، ولكِنَّ المُستَشارَ مُؤتَمَنٌ ، سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : إنَّها سَتكونُ فِتنَةٌ ؛ القاعِدُ فيها خَيرٌ مِنَ القائِمِ ، وَالقائِمُ خَيرٌ مِنَ الماشي ، وَالماشي خَيرٌ مِنَ الرّاكِبِ ، قَد جَعَلَنَا اللّهُ عَزَّوجَلَّ إخوانا ، وحَرَّمَ عَلَينا أموالَنا ودِماءَنا وقالَ : «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَ_طِ_لِ . . . وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا» (3) ، وقالَ عَزَّوجَلَّ :
.
ص: 144
«وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ» (1) . فَغَضِبَ عَمّارٌ وساءَهُ وقامَ وقالَ : يا أيُّهَا النّاسُ ! إنَّما قالَ لَهُ خاصَّةً : «أنتَ فيها قاعِدا خَيرٌ مِنكَ قائِما» . . . وقامَ أبو موسى فَقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! أطيعوني تَكونوا جُرثومَةً (2) مِن جَراثيمِ العَرَبِ ؛ يَأوي إلَيكُمُ المَظلومُ ، ويَأمَنُ فيكُمُ الخائِفُ ، إنّا أصحابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أعلَمُ بِما سَمِعنا ، إنَّ الفِتنَةَ إذا أقبَلَت شَبَّهَت ، وإذا أدبَرَت بَيَّنَت ، وإنَّ هذِهِ الفِتنَةَ باقِرَةٌ كَداءِ البَطنِ ، تَجري بِهَا الشَّمالُ وَالجَنوبُ، وَالصَّبا وَالدَّبورُ ، فَتَسكُنُ أحياناً فَلا يُدرى مِن أينَ تُؤتى ، تَذَرُ الحَليمَ كَابنِ أمسِ ، شيموا سُيوفَكُم ، وقَصِّدوا رِماحَكُم ، وأرسِلوا سِهامَكُم ، وَاقطَعوا أوتارَكُم ، وَالزَموا بُيوتَكُم ، خَلّوا قُرَيشا _ إذا أبَوا إلَا الخُروجَ مِن دارِ الهِجرَةِ وفِراقَ أهلِ العِلمِ بِالإِمرَةِ _ تَرتُق فَتقَها ، وتَشعَب صَدعَها ؛ فَإِن فَعَلَت فَلِأَنفُسِها سَعَت ، وإن أبَت فَعَلى أنفُسِها مَنَّت ، سَمنَها تُهَريقُ في أديمِها (3) ، اِستَنصِحوني ولا تَستَغِشّوني ، وأطيعوني يَسلَم لَكُم دينُكُم ودُنياكُم ، ويَشقى بِحَرِّ هذِهِ الفِتنَةِ مَن جَناها . فَقامَ زَيدٌ فَشالَ يَدَهُ المَقطوعَةَ (4) ، فَقالَ: يا عَبدَاللّهِ بنَ قَيسٍ، رُدَّ الفُراتَ عَن دِراجِهِ (5) ، اُردُدهُ مِن حَيثُ يَجيءُ حَتّى يَعودَ كَما بَدَأَ ، فَإِن قَدَرتَ عَلى ذلِكَ فَسَتَقدِر
.
ص: 145
عَلى ما تُريدُ ، فَدَع عَنكَ ما لَستَ مُدرِكَهُ . ثُمَّ قَرَأَ : «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ» (1) _ إلى آخِرِ الآيَتَينِ _ سيروا إلى أميرِ المُؤمِنينَ وسَيِّدِ المُسلِمينَ ، وَانفِروا إلَيهِ أجمَعينَ؛ تُصيبُوا الحَقَّ . فَقامَ القَعقاعُ بنُ عَمرٍو فَقالَ : إنّي لَكُم ناصِحٌ ، وعَلَيكُم شَفيقٌ ، اُحِبُّ أن تَرشُدوا ، ولَأَقولَنَّ لَكُم قَولاً هُوَ الحَقُّ ؛ أمّا ما قالَ الأَميرُ فَهُوَ الأَمرُ لَو أنَّ إلَيهِ سَبيلاً ، وأمّا ما قالَ زَيدٌ فَزَيدٌ فِي الأَمرِ فَلا تَستَنصِحوهُ ؛ فَإِنَّهُ لا يُنتَزَعُ أحدٌ مِنَ الفِتنَةِ طَعَنَ فيها وَجَرى إلَيها . وَالقَولُ الَّذي هُوَ القَولُ: إنَّهُ لابُدَّ مِن إمارَةٍ تُنَظِّمُ النّاسَ ، وتَزَعُ الظّالِمَ ، وتُعِزُّ المَظلومَ ، وهذا عَلِيٌّ يَلي بِما وَلِيَ ، وقَد أنصَفَ فِي الدُّعاءِ ، وإنَّما يَدعو إلَى الإِصلاحِ ، فَانفِروا وكونوا مِن هذَا الأَمرِ بِمَرأى ومَسمَعٍ . وقالَ سَيحانُ : أيُّهَا النّاسُ ! إنَّهُ لابُدَّ لِهذَا الأَمرِ وهؤُلاءِ النّاسِ مِن والٍ ؛ يَدفَعُ الظّالِمَ ، ويُعِزُّ المَظلومَ ، ويَجمَعُ النّاسَ ، وهذا واليكُم يَدعوكُم لِيُنظَرَ فيما بَينَهُ وبَينَ صاحِبَيهِ ، وهُوَ المَأمونُ عَلَى الاُمَّةِ ، الفَقيهُ فِي الدّينِ ؛ فَمَن نَهَضَ إلَيهِ فَإِنّا سائِرونَ مَعَهُ (2) .
شرح نهج البلاغة عن أبي مِخنَف :لَمّا سَمِعَ أبو موسى خُطبَةَ الحَسَنِ وعَمّارٍ قامَ فَصَعِدَ المِنبَرَ ، وقالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي أكرَمَنا بِمُحَمَّدٍ ؛ فَجَمَعَنا بَعدَ الفُرقَةِ ، وجَعَلَنا إخوانا مُتَحابّينَ بَعدَ العَداوَةِ ، وحَرَّمَ عَلَينا دِماءَنا وأموالَنا ، قالَ اللّهُ سُبحانَهُ : «وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَ_طِ_لِ» (3) ، وقالَ تَعالى : «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَ__لِدًا فِيهَا» (4) ، فَاتَّقُوا اللّهَ عِبادَ اللّهِ ، وضَعوا أسلِحَتَكُم وكُفّوا عَن قِتالِ إخوانِكُم .
.
ص: 146
أمّا بَعدُ ؛ يا أهلَ الكوفَةِ ! إن تُطيعُوا اللّهَ بادِيا ، وتُطيعوني ثانِيا تَكونوا جُرثومَةً مِن جَراثيمِ العَرَبِ ، يَأوي إلَيكُمُ المُضطَرُّ ، ويَأمَنُ فيكُمُ الخائِفُ ، إنَّ عَلِيّا إنَّما يَستَنفِرُكُم لِجِهادِ اُمِّكُم عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ حَوارِيِّ رَسولِ اللّهِ ومَن مَعَهُم مِنَ المُسلِمينَ ، وأنَا أعلَمُ بِهذِهِ الفِتَنِ ؛ إنَّها إذا أقبَلَت شَبَّهَت ، وإذا أدبَرَت أسفَرَت . إنّي أخافُ عَلَيكُم أن يَلتَقِيَ غارانِ مِنكُم فَيَقتَتِلا ، ثُمَّ يُترَكا كَالأَحلاسِ (1) المُلقاةِ بِنَجوَةٍ (2) مِنَ الأَرضِ ، ثُمَّ يَبقى رِجرِجَةٌ (3) مِنَ النّاسِ لا يَأمُرونَ بِالمَعروفِ ولا يَنهَون عَن مُنكَرٍ ، إنَّها قَد جاءَتكُم فِتنَةٌ كافِرَةٌ لا يُدرى مِن أينَ تُؤتى ! تَترُكُ الحَليمَ حَيرانَ ! كَأَنّي أسمَعُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالأَمسِ يَذكُرُ الفِتَنَ فَيَقولُ : «أنتَ فيها نائِما خَيرٌ مِنكَ قاعِداً ، وأَنتَ فيها جالِسا خَيرٌ مِنكَ قائِما ، وأنتَ فيها قائِما خَيرٌ مِنكَ ساعِيا» . فَثَلِّموا سُيوفَكُم ، وقَصِّفوا رِماحَكُم ، وَأنصِلوا سِهامَكُم ، وقَطِّعوا أوتارَكُم ، وخَلّوا قُرَيشا تَرتُق فَتقَها وتَرأَب صَدعَها ؛ فَإِن فَعَلَت فَلِأَنفُسِها ما فَعَلَت ، وإن أبَت فَعَلى أنفُسِها ما جَنَت ، سَمنُها في أديمِها ، اِستَنصِحوني ولا تَستَغِشّوني ، وأطيعوني ولا تَعصوني ، يَتَبَيَّن لَكُم رُشدُكُم ، ويَصلى هذِهِ الفِتنَةَ مَن جَناها . فَقامَ إلَيهِ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ ، فَقالَ : أنتَ سَمِعتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ ذلِكَ ؟ قالَ : نَعَم ، هذِهِ يَدي بِما قُلتُ ، فَقالَ : إن كُنتَ صادِقا فَإِنَّما عَناك بِذلِكَ وَحدَكَ ، واتَّخَذَ عَلَيكَ الحُجَّةَ ، فَالزَمَ بَيتَكَ ولا تَدخُلَنَّ فِي الفِتنَةِ ، أما إنّي أَشهَدُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَ عَلِيّا بِقِتالِ النّاكِثينَ ، وسَمّى لَهُ فيهِم مَن سَمّى ، وأمَرَهُ بِقِتالِ القاسِطينَ ، وإن شِئتَ لَاُقيمَنَّ لَكَ شُهودا يَشهَدونَ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله إنَّما نَهاكَ وَحدَكَ ، وحَذَّرَكَ مِنَ الدُّخولِ فِى ¨
.
ص: 147
الفِتنَةِ . ثُمَّ قالَ لَهُ : أعطِني يَدَكَ عَلى ما سَمِعتَ ، فَمَدَّ إلَيهِ يَدَهُ ، فَقالَ لَهُ عَمّارٌ : غَلَبَ اللّهُ مَن غالَبَهُ وجاهَدَهُ . ثُمَّ جَذَبَهُ فَنَزَلَ عَنِ المِنبَرِ (1) .
تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :قامَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ فَقالَ : يا أيُّهَا النّاسُ !أجيبوا دَعوَةَ أميرِكُم ، وسيروا إلى إخوانِكُم ؛ فَإِنَّهُ سَيوجَدُ لِهذَا الأَمرِ مَن يَنفِرُ إلَيهِ ، وَاللّهِ لَأَن يَلِيَهُ اُولُو النُّهى أمثَلُ فِي العاجِلَةِ ، وخَيرٌ فِي العاقِبَةِ ، فَأَجيبوا دَعوَتَنا وأعينونا عَلى مَا ابتُلينا وَابتُليتُم . فَسامَحَ النّاسُ وأجابوا ورَضوا بِهِ . وأتى قَومٌ مِن طَيِّى ءٍ عَدِيّا فَقالوا : ماذا تَرى وما تَأمُرُ ؟ فَقالَ : نَنتَظِرُ ما يَصنَعُ النّاسُ . فَاُخبِرَ بِقِيامِ الحَسَنِ وكَلامِ مَن تَكَلَّمَ فَقالَ : قَد بايَعنا هذَا الرَّجُلَ ، وقَد دَعانا إلى جَميلٍ ، وإلى هذَا الحَدَثِ العَظيمِ لِنَنظُرَ فيهِ ، ونَحنُ سائِرونَ وناظِرونَ . وقامَ هِندُ بنُ عَمروٍ فَقالَ : إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ قَد دَعانا ، وأرسَلَ الَينا رُسُلَهُ حَتّى جاءَنَا ابنُهُ ، فَاسمَعوا إلى قَولِهِ ، وَانتَهوا إلى أمرِهِ ، وَانفِروا إلى أميرِكُم ، فَانظُروا مَعَهُ في هذَا الأَمرِ ، وأعينوهُ بِرَأيِكُم . وقامَ حُجرُ بنُ عَدِيٍّ فَقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! أجيبوا أميرَ المُؤمِنينَ ، وَانفِروا خِفافا وثِقالاً ، مُرّوا؛ أنَا أوَّلُكُم (2) .
5 / 5إشخاصُ الأَشتَرِ لِمُواجَهَةِ فِتنَةِ أبي موسىكان الإمام بحاجة إلى وجود جيش الكوفة إلى جانب سائر الجيش للتصدّى ¨
.
ص: 148
بحزم لحركة الناكثين ، إلّا أنّ تثبيط أبي موسى لأهالي الكوفة حال دون نهوضهم لنصرته . وكان مالك الأشتر قادرا على حلّ هذه العقدة ؛ إذ إنّه هو الذي اقترح على أمير المؤمنين عليه السلام إبقاءه في منصبه على ولاية الكوفة بعد أن كان الإمام قد هَمّ بعزله فيمن عزله من ولاة عثمان . وتصرّح بعض الوثائق التاريخيّة بأنّ الإمام قال له : «أنتَ شَفَعتَ في أبي موسى أن اُقِرَّهُ عَلَى الكوفَةِ ؛ فَاذهَب فَأَصلِح ما أفسَدتَ» (1) ، بيد أنّ الرواية التي أوردها نصر بن مزاحم تفيد أنّ الأشتر هو الذي عرض على الإمام فكرة المسير إلى الكوفة لمعالجة ما أفسده الأشعرى .
تاريخ الطبري عن نصر بن مزاحم :قَد كانَ الأَشتَرُ قامَ إلى عَلِيٍّ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنّي قَد بَعَثتُ إلى أهلِ الكوفَةِ رَجُلاً قَبلَ هذَينِ ، فَلَم أرَهُ أحكَمَ شَيئا ولا قَدَرَ عَلَيهِ ، وهذانِ أخلَقُ مَن بَعثتُ أن يُنشَبَ (2) بِهِمُ الأَمرُ عَلى ما تُحِبُّ ، ولَستُ أدري ما يَكونُ ؛ فَإِن رَأَيتَ _ أكرَمَكَ اللّهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ _ أن تَبعَثَني في أثَرِهِم ؛ فَإِنَّ أهلَ المِصرِ أحسَنُ شَيءٍ لي طاعَةً ، وإن قَدِمتُ عَلَيهِم رَجَوتُ ألّا يُخالِفَني مِنهُم أحَدٌ . فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : اِلحَق بِهِم . فَأَقبَلَ الأَشتَرُ حَتّى دَخَلَ الكوفَةَ وقَدِ اجتَمَعَ النّاسُ فِي المَسجِدِ الأَعظَمِ ، فَجَعَلَ لا يَمُرُّ بِقَبيلَةٍ يَرى فيها جَماعَةً في مَجلِسٍ أو مَسجِدٍ إلّا دَعاهُم ويَقولُ : اِتَّبِعوني إلَى القَصرِ ، فَانتَهى إلَى القَصرِ في جَماعَةٍ مِنَ النّاسِ ، فَاقتَحَمَ القَصرَ ، فَدَخَلَهُ وأبو موسى قائِمٌ فِي المَسجِدِ يَخطُبُ النّاسَ ويُثَبِّطُهُم ؛ يَقولُ :
.
ص: 149
أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ هذِهِ فِتنَةٌ عَمياءُ صَمّاءُ تَطَأُ خِطامَها (1) ، النّائِمُ فيها خَيرٌ مِنَ القاعِدِ ، وَالقاعِدُ فيها خَيرٌ مِنَ القائِمِ ، وَالقائِمُ فيها خَيرٌ مِنَ الماشي ، وَالماشي فيها خَيرٌ مِنَ السّاعي ، وَالسّاعي فيها خَيرٌ مِنَ الرّاكِبِ . إنَّها فِتنَةٌ باقِرَةٌ كَداءِ البَطنِ ، أتَتكُم مِن قِبَلِ مَأمَنِكُم ، تَدَعُ الحَليمَ فيها حَيرانَ كَابنِ أمسِ . إنّا مَعاشِرَ أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أعلَمُ بِالفِتنَةِ ؛ إنَّها إذا أقبَلَت شَبَّهَت ، وإذا أدبَرَت أسفَرَت . وعَمّارٌ يُخاطِبُهُ ، وَالحَسَنُ يَقولُ لَهُ : اِعتَزِل عَمَلَنا لا اُمَّ لَكَ ! وتَنَحَّ عَن مِنبَرِنا . وقالَ لَهُ عَمّارٌ : أنتَ سَمِعتَ هذا مِن رَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله ؟ فَقالَ أبو موسى : هذِهِ يَدي بِما قُلتُ . فَقالَ لَهُ عَمّارٌ : إنَّما قالَ لَكَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله هذا خاصَّةً ، فَقالَ : «أنتَ فيها قاعِدا خَيرٌ مِنكَ قائِما» . ثُمَّ قالَ عَمّارٌ : غَلَبَ اللّهُ مَن غالَبَهُ وجاحَدَهُ . قالَ نَصرُ بنُ مُزاحِمٍ : حَدَّثَنا عُمَرُ بنُ سَعيدٍ قالَ : حَدَّثَني رَجُلٌ عَن نُعَيمٍ عن أبي مَريمَ الثَّقَفِيِّ قالَ : وَاللّهِ إنّي لَفِي المَسجِدِ يَومَئِذٍ وعَمّارٌ يُخاطِبُ أبا موسى ويَقولُ لَهُ ذلِكَ القَولَ ، إذ خَرَجَ عَلَينا غِلمانٌ لِأَبي موسى يَشَتَدّونَ يُنادونَ : يا أبا موسى ! هذَا الأَشتَرُ قَد دَخَلَ القَصرَ فَضَرَبَنا وأخرَجَنا . فَنَزَلَ أبو موسى ، فَدَخَلَ القَصرَ ، فَصاحَ بِهِ الأَشتَرُ : اُخرُج مِن قَصرِنا لا اُمَّ لَكَ !أخرَجَ اللّهُ نَفسَكَ ! فَوَاللّهِ إنَّكَ لَمِنَ المُنافِقينَ قَديما . قالَ : أجِّلني هذِهِ العَشِيَّةَ . فَقالَ : هِيَ لَكَ ، ولا تَبيتَنَّ فِي القَصرِ اللَّيلَةَ . ودَخَلَ النّاسُ يَنتَهِبونَ مَتاعَ أبي موسى ، فَمَنَعَهُمُ الأَشتَرُ وأخرَجَهُم مِنَ القَصرِ ، وقالَ : إنّي قَد أخرَجتُهُ . فَكَفَّ النّاسَ عَنهُ (2) .
.
ص: 150
5 / 6وُصولُ قُوّاتِ الكوفَةِ إلَى الإِمامِانتهى الموقف الحاسم الذي اتّخذه مالك الأشتر من أبي موسى الأشعري بحلّ مشكلة إرسال جيش من الكوفة ، فانطلقت القوّات من هناك والتحقت بالإمام في ذي قار . وممّا يسترعي الاهتمام في هذا الصدد هو أنّه عليه السلام أخبر أصحابه بعدد الجيش القادم من الكوفة قبل وصوله إليه .
تاريخ الطبري عن أبي الطفيل :قالَ عَلِيٌّ : «يَأتيكُم مِنَ الكوفَةِ اثنا عَشَرَ ألفَ رَجُلٍ ورَجُلٌ» ، فَقَعَدتُ عَلى نَجَفَةِ (1) ذي قارٍ ، فَأَحصَيتُهُم ، فَما زادوا رَجُلاً ، ولا نَقَصوا رَجُلاً (2) .
الإرشاد :قالَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] بِذي قارٍ وهوَ جالِسٌ لِأَخذِ البَيعَةِ : يَأتيكُم مِن قِبَلِ الكوفَةِ ألفُ رَجُلٍ ؛ لا يَزيدون رَجُلاً ، ولا يَنقُصونَ رَجُلاً ، يُبايِعونّي عَلَى المَوتِ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَجَزِعتُ لِذلِكَ ، وخِفتُ أن يَنقُصَ القَومُ عَن العَدَدِ أو يَزيدوا عَلَيهِ ، فَيَفسُدَ الأَمرُ عَلَينا ، ولَم أزَل مَهموما دَأبي إحصاءُ القَومِ ، حَتّى وَرَدَ أوائِلُهُم ، فَجَعَلتُ اُحصيهِم ، فَاستَوفَيتُ عَدَدَهُم تِسعَمِئَةِ رَجُلٍ وتِسعَةً وتِسعينَ رَجُلاً ، ثُمَّ انقَطَعَ مَجيءُ القَومِ . فَقُلتُ : إنّا للّهِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ ، ماذا حَمَلَهُ عَلى ما قالَ ؟ فبََينا أنَا مُفَكِّرٌ في ذلِكَ إذ رَأَيتُ شَخصا قَد أقبَلَ ، حَتّى دَنا ؛ فَإِذا هُوَ راجِلٌ عَلَيهِ قَباءُ صوفٍ مَعَهُ سَيفُهُ وتُرسُهُ وإداوَتُهُ (3) ، فَقَرُبَ مِن أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَقالَ لَهُ : اُمدُد يَدَكَ اُبايِعكَ .
.
ص: 151
فَقالَ لَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : وعَلامَ تُبايِعُني ؟ قالَ : عَلَى السَّمعِ وَالطّاعَةِ ، وَالقِتالِ بَينَ يَدَيكَ حَتّى أموتَ أو يَفتَحَ اللّهُ عَلَيكَ . فَقالَ لَهُ : مَا اسمُكَ ؟ قالَ : اُوَيسٌ . قالَ : أنتَ اُويسٌ القَرَنِيُّ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : اللّهُ أكبَرُ ، أخبَرَني حَبيبي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنّي اُدرِكُ رَجُلاً مِن اُمَّتِهِ يُقالُ لَهُ : اُوَيسٌ القَرَنِيُّ ، يَكونُ مِن حِزبِ اللّهِ ورَسولِهِ ، يَموتُ عَلَى الشَّهادَةِ ، يَدخُلُ في شَفاعَتِهِ مِثلُ رَبيعَةَ ومُضَرَ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَسُرِّيَ عَنّي (1) . (2)
راجع : ج 6 ص 425 (مصير الحرب في وقعة الجمل) .
.
ص: 152
بحثٌ حول مبعوثي الإمام إلى الكوفةكان الإمام عليّ عليه السلام بحاجة إلى قوّات إضافيّة لمحاربة جيش أصحاب الجمل ، وكانت الكوفة أفضل ولاية قادرة على إمداده بمثل تلك القوّات ؛ وذلك لأنّها كانت حاضرة عسكريّة ، وكان فيها عدد كبير جدّا من المقاتلين ؛ خلافا لما كانت عليه مكّة أو المدينة أو اليمن أو . . . . وفضلاً عن ذلك فقد كانت الكوفة أقرب ولاية إلى البصرة ، وهذا يعني أنّها كانت أفضل مكان لإرسال القوّات ، إلّا أنّ وجود أبي موسى الأشعري واليا على الكوفة ، كان يحول دون استقدام القوّات من هناك . وعلى ضوء تلك الظروف كتب أمير المؤمنين عليه السلام رسالة إلى أهل الكوفة ، وأرسلها مع مبعُوثين عنه لاستنفار أهاليها وتحريضهم على الالتحاق به . ولابدّ وأن يكون لهؤلاء المبعوثين وجاهة عند أهل الكوفة ، ومقدرة على محاجّة أبي موسى الأشعري . بيد أنّ هناك اختلافا كبيرا بين المصادر التاريخيّة حول عدد مبعوثي الإمام إلى الكوفة وترتيبهم : 1 _ ذكر الطبري مبعوثي الإمام وترتيبهم على الأنحاء التالية :
.
ص: 153
أ : محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن عون ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر ، مالك الأشتر (1) . ب : رواية سيف بن عمر : محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر ، مالك الأشتر وعبد اللّه بن عبّاس ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر . ج : محمّد بن أبي بكر ، هاشم بن عتبة ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر (2) . 2 _ وردت أسماؤهم في «الكامل في التاريخ» على نحو مشابه تقريبا لما أورده الطبري (3) . 3 _ أمّا كتاب البداية والنهاية فقد اقتصر على ذكر روايات سيف بن عمر عن الطبري (4) . 4 _ وسرد كتاب أنساب الأشراف أسماء اُولئك المبعوثين على النحو التالي : هاشم بن عتبة ، عبد اللّه بن عبّاس ومحمّد بن أبي بكر ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار ابن ياسر ؛ وأنّ الإمام الحسن عليه السلام قدم على الإمام عليّ عليه السلام في عشرة آلاف مقاتل (ولم يرد اسم مالك الأشتر بينهم) (5) . 5 _ وورد ذكرهم في كتاب «الجمل» على النحو الآتي : هاشم بن عتبة (من الربذة) ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد ، مالك الأشتر .
.
ص: 154
وجاء في نقل آخر عن الواقدي : محمّد ابن الحنفيّة ومحمّد بن أبي بكر ، الإمام الحسن وعمّار (أو برفقة ابن عبّاس) (1) . 6 _ وجاء في شرح نهج البلاغة ذكرهم على النحو الآتي : هاشم بن عتبة ، عبد اللّه بن عبّاس ومحمّد بن أبي بكر (أو : محمّد بن جعفر بن أبي طالب ومحمّد بن أبي بكر كما في رواية محمّد بن إسحاق) ، الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد (2) . ثمّ استطرد مُوردا نصّ كلام الطبري (3) . 7 _ وجاء في كتاب الإمامة والسياسة : عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر ، الإمام الحسن عليه السلام وعبد اللّه بن عبّاس وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد (4) . وهكذا يلاحظ وجود اختلافات شاسعة في عدد المبعوثين وترتيبهم . ويبدو أنّ ترتيبهم الصحيح كان على النحو التالي :
أ : هاشِمُ بنُ عُتبَةَبعث الإمام علي عليه السلام وهو في الربذة _ قرب المدينة _ هاشم بن عتبة بكتاب إلى أبي موسى الأشعري _ والي الكوفة _ لاستنفار الناس ودعوتهم لمحاربة جيش أصحاب الجمل . وسبب اختياره لهاشم بن عتبة واضح ؛ فهو كان من قادة جيش المسلمين ، وكانت له وجاهة عند أهل الكوفة .
.
ص: 155
سار هاشم بن عتبة إلى الكوفة وأبلغ كتاب الإمام عليه السلام ، لكنّه واجه معارضة من قِبل أبي موسى الأشعري ، فبعث هاشم رسالة من الكوفة إلى الإمام عليه السلام بيّن له فيها طبيعة الأوضاع هناك . وفي أعقاب ذلك سار بنفسه إلى الإمام وشرح له مجريات الاُمور بالتفصيل .
ب : مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍالمبعوث الثاني للإمام هو محمّد بن أبي بكر الذي كانت له وجاهة عند جميع المسلمين ، وخاصّة عند الثوّار المناهضين لعثمان . وتتّفق المصادر التاريخيّة على وجود محمّد بن أبي بكر بين المبعوثين ، إلّا أنّها تختلف في ترتيب إيفاده ؛ فبعضها يُفيد أنّه اُوفد قبل هاشم بن عتبة (1) ، بينما يرى البعض الآخر منها أنّه اُوفد إلى الكوفة بعد رجوع هاشم بن عتبة منها (2) . وهناك مصادر اُخرى لم تذكر زمنا معيّنا لأيّ منهما (3) . كما يوجد ثَمّة اختلاف آخر حول أعضاء الوفد المرافق لمحمّد بن أبي بكر ، فبعض المصادر ذكرت اسم محمّد بن عون (4) ، وذكرت مصادر اُخرى محمّد بن جعفر (5) ، وبعضها ذكرت محمّد ابن الحنفيّة (6) ، وذكر غيرها عبد اللّه بن عبّاس 7 . وسنتحدّث لاحقا عن هؤلاء الأشخاص كلّ على حدة .
.
ص: 156
ج : الإِمامُ الحَسَنُ و عَمّارُ بنُ ياسِرٍيمكن الجزم بأنّ الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر كانا من جملة المندوبين الذين أرسلهم أمير المؤمنين عليه السلام إلى الكوفة . فبعدما عجز الموفَدون الآخرون عن إقناع أبي موسى الأشعري وأهالي الكوفة بالنهوض والالتحاق بالإمام عليه السلام بعث هذين الرجلين إلى هناك . وقد أوردت كتب التاريخ والحديث نصوص خطبهما في الكوفة واحتجاجاتهما مع أبي موسى الأشعري . وفي نهاية المطاف سارا برفقة جيش الكوفة والتحقوا بجيش الإمام عليّ عليه السلام . وقد عزت بعض المصادر التاريخيّة إرسال جيش الكوفة إلى دور هذين الرجلين (1) . بينما تحدّثت مصادر اُخرى عن مسير مالك الأشتر إلى هناك وطرده لأبي موسى الأشعري من قصر الإمارة (2) .
د : مالِكُ الأَشتَرُورد اسم مالك الأشتر بصفته مبعوثا للإمام عليه السلام إلى الكوفة ، واعتبرته معظم المصادر هو آخر المبعوثين ، وقالت : إنّ جهوده قد أثمرت في استنفار أهالي الكوفة وإرسال جيش منهم لمؤازرة الإمام (راجع النصّ السابق) . وذكرت مصادر اُخرى بأنّ الأشتر قد اُوفد إلى الكوفة في مستهلّ الأمر ، ولكنّ جهوده باءت بالفشل (3) . وتجدر الإشارة إلى أنّ الأشتر كانت له وجاهة لا نظير لها بين أهالي الكوفة .
.
ص: 157
وقد استطاع في عهد عثمان ، وفي ذروة هيمنة الخليفة أن يسيطر على الكوفة ويُثير أهلها ضدّ عثمان . وفي ضوء ذلك يكون الاحتمال الأقوى هو أنّ الأشتر كان الموفد الأخير ، وأنّه سار إلى هناك لحسم الاُمور . أمّا الرواية التي أشارت إلى أنّه كان أوّل المبعوثين ، وأنّه قد فشل في مهمّته فهي رواية سيف بن عمر الذي يلاحظ بوضوح عداؤه الصريح للأشتر في مواضع لاحصر لها من كتاب تاريخ الطبري . وذكرت مصادر اُخرى أنّ الأشتر نفسه أعرب عن رغبته في المسير إلى الكوفة (1) . لأنّ أبا موسى كان واليا لعثمان على الكوفة ، وأنّ الإمام قد رام عزله ولكنّه أبقاه في منصبه هذا نزولاً عند رغبة مالك الأشتر . وقد يُفهم أنّ عمله هذا قد جاء رغبة منه في التكفير عن خطئه الأوّل .
نُكتَةٌ جَديرَةٌ بِالمُلاحَظَةِ :ذكرت بعض المصادر أسماء اُخرى لمبعوثي الإمام عليه السلام ممّا نستريب بصحته ، وهم كالآتي :
أ : عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍورد اسم عبد اللّه بن عبّاس بصفته مبعوثا آخر للإمام عليّ عليه السلام إلى الكوفة ، إلّا أنّه لم ترد أيّة تفاصيل عن دوره هناك . ولكن من المستبعد أن يذهب ابن عبّاس مبعوثا لأمير المؤمنين عليه السلام إلى الكوفة ولا تأتي المصادر التاريخيّة على ذكر كلامه ؛ فالرجل كان معروفا بقوّة الاستدلال ورصانة المنطق . بيد أنّ بعض المصادر أشارت إلى مرافقة ابن عبّاس لمحمّد بن أبى بكر ، فيما
.
ص: 158
أشارت اُخرى إلى ذهابه برفقة الأشتر (1) ، في حين نصّت مصادر اُخرى على ذهابه إلى هناك برفقة الإمام الحسن عليه السلام وعمّار بن ياسر (2) . كما صرّحت المصادر التاريخيّة _ باستثناء كتاب الجمل _ بأنّ ابن عبّاس كان من جملة المبعوثين الأوائل .
ب : قَيسُ بنُ سَعدٍ و زَيدُ بنُ صوحانَأورد ابن أبي الحديد (3) اسمي قيس بن سعد ، وزيد بن صوحان في عداد المبعوثين . ولكن هذا النقل غير صحيح ؛ لأنّ قيس بن سعد عُيّن واليا على مصر في بداية خلافة أمير المؤمنين عليه السلام وذهب إلى مصر ، ولم يشارك في معركة الجمل (4) . أمّا زيد بن صوحان فقد كان من الشخصيّات البارزة في الكوفة ، وقد كتبت له عائشة رسالة تستميله فيها إلى جانبها أو اعتزال القتال على الأقلّ . وقد قرأ زيد رسالة عائشة في مسجد الكوفة وردّ عليها ردّا جميلاً . وفضلاً عن احتجاجاته مع أبى موسى الأشعري ، كانت له مداولات ونقاشات اُخرى مع بعض معارضي الإمام عليه السلام .
راجع : ص 112 (رسائل عائشة إلى وجوه البلاد) .
ج : مُحَمَّدُ بنُ عَونٍ و مُحَمَّدُ ابنُ الحَنَفِيَّةِجاء اسم محمّد بن عون ، ومحمّد ابن الحنفيّة في مصدر تاريخي واحد فقط ؛ فقد ورد اسم محمّد ابن الحنفيّة في كتاب الجمل (5) ، وذكر الطبري اسم محمّد بن
.
ص: 159
عون (1) . ومن الطبيعي أنّ تفرّد هذين المصدرين بذكرهما مدعاة لعدم التعويل عليهما . فضلاً عن أنّ الشخصيّة السياسيّة والعسكريّة لكلّ واحد من هذين الرجلين لم تصل إلى حدّ يؤهّلهما ليكونا مبعوثين للإمام إلى أهل الكوفة . وكذا الحال في محمّد بن جعفر ؛ فعلى الرغم من تعدّد المصادر التي تحدّثت عنه بصفته واحدا من المبعوثين (2) إلّا أنّ عدم شهرته السياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة ، تجعل من عدّه بينهم موضع شكّ .
.
ص: 160
. .
ص: 161
الفصل السادس : احتلال البصرة6 / 1مُناقَشاتُ مَندوبِ الوالي وَالنّاكِثينَأنساب الأشراف عن أبي مِخنَف في إسناده :ولَمّا قَرُبَت عائِشَةُ ومَن مَعَها مِنَ البَصرَةِ بَعَثَ إلَيهِم عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ عِمرانَ بنَ الحُصَينِ الخُزاعِيَّ أبا نُجَيدٍ ، وأبَا الأَسوَدِ الدُّؤَلِيَّ ، فَلَقِياهُم بِحَفَرِ أبي موسى (1) فَقالا لَهُم : فيما قَدِمتُم ؟ فَقالوا : نَطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ ، وأن نَجعَلَ الأَمرَ شورى ؛ فَإِنّا غَضِبنا لَكُم مِن سَوطِهِ وعَصاهُ ؛ أفَلا نَغضَبُ لَهُ مِنَ السَّيفِ ؟ ! ! وقالا لِعائِشَةَ : أَمَرَكِ اللّهُ أن تَقَرّي في بَيتِكِ ؛ فَإِنَّكِ حَبيسُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وحَليلَتُهُ وحُرمَتُهُ . فَقالَت لِأَبِي الأَسوَدِ : قَد بَلَغَني عَنكَ يا أبَا الأَسوَدِ ما تَقولُ فِيَّ ! ! فَانصَرَفَ عِمرانُ وأبُو الأَسوَدِ إلَى ابنِ حُنَيفٍ ، وجَعَلَ أبُو الأَسوَدِ يَقولُ : يَا بنَ حُنَيفٍ قَد اُتيتَ فَانفِرِ وطاعِنِ القَومَ وضارِب وَاصبِرِ وَابرُز لَهُم مُستَلئِماً وشَمِّرِ
.
ص: 162
فَقالَ عُثمانُ : إي ورَبِّ الحَرَمَينِ لَأَفعَلَنَّ (1) .
الجمل عن الواقدي وأبي مِخنَف عن أصحابهما والمدائني وابن دأب عن مشايخهما بالأسانيد :إنَّ عائِشَةَ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرَ لَمّا ساروا مِن مَكَّةَ إلَى البَصرَةِ أغَذُّوا (2) السَّيرَ مَعَ مَنِ اتَّبَعَهُم مِن بَني اُميَّةَ وعُمّالِ عُثمانَ وغَيرِهِم مِن قُرَيشٍ ، حَتّى صاروا إلَى البَصرَةِ ، فَنَزَلوا حَفَرَ أبي موسى ، فَبَلَغَ عُثمانَ بنَ حُنَيفٍ وهُوَ عامِلُ البَصرَةِ يَومَئِذٍ ، وخَليفَةُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، وكانَ عِندَهُ حُكَيمُ بنُ جَبَلَةَ ، فَقالَ لَهُ حُكَيمٌ : مَا الَّذي بَلَغَكَ ؟ فَقالَ : خُبِّرتُ أنَّ القَومَ قَد نَزَلوا حَفَرَ أبي موسى ، فَقالَ لَهُ حُكَيمٌ : اِيذَن لي أن أسيرَ إلَيهِم ؛ فَإِنّي رَجُلٌ في طاعَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَقالَ لَهُ عُثمانُ : تَوَقَّف عَن ذلِكَ حَتّى اُراسِلَهُم ، فَقالَ لَهُ حُكَيمٌ : إنّا للّهِِ ، هَلَكتَ وَاللّهِ يا عُثمانُ ! فَأَعرَضَ عَنهُ وأَرسَلَ إلى عِمرانَ بنِ حُصَينٍ وأبِي الأسوَدِ الدُّؤَلِيِّ ، فَذَكَرَ لَهُما قُدومَ القَومِ البَصرَةَ وحُلولَهُم حَفَرَ أبي موسى ، وسَأَلَهُمَا المَسيرَ إلَيهِم وخِطابَهُم عَلى ما قَصَدوا به ، وكَفَّهُم عَنِ الفِتنَةِ ، فَخَرَجا حَتّى دَخَلا عَلى عائِشَةَ فَقالا لَها : يا اُمَّ المُؤمِنينَ ! ما حَمَلَكِ عَلَى المَسيرِ ؟ فَقالَت : غَضِبتُ لَكُما مِن سَوطِ عُثمانَ وعَصاهُ، ولا أغضَبُ أن يُقتَلَ ؟! فَقالا لَها : وما أنتِ مِن سوطِ عُثمانَ وعَصاهُ وإنَّما أنتِ حَبيسَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟نُذَكِّرُكِ اللّهَ أن تُهراقَ الدِّماءُ بِسَبَبِكِ . فَقالَت : وهَل مِن أحَدٍ يُقاتِلُني ؟فَقالَ لَها أبُو الأَسوَدِ : نَعَم وَاللّهِ؛ قِتالاً أهوَنُهُ شَديدٌ ! ثُمَّ خَرَجا مِن عِندِها ، فَدَخَلا عَلَى الزُّبَيرِ فَقالا : يا أبا عَبدِ اللّهِ ! نَنشُدُكَ اللّهَ أن تُهراقَ الدِّماءُ بِسَبَبِكَ ! فَقالَ لَهُما : اِرجِعا مِن حَيثُ جِئتُما ، لا تُفسِدا عَلَينا . فَأَيِسا مِنه
.
ص: 163
وخَرَجا حَتّى دَخَلا عَلى طَلحَةَ فَقالا لَهُ : نَنشُدُكَ اللّهَ أن تُهراقَ الدِّماءُ بِسَبَبِكَ ! فَقالَ لَهُما طَلحَةُ : أ يُحِبُّ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ أنَّهُ إذا غَلَبَ عَلى أمرِ المَدينَةِ أنَّ الأَمرَ لَهُ ، وأنَّهُ لا أمرَ إلّا أمرُهُ ؟ وَاللّهِ لَيَعلَمَنَّ ، فَانصَرِفا مِن حَيثُ جِئتُما . فَانصَرَفا مِن عِندِهِ إلى عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ فَأَخبَراهُ الخَبَرَ . ورَوَى ابنُ أبي سَبرَةَ عَن عيسَى بنِ أبي عيسى عَنِ الشَّعبِيِّ أنَّ أبَا الأَسوَدِ الدُّؤَلِيَّ وعِمرانَ لَمّا دَخَلا عَلى عائِشَةَ قالا لَها : مَا الَّذي أقدَمَكِ هذَا البَلَدَ وأنتِ حَبيسَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وقَد أمَرَكِ أن تَقَرّي في بَيتِكِ ؟ فَقالَت : غَضِبتُ لَكُم مِنَ السَّوطِ وَالعَصا ، ولا أغضَبُ لِعثمانَ مِنَ السَّيفِ ؟! فَقالا لَها : نَنشُدُكِ اللّهَ أن تُهراقَ الدِّماءُ بِسَبَبِكِ ، وأن تَحمِلِي النّاسَ بَعضَهُم عَلى بَعضٍ ، فَقالَت لَهُما : إنَّما جِئتُ لِاُصلِحَ بَينَ النّاسِ . وقالَت لِعِمرانَ بنِ الحُصَينِ : هَل أنتَ مُبَلِّغٌ عُثمانَ بنَ حُنَيفٍ رِسالَةً ؟ فَقالَ : لا اُبَلِّغُهُ عَنكِ إلّا خَيراً . فَقالَ لَها أبُو الأَسوَدِ : أنَا اُبَلِّغُهُ عَنكِ فَهاتي ، قالَت : قُل لَهُ : يا طَليقَ ابنَ أبي عامِرٍ، بَلَغَني أنَّكَ تُريدُ لِقائي لِتُقاتِلَني ! فَقالَ لَها أبُو الأَسوَدِ : نَعَم وَاللّهِ لَيُقاتِلَنَّكِ . فَقالَت : وأنتَ أيضا أيُّهَا الدُّؤَلِيُّ ؟ ! يَبلُغُني عَنكَ ما يَبلُغُني ! قُم فَانصَرِف عَنّي . فَخَرَجا مِن عِندِها إلى طَلحَةَ فَقالا لَهُ : يا أبا مُحَمَّدٍ ! أ لَم يَجتَمِعِ النّاسُ إلى بَيعَةِ ابنِ عَمِّ رَسولِ اللّهِ الَّذي فَضَّلَهُ اللّهُ تَعالى كَذا وكَذا ؟ وجَعَلا يَعُدّانِ مَناقِبَ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وفَضائِلَهُ وحُقوقَهُ ، فَوقَعَ طَلحَةُ بِعَلِيٍّ عليه السلام وسَبَّهُ ونالَ مِنهُ وقالَ : إنَّهُ لَيسَ أحَدٌ مِثلَهُ ، أمَ وَاللّهِ لَيَعلَمَنَّ غِبَّ (1) ذلِكَ . فَخَرَجا مِن عِندِهِ وهُما يَقولانِ : غَضِبَ هذَا الدَّنيءُ ، ثُمَّ دَخَلا عَلَى الزُّبَيرِ فَكَلَّماهُ مِثلَ كَلامِهِما لِصاحِبِهِ ، فَوَقَعَ أيضاً في عَلِيٍّ عليه السلام وسَبَّهُ ، وقالَ لِقَومٍ كانوا بِمَحضَرٍ مِنهُ : صَبِّحوهُم قَبلَ أن يُمسوكُم ، فَخَرَجا مِن
.
ص: 164
عِندِهِ حَتّى صارا إلى عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ فَأخبَراهُ الخَبَرَ ، فَأَذِنَ عُثمانُ لِلنّاسِ بِالحَربِ (1) .
شرح نهج البلاغة عن أبي مخنف :أرسَلَ [ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ ] إلى أبِي الأَسوَدِ الدُّؤَلِيِّ وعِمراَنَ بنِ الحُصَينِ الخُزاعِيِّ ، فَأَمَرَهُما أن يَسيرا حَتّى يَأتِياهُ بِعِلمِ القَومِ ومَا الَّذي أقدَمَهُم ، فَانطَلَقا حَتّى إذا أتَيا حَفَرَ أبي موسى وبِهِ مُعَسكَرُ القَومِ ، فَدَخَلا عَلى عائِشَةَ ، فَنالاها ووَعَظاها وأذكَراها وناشَداهَا اللّهَ ، فَقالَت لَهُما : اِلقَيا طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ . فَقاما مِن عِندِها ولَقِيَا الزُّبَيرَ فَكَلَّماهُ ، فَقالَ لَهُما : إنّا جِئنا لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ ونَدعُوا النّاسَ إلى أن يَرُدّوا أمرَ الخِلافَةِ شورى ؛ لِيَختارَ النّاسُ لِأَنفُسِهِم . فَقالا لَهُ : إنَّ عُثمانَ لَم يُقتَل بِالبَصرَةِ لِيُطلَبَ دَمُهُ فيها ، وأنتَ تَعلَمُ قَتَلَةَ عُثمانَ مَن هُم وأينَ هُم ، وإنَّكَ وصاحِبَكَ وعائِشَةَ كُنتُم أشَدَّ النّاسِ عَلَيهِ ، وأعظَمَهُم إغراءً بِدَمِهِ ، فَأَقيدوا مِن أنفُسِكُم . وأمّا إعادَةُ أمرِ الخِلافَةِ شورى ؛ فَكَيفَ وقَد بايَعتُم عَلِيّا طائِعينَ غَيرَ مُكرَهينَ ؟وأنتَ يا أبا عَبدِ اللّهِ لَم يَبعُدِ العَهدُ بِقِيامِكَ دونَ هذَا الرَّجُلِ يَومَ ماتَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وأنتَ آخذٌ قائِم سَيفِكَ تَقولُ : ما أحَدٌ أحَقَّ بِالخِلافَةِ مِنهُ ، ولا أولى بِها مِنهُ ، وَامتَنَعتَ مِن بَيعَةِ أبي بَكرٍ ، فَأَينَ ذلِكَ الفِعلُ مِن هذَا القَولِ ؟ ! فَقالَ لَهُما : اِذهَبا فَالقَيا طَلحَةَ . فَقاما إلى طَلحَةَ ، فَوَجَداهُ أخشَنَ المَلمَسِ ، شَديدَ العَريكَةِ ، قَوِيَّ العَزمِ في إثارَةِ الفِتنَةِ وإضرامِ نارِ الحَربِ ، فَانصَرَفا إلى عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ فَأخبَراهُ ، وقالَ لَهُ أبُو الأَسوَدِ : يَابنَ حُنَيفٍ قَد اُتيتَ فَانفِرِ وطاعِنِ القَومَ وجالِد وَاصبِرِ وَابرُز لَها مُستَلئِما وشَمِّرِ فَقالَ ابنُ حُنَيفٍ : إي وَالحَرَمَينِ لَأَفعَلَنَّ (2) .
.
ص: 165
الإمامة والسياسة :ذَكَروا أنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ لَمّا نَزَلَا البَصرَةَ ، قالَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ : نُعذِرُ إلَيهِما بِرَجُلَينِ ، فَدَعا عِمرانَ بنَ الحُصَينِ صاحِبَ رَسولِ اللّهِ ، وأبَا اَلأَسوَدِ الدُّؤَلِيَّ ، فَأَرسَلَهُما إلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، فَذَهَبا إلَيهِما فَنادَيا : يا طَلحَةُ !فَأَجابَهُما . فَتَكَلَّمَ أبُو الأَسوَدِ الدُّؤَلِيُّ ، فَقالَ : يا أبا مُحَمَّدٍ ! إنَّكُم قَتَلتُم عُثمانَ غَيرَ مُؤامِرينَ لَنا في قَتلِهِ ، وبايَعتُم عَلِيّا غَيرَ مُؤامِرينَ في بَيعَتِهِ ، فَلَم نَغضَب لِعُثمانَ إذ قُتِلَ ، ولَم نَغضَب لِعَلِيٍّ إذ بويِعَ ، ثُمَّ بَدا لَكُم ، فَأَرَدتُم خَلعَ عَلِيٍّ ، ونَحنُ عَلَى الأَمرِ الأَوَّلِ ، فَعَلَيكُمُ المَخرَجُ مِمّا دَخَلتُم فيهِ . ثُمَّ تَكَلَّمَ عِمرانُ ، فَقالَ : يا طَلحَةُ ! إنَّكُم قَتَلتُم عُثمانَ ولَم نَغضَب لَهُ إذ لَم تَغضَبوا ، ثُمَّ بايَعتُم عَلِيّا، وبايَعنا مَن بايَعتُم ؛ فَإِن كان قَتلُ عَثمانَ صَوابا فَمسيرُكُم لِماذا ؟ وإن كانَ خَطَأً فَحَظُّكُم مِنهُ الأَوفَرُ ، ونَصيبُكُم مِنهُ الأَوفى ! فَقالَ طَلحَةُ : يا هذانِ ! إنَّ صاحِبَكُما لا يَرى أنَّ مَعَهُ في هذَا الأَمرِ غَيرَهُ ، ولَيسَ عَلى هذا بايَعناهُ ، وَايمُ اللّهِ لَيُسفَكَنَّ دَمُهُ . فَقالَ أبُو الأَسوَدِ : يا عِمرانُ ! أمّا هذا فَقَد صَرَّحَ أنَّهُ إنَّما غَضِبَ لِلمُلكِ . ثُمَّ أتَيَا الزُّبَيرَ فَقالا : يا أبا عَبدِ اللّهِ ! إنّا أتَينا طَلحَةَ . قالَ الزُّبَيرُ : إنَّ طَلحَةَ وإيّايَ كَروحٍ في جَسَدَينِ ، وإنَّهُ وَاللّهِ _ يا هذانِ _ قَد كانَت مِنّا في عُثمانَ فَلَتاتٌ ، احتَجنا فيها إلَى المَعاذيرِ ، ولَوِ استَقبَلَنا مِن أمرِنا مَا استَدبَرَنا نَصَرناهُ (1) .
.
ص: 166
6/ 2مُخالَفَةُ الوالي مُنابَذَةَ النّاكِثينَشرح نهج البلاغة عن ابن عبّاس:إنَّ الزُّبَيرَ وطَلحَةَ أغَذَّ (1) السَّيرَ بِعائِشَةَ حَتَّى انتَهَوا إلى حَفَرِ أبي موسَى الأَشعَرِيِّ وهُوَ قَريبٌ مِنَ البَصرَةِ ، وكَتَبا إلى عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ الأَنصارِيِّ _ وهُوَ عامِلُ عَلِيٍّ عليه السلام عَلَى البَصرَةِ _ أن أخلِ لَنا دارَ الإِمارَةِ ، فَلَمّا وَصَلَ كِتابُهُما إلَيهِ بَعَثَ [إلَى] (2) الأَحنَفِ بنِ قَيسٍ فَقالَ لَهُ : إنَّ هؤُلاءِ القَومَ قَدِموا عَلَينا ومَعَهُم زَوجَةُ رَسولِ اللّهِ ، وَالنّاسُ إلَيها سِراعٌ كَما تَرى . فَقالَ الأَحنَفُ : إنَّهُم جاؤوكَ بِها لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ ، وهُمُ الَّذينَ ألَّبوا عَلى عُثمانَ النّاسَ ، وسَفَكوا دَمَهُ ، وأراهُم وَاللّهِ لا يُزايِلونَ (3) حَتّى يُلقُوا العَداوَةَ بَينَنا ويَسفِكوا دِماءَنا ، وأظُنُّهُم وَاللّهِ سَيَركَبونَ مِنكَخاصَّةً ما لا قِبَل لَكَ بِهِ إن لَم تَتَأَهَّب لَهُم بِالنُّهوضِ إلَيهِم فيمَن مَعَكَ مِن أهلِ البَصرَةِ ؛ فَإِنَّكَ اليَومَ الوالي عَلَيهِم ، وأنتَ فيهِم مُطاعٌ ، فَسِر إلَيهِم بِالنّاسِ ، وبادِرهُم قَبلَ أن يَكونوا مَعَكَ في دارٍ واحِدَةٍ ؛ فَيَكونَ النّاسُ لَهُم أطوعَ مِنهُم لَكَ . فَقالَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ : الرَّأيُ ما رَأَيتَ ، لكِنَّني أكرَهُ الشَّرَّ وأن أبدَأَهُم بِهِ ، وأرجُو العافِيَةَ وَالسَّلامَةَ إلى أن يَأتِيَني كِتابُ أميرِ المُؤمِنينَ ورَأيُهُ فَأَعمَلَ بِهِ . ثُمَّ أتاهُ بَعدَ الأَحنَفِ حُكَيمُ بنُ جَبَلَةَ العَبدِيُّ مِن بَني عَمرِو بنِ وَديعَةَ ، فَأَقرَأَهُ كِتابَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، فَقالَ لَهُ مِثلَ قَولِ الأَحنَفِ ، وأجابَهُ عُثمانُ بِمِثلِ جَوابِهِ لِلأَحنَفِ ، فَقالَ لَهُ حُكَيمٌ : فَائذَن لي حَتّى أسيرَ إلَيهِم بِالنّاسِ ، فَإِن دَخَلوا في طاعَةِ أميرِ المُؤمِنينَ وإلّا نابَذتُهُم عَلى سَواءٍ ، فَقالَ عُثمانُ : لَو كانَ ذلِكَ رَأيي لَسِرتُ إلَيهِم
.
ص: 167
بِنَفسي . قالَ حُكَيمٌ : أمَا وَاللّهِ إن دَخَلوا عَلَيكَ هذَا المِصرَ لَيَنتَقِلَنَّ قُلوبُ كَثيرٍ مِنَ النّاسِ إلَيهِم ، ولَيُزيلُنَّكَ عَن مَجلِسِكَ هذا، وأنتَ أعلَمُ . فَأبى عَلَيهِ عُثمانُ (1) .
6 / 3حَصرُ دارِ الإِمارَةِ وَالقِتالُ حَولَهاأنساب الأشراف :ونادى عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ فِي النّاسِ فَتَسَلَّحوا ، وأقبَلَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وعائِشَةُ حَتّى دَخَلُوا المِربَدَ مِمّا يَلي بَني سُلَيمٍ ، وجاءَ أهلُ البَصرَةِ مَعَ عُثمانَ رُكبانا ومُشاةً ، وخَطَبَ طَلحَةُ فَقالَ : إنَّ عُثمانَ بنَ عَفّانَ كانَ مِن أهلِ السّابِقَةِ وَالفَضيلَةِ مِنَ المُهاجِرينَ الأَوَّلينَ ، وأحدَثَ أحداثاً نَقَمناها عَلَيهِ ، فَبايَنّاهُ ونافَرناهُ ، ثُمَّ أعتَبَ حينَ استَعتَبناهُ ، فَعَدا عَلَيهِ امرُؤٌ ابتَزَّ هذِهِ الاُمَّةَ أمرَها بِغَيرِ رِضىً ولا مَشورَةٍ ، فَقَتَلَهُ ، وساعَدَهُ عَلى ذلِكَ رِجالٌ غَيرُ أبرارٍ ولا أتقِياءَ ، فَقَتلوهُ بَريئاً تائِباً مُسلِماً ، فَنَحنُ نَدعوكُم إلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ ؛ فَإِنَّهُ الخَليفَةُ المَظلومُ . وتَكَلَّمَ الزُّبَيرُ بِنَحوٍ مِن هذَا الكَلامِ . فَاختَلَفَ النّاسُ؛ فَقالَ قائِلونَ : نَطَقا بِالحَقِّ ، وقالَ آخَرونَ : كَذِبا ولَهُما كانا أشَدَّ النّاسِ عَلى عُثمانَ ! ! وَارتَفَعَتِ الأَصواتُ . واُتِيَ بِعائِشَةَ عَلى جَمَلِها في هَودَجِها فَقالَت : صَهٍ صَهٍ (2) ، فَخَطَبَت بِلِسانٍ ذَلقٍ وصَوتٍ جَهوَرِيٍّ، فأَسكَتَ (3) لَهَا النّاسُ فَقالَت : إنَّ عُثمانَ خَليفَتَكُم قُتِلَ مَظلوماً بَعدَ أن تابَ إلى رَبِّهِ ، وخَرَجَ مِن ذَنبِهِ ، وَاللّهِ مابَلَغَ مِن فِعلِهِ ما يُستَحَلُّ بِهِ دَمُهُ ؛ فَيَنبَغي فِي الحَقِّ أن يُؤخَذَ قَتَلَتُهُ فَيُقتَلوا بِهِ ، ويُجعَلَ الأَمرُ شورى .
.
ص: 168
فَقالَ قائِلونَ : صَدَقتِ . وقالَ آخَرونَ : كَذَبتِ، حَتّى تَضارَبوا بِالنِّعالِ وتَمايَزوا ، فَصاروا فِرقَتَينِ : فِرقَةً مَعَ عائِشَةَ وأصحابِها ، وفرقَةً مَعَ ابنِ حُنَيفٍ ، وكانَ عَلى خَيلِ ابنِ حُنَيفٍ حُكَيمُ بنُ جَبَلَةَ ، فَجَعَلَ يَحمِلُ ويَقولُ : خَيلي إلَيَّ إنَّها قُرَيشُ لَيُردِيَنَّها نَعيمُها وَالطَّيشُ (1) وتَأَهَّبوا لِلقِتالِ ، فَانتَهَوا إلَى الزّابوقَةِ (2) ، وأصبَحَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ فَزَحَفَ إلَيهِم ، فَقاتَلَهُم أشَدَّ قِتالٍ ، فَكَثُرَت بَينَهُمُ القَتلى ، وفَشَت فيهِمُ الجِراحُ . ثُمَّ إنَّ النّاسَ تَداعَوا إلَى الصُّلحِ ، فَكَتَبوا بَينَهُم كِتاباً بِالمُوادَعَةِ إلى قُدومِ عَلِيٍّ عَلى أن لا يَعرِضَ بَعضُهُم لِبَعضٍ في سوقٍ ولا مَشرَعَةٍ ، وأنَّ لِعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ دارَ الإِمارَةِ وبَيتَ المالِ وَالمَسجِدَ ، وأنّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ يَنزِلانِ ومَن مَعَهُما حَيثُ شاؤوا . ثُمَّ انصَرَفَ النّاسُ وألقَوُا السِّلاحَ (3) .
6 / 4مُصالَحَةُ والِي البَصرَةِ وَالنّاكِثينَالجمل :ثُمَّ إنَّهُم تَداعَوا إلَى الصُّلحِ ، ودَخَلَ بَينَهُمُ النّاسُ لِما رَأَوا مِن عَظيمِ مَا ابتُلوا بِهِ ، فَتَصالَحوا عَلى أنَّ لِعثمانَ بنِ حُنَيفٍ دارَ الإِمارَةِ وَالمَسجِدَ وبَيتَ المالِ ، ولِطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وعائِشَةَ ما شاؤوا مِنَ البَصرَةِ ولا يُهاجونَ حَتّى يَقدِمَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَإِن أحَبّوا عِندَ ذلِكَ الدُّخولَ في طاعَتِهِ ، وإن أحبّوا أن يُقاتِلوا ، وكَتَبوا بِذلِكَ كِتابا بَينَهُم ، وأوثَقوا فيهِ العُهودَ وأكَّدوها ، وأشهَدُوا النّاسَ عَلى ذلِكَ ، ووُضِعَ السِّلاحُ ، واُمِنَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ عَلى نَفسِهِ وتَفَرَّقَ النّاسُ عَنهُ (4) .
.
ص: 169
شرح نهج البلاغة عن أبي مِخنَف_ في بَيانِ نَصِّ مُعاهَدَةِ الصُّلحِ _: هذا مَا اصطَلَحَ عَلَيهِ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ الأَنصارِيُّ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤمِنينَ مِن شيعَةِ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، وطَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ومَن مَعَهُما مِنَ المُؤمِنينَ وَالمُسلِمينَ مِن شيعَتِهِما ؛ أنَّ لِعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ دارَ الإِمارَةِ وَالرُّحبَةَ وَالمَسجِدَ وبَيتَ المالِ وَالمِنبَرَ ، وأنَّ لِطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ومَن مَعَهُما أن يَنزِلوا حَيثُ شاؤوا مِنَ البَصرَةِ ، ولا يُضارَّ بَعضُهُم بَعضا في طَريقٍ ولا فُرضَةٍ (1) ولا سوقٍ ولا شِرعَةٍ ولا مِرفَقٍ حَتّى يَقدَمَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، فَإِن أحَبّوا دَخَلوا فيما دَخَلَت فيهِ الاُمَّةُ ، وإن أحَبّوا لَحِقَ كُلُّ قَومٍ بِهَواهُم وما أحَبّوا مِن قِتالٍ أو سِلمٍ أو خُروجٍ أو إقامَةٍ ، وعَلَى الفَريقَينِ بِما كَتَبوا عَهدُ اللّهِ وميثاقُهُ ، وأشَدُّ ما أخَذَهُ عَلى نَبِيٍّ مِن أنبِيائِهِ مِن عَهدٍ وذِمَّةٍ . وخُتِمَ الكِتابُ ، ورَجَعَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ حَتّى دَخَلَ دارَ الإِمارَةِ ، وقالَ لِأَصحابِهِ : اِلحَقوا رَحِمَكُمُ اللّهُ بَأَهلِكُم ، وضَعوا سِلاحَكُم ، وداووا جَرحاكُم . فَمَكَثوا كَذلِكَ أيّاما (2) .
6 / 5اِستيلاءُ النّاكِثينَ عَلَى البَصرَةِشرح نهج البلاغة عن أبي مِخنَف :ثُمَّ إنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ قالا : إن قَدِمَ عَلِيٌّ ونَحنُ عَلى هذِهِ الحالِ مِنَ القِلَّةِ وَالضَّعفِ لَيَأخُذَنَّ بِأَعناقِنا ، فَأَجمَعا عَلى مُراسَلَةِ القَبائِلِ وَاستِمالَةِ العَرَبِ ، فَأَرسَلا إلى وُجوهِ النّاسِ وأهلِ الرِّياسَةِ وَالشَّرَفِ يَدعُوانِهِم إلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ وخَلعِ عَلِيٍّ وإخراجِ ابنِ حُنَيفٍ مِنَ البَصرَةِ ، فَبايَعَهُم عَلى ذلِكَ الأَزدُ وضَبَّة
.
ص: 170
وقَيسُ بنُ عَيلانَ كُلُّها إلَا الرَّجُلَ وَالرَّجُلَينِ مِنَ القَبيلَةِ كَرِهوا أمرَهُم فَتَوارَوا عَنهُم ، وأرسَلوا إلى هِلالِ بنِ وَكيعٍ التَّميمِيِّ ، فَلَم يَأتِهِم ، فَجاءَهُ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ إلى دارِهِ ، فَتَوارى عَنهُما ، فَقالَت لَهُ اُمُّهُ : ما رَأَيتُ مِثلَكَ ! أتاكَ شَيخا قُرَيشٍ ، فَتَوارَيتَ عَنهُما ! فَلَم تَزَل بِهِ حَتّى ظَهَرَ لَهُما ، وبايَعَهُما ومَعَهُ بَنو عَمرِو بنِ تَميمٍ كُلُّهُم، وبَنو حَنظَلَةَ، إلّا بَني يَربوعٍ ؛ فَإِنَّ عامَّتَهُم كانوا شيعَةً لِعَلِيٍّ عليه السلام ، وبايَعَهُم بَنو دارِمٍ كُلُّهُم، إلّا نَفَرا مِن بَني مُجاشِعٍ ذَوي دينٍ وفَضلٍ . فَلَمَّا استَوسَقَ لِطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ أمرُهُما، خَرَجا في لَيلَةٍ مُظلِمَةٍ ذاتِ ريحٍ ومَطَرٍ ومَعَهُما أصحابُهُما قَد ألبَسوهُمُ الدُّروعَ وظاهَروا فَوقَها بِالثِّيابِ ، فَانتَهَوا إلَى المَسجِدِ وَقتَ صَلاةِ الفَجرِ ، وقَد سَبَقَهُم عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ إلَيهِ ، واُقيمَتِ الصَّلاةُ ، فَتَقَدَّمَ عُثمانُ لِيُصَلِّيَ بِهِم ، فَأَخَّرَهُ أصحابُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وقَدَّمُوا الزُّبَيرَ (1) .
مروج الذهب_ في ذِكرِ أصحابِ الجَمَلِ _: فَأَتَوُا البَصرَةَ ، فَخَرَجَ إلَيهِم عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ فَمانَعَهُم ، وجَرى بَينَهُم قِتالٌ ، ثُمَّ إنَّهُمُ اصطَلَحوا بَعدَ ذلِكَ عَلى كَفِّ الحَربِ إلى قُدومِ عَلِيٍّ . فَلَمّا كانَ في بَعضِ اللَّيالي بَيَّتوا (2) عُثمانَ بنَ حُنَيفٍ ، فَأَسَروهُ وضَرَبوهُ ونَتَفوا لِحيَتَهُ ، ثُمَّ إنَّ القَومَ استَرجَعوا وخافوا عَلى مُخَلَّفيهِم بِالمَدينَةِ مِن أخيهِ سَهلِ بنِ حُنَيفٍ وغَيرِهِ مِنَ الأَنصارِ ، فَخَلَّوا عَنهُ . وأرادوا بَيتَ المالِ ، فَمانَعَهُمُ الخَزّانُ والمَوكَّلونَ بِهِ وهُمُ السَّبابِجَةُ (3) ، فَقُتِلَ مِنهُم سَبعونَ رَجُلاً غَيرَ مَن جُرِحَ ، وخَمسونَ مِنَ السَّبعينَ ضُرِبَت رِقابُهُم صَبرا مِن بَعد
.
ص: 171
الأَسرِ ، وهؤُلاءِ أوَّلُ مَن قُتِلَ ظُلما فِي الإِسلامِ وصَبرا . وقَتَلوا حُكَيمَ بنَ جَبَلَةَ العَبدِيَّ ، وكانَ مِن ساداتِ عَبدِ القَيسِ ، وزُهّادِ ربَيعَةَ ونُسّاكِها (1) .
تاريخ الطبري عن الزهري_ في ذِكرِ أصحابِ الجَمَلِ _: فَقَدِمُوا البَصرَةَ وعَلَيها عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ ، فَقالَ لَهُم عُثمانُ : ما نَقَمتُم عَلى صاحِبِكُم ؟ فَقالوا : لَم نَرَهُ أولى بِها مِنّا ، وقَد صَنَعَ ما صَنَعَ . قالَ : فَإِنَّ الرَّجُلَ أمَّرَني ، فَأَكتُبُ إلَيهِ فَاُعلِمُهُ ما جِئتُم لَهُ ، عَلى أن اُصُلِّيَ بِالنّاسِ حَتّى يِأتِيَنا كِتابُهُ ، فَوَقَفوا عَلَيهِ وكَتَبَ . فَلَم يَلبثَ إلّا يَومَينِ حَتّى وَثَبوا عَلَيهِ فَقاتَلوهُ بِالزّابوقَةِ عِندَ مَدينَةِ الرِّزقِ (2) ، فَظَهَروا وأخَذوا عُثمانَ ، فَأَرادوا قَتلَهُ ، ثُمَّ خَشوا غَضَبَ الأَنصارِ ، فَنالوهُ في شَعرِهِ وجَسَدِهِ (3) .
أنساب الأشراف عن أبي مِخنَف :صاروا [أهلُ البَصرَةِ] فِرقَتَينِ : فِرقَةً مَعَ عائِشَةَ وأصحابِها ، وفِرقَةً مَعَ ابنِ حُنَيفٍ . . . وتَأَهَّبوا لِلقِتالِ ، فَانتَهَوا إلَى الزّابوقَةِ ، وأصبَحَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ ، فَزَحَفَ إلَيهِم ، فَقاتَلَهُم أشَدَّ قِتالٍ ، فَكَثُرَت بَينَهُمُ القَتلى ، وفَشَت فيهِمُ الجِراحُ . ثُمَّ إنَّ النّاسَ تَداعَوا إلَى الصُّلحِ ، فَكَتَبوا بَينَهُم كِتابا بِالمُوادَعَةِ إلى قُدومِ عَلِيٍّ ، عَلى أن لا يَعرِضَ بَعضُهُم لِبَعضٍ في سوقٍ ولا مَشرَعَةٍ ، وأنَّ لِعثمانَ بنِ حُنَيفٍ دارَ الإِمارَةِ وبَيتَ المالِ والمَسجِدَ ، وأنَّ طَلحَةَ والزُّبَيرَ يَنزِلانِ ومَن مَعَهُما حَيثُ شاؤوا .
.
ص: 172
ثُمَّ انصَرَفَ النّاسُ وألقَوُا السِّلاحَ . وتَناظَرَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، فَقالَ طَلحَةُ : وَاللّهِ لَئِن قَدِمَ عَلِيٌّ البَصرَةَ لَيَأخُذَنَّ بِأَعناقِنا !فَعَزَما عَلى تَبييتِ ابنِ حُنَيفٍ وهُوَ لا يَشعُرُ ، وواطَآ أصحابَهُما عَلى ذلِكَ ، حَتّى إذا كانَت لَيلَةُ ريحٍ وظُلمَةٍ جاؤوا إلَى ابنِ حُنَيفٍ وهُوَ يُصَلِّي بِالنّاسِ العِشاءَ الآخِرَةَ، فَأَخذوهُ وأمَروا بِهِ فَوُطِئَ وَطأً شَديدا ، ونَتَفوا لِحيَتَهُ وشارِبَيهِ ، فَقالَ لَهُما : إنَّ سَهلاً حَيٌّ بِالمَدينَةِ، وَاللّهِ لَئِن شاكَني شَوكَةٌ لَيَضَعَنَّ السَّيفَ في بَني أبيكُما ؛ يُخاطِبُ بِذلِكَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ ، فَكَفّا عَنهُ وحَبَساهُ . وبَعَثا عَبدَ اللّهِ بنَ الزُّبَيرِ في جَماعَةٍ إلى بَيتِ المالِ وعَلَيهِ قَومٌ مِنَ السَّبابِجَةِ يَكونونَ أربَعينَ ، ويُقالُ : أربَعَمِئَةٍ ، فَامتَنَعوا مِن تَسليمِهِ دونَ قُدومِ عَليٍّ ، فَقَتَلوهُم ورَئيسَهُم أبا سَلَمَةَ الزُّطِّيَّ ، وكانَ عَبدا صالِحا (1) .
الإمامة والسياسة :ذَكَروا أنَّهُ لَمَّا اختَلَفَ القَومُ اصطَلَحوا عَلى أنّ لِعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ دارَ الإِمارَةِ ومَسجِدَها وبَيتَ المالِ ، وأن يَنزِلَ أصحابُهُ حَيثُ شاؤوا مِنَ البَصرَةِ ، وأن يَنزِلَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وأصحابُهُما حَيثُ شاؤوا حَتّى يَقدِمَ عَلِيٌّ ؛ فَإِنِ اجتَمَعوا دَخَلوا فيما دَخَلَ فيهِ النّاسُ ، وإن يَتَفَرَّقوا يَلحَق كُلُّ قَومٍ بِأَهوائِهِم ، عَلَيهِم بِذلِكَ عَهدُ اللّهِ وميثاقُهُ ، وذِمَّةُ نَبِيِّهِ . وأشهَدوا شُهودا مِنَ الفَريقَينِ جَميعا . فَانصَرَفَ عُثمانُ ، فَدَخَلَ دارَ الإِمارَةِ ، وأمَرَ أصحابَهُ أن يَلحَقوا بِمَنازِلِهِم ، ويَضَعوا سِلاحَهُم ، وَافتَرَقَ النّاسُ . . . فَمَكَثَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ فِي الدّارِ أيّاما ، ثُمَّ إنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ ومَروانَ بنَ الحَكَمِ أتَوهُ نِصفَ اللَّيلِ في جَماعَةٍ مَعَهُم _ في لَيلَةٍ مُظلِمَةٍ سَوداءَ مَطيرَةٍ _ وعُثمانُ نائِمٌ ، فَقَتَلوا أربَعينَ رَجُلاً مِنَ الحَرَسِ ، فَخَرَجَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ ،
.
ص: 173
فَشَدَّ عَلَيهِ مَروانُ فَأسَرَهُ ، وقَتَلَ أصحابَهُ (1) .
الجمل _ في ذِكرِ ماحَدَثَ بَعدَ مُصالَحَةِ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ وأصحابِ الجَمَلِ _ :طَلَبَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ غَدرَتَهُ ، حَتّى كانَت لَيلَةٌ مُظلِمَةٌ ذاتُ رِياحٍ ، فَخَرَجَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وأصحابُهُما حَتّى أتَوا دارَ الإِمارَةِ وعُثمانُ بنُ حُنَيفٍ غافِلٌ عَنهُم ، وعَلَى البابِ السَّبابِجَةُ يَحرُسونَ بُيوتَ الأَموالِ _ وكانوا قَوما مِنَ الزُّطِّ (2) قَدِ استَبصَروا وأكَلَ السُّجودُ جِباهَهُم ، وَائتَمَنَهُم عُثمانُ عَلى بَيتِ المالِ ودارِ الإِمارَةِ _ فَأَكَبَّ عَلَيهِمُ القَومُ وأخَذوهُم مِن أربعِ جَوانِبِهِم ، ووَضَعوا فِيهِمُ السَّيفَ ، فَقَتَلوا مِنهُم أربَعينَ رَجُلاً صَبرا !يَتَوَلّى مِنهُم ذلِكَ الزُّبَيرُ خاصَّةً ، ثُمَّ هَجَموا عَلى عُثمانَ فَأَوثَقوهُ رِباطا ، وعَمَدوا إلى لِحيَتِهِ _ وكانَ شَيخا كَثَّ اللِّحَيةِ _ فَنَتَفوها حَتّى لَم يَبقَ مِنها شَيءٌ ولا شَعرَةٌ واحِدَةٌ ! وقالَ طَلحَةُ : عَذِّبُوا الفاسِقَ ، وَانتِفوا شَعرَ حاجِبَيهِ ، وأشفارَ عَينَيهِ ، وأوثِقوهُ بِالحَديدِ ! (3)
راجع : تاريخ الطبري : ج4 ص469 ، الكامل في التاريخ : ج2 ص319 ، مروج الذهب : ج2 ص367 ، أنساب الأشراف : ج3 ص26 ، الإمامة والسياسة : ج1 ص88 ، تاريخ اليعقوبي : ج2 ص181 .
6 / 6أمرُ عائِشَةَ بِقَتلِ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍالجمل :قالَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ لِعائِشَةَ [بَعدَما أخَذا عُثمانَ بنَ حُنَيفٍ] : ما تَأمُرينَ في عُثمانَ ؟ فَإِنَّهُ لِما بِهِ .
.
ص: 174
فَقالَت : اُقتُلوهُ قَتَلَهُ اللّهُ ! وكانَت عِندَهَا امرَأَةٌ مِن أهلِ البَصرَةِ فَقالَت لَها : يا اُمّاه !أينَ يُذهَبُ بِكِ ؟ ! أ تَأمُرينَ بِقَتلِ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ ، وأخوهُ سَهلٌ خَليفَةٌ عَلَى المَدينَةِ ، ومَكانُهُ مِنَ الأَوسِ وَالخَزرَجِ ما قَد عَلِمتِ ! وَاللّهِ ، لَئِن فَعَلتِ ذلِكَ لَتَكونَنَّ لَهُ صَولَةٌ بِالمَدينَةِ يُقتَلُ فيها ذَراري قُرَيشٍ . فَنابَ إلى عائِشَةَ رَأيُها وقالَت : لا تَقتُلوهُ ، ولكِنِ احبِسوهُ وضَيِّقوا عَلَيهِ حَتّى أرى رَأيي . فَحُبِسَ أيّاما، ثُمَّ بَدا لَهُم في حَبسِهِ ، وخافوا مِن أخيهِ أن يَحبِسَ مَشايِخَهُم بِالمَدينَةِ ويوقِعَ بِهِم ، فَتَرَكوا حَبسَهُ (1) .
تاريخ الطبري عن سهل بن سعد :لَمّا أخَذوا عُثمانَ بنَ حُنَيفٍ ، أرسَلوا أبانَ بنَ عُثمانَ إلى عائِشَةَ يَستَشيرونَها في أمرِهِ ، قالَت : اُقتُلوهُ ! فَقالَت لَهَا امرَأَةٌ : نَشَدتُكِ بِاللّهِ يا اُمَّ المُؤمِنينَ في عُثمانَ وصُحبَتِهِ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ! قالَت : رُدّوا أبانا ، فَرَدّوهُ . فَقالَت : اِحبِسوهُ ولا تَقتُلوهُ ، قالَ : لَو عَلِمتُ أنَّكِ تَدعيني لِهذا لَم أرجِع ! فَقالَ لَهُم مُجاشِعُ بنُ مَسعودٍ : اِضرِبوهُ وَانتِفوا شَعرَ لِحيَتِهِ . فَضَربوهُ أربَعينَ سَوطا، ونَتَفوا شَعرَ لِحَيتِهِ ورَأسِهِ وحاجِبَيهِ وأشفارَ عَينَيهِ، وحَبَسوهُ (2) .
6 / 7اِستبِصارُ أبي بَكرَةَ لَمّا رَأى عائِشَةَ تَأمُرُ وتَنهىصحيح البخاري عن أبي بكرة(3) : لَقَد نَفَعَنِي اللّهُ بِكَلِمَةٍ أيّامَ الجَمَلِ ، لَمّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله أن
.
ص: 175
فارِساً مَلَّكُوا ابنَةَ كِسرى قال : «لَن يُفلِحَ قَومٌ وَلَّوا أمرَهُمُ امرَأَةً» (1) .
المستدرك على الصحيحين عن أبي بكرة :لَمّا كانَ يَومُ الجَمَلِ أرَدتُ أن آتِيَهُم اُقاتِلُ مَعَهُم، حَتّى ذَكَرتُ حَديثا سَمِعتُهُ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ كِسرى أو بَعضَ مُلوكِ الأَعاجِمِ ماتَ ، فَوَلَّوا أمرَهُمُ امرَأَةً ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : «لا يُفلِحُ قَومٌ تَملِكُهُمُ امرَأَةٌ» (2) .
6 / 8قَتلُ المُعارِضينَتاريخ الطبري عن الزهري :قامَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ خَطيبَينِ فَقالا : يا أهلَ البَصرَةِ !تَوبَةٌ بِحَوبَةٍ ، إنَّما أردَنا أن يُستَعتَبَ أميرُ المُؤمِنينَ عُثمانُ ، ولَم نُرِد قَتلَهُ ، فَغَلَبَ سُفَهاءُ النّاسِ الحُلَماءَ حَتّى قَتَلوهُ . فَقالَ النّاسُ لِطَلحَةَ : يا أبا مُحَمَّدٍ ، قَد كانَت كُتُبُكَ تَأتينا بِغَيرِ هذا ! فَقالَ الزُّبَيرُ : فَهَل جاءَكُم مِنّي كِتابٌ في شَأنِهِ ؟ ثُمَّ ذَكَرَ قَتلَ عُثمانَ وما أتى إلَيهِ، وأظهَرَ عَيبَ عَلِيٍّ . فَقامَ إلَيهِ رَجُلٌ مِن عَبدِ القَيسِ فَقالَ : أيُّهَا الرَّجُلُ ! أنصِت حَتّى نَتَكَلَّمَ ، فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ : وما لَكَ ولِلكَلامِ ؟ فَقالَ العَبدِيُّ :
.
ص: 176
يامَعشَرَ المُهاجِرينَ ، أنتُم أوَّلُ مَن أجابَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَكانَ لَكُم بِذلِكَ فَضلٌ ، ثُمَّ دَخَلَ النّاسُ فِي الإِسلامِ كَما دَخَلتُم ، فَلَمّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بايَعتُم رَجُلاً مِنكُم ، وَاللّهِ مَا استَأمَرتُمونا في شَيءٍ مِن ذلِكَ ، فَرَضينا وَاتَّبَعناكُم ، فَجَعَلَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ لِلمُسلِمِينَ في إمارَتِهِ بَرَكَةً ، ثُمَّ ماتَ وَاستَخلَفَ عَلَيكُم رَجُلاً مِنكُم فَلَم تُشاوِرونا في ذلِكَ ، فَرَضينا وسَلَّمنا ، فَلَمّا تُوُفِّيَ الأَميرُ جَعَلَ الأَمرَ إلى سِتَّةِ نَفَرٍ ، فَاختَرتُم عُثمانَ وبايَعتُموهُ عَن غَيرِ مَشورَةٍ مِنّا ، ثُمَّ أنكَرتُم مِن ذلِكَ الرَّجُلِ شَيئا فَقَتَلتُموهُ عَن غَيرِ مَشوَرةٍ مِنّا ، ثُمَّ بايَعتُم عَلِيّا عَن غَيرِ مَشورَةٍ مِنّا ، فَمَا الَّذي نَقَمتُم عَلَيهِ فَنُقاتِلَهُ ؟ هَلِ استَأثَرَ بِفَيءٍ ؟ أو عَمِلَ بِغَيرِ الحَقِّ ؟ أو عَمِلَ شَيئاً تُنكِرونَهُ فَنَكونَ مَعَكُم عَلَيهِ ؟ وإلّا فَما هذا ؟ فَهَمّوا بِقَتلِ ذلِكَ الرَّجُلِ ، فَقامَ مِن دونِهِ عَشيرَتُهُ ، فَلَمّا كانَ الغَدُ وَثَبوا عَلَيهِ وعَلى مَن كانَ مَعَهُ ، فَقَتَلوا سَبعينَ رَجُلاً (1) .
6 / 9إعلامُ خَبَرِ احتِلالِ البَصرَةِتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة_ في ذِكرِ أصحابِ الجَمَلِ _: كَتَبوا إلى أهلِ الشّامِ بَما صَنَعوا وصاروا إلَيهِ : إنّا خَرَجنا لِوَضعِ الحَربِ ، وإقامَةِ كِتابِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِقامَةِ حُدودِهِ فِي الشَّريفِ وَالوَضيعِ وَالكَثيرِ وَالقَليلِ ، حَتّى يَكونَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذي يَرُدُّنا عَن ذلِكَ . فَبايَعَنا خِيارُ أهلِ البَصرَةِ ونُجباؤُهُم ، وخالَفَنا شِرارُهُم ونُزّاعُهُم ، فَرَدّونا بِالسِّلاحِ وقالوا فيما قالوا : نَأخُذُ اُمَّ المُؤمِنينَ رَهينَةً ؛ أن أمَرَتهُم بِالحَقِّ وحَثَّتهُم عَلَيهِ .
.
ص: 177
فَأَعطاهُمُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ سُنّةَ المُسلِمينَ مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ ، حَتّى إذا لَم يَبقَ حَجَّةٌ ولا عُذرٌ استَبسَلَ قَتَلَةُ أميرِ المُؤمِنينَ ، فَخَرَجوا إلى مَضاجِعِهِم ، فَلَم يَفلِت مِنهُم مُخبِرٌ إلّا حُرقوصَ بنَ زُهَيرٍ ، وَاللّهُ سُبحانَهُ مُقيدُهُ إن شاءَ اللّهُ . وكانوا كَما وَصَفَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ . وإنّا نُناشِدُكُمُ اللّهَ في أنفُسِكُم إلّا نَهَضتُم بِمِثلِ ما نَهَضنا بِهِ ، فَنَلقَى اللّهَ عَزَّ وجَلَّ وتَلقَونَهُ ، وقَد أعذَرنا وقَضَينَا الَّذي عَلَينا . . . وكَتَبوا إلى أهلِ الكوفَةِ بِمِثلِهِ . . . وكَتَبوا إلى أهلِ اليَمامَةِ . . . وكَتَبوا إلى أهلِ المَدينَةِ (1) .
6 / 10كِتابُ عائِشَةَ إلى حَفصَةَشرح نهج البلاغة عن أبي مخنف :لَمّا نَزَلَ عَلِيٌّ عليه السلام ذا قارٍ ، كَتَبَت عائِشَةُ إلى حَفصَةَ بِنتِ عُمَرَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّي اُخبِرُكِ أنَّ عَلِيّاً قَد نَزَلَ ذا قارٍ ، وأقامَ بِها مَرعوبا خائِفا لِما بَلَغَهُ مِن عُدَّتِنا وجَماعَتِنا ، فَهُو بِمَنزِلَةِ الأَشقَرِ ؛ إن تَقَدَّمَ عُقِرَ ، وإن تَأَخَّرَ نُحِرَ . فَدَعَت حَفصَةُ جَوارِيَ لَها يَتَغَنَّينَ ويَضرِبنَ بِالدُّفوفِ ، فَأَمَرَتهُنَّ أن يَقُلنَ في غِنائِهِنَّ : مَا الخَبَرُ مَا الخَبَرُ ؟! عَلِيٌّ فِي السَّفَرِ ، كَالفَرَسِ الأَشقَرِ ، إن تَقَدَّمَ عُقِرَ ، وإن تَأَخَّرَ نُحِرَ . وجَعَلَت بَناتُ الطُّلَقاءِ يَدخُلنَ عَلى حَفصَةَ ، ويَجتَمِعنَ لِسَماع ذلِكَ الغِناءِ .
.
ص: 178
فَبَلَغَ اُمَّ كُلثومٍ بِنتَ عَلِيٍّ عليه السلام فَلَبِسَت جَلابيبَها ودَخَلَت عَلَيهِنَّ في نِسوَةٍ مُتَنَكِّراتٍ ، ثُمَّ أسفَرَت عَن وَجهِها ، فَلَمّا عَرَفَتها حَفصَةُ خَجِلَت وَاستَرجَعَت . فَقالَت اُمُّ كُلثومٍ : لَئِن تَظاهَرتُما عَلَيهِ مُنذُ اليَومِ لَقد تَظاهَرتُما عَلى أخيهِ مِن قَبلُ ، فَأَنزَلَ اللّهُ فيكُما ما أنزَلَ . فَقالَت حَفصَةُ : كُفّي رَحِمَكِ اللّهُ ! وأمَرَت بِالكِتابِ فَمُزِّقَ، وَاستَغفَرَتِ اللّهَ (1) .
.
ص: 179
الفصل السابع : من ذي قار إلى البصرة7 / 1أخذُ البَيعَةِ عَلى مَن حَضَرَالإرشاد عن ابن عبّاس :لَمّا نَزَلَ [الاِءمامُ عَلِيٌّ عليه السلام ] بِذي قارٍ أخَذَ البَيعَةَ عَلى مَن حَضَرَهُ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَأَكثَرَ مِنَ الحَمدِ للّهِِ وَالثَّناءِ عَلَيهِ وَالصَّلاةِ عَلى رَسولِ اللّهِ، صلى الله عليه و آله ثُمَّ قالَ : قَد جَرَت اُمورٌ صَبَرنا عَلَيها _ وفي أعيُنِنَا القَذى _ تَسليما لِأَمرِ اللّهِ تَعالى فيمَا امتَحَنَنا بِهِ رَجاءَ الثَّوابِ عَلى ذلِكَ ، وكانَ الصَّبرُ عَلَيها أمثَلَ مِن أن يَتَفَرَّقَ المُسلِمونَ وتُسفَكَ دِماؤُهُم . نَحنُ أهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ ، وأحَقُّ الخَلقِ بِسُلطانِ الرِّسالَةِ ، ومَعدِنُ الكَرامَةِ الَّتِي ابتَدَأَ اللّهُ بِها هذِهِ الاُمَّةَ . وهذا طَلحَةُ وُالزُّبَيرُ لَيسا مِن أهلِ النُّبُوَّةِ ولا مِن ذُرِّيَّةِ الرَّسولِ ، حينَ رَأَيا أنَّ اللّهَ قَد رَدَّ عَلَينا حَقَّنا بَعدَ أعصُرٍ ، فَلَم يَصبِرا حَولاً واحِدا ولا شَهرا كامِلاً حَتّى وَثَبا عَلى دَأبِ الماضينَ قَبلَهُما ، لِيَذهَبا بِحَقّي ، ويُفَرِّقا جَماعَةَ المُسلِمينَ عَنّي . ثُمَّ دَعا عَلَيهِما (1) .
.
ص: 180
7 / 2خُطَبُ الإِمامِ بِذي قارٍنهج البلاغة_ في ذِكرِ خُطبَةٍ لَهُ عليه السلام عِندَ خُروجِهِ لِقتالِ أهلِ البَصرَةِ _: قالَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ : دَخَلتُ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام بِذي قارٍ وهُوَ يَخصِفُ نَعلَهُ ، فَقالَ لي : ما قيمَةُ هذَا النَّعلِ ؟ فَقُلتُ : لا قيمَةَ لَها ! فَقالَ عليه السلام : وَاللّهِ لَهِيَ أحَبُّ إلَيَّ مِن إمرَتِكُم، إلّا أن اُقيمَ حَقّا أو أدفَعَ باطِلاً . ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقالَ : إنَّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ولَيسَ أحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقرَأُ كِتابا ولا يَدّعي نُبُوَّةً ، فَساقَ النّاسَ حَتّى بَوَّأَهُم محَلَّتَهُم وبَلَّغَهُم مَنجاتَهُم ، فَاستَقامَت قَناتُهُم وَاطمَأَنَّت صَفاتُهُم . أمَا وَاللّهِ ، إن كُنتُ لَفي ساقَتِها (1) حَتّى تَوَلَّت بِحَذافيرِها ، ما عَجَزتُ ولا جَبُنتُ ، وإنَّ مَسيري هذا لِمِثلِها ، فَلَأَنقُبَنَّ الباطِلَ حَتّى يَخرُجَ الحَقُّ مِن جَنبِهِ . ما لي ولِقُرِيشٍ ! وَاللّهِ ، لَقَد قاتَلتُهُم كافرينَ ولَاُقاتِلَنَّهُم مَفتونينَ ، وإنّي لَصاحِبُهُم بِالأَمسِ كَما أنَا صاحِبُهُمُ اليَومَ ! وَاللّهِ ما تَنقِمُ مِنّا قُرَيشٌ إلّا أنَّ اللّهَ اختارَنا عَلَيهِم ، فَأَدخَلناهُم في حَيِّزِنا، فكانوا كَما قالَ الأَوَّلُ : أدَمتَ لَعَمري شُربَكَ المَحضَ صابِحاً وأكلَكَ بِالزُّبدِ المُقَشَّرَةَ البُجرا ونَحنُ وَهَبناكَ العَلاءَ ولَم تَكُن عَلِيّا وحُطنا حَولَكَ الجُردَ وَالسُّمرا (2)
شرح نهج البلاغة عن زيد بن صوحان:شَهِدتُ عَلِيّا عليه السلام بِذي قارٍ وهُوَ مُعتَمٌّ بِعِمامَةً سَوداءَ مُلتَفٌّ بِساجٍ يَخطُبُ، فَقالَ في خُطبَةٍ :... قَد عَلِمَ اللّهُ سُبحانَهُ أنّي كُنتُ كارِها لِلحُكومَةِ بَينَ اُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، ولَقَد سَمِعتُه يَقولُ : «ما مِن والٍ يَلي شَيئا مِن أمرِ اُمَّتي إلّا اُتِيَ بِهِ يَومَ القِيامَةِ مَغلولَةً يَداهُ إلى عُنُقِهِ عَلى رُؤوسِ الخَلائِقِ ، ثُمَّ يُنشَرُ كِتابُهُ ،
.
ص: 181
فَإِن كانَ عادِلاً نَجا ، وإن كانَ جائِرا هَوى» . حَتَّى اجتَمَعَ عَلَيَّ مَلَؤُكُم ، وبايَعَني طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، وأنَا أعرِفُ الغَدرَ في أوجُهِهِما ، وَالنَّكثَ في أعيُنِهِما ، ثُمَّ استَأذَناني فِي العُمرَةِ ، فَأَعلَمتُهُما أن لَيسَ العُمرَةَ يُريدانِ ، فَسارا إلى مَكَّةَ وَاستَخَفّا عائِشَةَ وخَدَعاها ، وشَخَصَ مَعَهُما أبناءُ الطُّلَقاءِ ، فَقَدِمُوا البَصرَةَ ، فَقَتَلوا بِهَا المُسلِمينَ ، وفَعَلوا المُنكَرَ . ويا عَجَبا لِاستِقامَتِهِما لِأَبي بَكرٍ وعُمَرَ وَبغيِهِما عَلَيَّ ! وهُما يَعلَمانِ أنّي لَستُ دونَ أحَدهِمِا ، ولَو شِئتُ أن أقولَ لَقُلتُ ، ولَقَد كانَ مُعاوِيَةُ كَتَبَ إلَيهِما مِنَ الشّامِ كِتابا يَخدَعُهُما فيهِ ، فَكَتَماهُ عَنّي ، وخَرَجا يوهِمانِ الطَّغامَ (1) أنَّهُما يَطلُبانِ بِدَمِ عُثمانَ . وَاللّهِ ، ما أنكَرا عَلَيَّ مُنكَرا ، ولا جَعَلا بَيني وبَينَهُم نَصِفا (2) ، وإنَّ دَمَ عُثمانَ لَمَعصوبٌ بِهِما ، ومَطلوبٌ مِنهُما . يا خَيبَةَ الدّاعي ! إلامَ دَعا ؟ وبِماذا اُجيبَ ؟ وَاللّهِ ، إنَّهُما لَعَلى ضَلالَةٍ صَمّاءَ ، وجَهالَةٍ عَمياءَ ، وإنَّ الشَّيطانَ قَد ذَمَّرَ لَهُما حِزبَهُ ، وَاستَجلَبَ مِنهُما خَيلَهُ ورَجِلَهُ ، لِيُعيدَ الجَورَ إلى أوطانِهِ ، وَيُردَّ الباطِلَ إلى نِصابِهِ . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيهِ ، فَقالَ : اللّهُمَّ إنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ قَطَعاني ، وظَلَماني ، وألّبَا عَلَيَّ ، ونَكَثا بَيعَتي ، فَاحلُل ما عَقَدا ، وَانكُث ما أبرَما ، ولا تغفِر لَهُما أبَدا ، وأرِهِمَا المَساءَةَ فيما عَمِلا وأمَّلا ! (3)
الإرشاد :مِن كَلامِهِ عليه السلام _ وقَد نَهَضَ مِن ذي قارٍ مُتَوَجِّها إلَى البَصرَةِ _ بَعدَ حَمدِ اللّهِ وَالثَّناءِ عَليهِ وَالصَّلاةِ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله :
.
ص: 182
أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ اللّهَ تَعالى فَرَضَ الجِهادَ وعَظَّمَهُ وجَعَلَهُ نُصرَةً لَهُ ، وَاللّهِ ، ما صَلَحَت دُنيا قَطُّ ولا دينٌ إلّا بِهِ ، وإنَّ الشَّيطانَ قَد جَمَعَ حِزبَهُ وَاستَجلَبَ خَيلَهُ، وشَبَّهَ في ذلِكَ وخَدَعَ ، وقَد بانَتِ الاُمورُ وتَمَخَّضَت ، وَاللّهِ ما أنكَروا عَلَيَّ مُنكَرا ، ولا جَعَلوا بَيني وبَينَهُم نِصفا ، وإنَّهُم لَيَطلُبونَ حَقّا تَرَكوهُ ودَما هُم سَفَكوهُ ! ولَئِن كُنتُ شَرِكتُهُم فيهِ ، إنَّ لَهُم لَنَصيبَهُم مِنهُ ، ولَئِن كانوا وَلوهُ دوني فَما تَبِعتُهُ إلّا قِبَلَهُم ، وإنَّ أعظَمَ حُجَّتِهِم لَعَلى أنفُسِهِم ، وإنّي لَعَلى بَصيرَتي ما لُبِّسَت عَلَيَّ ، وإنَّها لَلفِئَةُ الباغِيَةُ، فيهَا الحُمّى وَالحُمَةُ (1) ، قَد طالَت هُلبَتُها (2) ، وأمكَنَت دِرَّتُها (3) ، يَرضَعونَ اُمّا فَطَمَت ، ويُحيونَ بَيعَةً تُرِكَت ؛ لِيَعودَ الضَّلالُ إلى نِصابِهِ . ما أعتَذِرُ مِمّا فَعَلتُ ، ولا أتَبَرَّأُ مِمّا صَنَعتُ ، فَخَيَبَةً لِلدّاعي ومَن دَعا ، لَو قيلَ لَهُ : إلى مَن دَعواكَ ؟ وإلى مَن أجَبتَ ؟ ومَن إمامُك ؟ وما سُنَّتُهُ ؟ إذا لَزاحَ الباطِلُ عَن مَقامِهِ ، ولَصَمَتَ لِسانُهُ فَما نَطَقَ . وَايمُ اللّهِ ، لَأُفرِطَنَّ (4) لَهُم حَوضا أنَا ماتِحُهُ (5) ، لا يَصدُرونَ عَنهُ ولا يَلقَونَ بَعدَهُ رِيّا أبَدا ، وإنّي لَراضٍ بِحُجَّةِ اللّهِ عَلَيهِم وعُذرِهِ فيهِم ، إذ أنَا داعيهِم فَمُعذِرٌ إلَيهِم ، فَإِن تابوا وأقبَلوا فَالتَّوبَةُ مَبذولَةٌ وَالحَقُّ مَقبولٌ ، ولَيسَ عَلَى اللّهِ كُفرانٌ ، وإن أبَوا أعطَيتُهُم حَدَّ السَّيفِ وكَفى بِهِ شافِيا مِن باطِلٍ وناصِرا لِمُؤمِنٍ (6) .
الإرشاد عن سلمة بن كهيل :لَمَّا التَقى أهلُ الكوفَةِ وأميرُ المؤمِنينَ عليه السلام بِذي قارٍ رَحَّبوا بِهِ وقالوا : الحَمدُ للّهِِ الَّذي خَصَّنا بِجِوارِكَ وأكرَمَنا بِنُصرَتِكَ . فَقامَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام فيهِم
.
ص: 183
خَطيبا فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : يا أهلَ الكوفَةِ ! إنَّكُم مِن أكرَمِ المُسلِمينَ وأقصَدِهِم تَقويما ، وأعدَلِهِم سُنَّةً ، وأفضَلِهِم سَهما فِي الإِسلامِ ، وأجوَدِهِم فِي العَرَبِ مُرَكَّبا (1) ونِصابا (2) ، أنتُم أشَدُّ العَرَبِ وُدّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ولِأَهلِ بَيتِهِ ، وإنَّما جِئتُكُم ثِقَةً _ بَعدَ اللّهِ _ بِكُم لِلَّذي بَذَلتُم مِن أنفُسِكُم عِندَ نَقضِ طَلحَةَ والزُّبَيرِ وخَلعِهِما طاعَتي ، وإقبالِهِما بِعائِشَةَ لِلفِتنَةِ ، وإخراجِهِما إيّاها مِن بَيتِها حَتّى أقدَماهَا البَصرَةَ ، فَاستَغوَوا طَغامَها وغَوغاءَها ، مَعَ أنَّهّ قَد بَلَغَني أنَّ أهل الفَضلِ مِنهُم وخِيارَهُم فِي الدّينِ قَدِ اعتَزَلوا وكَرِهوا ما صَنَعَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ . ثُمَّ سَكَتَ ، فَقالَ أهلُ الكوفَةِ : نَحنُ أنصارُكَ وأعوانُكَ عَلى عَدُوِّكَ ، ولَو دَعَوتَنا إلى أضعافِهِم مِنَ النّاسِ احتَسَبنا في ذلِكَ الخَيرَ ورَجَوناهُ (3) .
7 / 3قُدومُ عُثمانَ بنِ حُنَيفٍتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :لَمّا نَزَلَ عَلِيٌّ الثَّعلَبِيَّةَ (4) أتاهُ الَّذي لَقِيَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ وحَرَسُهُ ، فَقامَ وأخبَرَ القَومَ الخَبَرَ وقالَ : اللّهُمَّ عافِني مِمّا ابتَلَيتَ بِهِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ مِن قَتلِ المُسلَمينَ وسَلِّمنا مِنهُم أجمَعينَ . ولَمَّا انتَهى إلَى الاسادِ (5) أتاهُ ما لَقِيَ حُكَيمُ بنُ جَبَلَةَ وقَتَلَةُ عُثمانَ بنِ عَفّانٍ ،
.
ص: 184
فَقالَ : اللّهُ أكبَرُ، ما ينجيني مِن طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ إذ أصابا ثَأرَهُما أو يُنجيهِما ! وقَرَأَ : «مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَ لَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَا فِى كِتَ_بٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ» (1) ، وقالَ : دَعا حُكَيمٌ دَعوَةَ الزِّماعِ حَلَّ بِها مَنزِلَةَ النِّزاعِ ولَمَّا انتَهَوا إلى ذي قارٍ انتهى إلَيهِ فيها عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ ولَيسَ في وَجهِهِ شَعَرٌ ، فَلَمّا رَآهُ عَلِيٌّ نَظَرَ إلى أصحابِهِ فَقالَ : اِنطَلَقَ هذا مِن عِندِنا وهُوَ شَيخٌ فَرَجَعَ إلَينا وهُوَ شابٌّ ! (2)
الجمل :خَرَجَ ابنُ حُنَيفٍ حَتّى أتى أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام وهُوَ بِذي قارٍ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيهِ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، وقَد نَكَّلَ بِهِ القَومُ ، بَكى وقالَ : يا عُثمانُ، بَعَثتُكَ شَيخا ألحى فَرَدّوكَ أمرَدَ إلَيَّ ! اللّهُمَّ إنَّكَ تَعلَمُ أنَّهُمُ اجتَرَؤوا عَلَيكَ وَاستَحَلّوا حُرُماتِكَ ، اللّهُمَّ اقتُلهُم بِمَن قَتَلوا مِن شيعَتي ، وعَجِّل لَهُمُ النَّقمَةَ بِما صَنَعوا بِخَليفَتي (3) .
7 / 4اِتِّباعُ الحَقِّ عِندَ قِيامِ الحَقِّنهج البلاغة :مِن كَلامِهِ عليه السلام في وُجوبِ اتِّباعِ الحَقِّ عِندَ قِيامِ الحُجَّةِ كَلَّمَ بِهِ بَعضَ العَرَبِ ، وقَد أرسَلَهُ قَومٌ مِن أهلِ البَصرَةِ لَمّا قَرُبَ عليه السلام مِنها لِيَعلَمَ لَهُم مِنهُ حَقيقَةَ حالِهِ مَع أصحابِ الجَمَلِ لِتَزولَ الشُّبهَةُ مِن نُفوسِهِم ، فَبَيَّنَ لَهُ عليه السلام مِن أمرِهِ مَعَهُم ما عَلِمَ بِهِ أنَّه
.
ص: 185
عَلَى الحَقِّ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : بايِع . فَقالَ : إنّي رَسولُ قَومٍ ، ولا اُحدِثُ حَدَثا حَتّى أرجِعَ إلَيهِم . فَقالَ عليه السلام : أ رَأَيَت لَو أنَّ الَّذينَ وَراءَكَ بَعثوكَ رائِدا تَبتَغي لَهُم مَساقِطَ الغَيثِ ، فَرَجَعتَ إلَيهِم وأخبَرتَهُم عَنِ الكَلَأِ وَالماءِ ، فَخالَفوا إلى المَعاطِشِ وَالمَجادِبِ ، ما كُنتَ صانِعا ؟ قالَ : كُنتُ تارِكَهُم ومُخالِفَهُم إلَى الكَلَأِ وَالماءِ . فَقالَ عليه السلام : فَامدُد إذا يَدَكَ . فَقالَ الرَّجُلُ : فَوَاللّهِ مَا استَطَعتُ أن أمتَنِعَ عِندَ قِيامِ الحُجَّةِ عَلَيَّ ، فَبايَعتُهُ عليه السلام . وَالرَّجُلُ يُعرَفُ بِكُلَيبٍ الجَرمِيِّ (1) .
الجمل عن كُلَيبٍ :لَمّا قُتِلَ عُثمانُ ما لَبِثنا إلّا قَليلاً حَتّى قَدِمَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ البَصرَةَ ، ثُمَّ ما لَبِثنا بَعدَ ذلِكَ إلّا يَسيراً حَتّى أقبَلَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام فَنَزَلَ بِذي قارٍ ، فَقالَ شَيخانِ مِنَ الحَيِّ : اِذهَب بِنا إلى هذَا الرَّجُلِ فَنَنظُرُ ما يَدعو إلَيهِ ، فَلَمّا أتَينا ذا قارٍ قَدِمنا عَلى أذكَى العَرَبِ ، فَوَاللّهِ لَدَخَلَ عَلى نَسَبِ قَومي ، فَجَعَلتُ أقولُ : هُوَ أعلَمُ بِهِ مِنّي وأطوَعُ فيهِم . فَقالَ : مَن سَيِّدُ بَني راسِبٍ ؟ فَقُلتُ : فُلانٌ . قالَ : فَمَن سَيِّدُ بَني قُدامَةَ ؟ قُلتُ : فُلانٌ ، لِرَجُلٍ آخَرَ .
.
ص: 186
فَقالَ : أنتَ مُبَلِّغُهُما كِتابَينِ مِنّي ؟ قُلتُ : نَعَم . قالَ : أفَلا تُبايِعونّي ؟ فَبايَعَهُ الشَّيخانِ اللَّذانِ كانا مَعي وتَوَقَّفتُ عَن بَيعَتِهِ . فَجَعَلَ رِجالٌ عِندَهُ قَد أكَلَ السُّجودُ وُجوهَهُم يَقولونَ : بايِع، بايِع . فَقالَ عليه السلام : دَعُوا الرَّجُلَ . فَقُلتُ : إنَّما بَعَثَني قَومي رائِدا وساُنهي إلَيهِم ما رَأَيتُ ، فَإِن بايَعوا بايَعتُ ، وإنِ اعتَزَلُوا اعتَزَلتُ . فَقالَ لي : أ رَأَيتَ لَو أنَّ قَومَكَ بَعثوكَ رائِدا فَرَأَيتَ رَوضَةً وغَديرا ، فَقُلتَ : يا قَومي، النُّجعَةَ (1) النُّجعَةَ ! فَأَبَوا ، ما كُنتَ بِمُستَنجِحٍ (2) بِنَفسِكَ ؟ فَأَخَذتُ بِإِصبَعٍ مِن أصابِعِهِ وقُلتُ : اُبايِعُكَ عَلى أن اُطيعَكَ ما أطَعتَ اللّهَ ، فَإِذا عَصَيتَهُ فَلا طاعَةَ لَكَ عَلَيَّ . فَقالَ : نَعَم . وطَوَّلَ بِها صَوتَهُ ، فَضَرَبتُ عَلى يَدِهِ . ثُمَّ التَفَتَ إلى مُحَمَّدِ بنِ حاطِبٍ ، وكانَ في ناحِيَةِ القَومِ ، فَقالَ : إذَا انطَلَقتَ إلى قَومِكَ فَأَبلِغهُم كُتُبي وقَولي . فَتَحَوَّلَ إلَيهِ مُحَمَّدٌ حَتّى جَلَسَ بَينَ يَدَيهِ وقالَ : إنَّ قَومي إذا أتَيتُهُم يَقولونَ : ما يَقولُ صاحِبُكَ في عُثمانَ ؟ فَسَبَّ عُثمانَ الَّذينَ حَولَهُ ، فَرَأَيتُ عَلِيّا قَد كَرِهَ ذلِكَ حَتّى رَشَحَ جَبينُهُ وقالَ :
.
ص: 187
أيُّهَا القَومُ ! كُفّوا، ما إيّاكُم يَسأَلُ . قال : فَلَم أبرَح عَنِ العَسكَرِ حَتّى قَدِمَ عَلى عَلِيٍّ عليه السلام أهلُ الكوفَةِ فَجَعَلوا يَقولونَ : نَرى إخوانَنا مِن أهلِ البَصرَةِ يُقاتِلونَنا ، وجَعَلوا يَضحَكونَ ويَعجَبونَ ويَقولونَ : وَاللّهِ لَوِ التَقَينا لَتَعاطَينَا الحَقَّ ، كَأَنَّهُم يَرَون أنَّهُم لا يَقتَتِلونَ . وخَرَجتُ بِكِتابَي عَلِيٍّ عليه السلام فَأَتَيتُ أحَدَ الرَّجُلَينِ فَقَبِلَ الكِتابَ وأجابَهُ ، ودُلِلتُ عَلَى الآخَرِ ، وكانَ مُتَوارِياً ، فَلَو أنَّهُم قالوا لَهُ : كُلَيبٌ ، ما أذِنَ لي ، فَدَخَلتُ عَلَيهِ ودَفَعتُ الكتابَ إلَيهِ وقُلتُ : هذا كِتابُ عَلِيٍّ، وأخبَرتُهُ الخَبَرَ وقُلتُ : إنّي أخبَرتُ عَلِيّاً أنَّكَ سَيِّدُ قَومِكَ . فَأَبى أن يَقبَلَ الكِتابَ ولَم يُجِبهُ إلى ما سَأَلَهُ وقالَ : لا حاجَةَ لِيَ اليَومَ فِي السُّؤدَدِ . فَوَاللّهِ ، إنّي لَبِالبَصرَةِ ما رَجَعتُ إلى عَلِيٍّ حَتّى نَزَلَ العَسكَرُ ، ورَأَيتُ القَومَ الَّذينَ مَعَ عَلِيٍّ عليه السلام فَطَلَعَ القَومُ (1) .
تَعليقٌتشير الأكثريّة القريبة من الاتّفاق من النصوص التاريخيّة إلى أنّ عثمان بن حنيف قدم على الإمام وهو في ذي قار ، غير أنّ بعض المصادر تذكر بأنّه قدم عليه حينما كان في الرَّبَذة (2) . ويبدو أنّ القول الأوّل أقرب إلى الواقع ؛ لأنّ الإمام عليّا عليه السلام كان يلاحق أصحاب الجمل ، ولم تكن تفصله عنهم مسافة كبيرة . علما أنّ الإمام عليه السلام كان قد كتب من الرَّبَذة رسالة إلى عثمان بن حُنيف يُعلمه فيها بمسير أصحاب الجمل صوب البصرة . ونظرا لبعد الرَّبَذة عن البصرة ، يُستبعد أن
.
ص: 188
يكون الإمام توقّف هناك أكثر من شهر واحد ، بحيث يكون أصحاب الجمل قد ساروا نحو البصرة ، وبعد التصالح والقتال وحبس عثمان بن حنيف وإخراجه من الحبس ، ثمّ يكون عثمان قطع هذا الطريق الطويل والتحق بالإمام في الرَّبَذة ! ولكنّ الإمام عليه السلام كان قد سار من الرَّبَذة ، وعندما كان في ذي قار بانتظار قدوم مدد أهل الكوفة ، دخل عليه عثمان بن حنيف .
7 / 5قُدومُ الإِمامِ إلَى البَصرَةِمروج الذهب عن المنذر بن الجارود :لَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ عليه السلام البَصرَةَ دَخَلَ مِمّا يَلي الطَفَّ _ إلى أن قالَ _ : فَساروا حَتّى نَزَلُوا المَوضِعَ المَعروفَ بِالزّاوِيَةِ ، فَصَلّى أربَعَ رَكَعاتٍ ، وعَفَّرَ خَدَّيهِ عَلَى التُّرابِ ، وقَد خَالَطَ ذلِكَ دُموعَهُ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيهِ يَدعو : اللّهُمّ رَبَّ السَّمواتِ وما أظَلَّت، وَالأَرَضينَ وما أقَلَّت ، ورَبَّ العَرشِ العَظيمِ ، هذِهِ البَصرَةُ أسأَلُكَ مِن خَيرِها ، وأعوذُ بِكَ مِن شَرَّها ، اللّهُمَّ أنزِلنا فيها خَيرَ مُنزَلٍ وأنتَ خَيرُ المُنزِلينَ ، اللّهُمَّ إنّ هؤُلاءِ القَومَ قَد خَلَعوا طاعَتي وبَغَوا عَلَيَّ ونَكَثوا بَيعَتي ، اللّهُمَّ احقِن دِماءَ المُسلِمينَ (1) .
الإرشاد_ مِن كَلامِهِ عليه السلام حينَ دَخَلَ البَصرَةَ وجَمَعَ أصحابَهُ فَحَرَّضَهُم عَلَى الجِهادِ _: عِبادَ اللّهِ ! اِنهَدوا (2) إلى هؤُلاءِ القَومِ مُنشَرِحَةً صُدورُكُم بِقِتالِهِم ، فَإِنَّهُم نَكَثوا بَيعَتي وأخَرَجُوا ابنَ حُنَيفٍ عامِلي بَعدَ الضَّربِ المُبَرِّحِ وَالعُقوبَةِ الشَّديدَةِ ، وقَتَلُوا السَّيابِجَةَ (3) ، وقَتَلوا حُكيمَ بنَ جَبَلَةَ العَبدِيَّ، وقَتَلوا رِجالاً صالِحينَ ، ثُمَّ تَتَبَّعوا مِنهُم
.
ص: 189
مَن نَجا يَأخُذونَهُم في كُلِّ حائِطٍ وتَحتَ كُلِّ رابِيَةٍ ، ثُمَّ يَأتونَ بِهِم فَيَضرِبونَ رِقابَهُم صَبرا ! ما لَهُم قَاتَلَهُمُ اللّهُ أنّى يُؤفَكونَ ؟ ! اِنهَدوا إلَيهِم وكونوا أشِدّاءَ عَلَيهِم ، وَالقَوهُم صابِرينَ مُحتَسِبينَ ، تَعلَمونَ أنَّكُم مُنازِلوهُم ومُقاتِلوهُم ، وقَد وَطَّنتُم أنفُسَكُم عَلَى الطَّعنِ الدَّعسِيِّ (1) والضَّربِ الطِّلَخفِيِّ (2) ومُبارَزَةِ الأَقرانِ ، وأيُّ امرِئٍ مِنكُم أحَسَّ مِن نَفسِهِ رَباطَةَ جَأشٍ عِندَ اللِّقاءِ ، ورَأى مِن أحَدٍ مِن إخوانِهِ فَشَلاً ، فَليَذُبَّ عَن أخيهِ الَّذي فُضِّلَ عَلَيهِ كَما يَذُبُّ عَن نَفسِهِ ، فَلَو شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثلَهُ (3) .
.
ص: 190
. .
ص: 191
الفصل الثامن : جهود الإمام لمنع القتالعندما تحرّك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع قوّاته من ذي قار ، بعث صَعْصَعة بن صوحان إلى طلحة والزبير وعائشة ، ومعه كتاب تحدّث فيه عن إثارتهم للفتنة ، وذكر فيه موقفهم الحاقد الماكر من عثمان بن حُنيف ، وحذّرهم من مغبّة عملهم ، وعاد صعصعة فأخبره قائلاً : «رَأَيتُ قَوما ما يُريدونَ إلّا قِتالَكَ» (1) . وتأهّبت قوّات الطرفين للحرب ، بيد أنّ الإمام سلام اللّه عليه منع أصحابه من أن يبدؤوهم بقتال ، وحاول في بادئ أمره أن يردع اُولي الفتنة عن الحرب . وإنّ حديثه عليه السلام مع قادة جيش الجمل ، ومع الجيش نفسه يجلب الانتباه (2) . وبذل قصارى جهوده في سبيل المحافظة على الهدوء ، والحؤول دون اشتعال نار الحرب ، فبعث إلى قادة الجيش رسائل يحثّهم فيها على عدم الاصطدام (3) ، ثمّ أوفد مبعوثيه للتفاوض معهم (4) . ولمّا لم تثمر جهوده شيئا ، ذهب بنفسه إليهم (5) . ونلاحظ أن
.
ص: 192
الإمام عليه السلام قد ترجم لنا في تلك الرسائل والمحاورات شخصيّته وأبان عظيم قدره ، وأماط اللثام عن الموقف السابق الذي كان عليه مساعير الحرب ، وتحدّث مرّة اُخرى عن قتل عثمان وكيفيّته بدقّة تامّة ، وكشف أبعاد ذلك الحادث ، وأغلق على مثيري الفتنة تشبّثهم بالمعاذير الواهية . ولمّا وجد ذلك عقيما وتأهّب الفريقان للقتال ، أوصى عليه السلام أصحابه بمَلْك أنفسهم والمحافظة على الهدوء ، وقال : «لا تَعجَلوا حَتّى اُعذِرَ إلَى القَومِ . . .» . فقام إليهم فاحتجّ عليهم فلم يجد عند القوم إجابة . وبعد اللتيا والتي ، بعث ابن عبّاس ثانية من أجل التفاوض الأخير ؛ لعلّه يردعهم عن الحرب ؛ ، لئلّا تُسفك دماء المسلمين هدرا ، بيد أنّ القوم خُتم على سمعهم ، فلم يصغوا إلى رسول الإمام ، كما لم يصغوا إلى الإمام عليه السلام من قبل (1) . وقد كان لعائشة وعبد اللّه بن الزبير خاصّة الدور الأكبر في ذلك .
8 / 1رَسائِلُ الإِمامِ إلى رُؤَساءِ الفِتنَةِالأخبار الطوال :أقامَ عَلِيٌّ رضى الله عنه ثَلاثَةَ أيّامٍ يَبعَثُ رُسُلَهُ إلى أهلِ البَصرَةِ ، فَيَدعوهُم إلَى الرُّجوعِ إلَى الطّاعَةِ وَالدُّخولِ فِي الجَماعَةِ ، فَلَم يَجِد عِندَ القَومِ إجابَةً (2) .
الجمل :لَمّا سارَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام مِن ذي قارٍ قَدَّمَ صَعصَعَةَ بنَ صوحانَ بِكِتابٍ إلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وعَائِشَةَ ، يُعَظِّمُ عَلَيهِم حُرمَةَ الإِسلامِ ، ويُخَوِّفُهُم فيما صَنَعوهُ ، ويَذكُرُ لَهُم قَبيحَ مَا ارتَكَبوهُ مِن قَتلِ مَن قَتَلوا مِنَ المُسلِمينَ ، وما صَنَعوا بِصاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ ، وقَتلِهِمُ المُسلِمينَ صَبرا ، ويَعِظُهُم ويَدعوهُم إلَى
.
ص: 193
الطّاعَةِ . قالَ صَعصَعَةُ : فَقَدِمتُ عَلَيهِم فَبَدَأتُ بِطَلحَةَ فَأَعطَيتُهُ الكِتابَ وأدَّيتُ إلَيهِ الرِّسالَةَ ، فَقالَ : الآنَ ؟ ! حينَ عَضَّتِ ابنَ أبي طالِبٍ الحَربُ يَرفُقُ لَنا ! ثُمَّ جِئتُ إلَى الزُّبَيرِ فَوَجَدتُهُ أليَنَ مِن طَلحَةَ ، ثُمَّ جِئتُ إلى عائِشَةَ فَوَجَدتُها أسرَعَ النّاسِ إلَى الشَّرِّ ، فَقالَت : نَعَم قَد خَرَجتُ لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ ، وَاللّهِ لِأَفعَلَنَّ وأفعَلَنَّ ! فَعُدتُ إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَلَقيتُهُ قَبلَ أن يَدخُلَ البَصرَةَ ، فَقالَ : ما وَراءَكَ يا صَعصَعَةُ ؟ قُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، رَأَيتُ قَوما ما يُريدونَ إلّا قِتالَكَ ! فَقالَ : اللّهُ المُستَعانُ . ثُمَّ دَعا عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ فَقالَ : اِنطَلِق إلَيهِم فَناشِدهُم وذَكِّرهُمُ العَهدَ الَّذي لي في رِقابِهِم (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ _: أمّا بَعدُ ، فَقَد عَلِمتُما وإن كَتَمتُما ، أنّي لَم اُرِدِ النّاسَ حَتّى أرادوني ، ولَم اُبايِعُهم حَتّى بايَعوني . وإنَّكُما مِمَّن أرادَني وبايَعَني ، وإنَّ العامَّةَ لَم تُبايِعني لِسلطانٍ غالِبٍ ، ولا لِعَرَضٍ حاضِرٍ ، فَإِن كُنتُما بايَعتُماني طائِعَينِ ، فَارجِعا وتوبا إلَى اللّهِ مِن قَريبٍ ، وإن كُنتُما بايَعتُماني كارِهَينِ ، فَقَد جَعَلتُما لي عَلَيكُمَا السَّبيلَ بِإِظهارِكُما الطّاعَةَ ، وإسرارِكُمَا المَعصِيَةَ . ولَعَمري ، ما كُنتُما بِأَحَقِّ المُهاجِرينَ بِالتَّقِيَّةِ وَالكِتمانِ ، وإنَّ دَفعَكُما هذَا الأَمرَ مِن قَبلِ أن تَدخُلا فيهِ ، كانَ أوسَعَ عَلَيكُما مِن خُروجِكُما مِنهُ بَعدَ إقرارِكُما بِهِ . وقَد زَعَمتُما أنّي قَتَلتُ عُثمانَ ، فَبَيني وبَينَكُما مَن تَخَلَّفَ عَنّي وعَنكُما مِن أهل
.
ص: 194
المَدينَةِ ، ثُمَّ يُلزَمُ كُلُّ امرِى ءٍ بِقَدرِ مَا احتَمَلَ . فَارجِعا أيُّهَا الشَّيخانِ عَن رَأيِكُما ، فَإِنَّ الآنَ أعظَمَ أمرِكُمَا العارُ ، مِن قَبلِ أن يَتَجَمَّعَ العارُ وَالنّارُ ، وَالسَّلامُ (1) .
عنه عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى عائِشَةَ قَبلَ الحَربِ _: أمّا بَعدُ ، فَإِنَّكِ خَرَجتِ غاضِبَةً للّهِِ ولِرَسولِهِ ، تَطلُبينَ أمرا كانَ عَنكِ مَوضوعا ، ما بالُ النِّساءِ وَالحَربَ وَالإِصلاحَ بَينَ النّاسِ ؟! تُطالِبينَ بِدَمِ عُثمانَ ، ولَعَمري لَمَن عَرَّضَكِ لِلبَلاءِ ، وحَمَلَكِ عَلَى المَعصِيَةِ ، أعظَمُ إلَيكِ ذَنبا مِن قَتلَةِ عُثمانَ ! وما غَضِبتِ حَتّى أغضَبتِ ، وما هِجتِ حَتّى هَيَّجتِ ، فَاتَّقِي اللّهَ وَارجِعي إلى بَيتِكِ (2) .
8 / 2إشخاصُ ابنِ عَبّاسٍ إلَى الزُّبَيرِالبيان والتبيين عن عبد اللّه بن مصعب :أرسَلَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ رحمه اللهعَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ لَمّا قَدِمَ البَصرَةَ فَقالَ لَهُ : اِيتِ الزُّبَيرَ ولا تَأتِ طَلحَةَ؛ فَإِنَّ الزُّبَيرَ أليَنُ ، وإنَّكَ تَجِدُ طَلحَةَ كَالثَّورِ عاقِصا (3) قَرنَهُ ، يَركَبُ الصُّعوبَةَ ويَقولُ : هِيَ أسهَلُ ! فَأقرِئهُ السَّلامَ ، وقُل لَهُ : يَقولُ لَكَ ابنُ خالِكَ : عَرَفتَني بِالحِجازِ وأنكَرتَني بِالعِراقِ ، فَما عَدا مِمّا بَدا لَكَ ؟ قالَ : فَأَتَيتُ الزُّبَيرَ ، فَقالَ : مَرحَبا يَابنَ لُبابَةَ ، أزائِرا جِئتَ أم سَفيرا ؟ قُلتُ : كُلَّ ذلِكَ . وأبلَغتُهُ ما قالَ عَلِيٌّ .
.
ص: 195
فَقالَ الزُّبَيرُ : أبلِغهُ السَّلامَ وقُل لَهُ : بَينَنا وبَينَكَ عَهدُ خَليفَةٍ ، ودَمُ خَليفَةٍ ، واجتِماعُ ثَلاثَةٍ وَانفِرادُ واحِدٍ ، واُمٌّ مَبرورَةٌ ، ومُشاوَرَةُ العَشيرَةِ ، ونَشرُ المَصاحِفِ ، فَنُحِلُّ ما أحَلَّت ، ونُحَرِّمُ ما حَرَّمَت 1 .
8 / 3الاحتجاجاتُ عَلى عائِشَةَالفتوح :فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ دَعا عَلِيٌّ رضى الله عنهزَيدَ (1) بنَ صوحانَ وعَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ ، فَقالَ لَهُما : اِمضِيا إلى عائِشَةَ فَقولا لَها : أ لَم يَأمُركِ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى أن تَقَرّي في بَيتِكِ ؟ فَخُدِعتِ وَانخَدَعتِ ، وَاستُنفِرتِ فَنَفَرتِ ، فَاتَّقِي اللّهَ الَّذي إلَيهِ مَرجِعُكِ ومَعادُكِ ، وتوبي إلَيهِ فَإِنَّهُ يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ ، ولا يَحمِلَنَّكِ قَرابَةُ طَلحَةَ وحُبُّ عَبدِ اللّهِ بنِ الزُّبَيرِ عَلَى الأَعمالِ الَّتي تَسعى بِكِ إلَى النّارِ . قالَ : فَانطَلَقا إلَيها وبَلَّغاها رِسالَةَ عَلِيٍّ رضى الله عنه ، فَقالَت عائِشَةُ : ما أنَا بِرادَّةٍ عَلَيكُم شَيئا فَإِنّي أعلَمُ أنّي لا طَاقَةَ لي بِحُجَجِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ؛ فَرَجَعا إلَيهِ وأخبَراهُ بِالخَبَرِ (2) .
تاريخ الطبري عن القاسم بن محمّد :أقبَلَ جارِيَةُ بنُ قُدامَةَ السَّعدِيُّ ، فَقالَ : يا اُمَّ المُؤمِنينَ ! وَاللّهِ ، لَقَتلُ عُثمانَ بنِ عَفّانَ أهوَنُ مِن خُروجِكِ مِن بَيتِكِ عَلى هَذا الجَمَلِ المَلعونِ عُرضَةً لِلسِّلاحِ ! إنَّهُ قَد كانَ لَكِ مِنَ اللّهِ سِترٌ وحُرمَةٌ ، فَهَتَكتِ سِترَكِ وأبَحتِ حُرمَتَكِ ،
.
ص: 196
إنَّهُ مَن رأى قِتالَكِ فَإِنَّهُ يَرى قَتلَكِ ، وإن كُنتِ أتَيتِنا طائِعَةً فَارجِعي إلى مَنزِلِكِ ، وإن كُنتِ أتَيتِنا مُستَكرَهَةً فَاستَعيني بِالنّاس (1) .
المحاسن والمساوئ عن الحسن البصري :إنَّ الأَحنَفَ بنَ قَيسٍ قالَ لِعائِشَةَ يَومَ الجَمَلِ : يا اُمَّ المُؤمِنينَ هَل عَهِدَ عَلَيكِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله هذَا المَسيرَ ؟ قالَت : اللّهُمَّ لا . قالَ : فَهَل وجَدتِهِ في شَيءٍ مِن كِتابِ اللّهِ جَلَّ ذِكرُهُ ؟ قالَت : ما نَقرَأُ إلّا ما تَقرَؤونَ . قالَ : فَهَل رَأَيتِ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله استَعانَ بِشَيءٍ مِن نِسائِهِ إذا كانَ في قِلَّةٍ وَالمُشرِكونَ في كَثرَةٍ ؟ قَالت : اللّهُمَّ لا . قالَ الأَحنَفُ : فَإِذا ما هُوَ ذَنبُنا ؟ ! (2)
فتح الباري عن الحسن :إنَّ عائِشَةَ أرسَلَت إلى أبي بَكرَةَ فَقالَ : إنَّكِ لَاُمٌّ ، وإنَّ حَقَّكِ لَعَظيمٌ ، ولكِن سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : لَن يُفلِحَ قَومٌ تَملِكُهُمُ امرَأَةٌ (3) .
مروج الذهب :قامَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ بَينَ الصّفَّينِ فَقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! ما أنصَفتُم نَبِيَّكُم حينَ كَفَفتُم عَقائِلَكُم فِي الخُدورِ وأبرَزتُم عَقيلَتَهُ لِلسُّيوفِ ، وعائِشَةُ عَلى جَمَلٍ في هَودَجٍ مِن دُفوفِ الخَشَبِ قَد ألبَسوهُ المُسوحَ وجُلودَ البَقَرِ ، وجَعَلوا دونَهُ اللُّبودَ ، وقَد غُشِيَ عَلى ذلِكَ بِالدُّروعِ ، فَدَنا عَمّارٌ مِن مَوضِعِها ، فَنادى : إلى ماذا تَدعينَ ؟قالَت : إلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ ، فَقالَ : قاتَلَ اللّهُ في هذَا اليَومِ الباغِيَ وَالطّالِبَ بِغَيرِ الحَقِّ ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! إنَّكُم لَتَعلَمونَ أيُّنَا المُمالِئُ في قَتلِ عُثمانَ (4) .
مجمع الزوائد عن سعيد بن كوز :كُنتُ مَعَ مَولايَ يَومَ الجَمَلِ ، فَأَقبَلَ فارِسٌ فَقالَ : يا اُمَّ المُؤمِنينَ ! فَقالَت عائِشَةُ : سَلوهُ مَن هُوَ ؟ قيلَ : مَن أنتَ ؟ قالَ : أنَا عَمّارُ بن
.
ص: 197
ياسِرٍ ، قالَت : قولوا لَهُ : ما تُريدُ ؟ قالَ : أنشُدُكِ بِاللّهِ الَّذي أنزَلَ الكِتابَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله في بَيتِكِ ، أ تَعلَمينَ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله جَعَلَ عَلِيّا وصِيّا عَلى أهلِهِ ، وفي أهلِهِ ؟ قالَت : اللّهُمَّ نَعمَ . قالَ : فَما لَكِ ؟ قالَت : أطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ أميرِ المُؤمِنينَ . قالَ : فَتَكَلَّمَ . ثُمَّ جاءَ فَوارِسُ أربَعَةٌ فَهَتَفَ بِهِم رَجُلٌ مِنهُم . ثُمَّ قالَ : تَقولُ عائِشَةُ : ابنُ أبي طالِبٍ ورَبِّ الكَعبَةِ ، سَلوهُ مَن هُوَ ؟ ما يُريدُ ؟ قالوا : مَن أنتَ ؟ قالَ : أنَا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ . قالَت : سَلوهُ ما يُريدُ ؟ قالوا : ما تُريدُ ؟ قالَ : أنشُدُكِ بِاللّهِ الَّذي أنزَلَ الكِتابَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله في بَيتِكِ ، أ تَعلَمينَ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله جَعَلَني وَصِيّا عَلى أهلِهِ ، وفي أهلِهِ ؟ قالَت : اللّهُمَّ نَعَم . قالَ : فَما لَكِ ؟ قالَت : أطلُبُ بِدَمِ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ ! قالَ : أريني قَتَلَةَ عُثمانَ ! ! ثُمَّ انصَرَفَ وَالتَحَمَ القِتالُ (1) .
المحاسن والمساوئ عن سالم بن أبي الجعد :فَلَمّا كانَ حَربُ الجَمَلِ أقبلَتَ [عائِشَةُ ]في هَودَجٍ مِن حَديدٍ وهِيَ تَنظُرُ مِن مَنظَرٍ قَد صُيِّرَ لَها في هَودَجِها ، فَقالَتِ لرَجُلٍ مِن ضَبَّةَ وهُوَ آخِذٌ بِخِطامِ جَمَلِها أو بَعيرِها : أينَ تَرى عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ؟قالَ : ها هُوَ ذا واقِفٌ رافِعٌ يَدَهُ إلَى السَّماءِ ، فَنَظَرَت فَقالَت : ما أشبَهَهُ بِأَخيهِ !
.
ص: 198
قالَ الضَّبِّيُّ : ومَن أخوهُ ؟ قالَت : رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله . قالَ : فَلا أراني اُقاتِلُ رَجُلاً هُوَ أخو رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . فَنَبَذَ خِطامَ راحِلَتِها مِن يَدِهِ ومالَ إلَيهِ (1) .
8 / 4خُطبَةُ الإِمامِ لَمّا رَجَعَت رُسُلُهُالأمالي للطوسي عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي :لَمّا رَجَعَت رُسُلُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام مِن عِندِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وعائِشَةَ ، يُؤذِنونَهُ بِالحَربِ ، قامَ فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ ، ثُمَّ قالَ : يا أيُّهَا النّاسُ ! إنّي قَد راقَبتُ هؤُلاءِ القَومَ كَيما يَرعَووا أو يَرجِعوا ، وقَد وَبَّختُهُم بِنَكثِهِم وعَرَّفتُهُم بَغيَهُم ، فَلَيسوا يَستَجيبونَ ، ألا وقَد بَعَثوا إلَيَّ أن أبرُزَ لِلطِّعانِ ، وأصبِرَ لِلجِلادِ ، فَإِنَّما مَنَّتكَ نَفسُكَ مِن أبنائِنَا الأَباطيلَ (2) ، هَبِلَتهُمُ الهَبولُ (3) ، قَد كُنتُ وما اُهَدَّدُ بِالحَربِ ولا اُرَهَّبُ بِالضَّربِ ، وأنَا عَلى ما وَعَدَني رَبّي مِنَ النَّصرِ وَالتَّأييدِ وَالظَّفَرِ ، وإنّي لَعَلى يَقينٍ مِن رَبّي ، وفي غَيرِ شُبهَةٍ مِن أمري . أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ المَوتَ لا يَفوتُهُ المُقيمُ ، ولا يُعجِزُهُ الهارِبُ ، لَيسَ عَنِ المَوتِ مَحيصٌ ، مَن لَم يَمُت يُقتَل ، إنَّ أفضَلَ المَوتِ القَتلُ ، وَالَّذي نَفسُ ابنِ أبي طالِبٍ بِيَدِهِ لِأَلفُ ضَربَةٍ بِالسَّيفِ أهوَنُ عَلَيَّ مِن مَوتٍ عَلى فِراشٍ !
.
ص: 199
يا عَجَباً لِطَلحَةَ ! ألَّبَ عَلَى ابنِ عَفّانَ حَتّى إذا قُتِلَ أعطاني صَفَقَةَ يَمينِهِ طائِعاً ، ثُمَّ نَكَثَ بَيعَتي ، وطَفِقَ يَنعَى ابنَ عَفّانَ ظالِماً ، وجاءَ يَطلُبُني _ يَزعُمُ _ بِدَمِهِ ، وَاللّهِ ، ما صَنَعَ في أمرِ عُثمانَ واحِدَةً مِن ثَلاثٍ : لَئِن كانَ ابنُ عَفّانَ ظالِماً _ كَما كانَ يَزعُمُ _ حينَ حَصَرَهُ وألَّبَ عَلَيهِ ، إنَّهُ لَيَنبَغي أن يُؤازِرَ قاتِليهِ وأن يُنابِذَ ناصِريهِ ! وإن كانَ في تِلكَ الحالِ مَظلوماً ، إنَّهُ لَيَنبَغي أن يَكونَ مَعَهُ ! وإن كانَ في شَكٍّ مِنَ الخَصلَتَينِ ، لَقَد كانَ يَنبَغي أن يَعَتزِلَهُ ويَلزَمَ بَيتَهُ ويَدَعَ النّاسَ جانِباً ! فَما فَعَلَ مِن هذِهِ الخِصالِ واحِدَةً ، وها هُوَ ذا قَد أعطاني صَفَقَةَ يَمينِهِ غَيرَ مَرَّةٍ ثُمَّ نَكَثَ بَيعَتَهُ ! اللّهُمَّ فَخُذهُ ولا تُمهِلهُ . ألا وإنَّ الزُّبَيرَ قَطَعَ رَحِمي وقَرابَتي ، ونَكَثَ بَيعَتي ، ونَصَبَ لِيَ الحَربَ وهُوَ يَعلَمُ أنَّهُ ظالِمٌ لي ! اللّهُمَّ فَاكفِنيهِ بِما شِئتَ (1) .
8 / 5تَحذيرُ شَبابِ قُرِيشٍ مِنَ الحَربِالجمل عن صفوان :لَمّا تَصافَّ النّاسُ يَومَ الجَمَلِ صاحَ صائِحٌ مِن أصحابِ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : يا مَعاشِرَ شَبابِ قُرَيشٍ ! أراكُم قَد لَجَجتُم وغُلِبتُم عَلى أمرِكُم هذا ، وإنّي أنشُدُكُمُ اللّهَ أن تَحقِنوا دِماءَكُم ولا تَقتُلوا أنفُسَكُم ، اِتَّقُوا الأَشتَرَ النَّخَعِيَّ وجُندُبَ بنَ زُهيرٍ العامِرِيَّ ، فَإِنَّ الأَشتَرَ نَشَرَ دِرعَهُ حَتّى يَعفُوَ أثَرُهُ ، وإنَّ جُندَباً يَخرِمُ دِرعَهُ حَتّى يُشَمَّرَ عَنهُ ، وفي رايَتِهِ عَلامَةٌ حَمراءُ ، فَلَمَّا التَقَى النّاسُ أقبَلَ الأَشتَرُ وجُندَبٌ قِبالَ الجَمَلِ يَرفُلانِ فِي السِّلاحِ حَتّى قَتَلا عَبدَ الرَّحمنِ بنَ عَتّابِ بنِ أسيدٍ ومَعبَدَ بنَ زُهَيرِ بنِ خَلَفِ بنِ اُمَيَّةَ ، وعَمَدَ جُندُبٌ لِابنِ الزُّبَيرِ فَلَمّا عَرَفَهُ قالَ : أترُكُكَ لِعائِشَةَ . . .
.
ص: 200
ورَوى مُحَمَّدُ بنُ موسى عن مُحَمَّدِ بنِ إبراهيمَ عَن أبيهِ قالَ : سَمِعتُ مُعاذَ بنَ عُبَيدِ اللّهِ التّميمِيَّ _ وكانَ قَد حَضَرَ الجَمَلَ _ يَقولُ : لَمَّا التَقَينا وَاصطَفَفنا نادى مُنادي عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام : يا مَعاشِرَ قُرَيشٍ ! اِتَّقُوا اللّهَ عَلى أنفُسِكُم ، فَإِنّي أعلَمُ أنَّكُم قَد خَرَجتُم وظَنَنتُم أنَّ الأَمرَ لا يَبلُغُ إلى هذا ، فَاللّهَ اللّهَ في أنفُسِكُم ! فَإِنَّ السَّيفَ لَيسَ لَهُ بُقيا ، فَإِن أحبَبتُم فَانصَرِفوا حَتّى نُحاكِمَ هؤُلاءِ القَومَ ، وإن أحبَبتُم فَإِلَيَّ فَإِنَّكُم آمِنونَ بِأَمانِ اللّهِ . فَاستَحيَينا أشَدَّ الحَياءِ وأبصَرنا ما نَحنُ فيهِ ، ولكِنَّ الحِفاظَ (1) حَمَلَنا عَلَى الصَّبرِ مَعَ عائِشَةَ حَتّى قُتِلَ مَن قُتِلَ مِنّا ، فَوَاللّهِ ، لَقَد رَأَيتُ أصحابَ عَلِيٍّ عليه السلام وقَد وَصَلوا إلَى الجَمَلِ وصاحَ مِنهُم صائِحٌ : اِعقِروهُ ، فَعَقَروهُ فَوَقَعَ ، فَنادى عَلِيٌّ عليه السلام : «مَن طَرَحَ السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، ومَن دَخَلَ بَيتَهُ فَهُوَ آمِنٌ» . فَوَاللّهِ ما رَأَيتُ أكرَمَ عَفوا مِنهُ . ورَوى سُلَيمانُ بنُ عَبدِ اللّهِ بنِ عُوَيمرٍ الأَسلَمِيُّ قالَ : قالَ ابنُ الزُّبَيرِ : إنّي لَواقِفٌ في يَمينِ رَجُلٍ مِن قُرَيشٍ إذ صاحَ صائِحٌ : يا مَعشَرَ قُرَيشٍ ! اُحذِّرُكُمُ الرَّجُلَينِ : جُندُباً العامِرِيَّ وَالأَشتَرَ النَّخَعِيَّ . قالَ: وسَمِعتُ عَمّاراً يَقولُ لِأَصحابِنا : ما تُريدونَ وما تَطلُبونَ ؟ فَنادَيناهُ : نَطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ ، فَإِن خَلَّيتُم بَينَنا وبَينَ قَتَلَتِهِ رَجَعنا عَنكُم . فَقالَ عَمّارٌ : لَو سَأَلتُمونا _ أن تَرجِعوا عَنّا _ بِئسَ الفَحلُ ؛ فإنّه ألأَمُ الغَنَمِ فَحلاً وشَرُّها لحَماً ما أعطَيناكُموهُ . ثُمَّ التَحَمَ القِتالُ ونادَيناهُم : مَكِّنونا مِن قَتَلَةِ عُثمانَ ونَرجِعُ عَنكُم . فَنادانا عَمّارٌ : قَد فَعَلنا ، هذِهِ عائِشَةُ وطَلحَةُ وَالزُّبَيرُ قَتَلوهُ عَطَشاً ، فَابدَؤوا بِهِم ، فَإِذا فَرَغتُم مِنهُم تَعالَوا إلَينا نَبذُل لَكُمُ الحَقَّ . فَأَسكَتَ وَاللّهِ أصحابَ الجَمَلِ كُلَّهُم (2) .
.
ص: 201
8 / 6اِعتِزالُ شابَّينِ مِنَ الحَربِتاريخ الطبري عن القاسم بن محمّد :خَرَجَ غُلامٌ شابٌّ مِن بَني سَعدٍ إلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، فَقالَ : أمّا أنتَ يا زُبَيرُ فَحَوارِيُّ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وأمّا أنتَ يا طَلحَةُ فَوَقَيتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِيَدِكَ ، وأرى اُمَّكُما مَعَكُما فَهَل جِئتُما بِنِسائِكُما ؟ قالا : لا ، قالَ : فَما أنَا مِنكُما في شَيءٍ ، وَاعتُزِلَ . وقال السَّعدِيُّ في ذلِكَ : صُنتُم حَلائِلَكُم وقُدتُم اُمَّكُمُ هذا لَعَمرُكَ قِلَّةُ الإِنصافِ اُمِرَت بِجَرِّ ذُيولِها في بَيتِها فَهَوَت تَشُقُّ البيدَ بِالإيجافِ (1) غَرَضا يُقاتِلُ دونَها أبناؤُها بِالنَّبلِ وَالخَطِّيِّ وَالأَسيافِ هُتِكَت بِطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ سُتورُها هذَا المُخَبَّرُ عَنهُمُ وَالكافي وأقبَلَ غُلامٌ مِن جُهَينَةَ عَلى مُحَمَّدِ بنِ طَلحَةَ _ وكانَ مُحَمَّدٌ رَجُلاً عابِدا _ فَقالَ : أخبِرني عَن قَتَلَةِ عُثمانَ ! فَقالَ : نَعَم ، دَمُ عُثمانَ ثَلاثَةُ أثلاثٍ ، ثُلُثٌ عَلى صاحِبَةِ الهَودَجِ _ يَعني عائِشَةَ _ وثُلُثٌ عَلى صاحِبِ الجَمَلِ الأَحمَرِ _ يَعني طَلحَةَ _ وثُلُثٌ عَلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . وضَحِكَ الغُلامُ وقالَ : أ لا أراني عَلى ضَلالٍ ؟ ! ولَحِقَ بِعَلِيٍّ ، وقالَ في ذلِكَ شِعرا : سَأَلتُ ابنَ طَلحَةَ عَن هالِكِ بِجَوفِ المَدينَةِ لَم يُقبَرِ فَقالَ : ثَلاثَةُ رَهطٍ هُمُ أماتُوا ابنَ عَفّانَ وَاستَعبَرِ فَثُلثٌ عَلى تِلكَ في خِدرِها وثُلثٌ عَلى راكِبِ الأَحمَرِ وثُلثٌ عَلَى ابنِ أبي طالِبِ ونَحنُ بِدَوِّيَّةٍ قَرقَرِ فَقُلتُ : صَدَقتَ عَلَى الأَوَّلَي _نِ وأخطَأتَ فِي الثّالِثِ الأَزهَرِ (2)
.
ص: 202
8 / 7الإِقدامُ الشُّجاعُ لِاءِنقاذِ العَدُوِّمروج الذهب :خَرَجَ عَلِيٌّ بِنَفسِهِ حاسِرا عَلى بَغلَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله لا سِلاحَ عَلَيهِ ، فَنادى : يا زُبَيرُ ، اخرُج إلَيَّ ، فَخَرجَ إلَيهِ الزُّبَيرُ شاكّا في سِلاحِهِ ، فَقيلَ ذلِكَ لِعائِشَةَ ، فَقالَت : وا ثُكلَكِ يا أسماءُ ، فَقيلَ لَها : إنَّ عَلِيّا حاسِرٌ ، فَاطمَأَنَّت . وَاعتَنَقَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما صاحِبَهُ . فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : وَيَحكَ يا زُبَيرُ ! مَا الَّذي أخرَجَكَ ؟ قالَ : دَمُ عُثمانَ ، قالَ : قَتَلَ اللّهُ أولانا بِدَمِ عُثمانَ ، أما تَذكُرُ يَومَ لَقيتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله في بَني بَياضَةَ وهُوَ راكِبٌ حِمارَهُ ، فَضَحِكَ إلَيَّ رَسولُ اللّهِ ، وضَحِكتُ إلَيهِ ، وأنتَ مَعَهُ ، فَقُلتَ أنتَ : يا رَسولَ اللّهِ ، ما يَدَعُ عَلِيٌّ زَهوَهُ . فَقالَ لَكَ : لَيسَ بِهَ زَهوٌ ، أ تُحِبُّهُ يا زُبَيرُ ؟ فَقُلتَ : إنّي وَاللّهِ لَاُحِبُّهُ . فَقالَ لَكَ : إنَّكَ وَاللّهِ سَتُقاتِلُهُ وأنتَ لَهُ ظالِمٌ . فَقالَ الزُّبَيرُ : أستَغفِرُ اللّهَ ، وَاللّهِ لَو ذَكَرتُها ما خَرَجتُ . فَقالَ لَهُ عليه السلام : يا زُبَيرُ ، ارجِع ، فَقالَ : وكَيفَ أرجِعُ الآنَ وقَدِ التَقَت حَلقَتَا
.
ص: 203
البِطانِ (1) ؟!هذا وَاللّهِ العارُ الَّذي لا يُغسَلُ . فَقالَ عليه السلام : يا زُبَيرُ ، ارجِع بِالعارِ قَبلَ أن تَجمَعَ العارَ وَالنّارَ . فَرَجَعَ الزُّبَيرُ وهُوَ يَقولُ : اِختَرتُ عارا عَلى نارٍ مُؤَجَّجَةٍ ما إن يَقومُ لَها خَلقٌ مِنَ الطّينِ نادى عَلِيٌّ بِأَمرٍ لَستُ أجهَلُهُ عارٌ لَعَمرُكَ فِي الدُّنيا وفِي الدّينِ فَقُلتُ : حَسبُكَ مِن عَذلٍ أبا حَسَنٍ فَبَعضُ هذَا الَّذي قَد قُلتَ يَكفيني فَقالَ ابنُهُ عَبدُ اللّهِ : أينَ تَذهَبُ وتَدَعُنا ؟ فَقالَ : يا بُنَيَّ ، أذكَرَني أبُو الحَسَنِ بِأَمرٍ كُنتُ قَد اُنسيتُهُ ، فَقالَ : لا وَاللّهِ ، ولكِنَّكَ فَرَرتَ مِن سُيوفِ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ؛ فَإِنَّها طِوالٌ حِدادٌ ، تَحمِلُها فِتيَةٌ أنجادٌ ، قالَ : لا وَاللّهِ ، ولكِنّي ذَكَرتُ ما أنسانيهِ الدَّهرُ ، فَاختَرتُ العارَ عَلَى النّارِ ، أبِالجُبنِ تُعَيِّرُني لا أبا لَكَ ؟ ثُمَّ أمالَ سِنانَهُ وشَدَّ فِي المَيمَنَةِ . فَقالَ عَلِيٌّ : اِفرِجوا لَهُ فَقَد هاجوهُ . ثُمَّ رَجَعَ فَشَدَّ فِي المَيسَرَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَشَدَّ فِي القَلبِ ، ثُمَّ عادَ إلَى ابنِهِ ، فَقالَ : أ يفَعَلُ هذا جَبانٌ ؟ ثُمَّ مَضى مُنصَرِفا (2) .
تاريخ الطبري عن الزهري :خَرَجَ عَلِيٌّ عَلى فَرَسِهِ ، فَدَعَا الزُّبَيرَ ، فَتَواقَفا ، فَقالَ عَلِيٌّ لِلزُّبَيرِ : ما جاءَ بِكَ ؟
.
ص: 204
قالَ : أنتَ ، ولا أراكَ لِهذَا الأَمرِ أهلاً ، ولا أولى بِهِ مِنّا . فَقالَ عَلِيٌّ : لَستُ لَهُ أهلاً بَعدَ عُثمانَ ! قَد كُنّا نَعُدُّكَ مِن بَني عَبدِ المُطَّلِبِ حَتّى بَلَغَ ابنُكَ ابنُ السَّوءِ فَفَرَّقَ بَينَنا وبَينَكَ . وعَظَّمَ عَلَيهِ أشياءَ ، فَذَكَرَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله مَرَّ عَلَيهِما فَقالَ لِعَلِيٍّ عليه السلام : ما يَقولُ ابنُ عَمَّتِكَ ؟ لَيُقاتِلَنَّكَ وهُوَ لَكَ ظالِمٌ . فَانصَرَفَ عَنهُ الزُّبَيرُ ، وقالَ : فَإِنّي لا اُقاتِلُكَ . فَرَجَعَ إلَى ابنِهِ عَبدِ اللّهِ فَقالَ : ما لي في هذِهِ الحَربِ بَصيرَةٌ ، فَقالَ لَهُ ابنُهُ : إنَّكَ قَد خَرَجتَ عَلى بَصيرَةٍ ، ولكِنَّكَ رَأَيتَ راياتِ ابنِ أبي طالِبٍ ، وعَرَفتَ أنَّ تَحتَهَا المَوتُ ، فَجَبُنتَ . فَأَحفَظَهُ (1) حَتّى أرعَدَ وغَضِبَ ، وقالَ : وَيحَكَ ! إنّي قَد حَلَفتُ لَهُ ألّا اُقاتِلَهُ ، فَقالَ لَهُ ابنُهُ : كَفِّر عَن يَمينِكَ بِعِتقِ غُلامِكَ سَرجَسَ ، فَأَعتَقَهُ ، وقامَ فِي الصَّفِّ مَعَهُم . وكانَ عَلِيٌّ قالَ لِلزُّبَيرِ : أ تَطلُبُ مِنّي دَمَ عُثمانَ وأنتَ قَتَلتَهُ ؟ ! سَلَّطَ اللّهُ عَلى أشَدِّنا عَلَيهِ اليَومَ ما يَكرَهُ (2) .
تاريخ الطبري عن قتادة :سارَ عَلِيٌّ مِنَ الزاوِيَةِ يُريدُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ وعائِشَةَ وساروا مِنَ الفُرضَةِ يُريدون عَلِيّا ، فَالتَقَوا عِندَ مَوضِعِ قَصرِ عُبَيدِ اللّهِ بنِ زيادٍ فِي النِّصفِ مِن جُمادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاثينَ يَومَ الخَميسِ ، فَلَمّا تَراءَى الجَمعانِ خَرَجَ الزُّبَيرُ عَلى فَرَسٍ عَلَيهِ سِلاحٌ ، فَقيَل لِعَلِيٍّ : هذَا الزُّبَيرُ ، قالَ : أما إنَّهُ أحرَى الرَّجُلَين إن ذُكِّرَ بِاللّهِ أن يَذكُرَهُ ، وخَرَجَ طَلحَةُ ، فَخَرَجَ إلَيهِما عَلِيٌّ فَدَنا مِنهُما حَتَّى اختَلَفَت أعناقُ دَوابِّهِم ، فَقالَ عَلِيٌّ : لَعَمري لَقد أعدَدتُما سِلاحا وخَيلاً ورِجالاً ، إن كُنتُما أعدَدتُما
.
ص: 205
عِندَ اللّهِ عُذرا؛ فَاتَّقِيَا اللّهَ سُبحانَهُ ، ولا تَكونا كَالَّتي نَقَضَت غَزلَها مِن بَعدِ قُوَّةٍ أنكاثا ، أ لَم أكُن أخاكُما في دينِكُما ؟ تُحَرِّمانِ دَمي واُحَرِّمُ دِماءَكُما ! فَهَل مِن حَدَثٍ أحَلَّ لَكُما دَمي ؟ قالَ طَلحَةُ : ألَّبتَ النّاسَ علَى عُثمانَ ، قالَ عَلِيٌّ : «يَوْمَ_ئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ » (1) ، يا طَلحَةُ، تَطلُبُ بِدَمِ عُثمانَ؟! فَلَعَنَ اللّهُ قَتَلَةَ عُثمانَ (2) .
شرح نهج البلاغة :بَرَزَ عَلِيٌّ عليه السلام يَومَ الجَمَلِ ، ونادى بِالزُّبَيرِ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، مِرارا ، فَخَرَجَ الزُّبَيرُ ، فَتَقارَبا حَتَّى اختَلَفَت أعناقُ خَيلِهِما . فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام : إنَّما دَعَوتُكَ لِاُذكِّرَكَ حَديثا قالَهُ لي ولَكَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، أ تَذكُرُ يَومَ رَآكَ وأنتَ مُعتَنِقي ، فَقالَ لَكَ : أ تُحِبُّهُ ؟ قُلتَ : وما لي لا اُحِبُّهُ وهُوَ أخي وَابنُ خالي ؟ ! فَقالَ : أما إنَّكَ سَتُحارِبُهُ وأنتَ ظالِمٌ لَهُ . فَاستَرجَعَ الزُّبَيرُ ، وقالَ : أذكَرتَني ما أنسانيهِ الدَّهرُ . ورَجَعَ إلى صُفوفِهِ ، فَقالَ لَهُ عَبدُ اللّهِ ابنُهُ : لَقَد رَجَعتَ إلَينا بِغَيرِ الوَجهِ الَّذي فَارَقتَنا بِهِ ! فَقالَ : أذكَرَني عَلِيٌّ حَديثا أنسانيهِ الدَّهرُ ، فَلا اُحارِبُهُ أبَدا ، وإنّي لَراجِعٌ وتارِكُكُم مُنذُ اليَومِ . فَقالَ لَهُ عَبدُ اللّهِ : ما أراكَ إلّا جَبُنتَ عَن سُيوفِ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ؛ إنَّها لَسُيوفٌ حِدادٌ ، تَحمِلُها فِتيَةٌ أنجادٌ . فَقالَ الزُّبَيرُ : وَيلَكَ ! أ تُهَيِّجُني عَلى حَربِهِ ! أما إنّي قَد حَلَفتُ ألّا اُحارِبَهُ .
.
ص: 206
قالَ : كَفِّر عَن يَمينِكَ ، لا تَتَحدَّث نِساءُ قُرَيشٍ أنَّكَ جَبُنتَ ، وما كُنتَ جَبانا . فَقالَ الزُّبَيرُ : غُلامي مَكحولٌ حُرٌّ كَفّارَةً عَن يَميني . ثُمَّ أنصَلَ سِنانَ رُمحِهِ ، وحَمَلَ عَلى عَسكَرِ عَلِيٍّ عليه السلام بِرُمحٍ لا سِنانَ لَهُ . فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : اِفرِجوا لَهُ ، فَإِنَّهُ مُحرَجٌ . ثُمَّ عادَ إلى أصحابِهِ ، ثُمَّ حَمَلَ ثانِيَةً ، ثُمَّ ثالِثَةً ، ثُمَّ قالَ لِابنِهِ : أجُبنا وَيلَكَ تَرى ؟ !فَقالَ : لَقَد أعذَرتَ (1) .
تاريخ اليعقوبي :قالَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ لِلزُّبَيرِ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ! اُدنُ إلَيَّ اُذَكِّرُكَ كَلاما سَمِعتُهُ أنَا وأنتَ مِن رَسولِ اللّهِ ! فَقالَ الزُّبَيرُ لِعَلِيٍّ: لِيَ الأَمانُ ؟ قالَ عَلِيٌّ : عَلَيكَ الأَمانُ ، فَبَرَزَ إلَيهِ فَذَكَّرَهُ الكَلامَ . فَقالَ : اللّهُمَّ إنّي ما ذَكَرتُ هذا إلّا هذِهِ الساعَةَ ، وثَنى عِنانَ فَرَسِهِ لِيَنصَرِفَ ، فَقالَ لَهُ عَبدُ اللّهِ : إلى أينَ ؟ قالَ : ذَكَّرَني عَلِيٌّ كَلاماً قالَهُ رَسولُ اللّهِ . قالَ : كَلّا ، ولكِنَّكَ رَأَيتَ سُيوفَ بَني هاشِمٍ حِدادا تَحمِلُها شِدادٌ . قالَ : وَيلَكَ ! ومِثلي يُعَيَّرُ بِالجُبنِ ؟ هَلُمَّ إلَيَّ الرُّمحَ . وأخَذَ الرُّمحَ وحَمَلَ عَلى أصحابِ عَلِيٍّ . فَقالَ عَلِيٌّ : اِفرِجوا لِلشَّيخِ ، إنَّهُ مُحرَجٌ . فَشَقَّ المَيمَنَةَ وَالمَيسَرَةَ وَالقَلبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقالَ لِابنِهِ : لا اُمَّ لَكَ ! أيَفعَلُ هذا جَبانٌ ؟وَانصَرَفَ (2) .
.
ص: 207
8 / 8عاقِبَةُ الزُّبَيرِالجمل عن مروان بن الحكم :هَرَبَ الزُّبَيرُ فارّا إلَى المَدينَةِ حَتّى أتى وادِيَ السِّباعِ ، فَرَفَعَ الأَحنَفُ صَوتَهُ وقالَ : ما أصنَعُ بِالزُّبَيرِ ؟ قَد لَفَّ بَينَ غارَينِ (1) مِنَ النّاسِ حَتّى قَتَلَ بَعضُهُم بَعضا ، ثُمَّ هُوَ يُريدُ اللِّحاقَ بِأَهلِهِ !! فَسَمِعَ ذلِكَ ابنُ جُرموزٍ فَخَرَجَ في طَلَبِهِ، وَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِن مُجاشِعٍ حَتّى لَحِقاهُ ، فَلَمّا رَآهُما الزُّبَيرُ حَذِرَهُما . فَقالا : يا حَوارِيَّ رَسولِ اللّهِ ، أنتَ في ذِمَّتِنا لا يَصِلُ إلَيكَ أحَدٌ . وسايَرَهُ ابنُ جُرموزٍ ، فَبَينا هُوَ يَسايِرُهُ ويَستَأخِرُ ، وَالزُّبَيرُ يُفارِقُهُ ، قالَ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، اِنزِع دِرعَكَ فَاجعَلها عَلى فَرَسِكَ فَإِنَّها تُثقِلُكَ وتُعييكَ ، فَنَزَعَها الزُّبَيرُ وجَعَلَ عَمرُو بنُ جُرموزٍ يَنكُصُ ويَتَأَخَّرُ ، وَالزُّبَيرُ يُناديهِ أن يَلحَقَهُ وهُوَ يَجري بِفَرَسِهِ ، ثُمَّ يَنحازُ عَنهُ حَتَّى اطمَأَنَّ إلَيهِ ولَم يُنكِر تَأَخُّرَهُ عَنهُ ، فَحَمَلَ عَلَيهِ وطَعَنَهُ بَينَ كَتِفَيهِ فَأَخرَجَ السِّنانَ مِن ثَديَيهِ ، ونَزَلَ فَاحتَزَّ رَأسَهُ وجاءَ بِهِ إلَى الأَحنَفِ ، فَأَنفَذَهُ إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام . فَلَمّا رَأى رَأسَ الزُّبَيرِ وسَيفَهُ قالَ : ناوِلِني السَّيفَ ، فَناوَلَهُ ، فَهَزَّهُ وقالَ : سَيفٌ طالَما قاتَلَ بِهِ بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ولكِنَّ الحينَ ومَصارِعَ السّوءِ ! ثُمَّ تَفَرَّسَ في وَجهِ الزُّبَيرِ وقالَ : لَقَد كانَ لَكَ بِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله صُحبَةٌ ومِنهُ قَرابَةٌ ، ولكِنَّ الشَّيطانَ دَخَلَ مِنخَرَيكَ ، فَأَورَدَك هذَا المَورِدَ ! (2)
.
ص: 208
8 / 9مُناقَشاتُ الإِمامِ وطَلحَةَمروج الذهب :ثُمَّ نادى عَلِيٌّ رضى الله عنه طَلحَةَ حينَ رَجَعَ الزُّبَيرُ : يا أبا مُحَمَّدٍ ، مَا الَّذي أخرَجَكَ ؟ قالَ : الطَّلَبُ بِدَمِ عُثمانَ . قالَ عَلِيٌّ : قَتَلَ اللّهُ أولانا بِدَمِ عُثمانَ ، أما سَمِعتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «اللّهُمَّ ! والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ» ؟ وأنتَ أوَّلُ مَن بايَعَني ثُمَّ نَكَثتَ ، وقَد قالَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ : «فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ» (1)(2) .
الإمامة والسياسة_ في ذِكرِ مادارَ بَينَ الإِمامِ عليه السلام وَطَلحَةَ مِنَ الكَلامِ _: قالَ طَلحَةُ : اِعتَزِل هذَا الأَمرَ ، ونَجعَلُهُ شورى بَينَ المُسلِمينَ ، فَإِن رَضوا بِكَ دَخَلتُ فيما دَخَلَ فيهِ النّاسُ ، وإن رَضوا غَيرَكَ كُنتَ رَجُلاً مِنَ المُسلِمينَ . قالَ عَلِيٌّ : أوَلَم تُبايِعني يا أبا مُحَمَّدٍ طائِعا غَيرَ مُكرَهٍ ؟ فَما كُنتُ لِأَترُكَ بَيعَتي . قالَ طَلحَةُ : بايَعتُكَ وَالسَّيفُ في عُنُقي . قالَ : أ لَم تَعلَم أنّي ما أكرَهتُ أحَدا عَلَى البَيعَةِ ؟ ولَو كُنتُ مُكرِها أحَدا لَأَكرَهتُ سَعدا ، وَابنَ عُمَرَ ، ومُحَمَّدَ بنَ مَسلَمَةَ ؛ أبَوُا البَيعَةَ وَاعتَزَلوا ، فَتَرَكتُهُم . قالَ طَلحَةُ : كُنّا فِي الشّورى سِتَّةٌ ، فَماتَ اثنانِ وقَد كَرِهناكَ ، ونَحنُ ثَلاثَةٌ .
.
ص: 209
قالَ عَلِيٌّ : إنَّما كانَ لَكُما ألّا تَرضَيا قَبلَ الرِّضى وقَبلَ البَيعَةِ ، وأمَّا الآنَ فَلَيس لَكُما غَيرُ ما رَضيتُما بِهِ ، إلّا أن تَخرُجا مِمّا بويِعتُ عَلَيهِ بِحَدَثٍ ، فَإِن كُنتُ أحدَثتُ حَدَثا فَسَمّوهُ لي ! وأخرَجتُم اُمَّكُم عائِشَةَ ، وتَرَكتُم نِساءَكُم ، فَهذا أعظَمُ الحَدَثِ مِنكُم ، أرِضىً هذا لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن تَهتِكوا سِترا ضَرَبَهُ عَلَيها ، وتُخرِجوها مِنهُ ؟ ! فَقالَ طَلحَةُ : إنَّما جاءَت لِلإِصلاحِ . قالَ عَلِيٌّ عليه السلام : هِيَ _ لَعَمرُ اللّهِ _ إلى مَن يُصلِحُ لَها أمرَها أحوَجُ . أيُّهَا الشَّيخُ! اِقبَلِ النُّصحَ وَارضَ بِالتَّوبَةِ مَعَ العارِ ، قَبلَ أن يَكونَ العارُ وَالنّارُ (1) .
8 / 10فَشَلُ آخِرِ الجُهودِالجمل :قالَ ابنُ عَبّاسٍ : قُلتُ [لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام ] : ما تَنتَظِرُ ؟ وَاللّهِ ، ما يُعطيكَ القَومُ إلَا السَّيفَ ، فَاحمِل عَلَيهِم قَبلَ أن يَحمِلوا عَلَيكَ . فَقالَ : نَستَظهِرُ بِاللّهِ عَلَيهِم . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَوَاللّهِ ، ما رُمتُ مِن مَكاني حَتّى طَلَعَ عَلَيَّ نُشّابُهُم كَأَنَّهُ جَرادٌ مُنتَشِرٌ ، فَقُلتُ : أما تَرى يا أميرَ المُؤمِنينَ إلى ما يَصنَعُ القَومُ ؟ مُرنا نَدفَعهُم ! فَقالَ : حَتّى اُعذِرَ إلَيهِم ثانِيَةً . ثُمَّ قالَ : مَن يَأخُذُ هذَا المُصحَفَ فَيَدعوهُم إلَيهِ وهُوَ مَقتولٌ وأنَا ضامِنٌ لَهُ عَلَى اللّهِ الجَنَّةَ ؟ فَلَم يَقُم أحَدٌ إلّا غُلامٌ عَلَيه قَباءٌ أبيَضُ ، حَدَثُ السِّنِّ مِن عَبدِ القَيسِ يُقالُ لَهُ مُسلِمٌ كَأَنّي أراهُ ، فقَالَ : أنَا أعرِضُهُ عَلَيهِم يا أميرَ المُؤمِنينَ ، وقَدِ احتَسَبتُ نَفسي عِندَ اللّهِ تَعالى .
.
ص: 210
فَأَعرَضَ عَنهُ إشفاقا عَلَيهِ، ونادى ثانِيَةً : مَن يَأخُذُ هذَا المُصحَفَ ويَعرِضُهُ عَلَى القَومِ وَليَعلَم أنَّهُ مَقتولٌ ولَهُ الجَنَّةُ ؟ فَقامَ مُسلِمٌ بِعَينِهِ وقالَ : أنَا أعرِضُهُ . فَأَعرَضَ ، ونادى ثالِثَةً فَلَم يَقُم غَيرُ الفَتى ، فَدَفَعَ إلَيهِ المُصحَفَ . وقالَ : اِمضِ إلَيهِم وَاعرِضهُ عَلَيهِم وَادعُهُم إلى ما فيهِ . فَأَقبَلَ الغُلامُ حَتّى وَقَفَ بِإِزاءِ الصُّفوفِ ونَشَرَ المُصحَفَ ، وقالَ : هذا كِتابُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وأميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يَدعوكُم إلى ما فيهِ . فَقالَت عائِشَةُ : اُشجُروهُ بِالرِّماحِ قَبَّحَهُ اللّهُ ! فَتَبادَروا إلَيهِ بِالرِّماحِ فَطَعَنوهُ مِن كُلِّ جانِبٍ ، وكانَت اُمُّهُ حاضِرَةً فَصاحت وطَرَحَت نَفسَها عَلَيهِ وجَرَّتهُ مِن مَوضِعِهِ ، ولَحِقَها جَماعَةٌ مِن عَسكَرِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام أعانوها عَلى حَملِهِ حَتّى طَرَحوهُ بَينَ يَدي أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام واُمُّهُ تَبكي وتَندُبُهُ وتَقولُ : يا رَبِّ إنَّ مُسلِما دَعاهُم يَتلو كِتابَ اللّهِ لا يَخشاهُم فَخَضَّبوا مِن دَمِه قَناهُم واُمُّهُم قائِمَةٌ تَراهُم تَأمُرُهُم بِالقَتلِ لا تَنهاهُم (1)
المناقب للخوارزمي عن مجزأة السدوسي :لَمّا تَقابَلَ العَسكَرانِ : عَسكَرُ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ عليه السلام وعَسكَرُ أصحابِ الجَمَلِ ، جَعَلَ أهلُ البَصرَةِ يَرمونَ أصحابَ عَلِيٍّ بِالنَّبلِ حَتّى عَقَروا مِنهُم جَماعَةً ، فَقالَ النّاسُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّهُ قَد عَقَرَنا نَبلُهُم فَمَا انتِظارُكَ بِالقَومِ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : اللّهُمَّ إنّي اُشهِدُكَ أنّي قَد أعذَرتُ وأنذَرتُ ، فَكُن لي عَلَيهِم
.
ص: 211
مِنَ الشّاهِدينَ . ثُمَّ دَعا عَلِيٌّ بِالدِّرعِ ، فَأَفرَغَها عَلَيهِ ، وتَقَلَّدَ بِسَيفِهِ وَاعتَجَرَ بِعِمامَتِهِ وَاستَوى عَلى بَغلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ دَعا بِالمُصحَفِ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ، وقالَ : يا أيُّهَا النّاسُ ، مَن يَأخُذُ هذَا المُصحَفَ فَيَدعو هؤُلاءِ القَومِ إلى ما فيهِ ؟ فَوَثَبَ غُلامٌ مِن مُجاشِعٍ يُقالُ لَهُ : مُسلِمٌ ، عَليهِ قَباءٌ أبيَضُ ، فَقالَ لَهُ : أنَا آخُذُهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : يا فَتى إنَّ يَدَكَ اليُمنى تُقطَعُ ، فَتَأخُذُهُ بِاليُسرى فَتُقطَعُ ، ثُمَّ تُضرَبُ عَلَيهِ بِالسَّيفِ حَتّى تُقتَلَ ! فَقالَ الفَتى : لا صَبرَ لي عَلى ذلِكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ . فَنادى عَلِيٌّ ثانِيَةً وَالمُصحَفُ في يَدِهِ ، فَقامَ إلَيهِ ذلِكَ الفَتى وقالَ : أنَا آخُذُهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ . فَأَعادَ عَلَيهِ عَلِيٌّ مَقالَتَهُ الاُولى ، فَقالَ الفَتى : لا عَلَيكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَهذا قَليلٌ في ذاتِ اللّهِ ، ثُمَّ أخَذَ الفَتَى المُصحَفَ وَانطَلَقَ بِهِ إلَيهِم ، فَقالَ : يا هؤُلاءِ ، هذا كِتابُ اللّهِ بَينَنا وبَينَكُم . فَضَرَبَ رُجُلٌ مِن أصحابِ الجَمَلِ يَدَهُ اليُمنى فَقَطَعَها ، فَأَخَذَ المُصحَفَ بِشِمالِهِ فَقُطِعَت شِمالُهُ ، فَاحتَضَنَ المُصحَفَ بِصَدرِهِ فَضُرِبَ عَلَيهِ حَتّى قُتِلَ رَحمَةُ اللّهِ عَلَيهِ (1) .
.
ص: 212
. .
ص: 213
الفصل التاسع : القتال9 / 1أوَّلُ قِتالٍ عَلى تَأويلِ القُرآنِالأمالي للطوسي عن بكير بن عبد اللّه الطويل وعمّار بن أبي معاوية عن أبي عثمان البجلي مؤذّن بني أفصى :سَمِعتُ عَلِيّا عليه السلام يَقولُ يَومَ الجَمَلِ : «وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَ_نَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَ_تِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لآَ أَيْمَ_نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ» (1) ، ثُمَّ حَلَفَ _ حينَ قَرَأَها _ أنَّهُ ما قوتِلَ أهلُها مُنذُ نَزَلَت حَتَّى اليَومَ . قالَ بُكَيرٌ : فَسَأَلتُ عَنها أبا جَعفَرٍ عليه السلام ، فَقالَ : صَدَقَ الشَّيخُ ، هكَذا قالَ عَلِيٌّ عليه السلام ، وهكَذا كانَ (2) .
الأمالي للمفيد عن أبي عثمان مؤذّن بني أفصى :سَمِعتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام حينَ خَرَجَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ لِقِتالِهِ يَقولُ : عُذَيري مِن طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ؛ بايَعاني طائِعَينِ غَيرَ مُكرَهَينِ ، ثُمَّ نَكَثا بَيعَتي مِن غَيرِ حَدَثٍ ، ثُمَّ تَلا هذِهِ الآيَةَ : «وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَ_نَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَ_تِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لآَ أَيْمَ_نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ» (3) .
.
ص: 214
قرب الإسناد عن حنّان بن سدير :سَمِعتُ أبا عَبدِ اللّهِ عليه السلام يَقولُ : دَخَلَ عَلَيَّ اُناسٌ مِن أهلِ البَصرَةِ فَسَأَلوني عَن طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، فَقُلتُ لَهُم : كانا مِن أئِمَّةِ الكُفرِ ؛ إنَّ عَلِيّا عليه السلام يَومَ البَصرَةِ لَمّا صَفَّ الخُيولَ ، قالَ لِأَصحابِهِ : لا تَعجَلوا عَلَى القَومِ حَتّى اُعذِرَ فيما بَيني وبَينَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وبَينَهُم . فَقامَ إلَيهِم فَقالَ : يا أهلَ البَصرَةِ ! هَل تَجِدونَ عَلَيَّ جَورا في حُكمٍ ؟ قالوا : لا . قالَ : فَحَيفا في قِسمٍ ؟ قالوا : لا . قالَ : فَرَغبَةً في دُنيا أخَذتُها لي ولِأَهلِ بَيتي دونَكُم ، فَنَقَمتُم عَلَيَّ فَنَكَثتُم بَيعَتي ؟ قالوا : لا . قالَ : فَأَقَمتُ فيكُمُ الحُدودَ وعَطَّلتُها عَن غَيرِكُم ؟ قالوا : لا . قالَ : فَما بالُ بَيعَتي تُنكَثُ وبَيعَةُ غَيري لا تُنكَثُ ؟ ! إنّي ضَرَبتُ الأَمرَ أنفَهُ وعَينَهُ فَلَم أجِد إلَا الكُفرَ أوِ السَّيفَ . ثُمَّ ثَنى إلى صاحِبِهِ فَقالَ : إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى يَقولُ في كِتابِهِ : «وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَ_نَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَ_تِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لآَ أَيْمَ_نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ» . فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : وَالَّذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ وَاصطَفى مُحَمَّدا بِالنُّبُوَّةِ إنَّهُم لَأَصحابُ هذِهِ الآيَةِ ، وما قوتِلوا مُنذُ نَزَلَت (1) .
9 / 2دُعاءُ الإِمامِ قَبلَ القِتالِالإمام الصادق عليه السلام :لَمّا تَوافَقَ النّاسُ يَومَ الجَمَلِ ، خَرَجَ عَلِيٌّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ حَتّى وَقَفَ بَينَ الصَفَّينِ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ نَحوَ السَّماءِ ، ثُمَّ قالَ : يا خَيرَ مَن أفضَت إلَيهِ القُلوبُ ،
.
ص: 215
ودُعِيَ بِالأَلسُنِ ، يا حَسَنَ البَلايا ، يا جَزيلَ العَطاءِ ، اُحكُم بَينَنا وبَينَ قَومِنا بِالحَقِّ ، وأنتَ خَيرُ الحاكِمينَ (1) .
الجمل :لَمّا رَأى أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ما قَدِمَ عَلَيهِ القَومُ مِنَ العِنادِ وَاستَحَلّوهُ مِن سَفكِ الدَّمِ الحَرامِ ، رَفَعَ يَدَيهِ إلَى السَّماءِ وقالَ : اللّهُمَّ إلَيكَ شَخَصَتِ الأَبصارُ ، وبُسِطَتِ الأَيدي ، وأفضَتِ القُلوبُ ، وتَقَرَّبَت إلَيكَ بِالأَعمالِ ، «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَ_تِحِينَ» (2)(3) .
الإمام عليّ عليه السلام_ في دُعائِهِ يَومَ الجَمَلِ _: اللّهُمَّ إنّي أحمَدُكَ _ وأنتَ لِلحَمدِ أهلٌ _ عَلى حُسنِ صَنعِكَ إلَيَّ ، وتَعَطُّفِكَ عَلَيَّ ، وعَلى ما وَصَلتَني بِهِ مِن نورِكَ ، وتَدارَكتَني بِهِ مِن رَحمَتِكَ ، وأسبَغتَ عَلَيَّ مِن نِعمَتِكَ ، فَقَدِ اصطَنَعتَ عِندي _ يا مَولايَ _ ما يَحِقُّ لَكَ بِهِ جُهدي وشُكري ؛ لِحُسنِ عَفوِكَ ، وبَلائِكَ القَديمِ عِندي ، وتَظاهُرِ نَعمائِكَ عَلَيَّ ، وتَتابُعِ أياديكَ لَدَيَّ ، لَم أبلُغ إحرازَ حَظّي ، ولا صَلاحَ نَفسي ، ولكِنَّكَ يا مَولايَ بَدَأتَني أوّلاً بِإِحسانِكَ فَهَدَيتَني لِدينِكَ ، وعَرَّفتَني نَفسَكَ ، وثَبَّتَّني في اُموري كُلِّها بِالكِفايَةِ وَالصُّنعِ لي ، فَصَرَفتَ عَنّي جَهدَ البَلاءِ ، ومَنَعتَ مِنّي مَحذورَ الأَشياءِ ، فَلَستُ أذكُرُ مِنكَ إلّا جَميلاً ، ولَم أرَ مِنكَ إلّا تَفضيلاً . يا إلهي، كَم مِن بَلاءٍ وجَهدٍ صَرَفتَهُ عَنّي ، وأرَيتَنيهِ في غَيري ، فَكَم مِن نِعمَةٍ أقرَرتَ بِها عَيني ، وكَم مِن صَنيعَةٍ شَريفَةٍ لَكَ عِندي . إلهي أنتَ الَّذي تُجيبُ عِندَ الاِضطِرارِ دَعوَتي ، وأنتَ الَّذي تُنَفِّسُ عِندَ الغُمومِ كُربَتي ، وأنتَ الَّذي تَأخُذُ لي مِنَ الأَعداءِ بِظُلامَتي ، فَما وَجَدتُكَ ولا أجِدُكَ بَعيدا
.
ص: 216
مِنّي حينَ اُريدُكَ ، ولا مُنقَبِضا عَنّي حينَ أسأَلُكَ ، ولا مُعرِضاً عَنّي حينَ أدعوكَ ، فَأَنتَ إلهي ، أجِدُ صَنيعَكَ عِندي مَحموداً ، وحُسنَ بَلائِكَ عِندي مَوجودا ، وجميعَ أفعالِكَ عِندي جَميلاً ، يَحمَدُكَ لِساني وعَقلي وجَوارِحي وجَميعَ ما أقَلَّتِ الأَرضُ مِنّي . يا مَولايَ أسأَلُك بِنورِكَ الَّذِي اشتَقَقتَهُ مِن عَظَمَتِكَ ، وعَظَمَتِكَ الَّتِي اشتَقَقتَها مِن مَشِيَّتِكَ ، وأسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي عَلا، أن تَمُّنَ عَلَيَّ بِواجِبِ شُكري نِعمَتَكَ . رَبِّ، ما أحرَصَني عَلى ما زَهَّدتَني فيهِ، وحَثَثتَني عَلَيهِ ! إن لَم تُعِنّي عَلى دُنيايَ بِزُهدٍ ، وعَلى آخِرَتي بِتَقوايَ ، هَلَكتُ . رَبّي ، دَعَتني دَواعِي الدُّنيا ؛ مِن حَرثِ النِّساءِ وَالبَنينَ ، فَأَجَبتُها سَريعا ، ورَكَنتُ إلَيها طائِعا . ودَعَتني دَواعِي الآخِرَةِ مِنَ الزُّهدِ وَالِاجتِهادِ فَكَبَوتُ لَها ، ولَم اُسارِع إلَيها مُسارَعَتي إلَى الحُطامِ الهامِدِ ، وَالهَشيمِ البائِدِ ، وَالسَّرابِ الذّاهِبِ عَن قَليلٍ . رَبِّ، خَوَّفتَني وشَوَّقتَني وَاحتَجَبتَ (1) عَلَيّ فَما خِفتُك حَقَّ خَوفِكَ ، وأخافُ أن أكونَ قَد تَثَبَّطتُ عَنِ السَّعيِ لَكَ ، وتَهاوَنتُ بِشَيءٍ مِنِ احتِجابِكَ . اللّهُمَّ فَاجعَل في هذِهِ الدُّنيا سَعيي لَكَ وفي طاعَتِكَ ، وَاملَأ قَلبي خَوفَكَ ، وحَوِّل تَثبيطي وتَهاوُني وتَفريطي وكُلَّ ما أخافُهُ مِن نَفسي فَرَقاً (2) مِنكَ ، وصَبراً على طاعَتِكَ ، وعَمَلاً بِهِ ، يا ذَا الجَلالِ وَالإِكرامِ . وَاجعَل جُنَّتي مِنَ الخَطايا حَصينَةً ، وحَسَناتي مُضاعَفَةً ؛ فَإِنَّكَ تُضاعِفُ لِمَن تَشاءُ . اللّهُمَّ اجعَل دَرَجاتي فِي الجِنانِ رَفيعَةً ، وأعوذُ بِكَ رَبّي مِن رَفيعِ المَطعَم
.
ص: 217
وَالمَشرَبِ ، وأعوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما أعلَمُ ومِن شَرِّ ما لا أعلَمُ ، وأعوذُ بِكَ مِنَ الفَواحِشِ كُلِّها ؛ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ ، وأعوذُ بِكَ رَبّي أن أشتَرِيَ الجَهلَ بِالعِلمِ كَمَا اشتَرى غَيري ، أوِ السَّفَهَ بِالحِلم ، أوِ الجَزَعَ بِالصَّبرِ ، أوِ الضَّلالَةَ بِالهُدى ، أوِ الكُفرَ بِالإيمانِ . يا رَبِّ مُنَّ عَلَيَّ بِذلِكَ ؛ فَإِنَّكَ تَتَوَلَّى الصّالِحينَ ، ولا تُضيعُ أجرَ المُحسِنينَ ، وَالحَمدُ للّهِِ رَبِّ العالَمينَ (1) .
9 / 3تَحريضُ الإِمامِ أصحابَهُ عَلَى القِتالِالجمل :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام أنظَرَهُم [أصحابَ الجَمَلِ] ثَلاثَةَ أيّامٍ ؛ لِيَكُفّوا ويَرعَووا ، فَلَمّا عَلِمَ إصرارَهُم عَلَى الخِلافِ قامَ في أصحابِهِ فَقالَ : عِبادَ اللّهِ ! اِنهَدوا إلى هَؤلاءِ القَومِ مُنشَرِحَةً صُدورُكُم ، فَإِنَّهُم نَكَثوا بَيعَتي ، وقَتَلوا شيعَتي ، ونَكَّلوا بِعامِلي ، وأخرَجوهُ مِنَ البَصرَةِ بَعدَ أن آلَموهُ بِالضَّربِ المُبَرِّحِ ، وَالعُقوبَةِ الشَّديدَةِ ، وهُوَ شَيخٌ مِن وُجوهِ الأَنصارِ وَالفُضَلاءِ ، ولَم يَرعَوا لَهُ حُرمَةً ، وقَتَلُوا السَّبابِجَةَ رِجالاً صالِحينَ ، وقَتَلوا حُكَيمَ بنَ جَبَلَةَ ظُلما وعُدوانا ؛ لِغَضَبِهِ للّهِِ ، ثُمَّ تَتَبَّعوا شيعَتي بَعدَ أن هَرَبوا مِنهُم وأخَذوهُم في كُلِّ غائِطَةٍ (2) ، وتَحتَ كُلِّ رابِيَةٍ ، يَضرِبونَ أعناقَهُم صَبرا ، ما لَهُم؟ «قَ_تَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (3) ! ! فَانهَدوا إلَيهِم عِبادَ اللّهِ ، وكونوا اُسودا عَلَيهِم ؛ فَإِنَّهُم شِرارٌ ، ومُساعِدوهُم عَلَى الباطِلِ شِرارٌ ، فَالقَوهُم صابِرينَ مُحتَسِبينَ مَوَطِّنينَ أنفُسَكُم ، إنَّكُم مُنازِلونَ ومُقاتِلونَ ، قَد وَطَّنتُم أنفُسَكُم عَلَى الضَّربِ وَالطَّعنِ ومُنازَلَةِ الأَقرانِ . فَأَيُّ امرِى ء
.
ص: 218
أحَسَّ مِن نَفسِهِ رَبَاطَةَ جَأشٍ عِندَ الفَزَعِ وشَجاعَةً عِندَ اللِّقاءِ ورأى مِن أخيهِ فَشَلاً ووَهنا ، فَليَذُبَّ عَنهُ كَما يَذُبُّ عَن نَفسِهِ ؛ فَلَو شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثلَهُ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبتِهِ يَومَ الجَمَلِ _: أيُّهَا النّاسُ ! إنّي أتَيتُ هؤُلاءِ القَومَ ، ودَعَوتُهُم ، وَاحتَجَجتُ عَلَيهِم ، فَدَعَوني إلى أن أصبِرَ لِلجِلادِ ، وأبرُزَ لِلطِّعانِ ، فَلِاُمِّهِمُ الهَبَلُ ! وقَد كُنتُ وما اُهَدَّدُ بِالحَربِ ، ولا اُرَهَّبُ بِالضَّربِ ، أنصَفَ القارَةَ مَن راماها (2) ، فَلِغَيري فَليُبرِقوا وليُرعِدوا ؛ فَأَنَا أبُو الحَسَنِ الَّذي فَلَلتُ (3) حَدَّهُم ، وفَرَّقتُ جَماعَتَهُم ، وبِذلِكَ القَلبِ ألقى عَدُوّي ، وأنَا عَلىَ ما وعَدَنَي رَبّي مِنَ النَّصرِ وَالتَّأييدِ وَالظَّفَرِ ، وإنّي لَعَلى يَقينٍ مِن رَبّي ، وغَيرِ شُبهَةٍ مِن أمري . أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ المَوتَ لا يَفوتُهُ المُقيمُ ، ولا يُعجِزُهُ الهارِبُ ، لَيسَ عَنِ المَوتِ مَحيصٌ ، ومَن لَم يَمُت يُقتَلُ ، وإنَّ أفضَلَ المَوتِ القَتلُ . وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ ، لَأَلفُ ضَربَةٍ بِالسَّيفِ أهَونُ عَلَيَّ مِن ميتَةٍ عَلى فِراشٍ . واعَجَبا لِطَلحَةَ ! ألَّبَ (4) النّاسَ عَلَى ابنِ عَفّانَ ، حَتّى إذا قُتِلَ أعطاني صَفَقَتَهُ بِيَمينِهِ طائِعا ، ثُمَّ نَكَثَ بَيعَتي ، اللّهُمَّ خُذهُ ولا تُمهِلهُ . وإنَّ الزُّبَيرَ نَكَثَ بَيعَتي ، وقَطَعَ رَحِمي ، وظاهَرَ عَلَيَّ عَدُوّي ، فَاكفِنيهِ اليَومَ بِما شِئتَ (5) .
.
ص: 219
9 / 4السَّكينَةُ العَلَوِيَّةُ فِي الحَربِالجمل عن محمّد ابن الحنفيّة :لَمّا نَزَلنَا البَصرَةَ وعَسكَرنا بِها وصَفَفنا صُفوفَنا ، دَفَعَ أبي عَلِيٌّ عليه السلام إلَيَّ اللِّواءَ ، وقالَ : لا تُحدِثَنَّ شَيئا حَتّى يُحدَثَ فيكُم . ثُمَّ نامَ ، فَنالَنا نَبلُ القَومِ ، فَأَفزَعتُهُ ، فَفَزِعَ وهُوَ يَمسَحُ عَينَيهِ مِنَ النَّومِ ، وأصحابُ الجَمَلِ يَصيحونَ : يا ثاراتِ عُثمانَ ! فَبَرَزَ عليه السلام ولَيسَ عَلَيهِ إلّا قَميصٌ واحِدٌ ، ثُمَّ قالَ : تَقَدَّم بِاللَّواءِ ! فَتَقَدَّمتُ وقُلتُ : يا أبَتِ أفي مِثلِ هذَا اليَومِ بِقَميصٍ واحِدٍ ؟ ! فَقالَ عليه السلام : أحرَزَ أمرا أجَلُهُ (1) ، وَاللّهِ قَاتَلتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وأنَا حاسِرٌ (2) أكثَرَ مِمّا قاتَلتُ وأنَا دارِعٌ (3) .
مروج الذهب :قَد كانَ أصحابُ الجَمَلِ حَمَلوا عَلى مَيمَنَةِ عَلِيٍّ ومَيسَرَتِهِ ، فَكَشَفوها ، فَأَتاهُ بَعضُ وُلدِ عَقيلٍ وعَلِيٌّ يَخفِقُ نُعاسا عَلى قُربوسِ سَرجِهِ ، فَقالَ لَهُ : يا عَمُّ ، قَد بَلَغَت مَيمَنَتُكَ ومَيسَرَتُكَ حَيثُ تَرى ، وأنتَ تَخفِقُ نُعاسا ؟ ! قالَ : اُسكُت يَابنَ أخي ، فَإِنَّ لِعَمِّكَ يَوما لا يَعدُوهُ ، وَاللّهِ ما يُبالي عَمُّكَ وَقَعَ عَلَى المَوتِ أو وَقَعَ المَوتُ عَلَيهِ ! (4)
دعائم الإسلام :رُوّينا عَن عَلِيٍّ عليه السلام أنَّهُ أعطَى الرّايَةَ يَومَ الجَمَلِ لِمُحَمَّدِ ابنِ الحَنَفِيَّةِ ، فَقَدَّمَهُ بَينَ يَدَيهِ ، وجَعَلَ الحَسَنَ فِي المَيمَنَةِ ، وجَعَلَ الحُسَينَ فِي المَيسَرَةِ ، ووَقَفَ خَلفَ الرّايَةِ عَلى بَغلَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله .
.
ص: 220
قالَ ابنُ الحَنَفِيَّةِ : فَدَنا مِنَّا القَومُ ، ورَشَقونا بِالنَّبلِ وقَتَلوا رَجُلاً ، فَالتَفَتُّ إلى أميرِ المُؤمِنينَ فَرَأَيتُهُ نائِما قَدِ استَثقَلَ نَوما ، فَقُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، عَلى مِثلِ هذِهِ الحالِ تَنامُ ؟! قَد نَضَحونا بِالنَّبلِ وقَتَلوا مِنّا رَجُلاً وقَد هَلَكَ النّاسُ ! ! فَقالَ : لا أراكَ إلّا تَحِنُّ حَنينَ العَذراءِ ، الرّايَةُ رايَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَأَخَذَها وهَزَّها ، وكانَتِ الرّيحُ في وُجوهِنا ، فَانقَلَبَت عَلَيهِم ، فَحسَرَ عَن ذِراعَيهِ وشَدَّ عَلَيهِم ، فَضَرَبَ بِسَيفِهِ حَتّى صُبِغَ كُمُّ قَبائِهِ وَانحَنى سَيفُهُ (1) .
الإمامة والسياسة_ في ذِكرِ عَلِيٍّ عليه السلام يَومَ الجَمَلِ _: فَشَقَّ عَلِيٌّ في عَسكَرِ القَومِ يَطعَنُ ويَقتُلُ ، ثُمَّ خَرَجَ وهُوَ يَقولُ : الماءَ ، الماءَ . فَأَتاهُ رَجُلٌ بِإِداوَةٍ (2) فيها عَسَلٌ ، فَقالَ لَهُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أمَّا الماءُ فَإِنَّهُ لا يَصلُحُ لَكَ في هذَا المَقامِ ، ولكن اُذَوِّقُكَ هذَا العَسَلَ . فَقالَ : هاتِ ، فَحَسا مِنهُ حُسوَةً ، ثُمَّ قالَ : إنَّ عَسَلَكَ لَطائِفِيٌّ ! قالَ الرَّجُلُ : لَعَجَبا مِنكَ _ وَاللّهِ يا أميرَ المُؤمِنينَ _ لِمَعرِفَتِكَ الطّائِفِيَّ مِن غَيرِهِ في هذَا اليَومِ ، وقَد بَلَغَتِ القُلوبُ الحَناجِرَ ! ! فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنَّهُ وَاللّهِ يَابنَ أخي ما مَلَأَ صَدرَ عَمِّكَ شَيءٌ قَطُّ ، ولا هابَهُ شَيءٌ (3) .
راجع : ص 471 (طمأنينة الإمام في ساحة القتال) .
9 / 5الإِمامُ يَلبَسُ الدِّرعَ البَتراءَالجمل عن محمّد ابن الحنفيّة :دَعا [عَلِيٌّ عليه السلام ]بِدِرعِهِ البَتراءِ ولَم يَلبَسها بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله إلّا يَومَئِذٍ ، فَكانَ بَينَ كَتِفَيهِ مِنها وَهنٌ . فَجاءَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام وفي يَدِهِ شِسعُ نَعلٍ ، فَقال
.
ص: 221
لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : ما تُريدُ بِهذَا الشِّسعِ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ فَقالَ : أربِطُ بِها ما قَد تَهِي (1) مِن هذَا الدِّرعِ مِن خَلفي . فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : أفي مِثلِ هذَا اليَومِ تَلبَسُ مِثلَ هذا ! فَقالَ عليه السلام : ولِمَ ؟ قالَ : أخافُ عَلَيكَ . فَقالَ : لا تَخَف أن اُؤتى مِن وَرائي ، وَاللّهِ يَابنَ عَبّاسٍ ما وَلَّيتُ في زَحفٍ قَطُّ (2) .
راجع : ج 5 ص 496 (كانت درعه بلا ظهر) .
9 / 6صاحِبُ رَايَةِ الحَربِالجمل عن محمّد بن عبد اللّه عن عمرو بن دينار :قالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام لِابنِهِ مُحَمَّدٍ : خُذِ الرّايَةَ وَامضِ _ وعَلِيٌّ عليه السلام خَلفَهُ _ فَناداهُ يا أبَا القاسِمِ ! فَقالَ : لَبَّيكَ يا أبَةِ . فَقالَ : يا بُنَيَّ لا يَستَفِزَّكَ ماتَرى ؛ قَد حَمَلتُ الرّايَةَ وأنَا أصغَرُ مِنكَ فَمَا استَفَزَّني عَدُوّي ، وذلِكَ أنَّني لَم ألقَ أحَدا إلّا حَدَّثَتني نَفسي بِقَتلِهِ ، فَحَدِّث نَفسَكَ _ بِعَونِ اللّهِ _ بِظُهورِكَ عَلَيهِم ، ولا يَخذُلكَ ضَعفُ النَّفسِ بِاليَقينِ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ أشَدُّ الخِذلانِ . قالَ: فَقُلتُ : يا أبَةِ أرجو أن أكونَ كَما تُحِبُّ إن شاءَ اللّهُ . قالَ : فَالزَم رايَتَكَ ، فَإِذا اختَلَطَتِ الصُّفوفُ قِف في مَكانِكَ وبَينَ أصحابِكَ ، فَإِن لَم تَرَ أصحابَكَ فَسَيَرَونَكَ . قالَ : وَاللّهِ إنّي لَفي وَسَطِ أصحابي فَصاروا كُلُّهُم خَلفي وما بَيني وبَينَ القَومِ أحَدٌ يَرُدُّهُم عَنّي ، وأنَا اُريدُ أن أتَقَدَّمَ في وُجوهِ القَومِ ، فَما شَعَرتُ إلّا بِأَبي مِن خَلفي قَد جَرَّدَ سَيفَهُ وهُوَ يَقولُ : لا تَقَدَّمَ حَتّى أكونَ أمامَكَ . فَتَقَدَّمَ عليه السلام بَينَ يَدَيَّ يُهَروِلُ ومَعَهُ طائِفَةٌ مِن أصحابِهِ ، فَضَرَبُوا الَّذينَ في وجَهي حَتّى أنهَضوهُم ولَحِقتُهُم بِالرّايَةِ ، فَوَقَفوا وَقفَةً ، وَاختَلَطَ النّاسُ ، ورَكَدَتِ السُّيوفُ ساعَةً ، فَنَظرتُ إلى أبي يَفرِجُ النّاس
.
ص: 222
يَمينا وشِمالاً ويَسوقُهُم أمامَهُ ، فَأَردتُ أن أجولَ فَكَرِهتُ خِلافَهُ (1) .
مروج الذهب :جاءَ ذُو الشَّهادَتينِ خُزَيمَةُ بنُ ثابِتٍ إلى عَلِيٍّ ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، لا تُنكِسِ اليَومَ رَأسَ مُحَمَّدٍ ، وَاردُد إلَيهِ الرّايَةَ ! فَدَعا بِهِ ، ورَدَّ عَلَيهِ الرّايَةَ ، وقالَ : اِطعَنهُمُ طَعنَ أبيكَ تُحمَدِ لا خَيرَ فِي الحَربِ إذا لَم توقَدِ بِالمَشرَفِيِّ وَالقَنَا المُسَرَّدِ (2)
9 / 7اِشتِدادُ القِتالِتاريخ الطبري عن القعقاع :ما رَأَيتُ شَيئا أشبَهَ بِشَيءٍ مِن قِتالِ القَلبِ يَومَ الجَمَلِ بِقِتالِ صِفّينَ ، لَقَد رَأَيتُنا نُدافِعُهُم بِأَسِنَّتِنا ونَتَّكِئُ عَلى أزِجَّتِنا (3) ، وهُم مِثلُ ذلِكَ ، حَتّى لَو أنَّ الرِّجالَ مَشَت عَلَيها لَاستَقَلَّت بِهِم (4) .
البداية والنهاية :قالَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] لِابنِهِ مُحَمَّدِ ابنِ الحَنَفِيَّةِ : وَيحَكَ ! تَقَدَّم بِالرّايَةِ . فَلَم يَستَطِع ، فَأَخَذَها عَلِيٌّ مِن يَدِهِ ، فَتَقَدَّمَ بِها ، وجَعَلَتِ الحَربُ تَأخُذُ وتُعطي ؛ فَتارَةً لِأَهلِ البَصرَةِ ، وتارَةً لِأَهلِ الكوفَةِ ، وقُتِلَ خَلقٌ كَثيرٌ وجَمٌّ غَفيرٌ، ولَم تُرَ وَقعَةٌ أكثَرَ مِن قَطعِ الأَيدي وَالأَرجُلِ فيها مِن هذِهِ الوَقعَةِ (5) .
.
ص: 223
الإمامة والسياسة :اِقتَتَلَ القَومُ قِتالاً شَديدا ، فَهَزَمَت يَمَنُ البَصَرَةِ يَمَنَ عَلِيٍّ ، وهَزَمَت رَبيعَةُ البَصرَةِ رَبيعَةَ عَلِيٍّ . . . ثُمَّ تَقَدَّم عَلِيٌّ فَنَظَرَ إلى أصحابِهِ يُهزَمونَ ويُقتَلونَ ، فَلَمّا نَظَرَ إلى ذلِكَ صاحَ بِابنِهِ مُحَمَّدٍ _ ومَعَهُ الرّايَةُ _ : أنِ اقتَحِم ! فَأَبطَأَ وثَبَتَ ، فَأَتى عَلِيٌّ مِن خَلفِهِ فَضَرَبَهُ بَينَ كَتِفَيهِ ، وأخَذَ الرّايَةَ مِن يَدِهِ ، ثُمَّ حَمَلَ فَدَخَلَ عَسكَرَهُم ، وإنَّ المَيمَنَتَينِ وَالمَيسَرَتَينِ تَضطَرِبانِ ؛ في إحداهُما عَمّارٌ ، وفِي الاُخرى عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ ، ومُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ . قالَ : فَشَقَّ عَلِيٌّ في عَسكَرِ القَومِ يَطعَنُ ويَقتُلُ ، ثُمَّ خَرَجَ . . . ثُمَّ أعطَى الرّايَةَ لِابنِهِ وقالَ : هكَذا فَاصنَع . فَتَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ بِالرّايَةِ ومَعَهُ الأَنصارُ ، حَتَّى انتَهى إلَى الجَمَلِ وَالهَودَجِ وهَزَمَ ما يَليهِ ، فَاقتَتَلَ النّاسُ ذلِكَ اليَومَ قِتالاً شَديدا ، حَتّى كَانتِ الواقِعَةُ والضَّربُ عَلَى الرُّكَبِ (1) .
الجمل عن محمّد ابن الحنفيّة :اِلتَقَينا وقَد عَجَّلَ أصحابُ الجَمَلِ وزَحَفوا عَلَينا ، فَصاحَ أبي عليه السلام : اِمضِ . فَمَضَيتُ بَينَ يَدَيهِ أقطو (2) بِالرّايَةِ قَطوا . وتَقَدَّمَ سَرعانَ أصحابُنا ، فَلاذَ أصحابُ الجَمَلِ ، ونَشَبَ القِتالُ ، وَاختَلَفَتِ السُّيوفُ ، وأبي بَينَ كَتِفَيَّ يَقولُ : يا بُنَيَّ تَقَدَّم ! ولَستُ أجِدُ مُتَقَدَّما ، وهُوَ يَقولُ : تَقَدَّم ، فَقُلتُ : ما أجِدُ مُتَقَدَّما إلّا عَلَى الأَسِنَّةِ ! ! فَغَضِبَ أبي عليه السلام وقالَ : أقولُ لَكَ : تَقَدَّم ، فَتَقولُ : عَلَى الأَسِنَّةِ ! ! ثِق يا بُنَيَّ ، وتَقَدَّم بَينَ يَدَيَّ عَلَى الأَسِنَّةِ ! ! وتَناوَلَ الرّايَةَ مِنّي ، وتَقَدَّمَ يُهَروِلُ بِها ، فَأَخَذَتني حِدَّةٌ ، فَلَحِقتُهُ وقُلتُ : أعطِنِي الرّايَةَ . فَقالَ لي : خُذها . وقَد عَرَفتُ ما وَصَفَ لي (3) .
.
ص: 224
9 / 8مُقاتَلَةُ الإِمامِ بِنَفسِهِالفتوح :قاتَلَ مُحَمَّدُ ابنُ الحَنَفِيَّةِ ساعَةً بِالرّايَةِ ثُمَّ رَجَعَ ، وضَرَبَ عَلِيٌّ رضى الله عنهبِيَدِهِ إلى سَيفِهِ فَاستَلَّهُ ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى القَومِ ، فَضَرَبَ فيهِم يَمينا وشِمالاً ، ثُمَّ رَجَعَ وقَدِ انحَنى سَيفُهُ فَجَعَلَ يُسَوّيهِ بِرُكبَتِهِ ، فَقالَ لَهُ أصحابُهُ : نَحنُ نَكفيكَ ذلِكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَلَم يُجِب أحَدا حَتّى سَوّاهُ ، ثُمَّ حَمَلَ ثانِيَةً حَتَّى اختَلَطَ بِهِم ، فَجَعَلَ يَضرِبُ فيهِم قُدُما قُدُما حَتَّى انحَنى سَيفُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلى أصحابِهِ ، وَوَقَفَ يُسَوّي السَّيفَ بِرُكبَتِهِ وهُوَ يَقولُ : وَاللّهِ ما اُريدُ بِذلِكَ إلّا وَجهَ اللّهِ وَالدّارَ الآخِرَةَ ! ثُمَّ التَفَتَ إلَى ابنِهِ مُحمَّدِ ابنِ الحَنَفِيَّةِ وقالَ : هكَذَا اصنَع يابُنَيَّ (1) .
شرح نهج البلاغة عن أبي مخنف :زَحَفَ عَلِيٌّ عليه السلام نَحوَ الجَمَلِ بِنَفسِهِ في كَتيبَتِهِ الخَضراءِ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، وحَولَهُ بَنوهُ حَسنٌ وحُسَينٌ ومُحَمَّدٌ عليهم السلام ، ودَفَعَ الرّايَةَ إلى مُحَمَّدٍ ، وقالَ : أقدِم بِها حَتّى تَركُزَها في عَينِ الجَمَلِ ، ولا تَقِفَنَّ دونَهُ . فَتَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ ، فَرشَقَتهُ السِّهامُ ، فَقالَ لِأَصحابِهِ : رُوَيدا ، حَتّى تَنفَدَ سِهامُهُم ، فَلَم يَبقَ لَهُم إلّا رَشقَةٌ أو رَشقَتانِ . فَأَنفَذَ عَلِيٌّ عليه السلام (2) إلَيهِ يَستَحِثُّهُ ، ويَأمُرُهُ بِالمُناجَزَةِ ، فَلَمّا أبطَأَ عَلَيهِ جاءَ بِنَفسِهِ مِن خَلفِهِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ اليُسرى عَلى مَنكِبِهِ الأَيمَنِ وقالَ لَهُ : أقدِم ، لا اُمَّ لَكَ ! فَكانَ مُحَمَّدٌ إذا ذَكَرَ ذلِكَ بَعدُ يَبكي ، ويَقولُ : لَكَأَنّي أجِدُ ريحَ نَفَسِهِ في قَفايَ ، وَاللّهِ لا أنسى أبَدا .
.
ص: 225
ثُمَّ أدرَكَت عَلِيّا عليه السلام رِقَّةٌ عَلى وَلَدِهِ ، فَتَناوَلَ الرّايَةَ مِنهُ بِيَدِه اليُسرى وذُو الفِقارِ مَشهورٌ في يُمنى يَدَيهِ ، ثُمَّ حَمَلَ فَغاصَ في عَسكَرِ الجَمَلِ ، ثمّ رَجَعَ وقَدِ انحَنى سَيفُهُ ، فَأَقامَهُ بِرُكبَتِهِ . فَقالَ لَهُ أصحابُهُ وبَنوهُ وَالأَشتَرُ وعَمّارٌ : نَحنُ نَكفيكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَلم يُجِب أحَدا مِنهُم ، ولا رَدَّ إلَيهِم بَصَرَهُ ، وظَلَّ يَنحِطُ (1) ويَزأَرُ زَئيرَ الأَسَدِ ، حَتّى فَرِقَ مَن حَولَهُ ، وتَبادَروهُ ، وإنَّهُ لَطامِحٌ بِبَصَرِهِ نَحوَ عَسكَرِ البَصرَةِ ، لا يُبصِرُ مَن حَولَهُ ، ولا يَرُدُّ حِوارا . ثُمَّ دفَعَ الرّايَةَ إلَى ابنِهِ مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ حَمَلَ حَملَةً ثانِيَةً وَحدَهُ ، فَدَخَلَ وَسَطَهُم فَضَرَبَهُم بِالسَّيفِ قُدُما قُدُما ، وَالرِّجالُ تَفِرُّ مِن بَينِ يَدَيهِ ، وتَنحازُ عَنهُ يُمنَةً ويَسرَةً ، حَتّى خَضَبَ الأَرضَ بِدِماءِ القَتلى ، ثُمَّ رَجَعَ وقَدِ انحَنى سَيفُهُ ، فَأقامَهُ بِرَكبَتِهِ ، فَاعصَوصَبَ (2) بِهِ أصحابُهُ ، وناشَدوهُ اللّهَ في نَفسِهِ وفِي الإِسلام ، وقالوا : إنَّكَ إن تُصَب يَذهبِ الدّينُ ! فَأَمسِك ونَحنُ نَكفيكَ . فَقالَ : وَاللّهِ ، ما اُريدُ بِما تَرَونَ إلّا وَجهَ اللّهِ وَالدّارَ الآخِرَةَ . ثُمَّ قالَ لِمُحَمَّدٍ ابنِهِ : هكَذا تَصنَعُ يَابنَ الحَنَفِيَّةِ . فَقالَ النّاسُ : مَنِ الَّذي يَستَطيعُ ما تَستَطيعُهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! ! (3)
المصنّف عن الأعمش عن رجل قد سمّاه :كُنتُ أرى عَلِيّا يَحمِلُ فَيَضرِبُ بِسَيفِهِ حَتّى يَنثَنِيَ ، ثُمَّ يَرجِعُ فَيقولُ : لا تَلوموني ولوموا هذا . ثُمَّ يَعودُ فَيُقَوِّمُهُ (4) .
شرح نهج البلاغة عن أبي مخنف :خَرَجَ عَبدُ اللّهِ بنُ خَلَفٍ الخُزاعِيُّ _ وهُوَ رَئيسُ البَصرَةِ ، وأكثَرُ أهلِها مالاً وضِياعا _ فَطَلَبَ البِرازَ ، وسَأَلَ ألّا يَخرُجَ إلَيه
.
ص: 226
إلّا عَلِيٌّ عليه السلام ، وَارتَجَزَ فَقالَ : أبا تُرابٍ ادنُ مِنّي فِترا فَإِنَّني دانٍ إلَيكَ شِبرا وإنَّ في صَدري عَلَيكَ غِمرا فَخَرَجَ إلَيهِ عَلِيٌّ عليه السلام ، فَلَم يُمهِلُهُ أن ضَرَبَهُ فَفَلَقَ هامَتَهُ (1) .
الفتوح :اِنفَرَقَ عَلِيٌّ يُريدُ أصحابَهُ ، فَصاحَ بِهِ صائِحٌ مِن وَرائِهِ ، فَالتَفَتَ وإذا بِعَبدِاللّهِ بنِ خَلَفٍ الخُزاعِيِّ وهُوَ صاحبُ مَنزِلِ عائِشَةَ بِالبَصرَةِ ، فَلَمّا رَآهُ عَلِيٌّ عَرَفَهُ ، فَناداهُ : ما تَشاءُ يَابنَ خَلَفٍ ؟ قالَ : هَل لَكَ فِي المُبارَزَةِ ؟ قالَ عَلِيٌّ : ما أكرَهُ ذلِكَ ، ولكن وَيحَكَ يَابنَ خَلَفٍ ما راحَتُكَ فِي القَتلِ وقَد عَلِمتَ مَن أنَا ! ! فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ خَلَفٍ : دَعني مِن مَدحِكَ يَابنَ أبي طالِبٍ ، وَادنُ مِنّي لِتَرى أيُّنا يَقتُلُ صاحِبَهُ ! ثُمَّ أنشَدَ شِعرا ، فَأَجابَهُ عَلِيٌّ عَلَيهِ ، وَالتَقَوا لِلضَّربِ ، فَبادَرَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ خَلَفٍ بِضَربَةٍ دَفَعَها عَلِيٌّ بِحَجَفَتِهِ (2) ، ثُمَّ انحَرَفَ عَنهُ عَلِيٌّ فَضََربَهُ ضَرَبَةً رَمى بِيَمينِهِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ اُخرى فَأَطارَ قِحفَ رَأسِهِ (3) .
شرح نهج البلاغة عن أبي مخنف :تَناوَلَ عَبدُ اللّهِ بنُ أبزى خِطامَ الجَمَلِ ، وكانَ كُلُّ مَن أراد
.
ص: 227
الجِدَّ فِي الحَربِ وقاتَلَ قِتالَ مُستَميتٍ يَتَقَدَّمُ إلَى الجَمَلِ فَيَأخُذُ بِخِطامِهِ ، ثُمَّ شَدَّ عَلى عَسكَرِ عَلِيٍّ عليه السلام وقالَ : أضرِبُهُم ولا أرى أبا حَسَن ها إنَّ هذا حَزَنٌ مِنَ الحَزَن فَشَدَّ عَلَيهِ عَلِيٌّ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام بِالرُّمحِ ، فَطَعَنَهُ ، فَقَتَلَهُ وقالَ : قَد رَأَيتَ أبا حَسَنٍ ، فَكَيفَ رَأَيتَهُ ! وتَرَكَ الرُّمحَ فيهِ (1) .
9 / 9مُقاتَلَةُ عَمّارٍالفتوح :خَرَجَ مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ وعَمّارُ بنُ ياسِرٍ حَتّى وَقَفا قُدّامَ الجَمَلِ . قالَ : وتَبِعَهُمَا الأَشتَرُ ووَقَفَ مَعَهُما . قالَ : فَقالَ رَجُلٌ مِن أصحابِ الجَمَلِ : مَن أنتُم أيُّهَا الرَّهطُ ؟ قالوا : نَحنُ مِمَّن لا تُنكِرونَهُ ! وأعلَنوا بِأَسمائِهِم _ وَدَعوا بِأَسمائِهِم _ ودُعَوا إلَى البِرازِ ، فَخَرَجَ عُثمانُ الضَّبِّيُّ وهُوَ يُنشِدُ شِعرا ، فَخَرَجَ إلَيهِ عَمّارُ بُن ياسِرٍ فَأَجابَهُ عَلى شِعرِهِ ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيهِ عَمّارٌ فَقَتَلَهُ (2) .
الفتوح :خَرَجَ عَمرُو بنُ يَثرِبِيٍّ _ مِن أصحابِ الجَمَلِ _ حَتّى وَقَفَ بَينَ الصَّفَّينِ قَريبا مِنَ الجَمَلِ ، ثُمَّ دَعا إلَى البِرازِ وسَأَلَ النِّزالَ ، فَخَرَجَ إلَيهِ عَلباءُ بنُ الهَيثَمِ مِن أصحابِ عَلِيٍّ رضى الله عنه ، فَشَدَّ عَلَيهِ عَمروٌ فَقَتَلَهُ . ثُمَّ طَلَبَ المُبارَزَةَ ، فَلَم يَخرُج إلَيهِ أحَدٌ، فَجَعَلَ يَجولُ في مَيدانِ الحَربِ وهُوَ يَرتَجِزُ ويَقولُ شِعرا ، ثُمَّ جالَ وطَلَبَ البِرازَ ، فَتَحاماهُ النّاسُ وَاتَّقَوا بَأسَهُ ، قالَ : فَبَدَرَ إلَيهِ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ وهُوَ يُجاوِبُهُ عَلى شِعرِهِ ، وَالتَقَوا
.
ص: 228
بِضَربَتَينِ ، فَبادَرَهُ عَمّارٌ بِضَربَةٍ فَأَرداهُ عَن فَرَسِهِ ، ثُمَّ نَزَلَ إلَيهِ عَمّارٌ سَريعا فَأَخَذَ بِرِجلِهِ وجَعَلَ يَجُرُّهُ حَتّى ألقاهُ بَينَ يَدي عَلِيٍّ رضى الله عنه . فَقالَ عَلِيٌّ: اِضرِب عُنُقَهُ . فَقالَ عَمرٌو : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، استَبقِني حَتّى أقتُلَ لَكَ مِنهُم كَما قَتَلتُ مِنكُم . فَقالَ عَلِيٌّ : يا عَدُوَّ اللّهِ ! أبَعدَ ثَلاثَةٍ مِن خِيارِ أصحابي أستَبقيكَ (1) ؟ ! لا كانَ ذلِكَ أبَدا . قالَ : فَادنُني حَتّى اُكَلِّمَكَ في اُذُنِكَ بِشَيءٍ . فَقالَ عَلِيٌّ : أنتَ رَجُلٌ مُتَمَرِّدٌ ، وقَد أخبَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِكُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَلَيَّ ، وأنتَ أحَدُهُم . فَقالَ عَمرُو بنُ يَثرِبِيٍّ: أمَا وَاللّهِ لَو وَصَلتُ إلَيكَ لَقَطَعتُ اُذُنَكَ _ أو قالَ : أنفَكَ _ قالَ : فَقَدَّمَهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ (2) .
تاريخ الطبري عن داود بن أبي هند عن شيخ من بني ضبّة :اِرتَجَزَ يَومِئِذٍ ابنُ يَثرِبِيٍّ : أنا لِمَن أنكَرَنِي ابنُ يَثرِبيّ قَاتِلُ عَلباءَ وهِندِ الجَمَليّ وَابنٍ لِصوحانَ عَلى دينِ عَليّ وقالَ : مَن يُبارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ ، فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ بَرَزَ لَهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ . وَارتَجَزَ وقالَ : أقتُلُهُم وقَد أرى عَلِيّا ولَو أشا أوجَرتُه عَمرِيّا فَبَرَزَ لَهُ عَمّارُ بُن ياسِرٍ ، وإنَّهُ لَأَضعَفُ مَن بارَزَهُ ، وإنَّ النّاسَ لَيَستَرجِعونَ حينَ قامَ عَمّارٌ ، وأنَا أقولُ لِعَمّارٍ _ مِن ضَعفِهِ _ : هذا وَاللّهِ لاحِقٌ بِأَصحابِهِ ! وكانَ قَضيفا (3) ، حَمشَ (4) السّاقَينِ ، وعَلَيهِ سَيفٌ حَمائِلُهُ تَشِفُّ عَنهُ قَريبٌ مِن إبطِهِ ، فَضَرَبَهُ (5) ابنُ يَثرِبى ¨ٍّ
.
ص: 229
بِسَيفِهِ ، فَنَشَبَ في حَجَفَتِهِ ، وضَرَبَهُ عَمّارُ وأوهَطَهُ (1) ، ورمَى أصحابُ عَلِيٍّ ابنَ يَثرِبِيٍّ بِالحِجارَةِ حَتّى أثخَنوهُ وَارتَثّوهُ (2)(3) .
9 / 10مُقاتَلَةُ الأَشتَرِ وَابنِ الزُّبَيرِالجمل :لاذَ بِالجَمَلِ عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَير وتَناوَلَ خِطامَهُ بِيَدِهِ ، فَقالَت عائِشَةُ : مَن هذَا الَّذي أخَذَ بِخِطامِ جَمَلي ؟ قالَ : أنَا عَبدُ اللّهِ ؛ اِبنُ اُختِكِ . فَقالَت : وا ثُكلَ أسماءَ ! ثُمَّ بَرَزَ الأَشتَرُ إلَيهِ ، فَخَلّى الخِطامَ مِن يَدِهِ وأقبَلَ نَحوَهُ ، فَقامَ مَقامَهُ فِي الخِطامِ عَبدٌ أسوَدُ ، وَاصطَرَعَ عَبدُ اللّهِ وَالأَشتَرُ ، فَسَقَطا إلَى الأَرضِ ، فَجَعَلَ ابنُ الزُّبَيرِ يَقولُ _ وقَد أخَذَ الأشتَرُ بِعُنُقِهِ _ : اُقتُلوني ومالِكا ، وَاقتُلوا مالِكا مَعي ! قالَ الأَشتَرُ : فَما سَرَّني إلّا قَولُهُ «مالِكٌ» ؛ لَو قالَ «الأَشتَرُ» لَقَتَلوني . ووَاللّهِ لَقَد عَجِبتُ مِن حُمقِ عَبدِ اللّهِ ؛ إذ يُنادي بِقَتلِهِ وقَتلي ، وما كانَ يَنفَعُهُ المَوتُ إن قُتِلتُ وقُتِلَ مَعي ، ولَم تَلِدِ امرَأَةٌ مِنَ النَّخَعِ غَيري ! ! فَأَفرَجتُ عَنهُ ، فَانهَزَمَ وبِهِ ضَربَةٌ مُثخِنَةٌ في جانِبِ وَجهِهِ (4) .
.
ص: 230
المصنّف عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير :إنَّ الأَشتَرَ وَابنَ الزُّبَيرِ التَقَيا ، فَقالَ ابنُ الزُّبَيرِ : فَما ضَرَبتُهُ ضَربَةً حَتّى ضَرَبَني خَمسا أو سِتّا _ قالَ : ثُمَّ قالَ : _ و ألقاني بِرِجلي (1) . ثُمَّ قالَ : واللّهِ لَولا قَرابَتُكَ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما تَرَكتُ مِنكَ عُضوا مَعَ صاحِبِهِ ! (2)
تاريخ دمشق عن زهير بن قيس :دَخَلتُ مَعَ ابنِ الزُّبَيرِ الحَمّامَ ، فَإِذا في رَأسِهِ ضَربَةٌ لَو صُبَّ فيها قارَورَةٌ مِن دُهنٍ لَاستَقَرَّت . قالَ : تَدري مَن ضَرَبَني هذِهِ ؟ ! قُلتُ : لا . قالَ : ضَربَنيها ابنُ عَمِّكَ الأَشتَرُ (3) .
9 / 11قَتلُ طَلحَةَ بِيَدِ مَروانَالفتوح :جَعَلَ طَلحَةُ يُنادي بِأَعلى صَوتِهِ : عِبادَ اللّهِ ! الصَّبرَ الصَّبرَ ! إنَّ بَعدَ الصَّبرِ النَّصرُ وَالأَجرُ . فَنَظَرَ إلَيهِ مَروانُ بنُ الحَكَمِ ، فَقالَ لِغُلامٍ لَهُ : وَيلَكَ يا غُلامُ ! وَاللّهِ إنّي لَأَعلَمُ أنَّه ما حَرَّضَ عَلى قَتلِ عُثمانَ يَومَ الدّارِ أحَدٌ كَتَحريضِ طَلحَةَ ولا قَتَلَهُ سِواهُ ! ولكِنِ استُرني فَأَنتَ حُرٌّ ؛ فَسَتَرَهُ الغُلامُ . ورَمى مَروانُ بِسَهمٍ مَسمومٍ لِطَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ ، فَأَصابَهُ بِهِ ، فَسَقَطَ طَلحَةُ لِما بِهِ وقَد غُمِيَ عَلَيهِ . ثُمَّ أفاقَ ، فَنَظَرَ إلَى الدَّمِ يَسيلُ مِنهُ فَقالَ : إنّا للّهِِ وإنّا إلَيه راجِعونَ ، أظُنُّ وَاللّهِ أنَّنا عُنينا بِهذِهِ الآيَةِ مِن كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ إذ يَقولُ : «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَ_لَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ » (4)(5) .
.
ص: 231
الجمل عن ابن أبي عون :سَمِعتُ مَروانَ بنَ الحَكَم يَقولُ : لَمّا كانَ يَومُ الجَمَلِ قُلتُ : وَاللّهِ لاُدرِكَنَّ ثَأرَ عُثمانَ ! فَرَمَيتُ طَلحَةَ بِسَهمٍ فَقَطَعتُ نِساهُ ، وكانَ كُلَّما سُدَّ المَوضِعُ غَلَبَ الدَّمُ وألَمُهُ ، فَقالَ لِغُلامِهِ : دَعهُ فَهُوَ سَهمٌ أرسَلَهُ اللّهُ إلَيَّ . ثُمَّ قالَ لَهُ : وَيلَكَ ! اُطلُب لي مَوضِعا أحتَرِزُ فيهِ ، فَلَم يَجِد لَهُ مَكانا ، فَاحتَمَلَهُ عُبَيدُ اللّهِ بنُ مَعمَرٍ فَأَدخَلَهُ بَيتَ أعرابِيَّةٍ ، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَبَرَ هُنَيَّةً ورَجَعَ ، فَوَجَدَهُ قَد ماتَ (1) .
9 / 12اِستمرارُ الحَربِ بِقِيادَةِ عائِشَةَتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :كانَ القِتالُ الأَوَّلُ يَستَحِرُّ إلَى انتِصافِ النَّهارِ ، واُصيبَ فيهِ طَلحَةُ ، وذَهَبَ فيهِ الزُّبَيرُ ، فَلَمّا أوَوا إلى عائِشَةَ وأبى أهلُ الكوفَةِ إلَا القِتالَ ولَم يُريدوا إلّا عائِشَةَ ، ذَمَرَتهم (2) عائِشَةُ . فَاقتَتَلوا حَتّى تَنادَوا فَتَحاجَزوا ، فَرَجَعوا بَعدَ الظُّهرِ فَاقتَتَلوا ، وذلِكَ يَومَ الخَميسِ في جُمادَى الآخِرَةِ ، فَاقتَتَلوا صَدرَ النَّهارِ مَعَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، وفي وَسَطِهِ مَعَ عائِشَةَ (3) .
تاريخ الطبري عن الشعبي :حَمَلَت مَيمَنَةُ أميرِ المُؤمِنينَ عَلى مَيسَرَةِ أهلِ البَصرَةِ فَاقتَتَلوا، ولاذَ النّاسُ بِعائِشَةَ ، أكثَرُهُم ضُبَّةُ وَالأَزدُ . وكانَ قِتالُهُم مِن ارتِفاعِ النَّهارِ إلى قَريبٍ مِنَ العَصرِ ، ويُقالُ : إلى أن زالَتِ الشَّمسُ ، ثُمَّ انهَزَموا (4) .
راجع : ص 174 (استبصار أبي بكرة لمّا رأى عائشة تأمر وتنهى) .
.
ص: 232
9 / 13قِصَّةُ رَجُلٍ مُصطَلَمِ الاُذُنِمروج الذهب :ذَكَرَ المَدائِنِيُّ أنَّهُ رَأى بِالبَصرَةِ رَجُلاً مُصطَلَمَ (1) الاُذُنِ ، فَسَأَلَهُ عَن قِصَّتِهِ ، فَذَكَرَ أنَّهُ خَرَجَ يَومَ الجَمَلِ يَنظُرُ إلَى القَتلى ، فَنَظَرَ إلى رَجُلٍ مِنهُم يَخفِضُ رَأسَهُ ويَرفَعُهُ وهُوَ يَقولُ : لَقَد أورَدَتنا حَومَةَ المَوتِ اُمُّنا فَلَم تَنصَرِف إلّا ونَحنُ رِواءُ أطَعنا بَني تَيمٍ لِشَقوَةِ جَدِّنا وما تَيمٌ إلّا أعبُدٌ وإماءُ فُقُلتُ : سُبحانَ اللّهِ ! أ تَقولُ هذا عِندَ المَوتِ ! قُل : لا إلهَ إلَا اللّهُ ! ! فَقالَ : يَابنَ اللَّخناءِ ، إيّايَ تَأمُرُ بِالجَزَعِ عِندَ المَوتِ ! ! فَوَلَّيتُ عَنهُ مُتَعَجِّبا مِنهُ ، فَصاحَ بي: اُدنُ مِنّي ولَقِّنِّي الشَّهادَةَ ، فَصِرتُ إلَيه ، فَلَمّا قَرُبتُ مِنهُ استَدناني ، ثُمَّ التَقَمَ اُذُني فَذَهَبَ بِها ، فَجَعَلتُ ألعُنُهُ وأدعو عَلَيهِ . فَقالَ : إذا صِرتَ إلى اُمِّكَ فَقالَت : مَن فَعَلَ هذا بِكَ ؟فَقُل : عُمَيرُ بنُ الأَهلَبِ الضَّبِّيُّ ، مَخدوعُ المَرأَةِ الَّتي أرادَت أن تَكونَ أميرَ المُؤمِنينَ (2) .
9 / 14عَقرُ الجَمَلِ وتَفَرُّقُ أصحابِهِالأخبار الطوال :لَمّا رَأى عَلِيٌّ لَوثَ (3) أهلِ البَصرَةِ بِالجَمَلِ ، وأنَّهُم كُلَّما كُشِفوا عَنهُ عادوا فَلاثوا بِهِ ، قالَ لِعمّارٍ وسَعيدِ بنِ قَيسٍ وقَيسِ بنِ سَعدِ بنِ عُبادَةَ وَالأَشتَرِ وَابنِ بُدَيل
.
ص: 233
ومُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ وأشباهِهِم مِن حُماةِ أصحابِهِ : إنَّ هؤُلاءِ لا يَزالونَ يُقاتِلونَ ما دامَ هذا الجَمَلُ نَصبَ أعيُنِهِم ، ولَو قَد عُقِرَ فَسَقَطَ لَم تَثبُت لَهُ (1) ثابِتَةٌ . فَقَصَدوا بِذَوِي الجِدِّ مِن أصحابِهِ قَصدَ الجَمَلِ حَتّى كَشَفوا أهلَ البَصرَةِ عَنهُ ، وأفضى إلَيهِ رَجُلٌ مِن مُرادِ الكوفَةِ يُقالُ لَهُ : أعيَنُ بنُ ضُبَيعَةَ ، فَكَشَفَ عُرقوبَهُ (2) بِالسَّيفِ ، فَسَقَطَ ولَهُ رُغاءٌ ، فَغَرِقَ فِي القَتلى (3) .
الجمل عن محمّد ابن الحنفيّة :ثُمَّ تَقَدَّمَ [أبي ]بَينَ يَدَيَّ وجَرَّدَ سَيفَهُ وجَعَلَ يَضرِبُ بِهِ ، ورَأَيتُهُ وقَد ضَرَبَ رَجُلاً فَأبانَ زَنَدَهُ ، ثُمَّ قالَ : اِلزَم رايَتَكَ يا بُنَيَّ ، فَإِنَّ هذَا استِكفاءٌ . فَرَمَقتُ لِصَوتِ أبي ولَحَظتُهُ فَإِذا هُوَ يُورِدُ السَّيفَ ويَصدُرُهُ ولا أرى فيهِ دَما ! وإذا هُوَ يُسرِعُ إصدارَهُ فَيَسبِقُ الدَّمَ . وأحدَقنا بِالجَمَلِ ، وصارَ القِتالُ حَولَهُ ، وَاضطَرَبنا أشَدَّ اضطِرابٍ رَآهُ راءٍ حَتّى ظَنَنتُ أنَّهُ القَتلُ . فَصاحَ أبي عليه السلام : يَابنَ أبي بَكرٍ اقطَعِ البِطانَ ! فَقَطَعَهُ ، وألقَى الهَودَجَ ؛ فَكَأَنَّ _ وَاللّهِ _ الحَربَ جَمرَةٌ صُبَّ عَلَيهَا الماءُ (4) .
مروج الذهب :بَعَثَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] إلى وَلَدِهِ مُحمّدِ ابنِ الحَنَفِيَّةِ _ وكانَ صاحِبَ رايَتِهِ _ : اِحمِل عَلَى القَومِ . فَأَبطَأَ مُحَمَّدٌ بِحَملَتِهِ ، وكانَ بِإِزائِهِ قَومٌ مِنَ الرُّماةِ يَنتَظِرُ نَفادَ سِهامِهِم ، فَأَتاهُ عَلِيٌّ فَقالَ : هَلّا حَمَلتَ ! فَقالَ : لا أجِدُ مُتَقَدَّما إلّا عَلى سَهمٍ أو سِنانٍ ، وإنّي مُنتَظِرٌ نَفادَ سِهامِهِم وأحمِلُ . فَقالَ لَهُ: اِحمِل بَينَ الأَسِنَّةِ ؛ فَإِنَّ لِلمَوتِ عَلَيكَ جُنَّةً .
.
ص: 234
فَحَمَلَ مُحَمَّدٌ ، فَشَكَّ بَينَ الرِّماحِ وَالنُّشّابِ ، فَوَقَفَ ، فَأَتاهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَهُ بِقائِمِ سَيفِهِ وقالَ : أدرَكَكَ عِرقٌ مِن اُمِّكَ ! وأخَذَ الرّايَةَ وحَمَلَ ، وحَمَلَ النّاسُ مَعَهُ ، فَما كانَ القَومُ إلّا كَرَمادٍ اشتَدَّتِ بِهِ الرّيحُ في يَومٍ عاصِفٍ (1) .
الجمل عن محمّد ابن الحنفيّة :نَظَرتُ إلى أبي يَفرِجُ النّاسَ يَمينا وشِمالاً ، ويَسوقُهُم أمامَهُ . . . حَتَّى انتَهى إلَى الجَمَلِ وحَولَهُ أربَعَةُ آلافِ مُقاتِلٍ مِن بَني ضَبَّةَ وَالأَزدِ وتَميمٍ وغِيرِهِم ، فَصاحَ : اِقطَعوا البِطانَ ! فَأَسرَعَ مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ فَقَطَعَهُ ، وَاطَّلَعَ عَلَى الهَودَجِ ، فَقالَت عائِشَةُ : مَن أنتَ ؟ فَقالَ : أبغَضُ أهلِكِ إلَيكِ . قالَت : اِبنُ الخَثعَمِيَّةِ ؟ قالَ : نَعَم ، ولَم تَكُن دونَ اُمَّهاتِكِ . قالَت : لَعَمري ، بَل هِيَ شَريفَةٌ ، دَع عَنكَ هذا ، الحَمدُ للّهِِ الَّذي سَلَّمَكَ . قالَ : قَد كانَ ذلِكَ ما تَكرَهينَ . قالَت : يا أخي لَو كَرِهتُهُ ما قُلتُ ما قُلتُ ! قالَ : كُنتِ تُحِبّينَ الظَّفَرَ وأنّي قُتِلتُ . قالَت : قَد كُنتُ اُحِبُّ ذلِكَ ، لكِن لَمّا صِرنا إلى ما صِرنا إلَيهِ أحبَبتُ سَلامَتَكَ ؛ لِقَرابَتي مِنكَ ، فَاكفُف ولا تُعَقِّبِ الاُمورَ ، وخُذِ الظّاهِرَ ولا تَكُن لُوَمَةً ولا عُذَلَةً ، فَإِنَّ أباكَ لَم يَكُن لُوَمَةً ولا عُذَلَةً . وجاءَ عَلِيٌّ عليه السلام فَقَرَعَ الهَودَجَ بِرُمحِهِ ، وقالَ : يا شُقَيراءُ ، أبِهذا أوصاكِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ !
.
ص: 235
قالَت : يَابنَ أبي طالِبٍ قَد مَلَكتَ فَأَسجِح (1) . وجاءَها عَمّارٌ فَقالَ لَها : يا اُمّاهُ ! كَيفَ رَأَيتِ ضَربَ بَنيكِ اليَومَ دونَ دينِهِم بِالسَّيفِ ؟ فَصَمَتَت ولَم تُجِبهُ . وجاءَها مالِكُ الأَشتَرُ وقالَ لَها : الحَمدُ للّهِِ الَّذي نَصَرَ وَلِيَّهُ ، وكَبَتَ عَدُوَّهُ ، «جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَ_طِ_لُ إِنَّ الْبَ_طِ_لَ كَانَ زَهُوقًا» (2) ، فَكَيفَ رَأَيتِ صُنعَ اللّهِ بِكِ يا عائِشَةُ ؟ فَقالَت : مَن أنتَ ثَكِلَتكَ اُمُّكَ ؟ فَقالَ : أنَا ابنُكِ الأَشتَرُ . قالَت : كَذَبتَ، لَستُ بِاُمِّكَ . قالَ : بَلى ، وإن كَرِهتِ . فَقالَت : أنتَ الَّذي أرَدتَ أن تُثكِلَ اُختي أسماءَ ابنَها ؟ فَقالَ : المَعذِرَةُ إلَى اللّهِ ثُمَّ إلَيكِ ، وَاللّهِ إنّي لَولا كُنتُ طاوِيا ثَلاثَةً لَأَرَحتُكِ مِنهُ ، وأنشَأَ يَقولُ ، بَعدَ الصَّلاةِ عَلَى الرَّسولِ : أعائشُ لَولا أنَّني كُنتُ طاوِيا ثَلاثا لَغادَرتِ ابنَ اُختِكِ هالِكا غَداةَ يُنادي وَالرِّماحُ تَنوشُهُ بِآخِرِ صَوتٍ اُقتُلوني ومالِكا فَبَكَت وقالَت : فَخَرتُم وغَلَبتُم ، «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا» (3) . ونادى أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام مُحَمَّدا فَقالَ : سَلها : هَل وَصَلَ إلَيها شَيءٌ مِنَ الرِّماحِ وَالسِّهامِ . فَسَأَلَها ، فَقالَت : نَعَم ، وصَلَ إلَيَّ سَهمٌ خَدَشَ رَأسي وسَلِمتُ مِنهُ ، يَحكُمُ اللّهُ بَيني وبَينَكُم .
.
ص: 236
فَقالَ مُحَمَّدٌ : وَاللّهِ ، لَيَحكُمَنَّ اللّهُ عَلَيكِ يَومَ القِيامَةِ ، ما كانَ بَينَكِ وبَينَ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام حَتّى تَخرُجي عَلَيهِ وتُؤَلِّبِي النّاسَ عَلى قِتالِهِ ، وتَنبِذي كِتابَ اللّهِ وَراءَ ظَهرِكِ ! ! فَقالَت : دَعنا يا مُحَمَّدُ ! وقُل لِصاحِبِكَ يَحرُسني . قالَ : وَالهَودَجُ كَالقُنفُذِ مِنَ النَّبلِ ، فَرَجَعتُ إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَأَخبَرتُهُ بِما جَرى بَيني وبَينَها ، وما قُلتُ وما قالَت . فَقالَ عليه السلام : هِيَ امرَأَةٌ ، وَالنِّساءُ ضِعافُ العُقولِ ،تَوَلَّ أمرَها ، وَاحمِلها إلى دارِ بَني خَلَفٍ حَتّى نَنظُرَ في أمرِها . فَحَمَلتُها إلَى المَوضِعِ ، وإنَّ لِسانَها لا يَفتُرُ عَنِ السَّبِّ لي ولِعَلِيٍّ عليه السلام وَالتَّرَحُّمِ عَلى أصحابِ الجَمَلِ (1) .
الجمل :لَمّا تَفَرَّقَ النّاسُ عَنِ الجَمَلِ أشفَقَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام أن يَعودَ (2) إلَيهِ فَتعودَ الحَربُ ، فَقالَ : عَرقِبُوا (3) الجَمَلَ . فَتَبادَرَ إلَيهِ أصحابُ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَعَرقَبوهُ ، ووَقَعَ لِجَنبِهِ ، وصاحَت عائِشَةُ صَيحَةً أسمَعَت مَن فِي العَسكَرَينِ (4) .
تاريخ الطبري عن ميسرة أبي جميلة :إنَّ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ وعَمّارَ بنَ ياسِرٍ أتَيا عائِشَةَ وقَد عُقِرَ الجَمَلُ ، فَقَطَعا غُرضَةَ (5) الرَّحلِ ، وَاحتَمَلَا الهَودَجَ فَنَحَّياهُ ، حَتّى أمَرَهُما عَلِى ¨ٌّ
.
ص: 237
فيهِ أمرَهُ بَعدُ ، قالَ : أدخِلاهَا البَصرَةَ . فَأَدخَلاها دارَ عَبدِ اللّهِ بنِ خَلَفٍ الخُزاعِيِّ (1) .
9 / 15مُدَّةُ الحَربِتاريخ اليعقوبي :كانَتِ الحَربُ أربَعَ ساعاتٍ مِنَ النَّهارِ . فَرَوى بَعضُهُم أنَّهُ قُتِلَ في ذلِكَ اليَومِ نَيِّفٌ وثَلاثونَ ألفا (2) .
أنساب الأشراف :كانَتِ الحَربُ مِنَ الظُّهرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ (3) .
تاريخ الطبري عن عوانة :اِقتَتَلوا يَومَ الجَمَلِ يَوما إلَى اللَّيلِ ، فَقالَ بَعضُهُم : شَفَى السَّيفُ مِن زَيدٍ وهِندٍ نُفوسَنا شِفاءً ومِن عَينَي عَدِيِّ بنِ حاتِمِ صَبَرنا لَهُم يَوما إلَى اللَّيلِ كُلِّهِ بِصُمِّ القَنا وَالمُرهَفاتِ الصَّوارِمِ (4)
راجع : ص 231 (استمرار الحرب بقيادة عائشة) .
9 / 16كَلامُ الإِمامِ عِندَ تَطوافِهِ عَلَى القَتلىالإرشاد :ومِن كَلامِهِ [عَلِيٍّ] عليه السلام عِندَ تَطوافِهِ عَلى قَتلَى الجَمَلِ : هذِهِ قُرَيشٌ ، جَدَعتُ أنفي ، وشَفَيتُ نَفسي ، لَقَد تَقَدَّمتُ إلَيكُم اُحَذِّرُكُم عَضَّ السُّيوفِ ، وكُنتُم أحداثا لا عِلمَ لَكُم بِما تَرَونَ ، ولكِنَّهُ الحَينُ (5) ، وسوءُ المَصرَعِ ، فَأَعوذُ بِاللّهِ مِن سوءِ المَصرَعِ .
.
ص: 238
ثُمَّ مَرَّ عَلى مَعبَدِ بنِ المِقدادِ فَقالَ : رَحِمَ اللّهُ أبا هذا ، أما إنَّهُ لَو كانَ حَيّا لَكانَ رَأيُهُ أحسَنَ مِن رَأيِ هذا . فَقالَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي أوقَعَهُ وجَعَلَ خَدَّهُ الأَسفَلَ ، إنّا وَاللّهِ _ يا أميرَ المُؤمِنينَ _ ما نُبالي مَن عَنَدَ عَنِ الحَقِّ مِن وَلَدٍ ووالِدٍ . فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ : رَحِمَكَ اللّهُ وجَزاكَ عَنِ الحَقِّ خَيرا . قالَ : ومَرَّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ رَبيعَةَ بنِ دَرّاجٍ _ وهُوَ فِي القَتلى _ فَقالَ : هذَا البائِسُ ، ما كانَ أخرَجَهُ ؛ أدينٌ أخرَجَهُ ، أم نَصرٌ لِعُثمانَ ؟ ! وَاللّهِ ما كانَ رَأيُ عُثمانَ فيهِ ولا في أبيهِ بِحَسَنٍ . ثُمَّ مَرَّ بِمَعبَدِ بنِ زُهَيرِ بنِ أبي اُمَيَّةَ فَقالَ : لَو كانَتِ الفِتنَةُ بِرأسِ الثُّرَيّا لَتَناوَلَها هذَا الغُلامُ ، وَاللّهِ ما كانَ فيها بِذي نَحيزَةٍ (1) ، ولَقَد أخبَرَني مَن أدرَكَهُ وإنّهُ لَيُوَلوِلُ فَرَقا مِنَ السَّيفِ . ثُمَّ مَرَّ بِمُسلِمِ بنِ قَرَظَةَ فَقالَ : البِرُّ أخرَجَ هذا ! وَاللّهِ ، لَقَد كَلَّمَني أن اُكَلِّمَ لَهُ عُثمانَ في شَيءٍ كانَ يَدَّعيهِ قِبَلَهُ بِمَكَّةَ ، فَأَعطاهُ عُثمانُ وقالَ : لَولا أنتَ ما أعطَيتُهُ ، إنَّ هذا _ ما عَلِمتُ _ بِئسَ أخُو العَشيرَةِ ؛ ثُمَّ جاءَ المَشومُ لِلحَينِ يَنصُرُ عُثمانَ ! ثُمَّ مَرَّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ حُمَيدِ بنِ زُهَيرٍ فَقالَ : هذا أيضا مِمَّن أوضَعَ في قِتالِنا ، زَعَمَ يَطلُبُ اللّهَ بِذلِكَ ، ولَقَد كَتَبَ إلَيَّ كُتُبا يُؤذي فيها عُثمانَ ، فَأَعطاهُ شَيئا ، فَرَضِيَ عَنهُ . ومَرَّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ حَكيمِ بنِ حِزامٍ فَقالَ : هذا خَالَفَ أباهُ فِي الخُروجِ ، وأبوهُ حَيثُ لَم يَنصُرنا قَد أحسَنَ في بَيعَتِهِ لَنا ، وإن كانَ قَد كَفَّ وجَلَسَ حَيثُ شَكَّ فِي القِتالِ ،
.
ص: 239
وما ألومُ اليَومَ مَن كَفَّ عَنّا وعَن غَيرِنا ، ولكنَّ المُليمَ الَّذي يُقاتِلُنا ! ثُمَّ مَرَّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ المُغيرَةِ بنِ الأخنَسِ فَقالَ : أمّا هذا فَقُتِلَ أبوهُ يَومَ قُتِلَ عُثمانُ فِي الدّارِ ، فَخَرَجَ مُغضَبا لِمَقتَلِ أبيهِ ، وهُوَ غُلامٌ حَدَثٌ حُيِّنَ لِقَتلِهِ . ثُمَّ مَرَّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ أبي عُثمانَ بنِ الأَخنَسِ بنِ شُرَيقٍ ، فَقالَ : أمّا هذا فَإِنّي أنظُرُ إلَيهِ وقَد أخَذَ القَومُ السُّيوفُ هارِبا يَعدو مِنَ الصَفِّ ، فَنَهنَهتُ (1) عَنهُ ، فَلَم يَسمَع مَن نَهنَهتُ حَتّى قَتَلَهُ . وكانَ هذا مِمّا خَفِيَ عَلى فِتيانِ قُرَيشٍ ، أغمارٌ (2) لا عِلمَ لَهُم بِالحَربِ ، خُدِعوا وَاستُزِلّوا ، فَلَمّا وَقَفوا وَقَعوا فَقُتِلوا . ثُمَّ مَشى قَليلاً فَمَرَّ بِكَعبِ بنِ سورٍ (3) فَقالَ : هذَا الَّذي خَرَجَ عَلَينا في عُنُقِهِ المُصحَفُ ، يَزعُمُ أنَّهُ ناصِرُ اُمِّهِ ! يَدعُو النّاسَ إلى ما فِيهِ وهُوَ لا يَعلَمُ ما فيهِ ، ثُمَّ استَفتَحَ وخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنيدٍ (4) . أما إنَّهُ دَعَا اللّهَ أن يَقتُلَني ، فَقَتَلَهُ اللّهُ . أجلِسوا كَعبَ بنَ سورٍ . فَاُجلِسَ ، فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ : يا كَعبُ ، قَد وَجَدتُ ما وَعَدَني رَبّي حَقّا ، فَهَل وَجَدتَ ما وَعَدَكَ رَبُّكَ حَقّا ؟ ثُمَّ قالَ : أضجِعوا كَعبا . ومَرَّ عَلى طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ فَقالَ : هذَا النّاكِثُ بَيعَتي ، وَالمُنِشِئُ الفِتنَةَ فِي الاُمَّةِ ، وَالمُجلِبُ عَلَيَّ ، الدّاعي إلى قَتلي وقَتلِ عِترَتي ، أجلِسوا طَلحَةَ . فَاُجلِسَ ، فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ : يا طَلحَةَ بنَ عُبيدِ اللّهِ ، قَد وَجَدتُ ما وَعَدَني رَبّي حَقّا ، فَهَل وَجَدتَ ما وَعَدَ رَبُّكَ حَقّا ؟ ثُمَّ قالَ : أضجِعوا طَلحَةَ ، وسارَ .
.
ص: 240
فَقالَ لَهُ بَعضُ مَن كانَ مَعَهُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أتُكَلِّمُ كَعبا وطَلحَةَ بَعدَ قَتلِهِما ؟! قالَ : أمَ وَاللّهِ ، إنَّهُما لَقَد سِمِعا كَلامي كَما سَمِعَ أهلُ القَليبِ (1) كَلامَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ بَدرٍ (2) .
.
ص: 241
الفصل العاشر : بعد الظفر10 / 1الكَرامَةُالإمام الباقر عليه السلام :أمَرَ عَلِيٌّ رضى الله عنه مُنادِيَهُ فَنادى يَومَ البَصرَةِ : «لا يُتَّبَعُ مُدبِرٌ ، ولا يُذَفَّفُ (1) عَلى جَريحٍ ، ولا يُقتَلُ أسيرٌ ، ومَن أغلَقَ بابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، ومَن ألقى سِلاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ» ، ولَم يَأخُذ مِن مَتاعِهِم شَيئا (2) .
الأخبار الطوال :نادى عَلِيٌّ رضى الله عنه في أصحابِهِ : لا تَتَّبِعوا مُوَلِّيا ، ولا تُجهِزوا عَلى جَريحٍ ، ولا تَنتَهِبوا مالاً ، ومَن ألقى سِلاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، ومَن أغلَقَ بابَهُ فَهُو آمِنٌ (3) .
الجمل عن معاذ بن عبيد اللّه التميمي :فَوَاللّهِ ، لَقَد رَأَيتُ أصحابَ عَلِيٍّ عليه السلام وقَد وَصَلوا إلَى الجَمَلِ ، وصاحَ مِنهُم صائِحٌ : اِعقِروهُ ، فَعَقَروهُ فَوَقَعَ . فَنادى عَلِيٌّ عليه السلام : مَن طَرَحَ السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، ومَن دَخَلَ بَيتَهُ فَهُوَ آمِنٌ .
.
ص: 242
فَوَاللّهِ ، ما رَأَيتُ أكرَمَ عَفوا مِنهُ (1) .
شرح الأخبار عن موسى بن طلحة بن عبيد اللّه_ وكانَ فيمَن اُسِرَ يَومَ الجَمَلِ ، وحُبِسَ مَعَ مَن حُبِسَ مِنَ الاُسارى بِالبَصرَةِ _: كُنتُ في سِجنِ عَلِيٍّ بِالبَصرَةِ ، حَتّى سَمِعتُ المُنادِيَ يُنادي : أينَ موسَى بنُ طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللّهِ ؟ فَاستَرجَعتُ وَاستَرجَعَ أهلُ السِّجنِ ، وقالوا : يَقتُلُكَ . فَأَخرَجَني إلَيهِ ، فَلَمّا وَقَفتُ بَينَ يَدَيهِ قالَ لي : يا موسى ! قُلتُ : لَبَّيكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! قالَ : قُل : أستَغفِرُ اللّهَ وأتوبُ إلَيهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ . فَقُلتُ : أستَغفِرُ اللّهَ وأتوبُ إلَيهِ _ ثَلاثَ مَرّاتٍ _ فَقالَ لِمَن كانَ مَعي مِن رُسُلِهِ : خَلّوا عَنهُ ، وقالَ لي : اِذهَب حَيثُ شِئتَ ، وما وَجَدتَ لَكَ في عَسكَرِنا مِن سِلاحٍ أو كُراعٍ فَخُذهُ ، وَاتَّقِ اللّهَ فيما تَستَقبِلُهُ مِن أمرِكَ ، وَاجلِس في بَيتِكَ . فَشَكَرتُ لَهُ وَانصَرَفتُ (2) .
الإمام زين العابدين عليه السلام :دَخَلتُ عَلى مَروانَ بنِ الحَكَمِ ، فَقالَ : ما رَأَيتُ أحَدا أكرَمَ غَلَبَةً مِن أبيكَ ، ما هُوَ إلّا أن وَلِيَنا يَومَ الجَمَلِ ، فَنادى مُناديهِ : لا يُقتَلُ مُدبِرٌ ، ولا يُذَفَّفُ عَلى جَريحٍ (3) .
.
ص: 243
10 / 2إصدارُ العَفوِ العامِّأنساب الأشراف :قامَ عَلِيٌّ _ حينَ ظَهَرَ وظَفِرَ _ خَطيبا فَقالَ : يا أهلَ البَصرَةِ !قَد عَفَوتُ عَنكُم ؛ فَإِيّاكُم وَالفِتنَةَ ؛ فَإِنَّكُم أوَّلُ الرَّعِيَّةِ نَكَثَ البَيعَةَ ، وشَقَّ عَصَا الاُمَّةِ . ثُمَّ جَلَسَ وبايَعَهُ النّاسُ (1) .
الإرشاد :ومِن كَلامِهِ [عَلِيٍّ عليه السلام ] بِالبَصرَةِ حينَ ظَهَرَ عَلَى القَومِ ، بَعدَ حَمدِ اللّهِ وَالثَّناءِ عَلَيهِ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ ، ومَغفِرَةٍ دائِمَةٍ ، وعَفوٍ جَمٍّ ، وعِقابٍ أليمٍ ، قَضى أنَّ رَحمَتَهُ ومَغفِرَتَهُ وَعفوَهُ لِأَهلِ طاعَتِهِ مِن خَلقِهِ ، وبِرَحمَتِهِ اهتَدَى المُهتَدونَ ، وقَضى أنَّ نِقمَتَهُ وسَطَواتِهِ وعِقابَهُ عَلى أهلِ مَعصِيَتِهِ مِن خَلقِهِ ، وبَعدَ الهُدى وَالبَيِّناتِ ما ضَلَّ الضّالّونَ . فَما ظَنُّكُم _ يا أهلَ البَصرَةِ _ وقَد نَكَثتُم بَيعَتي ، وظاهَرتُم عَلَيَّ عَدُوّي ؟ فَقامَ إلَيهِ رَجُلٌ فَقالَ : نَظُنُّ خَيرا ، ونَراك قَد ظَفِرتَ وقَدَرتَ ، فَإِن عاقَبتَ فَقَدِ اجتَرَمنا ذلِكَ ، وإن عَفَوتَ فَالعَفوُ أحَبَّ إلَى اللّهِ . فَقالَ : قَد عَفَوتُ عَنكُم ؛ فَإِيّاكُم وَالفِتنَةَ ؛ فَإِنَّكُم أوَّلُ الرَّعِيَّةِ نَكَثَ البَيعَةَ ، وشَقَّ عَصا هذِهِ الاُمَّةِ . قالَ : ثُمَّ جَلَسَ لِلنّاسِ فَبايَعوهُ (2) .
.
ص: 244
10 / 3الاِعتِذارُ مِنَ الإِمامِالجمل عن هاشم بن مساحق القرشي :حَدَّثَني أبي أنَّهُ لَمَّا انهَزَمَ النّاسُ يَومَ الجَمَلِ اجتَمَعَ مَعَهُ طائِفَةٌ مِن قُرَيشٍ فيهِم مَروانُ بنُ الحَكَمِ ، فَقالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ : وَاللّهِ لَقَد ظَلَمنا هذَا الرَّجُلَ _ يَعنونَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام _ ونَكَثنا بَيعَتَهُ مِن غَيرِ حَدَثٍ ، وَاللّهِ لَقَد ظَهَرَ عَلَينا ، فَما رَأَينا قَطُّ أكرَمَ سِيرَةً مِنهُ ، ولا أحسَنَ عَفوا بَعدَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ فَقوموا حَتّى نَدخُلَ عَلَيهِ ونَعتَذِرَ إلَيهِ مِمّا صَنعَناهُ . قالَ : فَصِرنا إلى بابِهِ ، فَاستَأذَنّاهُ فَأَذِنَ لَنا ، فَلَمّا مَثَلنا بَينَ يَدَيهِ جَعَلَ مُتَكَلِّمُنا يَتَكَلَّمُ . فَقالَ عليه السلام : أنصِتوا أكفِكُم ، إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثلُكُم ؛ فَإِن قُلتُ حَقّا فَصَدِّقوني ، وإن قُلتُ باطِلاً فَرُدّوا عَلَيَّ . أنشُدُكُمُ اللّهَ ! أ تعلَمون أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَمّا قُبِضَ كُنتُ أنَا أولَى النّاسِ بِهِ وبِالنّاسِ مِن بَعدِهِ ؟ قُلنا : اللّهُمَّ نَعَم . قالَ : فَعَدَلتُم عَنّي وبايَعتُم أبا بَكرٍ ، فَأَمسَكتُ ولَم اُحِبَّ أن أشُقَّ عَصَا المُسلِمينَ ، واُفَرِّقَ بَينَ جَماعَتِهِم ؛ ثُمَّ إنَّ أبا بَكرٍ جَعَلَها لِعُمَرَ مِن بَعدِهِ فَكَفَفتُ ، ولَم اُهِجِ النّاسَ ، وقَد عَلِمتُ أنّي كُنتُ أولَى النّاسِ بِاللّهِ وبِرَسولِهِ وبِمَقامِهِ ، فَصَبَرتُ حَتّى قُتِلَ عُمَرُ ، وجَعَلَني سادِسَ سِتَّةٍ ، فَكَفَفُت ولَم اُحِبَّ أن اُفَرِّقَ بَينَ المُسلِمينَ ، ثُمَّ بايَعتُم عُثمانَ فَطَعَنتُم عَلَيهِ فَقَتَلتُموهُ وأنَا جالِسٌ في بَيتي ، فَأَتَيتُموني وبايَعتُموني كَما بايَعتُم أبا بَكرٍ وعُمَرَ ؛ فَما بالُكُم وفَيتُم لَهُما ولَم تَفوا لي ؟ ! ومَا الَّذي مَنَعَكُم مِن نَكثِ بَيعَتِهِما ودَعاكُم إلى نَكِث بَيعَتي ؟ فَقُلنا لَهُ : كُن يا أميرَ المُؤمِنينَ كَالعَبدِ الصّالِحِ يُوسُفَ إذ قالَ : «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم
.
ص: 245
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّ حِمِينَ» (1) . فَقالَ عليه السلام : لا تَثريبَ عَلَيكُمُ اليَومَ ، وإنَّ فيكُم رَجُلاً لَو بايَعَني بِيَدِهِ لَنَكَثَ بِأستِهِ _ يَعني مَروانَ بنَ الحَكَمِ _ (2) .
10 / 4مُناقَشاتٌ بَينَ عَمّارٍ وعائِشَةَتاريخ الطبري عن أبي يزيد المديني :قالَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ لِعائِشَةَ حينَ فَرَغَ القَومُ : يا اُمَّ المُؤمِنينَ ! ما أبعَدَ هذَا المَسيرَ مِنَ العَهدِ الَّذي عُهِدَ إلَيكِ ! قالَت : أبو اليَقظانِ ! قالَ : نَعَم . قالَت : وَاللّهِ ، إنَّكَ _ ما عَلِمتُ _ قَوّالٌ بِالحَقِّ . قالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي قَضى لي عَلى لِسانِكِ (3) .
الأمالي للطوسي عن موسى بن عبد اللّه الأسدي :لَمَّا انهَزَمَ أهلُ البَصرَةِ أمَرَ عَلِيُّ بنُ أبي طاِلبٍ عليه السلام أن تُنزَلَ عائِشَةُ قَصرَ أبي خَلَفٍ ، فَلَمّا نَزَلَت جاءَها عَمّارُ بنُ ياسِرٍ فَقالَ لَها : يا اُمَّتِ ! كَيفَ رَأَيتِ ضَربَ بَنيكِ دونَ دينِهِم بِالسَّيفِ ؟ فَقالَت : اِستَبصَرتَ يا عَمّارُ مِن أجلِ أنَّكَ غَلَبتَ ؟ قالَ : أنَا أشَدُّ استِبصارا مِن ذلِكَ ، أمَا وَاللّهِ ، لَو ضَرَبتُمونا حَتّى تُبلِغونا سَعَفاتِ هَجَرٍ لَعَلِمنا أنّا عَلَى الحَقِّ ، وأنَّكُم عَلَى الباطِلِ . فَقالَت لَهُ عائِشَةُ : هكَذا يُخَيَّلُ إلَيكَ ، اِتَّقِ اللّهَ يا عَمّارُ ! فَإِنَّ سِنَّكَ قَد كَبِرَ ، ودَق
.
ص: 246
عَظمُكَ ، وفَنِيَ أجَلُكَ ، وأذهَبتَ دينَكَ لِابنِ أبي طالِبٍ . فَقالَ عَمّارٌ : إنّي وَاللّهِ ، اختَرتُ لِنَفسي في أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَرَأَيتُ عَلِيّا أقرَأَهُم لِكِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وأعلَمَهُم بِتَأويلِهِ ، وأشَدَّهُم تَعظيما لِحُرمَتِهِ ، وأعرَفَهُم بِالسُّنَّةِ ، مَعَ قَرابَتِهِ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وعِظَمِ عَنائِهِ وبَلائِهِ فِي الإِسلامِ . فَسَكَتَت (1) .
10 / 5مُناقَشاتٌ بَينَ ابنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَتاريخ اليعقوبي :وَجَّهَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] ابنَ عَبّاسٍ إلى عائِشَةَ يَأمُرُها بِالرُّجوعِ ، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيها ابنُ عَبّاسٍ قالَت : أخطَأتَ السُّنَّةَ يَابنَ عَبّاسٍ مَرَّتَينِ : دَخَلتَ بَيتي بِغَيرِ إذني ، وجَلَستَ عَلى مَتاعي بِغَيرِ أمري . قالَ : نَحنُ عَلَّمنا إيّاكِ السُّنَّةَ ؛ إنَّ هذا لَيسَ بِبَيتِكِ ! بَيتُكِ الَّذي خَلَّفَكِ رَسولُ اللّهِ بِهِ ، وأمَرَكِ القُرآنُ أن تَقَرّي فيهِ (2) .
مروج الذهب :بَعَثَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] بِعَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ إلى عائِشَةَ يَأمُرُها بِالخُروجِ إلَى المَدينَةِ ، فَدَخَلَ عَلَيها بِغَيرِ إذنِها ، وَاجتَذَبَ وِسادَةً فَجَلَسَ عَلَيها . فَقالَت لَهُ : يَابنَ عَبّاسٍ ! أخطَأتَ السُّنَّةَ المَأمورَ بِها ؛ دَخَلتَ إلَينا بِغَيرِ إذنِنا ، وجَلَستَ عَلى رَحلِنا بِغَير أمرِنا . فَقالَ لَها : لَو كُنتِ فِي البَيتِ الَّذي خَلَّفَكِ فيهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما دَخَلنا إلّا بِإِذنِكِ ، وما جَلَسنا عَلى رَحلِكِ إلّا بِأَمرِكِ ، وإنَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَأمُرُكِ بِسُرعَةِ الأَوبَةِ ،
.
ص: 247
وَالتَّأَهُّبِ لِلخُروجِ إلَى المَدينَةِ . فَقالَت : أبيَتُ ما قُلتَ ، وخالَفتُ ما وَصَفتَ . فَمَضى إلى عَلِيٍّ ، فَخَبَّرَهُ بِامتِناعِها ، فَرَدَّهُ إلَيها ، وقالَ : إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَعزِمُ عَلَيكِ أن تَرجِعي ، فَأَنعَمَت وأجابَت إلَى الخُروجِ (1) .
رجال الكشّي عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي :حَدَّثَني بَعضُ أشياخي قالَ : لَمّا هَزَمَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام أصحابَ الجَمَلِ ، بَعَثَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ إلى عائِشَةَ يَأمُرُها بِتَعجيلِ الرَّحيلِ ، وقِلَّةِ العِرجَةِ (2) . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَأَتَيتُها وهِيَ في قَصرِ بَني خَلَفٍ في جانِبِ البَصرَةِ ، قالَ : فَطَلَبتُ الإِذنَ عَلَيها ، فَلَم تَأذَن ، فَدَخَلتُ عَلَيها مِن غَيرِ إذنِها ، فَإِذا بَيتٌ قَفارٌ لَم يُعدَّ لي فيهِ مَجلِسٌ ، فَإِذا هِيَ مِن وَراءِ سِترَينِ . قالَ : فَضَرَبتُ بِبَصَري فَإِذا في جانِبِ البَيتِ رَحلٌ عَلَيهِ طُنفُسَةٌ (3) ، قالَ : فَمَدَدتُ الطُّنفُسَةَ فَجَلَستُ عَلَيها . فَقالَت مِن وَراءِ السِّترِ : يَابنَ عَبّاسٍ ! أخطَأتَ السُّنَّةَ ؛ دَخَلتَ بَيتَنا بِغَيرِ إذنِنا ، وجَلَستَ عَلى مَتاعِنا بِغَيرِ إذنِنا . فَقالَ لَهَا ابنُ عَبّاسٍ : نَحنُ أولى بِالسُّنَّةِ مِنكِ ، ونَحنُ عَلَّمناكِ السُّنَّةَ ، وإنَّما بَيتُكِ الَّذي خَلَّفَكِ فيهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَخَرَجتِ مِنهُ ظالِمَةً لِنَفسِكِ، غِاشِيَةً (4) لِدينِكِ ، عاتِيَةً عَلى رَبِّكِ ، عاصِيَةً لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَإِذا رَجَعتِ إلى بَيتِكِ لَم نَدخُلهُ إلّا بِإِذنِكِ ، ولَم
.
ص: 248
نَجلُس عَلى مَتاعِكِ إلّا بِأَمرِكِ . إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام بَعَثَ إلَيكِ يَأمُرُكِ بِالرَّحيلِ إلَى المَدينَةِ ، وقِلَّةِ العِرجَةِ . فَقالَت : رَحِمَ اللّهُ أميرَ المُؤمِنينَ ! ذلِكَ عُمرُ بنُالخَطّابِ . فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : هذا وَاللّهِ أميرُ المُؤمِنينَ ، وإن تَزَبَّدَت (1) فيهِ وُجوهٌ ، ورَغَمَت (2) فيهِ مَعاطِسُ ! أمَا وَاللّهِ ، لَهُوَ أميرُ المُؤمِنينَ ، وأمَسُّ بِرَسولِ اللّهِ رَحِما ، وأقرَبُ قَرابَةً ، وأقدَمُ سَبقا ، وأكثَرُ عِلما ، وأعلى مَنارا ، وأكثَرُ آثارا مِن أبيكِ ومِن عُمَرَ . فَقالَت : أبَيتُ ذلِكَ ... . قالَ : ثُمَّ نَهَضتُ وأتَيتُ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام فَأَخبَرتُهُ بِمَقالَتِها ، وما رَدَدتُ عَلَيها ، فَقالَ : أنَا كُنتُ أعلَمُ بِكَ حَيثُ بَعَثتُكَ (3) .
10 / 6مُحادَثاتٌ بَينَ الإِمامِ وعائِشَةَتاريخ اليعقوبي_ في خَبَرِ عائِشَةَ _: أتاها عَلِيٌّ ، وهِيَ في دارِ عَبدِ اللّهِ بنِ خَلَفِ الخُزاعِيِّ ، وابنُهُ المَعروفُ بِطَلحَةِ الطَّلحاتِ ، فَقالَ : إيها يا حُمَيراءُ ! أ لَم تَنتَهي عَن هذَا المَسيرِ ؟ فَقالَت : يَابنَ أبي طالِبٍ ! قَدَرتَ فَأَسجِح ! فَقالَ : اخرُجي إلَى المَدينَةِ ، وَارجِعي إلى بَيتِكِ الَّذي أمَرَكِ رَسولُ اللّهِ أن تَقَرّي فيهِ . قالَت : أفعَلُ (4) .
.
ص: 249
مروج الذهب_ في خَبَرِ عائِشَةَ _: جَهَّزَها عَلِيٌّ وأتاها فِي اليَومِ الثّاني ، ودَخَلَ عَلَيها ومَعَهُ الحَسَنُ وَالحُسَينُ وباقي أولادِهِ وأولادِ إخوَتِهِ وفِتيانُ أهلِهِ مِن بَني هاشِمٍ وغَيرُهُم مِن شيعَتِهِ مِن هَمدانَ ، فَلَمّا بَصُرَت بِهِ النِّسوانُ صِحنَ في وَجهِهِ وقُلنَ : يا قاتِلَ الأَحِبَّةِ ! فَقالَ : لَو كُنتُ قاتِلَ الأَحِبَّةِ لَقَتَلتُ مَن في هذا البَيتِ ، وأشارَ إلى بَيتٍ مِن تِلكَ البُيوتِ قَدِ اختَفى فيهِ مَروانُ بنُ الحَكَمِ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ ، وغَيرُهُم . فَضَرَبَ مَن كانَ مَعَهُ بِأَيديهِم إلى قَوائِمِ سُيوفِهِم لَمّا عَلِموا مَن فِي البَيتِ مَخافَةَ أن يَخرُجوا مِنهُ فَيَغتالوهُ . فَقالَت لَهُ عائِشَةُ _ بَعدَ خَطبٍ طَويلٍ كانَ بَينَهُما _ : إنّي اُحِبُّ أن اُقيمَ مَعَكَ ، فَأَسيرَ إلى قِتالِ عَدُوِّكَ عِندَ سَيرِكَ . فَقالَ : بَلِ ارجِعي إلَى البَيتِ الَّذي تَرَكَكِ فيهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله . فَسَأَلَته أن يُؤَمِّنَ ابنَ اُختِها عَبدَ اللّهِ بنَ الزُّبَيرِ ، فَأَمَّنَهُ ، وتَكَلَّمَ الحَسَنُ وَالحُسَينُ في مَروانَ ، فَأَمَّنَهُ ، وأمَّنَ الوَليدَ بنَ عُقبَةَ ووُلدَ عُثمانَ وغَيرَهُم مِن بَني اُمَيَّةَ ، وأمَّنَ النّاسَ جَميعا . وقَد كانَ نادى يَومَ الوَقعَةِ : مَن ألقى سِلاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، ومَن دَخَلَ دارَهُ فَهُوَ آمِنٌ (1) .
تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :دَخَلَ عَلِيٌّ البَصرَةَ يَومَ الِاثنَينِ ، فَانتَهى إلَى المَسجِدِ ، فَصَلّى فيهِ ، ثُمَّ دَخَلَ البَصرَةَ ، فَأَتاهُ النّاسُ ، ثُمَّ راحَ إلى عائِشَةَ عَلى بَغلَتِهِ ، فَلَمّا انتَهى إلى دارِ عَبدِ اللّهِ بنِ خَلَفٍ _ وهِيَ أعظَمُ دارٍ بِالبَصرَةِ _ وَجَدَ النِّساءَ يَبكينَ عَلى
.
ص: 250
عَبدِ اللّهِ وعُثمانَ _ ابنَي خَلَفٍ _ مَعَ عائِشَةَ ، وصَفِيَّةُ ابنَةُ الحُارِثِ مُختَمِرَةٌ تَبكي . فَلَمّا رَأَتهُ قالَت : يا عَلِيُّ ، يا قاتِلَ الأَحِبَّةِ ، يا مُفَرِّقَ الجَمعِ ! أيتَمَ اللّهُ بَنيكَ مِنكَ كَما أيتَمتَ وُلدَ عَبدِ اللّهِ مِنهُ ! فَلَم يَرُدَّ عَلَيها شَيئا ، ولَم يَزَل عَلى حالِهِ حَتّى دَخَلَ عَلى عائِشَةَ ، فَسَلَّمَ عَلَيها ، وقَعَدَ عِندَها ، وقالَ لَها : جَبَهَتنا صَفِيَّةُ ، أما إنّي لَم أرَها مُنذُ كانَت جارِيَةً حَتَّى اليَومِ . فَلَمّا خَرَجَ عَلِيٌّ أقبَلَت عَلَيهِ فَأَعادَت عَلَيهِ الكَلامَ ، فَكَفَّ بَغلَتَهُ وقالَ : أما لَهَمَمتُ _ وأشارَ إلَى الأَبوابِ مِن الدّارِ _ أن أفتَحَ هذَا البابَ وأقتُلَ مَن فيهِ ، ثُمَّ هذا فَأَقتُلَ مَن فيهِ ، ثُمَّ هذا فَأَقتُلَ مَن فيهِ _ وكانَ اُناسٌ مِنَ الجَرحى قَد لَجَؤوا إلى عائِشَةَ ، فاُخبِرَ عَلِيٌّ بِمَكانِهِم عِندَها ، فَتَغافَلَ عَنهُم _ فَسَكَتَت . فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأَزدِ : وَاللّهِ ، لا تُفلِتُنا هذِهِ المَرأَةُ ! فَغَضِبَ وقالَ : صَه !لا تَهتِكُنَّ سِترا ، ولا تَدخُلُنَّ دارا ، ولا تَهيجُنَّ امرَأَةً بِأَذًى ، وإن شَتَمنَ أعراضَكُم ، وسَفَّهَن اُمرَاءَكُم وصُلَحاءَكُم ؛ فَإِنَّهُنَّ ضِعافٌ ، ولَقَد كُنّا نُؤمَرُ بِالكَفِّ عَنهُنَّ ، وإنَّهُنَّ لَمُشرِكاتٌ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيُكافِئُ المَرأَةَ ويَتَناوَلُها بِالضَّربِ ، فَيُعَيَّرُ بِها عَقِبُهُ مِن بَعدِهِ ، فَلا يَبلُغَنّي عَن أحَدٍ عَرَضَ لِامرَأَةٍ ، فَاُنَكِّلَ بِهِ شِرارَ النّاسِ (1) .
10 / 7إشخاصُ عائِشَةَ إلَى المَدينَةِمسند ابن حنبل عن أبي رافع :إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ لِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : إنَّهُ سَيكونُ بَينَكَ وبَينَ عائِشَةَ أمرٌ ، قالَ : أنَا يا رَسولَ اللّهِ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : أنا ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : فَأَنَا
.
ص: 251
أشقاهُم يا رَسولَ اللّهِ ؟ قالَ : لا ، ولكِن إذا كانَ ذلِكَ فَاردُدها إلى مَأمَنِها (1) .
الأخبار الطوال_ في ذِكرِ أحداثِ ما بَعدَ حَربِ الجَمَلِ _: قالَ [عَلِيٌّ عليه السلام ]لِمُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ : سِر مَعَ اُختِكَ حَتّى توصِلَها إلَى المَدينَةِ ، وعَجِّلِ اللُّحوقَ بي بِالكوفَةِ . فَقالَ : أعفِني مِن ذلِكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ . فَقالَ عَلِيٌّ : لا اُعفيكَ مِنهُ ، وما لَكَ بُدٌّ . فَسارَ بِها حَتّى أورَدَهَا المَدينَةَ (2) .
الجمل :لَمّا عَزَمَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَلَى المَسيرِ إلَى الكوفَةِ أنفَذَ إلى عائِشَةَ يَأمُرُها بِالرَّحيلِ إلَى المَدينَةِ ، فَتَهَيَّأَت لِذلِكَ ، وأنفَذَ مَعَها أربَعينَ امرَأَةً ألبَسَهُنَّ العمائِمَ وَالقَلانِسَ (3) ، وقَلَّدَهُنَّ السُّيوفَ ، وأمَرَهَنُّ أن يَحفَظنَها ، ويَكُنَّ عَن يَمينِها وشِمالِها ومِن وَرائِها . فَجَعَلَت عائِشَةُ تَقولُ فِي الطَّريقِ : اللّهُمَّ افعَل بِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ بِما فَعَلَ بي !بَعَثَ مَعِيَ الرِّجالَ ولَم يَحفَظ بي حُرمَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . فَلَمّا قَدِمنَ المَدينَةَ مَعَها ألقَينَ العَمائِمَ وَالسُّيوفَ ودَخَلنَ مَعَها ، فَلَمّا رَأَتهُنَّ نَدِمَت عَلى ما فَرَّطَت بِذَمِّ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وسَبِّهِ . وقالَت : جَزَى اللّهُ ابنَ أبي طالِبٍ خَيرا ، فَلَقَد حَفِظَ فِيَّ حُرمَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله (4) .
.
ص: 252
10 / 8نَدَمُ عائِشَةَالكامل في التاريخ عن عائشة_ بَعدَ حَربِ الجَمَلِ _: وَاللّهِ ، لَوَدِدتُ أنّي مِتُّ قبَلَ هذَا اليَومِ بِعشرينَ سَنَةً (1) .
نهاية الأرب :أتى وُجوهُ النّاسِ إلى عائِشَةَ وفيها : القَعقاعُ بنُ عَمروٍ ، فَسلَّمَ عَلَيها فَقالَت : وَاللّهِ ، لَوَدِدتُ أنّي مِتُّ قَبلَ هذَا اليَومِ بِعِشرينَ سَنَةً ! (2)
فتح الباري عن محمّد بن قيس :ذُكِرَ لِعائِشَةَ يَومُ الجَمَلِ قَالَت : وَالنّاسُ يَقولونَ: «يَومُ الجَمَلِ» ؟ قالوا : نَعَم ، قالَت : وَدِدتُ أنّي جَلَستُ كَما جَلَسَ غَيري ؛ فَكانَ أحَبَّ إلَيَّ مِن أن أكونَ وَلَدتُ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَشرَةً كُلَّهُم مِثلَ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ الحارِثِ بنِ هِشامٍ (3) .
المستدرك على الصحيحين عن عائشة :وَدِدتُ أنّي كُنتُ ثُكِلتُ عَشرَةً مِثلَ الحارِثِ بنِ هِشامٍ ، وأنّي لَم أسِر مَسيري مَعَ ابنِ الزُّبَيرِ (4) .
الطبقات الكبرى عن عمارة بن عمير :حَدَّثَني مَن سَمِعَ عائِشَةَ إذا قَرَأَت هذِهِ الآيَةَ : «وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ» (5) بَكَت حَتّى تَبُلَّ خِمارَها (6) .
.
ص: 253
تاريخ بغداد عن عروة :ما ذَكَرَت عائِشَةُ مَسيرَها في وَقعَةِ الجَمَلِ قَطُّ ، إلّا بَكَت حَتّى تَبُلَّ خِمارَها وتَقولُ : يا لَيتَني كُنتُ نَسيا مَنسِيّا (1) .
المناقب للخوارزمي عن أبي عتيق :قالَت عائِشَةُ : إذا مَرَّ ابنُ عُمَرَ فَأَرونيهِ ، فَلَمّا مَرَّ قيلَ لَها : هذَا ابنُ عُمَرَ ، قالَت : يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ ، ما يَمنَعُكَ أن تَنهاني عَن مَسيري ؟ قالَ : قَد رَأَيتُ رَجُلاً قَد غَلَبَ عَلَيكِ [يَعني ابنَ الزُّبَيرِ] ، وظَنَنتُ ألّا تُخالِفيهِ . قالَت : أما إنَّكَ لَو نَهَيتَني ما خَرَجتُ (2) .
10 / 9غَنائِمُ الحَربِشرح نهج البلاغة :اِتَّفَقَتِ الرُّواةُ كُلُّها عَلى أنَّهُ[عَلِيّا عليه السلام ] قَبَضَ ما وَجَدَ في عَسكَرِ الجَمَلِ مِن سِلاحٍ ودابَّةٍ ومَملوكٍ ومَتاعٍ وعُروضٍ ، فَقَسَّمَهُ بَينَ أصحابِهِ ، وأنَّهُم قالوا لَهُ : اِقسِم بَينَنا أهلَ البَصرَةِ فَاجعَلهُم رَقيقا ، فَقالَ : لا . فَقالوا : فَكَيفَ تُحِلُّ لَنا دِماءَهُم ، وتُحَرِّمُ عَلَينا سَبيَهُم ؟! فَقالَ : كَيفَ يَحِلُّ لَكُم ذُرِّيَّةٌ ضَعيفَةٌ في دارِ هِجرَةٍ وإسلامٍ ؟! أمّا ما أجلَبَ بِهِ القَومُ في مُعَسكَرِهِم عَلَيكُم فَهُوَ لَكُم مَغنَمٌ ، وأمّا ما وارَتِ الدّورُ واُغلِقَت عَلَيهِ الأَبوابُ فَهُوَ لِأَهلِهِ ، ولا نَصيبَ لَكُم في شَيءٍ مِنهُ . فَلَمّا أكثَروا عَلَيهِ قالَ : فَأَقرِعوا علَى عائِشَةَ ؛ لِأَدفَعَها إلى مَن تُصيبُهُ القُرعَةُ ! فَقالوا : نَستَغفِرُ اللّهَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! ثُمَّ انصَرَفوا (3) .
.
ص: 254
شرح الأخبار :كانَ عَلِيٌّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ قَد غَنَّمَ أصحابَهُ ما أجلَبَ بِهِ أهلُ البَصرَةِ إلى قِتالِهِ _ وأجلَبوا بِهِ : يَعني أتَوا بِهِ في عَسكَرِهِم _ ولَم يَعرِض لِشَيءٍ غَيرِ ذلِكَ مِن أموالِهِم ، وجَعَلَ ما سِوى ذلِكَ مِن أموالِ مَن قُتِلَ مِنهُم لِوَرَثَتِهِم ، وخَمَّسَ ما اُغنِمَهُ مِمّا أجلَبوا بِهِ عَلَيهِ ، فَجَرَت أيضا بِذلِكَ السُّنَّةُ (1) .
10 / 10بَذلُ الإِمامِ سَهمَهُ مِنَ الغَنيمَةِمروج الذهب :قَبَضَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] ما كانَ في مُعَسكَرِهِم مِن سِلاحٍ ودابَّةٍ ومَتاعٍ وآلَةٍ وغَيرِ ذلِكَ ، فَباعَهُ وقَسَّمَهُ بَينَ أصحابِهِ ، وأخَذَ لِنَفسِهِ _ كَما أخَذَ لِكُلِّ واحِدٍ مِمَّن مَعَهُ مِن أصحابِهِ وأهلِهِ ووُلدِهِ _ خَمسَمِئَةِ دِرهَمٍ . فَأَتاهُ رَجُلٌ مِن أصحابِهِ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنّي لَم آخُذ شَيئا ، وخَلَّفَني عَن الحُضورِ كَذا _ وأدلى بِعُذرٍ _ فَأَعطاهُ الخَمسَمِئَةِ الَّتي كانَت لَهُ (2) .
الجمل :ثُمَّ نَزَلَ عليه السلام [أي بَعدَ خُطبَتِهِ فِي أهلِ البَصرَةِ] وَاستَدعى جَماعَةً مِن أصحابِهِ ، فَمَشَوا مَعَهُ حَتّى دَخَلَ بَيتَ المالِ ، وأرسَلَ إلَى القُرّاءِ ، فَدَعاهُم ودَعَا الخُزّانَ وأمَرَهُم بِفَتحِ الأَبوابِ الَّتي داخِلُها المالُ ، فَلَمّا رأى كَثرَةَ المالِ قالَ : «هذا جَنايَ وخِيارُهُ فيهِ» 3 . ثُمَّ قَسَّمَ المالَ بَينَ أصحابِهِ فَأَصابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم سِتَّةَ آلافِ ألف دِرهَمٍ ،
.
ص: 255
وكانَ أصحابُهُ اثنَي عَشَرَ ألفاً ، وأخَذَ هُوَ عليه السلام كَأَحَدِهِم ، فَبَينا هُم عَلى تِلكَ الحالَةِ ، إذ أتاهُ آتٍ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنَّ اسمي سَقَطَ مِن كِتابِكَ ، وقَد رَأَيتُ مِنَ البَلاءِ ما رَأَيتُ . فَدَفَعَ سَهمَهُ إلى ذلِكَ الرَّجُلِ . ورَوَى الثَّورِيُّ عَن داوُدَ بنِ أبي هِندٍ عَن أبي حَربِ بنِ أبِي الأَسوَدِ قالَ : لَقَدَ رَأَيتُ بِالبَصرَةِ عَجَباً ! لَمّا قَدِمَ طَلحَةُ وُالزُّبَيرُ قَد أرسَلا إلى اُناسٍ مِن أهلِ البَصرَةِ وأنَا فيهِم ، فَدَخَلنا بَيتَ المالِ مَعَهُما ، فَلَمّا رَأَيا ما فيهِ مِنَ الأَموالِ قالا : هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ ورَسولُهُ . ثُمَّ تَلَيا هذِهِ الآيَةَ : «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَ_ذِهِ» إلى آخِرِ الآيَةِ، وقالا : نَحنُ أحَقُّ بِهذَا المالِ مِن كُلِّ أحَدٍ . فَلَمّا كانَ مِن أمرِ القَومِ ما كانَ دَعانا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام فَدَخَلنا مَعَهُ بَيتَ المالِ ، فَلَمّا رَأى ما فيهِ ضَرَبَ إحدى يَدَيهِ عَلَى الاُخرى وقالَ : يا صَفراءُ يا بَيضاءُ ، غُرّي غَيري ! وقَسَّمَهُ بَينَ أصحابِهِ بِالسَّوِيَّةِ حَتّى لَم يَبقَ إلّا خَمسُمِئَةِ دِرهَمٍ عَزَلَها لِنَفسِهِ ، فَجاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ : إنَّ اسمي سَقَطَ مِن كِتابِكَ . فَقالَ عليه السلام : رُدّوها عَلَيهِ . ثُمَّ قالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي لَم يَصِل إلَيَّ مِن هذَا المالِ شَيءٌ ، ووَفَّرَهُ عَلَى المُسلِمينَ (1) .
10 / 11دُخولُ الإِمامِ بَيتَ مالِ البَصرَةِالجمل :لَمّا خَرَجَ عُثمانُ بنُ حُنَيفٍ مِنَ البَصرَةِ ، وعادَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ إلى بَيتِ المالِ فَتَأَمَّلا ما فيهِ ، فَلَمّا رَأَوا ما حَواهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ قالوا : هذِهِ الغَنائِمُ الَّتي وَعَدنَا اللّهُ بِها ، وأخبَرَنا أنَّهُ يُعَجِّلُها لَنا .
.
ص: 256
قالَ أبُو الأَسوَدِ : فَقَد سَمِعتُ هذا مِنهُما ، ورَأَيتُ عَلِيّا عليه السلام بَعدَ ذلِكَ ، وقَد دَخَلَ بَيتَ مالِ البَصرَةِ ، فَلَمّا رَأى ما فيهِ قالَ : يا صَفراءُ ويا بَيضاءُ غُرّي غَيري ! اَلمالُ يَعسوبُ (1) الظَّلَمَةِ ، وأنَا يَعسوبُ المُؤمِنينَ . فَلا وَاللّهِ مَا التَفَتَ إلى ما فيهِ ، ولا فَكَّرَ فيما رَآهُ مِنهُ ، وما وَجَدتُهُ عِندَهُ إلّا كَالتُّرابِ هَواناً ! فَعَجِبتُ مِنَ القَومِ ومِنهُ عليه السلام ! فَقُلتُ : اُولئِكَ مِمَّن يُريدُ الدُّنيا ، وهذا مِمَّن يُريدُ الآخِرَةَ ، وقَوِيَت بَصيرَتي فيهِ (2) .
10 / 12خُطبَةُ الإِمامِ بَعدَ قِسمَةِ المالِالجمل عن الواقدي :إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام لَمّا فَرَغَ مِن قِسمَةِ المالِ قامَ خَطيباً ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ وقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! إنّي أحمَدُ اللّهَ عَلى نِعَمِهِ ؛ قُتِلَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ، وهُزِمَت عائِشَةُ . وَايمُ اللّهِ لَو كانَت عائِشَةُ طَلَبَت حَقّاً وأهانَت باطِلاً لَكانَ لَها في بَيتِها مَأوىً ، وما فَرَضَ اللّهُ عَلَيهَا الجِهادُ ، وإنَّ أوَّلَ خَطَئِها في نَفسِها ، وما كانَت وَاللّهِ عَلَى القَومِ إلّا أشأَمَ مِن ناقَةِ الحِجرٍ (3) ، ومَا ازدادَ عَدُوُّكُم بِما صَنَعَ اللّهُ إلّا حِقدا ، وما زادَهُمُ الشَّيطانُ إلّا طُغيانا . ولَقَد جاؤوا مُبطِلينَ وأدبَروا ظالِمينَ ، إنَّ إخوانَكُمُ المُؤمِنينَ جاهَدوا في سَبيلِ اللّهِ ، وآمَنوا بِهِ يَرجونَ مَغفِرَةً مِنَ اللّهِ ، وإنَّنا لَعَلَى الحَقِّ ، وإنَّهُم لَعَلَى الباطِلِ ، وسَيَجمَعُنَا اللّهُ وإيّاهُم يَومَ الفَصلِ ، وأستَغفِرُ اللّهَ لي ولَكُم (4) .
.
ص: 257
10 / 13تَوبيخُ الإِمامِ أهلَ البَصرَةِالجمل :لَمّا كَتَبَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام الكُتُبَ بِالفَتحِ قامَ فِي النّاسِ خَطيباً ، فَحَمِدَ اللّهَ تَعالى وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ ، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ غَفورٌ رَحيمٌ عَزيزٌ ذُو انتِقامٍ ، جَعَلَ عَفوَهُ ومَغفِرَتَهُ لِأَهلِ طاعَتِهِ ، وجَعَلَ عَذابَهُ وعِقابَهُ لِمَن عَصاهُ وخالَفَ أمرَهُ ، وَابتَدَعَ في دينِهِ ما لَيسَ مِنهُ ، وبِرَحمَتِهِ نالَ الصّالِحونَ العَونَ ، وقَد أمكَنَنِيَ اللّهُ مِنكُم يا أهلَ البَصرَةِ ، وأسلَمَكُم بِأَعمالِكُم ؛ فَإِيّاكُم أن تَعودوا إلى مِثلِها ؛ فَإِنَّكُم أوَّلُ مَن شَرَعَ القِتالَ وَالشِّقاقَ ، وتَرَكَ الحَقَّ وَالإِنصافَ (1) .
الجمل عن الحارث بن سريع :لَمّا ظَهَرَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَلى أهلِ البَصرَةِ وقَسَّمَ ما حَواهُ العَسكَرُ ، قامَ فيهِم خَطيبا ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى رَسولِهِ وقالَ : أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ ومَغفِرَةٍ دائِمَةٍ لِأَهلِ طاعَتِهِ ، وقَضى أنَّ نِقمَتَهُ وعِقابَهُ عَلى أهلِ مَعصِيَتِهِ . يا أهلَ البَصرَةِ ! يا أهلَ المُؤتَفِكَةِ ، ويا جُندَ المَرأَةِ ، وأتباعَ البَهيمَةِ ! رَغا فَأَجَبتُم ، وعُقِرَ فَانهَزَمتُم ، أحلامُكُم دِقاقٌ ، وعَهدُكُم شِقاقٌ ، ودينُكُم نِفاقٌ ، وأنتُم فَسَقَةٌ مُرّاقٌ . يا أهلَ البَصرَةِ ! أنتُم شَرُّ خَلقِ اللّهِ ؛ أرضُكُم قَريبَةٌ مِنَ الماءِ ، بَعيدَةٌ مِنَ السَّماءِ . خَفَّت عُقولُكُم ، وسَفِهَت أحلامُكُم . شَهَرتُم سُيوفَكُم ، وسَفَكتُم دِماءَكُم ، وخالَفتُم إمامَكُم ؛ فَأَنتُم اُكلَةُ الآكِلِ ، وفَريسَةُ الظّافِرِ ، فَالنّارُ لَكُم مُدَّخَرٌ ، وَالعارُ لَكُم مَفَخَرٌ ، يا أهلَ البَصرَةِ ! نَكَثتُم بَيعَتي ، وظاهَرتُم عَلَيَّ ذوي عَداوَتي ، فَما ظَنُّكُم يا أهل
.
ص: 258
البَصرَةِ الآنَ (1) .
الأخبار الطوال :دَخَلَ عَلِيٌّ رضى الله عنه البَصرَةَ ، فَأَتى مَسجِدَها الأَعظَمَ ، وَاجتَمَعَ النّاسُ إلَيهِ ، فَصَعِدَ المِنبَرَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ وعِقابٍ أليمٍ ، فَما ظَنُّكُم بي يا أهلَ البَصرَةِ ؛ جُندَ المَرأةِ ، وأتباعَ البَهيمَةِ ؟ رَغا فَقاتَلتُم ، وعُقِرَ فَانهَزَمتُم ، أخلاقُكُم دِقاقٌ ، وعَهدُكُم شِقاقٌ ، وماؤُكُم زُعاقٌ (2) . أرضُكُم قَريبَةٌ مِنَ الماءِ ، بَعيدَةٌ مِنَ السَّماءِ ، وَايمُ اللّهِ لَيَأتِيَنَّ عَلَيها زَمانٌ لا يُرى مِنها إلّا شُرُفاتُ مَسجِدِها فِي البَحرِ ، مِثلُ جُؤجُؤِ (3) السَّفينَةِ . اِنصَرِفوا إلى مَنازِلِكُم . ثُمَّ نَزَلَ ، وَانصَرَفَ إلى مُعَسكَرِهِ (4) .
الإمام عليّ عليه السلام_ في ذَمِّ أهلِ البَصرَةِ بَعدَ وَقعَةِ الجَمَلِ _: كُنتُم جُندَ المَرأَةِ ، وأتباعَ البَهيمَةِ ؛ رَغا فَأَجَبتُم ، وعُقِرَ فَهَرَبتُم . أخلاقُكُم دِقاقٌ ، وعَهدُكُم شِقاقٌ ، ودينُكُم نِفاقٌ ، وماؤُكُم زُعاقٌ ، وَالمُقيمُ بَينَ أظهُرِكُم مُرتَهَنٌ بِذَنبِهِ ، وَالشّاخِصُ عَنكُم مُتدارَكٌ بِرَحمَةٍ مِن رَبِّهِ . كَأَنّي بِمَسجِدِكُم كَجُؤجُؤِ سَفينَةٍ قَد بَعَثَ اللّهُ عَلَيهَا العَذابَ مِن فَوقِها ومِن تَحتِها ، وغَرِقَ مَن في ضِمنِها (5) .
معجم البلدان :في رِوايَةٍ أنَّ عَلِيّا رضى الله عنه لَمّا فَرَغَ مِن وَقعَةِ الجَمَلِ دَخَلَ البَصرَةَ فَأَتى مَسجِدَهَا الجامِعَ ، فَاجتَمَعَ النّاسُ ، فَصَعِدَ المِنبَرَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلَى
.
ص: 259
النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ ، فَما ظَنُّكُم يا أهلَ البَصرَةِ ؟ يا أهلَ السَّبخَةِ ، يا أهلَ المُؤتَفِكَةِ ؛ اِئتَفَكَت (1) بِأَهلِها ثَلاثا وعَلَى اللّهِ الرابِعَةُ ، ياجُندَ المَرأَةِ . . . ثُمَّ قالَ : انصَرِفوا إلى مَنازِلِكُم وأطيعُوا اللّهَ وسُلطانَكُم . وخَرَجَ حَتّى صارَ إلَى المَربَدِ ، وَالتَفَتَ وقالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي أخرَجَني مِن شَرِّ البِقاعِ تُرابا ، وأسرَعِها خَرابا (2) .
10 / 14اِستِخلافُ ابنِ عَبّاسٍ عَلَى البَصرَةِالجمل عن الواقدي عن رجاله :لَمّا أرادَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام الخُروجَ مِنَ البَصرَةِ استَخلَفَ عَلَيها عَبدُ اللّهِ بنُ العَبّاسِ وأوصاهُ ، فَكانَ في وَصِيَّتِهِ لَهُ أن قالَ : يَا بنَ عَبّاسٍ ، عَلَيكَ بِتَقوَى اللّهِ وَالعَدلِ بِمَن وُلّيتَ عَلَيهِ ، وأن تَبسُطَ لِلنّاسِ وَجهَكَ ، وتُوَسِّعَ عَلَيهِم مَجلِسَكَ وتَسَعَهُم بِحِلمِكَ . وإيّاكَ وَالغَضَبَ ؛ فَإِنَّهُ طِيَرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ ، وإيّاكَ وَالهَوى ؛ فَإِنَّهُ يَصُدُّكَ عَن سَبيلِ اللّهِ . وَاعلَم أنَّ ما قَرَّبَكَ مِنَ اللّهِ فَهُوَ مُباعِدُكَ مِنَ النّارِ ، وما باعَدَكَ مِنَ اللّهِ فَهُوَ مُقَرِّبُكَ مِنَ النّارِ . وَاذُكرِ اللّهَ كَثيرا ولا تَكُن مِنَ الغافِلينَ . ورَوى أبو مِخنَفٍ لوطُ بنُ يَحيى قالَ : لَمَّا استَعمَلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَبدَ اللّهِ بنَ العَبّاسِ عَلَى البَصرَةِ خَطَبَ النّاسَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلى رَسولِهِ ، ثُمَّ قالَ :
.
ص: 260
يا مَعاشِرَ النّاسِ ، قَدِ استَخلَفتُ عَلَيكُم عَبدَ اللّهِ بنَ العَبّاسِ ، فَاسمَعوا لَهُ وأطيعوا أمرَهُ ما أطاعَ اللّهَ ورَسولَهُ ؛ فَإِن أحدَثَ فيكُم أو زاغَ عَنِ الحَقِّ فَأَعلِموني أعزِلهُ عَنكُم ؛ فَإِنّي أرجو أن أجِدَهُ عَفيفاً تَقِيّاً وَرِعاً ، وإنّي لَم اُوَلِّهِ عَلَيكُم إلّا وأنَا أظُنُّ ذلِكَ بِهِ ، غَفَرَ اللّهُ لَنا ولَكُم . فَأَقامَ عَبدُ اللّهِ بِالبَصرَةِ حَتّى عَمِلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الشّامِ ، فَاستَخلَفَ عَلَيها زيادَ بنَ أبيهِ ، وضَمَّ إلَيهِ أبَا الأَسوَدِ الدُّؤَلِيَّ ، ولَحِقَ بِأَميرِالمُؤمِنينَ عليه السلام ، فَسارَ مَعَهُ إلى صِفّينَ (1) .
10 / 15كِتابُ الإِمامِ إلى أهلِ الكوفَةِالإمام عليّ عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى أهلِ الكوفَةِ _: بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، مِن عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى أهلِ الكوفَةِ : سَلامٌ عَلَيكُم ، فَإِنّي أحمَدُ اللّهَ إلَيكُمُ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ ، أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ حَكَمٌ عَدلٌ «لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَ إِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ» (2) . وإنّي اُخبِرُكُم عَنّا ، وعَمَّن سِرنا إلَيهِ مِن جُموعِ أهلِ البَصرَةِ ، ومَن سارَ إلَيهِ مِن قُرَيشٍ وغَيرِهِم مَعَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ بَعدَ نَكِثِهما صَفقَةَ أيمانِهِما . فَنَهَضتُ مِنَ المَدينَةِ حينَ انتَهى إلَيَّ خَبَرُهُم ، وما صَنَعوهُ بِعامِلي عُثمانَ بنِ حُنيَفٍ حَتّى قَدِمتُ ذا قارٍ ، فَبَعَثتُ إلَيكُمُ ابنِيَ الحَسَنَ وعَمّارا وقَيسا فَاستَنفَروكُم لِحَقِّ اللّهِ وحَقِّ رَسولِهِ وحَقِّنا ، فَأَجابَني إخوانُكُم سِراعا حَتّى قَدِموا عَلَيَّ .
.
ص: 261
فَسِرتُ بِهِم وبِالمُسارِعينَ مِنهُم إلى طاعَةِ اللّهِ حَتّى نَزَلتُ ظَهرَ البَصرَةِ ، فَأَعذَرتُ بِالدُّعاءِ ، وأقَمتُ الحُجَّةَ ، وأقَلتُ العَثرَةَ وَالزَّلَّةَ مِن أهلِ الرَّدَّةِ مِن قُرَيشٍ وغَيرِهِم ، وَاستَتَبتُهُم عَن نَكثِهِم بَيعَتي ، وعَهدِ اللّهِ لي عَلَيهِم ، فَأَبَوا إلّا قِتالي ، وقِتالَ مَن مَعي ، وَالتَّمادِيَ فِي الغَيِّ ، فَناهَضتُهُم بِالجِهادِ . فَقُتِلَ مَن قُتِلَ مِنهُم ، ووَلّى مَن وَلّى إلى مِصرِهِم ، فَسَأَلوني ما دَعَوتُهُم إلَيهِ مِن كَفِّ القِتالِ ، فَقَبِلتُ مِنهُم ، وغَمَدتُ السُّيوفَ عَنهُم ، وأخَذتُ بِالعَفوِ فيهِم ، وأجرَيتُ الحَقَّ وَالسُّنَّةَ بَينَهُم ، وَاستَعمَلتُ عَبدَ اللّهِ بنَ العَبّاسِ عَلَى البَصرَةِ ، وأنَا سائِرٌ إلَى الكوفَةِ إن شاءَ اللّهُ تَعالى . وقَد بَعَثتُ إلَيكُم زَحرَ بنَ قَيسٍ الجُعفِيَّ لِتَسأَلوهُ فَيُخبِرَكُم عَنّا وعَنهُم ، ورَدِّهِمُ الحَقَّ عَلَينا ، ورَدِّ اللّهِ لَهُم (1) وهُم كارِهونَ . وَالسَّلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللّهِ وبَركاتُهُ . وكَتَبَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ أبي رافِعٍ في جُمادَى الاُولى مِن سَنَةِ سِتٍّ وثَلاثينَ مِنَ الهِجرَةِ (2) .
10 / 16قُدومُ الإِمامِ إلَى الكوفَةِوقعة صفّين عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود وغيره :لَمّا قَدِمَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ مِنَ البَصرَةِ إلَى الكوفَةِ يَومَ الِاثنَينِ لِثِنتَي عَشرَةَ لَيلَةً مَضَت مِن رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاثينَ ، وقَد أعَزَّ اللّهُ نَصرَهُ ، وأظهَرَهُ عَلى عَدُوِّهِ ، ومَعَهُ أشرافُ النّاسِ وأهلُ البَصرَةِ ، استَقبَلَهُ أهلُ الكوفَةِ وفيهِم قُرّاؤُهُم وأشرافُهُم ، فَدَعَوا لَهُ بِالبَرَكَةِ وقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أينَ تَنزِلُ ؟ أ تَنزِلُ القَصرَ ؟ فَقالَ : لا ، ولكِنّي أنزِلُ الرُّحبَةَ . فَنَزَلَها
.
ص: 262
وأقبَلَ حَتّى دَخَلَ المَسجِدَ الأَعظَمَ فَصَلّى فيهِ رَكعَتَينِ ، ثُمَّ صَعِدَ المِنبَرَ فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ وصَلّى عَلى رَسولِهِ وقالَ : أمّا بَعدُ ؛ يا أهلَ الكوفَةِ ! فَإِنَّ لَكُم فِي الإِسلامِ فَضلاً ما لَم تُبَدِّلوا وتُغَيِّروا . دَعَوتُكُم إلَى الحَقِّ فَأَجَبتُم ، وبَدَأتُم بِالمُنكَرِ فَغَيَّرتُم . ألا إنَّ فَضلَكُم فيما بَينَكُم وبَينَ اللّهِ فِي الأَحكامِ وَالقَسمِ ، فَأَنتُم اُسوَةُ مَن أجابَكُم ودَخَلَ فيما دَخَلتُم فيهِ . ألا إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عَلَيكُمُ اتِّباعُ الهَوى ، وطولُ الأَمَلِ ؛ فَأَمَّا اتِّباعُ الهَوى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ ، وأمّا طولُ الأَمَلِ فَيُنسِي الآخِرَةَ . ألا إنَّ الدُّنيا قَد تَرَحَّلَت مُدبِرَةً ، وَالآخِرَةَ تَرَحَّلتَ مُقبِلَةً ، ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما بَنونَ ؛ فَكونوا مِن أبناءِ الآخِرَةِ . اَليَومَ عَمَلٌ ولا حِسابٌ ، وغَدا حِسابٌ ولا عَمَلٌ . الحَمدُ للّهِِ الَّذي نَصَرَ وَلِيَّهُ ، وخَذَلَ عَدُوَّهُ ، وأعَزَّ الصّادِقَ المُحِقَّ ، وأذَلَّ النّاكِثَ المُبطِلَ . عَلَيكُم بِتَقوَى اللّهِ وطاعَةِ مَن أطاعَ اللّهَ مِن أهلِ بَيتِ نَبِيِّكُم ، الَّذينَ هُم أولى بِطاعَتِكُم فيما أطاعُوا اللّهَ فيهِ مِنَ المُنتَحِلينَ المُدَّعينَ المُقابِلينَ إلَينا ، يَتَفَضَّلونَ بِفَضلِنا ، ويُجاحِدونّا أمرَنا ، ويُنازِعونّا حَقَّنا ، ويُدافِعونّا عَنهُ . فَقَد ذاقوا وَبالَ مَا اجتَرَحوا فَسوفَ يَلقَونَ غَيّاً . ألا إنَّهُ قَد قَعَدَ عَن نُصرَتي مِنكُم رِجالٌ فَأَنَا عَلَيهِم عاتِبٌ زارٍ . فَاهجُروهُم وأسمِعوهُم ما يَكرَهونَ حَتّى يُعتِبوا ، لِيُعرَفَ بِذلِكَ حِزبُ اللّهِ عِندَ الفُرقَةِ . فَقامَ إلَيهِ مالِكُ بنُ حَبيبٍ اليَربوعِيُّ _ وكانَ صاحِبَ شَرَطَتِهِ _ فَقالَ : وَاللّهِ إنّي لَأَرَى الهُجرَ وإسماعَ المَكروهِ لَهُم قَليلاً . وَاللّهِ لَئِن أمَرتَنا لَنَقتُلَنَّهُم . فَقالَ عَلِيٌّ : سُبحانَ اللّهِ يا مالِ ! جُزتَ المَدى ، وعَدَوتَ الحَدَّ ، وأغرَقتَ فِي النَّزعِ !
.
ص: 263
فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! لَبَعضُ الغَشمِ (1) أبلَغُ في اُمورٍ تَنوبُكَ مِن مُهادَنَةِ الأَعادي . فَقالَ عَلِيٌّ : لَيسَ هكَذا قَضَى اللّهُ يا مالِ ، قَتلُ النَّفسِ بِالنَّفسِ ، فَما بالُ الغَشمِ وقالَ : «وَ مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَ_نًا فَلَا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا» (2) وَالإِسرافُ فِي القَتلِ أن تَقتُلَ غَيرَ قاتِلِكَ ؛ فَقَد نَهَى اللّهُ عَنهُ ، وذلِكَ هُوَ الغَشمُ (3) .
وقعة صفّين عن الأصبغ بن نباتة :إنَّ عَلِيّا لَمّا دَخَلَ الكوفَةَ قيلَ لَهُ : أيَّ القَصرَينِ نُنزِلُكَ ؟ قالَ : قَصرُ الخَبالِ لا تُنزِلونيهِ . فَنَزَلَ عَلى جَعدَةَ بنِ هُبَيرَةَ المَخزومِيِّ (4) .
.
ص: 264
M2739_T1_File_2601051
M2739_T1_File_2601052
.
ص: 265
الحرب الثانية : وقعة صفّين؛ فتنة القاسطينوفيه فصول :الفصل الأول : مواصفات الحربالفصل الثاني : هويّة رؤساء القاسطينالفصل الثالث : السياسة العلويّةالفصل الرابع : حرب الدعايةالفصل الخامس : تهيُّؤ معاوية للحربالفصل السادس : مسير الإمام إلى صفّينالفصل السابع : مواجهة الجيشينالفصل الثامن : القتالالفصل التاسع : اشتداد القتالالفصل العاشر : أشدّ الأيّامالفصل الحادي عشر : توقّف الحربالفصل الثاني عشر : تعيين الحكمالفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّينالفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم
.
ص: 266
. .
ص: 267
الفصل الأول : مواصفات الحرب1 / 1تَأريخُهابعد مضي حوالي أربعة أشهر على إخماد فتنة الناكثين بقيادة عائشة وطلحة والزبير وفي وقت لم تكن جراحها قد اندملت ودماؤها قد جفّت ، واجه الإسلام العلوي فتنة القاسطين بقيادة معاوية . فخرج الإمام عليّ عليه السلام في الخامس من شوّال عام 36 للهجرة من الكوفة لإخماد هذه الفتنة (1) . وفي أواخر ذي القعدة (2) وأثناء حطّ الرحال في صفّين وقعت معركة خاطفة للسيطرة على شريعة الفرات التي سيطر عليها جيش معاوية قبل وصول الإمام وجيشه ، وقد انتهت هذه المعركة بانتصار جيش الإمام عليّ عليه السلام . وفي شهر ذي الحجّة وقعت مناوشات بين الجيشين (3) ، إلى أن اُعلنت الهدنة بين الفريقين في محرّم من عام 37 (4) ، وما إن انتهت حتى وقعت الحرب الحقيقيّة بينهما
.
ص: 268
في بداية صفر عام 37 (1) وحَمِىَ وطيسها في الثامن من صفر . وفي العاشر منه (2) حينما كان جيش الإمام على وشك إحراز الانتصار الحاسم ، إلّا أنّها انفضّت بحيلة من عمرو بن العاص ، وعاد الإمام إلى الكوفة .
1 / 2مَكانُهاصِفّين _ بكسرتين وتشديد الفاء _ موضع بقرب الرقّة (3) على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقّة وبالس (4)(5) . وتبلغ المسافة بين دمشق والرقّة _ وهي بقرب صفّين _ 550 كيلو مترا تقريبا (6) .
1 / 3عَدَدُ المُشارِكينَ فيهاذكرت أعداد متضاربة عن عدد جيشي الإمام عليّ عليه السلام ومعاوية . ولعلّ سبب ذلك يعود إلى أنّ بعضهم ذكر عدد المقاتلين فقط ، بينما أضاف بعضٌ آخر الخدم والغلمان . وزاد عليهم آخرون كلَّ مَن يرافق الجيوش عادةً من جماعات الميرة ،
.
ص: 269
والنساء والأطفال . ومع أنّ النصوص التاريخيّة أشارت إلى أنّ جيش الإمام عليّ عليه السلام بلغ قوامه 120 ألفا (1) أو 150 ألفا (2) أو 95 ألفا (3) أو أكثر من 100 ألف (4) أو 50 ألفا (5) على اختلافٍ بينها ، إلّا أنّ المشهور هو أنّ عدد جيش الإمام كان تسعين ألفا (6) . وتضاربت الروايات أيضا بخصوص عدد جيش معاوية ما بين 60 ألفا (7) و 70 ألفا (8) و83 ألفا (9) و90 ألفا (10) ومائة ألف (11) ومائة وعشرين ألفا 12 و130 ألفا 13 ، إلّا أنّ الروايات التي تصرّح بأن عددهم كان خمسةً وثمانين ألفا هي الأشهر 14 .
1 / 4قادَةُ جَيشِ الإِمامِقائد خيّالة الكوفة : مالك الأشتر 15 .
.
ص: 270
قائد خيّالة البصرة : سهل بن حنيف . قائد رجّالة الكوفة : عمّار بن ياسر . قائد قرّاء أهل البصرة : مسعر بن فدكي التميمي (1) . قائد قرّاء أهل الكوفة : عبد اللّه بن بُدَيل وعمّار بن ياسر (2) . صاحب اللواء : هاشم بن عتبة (3) . آمر الميمنة : الأشعث بن قيس . آمر الميسرة : عبد اللّه بن عبّاس . آمر رجّالة الميمنة : سليمان بن صُرَد الخزاعي . آمر رجّالة الميسرة : الحارث بن مُرّة العبدي . قلب الجيش : قبيلة مُضَر (4) . ميمنة الجيش : أهل اليمن 5 .
1 / 5قادَةُ جَيشِ القاسِطينَقائد الميمنة : ابن ذي الكلاع الحميري (5) .
.
ص: 271
قائد الميسرة : حبيب بن مسلمة الفهري (1) . قائد خيّالة الشام : عمرو بن العاص (2) . قائد رجّالة الشام : الضحّاك بن قيس (3) . قائد الخيّالة : عبيد اللّه بن عمر بن الخطّاب (4) . قلب الجيش : أهل دمشق ، وعليهم الضحّاك بن قيس الفهري (5) . ميمنة الجيش : أهل حمص (6) وقِنّسرين 7(7) . صاحب اللواء : عبد الرحمن بن خالد بن الوليد 9 .
1 / 6أكابِرُ أصحابِ الإِمامِشارك في حرب صفّين إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام الكثير من أكابر صحابة الرسول صلى الله عليه و آله وغيرهم ممّن بذل كلّ غالٍ ونفيس في سبيل إرساء دعائم الإسلام .
.
ص: 272
وتختلف الروايات في ذكر عددهم ؛ فمنها ما يشير إلى أنّ عددهم كان بين 70 و 80 من البدريّين ، و 800 ممّن شهدوا بيعة الرضوان ، و 400 من سائر الصحابة . وفي مقابل ذلك كان عدد الذين شاركوا في جيش معاوية من الصحابة لا يتجاوز عدد أصابع اليد وهم ممّن أسلموا بعد الفتح . من الشخصيّات الصحابيّة البارزة التي وقفت إلى جانب الإمام عليّ عليه السلام يمكن الإشارة إلى كلّ من : الإمام الحسن عليه السلام ، الإمام الحسين عليه السلام ، عمّار بن ياسر ، سهل بن حنيف ، قيس بن سعد ، عديّ بن حاتم ، هاشم بن عتبة ، عبد اللّه بن بديل ، عبد اللّه بن عبّاس ، اُويس القرني ، أبو الهيثم مالك بن التيّهان ، عبد اللّه بن جعفر ، خزيمة بن ثابت ، سليمان بن صرد الخزاعي ، عمرو بن حمق الخزاعي . ومن الأعلام الآخرين الذين لم يدركوا عهد الرسول صلى الله عليه و آله وكانوا في جيش الإمام عليه السلام في معركة صفّين : محمّد ابن الحنفيّة ، مالك الأشتر ، الأحنف بن قيس ، سعيد بن قيس الهمداني ، حجر بن عديّ ، أصبغ بن نباتة ، صعصعة بن صوحان ، شريح بن هانئ ، عبد اللّه بن هاشم بن عتبة ، جعدة بن هبيرة ، زياد بن النضر .
المستدرك على الصحيحين عن الحكم :شَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ عليه السلام صِفّينَ ثَمانونَ بَدرِيّا ، وخَمسونَ ومِئَتانِ مِمَّن بايَعَ تَحتَ الشَّجَرَةِ (1) .
تاريخ اليعقوبي :كانَ مَعَ عَلِيٍّ يَومَ صِفّينَ مِن أهلِ بَدرٍ سَبعونَ رَجُلاً ، ومِمَّن بايَعَ تَحتَ الشَّجَرَةِ سَبعُمِئَةِ رَجُلٍ ، ومِن سائِرِ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ أربَعُمِئَةِ رَجُلٍ (2) .
تاريخ خليفة بن خيّاط عن عبد الرحمن بن أبزي :شَهِدنا مَعَ عَلِيٍّ ثَمانُمِئَةٍ مِمَّن بايَعَ بَيعَة
.
ص: 273
الرِّضوانِ ، قُتِلَ مِنّا ثَلاثَةٌ وسِتّونَ ، مِنهُم : عَمّارُ بنُ ياسِرٍ (1) .
العقد الفريد :قالَ مُعاوِيَةُ يَوما : يا مَعشَرَ الأَنصارِ ! لِمَ تَطلُبونَ ما عِندي ؟ فَوَاللّهِ لَقَد كُنتُم قَليلاً مَعي كَثيرا مَعَ عَلِيٍّ ، ولَقَد فَلَلتُم حَدّي يَومَ صِفّينَ ، حَتّى رَأَيتُ المَنايا تَتَلَظّى مِن أسِنَّتِكُم (2) .
مروج الذهب :كانَ مِمَّن شَهِدَ صِفّينَ مَعَ عَلِيٍّ مِن أِصحابِ بَدرٍ سَبعَةٌ وثَمانونَ رَجُلاً : مِنهُم سَبعَةَ عَشَرَ مِنَ المُهاجِرينَ ، وسَبعونَ مِنَ الأَنصارِ ، وشَِهدَ مَعَهُ مِنَ الأَنصارِ مِمَّن بايَعَ تَحتَ الشَّجَرَةِ ؛ وهِيَ بَيعَةُ الرِّضوانِ منَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله تَسعُمِئَةٍ ، وكانَ جَميعُ مَن شَهِدَ مَعَهُ مِنَ الصَّحابَةِ ألفَينِ وثَمانَمِئَةٍ (3) .
1 / 7وُجوهُ أصحابِ مُعاوِيَةَلم يكن أحد من أصحاب معاوية من السابقين إلى الإسلام ، بل كان بعضهم ممّن حارب النبيّ صلى الله عليه و آله سنوات عديدة أو ممّن طرده أو لعنه النبيّ صلى الله عليه و آله ، أمثال : عمرو بن العاص ، عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، عبيد اللّه بن عمر ، حبيب بن مسلمة ، ذوالكلاع الحميري ، الضحّاك بن قيس ، الوليد بن عقبة ، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، أبو الأعور ، بُسر بن أرطاة ، عبد اللّه بن عامر ، مروان بن الحكم ، عتبة بن أبي سفيان .
وقعة صفّين :اِجتَمَعَ عِندَ مُعاوِيَةَ : عُتبَةُ بنُ أبي سُفيانَ وَالوَليدُ بنُ عُقبَةَ ، ومَروانُ بن
.
ص: 274
الحَكَمِ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ ، وَابنُ طَلحَةَ الطَّلحاتِ ، فَقالَ عُتبَةُ : إنَّ أمرَنا وأمرَ عَلِيٍّ لَعَجَبٌ ، لَيسَ مِنّا إلّا مَوتورٌ مُحاجٌّ ؛ أمّا أنَا فَقَتَلَ جَدّي ، وَاشتَرَكَ في دَمِ عُمومَتي يَومَ بَدرٍ . وأمّا أنتَ يا وَليدُ فَقَتَلَ أباكَ يَومَ الجَمَلِ ، وأيتَمَ إخوتَكَ . وأمّا أنتَ يا مَروانُ فَكَما قالَ الأَوَّلُ : وأفلَتَهُنَّ عَِلباءُ جَريضاً ولَو أدرَكنَهُ صَفِرَ الوِطابُ (1) قالَ مُعاوِيَةُ : هذَا الإِقرارُ فَأَينَ الغُيُرُ (2) ؟ قالَ مَروانُ : أيَّ غُيُرٍ تُريدُ ؟ قالَ : اُريدُ أن يُشجَرَ (3) بِالرِّماحِ . فَقالَ : وَاللّهِ إنَّكَ لَهازِلٌ ، ولَقد ثَقُلنا عَلَيكَ (4) .
راجع : ص 277 (هويّة رؤساء القاسطين) .
1 / 8عَدَدُ القَتلى فيهاالمشهور أنّ القتلى من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا ، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألفا (5) وفي قبالها أقوال اُخر _ كما نقل عن ابن أبي شيبة _ : خمسون ألفا من أهل الشام ، وعشرون ألفا من أهل العراق (6) وعن يحيى بن معين : من أهل العراق عشرون ألفا ، ومن أهل الشام تسعون ألفا ، ومجموع من قتل بها من الفريقين _ فى ¨
.
ص: 275
مِئة يوم وعشرة أيّام _ مِئة ألف وعشرة آلاف (1) .
أنساب الأشراف :كانَ عَلِيٌّ عليه السلام بِصِفّينَ في خَمسينَ ألفاً ، ويُقالُ : في مِئَةِ ألفٍ . وكانَ مُعاوِيَةُ في سَبعينَ ألفاً ، ويُقالُ : في مِئَةِ ألفٍ . فَقُتِلَ مِن أهلِ الشّامِ خَمسَةٌ وأربَعونَ ألفاً ، ومِن أهلِ العِراقِ خَمسَةٌ وعِشرونَ ألفاً (2) .
معجم البلدان :قُتِلَ فِي الحَربِ بَينَهُما سَبعونَ ألفاً ، مِنهُم مِن أصحابِ عَلِيٍّ خَمسَةٌ وعِشرونَ ألفا ومِن أصحابِ مُعاوِيَةَ خَمسَةٌ وأربعَونَ ألفاً ، وقُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ خَمسَةٌ وعِشرونَ صَحابِيّاً بَدرِيّاً ، وكانَت مُدَّةُ المُقام بِصِفّينَ مِئَةَ يَومٍ وعَشَرَةَ أيّامٍ ، وكانَتِ الوَقائِعُ تِسعينَ وَقعَةً (3) .
تهذيب الكمال عن الحسن بن عثمان عن عدّة من الفقهاء وأهل العلم :كانَت وَقعَةُ صِفّينَ بَينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ، فَقُتِلَت بَينَهُما جَماعَةٌ كَبيرَةٌ يُقالُ : إنَّهُم كانوا سَبعينَ ألفا في صَفَرٍ ، ويُقالُ : في رَبيعِ الأَوَّلِ ؛ مِنهُم مِن أهلِ الشّامِ خَمسَةٌ وأربَعونَ ألفا ، ومِن أهلِ العِراقِ خَمسَةٌ وعِشرونَ ألفا ، وكانَ مِمَّن عُرِفَ مِن أشرافِ النّاسِ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ (4) .
مروج الذهب عن يحيى بن معين :إنَّ عِدَّةَ مَن قُتِلَ بِها مِنَ الفَريقَينِ _ في مِئَةِ يَومٍ وعَشَرَةِ أيّامٍ _ مِئَةُ ألفٍ وعَشَرَةُ آلافٍ مِنَ النّاسِ ؛ مِن أهلِ الشّامِ تِسعونَ ألفا ، ومِن أهلِ العِراقِ عِشرونَ ألفا (5) .
.
ص: 276
. .
ص: 277
الفصل الثاني : هويّة رؤساء القاسطين2 / 1مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَولد في سنة 20 قبل الهجرة وأسلم سنة 8 ه مُكرها تحت بوارق فرسان الإسلام ، وعُرف هو وأضرابه ب_«الطُّلَقاء» . ولّاه عمر على الشام ، فانتهج لنفسه اُسلوبا تحكّميّا سلطويّا ، وضرب على وتر الاستقلال مذ نُصب واليا عليه ، وتساهل معه عمر لأسبابٍ ما 1 .
.
ص: 278
وفي عهد عثمان _ الذي كان يتطلّع إلى تسليط الاُمويّين على الناس _ لم يرعوِ معاوية عن ظلمه وجوره ، وتمرّغ في ترفه ونعيمه ، بلا وازعٍ من ضمير ، ولا رادعٍ من سلطان . وإنّ إمارته التي استمرّت عشرين سنة ، وأساليبه في تجهيل الناس وتحميقهم ، وبثّ الذعر والهلع في نفوسهم ، وإبقائهم على جهلهم ؛ كلّ اُولئك مهّد الأرضيّة لكلّ عمل يصبّ في مصلحته بالشام . عزم على مناوءة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام منذ تولّيه الخلافة ، وجدّ كثيرا في تحريض طلحة والزبير عليه ، وقاد معركة صفّين ضدّ الإمام عليه السلام . وبعد قضيّة التحكيم أكثر من شنّ الغارات الوحشيّة على المناطق الخاضعة لحكومة الإمام عليه السلام ، وأفسد في الأرض ، وأهلك الحرث والنسل . ثمّ تمكّن من فرض الصلح على الإمام الحسن عليه السلام سنة 41 ه ، عبر مكيدة خاصّة ، وضجيج مفتعل ، فأحكم قبضته على السلطة بلا منازع ، ثمّ طفق يضطهد شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأنصاره ، موغلاً في ذلك ، حتى أنّ أقرانه وأتباعه لم يطيقوا
.
ص: 279
ممارساته . وإنّ لقاء المغيرة به ، وإخباره عن موقفه العدائي ضدّ الدين الإسلامي الحنيف يترجمان حقده الدفين ، كما يدلّان على غاية خسّته ودَنَسه (1) ، وقد أفرط في سبّ الإمام عليه السلام ، وعندما طُلب منه أن يكفّ قال : «لا واللّه ، حتى يربوَ عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر ذاكر له فضلاً » ! ! (2) وتستوقفنا المعلومات التي يذكرها ابن أبي الحديد حول طمسه فضائل الإمام ، واختلاقه فضائل لنفسه ، وسعيه في وضع الحديث ، نقلاً عن كتاب الأحداث للمدائني (3) ، وغيره من الكتب القديمة ، والواقع أنّ كلّ ما قام به يوائم التفكير القيصري والكسروي ، ويبتغي تبديل تعاليم الدين . وتعتبر إمامته للصلاة في المدينة ، وتركه البسملة ، واحتجاج المهاجرين والأنصار عليه أدلّة قاطعة على ما نقول . ومهما يكن فإنّ معاوية تقمّص الخلافة ؛ الخلافة الدينيّة التي لا يعتقد بها اعتقادا راسخا من أعماق قلبه ، وادّعى خلافة من قصد قتاله ، ولم يتورّع عن تشويه الدين ، ولم يأبهْ لتغيير معارف الحقّ . وأباح لنفسه كلّ عمل من أجل إحكام قبضته على الاُمور ، واستمرار تسلّطه وتحكّمه . هلك معاوية سنة 60 ه ، ونصب يزيد حاكما على الناس ، فخطا بذلك خطوة اُخرى نحو قلب الحقائق الدينيّة ، وهو ما اشتُهرت آثاره في التاريخ .
.
ص: 280
مقتل الحسين للخوارزمي عن أحمد بن أعثم الكوفي :إنَّ مُعاوِيَةَ لَمّا حَجَّ حِجَّتَهُ الأخيرَةَ ارتَحَلَ مِن مَكَّةَ ، فَلَمّا صارَ بِالأَبواءِ (1) ونَزَلَها قامَ في جَوفِ اللَّيلِ لِقَضاءِ حاجَتِهِ ، فَاطَّلَعَ في بِئرِ الأَبواءِ ، فَلَمَّا اطَّلَعَ فيهَا اقشَعَرَّ جِلدُهُ ، وأصابَتهُ اللَّقوَةُ (2) في وَجهِهِ ، فَأَصبَحَ وهُوَ لِما بِهِ مَغمومٌ ، فَدَخَلَ عَليهِ النّاسُ يَعودونَهُ ، فَدعَوا لَهُ وخَرَجوا مِن عِندِهِ ، وجَعَلَ مُعاوِيَةُ يَبكي لِما قَد نَزَلَ بِهِ ، فَقالَ لَه مَروانُ بنُ الحَكَمِ : أ جَزِعتَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ فَقالَ : لا يا مَروانُ ، ولكِنّي ذَكَرتُ ما كُنتُ عَنهُ عَزوفا ، ثُمَّ إنّي بَكَيتُ في إحَني (3) ، وما يَظهَرُ لِلنّاسِ مِنّي ، فَأَخافُ أن يَكونَ عُقوبَةً عُجِّلَت لي لِما كانَ مِن دَفعي حَقَّ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، وما فَعَلتُ بِحُجرِ بنِ عَدِيٍّ وأصحابِهِ ، ولَولا هَوايَ مِن يَزيدَ لأَبصَرتُ رُشدي ، وعَرَفتُ قَصدي (4) .
2 / 1 _ 1نَسَبُهُربيع الأبرار :كانَ مُعاوِيَةُ يُعزى إلى أربَعَةٍ : مُسافِرِ بنِ أبي عَمروٍ ، وإلى عُمارَةَ بنِ الوَليدِ ، وإلَى العَبّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ ، وإلَى الصَّباحِ؛ مُغَنٍّ أسوَدُ كانَ لِعُمارَةَ . قالوا : وكانَ أبو سُفيانَ دَميما ، قَصيرا ، وكانَ الصَّباحُ عَسيفا (5) لِأَبي سُفيانَ ، شابّا وَسيما ، فَدَعَتهُ هِندٌ إلى نَفسِها (6) .
.
ص: 281
الفخري :كانَت اُمُّهُ هِندٌ بِنتُ عُتبَةَ شَريفَةً في قُرَيشٍ ، أسلَمَت عامَ الفَتحِ ، وكانَت في وَقعَةِ أحُدٍ لَمّا صُرِعَ حَمزَةُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ رضى الله عنه عَمُّ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِن طَعنَةِ الحَربَةِ الَّتي طُعِنَها ، جاءَت هِندٌ فَمَثَّلَت بِحَمزَةَ ، وأخَذَت قِطعَةً مِن كَبِدِهِ فَمَضَغَتها حَنَقَا عَلَيهِ ؛ لِأَنَّه كانَ قَد قَتَلَ رِجالاً مِن أقارِبِها ! فَلِذلِكَ يُقالُ لِمُعاوِيَةَ : ابنُ آكِلَةِ الأَكبادِ (1) .
2 / 1 _ 2دُعاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله عَلَيهِالمعجم الكبير عن ابن عبّاس :سَمِعَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله صَوتَ رَجُلَينِ يُغَنِّيانِ ؛ وهُما يَقولانِ : ولا يَزالُ حَوارِيٌّ يَلوحُ عِظامُهُ زَوَى الحَربَ عَنهُ أن يُجَنَّ فَيُقبَرا 2 فَسَأَلَ عَنهُما فَقيلَ : مُعاوِيَةُ وعَمرُو بنُ العاصِ ، فَقالَ : اللّهُمَّ أركِسهُما فِي الفِتنَةِ رَكسا ، ودُعَّهُما إلَى النّارِ دَعّا (2) .
صحيح مسلم عن ابن عبّاس :كُنتُ ألعَبُ مَعَ الصِّبيانِ فَجاءَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَتَوارَيتُ خَلفَ بابٍ . قالَ : فَجاءَ فحَطَأَني حَطأَةً (3) وقالَ : اِذهَب وَادعُ لي مُعاوِيَةَ . قالَ : فَجِئتُ فَقُلتُ : هُوَ يَأكُلُ . قالَ : ثُمَّ قالَ لي : اِذهب فَادعُ لي مُعاوِيَةَ . قالَ : فَجِئتُ فَقُلتُ : هُوَ يَأكُلُ . فَقالَ : لا أشبَعَ اللّهُ بَطنَهُ ! (4)
.
ص: 282
وقعة صفّين عن عليّ بن الأقمر :وَفَدنا عَلى مُعاوِيَةَ وقَضَينا حَوائِجَنا ثُمَّ قُلنا : لَو مَرَرنا بِرَجُلٍ قَد شَهِدَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله وعايَنَهُ ، فَأَتَينا عَبدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ فَقُلنا : يا صاحِبَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، حَدِّثنا ما شَهِدَت ورَأَيتَ . قالَ : إنَّ هذا أرسَلَ إلَيَّ _ يَعني مُعاوِيَةَ _ فَقالَ : لَئِن بَلَغَني أنَّكَ تُحَدِّثُ لَأَضرِبَنَّ عُنُقَكَ . فَجَثَوتُ عَلى رُكبَتَيَّ بَينَ يَدَيهِ ، ثُمَّ قُلتُ : وَدِدتُ أنّ أحَدَّ سَيفٍ في جُندِكَ عَلى عُنُقي ، فَقالَ : وَاللّهِ ما كُنتُ لِاُقاتِلَكَ ولا أقتُلَكَ . وَايمُ اللّهِ ما يَمنَعُني أن اُحَدِّثَكُم ما سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ فيه : رَأَيتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أرسَلَ إلَيهِ يَدعوهُ _ وكانَ يَكتُبُ بَينَ يَدَيهِ _ فَجاءَ الرَّسولُ فَقالَ : هُوَ يَأكُلُ . فَقالَ : «لا أشبَعَ اللّهُ بَطنَهُ» فَهَل تَرَونَهُ يَشبَعُ ؟ قال : وخَرَجَ مِن فَجٍّ (1) فَنَظَرَ رَسولُ اللّهِ إلى أبي سُفيانَ وهُوَ راكِبٌ ومُعاوِيَةُ وأخوهُ ، أحَدُهُما قائِدٌ وَالآخَرُ سائِقٌ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيهِم رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله قال : « اللّهُمَّ العَنِ القائِدَ وَالسّائِقَ وَالرّاكِبَ » . قُلنا : أنتَ سَمِعتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ قالَ : نَعَم ، وإلّا فَصُمَّتا اُذُنايَ ، كَما عَمِيَتا عَينايَ (2) .
البداية والنهاية_ بَعدَ ذِكرِ كَلامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله _: وقَد كانَ مُعاوِيَةُ لا يَشبَعُ بَعدَها ، ووافَقَتهُ هذِهِ الدَّعوَةُ في أيّامِ إمارَتِهِ ، فَيُقالُ : إنَّهُ كانَ يَأكُلُ فِي اليَومِ سَبعَ مَرّاتٍ طَعاما بِلَحمٍ ،
.
ص: 283
وكانَ يَقولُ : وَاللّهِ لا أشبَعُ وإنَّما أعيى (1) .
تهذيب التهذيب عن عليّ بن عمر :النَّسائِيُّ أفقَهُ مَشايِخِ مِصرَ في عَصرِهِ ، وأعرَفُهُم بِالصَّحيحِ وَالسَّقيمِ ، وأعلَمُهُم بِالرِّجالِ ، فَلَمّا بَلَغَ هذَا المَبلَغَ حَسَدوهُ ، فَخَرَجَ إلَى الرَّملَةِ (2) [ثُمَّ إلى دِمَشقَ ]فَسُئِلَ عَن فَضائِلِ مُعاوِيَةَ فَأَمسَكَ عَنهُ ، فَضَرَبوهُ فِي الجامِعِ فَقالَ : أخرِجوني إلى مَكَّةَ ، فَأَخرَجوهُ وهُوَ عَليلٌ وتُوُفِّيَ مَقتولاً شَهيدا . . . . و عَن أبي بَكرٍ المَأمونِيِّ : قيلَ لَهُ [أيِ النَّسائيِّ] وأنَا حاضِرٌ : أ لا تُخرِجَ فَضائِلَ مُعاوِيَةَ ؟ فَقالَ : أيَّ شَيءٍ اُخرِجُ ؟ «اللّهُمَّ لا تُشبِع بَطنَهُ» ؟ ! ! وسَكَتَ، وسَكَتَ السّائِلُ (3) .
2 / 1 _ 3أمرُ النَّبِيِّ بِقَتلِهِ إذا شوهِدَ عَلى مِنبَرِهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إذا رَأَيتُم مُعاوِيَةَ عَلى مِنبَري فَاقتُلوهُ 4 .
.
ص: 284
عنه صلى الله عليه و آله :إذا رَأَيتُم مُعاوِيَةَ يَخطُبُ عَلى مِنبَري فَاقتُلوهُ (1) .
عنه صلى الله عليه و آله :إذا رَأَيتُم مُعاوِيَةَ بنَ أبي سُفيانَ يَخطُبُ عَلى مِنبَري فَاضرِبوا عُنُقَهُ (2) .
أنساب الأشراف عن أبي سعيد الخدري :إنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنصارِ أرادَ قَتلَ معُاوِيَةَ ، فَقُلنا لَهُ : لا تَسُلَّ السَّيفَ في عَهدِ عُمَرَ حَتّى نَكتُبَ إلَيهِ، قالَ : إنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «إذا رَأَيتُم مُعاوِيَةَ يَخطُبُ عَلَى الأَعوادِ فَاقتُلُوهُ» . قالوا : ونَحنُ سَمِعناه، ولكِن لا نَفعَلُ حَتّى نَكتُبَ إلى عُمَرَ ، فَكَتَبوا إلَيهِ فَلَم يَأتِهِم جَوابُ الكِتابِ حَتّى ماتَ (3) .
2 / 1 _ 4وَصِيَّةُ والِدَيهِالبداية والنهاية عن عليّ بن محمّد بن عبد اللّه بن أبي سيف :قالَ أبو سُفيانَ _ لِمُعاوِيَةَ _ : يا بُنَيَّ ، إنَّ هؤُلاءِ الرَّهطَ مِنَ المُهاجِرينَ سَبَقونا وتَأَخَّرنا ، فَرَفَعَهُم سَبقُهُم وقِدَمُهُم عِندَ اللّهِ وِعندَ رَسولِهِ ، وقَصَرَ بِنا تَأخيرُنا ، فَصاروا قادَةً وسادَةً ، وصِرنا أتباعا ، وقَد وَلَّوكَ جَسيما مِن اُمورِهِم فَلا تُخالِفهُم ؛ فَإِنَّكَ تَجري إلى أمَدٍ ، فَنافِس فَإِن بَلَغتَهُ أورَثتَهُ عَقِبَكَ . فَلَم يَزَل مُعاوِيَةُ نائِبا عَلَى الشّامِ فِي الدَّولَةِ العُمَرِيَّةِ وَالعُثمانِيَّةِ مُدَّةَ خِلافَةِ عُثمانَ (4) .
.
ص: 285
البداية والنهاية عن عليّ بن محمّد بن عبد اللّه بن أبي سيف :قالَت هِندٌ لِمُعاوِيَةَ _ فيما كَتَبَت بِهِ إلَيهِ _ : وَاللّهِ يا بُنَيَّ إنَّهُ قَلَّ أن تَلِدَ حُرَّةٌ مِثلَكَ ، وإنَّ هذَا الرَّجُلَ [أي عُمَرَ بنَ الخَطّابِ ]قَدِ استَنهَضَكَ في هذَا الأَمرِ ، فَاعمَل بِطاعَتِهِ فيما أحبَبتَ وكَرِهتَ (1) .
2 / 1 _ 5عُمَرُ بنُ الخَطّابِ ومُعاوِيةُالبداية والنهاية عن الزهري :ذُكِرَ مُعاوِيَةُ عِندَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ فَقالَ : دَعوا فَتى قُرَيشٍ وَابنَ سَيِّدِها ؛ إنَّهُ لَمَن يَضحَكُ فِي الغَضَبِ ، ولا يُنالُ مِنهُ إلّا عَلَى الرِّضا ، ومَن لا يُؤخَذُ مِن فَوقِ رَأسِهِ إلّا مِن تَحتِ قَدَمَيهِ (2) .
تاريخ الطبري عن أبي محمّد الاُموي :خَرَجَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ إلَى الشّامِ ، فَرَأى مُعاوِيَةَ في مَوكِبٍ يَتَلَقّاهُ ، وراحَ إلَيهِ في مَوكِبٍ ، فَقالَ لَهُ عُمَرُ : يا مُعاوِيَةُ ! تَروحُ في مَوكِبٍ وتَغدو في مِثلِهِ ، وبَلَغَني أنَّكَ تُصبِحُ في مَنزِلِكَ وذَوُو الحاجاتِ بِبابِكَ ! قالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ العَدُوَّ بِها قَريبٌ مِنّا ولَهُم عُيونٌ وجَواسيسُ ، فَأَرَدتُ يا أميرَ المُؤمِنينَ أن يَرَوا لِلإِسلامِ عِزّاً . فَقالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّ هذا لَكَيدُ رَجُلٍ لَبيبٍ أو خُدعَةُ رَجُلٍ أريبٍ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ، مُرني بِما شِئتَ أصِر إلَيهِ . قالَ : وَيحَكَ ! ما ناظَرتُكَ في أمرٍ أعيبُ عَلَيكَ فيهِ إلّا تَرَكتَني ما أدري آمُرُكَ أم أنهاكَ ! (3)
سير أعلام النبلاء :لَمّا قَدِمَ عُمَرُ الشّامَ ، تَلَقّاهُ مُعاوِيَةُ في مَوكِبٍ عَظيمٍ وهَيئَةٍ ، فَلَمّا دَنا
.
ص: 286
مِنهُ ، قالَ : أنتَ صاحِبُ المَوكِبِ العَظيمِ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : مَعَ ما بَلَغَني عَنكَ مِن طولِ وُقوفِ ذَوِي الحاجاتِ بِبابِكَ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : ولِمَ تَفعَلُ ذلِكَ ؟ قالَ : نَحنُ بِأَرضٍ جَواسيسُ العَدُوِّ بِها كَثيرٌ ، فَيَجِبُ أن نُظهِرَ مِن عِزِّ السُّلطانِ ما يُرهِبُهُم ، فَإِن نَهَيتَنِي انتَهَيتُ . قالَ : يا مُعاوِيَةُ ! ما أسأَلُكَ عَن شَيءٍ إلّا تَرَكتَني في مِثلِ رَواجِبُ الضَّرِسِ (1) . لَئِن كانَ ما قُلتَ حَقّا ؛ إنَّهُ لَرَأيُ أريبٍ ، وإن كانَ باطِلاً ؛ فَإِنَّهُ لَخُدعَةُ أديبٍ . قالَ : فَمُرني . قالَ : لا آمُرُكَ ولا أنهاكَ . فَقيلَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! ما أحسَنَ ما صَدَرَ عَمّا أورَدتَهُ . قالَ : لِحُسنِ مَصادِرِهِ ومَوارِدِهِ جَشَّمناهُ (2) ما جَشَّمناهُ (3) .
تاريخ الطبري عن سعيد المقبري :قالَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ : تَذكُرونَ كِسرى وقَيصَرَ ودَهاءَهُما وعِندَكُم مُعاوِيَةُ ! (4) .
.
ص: 287
الاستيعاب :قالَ عُمَرُ [بنُ الخَطّابِ] إذ دَخَلَ الشّامَ ورَأى مُعاوِيَةَ : هذا كِسرَى العَرَبِ (1) .
2 / 1 _ 6خِصالُهُ الموبِقَةُتاريخ الطبري عن الحسن :أربَعُ خِصالٍ كُنَّ في مُعاوِيَةَ ، لَو لَم يَكُن فيهِ مِنهُنَّ إلّا واحِدَةً لَكانَت موبِقَةً : اِنتِزاؤُهُ عَلى هذِهِ الاُمَّةِ بِالسُّفَهاءِ ؛ حَتّى ابتَزَّها أمرَها بِغَيرِ مَشورَةٍ مِنهُم وفيهِم بَقايَا الصَّحابَةِ وذُو الفَضيلَةِ . وَاستِخلافُهُ ابنَهُ بَعدَهُ سِكّيرا خِمّيرا ؛ يَلبَسُ الحَريرَ ، ويَضرِبُ بِالطَّنابِيرِ . وَادِّعاؤُهُ زِيادا ؛ وقَد قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : «الوَلَدُ لِلفِراشِ ، وَلِلعاهِرِ الحَجَرُ» . وقَتلُهُ حُجراً ، وَيلاً لَهُ مِن حُجر _ مَرَّتَينِ _ (2) .
2 / 1 _ 7هُوِيَّتُهُ عَن لِسانِ الإِمامِ عَلِيٍّالإمام عليّ عليه السلام_ في صِفَةِ مُعاوِيَةَ _: لَم يَجعَلِ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ لَهُ سابِقَةً فِي الدّينِ ، ولا سَلَفَ صِدقٍ فِي الإِسلامِ ، طَليقٌ ابنُ طَليقٍ ، حِزبٌ مِن هذِهِ الأَحزابِ ، لَم يَزَل للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله ولِلمُسلِمينَ عَدُوّا هُوَ وأبوهُ حَتّى دَخَلا فِي الإِسلامِ كارِهَينِ (3) .
عنه عليه السلام_ في صِفَةِ رَجُلٍ مَذمومٍ ، ثُمَّ في فَضلِهِ هُوَ عليه السلام _: أما إنَّهُ سَيَظهَرُ عَلَيكُم بَعدي رجُلٌ رَحبُ البُلعومِ ، مُندَحِقُ (4) البَطنِ ، يَأكُلُ ما يَجِدُ ، ويَطلُبُ ما لا يَجِدُ ، فَاقتُلوهُ ، ولَن تَقتُلوهُ ! ألا وإِنَّهُ سَيَأمُرُكُم بِسَبّي وَالبَراءَةِ مِنّي ؛ فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبّوني ؛ فَإِنَّه لى ¨
.
ص: 288
زَكاةٌ ، ولَكُم نَجاةٌ ؛ وأمَّا البَراءَةُ فَلا تَتَبَرَّؤوا مِنّي ؛ فَإِنّي وُلِدتُ عَلَى الفِطرَةِ ، وسَبَقتُ إلَى الإيمانِ وَالهِجرَةِ (1) .
عنه عليه السلام_ مِن كِتابِهِ إلى مُعاوِيَةَ _: فَسُبحانَ اللّهِ ! ما أشَدَّ لُزومَكَ لِلأَهواءِ المُبتَدَعَةِ ، وَالحَيرَةِ المُتَّبَعَةِ ، مَعَ تَضييعِ الحَقائِقِ وَاطِّراحِ الوَثائِقِ الَّتي هِيَ للّهِِ طِلبَةٌ وعَلى عِبادِهِ حُجَّةٌ (2) .
عنه عليه السلام :وَاللّهِ ، لَوَدَّ مُعاوِيَةُ أنَّهُ ما بَقِيَ مِن هاشِمٍ نافِخُ ضَرَمَةٍ (3) إلّا طُعِنَ في نَيطِهِ (4) ؛ إطفاءً لِنورِ اللّهِ ، «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلآَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَ_فِرُونَ» (5) . (6)
راجع : ص 335 (حرب الدعاية) .
2 / 1 _ 8أهدافُ مُعاوِيَةَسير أعلام النبلاء عن سعيد بن سويد :صَلّى بِنا مُعاوِيَةُ فِي النُّخَيلَةِ (7) الجُمُعَةَ فِي الضُّحى، ثُمَّ خَطَبَ وقالَ : ما قاتَلنا لِتَصوموا ولا لِتُصَلّوا ولا لِتَحُجّوا أو تُزَكّوا ، قَد عَرَفت
.
ص: 289
أنَّكُم تَفعَلون ذلِكَ ، ولكن إنَّما قاتَلناكُم لِأَتَأَمَّرَ عَلَيكُم ، فَقَد أعطانِيَ اللّهُ ذلِكَ وأنتُم كارِهونَ (1) .
مروج الذهب عن مطرف بن المغيرة بن شعبة :وفَدتُ مَعَ أبِيَ «المُغيرَةِ » إلى مُعاوِيَةَ ، فَكانَ أبي يَأتِيهِ يَتَحَدَّثُ عِندَهُ ، ثُمَّ يَنصَرِفُ إلَيَّ فَيَذكُرُ مُعاوِيَةَ ، ويَذكُرُ عَقلَهُ ، ويَعجَبُ مِمّا يَرى مِنهُ ، إذ جاءَ ذاتَ لَيلَةٍ فَأَمسَكَ عَنِ العَشاءِ ، فَرَأَيتُهُ مُغتَمّاً ، فَانتَظَرتُهُ ساعَةً ، وظَنَنتُ أنَّهُ لِشَيءٍ حَدَثَ فينا أو في عَمَلِنا ، فَقُلتُ لَهُ : ما لي أراكَ مُغتَمّاً مُنذُ اللَّيلَةِ ؟ قالَ : يا بُنِيَّ ، إنّي جِئتُ مِن عِندِ أخبَثِ النّاسِ ! قُلتُ لَهُ : وما ذاكَ ؟ قالَ : قُلتُ لَهُ _ وقَد خَلَوتُ بِهِ _ : إنَّكَ قَد بَلَغتَ مِنّا يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَلَو أظهَرتَ عَدلاً ، وبَسَطتَ خَيرا ؛ فَإِنَّكَ قَد كَبِرتَ ، ولَو نَظَرتَ إلى إخوَتِكَ مِن بَني هاشِمٍ ، فَوَصَلتَ أرحامَهُم ؛ فَوَاللّهِ ما عِندَهُمُ اليَومَ شَيءٌ تَخافُهُ ، فَقالَ لي : هَيهاتَ هَيهاتَ ! ! مَلَكَ أخو تَيمٍ فَعَدَلَ وفَعَلَ ما فَعَلَ ، فَوَاللّهِ ما عَدا أن هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكرُهُ ، إلّا أن يَقولَ قائِلٌ : أبو بَكرٍ . ثُمَّ مَلَكَ أخو عَدِيٍّ ، فَاجتَهَدَ وشَمَّرَ عَشرَ سِنينَ ، فَوَاللّهِ ما عَدا أن هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكرُهُ ، إلّا أن يَقولَ قائِلٌ : عُمَرُ . ثُمَّ مَلَكَ أخونا عُثمانُ، فَمَلَكَ رَجُلٌ لَم يَكُن أحَدٌ في مِثلِ نَسَبِهِ ، فَعَمِلَ ما عَمِلَ وعُمِلَ بِهِ ، فَوَاللّهِ ما عَدا أن هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكرُهُ ، وذِكرُ ما فُعِلَ بِهِ . وإنَّ أخا هاشِمٍ يُصرَخُ بِهِ في كُلِّ يَومٍ خَمسَ مَرّاتٍ : أشهَدُ أنَّ مُحَمَّدا رَسولُ اللّهِ ، فَأَيُّ عَمَلٍ يَبقى مَعَ هذا ؟ لا اُمَّ لَكَ ! وَاللّهِ إلّا دَفناً دَفناً (2) .
.
ص: 290
2 / 1 _ 9كِتابُ الإِمامِ الحُسَينِ إلَيهِ (1)الإمام الحسين عليه السلام_ في كِتابِهِ إلى مُعاوِيَةَ _: أمّا بَعدُ : فَقَد جاءَني كِتابُكَ تَذكُرُ فيهِ أنَّهُ انتَهَت إلَيكَ عَنّي اُمورٌ لَم تَكُن تَظُنُّني بِها رَغبَةً بي عَنها ، وإنَّ الحَسَناتِ لا يَهدي لَها ولا يُسَدِّدُ إلَيها إلَا اللّهُ تَعالى . وأمّا ما ذَكَرتَ أنَّهُ رَقِيَ إلَيكَ عَنّي ، فَإِنَّما رَقّاهُ المَلّاقونَ المَشّاؤونَ بِالنَّميمَةِ ، المُفَرِّقونَ بَينَ الجَمعِ ، وكَذَبَ الغاوونَ المارِقونَ ، ما أرَدتُ حَربا ولا خِلافا ، وإنّي لَأَخشَى اللّهَ في تَركِ ذلِكَ مِنكَ ومِن حِزبِكَ القاسِطينَ المُحِلّينَ ، حِزبِ الظّالِمِ ، وأعوانِ الشَّيطانِ الرَّجيمِ . أ لَستَ قاتِلَ حُجرٍ وأصحابِهِ العابِدينَ المُخبِتينَ الَّذين كانوا يَستَفظِعونَ البِدَعَ ، ويَأمُرونَ بِالمَعروفِ ، ويَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ ؟ فَقَتَلتَهُم ظُلما وعُدوانا مِن بَعدِ ما أعطَيتَهُمُ المَواثيقَ الغَليظَةَ ، وَالعُهودَ المُؤَكَّدَةَ ، جُرأَةً عَلَى اللّهِ ، وَاستِخفافا بِعَهدِهِ ؟ أوَلَستَ بِقاتِلِ عَمرِو بنِ الحَمِقِ الَّذي أخلَقَت وأبلَت وَجهَهُ العِبادَةُ ؟ فَقَتَلتَهُ مِن بَعدِما أعطَيتَهُ مِنَ العُهودِ ما لَو فَهِمَتهُ العُصمُ (2) نَزَلَت مِنَ شَعَفِ (3) الجِبالِ . أوَلَستَ المُدَّعِيَ زِيادا فِي الإِسلامِ ، فَزَعَمتَ أَنَّهُ ابنُ أبي سُفيانَ ، وقَد قَضى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنّ الوَلَدَ لِلفِراشِ ولِلعاهِرِ الحَجَرَ ؟ ثُمَّ سَلَّطتَهُ عَلى أهِل الإِسلام
.
ص: 291
يَقتُلُهُم ويُقَطِّعُ أيدِيَهُم وأرجُلَهُم مِن خِلافٍ ، ويَصلُبُهُم عَلى جُذوعِ النَّخلِ . سُبحانَ اللّهِ يا مُعاوِيةُ ! لَكَأَنَّكَ لَستَ مِن هذِهِ الاُمَّةِ ، ولَيسوا مِنكَ . أوَلَستَ قاتِلَ الحَضرَمِيَّ الَّذي كَتَبَ إلَيكَ فيهِ زِيادٌ أنَّهُ عَلى دينِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللّهُ وَجهَهُ ؟ ودينُ عَلِيٍّ هُوَ دينُ ابنِ عَمِّهِ صلى الله عليه و آله الَّذي أجلَسَكَ مَجلِسَكَ الَّذي أنتَ فيهِ ، ولَولا ذلِكَ كانَ أفضَلُ شَرَفِكَ وشَرفِ آبائِكَ تَجَشُّمَ الرِّحلَتَينِ : رِحَلَةِ الشِّتاءِ وَالصَّيفِ ، فَوَضَعَهَا اللّهُ عَنكُم بِنا مِنَّةً عَلَيكُم ! وقُلتَ فيما قُلتَ : لا تَرُدَّ هذِهِ الاُمَّةَ في فِتنَةٍ . وإنّي لا أعلَمُ لَها فِتنَةً أعظَمَ مِن إمارَتِكَ عَلَيها ! وقُلتَ فيما قُلتَ : اُنظُر لِنَفسِكَ ولِدينِكَ ولِاُمَّةِ مُحَمَّدٍ . وإنّي وَاللّهِ ما أعرِفُ أفضَلَ مِن جِهادِكَ ؛ فَإِن أفعَل فَإِنَّهُ قُربَةٌ إلى رَبّي ، وإن لَم أ فعَلهُ فَأَستَغفِرُ اللّهَ لِديني ، وأسأَلُهُ التَّوفيقَ لِما يُحِبُّ ويَرضى . وقُلتَ فيما قُلتَ : مَتى تَكِدني أكِدكَ . فَكِدني يا مُعاوِيَةُ ما بَدا لَكَ ، فَلَعَمري لَقَديما يُكادُ الصّالِحونَ ، وإنّي لَأَرجو أن لا تَضُرَّ إلّا نَفسَكَ ، ولا تَمحَقَ إلّا عَمَلَكَ ، فَكِدني ما بَدا لَكَ . وَاتَّقِ اللّهَ يا مُعاوِيَةُ ! وَاعلَم أنَّ للّهِِ كِتابا لا يُغادِرُ صَغيرَةً ولا كَبيرَةً إلّا أحصاها ، وَاعلَم أنَّ اللّهَ لَيسَ بِناسٍ لَكَ قَتلَكَ بِالظِّنَّةِ ، وأخذَكَ بِالتُّهَمَةِ ، وإمارَتَكَ صَبِيّا يَشرَبُ الشَّرابَ ، ويَلعَبُ بِالكِلابِ ، ما أراكَ إلّا قَد أوبَقتَ نَفسَكَ ، وأهلَكتَ دينَكَ ، وأضَعتَ الرَّعِيَّةَ . وَالسَّلامُ (1) .
.
ص: 292
2 / 1 _ 10بَلاغٌ تَعميمِيٌّ لِلمُعتَضِدِ العَبّاسِيِّتاريخ الطبري_ في ذِكرِ وَقائِعِ سَنَةِ 284 ه _: في هذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ المُعتَضِدُ بِاللّهِ عَلى لَعنِ مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ عَلَى المَنابِرِ ، وأَمرَ بِإِنشاءِ كِتابٍ بِذلِكَ يُقرُأُ عَلَى النّاسِ ، فَخَوَّفَهُ عُبَيدُ اللّهِ بنُ سُلَيمانَ بنِ وَهبٍ اضطِرابَ العامَّةِ ، وأنَّهُ لا يَأمَنُ أن تَكونَ فِتنَةٌ ، فَلَم يَلتَفِت ءالى ذلِكَ . . . وأمَرَ بِإِخراجِ الكِتابِ الَّذي كانَ المَأمونُ أمَرَ بِإِنشائِهِ بِلَعنِ مُعاوِيَةَ ، فَاُخرِجَ لَهُ مِنَ الدّيوانِ ، فَأَخَذَ مِن جَوامِعِهِ نُسخَةَ هذَا الكِتابِ . . . وفيهِ بَعدَ الحَمدِ وَالثَّناءِ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله : وكانَ مِمَّن عانَدَهُ ونابَذَهُ وكَذَّبَهُ وحارَبَهُ مِن عَشيرَتِهِ العَدَدُ الأَكثَرُ ، وَالسَّوادُ الأَعظَمُ ، يَتَلَقَّونَهُ بِالتَّكذيبِ وَالتَّثريبِ ، ويَقصِدونَهُ بِالأَذِيَّةِ وَالتَّخويفِ ، ويُبادونَهُ بِالعَداوَةِ ، ويَنصِبونَ لَهُ المَحارَبَةَ ، ويَصُدّونَ عَنهُ مَن قَصَدَهُ ، ويَنالونَ بِالتَّعذيبِ مَنِ اتَّبَعَهُ . وأشَدُّهُم في ذلِكَ عَداوَةً ، وأعظَمُهُم لَهُ مُخالَفَةً ، وأوَّلُهُم في كُلِّ حَربٍ ومُناصَبَةٍ ، لا يُرفَعُ عَلَى الإِسلامِ رايةٌ إلّا كانَ صاحِبَها وقائِدَها ورَئيسَها في كُلِّ مَواطِنِ الحَربِ مِن بَدرٍ واُحُدٍ وَالخَندَقِ وَالفَتحِ _ أبو سفيانَ بنُ حَربٍ وأشياعُهُ مِن بَني اُمَيَّةَ المَلعونينَ في كِتابِ اللّهِ ، ثُمَّ المَلعونينَ عَلى لِسانِ رَسولِ اللّهِ في عِدَّةِ مَواطِنَ وعِدَّةِ مَواضِعَ ، لِماضي عِلمِ اللّهِ فيهِم وفي أمرِهِم ونِفاقِهِم وكُفرِ أحلامِهِم ، فَحارَبَ مُجاهِدا ، ودافَعَ مُكابِدا ، وأقامَ مُنابِذا حَتّى قَهَرَهُ السَّيفُ ، وعَلا أمرُ اللّهِ وهُم كارِهونَ ، فَتَقَوَّلَ بِالإِسلامِ غَيرَ مُنطَوٍ عَلَيهِ ، وأسَرَّ الكُفرَ غَيرَ مُقلِعٍ عَنهُ ، فَعَرَفَهُ بِذلِكَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَالمُسلِمونَ ، ومَيَّزَ لَهُ المُؤَلَّفَةَ قُلوبُهُم ، فَقَبِلَهُ ووَلَدَهُ عَلى عِلمٍ مِنهُ . فَمِمّا لَعَنَهُمُ اللّهُ بِهِ عَلى لِسانِ نَبِيِّه صلى الله عليه و آله ، وأنَزَلَ بِهِ كِتاباً قَولُهُ : «وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَة
.
ص: 293
فِى الْقُرْءَانِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَا طُغْيَ_نًا كَبِيرًا» (1) ولَا اختِلافَ بَينَ أحَدٍ أنَّهُ أرادَ بِها بَني اُمَيَّةَ . و مِنهُ قَولُ الرَّسولِ عليه السلام وقَد رَآهُ مُقبِلاً عَلى حِمارٍ ومُعاوِيَةُ يقَودُ بِهِ ويَزيدُ ابنُهُ يَسوقُ بِهِ : « لَعَنَ اللّهُ القائِدَ وَالرّاكِبَ وَالسّائِقَ » . . . . و مِنهُ ما أنزَلَ اللّهُ عَلى نَبِيِّهِ في سورَةِ القَدرِ : «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ » (2) مِن مُلكِ بَني اُمَيّةَ . ومِنهُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله دَعا بِمُعاوِيَةَ لِيَكتُبَ بِأَمرِهِ بَينَ يَدَيهِ ، فَدافَعَ بِأَمرِهِ ، وَاعتَلَّ بِطَعامِهِ ، فَقالَ النَّبِيُّ : «لا أشبَعَ اللّهُ بَطنَهُ» . فَبَقِيَ لا يَشبَعُ ويَقولُ : وَاللّهِ ما أترُكُ الطَّعامَ شِبَعا ولكِن إعياءً ! ومِنهُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ : «يَطلُعُ مِن هذَا الفَجِّ رَجُلٌ مِن اُمَّتي يُحشَرُ عَلى غَيرِ مِلَّتي» ، فَطَلَعَ مُعاوِيَةُ . ومِنهُ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ : « إذا رَأَيتُم مُعاوِيَةَ عَلى مِنبَري فَاقتُلوهُ » . ومِنهُ الحَديثُ المَرفوعُ المَشهورُ أنَّهُ قالَ : « إنَّ مُعاوِيَةَ في تابوتٍ مِن نارٍ في أسفَلِ دَرَكٍ مِنها يُنادي : يا حَنّانُ يا مَنّان ! «ءَآلْ_ئ_نَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ » (3) » . . . . ثُمَّ مِمّا أوجَبَ اللّهُ لَهُ بِهِ اللَّعنَةَ قَتلُهُ مَن قَتَلَ صَبرا مِن خِيارِ الصَّحابَةِ وَالتّابِعينَ وأهلِ الفَضلِ وَالدِّيانَةِ ، مِثلَ عَمرِو بنِ الحَمِقِ ، وحُجرِ بنِ عَدِيٍّ ، فيمَن قَتَلَ مِن أمثالِهِم ، في أن تَكونَ لَهُ العِزَّةُ وَالمُلكُ وَالغَلَبَةُ ، وَللّهِِ العِزَّةُ وَالمُلكُ وَالقُدرَةُ ، وَاللّه
.
ص: 294
عَزَّ وجَلَّ يَقولُ : «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَ__لِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا » (1) . ومِمَّا استَحَقَّ بِهِ اللَّعنَةَ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ ادِّعاؤُهُ زِيادَ بنَ سُمَيَّةَ جُرأَةً عَلَى اللّهِ ! وَاللّهُ يَقولُ : «ادْعُوهُمْ لِأَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ» (2) ، ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «مَلعونٌ مَنِ ادَّعى إلى غَيرِ أبيهِ ، أوِ انتَمى إلى غَيرِ مَواليهِ» ، ويَقولُ : «الوَلَدُ لِلفِراشِ ولِلعاهِرِ الحَجَرُ» . فَخالَفَ حُكمَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله جِهارا ، وجَعَلَ الوَلَدَ لِغَيرِ الفِراشِ، وَالعاهِرَ لا يَضُرُّهُ عَهرُهُ ، فَأَدخَلَ بِهذِهِ الدَّعوَةِ مِن مَحارِمِ اللّهِ ومَحارِمِ رَسولِهِ في اُمِّ حَبيبَةَ زَوجَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وفي غَيرِها مِن سُفورِ وُجوهٍ ما قَد حَرَّمَهُ اللّهُ ، وأثبَتَ بِها قُربى قَد باعَدَهَا اللّهُ ، وأباحَ بِها ما قَد حَظَرَهُ اللّهُ ، مِمّا لَم يَدخُل عَلَى الإِسلامِ خَلَلٌ مِثلُه، ولَم يُنِلِ الدّينَ تَبديلٌ شِبهُهُ . ومِنهُ إيثارُهُ بِدينِ اللّهِ ، ودُعاؤُهُ عِبادَ اللّهِ إلَى ابنِهِ يَزيدَ المُتَكَبِّرِ الخِمّيرِ ، صاحِبِ الدُّيوكِ والفُهودِ والقُرودِ ، وأخذُهُ البَيعَةَ لَهُ عَلى خِيارِ المُسلِمينَ بِالقَهرِ وَالسَّطوَةِ وَالتَّوعيدِ وَالإِخافَةِ وَالتَّهَدُّدِ وَالرَّهبَةِ ، وهُوَ يَعلَمُ سَفَهَهُ ، ويَطَّلِعُ عَلى خُبثِهِ ورَهَقِهِ (3) ، ويُعايِنُ سَكَرانَهُ وفُجورَهُ وكُفرَهُ ! فَلَمّا تَمَكَّنَ مِنهُ ما مَكَّنَهُ مِنهُ ، ووَطَّأَهُ لَهُ ، وعَصَى اللّهَ ورَسولَهُ فيهِ ، طَلَبَ بِثَأراتِ المُشرِكينَ وطَوائِلِهِم عِندَ المُسلِمينَ ، فَأَوقَعَ بِأَهلِ الحَرَّةِ الوَقيعَةَ الَّتي لَم يَكُن فِي الإِسلامِ أشنَعُ مِنها ولا أفحَشُ مِمّا ارتَكَبَ مِنَ الصّالِحينَ فيها ، وشَفى بِذلِكَ عَبَدَ (4) نَفسِهِ وغَليلِهِ ، وظَنَّ أن قَدِ انتَقَمَ مِن أولِياءِ اللّهِ ، وبَلَغَ النَّوى لِأَعداءِ اللّهِ ، فَقالَ مُجاهِرا
.
ص: 295
بِكُفرِهِ ومُظهِرا لِشِركِهِ : لَيتَ أشياخي بِبَدرٍ شَهِدوا جَزَعَ الخَزرَجِ مِن وَقعِ الأَسَل قَد قَتَلنَا القَرمَ مِن ساداتِكُم وعَدَلنا مَيلَ بَدرٍ فَاعتَدَل فَأَهلّوا وَاستَهَلّوا فَرَحاً ثُمَّ قالوا يا يَزيدُ لا تُسَل لَستُ مِن خِندِفَ إن لَم أنتَقِم مِن بَني أحمَدَ ما كانَ فَعَل وَلِعَتَ هاشِمُ بِالمُلكِ فَلا خَبَرٌ جاءَ ولا وَحيٌ نَزَل هذا هُوَ المُروقُ مِنَ الدّينِ، وقَولُ مَن لا يَرجِعُ إلَى اللّهِ ولا إلى دينِهِ ولا إلى كِتابِهِ ولا إلى رَسولِهِ ، ولا يُؤمِنُ بِاللّهِ ولا بِما جاءَ مِن عِندِ اللّهِ . ثُمَّ مِن أغلَظِ مَا انتَهَكَ وأعظَمِ ما اختَرَمَ سَفكُهُ دَمَ الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ وَابنِ فاطِمَةَ بِنتِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، مَعَ مَوقِعِهِ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَمكانِهِ مِنهُ ، ومَنزِلَتِهِ مِنَ الدّينِ وَالفَضلِ ، وشَهادَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَهُ ولِأَخيهِ بِسيادَةِ شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ ، اجتراءً عَلَى اللّهِ ، وكُفرا بِدينِهِ ، وعَداوَةً لِرَسولِهِ ، ومُجاهَدَةً لِعِترَتِهِ ، وَاستِهانَةً بِحُرمَتِهِ ، فَكَأَنّما يَقتُلُ بِهِ وبِأَهلِ بَيتِهِ قَوما مِن كُفّارِ أهلِ التُّركِ وَالدَّيلَم ، لا يَخافُ مِنَ اللّهِ نَقِمَةً ، ولا يَرقُبُ مِنهُ سَطوَةً ، فَبَتَرَ اللّهُ عُمرَهُ ، وَاجتَثَّ أصلَهُ وفَرعَهُ ، وسَلَبَهُ ما تَحتَ يَدِهِ ، وأعَدَّ لَهُ مِن عَذابِهِ وعُقوبَتِهِ مَا استَحَقَّهُ مِنَ اللّهِ بِمَعصِيَتِهِ . . . (1) .
.
ص: 296
2 / 2عَمرُو بنُ العاصِسياسيّ ماكر ، ومحتال ماهر ، ووجهٌ متلوّن عجيب ، وعُدَّ أحد دهاة العرب الأربعة (1) . كان له في الفحشاء عِرقٌ ؛ فاُمّه النابغة كانت من البغايا المشهورة . ولمّا ولد عمرو فيسنة 50 قبل الهجرة ، نسبته اُمّه إلى خمسة ، ثمّ اختارت العاص وألحقته به (2) . نشأ عمرو في حجر من كان يهجو النبيّ صلى الله عليه و آله كثيرا ، وهو الذي عبّرت عنه سورة الكوثر بالأبتر (3) . وكان الإمام الحسن عليه السلام يقول فيه : «ألأَمُهُم حَسَبا ، وأخبَثُهُم مَنصِبا » (4) . وكان عمرو بن العاص يؤذي النبيّ صلى الله عليه و آله ويهجوه كثيرا في مكّة . وبعد كلّ ما أبداه من عنادٍ وتهتّك لعنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : « اللّهُمَّ إنَّ عَمرَو بنَ العاصِ هَجاني ، وأنتَ تَعلَمُ أنّي لَستُ بِشاعِرٍ ، فَالعَنهُ مَكانَ كُلِّ بَيتٍ هَجاني لَعنَةً » (5) . وعندما هاجر عدد من المسلمين إلى الحبشة ، ذهب عمرو بن العاص إلى بلاد النجاشي مبعوثا من قريش ليُرجعهم ، فلم يفلح (6) .
.
ص: 297
قال ابن أبي الحديد في وصف عمرو بن العاص : وكان عمرو أحد من يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمكّة ويشتمه ، ويضع في طريقه الحجارة ؛ لأنّه كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخرج من منزله ليلاً ، فيطوف بالكعبة ، وكان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه ليعثر بها . . . لشدّة عداوة عمرو بن العاص لرسول اللّه صلى الله عليه و آله أرسله أهل مكّة إلى النجاشي ليزهّده في الدين ، وليطرد عن بلاده مهاجرة الحبشة ، وليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه قتله (1) . قاتل المسلمين في حروب متعدّدة إلى جانب المشركين (2) . ولمّا أحسّ بقدرة الإسلام المتعاظمة ، أسلم سنة 8 ه قبل فتح مكّة (3) . كان ملمّا بفنون القتال . أمّره النبيّ صلى الله عليه و آله في غزوة ذات السلاسل ، وفي الجيش أبو بكر ، وعمر (4) ، وعندما توفّي النبيّ صلى الله عليه و آله كان في مهمّة بعُمان (5)(6) . أحبّه عمر بن الخطّاب كثيرا ، وكان يكرّمه ويبجّله (7) . وفتح ابن العاص مصر في أيّامه ، ثمّ ولّاه عليها (8) .
.
ص: 298
وظلّ واليا عليها في عهد عثمان مدّة ، ثمّ عزله عثمان وولّى أخاه لاُمّه عبد اللّه ابن سعد بن أبي سرح ؛ انطلاقا من سياسته في تحكيم الاُمويّين (1) . فاغتمّ عمرو لذلك وحقد على عثمان ، وكان له دور مهمّ في تأليب الناس عليه (2) . وكان ابن العاص داهية ، عارفا بزمانه ، ومن جانب آخر كان رَكونا إلى الدنيا ، عابدا لهواه ، من هنا كان يعلم جيّدا أنّه لا يمكن أن ينسجم مع أشخاص مثل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، لذلك ولّى صوب معاوية (3) عندما تقلّد الإمام الخلافة ، وهو يعلم أنّ حبّ الدنيا هو الذي حداه على ذلك ، وقال لمعاوية مرّة : إن هي إلّا الدنيا نتكالب عليها . . . (4) . وهكذا كان ، إذ جعل ولاية مصر شرطا لمؤازرته معاوية (5) . وكان في حرب صفّين قائدا لجيش الشام ، ومستشارا لمعاوية ، وموجّها للحرب في ساحة القتال (6) .
.
ص: 299
وكان أسود القلب ، أعماه حبّ الدنيا عن رؤية الحقّ ، وكان يعرف فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، وطالما صرّح بها (1) . وكذلك كان يعرف عمّار بن ياسر وشخصيّته ، ويعتقد بكلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيه إذ قال له : «تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ» (2) . ومن جهة اُخرى كان يدرك ضعة معاوية ورذالته وتعسّفه . كما كان هو نفسه لا نظير في ضعته وحقارته ؛ إذ كشف عورته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمّا رأى الموت قد أمسك بخناقه ! ! فنجا من الموت بهذه المكيدة التي تمثّل وصمة عارٍ عليه (3) . وهو صاحب خطّة رفع المصاحف على الرماح عند اشتداد الحرب ، وتواتر الهزائم ، فأنقذ جيش الشام من اندحار حتميّ (4) . ومثّل معاوية في التحكيم ، فخدع أبا موسى الأشعري ؛ إذ جعل نتيجة التحكيم لمصلحة معاوية (5) ، فمهّد الأرضيّة لفتن اُخرى . وكان أحد المخطّطين البارعين للسياسة الدعائيّة المناهضة لأمير المؤمنين عليه السلام (6) . وإنّ قيامه بتعكير الأجواء ، وتضليل الناس ، وانتقال المواقف ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام
.
ص: 300
معلم على لؤمه وقبحه ومكره ، وأشار الإمام إلى شيء من ذلك إشارة بليغة في الخطبة 84 من نهج البلاغة . قاتل ابنُ العاص محمّدَ بن أبي بكر في مصر ، فغلبه وأحكم قبضته عليها (1) . هلك سنة 43 ه (2) . وخلّف ثروة طائلة ، ودراهم ودنانير وافرة . وذُكر أنّ أمواله المنقولة بلغت سبعين رقبة جمل مملوءة ذهبا (3) .
2 / 2 _ 1نَسَبُهُربيع الأبرار :كانَتِ النّابِغَةُ _ اُمُّ عَمرِو بنِ العاصِ _ أمَةَ رَجُلٍ مِن عَنَزَةَ ، فَسُبِيتَ ، فَاشتَراها عَبدُ اللّهِ بنُ جَدعانَ ، فَكانَت بَغِيّا ، ثُمَّ عُتِقَت . ووَقَعَ عَلَيها أبو لَهَبٍ ، واُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ ، وهِشامُ بنُ المُغيرَةِ ، وأبو سفيانَ بنُ حَربٍ ، وَالعاصُ بنُ وائِلٍ ، في طُهرٍ واحِدٍ ، فَوَلَدَت عَمرا !! فَادَّعاهُ كُلُّهُم ، فَحَكَمَت فيهِ اُمُّهُ فَقالَت : هُوَ لِلعاصِ ؛ لِأَنَّ العاصَ كانَ يُنفِقُ عَلَيها ! وقالوا : كانَ أشبَهَ بِأَبي سُفيانَ ، وفي ذلِكَ يَقولُ أبو سُفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ : أبوكَ أبو سُفيانَ لاشَكَّ قَد بَدَت لَنا فيكَ مِنهُ بَيِّناتُ الشَّمائِلِ (4)
.
ص: 301
العقد الفريد عن عبد اللّه بن سليمان المدني وأبي بكر الهذلي :إنَّ أروى بِنتَ الحارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ دَخَلَت عَلى مُعاوِيَةَ ؛ وهِيَ عَجوزٌ كَبيرَةٌ ، فَلَمّا رَآها مُعاوِيَةُ قالَ : مَرحَبا بِكِ وأهلاً ياعَمَّةُ ، فَكَيفَ كُنتِ بَعدَنا ؟ فَقالَت : يَابنَ أخي ، لَقَد كَفَرتَ يدَ النِّعمَةِ ، وأسَأتَ لِابنِ عَمِّكَ الصُّحبَةَ ، وتَسَمَّيتَ بِغَيرِ اسمِكَ ، وأخَذتَ غَيرَ حَقِّكَ ، مِن غَيرِ بَلاءٍ كانَ مِنكَ ، ولا مِن آبائِكَ ، ولا سابِقَةٍ فِي الإِسلامِ ، بَعدَ أن كَفَرتُم بِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . . . . فَقالَ لَها عَمرُو بنُ العاصِ : كَفى أيَّتُها العَجوزُ الضّالَّةُ ، وأقصِري مِن قَولِكِ مَعَ ذَهابِ عَقلِكِ ؛ إذ لا تَجوزُ شَهادَتُكِ وَحدَكِ ؟ فَقالَت لَهُ : وأنتَ يَابنَ النّابِغَةِ ! ! تَتَكَلَّمُ واُمُّكَ كانَت أشهَرَ امرَأَةٍ تُغَنّي بِمَكَّةَ وآخَذَهَنَّ لِلاُجرَةِ ! اِدَّعاكَ خَمسَةُ نَفَرٍ مِن قُرَيشٍ ، فَسُئِلَت اُمُّكَ عَنهُم ، فَقالَت : كُلُّهُم أتاني ، فَانظُروا أشبَهَهُم بِهِ فَأَلحِقوهُ بِهِ ، فَغَلَبَ عَلَيكَ شَبَهُ العاصِ بنِ وائلٍ ، فَلُحِقتَ بِهِ (1) .
بلاغات النساء عن أنس بن مالك :قالَ عَمرُو بنُ العاصِ [لِأَروى بِنتِ الحارِثِ] : أيَّتُهَا العَجوزُ الضّالَّةُ ! أقصري مِن قَولِكِ ، وغُضّي مِن طَرفِكِ ! قالَت : ومَن أنتَ لا اُمَّ لَكَ ؟ قالَ : عَمرُو بنُ العاصِ . قالَت : يَابنَ اللَّخناءِ النّابِغَةِ ! أ تُكَلِّمُني ؟ اِربَع عَلى ظَلعِكَ (2) ، وَاعنَ بِشَأنِ نَفسِكَ ، فَوَاللّهِ ما أنتَ مِن قُرَيشٍ فِي اللُّبابِ مِن حَسَبِها ، ولا كَريمِ مَنصِبِها ، ولَقَدِ ادَّعاكَ سِتَّةٌ مِن قُرَيشٍ كُلُّ واحِدٍ يَزعُمُ أنَّهُ أبوكَ . ولَقَد رَأَيتُ اُمَّكَ _ أيّامَ مِنى _ بِمَكَّةَ مَعَ كُلِّ عَبدٍ عاهِرٍ _ أي فاجِرٍ _ فَائتَمَّ بِهِم ؛
.
ص: 302
فَإِنَّكَ بِهِم أشبَهُ (1) .
شرح نهج البلاغة عن أبي عبيدة معمّر بن المثنّى في كتاب الأنساب :إنَّ عَمرا اختَصَمَ فيهِ يَومَ وِلادَتِهِ رَجُلانِ : أبو سُفيانَ بنُ حَربٍ ، وَالعاصُ بنُ وائِلٍ ، فَقيلَ : لِتَحكُم اُمُّهُ . فَقالَت اُمُّهُ : إنَّهُ مِنَ العاصِ بنِ وائِلٍ . فَقالَ أبوسُفيانَ : أما إنّيلا أشُكُّ أنّي وَضَعتُهُ فيرَحِمِ اُمِّهِ . فَأَبَت إلَا العاصَ . فَقيلَ لَها : أبو سُفيانَ أشرَفُ نَسَبا ! فَقالَت : إنَّ العاصَ بنَ وائِلٍ كَثيرُ النَّفَقَةِ عَلَيَّ ، وأبو سُفيانَ شَحيحٌ (2) .
2 / 2 _ 2كلام الإمام عليّ عليه السلام في خصائصهالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى عَمروِ بنِ العاصِ _: فَإِنَّكَ قَد جَعَلتَ دينَكَ تَبَعا لِدُنيَا امرِىً ظاهِرٍ غَيُّهُ ، مَهتوكٍ سِترُهُ ، يَشينُ الكَريمَ بِمَجلِسِهِ ، ويُسَفِّهُ الحَليمَ بِخِلْطَتِهِ ، فَاتَّبَعتَ أثَرَهُ ، وطَلَبتَ فَضلَهُ ، اتِّباعَ الكَلبِ لِلضِّرغامِ يَلوذُ بِمَخالِبِهِ ، ويَنتَظِرُ ما يُلقى إلَيهِ مِن فَضلِ فَريسَتِهِ . فَأَذهَبتَ دُنياكَ وآخِرَتِكَ ! ولَو بِالحَقِّ أخذت أدرَكتَ ما طَلَبتَ ؛ فَإِن يُمَكِّنِّي اللّهُ مِنكَ ومِنِ ابنِ أبي سُفيانَ أجزِكُما بِما قَدَّمتُما ، وإن تُعجِزا (3) وتَبقَيا فَما أمامَكُما شَرٌّ لَكُما ، وَالسَّلامُ (4) .
عنه عليه السلام :عَجَبا لِابنِ النّابِغَةِ ! يَزعُمُ لِأَهلِ الشّامِ أنَّ فِيَّ دُعابَةً ، وأنِّي امرُؤٌ تِلعابَةٌ ،
.
ص: 303
اُعافِسُ (1) واُمارِسُ ! لَقَد قالَ باطِلاً ، ونَطَقَ آثِما . أما _ وَشرُّ القَولِ الكَذِبُ _ إنَّهُ لَيقولُ فَيَكذِبُ ، ويَعِدُ فَيُخلِفُ ، ويُسأَلُ فَيَبخَلُ ، ويَسأَلُ فَيُلحِفُ (2) ، ويَخونُ العَهدَ ، ويَقطَعُ الإِلَّ (3) ، فَإِذا كانَ عِندَ الحَربِ فَأَيُّ زاجِرٍ وآمِرٍ هُوَ ! ما لَم تَأخُذِ السُّيوفُ مَآخِذَها ، فَإِذا كانَ ذلِكَ كانَ أكبرُ مَكيدَتِهِ أن يَمنَحَ القِرمَ سُبَّتَهُ (4) . أما وَاللّهِ ، إنّي لَيَمنَعُني مِنَ اللَّعِبِ ذِكرُ المَوتِ ، وإنَّهُ لَيَمنَعُهُ مِن قَولِ الحَقِّ نِسيانُ الآخِرَةِ ، إنَّهُ لَم يُبايِع مُعاوِيَةَ حَتّى شَرَطَ أن يُؤتِيَهُ أتِيَّةً ، ويَرضَخَ لَهُ عَلى تَركَ الدّينِ رَضيخَةً (5) . (6)
العقد الفريد :ذُكِرَ عَمرُو بنُ العاصِ عِندَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ ، فَقالَ فيهِ عَلِيٌّ : عَجَبا لِابنِ النّابِغَةِ ! يَزعُمُ أنّي بِلِقائِهِ اُعافِسُ واُمارِسُ ، أنّى وشَرُّ القَولِ أكذَبُهُ ، إنَّهُ يَسأَلُ فَيُلحِفُ ، ويُسأَلُ فَيَبَخَلُ . فَإِذا احمَرَّ البَأسُ ، وحَمِيَ الوَطيسُ (7) ، وأخَذَتِ السُّيوفُ مَآخِذَها مِن هامِ الرِّجالِ ، لَم يَكُن لَهُ هَمٌّ إلّا نَزعُهُ ثِيابَهُ ، ويَمنَحُ النّاسَ استَهُ ! أغَصَّهُ اللّهُ وتَرَّحَهُ (8) . (9)
.
ص: 304
2 / 2 _ 3كَلامُ الإِمامِ الحَسَنِ عليه السلام في مَثالِبِهِشرح نهج البلاغة_ في ذِكرِ مُفاخَرَةٍ جَرَت بَينَ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ عليهماالسلام وبَينَ رِجالاتٍ مِن قُرَيشٍ ، قالَ الإمامُ الحَسَنُ عليه السلام _: أمّا أنتَ يَابنَ العاصِ ؛ فَإِنَّ أمرَكَ مُشتَرَكٌ ، وَضَعَتكَ اُمُّكَ مَجهولاً ؛ مِن عَهرٍ وسِفاحٍ ، [فَتَحاكَمَ] فيكَ أربَعَةٌ مِن قُرَيشٍ ، فَغَلَبَ عَلَيكَ جَزّارُها ؛ ألأَمُهُم حَسَبا ، وأخبَثُهُم مَنصِبا ، ثُمَّ قامَ أبوكَ فَقالَ : أنَا شانِئُ مُحَمَّدٍ الأَبتَرِ ، فَأَنزَلَ اللّهُ فيهِ ما أنزَلَ . وقاتَلتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله في جَميعِ المَشاهِدِ ، وهَجوتَهُ وآذَيتَهُ بِمَكَّةَ ، وكِدتَهُ كَيدَكَ كُلَّهُ ، وكُنتَ مِن أشَدِّ النّاسِ لَهُ تَكذيبا وعَداوَةً . ثُمَّ خَرَجتَ تُريدُ النَّجاشِيَّ مَعَ أصحابِ السَّفينَةِ لِتَأتِيَ بِجَعفَرٍ وأصحابِهِ إلى أهلِ مَكَّةَ ، فَلَمّا أخطَأَكَ ما رَجَوتَ ورَجَعَكَ اللّهُ خائِبا وأكذَبَكَ واشِيا ، جَعَلتَ حَدَّكَ عَلى صاحِبِكَ عُمارَةَ بنِ الوَليدِ ، فَوَشَيتَ بِهِ إلَى النَّجاشِيِّ حَسَدا لِمَا ارتَكَبَ مَعَ حَليلَتِكَ ، فَفَضَحَكَ اللّهُ وفَضَحَ صاحِبَكَ . فَأَنتَ عَدُوُّ بَني هاشِمٍ فِي الجاهِلِيَّةِ وَالإِسلامِ . ثُمَّ إنَّكَ تَعلَمُ وكُلُّ هؤُلاءِ الرَّهطِ يَعلَمونَ أنَّكَ هَجَوتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِسَبعينَ بَيتا مِنَ الشِّعرِ ، فقَالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : «اللّهُمَّ إنّي لا أقولُ الشِّعرَ ، ولا يَنبَغي لي ، اللّهُمَّ العَنهُ بِكُلِّ حَرفٍ ألفَ لَعنَةٍ» ، فَعَلَيكَ إذا مِنَ اللّهِ ما لا يُحصى مِنَ اللَّعنِ . وأمّا ما ذَكَرتَ مِن أمرِ عُثمانَ ، فَأَنتَ سَعَّرتَ عَلَيهِ الدُّنيا نارا ، ثُمَّ لَحِقتَ بِفِلَسطينَ ، فَلَمّا أتاكَ قَتلُهُ قُلتَ : أنَا أبو عَبدِ اللّهِ إذا نَكَأتُ (1) قُرحَةً أدمَيتُها ! ثُمَّ حَبَستَ نَفسَكَ إلى مُعاوِيَةَ ، وبِعتَ دينَكَ بِدُنياهُ ؛ فَلَسنا نَلومُكَ عَلى بُغضٍ ، ولا نُعاتِبُكَ عَلى وُدٍّ ، وبِاللّهِ ما نَصَرتَ عُثمانَ حَيّا ، ولا غَضِبتَ لَهُ مَقتولاً . ويَحَكَ يَابنَ العاصِ ! أ لَست
.
ص: 305
القائِلَ في بَني هاشِمٍ لَمّا خَرَجتَ مِن مَكَّةَ إلَى النَّجاشِيِّ : تَقولُ ابنَتي أينَ هذَا الرَّحيلُ ومَا السَّيرُ مِنّي بِمُستَنكَرِ فَقُلتُ : ذَريني فَإِنِّي امرُؤٌ اُريدُ النَّجاشِيَّ في جَعفَرِ لِأَكوِيَه عِندَهُ كَيَّةً اُقيمُ بِها نَخوَةَ الأَصعَرِ وشانِئُ أحمَدَ مِن بَينِهِم وأقوَلُهُم فيهِ بِالمُنكَرِ وأجري إلى عُتبَةَ جاهِدا ولَو كانَ كَالذَّهَبِ الأَحمَرِ ولا أنثَني عَن بَني هاشِمٍ ومَا اسطَعتُ فِي الغَيبِ وَالمَحضَرِ فَإِن قَبِلَ العَتبَ مِنّي لَهُ وإلّا لَوَيتُ لَهُ مِشفَري (1) فَهذا جَوابُكَ هَل سَمِعتَهُ (2) ؟!
الاحتجاج عن الشعبي وأبي مخنف ويزيد بن أبي حبيب المصري_ في بَيانِ احتِجاج الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ عليهماالسلام عَلى جَماعَةٍ مِنَ المُنكِرينَ لِفَضلِهِ وفَضلِ أبيهِ مِن قَبلُ عِندَ مُعاوِيَةَ ، قالَ الحَسَنُ _: أمّا أنتَ يا عَمرَو بنَ العاصِ، الشّانِئَ اللَّعينَ الأَبتَرَ ، فَإِنَّما أنتَ كَلبٌ ، أوَّلُ أمرِكَ أنَّ اُمَّكَ بَغِيَّةٌ ، وأنَّكَ وُلِدتَ عَلى فِراشٍ مُشتَرَكٍ ، فَتَحاكَمَت فيكَ رِجالُ قُرَيشٍ ، مِنهُم : أبو سفيانَ بنُ الحَربِ ، وَالوَليدُ بنُ المُغيرَةِ ، وعُثمانُ بنُ الحَرثِ ، وَالنَّضَرُ بنُ الحَرثِ بنِ كَلَدَةَ ، وَالعاصُ بنُ وائِلٍ ، كُلُّهُم يَزعُمُ أنَّكَ ابنُهُ ؛ فَغَلَبَهُم عَلَيكَ مِن بَينِ قُرَيشٍ ألأَمُهُم حَسَبا ، وأخبَثُهُم مَنصِبا ، وأعظَمُهُم بَغيَةً . ثُمَّ قُمتَ خَطيبا ، وقُلتَ : أنَا شانِئُ مُحَمَّدٍ ، وقالَ العاصُ بنُ وائِلٍ : إنَّ مُحَمَّدا رَجُلٌ أبتَرُ لا وَلَدَ لَهُ ، فَلَو قَد ماتَ انقَطَعَ ذِكرُهُ ، فَأَنزَلَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى : «إِن
.
ص: 306
شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» (1) . وكانَت اُمُّكَ تَمشي إلى عَبدِ قَيسٍ تَطلُبُ البُغيَةَ ؛ تَأتيهِم في دورِهِم ، وفي رِحالِهِم ، وبُطونِ أودِيَتِهِم . ثُمَّ كُنتَ في كُلِّ مَشهَدٍ يَشهَدُهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِن عَدُوِّهِ أشَدَّهُم لَهُ عَداوَةً ، وأشَدَّهُم لَهُ تَكذيبا . ثُمَّ كُنتَ في أصحابِ السَّفينَةِ الَّذينَ أتَوُا النَّجاشِيَّ وَالمَهجَرَ (2) ، الخارجَ إلَى الحَبَشَةِ فِي الإِشاطَةِ بِدَمِ جَعفَرِ بنِ أبي طالِبٍ وسائِرِ المُهاجِرينَ إلَى النَّجاشِيِّ ، فَحاقَ المَكرُ السَّيِّئُ بِكَ ، وجَعَلَ جَدَّكَ الأَسفَلَ ، وأبطَلَ اُمنِيَّتَكَ ، وخَيَّبَ سَعيَكَ ، وأكذَبَ اُحدوثَتَكَ ، وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفلى ، وكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العُليا (3) .
2 / 2 _ 4كَلامُ ابنُ عَبّاسٍ في مَثالِبِهِالعقد الفريد عن أبي مخنف :حَجَّ عَمرُو بنُ العاصِ ، فَمَرَّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ ، فَحَسَدَهُ مَكانَهُ وما رَأى مِن هَيبَةِ النّاسِ لَهُ ، ومَوقِعَهُ مِن قُلوبِهِم ، فَقالَ لَهُ : يَابنَ عَبّاسٍ ، ما لَكَ إذا رَأَيتَني وَلَّيتَني القَصَرَةَ ، وكَأَنَّ بَينَ عَينَيكَ دَبَرَةً ، وإذا كُنتَ في مَلَأٍ مِنَ النّاسِ كُنتَ الهَوهاةَ (4) الهُمَزَةَ ! فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : لِأنَّكَ مِنَ اللِّئامِ الفَجَرَةِ ، وقُرَيشٌ الكِرامُ البَرَرَةُ ، لا يَنطِقونَ بِباطِلٍ جَهِلوهُ ، ولا يَكتُمونَ حَقّا عَلِموهُ ، وهُم أعظَمُ النّاسِ أحلاما ، وأرَفَعُ النّاس
.
ص: 307
أعلاما . دَخَلتَ في قُرَيشٍ ولَستَ مِنها ، فَأَنتَ السّاقِطُ بَينَ فِراشَينِ ؛ لا في بَني هاشِمٍ رَحلُكَ ، ولا في بَني عَبدِ شَمسٍ راحِلَتُكَ ، فَأَنتَ الأَثيمُ الزَّنيمُ ، الضّالُّ المُضِلُّ ، حَمَلَكَ مُعاوِيَةُ عَلى رِقابِ النّاسِ ، فَأَنتَ تَسطو بِحِلمِهِ ، وتَسمو بِكَرَمِهِ (1) .
2 / 2 _ 5وَلايَتُهُ في عَصرِ عُمَرَالأنساب :عَمرُو بنُ العاصِ . . . كانَ مِن دُهاةِ النّاسِ ، وَلّاهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلى جَيشِ ذاتِ السَّلاسِلِ وكانَ في تِلكَ القَريَةِ أبو بَكرٍ وعُمَرُ ، ثُمَّ وَلّاهُ عُمَرُ عَلى جَيشٍ بِالشّامِ ، وفَتَحَ بَيتَ المَقدِسِ وعِدَّةً مِن بِلادِ فِلَسطينَ (2) .
النجوم الزاهرة عن الليث بن سعد :إنَّ عُمَرَ نَظَرَ إلى عَمرِو بنِ العاصِ يَمشي ، فَقالَ : ما يَنبَغي لِأَبي عَبدِ اللّهِ أن يَمشِيَ عَلَى الأَرضِ إلّا أميرا (3) .
2 / 2 _ 6اِعتِرافُهُ بِحَقّانِيَّةِ الإِمامِالعُزلة عن عمرو بن دينار :أخبَرَني مَن سَمِعَ عَمرَو بنَ العاصِ _ يَومَ صِفّينَ _ يَقولُ لِابنِهِ عَبدِ اللّهِ : يا بُنَيَّ ! اُنظُر أينَ تَرى عَلِيّا ؟ قالَ : أراهُ في تِلكَ الكَتيبَةِ القَتماءِ ، ذاتِ الرِّماحِ ، عَلَيهِ عِمامَةٌ بَيضاءُ . قالَ : للّهِِ دَرُّ بَني عَمرِو بنِ مالِكٍ ، لَئِن كانَ تَخَلُّفُهُم عَن هذَا الأَمرِ خَيرا كانَ خَيرا
.
ص: 308
مَبرورا ، ولَئِن كانَ ذَنبا كانَ ذَنبا مَغفورا . فَقالَ لَهُ ابنُهُ : أي أبَتِ ! فَما يَمنَعُكَ إذ غَبَطتَهُم أن تَرجِعَ ؟ ! فَقالَ : يا بُنَيَّ ! إنَّ الشَّيخَ مِثلي إذا دَخَلَ فِي الأَمرِ لَم يَدَعهُ حَتّى يَحُكَّهُ (1) .
العقد الفريد عن العتبي عن أبيه :قالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ : ما أعجَبُ الأَشياءِ ؟ قال : غَلَبةُ مَن لا حَقَّ لَهُ ذَا الحَقِّ عَلى حَقِّهِ ! قالَ مُعاوِيَةُ : أعجَبُ مِن ذلِكَ أن يُعطى مَن لا حَقَّ لَهُ ما لَيسَ لَهُ بِحَقِّ مِن غَيرِ غَلَبَةٍ ! (2)
2 / 2 _ 7شَرطُ بَيعَتِهِ لِمُعاوِيَةَتاريخ اليعقوبي :كانَت مِصرُ وَالمَغرِبُ لِعَمرِو بنِ العاصِ طُعمَةً شَرَطَها لَهُ يَومَ بايَعَ ، ونُسخَةُ الشَّرطِ : هذا ما أعطى مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ عَمرَو بنَ العاصِ مِصرَ ، أعطاهُ أهلَها ، فَهُم لَهُ حياتَهُ ، ولا تَنقُصُ طاعَتُهُ شَرطا . فَقالَ لَهُ وَردانُ مَولاهُ : فيهِ الشَّعرُ مِن بَدَنِكَ ! فَجَعَلَ عَمرٌو يَقرَأُ الشَّرطَ ، ولا يَقِفُ عَلى ما وَقَفَ عَلَيهِ وَردانُ . فَلَمّا خَتَمَ الكِتابَ وشَهِدَ الشُّهودُ ، قالَ لَهُ وَردانُ : وما عُمرُكَ أيُّهَا الشَّيخُ إلّا كَظِم ءِ حِمارٍ (3) ، هَلّا شَرَطتَ لِعَقِبِكَ مِن بَعدِكَ ؟ ! ! فَاستَقالَ مُعاوِيَةَ ، فَلَم يُقِلهُ ، فَكانَ عَمروٌ لا يَحمِلُ إلَيهِ مِن مالِها شَيئا ؛ يُفَرِّقُ الأَعطِيَةَ فِي النّاسِ ، فَما فَضَلَ مِن شَيءٍ أخَذَهُ لِنَفسِهِ .
.
ص: 309
ووَلِيَ عَمرُو بنُ العاصِ مِصرَ عَشرَ سِنينَ ، مِنها لِعُمَرَ بنِ الخَطّابِ أربَعَ سِنينَ ، ولِعُثمانَ بنِ عَفّانٍ أربَعَ سِنينَ إلّا شَهرَينِ ، ولِمُعاوِيَةَ سَنَتينِ وثَلاثَةَ أشهُرٍ ، وتُوُفِّيَ ولَهُ ثَمانٌ وتِسعونَ سَنَةً ، وكانَ داهِيَةَ العَرَبِ رَأيا وحَزما وعَقلاً ولِسانا (1) .
سير أعلام النبلاء :أتى [عَمرُو بنُ العاصِ ]مُعاوِيَةَ ، فَوَجَدَهُ يَقُصُّ ويُذَكِّرُ أهلَ الشّامِ في دَمِ الشَّهيدِ ، فَقالَ لَهُ : يا مُعاوِيَةُ ! قَد أحرَقتَ كَبِدي بِقِصَصِكَ ، أ تَرى إن خالَفنا عَلِيّا لِفَضلٍ مِنّا عَلَيهِ ؟ لا وَاللّهِ ! إن هِيَ إلَا الدُّنيا نَتَكالَبُ عَلَيها ، أمَا وَاللّهِ ، لَتُقطِعَنَّ لي مِن دُنياكَ ، أو لَاُنابِذَنَّكَ . فَأَعطاهُ مِصرَ ، وقَد كانَ أهلُها بَعَثوا بِطاعَتِهِم إلى عَلِيٍّ (2) .
راجع : ص 374 (الاستعانة بعمرو بن العاص) .
2 / 2 _ 8شِدَّةُ أسَفِهِ عِندَ المَوتِالاستيعاب عن الشافعي :دَخَلَ ابنُ عَبّاسٍ عَلى عَمرِو بنِ العاصِ في مَرَضِهِ ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ وقالَ : كَيفَ أصبَحتَ يا أبا عَبدِ اللّهِ ؟ قال : أصلَحتُ مِن دُنيايَ قَليلاً ، وأفسَدتُ مِن ديني كَثيرا ، فَلَو كانَ الَّذي أصلَحتُ هُوَ الَّذي أفسَدتُ وَالَّذي أفسَدتُ هُوَ الَّذي أصلَحتُ لَفُزتُ ، ولَو كانَ يَنفَعُني أن أطلُبَ طَلَبتُ ، ولَو كانَ يُنجيني أن أهرُبَ هَرَبتُ ، فَصِرتُ كَالمَنجَنيقِ بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ ؛ لا أرقى بِيَدَينِ ، ولا أهبِطُ بِرِجلَينِ ، فَعِظني بِعِظَةٍ أنتَفِعُ بِها يَابنَ أخي .
.
ص: 310
فَقالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : هَيهاتَ يا أبا عَبدِ اللّهِ ! صارَ ابنُ أخيكَ أخاكَ ، ولا تَشاءُ أن أبكِيَ إلّا بَكَيتُ ، كَيفَ يُؤمِنُ (1) بِرَحيلِ مَن هُوَ مُقيمٌ ؟ فَقالَ عَمرٌو : عَلى حينِها ، مِن حينِ ابنِ بِضعٍ وثَمانينَ سَنَةً تُقَنِّطُني مِن رَحمَةِ رَبّي ، اللّهُمَّ إنَّ ابنَ عَبّاسٍ يُقَنِّطُني مِن رَحمَتِكَ فَخُذ مِنّي حَتّى تَرضى ! قالَ ابنُ عَبّاسٍ : هَيهاتَ يا أبا عَبدِ اللّهِ ! أخَذتَ جَديدا ، وتُعطي خَلَقا ؟ ! فَقالَ عَمرٌو : ما لي ولَكَ يَابنَ عَبّاسٍ ! ما اُرسِلُ كَلِمَةً إلّا أرسَلتَ نَقيضَها (2) .
تاريخ اليعقوبي :لَمّا حَضَرَت عَمرا الوَفاةُ قالَ لِابنِهِ : لَوَدَّ أبوكَ أنَّهُ كانَ ماتَ في غَزاةِ ذاتِ السَّلاسِلِ ؛ إنّي قَد دَخَلتُ في اُمورٍ لا أدري ما حُجَّتي عِندَ اللّهِ فيها . ثُمَّ نَظَرَ إلى مالِهِ فَرَأى كَثرَتَهُ ، فَقالَ : يا لَيتَهُ كانَ بَعرا ، يا لَيتَنيِمتُّ قَبلَ هذَا اليَومِ بِثَلاثينَ سَنَةً ؛ أصلَحتُ لِمُعاوِيَةَ دُنياهُ ، وأفسَدتُ ديني ، آثَرتُ دُنيايَ وتَرَكتُ آخِرَتي ، عُمِّيَ عَلَيَّ رُشدي حَتّى حَضَرَني أجَلي ، كَأَنّي بِمُعاوِيَةَ قَد حَوى مالي ، وأساءَ فيكُم خِلافَتي . وتُوُفِّيَ عَمرٌو لَيلَةَ الفِطرِ سَنَةَ 43 ه ، فَأَقَرَّ مُعاوِيَةُ ابنَهُ عَبدَ اللّهِ بنَ عَمرٍو (3) .
2 / 3عُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَولد عبيد اللّه بن عمر بن الخطّاب في زمن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله (4) ، وعندما قُتل أبوه
.
ص: 311
على يد أبي لؤلؤة حمل على الهرمزان _ وكان عليلاً _ وعلى ابنة أبي لؤلؤة _ وكانت صغيرةً _ وجُفينة _ وكان من أهل الذمّة _ وقتلهم (1) . حكم عليه الصحابة _ ومنهم أمير المؤمنين عليه السلام _ بالقتل ، لكنّ عثمان عفا عنه (2) وأمره بالهرب من الإمام عليه السلام وقد اقطع له عثمان كويفة ابن عمر في قرب الكوفة فلم يزل بها (3) . ولمّا تسلّم أمير المؤمنين عليه السلام زمام الخلافة لحق عبيد اللّه بمعاوية ؛ خوفا من القصاص ، وصار أميرا على خيّالته (4) . نشط كثيرا لأجل معاوية في صفّين ، بَيدَ أنّه قُتل أثناء الحرب (5) . وقد اختلف في قاتله فقيل : قتله أمير المؤمنين عليه السلام ، وقيل : مالك الأشتر ، وقيل : عمّار بن ياسر (6) .
مروج الذهب :قَد كانَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ لَحِقَ بِمُعاوِيَةَ ؛ خَوفا مِن عَلِيٍّ أن يُقيدَه
.
ص: 312
بِالهُرمُزانِ ، وذلِكَ أنَّ أبا لُؤلُؤَةَ _ غُلامَ المُغيرَةِ بنِ شُعبَةَ _ قاتِلُ عُمَرَ وكانَ في أرضِ العَجَمِ غُلاما لِلهُرمُزانِ ، فَلَمّا قُتِلَ عُمَرُ شَدَّ عُبَيدُ اللّهِ عَلَى الهُرمُزانِ فَقَتَلَهُ ، وقالَ : لا أترُكُ بِالمَدينَةِ فارِسِيّا ولا في غَيرِها إلّا قَتَلتُهُ بِأَبي . وكانَ الهُرمُزانُ عَليلاً فِي الوَقتِ الَّذي قُتِلَ فيهِ عُمَرُ ، فَلَمّا صارَتِ الخِلافَةُ إلى عَلِيٍّ أرادَ قَتلَ عُبَيدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ بِالهُرمُزانِ ؛ لِقَتلِهِ إيّاهُ ظُلما مِن غَيرِ سَبَبٍ استَحَقَّهُ ، فَلَجَأَ إلى مُعاوِيَةَ (1) .
وقعة صفّين عن الجرجاني :لَمّا قَدِمَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ عَلى مُعاوِيَةَ بِالشّامِ ، أرسَلَ مُعاوِيَةُ إلى عَمرِو بنِ العاصِ فَقالَ : يا عمرُو ، إنَّ اللّهَ قَد أحيا لَكَ عُمَرَ بَنَ الخَطّابِ بِالشّامِ بِقُدومِ عُبَيدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ ، وقَد رَأَيتُ أن اُقيمَهُ خَطيبا فَيَشهَدَ عَلى عَلِيٍّ بِقَتلِ عُثمانَ ، ويَنالَ مِنهُ ! فَقالَ : الرَّأيُ ما رَأَيتَ . فَبَعَثَ إلَيهِ فَأَتى ، فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : يَابنَ أخي ، إنَّ لَكَ اسمَ أبيكَ ، فَانظُر بِمِل ءِ عَينَيكَ ، وتَكَلَّم بِكُلِّ فيكَ ؛ فَأَنتَ المَأمونُ المُصَدَّقُ فَاصعَدِ المِنبَرَ وَاشتُم عَلِيّا ، وَاشهَد عَلَيهِ أنَّهُ قَتَلَ عُثمانَ ! فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أمّا شَتمي لَهُ (2) فَإِنَّهُ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، واُمُّهُ فاطِمَةُ بِنتُ أسَدِ بنِ هاشِمٍ ، فَما عَسى أن أقولَ في حَسَبِهِ ! ! وأمّا بَأسُهُ فَهُوَ الشُّجاعُ المُطرِقُ ، وأمّا أيّامُهُ فَما قَد عَرَفتَ ، ولكِنّي مُلزِمُهُ دَمَ عُثمانَ . فَقالَ عَمرُو بنُ العاصِ : إذا وَاللّهِ قَد نَكَأتَ القُرحَةَ . فَلَمّا خَرَجَ عُبَيدُ اللّهِ قَالَ مُعاوِيَةُ : أمَا وَاللّهِ لَولا قَتلُهُ الهُرمُزانَ ، ومَخافَةُ عَلِيٍّ عَلى نَفسِهِ ما أتانا أبَدا ؛ أ لَم تَرَ إلى تَقريظِهِ عَلِيّا ؟! فَقالَ عَمرٌو : يا مُعاوِيَةُ ، إن لَم تَغلِب فَاخلِب . فَخَرَجَ حَديثُهُ إلى عُبَيدِ اللّهِ ، فَلَمّا قامَ خَطيبا تَكَلَّمَ بِحاجَتِهِ ، حَتّى إذا أتى
.
ص: 313
إلى أمرِ عَلِيٍّ أمسَكَ ولَم يَقُل شَيئا ، فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : ابنَ أخي ، إنَّكَ بَين عِيٍّ أو خِيانَةٍ ! فَبَعَثَ إلَيهِ : كَرِهتُ أن أقطَعَ الشَّهادَةَ عَلى رَجُلٍ لَم يَقتُل عُثمانَ ، وعَرَفتُ أنَّ النّاسَ مُحتَمِلوها عَنّي فَتَرَكتُها (1) .
مروج الذهب_ في تَفصيلِ وَقعَةِ صَفّينَ _: كانَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ إذا خَرَجَ إلَى القِتالَ قامَ إلَيهِ نِساؤُهُ فَشَدَدنَ عَلَيهِ سِلاحَهُ ، ما خَلَا الشَّيبانِيّةَ بِنتَ هانِئِ بنِ قَبيصَةَ ، فَخَرَجَ في هذَا اليَومِ ، وأقبَلَ عَلَى الشَّيبانِيَّةِ وقالَ لَها : إنّي قَد عَبَّأتُ اليَومَ لِقَومِكِ ، وَايمُ اللّهِ ، إنّي لَأَرجو أن أربِطَ بِكُلِّ طُنبٍ مِن أطنابِ فُسطاطي سَيِّدا مِنهُم ! فَقالَت لَهُ : ما اُبغِضَ إلّا أن تُقاتِلَهُم . قالَ : ولِمَ ؟ قالَت : لِأَنَّهُ لَم يَتَوَجَّه إلَيهِم صِنديدٌ في جاهِلِيَّةٍ ولا إسلامٍ وفي رَأسِهِ صَعَرٌ إلّا أبادوهُ ، وأخافُ أن يَقتُلوكَ ، وكَأَنّي بِكَ قَتيلاً وقَد أتَيتُهُم أسأَلُهُم أن يَهَبوا لي جِيفَتَكَ . فَرَماها بِقَوسٍ فَشَجَّها ، وقالَ لَها : سَتَعلَمين بِمَن آتيكِ مِن زُعَماءِ قَومِكِ . ثُمَّ تَوَجَّهَ فَحَمَلَ عَلَيهِ حُرَيثُ بنُ جابِرِ الجُعفِيُّ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ ، وقيلَ : إنَّ الأَشتَرَ النَّخَعِي هُوَ الَّذي قَتَلَهُ ، وقيلَ : إنَّ عَلِيّا ضَرَبَهُ ضَربَةً فَقَطَعَ ما عَلَيهِ مِنَ الحَديدِ حَتّى خالَطَ سَيفُهُ حَشوَةَ جَوفِهِ . وإنَّ عَلِيّا قالَ حينَ هَرَبَ فَطَلَبَهُ لِيُقيدَ مِنهُ بِالهُرمُزانِ : لَئِن فاتَني في هذَا اليَومِ لا يَفوتُني في غَيرِهِ . وكَلَّمَ نِساؤُهُ مُعاوِيَةَ في جيفَتِهِ ، فَأَمَرَ أن تَأتينَ رَبيعَةَ فَتَبذُلنَ في جيفَتِهِ عَشرَةَ آلافٍ ، فَفَعَلنَ ذلِكَ .
.
ص: 314
فَاستَأمَرَت رَبيعَةُ عَلِيّا ، فَقالَ لَهُم : إنَّما جيفَتُهُ جيفَةُ كَلبٍ لا يَحِلُّ بَيعُها ، ولكِن قَد أجَبتُهُم إلى ذلِكَ ، فَاجعَلوا جيفَتَهُ لِبِنتِ هانِئِ بنِ قَبيصَةَ الشَّيبانِيِّ زَوجَتِهِ . فَقالوا لِنِسوَةِ عُبَيدِ اللّهِ : إن شِئتُنَّ شَدَدناهُ إلى ذَنَبِ بَغلٍ ، ثُمَّ ضَرَبناهُ حَتّى يَدخُلَ إلى عَسكَرِ مُعاوِيَةَ . فَصَرَخنَ وقُلنَ : هذا أشَدُّ عَلَينا ، وأخبَرنَ معُاوِيَةَ بِذلِكَ . فَقالَ لَهُنَّ :ائتُوا الشَّيبانِيَّةَ فَسَلوها أن تُكَلِّمَهُم في جيفَتِهِ ، فَفَعَلنَ . وأتَتِ القَومَ ، وقالَت : أنَا بِنتُ هانِئِ بنِ قَبيصَةَ ، وهذا زَوجي القاطِعُ الظّالِمُ ، وقَد حَذَّرتُهُ ما صارَ إلَيهِ ، فَهَبوا إلَيَّ جيفَتَهُ ، فَفَعَلوا . وألقَت إلَيهِم بِمِطرَفِ خَزٍّ فَأَدرَجوهُ فيهِ ، ودَفَعوهُ إلَيها ، فَمَضَت بِهِ ، وكانَ قَد شُدَّ في رِجلِهِ إلى طُنبِ فُسطاطٍ مِن فَساطيطِهِم (1) .
2 / 4عَبدُ اللّهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِولد في سنة 38 قبل الهجرة ، وأسلم وهاجر إلى المدينة بعد سنة 7 ه (2) . وأبوه عمرو بن العاص يكبره بإحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة ! ! (3) يبدو أنّه كان في البداية يمنع أباه من الذهاب إلى معاوية ، ويطلب منه أن يعتزله ، وكان يعلم بأفضليّة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ويرى أنّ معاوية صاحب دنيا ، بيدَ أنّه صحب أباه في توجّهه إلى معاوية ، وكان على ميمنة جيشه في حرب صفّين (4) ،
.
ص: 315
وعلى قولٍ : كان صاحب راية أبيه عمرو بن العاص فيها (1) . ولي الكوفة في أيّام معاوية مدّة (2) ، ثمّ ولّاه مصر بعد هلاك أبيه (3) . ورث من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب المصري ، فكان من ملوك الصحابة (4) . وكان يُصحِر بندمه على حضوره في صفّين ، ويقول : لوددت أنّي مِتّ قبلها بعشرين سنة ، أو بعشر سنين (5) . ومات بمصر سنة 65 ه (6) .
مسند ابن حنبل عن حنظلة بن خويلد العنبري :بَينَما أنَا عِندَ مُعاوِيَةَ ، إذ جاءَهُ رَجُلانِ يَختَصِمانِ في رَأسِ عَمّارٍ ، يَقولُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما : أنَا قَتَلتُهُ . فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَمرٍو : لِيَطِب بِهِ أحَدُكُما نَفسا لِصاحِبِهِ ؛ فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ ! قالَ مُعاوِيَةُ : فَما بالُكَ مَعَنا ؟ ! قالَ : إنَّ أبي شَكاني إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقالَ : «أطِع أباكَ ما دامَ حَيّا ولا تَعصِهِ» ، فَأَنَا مَعَكُم ، ولَستُ اُقاتِلُ (7) .
.
ص: 316
المعجم الأوسط عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه :كُنتُ في مَسجِدِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله في حَلقَةٍ فيها أبو سَعيدٍ الخُدرِيُّ وعَبدُ اللّهِ بنُ عَمرٍو ، إذ مَرَّ الحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ فَسَلَّمَ ، فَرَدَّ عَلَيهِ القَومُ وسَكَتَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَمرٍو ، ثُمَّ رَفَعَ ابنُ عَمرٍو صَوتَهُ بَعدَما سَكَتَ القَومُ ، فَقالَ : وعَلَيكَ السَّلامُ ورَحمَةُ اللّهِ وبَرَكاتُهُ . ثُمَّ أقبَلَ عَلَى القَومِ ، فَقالَ : أ لا اُخبِرُكُم بِأَحَبَّ أهلِ الأَرضِ إلى أهلِ السَّماءِ ؟قالوا : بَلى . قالَ : هُوَ هذَا المُقَفّى ، وَاللّهِ ما كَلَّمتُهُ كَلِمَةً ، ولا كَلَّمَني كَلِمَةً ، مُنذُ لَيالِ صِفّينَ ، ووَاللّهِ ، لَأَن يَرضى عَنّي أحَبُّ إلَيَّ مِن أن يَكونَ لي مِثلُ اُحُدٍ . فَقالَ لَهُ أبو سَعيدٍ الخُدرِيُّ : أ لا تَغدو إلَيهِ ؟ قالَ : بَلى . فَتَواعَدا أن يَغُدوا إلَيهِ ، وغَدَوتُ مَعَهُما ، فَاستَأذَنَ أبو سَعيدٍ ، فَأَذِنَ لَهُ ، فَدَخَلنا ، فَاستَأذَنَ لِابنِ عَمرٍو ، فَلَم يَزَل بِهِ حَتّى أذِنَ لَهُ الحُسَينُ ، فَدَخَلَ ، فَلَمّا رَآهُ أبو سَعيدٍ زَحَلَ (1) لَهُ ، وهُوَ جالِسٌ إلى جَنبِ الحُسَينِ فَمَدَّهُ الحُسَينُ إلَيهِ ، فَقامَ ابنُ عَمرٍو ، فَلَم يَجلِس ، فَلَمّا رَأى ذلِكَ خَلّى عَن أبي سَعيدٍ ، فَأَزحَلَ لَهُ ، فَجَلَسَ بَينَهُما . فَقَصَّ أبو سَعيدٍ القِصَّةَ . فَقالَ : أ كَذلِكَ يَابنَ عَمرٍو ؟ أ تَعلَمُ أنّي أحَبُّ أهلِ الأَرضِ إلى أهلِ السَّماءِ ؟ قالَ : إي ورَبِّ الكَعبَةِ ، إنَّكَ لَأَحَبُّ أهلِ الأَرضِ إلى أهلِ السَّماءِ . قالَ : فَما حَمَلَكَ عَلى أن قاتَلتَني وأبي يَومَ صِفّينَ ؟ وَاللّهِ لِأَبي خَيرٌ مِنّي ! قالَ : أجَل ، ولكِنَّ عَمرا شَكاني إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقالَ : إنَّ عَبدَ اللّهِ يَقومُ اللَّيلَ ، ويَصومُ النَّهارَ . فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله :«صَلِّ ونَم ، وصُم وأفطِر ، وأطِع عَمرا» ، فَلَمّا كانَ يَوم
.
ص: 317
صِفّينَ أقسَمَ عَلَيَّ . وَاللّهِ ، ما كَثَّرتُ لَهُم سَوادا ، ولَا اختَرَطتُ لَهُم سَيفا ، ولا طَعَنتُ بِرُمحٍ ، ولا رَمَيتُ بِسَهمٍ . فَقالَ لَهُ الحُسَينُ : أ ما عَلِمتَ أنَّهُ لا طاعَةَ لِمَخلوقٍ في مَعصِيَةِ الخالِقِ ؟ قالَ : بَلى (1) .
2 / 5عَبدُ الرَّحمنِ بنُ خالِدِ بنِ الوَليدِمن شجعان قريش ، ومن أعداء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وبني هاشم (2) . كان واليا على حمص في عهد عثمان ، وأشخص إليه عثمان المخرجين من الكوفة (3) . وكان معاوية يَعُدّه ولده (4) وكان من اُمراء جيشه في صفّين وكان لواء أهل الشام بيده عند اشتداد الحرب (5) ، وكان أخوه مهاجر مع أمير المؤمنين عليه السلام في الجمل ، وصفّين (6) .
.
ص: 318
كما كان من القادة المحاربين في بعض الأيّام في معارك ذي الحجّة (1) . لعنه أمير المؤمنين عليه السلام في الصلاة (2) . هذا ، وقد نقلت عنه كلمات في الثناء على شجاعة الإمام عليه السلام (3) . تولّى حكومة حمص مدّةً في خلافة معاوية . ولمّا عرف معاوية هوى الشاميّين في حكومة عبد الرحمن بعده ، قتله بالسمّ ، لئلّا ينافس يزيدَ على الحكم (4) .
وقعة صفّين عن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد_ في وَصفِ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: أمَا وَاللّهِ لَقَد رَأَيتُنا يَوما مِنَ الأَيّامِ وقَد غَشِيَنا ثُعبانٌ مِثلُ الطَّودِ الأَرعَنِ قَد أثارَ قَسطَلاً (5) حالَ بَينَنا وبَينَ الاُفُقِ ، وهُوَ عَلى أدهَمٍ شائِلٍ ، يَضرِبُهُم بِسَيفِهِ ضَربَ غَرائِبِ الإِبِلِ ، كاشِرا عَن أنيابِهِ كَشرَ المُخدِرِ الحَرِبِ (6) . فَقالَ مُعاوِيَةُ : وَاللّهِ إنَّهُ كانَ يُجالِدُ ويُقاتِلُ عَن تِرَةٍ لَهُ وعَلَيهِ (7) .
راجع : ج 7 ص 113 (أبو الأعور) و ص 114 (بسر بن أرطاة) و ص 137 (الوليد بن عقبة) .
.
ص: 319
الفصل الثالث : السياسة العلويّة3 / 1عَزلُ مُعاوِيَةَذكرنا سابقا أنّ اُولى الأعمال التي اتّخذها الإمام عليّ عليه السلام بعد مبايعة الناس له على طريق الشروع بالإصلاحات هو عزل عمّال عثمان . وكان الساسة من أصحاب الإمام لا يرون من المصلحة عزل شخصين ، هما : معاوية وأبي موسى الأشعري . وأخيرا وبعد الكثير من التوضيحات وفي أعقاب وساطة مالك الأشتر ، وافق أمير المؤمنين عليه السلام على إبقاء أبي موسى الأشعري . أمّا بالنسبة الى معاوية فلم تفلح جميع الجهود التي بذلت لإقناع الإمام بإبقائه في منصبه ، إذ كان لا يرى جواز إبقائه واليا ولو لحظة واحدة . أمّا بالنسبة إلى معاوية فهو لم يبايع الإمام ولم يترك أهل الشام يبايعونه . وبدأ منذ اليوم الأول لخلافة الإمام بالتآمر عليه ، ممهّدا بذلك الأجواء للصدام العسكري . وأوّل سؤال يُثار في هذا المجال هو كيف يمكن تبرير عمل الإمام هذا من
.
ص: 320
الوجهة السياسيّة ؟ أ لم يكن من الأفضل أن يُبقي الإمامُ معاوية في منصبه في بداية خلافته إلى حين استتباب الاُمور ، وإلى أن يبايع هو وأهل الشام ، ثمّ يعزله من بعد ذلك لكي لا تقع حرب صفّين ولكي تستقرّ الحكومة الإسلاميّة بقيادته ؟ أ لم يكن الحفاظ على وحدة كلمة الاُمّة وديمومة النظام الإسلامي وهما من أوجب الواجبات ، يقضيان بإبقاء معاوية على ولاية الشام ولو مؤقّتا ؟
.
ص: 321
دفاع عن سياسة عزل معاويةاستنادا إلى ما يتبنّاه الإمام في سياسة وإدارة النظام الإسلامي التي سبق شرحها (1) يمكن الردّ على هذه التساؤلات بكلّ سهولة . بَيدَ أنّ هذه السياسة توجد بشأنها اُمور مهمّة لابدّ من الإشارة إليها هاهنا : دافع ابن أبي الحديد عن هذه السياسة بالتفصيل ، ونحن نورد النقاط المهمّة فيها : استدلّ ابن أبي الحديد ابتداءً من خلال المصادر والوثائق التاريخيّة على أنّ معاوية ما كان يبايع الإمام في أيِّ ظُروف كانت . ثمّ أشار إلى المبادئ الدينيّة التي كان يسير عليها الإمام في تعيين وعزل الولاة والعمال . ثمّ أورد في ختام المطاف تحليلاً رصينا لعالم يدعى ابن سنان بيّن فيه عدم امكانيّة إبقاء معاوية في الظروف التي بايع فيها الناس عليّا من بعد قتل عثمان ؛ لأنّها ستجعل الإمام يواجه في أوّل حكومته أوضاعا كالتي انتهى إليها عثمان في اُواخر حكمه .
1 _ إبقاء معاوية في منصبه لا يدعوه إلى البيعةنقل ابن أبي الحديد فيما يخصّ انتقاد سياسة الإمام بعزل معاوية : منها قولهم : لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقرّ معاوية على الشام إلى
.
ص: 322
أن يستقرّ الأمر له ويتوطّد ويبايعه معاوية وأهل الشام ثمّ يعزله بعد ذلك ، لكان قد كُفي ما جرى بينهما من الحرب . والجواب : إنّ قرائن الأحوال حينئذٍ قد كان علم أمير المؤمنين عليه السلام منها أنّ معاوية لا يبايع له وإن أقرّه على ولاية الشام ، بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية وآكد في الامتناع من البيعة ؛ لأنّه لا يخلو صاحب السؤال إمّا أن يقول : كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة ويقرن إلى ذلك تقليده بالشام فيكون الأمران معا ، أو يتقدّم منه عليه السلام المطالبة بالبيعة ، أو يتقدّم منه اقراره على الشام وتتأخّر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثانٍ . فإن كان الأوّل فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة فيؤكّد حاله عندهم ، ويقرّر في أنفسهم : لولا أنّه أهل لذلك لما اعتمده عليّ عليه السلام معه ، ثمّ يماطله بالبيعة ويحاجزه عنها . وإن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام . وإن كان الثالث فهو كالقسم الأوّل ، بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف والعصيان . وكيف يتوهّم من يعرف السير أنّ معاوية كان يبايع له لو أقرّه على الشام وبينه وبينه ما لا تبرك الابل عليه من التِّرات القديمة والأحقاد ، وهو الذي قتل حنظلة أخاه ، والوليد خاله ، وعتبة جدّه ، في مقام واحد ! ! ثمّ ما جرى بينهما في أيّام عثمان حتى أغلظ كلّ واحد منهما لصاحبه ، وحتى تهدّده معاوية وقال له : إنّي شاخص إلى الشام وتارك عندك هذا الشيخ _ يعني عثمان _ واللّه لئن انحصّت منه شعرة واحدة لأضربنّك بمائة ألف سيف ! ! . . . و أمّا قول ابن عبّاس له عليه السلام : ولِّه شهرا واعزله دهرا ، وما أشار به المغيرة بن
.
ص: 323
شعبة، فإنّهما ما توهّماه وما غلب على ظنونها وخطر بقلوبهما . و عليّ عليه السلام كان أعلم بحاله مع معاوية ، وأنّها لا تقبل العلاج والتدبير ، وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ونكره ودهائه وما كان في نفسه من عليّ عليه السلام من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان أنّه يقبل إقرار عليّ عليه السلام له على الشام ، وينخدع بذلك ، ويبايع ويعطي صفقة يمينه ! إنّ معاوية لأدهى من أن يُكاد بذلك ، وإنّ عليّاً عليه السلام لأعرف بمعاوية ممّن ظنّ أنّه لو استماله بإقراره لبايع له . ولم يكن عند عليّ عليه السلام دواء لهذا المرض إلّا السيف ؛ لأنّ الحال إليه كانت تؤول لا محالة ، فجعل الآخر أوّلاً (1) .
2 _ إبقاء معاوية كان يزعزع الحكومة المركزيّةلم يكن إبقاء معاوية على ولاية الشام يقوّي ركائز حكومة الإمام ، بل إنّه كان يؤدي الى زعزعتها منذ البداية . وقد جاء تحليل ابن سنان في هذا المضمار على النحو التالي : إنّا قد علمنا أنّ أحد الأحداث التي نقمت على عثمان وأفضت بالمسلمين إلى حصاره وقتله تولية معاوية الشام مع ما ظهر من جوره وعدوانه ، ومخالفة أحكام الدين في سلطانه ، وقد خوطب عثمان في ذلك فاعتذر بأنّ عمر ولّاه قبله ، فلم يقبل المسلمون عذره ، ولا قنعوا منه إلّا بعزله ، حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى . وكان عليّ عليه السلام من أكثر المسلمين لذلك كراهية ، وأعرفهم بما فيه من الفساد في الدين ، فلو أنّه عليه السلام افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام وإقراره فيه ، أ ليس كان
.
ص: 324
يبتدئ في أوّل أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره ، فأفضى إلى خلعه وقتله ؟ ! ولو كان ذلك في حكم الشريعة سائغا والوزر فيه مأمونا لكان غلطا قبيحا في السياسة ، وسببا قويّا للعصيان والمخالفة ، ولم يكن يمكنه عليه السلام أن يقول للمسلمين : إنّ حقيقة رأيي عزل معاوية عند استقرار الأمر وطاعة الجمهور لي ، وإنّ قصدي بإقراره على الولاية مخادعته وتعجيل طاعته ومبايعة الأجناد الذين قِبله ، ثمّ أستأنف بعد ذلك فيه ما يستحقّه من العزل ، وأعمل فيه بموجب العدل ؛ لأنّ إظهاره عليه السلام لهذا العزم كان يتّصل خبره بمعاوية ، فيفسد التدبير الذي شرع فيه ، وينتقض الرأي الذي عوّل عليه (1) .
3 _ إبقاء معاوية يتعارض مع المباني السياسيّة للإمامقدّم ابن سنان ردّا آخر على الطعن بسياسته في عزل معاوية ، وفيه إشارة إلى مبانيه السياسيّة في الحكم (2) ، ويسمّيه جوابا حقيقيّا ويقول فيه : واعلم أنّ حقيقة الجواب هو أنّ عليّا عليه السلام كان لا يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة ، سواء أكانت تلك السياسة دينيّة أو دنيويّة ؛ أمّا الدنيويّة فنحو أن يتوهّم الإمام في إنسان أنّه يروم فساد خلافته من غير أن يثبت ذلك عليه يقينا ؛ فإنّ عليّا عليه السلام لم يكن يستحلّ قتله ولا حبسه ، ولا يعمل بالتوهّم وبالقول غير المحقّق . وأمّا الدينيّة فنحو ضرب المتّهم بالسرقة ؛ فإنّه أيضا لم يكن يعمل به ، بل يقول : إن يثبت عليه بإقرار أو بيّنة أقمتُ عليه الحدّ ، وإلّا لم أعترضه . وغير عليّ عليه السلام قد كان منهم من يرى خلاف هذا الرأي ، ومذهب مالك بن أنس العمل على المصالح المرسلة ، وأنّه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الاُمّة لإصلاح الثلثين ، ومذهب أكثر الناس أنّه يجوز العمل بالرأي وبغالب الظنّ ، وإذا كان
.
ص: 325
مذهبه عليه السلام ما قُلناه ، وكان معاوية عنده فاسقا ، وقد سبق عنده مقدّمة اُخرى يقينيّة ، هي أنّ استعمال الفاسق لا يجوز ، ولم يكن ممّن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة . فقد تعيّن مجاهرته بالعزل ، وإن أفضى ذلك إلى الحرب (1) .
3 / 2رفض سياسة المداهنةمروج الذهب عن ابن عبّاس :قَدِمتُ مِن مَكَّةَ بَعدَ مَقتَلِ عُثمانَ بِخَمسِ لَيالٍ ، فَجِئتُ عَلِيّا أدخُلُ عَلَيهِ ، فَقيلَ لي : عِندَهُ المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ ، فَجَلَستُ بِالبابِ ساعَةً ، فَخَرَجَ المُغيرَةُ ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ، وقالَ : مَتى قَدِمتَ ؟ قُلتُ : السّاعَةَ ، ودَخَلتُ عَلى عَلِيٍّ وسَلَّمتُ عَلَيهِ . . . قُلتُ : أخبِرني عَن شَأنِ المُغيرَةِ ، ولِمَ خَلا بِكَ ؟ قالَ : جاءَني بَعدَ مَقتَلِ عُثمانَ بِيَومَينِ ، فَقالَ : أخلِني ، فَفَعَلتُ ، فَقالَ : إنَّ النُّصحَ رَخيصٌ ، وأنتَ بَقِيَّةُ النّاسِ ، وأنَا لَكَ ناصِحٌ ، وأنَا اُشيرُ عَلَيكَ أن لا تَرُدَّ عُمّالَ عُثمانَ عامَكَ هذا ، فَاكُتب إلَيهِم بِإِثباتِهِم عَلى أعمالِهِم ، فَإِذا بايَعوا لَكَ ، وَاطمَأَنَّ أمرُكَ ، عَزَلتَ مَن أحبَبتَ ، وأقرَرتَ مَن أحبَبتَ . فَقُلتُ لَهُ : وَاللّهِ ، لا اُداهِنُ في ديني ، ولا اُعطِي الرِّياءَ في أمري . قالَ : فَإِن كُنتَ قَد أبَيتَ فَانزِع مَن شِئتَ ، وَاترُك مُعاوِيَةَ ؛ فَإِنَّ لَهُ جُرأَةً وهُوَ في أهلِ الشّامِ مَسموعٌ مِنهُ ، ولَكَ حُجَّةٌ في إثباتِهِ ، فَقَد كانَ عُمَرُ وَلّاهُ الشّامَ كُلَّها . فَقُلتُ لَهُ : لا وَاللّهِ ، لا أستَعمِلُ مُعاوِيَةَ يَومَينِ أبَدا .
.
ص: 326
فَخَرَجَ مِن عِندي عَلى ما أشارَ بِهِ ، ثُمَّ عادَ ، فَقالَ : إنّي أشَرتُ عَلَيكَ بِما أشَرتُ بِهِ وأبَيتَ عَلَيَّ ، فَنَظَرتُ فِي الأَمرِ وإذا أنتَ مُصيبٌ لا يَنبَغي أن تَأخُذَ أمرَكَ بِخُدعَةٍ ، ولا يَكونَ فيهِ دُلسَةٌ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَقُلتُ لَهُ : أمّا أوَّلُ ما أشارَ بِهِ عَلَيكَ فَقَد نَصَحَكَ ، وأمَّا الآخِرُ فَقَد غَشَّكَ (1) .
مروج الذهب عن ابن عبّاس_ لِعَلِيٍّ عليه السلام _: أنَا اُشيرُ عَلَيكَ أن تُثبِتَ مُعاوِيَةَ ، فَإِن بايَعَ لَكَ فَعَلَيَّ أن أقلَعَهُ مِن مَنزِلِهِ . قالَ : لا وَاللّهِ لا اُعطيهِ إلَا السَّيفَ ، ثُمَّ تَمَثَّلَ : فَما مِيتَةٌ إن مُتُّها غَيرَ عاجِزِ بِعارٍ إذا ما غالَتِ النَّفسَ غولُها فَقُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أنتَ رَجُلٌ شُجاعٌ ، أ ما سَمِعتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : الحَربُ خُدعَةٌ ؟ ! فَقالَ عَلِيٌّ : بَلى . قُلتُ : أمَا وَاللّهِ ، لَئِن أطَعتَني لَأَصدُرَنَّ بِهِم بَعدَ وُرودٍ ، ولَأَترُكَنَّهُم يَنظُرونَ في أدبارِ الاُمورِ ، ولا يَدرونَ ما كانَ وَجهُها ، مِن غَيرِ نقَصٍ لَكَ ، ولا إثمٍ عَلَيكَ . فَقالَ لي : يَابنَ عَبّاسٍ ، لَستُ مِن هُنَيّاتِكَ ولا هُنَيّاتِ مُعاوِيَةَ في شَيءٍ ، تُشيرُ بِهِ عَلَيَّ بِرَأيٍ ، فَإِذا عَصَيتُكَ فَأَطِعني . فَقُلتُ : أنَا أفعَلُ ، فَإِنَّ أيسَرَ ما لَكَ عِندِي الطّاعَةُ ، وَاللّهُ وَلِيُّ التَّوفيقِ (2) .
راجع : ج 2 ص 380 (عزل عمّال عثمان) .
.
ص: 327
3 / 3الإِمامُ يَدعو مُعاوِيَةَ إلَى البَيعَةِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ لَمّا بويِعَ عليه السلام بِالخِلافَةِ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ : أمّا بَعدُ ، فَقَد عَلِمتَ إعذاري فيكُم ، وإعراضي عَنكُم ، حَتّى كانَ ما لابُدَّ مِنهُ ولا دَفعَ لَهُ ، وَالحَديثُ طَويلٌ ، وَالكَلامُ كَثيرٌ ، وقَد أدبَرَ ما أدبَرَ ، وأقبَلَ ما أقبَلَ ، فَبايِع مَن قِبَلَكَ ، وأقبِل إلَيَّ في وَفدٍ مِن أصحابِكَ . وَالسَّلامُ (1) .
شرح نهج البلاغة :لَمّا بويِعَ عَلِِيٌّ عليه السلام كَتَبَ إلى مِعاوِيَةَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ النّاس قَتَلوا عُثمانَ عَن غَيرِ مَشورَةٍ مِنّي ، وبايَعوني عَن مَشورَةٍ مِنهُم وَاجتِماعٍ ، فَإِذا أتاكَ كِتابي فَبايِع لي ، وأوفِد إلَيَّ أشرافَ أهلِ الشّامِ قِبَلَكَ (2) .
3 / 4سِياسَةُ مُعاوِيَةَ في جَوابِ الإِمامِتاريخ الطبري_ في ذِكرِ كِتابِ الإِمامِ إلى مُعاوِيَةَ وأبي موسى _: وكانَ رَسولُ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ سَبرَةَ الجُهَنِيَّ ، فَقَدِمَ عَلَيهِ فَلَم يَكتُب مُعاوِيَةُ بِشَيءٍ ، ولَم يُجِبهُ ، ورَدَّ رَسولَهُ ، وجَعَلَ كُلَّما تَنَجَّزَ جَوابَهُ لَم يَزِد عَلى قَولِهِ : أدِم إدامَةَ حِصنٍ أوخَذا بِيَدي حَرباً ضَروساً تَشُبُّ الجَزلَ وَالضَّرَما في جارِكُم وَابنِكُم إذ كانَ مَقتَلُهُ شَنعاءَ شَيَّبَتِ الأَصداغَ وَاللَّمَما أعيَى المَسودُ بِها وَالسَّيِّدونَ فَلَم يوجَد لَها غَيرُنا مَولىً ولا حَكَما
.
ص: 328
وجَعَلَ الجُهَنِيُّ كُلَّما تَنَجَّزَ الكِتابَ لَم يَزِدهُ عَلى هذِهِ الأَبياتِ ، حَتّى إذا كانَ الشَّهرُ الثّالِثُ مِن مَقتَلِ عُثمانَ في صَفَرٍ دَعا مُعاوِيَةُ بِرَجُلٍ مِن بَني عَبسٍ ثُمَّ أحَدِ بَني رَواحَةَ يُدعى قَبيصَةَ ، فَدَفَعَ إلَيهِ طوماراً مَختوماً عُنوانُهُ : مِن مُعاوِيَةَ إلى عَلِيٍّ ، فَقالَ : إذا دَخَلتَ المَدينَةَ فَاقبِض عَلى أسفَلِ الطّومارِ ، ثُمَّ أوصاهُ بِما يَقولُ ، وسَرَّحَ رَسولَ عَلِيٍّ . وخَرَجا فَقَدِمَا المَدينَةَ في رَبيعِ الأَوَّلِ لِغُرَّتِهِ ، فَلَمّا دَخَلَا المَدينَةَ رَفَعَ العَبسِيُّ الطّومارَ كَما أمَرَهُ ، وخَرَجَ النّاسُ يَنظُرونَ إلَيهِ ، فَتَفَرَّقوا إلى مَنازِلِهِم وقَد عَلِموا أنَّ مُعاوِيَةَ مُعتَرِضٌ ، ومَضى يَدخُلُ عَلى عَلِيٍّ ، فَدَفَعَ إلَيهِ الطّومارَ فَفَضَّ خاتَمَهُ فَلَم يَجِد في جَوفِهِ كِتابَةً ، فَقالَ لِلرَّسولِ : ما وَراءَكَ ؟ قال : آمِنٌ أنَا ؟ قالَ : نَعَم ؛ إنَّ الرُّسُلَ آمِنَةٌ لا تُقتَلُ . قالَ : وَرائي أنّي تَرَكتُ قَوماً لا يَرضَونَ إلّا بِالقَوَدِ . قالَ : مِمَّن ؟ قالَ : مِن خَيطِ نَفسِكَ ، وتَرَكتُ سِتّينَ ألفَ شَيخٍ يَبكي تَحتَ قَميصِ عُثمانَ وهُوَ مَنصوبٌ لَهُم قَد ألبَسوهُ مِنبَرَ دِمَشقَ . فَقالَ : مِنّي يَطلُبونَ دَمَ عُثمانَ ! أ لَستُ مَوتوراً كَتِرَةِ عُثمانَ ؟ !اللّهُمَّ إنّي أبرَأُ إلَيكَ مِن دَمِ عُثمانَ (1) .
3 / 5تَعيينُ الوالي لِلشّامِ وإرجاعُهُتاريخ الطبري :قالَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] لِابنِ عَبّاسٍ : سِر إلَى الشّامِ فَقَد وَلَّيتُكَها . فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : ما هذا بِرَأيٍ ؛ مُعاوِيةُ رَجُلٌ مِن بَني اُمَيَّةَ ، وهُوَ ابنُ عَمِّ عُثمانَ وعامِلُهُ عَلَى الشّامِ ، ولَستُ آمَنُ أن يَضرِبَ عُنُقي لِعُثمانَ ، أو أدنى ما هُوَ صانِعٌ أن يَحبِسَني فَيَتَحَكَّمَ عَلَيَّ . فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : ولِمَ ؟ قالَ : لِقَرابَةِ ما بَيني وبَينَكَ ، وإنَّ كُلَّ ما حُمِلَ عَلَيكَ حُمِل
.
ص: 329
عَلَيَّ ، ولكِنِ اكتُب إلى مُعاوِيَةَ فَمَنِّهِ وعِدهُ . فَأَبى عَلِيٌّ وقالَ : وَاللّهِ لا كانَ هذا أبَدا (1) .
تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :بَعَثَ عَلِيٌّ عُمّالَهُ عَلَى الأَمصارِ فَبَعَثَ . . . سَهلَ بنَ حُنَيفٍ عَلَى الشّامِ ، فَأَمّا سَهلٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ حَتّى إذا كانَ بِتَبوكَ (2) لَقِيَتهُ خَيلٌ ، فَقالوا : مَن أنتَ ؟ قالَ : أميرٌ . قالوا : عَلى أيِّ شَيءٍ ؟ قالَ : عَلَى الشّامِ ، قالوا : إن كانَ عُثمانُ بَعَثَكَ فَحَيَّهَلاً بِكَ ، وإن كانَ بَعَثَكَ غَيرُهُ فَارجِع ! قالَ : أوَما سَمِعتُم بِالَّذي كانَ ؟ قالوا : بَلى ؛ فَرَجَعَ إلى عَلِيٍّ (3) .
3 / 6إشخاصُ جَريرِ بنِ عَبدِ اللّهِ إلى مُعاوِيَةَتاريخ الطبري :وَجَّهَ عَلِيٌّ عِندَ مُنصَرَفِهِ مِنَ البَصرَةِ إلَى الكوفَةِ وفَراغِهِ مِنَ الجَمَلِ جَريرَ بنَ عَبدِ اللّهِ البَجَلِيَّ إلى مُعاوِيَةَ يَدعوهُ إلى بَيعَتِهِ ، وكانَ جَريرٌ حينَ خَرَجَ عَلِيٌّ إلَى البَصرَةِ لِقِتالِ مَن قاتَلَهُ بِها بِهَمَذانَ عامِلاً عَلَيها كانَ عُثمانُ استَعمَلَهُ عَلَيها ، وكانَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ عَلى آذَربَيجانَ عامِلاً عَلَيها كانَ عُثمانُ استَعمَلَهُ عَلَيها ، فَلَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ الكوفَةَ مُنصَرِفا إلَيها من البَصرَةِ كَتَبَ إلَيهِما يَأمُرهُما بِأَخذِ البَيعَةِ لَهُ عَلى مَن قِبَلِهِما مِنَ النّاسِ وَالاِنصِرافِ إلَيهِ . فَفَعَلا ذلِكَ ، وَانصَرَفا إلَيهِ . فَلَمّا أرادَ عَلِيٌّ تَوجيهَ الرَّسولِ إلى مُعاوِيَةَ ، قالَ جَريرُ بنُ عَبدِ اللّهِ : . . . ابعَثني إلَيهِ فَإِنَّهُ لي وِدٌّ حَتّى آتِيَهُ فَأَدعوَهُ إلَى الدُّخولِ في طاعَتِكَ ، فَقالَ الأَشتَرُ لِعَلِيٍّ : لا تَبعَثهُ ، فَوَاللّهِ إنّي لَأَظُنُّ هَواهُ مَعَهُ . فَقالَ عَلِيٌّ : دَعهُ حَتّى نَنظُرَ مَا الَّذي يَرجِعُ بِهِ إلَينا .
.
ص: 330
فَبَعَثَهُ إلَيهِ وكَتَبَ مَعَهُ كِتابا يُعلِمُهُ فيهِ بِاجتِماعِ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ عَلى بَيعَتِهِ ، ونَكثِ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ وما كانَ مِن حَربِهِ إيّاهُما ، ويَدعوهُ إلى الدُّخولِ فيما دَخَلَ فيهِ المُهاجِرونَ وَالأَنصارُ مِن طاعَتِهِ ، فَشَخَصَ إلَيهِ جَريرٌ ، فَلَمّا قَدِمَ عَلَيهِ ماطَلَهُ وَاستَنظَرَهُ ، ودَعا عَمرا فَاستَشارَهُ فيما كَتَبَ بِهِ إلَيهِ ، فَأَشارَ عَلَيهِ أن يُرسِلَ إلى وُجوهِ الشّامِ ، ويُلزِمَ عَلِيّا دَمَ عُثمانَ ، ويُقاتِلَهُ بِهِم ، فَفَعَلَ ذلِكَ مُعاوِيَةُ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ عليه السلام إلى مُعاوِيَةَ _: بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ . أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ بَيعَتي بِالمَدينَةِ لَزِمَتكَ وأنتَ بِالشّامِ ؛ لِأَنَّهُ بايَعَنِي القَومُ الَّذينَ بايَعوا أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ عَلى ما بويِعوا عَلَيهِ ، فَلَم يَكُن لِلشّاهِدِ أن يَختارَ ، ولا لِلغائِبِ أن يَرُدَّ ، وإنَّمَا الشّورى لِلمُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، فَإِذَا اجتَمَعوا عَلى رَجُلٍ فَسَمَّوهُ إماما ، كانَ ذلِكَ للّهِِ رِضاً ، فَإِن خَرَجَ مِن أمرِهِم خارِجٌ بِطَعنٍ أو رَغبَةٍ رَدّوهُ إلى ما خَرَجَ مِنهُ ، فَإِن أبى قاتَلوهُ عَلَى اتِّباعِهِ غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ ، وَوَلّاهُ اللّهُ ما تَوَلّى ويُصليهِ جَهَنَّمَ وساءَت مَصيرا . وإنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ بايَعاني ، ثُمَّ نَقَضا بَيعَتي ، وكانَ نَقضُهُما كَرَدِّهِما ، فَجاهَدتُهُما عَلى ذلِكَ حَتّى جاءَ الحَقُّ وظَهَرَ أمرُ اللّهِ وهُم كارِهونَ . فَادخُل فيما دَخَلَ فيهِ المُسلِمونَ ؛ فَإِنَّ أحَبَّ الاُمورِ إلَيَّ فيكَ العافِيةُ ، إلّا أن تَتَعَرَّضَ لِلبَلاءِ ، فَإِن تَعَرَّضتَ لَهُ قاتَلتُكَ وَاستَعَنتُ اللّهَ عَلَيكَ . وقَد أكثَرتَ في قَتَلَةِ عُثمانَ فَادخُل فيما دَخَلَ فيهِ المُسلِمونَ ، ثُمَّ حاكِمِ القَومَ إلَيَّ أحمِلكَ وإيّاهُم عَلى كِتابِ اللّهِ . فَأَمّا تِلكَ الَّتي تُريدُها فَخُدعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ ، ولَعَمري لَئِن نَظَرتَ بِعَقلِكَ دونَ هَواكَ لَتَجِدَنّي أبرَأَ قُرَيشٍ مِن دَمِ عُثمانَ .
.
ص: 331
وَاعلَم أنَّكَ مِنَ الطُّلَقاءِ الَّذينَ لا تَحِلُّ لَهُمُ الخِلافَةُ ، ولا تَعرِضُ فِيهِمُ الشّورى ، وقَد أرسَلتُ إلَيكَ وإلى مَن قِبَلَكَ : جَريرَ بنَ عَبدِ اللّهِ ؛ وهُوَ مِن أهلِ الإيمانِ وَالهِجرَةِ ، فَبايِع ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ (1) .
راجع : نهج البلاغة : الكتاب 6 و 37 .
3 / 7مُعاوِيَةُ يُبَدِّدُ الوَقتَ استِعداداً لِلحَربِوقعة صفّين عن الجرجاني :كانَ مُعاوِيَةُ أتى جَريرا في مَنزِلِهِ فَقالَ : يا جَريرُ !إنّي قَد رَأَيتُ رَأيا . قالَ : هاتِهِ . قالَ : اُكتُب إلى صاحِبِكَ يَجعَلُ لِيَ الشّامَ ومِصرَ جِبايَةً ، فإذا حَضَرَتهُ الوَفاةُ لَم يَجعَل لِأَحَدٍ بَعدَهُ بَيعَةً في عُنُقي ، واُسَلِّمُ لَهُ هذَا الأَمرَ ، وأكتُبُ إلَيهِ بِالخِلافَةِ . فَقالَ جَريرٌ : اُكتُب بِما أرَدتَ ، وأكتُبُ مَعَكَ . فَكَتَبَ مُعاوِيَةُ بِذلِكَ إلى عَلِيٍّ . فَكَتَبَ عَلِيٌّ إلى جَريرٍ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّما أرادَ مُعاوِيَةُ ألّا يَكونَ لي في عُنُقِهِ بَيعَةٌ ، وأن يَختارَ مِن أمرِهِ ما أحَبَّ ، وأرادَ أن يُريثَكَ حَتّى يَذوقَ أهلَ الشّامِ . وإنَّ المُغيرَةَ بنَ شُعبَةَ قَد كانَ أشارَ عَلَيَّ أن أستَعمِلَ مُعاوِيَةَ عَلَى الشّامِ وأنَا بِالمَدينَةِ ، فَأَبَيتُ ذلِكَ عَلَيهِ . ولَم يَكُنِ اللّهُ لِيَراني أتَّخِذُ المُضِلّينَ عَضُدا ، فَإِن بايَعَكَ الرَّجُلُ ، وإلّا فَأَقبِل (2) .
.
ص: 332
3 / 8أصحاب الإِمامِ يُشيرونَ عَلَيهِ بِالاِستِعدادِ لِلحَربِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ وقَد أشارَ عَلَيهِ أصحابُهُ بِالِاستعدادِ لِلحَربِ بَعدَ إرسالِهِ جَريرَ بنَ عَبدِ اللّهِ البَجَليَّ إلى مُعاوِيَةَ _: إنَّ استِعدادي لِحَربِ أهلِ الشّامِ وجَريرٌ عِندَهُم إغلاقٌ لِلشّامِ وصَرفٌ لِأَهلِهِ عَن خَيرٍ إن أرادوهُ . ولكِن قَد وَقَّتُّ لِجرَيرٍ وَقتاً لا يُقيمُ بَعدَهُ إلّا مَخدوعاً أو عاصِياً . وَالرَّأيُ عِندي مَعَ الأَناةِ ، فَأَروِدوا (1) ولا أكرَهُ لَكُمُ الإِعدادَ . ولَقَد ضَرَبتُ أنفَ هذَا الأَمرِ وعَينَهُ ، وقَلَّبتُ ظَهرَهُ وبَطنَهُ ، فَلَم أرَ لي فيهِ إلَا القِتالَ أوِ الكُفرَ بِما جاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله . إنَّهُ قَد كانَ عَلَى الاُمَّةِ والٍ أحدَثَ أحداثاً وأوجَدَ النّاسَ مَقالاً ، فَقالوا ثُمَّ نَقَموا فَغَيَّروا (2) .
تاريخ دمشق عن الكلبي :كانَ عَلِيٌّ استَشارَ النّاسَ ، فَأَشاروا عَلَيهِ بِالقِيامِ بِالكوفَةِ غَيرَ الأَشتَرِ ، وعَدِيِّ بنِ حاتِمٍ ، وشُرَيحِ بنِ هانِئِ الحارِثِيِّ ، وهانِئِ بنِ عُروَةَ المُرادِيِّ ، فَاءِنَّهُم قالوا لِعَلِيٍّ : إنَّ الَّذينَ أشاروا عَلَيكَ بِالمَقامِ بِالكوفَةِ إنَّما خَوَّفوكَ حَربَ الشّامِ ، ولَيسَ في حَربِهِم شَيءٌ أخوَفُ مِنَ المَوتِ ، وإيّاهُ نُريدُ . فَدَعا عَلِيٌّ الأَشتَرَ وعَدِيّاً وشُرَيحاً وهانِئاً فَقالَ : إنَّ استِعدادي لِحَربِ الشّامِ وجَريرُ بنُ عَبدِ اللّهِ عِندَ القَومِ صَرفٌ لَهُم عَن غَيٍّ إن أرادوهُ ، ولكِنّي قَد أرسَلتُ رَسولاً ، فَوَقَّتُّ لِرَسولي وَقتاً لا يُقيمُ بَعدَهُ ، وَالرَّأيُ مَعَ الأَناةِ فَاتَّئِدوا ولا أكرَهُ لَكُمُ الإِعذارَ (3) .
.
ص: 333
3 / 9اِستِعدادُ الإِمامِ لِحَربِ مُعاوِيَةَ قَبلَ حَربِ الجَمَلِتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :اِستَأذَنَ طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ عَلِيّا فِي العُمرَةِ فَأَذِنَ لَهُما فَلَحِقا بِمَكَّةَ وأَحَبَّ أهلُ المَدينَةِ أن يَعلَموا ما رَأيُ عَلِيٍّ في مُعاوِيَةَ وَانتِقاضِهِ ، لِيَعرِفوا بِذلِكَ رَأيَهُ في قِتال أهلِ القِبلَةِ أ يَجسُرُ عَلَيهِ أو يَنكُلُ عَنهُ . . . . فَدَسّوا إلَيهِ زِيادَ بنَ حنَظَلَةَ التَّميمِيَّ _ وكانَ مُنقَطِعاً إلى عَلِيٍّ _ فَدَخَلَ عَلَيهِ فَجَلَسَ إلَيهِ ساعَةً ثُمَّ قالَ لَهُ عَلِيٌّ : يا زيادُ تَيَسَّر . فَقالَ : لِأَيِّ شَيءٍ ؟ فَقالَ : تَغزُو الشّامَ . فَقالَ زِيادٌ : الأَناةُ وَالرِّفقُ أمثَلُ . فَقالَ : ومَن لا يُصانِع في اُمورِ كَثيرَةِ يُضَرَّس بِأَنيابٍ ويوطَأ بِمَنسِمِ فَتَمَثَّلَ عَلِيٌّ وكَأَنَّهُ لا يُرِيدُهُ : مَتى تَجمَعِ القَلبَ الذَّكِيَّ وصارِماً وأنفاً حَمِيّاً تَجتَنِبكَ المَظالِمُ فَخَرَجَ زِيادٌ عَلَى النّاسِ وَالنّاسُ يَنتَظِرونَهُ فَقالوا : ما وَراؤَكَ ؟ فَقالَ : السَّيفُ ياقومُ ، فَعَرَفوا ما هُوَ فاعِلٌ . ودَعا عَلِيٌّ مُحَمَّدَ ابنَ الحَنَفِيَّةِ فَدَفَعَ إلَيهِ اللِّواءَ ، ووَلّى عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ مَيمَنَتَهُ ، وعُمَرُ بنُ أبي سَلَمَةَ _ أو عَمرُو بنُ سُفيانَ بنِ عَبدِ الأَسَدِ _ وَلّاهُ مَيسَرَتَهُ ، ودَعا أبا لَيلَى بنَ عُمَرَ بنِ الجَرّاحِ ابنَ أخي أبي عُبَيدَةَ بنِ الجَرّاحِ فَجَعَلَهُ عَلى مُقَدِّمَتِهِ ، وَاستَخلَفَ عَلَى المَدينَةِ قُثَمَ بنَ عَبّاسٍ ، ولَم يُوَلِّ مِمَّن خَرَجَ عَلى عُثمانَ أحَداً ، وكَتَبَ إلى قَيسِ بنِ سَعدٍ أن يَندُبَ النّاسَ إلَى الشّامِ ، وإلى عُثمانَ بنِ حُنَيفٍ وإلى أبي موسى مثلَ ذلِكَ ، وأقبَلَ عَلَى التَّهَيُّؤِ وَالتَّجَهُّزِ ، وخَطَبَ أهلَ المَدينَةِ فَدَعاهُم إلَى
.
ص: 334
النُّهوضِ في قِتالِ أهلِ الفُرقَةِ وقالَ : إنَّ اللّهَ عَزَّوجَلَّ بَعَثَ رَسولاً هادِياً مَهدِيّاً بِكِتابٍ ناطِقٍ وأمَرٍ قائِمٍ واضِحٍ لا يَهلِكُ عَنهُ إلّا هالِكٌ ، وإنَّ المُبتَدَعاتِ وَالشُّبُهاتِ هُنَّ المُهلِكاتُ إلّا مَن حَفِظَ اللّهُ ، وإنَّ في سُلطانِ اللّهِ عِصمَةَ أمرِكُم ، فَأَعطوهُ طاعَتَكُم غَيرَ مَلوِيَّةٍ ولا مُستَكرَهٍ بِها ، وَاللّهِ لتَفعَلُنَّ أو لَيَنَقَلَنَّ اللّهُ عَنكُم سُلطانَ الإِسلامِ ثُمَّ لا يَنقُلُهُ إلَيكم أبَداً حَتّى يَأرِزَ الأَمرُ إلَيها ، اِنهَضوا إلى هؤُلاءِ القَومِ الَّذينَ يُريدونَ يُفَرِّقونَ جَماعَتَكُم ، لَعَلَّ اللّهَ يُصلِحُ بِكُم ما أفسَدَ أهلُ الآفاقِ وتَقضونَ الَّذي عَلَيكُم . فَبَينا هُم كَذلِكَ إذ جاءَ الخَبَرُ عَن أهلِ مَكَّةَ بِنَحوٍ آخَرَ وتَمامٍ عَلى خِلافٍ ، فَقامَ فيهِم بِذلِكَ فَقالَ : إنَّ اللّهَ عَزَّوجَلَّ جَعَلَ لِظالِمِ هذِهِ الأُمَّةِ العَفوَ وَالمَغفِرَةَ ، وجَعَلَ لِمَن لَزِمَ الأَمرَ وَاستَقامَ الفَوزَ وَالنَّجاةَ ، فَمَن لَم يَسَعهُ الحَقُّ أخَذَ بِالباطِلِ ، ألا وإنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ واُمَّ المُؤمِنينَ قَد تَمالَؤوا عَلى سُخطِ إمارَتي ، ودَعَوُا النّاسَ إلَى الإِصلاحِ ، وسَأَصبِرُ ما لَم أخَف عَلى جَماعَتِكُم ، وأكُفُّ إن كَفّوا ، وأقتَصِرُ عَلى ما بَلَغَني عَنهُم . ثُمَّ أتاهُ أنَّهُم يُريدونَ البَصرَةَ لِمُشاهَدَةِ النّاسِ وِالإِصلاحِ ، فَتَعَبّى لِلخُروجِ إلَيهِم وقالَ : إن فَعَلوا هذا فَقَدِ انقَطَعَ نِظامُ المُسلِمينَ ، وما كانَ عَلَيهِم فِي المُقامِ فينا مَؤونَةٌ ولا إكراهٌ . فَاشتَدَّ عَلى أهلِ المَدينَةِ الأَمرُ فَتَثاقَلوا (1) .
.
ص: 335
الفصل الرابع : حرب الدعاية4 / 1كِتابُ الإِمامِ إلى مُعاوِيَةَ يَعِظُهُ فيهِشرح نهج البلاغة_ في ذِكرِ بَعضِ ما دارَ بَينَ عَلِيٍّ عليه السلام ومُعاوِيَةَ مِنَ الكُتُبِ ، وأوَّلُ هذَا الكِتابِ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ الدُّنيا دارُ تِجارَةٍ ، ورِبحُها أو خُسرُهَا الآخِرَةُ ؛ فَالسَّعيدُ مَن كانَت بِضاعَتُهُ فيهَا الأَعمالَ الصّالِحَةَ ، ومَن رَأَى الدُّنيا بِعَينِها وقَدَّرَها بِقَدرِها . وإنّي لَأَعِظُكَ مَعَ عِلمي بِسابِقِ العِلمِ فيكَ مِمّا لا مَرَدَّ لَهُ دونَ نَفاذِهِ ؛ ولكِنَّ اللّهَ تَعالى أخَذَ عَلَى العُلَماءِ أن يُؤَدُّوا الأَمانَةَ وأن يَنصَحُوا الغَوِيَّ وَالرَّشيدَ ، فَاتَّقِ اللّهَ ولا تَكُن مِمَّن لا يَرجو للّهِِ وَقاراً ، ومَن حَقَّت عَلَيهِ كَلِمَةُ العَذابِ فَإِنَّ اللّهَ بِالمِرصادِ . وإنَّ دُنياكَ سَتُدبِرُ عَنكَ وسَتَعودُ حَسرَةً عَليكَ ، فَأَقلِع عَمّا أنتَ عَلَيهِ مِنَ الغَيِّ وَالضَّلالِ عَلى كِبَرِ سِنِّكَ وفَناءِ عُمُرِكَ ؛ فَإِنَّ حالَكَ اليَومَ كَحالِ الثَّوبِ المَهيلِ الَّذي لا يَصلُحُ مِن جانِبٍ إلّا فَسَدَ مِن آخَرَ ، وأردَيتَ جيلاً مِنَ النّاسِ كَثيراً خَدَعتَهُم بِغَيِّكَ ، وألقَيتَهُم في مَوجِ بَحرِكَ تَغشاهُمُ الظُّلُماتُ وتَتَلاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهاتُ ، فَجاروا عَن وِجهَتِهِم ، ونَكَصوا عَلى أعقابِهِم ، وتَوَلَّوا عَلى أدبارِهِم ، وعَوَّلوا عَلى أحسابِهِم ، إلّا مَن فاءَ مِن أهلِ البَصائِر
.
ص: 336
فَإِنَّهُم فارَقوكَ بَعدَ مَعرِفَتِكَ ، وهَرَبوا إلَى اللّهِ مِن مُوازَرَتِكَ إذ حَمَلتَهُم عَلَى الصَّعبِ وعَدَلتَ بِهِم عَنِ القَصدِ . فَاتَّقِ اللّهَ يا مُعاوِيَةُ في نَفسِكَ ، وجاذِبِ الشَّيطانَ قِيادَكَ ، فَإِنَّ الدُّنيا مُنقَطِعَةٌ عَنكَ وَالآخِرَةَ قَريبَةٌ مِنكَ ، وَالسَّلامُ (1) .
4 / 2جَوابُهُ بِكُلِّ وَقاحَةٍشرح نهج البلاغة عن أبيالحسن علي بن محمّد المدائني :فَكَتَبَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ : مِن مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد وَقَفتُ عَلى كِتابِكَ ، وقَد أبَيتَ عَلَى الفِتَنِ إلّا تَمادِياً ، وإنّي لَعالِمٌ أنَّ الَّذي يَدعوكَ إلى ذلِكَ مَصرَعُكَ الَّذي لا بُدَّ لَكَ مِنهُ ، وإن كُنتَ مُوائِلاً فَازدَد غَيّاً إلى غَيِّكَ ، فَطالَما خَفَّ عَقلُكَ ، ومَنَّيتَ نَفسَكَ ما لَيس لَكَ ، وَالتَوَيتَ عَلى مَن هُوَ خَيرٌ مِنكَ ، ثُمَّ كانَتِ العاقِبَةُ لِغَيرِكَ ، وَاحتَمَلتَ الوِزرَ بِما أحاطَ بِكَ مِن خَطيئَتِكَ ، وَالسَّلامُ (2) .
4 / 3كِتابُ الإِمامِ إلَيهِ يُحَذِّرُهُ مِنَ الحَربِشرح نهج البلاغة عن المدائني :فَكَتَبَ عَلِيٌّ عليه السلام إلَيهِ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ ما أتَيتَ بِهِ مِن ضَلالِكَ لَيسَ بِبَعيدِ الشَّبَهِ مِمّا أتى بِهِ أهلُكَ وقَومُكَ الَّذينَ حَمَلَهُمُ الكُفرُ وتَمَنِّى الأَباطيلِ عَلى حَسَدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله حَتّى صُرِعوا مَصارِعَهُم
.
ص: 337
حَيثُ عَلِمتَ ؛ لَم يَمنَعوا حَريماً ولَم يَدفَعوا عَظيماً ، وأنَا صاحِبُهُم في تِلكَ المَواطِنِ ، الصّالي بِحَربِهِم ، وَالفالُّ لِحَدِّهِم ، وَالقاتِلُ لِرُؤوسِهِم ورُؤوسِ الضَّلالَةِ ، والمُتبِعُ إن شاءَ اللّهُ خَلَفَهُم بِسَلَفِهِم ، فَبِئسَ الخَلَفُ خَلَفٌ أتبَعَ سَلَفاً مَحَلُّهُ ومَحَطُّهُ النّارُ ، وَالسَّلامُ (1) .
4 / 4جَوابُهُ بِكُلِّ وَقاحَةٍشرح نهج البلاغة عن المدائني :فَكَتَبَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد طالَ فِي الغَيِّ مَا استَمرَرتَ أدراجَكَ ، كَما طالَما تَمادى عَنِ الحَربِ نُكوصُكَ وإبطاؤُكَ ، فَتوعِدُ وَعيدَ الأَسَدِ وتَروغُ رَوَغانَ الثَّعلَبِ ، فَحَتّامَ تَحيدُ عَن لِقاءِ مُباشَرَةِ اللُّيوثِ الضّارِيَةِ وَالأَفاعِي القاتِلَةِ ، ولا تَستَبعِدَنَّها فَكُلُّ ما هُوَ آتٍ قَريبٌ إن شاءَ اللّهُ ، وَالسَّلامُ (2) .
4 / 5كِتابُ الإِمامِ إلَيهِ يُخبِرُ فيهِ بِما سَيَقَعُ فِي الحَربِشرح نهج البلاغة عن المدائني :فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِيٌّ عليه السلام : أمّا بَعدُ ؛ فَما أعجَبَ ما يَأتيني مِنكَ ، وما أعلَمَني بِما أنتَ الَيهِ صائِرٌ ! ولَيسَ إبطائي عَنكَ إلّا تَرَقُّبا لِما أنتَ لَهُ مُكَذِّبٌ وأنَا بِهِ مُصَدِّقٌ ، وكَأَنّي بِكَ غَداً وأنتَ تَضِجُّ مِنَ الحَربِ ضَجيجَ الجِمالِ مِنَ الأَثقالِ ، وسَتَدعوني أنتَ وأصحابُكَ إلى كِتاب
.
ص: 338
تُعَظِّمونَهُ بِأَلسِنَتِكُم وتَجحَدونَهُ بِقُلوبِكُم ، وَالسّلامُ (1) .
4 / 6جَوابُهُ بِكُلِّ وَقاحَةٍشرح نهج البلاغة عن المدائني :فَكَتَبَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ : أمّا بَعدُ ؛ فَدَعني مِن أساطيرِكَ وَاكفُف عَنّي مِن أحاديثِكَ ، وَاقصُر عَن تَقَوُّلِكَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَافتِرائِكَ مِنَ الكَذِبِ ما لَم يَقُل ، وغُرورِ مَن مَعَكَ وَالخِداعِ لَهُم فَقَدِ استَغوَيتَهُم ، ويوشِكُ أمرُكَ أن يَنكَشِفَ لَهُم فَيَعتَزِلوكَ ويَعلَموا أنَّ ما جِئتَ بِهِ باطِلٌ مُضمَحِلٌّ ، وَالسَّلامُ (2) .
4 / 7كِتابُ الإِمامِ إلَيهِ يُخبِرُ فيهِ بِمَصيرِهِشرح نهج البلاغة عن المدائني :فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِيٌّ عليه السلام : أمّا بَعدُ ؛ فَطالَما دَعَوتَ أنتَ وأولِياؤُكَ أولِياءُ الشَّيطانِ الرَّجيمِ الحَقَّ أساطيرَ الأَوَّلينَ ، ونَبَذتُموهُ وَراءَ ظُهورِكُم ، وجَهَدتُم بِإِطفاءِ نَورِ اللّهِ بِأَيديكُم وأفواهِكُم ، وَاللّهُ مُتِمُّ نورِهِ ولَو كَرِهَ الكافِرونَ . ولَعَمري لَيُتِمَّنَّ النّورَ عَلى كُرهِكَ ، ولَيُنفِذَنَّ العِلمَ بِصِغارِكَ ، ولَتُجازَيَنَّ بِعَمَلِكَ ، فَعِث في دُنياكَ المُنُقَطِعَةِ عَنكَ ما طابَ لَكَ ؛ فَكَأَنَّكَ بِباطِلِكَ وقَدِ انقَضى وبِعَمَلِكَ وقَد هَوى (3) ثُمَّ تَصيرُ إلى لَظىً ، لَم يَظلِمكَ اللّهُ شَيئاً ، وما
.
ص: 339
رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلعَبيدِ (1) .
4 / 8جَوابُهُ بِكُلِّ وَقاحَةٍ يَدعُو الإِمامَ لِلتَّشميرِ لِلحَربِشرح نهج البلاغة عن المدائني :فَكَتَبَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ : أمّا بَعدُ ؛ فَما أعظَمَ الرَّينَ عَلى قَلبِكَ وَالغِطاءَ عَلى بَصَرِكَ ! الشَّرَهُ مِن شيمَتِكَ وَالحَسَدُ مِن خَليقَتِكَ ، فَشَمِّر لِلحَربِ وَاصبِر لِلضَّربِ ، فَوَاللّهِ ، لَيَرِجِعَنَّ الأَمرُ إلى ما عَلِمتَ ، وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ . هَيهاتَ هَيهاتَ ! أخطَأَكَ ما تَمَنّى ، وهَوى قَلبُكَ مَعَ مَن هَوى ، فَاربَع عَلى ظَلعِكَ ، وقِس شِبرَكَ بِفِترِكَ ؛ لِتَعلَمَ أينَ حالُكَ مِن حالِ مَن يَزِنُ الجِبالَ حِلمُهُ ، ويَفصِلُ بَينَ أهلِ الشَّكِ عِلمُهُ ، وَالسَّلامُ (2) .
4 / 9كَيدُ مُعاوِيَةَ في حَربِ الدِّعايَةِشرح نهج البلاغة عن النقيب أبي جعفر :كانَ مُعاوِيَةُ يَتَسَقَّطُ عَلِيّاً ويَنعى عَلَيهِ ما عَساهُ يَذكُرُهُ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وأنَّهُما غَصَباهُ حَقَّهَ ، ولا يَزالُ يَكيدُهُ بِالكِتابِ يَكتُبُهُ وَالرِّسالَةِ يَبعَثُها يَطلُبُ غِرَّتَهُ (3) ؛ لِيَنفُثَ بِما في صَدرِهِ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ إمّا مُكاتَبَةً أو مُراسَلَةً ، فَيَجعَلَ ذلِكَ حُجَّةً عَلَيهِ عِندَ أهلِ الشّامِ ، ويُضيفَهُ إلى ما قَرَّرَهُ في أنفُسِهِم مِن ذُنوبِهِ كَما زَعَمَ ، فَقَد كانَ غَمَصَهُ (4) عِندَهُم بِأَنَّهُ قَتَلَ عُثمانَ ومالا
.
ص: 340
عَلى قَتلِهِ ، وأنَّهُ قَتَلَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ وأسَرَ عائِشَةَ وأراقَ دِماءَ أهلِ البَصرَةِ ، وبَقِيَت خَصلَةٌ واحَدَةٌ وهُوَ أن يَثبُتَ عِندَهُم أنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِن أبي بَكرٍ وعُمَرَ ، ويَنسُبُهُما إلى الظُّلمِ ومُخالَفَةِ الرَّسولِ في أمرِ الخِلافَةِ ، وأنَّهُما وَثَبا عَلَيها غَلَبَةً وغَصَباهُ إيّاها . فَكانَت هذِهِ الطّامَّةُ الكُبرى لَيسَت مُقتَصِرَةً عَلى فَسادِ أهلِ الشّامِ عَلَيهِ ، بَل وأهلِ العِراقِ الَّذينَ هُم جُندُهُ وبِطانَتُهُ وأنصارُهُ ؛ لِأَنَّهُم كانوا يَعتَقِدونَ إمامَةَ الشَّيخَينِ إلَا القَليلَ الشّاذَّ مِن خَواصِّ الشّيعَةِ . فَلَمّا كَتَبَ ذلِكَ الكِتابَ مَعَ أبي مُسلِمٍ الخَولانِيِّ (1) قَصَدَ أن يُغضِبَ عَلِيّاً ويُحرِجَهُ ويُحوِجَهُ إذا قَرَأَ ذِكرَ أبي بَكرٍ وأنَّهُ أفضَلُ المُسلِمينَ إلى أن يَخلِطَ خَطَّهُ فِي الجَوابِ بِكَلِمَةٍ تَقتَضي طَعناً في أبي بَكرٍ ، فَكانَ الجَوابُ مُجَمجَماً غَيرَ بَيِّنٍ لَيسَ فيهِ تَصريحٌ بِالتَّظليمِ لَهُما ولَا التَّصريحُ بِبَراءَتِهِما وتارَةً يَتَرَحَّمُ عَلَيهِما وتارَةً يَقولُ : أخَذا حَقّي وقَد تَرَكتُهُ لَهُما . فَأَشارَ عَمرُو بنُ العاصِ عَلى مُعاوِيَةَ أن يَكتُبَ كِتاباً ثانِياً مُناسِباً لِلكِتابِ الأَوَّلِ ؛ لِيَستَفِزّا فيهِ عَلِيّاً عليه السلام ويَستَخِفّاهُ ، ويَحمِلَهُ الغَضَبُ مِنهُ أن يَكتُبَ كَلاماً يَتعََلَّقانِ بِهِ في تَقبيحِ حالِهِ وتَهجينِ مَذهَبِهِ . وقالَ لَهُ عَمرٌو : إنَّ عَلِيّاً عليه السلام رَجُلٌ نَزِقٌ تَيّاهٌ ، ومَا استَطعَمتَ مِنهُ الكَلامَ بِمِثلِ تَقريظِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ فَاكتُب . فَكَتَبَ كِتاباً أنفَذَهُ إلَيهِ مَعَ أبي اُمامَةَ الباهِلِيِّ وهُوَ مِنَ الصَّحابَةِ بَعدَ أن عَزَمَ عَلى بِعثَتِهِ مَعَ أبِي الدَّرداءِ ونُسخَةُ الكِتابِ : مِن عَبدِ اللّهِ مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ تَعالى جَدُّهُ ، اصطَفى مُحَمَّدا عليه السلام لِرِسالَتِهِ وَاختَصَّهُ بِوَحيِهِ وتَأدِيَةِ شَريعَتِهِ ، فَأَنقَذَ بِهِ مِنَ العَمايَةِ وهَدى بِهِ مِنَ الغَوايَةِ ، ثُمَّ قَبَضَهُ الَيهِ رَشيداً حَميدا
.
ص: 341
قَد بَلَّغَ الشَّرعَ ومَحَقَ الشِّركَ وأخمَدَ نارَ الإِفكِ ، فَأَحسَنَ اللّهُ جَزاءَهُ وضاعَفَ عَلَيهِ نِعَمَهُ وآلاءَهُ ، ثُمَّ إنَّ اللّهَ سُبحانَهُ اختَصَّ مُحَمَّدا عليه السلام بِأَصحابٍ أيَّدوهُ وآزَروهُ ونَصَروهُ ، وكانوا كَما قالَ اللّهُ سُبحانَهُ لَهُم : «أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ» (1) فَكانَ أفضَلَهُم مَرتَبَةً وأعلاهُم عِندَ اللّهِ وَالمُسلِمينَ مَنزِلَةً الخَليفَةُ الأَوَّلُ ، الَّذي جَمَعَ الكَلِمَةَ ولَمَّ الدَّعوَةَ وقاتَلَ أهلَ الرِّدَّةِ ، ثُمَّ الخَليفَةُ الثّاني الَّذي فَتَحَ الفُتوحَ ومَصَّرَ الأَمصارَ وأذَلَّ رِقابَ المُشرِكينَ ، ثُمَّ الخَليفَةُ الثّالِثُ المَظلومُ الَّذي نَشَرَ المِلَّةِ وطَبَّقَ الآفاقَ بِالكَلِمَةِ الحَنيفِيَّةِ . فَلَمَّا استَوثَقَ الإِسلامُ وضَرَبَ بِجِرانِهِ (2) عَدَوتَ عَلَيهِ فَبَغَيتَهُ الغَوائِلَ ونَصَبتَ لَهُ المَكايِدَ ، وضَرَبتَ لَهُ بَطنَ الأَمرِ وظَهرَهُ ودَسَستَ عَلَيهِ وأغرَيتَ بِهِ ، وقَعَدتَ حَيثُ استَنصَرَكَ عَن نَصرِهِ وسَأَلَكَ أن تُدرِكَهُ قَبلَ أن يُمَزَّقَ فَما أدرَكتَهُ ، وما يَومُ المُسلِمينَ مِنكَ بِواحِدٍ . لَقَد حَسَدتَ أبا بَكرٍ وَالتَوَيتَ عَلَيهِ ورُمتَ إفسادَ أمرِهِ ، وقَعَدتَ في بَيتِكَ ، وَاستَغوَيتَ عِصابَةً مِنَ النّاسِ حَتّى تَأَخَّروا عَن بَيعَتِهِ ، ثُمَّ كَرِهتَ خِلافَةَ عُمَرَ وحَسَدتَهُ وَاستَطَلتَ مُدَّتَهُ ، وسُرِرتَ بِقَتلِهِ وأظهَرتَ الشَّماتَةَ بِمُصابِهِ حَتّى إنَّكَ حاوَلتَ قَتلَ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ قاتِلَ أبيهِ ، ثُمَّ لَم تَكُن أشَدَّ مِنكَ حَسَدا لِابنِ عَمِّكَ عُثمانَ نَشَرتَ مَقابِحَهُ وطَوَيتَ مَحاسِنَهُ ، وطَعَنتَ في فِقهِهِ ثُمَّ في دينِهِ ثُمَّ في سيرَتِهِ ثُمَّ في عَقلِهِ ، وأغرَيتَ بِهِ السُّفَهاءَ مِن أصحابِكَ وشيعَتِكَ حَتّى قَتَلوهُ بِمَحضَرٍ مِنكَ لا تَدفَعُ عَنهُ بِلِسانٍ ولا يَدٍ ، وما مِن هؤُلاءِ إلّا مَن بَغَيتَ عَلَيهِ وتَلَكَّأتَ في بَيعَتِهِ حَتّى حُمِلتَ إلَيهِ قَهراً تُساقُ بِخَزائِمِ (3) الاِقتِسارِ كَما يُساقُ الفَحلُ المَخشوشُ ، ثُمَّ نَهَضت
.
ص: 342
الآنَ تَطلُبُ الخِلافَةَ ، وقَتَلَةُ عُثمانَ خُلَصاؤُكَ وسُجَراؤُكَ والمُحدِقونَ بِكَ ، وتِلكَ مِن أمانِيِّ النُّفوسِ وضَلالاتِ الأَهواءِ . فَدَعِ اللَّجاجَ وَالعَبَثَ جانِباً وَادفَع إلَينا قَتَلَةَ عُثمانَ ، وأَعِدِ الأَمرَ شورى بَينَ المُسلِمينَ لِيَتَّفِقوا عَلى مَن هُوَ للّهِِ رِضاً . فَلا بَيعَةَ لَكَ في أعناقِنا ولا طاعَةَ لَكَ عَلَينا ولا عُتبى لَكَ عِندَنا ، ولَيسَ لَكَ ولِأَصحابِكَ عِندي إلَا السَّيفُ ، وَالَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ لَأَطلُبَنَّ قَتَلَةَ عُثمانَ أينَ كانوا وحَيثُ كانوا حَتّى أقتُلَهُم أو تَلتَحِقَ روحي بِاللّهِ . فَأَمّا ما لا تَزالُ تَمُنُّ بِهِ مِن سابِقَتِكَ وجِهادِكَ فَإِنّي وَجَدتُ اللّهَ سُبحانَهُ يَقولُ : «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لَا تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَ_مَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْاءِيمَ_نِ إِن كُنتُمْ صَ_دِقِينَ» (1) ولَو نَظَرتَ في حالِ نَفسِكَ لَوَجَدتَها أشَدَّ الأَنفُسِ امتِناناً عَلَى اللّهِ بِعَمَلِها ، وإذا كانَ الاِمتِنانُ عَلَى السّائِلِ يُبطِلُ أجرَ الصَّدَقَةِ فَالاِمتِنانُ عَلَى اللّهِ يُبطِلُ أجرَ الجِهادِ ويَجعَلُهُ ك_َ «صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْ ءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَ_فِرِينَ» (2) . قالَ النَّقيبُ أبو جَعفَرٍ : فَلَمّا وَصَلَ هذَا الكِتابُ إلى عَلِيٍّ عليه السلام مَعَ أبي اُمامَةَ الباهِلِيِّ ، كَلَّمَ أبا اُمامَةَ بِنَحوٍ مِمّا كَلَّمَ بِهِ أبا مُسلِمٍ الخَولانِيَّ وكَتَبَ مَعَهُ هذَا الجَوابَ . قالَ النَّقيبُ : وفي كِتابِ مُعاوِيَةَ هذا ذِكرُ لَفظِ الجَمَلِ المَخشوشِ أوِ الفَحلِ المَخشوشِ ، لا فِي الكِتابِ الواصِلِ مَعَ أبي مُسلِمٍ ولَيسَ في ذلِكَ هذِهِ اللَّفظَةُ وإنَّما فيهِ : «حَسَدتَ الخُلَفاءَ وبَغَيتَ عَلَيهِم عَرَفنا ذلِكَ مِن نَظَرِكَ الشَّزرِ (3) وقَولِكَ الهُجرِ (4)
.
ص: 343
وتَنَفُّسِكَ الصُّعَداءَ وإبطائِكَ عَنِ الخُلَفاءِ» . قالَ : وإنَّما كَثيرٌ مِنَ النّاسِ لا يَعرِفونَ الكِتابَينِ ، وَالمَشهورُ عِندَهُم كِتابُ أبي مُسلِمٍ فَيَجعَلونَ هذِهِ اللَّفظَةَ فيهِ ، وَالصَّحيحُ أنَّها في كِتابِ أبي اُمامَةَ ، أ لا تَراها عادَت في جَوابِهِ ؟ ولَو كانَت في كتابِ أبي مُسلِمٍ لَعادَت في جَوابِهِ (1) .
4 / 10الأَجوِبَةُ الواعِيَةُ لِلإِمامِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ جَوابا ، وهُوَ مِن مَحاسِنِ الكُتُبِ _: أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أتاني كِتابُكَ تَذكُرُ فيهِ اصطِفاءَ اللّهِ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله لِدينِهِ وتَأييدَهُ إيّاهُ بِمَن أيَّدَهُ مِن أصحابِهِ ، فَلَقَد خَبَّأَ لَنَا الدَّهرُ مِنكَ عَجَباً ، إذ طَفِقتَ تَخبِرُنا بِبَلاءِ اللّهِ تَعالى عِندَنا ونِعمَتِهِ عَلَينا في نَبِيِّنا ، فَكُنتَ في ذلِكَ كَناقِلِ التَّمرِ إلَى هَجَرَ أو داعي مُسَدِّدِهِ إلَى النِّضالِ . وزَعَمتَ أنَّ أفضَلَ النّاسِ فِي الإِسلامِ فُلانٌ وفُلانٌ ، فَذَكَرتَ أمراً إن تَمَّ اعتَزَلَكَ كُلُّهُ ، وإن نَقَصَ لَم يَلحَقكَ ثَلمُهُ . وما أنتَ وَالفاضِلَ والمَفضولَ ، وَالسّائِسَ وَالمَسوسَ ؟ وما لِلطُّلَقاءِ وأبناءِ الطُّلَقاءِ والتَّمييزَ بَينَ المُهاجِرينَ الأَوَّلينَ ، وتَرتيبَ دَرَجاتِهِم ، وتَعريفَ طَبَقاتِهِم . هَيهاتَ لَقَد حَنَّ قِدحٌ لَيسَ مِنها ، وطَفِقَ يَحكُمُ فيها مَن عَلَيهِ الحُكمُ لَها . ألا تَربَعُ _ أيُّهَا الإِنسانُ _ عَلى ظَلعِكَ ، وتَعرِفُ قُصورَ ذَرعِكَ ؟ وتَتَأَخَّرُ حَيثُ أخَّرَكَ القَدَرُ ؟ فَما عَلَيكَ غَلَبَةُ المَغلوبِ ولا ظَفَرُ الظّافِرِ ، وإنَّكَ لَذَهَّابُ فِي التّيهِ ، رَوّاغٌ عَنِ القَصدِ .
.
ص: 344
ألا تَرى _ غَيرَ مُخبِرٍ لَكَ ولكِن بِنِعمَةِ اللّهِ اُحدِّثُ _ أنَّ قَوماً استُشهِدوا في سَبيلِ اللّهِ تَعالى مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ _ ولِكُلٍّ فَضلٌ _ حَتّى إذَا استُشهِدَ شَهيدُنا قيلَ : سَيِّدُ الشُّهَداءِ ، وخَصَّهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِسَبعينَ تَكبيرَةً عِندَ صَلاتِهِ عَلَيهِ . أ وَلا تَرى أنَّ قَوماً قُطِّعَت أيديهِم في سَبيلِ اللّهِ _ ولِكُلٍّ فَضلٌ _ حَتّى إذا فُعِلَ بِواحِدِنا ما فَعَلَ بِواحِدِهِم قيلَ : الطَّيّارُ فِي الجَنَّةِ وذُو الجَناحَينِ ، ولَولا ما نَهَى اللّهُ عَنهُ مِن تَزكِيَةِ المَرءِ نَفسَهُ لَذَكَرَ ذاكِرٌ فَضائِلَ جَمَّةً تَعرِفُها قُلوبُ المُؤمِنينَ ، ولا تَمُجُّها آذانُ السّامِعينَ ، فَدَع عَنكَ مَن مالَت بِهِ الرَّمِيَّةُ ؛ فَإِنّا صَنائِعُ رَبِّنا ، وَالنّاسُ بَعدُ صَنائِعُ لَنا . لَم يَمنَعنا قَديمُ عِزِّنا ولا عادِيُّ طَولِنا عَلى قَومِكَ أن خَلَطناكُم بِأَنفُسِنا ، فَنَكَحنا وأنكَحنا فِعلَ الأَكفاءِ ، ولَستُم هُناكُ . وأنّى يَكونُ ذلِكَ ومِنَّا النَّبِيُّ ومِنكُمُ المُكَذِّبُ ، ومِنّا أسَدُ اللّهِ ومِنكُم أسَدُ الأَحلافِ ، ومِنّا سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ ومِنكُم صِبيَةُ النّارِ ، ومِنّا خَيرُ نِساءِ العالَمينَ ومِنكُمُ حَمّالَةُ الحَطَبِ في كَثيرٍ مِمّا لَنا وعَلَيكُم ؛ فَإِسلامُنا قَد سُمِعَ ، وجاهِلِيَّتُنا لا تُدفَعُ ، وكِتابُ اللّهِ يَجمَعُ لَنا ما شَذَّ عَنّا وهُوَ قَولُهُ سُبحانَهُ وتَعالى : «وَأُوْلُواْ الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَ_بِ اللَّهِ» (1) وقَولُهُ تَعالى : «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَ هِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ_ذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ» (2) فَنَحنُ مَرَّةً أولى بِالقَرابَةِ ، وتارَةً أولى بِالطّاعَةِ . ولَمَّا احتَجَّ المُهاجِرونَ عَلَى الأَنصارِ يَومَ السَّقيفَةِ بِرَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله فَلَجوا عَلَيهِم ، فَإِن يَكُنِ الفَلَجُ بِهِ فَالحَقُّ لَنا دونَكُم ، وإن يَكُن بِغَيرِهِ فَالأَنصارُ عَلَى دَعواهُم . وزَعمَتَ أنّي لِكُلِّ الخُلَفاءِ حَسَدتُ وعَلى كُلِّهِم بَغَيتُ ، فَإِن يَكُن ذلِكَ كَذلِكَ فَلَيسَتِ الجِنايَةُ عَلَيكَ فَيَكونَ العُذرُ إلَيكَ : وتِلكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنكَ عارُها
.
ص: 345
وقُلتُ إنّي كُنتُ اُقادُ كَما يُقادُ الجَمَلُ المَخشوشُ حَتّى اُبايِعَ ، ولَعَمرُ اللّهِ لَقَد أرَدتَ أن تَذُمَّ فَمَدَحتَ ، وأن تَفضَحَ فَافتَضَحتَ ! وما عَلَى المُسلِمِ مِن غَضاضَةٍ في أن يَكونَ مَظلوماً ما لَم يَكُن شاكّاً في دينِهِ ، ولا مُرتاباً بِيَقينِهِ . وهذِهِ حُجَّتي إلى غَيرِكَ قَصدُها ، ولكِنّي أطلَقتُ لَكَ مَنها بِقَدرِ ما سَنَحَ مِن ذِكرِها . ثُمَّ ذَكَرتَ ما كانَ مِن أمري وأمرِ عُثمانَ فَلَكَ أن تُجابَ عَن هذِهِ لِرَحِمِكَ مِنهُ ، فَأَيُّنا كانَ أعدى لَه وأهدى إلى مَقاتِلِهِ . أ مَن بَذَلَ لَهُ نُصرَتَهُ فَاستَقعَدَهُ وَاستَكَفَّهُ ، أم مَنِ استَنصَرَهُ فَتَراخى عَنهُ وبَثَّ المَنونَ إلَيهِ حَتّى أتى قَدَرُهُ عَلَيهِ ؟ كَلّا وَاللّهِ لَ_ «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَ الْقَآئِلِينَ لِاءِخْوَ نِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَا قَلِيلاً» (1) وما كُنتُ لِأَعتَذِرَ مِن أنّي كُنتُ أنقِمُ عَلَيهِ أحداثاً ، فَإِن كانَ الذَّنبُ إلَيهِ إرشادي وهِدايَتي لَهُ فَرُبَّ مَلومٍ لا ذَنبَ لَهُ : وقَد يَستَفيدُ الظِّنَّةَ المُتَنَصِّحُ . وما أرَدتُ إلَا الإِصلاحَ ما استَطَعتُ وما تَوفيقي إلاّ بِاللّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وإلَيهِ اُنيبُ . وذَكَرتَ أنَّهُ لَيسَ لي ولِأَصحابي عَندَكَ إلَا السَّيفُ فَلَقَد أضحَكتَ بَعدَ استِعبارٍ ! مَتى ألفَيتَ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ عَنِ الأَعداءِ ناكِلينَ ، وبِالسَّيفِ مُخَوَّفينَ ؟ ! ف _ لَبِّث قَليلاً يَلحَقِ الهَيجا حَمَل فَسَيَطلُبُكَ مَن تَطلُبُ ، ويَقرُبُ مِنكَ ما تَستَبعِدُ ، وأنَا مُرقِلٌ نَحوَكَ في جَحفَلٍ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالتّابِعينَ لَهُم بِإِحسانٍ ، شَديدٍ زِحامُهُم ، ساطِعٍ قَتامُهُم ، مُتَسَربِلينَ سَرابيلَ المَوتِ ، أحَبُّ اللِّقاءِ إلَيهِم لِقاءُ رَبِّهِم ، وقَد صَحِبَتهُم ذُرِّيَّةٌ بَدرِيَّةٌ وسُيوفٌ هاشِمِيَّةٌ ، قَد عَرَفتَ مَواقِعَ نِصالِها في أخيكَ وخالِكَ وجَدِّكَ وأهلِكَ 2 «وَ مَا
.
ص: 346
هِىَ مِنَ الظَّ__لِمِينَ بِبَعِيدٍ» (1)2 .
4 / 11رَسائِلُ مُعاوِيَةَ إلَى الإِمامِ في دَمِ عُثمانِالكامل للمبرّد :كَتَبَ [مُعاوِيَةُ] إلى عَلِيٍّ رضى الله عنه : مِن مُعاوِيَةَ بنِ صَخرٍ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : أمّا بَعدُ ؛ فَلَعَمري لَو بايَعَكَ القَومُ الَّذينَ بايَعوكَ وأنتَ بَرِيءٌ مِن دَمِ عُثمانَ كُنتَ كَأَبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ ، ولكِنَّكَ أغرَيتَ بِعُثمانَ المُهاجِرينَ ، وخَذَّلتَ عَنهُ الأَنصارَ ، فَأَطاعَكَ الجاهِلُ ، وقَوِيَ بِكَ الضَّعيفُ . وقَد أبى أهلُ الشّامِ إلّا قِتالَكَ حَتّى تَدفَعَ إلَيهِم قَتَلَةَ عُثمانَ ، فَإِن فَعَلتَ كانَت شورى بَينَ المُسلِمينَ . ولَعَمري ما حُجَّتُكَ عَلَيَّ كَحُجَّتِكَ عَلى طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ، لِأَنَّهُما بايَعاكُ ولَم اُبايِعكَ . وما حُجَّتُكَ عَلى أهلِ الشّامِ كَحُجَّتِكَ عَلى أهلِ البَصرَةِ ؛ لِأَنَّ أهلَ البَصرَةِ أطاعوك
.
ص: 347
ولَم يُطِعكَ أهلُ الشّامِ . وأمّا شَرَفُكَ فِي الإِسلامِ وقَرابَتُكَ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ومَوضِعُكَ مِن قُرَيشٍ فَلَستُ أدفَعُهُ (1) .
وقعة صفّين عن أبي روق :(2) إنَّ أبا مُسلِمٍ الخَولانِيَّ قَدِمَ إلى مُعاوِيَةَ في اُناسٍ مِن قُرّاءِ أهلِ الشّامِ ، قَبلَ مَسيرِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام إلى صِفّينَ ، فَقالوا لَهُ : يا مُعاوِيَةُ عَلامَ تُقاتِلُ عَلِيّاً ، ولَيسَ لَكَ مِثلُ صُحبَتِهِ ولا هِجرَتِهِ ولا قَرابَتِهِ ولا سابِقَتِهِ ؟ قالَ لَهُم : ما اُقاتِلُ عَلِيّاً وأنَا أدَّعي أنَّ لي فِي الإِسلامِ مِثلَ صُحبَتِهِ ولا هِجرَتِهِ ولا قَرابَتِهِ ولا سابِقَتِهِ ، ولكِن خَبِّروني عَنكُم ؛ أ لَستُم تَعلَمونَ أنَّ عُثمانَ قُتِلَ مَظلوماً ؟ قالوا : بَلى . قالَ : فَليَدَع إلَينا قَتَلَتَهُ فَنَقتُلَهُم بِهِ ، ولا قِتالَ بَينَنا وبَينَهُ . قالوا : فَاكتُب إلَيهِ كِتاباً يَأتيهِ بِهِ بَعضُنا . فَكَتَبَ إلى عَلِيٍّ هذَا الكِتابَ مَعَ أبي مُسلِمٍ الخَولانِيِّ . . . . مِن مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : سَلامٌ عَلَيكَ ، فَإِنّي أحمَدُ إلَيكَ اللّهَ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ اصطَفى مُحَمَّدا بِعِلمِهِ ، وجَعَلَهُ الأَمينَ عَلى وَحيِهِ ، والرَّسولَ إلى خَلقِهِ ، وَاجتَبى لَهُ مِن المُسلِمينَ أعواناً أيَّدَهُ اللّهُ بِهِم ، فَكانوا في مَنازِلِهِم عِندَهُ عَلى قَدرِ فَضائِلِهِم فِي الإِسلامِ ؛ فَكانَ أفضَلَهُم في إسلامِهِ ، وأنصَحَهُم للّهِِ ولِرَسولِهِ الخَليفَةُ مِن بَعدِهِ ، وخَليفَةُ خَليفَتِهِ ، وَالثّالِثُ الخَليفَةُ المَظلومُ عُثمانَ ، فَكُلَّهُم حَسَدتَ ، وعَلى كُلِّهِم بَغَيتَ . عَرَفنا ذلِكَ في نَظَرِكَ الشَّزرِ ، وفي قَولِكَ الهُجرِ ، وفي تَنَفُّسِكَ الصُّعَداءَ ، وفي إبطائِكَ عَنِ الخُلَفاءِ ، تُقادُ إلى كُلٍّ مِنهُم كَما يُقادُ الفَحلُ المَخشُوشُ (3) حَتّى تُبايِع
.
ص: 348
وأنتَ كارِهٌ . ثُمَّ لَم تَكُن لِأَحَدٍ مِنهُم بِأَعظَمَ حَسَداً مِنكَ لِابنِ عَمِّكَ عُثمانَ ، وكانَ أحَقَّهُم ألّا تَفعَلَ بِهِ ذلِكَ في قَرابَتِهِ وصِهرِهِ ؛ فَقَطَعتَ رَحِمَهُ ، وقَبَّحتَ مَحاسِنَهُ ، وألَّبتَ النّاسَ عَلَيهِ ، وبَطَنتَ وظَهَرتَ ، حَتّى ضُرِبَت إلَيهِ آباطُ الإِبِلِ ، وقِيدَت إلَيهِ الخَيلُ العِرابُ ، وحُمِلَ عَلَيهِ السِّلاحُ في حَرَمِ رَسولِ اللّهِ ، فَقُتِلَ مَعَكَ فِي المَحَلَّةِ وأنتَ تَسمَعُ في دارِهِ الهائِعَةَ ، لا تَردَعُ الظَّنَّ وَالتُّهَمَةَ عَن نَفسِكَ فيهِ بِقَولٍ ولا فِعلٍ . فَاُقسِمُ صادِقاً أن لَو قُمتَ فيما كانَ مِن أمرِهِ مَقاماً واحِداً تُنَهنِهُ النّاسَ عَنهُ ما عَدَلَ بِكَ مَن قِبَلَنا مِنَ النّاسِ أحَداً ، ولَمَحا ذلِكَ عِندَهُم ما كانوا يَعرِفونَكَ بِهِ مِنَ المُجانَبَةِ لِعُثمانَ والبَغيِ عَلَيهِ . واُخرى أنتَ بِها عِندَ أنصارِ عُثمانَ ظَنينٌ (1) : إيواؤُكَ ؛ قَتَلَةُ عُثمانَ ، فَهُم عَضُدُكَ وأنصارُكَ ويَدُكَ وبِطانَتُكَ . وقَد ذُكِرَ لي أنَّكَ تَنَصَّلُ مِن دَمِهِ ، فَإِن كُنتَ صادِقاً فَأَمكِنّا مِن قَتَلَتِهِ نَقتُلَهُم بِهِ ، ونَحنُ أسرَعُ النّاسِ إلَيكَ . وإلّا فَإِنَّهُ فَلَيسَ لَكَ ولا لِأَصحابِكَ إلَا السَّيفُ . وَالَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ لَنَطلُبَنَّ قَتَلَةَ عُثمانَ فِي الجِبالِ وَالرِّمالِ ، وَالبَرِّ وَالبَحرِ ، حَتّى يَقتُلَهُمُ اللّهُ ، أو لَتَلحَقَنَّ أرواحُنا بِاللّهِ . وَالسَّلامُ (2) .
شرح نهج البلاغة_ في ذِكرِ كِتابٍ كَتَبَهُ مُعاوِيَةُ إلَى الإِمامِ عليه السلام _: مِن مُعاوِيَةَ ابنِ أبي سُفيان
.
ص: 349
إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّا بَني عَبدِ مَنافٍ لَم نَزَل نَنزِعُ مِن قَليبٍ واحِدٍ ، ونَجري في حَلبَةٍ واحِدَةٍ لَيسَ لِبَعضِنا عَلى بَعضٍ فَضلٌ ، ولا لِقائِمِنا عَلى قاعِدِنا فَخرٌ ، كَلِمَتُنا مُؤتَلِفَةٌ ، واُلفَتُنا جامُعَةٌ ، ودارُنا واحِدَةٌ ، يَجمَعُنا كَرَمُ العِرقِ ، ويَحوينا شَرَفُ النِّجارِ (1) ، ويَحنو قَوِيُّنا عَلى ضَعيفِنا ، ويُواسي غَنِيُّنا فَقيرَنا ، قَد خَلَصَت قُلوبُنا مِن وَغَلِ الحَسَدِ (2) ، وطَهُرَت أنفُسُنا مِن خُبثِ النِّيَّةِ . فَلَم نَزَل كَذلِكَ حَتّى كانَ مِنكَ ما كانَ مِنَ الإِدهانِ في أمرِ ابنِ عَمِّكَ والحَسَدِ لَهُ ونُصرَةِ النّاسِ عَلَيهِ ، حَتّى قُتِلَ بِمَشهَدٍ مِنكَ لا تَدفَعُ عَنهُ بِلِسانٍ ولا يَدٍ ، فَلَيتَكَ أظهَرتَ نَصرَهُ حَيثُ أسرَرتَ خَبَرَهُ (3) ، فَكُنتَ كَالمُتَعَلِّقِ بَينَ النّاسِ بِعُذرٍ وإن ضَعُفَ ، وَالمُتَبَرِّئِ مِن دَمِهِ بِدَفعٍ وإن وَهُنَ ولكِنَّكَ جَلَستَ في دارِكَ تَدُسُّ إلَيهِ الدَّواهِيَ ، وتُرسِلُ إلَيهِ الأَفاعِيَ ، حَتّى إذا قَضَيتَ وَطَرَكَ مِنهُ أظهَرتَ شَماتَةً ، وأبدَيتَ طَلاقَةً ، وحَسَرتَ لِلأَمرِ عَن ساعِدِكَ ، وشَمَّرتَ عَن ساقِكَ ، ودَعَوتَ النّاسَ إلى نَفسِكَ ، وأكرَهتَ أعيانَ المُسلِمينَ عَلى بَيعَتِكَ . ثُمَّ كانَ مِنكَ بَعدَ ما كانَ مِن قَتلِكَ شَيخَيِ المُسلِمينَ أبي مُحَمَّدٍ طَلحَةَ ، وأبي عَبدِ اللّهِ الزُّبَيرِ ، وهُما مِنَ المَوعودينَ بِالجَنَّةِ وَالمُبَشَّرِ قاتِلُ أحَدِهِما بِالنّارِ فِي الآخِرَةِ . هذا إلى تَشريدِكَ بِاُمِّ المُؤمِنينَ عائِشَةَ ، وإحلالِها مَحَلَّ الهونِ مُبتَذَلَةً بَينَ أيدِي الأَعرابِ وفَسَقَةِ أهلِ الكوفَةِ ، فَمِن بَينِ مُشهِرٍ لَها ، وبَينَ شامِتٍ بِها ، وبَينَ ساخِر
.
ص: 350
مِنها ، تَرى ابنَ عَمِّكَ كانَ بِهذِهِ لَو رَآهُ راضِياً أم كانَ يَكونُ عَلَيكَ ساخِطاً ، ولَكَ عَنهُ زاجِراً ! أن تُؤذِيَ أهلَهُ ، وتُشَرِّدَ بِحَليلَتِهِ ، وتَسفِكَ دِماءَ أهلِ مِلَّتِهِ . ثُمَّ تَركُكَ دارَ الهِجرَةِ الَّتي قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَنها : «إنَّ المَدينَةَ لَتَنفي خَبَثَها كَما يَنفِي الكيرُ خَبَثَ الحَديدِ» فَلَعَمري لَقَد صَحَّ وَعدُهُ ، وصَدَقَ قَولُهُ ، ولَقَد نَفَت خَبَثَها ، وطَرَدَت عَنها مَن لَيسَ بِأَهلٍ أن يَستَوطِنَها ، فَأَقَمتَ بَينَ المِصرَينِ ، وبَعُدتَ عَن بَرَكَةِ الحَرَمَينِ ، ورَضِيتَ بِالكوفَةِ بَدَلاً مِنَ المَدينَةِ ، وبِمُجاوَرَةِ الخَوَرنَقِ وَالحَيرَةِ عِوَضا عَن مُجاوَرَةِ خاتَمِ النُّبُوَّةِ ، ومِن قَبلِ ذلِكَ ما عِبتَ خَليفَتَي رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أيّامَ حَياتِهِما ، فَقَعَدتَ عَنهُما ، وألَّبتَ عَلَيهِما ، وَامتَنَعتَ مِن بَيعَتِهِما ، ورُمتَ أمراً لم يَرَكَ اللّهُ تَعالى لَهُ أهلاً ، ورَقيتَ سُلَّماً وَعراً وحاوَلتَ مَقاماً دَحضاً ، وَادَّعَيتَ ما لَم تَجِد عَلَيهِ ناصِرا ولَعَمري لَو وَليتَها حينَئِذٍ لَمَا ازدادَت إلّا فَساداً وَاضطِراباً ، ولا أعقَبَت وِلايَتُكَها إلَا انتِشارا وَارتِدادا ؛ لِأَنَّكَ الشّامِخُ بِأَنفِهِ ، الذّاهِبُ بِنَفسِهِ ، المُستَطيلُ عَلَى النّاسِ بِلِسانِهِ ويَدِهِ ، وها أنَا سائِرٌ إلَيكَ في جَمعٍ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ تَحُفُّهُم سُيوفٌ شامِيَّةٌ ، ورِماحٌ قَحطانِيَّةٌ ، حَتّى يُحاكِموكَ إلَى اللّهِ . فَانظُر لِنَفسِكَ ولِلمُسلِمينَ ، وَادفَع إلَيَّ قَتَلَةَ عُثمانَ ؛ فَإِنَّهُم خاصَّتُكَ وخُلَصاؤُكَ وَالمُحدِقونَ بِكَ ، فَإِن أبَيتَ إلّا سُلوكَ سَبيلِ اللَّجاجِ وَالإِصرارَ عَلَى الغَيِّ وَالضَّلالِ فَاعلَم أنَّ هذِهِ الآيَةَ إنَّما نَزَلَت فيكَ وفي أهلِ العِراقِ مَعَكَ : «وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَ_ئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَ قَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (1) . (2)
.
ص: 351
4 / 12أجوِبَةُ الإِمامِ عَنِ الرَّسائِلِ بِما لا مَزيدَ عَلَيهِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: مِن عَلِيٍّ إلى مُعاوِيَةَ بنِ صَخرٍ : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أتاني كِتابُ امرِئٍ لَيسَ لَهُ نَظَرٌ يَهديهِ ، ولا قائِدٌ يُرشِدُهُ ، دَعاهُ الهَوى فَأَجابَهُ ، وقادَهُ فَاتَّبَعَهُ . زَعَمتَ أنَّهُ أفسَدَ عَلَيكَ بَيعَتي خَطيئَتي في عُثمانَ . ولَعَمري ما كُنتُ إلّا رَجُلاً مِنَ المُهاجِرينَ ؛ اُورِدتُ كَما اُورِدوا ، واُصدِرتُ كَما اُصدِروا . وما كانَ اللّهُ لِيَجمَعَهُم عَلى ضَلالَةٍ ، ولا لِيَضرِبَهُم بِالعَمى ، وما أمَرتُ فَيَلزَمَني خَطيئَةُ الآمِرِ ، ولا قَتَلتُ فَيَجِبَ عَلَيَّ القِصاصُ . وأمّا قَولُكَ إنَّ أهلَ الشّامِ هُمُ الحُكّامُ عَلى أهلِ الحِجازِ ، فَهاتِ رَجُلاً مِن قُرَيشِ الشّامِ يُقبَلُ فِي الشّورى أو تَحِلُّ لَهُ الخِلافَةُ . فَإِن زَعَمتَ ذلِكَ كَذَّبَكَ المُهاجِرونَ وَالأَنصارُ ، وإلّا أتَيتُكَ بِهِ مِن قُرَيشِ الحِجازِ . وأمّا قَولُكَ : اِدفَع إلَينا قَتَلَةَ عُثمانَ ، فَما أنتَ وعُثمانَ ؟ إنَّما أنتَ رَجُلٌ مِن بَني اُمَيَّةَ ، وبَنو عُثمانَ أولى بِذلِكَ مِنكَ . فَإِن زَعَمتَ أنَّكَ أقوى عَلى دَمِ أبيهِم مِنهُم فَادخُل في طاعَتي ، ثُمَّ حاكِمِ القَومَ إلَيَّ أحمِلكَ وإيّاهُم عَلَى المَحَجَّةِ . وأمّا تَمييزُكَ بَينَ الشّامِ وَالبَصرَةِ وبَينَ طَلحَةَ وَالزُّبَيرِ فَلَعَمري مَا الأَمرُ فيما هُناكَ إلّا واحِدٌ ؛ لِأَنَّها بَيعَةٌ عامَّةٌ لا يُثَنّى فيهَا النَّظَرُ ، ولا يُستَأنَفُ فيهَا الخِيارُ . وأمّا وَلوعُكَ بي في أمرِ عُثمانَ فَما قُلتَ ذلِكَ عَن حَقِّ العِيانِ ، ولا يَقينِ الخُبرِ . وأمّا فَضلي فِي الإِسلامِ وقَرابَتي مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وشَرَفي في قُرَيشٍ فَلَعَمري لَوِ استَطَعتَ دَفعَ ذلِكَ لَدَفَعتَهُ (1) .
.
ص: 352
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ أخا خَولانَ قَدِمَ عَلَيَّ بِكِتابٍ مِنكَ تَذكُرُ فيهِ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ، وما أنعَمَ اللّهُ عَلَيهِ بِهِ مِنَ الهُدى وَالوَحيِ . وَالحَمدُ للّهِِ الَّذي صَدَقَهُ الوَعدَ ، وتَمَّمَ لَهُ النَّصرَ ، ومَكَّنَ لَهُ فِي البِلادِ ، وأظهَرَهُ عَلى أهلِ العِداءِ وَالشَّنَآنِ مِن قَومِهِ الَّذينَ وَثَبوا بِهِ ، وشَنِفوا لَهُ ، وأظهَروا لَهُ التَّكذيبَ ، وبارَزوهُ بِالعَداوَةِ ، وظاهَروا عَلى إخراجِهِ وعَلى إخراجِ أصحابِهِ وأهلِهِ ، وألَّبوا عَلَيهِ العَرَبَ ، وجامَعوهُم عَلى حَربِهِ ، وجَهَدوا في أمرِهِ كُلَّ الجَهدِ ، وقَلَّبوا لَهُ الاُمورَ حَتّى ظَهَرَ أمرُ اللّهِ وهُم كارِهونَ . وكانَ أشَدَّ النّاسِ عَلَيهِ ألبَةً اُسرَتُهُ ، وَالأَدنى فَالأَدنى مِن قَومِهِ إلّا مَن عَصَمَهُ اللّهُ . يَا بنَ هِندٍ ! فَلَقَد خَبَّأَ لَنَا الدَّهرُ مِنكَ عَجَباً ! ولَقَد قَدِمتَ فَأَفحَشتَ ؛ إذ طَفِقتَ تُخبِرُنا عَن بَلاءِ اللّهِ تَعالى في نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وفينا ، فَكُنتَ في ذلِكَ كَجالِبِ التَّمرِ إلى هَجَرَ ، أو كَداعي مُسَدِّدِهِ إلَى النِّضالِ . وذَكَرتَ أنَّ اللّهَ اجتَبى لَهُ مِنَ المُسلِمينَ أعواناً أيَّدَهُ اللّهُ بِهِم ، فَكانوا في مَنازِلِهِم عِندَهُ عَلى قَدرِ فَضائِلِهِم فِي الإِسلامِ ، فَكانَ أفضَلَهُم _ زَعمتَ _ فِي الإِسلامِ ، وأنصَحَهُم للّهِِ ورَسولِهِ الخَليفَةُ ، وخَليفَةُ الخَليفَةِ . ولَعَمري إنَّ مَكانَهُما مِنَ الإِسلامِ لَعَظيمٌ ، وإنَّ المُصابَ بِهِما لَجُرحٌ فِي الإِسلامِ شَديدٌ . رَحِمَهُمَا اللّهُ وجَزاهُما بِأَحسَنِ الجَزاءِ . وذَكَرتَ أنَّ عُثمانَ كانَ فِي الفَضلِ ثالِثاً ؛ فَإِن يَكُن عُثمانُ مُحسِناً فَسَيَجزيهِ اللّهُ بِإِحسانِهِ ، وإن يَكُ مُسيئاً فَسَيَلقى رَبّاً غَفوراً لا يَتَعاظَمُهُ ذَنبٌ أن يَغفِرَهُ . ولَعَمرُ اللّهِ إنّي لَأَرجو _ إذا أعطَى اللّهُ النّاسَ عَلى قَدرِ فَضائِلِهِم فِي الإِسلام
.
ص: 353
ونَصيحَتِهِم للّهِِ ورَسولِهِ _ أن يَكونَ نَصيبُنا في ذلكَ الأَوفَرَ . إنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله لَمّا دَعا إلَى الإِيمانِ بِاللّهِ وَالتَّوحيدِ كُنّا _ أهلَ البَيتِ _ أوَّلَ مَن آمَنَ بِهِ ، وصَدَّقَ بِما جاءَ بِهِ ، فَلَبِثنا أحوالاً مُجَرَّمَةً ، وما يَعبُدُ اللّهَ في رَبعٍ ساكِنٍ مِنَ العَرَبِ غَيرُنا ، فَأَرادَ قَومُنا قَتلَ نَبِيِّنا ، واجتِياحَ أصلِنا ، وهَمُّوا بِنَا الهُمومَ ، وفَعَلوا بِنَا الأَفاعيلَ ؛ فَمَنَعونَا المِيرةَ ، وأمسَكوا عَنَّا العَذبَ ، وأحلَسونَا الخَوفَ (1) ، وجَعَلوا عَلَينَا الأَرصادَ وَالعُيونَ ، وَاضطَرّونا إلى جَبَلٍ وَعِرٍ ، وأوقَدوا لَنا نارَ الحَربِ ، وكَتَبوا عَلَينا بَينَهُم كِتاباً لا يُؤاكِلونا ولا يُشارِبونا ولا يُناكِحونا ولا يُبايِعونا ولا نَأمَنُ فيهِم حَتّى نَدفَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله فَيَقتُلوهُ ويُمَثِّلوا بِهِ . فَلَم نَكُن نَأمَنُ فيهِم إلّا مِن مَوسِمٍ إلى مَوسِمٍ ، فَعَزَمَ اللّهُ لَنا عَلى مَنعِهِ ، وَالذَّبِّ عَن حَوزَتِهِ ، وَالرَّميِ مِن وَراءِ حُرمَتِهِ ، وَالقِيامِ بِأَسيافِنا دونَهُ ، في ساعاتِ الخَوفِ بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ ، فَمُؤمِنُنا يَرجو بِذلِكَ الثَّوابَ ، وكافِرُنا يُحامي بِهِ عَنِ الأَصلِ . فَأَمّا مَن أسلَمَ مِن قُرَيشٍ بَعدُ فَإِنَّهُم مِمّا نَحنُ فيهِ أخلِياءُ ؛ فَمِنهُم حَليفٌ مَمنوعٌ ، أو ذو عَشيرَةٍ تُدافِعُ عَنهُ ؛ فَلا يَبغيهِ أحَدٌ بِمِثلِ ما بَغانا بِهِ قَومُنا مِنَ التَّلَفِ ، فَهُم مِنَ القَتلِ بِمَكانِ نَجوَةٍ وأمنٍ . فَكانَ ذلِكَ ما شاءَ اللّهُ أن يَكونَ . ثُمَّ أمَرَ اللّهُ رَسولَهُ بِالهِجرَةِ ، وأذِنَ لَهُ بَعدَ ذلِكَ في قِتالِ المُشرِكينَ ، فَكانَ إذَا احمَرَّ البَأسُ ودُعِيَت نِزالَ أقامَ أهلَ بَيتِهِ فَاستَقدَموا ، فَوَقى بِهِم أصحابَهُ حَرَّ الأَسِنَّةِ والسُّيوفِ ، فَقُتِلَ عُبَيدَةُ يَومَ بَدرٍ ، وحَمزَةُ يَومَ اُحُدٍ ، وجَعفَرٌ وزَيدٌ يَومَ مَؤتَةَ ، وأرادَ للّهِِ مَن لَو شِئتُ ذَكَرتُ اسمَهُ مِثلَ الَّذي أرادوا مِنَ الشَّهادَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله غَيرَ مَرَّةٍ ، إلّا أنَّ آجالَهُم عُجِّلَت ، ومَنِيَّتَهُ اُخِّرَت . وَاللّهُ مولِي الإِحسانِ إلَيهِم ، وَالمَنّانُ عَلَيهِم بِما قَد أسلَفوا مِنَ الصّالِحاتِ . فَما سَمِعتُ بِأَحَدٍ ولا رَأَيتُ فيهِم مَن هُوَ أنصَحُ للّهِِ فى ¨
.
ص: 354
طاعَةِ رَسولِهِ ، ولا أطوَعُ لِرَسولِهِ في طاعَةِ رَبِّهِ ، ولا أصبَرُ عَلَى اللَأْواءِ وَالضَّرّاءِ وحينَ البَأسِ ومَواطِنِ المَكروهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله مِن هؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذينَ سَمَّيتُ لَكَ . وفِي المُهاجِرينَ خَيرٌ كَثيرٌ نَعرِفُهُ ، جَزاهُمُ اللّهُ بِأَحسَنِ أعمالِهِم ! وذكَرتَ حَسَدِي الخُلَفاءَ ، وإبطائي عَنهُم ، وبَغيي عَلَيهِم ؛ فَأَمَّا البَغيُ فَمَعاذَ اللّهِ أن يَكونَ ، وأمَّا الإِبطاءُ عَنهُم وَالكَراهَةُ لِأَمرِهِم فَلَستُ أعتَذِرُ مِنهُ إلَى النّاسِ ، لِأَنَّ اللّهَ جَلَّ ذِكرُهُ لَمّا قَبَضَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله قالَت قُرَيشٌ : مِنّا أميرٌ ، وقالَتِ الأَنصارُ : مِنّا أميرٌ . فَقالَت قُرَيشٌ : مِنّا مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَنَحنُ أحَقُّ بِذلِكَ الأَمرِ ، فَعَرَفَت ذلِكَ الأَنصارُ ، فَسَلَّمَت لَهُمُ الوِلايَةَ وَالسُّلطانَ . فَإِذَا استَحَقّوها بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله دونَ الأَنصارِ فَإِنَّ أولَى النّاسِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أحَقُّ بِها مِنهُم . وإلّا فَإِنَّ الأَنصارَ أعظَمُ العَرَبِ فيها نَصيباً ، فَلا أدري أصحابي سَلِموا مِن أن يَكونوا حَقّي أخَذوا ، أوِ الأَنصارُ ظَلَموا ، بَل عَرَفتُ أنَّ حَقّي هُوَ المَأخوذُ ، وقَد تَرَكتُهُ لَهُم ، تَجاوَزَ اللّهُ عَنهُم ! وأمّا ما ذَكَرتَ مِن أمرِ عُثمانَ وقَطيعَتي رَحِمَهُ ، وتَأليبي عَلَيهِ ؛ فَإِنَّ عُثمانَ عَمِلَ ما قد بَلَغَكَ ، فَصَنَعَ النّاسُ بِهِ ما قَد رَأَيتَ وقَد عَلِمتَ أنّي كُنتُ في عُزلَةٍ عَنهُ ، إلّا أن تتََجَنّى ، فَتَجَنَّ ما بَدا لَكَ . وأمّا ما ذَكَرتَ مِن أمرِ قَتَلَةِ عُثمانَ ؛ فَإِنّي نَظَرتُ في هذَا الأَمرِ ، وضَرَبتُ أنفَهُ وعَينَيهِ ، فَلَم أرَ دَفعَهُم إلَيكَ ولا إلى غَيرِكَ . ولَعَمري لَئِن لَم تَنزِع عَن غَيِّكَ وشِقاقِكَ لَتَعرِفَنَّهُم عَن قَليلٍ يَطلُبونَكَ ، ولا يُكَلِّفونَكَ أن تَطلُبَهُم في بَرٍّ ولا بَحرٍ ، ولا جَبَلٍ ولا سَهلٍ . وقَد كانَ أبوكَ أتاني حينَ وَلَّي النّاسُ أبا بَكرٍ فَقالَ : أنتَ أحَقُّ بَعدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله بِهذَا الأَمرِ ، وأنا زَعيمٌ لَكَ بِذلِكَ عَلى مَن خالَفَ عَلَيكَ . اُبسُط يَدَكَ اُبايِعكَ ، فَلَم أفعَل وأنتَ تَعلَمُ أنَّ أباكَ قد كانَ قالَ ذلِكَ وأرادَهُ حَتّى كُنتُ أنَا الَّذي أبيَتُ ، لِقُربِ عَهد
.
ص: 355
النّاسِ بِالكُفرِ ، مَخافَةَ الفُرقَةِ بَينَ أهلِ الإِسلامِ . فَأَبوكَ كانَ أعرَفَ بِحَقّي مِنكَ . فَإِن تَعرِف مِن حَقّي ما كانَ يَعرِفُ أبوكَ تُصِب رُشدَكَ ، وإن لَم تَفعَل فَسَيُغنِي اللّهُ عَنكَ وَالسَّلامُ (1) .
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ جَواباً _: أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّا كُنّا نَحنُ وأنتُم عَلى ما ذَكَرتَ مِنَ الاُلفَةِ وَالجَماعَةِ ، فَفَرَّقَ بَينَنا وبَينَكُم أمسِ أنّا آمَنّا وكَفَرتُم ، وَاليَومَ أنَّا استَقَمنا وفُتِنتُم . وما أسلَمَ مُسلِمُكُم إلّا كَرهاً ، وبَعدَ أن كانَ أنفُ الإِسلامِ كُلُّهُ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله حِزباً . وذَكَرتَ أنّي قَتَلتُ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ ، وشَرَّدتُ بِعائِشَةَ ونَزَلتُ بَينَ المِصرَينِ ، وذلِكَ أمرٌ غِبتَ عَنهُ فَلا عَلَيكَ ، ولَا العُذرُ فيهِ إلَيكَ . وذَكَرتَ أنَّكَ زائِري فِي المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، وقَدِ انقَطَعَتِ الهِجرَةُ يَومَ اُسِرَ أخوكَ ، فَإِن كانَ فيكَ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ ؛ فَإِنّي إن أزُركَ فَذلِكَ جدَيرٌ أن يَكونَ اللّهُ إنَّما بَعَثَني إلَيكَ لِلنِّقمَةِ مِنكَ ! وإن تَزُرني فَكَما قالَ أخو بَني أَسَدٍ : مُستَقبِلينَ رِياحَ الصَّيفِ تَضرِبُهُم بِحاصِبٍ بَينَ أغوارٍ وجُلْمودِ وعِندِي السَّيفُ الَّذي أعضَضتُهُ بِجَدِّكَ وخالِكَ وأخيكَ في مَقامٍ واحِدٍ . وإنَّكَ وَاللّهِ _ ما عَلِمتُ _ الأَغلَفُ القَلبِ ، المُقارِبُ العَقلِ ، وَالأَولى أن يُقالَ لَكَ : إنَّكَ رَقيتَ سُلَّماً أطلَعَكَ مَطلَعَ سوءٍ عَلَيكَ لا لَكَ ، لِأَنَّكَ نَشَدتَ غَيرَ ضالَّتِكَ ، ورَعيتَ غَيرَ سائِمَتِكَ ، وطَلَبتَ أمراً لَستَ مِن أهلِهِ ولا في مَعدِنِهِ ، فَما أبعَدَ قَولَكَ مِن فِعلِكَ ! وقَريبٌ ما أشبَهتَ (2) مِن أعمامٍ وأخوالٍ ! حَمَلَتهُمُ الشَّقاوَةُ وتَمَنِّي الباطِلِ عَلَى الجُحود
.
ص: 356
بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، فَصُرِعوا مَصارِعَهُم حَيثُ عَلِمتَ ، لَم يَدفَعوا عَظيماً ، ولَم يَمنَعوا حَريماً ، بِوَقعِ سُيوفٍ ما خَلا مِنهَا الوَغى ، ولَم تُماشِهَا الهُوَيْنى (1) . وقَد أكثَرتَ في قَتَلَةِ عُثمانَ ، فَادخُل فيما دَخَلَ فيهِ النّاسُ ، ثُمَّ حاكِمِ القَومَ إلَيَّ أحمِلكَ وإيّاهُم عَلى كِتابِ اللّهِ تَعالى . وأمّا تِلكَ الَّتي تُريدُ (2) فَإِنَّها خُدعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ في أوَّلِ الفِصالِ ، وَالسَّلامُ لِأَهلِهِ (3) .
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ الدُّنيا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ ، ذاتُ زينَةٍ وبَهجَةٍ ، لَم يَصبُ الَيها أحَدٌ إلّا وشَغَلَتهُ بِزينَتِها عَمّا هُوَ أنفَعُ لَهُ مِنها ، وبِالآخِرَةِ اُمِرنا ، وعَلَيها حُثِثنا ؛ فَدَع يا مُعاوِيَةُ ما يَفنى ، وَاعمَل لِما يَبقى ، وَاحذَرِ المَوتَ الَّذي إلَيهِ مَصيرُكَ ، وَالحِسابَ الَّذي إلَيهِ عاقِبَتُكَ ، وَاعلَم أنَّ اللّهَ تَعالى إذا أرادَ بِعَبدٍ خَيراً حالَ بَينَهُ وبَينَ ما يَكرَهُ ، ووَفَّقَهُ لِطاعَتِهِ ، وإذا أرادَ اللّهُ بِعَبدٍ سوءاً أغراهُ بِالدُّنيا ، وأنساهُ الآخِرَةَ وبَسَطَ لَهُ أمَلَهُ ، وعاقَهُ عَمّا فيهِ صَلاحُهُ . وقَد وَصَلَني كِتابُكَ ، فَوَجَدتُكَ تَرمي غَيرَ غَرَضِكَ ، وتَنشُدُ غَيرَ ضالَّتِكَ وتَخبِطُ في عَمايَةٍ ، وتَتيهُ في ضَلالَةٍ ، وتَعتَصِمُ بِغَيرِ حُجَّةٍ ، وتَلوذُ بِأَضعَفِ شُبهَةٍ . فَأَمّا سُؤالُكَ المُتارَكَةَ وَالإِقرارَ لَكَ عَلَى الشّامِ ؛ فَلَو كُنتُ فاعِلاً ذلِكَ اليَومَ لَفَعَلتُهُ أمسِ . وأمّا قَولُكَ إنَّ عُمَرَ وَلّاكَهُ فَقَد عَزَلَ مَن كانَ وَلّاهُ صاحِبُهُ ، وعَزَلَ عُثمانُ مَن كانَ عُمَرُ وَلّاهُ ، ولَم يُنَصَّب لِلنّاسِ إمامٌ إلّا لِيَرى مِن صَلاحِ الاُمَّةِ ما (4) قَد كانَ ظَهَرَ لِمَن
.
ص: 357
قَبلَهُ ، أو اُخفِيَ عَنهُم عَيبُهُ ، وَالأَمرُ يَحدُثُ بَعدَهُ الأمَرُ ، ولِكُلِّ والٍ رَأيٌ وَاجتِهادٌ . فَسُبحانَ اللّهِ ! ما أشَدَّ لُزومَكَ لِلأَهواءِ المُبتَدَعَةِ ، وَالحَيرَةِ المُتَّبَعَةِ مَع تَضييعِ الحَقائِقِ وَاطِّراحِ الوَثائِقِ الَّتي هِيَ للّهِِ تَعالى طِلبَةٌ ، وعَلى عِبادِهِ حُجَّةٌ فَأَمّا إكثارُكَ الحِجاجَ عَلى عُثمانَ وقَتَلَتِهِ فَإِنَّكَ إنَّما نَصَرتَ عُثمانَ حَيثُ كاَن النَّصرُ لَكَ ، وخَذَلتَهُ حَيثُ كانَ النَّصرُ لَهُ ، وَالسَّلامُ (1) .
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ بَيعَتي بِالمَدينَةِ لَزِمَتكَ وأنتَ بِالشّامِ ؛ لِأَنَّهُ بايَعَنِي القَومُ الَّذينَ بايَعوا أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ عَلى ما بويِعوا عَلَيهِ ، فَلَم يَكُن لِلشّاهِدِ أن يَختارَ ، ولا لِلغائِبِ أن يَرُدَّ ، وإنَّمَا الشّورى لِلمُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، فَإِذَا اجتَمَعوا عَلى رَجُلٍ فَسَمَّوهُ إماما ، كانَ ذلِكَ للّهِِ رِضىً ، فَإِن خَرَجَ مِن أمرِهِم خارِجٌ بِطَعنٍ أو رَغبَةٍ رَدّوهُ إلى ما خَرَجَ مِنهُ ، فَإِن أبى قاتَلوهُ عَلَى اتِّباعِهِ غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ ، ووَلّاهُ اللّهُ ما تَوَلّى ويُصليهِ جَهَنَّمَ وساءَت مَصيرا . وإنَّ طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ بايَعاني ، ثُمَّ نَقَضا بَيعَتي ، وكانَ نَقضُهُما كَرَدِّهِما ، فَجاهَدتُهُما عَلى ذلِكَ ، حَتّى جاءَ الحَقُّ ، وظَهَرَ أمرُ اللّهِ وهُم كارِهونَ . فَادخُل فيما دَخَلَ فيهِ المُسلِمونَ ؛ فَإِنَّ أحَبَّ الاُمورِ إلَيَّ فيكَ العافِيَةُ ، إلّا أن تَتَعَرَّضَ لِلبَلاءِ ؛ فَإِن تَعَرَّضتَ لَهُ قاتَلتُكَ ، وَاستَعَنتُ اللّهَ عَلَيكَ . وقَد أكثَرتَ في قَتَلَةِ عُثمانَ ، فَادخُل فيما دَخَلَ فيهِ المُسلِمونَ ، ثُمَّ حاكِمِ القَومَ إلَيَّ أحمِلكَ وإيّاهُم عَلى كِتابِ اللّهِ . فَأَمّا تِلكَ الَّتي تُريدُها فَخُدعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ ، ولَعَمري لَئِن نَظَرتَ بِعَقلِكَ دونَ هواكَ لَتَجِدَنّي أبرَأَ قُرَيشٍ مِن دَمِ عُثمانَ .
.
ص: 358
وَاعلَم أنَّكَ مِنَ الطُّلَقاءِ الَّذينَ لا تَحِلُّ لَهُمُ الخِلافَةُ ، ولا تُعرَضُ فيهِمُ الشّورى ، وقَد أرسَلتُ إلَيكَ وإلى مَن قِبَلَكَ : جَريرَ بنَ عَبدِ اللّهِ ؛ وهُوَ مِن أهلِ الإِيمانِ وَالهِجرَةِ فَبايِع ، ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ (1) .
4 / 13كِتابُ الإِمامِ إلَيهِ يُحَذِّرُهُ مِن طَلَبِ ما لَيسَ لَهُ بِحَقٍّالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ : سَلامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى ، فَإِنّي أحمَدُ اللّهَ إلَيكَ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّكَ قَد رَأَيتَ مِنَ الدُّنيا وتَصَرُّفِها بِأَهلِها وإلى ما مَضى مِنها ، وخَيرُ ما بَقِيَ مِنَ الدُّنيا ما أصابَ العِبادُ الصّادِقونَ فيما مَضى . ومَن نَسِيَ الدّنيا نِسيانَ الآخِرَةِ يَجِد بَينَهُما بَونا بَعيدا . وَاعلَم يا مُعاوِيَةُ أنَّكَ قَدِ ادَّعَيتَ أمرا لَستَ مِن أهلِهِ لا فِي القَدَمِ ولا فِي الوِلايَةِ ، ولَستَ تَقولُ فيهِ بِأَمرٍ بَيِّنٍ تُعرَفُ لَكَ بِهِ أثَرَةٌ ، ولا لَكَ عَلَيهِ شاهِدٌ مِن كِتابِ اللّهِ ، ولا عَهدٌ تَدَّعيهِ مِن رَسولِ اللّهِ ، فَكَيفَ أنتَ صانِعٌ إذَا انقَشَعَت عَنكَ جَلابيبُ ما أنتَ فيهِ مِن دُنيا اُبهِجتَ بِزينَتِها ورَكَنتَ إلى لَذَّتِها ، وخُلِّيَ فيها بَينَكَ وبَينَ عَدُوٍّ جاهِدٍ مُلِحٍّ ، مَعَ ما عَرَضَ في نَفسِكَ مِن دُنيا قَد دَعَتكَ فَأَجَبتَها ، وقادَتكَ فَاتَّبَعتَها ، وأمَرَتكَ فَأَطَعتَها . فَاقعَس عَن هذَا الأَمرِ ، وخُذ اُهبَةَ الحِسابِ ؛ فَإِنَّهُ يوشِكُ أن يَقِفَكَ واقِفٌ عَلى ما لا يُجِنُّكَ مِنهُ مِجَنٌّ . ومَتى كُنتُم يا مُعاوِيَةُ ساسَةً لِلرَّعِيَّةِ ، أو وُلاةً لِأَمرِ هذِهِ الاُمَّةِ بِغَيرِ قَدَمٍ حَسَنٍ ، ولا شَرَفٍ سابِقٍ عَلى قَومِكُم . فَشَمِّر لِما قَد نَزَلَ بِكَ، ولاتُمَكِّنِ الشَّيطانَ مِن بُغيَتِهِ فيكَ، مَعَ أنّي أعرِفُ أنَّ اللّهَ ورَسولَهُ صادِقانِ . فَنَعوذُ بِاللّه
.
ص: 359
مِن لُزومِ سابِقِ الشَّقاءِ . وإلّا تَفعَل اُعلِمكَ ما أغفَلَكَ مِن نَفسِكَ ؛ فَإِنَّكَ مُترَفٌ قَد أخَذَ مِنكَ الشَّيطانُ مَأخَذَهُ ، فَجَرى مِنكَ مَجرَى الدَّمِ فِي العُروقِ . وَاعلَم أنَّ هذَا الأَمرَ لَو كانَ إلَى النّاسِ أو بِأَيديهِم لَحَسَدونا وَامتَنّوا بِهِ عَلَينا ، ولكِنَّهُ قَضاءٌ مِمَّنِ امتَنَّ بِهِ عَلَينا عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ الصّادِقِ المُصَدَّقِ . لا أفلَحَ مَن شَكَّ بَعدَ العِرفانِ وَالبَيِّنَةِ . اللّهُمَّ احكُم بَينَنا وبَينَ عَدُوِّنا بِالحَقِّ وأنتَ خَيرُ الحاكِمينَ (1) .
4 / 14جَوابُهُ بِكُلِّ وَقاحَةٍوقعة صفّين :كَتَبَ مُعاوِيَةُ [إلَى الإِمامِ عليه السلام ] : مِن مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ : أمّا بَعدُ ؛ فَدَعِ الحَسَدَ ؛ فَإِنَّكَ طالَما لَم تَنتَفِع بِهِ ، ولا تُفسِد سابِقَةَ قَدَمِكَ بِشَرَهِ نَخوَتِكَ ؛ فَإِنَّ الأَعمالَ بِخَواتيمِها ، ولا تَمحَق سابِقَتَكَ في حَقِّ مَن لا حَقَّ لَكَ في حَقِّهِ ، فَإِنَّكَ إن تَفعَل لا تَضُرَّ بِذلِكَ إلّا نَفسَكَ ، ولا تَمحَق إلّا عَمَلَكَ ، ولا تُبطِل إلّا حُجَّتَكَ . ولَعَمري ما مَضى لَكَ مِنَ السّابِقاتِ لَشَبيهٌ أن يَكونَ مَمحوقا ؛ لِمَا اجتَرَأتَ عَلَيهِ مِن سَفكِ الدِّماءِ ، وخِلافِ أهلِ الحَقِّ . فَاقرَأ سورَةَ الفَلَقِ ، وتَعَوِّذِ بِاللّهِ مِن شَرِّ نَفسِكَ ؛ فَإِنَّكَ الحاسِدُ إذا حَسَدَ ! ! ! (2)
4 / 15رَسائِلُ اُخرى مِنَ الإِمامِ إلَيهِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: فَاتَّقِ اللّهَ فيما لَدَيكَ ، وَانظُر في حَقِّهِ عَلَيكَ،
.
ص: 360
وَارجِع إلى مَعرِفَةِ مالا تُعذَرُ بِجَهالَتِهِ ؛ فَإِنَّ لِلطّاعَةِ أعلاما واضِحَةً ، وسُبُلاً نَيِّرَةً ، ومَحَجَّةً نَهجَةً ، وغايَةً مُطَّلَبَةً ، يَرِدُهَا الأَكياسُ ، ويُخالِفُها الأَنكاسُ ؛ مَن نَكَبَ عَنها جارَ عَنِ الحَقِّ ، وخَبَطَ فِي التِّيهِ ، وغَيَّرَ اللّهُ نِعمَتَهُ ، وأحَلَّ بِهِ نِقمَتَهُ . فَنَفسَكَ نَفسَكَ ! فَقَد بَيَّنَ اللّهُ لَكَ سَبيلَكَ . وحَيثُ تَناهَت بِكَ اُمورُكَ فَقَد أجرَيتَ إلى غايَةِ خُسرٍ ومَحَلَّةِ كُفرٍ ؛ فَإِنَّ نَفسَكَ قَد أولَجَتكَ شَرّا ، وأقحَمَتكَ غَيّا ، وأورَدَتكَ المَهالِكَ ، وأوعَرَت عَلَيكَ المَسالِكَ (1) .
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ الدُّنيا مَشغَلةٌ عَن غَيرِها ، ولَم يُصِب صاحِبُها مِنها شَيئاً إلّا فَتَحَت لَهُ حِرصاً عَلَيها ولَهَجاً بِها ، ولَن يَستَغنِيَ صاحِبُها بِما نالَ فيها عَمّا لَم يَبلُغهُ مِنها . ومِن وَراءِ ذلِكَ فِراقُ ما جَمَعَ ، ونَقضُ ما أبرَمَ ! ولَوِ اعتَبَرتَ بِما مَضى حَفِظتَ ما بَقِيَ . وَالسَّلامُ (2) .
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ سُبحانَهُ قَد جَعَلَ الدُّنيا لِما بَعدَها ، وَابتَلى فيها أهلَها ؛ لِيَعلَمَ أيُّهُم أحسَنُ عَمَلاً . ولَسنا لِلدُّنيا خُلِقنا ، ولا بِالسَّعيِ فيها اُمِرنا ، وإنَّما وُضِعنا فيها لِنُبتَلى بِها ، وقَدِ ابتَلانِي اللّهُ بِكَ ، وَابتَلاكَ بي ، فَجَعَلَ أحَدَنا حُجَّةً عَلَى الآخَرِ ، فَعَدَوتَ عَلَى الدُّنيا بِتَأويلِ القُرآنِ ، فَطَلَبتَني بِما لَم تَجنِ يَدي ولا لِساني ، وعَصَيتَهُ أنتَ وأهلُ الشّامِ بي وألَّبَ عالِمُكُم جاهِلَكُم ، وقائِمُكُم قاعِدَكُم ؛ فَاتَّقِ اللّهَ في نَفسِكَ ، ونازِعِ الشَّيطانَ قِيادَكَ ، وَاصرِف إلَى الآخِرَةِ وَجهَكَ ؛ فَهِيَ طَريقُنا وطَريقُكَ . وَاحذَر أن يُصيبَكَ اللّهُ مِنهُ بِعاجِلِ قارِعَةٍ تَمَسُّ الأَصلَ وتَقطَعُ الدّابِرَ ؛ فَإِنّي اُولي لَكَ بِاللّهِ ألِيَّةً غَيرَ فاجِرَةٍ ، لَئِن جَمَعَتني وإيّاكَ جَوامِعُ الأَقدارِ لا أزال
.
ص: 361
بِباحَتِكَ «حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَ_كِمِينَ» (1) . (2)
عنه عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: أمّا بَعدُ ؛ فَقَد آنَ لَكَ أن تَنتَفِعَ بِاللَّمحِ الباصِرِ مِن عِيانِ الاُمورِ ، فَقَد سَلَكتَ مَدارِجَ أسلافِكَ بِادِّعائِكَ الأَباطيلَ ، وَاقتِحامِكَ غُرورَ المَينِ وَالأَكاذيبِ ، وبِانتِحالِكَ ما قَد عَلا عَنكَ ، وَابتِزازِكَ لِما قَدِ اختُزِنَ دونَكَ ، فِرارا مِنَ الحَقِّ ، وجُحودا لِما هُوَ ألزَمُ لَكَ مِن لَحمِكَ ودَمِكَ ، مِمّا قَد وَعاه سَمعُكَ ، ومُلِئَ بِهِ صَدرُكَ ، فَماذا بَعدَ الحَقِّ إلَا الضَّلالُ المُبينُ ، وبَعدَ البَيانِ إلَا اللَّبسُ . فَاحذَرِ الشُّبهَةَ وَاشتِمالَها عَلى لُبسَتِها ؛ فَإِنَّ الفِتنَةَ طالَما أغدَفَت جَلابيبَها وأغشَتِ الأَبصارَ ظُلمَتُها . وقَد أتاني كِتابٌ مِنكَ ذو أفانينَ مِنَ القَولِ ، ضَعُفَت قُواها عَنِ السِّلمِ ، وأساطيرَ لَم يَحُكها مِنكَ عِلمٌ ولا حِلمٌ ، أصبَحتَ مِنها كَالخائِضِ فِي الدَّهاسِ (3) ، وَالخابِطِ فِي الدِّيماسِ (4) ، وتَرَقَّيتَ إلى مَرقَبَةٍ بَعِيدَةِ المَرامِ ، نازِحَةِ الأَعلامِ ، تَقصُرُ دونَهَا الأَنوقُ ، ويُحاذى بِهَا العَيُّوقُ (5) . وحاشَ للّهِِ أن تَلِيَ لِلمُسلِمينَ بَعدي صَدَرا أو وِردا ، أو اُجرِيَ لَكَ عَلى أحَدٍ مِنهُم عَقدا أو عَهدا ، فَمِنَ الآنَ فَتَدارَك نَفسَكَ وَانظُر لَها ؛ فَإِنَّكَ إن فَرَّطتَ حَتّى يَنهَدَ (6) إلَيكَ عِبادُ اللّهِ اُرتِجَتْ عَلَيكَ الاُمورُ ، ومُنِعتَ أمراً هُوَ مِنكَ اليَومَ مَقبولٌ . وَالسَّلامُ (7) .
.
ص: 362
الأمالي للطوسي عن ثعلبة بن يزيد الحمّاني :كَتَبَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ تَعالى أنزَلَ إلَينا كِتابَهُ ، ولَم يَدَعنا في شُبهَةٍ ولا عُذرَ لِمَن رَكِبَ ذَنباً بِجَهالَةٍ ، وَالتَّوبَةُ مَبسوطَةٌ «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (1) وأنتَ مِمَّن شَرَعَ الخِلافَ مُتمادِياً في غِرَّةِ الأَمَلِ مُختَلِفَ السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ ، رَغبَةً فِي العاجِلِ ، وتَكذيباً بَعدُ بِالآجِلِ ، وكَأَنَّكَ قَد تَذَكَّرتَ ما مَضى مِنكَ ، فَلَم تَجِد إلَى الرُّجوعِ سَبيلاً (2) .
4 / 16نَقدُ الإِمامِ رَأيَهُ وفِراسَتَهُ في مُكاتَبَةِ مُعاوِيَةَالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّي عَلَى التَّرَدُّدِ في جَوابِكَ ، وَالاِستِماعِ إلى كِتابِكَ ؛ لَمُوَهِّنٌ رَأيي ، ومُخَطِّئٌ فِراسَتي . وإنَّكَ إذ تُحاوِلُنِي الاُمورَ ، وتُراجِعُنِي السُّطورَ ، كَالمُستَثقِلِ النّائِمِ ؛ تَكذِبُهُ أحلامُهُ . وَالمُتَحَيِّرِ القائِمِ يَبهَظُهُ مَقامُهُ . لا يَدري أ لَهُ ما يَأتي أم عَلَيهِ ، ولَستَ بِهِ ، غَيرَ أنَّهُ بِكَ شَبيهٌ . واُقسِمُ بِاللّهِ إنَّهُ لَولا بَعضُ الاِستِبقاءِ ، لَوَصَلَت إلَيكَ مِنّي قَوارِعُ تَقرَعُ العَظمَ ، وتَهلِسُ اللَّحمَ ! وَاعلَم أنَّ الشَّيطانَ قَد ثَبَّطَكَ عَن أن تُراجِعَ أحسَنَ اُمورِكَ ، وتَأذَنَ لِمَقالِ نَصيحَتِكَ ، وَالسَّلامُ لِأَهلِهِ (3) .
.
ص: 363
أهداف معاوية في حرب الدّعاية وحكمة أجوبة الإمامتأمُّل الرسائل التي تبودلت بين الإمام ومعاوية أثناء الحرب الدعائيّة ، وما ينطوي عليه جواب معاوية من جرأة ووقاحة ؛ يفضي بالباحث إلى السؤال التالي : لماذا فتح الإمام باب المكاتبة وتبادل الكتب مع شخص مثل معاوية ؟ أ لم يكن الأفضل أن يهمل الإمام جواب معاوية ليكون بمنأى عن كلّ ذلك التعريض والبذاءة ؟ يكتب ابن أبي الحديد بعد نقل شطر من الكتب التي جرت بين الإمام ومعاوية ، ما نصّه : «قُلتُ : وأعجَبُ وأطرَبُ ما جاءَ بِهِ الدَّهرُ _ وإن كانَت عَجائِبُهُ وبَدائِعُهُ جَمَّةً _ أن يُفضِيَ أمرُ عَلِيٍّ عليه السلام إلى أن يَصيرَ مُعاوِيَةُ نِدّاً لَهُ ونَظيراً مُماثِلاً ، يَتَعارَضانِ الكِتابَ وَالجَوابَ ، ويَتَساوَيانِ فيما يُواجِهُ بِهِ أحَدُهُما صاحِبَهُ ، ولا يَقولُ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام كَلِمَةً إلّا قالَ مِثلَها ، وأخشَنَ مَسّاً مِنها ، فَلَيتَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله كانَ شاهِدَ ذلِكَ ! لِيَرى عِياناً لا خَبَراً أنَّ الدَّعوَةَ الَّتي قامَ بِها ، وقاسى أعظَمَ المَشاقِّ في تَحَمُّلِها ، وكابَدَ الأَهوالَ فِي الذَّبِّ عَنها ، وضَرَبَ بِالسُّيوفِ عَلَيها لِتَأييدِ دَولَتِها ، وشَيَّدَ أركانَها ، ومَلَأَ الآفاقَ بِها ، خَلَصَت صَفواً عَفواً لِأَعدائِهِ الَّذينَ كَذَّبوهُ ، لَمّا دَعا إلَيها ، وأخرَجوهُ عَن أوطانِهِ لَمّا حَضَّ عَلَيها ، وأدمَوا وَجهَهُ ، وقَتَلوا عَمَّهُ وأهلَهُ ، فَكَأَنَّهُ كانَ يَسعى لَهُم ، ويَدأَبُ لِراحَتِهِم ؛ كَما قالَ أبو سُفيانَ في أيّامِ عُثمانَ ، وقَد مَرَّ بِقَبرِ حَمزَةَ ، وضَرَبَهُ بِرِجلِهِ،
.
ص: 364
وقالَ : يا أبا عُمارَةَ ! إنَّ الأَمرَ الَّذِي اجتَلَدنا عَلَيهِ بِالسَّيفِ أمسى في يَدِ غِلمانِنَا اليَومَ يَتَلَعَّبونَ بِهِ ! ثُمَّ آلَ الأَمرُ إلى أن يُفاخِرَ مُعاوِيَةُ عَلِيّاً ، كَما يَتَفاخَرُ الأَكفاءُ وَالنُّظَراءُ ! ! إذا عَيَّرَ الطّائِيَّ بِالبُخلِ مادِرٌ وقَرَّعَ قُسّاً بِالفَهاهَةِ باقِلُ وقالَ السُّها لِلشَّمسِ : أنتِ خَفِيَّةٌ وقالَ الدُّجى : يا صُبحُ لَونُكَ حائِلُ وفاخَرَتِ الأَرضُ السَّماءَ سَفاهَةً وكاثَرَتِ الشُّهُبَ الحَصا وَالجَنادِلُ فَيا مَوتُ زُرْ إنَّ الحَياةَ ذَميمَةٌ ويا نَفسِ جِدّي إنَّ دَهرَكِ هازِلُ ! ثُمَّ أقولُ ثانِياً لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام : لَيتَ شِعري ، لِماذا فَتَحَ بابَ الكِتابِ وَالجَوابِ بَينَهُ وبَينَ مُعاوِيَةَ ؟ ! وإذا كانَتِ الضَّرورَةُ قَد قادَت إلى ذلِكَ فَهَلَا اقتَصَرَ فِي الكِتابِ إلَيهِ عَلَى المَوعِظَةِ مِن غَيرِ تَعَرُّضٍ لِلمُفاخَرَةِ وَالمُنافَرَةِ ! وإذا كانَ لابُدَّ مِنهُما فَهَلَا اكتَفى بِهِما مِن غَيرِ تَعَرُّضٍ لِأَمرٍ آخَرَ يوجِبُ المُقابَلَةَ وَالمُعارَضَةَ بِمِثلِهِ ، وبِأَشَدَّ مِنهُ : «وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ» (1) . . . ولَعَلَّهُ عليه السلام قَد كانَ يَظهَرُ لَهُ مِنَ المَصلَحَةِ حينَئِذٍ ما يَغيبُ عَنَّا الآنَ ، وللّهِِ أمرٌ هُوَ بالِغُهُ !» (2) . وحقيقة الأمر تؤول إلى ما ذكره ابن أبي الحديد نهاية كلامه بصيغة الاحتمال . فالشيء الجزمي أنّ الإمام لم يلج مضمار هذه الحرب الدعائيّة من دون حكمة ، ولكي نتلمّس الحكمة من وراء مكاتبات الإمام يتحتّم أن نعرف في البدء طبيعة الأهداف التي كان يتوخاها معاوية من إطلاق الحرب الدعائيّة ضدّ الإمام .
.
ص: 365
أهداف معاويةقبل أن ندلف إلى تبيين الأهداف التي كان يصبو إليها معاوية من الحرب الدعائية ، من الضروري أن نشير إلى أنّ الرسائل السياسيّة كانت تعدّ في ذلك العصر واحدة من أهمّ أدوات الحرب النفسيّة والدعائيّة . ففي ذلك العهد كانت وسائل الإعلام تقتصر على الخطب العامّة والرسائل ، ومن الطبيعي أن يكون للرسائل فاعليّة إعلاميّة تفوق ما للخطابة . وربّما استطعنا أن نقارب التأثير الإعلامي للرسائل في ذلك العصر بما للصحافة المعاصرة من موقع في وقتنا الحاضر . لقد بادر معاوية إلى شنّ حرب دعائيّة شاملة ضدَّ الإمام قبل أن تبدأ لحظة الاشتباك العسكري المباشر معه . فبالاستناد إلى مرتكزات نهجه السياسي رام معاوية من وراء حرب الدعاية هذه أن يهيّئ الأرضيّة الاجتماعيّة للالتحام العسكري المباشر ، حيث وظّف في هذه الحرب آليّة الخطابة وآليّة الرسالة في الوقت ذاته . لقد كان يبغي من وراء حربه الدعائيّة تحقيق عدد من الأهداف ، هي :
1 _ اتّهام الإمام بقتل عثمانيركّز الشطر الأعظم من كتب معاوية إلى الإمام على هذا الموضوع . أمّا البواعث التي أملت على معاوية اتّهام الإمام بالتورّط بقتل عثمان ، فقد تمثّلت _ من جهة _ بالطعن بأهليّة الإمام في تسنّم الخلافة ، كما تحرّكت _ من جهة ثانية _ باتّجاه تمهيد الأجواء للاصطدام العسكري المباشر معه بذريعة الطلب بدم عثمان ، ومن ثمّ تهيئة المناخ اللازم لوصول معاوية نفسه إلى السلطة . كثيرة هي الوثائق التأريخيّة التي تثبت صحّة هذا الادّعاء (1) . فقد انتهج معاوية
.
ص: 366
هذه السياسة الشيطانيّة بوضوح حتى قبل مقتل عثمان ، حينما تباطأ عن نصرته . وقد بلغ من شدّة جلاء هذا الأمر أنّ عثمان حينما رأى إهمال معاوية لمؤازرته برغم إصراره في أن يبعث إليه بقوّة تحميه في مقابل الثائرين ؛ قال له صراحة : «أرَدتَ أن اُقتَلَ فَتَقولَ : أنَا وَلِيُّ الثَّأرِ» (1) !
2 _ دفع الإمام للحديث ضدّ الخلفاءيعرف معاوية جيّداً أنّ عليّاً عليه السلام يعدّ نفسه هو الخليفة بلا فصل بعد النبيّ صلى الله عليه و آله وأنّ الإمام يعتقد بأنّه قد أصابه الظلم في هذه الواقعة ، ولذلك اعتصم بالمقاومة وامتنع عن بيعة أبي بكر ما كانت زوجته فاطمة الزهراء عليهاالسلامبضعة النبي صلى الله عليه و آله على قيد الحياة . بيدَ أنّ الإمام لم يكن يرى من المصلحة أن يجهر بهذا الأمر ، لما يفضي إليه ذلك من وقوع الفرقة في المجتمع الإسلامي ، وتصدّع الكيان السياسي للمسلمين . وفي هذا الاتّجاه كانت إحدى أهداف معاوية من حربه الدعائيّة أن يدفع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للتعريض بالخليفتين الأوّل والثاني ، لكي يصيِّر ذلك ذريعة إلى محاصرته أمام الرأي العام وإحراجه ، ووسيلة إلى بثّ الفرقة بين أنصاره وأتباعه . يقول النقيب أبو جعفر بهذا الشأن : «كانَ مُعاوِيَةُ يَتَسَقَّطُ عَلِياً ويَنعى عَلَيهِ ما عَساهُ يَذكُرُهُ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ ، وأنَّهُما غَصَباهُ حَقَّهُ ، ولا يَزالُ يَكيدُهُ بِالكِتابِ يَكتُبُهُ ، وَالرِّسالَةِ يَبعَثُها يَطلُبُ غِرَّتَهُ ، لِيَنفُثَ بِما في صَدرِهِ مِن حالِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ ،
.
ص: 367
إمّا مُكاتَبَةً أو مُراسَلَةً ، فَيَجعَلَ ذلِكَ حُجَّةً عَلَيهِ عِندَ أهلِ الشّامِ . . . فَكانَت هذِهِ الطّامَّةُ الكُبرى لَيسَت مُقتَصِرَةً عَلى فَسادِ أهلِ الشّامِ عَلَيهِ ، بَل وأهلِ العِراقِ الَّذينَ هُم جُندُهُ وبِطانَتُهُ وأنصارُهُ ؛ لِأَنَّهُم كانوا يَعتَقِدونَ إمامَةَ الشَّيخَينِ ، إلَا القَليلَ الشّاذَّ مِن خَواصِّ الشّيعَةِ» (1) .
3 _ التعريض بشموليّة بيعة الاُمّة للإماماتّضح من مقدّمة القسم أنّ سعة بيعة عموم الناس للإمام هي واحدة من نقاط القوّة البارزة التي اقترنت مع بداية حكمه ، إذ لم يحظَ أيّ من الخلفاء السابقين بمثل هذا الشمول . وما كان يرمي إليه معاوية في حربه الدعائيّة هو تشويه هذه النقطة والنيل من هذا المكسب ، والإيحاء بأنّ عدم مبايعة أهل الشام للإمام هي دليل عدم شرعيّة خلافته .
4 _ النيل من قداسة الإمام في الوجدان الشعبيلقد كان معاوية على دراية تامّة بأنّه لا يستطيع مواجهة الإمام والوقوف ضدّه مع كلّ الرصيد الضخم الذي يحظى به أمير المؤمنين عليه السلام وما له من سابقة مشرقة في هذا الدين ، إلّا بتهديم تلك القداسة في الأذهان والنيل من هالته في الوجدان الشعبي ، عبر عمل دعائي مكثّف تتخلّله عناصر التضليل والخداع . وما الرسائل التي بعث بها للإمام إلّا خطوة في هذا الاتّجاه ، ثمّ جاء سبّه من على المنابر استكمالاً لهذا النهج .
حكمة أجوبة الإمام لمعاويةوالآن نتساءل : ما الذي كان سيقع لو أنّ الإمام تراجع في هذه الحرب الدعائيّة ؟ وماذا لو لم يفتح باب المكاتبة مع معاوية بحسب تفكير ابن أبي الحديد ؟ وماذا
.
ص: 368
سيكون لو أهمل كلام معاوية وبرامجه على هذا الصعيد ولم يرد عليها ؟ هل كان معاوية يختار الصمت مثلاً ويكفّ عن حربه الدعائية الشعواء ضدَّ الإمام ؟ لا ريب أنّ سياسة السكوت في مقابل الأمواج الدعائيّة العاتية التي يبثّها معاوية كانت ستنتهي بضرر الإمام . فسكوت الإمام كان معناه تأييداً منه لكلّ تهم معاوية . إنّه من السذاجة بمكان أن نتصوّر بأنّ الإمام لو لم يفتح باب المكاتبة مع معاوية ، لما كان معاوية قد شرع بحربه الدعائيّة ضدّ الإمام أو أنّه كان ينثني عن إدامتها ، بل الذي لا نشكّ فيه أنّ سكوت الإمام _ لو حصل _ كان يستتبع تصعيد وتيرة هذه الحرب وتأجيج نيرانها أكثر . إنّ كتب الإمام وأجوبته لم تعمل على تعطيل الفعل الدعائي الماكر لمعاوية وحسب ، بل تحوّلت إلى وثيقة في التأريخ تثبت أحقّية الإمام . فإضافةً إلى ما بادر إليه الإمام من تنوير العقول وتبصير الناس وتوعيتها عبر هذه الرسائل ، فقد عمد فيها للدفاع عن نفسه على أحسن وجه (1) ، وأتمّ الحجّة على معاوية والمخدوعين من أتباعه . كما ترك للتأريخ ولمن يأتي بعده وثيقة حوت ما جرى بينه وبين معاوية . لقد التزم الإمام جانب الحذر بعمله بحيث لم يدع معاوية يحقّق أيّاً من الأهداف التي كان يصبو إليها من حربه الدعائيّة كما يريد .
4 / 17كِتابُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ إلى مُعاوِيَةَوقعة صفّين عن عبد اللّه بن عوف بن الأحمر :كَتَبَ مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ إلى مُعاوِيَةَ : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ . مِن مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ إلَى الغاوِي ابنِ صَخرٍ . سَلام
.
ص: 369
عَلى أهلِ طاعَةِ اللّهِ مِمَّن هُوَ مُسلِمٌ لِأَهلِ وِلايَةِ اللّهِ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ بِجَلالِهِ وعَظَمَتِهِ وسُلطانِهِ وقُدرَتِهِ خَلَقَ خَلقا بِلا عَنَتٍ (1) ولا ضَعفٍ في قُوَّتِهِ ، ولا حاجَةٍ بِهِ إلى خَلقِهِم ، ولكِنَّهُ خَلَقَهُم عَبيدا ، وجَعَلَ مِنهُم شَقِيّا وسَعيدا ، وغَوِيّا ورَشيدا ، ثُمَّ اختارَهُم عَلى عِلمِهِ ، فَاصطَفى وَانتَخَبَ مِنهُم مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ؛ فَاختَصَّهُ بِرِسالَتِهِ ، وَاختارَهُ لِوَحيِهِ ، وَائتَمَنَهُ عَلى أمرِهِ ، وبَعَثَهُ رَسولاً مُصَدِّقا لِما بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكُتُبِ ، ودَليلاً عَلَى الشَّرائِعِ ، فَدَعا إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ؛ فَكانَ أوَّلَ مَن أجابَ وأنابَ ، وصَدَّقَ ووافَقَ ، وأسلَمَ وسَلَّمَ أخوهُ وَابنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام ، فَصَدَّقَهُ بِالغَيبِ المَكتومِ ، وآثَرَهُ عَلى كُلِّ حَميمٍ ، فَوَقاهُ كُلَّ هَولٍ ، وواساهُ بِنَفسِهِ في كُلِّ خَوفٍ ، فَحارَبَ حَربَهُ ، وسالَمَ سَلمَهُ ، فَلَم يَبرَح مُبتَذِلاً لِنَفسِهِ في ساعاتِ الأَزلِ (2) ومَقاماتِ الرَّوعِ ، حَتّى بَرَّزَ سابِقا لا نَظيرَ لَهُ في جِهادِهِ ، ولا مُقارِبَ لَهُ في فِعلِهِ . و قَد رَأَيتُكَ تُساميهِ وأنتَ أنتَ ! ! وهُوَ هُوَ المُبَرِّزُ السّابِقُ في كُلِّ خَيرٍ ، أوَّلُ النّاسِ إسلاما ، وأصدَقُ النّاسِ نِيَّةً ، وأطيَبُ النّاسِ ذُرِّيَّةً ، وأفضَلُ النّاسِ زَوجَةً ، وخَيرُ النّاسِ ابنَ عَمٍّ . وأنتَ اللَّعينُ ابنُ اللَّعينِ . ثُمَّ لَم تَزَل أنتَ وأبوكَ تَبغِيانِ الغَوائِلَ لِدينِ اللّهِ ، وتَجهَدانِ عَلى إطفاءِ نورِ اللّهِ ، وتَجمَعانِ عَلى ذلِكَ الجُموعَ ، وتَبذُلانِ فيهِ المالَ ، وتُحالِفانِ (3) فيهِ القَبائِلَ ؛ عَلى ذلِكَ ماتَ أبوكَ ، وعَلى ذلِكَ خَلَفتَهُ . وَالشّاهِدُ عَلَيكَ بِذلِكَ مَن يَأوي ويَلجَأُ إلَيكَ مِن بَقِيَّةِ الأَحزابِ ، ورُؤوسِ النِّفاقِ وَالشِّقاقِ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله .
.
ص: 370
وَالشّاهِدُ لِعَلِيٍّ _ مَعَ فَضلِهِ المُبينِ ، وسَبقِهِ القَديمِ _ أنصارُهُ الَّذينَ ذُكِروا بِفَضلِهِم فِي القُرآنِ ، فَأَثنَى اللّهُ عَلَيهِم ، مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، فَهُم مَعهُ عَصائِبُ وكَتائِبُ حَولَهُ ، يُجالِدونَ بِأَسيافِهِم ، ويُهَريقونَ دِماءَهُم دونَهُ ، يَرَونَ الفَضلَ فِي اتِّباعِهِ ، وَالشَّقاءَ في خِلافِهِ . فَكَيفَ _ يا لَكَ الوَيلُ ! ! _ تَعدِلُ نَفسَكَ بِعَلِيٍّ ، وهُوَ وارِثُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ووَصِيُّهُ ، وأبو وَلَدِهِ ، وأوَّلُ النّاسِ لَهُ اتِّباعا ، وآخِرُهُم بِهِ عَهدا ، يُخبِرُهُ بِسِرِّهِ ، ويُشرِكُهُ في أمرِهِ ، وأنتَ عَدُّوُهُ وَابنُ عَدُوِّهِ ؟ ! فَتَمَتَّع مَا استَطَعتَ بِباطِلِكَ ، وَليُمدِد لَكَ ابنُ العاصِ في غَوايَتِكَ ، فَكَأَنَّ أجَلَكَ قَدِ انقَضى ، وكَيدَكَ قَد وَهى . وسَوفَ يَستَبينُ لِمَن تَكونُ العاقِبَةُ العُليا . وَ اعلَم أنَّكَ إنَّما تُكايِدُ رَبَّكَ الَّذي قَد أمِنتَ كَيدَهُ ، وأيِستَ مِن رَوحِهِ (1) . وهُوَ لَكَ بِالمِرصادِ ، وأنتَ مِنهُ في غُرورٍ ، وبِاللّهِ وأهلِ رَسولِهِ عَنكَ الغَناءُ ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى (2) .
4 / 18جَوابُ مُعاوِيَةَ عَنهُوقعة صفّين عن عبد اللّه بن عوف بن الأحمر :فَكَتَبَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ . مِن مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلَى الزّاري عَلى أبيهِ مُحَمَّدِ ابنِ أبي بَكرٍ . سَلامٌ عَلى أهلِ طاعَةِ اللّهِ . أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أتاني كِتابُكَ ، تَذكُرُ فيهِ مَا اللّهُ أهلُهُ في قُدرَتِهِ وسُلطانِهِ ، وما أصفى بِهِ نَبِيَّهُ ، مَعَ كَلامٍ ألَّفتَهُ ووَضَعتَهُ ، لِرَأيِكَ فيهِ تَضعيفٌ ، ولِأَبيكَ فيهِ تَعنيفٌ .
.
ص: 371
ذَكَرتَ حَقَّ ابنِ أبي طالِبٍ ، وقَديمَ سَوابِقِهِ وقَرابَتَهُ مِن نَبِيِّ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ ، ونُصرَتَهُ لَهُ ، ومُواساتَهُ إيّاهُ في كُلِّ خَوفٍ وهَولٍ ، وَاحتِجاجَكَ عَلَيَّ بِفَضلِ غَيرِكَ لا بِفَضلِكَ . فَأَحمَدُ إلها صَرَفَ الفَضلَ عَنكَ ، وجَعَلَهُ لِغَيرِكَ . وقَد كُنّا وأبوكَ مَعَنا في حَياةٍ مِن نَبِيِّنا صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ نَرى حَقَّ ابنِ أبي طالِبٍ لازِما لَنا ، وفَضلَهُ مُبَرِّزا عَلَينا ، فَلَمَّا اختارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ما عِندَهُ ، وأتَمَّ لَهُ ما وَعَدَهُ ، وأظهَرَ دَعوَتَهُ ، وأفلَجَ حُجَّتَهُ . قَبَضَهُ اللّهُ إلَيهِ ، فَكانَ أبوكَ وفاروقُهُ أوَّلَ مَنِ ابتَزَّهُ وخالَفَهُ ؛ عَلى ذلِكَ اتَّفَقا وَاتَّسَقا ، ثُمَّ دَعَواهُ إلى أنفُسِهِم ؛ فَأَبطَأَ عَنهُما ، وتَلَكَّأَ عَلَيهِما ؛ فَهَمّا بِهِ الهُمومَ ، وأرادا بِهِ العَظيمَ ؛ فَبايَعَ وسَلَّمَ لَهُما ؛ لا يُشرِكانِهِ في أمرِهِما ، ولا يُطلِعانِهِ عَلى سِرِّهِما ، حَتّى قُبِضا وَانقَضى أمرُهُما . ثُمَّ قامَ بَعدَهُما ثالِثُهُما عُثمانُ بنُ عَفّانَ ، يَهتَدي بِهَديِهِما ، ويَسيرُ بِسيرَتِهِما ، فَعِبتَهُ أنتَ وصاحِبُكَ ، حَتّى طَمِعَ فيهِ الأَقاصي مِن أهلِ المَعاصي ، وبَطَنتُما لَهُ وأظهَرتُما ، وكَشَفتُما عَداوَتَكُما وغِلَّكُما ، حَتّى بَلَغتُما مِنهُ مُناكُما . فَخُذْ حِذرَكَ يَابنَ أبي بَكرٍ ! فَسَتَرى وَبالَ أمرِكَ . وقِس شِبرَكَ بِفِترِكَ (1) تَقصُر عَن أن تُساوِيَ أو تُوازِيَ مَن يَزِنُ الجِبالَ حِلمُهُ ، ولا تَلينُ عَلى قَسرٍ قَناتُهُ ، ولا يُدرِكُ ذو مَدىً أناتَهُ . أبوك مَهَّدَ مِهادَهُ ، وبَنى مُلكَهُ وشادَهُ ، فَإِن يَكُن ما نَحنُ فيهِ صَوابا فَأَبوكَ أوَّلُهُ ، وإن يَكُ جَورا فَأَبوكَ أسَسُهُ . ونَحنُ شُرَكاؤُهُ ، وبِهَديِهِ أخَذنا ، وبِفِعلِهِ اقتَدَينا . ولَولا ما سَبَقَنا إلَيهِ أبوكَ ما خالَفنَا ابنَ أبي طالِبٍ وأسلَمنا لَهُ ، ولكِنّا رَأَينا أباكَ فَعَلَ ذلِكَ فَاحتَذَينا بِمِثالِهِ ، وَاقتَدَينا بِفِعالِهِ . فَعِب أباكَ ما بَدا لَكَ أو دَع ، وَالسَّلامُ عَلى مَن أنابَ ، ورَجَعَ عَن غَوايَتِهِ وتابَ (2) .
.
ص: 372
. .
ص: 373
الفصل الخامس : تهيُّؤ معاوية للحرب5 / 1إشارَةُ عَمرِو بنِ العاصِشرح نهج البلاغة_ في شَرحِ كَلامِهِ عليه السلام فِي اليَومِ الثّاني مِن بَيعَتِهِ بِالمَدينَةِ ، حَيثُ أمَرَ عليه السلام بِرَدِّ كُلِّ قَطيعَةٍ أقطَعَها عُثمانُ وكُلِّ مالٍ أعطاهُ مِن بَيتِ المالِ _: قالَ الكَلبِيُّ : ثُمَّ أمَرَ عليه السلام بِكُلِّ سِلاحٍ وُجِدَ لِعُثمانَ في دارِهِ مِمّا تَقَوّى بِهِ عَلَى المُسلِمينَ فَقُبِضَ ، وأمَرَ بِقَبضِ نَجائِبَ كانَت في دارِهِ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ فَقُبِضَت ، وأمَرَ بِقَبضِ سَيفِهِ ودِرعِهِ ، وأمَرَ ألّا يُعرَضَ لِسِلاحٍ وُجِدَ لَهُ لَم يُقاتَل بِهِ المُسلِمونَ ، وبِالكَفِّ عَن جَميعِ أموالِهِ الَّتي وُجِدَت في دارِهِ وفي غَيرِ دارِهِ ، وأمَرَ أن تُرتَجَعَ الأَموالُ الَّتي أجازَ بِها عُثمانُ حَيثُ اُصيبَت أو اُصيبَ أصحابُها . فَبَلَغَ ذلِكَ عَمرَو بنَ العاصِ وكانَ بِأَيلَةَ مِن أرضِ الشّامِ ، أتاها حَيثُ وَثَبَ النّاسُ عَلى عُثمانَ فَنَزَلَها فَكَتَبَ إلى مُعاوِيَةَ : ما كُنتَ صانِعا فَاصنَع . إذ قَشَرَكَ ابنُ أبي طالِبٍ مِن كُلِّ مالٍ تملِكُهُ كَما تُقشَرُ عَنِ العَصا لِحاها (1) .
.
ص: 374
5 / 2الاِستِعانَةُ بِعَمرِو بنِ العاصِوقعة صفّين عن عمر بن سعد ومحمّد بن عبيد اللّه :كَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عَمرٍو وهُوَ بِالبَيعِ مِن فِلَسطينَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّهُ كانَ مِن أمرِ عَلِيٍّ وطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ ما قَد بَلَغَكَ . وقَد سَقَطَ إلَينا مَروانُ بنُ الحَكَمِ في رافِضَةِ أهلِ البَصرَةِ ، وقَدِمَ عَلَينا جَريرُ بنُ عَبدِ اللّهِ في بَيعَةِ عَلِيٍّ ، وقَد حَبَستُ نَفسي عَلَيكَ حَتّى تَأتِيَني . أقبِل اُذاكِرك أمراً . فَلَمّا قُرِئَ الكِتابُ عَلى عَمرٍو استَشارَ ابنَيهِ عَبدَ اللّهِ ومُحَمَّدا فَقالَ : اِبنَيَّ ، ما تَرَيانِ ؟ فَقالَ عَبدُ اللّهِ : أرى أنَّ نَبِيَّ اللّهِ صلى الله عليه و آله قُبِضَ وهُوَ عَنكَ راضٍ ، وَالخَليفَتانِ مِن بَعدِهِ ، وقُتِلَ عُثمانُ وأنتَ عَنهُ غائِبٌ . فَقِرَّ في مَنزِلِكَ فَلَستَ مَجعولاً خَليفَةً ، ولا تُريدُ أن تَكونَ حاشِيَةً لِمُعاوِيَةَ عَلى دُنيا قَليلَةٍ ، أوشَكَ أن تَهلِكَ فَتَشقى فيها . وقالَ مُحَمَّدٌ : أرى أنَّكَ شَيخُ قُرَيشٍ وصاحِبُ أمرِها ، وإن تَصَرَّمَ هذَا الأَمرُ وأنتَ فيهِ خامِلٌ تَصاغَرَ أمرُكَ ، فَالحَق بِجَماعَةِ أهلِ الشّامِ فَكُن يَدا مِن أياديها ، وَاطلُب بِدَمِ عُثمانَ ، فَإِنَّكَ قَدِ استَنَمتَ فيهِ إلى بَني اُمَيَّةَ . فَقالَ عَمرٌو : أمّا أنتَ يا عَبدَ اللّهِ فَأَمَرتَني بِما هُوَ خَيرٌ لي في ديني ، وأمّا أنتَ يا مُحَمَّدُ فَأَمَرتَني بِما هُوَ خَيرٌ لي في دُنيايَ ، وأنَا ناظِرٌ فيهِ (1) .
5 / 3وَعدُ المُؤازَرَةِ المَشروطَةِتاريخ الطبري :خَرَجَ عَمرُو بنُ العاصِ ومَعَهُ ابناهُ حَتّى قَدِمَ عَلى مُعاوِيَةَ ، فَوَجَد
.
ص: 375
أهلَ الشّامِ يَحُضّونَ مُعاوِيَةَ عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ ، فَقالَ عَمرُو بنُ العاصِ : أنتُم عَلَى الحَقِّ ، اطلُبوا بِدَمِ الخَليفَةِ المَظلومِ . ومُعاوِيَةُ لا يَلتَفِتُ إلى قَولِ عَمرٍو (1) .
تاريخ اليعقوبي_ في ذِكرِ قُدومِ عَمرِو بنِ العاصِ عَلى مُعاوِيَةَ وبَيعَتِهِ لَهُ _: فَقَدِمَ عَلى مُعاوِيَةَ ، فَذاكَرَهُ أمرَهُ ، فَقالَ لَهُ : أمّا عَلِيٌّ ، فَوَاللّهِ ، لا تُساوِي العَرَبُ بَينَكَ وبَينَهُ في شَيءٍ مِنَ الأَشياءِ ، وإنَّ لَهُ فِي الحَربِ لَحَظّا ما هُوَ لِأَحَدٍ مِن قُرَيشٍ إلّا أن تَظلِمَهُ . قالَ : صَدَقتَ ، ولكِنّا نُقاتِلُهُ عَلى ما في أيدينا ، ونُلزِمُهُ قَتلَ عُثمانَ . قالَ عَمرٌو : واسَوءَتاه ! إنَّ أحَقَّ النّاسِ ألّا يَذكُرَ عُثمانَ لَأَنا ولَأَنتَ (2) . قالَ : ولِمَ وَيحَكَ ؟ قالَ : أمّا أنتَ فَخَذَلتَهُ ومَعَكَ أهلُ الشّامِ حَتَّى استَغاثَ بِيَزيدَ بنِ أسَدٍ البَجَلِيِّ ، فَسارَ إلَيهِ ؛ وأمّا أنَا فَتَرَكتُهُ عِيانا ، وهَرَبتُ إلى فِلَسطينَ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : دَعني مِن هذا مُدَّ يَدَكَ فَبايِعني ! قالَ : لا ، لَعَمرُ اللّهِ ، لا اُعطيكَ ديني حَتّى آخُذَ مِن دُنياكَ . قالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : لَكَ مِصرُ طُعمَةً ، فَغَضِبَ مَروانُ بنُ الحَكَمِ ، وقالَ : ما لي لا اُستَشارُ ؟ فَقالَ مُعاوِيَةُ : اُسكُت ، فَإِنَّما يُستَشارُ بِكَ . فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، بِت عِندَنَا اللَّيلَةَ . وكَرِهَ أن يُفسِدَ عَلَيهِ النّاسَ ، فَباتَ عَمرٌو ، وهُوَ يَقولُ : مُعاوِيَ لا اُعطيكَ ديني ، ولَم أنَل بِهِ مِنكَ دُنيا ، فَانظُرَن كَيفَ تَصنَعُ فَإِن تُعطِني مِصرا فَأَربِح بِصَفقَةٍ أخذتَ بِها شَيخا يَضُرُّ ويَنفَعُ وَمَا الدّينُ وَالدُّنيا سَواءً ، وإنَّني لَاخُذُ ما اُعطى ، ورَأسي مُقَنَّعُ ولكِنَّني اُعطيكَ هذا ، وإنَّني لَأَخدَعُ نَفسي ، وَالمُخادِعُ يُخدَعُ أ اُعطيكَ أمرا فيهِ لِلمُلكِ قُوَّةٌ وأبقى لَهُ ، إن زَلَّتِ النَّعلُ اُصرَعُ ؟ وتَمنَعُني مِصرا ، ولَيسَت بِرَغبَةٍ وإنَّ ثَرَى القَنُوعِ يَوما لَمُولَعُ (3) فَكَتَبَ لَهُ بِمِصرَ شَرطا ، وأشهَدَ لَهُ شُهودا ، وخَتَمَ الشَّرطَ ، وبايَعَهُ عَمرٌو ، وتَعاهَدا عَلَى الوَفاءِ (4) .
.
ص: 376
سير أعلام النبلاء عن يزيد بن أبي حبيب وعبد الواحد بن أبي عون :لَمّا صارَ الأَمرُ في يَدِ مُعاوِيَةَ ، استَكثَرَ مِصرَ طُعمَةً لِعَمرٍو ما عاشَ ، ورَأى عَمرٌو أنَّ الأَمرَ كُلَّهُ قَد صَلَحَ بِهِ وبِتَدبيرِهِ ، وظَنَّ أنَّ مُعاوِيَةَ سَيَزيدُهُ الشَّامَ ، فَلَم يَفعَل ، فَتَنَكَّرَ لَهُ عَمرٌو . فَاختَلَفا وتَغالَظا ، فَأَصلَحَ بَينَهُما مُعاوِيَةُ بنُ حُدَيجٍ ، وكَتَبَ بَينَهُما كِتابا بِأَنَّ : لِعَمرٍو وِلايَةَ مِصرَ سَبعَ سِنينَ ، وأشهَدَ عَلَيهِما شُهودا ، وسارَ عَمرٌو إلى مِصرَ سَنَةَ تِسعٍ وثَلاثينَ ، فَمَكَثَ نَحوَ ثَلاثِ سِنينَ ، وماتَ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ في ذِكرِ عَمرِو بنِ العاصِ _: إنَّهُ لم يُبايِع مُعاوِيَةَ حَتّى شَرَطَ أن يُؤتِيَهُ أتِيَّةً ، ويَرضَخَ لَهُ عَلى تَركِ الدِّين رَضيخَةً (2) .
راجع : ص 363 (أهداف معاوية في حرب الدعاية وحكمة أجوبة الإمام) .
.
ص: 377
5 / 4اِستِغلالُ قَميصِ عُثمانَتاريخ الطبري عن محمّد وطلحة :كانَ أهلُ الشّامِ لَمّا قَدِمَ عَلَيهِمُ النُّعمانُ بنُ بَشيرٍ بِقَميصِ عُثمانَ الَّذي قُتِلَ فيهِ مُخَضَّبا بِدَمِهِ ، وبِأَصابِعِ نائِلَةَ زَوجَتِهِ مَقطوعَةً بِالبَراجِمِ ؛ إصبَعانِ مِنها ، وشَيءٌ مِنَ الكَفِّ ، وإصبَعانِ مَقطوعَتانِ مِن اُصولِهِما ، ونِصفُ الإِبهامِ ، وَضَعَ مُعاوِيَةُ القَميصَ عَلَى المِنبَرِ ، وكَتَبَ بِالخَبَرِ إلَى الأَجنادِ . وثابَ إلَيهِ النّاسُ ، وبَكَوا سَنَةً (1) وهُوَ عَلَى المِنبَرِ وَالأَصابِعُ مُعَلَّقَةٌ فيهِ ، وآلَى الرِّجالُ مِن أهلِ الشّامِ ألّا يَأتُوا النِّساءَ ، ولا يَمَسَّهُمُ الماءُ لِلغُسلِ إلّا مِنِ احتِلامٍ ، ولا يَناموا عَلَى الفُرُشِ حَتّى يَقتُلوا قَتَلَةَ عُثمانَ ، ومَن عَرَضَ دونَهُم بِشَيءٍ أو تَفنى أرواحُهُم . فَمكَثوا حَولَ القَميصِ سَنَةً ، وَالقَميصُ يوضَعُ كُلَّ يَومٍ عَلَى المِنبَرِ ويُجَلَّلُهُ أحيانا فَيُلبَسُهُ ، وعُلِّقَ في أردانِهِ أصابِعُ نائِلَةَ (2) .
وقعة صفّين عن عمر بن سعد :لَمّا بَلَغَ مُعاوِيَةَ بنَ أبي سُفيانَ مَكانُ عَلِيٍّ عليه السلام بِالنُّخَيلَةِ ومُعَسكَرِهِ بِها _ ومُعاوِيَةُ بِدِمَشقَ قَد ألبَسَ مِنبَرَ دِمَشقَ قَميصَ عُثمانَ _ وهُوَ مُخَضَّبٌ بِالدَّمِ ، وحَولَ المِنبَرِ سَبعونَ ألفَ شَيخٍ يَبكونَ حَولَهُ لا تَجِفُّ دُموعُهُم عَلى عُثمانَ _ خَطَبَ مُعاوِيَةُ أهلَ الشّامِ فَقالَ : يا أهلَ الشّامِ ! قَد كُنتُم تُكَذِّبوني في عَلِيٍّ ، وقَدِ استَبانَ لَكُم أمرُهُ ، وَاللّهِ ، ما قَتَلَ خَليفَتَكُم غَيرُهُ ، وهُوَ أمَرَ بِقَتلِهِ ، وألَّبَ النّاسَ عَلَيهِ ، وآوى قَتَلَتَهُ ، وهُم جُندُهُ وأنصارُهُ وأعوانُهُ ، وقَد خَرَجَ بِهِم قاصِدا بِلادَكُم ودِيارَكُم لِاءِبادَتِكُم . يا أهلَ الشّامِ ! اللّهَ اللّهَ في عُثمانَ ! فَأَنَا وَلِيُّ عُثمانَ وأحَقُّ مَن طَلَبَ بِدَمِهِ ، وقَد
.
ص: 378
جَعَلَ اللّهُ لِوَلِيِّ المَظلومِ سُلطانا ، فَانصُروا خَليفَتَكُمُ المَظلومَ ؛ فَقَدَ صَنَعَ بِهِ القَومُ ما تَعلَمونَ ، قَتَلوهُ ظُلما وبَغيا ، وقَد أمَرَ اللّهُ بِقِتالِ الفِئَةِ الباغِيَةِ حَتّى تَفيءَ إلى أمرِ اللّهِ . ثُمَّ نَزَلَ (1) .
راجع : ص 363 (أهداف معاوية في حرب الدعاية وحكمة أجوبة الإمام) .
5 / 5المُصالَحَةُ مَعَ الرُّومِتاريخ الطبري عن حرملة بن عمران :أتى مُعاوِيَةَ في لَيلَةٍ أنَّ قَيصَرَ قَصَدَ لَهُ فِي النّاسِ ، وأنَّ ناتِلَ بنَ قَيسٍ الجُذامِيَّ غَلَبَ فِلَسطينَ وأخَذَ بَيتَ مالِها ، وأنَّ المِصرِيّينَ الَّذينَ كانَ سَجَنَهُم هَرَبوا ، وأنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ قَصَدَ لَهُ فِي النّاسِ ، فَقالَ لِمُؤَذِّنِهِ : أذِّن هذِهِ السّاعَةَ ، _ وذلِكَ نِصفُ اللَّيلِ _ فَجاءَهُ عَمرُو بنُ العاصِ فَقالَ : لِمَ أرسَلتَ إلَيَّ ؟ قالَ : أنَا ما أرسَلتُ إلَيكَ ، قالَ : ما أذَّنَ المُؤَذِّنُ هذِهِ السّاعَةَ إلّا مِن أجلي ، قالَ : رُميتُ بالقِسِيِّ الأَربَعِ ! قالَ عَمرٌو : أمّا هؤُلاءِ الَّذينَ خَرَجوا مِن سِجنِكَ ، فَإِنَّهُم إن خَرَجوا مِن سِجنِكَ فَهُم في سِجنِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ وهُم قَومٌ شُراةٌ لا رحلَةَ بِهِم ، فَاجعَل لِمَن أتاكَ بِرَجُلٍ مِنهُم أو بِرَأسِهِ دِيتَهُ فَإِنَّكَ سَتُؤتى بِهِم ، وَانظُر قَيصَرَ فَوادِعهُ وأعطِهِ مالاً وحُلَلاً مِن حُلَلِ مِصرَ فَإِنَّهُ سَيَرضى مِنكَ بِذاكَ ، وَانظُر ناتِلَ بنَ قَيسٍ فَلَعَمري ما أغضَبَهُ الدّينُ ولا أرادَ إلّا ما أصابَ ، فَاكتُب إلَيهِ وهَب لَهُ ذلِكَ وهَنِّئهُ إيّاهُ ، فَإِن كانَت لَكَ قُدرَةٌ عَلَيهِ وإن لَم تَكُن لَكَ فَلا تَأسَ عَلَيهِ ، وَاجعَل حَدَّكَ وحَديدَكَ لِهذَا الَّذي عِندَهُ دُم ابنِ عَمِّكَ (2) .
.
ص: 379
مروج الذهب :قَد كانَ مُعاوِيَةُ صالَحَ مَلِكَ الرُّومِ عَلى مالٍ يَحمِلُهُ إلَيهِ لِشُغلِهِ بِعَلِيٍّ (1) .
5 / 6الاِستِنصارُ مِن مَكَّةَ وَالمَدينَةِوقعة صفّين عن صالح بن صدقة :لَمّا أرادَ مُعاوِيَةُ السَّيرَ إلى صِفّينَ قالَ لِعَمرِو بنِ العاصِ : إنّي قَد رَأَيتُ أن نُلقِيَ إلى أهلِ مَكَّةَ وأهلِ المَدينَةِ كِتابا نَذكُرُ لَهُم فيهِ أمرَ عُثمانَ ، فَإِمّا أن نُدرِكَ حاجَتَنا ، وإمّا أن يَكُفَّ القَومُ عَنّا . قالَ عَمرٌو : إنَّما نَكتُبُ إلى ثَلاثَةِ نَفَرٍ : راضٍ بِعَلِيٍّ فَلا يَزيدُهُ ذلِكَ إلّا بَصيرَةً ، أو رَجُلٍ يَهوى عُثمانَ فَلَن نَزيدَهُ عَلى ما هُوَ عَلَيهِ ، أو رَجُلٍ مُعتَزِلٍ فَلَستَ بِأَوثَقَ في نَفسِهِ مِن عَلِيٍّ . قالَ : عَلَيَّ ذلِكَ . فَكَتَبا : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّهُ مَهما غابَت عَنّا مِنَ الاُمورِ فَلَن يَغيبَ عَنّا أنَّ عَلِيّا قَتَلَ عُثمانَ ، وَالدَّليلُ عَلى ذلِكَ مَكانُ قَتَلَتِهِ مِنهُ . وإنَّما نَطلُبُ بِدَمِهِ حَتّى يَدفَعوا إلَينا قَتَلَتَهُ فَنَقتُلَهُم بِكِتابِ اللّهِ ، فَإِن دَفَعَهُم عَلِيٌّ إلَينا كَفَفنا عَنهُ ، وجَعَلناها شورى بَينَ المُسلِمينَ عَلى ما جَعَلَها عَلَيهِ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ . وأمَّا الخِلافَةُ فَلَسنا نَطلُبُها ، فَأَعينونا عَلى أمرِنا هذا وَانهَضوا مِن ناحِيَتِكُم ، فِإِنَّ أيدِيَنا وأيدِيَكُم إذَا اجتَمَعَت عَلى أمرٍ واحِدٍ ، هابَ عَلِيٌّ ما هُوَ فيهِ . فَكَتَبَ إلَيهِما عَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ : أمّا بَعدُ فَلَعَمري لَقَد أخطَأتُما مَوضِعَ البَصيرَةِ ، وتَناوَلتُماها مِن مَكانٍ بَعيدٍ ، وما زادَ اللّهُ مِن شاكٍّ في هذَا الأَمرِ بِكِتابِكُما إلّا شَكّا . وما أنتُما وَالخِلافَةَ ؟ وأمّا أنتَ يا مُعاوِيَةُ فَطليقٌ ، وأمّا أنتَ يا عَمرُو فَظَنونٌ . ألا فَكُفّا عَنّي أنفُسَكُما ، فَلَيس لَكُما ولا لي نَصيرٌ . وكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصارِ مَعَ كِتابِ عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ : مُعاوِيَ إنَّ الحَقَّ أبلَجُ واضِحٌ ولَيسَ بِما رَبَّصتَ أنتَ ولا عَمرُو (2) .
.
ص: 380
وقعة صفّين عن زياد بن رستم :كَتَبَ مُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ إلى عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ خاصَّةً ، وإلى سَعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ ، ومُحَمَّدِ بنِ مَسلَمَةَ ، دونَ كِتابِهِ إلى أهلِ المَدينَةِ ، فَكانَ في كِتابِهِ إلَى ابنِ عُمَرَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّهُ لَم يَكُن أحَدٌ مِن قُرَيشٍ أحَبَّ إلَيَّ أن يَجتَمِعَ عَلَيهِ الاُمَّةُ بَعدَ قَتلِ عُثمانَ مِنكَ . ثُمَّ ذَكَرتُ خَذلَكَ إيّاهُ وطَعنَكَ عَلى أنصارِهِ فَتَغَيَّرتُ لَكَ ، وقَد هَوَّنَ ذلِكَ عَلَيَّ خِلافُكَ عَلى عَلِيٍّ ، ومَحا عَنَكَ بَعضَ ما كانَ مِنكَ ، فَأَعِنّا _ رَحِمَكَ اللّهُ _ عَلى حَقِّ هذَا الخَليفَةِ المَظلومِ ، فَإِنّي لَستُ اُريدُ الإِمارَة عَلَيكَ ، ولكِنّي اُريدُها لَكَ ، فَإِن أبَيتَ كانَت شورى بِينَ المُسلِمينَ (1) .
5 / 7إعلانُ الحَربِوقعة صفّين عن محمّد وصالح بن صدقة :كَتَبَ عَلِيٌّ عليه السلام إلى جَرَيرٍ [رَسولِهِ إِلى مُعاوِيَةَ ]بَعدَ ذلِكَ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِذا أتاكَ كِتابي هذا ، فَاحمِل مُعاوِيَةَ عَلَى الفَصلِ ، وخُذهُ بِالأَمرِ الجَزمِ ، ثُمَّ خَيِّرهُ بَينَ حَربٍ مُجلِيَةٍ ، أو سِلمٍ مُحظِيَةٍ ، فَإِنِ اختارَ الحَربَ فَانبِذ لَهُ ، وإنِ اختارَ السِّلمَ فَخُذ بَيعَتَهُ . فَلَمّا انتَهَى الكِتابُ إلى جَريرٍ أتى مُعاوِيَةَ فَأَقرَأَهُ الكِتابَ ، فَقالَ لَهُ : يا مُعاوِيَةُ ، إنَّهُ لا يُطبَعُ عَلى قَلبٍ إلّا بِذَنبٍ ، ولا يُشرَحُ صَدرٌ إلّا بِتَوبَةٍ ، ولا أظُنُّ قَلبَكَ إلّا مَطبوعا .
.
ص: 381
أراكَ قَد وَقَفتَ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ كَأَنَّكَ تَنتَظِرُ شَيئا في يَدَي غَيرِكَ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : ألقاكَ بِالفَيصَلِ أوَّلَ مَجلِسٍ إن شاءَ اللّهُ . فَلَمّا بايَعَ مُعاوِيَةَ أهلُ الشّامِ وذاقَهُم قالَ : يا جَريرُ ! الحَق بِصاحِبِكَ . وكَتَبَ إلَيهِ بِالحَربِ ، وكَتَبَ في أسفَلِ كِتابِهِ بِقَولِ كَعبِ بنِ جُعَيلٍ : أرَى الشّامَ تَكرَهُ مُلكَ العِراقِ وأهلُ العِراقِ لَها كارِهونا وكُلٌّ لِصاحِبِهِ مُبغِضٌ يَرى كُلَّ ما كانَ مِن ذاكَ دينا (1)
.
ص: 382
. .
ص: 383
الفصل السادس : مسير الإمام إلى صفّين6 / 1اِستِشارَةُ الإِمامِ فِي المَسيرِ إلى صِفّينَتاريخ الطبري عن أبي بكر الهذلي :إنَّ عَلِيّا لَمَّا استَخلَفَ عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ عَلَى البَصرَةِ سارَ مِنها إلَى الكوفَةِ فَتَهَيَّأَ فيها إلى صِفّينَ ، فَاستَشارَ النّاسَ في ذلِكَ فَأَشارَ عَلَيهِ قَومٌ أن يَبعَثَ الجُنودَ ويُقيمَ وأشارَ آخَرونَ بِالمَسيرِ ، فَأَبى إلَا المُباشَرَةَ فَجَهَّزَ النّاسَ . فَبَلَغَ ذلِكَ مُعاوِيَةَ فَدَعا عَمرَو بنَ العاصِ فَاستَشارَهُ فَقالَ : أمّا إذ بَلَغَكَ أنَّهُ يَسيرُ فَسِرِ بِنَفسِكَ ولا تَغِب عَنهُ بِرَأيِكَ ومَكيدَتِكَ . قالَ : أمّا إذا يا أبا عَبدِ اللّهِ فَجَهَّزِ النّاسَ . فَجاءَ عَمرٌو فَحَضَّضَ النّاسَ وضَعَّفَ عَلِيّا وأصحابَهُ وقالَ : إنَّ أهلَ العِراقِ قَد فَرَّقوا جَمعَهُم وأوهَنوا شَوكَتَهُم وفَلَوا حَدَّهُم ، ثُمَّ إنَّ أهلَ البَصرَةِ مُخالِفونَ لِعَلِيٍّ قَد وَتَرَهُم وقَتَلَهُم ، وقَد تَفانَت صَناديدُهُم وصَناديدُ أهلِ الكوفَةِ يَومَ الجَمَلِ ، وإنَّما سارَ في شِرذِمَةٍ قَليلَةٍ ، ومِنهُم مَن قَد قَتَلَ خَليفَتَكُم ، فَاللّهَ اللّهَ في حَقِّكُم أن تُضَيِّعوهُ وفي دَمِكُم أن تُبطِلوهُ (1) .
راجع : ص 332 (أصحاب الإمام يشيرون عليه بالاستعداد للحرب) .
.
ص: 384
6 / 2خُطبَةُ الإِمامِ قَبلَ الشُّخوصِوقعة صفّين عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود :لَمّا أرادَ عَلِيٌّ عليه السلام الشُّخوصَ مِنَ النُّخَيلَةِ ، قامَ في النّاسِ _ لِخَمسٍ مَضَينَ مِن شَوّالٍ يَومَ الأَربَعاءِ _ فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ غيرَ مَفقودِ النِّعَمِ ، ولا مُكافَإِ الإِفضالِ ، وأشهَدُ ألّا إلهَ إلَا اللّهُ ونَحنُ عَلى ذلِكُم مِنَ الشّاهِدينَ ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ صلى الله عليه و آله . أمّا بَعدَ ذلِكُم ؛ فَإِنّي قَد بَعَثتُ مُقَدِّماتي ، وأمَرتُهُم بِلُزومِ هذَا المِلطاطِ (1) ، حَتّى يَأتِيَهُم أمري ، فَقَد أرَدتُ أن أقطَعَ هذِهِ النُّطفَةَ (2) إلى شِرذِمَةٍ مِنكُم مُوَطِّنينَ بِأَكنافِ (3) دَجلَةَ ، فَاُنهِضَهُم مَعَكُم إلى أعداءِ اللّهِ إن شاءَ اللّهُ ، وقَد أمَّرتُ عَلَى المِصرِ عُقبَةَ بنَ عَمرٍو الأَنصارِيَّ ، ولَم آلُكُم ولا نَفسي ، فَإِيّاكُم وَالتَّخَلُّفَ وَالتَّرَبُّصَ ؛ فَإِنّي قَد خَلَّفتُ مالِكَ بنَ حَبيبٍ اليَربوعِيَّ ، وأمَرتُهُ ألّا يَترُكَ مُتَخَلِّفا إلّا ألحَقَهُ بِكُم عاجِلاً إن شاءَ اللّهُ . فَقامَ إلَيهِ مَعقِلُ بنُ قَيسٍ الرِّياحِيُّ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! وَاللّهِ لا يَتَخَلَّفُ عَنكَ إلّا ظَنينٌ ، ولا يَتَرَبَّصُ بِكَ إلّا مُنافِقٌ . فَأْمُر مالِكَ بنَ حَبيبٍ أن يَضرِبَ أعناقَ المُتَخَلِّفينَ . قالَ عَلِيٌّ عليه السلام : قَد أمَرتُهُ بِأَمري ، ولَيسَ مُقَصِّرا في أمري إن شاءَ اللّهُ . وأرادَ قَومٌ أن يَتَكَلَّموا فَدَعا بِدابَّتِهِ فَجاءَتهُ ، فَلَمّا أرادَ أن يَركَبَ وَضَعَ رِجلَهُ فِي الرِّكابِ وقالَ : «بِسمِ اللّهِ» . فَلَمّا جَلَسَ عَلى ظَهرِها قالَ : «سُبْحَ_نَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَ_ذَا وَ مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَ إِنَّ_آ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ» (4) . ثُمَّ قالَ : اللّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ من
.
ص: 385
وَعثاءِ السَّفَرِ ، وكَآبَةِ المُنقَلَبِ ، وَالحَيرَةِ بَعدَ اليَقينِ ، وسوءِ المَنظَرِ فِي الأَهلِ وَالمالِ وَالوَلَدِ . اللّهُمَّ أنتَ الصّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالخَليفَةُ فِي الأَهلِ ، ولا يَجمَعُهُما غَيرُكَ ؛ لِأَنَّ المُستَخلَفَ لا يَكونُ مُستَصحَبا ، وَالمُستَصحَبَ لا يَكونُ مُستَخلَفا (1) .
الأخبار الطوال :لَمّا أجمَعَ عَلِيٌّ عليه السلام عَلَى المَسيرِ إلى أهلِ الشّامِ ، وحَضَرَتِ الجُمُعَةُ ، صَعِدَ المِنبَرَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وصَلّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! سيروا إلى أعداءِ السُّنَنِ وَالقُرآنِ ، سيروا إلى قَتَلَةِ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، سيروا إلَى الجُفاةِ الطَّغامِ الَّذينَ كانَ إسلامُهُم خَوفا وكَرها ، سيروا إلَى المُؤَلَّفَةِ قُلوبُهُم لِيَكُفّوا عَنِ المُسلِمينَ بَأسَهُم (2) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن خِطبَةٍ لَهُ عِندَ المَسيرِ إلَى الشّامِ ، وقيلَ : هُوَ بِالنُّخَيلَةِ خارِجا مِنَ الكوفَةِ إلى صِفّينَ _: الحَمدُ للّهِِ كُلَّما وَقَبَ لَيلٌ وغَسَقَ ، وَالحَمدُ للّهِِ كُلَّما لاحَ نَجمٌ وخَفَقَ ، وَالحَمدُ للّهِِ غَيرَ مَفقودِ الإِنعامِ ، ولا مُكافَإِ الإِفضالِ . أمّا بَعدُ ؛ فَقَد بَعَثتُ مُقَدِّمَتي ،وأمَرتُهُم بِلُزومِ هذَا المِلطاطِ ، حَتّى يَأتِيَهُم أمري ، وقَد رَأَيتُ أن أقطَعَ هذِهِ النُّطفَةَ إلى شِرذِمَةٍ مِنكُم ، مُوَطِّنينَ أكنافَ دَجلَةَ ، فَاُنهِضَهُم مَعَكُم إلى عَدُوِّكُم ، وأجعَلَهُم مِن أمدادِ القُوَّةِ لَكُم (3) .
6 / 3رَدُّ الشَّمسِ بِدُعاءِ الإِمامِوقعة صفّين عن ابن مخنف :إنّي لَأَنظُرُ إلى أبي ، مِخنَفِ بنِ سُلَيمٍ وهُوَ يُسايِرُ عَلِيّا بِبابِلَ ، وهُوَ يَقولُ : إنَّ بِبابِلَ أرضا قَد خُسِفَ بِها ، فَحَرِّك دابَّتَكَ لَعَلَّنا أن نُصَلِّى ¨َ
.
ص: 386
العَصرَ خارِجا مِنها . فَحَرَّكَ دابَّتَهُ وحَرَّكَ النّاسُ دَوابَّهُم في أثَرِهِ ، فَلَمّا جازَ جِسرَ الصَّراةِ نَزَلَ فَصَلّى بِالنّاسِ العَصرَ . [و] عَن عَبدِ خَيرٍ : كُنتُ مَعَ عَلِيٍّ أسيرُ في أرضِ بابِلَ . وحَضَرَتِ الصَّلاةُ صَلاةُ العَصرِ . فَجَعَلنا لا نَأتِي مَكانا إلّا رَأَيناهُ أفيَحَ (1) مِنَ الآخَرِ ، حَتّى أتَينا عَلى مَكانٍ أحسَنَ ما رَأَينا ، وقَد كادَتِ الشَّمسُ أن تَغيبَ . فَنَزَلَ عَلِيٌّ ونَزَلتُ مَعَهُ ، فَدَعَا اللّهَ فَرَجَعَتِ الشَّمسُ كَمِقدارِها مِن صَلاةِ العَصرِ ، فَصَلَّينَا العَصرَ ، ثُمَّ غابَتِ الشَّمسُ (2) .
راجع : ج 6 ص 397 (ردّ الشمس أيّام إمارة الإمام) .
6 / 4بُكاءُ الإِمامِ لَمّا وَصَلَ إلى كَربَلاءَوقعة صفّين عن الحسن بن كثير عن أبيه :إنَّ عَلِيّا أتى كَربَلاءَ فَوَقَفَ بِها ، فَقيلَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، هذِهِ كَربَلاءُ . قالَ : ذاتُ كَربٍ وبَلاءٍ . ثُمَّ أومَأَ بِيَدِهِ إلى مَكانٍ فَقالَ : هاهُنا مَوضِعُ رِحالِهِم ، ومُناخُ رِكابِهِم . وأومَأَ بِيَدِهِ إلى مَوضِعٍ آخَرَ فَقالَ : هاهُنا مُهَراقُ دِمائِهِم (3) .
الفتوح :سارَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] حَتّى نَزَلَ بِدَيرِ كَعبٍ فَأَقامَ هُنالِكَ باقِيَ يَومِهِ ولَيلَتِهِ . وأصبَحَ سائِرا حَتّى نَزَلَ بِكَربَلاءَ ، ثُمَّ نَظَرَ إلى شاطِئِ الفُراتِ وأبصَرَ هُنالِكَ نَخيلاً فَقالَ :
.
ص: 387
يَابنَ عَبّاسٍ ! أ تَعرِفُ هذَا المَوضِعَ ؟ فَقالَ : لا يا أميرَ المُؤمِنينَ ! ما أعرِفُهُ . فَقالَ : أما إنَّكَ لَو عَرَفتَهُ كَمَعرِفَتي لَم تَكُن تُجاوِزُهُ حَتّى تَبكِيَ لِبُكائي . قالَ : ثُمَّ بَكى عَلِيٌّ رضى الله عنه بُكاءً شَديدا ، حَتَّى اخضَلَّت لِحَيتُهُ بِدُموعِهِ وسالَتِ الدُّموعُ عَلى صَدرِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ يَقولُ : أوّاه ! مالي ولِالِ أبي سُفيانَ ! ثُمَّ التَفَتَ إلَى الحُسَينِ رضى الله عنه فَقالَ : اِصبِر أبا عَبدِ اللّهِ ! فَلَقَد لَقِيَ أبوكَ مِنهُم مِثلَ الَّذي تَلقى مِن بَعدي . قالَ : ثُمَّ جَعَلَ عَلِيٌّ رضى الله عنه يَجولُ في أرضِ كَربَلاءَ كَأَنَّهُ يَطلُبُ شَيئا ، ثُمَّ نَزَلَ ودَعا بِماءٍ فَتَوَضَّأَ وُضوءَ الصَّلاةِ ، ثُمَّ قامَ فَصَلّى ما شاءَ أن يُصَلِّيَ وَالنّاسُ قَد نَزَلوا هُنالِكَ مِن قُربِ نِيْنَوى (1) إلى شاطِئِ الفُراتِ . قالَ : ثُمَّ خَفَقَ بِرَأسِهِ خَفَقَةً فَنامَ وَانتَبَهَ فَزِعا فَقالَ : يَابنَ عَبّاسٍ ! أ لا اُحَدِّثُكَ بِما رَأَيتُ السّاعَةَ في مَنامي ؟ فَقالَ : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَقالَ : رَأَيتُ رِجالاً بيضَ الوُجوهِ ، في أيديهِم أعلامٌ بيضٌ ، وهُم مُتَقَلِّدونَ بُسُيوفٍ لَهُم ، فَخَطّوا حَولَ هذِهِ الأَرضِ خَطَّةً ، ثُمَّ رَأَيتُ هذِهِ النَّخيلَ وقَد ضَرَبَت بِسَعفِهَا الأَرضَ ، ورَأَيتُ نَهرا يَجري بِالدَّمِ العَبيطِ ، ورَأَيتُ ابنِي الحُسَينَ وقَد غَرِقَ في ذلِكَ الدَّمِ وهُوَ يَستَغيثُ فَلا يُغاثُ ، ثُمَّ إنّي رَأَيتُ اُولئِكَ الرِّجالَ البيضَ الوُجوهِ الَّذينَ نَزَلوا مِنَ السَّماءِ وهُم يُنادونَ : صَبرا آلَ الرَّسولِ صَبرا ! فَإِنَّكُم تُقتَلونَ عَلى أيدي أشرارِ النّاسِ ، وهذِهِ الجَنَّةُ مُشتاقَةٌ إلَيكَ يا أبا عَبدِ اللّهِ ! ثُمَّ تَقَدَّموا إلَيَّ فَعَزَّوني وقالوا : أبشِر
.
ص: 388
يا أبَا الحَسَنِ ! فَقَد أقَرَّ اللّهُ عَينَكَ بِابنِكَ الحُسينِ غَدا يَومَ يَقومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمينَ . ثُمَّ إنِّي انتَبَهتُ ؛ فَهذا ما رَأَيتُ ، فَوَالَّذي نَفسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ ! لَقَد حَدَّثَنِي الصّادِقُ المَصدوقُ أبُو القاسِمِ صلى الله عليه و آله أنّي سَأَرى هذِهِ الرُّؤيا بِعَينِها في خُروجي إلى قِتالِ أهلِ البَغيِ عَلَينا ، وهذِهِ أرضُ كَربَلاءَ الَّذي يُدفَنُ فيهَا ابنِي الحُسَينُ وشيعَتُهُ وجَماعَةٌ مِن وُلدِ فاطِمَةَ بِنتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وأنَّ هذِهِ البُقعَةَ المَعروفَةَ في أهلِ السَّماواتِ تُذكَرُ بِأَرضِ كَربٍ وبَلاءٍ ، وليُحشَرَنَّ مِنها قَومٌ يَدخُلونَ الجَنَّةَ بِلا حِسابٍ (1) .
راجع : ج 6 ص 419 (استشهاد الحسين في كربلاء) .
6 / 5مُرورُ الجَيشِ بِالمَدائِنِوقعة صفّين عن عمر بن سعد :ثُمَّ مَضى نَحوَ ساباطَ (2) حَتَّى انتَهى إلى مَدينَةِ بَهُرَسيرَ (3) ، وإذا رَجُلٌ مِن أصحابِهِ يُقالُ لَهُ حُرُّ بنُ سَهمِ بنِ طَريفٍ مِن بَني رَبيعَةَ بنِ مالِكٍ ، يَنظُرُ إلى آثارِ كِسرى ، وهُوَ يَتَمَثَّلُ قولَ ابنِ يَعفُرَ التَّميمِيِّ : جَرَتِ الرِّياحُ عَلى مَكانِ دِيارِهِم فَكَأَنَّما كانوا عَلى ميعادٍ فَقالَ عَلِيٌّ : أفَلا قُلتَ : «كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّ_تٍ وَ عُيُونٍ * وَ زُرُوعٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ * وَ نَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَ_كِهِينَ * كَذَ لِكَ وَ أَوْرَثْنَ_هَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ* فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا كَانُواْ مُنظَرِينَ» (4) ؟ إنَّ هؤُلاءِ كانوا وارِثينَ فَأَصبَحوا مَوروثينَ ، إن
.
ص: 389
هؤُلاءِ لَم يَشكُرُوا النِّعمَةَ فَسُلِبوا دُنياهُم بِالمَعصِيَةِ . إيّاكُم وكُفرَ النِّعَمِ لا تَحُلَّ بِكُمُ النِّقَمُ . ثُمَّ قالَ : اِنزِلوا بِهذِهِ النَّجوَةِ (1)(2) .
وقعة صفّين عن الأصبغ بن نباتة :إنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيّا بِالمَدائِنِ عَن وُضوءِ رَسولِ اللّهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ، فَدَعا بِمِخضَبٍ (3) مِن بِرامٍ قَد نَصَفَهُ الماءُ . قالَ عَلِيٌّ : مَنِ السّائِلُ عَن وُضوءِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ فَقامَ الرَّجُلُ ، فَتَوَضَّأَ عَلِيٌّ ثَلاثا ثَلاثا ، ومَسَحَ بِرَأسِهِ واحِدَةً ، وقالَ : هكَذا رَأَيتُ رَسولَ اللّهِ يَتَوَضَّأُ (4) .
وقعة صفّين عن حَبّة العُرَني :أمَرَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ الحارِثَ الأَعوَرَ فَصاحَ في أهلِ المَدائِنِ : مَن كانَ مِنَ المُقاتِلَةِ فَليُوافِ أميرَ المُؤمِنينَ صَلاةَ العَصرِ . فَوافَوهُ في تِلكَ السّاعَةِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ وقالَ : أمّا بَعدُ فَإِنّي قَد تَعَجَّبتُ مِن تَخَلُّفِكُم عَن دَعوَتِكُم ، وَانقِطاعِكُم عَن أهلِ مِصرِكُم في هذِهِ المَساكِنِ الظّالِمِ أهلُها ، وَالهالِكِ أكثَرُ سُكّانِها ، لا مَعروفا تَأمرونَ بِهِ ، ولا مُنكَرا تَنهَونَ عَنهُ . قالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنّا كُنّا نَنتَظِرُ أمرَكَ ورَأيَكَ ، مُرنا بِما أحبَبتَ . فَسارَ وخَلَّفَ عَلَيهِم عَدِيَّ بنَ حاتِمٍ ، فَأَقامَ عَلَيهِم ثَلاثا ثُمَّ خَرَجَ في ثَمانِمِائَةٍ ، وخَلَّفَ ابنَهُ يَزيدَ فَلَحِقَهُ في أربَعِمِائَةِ رَجُلٍ مِنهُم ، ثُمَّ لَحِقَ عَلِيّا (5) .
.
ص: 390
6 / 6مُرورُ الجَيشِ بِالأَنبارِوقعة صفّين عن حبّة العُرَني :وجاءَ عَلِيٌّ حَتّى مَرَّ بِالأَنبارِ ، فَاستَقبَلَهُ بَنو خُشنوشَك (1) دَهاقِنَتُها . فَلَمَّا استَقبَلوهُ نَزَلوا ثُمَّ جاؤوا يَشتَدّونَ مَعَهُ قالَ : ما هذِهِ الدَّوابُّ الَّتي مَعَكُم ؟ وما أرَدتُم بِهذَا الَّذي صَنَعتُم ؟ قالوا : أمّا هذَا الَّذي صَنَعنا فَهُو خُلُقٌ مِنّا نُعَظِّمُ بِهِ الاُمَراءَ . وأمّا هذِهِ البَراذينُ فَهَدِيَّةٌ لَكَ . وقَد صَنَعنا لَكَ ولِلمُسلِمينَ طَعاما ، وهَيَّأنا لِدَوابِّكُم عَلَفا كَثيرا . قالَ : أمّا هذَا الَّذي زَعَمتُم أنَّهُ مِنكُم خُلُقٌ تُعَظِّمونَ بِهِ الاُمَراءَ فَوَاللّهِ ، ما يَنفَعُ هذَا الاُمَراءَ ، وإنَّكُم لَتَشُقّونَ بِهِ عَلى أنفُسِكُم وأبدانِكُم ، فَلا تَعودوا لَهُ . وأمّا دَوابُّكُم هذِهِ فَإِن أحبَبتُم أن نَأخُذَها مِنكُم فَنَحسَبَها مِن خَراجِكُم أخَذناها مِنكُم . وأمّا طَعامُكُمُ الَّذي صَنَعتُم لَنا فَإِنّا نَكرَهُ أن نَأكُلَ مِن أموالِكُم شَيئا إلّا بِثَمَنٍ . قالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، نَحنُ نُقَوِّمُهُ ثُمَّ نَقبَلُ ثَمَنَهُ . قالَ : إذا لا تُقَوِّمونَهُ قيمَتَهُ ، نَحنُ نَكتَفي بِما دونَهُ . قالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، فَإِنَّ لَنا مِنَ العَرَبِ مَوالِيَ ومَعارِفَ ، فَتَمنَعُنا أن نُهدِيَ لَهُم وتَمنَعُهُم أن يَقبَلوا مِنّا ؟ قالَ : كُلُّ العَرَبِ لَكُم مَوالٍ ، ولَيسَ يَنبَغي لِأَحَدٍ مِنَ المُسلِمينَ أن يَقبَلَ هَدِيَّتَكُم . وإن غَصَبَكُم أحَدٌ فَأَعلِمونا . قالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنّا نُحِبُّ أن تَقبَلَ هَدِيَّتَنا وكَرامَتَنا .
.
ص: 391
قالَ لَهُم : وَيحَكُم ، نَحنُ أغنى مِنكُم . فَتَرَكَهُم ثُمَّ سارَ (1) .
6 / 7خَبَرُ ماءِ الدَّيرِالفتوح :أقامَ عَلِيٌّ رضى الله عنه بِالأَنبارِ يَومَينِ ، فَلَمّا كانَ فِي اليَومِ الثّالِثِ سارَ بِالنّاسِ في بَرِّيَّةٍ مَلساءَ ، وعَطِشَ النّاسُ وَاحتاجوا إلَى الماءِ . قالَ : وإذا بِراهِبٍ في صَومَعَتِهِ ، فَدَنا مِنهُ عَلِيٌّ رضى الله عنهوصاحَ بِهِ فَأَشرَفَ عَلَيهِ ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ رضى الله عنه : هَل تَعلَمُ بِالقُربِ مِنكَ ماءً نَشرَبُ مِنهُ ؟ فَقالَ : ما أعلَمُ ذلِكَ ، وإنَّ الماءَ لَيُحمَلُ إلَينا مِن قَريبٍ مِن فَرسَخَينِ . قالَ : فَتَرَكَهُ عَلِيٌّ رضى الله عنه وأقبَلَ إلى مَوضِعٍ مِنَ الأَرضِ فَطافَ بِهِ ، ثُمَّ أشارَ إلى مَكانٍ مِنهُ فَقالَ : اِحفِروا ههُنا . فَحَفَروا قَليلاً وإذا هُم بِصَخرَةٍ صَفراءَ كَأَنَّما طُلِيَت بِالذَّهَبِ ، وإذا هِيَ عَلى سَبيلِ الرَّحى لا يَنتَقِلُها إلّا مِئَةُ رَجُلٍ . فَقالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : اِقلِبوها فَالماءُ مِن تَحتِها . فَاجتَمَعَ النّاسُ عَلَيها فَلَم يَقدِروا عَلى قَلبِها . قالَ : فَنَزَلَ عَلِيٌّ رضى الله عنه عَن فَرَسِهِ ، ثُمَّ دَنا مِنَ الصَّخرَةِ وحَرَّكَ شَفَتَيهِ بِشَيءٍ لَم يُسمَع ، ثُمَّ دَنا مِنَ الصَّخرَةِ وقالَ : بِاسمِ اللّهِ ، ثُمَّ حَرَّكَها ورَفَعَها فَدَحاها ناحِيَةً . قالَ : فَإِذا بِعَينٍ مِنَ الماءِ لَم تَرَ النّاسُ أعذَبَ مِنها ولا أصفى ولا أبرَدَ ، فَنادى فِي النّاسِ أن «هَلُمّوا إلَى الماءِ» . قالَ : فَوَرَدَ النّاسُ فَنَزَلوا وشَرِبوا وسَقَوا ما مَعَهم مِنَ الظَّهرِ ، ومَلَؤوا أسقِيَتَهُم ،
.
ص: 392
وحَمَلوا مِنَ الماءِ ما أرادوا . ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الصَّخرَةِ وهُوَ يُحَرِّكُ شَفَتَيهِ بِمِثلِ كَلامِهِ الأَوَّلِ حَتّى رَدَّ الصَّخرَةَ إلى مَوضِعِها . ثُمَّ سارَ حَتّى نَزَلَ فِي الماءِ الَّذي أرادوا وإذا ماؤُهُ مُتَغَيِّرٌ ، فَقالَ عَلِيٌ رضى الله عنهلِأَصحابِهِ : أ فيكُم مَن يَعرِفُ مَكانَ المَاءِ الَّذي يُتِمُّ عَلَيهِ ؟ فَقالوا : نَعَم يا أميرَ المُؤمِنينَ . قالَ : فَانطَلَقوا إلَيهِ ، فَطَلَبوا مَكانَ الصَّخرَةِ فَلَم يَقدِروا عَلَيهِ ؛ فَانطَلَقوا إلَى الرّاهِبِ فَصاحوا بِهِ : يا راهِبُ ! فَأَشرَفَ عَلَيهِم ، فَقالوا : أينَ هذَا الماءُ الَّذي هُوَ بِالقُربِ مِن دَيرِكَ ؟ فَقالَ الرّاهِبُ : إنَّهُ ما بِقُربي شَيءٌ مِنَ الماءِ ! فَقالوا : بَلى ! قَد شَرِبنا مِنهُ . نَحنُ وصاحِبُنا ، وهُوَ الَّذي استَخرَجَ لَنَا الماءَ وقَد شَرِبنا مِنهُ . فَقالَ الرّاهِبُ : وَاللّهِ ما بُنِيَ هذَا الدَّيرُ إلّا بِذلِكَ الماءِ ، وإنَّ لي في هذِهِ الصَّومَعَةِ مُنذُ كَذا سَنَةً ما عَلِمتُ بِمَكانِ هذَا الماءِ ، وإنَّها عَينٌ يُقالُ لَها عَينُ راحوما ، مَا استَخرَجَها إلّا نَبِيٌّ أو وَصِيُّ نَبِيٍّ ، ولَقَد شَرِبَ مِنها سَبعونَ نَبِيّا وسَبعونَ وَصِيّا . قالَ : فَرَجَعوا إلى عَلِيٍّ رضى الله عنه فَأَخبَروهُ بِذلِكَ ، فَسَكَتَ ولَم يَقُل شَيئا (1) .
الإرشاد_ في بَيانِ قِصَّةِ عَطَشِ أصحابِ الإِمامِ عليه السلام لَمّا تَوَجَّهَ إلى صِفّينَ ولِقائِهِم مَعَ الرّاهِبِ _: فَقالَ عليه السلام : اِكشِفُوا الأَرضَفي هذَا المَكانِ . فَعَدَلَ جَماعَةٌ مِنهُم إلَى المَوضِعِ فَكَشَفوهُ بِالمَساحي ، فَظَهَرَت لَهُم صَخرَةٌ عَظيمَةٌ تَلمَعُ ، فَقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، هُنا صَخرَةٌ لا تَعمَلُ فيهَا المَساحي .
.
ص: 393
فَقالَ لَهُم : إنَّ هذِهِ الصَّخرَةَ عَلَى الماءِ فَإِن زالَت عَن مَوضِعِها وجََدتُمُ الماءَ . فَاجتَهَدوا في قَلبِها ، فَاجتَمَعَ القَومُ وراموا تَحريكَها فَلَم يَجِدوا إلى ذلِكَ سَبيلاً وَاستَصعَبَت عَلَيهِم ، فَلَمّا رَآهُم عليه السلام قَدِ اجتَمَعوا وبَذَلُوا الجُهدَ في قَلعِ الصَّخرَةِ فَاستَصعَبَت عَلَيهِم ، لَوى عليه السلام رِجلَهُ عَن سَرجِهِ حَتّى صارَ عَلَى الأَرضِ ، ثُمَّ حَسَرَ عَن ذِراعَيهِ ووَضَعَ أصابِعَهُ تَحتَ جانِبِ الصَّخرَةِ فَحَرَّكَها ، ثُمَّ قَلَعَها بِيَدِهِ ودَحا بِها أذرُعا كَثيرَةً ، فَلَمّا زالَت عَن مَكانِها ظَهَرَ لَهُم بَياضُ المَاءِ ، فَتَبادَروا إلَيهِ فَشَرِبوا مِنهُ ، فَكانَ أعذَبَ ماءٍ شَرِبوا مِنهُ في سَفَرِهِم وأبرَدَهُ وأصفاهُ . فَقالَ لَهُم : تَزَوَّدوا وَارتَووا . فَفَعَلوا ذلِكَ . ثُمَّ جاءَ إلَى الصَّخرَةِ فَتَناوَلَها بِيَدِهِ ووَضَعَها حَيثُ كانَت (1) .
شرح نهج البلاغة_ في صِفَةِ قُوَّةِ الإِمامِ عليه السلام _: وهُوَ الَّذي قَلَعَ بابَ خَيبَرَ وَاجتَمَعَ عَلَيهِ عُصبَةٌ مِنَ النّاسِ لِيَقلِبوهُ فَلَم يَقلِبوهُ ، وهُوَ الَّذِي اقتَلَعَ هُبَلَ مِن أعلَى الكَعبَةِ ، وكانَ عَظيما جِدّا وألقاهُ إلَى الأَرضِ ، وهُوَ الَّذِي اقتَلَعَ الصَّخرَةَ العَظيمَةَ في أيّامِ خِلافَتِهِ عليه السلام بِيَدِهِ بَعدَ عَجزِ الجَيشِ كُلِّهِ عَنها وأنبَطَ الماءَ مِن تَحتِها (2) .
6 / 8النُّزولُ بِبَليخٍ (3)الفتوح :ونَظَرَ إلَيهِ [عَلِيٍّ عليه السلام ] راهِبٌ قَد كانَ هُنالِكَ في صَومَعَةٍ لَهُ ، فَنَزَلَ مِنَ الصَّومَعَةِ وأقبَلَ إلى عَلِيٍّ رضى الله عنه ، فَأَسلَمَ عَلى يَدِهِ ؛ ثُمَّ قالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنَّ عِندَنا كِتابا
.
ص: 394
تَوارَثناهُ عَن آبائِنا ، يَذكُرونَ أنَّ عيسَى بنَ مَريَمَ عليه السلام كَتَبَهُ ، أفَأَعرِضُهُ عَلَيكَ ؟ قالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : نَعَم فَهاتِهِ . فَرَجَعَ الرّاهِبُ إلَى الصَّومَعَةِ وأقبَلَ بِكِتابٍ عَتيقٍ قَد كادَ أن يَندَرِسَ ، فَأَخَذَهُ عَلِيٌّ وقَبَّلَهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى الرّاهِبِ ، فَقالَ : اِقرَأهُ عَلَيَّ ! فَقَرَأَهُ الرّاهِبُ عَلى عَلِيٍّ رضى الله عنه ، فَإِذا فيهِ : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، الَّذي قَضى فيما قَضى وسَطَرَ فيما سَطَرَ ، أنَّهُ باعِثٌ فِي الاُمِّيّينَ رَسولاً مِنهُم يُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ ، ويَدُلُّهُم عَلى سَبيلِ الرَّشادِ ، لا فَظٌّ (1) ولا غَليظٌ ولاصَخّابٌ (2) فِي الأَسواقِ ، لا يَجزِي السَّيِّئَةَ السَّيِّئَةَ ولكِن يَعفو ويَصفَحُ ، اُمَّتُهُ الحامِدونَ الَّذينَ يَحمَدونَ اللّهَ عَلى كُلِّ حالٍ في هَبوطِ الأَرضِ وصَعودِ الجِبالِ ، ألسِنَتُهُم مُذَلَّلَةٌ بِالتَّسبيحِ وَالتَّقديسِ وَالتَّكبيرِ وَالتَّهليلِ ، يَنصُرُ اللّهُ هذَا النَّبِيَّ عَلى مَن ناواهُ ؛ فَإِذا تَوَفّاهُ اللّهُ اختَلَفَت اُمَّتُهُ مِن بَعدِهِ ، ثُمَّ يَلبَثونَ بِذلِكَ ما شاءَ اللّهُ ؛ فَيَمُرُّ رَجُلٌ مِن اُمَّتِهِ بِشاطِئِ هذَا النَّهرِ ، يَأمُرُ بِالمَعروفِ ويَنهى عَنِ المُنكَرِ ، يَقضي بِالحَقِّ ولا يَرتَشي فِي الحُكمِ ، الدُّنيا عَلَيهِ أهوَنُ مِن شُربِ الماءِ عَلَى الظَّمآنِ (3) ، يَخافُ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ فِي السِّرِّ ويَنصَحُ اللّهَ فِي العَلانِيَةِ ، ولا يَأخُذُهُ فِي اللّهِ لَومَةُ لائِمٍ ، فَمَن أدرَكَ ذاكَ النَّبِيَّ فَليُؤمِن بِهِ ، فَمَن آمَنَ بِهِ كانَ لَهُ رِضوانُ اللّهِ وَالجَنَّةُ ، ومَن أدرَكَ ذلِكَ العَبدَ الصّالِحَ فَليَنصُرهُ فَإِنَّهُ وَصِيُّ خاتِمِ الأَنبِياءِ ، وَالقَتلُ مَعهُ شَهادَةٌ . قالَ : ثُمَّ إنَّهُ أقبَلَ هذَا الرّاهِبُ عَلى عَلِيٍّ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنّي صاحِبُكَ لا اُفارِقُكَ أبَدا حَتّى يُصيبَني ما أصابَكَ .
.
ص: 395
قالَ : فَبَكى عَلِيٌّ رضى الله عنه ثُمَّ قالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي ذَكَرَني عِندَهُ في كُتُبِ الأَبرارِ . قالَ : ثُمَّ سارَ وهذَا الرّاهِبُ مَعَهُ ، فَكانَ يَتَغَدّى ويَتَعَشّى مَعَ عَلِيٍّ ؛ حَتّى صارَ إلى صِفّينَ ، فَقاتَلَ فَقُتِلَ ، فَقالَ عَلِيٌّ لِأَصحابِهِ : اُطلُبوهُ ! فَطَلَبوهُ فَوَجَدوهُ ، فَصَلّى عَلَيهِ عَلِيٌّ رضى الله عنه ودَفَنَهُ وَاستَغفَرَ لَهُ ، ثُمَّ قالَ : هذا مِنّا أهلَ البَيتِ (1) .
6 / 9الوُصولُ إلَى الرَّقَّةِوقعة صفّين عن يزيد بن قيس الأرحبي :ثُمَّ سارَ أميرُ المُؤمِنينَ حَتّى أتَى الرَّقَّةَ وجُلُّ أهلِهَا العُثمانِيَّةُ ، الَّذينَ فَرّوا مِنَ الكُوفَةِ بِرَأيِهِم وأهوائِهِم إلى مُعاوِيَةَ ، فَغَلَّقوا أبوابَها وتَحَصَّنوا فيها ، وكانَ أميرُهُم سِماكَ بنَ مَخرَمَةَ الأَسَدِيَّ في طاعَةِ مُعاوِيَةَ ، وقَد كانَ فارَقَ عَلِيّا في نِحوٍ مِن مِئَةِ رَجُلٍ مِن بَني أسَدٍ ، ثُمَّ أخَذَ يُكاتِبُ قَومَهُ حَتّى لَحِقَ بِهِ مِنهُم سَبعُمِئَةِ رَجُلٍ (2) .
الفتوح :دَعا عَلِيٌّ أهلَ الرَّقَّةِ فَقالَ : اِعقِدوا لي جِسرا عَلى هذَا الفُراتِ حَتّى أعبُرَ عَلَيهِ أنَا وأصحابي إلى قِتالِ مُعاوِيَةَ . فَأَبَوا ذلِكَ ؛ وعَلِمَ عَلِيٌّ رضى الله عنههَوى أهلِ الرَّقَّةِ في مُعاوِيَةَ ، فَتَرَكَهُم ونادى في أصحابِهِ : نَمضي لِكَي نَعبُرَ عَلى جِسرِ مَنبِجٍ (3) . قالَ : فَخَرَجَ الأَشتَرُ إلى أهلِ الرَّقَّةِ مغُضِبا وقالَ : وَاللّهِ يا أهلَ الرَّقَّةِ ! لَئِن لَم تَعقِدوا لِأَميرِ المُؤمِنينَ جِسرا لَاُجَرِّدَنَّ فيكُمُ السَّيفَ ولَأَقتُلَنَّ الرِّجالَ ولَأَحوِيَنَّ الأَموالَ . فَلَمّا سَمِعَ أهلُ الرَّقَّةِ ذلِكَ قالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ : إنَّ الأَشتَرَ وَاللّهِ يوفي بِما يَقولُ ؛ ثُمَّ إنَّهُم
.
ص: 396
رَكِبوا خَلفَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ فَرَدّوهُ وقالوا : اِرجِع يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَإِنَّنا عاقِدونَ لَكَ جِسرا . قالَ : فَرَجَعَ عَلِيٌّ إلَى الرَّقَّةِ ، وعَقَدوا لَهُ جِسرا عَلَى الفُراتِ ، ونادى في أصحابِهِ أنِ اركَبوا ! فَرَكِبَتِ النّاسُ وعَبَرَتِ الأَثقالُ كُلُّها ، وعَبَرَ النّاسُ بِأَجمَعِهِم ، وعَلِيٌّ واقِفٌ في ألفِ فارِسٍ مِن أصحابِهِ ، ثُمَّ عَبَرَ آخِرَ النّاسِ (1) .
6 / 10كِتابُ الإِمامِ إلى مُعاوِيَةَ وجَوابُهُوقعة صفّين عن أبي الوداك :إنَّ طائِفَةً مِن أصحابِ عَلِيٍّ قالوا لَهُ : اُكتُب إلى مُعاوِيَةَ وإلى مَن قِبَلَهُ مِن قَومِكَ بِكِتابٍ تَدعوهُم فيهِ إلَيكَ وتَأمُرُهُم بِتَركِ ماهُم فيهِ مِنَ الخَطَأِ فَإِنَّ الحُجَّةَ لَن تَزدادَ عَلَيهِم بِذلِكَ إلّا عِظَما ، فَكَتَبَ إلَيهِم : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ وإلى مَن قِبَلَهُ مِن قُرَيشٍ . سَلامٌ عَلَيكُم فَإِنّي أحمَدُ اللّهَ إلَيكُمُ اللّهَ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ . أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ للّهِِ عِبادا آمَنوا بِالتَّنزيلِ ، وعَرَفُوا التَّأوِيلَ ، وفَقُهوا فِي الدِّينِ ، وبَيَّنَ اللّهُ فَضلَهُم فِي القُرآنِ الحَكيمِ ، وأنتُم في ذلِكَ الزَّمانِ أعداءٌ لِرَسولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ ، تُكَذِّبونَ بِالكِتابِ ، مُجمِعونَ عَلى حَربِ المُسلِمينَ ، مَن ثَقِفتُم مِنهُم حَبَستُموهُ أو عَذَّبتُموهُ أو قَتَلتُموهُ ، حَتّى أرادَ اللّهُ إعزازَ دينِهِ وإظهارَ رَسولِهِ ، ودَخَلَتِ العَرَبُ في دينِهِ أفواجا ، وأسلَمَت لَهُ هذِهِ الاُمَّةُ طَوعا وكَرها ، وكُنتُم مِمَّن دَخَلَ في هذَا الدّين
.
ص: 397
إمّا رَغبَةً وإمّا رَهبَةً ، عَلى حينَ فازَ أهلُ السَّبقِ بِسَبقِهِم وفازَ المُهاجِرونَ الأَوَّلونَ بِفَضلِهِم . فَلا يَنبَغي لِمَن لَيسَت لَهُ مِثلُ سَوابِقِهِم فِي الدّينِ ولا فَضائِلِهِم فِي الإِسلامِ ، أن يُنازِعَهُمُ الأَمرَ الَّذي هُم أهلُهُ وأولى بِهِ ، فَيَحوبَ (1) بِظُلمٍ . ولا يَنبَغي لِمَن كانَ لَهُ عَقلٌ أن يَجهَلَ قَدرَهُ ، ولا أن يَعدُوَ طَورَهُ ، ولا أن يُشقِيَ نَفسَهُ بِالتِماسِ ما لَيسَ لَهُ . ثُمَّ إنَّ أولَى النّاسِ بِأَمرِ هذِهِ الاُمَّةِ قَديما وحَديثا ، أقرَبُها مِن رَسولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ ، وأعلَمُها بِالكِتابِ وأفقَهُها فِي الدّينِ ، وأوَّلُها إسلاما وأفضَلُها جِهادا وأشَدُّها بِما تُحَمِّلُهُ الرَّعِيَّةُ مِن أمورِهَا اضطِلاعا . فَاتَّقُوا اللّهَ الَّذي إلَيهِ تُرجَعونَ ، «وَ لَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَ_طِ_لِ وَ تَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ» (2) . وَاعلَموا أنَّ خِيارَ عِبادِ اللّهِ الَّذيَن يَعمَلونَ بِما يَعلَمونَ ، وأنَّ شِرارَهُمُ الجُهّالُ الَّذينَ يُنازِعونَ بِالجَهلِ أهلَ العِلمِ ، فَإِنَّ لِلعالِمِ بِعِلمِهِ فَضلاً ، وإنَّ الجاهِلَ لَن يَزدادَ بِمُنازَعَةِ العالِمِ إلّا جَهلاً . ألا وإنّي أدعوكُم إلى كِتابِ اللّهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ ، وحَقنِ دِماءِ هذِهِ الاُمَّةِ . فَإِن قَبِلتُم أصَبتُم رُشدَكُم ، وَاهتَدَيتُم لِحَظِّكُم . وإن أبَيتُم إلَا الفُرقَةَ وشَقَّ عَصا هذِهِ الاُمَّةِ فَلَن تَزدادوا مِنَ اللّهِ إلّا بُعدا ، ولَن يَزدادَ الرَّبُّ عَلَيكُم إلّا سُخطا . وَالسَّلامُ . فَكَتَبَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّهُ : لَيسَ بَيني وبَينَ قَيسٍ عِتابٌ غَيرُ طَعنِ الكُلى وضَربِ الرِّقابِ فَقالَ عَلِيٌ : «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَ_كِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (3)(4) .
.
ص: 398
6 / 11الاَ تَرُ عَلى مُقَدِّمَةِ جَيشِ الإِمامِتاريخ الطبري عن خالد بن قطن الحارثي :إنَّ عَلِيّا لَمّا قَطَعَ الفُراتَ دَعا زِيادَ بنَ النَّضرِ وشُرَيحَ بنَ هانِئٍ فَسَرَّحَهُما أمامَهُ نَحوَ مُعاوِيَةَ عَلى حالِهِمَا الَّتي كانا خَرَجا عَلَيها مِنَ الكُوفَةِ . قالَ : وقَد كانا حَيثُ سَرَّحَهُما مِنَ الكوفَةِ أخَذا عَلى شاطِئِ الفُراتِ مِن قِبَلِ البَرِّ مِمّا يَلِي الكوفَةَ حَتّى بَلَغا عاناتٍ (1) ، فَبَلَغَهُما أخذُ عَلِيٍّ عَلى طَريقِ الجَزيرَةِ ، وبَلَغَهُما أنَّ مُعاوِيَةَ قَد أقبَلَ مِن دِمَشقَ في جُنودِ أهلِ الشّامِ لِاستِقبالِ عَلِيٍّ فَقالا : لا وَاللّهِ ، ما هذا لَنا بِرَأيٍ أن نَسيرَ وبَينَنا وبَينَ المُسلِمينَ وأميرِ المُؤمِنينَ هذَا البَحرُ ! وما لَنا خَيرٌ في أن نَلقى جُنودَ أهلِ الشّامِ بِقِلَّةِ مَن مَعَنا مُنقَطِعينِ مِنَ العَدَدِ وَالمَدَدِ . فَذَهَبوا لِيَعبُروا مِن عاناتٍ ، فَمَنَعَهُم أهلُ عاناتٍ وحَبَسوا عَنهُمُ السُّفُنَ ، فَأَقبَلوا راجِعينَ حَتّى عَبَروا مِن هِيتَ (2) ، ثُمَّ لَحِقوا عَلِيّا بِقَريَةٍ دونَ قَرقِيسِياءَ (3) وقَد أرادوا أهلَ عاناتٍ فَتَحَصَّنوا وفَرّوا ، ولَمّا لَحِقَتِ المُقَدِّمَةُ عَلِيّا قالَ : مُقَدِّمَتي تَأتيني مِن وَرائي ! فَتَقَدَّمَ إلَيهِ زِيادُ بنُ النَّضرِ الحارِثِيُّ وشُرَيحُ بنُ هانِئٍ فَأَخبَراهُ بِالَّذي رَأَيا حينَ بَلَغَهُما مِنَ الأَمرِ ما بَلَغَهُما . فَقالَ : سَدَدتُما . ثُمَّ مَضى عَلِيٌّ فَلَمّا عَبَرَ الفُراتَ قَدَّمَهُما أمامَهُ نَحوَ مُعاوِيَةَ ، فَلَمّا انتَهَيا إلى سورِ الرّومِ لَقِيَهُما أبُوالأَعوَرِ السُّلَمِيُّ عَمرُو بنُ سُفيانَ في جُندٍ مِن أهلِ الشّامِ ، فَأَرسَلا إلى عَلِيٍّ : إنّا قَد لَقِينا أبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ في جُندٍ مِن أهلِ الشّامِ وقَد دَعَوناهُم فَلَم يُجِبنا مِنهُم أحَدٌ فَمُرنا بِأَمرِكَ . فَأَرسَلَ عَلِى ¨ٌّ
.
ص: 399
إلَى الأَشتَرِ فَقالَ : يا مالِكُ ، إنَّ زِيادا وشُرَيحا أرسَلا إلَيَّ يُعلِماني أنَّهُما لَقِيا أبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ في جَمعٍ مِن أهلِ الشّامِ ، وأنبَأَنِي الرَّسولُ أنَّهُ تَرَكَهُم مُتَواقِفينَ ، فَالنَّجاءَ إلى أصحابِكَ النَّجاءَ ، فَإِذا قَدِمتَ عَلَيهِم فَأَنتَ عَلَيهِم وإيّاكَ أن تَبدَأَ القَومَ بِقِتالٍ إلّا أن يَبدَؤوكَ حَتّى تَلقاهُم فَتَدعُوَهُم وتَسمَعَ ، ولا يَجرِمَنَّكَ شَنَآنُهُم عَلى قِتالِهِم قَبلَ دُعائِهِم وَالإِعذارِ إلَيهِم مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ ، وَاجعَل عَلى مَيمَنَتِكَ زِيادا وعَلى مَيسَرَتِكَ شُرَيحا وقِف مِن أصحابِكَ وَسَطا ، ولا تَدنُ مِنهُم دُنوَّ مَن يُريدُ أن يُنشِبَ الحَربَ ، ولا تَباعَد مِنهُم بُعدَ مَن يَهابُ البَأسَ حَتّى أقدَمَ عَلَيكَ ، فَإِنّي حَثيثُ السَّيرِ في أثَرِكَ إن شاءَ اللّهُ . قالَ : وكانَ الرَّسولُ الحارِثَ بنَ جُمهانَ الجُعفِيَّ فَكَتَبَ عَلِيٌّ إلى زِيادٍ وشُرَيحٍ : أمّا بَعدُ ، فَإِنّي قَد أمَّرتُ عَلَيكُما مالِكا فَاسمَعا لَهُ وأطيعا ، فَإِنَّهُ مِمَّن لا يُخافُ رَهَقُهُ ولا سِقاطُهُ ولا بُطؤُهُ عَمَّا الإِسراعُ إلَيهِ أحزَمُ ، ولَا الإِسراعُ إلَى مَا الإِبطاءُ عَنهُ أمثَلُ ، وقَد أمَرتُهُ بِمِثلِ الَّذي كُنتُ أمَرتُكُما بِهِ ألّا يَبدَأَ القَومَ حَتّى يَلقاهُم فَيَدعُوَهُم ويُعذِرَ إلَيهِم (1) .
6 / 12مُواجَهَةُ مُقَدِّمَةِ الجَيشَينِتاريخ الطبري عن خالد بن قطن الحارثي :خَرَجَ الأَشتَرُ حَتّى قَدِمَ عَلَى القَومِ ، فَاتَّبَعَ ما أمَرَهُ عَلِيٌّ وكَفَّ عَنِ القِتالِ ، فَلَم يَزالوا مُتَواقِفينَ حَتّى إذا كانَ عِندَ المَساءِ حَمَلَ عَلَيهِم أبُوالأَعوَرِ السُّلَمِيُّ ، فَثَبَتوا لَهُ وَاضطَرَبوا ساعَةً ، ثُمَّ إنَّ أهلَ الشّامِ انصَرَفوا . ثُمَّ خَرَجَ إلَيهِم مِنَ الغَدِ هاشِمُ بنُ عُتبَةَ الزُّهرِيُّ في خَيلٍ ورِجالٍ حَسَنٍ عَدَدُها
.
ص: 400
وعُدَّتُها ، وخَرَجَ إلَيهِ أبُوالأَعوَرِ فَاقتَتَلوا يَومَهُم ذلِكَ ، تَحمِلُ الخَيلُ عَلَى الخَيلِ وَالرِّجالُ عَلَى الرِّجالِ ، وصَبَرَ القَومُ بَعضُهُم لِبَعضٍ ثُمَّ انصَرَفوا ، وحَمَلَ عَلَيهِمُ الأَشتَرُ فَقُتِلَ عَبدُ اللّهِ بنُ المُنذِرِ التَّنوخِيُّ قَتَلَهُ يَومَئِذٍ ظَبيانُ بنُ عَمّارٍ التَّميمِيُّ وما هُوَ إلّا فَتىً حَدَثٌ وإن كانَ التَّنوخِيُّ لَفارِسَ أهلِ الشّامِ ، وأخَذَ الأَشتَرُ يَقولُ : وَيحَكُم ! أروني أبَا الأَعوَرِ . ثُمَّ إنَّ أبَا الأَعوَرِ دَعَا النّاسَ فَرَجَعوا نَحوَهُ ، فَوَقَفَ مِن وَراءِ المَكانِ الَّذي كانَ فيهِ أوَّلَ مَرَّةٍ ، وجاءَ الأَشتَرُ حَتّى صَفَّ أصحابَهُ فِي المَكانِ الَّذي كانَ فيهِ أبُوالأَعوَرِ ، فَقالَ الأَشتَرُ لِسِنانِ بنِ مالِكٍ النَّخَعِيِّ : اِنطَلِق إلى أبِي الأَعوَرِ فَادعُهُ إلَى المُبارَزَةِ ، فَقالَ : إلى مُبارَزَتي أو مُبارَزَتِكَ ؟ فَقالَ لَهُ الأَشتَرُ : لَو أمَرتُكَ بِمُبارَزَتِهِ فَعَلتَ ؟ قالَ : نَعَم وَاللّهِ ، لَو أمَرتَني أن أعتَرِضَ صَفَّهُم بِسَيفي ما رَجَعتُ أبَدا حَتّى أضرِبَ بِسَيفي في صَفِّهِم ، قالَ لَهُ الأَشتَرُ : يَابنَ أخي ، أطالَ اللّهُ بَقاءَكَ ! قَد وَاللّهِ ، ازدَدتُ رَغبَةً فيكَ لا أمَرتُكَ بِمُبارَزَتِهِ إنّما أمَرتُكَ أن تَدعُوَهُ إلى مُبارَزَتي ، إنَّهُ لا يَبرُزُ إن كانَ ذلِكَ مِن شَأنِهِ إلّا لِذَوِي الأَسنانِ وَالكَفاءَةِ وَالشَّرَفِ ، وأنتَ _ لِرَبِّكَ الحَمدُ _ مِن أهلِ الكَفاءَةِ والشَّرَفِ غَيرَ أنَّكَ فَتىً حَدَثُ السِّنِ ، فَلَيسَ بِمُبارِزِ الأَحداثِ ولكِنِ ادعُهُ إلى مُبارَزَتي . فَأَتاهُ فَنادى : آمِنوني فَإِنّي رَسولٌ فَاُومِنَ ، فَجاءَ حَتَّى انتَهى إلى أبِي الأَعوَرِ . قالَ أبومِخنَفٍ : فَحَدَّثَنِي النَّضرُ بنُ صالِحٍ أبو زُهَيرٍ العَبِسيُّ قالَ : حَدَّثَني سِنانٌ قالَ : فَدَنَوتُ مِنهُ فَقُلتُ : إنَّ الأَشتَرَ يَدعوكَ إلى مُبارَزَتِهِ . قالَ : فَسَكَتَ عَنّي طَويلاً ثُمَّ قالَ : إنَّ خِفَّةَ الأَشتَرِ وسوءَ رَأيِهِ هُوَ حَمَلَهُ عَلى إجلاءِ عُمّالِ ابنِ عَفّانَ مِنَ العِراقِ ، وَانتِزاؤُهُ عَلَيهِ يُقَبِّحُ مَحاسِنَهُ ، ومِن خِفَّةِ الأَشتَرِ وسوءِ رَأيِهِ أن سارَ إلَى ابنِ عَفّانَ في دارِهِ وقَرارِهِ حَتّى قَتَلَهُ ، فيمَن قَتَلَهُ فَأَصبَحَ مُتَّبَعا بِدَمِهِ ، ألا لا حاجَةَ لي في مُبارَزَتِهِ . قالَ : قُلتُ : إنَّكَ قَد تَكَلَّمتَ فَاسمَع حَتّى اُجيَبَك ، فَقالَ : لا ، لا حاجَةَ لي فِي الاِستِماعِ مِنكَ ولا في جَوابِكَ ، اذهَب عَنّي . فَصاحَ بي أصحابُهُ فَانصَرَفتُ عَنهُ ، ولَو سَمِعَ إلَيَّ لَأَخبَرتُهُ بِعُذرِ صاحِبي وحُجَّتِهِ . فَرَجَعتُ إلَى الأَشتَرِ فَأَخبَرتُهُ أنَّهُ قَد
.
ص: 401
أبَى المُبارَزَةَ ، فَقالَ : لِنَفسِهِ نَظَرَ . فَواقَفناهُم حَتّى حَجَزَ اللَّيلُ بَينَنا وبَينَهم وَبِتنا مُتَحارِسينَ ، فَلَمّا أصبَحنا نَظَرنا فَإِذَا القَومُ قَدِ انصَرَفوا مِن تَحتِ لَيلَتِهِم ، ويُصَبِّحُنا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ غُدوَةً . فَقَدِمَ الأَشتَرُ فيمَن كانَ مَعَهُ في تِلكَ المُقَدِّمَةِ حَتَّى انتَهى إلى مُعاوِيَةَ فَواقَفَهُ ، وجاءَ عَلِيٌّ في أثَرِهِ فَلَحِقَ بِالأَشتَرِ سَريعا فَوَقَفَ وتَواقَفوا طَويلاً (1) .
.
ص: 402
. .
ص: 403
الفصل السابع : مواجهة الجيشينالمَدخَلُتوجّه الإمام عليه السلام من الكوفة باتّجاه الشام في شهر شوّال من عام 36 ه ، ولمّا كان الطريق المستقيم بينهما يمرّ عبر صحراء جرداء لا عشب فيها ولا ماء ولم تكن للإمام عليه السلام المعدّات الكافية لدعم جيشه الذي قوامه مِئة ألف ، اختار الطريق المحاذي للفرات (أي مسير الجزيرة) . فمرّ على كربلاء وهيت و ... حتى وصل إلى الرقّة قرب صفّين . فالتقت مقدّمة جيش الإمام بقيادة مالك الأشتر مع مقدّمة جيش معاوية واضطرّتهم للفرار ، وهي أوّل مواجهة بين الجيشين في صفّين ، والذي شرع بهذه المواجهة جيش معاوية . وفي أواخر ذي القعدة وصل جيش الإمام إلى صفّين ، بعد وصول جيش معاوية إليها لقربها من الشام ، واحتلال المناطق الحسّاسة من المنطقة . وقد نظّم معاويةُ جيشَه بنحوٍ بحيث لا يتمكّن جيش الإمام من الوصول للماء . فنصحهم الإمام عليه السلام ، وأرسل اليهم رسولاً في ذلك ، لكن دون جدوى . فهجم الأشتر والأشعث على جيش معاوية _ بعد موافقة الإمام على ذلك _
.
ص: 404
واستولوا على الماء . فأمر الإمام عليه السلام بتنظيم الجيش بنحوٍ يتمكّن معه الجيشان من الماء . وبهذا انتصر الإمام عليه السلام نصراً معنويّاً سجّله التاريخ في صفحاته بماء الذهب بأنّ الإمام يمنع التوسّل بالسبل غير الإنسانيّة في مواجهة العدوّ لتحصيل النصر . ثمّ أرسل الإمام عليه السلام ممثّليه إلى معاوية كي يدفعوا به إلى الاستسلام ، ويحولون دون وقوع الحرب وإراقة الدماء . فلمّا أقبلوا على معاوية طردهم بغضب . وفي شهر ذي الحجّة حصلت مناوشات ومواجهات متفرّقة بين الجيشين ؛ إذ كان الإمام في صدد إنهاء ذلك بالصلح دون الحرب ، ولذا لم تكن المواجهة بين تمام الجيشين . ثمّ انقطعت هذه المواجهات المتفرّقة في شهر محرّم من عام 37 ه ، وصارت محادثات الصلح بصورة أكثر جدّية ، لكنّها لم تثمر شيئاً كسابقاتها . فلمّا تقطّعت جميع السبل تهيّأ الإمام عليه السلام للحرب ، فبدأت الحرب يوم الأربعاء أوّل شهر صفر عام 37 ه . وكانت الحرب في الاُسبوع الأوّل بهذه الكيفيّة : يخرج صباح كلّ يوم أحد القادة الأبطال لجيش الإمام ويحارب العدوّ حتى المساء ، ثم تنقطع الحرب إلى اليوم التالي دون حصول نصر لأحد الطرفين على الآخر خلال هذه المدّة . وكان قادة الجيش في هذه الأيّام : مالك الأشتر ، وعمّار بن ياسر ، ومحمّد ابن الحنفيّة ، وعبد اللّه بن عبّاس ، وهاشم بن عتبة ، وقيس بن سعد . لكن الحرب اشتدّت في يوم الأربعاء الثامن من صفر واتّخذت شكلاً آخر ؛ حيث اشترك فيها تمام الجيشين . وقد استقرّ الإمام عليه السلام في القلب ، وتولّى قيادة الجيش بنفسه . واستُشهد عدد كثير من كبار الجيش في هذا اليوم ويوم الخميس . ولمّا كان قصد الإمام حسم الأمر لم تتوقّف الحرب عند غروب الخميس بل
.
ص: 405
استمرّت ليلة الجمعة أيضاً ، وكانت أشدّ ليلة طوال الحرب ، ولهذا سُمّيت «ليلة الهرير» . وكان الإمام عليه السلام حاضراً بنفسه في أرض المعركة يوم الخميس وليلة الجمعة ، وقتل بيده 523 شخصاً أكثرهم من شجعان أهل الشام . ولشدّة الحرب صلّى أصحاب الإمام عليه السلام في ميدان القتال إيماءً . وفي صباح الجمعة أشرقت الشمس وأطلّت على ظفر جيش الإمام وانكسار وهزيمة أهل الشام . وأشرف مالك الأشتر والسريّة التي يقودها على خيمة معاوية _ التي يقود الجيش منها _ بحيث صمّم معاوية على الاستسلام وطلب الأمان ، لكن جرى قلم القدر على شيء آخر ؛ فتلاقح جهل الخوارج مع حيلة عمرو بن العاص فأنتجا نجاة معاوية !
.
ص: 406
7 / 1الاِصطِفافُ لِلقِتالِتاريخ الطبري عن أبي عبد الرحمن السلمي :سَمِعتُ عَمّارَ بنَ ياسِرٍ بِصِفّينَ وهُوَ يَقولُ لِعَمرِو بنِ العاصِ : لَقَد قاتَلتُ صاحِبَ هذِهِ الرّايَةِ ثَلاثا مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهذِهِ الرّابِعَةُ ، ماهِيَ بِأَبَرَّ ولا أتقى (1) .
وقعة صفّين عن أسماء بن الحكم الفزاري :كُنّا بِصِفّينَ مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ تَحتَ رايَةِ عَمّارِ بنِ ياسِرٍ ، ارتِفاعَ الضُّحى _ اِستَظلَلنا بِبُردٍ أحمَرَ _ إذ أقبَلَ رَجُلٌ يَستَقرِي الصَّفَّ حَتَّى انتَهى إلَينا فَقالَ : أيُّكُم عَمّارُ بنُ ياسِرٍ ؟ فَقالَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ : هذا عَمّارٌ . قالَ : أبُو اليَقظانِ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : إنَّ لي حاجَةً إلَيكَ فَأَنطِقُ بِها عَلانِيَةً أو سِرّا قالَ : اختَر لِنَفسِكَ أيَّ ذلِكَ شِئتَ . قالَ : لا ، بَل عَلانِيَةً . قالَ : فَانطِق . قالَ : إنّي خَرَجتُ مِن أهلي مُستَبصِرا فِي الحَقِّ الَّذي نَحنُ عَلَيهِ لا أشُكُّ في ضَلالَةِ هؤُلاءِ القَومِ وأنَّهُم عَلَى الباطِلِ ، فَلَم أزَل عَلى ذلِكَ مُستَبصِرا حَتّى كانَ لَيلَتي هذِهِ صَباحَ يَومِنا هذا ؛ فَتَقَدَّمَ مُنادينا فَشَهِدَ ألّا إلهَ إلَا اللّهُ ، وأنَّ مُحَمَّدا رَسولُ اللّهِ ،
.
ص: 407
ونادى بِالصَّلاةِ ، فَنادى مُناديهِم بِمِثلِ ذلِكَ ، ثُمَّ اُقيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّينا صَلاةً واحِدَةً ، ودَعَونا دَعوَةً واحِدَةً ، وتَلَونا كِتابا واحِدا ، ورَسولُنا واحِدٌ ، فَأَدرَكَنِي الشَّكُّ في لَيلَتي هذِهِ ، فَبِتُّ بِلَيلَةٍ لا يَعلَمُها إلَا اللّهُ حَتّى أصبَحتُ ، فَأَتَيتُ أميرَ المُؤمِنينَ فَذَكَرتُ ذلِكَ لَهُ فَقالَ : هَل لَقيتَ عَمّارَ بنَ ياسِرٍ ؟ قُلتُ : لا . قالَ : فَالقَهُ فَانظُر ما يَقولُ لَكَ فَاتَّبِعهُ . فَجِئتُكَ لِذلِكَ . قالَ لَهُ عَمّارٌ : هَل تَعرِفُ صاحِبَ الرّايَةِ السَّوداءِ المُقابِلَتي (1) فَإِنَّها رايَةُ عَمرِو بنِ العاصِ ، قاتَلتُها مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ثَلاثَ مَرّاتٍ ، وهذِهِ الرّابِعَةُ ما هِيَ بِخَيرِهِنَّ ولا أبَرِّهِنَّ ، بَل هِيَ شَرُّهُنَّ وأفجَرُهُنَّ . أشَهِدتَ بَدرا واُحُدا وحُنَينا أو شَهِدَها لَكَ أبٌ فَيُخبِرَكَ عَنها ؟ قالَ : لا . قالَ : فَإِنَّ مَراكِزَنا عَلى مَراكِزِ راياتِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَوم بَدرٍ ، ويَومَ اُحُدٍ ، ويَومَ حُنَينٍ ، وإنَّ هؤُلاءِ عَلى مَراكِزِ راياتِ المُشرِكينَ مِنَ الأَحزابِ ، هَل تَرى هذَا العَسكَرَ ومَن فيهِ ؟ فَوَاللّهِ ، لَوَدِدتُ أنَّ جَميعَ مَن أقبَلَ مَعَ مُعاوِيَةَ مِمَّن يُريدُ قِتالَنا مُفارِقا لِلَّذي نَحنُ عَلَيهِ كانوا خَلقا واحِدا فَقَطَّعتُهُ وذَبَحتُهُ ، وَاللّهِ ، لَدِماؤُهُم جَميعا أحَلُّ مِن دَمِ عُصفورٍ ، أ فَتَرى دَمَ عُصفورٍ حَراما ؟ قالَ : لا ، بَل حَلالٌ . قالَ : فَإِنَّهُم كَذلِكَ حَلالٌ دِماؤُهُم . أ تَراني بَيَّنتُ لَكَ ؟ قالَ : قَد بَيَّنتَ لي .
.
ص: 408
قالَ : فَاختَر أيَّ ذلِكَ أحبَبتَ . قالَ : فَانصَرَفَ الرَّجُلُ ثُمَّ دَعاهُ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ فَقالَ : أما إنَّهُم سَيَضرِبونَنا بِأَسيافِهِم حَتّى يَرتابَ المُبطِلونَ مِنكُم فَيَقولونَ : لَو لَم يَكونوا عَلى حَقٍّ ما ظَهَروا عَلَينا . وَاللّهِ ، ما هُم مِنَ الحَقِّ عَلى ما يُقذي (1) عَينَ ذُبابٍ ، وَاللّهِ ، لَو ضَرَبونا بِأَسيافِهِم حَتّى يُبلِغونا سَعَفاتِ هَجَرَ لَعَرَفتُ أنّا عَلى حَقٍّ وهُم عَلى باطِلٍ . وَايمُ اللّهِ ، لا يَكونُ سَلما (2) سالِما أبَدا حَتّى يَبوءَ أحَدُ الفَريقَينِ عَلى أنفُسِهِم بِأَنَّهُم كانوا كافِرينَ ، وحَتّى يَشهَدوا عَلَى الفَريقِ الآخَرِ بِأَنَّهُم عَلَى الحَقِّ وأنَّ قَتلاهُم فِي الجَنَّةِ ومَوتاهُم ، ولا يَنصَرِمُ أيّامُ الدّنيا حَتّى يَشهَدوا بِأَنَّ مَوتاهُم وقَتلاهُم فِي الجَنَّةِ ، وأنَّ مَوتى أعدائِهِم وقَتلاهُم فِي النّارِ ، وكانَ أحياؤُهُم عَلَى الباطِلِ (3) .
مسند ابن حنبل عن عبد اللّه بن سلمة :رَأَيتُ عَمّارا يَومَ صِفّينَ شَيخا كَبيرا آدَمَ طِوالاً آخِذَ الحَربَةِ بِيَدِهِ ويَدُهُ تَرعَدُ فَقالَ : وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ ، لَقَد قاتَلتُ بِهذِهِ الرّايَةِ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ثَلاثَ مَرّاتٍ ، وهذِهِ الرّابِعَةُ ، وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ ، لَو ضَرَبونا حَتّى يَبلُغوا بِنا شَعَفاتِ هَجَرَ لَعَرَفتُ أنَّ مُصلِحينا عَلَى الحَقِّ وأنَّهُم عَلَى الضَّلالَةِ (4) .
.
ص: 409
7 / 2حَيلولَةُ جَيشِ مُعاوِيَةَ دونَ الماءِالأخبار الطوال :أقبَلَ عَلِيٌّ رضى الله عنه حَتّى وافَى المَكانَ ، فَصادَفَ أهلَ الشّامِ قَدِ احتَوَوا عَلَى القَريَةِ وَالطَّريقِ ، فَأَمَرَ النّاسَ ، فَنَزَلوا بِالقُربِ مِن عَسكَرِ مُعاوِيَةَ ، وَانطَلَقَ السَّقّاؤون وَالغِلمانُ إلى طَريقِ الماءِ ، فَحالَ أبُو الأَعوَرِ بَينَهُم وبينَهُ . واُخبِرَ عَلِيٌّ رضى الله عنه بِذلِكَ ، فَقالَ لِصَعصَعَةَ بنِ صوحانَ : اِيتِ مُعاوِيَةَ ، فَقُل لَهُ : إنّا سِرنا إلَيكُم لِنُعذِرَ قَبلَ القِتالِ ، فَإِن قَبِلتُم كانَتِ العافِيَةُ أحَبَّ إلَينا ، وأراكَ قَد حُلتَ بَينَنا وبينَ الماءِ ، فَإِن كانَ أعجَبَ إلَيكَ أن نَدَعَ ما جِئنا لَهُ ، ونَذَرَ النّاسَ يَقتَتِلونَ عَلَى الماءِ حَتّى يَكونَ الغالِبُ هُوَ الشّارِبَ فَعَلنا . فَقالَ الوَليدُ : اِمنَعهُمُ الماءَ كَما مَنَعوهُ أميرَ المُؤمِنينَ عُثمانَ ، اقتُلهُم عَطَشا ، قَتَلَهُمُ اللّهُ . فَقالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ : ما تَرى ؟ . قالَ : أرى أن تُخَلِّيَ عَنِ الماءِ ، فَإِنَّ القَومَ لَن يَعطَشوا وأنتَ رَيّانُ . فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ أبي سَرحٍ ، وكانَ أخا عُثمانَ لِأُمِّهِ : اِمنَعهُمُ الماءَ إلَى اللَّيلِ ، لَعَلَّهُم أن يَنصَرِفوا إلى طَرَفِ الغَيضَةِ (1) ، فَيَكونَ انصِرافُهُم هَزيمَةً . فَقالَ صَعصَعَةُ لِمُعاوِيَةَ : مَا الَّذي تَرى ؟ . قالَ مُعاوِيَةُ : اِرجِع ، فَسَيَأتيكُم رَأيي . فَانصَرَفَ صَعصَعَةُ إلى عَلِيٍّ ، فَأَخبَرَهُ بِذلِكَ (2) .
.
ص: 410
تاريخ الطبري عن عبد اللّه بن عوف بن الأحمر :لَمّا قَدِمنا عَلى مُعاوِيَةَ وأهلِ الشّامِ بِصِفّينَ وَجَدناهُم قَد نَزَلوا مَنزِلاً اختاروهُ مُستَوِيا بَساطا واسِعا ، أخَذُوا الشَّريعَةَ ، فَهِيَ في أيديهِم ، وقَد صَفَّ أبُو الأَعوَرِ السُّلَمِيُّ عَلَيهَا الخَيلَ وَالرِّجالَ ، وقَد قَدَّمَ المُرامِيَةَ أمامَ مَن مَعَهُ ، وصَفَّ صَفّا مَعَهُم مِنَ الرِّماحِ وَالدَّرَقِ (1) ، وعَلى رُؤوسِهِمُ البيضُ ، وقَد أجمَعوا عَلى أن يَمنَعونَا الماءَ . فَفَزِعنا إلى أميرِ المُؤمِنينَ ، فَخَبَّرناهُ بِذلِكَ ، فَدَعا صَعصَعَةَ بنَ صوحانَ فَقالَ لَهُ : اِيتِ مُعاوِيةَ وقُل لَهُ : إنّا سِرنا مَسيرَنا هذا إلَيكُم ، ونَحنُ نَكرَهُ قِتالَكُم قَبلَ الإِعذارِ إلَيكُم ، وإنَّكَ قَدَّمتَ إلَينا خَيلَكَ ورِجالَكَ فَقاتَلتَنا قَبلَ أن نُقاتِلَكَ ، وبَدَأتَنا بِالقِتالِ ، ونَحنُ مَن رَأَينَا الكَفَّ عَنكَ حَتّى نَدعُوَكَ ونَحتَجَّ عَلَيكَ . وهذِهِ اُخرى قَد فَعَلتُموها ، قَد حُلتُم بَينَ النّاسِ وبَينَ الماءِ ، وَالنّاسُ غَيرُ مُنتَهينَ أو يَشرَبوا ، فَابَعث إلى أصحابِكَ فَليُخَلّوا بَينَ النّاسِ وبَينَ الماءِ ، ويَكُفّوا حَتّى نَنظُرَ فيما بَينَنا وبَينَكُم ، وفيما قَدِمنا لَهُ وقَدِمتُم لَهُ ، وإن كانَ أعجَبَ إلَيكَ أن نَترُكَ ما جِئنا لَهُ ، ونَترُكَ النّاسَ يَقتَتِلونَ عَلَى الماءِ حَتّى يَكونَ الغالِبُ هُوَ الشّارِبَ ، فَعَلنا . فَقالَ مُعاوِيَةُ لِأَصحابِهِ : ما تَرَونَ ؟ فَقالَ الوَليدُ بنُ عُقبَةَ : اِمنَعهُمُ الماءَ كَما مَنَعوهُ عُثمانَ بنَ عَفّانَ ؛ حَصَروهُ أربَعينَ صَباحا يَمنَعونَهُ بَردَ الماءِ ، ولينَ الطَّعامِ . اُقتُلهُم عَطَشا ، قَتَلَهُمُ اللّهُ عَطَشا ! فَقالَ لَهُ عَمرُو بنُ العاصِ : خَلِّ بَينَهُم وبَينَ الماءِ ، فَإِنَّ القَومَ لَن يَعطَشوا وأنتَ رَيّانُ ، ولكِن بِغَيرِ الماءِ ، فَانظُر ما بَينَكَ وبَينَهُم . فَأَعادَ الوَليدُ بنُ عُقبَةَ مَقالَتَهُ . وقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ أبي سَرحٍ : اِمنَعُهُم الماءَ إلَى اللَّيلِ ، فَإِنَّهُم إن لَم يَقدِروا عَلَيهِ رَجَعوا ، ولَو قَد رَجَعوا كانَ رُجوعُهُم فَلّاً . اِمنَعهُمُ الماء
.
ص: 411
مَنَعَهُمُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ ! فَقالَ صَعصَعَةُ : إنَّما يَمنَعُهُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ يَومَ القِيامَةِ الكَفَرَةَ الفَسقَةَ وشَرَبَةَ الخَمرِ ، ضَربَكَ وضَربَ هذَا الفاسِقِ _ يَعنِي الوَليدَ بنَ عُقبَةَ _. قالَ : فَتَواثَبوا إلَيهِ يَشتُمونَهُ ويَتَهَدَّدونَهُ ، فَقالَ مُعاوِيَةُ : كُفّوا عَنِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ رَسولٌ (1) .
الفتوح :دَعا عَلِيٌّ رضى الله عنه بِشَبَثِ 2 بنِ رِبعِيٍّ الرِّياحِيِّ وصَعصَعَةَ بنِ صوحانَ العَبدِيِّ فَقالَ لَهُما : اِنطَلِقا إلى مُعاوِيَةَ فَقولا لَهُ : إنَّ خَيلَكَ قَد حالَت بَينَنا وبَينَ الماءِ ، ولَو كُنّا سَبَقناكَ لَم نَحُل بَينَكَ وبَينَهُ ، فَإِن شِئتَ فَخَلِّ عَنِ الماءِ حَتّى نَستَوِيَ فيهِ نَحنُ وأنتَ ، وإن شِئتَ قاتَلناكَ عَلَيهِ حَتّى يَكونَ لِمَن غَلَبَ ، وتَرَكنا ما جِئنا لَهُ مِنَ الحَربِ . قالَ : فَأَقبَلَ شَبَثٌ فَقالَ : يا مُعاوِيَةُ ! إنَّكَ لَستَ بِأَحَقَّ مِن هذَا الماءِ مِنّا فَخَلِّ عَنِ الماءِ ، فَإِنَّنا لا نَموتُ عَطَشا وسُيوفُنا عَلى عَواتِقِنا . ثُمَّ تَكَلَّمَ صَعصَعَةُ بنُ صوحانَ فَقالَ : يا مُعاوِيَةُ ! إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ يَقولُ لَكَ : إنَّنا قَد سِرنا مَسيرَنا هذا وإنّي أكرَهُ قِتالَكُم قَبلَ الإِعذارِ إلَيكُم ، فَإِنَّكَ قَدَّمتَ خَيلَكَ فَقاتَلتَنا مِن قَبلِ أن نُقاتِلَكَ وبَدَأتَنا بِالقِتالِ ، ونَحنُ مَن رَأَينَا الكَفَّ حَتّى نُعذِرَ إلَيكَ ونَحتَجَّ عَلَيكَ ، وهذِهِ مَرَّةٌ اُخرى قَد فَعَلتُموها ، حُلتُم بَينَ النّاسِ وَالماءِ ، وَايمُ اللّهِ لَنَشَربَنَّ مِنهُ شِئتَ أم أبَيتَ ! فَامنُن إن قَدَرتَ عَلَيهِ مِن قَبلِ أن نَغلِب
.
ص: 412
فَيَكونَ الغالِبُ هُوَ الشّارِبَ . فَقالَ لِعَمرِو بنِ العاصِ : ما تَرى أبا عَبدِ اللّهِ ؟ فَقالَ : أرى أنَّ عَلِيّا لا يَظمَأُ وفي يَدِهِ أعِنَّةُ الخَيلِ وهُوَ يَنظُرُ إلَى الفُراتِ دونَ أن يَشرَبَ مِنهُ ، وإنَّما جاءَ لِغَيرِ الماءِ فَخَلِّ عَنِ الماءِ حَتّى يَشرَبَ ونَشرَبَ . قالَ : فَقالَ الوَليدُ بنُ عُقبَةَ : يا مُعاوِيَةُ ! إنَّ هؤُلاءِ قَد مَنَعوا عُثمانَ بنَ عَفّانَ الماءَ أربَعينَ يَوما وحَصَروهُ ، فَامنَعهُم إيّاهُ حَتّى يَموتوا عَطَشا وَاقتُلهُم قاتَلَهُمُ اللّهُ أنّى يُؤفَكونَ . قالَ : ثُمَّ تَكَلَّمَ عَبدُ اللّهِ بنُ سَعدِ بنِ أبي سَرحٍ ، فَقالَ : لَقَد صَدَقَ الوَليدُ في قَولِهِ : فَامنَعهُمُ الماءَ ، مَنَعَهُمُ اللّهُ إيّاهُ يَومَ القِيامَةِ ! فَقالَ صَعصَعَةُ : إنَّما يَمنَعُهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ الكَفَرَةَ الفَسَقَةَ الفَجَرَةَ مِثلَكَ ومِثلَ نُظَرائِكَ هذَا الَّذي سَمّاهُ اللّهُ فِي الكِتابِ فاسِقا الوَليدُ بنُ عُقبَةَ الَّذي صَلّى بِالنّاسِ الغَداةَ أربَعا وهُوَ سَكرانُ ثُمَّ قالَ : أزيدُكُم ؟ فَجُلِدَ الحَدَّ فِي الإِسلامِ . قالَ : فَثاروا إلَيهِ بِالسُّيوفِ ، فَقالَ مُعاوِيَةُ : كُفّوا عَنهُ فَإِنَّهُ رَسولٌ (1) .
7 / 3تَحريضُ الإِمامِ أصحابَهُ لِلاِستيلاءِ عَلَى الماءِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ لَهُ عليه السلام لَمّا غَلَبَ أصحابُ مُعاوِيَةَ أصحابَهُ عليه السلام عَلى شَريعَةِ الفُراتِ بِصَفّينَ ومَنَعوهُمُ الماءَ _: قَدِ استَطعَموكُم القِتالَ ، فَأَقِرّوا عَلى مَذَلَّةٍ ، وتَأخيرِ مَحَلَّةٍ ، أو رَوُّوا السُّيوفَ مِنَ الدِّماءِ تَروَوا مِنَ الماءِ ، فَالمَوتُ في حَياتِكُم مَقهورينَ ، وَالحَياةُ في مَوتِكُم قاهِرينَ .
.
ص: 413
ألا وإنَّ مُعاوِيَةَ قادَ لُمَةً مِنَ الغُواةِ ، وعَمَّسَ (1) عَلَيهِمُ الخَبَرَ ، حَتّى جَعَلوا نُحورَهُم أغراضَ المَنِيَّةِ (2) .
7 / 4اِستيلاءُ أصحابِ الإِمامِ عَلَى الماءِالأخبار الطوال :ظَلَّ أهلُ العِراقِ يَومَهُم ذلِكَ ولَيلَتَهُم بِلا ماءٍ إلّا مَن كانَ يَنصَرِفُ مِنَ الغِلمانِ إلى طَرَفِ الغَيضَةِ ، فَيَمشي مِقدارَ فَرسَخَينِ فَيَستَقي ، فَغَمَّ عَلِيّا رضى الله عنهأمرُ النّاسِ غَمّا شَديدا ، وضاقَ بِما أصابَهُم مِنَ العَطَشِ ذَرعا ؛ فَأَتاهُ الأَشعَثُ ابنُ قَيسٍ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أ يَمنَعُنَا القَومُ الماءَ وأنتَ فينا ومَعَنا سُيوفُنا ؟ وَلِّنِي الزَّحفَ إلَيهِ ، فَوَاللّهِ لا أرجِعُ أو أموتَ ، ومُرِ الأَشتَرَ فَليَنضَمَّ إلَيَّ في خَيلِهِ . فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : اِيتِ في ذلِكَ ما رَأَيتَ . فَلَمّا أصبَحَ زاحَفَ أبَا الأَعوَرِ ، فَاقتَتَلوا ، وصَدَقَهُمُ الأَشتَرُ وَالأَشعَثُ حَتّى نَفَيَاالأَعوَرَ وأصحابَهُ عَنِ الشَّريعَةِ ، وصارَت في أيديهِما (3) .
وقعة صفّين عن زيد بن حسين :نادَى الأَشعَثُ عَمرَو بنَ العاصِ قالَ : وَيحَكَ يَابنَ العاصِ ! خَلِّ بَينَنا وبَينَ الماءِ ، فَوَاللّهِ ، لَئِن لَم تَفعَل لَيَأخُذَنّا وإيّاكُمُ السُّيوفُ . فَقالَ عَمرٌو : وَاللّهِ ، لا نُخَلّي عَنهُ حَتّى تَأخُذَنَا السُّيوفُ وإيّاكُم ، فَيَعلَمَ رَبُّنا أيُّنا اليَومَ أصبَرُ . فَتَرَجَّلَ الأَشعَثُ وَالأَشتَرُ وذَوُو البَصائِرِ مِن أصحابِ عَلِيٍّ ، وتَرَجَّلَ مَعَهُمَا اثنا
.
ص: 414
عَشَرَ ألفا ، فحََمَلوا عَلَى عَمرٍو ومَن مَعَهُ مِن أهلِ الشّامِ ، فَأَزالوهُم عَنِ الماءِ حَتّى غَمَسَت خَيلُ عَلِيٍّ سَنابِكَها فِي الماءِ (1) .
الكامل في التاريخ_ بَعدَ ذِكرِ إرسالِ الإِمامِ عليه السلام صَعصَعَةَ لِمُعاوِيَةَ كَي يُكَلِّمَهُ بِشَأنِ الشَّريعَةِ _: فَرَجَعَ صَعصَعَةُ [حينَ بَعَثَهُ الإِمامِ عليه السلام إلى مُعاوِيَةَ ]فَأَخبَرَهُ بِما كانَ ، وأنَّ مُعاوِيَةَ قالَ : سَيَأتيكُم رَأيي ، فَسَرَّبَ الخَيلَ إلى أبِي الأَعوَرِ لِيَمنَعَهُمُ الماءَ . فَلَمّا سَمِعَ عَلِيٌّ ذلِكَ قالَ : قاتِلوهُم عَلَى الماءِ . فَقالَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ الكِندِيُّ : أنَا أسيرُ إلَيهِم . فَسارَ إلَيهِم ، فَلَمّا دَنَوا مِنهُم ثاروا في وُجوهِهِم فَرَمَوهُم بِالنَّبلِ ، فَتَرامَوا ساعَةً ثُمَّ تَطاعَنوا بِالرِّماحِ ، ثُمَّ صاروا إلَى السُّيوفِ فَاقتَتَلوا ساعَةً . وأرسَلَ مُعاوِيَةُ يَزيدَ بنَ أسَدٍ البَجَلِيَّ القَسرِيَّ _ جَدَّ خالِدِ بنِ عَبدِ اللّهِ القَسرِيِّ _ فِي الخَيلِ إلى أبِي الأَعوَرِ ، فَأَقبَلوا . فَأَرسَلَ عَلِيٌّ شَبَثَ بنَ رِبعِيِّ الرِّياحِيَّ ، فَازدادَ القِتالُ . فَأَرسَلَ مُعاوِيَةُ عَمرَو بنَ العاصِ في جُندٍ كثيرٍ ، فَأَخَذَ يُمِدُّ أبَا الأَعوَرِ ويَزيدَ بنَ أسَدٍ . وأرسَلَ عَلِيٌّ الأَشتَرَ في جَمعٍ عَظيمٍ ، وجَعَلَ يُمِدُّ الأَشعَثَ وشَبَثا ، فَاشتَدَّ القِتالُ . فَقالَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَوفٍ الأَزدِيُّ الأَحمَرِيُّ : خَلّوا لَنا ماءَ الفُراتِ الجاري أوِ اثبُتوا لِجَحفَلٍ جَرَّارِ لِكُلِّ قَرمٍ مُستَميتٍ شاري مُطاعِنٍ بِرُمحِهِ كَرّارِ ضَرّابِ هاماتِ العِدى مِغوارِ لم يَخشَ غَيرَ الواحِدِ القَهّارِ وقاتَلوهُم حَتّى خَلَّوا بَينَهُم وبَينَ الماءِ ، وصارَ في أيدي أصحابِ عَلِيٍّ (2) .
.
ص: 415
وقعة صفّين عن صعصعة بن صوحان :قَتَلَ الأَشتَرُ في تِلكَ المَعرَكَةِ سَبعَةً . . . فَأَوَّلُ قَتيلٍ قَتَلَ الأَشتَرُ ذلِكَ اليَومَ بِيَدِهِ مِن أهلِ الشّامِ رَجُلٌ يُقالُ لَهُ : صالِحُ بنُ فَيروزَ _ وكانَ مَشهورا بِشِدَّةِ البَأسِ _ . . . فَبَرَزَ إلَيهِ الأَشتَرُ . . . ثُمَّ شَدَّ عَلَيهِ بِالرُّمحِ فَقَتَلَهُ ، وفَلَقَ ظَهرَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكانِهِ . ثُمَّ خَرَجَ إلَيهِ فارِسٌ آخَرُ يُقالُ لَهُ : مالِكُ بنُ أدهَمَ السَّلمانِيُّ _ وكانَ مِن فُرسانِ أهلِالشّامِ _ . . . ثُمَّ شَدَّ عَلَى الأَشتَرِ ، فَلَمّا رهَِقَهُ التَوَى الأَشتَرُ عَلَى الفَرَسِ ، ومار السِّنانُ فَأَخطَأَهُ ، ثُمَّ استَوى عَلى فَرَسِهِ وشَدَّ عَلَيهِ بِالرُّمحِ . . . فَقَتَلَهُ . ثُمَّ خَرَجَ فارِسٌ آخَرُ يُقالُ لَهُ : رِياحُ بنُ عَتيكٍ . . . فَخَرَجَ إلَيهِ الأَشتَرُ . . . فَشَدَّ عَلَيهِ فَقَتَلَهُ . ثُمَّ خَرَجَ إلَيهِ فارِسٌ آخَرُ يُقالُ لَهُ : إبراهِيمُ بنُ الوَضّاحِ . . . فَخَرَجَ إلَيهِ الأَشتَرُ . . . فَقَتَلَهُ . ثُمَّ خَرَجَ إلَيهِ فارِسٌ آخَرُ يُقالُ لَهُ : زامِلُ بنُ عَتيكٍ الحِزاميُّ _ وكانَ مِن أصحابِ الأَلِويَةِ _ فَشَدَّ عَلَيهِ . . . فَطَعَنَ الأَشتَرُ في مَوضِعِ الجَوشَنِ فَصَرَعَهُ عَن فَرَسِهِ ولَم يُصِب مَقتَلاً ، وشَدَّ عَلَيهِ الأَشتَرُ راجِلاً فَكَسَفَ (1) قَوائِمَ الفَرسِ بِالسَّيفِ . . . ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالسَّيفِ وهُما رَجلانِ (2) .
.
ص: 416
ثُمَّ خَرَجَ إلَيهِ فارِسٌ يُقالُ لَهُ : الأَجلَحُ _ وكانَ مِن أعلامِ العَربِ وفُرسانِها ، وكانَ عَلى فَرَسٍ يُقالُ لَهُ : لاحِقٌ _ فَلَمَّا استَقبَلَهُ الأُشتَرُ كَرِهَ لِقاءَهُ وَاستَحيا أن يَرجِعَ ، فَخَرَجَ إلَيهِ . . . فَشَدَّ عَلَيهِ الأَشتَرُ . . . فَضَرَبَهُ . ثُمَّ خَرَجَ إلَيهِ مُحَمَّدُ بنُ رَوضَةَ وهُوَ يَضرِبُ في أهلِ العِراقِ ضَربا مُنكَرا . . . فَشَدَّ عَلَيهِ الأَشتَرُ . . . ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ . . . . ثُمَّ أقبَلَ الأَشتَرُ يَضرِبُ بِسَيفِهِ جُمهورَ النّاسِ حَتّى كَشَفَ أهلَ الشّامِ عَن الماءِ (1) .
شرح نهج البلاغة :لَمّا مَلَكَ عَسكَرُ مُعاوِيَةَ عَلَيهِ [عَلَى الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام ]الماءَ ، وأحاطوا بِشَريعَةِ الفُراتِ ، وقالَت رُؤَساءُ الشّامِ لَهُ : اقتُلهُم بِالعَطَشِ كَما قَتَلوا عُثمانَ عَطَشا ، سَأَلَهُم عَلِيٌّ عليه السلام وأصحابُهُ أن يُشرِعوا لَهُم شُربَ الماءِ ، فَقالوا : لا وَاللّهِ ، ولا قَطرَةً حَتّى تَموتَ ظَمَأً كَما ماتَ ابنُ عَفّانَ . فَلَمّا رَأى عليه السلام أنَّهُ المَوتُ لا مَحالَةَ تَقَدَّمَ بِأَصحابِهِ ، وحَمَلَ عَلى عَساكِرِ مُعاوِيَةَ حَمَلاتٍ كَثيفَةٍ ، حَتّى أزالَهُم عَن مَراكِزِهِم بَعدَ قَتلٍ ذَريعٍ ؛ سَقَطَت مِنهُ الرُّؤوسُ وَالأَيدي ، ومَلَكوا عَلَيهِمُ الماءَ ، وصارَ أصحابُ مُعاوِيَةَ فِي الفَلاةِ ، لا ماءَ لَهُم (2) .
7 / 5مُكافَأَةُ الإِساءَةِ بِالإِحسانِالكامل في التاريخ_ في ذِكرِ القِتالِ عَلَى الماءِ _: قاتَلوهُم حَتّى خَلَّوا بَينَهم وبينَ الماءِ ، وصارَ في أيدي أصحابِ عَلِيٍّ ، فَقالوا : وَاللّهِ ، لا نُسقيهِ أهلَ الشّامِ ! فَأَرسَلَ عَلِيٌّ إلى أصحابِهِ : أن خُذوا مِنَ الماءِ حاجتَكُم ، وخَلّوا عَنهُم ، فَإِنَّ اللّه
.
ص: 417
نَصَرَكُم بِبَغيِهِم وظُلمِهِم (1) .
مروج الذهب_ بَعدَ أن كَشَفَ جُندُ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام جُندَ مُعاوِيَةَ عَنِ الماءِ _: قالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، ما ظَنُّكَ بِالرَّجُلِ ،أ تَراهُ يَمنَعُنَا الماءَ لِمَنعِنا إيّاهُ ؟ وقَد كانَ انحازَ بِأَهلِ الشّامِ إلى ناحِيَةٍ فِي البَرِّ نائِيَةٍ عَن الماءِ . فَقالَ لَهُ عَمرٌو : لا ، إنَّ الرَّجُلَ جاءَ لِغَيرِ هذا ، وإنَّهُ لا يَرضى حَتّى تَدخُلَ في طاعَتِهِ ، أو يَقطَعَ حَبلَ عاتِقِكَ . فَأَرسَلَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ يَستَأذِنُهُ في وُرودِهِ مَشرَعَتَهُ ، وَاستِقاءِ النّاسِ مِن طَريقِهِ ، ودُخولِ رُسُلِهِ في عَسكَرِهِ . فَأَباحَهُ عَلِيٌّ كُلَّ ما سَأَلَ وطَلَبَ مِنهُ (2) .
الأخبار الطوال_ بَعدَ مَنعِ مُعاوِيةَ الماءَ عَلى جَيشِ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: فَلَمّا أصبَحَ زاحَفَ أبَا الأَعوَرِ ، فَاقتَتَلوا ، وصَدَقَهُمُ الأَشتَرُ وَالأَشعَثُ حَتّى نَفَيا أبَا الأَعوَرِ وأصحابَهُ عَنِ الشَّريعَةِ ، وصارَت في أيديهِما . فَقالَ عَمرُو بنُ العاصِ لِمُعاوِيَةَ : ما ظَنُّكَ بِالقَومِ اليَومَ إن مَنَعوكَ الماءَ كَما مَنَعتَهُم أمسِ ؟ فَقالَ مُعاوِيَةُ : دَع ما مَضى ، ما ظَنُّكَ بِعَلِيٍّ ؟ قالَ : ظَنّي أنَّهُ لا يَستَحِلُّ مِنكَ مَا استَحلَلتَ مِنهُ ؛ لِأَنَّهُ أتاكَ في غَيرِ أمرِ الماءِ . ثُمَّ تَوادَعَ النّاسُ ، وكَفَّ بَعضُهُم عَن بَعضٍ ، وأمَرَ عَلِيٌّ ألّا يُمنَعَ أهلُ الشّامِ مِنَ الماءِ ، فَكانوا يُسقَونَ جَميعا (3) .
.
ص: 418
شرح نهج البلاغة_ في ذِكرِ القِتالِ عَلَى الماءِ وَاستيلاءِ أصحابِ الإِمامِ عَلَيهِ _: فَقالَ لَهُ أصحابُهُ وشيعَتُهُ : اِمنَعهُمُ الماءَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! كَما مَنَعوكَ ، ولا تَسقِهِم مِنهُ قَطرَةً ، وَاقتُلهُم بِسُيوفِ العَطَشِ ، وخُذهُم قَبضا بِالأَيدي فَلا حاجَةَ لَكَ إلَى الحَربِ . فَقالَ : لا وَاللّهِ ، لا اُكافِئُهُم بِمِثلِ فِعلِهِم ، افسَحوا لَهم عَن بَعضِ الشَّريعَةِ ، فَفي حَدِّ السَّيفِ ما يُغني عَن ذلِكَ (1) .
7 / 6إقامَةُ الحُجَّةِ في ساحَةِ القِتالِتاريخ اليعقوبي :وجَّهَ عَلِيٌّ إلى مُعاوِيَةَ يَدعوهُ ويَسأَلُهُ الرُّجوعَ ، وألّا يُفَرِّقَ الاُمَّةَ بِسَفكِ الدِّماءِ ، فَأَبى إلَا الحَربَ (2) .
تاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة الحنفي_ بَعدَ ذِكرِ القِتالِ عَلَى الماءِ _: مَكَثَ عَلِيٌّ يَومَينِ لا يُرسِلُ إلى مُعاوِيَةَ أحَدا ، ولا يُرسِلُ إلَيهِ مُعاوِيَةُ . ثُمَّ إنَّ عَلِيّا دَعا بَشيرَ بنَ عَمرِو بنِ مِحصَنٍ الأَنصارِيَّ ، وسَعيدَ بنَ قَيسٍ الهَمدانِيَّ ، وشَبَثَ بنَ رِبعِيٍّ التَّميمِيَّ ، فَقالَ : اِيتوا هَذَا الرَّجُلَ ، فَادعوهُ إلَى اللّهِ ، وإلَى الطّاعَةِ وَالجَماعَةِ . فَقالَ لَهُ شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ : يا أميرَ المُؤمِنينَ !أ لا تُطمِعُهُ في سُلطانٍ تُوَلّيهِ إيّاهُ ، ومَنزِلَةٍ يَكونُ لَهُ بِها اُثرَةٌ عِندَكَ إن هُوَ بايَعَكَ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : اِيتوهُ فَالقَوهُ وَاحتَجّوا عَلَيهِ ، وَانظُروا ما رَأيُهُ . _ وهذا في أوَّلِ ذِي الحِجَّةِ _. فَأَتَوهُ ، ودَخَلوا عَلَيهِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ أبو عَمرَةَ بَشيرُ بنُ عَمرٍو ، وقالَ : يا
.
ص: 419
مُعاوِيَةُ ! إنَّ الدُّنيا عَنكَ زائِلَةٌ ، وإنَّكَ راجِعٌ إلَى الآخِرَةِ ، وإنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ مُحاسِبُكَ بِعَمَلِكَ ، وجازيكَ بِما قَدَّمَت يَداكَ ، وإنّي أنشُدُكَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ أن تُفَرِّقَ جَماعَةَ هذِهِ الاُمَّةِ ، وأن تَسفِكَ دِماءَها بَينَها ! فَقَطَعَ عَلَيهِ الكَلامَ ، وقالَ : هَلّا أوصَيتَ بِذلِكَ صاحِبَكَ ؟ فَقالَ أبو عَمرَةَ : إنَّ صاحِبي لَيسَ مِثلَكَ ، صاحِبي أحَقُّ البَرِيَّةِ كُلِّها بِهذَا الأَمرِ فِي الفَضلِ وَالدّينِ وَالسّابِقَةِ فِي الإِسلامِ ، وَالقَرابَةِ مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله . قالَ : فَيَقولُ ماذا ؟ قالَ : يَأمُرُكَ بِتَقوَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وإجابَةِ ابنِ عَمِّكَ إلى ما يَدعوكَ إلَيهِ مِنَ الحَقِّ ، فَإِنَّهُ أسلَمُ لَكَ في دُنياكَ ، وخَيرٌ لَكَ في عاقِبَةِ أمرِكَ . قالَ مُعاوِيَةُ : ونُطِلُّ (1) دَمَ عُثمانَ ! لا وَاللّهِ ، لا أفعَلُ ذلِكَ أبَدا . فَذَهَبَ سَعيدُ بنُ قَيسٍ يَتَكَلَّمُ ، فَبادَرَهُ شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ فَتَكَلَّمَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، وقالَ : يا مُعاوِيَةُ ! إنّي قَد فَهِمتُ ما رَدَدتَ عَلَى ابنِ مِحصَنٍ ، إنَّهُ وَاللّهِ ، لا يَخفى عَلَينا ما تَغزو وما تَطلُبُ ، إنَّكَ لم تَجِد شَيئا تَستَغوي بِهِ النّاسَ وتَستَميلُ بِهِ أهواءَهُم ، وتَستَخلِصُ بِهِ طاعَتَهُم ، إلّا قَولَكَ : «قُتِلَ إمامُكُم مَظلوما ، فَنَحنُ نَطلُبُ بِدَمِهِ» ، فَاستَجابَ لَكَ (2) سُفَهاءُ طَغامٌ ، وقَد عَلِمنا أن قَد أبطَأتَ عَنهُ بِالنَّصرِ ، وأحبَبتَ لَهُ القَتلَ ، لِهذِهِ المَنزِلَةِ الَّتي أصبَحتَ تَطلُبُ ، ورُبَّ مُتَمَنّي أمرٍ وطالِبِهِ ، اللّهُ عَزَّ وجَلَّ يَحولُ دونَهُ بِقُدرَتِهِ ، ورُبَّما اُوتِيَ المُتَمَنّي اُمنِيَّتَهُ وفَوقَ اُمنِيَّتِهِ . ووَاللّهِ ، ما لَكَ في واحِدَةٍ مِنهُما خَيرٌ ، لَئِن أخطَأتَ ما تَرجو إنَّكَ لَشَرُّ العَرَبِ حالاً في ذلِكَ ، ولَئِن أصَبتَ ما تَمَنّى لا تُصيبُهُ حَتّى تَستَحِقَّ مِن رَبِّكَ صُلِيَّ النّارِ ، فَاتَّقِ اللّه
.
ص: 420
يا مُعاوِيَةُ ، ودَع ما أنتَ عَلَيهِ ، ولا تُنازِعِ الأَمرَ أهلَهُ . فَحَمِدَ اللّهَ [مُعاوِيَةُ] وأثنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ أوَّلَ ما عَرَفتُ فيهِ سَفَهَكَ وخِفَّةَ حِلمِكَ ، قَطعُكَ عَلى هذَا الحَسيبِ الشَّريفِ سَيِّدِ قَومِهِ مَنطِقَهُ ، ثُمَّ عَنَيتَ بَعدُ فيما لا عِلمَ لَكَ بِهِ ، فَقَد كَذَبتَ ولَؤُمتَ أيُّهَا الأَعرابِيُّ الجِلفُ الجافي في كُلِّ ما ذَكَرتَ ووَصَفتَ . انصَرِفوا مِن عِندي ، فَإِنَّهُ لَيسَ بَيني وبَينَكُم إلَا السَّيفُ (1) .
7 / 7بِدايَةُ القِتالِتاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة الحنفي_ في بَيانِ ابتِداءِ الحَربِ في ذِي الحِجَّةِ _: أخَذَ عَلِيٌّ يَأمُرُ الرَّجُلَ ذَا الشَّرَفِ فَيَخرُجُ مَعَهُ جَماعَةٌ ، ويَخرُجُ الَيهِ مِن أصحابِ مُعاوِيَةَ آخَرُ مَعَهُ جَماعَةٌ ، فَيَقتَتِلانِ في خَيلِهِما ورِجالِهِما ثُمَّ يَنصَرِفانِ ، وأخَذوا يَكرَهونَ أن يَلقَوا بِجَمعِ أهلِ العِراقِ أهلَ الشّامِ لِما يَتَخَوَّفونَ أن يَكونَ في ذلِكَ مِن الاِستِئصالِ وَالهَلاكِ ، فَكانَ عَلِيٌّ يُخرِجُ مَرَّةً الأَشتَرَ ، ومَرَّةً حُجرَ بنَ عَدِيٍّ الكِندِيَّ ، ومَرَّةً شَبَثَ بنَ رِبعِيٍّ ، ومَرَّةً خالِدَ بنَ المُعَمَّرِ ، ومَرَّةً زِيادَ بنَ النَّضرِ الحارِثِيَّ ، ومَرَّةً زِيادَ بنَ خَصَفَةَ التَّيِميّ ، ومَرَّةً سَعيدَ بنَ قَيسٍ ، ومَرَّةً مَعقِلَ بنَ قَيسٍ الرِّياحِيَّ ، ومَرَّةً قَيسَ بنَ سَعدٍ ، وكانَ أكثَر القَومِ خُروجا الَيهِمُ الأَشتَرُ ، وكانَ مُعاوِيَةُ يُخرِجُ إلَيهِم عَبدَ الرَّحمنِ بنَ خالِدٍ المَخزومِيَّ وأبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ ، ومَرَّةً حَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ الفِهرِيَّ ، ومَرَّةً ابنَ ذِي الكَلاعِ الحِميَرِيَّ ، ومَرَّةً عُبيدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ ، ومَرَّةً شُرَحبيلَ بنَ السِّمطِ الكِندِيَّ ، ومَرَّةً حَمزَةَ بنَ مالِكِ الهَمدانِيَّ ، فَاقتَتَلوا مِن ذِي الحِجَّةِ كُلِّها ورُبَّمَا اقتَتَلوا فِي اليَومِ الواحِدِ مَرَّتَينِ أوَّلَهُ وآخِرَهُ .
.
ص: 421
قالَ أبومِخنَفٍ : حَدَّثَني عَبدُ اللّهِ بنُ عاصِمٍ الفائِشيُّ قالَ : حَدَّثَني رَجُلٌ مِن قَومي أنَّ الأَشتَرَ خَرَجَ يَوما يُقاتِلُ بِصِفّينَ في رِجالٍ مِنَ القُرّاءِ ورِجالٍ مِن فُرسانِ العَرَبِ ، فَاشتَدَّ قِتالُهُم فَخَرَجَ عَلَينا رَجُلٌ وَاللّهِ لَقَلَّما رَأَيتُ رَجُلاً قَطُّ هُوَ أطوَلُ ولا أعظَمُ مِنهُ ، فَدَعا إلَى المُبارَزَةِ فَلَم يَخرُج إلَيهِ أحَدٌ إلَا الأَشتَرُ ، فَاختَلَفا ضَربَتَينِ فَضَرَبَهُ الأَشتَرُ فَقَتَلَهُ ، وايمُ اللّهِ ، لَقَد كُنّا أشفَقنا عَلَيهِ ، وسَأَلناهُ ألّا يَخرُجَ إلَيهِ ، فَلَمّا قَتَلَهُ الأَشتَرُ نادى مُنادٍ مِن أصحابِهِ : يا سَهمَ سهم بنَ أبِي العَيزارِ يا خَيرَ مَن نَعلَمُهُ منِ زارِ وزارَةُ : حَيٌّ مِنَ الأَزدِ . وقالَ : اُقسِمُ بِاللّهِ لَأَقتُلَنَّ قاتِلَكَ أو لَيَقتُلَنّي . فَخَرَجَ فَحَمَلَ عَلَى الأَشتَرِ وعَطَفَ عَلَيهِ الأَشتَرُ فَضَرَبَهُ ، فَإِذا هُوَ بَينَ يَدَي فَرَسِهِ ، وحَمَلَ عَلَيهِ أصحابُهُ فَاستَنقَذوهُ جَريحا . فَقالَ أبو رُفَيقَةَ الفَهمِيُّ : هذا كانَ نارا فَصادَفَ إعصارا . وَاقتَتَلَ النّاسُ ذَا الحِجَّةِ كُلَّهُ ، فَلَمَّا انقَضى ذُو الحِجَّةِ تَداعَى النّاسُ إلى أن يَكُفَّ بَعضُهُم عَن بَعضٍ المُحَرَّمَ ، لَعَلَّ اللّهَ أن يُجرِيَ صُلحا أوِ اجتِماعا ، فَكَفَّ بَعضُهُم عَن بَعضٍ (1) .
7 / 8الهُدنَةُ رَجاءَ الصُّلحِتاريخ الطبري_ في أخبارِ سَنَةِ 37 هجريّة _: كانَ في أوَّلِ شَهرٍ مِنها وهُوَ المُحَرَّمُ مُوادَعَةُ الحَربِ بَينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ ، قَد تَوادَعا عَلى تَركِ الحَربِ فيهِ إلَى انقِضائِهِ طَمَعاً فِي الصُّلحِ (2) .
.
ص: 422
تاريخ الطبري عن المحلّ بن خليفة الطائي :لَمّا تَوادَعَ عَلِيٌّ ومُعاوِيَةُ يَومَ صِفّينَ اختَلَفَ فيما بَينَهُمَا الرُّسُلُ رَجاءَ الصُّلحِ ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ عَدِيَّ بنَ حاتِمٍ ويَزيدَ بنَ قَيسٍ الأَرحَبِيَّ وشَبَثَ بنَ رِبعِيٍّ وزِيادَ بنَ خَصَفَةَ إلى مُعاوِيَةَ . فَلَمّا دَخَلوا حَمِدَ اللّهَ عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنّا أتَيناكَ نَدعوكَ إلى أمرٍ يَجمَعُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ كَلِمَتَنا واُمَتَّنا ، ويَحِقنُ بِهِ الدِّماءَ ويُؤَمِّنُ بِهِ السُّبُلَ ويُصلِحُ بِهِ ذاتَ البَينِ . إنَّ ابنَ عَمِّكَ سَيِّدُ المُسلِمينَ أفضَلُها سابِقَةً وأحسنُها فِي الإِسلامِ أثَرا ، وقَدِ استَجمَعَ لَهُ النّاسُ ، وقَد أرشَدَهُمُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِالَّذي رَأَوا ، فَلَم يَبقَ أحَدٌ غَيرُكَ وغَيرُ مَن مَعَكَ ، فَانتَهِ يا مُعاوِيَةُ لا يُصبِكَ اللّهُ وأصحابَكَ بِيَومٍ مِثلَ يَومِ الجَمَلِ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : كَأَنَّكَ إنَّما جِئتَ مُتَهَدِّدا لَم تَأتِ مُصلِحا ، هَيهاتَ يا عَدِيُّ ! كَلّا وَاللّهِ ، إنّي لَابنُ حَربٍ ما يُقَعقَعُ لي بِالشِّنانِ (1) ، أما وَاللّهِ إنَّكَ لَمِنَ المُجلِبينَ عَلَى ابنِ عَفّانَ ، وإنَّكَ لَمِن قَتَلَتِهِ ، وإنّي لَأَرجو أن تَكونَ مِمَّن يَقتُلُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ ، هَيهاتَ يا عَدِيَّ ابنَ حاتِمٍ ! قَد حَلَبتَ بِالسّاعِدِ الأَشَدِّ . فَقالَ لَهُ شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ وزيادُ بنُ خَصَفَةَ _ وتَنازعَا جَوابا واحِدا _ : أتَيناكَ فيما يُصلِحُنا وإياكَ ، فَأَقبَلتَ تَضرِبُ لَنَا الأَمثالَ ، دَع مالا يُنتَفَعُ بِهِ مِنَ القَولِ وَالفِعلِ ، وأجِبنا فيما يَعُمُّنا وإيّاكَ نَفعُهُ . وتَكَلَّمَ يَزيدُ بنُ قَيسٍ فَقالَ : إنّا لَم نَأتِكَ إلّا لِنُبَلِّغَكَ ما بُعِثنا بِهِ إلَيكَ ، ولِنُؤَدِّيَ عَنكَ ما سَمِعنا مِنكَ ، ونَحنُ عَلى ذلِكَ لَم نَدَع أن نَنصَحَ لَكَ ، وأن نَذكُرَ ما ظَنَنّا أنَّ لَنا عَلَيكَ بِهِ حُجَّةً ، وأنَّكَ راجِعٌ بِهِ إلَى الأُلفَةِ وَالجَماعَةِ .
.
ص: 423
إنَّ صاحِبَنا مَن قَد عَرَفتَ وعَرَفَ المُسلِمونَ فَضلَهُ ، ولا أظُنُّهُ يَخفى عَلَيكَ ، إنَّ أهلَ الدّينِ وَالفَضلِ لَن يَعدِلوا بِعَلِيٍّ ، ولَن يُمَيِّلوا بَينَكَ وبَينَهُ ، فَاتَّقِ اللّهَ يا مُعاوِيَةُ ولا تُخالِف عَلِيّا ، فَإِنّا وَاللّهِ ما رَأَينا رَجُلاً قَطُّ أعمَلَ بِالتَّقوى ولا أزهَدَ فِي الدُّنيا ولا أجمَعَ لِخِصالِ الخَيرِ كُلِّها مِنهُ . فَحَمِدَ اللّهَ مُعاوِيَةُ وأثنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّكُم دَعوتُم إلَى الطّاعَةِ وَالجَماعَةِ ، فَأَمَّا الجَماعَةُ الَّتي دَعَوتُم إلَيها فَمَعَنا هِيَ . وأمَّا الطّاعَةُ لِصاحِبِكُم فَإِنّا لا نَراها ، إنَّ صاحِبَكُم قَتَلَ خَليفَتَنا وفَرَّقَ جَماعَتَنا وآوى ثَأرَنا وقَتَلَتَنا ، وصاحِبَكُم يَزعُمُ أنَّهُ لَم يَقتُلهُ فَنَحنُ لا نَرُدُّ ذلِكَ عَلَيهِ ، أرَأَيتُم قَتَلَةَ صاحِبِنا ؟أ لَستُم تَعلَمونَ أنَّهُم أصحابُ صاحِبِكُم ؟ فَليَدفَعهُم إلَينا فَلنَقتُلهُم بِهِ ، ثُمَّ نَحنُ نُجيبُكُم إلَى الطّاعَةِ وَالجَماعَةِ . فَقالَ لَهُ شَبَثٌ : أ يَسُرُّكَ يا مُعاوِيَةُ أنَّكَ اُمِكنتَ مِن عَمّارٍ تَقتُلُهُ ؟ فَقالَ مُعاوِيَةُ : وما يَمنَعُني مِن ذلِكَ ؟ ! وَاللّهِ لَو اُمكِنتُ مِنِ ابنِ سُمَيَّةَ ما قَتَلتُهُ بِعُثمانَ ولكِن كُنتُ قاتِلَهُ بِناتِلٍ مَولى عُثمانَ . فَقالَ لَهُ شَبَثٌ : وإلهِ الأَرضِ وإلهِ السَّماءِ ما عَدَلتَ مُعتَدِلاً ، لا وَالَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ لا تَصِلُ إلى عَمّارٍ حَتّى تُندَرَ الهامُ عَن كَواهِِل الأَقوامِ ، وتَضيقَ الأَرضُ الفَضاءُ عَلَيكَ بِرُحبِها . فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : إنَّهُ لَو قَد كانَ ذلِكَ كانَتِ الأَرضُ عَلَيكَ أضيَقَ . وتَفَرَّقَ القَومُ عَن مُعاوِيَةَ ، فَلَمَّا انصَرَفوا بَعَثَ مُعاوِيَةَ إلى زِيادِ بنِ خَصَفَةَ التَّيمِيِّ فَخَلا بِهِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ وقالَ : أمّا بَعدُ يا أخا رَبيعَةَ فَإِنَّ عَلِيّا قَطَعَ أرحامَنا وآوى قَتَلَةَ صاحِبِنا ، وإنّي أسأَلُكَ النَّصرَ عَلَيهِ بِاُسرَتِكَ وعَشيرَتِكَ ، ثُمَّ لَكَ عَهدُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وميثاقُهُ أن أوَلِّيَكَ إذا ظَهَرتُ أيَّ المِصرَينِ أحبَبتَ .
.
ص: 424
قالَ أبومِخنَفٍ : فَحَدَّثَني سَعدٌ أبُو المُجاهِدِ عَنِ المُحِلِّ بنِ خَليفَةَ ، قالَ : سَمِعتُ زِيادَ بنَ خَصَفَةَ يُحَدِّثُ بِهذَا الحَديثِ . قالَ : فَلَمّا قَضى مُعاوِيَةُ كَلامَهُ ، حَمِدتُ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ وأثنَيتُ عَلَيهِ ، ثُمَّ قُلتُ : أمّا بَعدُ ، فَإِنّي عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وبِما أنعَمَ عَلَيَّ فَلَن أكونَ ظَهيرا لِلمُجرِمينَ ، ثُمَّ قُمتُ . فَقالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ _ وكانَ إلى جَنبِهِ جالِسا _ : لَيسَ يُكَلِّمُ رَجُلٌ مِنّا رَجُلاً مِنهُم فَيُجيبَ إلى خَيرٍ ، مالَهُم عَضَبَهُمُ (1) اللّهُ بِشَرٍّ ! ما قُلوبُهُم إلّا كَقَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ (2) .
7 / 9مُناقَشاتُ وَفدِ مُعاوِيَةَتاريخ الطبري عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود :إنَّ مُعاوِيَةَ بَعَثَ إلى عَلِيٍّ حَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ الفِهرِيَّ وشُرَحبيلَ بنَ السِّمطِ ومَعنَ بنَ يَزيدَ بنِ الأَخنَسِ ، فَدَخَلوا عَلَيهِ وأنَا عِندَهُ ، فَحَمِدَ اللّهَ حَبيبٌ وأثنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ عُثمانَ بنَ عفّانَ كانَ خَليفَةً مَهدِيّا يَعمَلُ بِكِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ويُنيبُ إلى أمرِ اللّهِ تَعالى ، فَاستَثقَلتُم حَياتَهُ وَاستَبطَأتُم وَفاتَهُ فَعَدَوتُم عَلَيهِ فَقَتَلتُموهُ ، فَادفَع إلَينا قَتَلَةَ عُثمانَ _ إن زَعَمتَ أنَّكَ لَم تَقتُلهُ _ نَقتُلهُم بِهِ ، ثُمَّ اعتَزِل أمرَ النّاسِ فَيَكونَ أمرُهُم شورى بَينَهُم ، يُوَلِّي النّاسُ أمرَهُم مَن أجمَعَ عَلَيهِ رَأيُهُم . فَقالَ لَهُ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ : وما أنتَ لا أمَّ لَكَ وَالعَزلَ وهذَا الأَمرَ ، اسكُت فَإِنَّكَ لَستَ هُناكَ ولا بِأَهلٍ لَهُ .
.
ص: 425
فَقامَ وقال لَهُ : وَاللّهِ لَتَرَيَنّي بِحَيثُ تَكرَهُ . فَقالَ عَلِيٌّ : وما أنتَ ولَو أجلَبتَ بِخَيلِكَ ورَجِلِكَ لا أبقَى اللّهُ عَلَيكَ إن أبقَيتَ عَلَيَّ ، أحُقرَةً وسوءًا ؟ ! اِذهَب فَصَوِّب وصَعِّد ما بَدا لَكَ . و قالَ شُرَحبيلُ بنُ السِّمطِ : إنّي إن كَلَّمتُكَ فَلَعَمري ما كَلامي إلّا مِثلُ كَلامِ صاحِبي قَبلُ ، فَهَل عِندَكَ جَوابٌ غَيرَ الَّذي أجَبتَهُ بِهِ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : نَعَم لَكَ ولِصاحِبِكَ جَوابٌ غَيرَ الَّذي أجَبتُهُ بِهِ . فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ اللّهَ جَلَّ ثَناؤُهُ بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بِالحَقِّ فَأَنقَذَ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ وَانتاشَ (1) بِهِ مِنَ الهَلَكَةِ وجَمَعَ بِهِ مِنَ الفُرقَةِ ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللّهُ إلَيهِ وقَد أدّى ما عَلَيهِ صلى الله عليه و آله ثُمَّ استَخلَفَ النّاسُ أبا بَكرٍ وَاستَخلَفَ أبو بَكرٍ عُمَرَ فَأَحسَنَا السّيرَةَ وعَدَلا فِي الأُمَّةِ ، وقَد وَجَدنا عَلَيهِما أن تَوَلَّيا عَلَينا ونَحنُ آلُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَغَفَرنا ذلِكَ لَهُما ، ووَلِيَ عُثمانُ فَعَمِلَ بِأَشياءَ عابَها النّاسُ عَلَيهِ ، فَساروا إلَيهِ فَقَتَلوهُ ، ثُمَّ أتانِي النّاسُ وأنا مُعتَزِلٌ أمورَهُم فَقالوا لي : بايِع فَأَبَيتُ عَلَيهِم ، فَقالوا لي : بايِع فَإِنَّ الأُمَّةَ لا تَرضى إلّا بِكَ وإنّا نَخافُ إن لَم تَفعَل أن يَفتَرِقَ النّاسُ ، فَبايَعتُهُم فَلَم يَرُعني إلّا شِقاقُ رَجُلَينِ قَد بايَعاني ، وخِلافُ مُعاوِيَةَ الَّذي لَم يَجعَلِ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ لَهُ سابِقَةً فِي الدّينِ ولا سَلَفَ صِدقٍ فِي الإِسلامِ ، طَليقٌ ابنُ طَليقٍ ، حِزبٌ مِن هذِهِ الأَحزابِ ، لَم يَزَل للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله ولِلمُسلِمينَ عَدُوّا هُوَ وأبوهُ حَتّى دَخَلا فِي الإِسلامِ كارِهينَ . فَلا غَروَ إلّا خِلافُكُم مَعَهُ وَانقِيادُكُم لَهُ وتَدَعونَ آلَ نَبِيِّكُمُ صلى الله عليه و آله الَّذينَ لا يَنبَغي لَكُم شِقاقُهُم ولا خِلافُهُم ولا أن تَعدِلوا بِهِم مِنَ النّاسِ أحَدا ، ألا إنّي أدعوكُم إلى كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله وإماتَةِ الباطِلِ وإحياءِ مَعالِمِ الدّينِ ، أقولُ قَولي هذا
.
ص: 426
وأستَغفِرُ اللّهَ لي ولَكُم ولِكُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ ومُسلِمٍ ومُسلِمَةٍ . فَقالا : اِشهَد أنَّ عُثمانَ قُتِلَ مَظلوما . فَقالَ لَهُما : لا أقولُ : إنَّهُ قُتِلَ مَظلوما ولا إنَّهُ قُتِلَ ظالِماً . قالا : فَمَن لَم يَزعُم أنَّ عُثمانَ قُتِلَ مَظلوما فَنَحنُ مِنهُ بُرَآءُ ، ثُمَّ قاما فَانصَرَفا . فَقالَ عَلِيٌّ : «إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَ مَآ أَنتَ بِهَ_دِى الْعُمْىِ عَن ضَلَ__لَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَا مَن يُؤْمِنُ بِ_ئايَ_تِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ» (1) . ثُمَّ أقبَلَ عَلِيٌّ عَلى أصحابِهِ فَقالَ : لا يَكُن هؤُلاءِ أولى بِالجِدِّ في ضَلالِهِم مِنكُم بِالجِدِّ في حَقِّكُم وطاعَةِ رَبِّكُم (2) .
7 / 10الاِستِئناءُ رَجاءَ الاِهتِداءِشرح نهج البلاغة :لَمّا مَلَكَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام الماءَ بِصِفّينَ ، ثُمَّ سَمَحَ لِأَهلِ الشّامِ بِالمُشارَكَةِ فيهِ وَالمُساهَمَةِ ، رَجاءَ أن يَعطِفوا إلَيهِ ، وَاستِمالَةً لِقُلوبِهِم وإظهارا لِلمَعدَلَةِ وحُسنِ السّيرَةِ فيهِم ، مَكَثَ أيّاما لا يُرسِلَ إلى مُعاوِيَةَ، ولا يَأتيهِ مِن عِندِ مُعاوِيَةَ أحَدٌ . وَاستَبطَأَ أهلُ العِراقِ إذنَهُ لَهُم فِي القِتالِ ، وقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! خَلَّفنا ذَرارِيَّنا ونِساءَنا بِالكوفَةِ ، وجِئنا إلى أطرافِ الشّامِ لِنَتَّخِذَها وَطَنا ؟ ! ائذَن لَنا فِي القِتالِ ، فِإِنَّ النّاسَ قَد قالوا . قالَ لَُهم عليه السلام : ما قالوا ؟
.
ص: 427
فَقالَ مِنهُم قائِلٌ : إنَّ النّاسَ يَظُنّونَ أنَّكَ تَكرَهُ الحَربَ كِراهِيَةً لِلمَوتِ ، وإنَّ مِن النّاسِ مَن يَظُنُّ أنَّكَ في شَكٍّ مِن قِتالِ أهلِ الشّامِ . فَقالَ عليه السلام : ومَتى كُنتُ كارِها لِلحَربِ قَطُّ ؟ إنَّ مِنَ العَجَبِ حُبّي لَها غُلاما ويَفَعا ، وكَراهِيَتي لَها شَيخا بَعدَ نَفادِ العُمُرِ وقُربِ الوَقتِ ! وأمّا شَكّي فِي القَومِ فَلَو شَكَكتُ فيهم لَشَكَكتُ في أهلِ البَصرَةِ ، وَاللّهِ ، لَقَد ضَرَبتُ هذَا الأَمرَ ظَهرا وبَطنا ، فَما وَجَدتُ يَسَعُني إلّا القِتالُ ، أو أن أعصِيَ اللّهَ ورَسولَه ، ولكِنّي أستَأني بِالقَومِ ، عَسى أن يَهتَدوا أو تَهتَدِيَ مِنهُم طائِفَةٌ ، فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ لي يَومَ خَيبَرَ : لَأَن يَهدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً واحِدا خَيرٌ لَكَ مِمّا طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ عليه السلام وقَدِ استَبطَأَ أصحابُهُ إذنَهُ لَهُم فِي القِتالِ بِصِفّينَ _:َ أمّا قَولُكُم : أكُلَّ ذلِكَ كَراهِيَةَ المَوتِ ؟ فَوَاللّهِ ما اُبالي ، دَخَلتُ إلَى المَوتِ أو خَرَجَ المَوتُ إلَيَّ . وأمّا قَولُكُم : شَكّا في أهلِ الشّامِ ، فَوَاللّهِ ما دَفَعتُ الحَربَ يَوما إلّا وأنا أطمَعُ أن تَلحَقَ بي طائِفَةٌ فَتَهتَدِيَ بي ، وتَعشُوَ (2) إلى ضَوئي ، وذلِكَ أحَبُّ إلَيَّ مِن أن أقتُلَها عَلى ضَلالِها ، وإن كانَت تُبوءُ بِآثامِها (3) .
.
ص: 428
. .
ص: 429
الفصل الثامن : القتال8 / 1دُعاءُ الإِمامِ قَبلَ القِتالِتاريخ الطبري عن زيد بن وهب الجهني :إنَّ عَلِيّا خَرَجَ إلَيهِم غَداةَ الأَربَعاءِ فَاستَقبَلَهُم فَقالَ : اللّهُمَّ ! رَبَّ السَّقفِ المَرفوعِ المَحفوظِ المَكفوفِ ، الَّذي جَعَلتَهُ مَغيضا (1) لِلَّيلِ وَالنّهارِ ، وجَعَلَتَ فيهِ مَجرَى الشَّمسِ وَالَقَمَرِ وَمنازِلَ النُّجومِ ، وجَعَلتَ سُكّانَهُ سِبطا (2) مِنَ المَلائِكَةِ ، لا يَسأَمونَ العِبادَةَ . ورَبَّ هذِهِ الأَرضِ الَّتي جَعَلتَها قَرارا لِلأَنامِ وَالهَوامِّ وَالأَنعامِ ، وما لا يُحصى مِمّا لا يُرى ومِمّا يُرى مِن خَلقِكَ العَظيمِ . ورَبَّ الفُلكِ الَّتي تَجري فِي البَحرِ بِما يَنفَعُ النّاسَ ، ورَبَّ السَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ ، ورَبَّ البَحرِ المَسجورِ المُحيطِ بِالعالَمِ ، ورَبَّ الجِبالِ الرَّواسِي الَّتي جَعَلتَها لِلأَرضِ أوتادا ، ولِلخَلقِ مَتاعا ؛ إن أظهَرتَنا عَلى عَدُوِّنا فَجَنِّبنَا البَغيَ ، وسَدِّدنا لِلحَقِّ ، وإن أظهَرتَهُم عَلَينا فَارزُقِني الشَّهادَةَ ، وَاعصِم بَقِيَّةَ أصحابي مِنَ الفِتنَةِ (3) .
.
ص: 430
وزاد في البداية والنهاية : ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلِيٌّ وهُوَ فِي القَلبِ في أهلِ المَدينَةِ ، وعَلى مَيمَنَتِهِ يَومَئِذٍ عَبدُ اللّهِ بنُ بُدَيلٍ ، وعَلى المَيسَرَةِ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ ، وعَلَى القُرّاءِ عَمّارُ ابنُ ياسِرٍ وقَيسُ بنُ سَعدٍ ، وَالنّاسُ عَلى راياتِهِم فَزَحَفَ بِهِم إلَى القَومِ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ يَومَ صِفّينَ _: اللّهُمَّ إلَيكَ رُفِعَتِ الأَبصارُ ، وبُسِطَتِ الأَيدي ، ونُقِلَتِ الأَقدامُ ، ودَعَتِ الأَلسُنُ ، وأفضَتِ القُلوبُ ، وتُحوكِمَ إلَيكَ فِي الأَعمالِ ، فَاحكُم بَينَنا وبَينَهُم بِالحَقِّ وأنتَ خَيرُ الفاتِحينَ . اللّهُمَّ إنّا نَشكو إلَيكَ غَيبَةَ نَبِيِّنا وقِلَّةَ عَدَدِنا وكَثرَةَ عَدُوِّنا وتَشَتُّتَ أهوائِنا وشِدَّةَ الزَّمانِ وظُهورَ الفِتَنِ . أعِنّا عَلَيهِم بِفَتحٍ تُعَجِّلُهُ ، ونَصرٍ تُعِزُّ بِهِ سُلطانَ الحَقِّ وتُظهِرُهُ (2) .
عنه عليه السلام_ في دُعائِهِ عِندَ ابتِداءِ القِتالِ يَومَ صِفّينَ لَمّا زَحَفوا بِاللِّواءِ _: بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ العَلِيِّ العَظيمِ ، اللّهُمَّ إيّاكَ نَعبُدُ وإيّاكَ نَستَعينُ ، يا اللّهُ يا رَحمنُ يا رَحيمُ ، يا أحَدُ يا صَمَدُ يا إلهَ مُحَمَّدٍ ، إلَيكَ نُقِلَتِ الأَقدامُ ، وأفضَتِ القُلوبُ ، وشَخَصَتِ الأَبصارُ ، ومُدَّتِ الأَعناقُ ، وطُلِبَتِ الحَوائِجُ ، ورُفِعَتِ الأَيدي ، اللّهُمَّ افتَح بَينَنا وبَينَ قَومِنا بِالحَقِّ وأنتَ خَيرُ الفاتِحينَ . ثُمَّ قالَ : لا إلهَ إلَا اللّهُ وَاللّهُ أكبَرُ _ ثَلاثا _ (3) .
.
ص: 431
8 / 2الأَمرُ بِالقِتالِالأخبار الطوال :لَمَّا انسَلَخَ المُحَرَّمُ بَعَثَ عَلِيٌّ مُنادِيا ، فَنادى في عَسكَرِ مُعاوِيَةَ عِندَ غُروبِ الشَّمسِ : إنّا أمسَكنا لِتَنصَرِمَ الأَشهُرُ الحُرُمُ ، وقَد تَصَرَّمَت ، وَإنّا نَنبِذُ إلَيكُم عَلى سَواءٍ ، إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخائِنينَ (1) .
تاريخ الطبري عن جعفر بن حذيفة :مَكَثَ النّاسُ حَتّى إذا دَنَا انسِلاخُ المُحَرَّمِ أمَرَ عَلِيٌّ مَرثَدَ بنَ الحارِثِ الجُشَمِيَّ ، فَنادى أهلَ الشّامِ _ عِندَ غُروبِ الشَّمسِ _ : ألا إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ يَقولُ لَكُم : إنّي قَدِ استَدَمتُكُم لِتُراجِعُوا الحَقَّ وتُنيبوا إلَيهِ ، وَاحتَجَجتُ عَلَيكُم بِكِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، فَدَعَوتُكُم إلَيهِ ، فَلَم تَناهَوا عَن طُغيانٍ ، ولَم تُجيبوا إلى حَقِّ ، وإنّي قَد نَبَذتُ إلَيكُم عَلى سَواءٍ ، إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخائِنينَ . فَفَزِعَ أهلُ الشّامِ إلى اُمَرائِهِم ورُؤَسائِهِم ، وخَرَجَ مُعاوِيَةُ وعَمرُو بنُ العاصِ فِي النّاسِ يُكَتِّبانِ الكَتائِبَ ويُعَبِّيانِ النّاسَ ، وأوقَدُوا النِّيرانَ ، وباتَ عَلِيٌّ لَيلَتَهُ كُلَّها يُعَبِّي النّاسَ ، ويُكَتِّبُ الكَتائِبَ ، ويَدورُ فِي النّاسِ يُحَرِّضُهُم (2) .
8 / 3تَحريضُ الإِمامِ أصحابَهُ عَلَى القِتالِتاريخ دمشق عن ابن عبّاس :عَقِمَ النِّساءُ أن يَأتينَ بِمِثلِ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ ابنِ أبي طالِبٍ ، وَاللّهِ ما رَأَيتُ ولا سَمِعتُ رَئيسا يوزَنُ بِهِ ، لَرَأَيتُهُ _ يَومَ صِفّينَ _ وعَلى رَأسِهِ عِمامَةٌ قَد أرخى طَرَفَيها كَأَنَّ عَينَيهِ سِراجا سَليطٍ وهُوَ يَقِفُ عَلى شِرذِمَة
.
ص: 432
يَحُضُّهُم حَتّى انتَهى إلَيَّ وأنَا في كَنَفٍ مِنَ النّاسِ فَقالَ : مَعاشِرَ المُسلِمينَ ! استَشعِرُوا الخَشيَةَ ، وغُضُّوا الأَصواتَ ، وتَجَلبَبُوا السَّكينَةَ ، وَاعمَلُوا الأَسِنَّةَ ، وأقلِقُوا السُّيوفَ قَبلَ السِّلَّةِ ، وَاطعُنُوا الرّخرِ (1) ، ونافِحوا بِالظُّبا ، وصِلُوا السُّيوفَ بِالخُطا ، وَالنِّبالَ بِالرِّماحِ ، فَإِنَّكُم بِعَينِ اللّهِ ومَعَ ابنِ عَمِّ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله . عاوِدُوا الكَرَّ ، وَاستَحيوا مِنَ الفَرِّ ؛ فَإِنَّهُ عارٌ باقٍ فِي الأَعقابِ وَالأَعناقِ ، ونارٌ يَومَ الحِسابِ ، وطيبوا عَن أنفُسِكُم أنفُسا ، وَامشوا إلَى المَوتِ أسحُحا 2 ، وعَلَيكُم بِهذَا السَّوادِ الأَعظَمِ ، وَالرِّواقِ المُطَنَّبِ (2) ، فَاضرِبوا ثَبَجَهُ (3) ؛ فَإِنَّ الشَّيطانَ راكِبٌ صَعبَهُ ، ومُفرِشٌ ذِراعَيهِ ، قَد قَدَّمَ لِلوَثبَةِ يَدا ، وأخَّرَ لِلنُّكوصِ رِجلاً ، فَصَمدا صَمدا حَتّى يتََجَلّى لَكُم عَمودُ الدّينِ «وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَن يَتِرَكُمْ أَعْمَلَكُمْ» (4)(5) .
الكافي عن مالك بن أعين :حَرَّضَ أميرُ المُؤمِنينَ صَلواتُ اللّهِ عَلَيهِ النّاسَ بِصِفّينَ فَقالَ : إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ دَلَّكُم عَلى تِجارَةٍ تُنجيكُم مِن عَذابٍ أليمٍ ، وتُشفي بِكُم عَلَى الخَيرِ : الإِيمانِ بِاللّهِ وَالجِهادِ في سَبيلِ اللّهِ ، وجَعَلَ ثَوابَهُ مَغفِرَةً لِلذَّنبِ ، ومساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدنٍ ، وقالَ عَزَّ وجَلَّ : «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَ_تِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا
.
ص: 433
كَأَنَّهُم بُنْيَ_نٌ مَّرْصُوصٌ» (1) . فَسَوّوا صُفوفَكُم كَالبُنيانِ المَرصوصِ ، فَقَدِّمُوا الدَّارعَ وأخِّرُوا الحاسِرَ ، وعَضّوا عَلَى النَّواجِذِ ؛ فَإِنَّهُ أنبى لِلسُّيوفِ عَنِ الهامِ (2) ، وَالتَووا عَلى أطرافِ الرِّماحِ ؛ فَإِنَّهُ أموَرُ (3) لِلأَسِنَّةِ ، وغُضُّوا الأَبصارَ ؛ فَإِنَّهُ أربَطُ لِلجَأشِ وأسكَنُ لِلقُلوبِ ، وأميتُوا الأَصواتَ ؛ فَإِنَّهُ أطرَدُ لِلفَشَلِ وأولى بِالوَقارِ ، ولا تَميلوا بِراياتِكُم ، ولا تُزيلوها ، ولا تَجعَلوها إلّا مَعَ شُجعانِكُم ؛ فَإِنَّ المانِعَ لِلذِّمارِ ، وَالصّابِرَ عِندَ نُزولِ الحَقائِقِ ، هُم أهلُ الحِفاظِ . . . وَاعلَموا أنَّ أهلَ الحِفاظِ هُمُ الَّذينَ يَحُفّونَ بِراياتِهِم ويَكتَنِفونَها ويَصيرونَ حِفافَيها ووَراءَها وأمامَها ، ولا يُضَيِّعونَها ؛ لا يَتَأَخَّرونَ عَنها فَيُسلِموها ، ولا يَتَقَدَّمونَ عَلَيها فَيُفرِدوها . رَحِمَ اللّهُ امرَأً واسى أخاهُ بِنَفسِهِ ، ولَم يَكِل قِرنَهُ إلى أخيهِ فَيَجتَمِعَ قِرنُهُ وقِرنُ أخيهِ ، فَيَكتَسِبَ بِذلِكَ اللّائِمَةَ ، ويَأتِيَ بِدَناءَةٍ ، وكَيفَ لا يَكونُ كَذلِكَ وهُوَ يُقاتِلُ الاِثنَينِ ؟ ! وهذا مُمسِكٌ يَدَهُ قَد خَلّى قِرنَهُ عَلى أخيهِ هارِبا مِنهُ يَنظُرُ إلَيهِ ، وهذا فَمَن يَفعَلهُ يَمقُتهُ اللّهُ ، فَلا تَعَرَّضوا لِمَقتِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ فَإِنَّما مَمَرُّكُم إلَى اللّهِ ، وقَد قالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ : «لَن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَا قَلِيلاً» (4) . وَايمُ اللّهِ ، لَئِن فَرَرتُم مِن سُيوفِ العاجِلَةِ لا تَسلَمونَ مِن سُيوفِ الآجِلَةِ ، فَاستَعينوا بِالصَّبرِ وَالصِّدقِ ؛ فَإِنَّما يَنزِلُ النَّصرُ بَعدَ الصَّبرِ ، فَجاهِدوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ (5) .
.
ص: 434
8 / 4اليَومُ الأَوَّلُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري عن القاسم مولى يزيد بن معاوية :يَخرُجُ أهلُ العِراقِ أحَدَ عَشَرَ صَفّا ، فَخَرجوا أوَّلَ يَومٍ مِن صِفّينَ فَاقتَتَلوا ، وعَلى مَن خَرَجَ يَومَئِذٍ مِن أهلِ الكوفَةِ الأَشتَرُ ، وعَلى أهلِ الشّامِ حَبيبُ بنُ مَسلَمَةَ ، وذلِكَ يَومُ الأَربَعاءِ ، فَاقتَتَلوا قِتالاً شَديدا جُلَّ النَّهارِ ، ثُمَّ تَراجَعوا وقَدِ انتَصَفَ بَعضُهُم مِن بَعضٍ (1) .
مروج الذهب :وأصبَحَ عَلِيٌّ يَومَ الأَربَعاءِ _ وكانَ أوَّلُ يَومٍ مِن صَفَرَ _ فَعَبَّأَ الجَيشَ ، وأخرَجَ الأَشتَرَ أمامَ النّاسِ ، وأخرَجَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ _ وقَد تَصافَّ أهلُ الشّامِ وأهلُ العِراقِ _ حَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ الفِهرِيَّ ، وكانَ بَينَهُم قِتالٌ شَديدٌ سائِرَ يَومِهِم ، وأسفَرَت عَن قَتلى مِنَ الفَريقَينِ جَميعا ، وَانصَرَفوا (2) .
8 / 5اليَومُ الثّاني مِنَ القِتالِتاريخ الطبري عن القاسم مولى يزيد بن معاوية_ في ذِكرِ أحداثِ اليَومِ الثّاني مِنَ الحَربِ _: خَرَجَ هاشِمُ بنُ عُتبَةَ في خَيلٍ ورِجالٍ حَسَنٍ عَدَدُها وعُدَّتُها ، وخَرَجَ إلَيهِ أبُو الأَعوَرِ ، فَاقتَتَلوا يَومَهُم ذلِكَ ، يَحمِلُ الخَيلُ عَلَى الخَيلِ ، وَالرِّجالُ عَلَى الرِّجالِ ،
.
ص: 435
ثُمَّ انصَرَفوا وقَد كانَ القَومُ صَبَرَ بَعضُهُم لِبَعضٍ (1) .
مروج الذهب :فَلَمّا كانَ يَومُ الخَميسِ _ وهُوَ اليَومُ الثّاني _ أخرَجَ عَلِيٌّ هاشِمَ بنَ عُتبَةَ بنِ أبي وَقّاصٍ الزُّهرِيَّ المِرقالَ وهُوَ ابنُ أخي سَعدِ بنِ أبي وَقّاصٍ ، وإنَّما سُمِّيَ المِرقالَ ؛ لِأَنَّهُ كانَ يُرقِلُ (2) فِي الحَربِ ، وكانَ أعوَرَ ذَهَبَت عَينُهُ يَومَ اليَرموكِ وكانَ مِن شيعَةِ عَلِيٍّ . . . فَأَخرَجَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ أبَا الأَعوَرِ السُّلَمِيَّ وهُوَ سُفيانُ بنُ عَوفٍ وكانَ مِن شيعَةِ مُعاوِيَةَ وَالمُنحَرِفينَ عَن عَلِيٍّ ، فَكانَت بَينَهُمُ الحَربُ سِجالاً ، وَانصَرَفوا في آخِرِ يَومِهِم عَن قَتلى كِثيرٍ (3) .
8 / 6اليَومُ الثّالِثُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري عن القاسم مولى يزيد بن معاوية :خَرَجَ اليَومَ الثّالِثَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ ، وخَرَجَ إلَيهِ عَمرُو بنُ العاصِ ، فَاقتَتَلَ النّاسُ كَأَشَدِّ القِتالِ ، وأخَذَ عَمّارٌ يَقولُ : يا أهلَ العِراقِ !أ تُريدونَ أن تَنظُروا إلى مَن عادَى اللّهَ ورَسولَهُ وجاهَدَهُما ، وبَغى عَلَى المُسلِمينَ ، وظاهَرَ المُشرِكينَ ، فَلَمّا رَأَى اللّهَ عَزَّ وجَلَّ يُعِزُّ دينَهُ ويُظهِرُ رَسولَهُ أتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله فَأَسلَمَ ، وهُوَ فيما نَرى راهِبٌ غَيرُ راغِبٍ ؟ ثُمَّ قَبَضَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ رَسولَهُ صلى الله عليه و آله ! فَوَاللّهِ ، إن زالَ بَعدَهُ مَعروفا بِعَداوَةِ المُسلِمِ ، وهَوادَةِ المُجرِمِ . فَاثبُتوا لَهُ وقاتِلوهُ فَإِنَّهُ يُطفِئُ نورَ اللّهِ ، ويُظاهِرُ أعداءَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ . فَكانَ مَعَ عَمّارٍ زِيادُ بنُ النَّضرِ عَلَى الخَيلِ ، فَأَمَرَهُ أن يَحمِلَ فِي الخَيلِ ، فَحَمَلَ ،
.
ص: 436
وقاتَلَهُ النّاسُ وصَبَروا لَهُ ، وشَدَّ عَمّارٌ فِي الرِّجالِ ، فَأَزالَ عَمرَو بنَ العاصِ عَن مَوقِفِهِ (1) .
الأخبار الطوال :خَرَجَ يَوما آخَرَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ في خَيلٍ مِن أهلِ العِراقِ ، فَخَرَجَ إلَيهِ عَمرُو بنُ العاصِ في ذلِكَ ، ومَعَهُ شُقَّةٌ سَوداءُ عَلى قَناةٍ . فَقالَ النّاسُ : هذا لِواءٌ عَقَدَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله . فَقالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : أنَا مُخبِرُكُم بِقِصَّةِ هذَا اللِّواءِ : هذا لِواءٌ عَقَدَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وقالَ : مَن يَأخُذُهُ بِحَقِّهِ ؟ فَقالَ عَمرٌو : وما حَقُّهُ يا رَسولَ اللّهِ ؟ فَقالَ : لا تَفِرُّ بِهِ مِن كافِرٍ ، ولا تُقاتِلُ بِهِ مُسلِما . فَقَد فَرَّ بِهِ مِنَ الكافِرينَ في حَياةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وقَد قاتَلَ بِهِ المُسلِمينَ اليَومَ . فَاقتَتَلَ عَمرٌو وعَمّارٌ ذلِكَ اليَومَ كُلَّهُ (2) .
8 / 7اليَومُ الرّابِعُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري عن القاسم مولى يزيد بن معاوية_ في ذِكرِ أحداثِ اليَومِ الرّابِعِ مِنَ الحَربِ _: خَرَجَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ وعُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ في جَمعَينِ عَظيمَينِ ، فَاقتَتَلوا كَأَشَدِّ القِتالِ . ثُمَّ إنَّ عُبَيدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ أرسَلَ إلَى ابنِ الحَنَفِيَّةِ : أنِ اخرُج إلَيَّ . فَقالَ : نَعَم . ثُمَّ خَرَجَ يَمشي ، فَبَصُرَ بِهِ أميرُ المُؤمِنينَ فَقالَ : مَن هذانِ المُتَبارِزانِ ؟
.
ص: 437
فَقيلَ : ابنُ الحَنَفِيَّةِ ، وعُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ ، فَحَرَّكَ دابَّتَهُ ثُمَّ نادى مُحَمَّدا ، فَوَقَفَ لَهُ . فَقالَ : أمسِك دابَّتي ، فَأَمسَكَها ، ثُمَّ مَشى إلَيهِ عَلِيٌّ فَقالَ : أبرُزُ لَكَ ، هَلُمَّ إلَيَّ . فَقالَ : لَيسَت لي في مُبارَزَتِكَ حاجَةٌ ، فَقالَ : بَلى ، فَقالَ : لا . فَرَجَعَ ابنُ عُمَرَ . فَأَخَذَ ابنُ الحَنَفِيَّةِ يَقولُ لِأَبيهِ : يا أبَتِ ! لِمَ مَنَعتَني مِن مُبارَزَتِهِ ؟ فَوَاللّهِ ، لَو تَرَكتَني لَرَجَوتُ أن أقتُلَهُ . فَقالَ : لَو بارَزتَهُ لَرَجَوتُ أن تَقتُلَهُ ، وما كُنتُ آمَنُ أن يَقتُلَكَ (1) .
وقعة صفّين عن عمر بن سعد :إنَّ عُبيدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ تَقَدَّمَ فِي اليَومِ الرّابِعِ ، ولَم يَترُك فارِسا مَذكورا ، وجَمَعَ مَنِ استَطاعَ . فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : إنَّكَ تَلقى أفاعِيَ أهلِ العِراقِ فَارفُق وَاتَّئِد . فَلَقِيَهُ الأَشتَرُ أمامَ الخَيلِ مُزبِدا _ وكانَ الأَشتَرُ إذا أرادَ القِتالَ أزبَدَ _ . . . وشَدَّ عَلَى الخَيلِ خَيلِ الشّامِ فَرَدَّها ، فَاستَحيا عُبَيدُ اللّهِ فَبَرَزَ أمامَ الخَيلِ _ وكانَ فارِسا شُجاعا _ . . . فَحَمَلَ عَلَيهِ الأَشتَرُ فَطَعَنَهُ ، وَاشتَدَّ الأَمرُ ، وَانصَرَفَ القَومُ ولِلأَشتَرِ الفَضلُ ، فَغَمَّ ذلِكَ مُعاوِيَةَ (2) .
الفتوح_ في ذِكرِ وَقائِعِ صِفّينَ _: خَرَجَ الأَشتَرُ . . . فَخَرَجَ إلَيهِ عُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ . . . ثُمَّ دَنَا الأَشتَرُ ولَيسَ يَعرِفُهُ . فَقالَ لَهُ : مَن أنتَ أيُّهَا الفارِسُ ؟ ! فَإِنّي لا اُبارِزُ إلّا كُفؤا . قالَ : أنَا مالِكُ بنُ الحارِثِ النَّخَعِيُّ . قالَ : فَصَمَتَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ ساعَةً ثُمَّ قالَ : يا مالِكُ ! وَاللّهِ لَو عَلِمتُ أنَّكَ الدّاعى ¨
.
ص: 438
إلَى البِرازِ لَما خَرَجتُ إلَيكَ ، فَإِن رَأَيتَ أن أرجِعَ عَنكَ فَعَلتَ مُنعِما . فَقالَ الأَشتَرُ : أ لا تَخافُ العار أن تَرجِعَ عَنّي وأنَا رَجُلٌ مِنَ اليَمَنِ وأنتَ فَتىً مِن قُرَيشٍ ؟ ! فَقالَ : لا وَاللّهِ ما أخافُ العارَ إذا رَجَعتُ عَن مِثلِكَ . فَقالَ لَهُ الأَشتَرُ : فَارجِع إذا ولا تَخرُج إلّا إلى مَن تَعرِفُهُ (1) .
8 / 8اليَومُ الخامِسُ مِنَ القِتالِوقعة صفّين عن الزهري_ في ذِكرِ أحداثِ اليَومِ الخامِسِ مِنَ الحَربِ _: خَرَجَ في ذلِكَ اليَومِ شِمرُ بنُ أبرَهَةَ بنِ الصَّبّاحِ الحِميَرِيُّ ، فَلَحِقَ بِعَلِيٍّ عليه السلام في ناسٍ مِن قُرّاءِ أهلِ الشّامِ ، فَفَتَّ ذلِكَ في عَضُدِ مُعاوِيَةَ وعَمرِو بنِ العاصِ . وقالَ عَمرٌو : يا مُعاوِيَةُ ! إنَّكَ تُريدُ أن تُقاتِلَ بِأَهلِ الشّامِ رَجُلاً لَهُ مِن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله قَرابَةٌ قَريبَةٌ ، ورَحِمٌ ماسَّةٌ ، وقَدَمٌ فِي الإِسلامِ لا يَعتَدُّ أحَدٌ بِمِثلِهِ ، ونَجدَةٌ (2) فِي الحَربِ لَم تَكُن لِأَحدٍ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وإنَّهُ قَد سارَ إلَيكَ بِأَصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله المَعدودينَ ، وفُرسانِهِم وقُرّائِهِم وأشرافِهِم وقُدَمائِهِم فِي الإِسلامِ ، ولَهُم فِي النُّفوسِ مَهابَةٌ . فَبادِر بِأَهلِ الشّامِ مَخاشِنَ الوَعرِ ، ومَضايِقَ الغَيضِ ، وَاحمِلهُم عَلَى الجُهدِ ، وَأْتِهِم مِن بابِ الطَّمَعِ قَبلَ أن تُرَفِّهَهُم فَيُحدِثَ عِندَهُم طولُ المُقامِ مَلَلاً ، فَيَظهَرَ فيهِم كَآبَةُ الخِذلانِ . ومَهما نَسيتَ فَلا تَنسَ أنَّكَ عَلى باطِلٍ . فَلَمّا قالَ عَمرٌو لِمُعاوِيَةَ ذلِكَ زَوَّقَ مُعاوِيَةُ خُطبَةً ، وأمَرَ بِالمِنبَرِ فَاُخرِجَ ، ثُمَّ أمَر
.
ص: 439
أجنادَ أهلِ الشّامِ فَحَضَروا خُطبَتَهُ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! أعيرونا أنفُسَكُم وجَماجِمَكُم ، لا تَفشَلوا ولا تَخاذَلوا ، فإِنَّ اليَومَ يَومُ خِطارٍ ، ويومُ حَقيقَةٍ وحِفاظٍ ، فَإِنَّكُم عَلى حَقٍّ وبِأَيديكُم حُجَّةٌ ، وإنَّما تُقاتِلونَ مَن نَكَثَ البَيعَةَ ، وسَفَكَ الدَّمَ الحَرامَ ، فَلَيسَ لَهُ فِي السَّماءِ عاذِرٌ . ثُمَّ صَعَِد عَمرُو بنُ العاصِ مِرقاتَينِ مِنَ المِنبَرِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! قَدِّمُوا المُستَلئِمَةَ ، وأخِّرُوا الحاسِرَ ، وأعيروا جَماجِمَكُم ساعَةً ؛ فَقَد بَلَغَ الحَقُّ مَقطَعَهُ ، وإنَّما هُوَ ظالِمٌ ومَظلومٌ (1) .
تاريخ الطبري :فَلَمّا كانَ اليَومُ الخامِسُ خَرَجَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ وَالوَليدُ بنُ عُقبَةَ فَاقتَتَلوا قِتالاً شَديدا ، ودَنا ابنُ عَبّاسٍ مِنَ الوَليدِ بنِ عُقبَةَ ، فَأَخَذَ الوَليدُ يَسُبُّ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ، وأخَذَ يَقولُ : يَابنَ عَبّاسَ ! قَطَّعتُم أرحامَكُم ، وقَتَلتُم إمامَكُم ، فَكَيفَ رَأَيتُم صُنعَ اللّهِ بِكُم ؟ ! لَم تُعطَوا ما طَلَبتُم ، ولَم تُدرِكوا ما أمَّلتُم ، وَاللّهُ إن شاءَ مُهلِكُكُم وناصِرٌ عَلَيكُم . فَأَرسَلَ إلَيهِ ابنُ عبّاسٍ : أنِ ابرُز لي ، فَأَبى . وقاتَلَ ابنُ عَبّاسٍ يَومَئِذٍ قِتالاً شَديدا ، وغَشِيَ النّاسَ بِنَفسِهِ (2) .
8 / 9اليَومُ السّادِسُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري :خَرَجَ قَيسُ بنُ سَعدٍ الأَنصارِيُّ ، وَابنُ ذِي الكَلاعِ الحِميَرِيُّ فَاقتَتَلوا قِتالا
.
ص: 440
شَديدا ، ثُمَّ انصَرَفا . وذلِكَ فِي اليَومِ السّادِسِ (1) .
مروج الذهب :أخرَجَ عَلِيٌّ فِي اليَومِ السّادِسِ _ وهُوَ يَومُ الإِثنَينِ _ سَعيدَ بنَ قَيسٍ الهَمدانِيَّ ، وهُوَ سَيِّدُ هَمدانَ يَومَئِذٍ ، فَأَخرَجَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ ذَا الكَلاعِ ، وكانَتِ [الحَربُ ]بَينَهُما إلى آخِرِ النَّهارِ ، وأسفَرَت عَن قَتلى ، وَانصَرَفَ الفَريقانِ جَميعا (2) .
8 / 10اليَومُ السّابِعُ مِنَ القِتالِتاريخ الطبري_ في ذِكرِ أحداثِ اليَومِ السّابِعِ مِنَ الحَربِ _: خَرَجَ الأَشتَرُ ، وعادَ إلَيهِ حَبيبُ بنُ مَسلَمَةَ اليَومَ السّابِعَ ، فَاقتَتَلا قِتالاً شَديدا ، ثُمَّ انصَرَفا عِندَ الظُّهرِ ، وكُلٌّ غَيرُ غالِبٍ . وذلِكَ يَومُ الثُّلاثاءِ (3) .
مروج الذهب :وأخرَجَ عَلِيٌّ فِي اليَومِ السّابِعِ _ وهُوَ يَومُ الثُّلاثاءِ _ الأَشتَرَ فِي النَّخَعِ وغَيرِهِم ، فَأَخرَجَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ حَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ الفِهرِيَّ ، فَكانَتِ الحَربُ بَينَهُم سِجالاً ، وصَبَرَ كِلَا الفَريقَينِ وتَكافَؤوا وتَواقَفوا لِلمَوتِ ثُمَّ انصَرَفَ الفَريقانِ وأسفَرَت عَن قَتلى مِنهُما ، وَالجِراحُ في أهلِ الشّامِ أعَمُّ (4) .
.
ص: 441
الفصل التاسع : اشتداد القتال9 / 1القِتالُ الجِماعِيُّتاريخ الطبري عن زيد بن وهب :أنَّ عَلِيّا قالَ : حَتّى مَتى لا نُناهِضُ هؤُلاءِ القَومَ بِأَجمَعِنا ! فَقامَ فِي النّاسِ عَشِيَّةَ الثُّلاثاءِ لَيلَةَ الأَربِعاءِ بَعدَ العَصرِ ، فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي لايُبرَمُ ما نَقَضَ ، وما أبرَمَ لا يَنقُضُهُ النّاقِضونَ ، لَو شاءَ مَا اختَلَفَ اثنانِ مِن خَلقِهِ ، ولا تَنازَعَتِ الاُمَّةُ في شَيءٍ مِن أمرِهِ ، ولاجَحَدَ المَفضولُ ذَا الفَضلِ فَضلَهُ . وقَد ساقَتنا وهؤُلاءِ القَومَ الأَقدارُ ، فَلَفَّت بَينَنا في هذَا المَكانِ ، فَنَحنُ مِن رَبِّنا بِمَرأىً ومَسمَعٍ ، فَلَو شاءَ عَجَّلَ النَّقِمَةَ ، وكانَ مِنهُ التَّغييرُ ، حَتّى يُكَذِّبَ اللّهُ الظّالِمَ ، ويُعلَمَ الحَقُّ أينَ مَصيرُهُ ، ولكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنيا دارَ الأَعمالِ ، وجَعَلَ الآخِرَةَ عِندَهُ هِيَ دارُ القَرارِ ؛ «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَ__ئواْ بِمَا عَمِلُواْ وَ يَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى» (1) . ألا إنَّكُم لاقُو القَومِ غَدا ، فَأَطيلُوا اللَّيلَةَ القِيامَ ، وأكثِروا تِلاوَةَ القُرآنِ ، وسَلُوا اللّهَ عَزَّ وجَلَّ النَّصرَ وَالصَّبرَ ، وَالقَوهُم بِالجِدِّ وَالحَزمِ ، وكونوا صادِقينَ . ثُمَّ انصَرَفَ ، ووَثَبَ النّاسُ إلى سُيوفِهِم ورِماحِهِم ونِبالِهِم يُصلِحونَها ، ومَرَّ بِهِم
.
ص: 442
كَعبُ بنُ جُعَيلٍ التَّغلِبِيُّ وهُوَ يَقولُ : أصبَحَتِ الاُمَّةُ في أمرٍ عَجَبْ وَالمُلكُ مَجموعٌ غَدا لِمَن غَلَبْ فَقُلتُ قَولاً صادِقا غَيرَ كَذبْ إنَّ غَدا تَهلِكُ أعلامُ العَرَبْ (1)
الأخبار الطوال :حَمَلَ حَبيبُ بنُ مَسلَمَةَ _ وكانَ عَلى مَيسَرَةِ مُعاوِيَةَ _ عَلى مَيمَنَةِ عَلِيٍّ رضى الله عنه ، فَانكَشَفوا وجالوا جَولَةً . ونَظَرَ عَلِيٌّ إلى ذلِكَ ، فَقالَ لِسَهلِ بنِ حُنَيفٍ : اِنهَض فيمَن مَعَكَ مِن أهلِ الحِجازِ حَتّى تُعينَ أهلَ المَيمَنَةِ . فَمَضى سَهلٌ فيمَن كانَ مَعَهُ مِن أهلِ الحِجازِ نَحوَ المَيمَنَةِ ، فَاستَقبَلَهُم جُموعُ أهلِ الشّامِ ، فَكَشَفوهُ ومَن مَعَهُ حَتَّى انتَهَوا إلى عَلِيٍّ _ وهُوَ فِي القَلبِ _ فَجالَ القَلبُ وفيهِ عَلِيٌّ جَولَةً ، فَلَم يَبقَ مَعَ عَلِيٍّ إلّا أهلُ الحِفاظِ وَالنَّجدَةِ . فَحَثَّ عَلِيٌّ فَرَسَهُ نَحوَ مَيسَرَتِهِ ، وهُمُ وُقوفٌ يُقاتِلونَ مَن بِإِزائِهِم مِن أهلِ الشّامِ _ وكانوا رَبيعَةَ _. قالَ زَيدُ بنُ وَهبٍ : فَإِنّي لَأَنظُرُ إلى عَلِيٍّ وهُوَ يَمُرُّ نَحوَ رَبيعَةَ ، ومَعَهُ بَنوهُ : الحَسَنُ وَالحُسَينُ ومُحَمَّدٌ ، وإنَّ النَّبلِ لَيَمُرُّ بَينَ اُذُنَيهِ وعاتِقِهِ ، وبَنوهُ يَقونَهُ بِأَنفُسِهِم . فَلَمّا دَنا عَلِيٌّ مِنَ المَيسَرَةِ وفيهَا الأَشتَرُ ، وقَد وَقَفوا في وُجوهِ أهلِ الشّامِ يُجالِدونَهُم ، فَناداهُ عَلِيٌّ ، وقالَ : اِيتِ هؤُلاءِ المُنهَزِمينَ ، فَقُل : أينَ فِرارُكُم مِنَ المَوتِ الَّذي لَم تُعجِزوهُ إلَى الحَياةِ الَّتي لا تَبقى لَكُم ! فَدَفَعَ الأَشتَرُ فَرَسَهُ ، فَعارَضَ المُنهَزِمينَ ، فَناداهُم : أيُّها النّاسُ ! إلَيَّ إلَيَّ ، أنَا مالِكُ بنُ الحارِثِ ، فَلَم يَلتَفِتوا إلَيهِ ، فَظَنَّ أنَّهُ بِالاِستِعرافِ ، فَقالَ : أيُّها النّاسُ ! أنَا الأَشتَرُ ، فَثابوا (2) إلَيهِ ، فَزَحَفَ بِهِم نَحوَ مَيسَرَةِ أهلِ الشّامِ ، فَقاتَلَ بِهِم قِتالاً شَديدا
.
ص: 443
حَتَّى انكَشَفَ أهلُ الشّامِ (1) .
تاريخ الطبري عن زيد بن وهب :إنَّ عَلِيّا لَمّا رَأى مَيمَنَتَهُ قَد عادَت إلى مَواقِعِها ومَصافِّها ، وكَشِفَت مَن بِإِزائِها مِن عَدُوِّها حَتّى ضارَبوهُم في مَواقِفِهِم ومَراكِزِهِم ، أقبَلَ حَتَّى انتَهى إلَيهِم ، فَقالَ : إنّي قَد رَأَيتُ جَولَتَكُم ، وانحِيازَكُم عَن صُفوفِكُم ، يَحوزُكُمُ الطُّغاةُ الجُفاةُ وأعرابُ أهلِ الشّامِ ، وأنتُم لَهاميمُ (2) العَرَبِ ، وَالسَّنامُ الأَعظَمُ ، وعُمّارُ اللَّيلِ بِتِلاوَةِ القُرآنِ ، وأهلُ دَعوَةِ الحَقِّ إذ ضَلَّ الخاطِئونَ . فَلَولا إقبالُكُم بَعدَ إدبارِكُم ، وكَرُّكُم بَعدَ انحِيازِكُم ، وَجَبَ عَلَيكُم ما وَجَبَ عَلَى المُوَلّي يَومَ الزَّحفِ دُبُرَهُ ، وكُنتُم مِنَ الهالِكينَ ، ولكِن هَوَّنَ وَجْدي وشَفى بَعضَ اُحاحِ (3) نَفسي أنّي رَأَيتُكُم بِأَخَرَةٍ حُزتُموهُم كَما حازوكُم ، وأزَلتُموهُم عَن مَصافِّهِم كَما أزالوكُم ، تَحُسّونَهُم بِالسُّيوفِ ، تَركَبُ اُولاهُم اُخراهُم كَالإِبِلِ المُطَرَّدَةِ الهيمِ (4) . فَالآنَ فَاصبِروا ، نَزَلَت عَلَيكُمُ السَّكينَةُ ، وثَبَّتَكُمُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِاليَقينِ لِيَعلَمِ المُنهَزِمُ أنَّهُ مُسخِطٌ رَبَّهُ ، وموبِقٌ نَفسَهُ ، إنَّ فِي الفِرارِ مَوجِدَةَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلَيهِ ، وَالذُّلَّ اللّازِمَ ، وَالعارَ الباقِيَ ، وَاعتِصارَ الفَيءِ مِن يَدِهِ ، وفَسادَ العَيشِ عَلَيهِ . وإنَّ الفارَّ مِنهُ لا يَزيدُ في عُمُرِهِ ، ولا يُرضي رَبَّهُ ، فَمَوتُ المَرءِ مَحقا قَبلَ إتيانِ هذِهِ الخِصالِ خَيرٌ مِنَ الرِّضا بِالتَّأنيسِ (5) لَها ، وَالإِقرارِ عَلَيها (6) .
.
ص: 444
الإمام عليّ عليه السلام_ حينَ مَرَّ بِرايَةٍ لِأَهلِ الشّامِ أصحابُها لا يَزولونَ عَن مَواضِعِهِم _:ُ إنَّهُم لَن يَزولوا عَن مَواقِفِهِم دونَ طَعنٍ دِراكٍ (1) ، يَخرُجُ مِنهُ النَّسيمُ (2) ، وضَربٍ يَفلِقُ الهامَ ، ويُطيحُ العِظامَ ، ويَسقُطُ مِنهُ المَعاصِمُ وَالأَكُفُّ ، حَتّى تُصدَعَ جِباهُهُم بِعَمَدِ الحَديدِ ، وتُنثَرَ حَواجِبُهُم عَلَى الصُّدورِ وَالأَذقانِ ! أينَ أهلُ الصَّبرِ وطُلّابُ الأَجرِ ؟ ! فَسارَت إلَيهِ عِصابَةٌ مِنَ المُسلِمينَ ، فَعادَت مَيمَنَتُهُ إلى مَوقِفِها ومَصافِّها ، وكَشَفَت مَن بِإِزائِها ، فَأَقبَلَ حَتَّى انتَهى إلَيهِم . (3)
9 / 2اِستِشهادُ عَبدِ اللّهِ بنِ بُدَيلٍتاريخ الطبري عن أبي روق الهمداني :قاتَلَهُم عَبدُ اللّهِ بنُ بُدَيلٍ فِي المَيمَنَةِ قِتالاً شَديدا ، حَتَّى انتَهى إلى قُبَّةِ مُعاوِيَةَ . ثُمَّ إنَّ الَّذين تَبايَعوا عَلَى المَوتِ أقبَلوا إلى مُعاوِيَةَ ، فَأَمَرَهُم أن يَصمُدوا لاِبنِ بُدَيلٍ فِي المَيمَنَةِ ؛ وبَعَثَ إلى حَبيبِ بنِ مَسلَمَةَ فِي المَيسَرَةِ ، فَحَمَلَ بِهِم وبِمَن كانَ مَعَهُ عَلى مَيمَنَةِ النّاسِ فَهَزَمَهُم ، وَانكَشَفَ أهلُ العِراقِ مِن قِبَلِ المَيمَنَةِ حَتّى لَم يَبقَ مِنهُم إلَا ابنُ بُدَيلٍ في مِئَتَينِ أو ثَلاثِمِئَةٍ مِنَ القُرّاءِ ، قَد أسنَدَ بَعضُهُم ظَهرَهُ إلى بَعضٍ ، وَانجَفَلَ (4) النّاسُ . فَأَمَرَ عَلِيٌّ سَهلَ بنَ حُنَيفٍ فَاستَقَدَمَ فيمَن كانَ مَعَهُ مِن أهلِ المَدينَةِ ، فَاستَقبَلَتهُم
.
ص: 445
جُموعٌ لِأَهلِ الشّامِ عَظيمَةٌ ، فَاحتَمَلَتهُم حَتّى ألحَقَتهُم بِالمَيمَنَةِ ، وكانَ فِي المَيمَنَةِ إلى مَوقِفِ عَلِيٍّ فِي القَلبِ أهلُ اليَمَنِ ، فَلَمّا كَشِفُوا انتَهَتِ الهَزيمَةُ إلى عَلِيٍّ ، فَانصَرَفَ يَتَمَشّى نَحوَ المَيسَرَةِ ، فَانكَشَفَت عَنهُ مُضَرُ مِنَ المَيسَرَةِ ، وثَبَتَت رَبيعَةُ (1) .
تاريخ الطبري عن فضيل بن خديج عن مولى للأشتر_ لَمّا كَشَفَ الأَشتَرُ عَن عَبدِ اللّهِ بنِ بُدَيلٍ وأصحابِهِ أهلَ الشّامِ وعَلِموا أنَّ عَلِيّا عليه السلام حَيٌّ صالِحٌ فِي المَيسَرَةِ _: قالَ عَبدُ اللّهِ بنُ بُدَيلٍ لِأَصحابِهِ : اِستَقدِموا بِنا ، فَأَرسَلَ الأَشتَرُ إلَيهِ : ألّا تَفعَلِ ، اثبُت مَعَ النّاسِ فَقاتِل ؛ فَإِنَّهُ خَيرٌ لَهُم ، وأبقى لَكَ ولِأَصحابِكَ . فَأَبى ، فَمَضى كَما هُوَ نَحوَ مُعاوِيَةَ ، وحولَهُ كَأَمثالِ الجِبالِ ، وفي يَدِهِ سَيفانِ ، وقَد خَرَجَ فَهُوَ أمامَ أصحابِهِ ، فَأَخَذَ كُلَّما دَنا مِنهُ رَجُلٌ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ ، حَتّى قَتَلَ سَبعَةً . ودَنا مِن مُعاوِيَةَ ، فَنَهَضَ إلَيهِ النّاسِ مِن كُلِّ جانِبٍ ، واُحيطَ بِهِ وبِطائِفَةٍ مِن أصحابِهِ ، فَقاتَلَ حَتّى قُتِلَ ، وقُتِلَ ناسٌ مِن أصحابِهِ ، ورَجَعَت طائِفَةٌ قَد جَرِحوا مُنهَزِمينَ . فَبَعَثَ الأَشتَرُ ابنَ جُمهانَ الجُعفِيَّ فَحَمَلَ عَلى أهلِ الشّامِ الَّذينَ يَتَّبِعونَ مَن نَجا مِن أصحابِ ابنِ بُدَيلٍ حَتّى نَفَّسوا عَنهُم وَانتَهَوا إلَى الأَشتَرِ (2) .
وقعة صفّين عن الشعبي :كانَ عَبدُ اللّهِ بنُ بُدَيلٍ الخُزاعِيُّ مَعَ عَلِيٍّ يَومَئِذٍ ، وعَلَيهِ سَيفانِ ودِرعانِ ، فَجَعَلَ يَضرِبُ النّاسَ بِسَيفِهِ قُدُما . . . فَلَم يَزَل يَحمِلُ حَتَّى انتَهى إلى مُعاوِيَةَ وَالَّذينَ بايَعوهُ عَلَى المَوتِ ، فَأَمَرَهُم أن يَصمُدوا لِعَبدِ اللّهِ بنِ بُدَيلٍ ، وبَعَثَ إلى حَبيبِ بنِ مَسلَمَةَ الفِهرِيِّ _ وهُوَ فِي المَيسَرَةِ _ أن يَحمِلَ عَلَيهِ بِجَميعِ مَن مَعَهُ ، وَاختَلَطَ النّاسُ وَاضطَرَمَ الفَيلَقانِ ؛ مَيمَنَةُ أهلِ العِراقِ ، ومَيسَرَةُ أهلِ الشّامِ ، وأقبَلَ عَبدُ اللّهِ بن
.
ص: 446
بُدَيلٍ يَضرِبُ النّاسَ بِسَيفِهِ قُدُما حَتّى أزالَ مُعاوِيَةَ عَن مَوقِفِهِ . وجَعَلَ يُنادي : يالَثاراتِ عُثمانَ ! يَعني أخا كانَ لَهُ قَد قُتِلَ وظَنَّ مُعاوِيَةُ وأصحابُهُ أنَّهُ إنَّما يَعني عُثمانَ بنَ عَفّانَ . وتَراجَعَ مُعاوِيَةُ عن مكانِهِ القَهقَرى كَثيرا ، وأشفَقَ عَلى نَفسِهِ ، وأرسَلَ إلى حَبيبِ بنِ مَسلَمَةَ مَرَّةً ثانِيَةً وثالِثَةً يَستَنجِدُهُ ويَستَصرِخُهُ . ويَحمِلُ حَبيبٌ حَملَةً شَديدَةً بِمَيسَرَةِ مُعاوِيَةَ عَلى مَيمَنَةِ العِراقِ فَكَشَفَها ، حَتّى لَم يَبقَ مَعَ ابنِ بُدَيلٍ إلّا نَحوُ مِائَةِ إنسانٍ مِنَ القُرّاءِ ، فَاستَنَدَ بَعضُهُم إلى بَعضٍ يَحمونَ أنفُسَهُم ، ولَجَّجَ ابنُ بُديلٍ فِي النّاسِ وصَمَّمَ عَلى قَتلِ مُعاوِيَةَ ، وجَعَلَ يَطلُبُ مَوقِفَهُ ويَصمُدُ نَحوَهُ حَتَّى انتَهى إلَيهِ [ومَعَ مُعاوِيَةَ] (1) عَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ واقِفا . فَنادى مُعاوِيَةُ بِالنّاسِ : وَيلَكُم ، الصَّخرَ وَالحِجارَةَ إذا عَجَزتُم عَنِ السِّلاحِ ! فَأَقبَلَ أصحابُ مُعاوِيَةَ عَلى عَبدِ اللّهِ بنِ بُدَيلٍ يَرضَخونَهَ بِالصَّخرِ ، حَتّى أثخَنوهُ وقُتِلَ الرَّجُلُ ، وأقبَلَ إلَيهِ مُعاوِيَةُ وعَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ حَتّى وَقَفا عَلَيهِ ، فَأَمّا عَبدُ اللّهِ بنُ عامِرٍ فَأَلقى عِمامَتَهُ عَلى وَجهِهِ وتَرَحَّمَ عَلَيهِ ، وكانَ لَهُ مِن قَبلُ أخا وصَديقا ، فَقالَ مُعاوِيَةُ : اِكشِف عَن وَجهِهِ . فَقالَ : لا وَاللّهِ ، لا يُمَثَّلُ بِهِ وفِيَّ روحٌ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : اِكشِف عَن وَجهِهِ ، فَإِنّا لا نُمَثِّلُ بِهِ ، فَقَد وَهَبتُهُ لَكَ . فَكَشَفَ ابنُ عامِرٍ عَن وَجهِهِ ، فَقالَ مُعاوِيَةُ : هذا كَبشُ القَومِ (2) ورَبِّ الكَعبَةِ (3) .
راجع : ج 7 ص 378 (عبد اللّه بن بديل) .
.
ص: 447
9 / 3اِستِشهادُ أبِي الهَيثَمِ بنِ التَّيِّهانِشرح نهج البلاغة عن نصر :أقبَلَ أبُو الهَيثَمِ بنُ التَّيِّهانِ _ وكانَ مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، بَدرِيّا ، نَقيبا عَقَبِيّا _ يُسَوّي صُفوفَ أهلِ العِراقِ ، ويَقولُ : يا مَعشَرَ أهلِ العِراقِ ! إنَّهُ لَيسَ بَينَكُم وبَينَ الفَتحِ فِي العاجِلِ وَالجَنَّةِ فِي الآجِلِ إلّا ساعَةٌ مِنَ النَّهارِ ، فَأَرسوا أقدامَكُم ، وسَوّوا صُفوفَكُم ، وأعيروا رَبَّكُم جَماجِمَكُم .اِستَعينوا بِاللّهِ إلهِكُم ، وجاهِدوا عَدُوَّ اللّهِ وعَدُوَّكُم ، وَاقتُلوهُم قَتَلَهُم اللّهُ وأبادَهُم ، وَاصبِروا فَإِنَّ الأَرضَ للّهِِ يورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ (1)(2) .
المناقب لابن شهر آشوب_ في ذِكرِ حَربِ صِفّينَ _: قالَ أميرُ المُؤمِنينَ : فَمَا انتِظارُكُم إن كُنتُم تُريدونَ الجَنَّةَ ؟ ! فَبَرَزَ أبُو الهَيثَمِ بنُ التَّيِّهانِ قائِلاً : أحمَدُ رَبّي فَهُوَ الحَميدُ ذاكَ الَّذي يَفعَلُ ما يُريدُ دينٌ قَويمٌ وهُوَ الرَّشيد فَقاتَلَ حَتّى قُتِلَ (3) .
9 / 4اِستِشهادُ اُوَيسِ بنِ عامِرٍ القَرَنِيِّرجال الكشّي عن الأصبغ بن نباتة :كُنّا مَعَ عَلِيٍّ عليه السلام بِصِفّينَ فَبايَعَهُ تِسعَةٌ وتِسعونَ رَجُلاً ، ثُمَّ قالَ : أينَ تَمامُ المِئَةِ ؛ لَقَد عَهِدَ إلَيَّ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن يُبايِعَني في هذَا اليَومِ مِئَةُ رَجُلٍ !
.
ص: 448
قالَ : إذ جاءَ رَجُلٌ عَلَيهِ قَباءُ صوفٍ ، مُتَقَلِّدا بِسَيفَينِ ، فَقالَ : اُبسُط يَدَكَ اُبايِعكَ . قالَ عَلِيٌّ عليه السلام : عَلامَ تُبايِعُني ؟ قالَ : عَلى بَذلِ مُهجَةِ نَفسي دونَكَ . قالَ : مَن أنتَ ؟ قالَ : أنَا اُويَسٌ القَرَنِيُّ . فَبايَعَهُ ، فَلَم يَزَل يُقاتِلُ بَينَ يَدَيهِ حَتّى قُتِلَ ، فَوُجِدَ فِي الرَّجّالَةِ (1) .
المستدرك على الصحيحين عن أبي مكين :رَأَيتُ امرَأَةً في مَسجِدِ اُوَيسٍ القَرَنِيِّ قالَت : كانَ يَجتَمِعُ هُوَ وأصحابٌ لَهُ في مَسجِدِهِم هذا يُصَلّونَ ، ويَقرَؤونَ في مَصاحِفِهِم ، فَآتي غَداءَهُم وعَشاءَهُم هاهُنا حَتّى يُصَلُّوا الصَّلَواتِ . قالَت : وكانَ ذلِكَ دأبَهُم ما شَهِدوا حَتّى غَزَوا ، فَاستُشهِدَ اُوَيسٌ وجَماعَةٌ مِن أصحابِهِ فِي الرِّجّالَةِ بَينَ يَدَي عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنهُم أجمَعينَ (2) .
المستدرك على الصحيحين عن عليّ بن حكيم عن شريك :ذَكَروا في مَجلِسِهِ اُوَيساً القَرَنِيَّ ، فَقالَ : قُتِلَ مَعَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رضى الله عنه فِي الرَّجّالَةِ (3) .
تاريخ دمشق عن سعيد بن المسيب_ في ذِكرِ اُوَيسٍ القَرَنِيِّ _: عادَ في أيّامِ عَلِيٍّ فَقاتَلَ بَينَ يَدَيِه ، فَاستُشهِدَ في صِفّينَ أمامَهُ ، فَنَظَروا فَإِذا عَلَيهِ نِيِّفٌ وأربَعونَ جِراحَةً ، مِن طَعنَةٍ ، وضَربَةٍ ، ورَميَةٍ (4) .
.
ص: 449
9 / 5قِتالُ هاشِمِ بنِ عُتبَةَ وتَوبَةُ شابٍّتاريخ الطبري عن أبي سلمة :إنَّ هاشِمَ بنَ عُتبَةَ الزُّهرِيَّ دَعَا النّاسَ عِندَ المسَاءِ : ألا مَن كانَ يُريدُ اللّهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِلَيَّ . فَأَقبَلَ إلَيهِ ناسٌ كَثيرٌ ، فَشَدَّ في عصِابَةٍ مِن أصحابِهِ عَلى أهلِ الشّامِ مِرارا ، فَلَيسَ مِن وَجهٍ يَحمِلُ عَلَيهِ إلّا صَبَرَ لَهُ وقاتَلَ فيهِ قِتالاً شَديدا . فَقالَ لِأَصحابِهِ : لايَهولَنَّكُم ما تَرَونَ مِن صَبرِهِم ، فَوَاللّهِ ما تَرَونَ فيهِم إلّا حَمِيَّةَ العَرَبِ ، وصَبرا تَحتَ راياتِها وعِندَ مَراكِزِها ، وإنَّهُم لَعَلَى الضَّلالِ وإنَّكُم لَعَلَى الحَقِّ ، ياقَومِ اصبِروا ، وصابِروا ، وَاجتَمِعوا ، وَامشوا بِنا إلى عَدُوِّنا عَلى تُؤدَةٍ (1) رُوَيدا ، ثُمَّ اثبُتوا ، وتَناصَروا ، وَاذكُرُوا اللّهَ ، ولا يَسأَل رَجُلٌ أخاهُ ، ولا تُكثِرُوا الاِلتِفاتَ ، وَاصمُدوا صَمدَهُم ، وجاهِدوهُم مُحتَسِبينَ حَتّى يَحكُمَ اللّهُ بَينَنا وبَينَهُم وهُوَ خَيرُ الحاكِمينَ . ثُمَّ إنَّهُ مَضى في عِصابَةٍ مَعَهُ مِنَ القُرّاءِ فَقاتَلَ قِتالاً شَديدا هُوَ وأصحابُهُ عِندَ المَساءِ ، حَتّى رَأَوا بَعضَ ما يُسَرّونَ بِهِ . فَإِنَّهُم لَكَذلِكَ إذ خَرَجَ عَلَيهِم فَتىً شابٌّ وهُوَ يَقولُ : أنَا ابنُ أربابِ المُلوكِ غَسّانْ وَالدّائِنُ اليَومَ بِدينِ عُثمانْ إنّي أتاني خَبرٌ فَأَشجانْ أنَّ عَلِيّا قَتَلَ ابنَ عَفّانْ ثُمَّ يَشُدُّ فَلا يَنثَني حَتّى يَضرِبَ بِسَيفِهِ ، ثُمَّ يَشتُمُ ويَلعَنُ ويُكثِرُ الكَلامَ . فَقالَ لَهُ هاشِمُ بنُ عُتبَةَ : يا عَبدَ اللّهِ ، إنَّ هذَا الكَلامَ بَعدَهُ الخِصامُ ، وإنَّ هذَا القِتال
.
ص: 450
بَعدَهُ الحِسابُ ، فَاتَّقِ اللّهَ فَإِنَّكَ راجِعٌ إلَى اللّهِ فَسائِلُكَ عَن هذَا المَوقِفِ وما أرَدتَ بِهِ . قالَ : فَإِنّي اُقاتِلُكُم لِأَنَّ صاحِبَكُم لا يُصَلّي _ كَما ذُكِرَ لي _ وأنتُم لا تُصَلُّونَ أيضا ، واُقاتِلُكُم لِأَنَّ صاحِبَكُم قَتَلَ خَليفَتَنا وأنتُم أرَدتُموهُ عَلى قَتلِهِ . فقَالَ لَهُ هاشِمٌ : وما أنتَ وابنَ عَفّانَ ! إنَّما قَتَلَهُ أصحابُ مُحَمَّدٍ وأبناءُ أصحابِهِ وقُرّاءُ النّاسِ حينَ أحدَثَ الأَحداثَ وخالَفَ حُكمَ الكِتابِ ، وهُم أهلُ الدّينِ وأولى بِالنَّظَرِ في اُمورِ النّاسِ مِنكَ ومِن أصحابِكَ ، وما أظُنُّ أمرَ هذِهِ الاُمَّةِ وأمرَ هذَا الدّينِ اُهمِلَ طَرفَةَ عَينٍ . فَقالَ لَهُ : أجَل ، وَاللّهِ لا اُكذَبُ ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ يَضُرُّ ولا يَنفَع قالَ : فَإِنَّ أهلَ هذَا الأَمرِ أعلَمُ بِهِ ، فَخَلِّهِ وأهلَ العِلمِ بِهِ . قالَ : ما أظُنُّكَ وَاللّهِ إلّا نَصَحتَ لي . قالَ : وأمّا قَولُكَ : «إنَّ صاحِبَنا لا يُصَلّي» فَهُوَ أوَّلُ مَن صَلّى مَعَ رَسولِ اللّهِ ، وأفقَهُ خَلقِ اللّهِ في دينِ اللّهِ ، وأولى بِالرَّسولِ . وأمّا كُلُّ مَن تَرى مَعي فَكُلُّهُم قارِئٌ لِكِتابِ اللّهِ ، لا يَنامُ اللَّيلَ تَهَجُّدا ، فَلا يُغوِيَنَّكَ عَن دينِكَ هؤُلاءِ الأَشقِياءُ المَغرورونَ . فَقالَ الفَتى : يا عَبدَ اللّهِ إنّي أظُنُّكَ امرَأً صالِحا ، فَتُخبِرُني هَل تَجِدُ لي مِن تَوبَةٍ ؟ فَقالَ : نَعَم يا عَبدَ اللّهِ ، تُب إلَى اللّهِ يَتُب عَلَيكَ ؛ فَإِنَّهُ يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ ويَعفو عَنِ السَّيِّئاتِ ويُحِبُ المُتَطَهِّرينَ . قالَ : فَجَشَرَ وَاللّهِ الفَتَى النّاسَ راجِعا . فَقالَ لَهُ رَجُلٌ مِن أهلِ الشّامِ : خَدَعَكَ العِراقِيُّ ، خَدَعَكَ العِراقِيُّ . قالَ : لا ، ولكِن نَصَحَ لي (1) .
.
ص: 451
9 / 6اِستِشهادُ هاشِمِ بنِ عُتبَةَوقعة صفّين عن حبيب بن أبي ثابت :لَمّا كانَ قِتالُ صِفّينَ وَالرّايَةُ مَعَ هاشِمِ بنِ عُتبَةَ _ قالَ : _ جَعَلَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ يَتَناوَلُهُ بِالرُّمحِ ويَقولُ : أقدِم يا أعوَرُ ! لا خَيرَ في أعوَرَ لا يَأتِي الفَزَع فَجَعَلَ يَستَحيي مِن عَمّارٍ ، وكانَ عالِما بِالحَربِ ، فَيَتَقَدَّمُ فَيُركِزُ الرّايَةَ ، فَإِذا تَتامَّت إلَيهِ الصُّفوفُ قالَ عَمّارٌ : أقدِم يا أعوَرُ ! لا خَيرَ في أعوَرَ لا يَأتِي الفَزَع فَجَعَلَ عَمرُو بنُ العاصِ يَقولُ : إنّي لَأَرى لِصاحِبِ الرّايَةِ السَّوداءِ عَمَلاً ، لَئِن دامَ عَلى هذا لَتُفنَيَنَّ العَرَبُ اليَومَ . فَاقتَتَلوا قِتالاً شَديدا ، وجَعَلَ عَمّارٌ يَقولُ : صَبرا عِبادَ اللّهِ ! الجَنَّةُ تَحتَ ظِلالِ البيضِ ، وكانَ لِواءُ الشّامِ مَعَ أبِي الأَعوَرِ السُّلَمِيِّ . وَلم يَزَل عَمّارٌ بِهاشِمٍ يَنخُسُهُ حَتَّى اشتَدَّ القِتالُ ، وزَحَفَ هاشِمٌ بِالرّايَةِ يُرقِلُ بِها إرقالاً ، وكانَ يُسَمَّى : المِرقالَ (1) .
وقعة صفّين :إنَّ عَلِيّا دَعا في هذَا اليَومِ هاشِمَ بنَ عُتبَةَ ومَعَهُ لِواؤُهُ _ وكانَ أعوَرَ _ فَقالَ لَهُ : يا هاشِمُ ، حَتّى مَتى تَأكُلُ الخُبزَ ، وتَشرَبُ الماءَ ؟ فَقالَ هاشِمٌ : لَأَجهَدَنَّ عَلى ألّا أرجِعَ إلَيكَ أبَدا . قالَ عَلِيٌّ : إنَّ بِإِزائِكَ ذَا الكَلاعِ ، وعِندَهُ المَوتُ الأَحمَرُ ؟
.
ص: 452
فَتَقَدَّمَ هاشِمٌ ، فَلَمّا أقبَلَ قالَ مُعاوِيَةُ : مَن هذَا المُقبِلُ ؟ فَقيلَ : هاشِمٌ المِرقالُ . فَقالَ : أعوَرُ بَني زُهرَةَ ؟ قاتَلَهُ اللّهُ ! وقالَ : إنَّ حُماةَ اللِّواءِ رَبيعَةُ ، فَأَجيلُوا القِداحَ فَمَن خَرَجَ سَهمُهُ عَبَّيتُهُ لَهُم ، فَخَرَجَ سَهمُ ذِي الكَلاعِ لِبَكرِ بنِ وائِلٍ ، فَقالَ : تَرَّحَكَ اللّهُ مِن سَهمٍ كَرِهتَ الضِّرابَ . وإنَّما كانَ جُلُّ أصحابِ عَلِيٍّ أهلَ اللِّواءِ مِن رَبيعَةَ ؛ لِأَنَّهُ أمَرَ حُماةً مِنهُم أن يُحاموا عَنِ اللِّواءِ . فأََقبَلَ هاشِمٌ . . . وحَمَلَ صاحِبُ لِواءِ ذِي الكَلاعِ وهُوَ رَجُلٍ مِن عُذرَةَ . . . فَاختَلَفا طَعنَتَينِ ، فَطَعَنَهُ هاشِمٌ فَقَتَلَهُ ، وكَثُرَتِ القَتلى ، وحَمَلَ ذُو الكَلاعِ فَاجتَلَدَ النّاسُ ، فَقُتِلا جَميعا ، وأخَذَ ابنُ هاشِمٍ اللِّواءَ (1) .
مروج الذهب :صَمَدَ هاشِمُ بنُ عُتبَةَ المِرقالُ لِذِي الكلاَعِ وهُوَ في حِميَرٍ ، فَحَمَلَ عَلَيهِ صاحِبُ لِواءِ ذِي الكَلاعِ . . . فَاختَلَفا طَعنَتَينِ ، فَطَعَنَهُ هاشِمٌ المِرقالُ فَقَتَلَهُ ، وقَتَلَ بَعدَهُ تِسعَةَ عَشَرَ رَجُلاً . وحَمَلَ هاشِمٌ المِرقالُ وحَمَلَ ذُو الكَلاعِ ، ومَعَ المِرقالِ جَماعَةٌ مِن أسلَمَ قَد آلوا ألّا يَرجِعوا أو يَفتَحوا أو يُقتَلوا . فَاجتَلَدَ النّاسُ ، فَقُتِلَ هاشِمٌ المِرقالُ ، وقُتِلَ ذُو الكَلاعِ جَميعا ، فَتَناوَلَ ابنُ المِرقالِ اللِّواءَ حينَ قُتِلَ أبوهُ في وَسَطِ المَعرَكَةِ (2) .
مروج الذهب :إنَّ هاشِما المِرقالَ لَمّا وَقَعَ إلَى الأَرضِ وهُوَ يَجودُ بِنَفسِهِ رَفَعَ رَأسَهُ ، فَإِذا عُبيدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ مَطروحا إلى قُربِهِ جَريحا ، فَحَبا حَتّى دَنا مِنهُ ، فَلَم يَزَل يَعَضُّ عَلى
.
ص: 453
ثَديَيهِ حَتّى ثَبَتَت فيهِ أسنانُهُ لِعَدمِ السِّلاحِ وَالقُوَّةِ (1) .
الأخبار الطوال :دَفَعَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] رايَتَهُ العُظمى إلى هاشِمِ بنِ عُتبَةَ ، فَقاتَلَ بِها نَهارَهُ كُلَّهُ ، فَلَمّا كانَ العَشِيُّ انكَشَفَ أصحابُهُ انكِشافَةً ، وثَبَتَ هاشِمٌ في أهلِ الحِفاظِ مِنهُم وَالنَّجدَةِ ، فَحَمَلَ عَلَيهِمُ الحارِثُ بنُ المُنذِرِ التَّنوخِيُّ فَطَعَنَهُ طَعنَةً جائِفَةً ، فَلَم يَنتَهِ عَنِ القِتالِ . ووافاهُ رَسولُ عَلِيٍّ يَأمُرُهُ أن يُقَدِّمَ رايَتَهُ ، فَقالَ لِلرَّسولِ : اُنظُر إلى ما بي ! فَنَظَرَ إلى بَطنِهِ فَرَآهُ مُنشَقّا ، فَرَجَعَ إلى عَلِيٍّ فَأَخبَرَهُ ، ولَم يَلبَث هاشِمٌ أن سَقَطَ (2) .
مروج الذهب :وَقَفَ عَلِيٌّ رضى الله عنه عِندَ مَصرَعِ المِرقالِ ومَن صُرِعَ حَولَهُ مِنَ الأَسلَمِيّينَ وغَيرِهِم ، فَدَعا لَهُم ، وتَرَحَّمَ عَلَيهِم ، وقالَ مِن أبياتٍ : جَزَى اللّهُ خَيرا عُصبَةً أسلَمِيَّةً صِباحَ الوُجوهِ صُرِّعوا حَولَ هاشِمِ يَزيدُ وعَبدُ اللّهِ بِشرُ بنُ مَعبَدٍ وسُفيانُ وَابنا هاشِمٍ ذِي المَكارِمِ وعُروَةُ لا يَنفَد ثَناهُ وذِكرُهُ إذَا اختُرِطَت يَوما خِفافُ الصَّوارِمِ (3)
9 / 7اِستِشهادُ عَمّارِ بنِ ياسِرٍكان عمّار بن ياسر صحابيّا ، حليف الحقّ ، مؤازرا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله . وكان مهذّب النفس ، طاهر النقيبة ، محمود السريرة ، سليم القلب ، مفعما بحبّ اللّه تعالى .
.
ص: 454
إنّ عمّارا وما تحمّله من مشاقّ وجهود في سبيل الدين وإرساء دعائم المجتمع الإسلامي الفتيّ صفحة مشرقة تتألّق في التأريخ الإسلامي ؛ فكان ذا بصيرة ثاقبة ، ورؤية نافذة ، وخطوات وطيدة ، فقد كان يرى الشرك على حقيقته من بين ركام المكر والخديعة والظواهر المموّهة بالإسلام والتوحيد . وكان يقف وقفة مهيبة أمام راية أهل الشام ويقول : وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ لَقَد قاتَلتُ بِهذِهِ الرّايَةِ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ثَلاثَ مَرّاتٍ ، وهذِهِ الرّابِعَةُ . وَالّذي نَفسي بِيَدِهِ لَو ضَرَبونا حَتّى يَبلُغوا بِنا شَعَفاتِ هَجَرَ لَعَرَفتُ أنَّ مُصلِحينا عَلَى الحَقِّ ، وأنَّهُم عَلَى الضَّلالَةِ (1) . وهكذا كان وجود عمّار في صفّين باعثا على زهو البعض ، ومولّدا الذعر في نفوس البعض الآخر ، ومثيرا للتأمّل عند آخرين . ولمّا علم الزبير بحضوره في معركة الجمل ، طفق يتضعضع (2) . وأرابَ وجودُه في صفّين كثيرا من أصحاب معاوية ، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان قد قال له : «تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ» (3) ، وقال : «يَلتَقي أهلُ الشّامِ وأهلُ العِراقِ ، وعَمّارٌ في أهلِ الحَقِّ تَقتُلُه
.
ص: 455
الفِئَةُ الباغِيَةُ» (1) ، وقال : «لَيسَ يَنبَغي لِعَمّارٍ أن يُفارِقَ الحَقَّ ، ولَن تَأكُلَ النّارُ مِنهُ شَيئا» (2) ، وقال : «إذَا اختَلَفَ النّاسُ كانَ ابنُ سُمَيَّةَ مَعَ الحَقِّ . . .» (3) . وحاول الكثيرون أن يروا عمّارا ، ويسمعوا كلامه ؛ كي يستزيدوا من التعرّف على حقّانيّة أمير المؤمنين عليه السلام من خلال كلام هذا الشيخ الجليل الفتيّ القلب . . . الذي ينبع حديثه من أعماق قلبه ، من أجل أن يتثبّتوا من مواضع أقدامهم . ولمّا تجندل ذلك الشيخ المتفاني ذو القدّ الممشوق ، وتضمّخ بدمه ، وشرب كأس المنون . . . كبر ذلك على كلا الجيشين . ورأى مثيرو الفتنة ومسعّرو الحرب ما أخبر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله باُمّ أعينهم ، وإذ شقّ عليهم وصمة «الفئة الباغية» فلابدّ أن يحتالوا بتنميق فتنة اُخرى وخديعة ثانية ؛ ليحولوا دون تضعضع جندهم ، وهذا ما فعله معاوية (4) . فقد إمامنا العظيم _ صلوات اللّه عليه _ أخلص أصحابه وأفضلهم ، وقُطع عضده المقتدر ، واغتمّت نفسه المقدّسة وضاق صدره ، فقال : رَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ أسلَمَ ، ورَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ قُتِلَ ، ورَحِمَ اللّهُ عَمّارا يَومَ يُبعَثُ حَيّا . (5)
تاريخ بغداد عن أبي أيّوب :سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ لِعَمّارٍ : يا عَمّارُ ، تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، وأنتَ إذ ذاكَ مَعَ الحَقِّ وَالحَقُّ مَعَكَ ، يا عَمّارَ بنَ ياسِرٍ ، إن رَأَيتَ عَلِيّا قَد
.
ص: 456
سَلَكَ وادِيا وسَلَكَ النّاسُ وادِيا غَيرَهُ فَاسلُك مَعَ عَلِيٍّ ؛ فَإِنَّهُ لَن يُدلِيَكَ في رَدىً ، ولَن يُخرِجَكَ مِن هُدىً . يا عَمّارُ ، مَن تَقَلَّدَ سَيفا أعانَ بِهِ عَلِيّا عَلى عَدُوِّهِ قَلَّدَهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ وِشاحَينِ (1) مِن دُرٍّ ، ومَن تَقَلَّدَ سَيفا أعانَ بِهِ عَدُوَّ عَلِيٍّ قَلَّدَهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ وِشاحَينَ مِن نارٍ» (2) .
الفتوح_ فيما قَالَهُ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ لِعَمرِو بنِ العاصِ _: لَقَد أمَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أن اُقاتِلَ النّاكِثينَ ، فَقَد فَعَلتُ ، وأمَرَني أن اُقاتِلَ القاسِطينَ ، فَأَنتُم هُم ، وأمَّا المارِقونَ فَلا أدري اُدرِكُهُم أم لا . أيُّها الأَبتَرُ !أ لَستَ تَعلَمُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : مَنُ كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَن والاهُ ، وعادِ مَن عاداهُ ، وَانصُر مَن نَصَرَهُ ، وَاخذُل مَنَ خَذَلَهُ ! فَأَنَا مَولى للّهِِ ولِرَسولِهِ ، وعَلِيٌّ مَولايَ مِن بَعدِهِ ، وأنتَ فلاَ مَولى لَكَ (3) .
تاريخ الطبري عن أبي عبد الرحمن السلمي :رَأَيتُ عَمّارا لا يَأخُذُ وادِيا مِن أودِيَةِ صِفّينَ إلّا تَبِعَهُ مَن كانَ هُناكَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، ورَأَيتُهُ جاءَ إلَى المِرقالِ هاشِمِ بنِ عُتبَةَ _ وهُوَ صاحِبُ رايَةِ عَلِيٍّ _ فَقالَ : يا هاشِمُ ، أعَوَرا وجُبنا ! لا خَيرَ في أعوَرَ لا يَغشَى البَأسَ ، فَإِذا رَجُلٌ بَينَ الصَّفَّينِ قالَ : هذا وَاللّهِ لَيَخلُفَنَّ إمامَهُ ، ولَيَخذُلَنَّ جُندَهُ ، ولَيَصبِرَنَّ جُهدَهُ ، اركَب يا هاشِمُ ، فَرَكِبَ ومَضى هاشِمٌ يَقولُ : أعوَرُ يَبغي أهلَهُ مَحَلّا قَد عالَجَ الحَياةَ حَتّى مَلّا لابُدَّ أن يَفُلَّ أو يُفَلّا وعَمّارٌ يَقولُ : تَقَدَّم يا هاشِمُ ؛ الجَنَّةُ تَحتَ ظِلالِ السُّيوفِ ، وَالموتُ في أطراف
.
ص: 457
الأَسَلِ ، وقَد فُتِّحَت أبوابُ السَّماءِ ، وتَزَيَّنَتِ الحورُ العِين اليَومَ ألقَى الأَحِبَّهْ مُحَمَّدا وحِزبَهْ فَلَم يَرجِعا وقُتِلا (1) .
تاريخ الطبري عن حبّة بن جوين العرني :اِنطَلَقتُ أنَا وأبو مَسعودٍ إلى حُذَيفَةَ _ بِالمَدائِنِ (2) _ فَدَخَلنا عَلَيهِ ، فَقالَ : مَرحَبا بِكُما ، ما خَلَّفتُما مِن قَبائِلِ العَرَبِ أحَدا أحَبَّ إلَيَّ مِنكُما . فَأَسنَدتُهُ إلى أبي مَسعودٍ ، فَقُلنا : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، حَدِّثنا ؛ فَإِنّا نَخافُ الفِتَنَ . فَقالَ : عَلَيكُما بِالفِئَةِ الَّتي فيهَا ابنُ سُمَيَّةَ ؛ إنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، النّاكِبَةُ عَنِ الطَّريقِ ، وإنَّ آخِرَ رِزقِهِ ضَياحٌ مِن لَبَنٍ . قالَ حَبَّةُ : فَشَهِدتُهُ يَومَ صِفّينَ وهُوَ يَقولُ : اِيتوني بِآخِرِ رِزقٍ لي مِنَ الدُّنيا . فَاُتِيَ بِضَياحٍ مِن لَبَنٍ في قَدَحٍ أروَحٍ لَهُ حَلقَةٌ حَمراءُ ، فَما أخطَأَ حُذَيفَةُ مِقياسَ شعَرَةٍ ، فَقالَ : اليَومَ ألقَى الأَحِبَّهْ مُحَمَّدا وحِزبَهْ وَاللّهِ ، لَو ضَرَبونا حَتّى يَبلُغوا بِنا سَعَفاتِ هَجَرَ لَعَلِمنا أنّا عَلَى الحَقِّ وأنَّهُم عَلَى الباطِلِ ، وجَعَلَ يَقولُ : الموتُ تَحتَ الأَسَلِ ، وَالجَنَّةُ تَحتَ البارِقَةِ (3) .
.
ص: 458
9 / 8اِضطِرابُ جَيشِ مُعاوِيَةَ بَعدَ استِشهادِ عَمّارٍشرح نهج البلاغة :قالَ مُعاوِيَةُ لَمّا قُتِلَ عَمّارٌ _ وَاضطَرَبَ أهلُ الشّامِ لِرِوايَةِ عَمرِو بنِ العاصِ كانَت لَهُم : «تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ» _ : إنَّما قَتَلَهُ مَن أخرَجَهُ إلَى الحَربِ وعَرَّضَهُ لِلقَتلِ ! فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : فَرَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إذَن قاتِلُ حَمزَةَ ! ! (1)
الكامل في التاريخ عن أبي عبد الرحمن السلمي :قالَ عَبدُ اللّهِ لِأَبيهِ [عَمرِو بنِ العاصِ] : يا أبَه ، قَتَلتُم هذَا الرَّجُلَ في يَومِكُم هذا ، وقَد قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما قالَ ! قالَ : وما قالَ ؟ قالَ :أ لَم يَكُنِ المُسلِمونَ وَالنّاسُ يَنقُلونَ في بِناءِ مَسجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله لَبِنَةً لَبِنَةً ، وعَمّارٌ لَبِنَتَينِ لَبِنَتَينِ ، فَغُشِيَ عَلَيهِ ، فَأَتاهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَجَعَلَ يَمسَحُ التُّرابَ عَنِ وَجهِهِ ويَقولُ : وَيحَكَ يَابنَ سُمَيَّةَ ! النّاسُ يَنقُلونَ لَبِنَةً لَبِنَةً ، وأنتَ تَنقُلُ لَبِنَتَينِ لَبِنَتَينِ رَغبَةً فِي الأَجرِ ! وأنتَ مَعَ ذلِكَ تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ . فَقالَ عَمرٌو لِمُعاوِيَةَ : أ ما تَسمَعُ ما يَقولُ عَبدُ اللّهِ ! قالَ : وما يَقولُ ؟ فَأَخبَرَهُ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : أ نَحنُ قَتَلناهُ ؟ إنَّما قَتَلَهُ مَن جاءَ بِهِ . فَخَرَجَ النّاسُ مِن فَساطيطِهِم وأخبِيَتِهِم يَقولونَ : إنَّما قَتَلَ عَمّارا مَن جاءَ بِهِ . فَلا
.
ص: 459
أدري مَن كانَ أعجَبَ؟ أهُوَ أم هُم (1) .
الكامل في التاريخ :قَد كانَ ذُو الكَلاعِ سَمِعَ عَمرَو بنَ العاصِ يَقولُ : قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لِعَمّارِ بنِ ياسرٍ : «تَقتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَةُ ، وآخِرُ شَربَةٍ تَشرَبُها ضَياحٌ مِن لَبنٍ» ، فَكانَ ذُو الكَلاعِ يَقولُ لِعَمرٍو :ما هذا وَيحَكَ يا عَمرُو ؟ فَيَقولُ عَمرٌو : إنَّهُ سَيَرجِعُ إلَينا . فَقُتِلَ ذُو الكَلاعِ قَبلَ عَمّارٍ مَعَ مُعاوِيَةَ ، واُصيبَ عَمّارٌ بَعدَهُ مَعَ عَلِيٍّ . فَقالَ عَمرٌو لِمُعاوِيَةَ : ما أدري بِقَتلِ أيِّهِما أنَا أشَدُّ فَرَحا ؛ بِقَتلِ عَمّارٍ ، أو بِقَتلِ ذِي الكَلاعِ ! وَاللّهِ لَو بَقِيَ ذُو الكَلاعِ بَعدَ قَتلِ عَمّارٍ لَمالَ بِعامَّةِ أهلِ الشّامِ إلى عَلِيٍّ (2) .
9 / 9اِستِشهادُ خُزَيمَةَ بنِ ثابِتٍ ذِي الشَّهادَتَينِالطبقات الكبرى عن عمارة بن خزيمة بن ثابت :شَهِدَ خُزَيمَةُ بنُ ثابِتٍ الجَمَلَ وهُوَ لا يَسُلُّ سَيفا ، وشَهِدَ صِفّينَ وقالَ : أنَا لا أصل (3) أبَدا حَتّى يُقتَلَ عَمّارٌ ، فَأَنظُرَ مَن يَقتُلُهُ ؛ فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ . فَلَمّا قُتِلَ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ قالَ خُزَيمَةُ : قَد بانَت لِيَ الضَّلالَةُ ، وَاقتَرَبَ فَقاتَلَ حَتّى قُتِلَ (4) .
.
ص: 460
9 / 10قِتالُ الأَشتَرِ ودَورُهُ الأَساسِيُّ فِي الحَربِتؤدّي الحوادث العصيبة ومشقّات الحياة وصروف الدهر دورا مهمّا في صقل الناس ، وتبلور رفعتهم وعزّتهم . إنّ هذا النوع من الحوادث كما يُجلّي عظمة الروح الإنسانيّة بنحو بيّن ، فإنّه يترك أثره العميق في إيجاد الأرضيّة التي تتبلور فيها شخصيّة الإنسان في بعض الأحيان ، وبها تتجلّى بواطن الناس ؛ فإنّه في صروف الدهر وحدثانه تُعرف حقيقة الإنسان ، وقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : «في تَقَلُّبِ الأَحوالِ عِلمُ جَواهِرِ الرِّجالِ» (1) خير آية على هذه الحقيقة العميقة . وهكذا كانت معركة صفّين مرآةً تجلّت فيها شخصيّة مالك المتألّقة في تاريخ التشيّع ؛ فقد كان الوجه البارز ، والبطل الشجاع الباسل في هذه الحرب . 1 _ كان دور مالك واضحا في تحفيز الكوفيّين الذين كانوا يسمعون كلامه ، وفي إرسالهم إلى المعركة . 2 _ كان له دور أساسي في تنظيم الجيش . 3 _ كان مالك على مقدّمة الجيش ، وكانت هيمنته العظيمة ومواجهته البطوليّة لمقدّمة جيش معاوية _ التي كان عليها أبو الأعور السلمي _ قد أرغمتا هؤلاء على الفرار من الميدان . 4 _ كان أهل الرقّة (2) من أنصار عثمان ، فدمّروا الجسور المنصوبة على نهر الفرات
.
ص: 461
لخلق العقبات أمام الجيش العلوي الذي كان قوامه مِئة ألف مقاتل . فعزم الإمام عليه السلام على الرجوع والبحث عن معبر آخر ؛ لأنّه لم يُرد أن يستخدم القوّة العسكريّة ويقسر الناس على القيام بعمل شاقّ ، وهنا عرّف مالك نفسه لأهل الرقّة وهدّدهم ، فاضطرّوا إلى نصب جسر للعبور ، وعبر الجيش بالفعل . 5 _ حال جيش معاوية دون وصول جيش الإمام عليه السلام إلى الماء ، فاستبسل ومعه الأشعث بن قيس حتى تمكّن الجيش من الحصول على الماء . 6 _ تولّى مالك قيادة الخيّالة عند نشوب الحرب . 7 _ كان له الدور الأكبر في صولات ذي الحجّة . وحين بدأت الحرب في شهر صفر ودامت ثمانية أيّام ، كان مالك في يومين منها قائدا عامّا لها على الإطلاق . 8 _ كان مقاتلاً لا نظير له في المواجهات الفرديّة ، ولم ينكص قطّ عند مواجهة أحد . 9 _ في الأيّام الأخيرة من المعركة ، كان حلّالاً للمشاكل العويصة فيها ، وكان يحضر بأمر مولاه حيثما ظهرت مشكلة فيبادر إلى حلّها . 10 _ تألّق مالك تألّقا عظيما في وقعة الخميس وليلة الهرير . 11 _ قاد مع أصحابه جولة مرعبة مهيبة من جولات صفّين ، فتقدّم حتى وصل خيمة معاوية فجرَ يومِ جمعةٍ ، ولم يكن بينه وبين الانتصار الأخير وإخماد نار الفتنة الاُمويّة إلّا خطوة واحدة ، فتآمر الأشعث والخوارج وأجبروا الإمام عليه السلام على إرجاعه ، فابتعد عن خيمة معاوية بقلب ملؤه الأسى ؛ كي لا يصل إلى مولاه أذى . فيا عجبا لكلّ هذا الإيثار مع ذلك التحجّر ، واسوداد ضمائر المناوئين للإمام عليه السلام ، وقبح سرائرهم ! ! إنّ أعظم ما تميّز به مالك هو معرفته العميقة للإمام عليه السلام وتواضعه أمام مولاه ، ذلك
.
ص: 462
التواضع النابع من وعيه الفذّ ، ومعرفته العظيمة .
الفتوح :خَرَجَ رَجُلٌ مِن أهلِ العِراقِ عَلى فَرَسٍ لَهُ كُمَيتٍ _ لا يُرى مِنهُ إلّا حَماليقُ الحَدَقِ ، وفي يَدِهِ رُمحٌ لَهُ _ فَجَعَلَ يَضرِبُ بِالرُّمحِ عَلى رُؤوسِ أصحابِ عَلِيٍّ ويَقولُ : سَوّوا صُفوفَكُم ! وَالنّاسُ لا يَعرِفونَهُ . حَتّى إذَا اعتَدَلَتِ الصُّفوفُ وَالرّاياتُ ، اِستَقبَلَهُم بِوَجهِهِ ووَلّى ظَهرَهُ إلى أهلِ الشّامِ ، ثُمَّ حَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : اِحمَدُوا اللّهِ عِبادَ اللّهِ ، وَاشكُروهُ ؛ إذ جَعَلَ فيكُمُ ابنَ عَمِّ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، ووَصِيَّهُ ، وأحَبَّ الخَلقِ إلَيهِ ، أقدَمَهُم هِجرَةً ، وأوَّلَهُم إيمانا ، سَيفٌ من سُيوفِ اللّهِ صَبَّهُ عَلى أعدائِهِ . فَانظُروا إذا حَمِيَ الوَطيسُ ، وثارَ القَتامُ ، وتَكَسَّرَتِ الرِّماحُ ، وتَثَلَّمَت الِّصفاحُ ، وجالَتِ الخَيلُ بِالأَبطالِ ، ولا أسمَعُ مِنكُم إلّا غَمغَمَةً أو هَمهَمَةً . قالَ : ثُمَّ حَمَلَ عَلى أهلِ الشّامِ ، فَقاتَلَ حَتّى كُسِرَ رُمحُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَإِذا هُوَ الأَشتَرُ (1) .
تاريخ الطبري عن الحرّ بن الصيّاح النخعي :إنَّ الأَشتَرَ يَومَئِذٍ كانَ يُقاتِلُ عَلى فَرَسٍ لَهُ في يَدِهِ صَفيحَةٌ يَمانِيَّةٌ ؛ إذا طَأطَأَها خِلتَ فيها ماءً مُنصَبّا ، وإذا رَفَعَها كادَ يُعشِي البَصرَ شُعاعُها ، وجَعَلَ يَضرِبُ بِسَيفِهِ ويَقولُ : الغَمَراتُ ثَمَّ يَنجَلينا (2)
تاريخ الطبري عن عبد اللّه بن عاصم الفائشي :حَدَّثَني رَجُلٌ مِن قَومي أنَّ الأَشتَرَ خَرَجَ يَوما يُقاتِلُ بِصِفّينَفي رِجالٍ مِنَ القُرّاءِ ، ورِجالٍ مِن فُرسانِ العَرَبِ ، فَاشتَدَّ قِتالُهُم ، فَخَرَجَ عَلَينا رَجُلٌ _ وَاللّهِ لَقَلَّما رَأَيتُ رَجُلاً قَطُّ هُوَ أطوَلُ ولا أعَظَمُ مِنهُ _ فَدَعا إلَى
.
ص: 463
المُبارَزَةِ ، فَلَم يَخرُج إلَيهِ أحَدٌ إلَا الأَشتَرُ ، فَاختَلَفا ضَربَتَينِ ، فَضَرَبَهُ الأَشتَرُ ، فَقَتَلَهُ . وَايمُ اللّهِ ، لَقَد كُنّا أشفَقنا عَلَيهِ ، وسَأَلناهُ أن لا يَخرُجَ إلَيهِ ، فَلَمّا قَتَلَهُ الأَشتَرُ نادى مُنادٍ مِن أصحابِهِ : يا سَهمَ سَهمَ ابنَ أبي العَيزارِ يا خيرَ مَن نَعلَمُهُ مِن زارِ _ و«زارَةُ» حَيٌّ مِنَ الأَزدِ _ وقالَ : اُقسِمُ بِاللّهِ ، لَأَقتُلَنَّ قاتِلَكَ أو لَيَقتُلَنّي ، فَخَرَجَ فَحَمَلَ عَلَى الأَشتَرِ ، وعَطَفَ عَلَيهِ الأَشتَرُ فَضَرَبَهُ ، فَإِذا هُوَ بَينَ يَدَي فَرَسِهِ ، وحَمَلَ عَلَيهِ أصحابُهُ فَاستَنقَذوهُ جَريحا . فَقالَ أبو رُفَيقَةَ الفَهمِيُّ : هذا كانَ نارا ، فَصادَفَ إعصارا (1) .
تاريخ الطبري عن الحرّ بن الصيّاح النخعي _ فِي الأَشتَرِ _:رَآهُ مُنقِذٌ وحِميَرٌ ابنا قَيسٍ النّاعِطِيّانِ ، فَقالَ مُنقِذٌ لِحِميَرٍ : ما فِي العََربِ مِثلُ هذا إن كانَ ما أرى مِن قِتالِهِ عَلى نِيَّتِهِ . فَقالَ لَهُ حِميَرٌ : وهَلِ النِّيَّةُ إلّا ما تَراهُ يَصنَعُ ! قالَ : إنّي أخافُ أن يَكونَ يُحاوِلُ مُلكا (2) .
وقعة صفّين عن عمر بن سعد عن رجاله :إنَّ مُعاوِيَةَ دَعا مَروانَ بنَ الحَكَمِ فَقالَ : يا مَروانُ ، إنَّ الأَشتَرَ قَد غَمَّني وأقلَقَني ، فَاخرُج بِهذِهِ الخَيلِ في كَلاعٍ ويَحصُبَ ، فَالقَهُ فَقاتِل بِها . فَقالَ لَهُ مَروانُ : اُدعُ لَها عَمرا فَإِنَّهُ شِعارُكَ دونَ دِثارِكَ . . . . ودَعا مُعاوِيَةُ عَمرا ، وأمَرَهُ بِالخُروجِ إلَى الأَشتَرِ . . . فَخَرَجَ عَمرٌو في تِلكَ الخَيلِ فَلَقِيَهُ الأَشتَرُ أمامَ الخَيلِ . . . فَعَرَفَ عَمرٌو أنَّهُ الأَشتَرُ ، وفَشِلَ حَيلُهُ وجَبُنَ ،
.
ص: 464
وَاستَحيا أن يَرجِعَ . . . فَلَمّا غَشِيَهُ الأَشتَرُ بِالرُّمحِ زاغَ عَنهُ عَمرٌو ، فَطَعَنَهُ الأَشتَرُ في وَجهِهِ فَلَم يَصنَعِ الرُّمحُ شَيئا ، وثَقُلَ عَمرٌو فَأَمسَكَ عِنانَ فَرَسِهِ ، وجَعَلَ يَدَه عَلى وَجهِهِ ، ورَجَعَ راكِضا إلَى العَسكَرِ (1) .
راجع : ج 4 ص 95 (استشهاد مالك الأشتر) . و ج 7 ص 466 (مالك الأشتر) .
9 / 11قِتالُ الإِمامِ بِنَفسِهِوقعة صفّين عن جابر بن عمير الأنصاري_ في بَيانِ شَجاعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام في حَربِ صِفّينَ _: لا وَاللّهِ الَّذي بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بِالحَقِّ نَبِيّا ، ما سَمِعنا بِرَئيسِ قَومٍ مُنذُ خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَالأَرضَ أصابَ بِيَدِهِ في يَومٍ واحِدٍ ما أصابَ ؛ إنَّهُ قَتَلَ فيما ذَكَرَ العادّونَ زِيادَةً عَلى خَمسِمِئَةٍ مِن أعلامِ العَرَبِ ، يَخرُجُ بِسَيفِهِ مُنحَنِيا فَيقولُ : مَعذِرَةً إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وإلَيكُم مِن هذا ، لَقَد هَمَمتُ أن أصقُلَهُ ولكِن حَجَزَني عَنهُ أنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ كَثيرا : «لا سَيفَ إلّا ذو الفَقارِ ، ولا فَتى إلّا عَلِيٌّ» وأنا اُقاتِلُ بِهِ دونَهُ . قالَ : فَكُنّا نَأخُذُهُ فَنُقَوِّمُهُ ، ثُمَّ يَتَناوَلُهُ مِن أيدينا فَيَتَقَحَّمُ بِهِ في عُرضِ الصَّفِّ ، فَلا وَاللّهِ ما لَيثٌ بِأَشَدَّ نِكايَةً في عَدُوِّهِ مِنهُ ، رَحمَةُ اللّهِ عَلَيهِ رَحمَةً واسِعَةً (2) .
ذخائر العقبى عن ابن عبّاس_ وقَد سَأَلَهُ رَجُلٌ : أكانَ عَلِيٌّ رضى الله عنه يُباشِرُ القِتالَ بِنَفسِهِ يَومَ صِفّينَ ؟ _: وَاللّهِ ما رَأَيتُ رَجُلاً أطرَحَ لِنَفسِهِ في مَتلَفٍ مِن عَلِيٍّ ، ولَقَد رَأَيتُهُ يَخرُجُ حاسِرَ الرَّأسِ ، بِيَدِهِ السَّيفُ إلَى الرَّجُلِ الدّارعِ فَيَقتُلُهُ (3) .
.
ص: 465
تاريخ الطبري عن أبي عبد الرحمن السلمي :كُنّا مَعَ عَلِي بِصِفّينَ ، فَكُنّا قَد وَكَّلنا بِفَرَسِهِ رَجُلَينِ يَحفَظانِهِ ويَمنَعانِهِ مِن أن يَحمِلَ ، فَكانَ إذا حانَت مِنهُما غَفلَةٌ يَحمِلُ ، فَلا يَرجِعُ حَتّى يَخضِبَ سَيفُهُ . وإنَّهُ حَمَلَ ذاتَ يَومٍ فَلَم يَرجِع حَتَّى انثَنى سَيفُهُ ، فَأَلقاهُ إلَيهِم ، وقالَ : لَولا أنَّهُ انثَنى ما رَجَعتُ (1) .
تاريخ الطبري عن أبي روق الهمداني_ في شِدَّةِ حَربِ صِفّينَ _: . . . اِنتَهَتِ الهَزيمَةُ إلى عَلِيٍّ ، فَانصَرَفَ يَتَمَشّى نَحوَ المَيسَرَةِ ، فَانكَشَفَت عَنهُ مُضَرُ مِنَ المَيسَرَةِ ، وثَبَتَت رَبيعَةُ . قالَ أبو مِخنَفٍ : حَدَّثَني مالِكُ بنُ أعيَنَ الجُهَنِيُّ ، عَن زَيدِ بنِ وَهبٍ الجُهَنِيِّ قالَ : مَرَّ عَلِيٌّ مَعَهُ بَنوهُ نَحوَ المَيسَرَةِ ومَعَهُ رَبيعَةُ وَحدَها ، وإنّي لَأَرَى النَّبلَ يَمُرُّ بَينَ عاتِقِهِ ومَنكِبِهِ ، وما مِن بَنيهِ أحَدٌ إلّا يَقيهِ بِنَفسِهِ ، فَيَكرَهُ عَلِيٌّ ذلِكَ ، فَيَتَقَدَّمُ عَلَيهِ فَيَحولُ بَينَ أهلِ الشّامِ وبَينَهُ ، فَيَأخُذُهُ بِيَدِهِ إذا فَعَلَ ذلِكَ فَيُلقيهِ بَينَ يَدَيهِ أو مِن وَرائِهِ . فَبَصُرَ بِهِ أحمَرُ _ مَولى أبي سُفيانَ ، أو عُثمانَ ، أو بَعضِ بَني اُمَيَّةَ _ فَقالَ [أي أحمَرُ] : عَلِيٌّ وَربِّ الكَعبَةِ ! قَتَلَنِي اللّهُ إن لَم أقتُلكَ أو تَقتُلني ، فَأَقبَلَ نَحوَهُ ، فَخَرَجَ إلَيهِ كَيسانُ مَولى عَلِيٍّ ، فَاختَلَفا ضَربَتَينِ ، فَقَتَلَهُ مَولى بَني اُمَيَّةَ ، ويَنتَهِزُهُ عَلِيٌّ ، فَيَقَعُ بِيَدِهِ في جَيبِ دَرعِهِ ، فَيَجبِذُهُ (2) ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلى عاتِقِهِ ، فَكَأَنّي أنظُرُ إلى رُجَيلَتَيهِ ، تَختَلِفانِ عَلى عُنُقِ عَلِيٍّ ، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الأَرضَ فَكَسَرَ مَنكِبَهُ وعَضُدَيهِ ، وشَدَّ ابنا عَلِيٍّ عَلَيهِ حُسَينٌ ومُحَمَّدٌ ، فَضَرَباهُ بِأَسيافِهِما حَتّى بَرَدَ ، فَكَأَنّي أَنظُرُ إلى عَلِيٍّ قائِما ،
.
ص: 466
وإلى شِبلَيهِ يَضرِبانِ الرَّجُلَ . . . . ثُمَّ إنَّ أهلَ الشّامِ دَنَوا مِنهُ ، ووَاللّهِ ما يَزيدُهُ قُربُهُم مِنهُ سُرعَةً في مَشيِهِ ، فَقالَ لَهُ الحَسَنُ : ما ضَرَّكَ لَو سَعَيتَ حَتّى تَنتَهِيَ إلى هؤُلاءِ الَّذينَ قَد صَبَروا لِعَدُوِّكَ مِن أصحابِكَ ؟ فَقالَ : يا بُنَيَّ ، إنَّ لِأَبيكَ يَوما لَن يَعدُوَهُ ، ولا يُبطِئُ بِهِ عَنهُ (1) السَّعيُ ، ولا يُعَجِّلُ بِهِ إلَيهِ المَشيُ ، إنَّ أباكَ وَاللّهِ ما يُبالي أوَقَعَ عَلَى المَوتِ ، أو وَقَعَ المَوتُ عَلَيهِ ! (2)
الأخبار الطوال :كانَ فارِسَ مُعاوِيَةَ الَّذي يَبتَهي (3) بِهِ حُرَيثٌ مَولاهُ ، وكانَ يَلبَسُ بِزَّةَ مُعاوِيَةَ ، ويَستَلئِمُ سِلاحَهُ ، ويَركَبُ فَرَسَهُ ، ويَحمِلُ مُتَشَبِّها بِمُعاوِيَةَ ، فَإذا حَمَلَ قالَ النّاسُ : هذا مُعاوِيَةُ . وقَد كانَ مُعاوِيَةُ نَهاهُ عَن عَلِيٍّ ، وقالَ : اِجتَنِبهُ ، وضَع رُمحَكَ حَيثُ شِئتَ . فَخَلا بِهِ عَمرٌو ، وقالَ : ما يَمنَعُكَ مِن مُبارَزَةِ عَلِيٍّ ، وأنتَ لَهُ كُف ءٌ ؟ قالَ : نَهاني مَولايَ عَنهُ . قالَ : وإنّي وَاللّهِ لَأَرجو إن بارَزتَهُ أن تَقتُلَهُ ، فَتَذَهَبَ بِشَرَفِ ذلِكَ . فَلَم يَزَل يُزَيِّنُ لَهُ ذلِكَ حَتّى وَقَعَ في قَلبِ حُرَيثٍ . فَلَمّا أصبَحوا خَرَجَ حُرَيثٌ حَتّى قامَ بَينَ الصَّفَّينِ ، وقالَ : يا أبَا الحَسَنِ ، ابرُز إلَيَّ ! أنَا حُرَيثٌ . فَخَرَجَ إلَيهِ عَلِيٌّ عليه السلام ، فَضَرَبَهُ ، فَقَتَلَهُ (4) .
.
ص: 467
وقعة صفّين عن صعصعة بن صوحان :إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ صافَّ أهلَ الشّامِ ، حَتّى بَرَزَ رَجُلٌ مِن حِميَرٍ مِن آلِ ذي يَزَنَ ، اسمُهُ : كُرَيبُ بنُ الصَّبّاحِ ، لَيسَ في أهلِ الشّامِ يَومَئِذٍ رَجُلٌ أشهَرَ شِدَّةً بِالبَأسِ مِنهُ ، ثُمَّ نادى : مَن يُبارِزُ ؟ فَبَرَزَ إلَيهِ المُرتَفِعُ بنُ الوَضّاحِ الزُّبَيدِيُّ ، فَقَتَلَ المُرتَفِعَ . ثُمَّ نادى : مَن يُبارِزُ ؟ فَبَرَزَ إلَيهِ الحارِثُ بنُ الجُلاحِ ، فَقَتَلَ . ثُمَّ نادى : مَن يُبارِزُ ؟ فَبَرَزَ إلَيهِ عائِذُ بنُ مَسروقٍ الهَمدانِيُّ ، فَقَتَلَ عائِذا . ثُمَّ رَمى بِأَجسادِهِم بَعضَها فَوقَ بَعضٍ ، ثُمَّ قامَ عَلَيها بَغيا وَاعتِداءً . ثُمَّ نادى : هَل بَقِيَ مِن مُبارِزٍ ؟ فَبَرَزَ إلَيهِ عَلِيٌّ ثُمَّ ناداهُ : وَيحَكَ يا كُرَيبُ ! إنّي اُحَذِّرُكَ اللّهَ وبَأسَهُ ونَقِمَتَهُ ، وأدعوكَ إلى سُنَّةِ اللّهِ وسُنَّةِ رَسولِهِ ، وَيحَكَ ! لا يُدخِلَنَّكَ ابنُ آكِلَةِ الأَكبادِ النّارَ . فَكانَ جَوابُهُ أن قالَ : ما أكثَرَ ما قَد سَمِعنا هذِهِ المَقالَةَ مِنكَ ، فَلا حاجَةَ لَنا فيها . أقدِم إذا شَئتَ ، مَن يَشتَري سَيفي وهذا أثَرُهُ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ ، ثُمَّ مَشى إلَيهِ فَلَم يُمهِلهُ أن ضَرَبَهُ ضَربَةً خَرَّ مِنها قَتيلاً يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ . ثُمَّ نادى : مَن يُبارِزُ ؟ فَبَرَزَ إلَيهِ الحارِثُ بنُ وَداعَةَ الحِميَرِيُّ ، فَقَتَلَ الحارِثَ . ثُمَّ نادى : مَن يُبارِزُ ؟ فَبَرَزَ إلَيهِ المُطاعُ بنُ المُطَّلِبِ القَينِيُّ ، فَقَتَلَ مُطاعا . ثُمَّ نادى : مَن يَبرُزُ ؟ فَلَم يَبرُز إلَيهِ أحَدٌ . ثُمَّ إنَّ عَلِيّا نادى : يا مَعشرَ المُسلِمينَ ! «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَ_تُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (1) ، وَيحَكَ يا مُعاوِيَةُ هَلُمَّ إلَيَّ فَبارِزني ، ولا يُقتَلَن
.
ص: 468
النّاسُ فيما بَينَنا ! فَقالَ عَمرٌو : اِغتَنِمهُ مُنتَهَزا ، قَد قَتَلَ ثَلاثَةً مِن أبطالِ العَرَبِ ، وإنّي أطمَعُ أن يُظفِرَكَ اللّهُ بِهِ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : وَيحَكَ يا عَمرُو ! وَاللّهِ ، إن تُريدُ إلّا أن اُقتَلَ فَتُصيبَ الخِلافَةَ بَعدي ، اذهَب إلَيكَ ، فَلَيسَ مِثلي يُخدَعُ (1) .
وقعة صفّين عن صعصعة بن صوحان والحارث بن أدهم :بَرَزَ يَومَئِذٍ عُروَةُ بنُ داوُدَ الدِّمَشقِيُّ فَقالَ : إن كانَ مُعاوِيَةُ كَرِهَ مُبارَزَتَكَ يا أبَا الحَسَنِ فَهَلُمَّ إلَيَّ . فَتَقَدَّمَ إلَيهِ عَلِيٌّ ، فَقالَ لَهُ أصحابُهُ : ذَر هذَا الكَلبَ فَإِنَّهُ لَيسَ لَكَ بِخَطَرٍ . فَقالَ : وَاللّهِ ، ما مُعاوِيَةُ اليَومَ بِأغيَظَ لي مِنهُ ، دَعوني وإيّاهُ ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيهِ فَضَرَبَهُ فَقَطَعَهُ قِطعَتَينِ ، سَقَطَت إحداهُما يَمنَةً ، وَالاُخرى يَسرَةً ، فَارتَجَّ العَسكَرانِ لِهَولِ الضَّربَةِ . ثُمَّ قالَ : اِذهَب يا عُروَةُ فَأَخبِر قَومَكَ ، أما وَالَّذي بَعَثَ مُحَمَّدا بِالحَقِّ لَقَد عايَنتَ النّارَ وأصبَحتَ مِنَ النّادِمينَ . وقالَ ابنُ عَمٍّ لِعُروَةَ : وا سوءَ صَباحاه ، قَبَحَ اللّهُ البَقاءَ بَعدَ أبي داوُدَ . . . . وحَمَلَ ابنُ عَمِّ أبي داوُدَ عَلى عَلِيٍّ فَطَعَنَهُ فَضَرَبَ الرُّمحَ فَبراهُ ، ثُمَّ قَنَّعَهُ ضَربَةً فَأَلحَقَهُ بِأَبيداوُدَ ، ومُعاوِيَةُ واقِفٌ عَلَى التَّلِّ يُبصِرُ ويُشاهِدُ ، فَقالَ : تَبّا لِهذِهِ الرِّجالِ وقُبحا ؛ أما فيهِم مَن يَقتُلُ هذا مبُارَزَةً أو غيلَةً ، أو فِي اخِتِلاطِ الفَيلَقِ وثَوَرانِ النَّقعِ ! فَقالَ الوَليدُ بنُ عُقبَةَ : اُبرُز إلَيهِ أنتَ فَإِنَّكَ أولَى النّاسِ بِمُبارَزَتِهِ . فَقالَ : وَاللّهِ ، لَقَد دَعاني إلَى البِرازِ حَتَّى استَحيَيتُ مِن قُرَيشٍ ، وإنّي وَاللّهِ لا أبرُزُ إلَيهِ ، ما جُعِلَ العَسكَرُ بَينَ يَدَيِ الرَّئيسِ إلّا وِقايَةً لَهُ .
.
ص: 469
فَقالَ عُتبَةُ بنُ أبي سُفيانَ : اِلهَوا عَن هذا ؛ كَأَنَّكُم لم تَسمَعوا نِداءَهُ ، فَقَد عَلِمتُم أنَّهُ قَتَلَ حُرَيثا ، وفَضَحَ عَمرا ، ولا أرى أحَدا يَتَحَكَّكُ (1) بِهِ إلّا قَتَلَهُ . فَقالَ مُعاوِيَةُ لِبُسرِ بنِ أرطاةَ :أ تَقومُ لِمُبارَزَتِهِ ؟ فَقالَ : ما أحَدٌ أحَقَّ بِها مِنكَ ، وإذ أبَيتُموهُ فَأَنا لَهُ . . . فَاستَقبَلَهُ بُسرٌ قَريبا مِنَ التَّلِّ وهُوَ مُقَنَّعٌ فِيالحَديدِ لا يُعرَفُ ، فَناداهُ : اُبرُز إلَيَّ أبا حَسَنٍ ! فَانحَدَرَ إلَيهِ عَلى تُؤَدَةٍ غَيرَ مُكتَرِثٍ ، حَتّى إذا قارَبَهُ طَعَنَهُ وهُوَ دارِعٌ ، فَأَلقاهُ عَلَى الأَرضِ ، ومَنَعَ الدِّرعُ السِّنانَ أن يَصِلَ إلَيهِ ، فَاتَّقاهُ بُسرٌ بِعَورَتِهِ وقَصَدَ أن يَكشِفَها يَستَدفِعُ بَأسَهُ ، فَانصَرَفَ عَنهُ عَِليٌّ عليه السلام مُستَدبِرا لَهُ ، فَعَرَفَهُ الأَشتَرُ حينَ سَقَطَ ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ هذا بُسرُ بنُ أرطاةَ ، عَدُوُّ اللّهِ وعَدُوُّكَ . فَقالَ : دَعهُ عَلَيهِ لَعنَةُ اللّهِ ، أبَعدَ أن فَعَلَها . . . . وقامَ بُسرٌ مِن طَعنَةِ عَلِيٍّ مُوَلِّيا ، ووَلَّت خَيلُهُ ، وناداهُ عَلِيٌّ : يا بُسرُ ، مُعاوِيَةُ كانَ أحَقَّ بِهذا مِنكَ . فَرَجَعَ بُسرٌ إلى مُعاوِيَةَ ، فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : اِرفَع طَرفَكَ قَد أدالَ اللّهُ عَمرا مِنكَ . . . . فَكانَ بُسرٌ بَعدَ ذلِكَ إذا لَقِيَ الخَيلَ الَّتي فيها عَلِيٌّ تَنَحّى ناحِيةً . وتَحامى فُرسانُ أهلِ الشّامِ عَلِيّا (2) .
الفتوح :خَرَجَ رَجُلٌ مِن أصحابِ مُعاوِيَةَ يُقالُ لَهُ : المُخارِقُ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ _ وكانَ فارِسا بَطَلاً _ حَتّى وَقَفَ بَينَ الجَمعَينِ ، ثُمَّ سَأَلَ النِّزالَ ، فَخَرَجَ إلَيهِ المُؤَمَّلُ بنُ عُبَيدٍ المُرادِيُّ ، فَقَتَلَهُ الشّامِيُّ . . . فَلَم يَزَل كَذلِكَ حَتّى قَتَلَ أربَعَةَ نَفَرٍ ، وَاحتَزَّ رَؤوسَهُم ،
.
ص: 470
وكَشَفَ عَوراتِهِم . قالَ : فَتَحاماهُ النّاسُ خَوفا مِنهُ . قالَ : ونَظَرَ إلَيهِ عَلِيٌّ رضى الله عنه وقَد فَعَلَ ما فَعَلَ فَخَرَجَ إلَيهِ مُتَنَكّرا ، وحَمَلَ عَلَيهِ الشّامِيُّ وهُوَ لَم يَعرِفهُ ، فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ بِضَربَةٍ عَلى حَبلِ عاتِقِهِ فَرَمى بِشِقِّهِ ، ثُمَّ نَزَلَ إلَيهِ فَاحتَزَّ رَأسَهُ ، وقَلَّبَ وَجهَهُ إلَى السَّماءِ ، ولَم يَكشِف عَورَتَهُ . ثُمَّ نادى : هَل مِن مُبارِزٍ ؟ فَخَرَجَ إلَيهِ آخَرُ ، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ رضى الله عنه ، وفَعَلَ بِهِ كَما فَعَلَ بِالأَوَّلِ . فَلَم يَزَل كَذلِكَ حَتّى قَتَلَ مِنهُم سَبعَةً أم ثَمانِيَةً وهُوَ يَفعَلُ بِهِم كَما يَفعَلُ بِالأَوَّلِ ، ولا يَكشِفُ عَوراتِهِم . فَأَحجَمَ النّاسُ عَنهُ وتَحامَتهُ الأَبطالُ مِن أصحابِ مُعاوِيَةَ ، ورَدَّها عَن مُعاوِيَةَ عَبدٌ لَهُ يُقالُ لَهُ : حَربٌ ، فَكانَ فارِسا لا يُصطَلى بِنارِهِ . فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ : وَيحَكَ يا حَربُ ، اخرُج إلى هذَا الفارِسِ فَاكفِني أمرَهُ ، فَإِنَّهُ قَد قَتَلَ مِن أصحابي مَن قَد عَلِمتَ ! قالَ : فَقالَ حَربٌ : جُعِلتُ فِداكَ إنّي وَاللّهِ أرى مَقامَ فارِسٍ بَطَلٍ لَو بَرَزَ إلَيهِ أهلُ عَسكَرِكَ لَأَفناهُم عَن آخِرِهِم ، فَإِن شِئتَ بَرَزتُ إلَيهِ وأنَا أعلَمُ أنَّهُ قاتِلي ، وإن شِئتَ فَإِبقِني لِغَيرِهِ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : لا وَاللّهِ ، ما أُحِبُّ أن تُقتَلَ ، فَقِف مَكانَكَ حَتّى يَخرُجَ إلَيهِ غَيرُكَ . قالَ : وجَعَلَ يُناديهِم ولا يَخرُجُ إلَيهِ واحدٌ مِنهُم ، فَرَفَعَ المِغفَرَ عَن رَأسِهِ ثُمَّ قالَ : أنَا أبُو الحَسَنِ ثُمَّ رَجَعَ إلى عَسكَرِهِ . فَقالَ حَربٌ لِمُعاوِيَةَ : جُعِلتُ فِداكَ أ لَم أقُل لَكَ إنّي أعرِفُ مَقامَ الفارِسِ البَطَلِ (1) .
راجع : ص 493 (وقعة الخميس) . و ج 5 ص 489 (الخصائص الحربيّة) .
.
ص: 471
9 / 12طُمَأنينَةُ الإِمامِ في ساحَةِ القِتالِوقعة صفّين عن أبي إسحاق :خَرَجَ عَلِيٌّ يَومَ صِفّينَ وفِي يَدِهِ عَنَزَةٌ ، فَمَرَّ عَلى سَعيدِ بنِ قَيسٍ الهَمدانِيِّ ، فَقالَ لَهُ سَعيدٌ : أ ما تَخشى يا أميرَ المُؤمِنينَ أن يَغتالَكَ أحَدٌ وأنتَ قُربَ عَدُوِّكَ ؟ فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنَّهُ لَيسَ مِن أحَدٍ إلّا عَلَيهِ مِنَ اللّهِ حَفَظَةٌ يَحفَظونَهُ مِن أن يَتَرَدّى في قَليبٍ (1) ، أو يَخِرَّ عَلَيهِ حائِطٌ ، أو تُصيبَهُ آفَةٌ ، فَإِذا جاءَ القَدَرُ خَلَّوا بَينَهُ وبَينَهُ (2) .
الكافي عن سعيد بن قيس الهمداني :نَظَرتُ يَوما فِي الحَربِ إلى رَجُلٍ عَلَيهِ ثَوبانِ فَحَرَّكتُ فَرَسي فَإِذا هُوَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، فَقُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، في مِثلِ هذَا المَوضِعِ ؟ ! فَقالَ : نَعَم ، يا سَعيدَ بنَ قَيسٍ ، إنَّهُ لَيسَ مِن عَبدٍ إلّا ولَهُ مِنَ اللّهِ حافِظٌ وواقِيَةٌ ، مَعَهُ مَلَكانِ يَحفَظانِهِ مِن أن يَسقُطَ مِن رَأسِ جَبَلٍ ، أو يَقَعَ في بِئرٍ ، فَإِذا نَزَلَ القَضاءُ خَلَّيا بَينَهُ وبَينَ كُلِّ شَيءٍ (3) .
الإمام عليّ عليه السلام_ وهُوَ يَطوفُ بَينَ الصَّفَّينِ بِصِفّينَ في غِلالَةٍ (4) لَمّا قالَ لَهُ الحَسَنُ ابنُهُ : ما هذا زِيُّ الحَربِ _: يا بُنَيَّ إنَّ أباكَ لا يُبالي وَقَعَ عَلَى المَوتِ ، أو وَقَعَ المَوتُ عَلَيهِ (5) .
العقد الفريد :كانَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ رضى الله عنهيَخرُجُ كُلَّ يَومٍ بِصِفّينَ حَتّى يَقِفَ بَين
.
ص: 472
الصَّفَّينِ ويَقولُ : أيَّ يَومَيِّ مِنَ المَوتِ أفِرْ يَومَ لا يُقدَرُ أو يَومَ قُدِرْ يَومَ لا يُقدَرُ لا أرهَبُهْ ومِنَ المَقدورِ لا يُنجِي الحَذَرْ (1)
راجع : ص 219 (السكينة العلوية في الحرب) .
9 / 13فَضيحَةُ عَمرِو بنِ العاصِالإمامة والسياسة :ذَكَروا أنَّ عَمرا قالَ لِمُعاوِيَةَ :أ تَجبُنُ عَن عَلِيٍّ ، وتَتَّهِمُني في نَصيحَتي إلَيكَ ؟ ! وَاللّهِ لاُبارِزَنَّ عَلِيّا ولَو مِتُّ ألفَ مَوتَةٍ في أوَّلِ لِقائِهِ . فَبارَزَهُ عَمرٌو ، فَطَعَنَهُ عَلِيٌّ فَصَرَعَهُ ، فَاتَّقاهُ بِعَورَتِهِ ، فَانصَرَفَ عَنهُ عَلِيٌّ ، ووَلّى بِوَجهِهِ دونَهُ . وكانَ عَلِيٌّ رضى الله عنه لَم يَنظُر قَطُّ إلى عَورَةِ أحَدٍ ؛ حَياءً وتَكَرُّما ، وتَنَزُّها عَمّا لا يَحِلُّ ولا يَجمُلُ بِمِثلِهِ (2) .
البداية والنهاية :ذَكَروا أنَّ عَلِيّا حَمَلَ عَلى عَمرِو بنِ العاصِ يَوما فَضَرَبَهُ بِالرُّمحِ ، فَأَلقاهُ إلَى الأَرضِ ، فَبَدَت سَوءَتُهُ ، فَرَجَعَ عَنهُ . فَقالَ لَهُ أصحابُهُ : ما لَكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ رَجَعتَ عَنهُ ؟ فَقالَ :أ تَدرونَ ما هُوَ ؟ قالوا : لا ! قالَ : هذا عَمرُو بنُ العاصِ تَلَقّاني بِسَوءَتِهِ ، فَذَكَّرَني بِالرَّحِمِ ، فَرَجَعتُ عَنهُ .
.
ص: 473
فَلَمّا رَجَعَ عَمرٌو إلى مُعاوِيَةَ قالَ لَهُ : اِحمَدِ اللّهَ وَاحمَدِ استَكَ (1) .
وقعة صفّين :حَمَلَ عَمرُو بنُ العاصِ مُعلِما وهُوَ يَقولُ : شَدّوا عَلَيَّ شِكَّتي لا تَنكَشِفْ بَعدَ طُلَيحٍ وَالزُّبَيرِ فَأَتلِفْ يَومٌ لِهَمدانَ ويَومٌ لِلصَّدِفْ وفي تَميمٍ نَخوَةٌ لا تَنحَرِفْ أضرِبُها بِالسَّيفِ حَتّى تَنصَرِفْ إذا مَشَيتُ مِشيَةَ العَودِ الصَّلِفْ ومِثلُها لِحِميَرٍ ، أو تَنحَرِفْ وَالرَّبَعِيّونَ لَهُم يَومٌ عَصِفْ فَاعتَرَضَهُ عَلِيٌّ وهُوَ يَقولُ : قَد عَلِمَت ذاتُ القُرونِ المِيلِ وَالخَصرِ وَالأَنامِلِ الطُّفولِ أنّي بِنَصلِ السَّيفِ خَنشَليلُ أحمي وأرمي أوَّلَ الرَّعيلِ بِصارِمٍ لَيسَ بِذي فُلولِ ثُمَّ طَعَنَهُ فَصَرَعَهُ ، وَاتَّقاهُ عَمرٌو بِرِجلِهِ ، فَبَدَت عوَرَتُهُ ، فَصَرَفَ عَلِيٌّ وَجهَهُ عَنهُ وَارتُثَّ ، فَقالَ القَومُ : أفلَتَ الرَّجُلُ يا أميرَ المُؤمِنينَ . قالَ : وهَل تَدرونَ مَن هُوَ ؟ قالوا : لا . قالَ : فَإِنَّهُ عَمرُو بنُ العاصِ تَلَقّاني بِعَورَتِهِ فَصَرَفتُ وَجهي عَنهُ . ورَجَعَ عَمرٌو إلى مُعاوِيَةَ فَقالَ لَهُ : ما صَنَعتَ يا عَمرُو ؟ قالَ : لَقِيَني عَلِيٌّ فَصَرَعَني .
.
ص: 474
قالَ : اِحمَدِ اللّهَ وعَورَتَكَ ، أما وَاللّهِ أن لَو عَرَفتَهُ ما أقحَمتَ عَلَيهِ (1) .
عيون الأخبار عن المدائني :رَأى عَمرُو بنُ العاصِ مُعاوِيَةَ يَوما يَضحَكُ ، فَقالَ لَهُ : مِمَّ تَضحَكُ يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أضحَكَ اللّهُ سِنَّكَ ؟ قالَ : أضحَكُ مِن حُضورِ ذِهنِكَ عِندَ إبدائِكَ سَوءَتَكَ يَومَ ابنِ أبي طالِبٍ ! أما وَاللّهِ لَقَد وافَقتَهُ مَنّانا كَريما ، ولَو شاءَ أن يَقتُلَكَ لَقَتَلَكَ . قالَ عَمرٌو : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أما وَاللّهِ إنّي لَعَن يَمينِكَ حينَ دَعاكَ إلَى البِرازِ فَاحوَلَّت عَيناكَ ، ورَبا سَحرُكَ ، وبَدا مِنكَ ما أكرَهُ ذِكرَهُ لَكَ ، فَمِن نَفسِكَ فَاضحَك أو دَع ! ! (2) .
9 / 14كِتابُ مُعاوِيَةِ إلَى الإِمامِ يُهَدِّدُهُ بِالقِتالِكنز الفوائد :نُسخَةُ كِتابِ مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلى أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ الهَوى يُضِلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ ، وَالحِرصَ يُتعِبُ الطّالِبَ المَحرومَ ، وأحمَدُ العاقِبَتَينِ ما هُدِيَ إلى سَبيلِ الرَّشادِ . ومِنَ العَجَبِ العَجيبِ ذامٌّ ومادِحٌ ، وزاهِدٌ وراغِبٌ ، ومُتَوَكِّلٌ وحَريصٌ ، كَلاما ضَرَبتُهُ لَكَ مَثَلاً لِتَدَبَّرَ حِكمَتَهُ بِجَميعِ الفَهمِ ، ومُبايَنَةِ الهَوى ، ومُناصَحَةِ النَّفسِ . فَلَعَمري يَابنَ أبي طالِبٍ ، لَولَا الرَّحِمُ الَّتي عَطَفَتني عَلَيكَ ، وَالسَّابِقَةُ الَّتي سَلَفَت لَكَ ، لَقَد كانَ اختَطَفَتكَ بَعضُ عُقبانِ أهلِ الشّامِ ، فَصَعِدَ بِكَ فِي الهَواءِ ثُمَّ قَذَفَكَ عَلى
.
ص: 475
دَكادِكِ شَوامِخِ الأَبصارِ ، فَاُلفيتَ كَسَحيقِ الفِهرِ (1) عَلى صنِّ (2) الصَّلابَةِ لايَجِدُ الذَّرُّ (3) فيكَ مَرتَعا . ولَقَد عَزَمتُ عَزمَةَ مَن لايَعطِفُهُ رِقَّةُ الإِنذارِ ، إن لَم تُبايِن ما قَرَّبتَ بِهِ أمَلَكَ وطالَ لَهُ طَلَبُكَ ، لَاُورِدَنَّكَ (4) مَورِدا تَستَمِرُّ النَّدامَةَ إن فُسِحَ لَكَ فِي الحَياةِ ، بَل أظُنُّكَ قَبلَ ذلِكَ مِنَ الهالِكينَ ، وبِئسَ الرَّأيُ رَأيٌ يورِدُ أهلَهُ إلَى المَهالِكِ ، ويُمَنّيهِمُ العَطَبَ إلى حينَ لاتَ مَناصٍ . وقَد قُذِفَ بِالحَقِّ عَلَى الباطِلِ ، وظَهَرَ أمرُ اللّهِ وهُم كارِهونَ ، وللّهِِ الحُجَّةُ البالِغَةُ وَالمِنَّةُ الظّاهِرَةُ . وَالسَّلامُ (5) .
9 / 15جَوابُ الإِمامِ لِكِتابِ مُعاوِيَةَكنز الفوائد :مِن عَبدِ اللّهِ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ . أمّا بَعدُ ، فَقَد أتانا كِتابُكَ بِتَنويقِ المَقالِ ، وضَربِ الأَمثالِ ، وَانتِحالِ الأَعمالِ ، تَصِفُ الحِكمَةَ ولَستَ مِن أهلِها ، وتذكُرُ التَّقوى وأنتَ عَلى ضِدِّها ، قَدِ اتَّبَعتَ هَواكَ فَحادَ بِكَ عَنِ الحُجَّةِ (6) ، وألحَجَ (7) بِكَ عَن سَواءِ السَّبيلِ . فَأَنتَ تَسحَبُ أذيالَ لَذّاتِ الفِتَنِ ، وتُحيطُ (8) في زَهرَةِ الدُّنيا ، كَأَنَّكَ لَستَ توقِن
.
ص: 476
بِأَوبَةِ البَعثِ ، ولا بِرَجعَةِ المُنقَلَبِ ، قَد عَقَدتَ التّاجَ ، ولَبِستَ الخَزَّ ، وَافتَرَشتَ الدّيباجَ ، سُنَّةً هِرَقلِيَّةً ، ومُلكا فارِسِيّا ، ثُمَّ لَم يَقنَعكَ ذلِكَ حَتّى يَبلُغَني أنَّكَ تَعقِدُ الأَمرَ مِن بَعدِكَ لِغَيرِكَ ، فَيَملِكُ (1) دونَكَ فَتُحاسَبُ دونَهُ . ولَعَمري لَئِن فَعَلتَ ذلِكَ فَما وَرِثَتِ الضَّلالَةُ عَن كَلالَةٍ ، وإنَّكَ لَابنُ مَن كانَ يَبغي عَلى أهلِ الدّينِ ، ويَحسُدُ المُسلِمينَ . وذَكَرتَ رَحِما عَطَفَتكَ عَلَيَّ ، فاُقسِمُ بِاللّهِ الأَعَزِّ الأَجَلِّ أن لَو نازَعَكَ هذَا الأَمرَ في حَياتِكَ مَن أنتَ تُمَهِّدُ لَهُ بَعدَ وَفاتِكَ لَقَطَعتَ حَبلَهُ ، وأبَنتَ أسبابَهُ . وأمّا تَهديدُكَ لي بِالمَشارِبِ الوَبيئَةِ (2) والمَوارِدِ المُهلِكَةِ ، فَأَنَا عَبدُ اللّهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، أبرِز إلَيَّ صَفحَتَكَ ، كَلّا ورَبِّ البَيتِ ما أنتَ بِأَبي عُذرٍ عِندَ القِتالِ ، ولا عِندَ مُناطَحَةِ الأَبطالِ ، وكَأَنّي بِكَ لَو شَهِدتَ الحَربَ وقَد قامَت عَلى ساقٍ ، وكَشَرَت عَن مَنظَرٍ كَريهٍ ، وَالأَرواحُ تُختَطَفُ اختِطافَ البازِيِّ زُغْبَ (3) القَطا ، لَصِرتَ كَالمُولَهَةِ الحَيرانَةِ تَصرِبُها (4) العَبرَةُ بِالصَّدَمَةِ ، لاتَعرِفُ أعلَا الوادي عَن أسفَلِهِ . فَدَع عَنكَ ما لستَ أهلَهُ ؛ فَإِنَّ وَقعَ الحُسامِ غَيرُ تَشقيقِ الكَلامِ ، فَكَم عَسكَرٍ قَد شَهِدتُهُ ، وقَرنٍ نازَلتُهُ ، [ورَأَيتُ] اصطِكاكَ قُرَيشٍ بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، إذ أنتَ وأبوكَ و[مَن] هُوَ [أعلَا مِنكُما لي] (5) تَبَعٌ ، وأنتَ اليَومَ تُهَدِّدُني ! فَاُقسِمُ بِاللّهِ أن لَو تُبدِي الأَيّامُ عَن صَفحَتِكَ لَنَشَبَ فيكَ مِخلَبُ لَيثٍ هَصورٍ (6) ، لايَفوتُهُ فَريسَةٌ بِالمُراوَغَةِ ، كَيفَ وأنّى لَكَ بِذلِكَ وأنتَ قَعيدَةُ بِنتِ البِكرِ المُخَدَّرَةِ ؛
.
ص: 477
يُفزِعُها صَوتُ الرَّعدِ ، وأنَا عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ الَّذي لا اُهَدَّدُ بِالقِتالِ ، ولا اُخَوَّفُ بِالنِّزالِ ، فَإِن شِئتَ يا مُعاوِيَةُ فَابرُز . وَالسَّلامُ . فَلَمّا وَصَلَ هذَا الجَوابُ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ جَمَعَ جَماعَةً مِن أصحابِهِ وفيهِم عَمرُو بنُ العاصِ فَقَرَأَهُ عَلَيهِم . فَقالَ لَهُ عَمرٌو : قَد أنصَفَكَ الرَّجُلُ ، كَم رَجُلٍ أحسَنَ فِي اللّهِ قَد قُتِلَ بَينَكُمَا ، ابرُز إلَيهِ . فَقالَ لَهُ : أبا عَبدِ اللّهِ أخطَأَتِ استُكَ الحُفرَةَ ، أنَا أبرُزُ إلَيهِ مَعَ عِلمي أنَّهُ ما بَرَزَ إلَيهِ أحَدٌ قَطُّ إلّا وقَتَلَهُ ! لا وَاللّهِ ، ولكِنّي سَاُبرِزُكَ إلَيهِ (1) .
9 / 16التَّأكيدُ عَلَى الدَّعوَةِ إلَى البِرازِشرح نهج البلاغة عن المدائني :كَتَبَ إلَيهِ[مُعاوِيَةَ] عَلِيٌّ عليه السلام : أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ مَساوِئَكَ مَعَ عِلمِ اللّهِ تَعالى فيكَ حالَت بَينَكَ وبَينَ أن يَصلُحَ لَكَ أمرُكَ ، وأن يَرعَوِيَ قَلبُكَ ، يَابنَ الصَّخرِ اللَّعينِ ! زَعَمتَ أن يَزِنَ الجِبالَ حِلمُكَ ، ويَفصِلَ بَينَ أهلِ الشَّكِّ عِلمُكَ ، وأنتَ الجِلفُ المُنافِقُ ، الأَغلَفُ القَلبِ ، القَليلُ العَقلِ ، الجَبانُ الرَّذلُ ، فَإِن كُنتَ صادِقا فيما تَسطُرُ ويُعينُكَ عَلَيهِ أخو بَني سَهمٍ ، فَدَعِ النّاسَ جانِبا وتَيَسَّر لِما دَعَوتَني إلَيهِ مِنَ الحَربِ وَالصَّبرِ عَلَى الضَّربِ ، وأَعفِ الفَريقَينِ مِنَ القِتالِ ؛ لِيُعلَمَ أيُّنَا المَرينُ عَلى قَلبِهِ ، المُغَطّى عَلى بَصَرِهِ ، فَأَنَا أبُو الحَسَنِ قاتِلُ جَدِّكَ وأخيكَ وخالِكَ ، وما أنتَ مِنهُم بِبَعيدٍ . وَالسَّلامُ (2) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ عليه السلام إلى مُعاوِيَةَ _: وكَيفَ أنتَ صانِعٌ إذا تَكَشَّفَت عَنك
.
ص: 478
جَلابيبُ ما أنتَ فيهِ مِن دُنيا قَد تَبَهَّجَت بِزينَتِها ، وخَدَعَت ، بِلَذَّتِها ، دَعَتكَ فَأَجَبتَها ، وقادَتكَ فَاتَّبَعتَها ، وأمَرَتكَ فَأَطَعتَها . وإنَّهُ يوشِكُ أن يَقِفَكَ واقِفٌ عَلى ما لا يُنجيكَ مِنهُ مِجَنٌّ ، فَاقعَس عَن هذَا الأَمرِ ، وخُذ اُهبَةَ الحِسابِ ، وشَمِّر لِما قَد نَزَلَ بِكَ ، ولا تُمَكِّنِ الغُواةَ مِنَ سَمعِكَ ، وإلّا تَفعَل اُعلِمكَ ما أغفَلتَ من نَفسِكَ ؛ فَإِنَّكَ مُترَفٌ قَد أخَذَ الشَّيطانُ مِنكَ مَأخَذَهُ ، وبَلَغَ فيكَ أمَلَهُ ، وجَرى مِنكَ مَجرَى الرّوحِ وَالدَّمِ . ومَتى كُنتُم _ يا مُعاوِيَةُ _ ساسَةَ الرَّعِيَّةِ ، ووُلاةَ أمرِ الاُمَّةِ ، بِغَيرِ قَدَمٍ سابِقٍ ، ولا شَرَفٍ باسِقٍ ؟ ! ونَعوذُ بِاللّهِ مِن لُزومِ سَوابِقِ الشَّقاءِ ، واُحَذِّرُكَ أن تَكونَ مُتَمادِيا في غِرَّةِ الاُمنِيِّةِ ، مُختَلِفَ العَلانِيَةِ وَالسَّريرَةِ . وقَد دَعَوتَ إلَى الحَربِ ، فَدَعِ النّاسَ جانِبا ، وَاخرُج إلَيَّ وَأَعفِ الفَريقَينِ مِنَ القِتالِ ؛ لِتَعلَمَ أيُّنَا المَرينُ عَلى قَلبِهِ ، وَالمُغَطّى عَلى بَصَرِهِ ، فَأَنَا أبو حَسَنٍ قاتِلُ جَدِّكَ وأخيكَ وخالِكَ شَدخا (1) يَومَ بَدرٍ ، وذلِكَ السَّيفُ مَعي ، وبِذلِكَ القَلبِ ألقى عَدُوّي ، مَا استَبدَلتُ دينا ، ولَا استَحدَثتُ نَبِيّا . وإنّي لَعَلَى المِنهاجِ الَّذي تَرَكتُموهُ طائِعينَ ، ودَخَلتُم فيهِ مُكرَهينَ . وزَعَمتَ أنَّكَ جِئتَ ثائِرا بِدَمِ عُثمانَ ، ولَقَد عَلِمتَ حَيثُ وَقَعَ دَمُ عُثمانَ فَاطلُبهُ مِن هُناكَ إن كُنتَ طالِبا ، فَكَأَنّي قَد رَأَيتُكَ تَضِجُّ مِنَ الحَربِ إذا عَضَّتكَ ضَجيجَ الجِمالِ بِالأَثقالِ ، وكَأَنّي بِجَماعَتِكَ تَدعوني _ ؛ جَزَعا مِنَ الضَّربِ المُتَتابِعِ ، وَالقَضاءِ الواقِعِ ، ومَصارِعَ بَعدَ مَصارِعَ _ إلى كِتابِ اللّهِ ، وهِيَ كافِرَةٌ جاحِدَةٌ ، أو مُبايِعَةٌ حائِدَةٌ (2) .
وقعة صفّين عن الشعبي :أرسَلَ عَِليٌّ إلى مُعاوِيَةَ : أنِ ابرُز لي وأَعفِ الفَريقَينِ مِنَ القِتالِ ،
.
ص: 479
فَأَيُّنا قَتَلَ صاحِبَهُ كانَ الأَمرُ لَهُ . قالَ عَمرٌو : لَقَد أنصَفَكَ الرَّجُلُ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : إنّي لَأَكرَهُ أن اُبارِزَ الأَهوَجَ الشُّجاعَ ، لَعَلَّكَ طَمِعتَ فيها يا عَمرُو . فَلَمّا لَم يُجِب قالَ عَلِيٌّ : وا نَفساه ، أيُطاعُ مُعاوِيَةُ واُعصى ؟ ! ما قاتَلَت اُمَّةٌ قَطُّ أهلَ بَيتِ نَبِيِّها وهِيَ مُقِرَّةٌ بِنَبِيِّها إلّا هذِهِ الاُمَّةَ (1) .
وقعة صفّين عن عمرو بن شمر :قامَ عَلِيٌّ بَينَ الصَّفَّينِ ثُمَّ نادى : يا مُعاوِيَةُ ، يُكَرِّرُها . فَقالَ مُعاوِيَةُ : اِسأَلوهُ ، ما شَأنُهُ ؟ قالَ : اُحِبُّ أن يَظهَرَ لي فَاُكَلِّمَهُ كَلِمَةً واحدةً . فَبَرَزَ مُعاوِيَةُ ومَعَهُ عَمرُو بنُ العاصِ ، فَلَمّا قارَباهُ لَم يَلتَفِت إلى عَمرٍو ، وقالَ لِمُعاوِيَةَ : وَيحَكَ ، عَلامَ يَقتَتِلُ النّاسُ بَيني وبَينَكَ ، ويَضرِبُ بَعضُهُم بَعضا ؟ ! اُبرُز إلَيَّ ؛ فَأَيُّنا قَتَلَ صاحِبَهُ فَالأَمرُ لَهُ . فَالتَفَتَ مُعاوِيَةُ إلى عَمرٍو فَقالَ : ما تَرى يا أبا عَبدِ اللّهِ فيما ها هُنا ، اُبارِزُهُ ؟ فَقالَ عَمرٌو : لَقَد أنصَفَكَ الرَّجُلُ ، وَاعلَم أنَّهُ إن نَكَلتَ عَنهُ لَم تَزَل سَبَّةً عَلَيكَ وعَلى عَقِبِكَ ما بَقِيَ عَرَبِيٌّ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : يا عَمرَو بنَ العاصِ ، لَيسَ مِثلي يُخدَعُ عَن نَفسِهِ ، وَاللّهِ ما بارَزَ ابنُ أبي طالِبٍ رَجُلاً قَطُّ إلّا سَقَى الأَرضَ مِن دَمِهِ ! ثُمَّ انصَرَفَ راجِعا حَتَّى انتَهى إلى آخِرِ الصُّفوفِ ، وعَمرٌو مَعَهُ . فَلَمّا رَأى عَلِيٌّ عليه السلام ذلِكَ ضَحِكَ ، وعادَ إلى مَوقِفِهِ (2) .
تاريخ الطبري عن أبي جعفر :قالَ عَلِيٌّ لِرَبيعَةَ وهَمدانَ : أنتُم دِرعي ورُمحي ، فَانتَدَبَ لَه
.
ص: 480
نَحوٌ مِنِ اثنَي عَشَرَ ألفا ، وتَقَدَّمَهُم عَلِيٌّ عَلى بَغلَتِهِ ، فَحَمَلَ وحَمَلوا مَعَهُ حَملَةَ رَجُلٍ واحِدٍ ، فَلَم يَبقَ لِأَهلِ الشّامِ صَفٌّ إلَا انتَقَضَ ، وقَتَلوا كُلَّ مَنِ انتَهَوا إلَيهِ ، حَتّى بَلَغوا مُعاوِيَةَ ، وعَلِيٌّ يَقولُ : أضرِبُهُم ولا أرى مُعاوِيَهْ الجاحِظَ العَينِ العَظيمَ الحاوِيَهْ ثُمَّ نادى مُعاوِيَةَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : عَلامَ يُقَتَّلُ النّاسُ بَينَنا ! هَلُمَّ اُحاكِمكَ إلَى اللّهِ ، فَأَيُّنا قَتَلَ صاحِبَهُ استَقامَت لَهُ الاُمورُ . فَقالَ لَهُ عَمرٌو : أنصَفَكَ الرَّجُلُ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : ما أنصَفَ ، وإنَّكَ لَتَعلَمُ أنَّهُ لَم يُبارِزهُ رَجُلٌ قَطُّ إلّا قَتَلَهَ . قالَ لَهُ عَمرٌو : وما يَجمُلُ بِكَ إلّا مُبارَزَتُهُ . فَقالَ مُعاوِيَةُ : طَمِعتَ فيها بَعدي (1) .
9 / 17ذِكرى دَعوَةِ الإِمامِ إلَى المُبارَزَةِالأمالي للصدوق عن عدي بن أرطاة :قالَ مُعاوِيَةُ يَوما لِعَمرِو بنِ العاصِ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، أيُّنا أدهى ؟ قالَ عَمرٌو أنَا لِلبَديهَةِ ، وأنت لِلرَّوِيَّةِ . قالَ مُعاوِيَةُ : قَضَيتَ لي عَلى نَفسِكَ ، وأنَا أدهى مِنكَ فِي البَديهَةِ . قالَ عَمرٌو : فَأَينَ كانَ دَهاؤُكَ يَومَ رَفَعتُ المَصاحِفَ ؟ قالَ : بِها غَلَبتَني يا أبا عَبدِ اللّهِ ، فَلا أسأَلُكَ عَن شَيءٍ تَصدُقُني فيهِ . قالَ : وَاللّهِ إنَّ الكَذِبَ لَقَبيحٌ ، فَسَل عَمّا بَدا لَكَ أصدُقكَ . فَقالَ : هَل غَشَشتَني مُنذُ نَصحتَني ؟ قالَ : لا . قالَ : بَلى وَاللّهِ ، لَقَد غَشَشتني ، أما إنّي لا أقولُ في كُلِّ المَواطِنِ ولكِن فى ¨
.
ص: 481
مَوطِنٍ واحِدٍ . قالَ : وأيُّ مَوطِنٍ هذا ؟ قالَ : يَومَ دَعاني عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ لِلمُبارَزَةِ ، فَاستَشَرتُكَ ، فَقُلتُ : ما تَرى يا أبا عَبدِ اللّهِ ، فَقُلتَ : كَفؤٌ كَريمٌ ، فَأَشَرتَ عَلَيَّ بِمُبارَزَتِهِ ، وأنتَ تَعلَمُ مَن هُو ، فَعَلِمتُ أنَّكَ غَشَشتَني . قالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، دَعاكَ رَجُلٌ إلى مُبارَزَتِهِ، عَظيمُ الشَّرَفِ ، جَليلُ الخَطَرِ ، فَكُنتَ مِن مُبارَزَتِهِ عَلى إحدَى الحُسنَيَينِ ؛ إمّا أن تَقتُلَهُ فَتَكونَ قَد قَتَلتَ قَتّالَ الأَقرانِ ، وتَزدادَ بِهِ شَرَفا إلى شَرَفِكَ وتَخلُوَ بِمُلكِكَ ، وإمّا أن تُعَجَّلَ إلى مُرافَقَةِ الشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وحَسُنَ اُولئِكَ رَفيقا . قالَ مُعاوِيَةُ : هذِهِ شَرٌّ مِنَ الأَوَّلِ ، وَاللّهِ إنّي لَأَعلَمُ أنّي لَو قَتَلتُهُ دَخَلتُ النّارَ ، ولَو قَتَلَني دَخَلتُ النّارَ . قالَ عَمرٌو : فَمَا حَمَلَكَ عَلى قِتالِهِ ؟ قالَ : المُلكُ عَقيمٌ ، ولَن يَسمَعَها مِنّي أحَدٌ بَعدَكَ (1) .
9 / 18هُجومُ الإِمامِ عَلَى المَجموعَةِ الَّتي فيها مُعاوِيَةُالأخبار الطوال :حَمَلَ عَلِيٌّ رضى الله عنه عَلَى الجَمعِ الَّذي كانَ فيهِ مُعاوِيَةُ في أهلِ الحِجازِ مِن قُرَيشٍ وَالأَنصارِ وغَيرِهِم ، وكانوا زُهاءَ اثنَي عَشَرَ ألفَ فارِسٍ ، وعَلِيٌّ أمامَهُم ، وكَبَّروا وكَبَّرَ النّاسُ تَكبيرَةً ارتَجَّت لَهَا الأَرضُ ، فَانتَقَضَت صُفوفُ أهلِ الشّامِ ، وَاختَلَفَت راياتُهُم ، وَانتَهَوا إلى مُعاوِيَةَ وهُوَ جالِسٌ عَلى مِنبَرِهِ مَعَهُ عَمرُو بنُ العاصِ يَنظُرانِ إلَى النّاسِ ، فَدَعا بِفَرَسٍ لِيَركَبَهُ .
.
ص: 482
ثُمَّ إنَّ أهلَ الشّامِ تَداعَوا بَعدَ جَولَتِهِم ، وثابوا (1) ، ورَجَعوا عَلى أهلِ العِراقِ ، وصَبَرَ القومُ بَعضُهُم لِبَعضٍ إلى أن حَجَزَ بَينَهُمُ اللَّيلُ (2) .
وقعة صفّين :رَكِبَ عَلِيٌّ عليه السلام فَرَسَهُ الَّذي كانَ لِرَسولِ اللّهِ ، وكانَ يُقالُ لَهُ : المُرتَجِزُ ، فَرَكِبَهُ ثُمَّ تَقَدَّمَ أمامَ الصُّفوفِ ، ثُمَّ قالَ : بَلِ البَغلَةُ ، بَلِ البَغلَةُ . فَقُدِّمَت لَهُ بَغلَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله الشَّهباءُ ، فَرَكِبَها ، ثُمَّ تَعَصَّبَ بِعِمامَةِ رَسولِ اللّهِ السَّوداءِ ، ثُمَّ نادى : أيُّهَا النّاسُ ! مَن يَشرِ نَفسَهُ للّهِِ يَربَح ؛ هذا يَومٌ لَهُ ما بَعدَهُ ، إنَّ عَدُوِّكُم قَد مَسَّهُ القَرحُ كَما مَسَّكُم (3) . فَانتَدَبَ لَهُ ما بَينَ عَشَرَةِ آلافٍ إلَى اثنَي عَشَرَ ألفا قَد وَضَعوا سُيوفَهُم عَلى عَواتِقِهِم ، وتَقَدَّمَهُم عَلِيٌّ مُنقَطِعا عَلى بَغلَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . . . وتَبِعَهُ ابنُ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ بِلِوائِهِ . . . وتََقدَّمَ الأَشتَرُ . . . وحَمَلَ النّاسُ حَمَلَةً واحِدَةً ، فَلَم يَبقَ لِأَهلِ الشّامِ صَفٌّ إلَا انتَقَضَ ، وأهمَدوا ما أتَوا عَلَيهِ ، حَتّى أفضَى الأَمرُ إلى مِضرَبِ مُعاوِيَةَ ، وعَلِيٌّ يَضرِبُهُم بِسَيفِهِ ويَقولُ : أضرِبُهُم ولا أرى مُعاوِيَهْ الأخزَرَ العَينِ العَظيمَ الحاوِيَهْ هَوَت بِهِ فِي النّارِ اُمٌّ هاوِيَهْ فَدَعا مُعاوِيَةُ بِفَرَسِهِ لِيَنجُوَ عَلَيهِ ، فَلَمّا وَضَعَ رِجلَهُ فِي الرِّكابِ تَمَثَّلَ بِأَبياتِ عَمرِو بنِ الإِطنابَةِ : أبَت لي عِفَّتي وأبى بَلائي وأخذِي الحَمدَ بِالثَّمَنِ الرَّبيحِ وإجشامِي عَلَى المَكروهِ نَفسي وضَربِي هامَةَ البَطَلِ المُشيحِ وقَولي كُلَّما جَشَأَت وجاشَت مَكانَكِ تُحمَدي أو تَستَريحي لِأَدفَعَ عَن مَآثِرَ صالِحاتٍ وأحمي بَعدُ عَن عِرضٍ صَحيحِ بِذي شُطَبٍ كَلَونِ المِلحِ صافٍ ونَفسٍ ما تَقرُّّ عَلَى القَبيحِ وقالَ : يَابنَ العاصِ ، اليَومَ صَبرٌ ، وغَدا فَخرٌ ، صَدَقتَ ، إنّا وما نَحنُ فيهِ كَما قالَ ابنُ أبِي الأَقلحِ : ما عِلَّتي وأنَا رامٍ نابِلُ وَالقَوسُ فيها وَتَرٌ عُنابِلُ تَزِلُّ عن صَفحَتِهَا المَعابِلُ المَوتُ حقٌّ وَالحياةُ باطِلُ فَثَنى مُعاوِيَةُ رِجلَهُ مِنَ الرِّكابِ ونَزَلَ ، وَاستَصرَخَ بِعَكٍّ وَالأَشعَرِيّينَ ، فَوَقَفوا دونَهُ ، وجالَدوا عَنهُ ، حَتّى كَرِهَ كُلٌّ مِنَ الفَريقَينِ صاحِبَهُ ، وتَحاجَزَ النّاسُ (4) .
.
ص: 483
الأخبار الطوال :إنّ عَلِيّا رضى الله عنه لَيَنغَمِسُ فِي القَومِ فَيَضرِبُ بِسَيفِهِ حَتّى يَنثَنِيَ ، ثُمَّ يَخرُجُ مُتَخَضِّبا بِالدَّمِ حَتّى يُسَوّى لَهُ سَيفُهُ ، ثُمَّ يَرجِعُ ، فَيَنغَمِسُ فيهِم ، ورَبيعَةُ لا تَترُكُ جُهدا في القِتالِ مَعَهُ وَالصَّبرَ ، وغابَتِ الشَّمسُ ، وقَرُبوا مِن مُعاوِيَةَ ، فَقالَ لِعَمرٍو : ما تَرى ؟ قالَ : أن تُخَلِّيَ سُرادِقَكَ . فَنَزَلَ مُعاوِيَةُ عَنِ المِنبَرِ الَّذي كانَ يَكونُ عَلَيهِ ، وأخلَى السُّرادِقَ ، وأقبَلَت رَبيعَةُ ، وأمامَها عَلِيٌّ رضى الله عنه حَتّى غَشُوا السُّرادِقَ ، فَقَطَعوهُ ، ثُمَّ انصَرَفوا . وباتَ عَلِيٌّ تِلكَ اللَّيلَةَ في رَبيعَةَ (1) .
9 / 19كِتابُ مُعاوِيَةَ إلَى الإِمامِ في أثناءِ الحَربِشرح نهج البلاغة :كِتابٌ كَتَبَهُ مُعاوِيَةُ إلَيهِ [ عليه السلام ] في أثناءِ حَربِ صِفّينَ ، بَل في أواخِرِها : مِن عَبدِ اللّهِ مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ :
.
ص: 484
أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ في مُحكَمِ كِتابِهِ : « وَ لَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَ_ئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَ_سِرِينَ » (1) وإنّي اُحَذِّرُكَ اللّهَ أن تُحبِطَ عَمَلَكَ وسابِقَتَكَ بِشَقِّ عَصا هذِهِ الاُمَّةِ ، وتَفريقِ جَماعَتِها ، فَاتَّقِ اللّهَ ، وَاذكُر مَوقِفَ القِيامَةِ ، وأَقلِع عَمّا أسرَفتَ فيهِ مِنَ الخَوضِ في دِماءِ المُسلِمينَ ، وإنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : «لَو تَمالَأَ أهلُ صَنعاءَ وعَدَنَ عَلى قَتلِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنَ المُسلِمينَ لَأَكَبَّهُمُ اللّهُ عَلى مَناخِرِهِم فِي النّارِ» فَكَيفَ يَكونُ حالُ مَن قَتَلَ أعلامَ المُسلِمينَ وساداتِ المُهاجِرينَ ، بَلْهَ (2) ما طَحَنَت رَحا حَربِهِ مِن أهلِ القُرآنِ وذِي العِبادَةِ وَالإِيمانِ ؛ مِن شَيخٍ كَبيرٍ ، وشابٍّ غَريرٍ (3) ، كُلُّهُم بِاللّهِ تَعالى مُؤمِنٌ ، ولَهُ مُخلِصٌ ، وبِرَسولِهِ مُقِرٌّ عارِفٌ ، فَإِن كُنتَ أبا حَسَنٍ إنَّما تُحارِبُ عَلَى الإِمرَةِ وَالخِلافَةِ ، فَلَعَمري لَو صَحَّت خِلافَتُكَ لَكُنتَ قَريبا مِن أن تُعذَرَ في حَربِ المُسلِمينَ ، ولكِنَّها ما صَحَّت لَكَ ، أنّى بِصِحَّتِها وأهلُ الشّامِ لَم يَدخُلوا فيها ، ولَم يَرتَضوا بِها ؟ وخَفِ اللّهَ وسَطَواتِهِ ، وَاتَّقِ بَأسَهُ ونَكالَهُ ، وَاغمِد سَيفَكَ عَنِ النّاسِ ، فَقَد وَاللّهِ أكَلَتهُمُ الحَربُ ، فَلَم يَبقَ مِنهُم إلّا كَالثَّمَدِ (4) في قَرارَةِ الغَديرِ ، وَاللّهُ المُستَعانُ (5) .
9 / 20جَوابُ الإِمامِ عَنهُشرح نهج البلاغة_ في ذِكرِ كِتابِ الإِمام عليه السلام إلى مُعاوِيَةَ _: مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أتَتني مِنكَ مَوعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ ورِسالَةٌ مُحَبَّرَةٌ ،
.
ص: 485
نَمَّقتَها بِضَلالِكَ ، وأمضَيتَها بِسوءِ رَأيِكَ ، وكِتابُ امرِئٍ لَيسَ لَهُ بَصَرٌ يَهديهِ ، ولا قائِدٌ يُرشِدُهُ ، دَعاهُ الهَوى فَأَجابَهُ ، وقادَهُ الضَّلالُ فَاتَّبَعَهُ ؛ فَهَجَرَ لاغِطا ، وضَلَّ خابِطا ، فَأَمّا أمرُكَ لي بِالتَّقوى فَأَرجو أن أكونَ مِن أهلِها ، وأستَعيذُ بِاللّهِ مِن أن أكونَ مِن الَّذينَ إذا اُمِروا بِها أخَذَتهُمُ العِزَّةُ بِالإِثمِ ، وأمّا تَحذيرُكَ إيّايَ أن يُحبَطَ عَمَلي وسابِقَتي فِي الإِسلامِ ، فَلَعَمري لَو كُنتُ الباغِيَ عَلَيكَ لَكانَ لَكَ أن تُحَذِّرَني ذلِكَ ، ولكِنّي وَجَدتُ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «فَقَ_تِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» (1) فَنَظَرنا إلى الفِئَتَينِ ؛ أمَّا الفِئَةُ الباغِيَةُ فَوَجَدناها الفِئَةَ الَّتي أنتَ فيها ؛ لِأَنَّ بَيعَتي بِالمَدينَةِ لَزِمَتكَ وأنتَ بِالشّامِ ، كَما لَزِمَتكَ بَيعَةُ عُثمانِ بِالمَدينَةِ وأنتَ أميرٌ لِعُمَرَ عَلَى الشّامِ ، وكَما لَزِمَت يَزيدَ أخاكَ بَيعَةُ عُمَرَ وهُوَ أميرٌ لِأَبي بَكرٍ عَلَى الشّامٍ . وأمّا شَقُّ عَصا هذِهِ الاُمَّةِ فَأَنَا أحَقُّ أن أنهاكَ عَنهُ ، فَأَمّا تَخويفُكَ لي مِن قَتلِ أهلِ البَغيِ فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَرَني بِقِتالِهِم وقَتلِهِم ، وقالَ لِأَصحابِهِ : «إنَّ فيكُم مَن يُقاتِلُ عَلى تَأويلِ القُرآنِ كَما قاتَلتُ عَلى تَنزيلِهِ» وأشارَ إلَيَّ ، وأنا أولى مَنِ اتَّبَعَ أمرَهُ . وأمّا قَولُكَ : إنَّ بَيعَتي لَم تَصِحَّ لِأَنَّ أهلَ الشّامِ لَم يَدخُلوا فيها ، كَيفَ وإنَّما هِيَ بَيعَةٌ واحِدَةٌ تَلزَمُ الحاضِرَ واَلغائِبَ ، لا يُثَنّى فيهَا النَّظَرُ ، ولا يُستَأنَفُ فيهَا الخِيارُ ، الخارِجُ مِنها طاعِنٌ ، وَالمُرَوِّي فيها مُداهِنٌ (2) ، فَاربَع عَلى ظَلعِكَ ، وَانزِع سِربالَ (3) غَيِّكَ ، وَاترُك ما لا جَدوى لَهُ عَلَيكَ ، فَلَيسَ لَكَ عِندي إلَا السَّيفُ ، حَتّى تَفيءَ إلى أمرِ اللّهِ صاغِرا ، وتَدخُلَ فِي البَيعَةِ راغِما . وَالسَّلامُ (4) .
.
ص: 486
9 / 21حيلَةُ مُعاوِيَةَ لِلنَّجاةِ مِنَ الحَربِوقعة صفّين_ في بَيانِ ما قالَهُ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ حينَ بَلَغَهُ شِعرُ الأَشتَرِ _: قَد رَأَيتُ أن أَكتُبَ إلى عَلِيٍّ كِتابا أسأَلُهُ الشّامَ _ وهُوَ الشَّيءُ الأَوَّلُ الَّذي رَدَّني عَنهُ _ واُلقِيَ في نَفسِهِ الشَّكَّ وَالرَّيبَةَ . فَضَحِكَ عَمرُو بنُ العاصِ ، ثُمَّ قالَ : أينَ أنتَ يا مُعاوِيَةُ مِن خُدعَةِ عَلِيٍّ ؟ ! فَقالَ : أ لَسنا بَني عَبدِ مَنافٍ ؟ قالَ : بَلى ، ولكِن لَهُمُ النُّبُوَّةُ دونَكَ ، وإن شِئتَ أن تَكتُبَ فَاكتُب . فَكَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عَلِيٍّ مَعَ رَجُلٍ مِنَ السَّكاسِكِ ، يُقالُ لَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ عُقبَةَ ، وكانَ مِن ناقِلَةِ (1) أهلِ العِراقِ ، فَكَتَبَ : أمّا بَعدُ ، فَإِنّي أظُنُّكَ أن لَو عَلِمتَ أنَّ الحَربَ تَبلُغُ بِنا وبِكَ ما بَلَغَت وعَلِمنا ، لَم يَجِنها بَعضُنا عَلى بَعضٍ ، وإنّا وإن كُنّا قَد غُلِبنا عَلى عُقولِنا فَقَد بَقِي لَنا مِنها ما نَندَمُ بِهِ عَلى ما مَضى ، ونُصلِحُ بِهِ ما بَقِيَ . وقَد كُنتُ سَأَلتُكَ الشّامَ عَلى ألّا يَلزَمَني لَكَ طاعَةٌ ولا بَيعَةٌ ، فَأَبَيتَ ذلِكَ عَلِيَّ ، فَأَعطانِي اللّهُ ما مَنَعتَ ، وأنا أدعوكَ اليَومَ إلى ما دَعَوتُكَ إلَيهِ أمسِ ، فَإِنّي لا أرجو مِنَ البَقاءِ إلّا ما تَرجو ، ولا أخافُ مِنَ المَوتِ إلّا ما تَخافُ . وقَد وَاللّهِ رَقَّتِ الأَجنادُ ، وذَهَبَتِ الرِّجالُ ، ونَحنُ بَنو عَبدِ مَنافٍ لَيسَ لِبَعضِنا عَلى بَعضٍ فَضلٌ إلّا فَضلٌ لا يُستَذَلُّ بِهِ عَزيزٌ ، ولا يُستَرَقُّ حُرٌّ بِهِ . وَالسَّلامُ (2) .
9 / 22جَوابُ الإِمامِوقعة صفّين :فَلَمّا انتَهى كِتابُ مِعاوِيَةَ إلى عَلِيٍّ قَرَأَهَ ، ثُمَّ قالَ : العَجَبُ لِمُعاوِيَةَ وكِتابِهِ !
.
ص: 487
ثُمَّ دَعا عَلِيٌّ عَبَيدَ اللّهِ بنَ أبي رافِعٍ كاتِبَهُ ، فَقالَ : اُكتُب إلى مُعاوِيَةَ : أمّا بَعد ؛ فَقَد جاءَني كِتابُكَ ، تَذكُرُ أنَّكَ لَو عَلِمتَ وعَلِمنا أنَّ الحَربَ تَبلُغُ بِنا وبِكَ ما بَلَغَت لَم يَجنِها بَعضُنا عَلى بَعضٍ ، فَإِنّا وإيّاكَ مِنها في غايَةٍ لَم تَبلُغها ، وإنّي لَو قُتِلتُ في ذاتِ اللّهِ وحَييتُ ، ثُمَّ قُتِلتُ ثُمَّ حَييتَ سَبعينَ مَرَّةً ، لَم أرجِع عَنِ الشِّدَّةِ في ذاتِ اللّهِ ، وَالجِهادِ لِأَعداءِ اللّهِ . وأمّا قَولُكَ : إنَّهُ قَد بَقِيَ مِن عُقولِنا ما نَندَمُ بِهِ عَلى ما مَضى ، فَإِنّي ما نَقَصتُ عَقلي ، ولا نَدِمتُ عَلى فِعلي . فَأَمّا طَلَبُكَ الشّامَ ، فَإِنّي لَم أكُن لِاُعطِيَكَ اليَومَ ما مَنَعتُكَ مِنها أمسِ . وأمَّا استِواؤُنا فِي الخَوفِ وَالرَّجاءِ ؛ فَإِنَّكَ لَستَ أمضى عَلَى الشَّكِّ مِنّي عَلَى اليَقينِ ، ولَيسَ أهلُ الشّامِ بِأَحرَصَ عَلَى الدُّنيا مِن أهلِ العِراقِ عَلَى الآخِرَةِ . وأمّا قَولُكَ : إنّا بَنو عَبدِ مَنافٍ لَيس لِبَعضِنا عَلى بَعضٍ فَضلٌ ؛ فَلَعَمري إنّا بَنو أبٍ واحِدٍ ، ولكِن لَيسَ اُمَيَّةُ كَهاشِمٍ ، ولا حَربٌ كَعبدِ المُطَّلِبِ ، ولا أبو سُفيانَ كَأَبي طالِبٍ ، ولَا المُهاجِرُ كَالطَّليقِ ، ولَا المُحِقُّ كَالمُبطِلِ . وفي أيدينا بَعدُ فَضلُ النُّبُوَّةِ الَّتي أذلَلنا بِهَا العَزيزَ ، وأعزَزنا بِهَا الذَّليلَ . وَالسَّلامُ (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ جَوابا عَلى كِتابٍ مِنهُ إلَيهِ _: أمّا طَلَبُكَ إلَيَّ الشّامَ ؛ فَإِنّي لَم أكُن لِاُعطِيَكَ اليَومَ ما مَنَعتُكَ أمسِ . وأمّا قَولُكَ : إنَّ الحَربَ قَد أكَلَتِ العَرَبَ إلّا حُشاشاتِ أنفُسٍ بَقِيَت ؛ ألا ومَن أكَلَهُ الحَقُّ فَإِلى الجَنَّةِ ، ومَن أكَلَهُ الباطِلُ فَإِلَى النّارِ . وأمّا استِواؤُنا فِي الحَربِ وَالرِّجالِ ؛ فَلَستَ بِأَمضى عَلَى الشَّكِّ مِنّي عَلَى اليَقينِ ، ولَيسَ أهلُ الشّامِ بِأَحرَصَ عَلَى الدُّنيا مِن أهلِ العِراقِ عَلَى الآخِرَةِ . وأمّا قَولُكَ : إنّا بَنو عَبدِ مَنافٍ ؛ فَكَذلِكَ نَحنُ . ولكِن لَيسَ اُمَّيَةُ كَهاشِمٍ ، ولا حَرب
.
ص: 488
كَعَبدِ المُطَّلِبِ . ولا أبو سُفيانَ كَأَبي طالِبٍ . ولَا المُهاجِرُ كَالطَّليقِ ، ولَا الصَّريحُ كَاللَّصيقِ . ولَا المُحِقُّ كَالمُبطِلِ ، ولَا المُؤمِنُ كَالمُدغِلِ (1) . ولَبِئسَ الخَلَفُ خَلَفٌ يَتبَعُ سَلَفا هَوى في نارِ جَهَنَّمَ . وفي أيدينا بَعدُ فَضلُ النُّبُوَّةِ الَّتي أذلَلنا بِهَا العَزيزَ ونَعَشنا بِهَا الذَّليلَ . ولَمّا أدخَلَ اللّهُ العَرَبَ في دينِهِ أفواجا ، وأسلَمَت لَهُ هذِهِ الاُمَّةُ طَوعا وكَرها ، كُنتُم مِمَّن دَخَلَ فِي الدّينِ إمّا رَغبَةً وإمّا رَهبَةً ، عَلى حينَ فازَ أهلُ السَّبقِ بِسَبقِهِم ، وذَهَبَ المُهاجَرونَ الأَوَّلونَ بِفَضلِهِم ؛ فَلا تَجعَلَنَّ لِلشَّيطانِ فيكَ نَصيبا ، ولا عَلى نَفسِكَ سَبيلاً (2) .
9 / 23مُعاوِيَةُ يَتَوسَّلُ بِابنِ عَبّاسٍأنساب الأشراف عن عيسى بن يزيد :لَمّا قامَتِ الحَربُ بَينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ بِصِفّينَ ، فَتَحارَبوا أيّاما قالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ في بَعضِ أيّامِهِم : إنَّ رَأسَ النّاسِ مَعَ عَلِيٍّ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ ، فَلَو ألقَيتَ إلَيهِ كِتابا تَعطِفُهُ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ إن قالَ قَولاً لَم يَخرُج مِنهُ عَلِيٌّ ، وقَد أكَلَتنا هذِهِ الحَربُ . فَقالَ عَمرٌو : إنَّ ابنَ عَبّاسٍ أرِيبٌ (3) لا يُخدَعُ ولَو طَمِعتَ فيهِ لَطَمِعتَ في عَلِيٍّ . قالَ : صَدَقتَ إنَّه لَأَرِيبٌ ، ولكِن اكتُب إلَيهِ عَلى ذلِكَ ، فَكَتَبَ إلَيهِ : مِن عَمرِو بنِ العاصِ إلى عَبدِ اللّهِ بنِ العَبّاسِ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ الَّذي نَحنُ وأنتُم فيهِ ، لَيسَ بِأَوَّلِ أمرٍ قادَهُ البَلاءُ ، وساقَهُ سَفَهُ العاقِبَةِ ، وأنتَ رَأسُ هذَا الأَمرِ بَعدَ عَلِيٍّ ، فَانظُر فيما بَقِيَ بِغَيرِ ما مَضى ، فَوَاللّهِ ما أبقَت هذِهِ الحَربُ لَنا ولا لَكُم حيلَةً ، وَاعلَم أنَّ الشّامَ لا يُملَكُ إلّا بِهَلاكِ العِراقِ ، وأن
.
ص: 489
العِراقَ لا يُملَكُ إلّا بِهَلاكِ الشّامِ ، فَما خَيرُنا بَعدَ إسراعِنا فيكُم ، وما خَيرُكُم بَعدَ إسراعِكُم فينا ، ولَستُ أقولُ : لَيتَ الحَربَ عادَت ، ولكِن أقولُ : لَيتَها لَم تَكُن ، وإنَّ فينا مَن يَكرَهُ اللِّقاءَ كَما أنَّ فيكُم مَن يَكرَهُهُ ، وإنَّما هُوَ أميرٌ مُطاعٌ ، أو مَأمورٌ مُطيعٌ ، أو مُشاوَرٌ مَأمونٌ وهُوَ أنتَ ، فَأَمَّا السَّفيهُ فَلَيسَ بِأَهلٍ أن يُعَدَّ مِن ثِقاتِ أهلِ الشّورى ولا خَواصِّ أهلِ النَّجوى . وكَتَبَ في آخِرِ كِتابِهِ : طالَ البَلاءُ فَما يُرجى لَهُ آسِ بَعدَ الإلهِ سِوى رِفقِ ابنِ عَبّاسِ قولا لَهُ قَولَ مَسرورٍ بِحُظوَتِهِ لا تَنسَ حَظَّكَ إنَّ التّارِكَ النّاسي كُلٌّ لِصاحِبِهِ قِرنٌ يُعادِلُهُ اُسدٌ تُلاقي اُسودا بَينَ أخياسِ (1) اُنظُر فِدىً لَكَ نَفسي قَبلَ قاصِمَةٍ لِلظّهرِ لَيسَ لَها راقٍ ولا آسي أهلُ العِراقِ وأهلُ الشّامِ لَن يَجِدوا طَعمَ الحَياةِ لِحَربٍ ذاتِ أنفاسِ وَالسِّلمُ فيهِ بَقاءٌ لَيسَ يَجهَلُهُ إلّا الجَهولُ ومَا النَّوكى (2) كَأَكياسِ فَاصدَع بِأَمرِكَ أمرَ القَومِ إنَّهُمُ خِشاشُ طَيرٍ رَأَت صَقرا بِحَسحاسِ (3)
9 / 24جَوابُ ابنِ عَبّاسٍ عَنهُأنساب الأشراف عن عيسى بن يزيد :فَلَمّا قَرَأَ ابنُ عَبّاسٍ الكِتابَ وَالشِّعرَ أقرَأَهُما عَلِيّا ، فَقالَ عَلِيٌّ : قاتَلَ اللّهُ ابنَ العاصِ ! ما أغَرَّهُ بِكَ ؟ يَابنَ عَبّاسٍ أجِبهُ ، وَليَرُدَّ عَلَيهِ شِعرَهُ فَضلُ بنُ عَبّاسِ بنِ أبي لَهَبٍ . فَكَتَبَ إلَيهِ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ :
.
ص: 490
أمّا بَعدُ : فَإِنّي لا أعلَمُ رَجُلاً مِنَ العَرَبِ أقَلَّ حَياءً مِنكَ ! إنَّهُ مالَ بِكَ إلى مُعاوِيَةَ الهَوى ، وبِعتَهُ دينَكَ بِالثَّمَنِ اليَسيرِ ، ثُمَّ خَبَطتَ لِلنّاسِ في عَشواءَ طَخياءَ طَمَعا في هذَا المُلكِ ، فَلَمّا لَم تَرَ شَيئا أعظَمتَ الدِّماءَ إعظامَ أهلِ الدّينِ ، وأظهَرتَ فيها زَهادَةَ أهلِ الوَرَعِ ، ولا تُريدُ بِذلِكَ إلّا تَهييبَ الحَربِ وكَسرَ أهلِ العِراقِ ؛ فَإِن كُنتَ أرَدتَ اللّهَ بِذلِكَ ، فَدَع مِصرَ وَارجِع إلى بَيتِكَ ؛ فَإِنَّ هذِهِ حَربٌ لَيسَ مُعاوِيَةُ فيها كَعَلِيٍّ ؛ بَدَأَها عَلِيٌّ بِالحَقِّ وَانتَهى فيها إلَى العُذرِ ، وَابتَدَأَها مُعاوِيَةُ بِالبَغيِ فَانتَهى مِنها إلَى السَّرَفِ ، ولَيسَ أهلُ الشّامِ فيها كَأَهلِ العِراقِ ؛ بايَعَ عَلِيّا أهلُ العِراقِ وهُوَ خَيرٌ مِنهُم ، وبايَعَ أهلُ الشّامِ مُعاوِيَةَ وهُم خَيرٌ مِنهُ ، ولَستَ وأنَا فيها سَواءً . أرَدتُ اللّهَ ، وأرَدتَ مِصرَ ، فَإِن تُرِد شَرّا لا يَفُتْنا ، وإن تُرِد خَيرا لا تَسبِقنا . ثُمَّ دَعَا الفَضلَ بنَ العَبّاسِ بنِ عُتبَةَ فَقالَ : يَابنَ عَمٍّ أجِب عَمرَو بنَ العاصِ ، قالَ : يا عَمرُو حَسبُكَ مِن خَدعٍ ووَسواسِ فَاذهَب فَما لَكَ في تَركِ الهُدى آسِ إلّا بَوادِرَ طَعنٍ (1) في نُحورِكُمُ ووَشكَ ضَربٍ يُفَزّي (2) جَلدَةَ الرّاسِ هذا لَكُم عِندَنا في كُلِّ مَعرَكَةٍ حَتّى تُطيعوا عَلِيّا وَابنَ عَبّاسِ أمّا عَلِيٌّ فَإِنَّ اللّهَ فَضَّلَهُ فَضلاً لَهُ شَرَفٌ عالٍ عَلَى النّاسِ لا بارَكَ اللّهُ في مِصرَ فَقَد جَلَبَت شَرّا وحَظُّكَ مِنها حُسوَةُ الحاسي (3)
.
ص: 491
9 / 25كِتابُ مُعاوِيَةَ إلَى ابنِ عَبّاسٍوقعة صفّين :كَتَبَ مُعاوِيَةُ إلَى ابنِ عَبّاسٍ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّكُم يا مَعشَرَ بَني هاشِمٍ لَستُم إلى أحَدٍ أسرَعَ بِالمَساءَةِ مِنكُم إلى أنصارِ عُثمانَ بنِ عَفّانَ ، حَتّى إنَّكُم قَتَلتُم طَلحَةَ وَالزُّبَيرَ لِطَلَبِهِما دَمَهُ ، وَاستِعظامِهِما ما نيلَ مِنهُ ، فَإِن يَكُن ذلِكَ لِسُلطانِ بَني اُمَيَّةَ فَقَد وَلِيَها عَدِيٌّ وتَيْمٌ ، فَلَم تُنافِسوهُم ، وأظهَرتُم لَهُمُ الطّاعَةَ . وقَد وَقَعَ مِنَ الأَمرِ ما قَد تَرى ، وأكَلَت هذِهِ الحُروبُ بَعضُها مِن بَعضٍ حَتَّى استَوَينا فيها ، فَما أطمَعَكُم فينا أطَمَعَنا فيكمُ ، وما آيَسَكُم مِنّا آيَسَنا مِنكُم . وقَد رَجَونا غَيرَ الَّذي كانَ ، وخَشينا دونَ ما وَقَعَ ، ولَستُم بِمُلاقينَا اليَومَ بِأحدَّ مِن حَدِّ أمسِ ، ولا غَدا بِأَحدَّ مِن حَدِّ اليَومِ ، وقَد قَنِعنا بِما كانَ في أيدينا مِن مُلكِ الشّامِ فَاقنَعوا بِما في أيديكُم مِن مُلكِ العِراقِ ، وأبقوا عَلى قُرَيشٍ ؛ فَإِنَّما بَقِيَ مِن رِجالِها سِتَّةٌ ؛ رَجُلانِ بِالشّامِ ، ورَجُلانِ بِالعِراقِ ، ورَجُلانِ بِالحِجازِ ؛ فَأَمَّا اللَّذانِ بِالشّامِ فَأَنَا وعَمرٌو ، وأمَّا اللَّذانِ بِالعِراقِ فَأَنتَ وعَلِيٌّ ، وأمَّا اللَّذانِ بِالحِجازِ فَسَعدٌ وَابنُ عُمَرَ ، وَاثنانِ مِنَ السِّتَّةِ ناصِبانِ لَكَ ، وَاثنانِ واقِفانِ فيكَ ، وأنتَ رَأسُ هذَا الجَمعِ اليَومَ . ولَو بايَعَ لَكَ النّاسُ بَعدَ عُثمانَ كُنّا إلَيكَ أسرَعَ مِنّا إلى عَلِيٍّ (1) .
9 / 26جَوابُ ابنِ عَبّاسٍ عَنهُوقعة صفّين :لَمَّا انتَهَى الكِتابُ إلَى ابنِ عَبّاسٍ أسخَطَهُ ثُمَّ قالَ : حَتّى مَتى يَخطُبُ ابن
.
ص: 492
هِندٍ إلَيَّ عَقلي ، وحَتّى مَتى اُجَمجِمُ عَلى ما في نَفسي ؟ ! فَكَتَبَ إلَيهِ : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أتاني كِتابُكَ وقَرَأتُهُ ، فَأَمّا ما ذَكَرتَ مِن سُرعَتِنا إلَيكَ بِالمَساءَةِ في أنصارِ ابنِ عَفّانَ ، وكَراهِيَتِنا لِسُلطانِ بَني اُمَيَّةَ ، فَلَعَمري لَقَد أدرَكتَ في عُثمانَ حاجَتَكَ حينَ استَنصَرَكَ فَلَم تَنصُرهُ ، حَتّى صِرتَ إلى ما صِرتَ إلَيهِ ، وبَيني وبَينَكَ في ذلِكَ ابنُ عَمِّكَ وأخو عُثمانَ الوَليدُ بنُ عُقبَةَ . وأمّا طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ؛ فَإِنَّهُما أجلَبا عَلَيهِ ، وضَيَّقا خِناقَهُ ، ثُمَّ خَرَجا يَنقُضانِ البَيعةَ ويَطلُبانِ المُلكَ ، فَقاتَلناهُما عَلَى النَّكثِ ، وقاتَلناكَ عَلَى البَغِي . وأمّا قَولُكَ : إنَّهُ لَم يَبقَ مِن قُرَيشٍ غَيرُ سِتَّةٍ ؛ فَما أكثَرَ رِجالَها وأحسَنَ بَقِيَّتَها ، وقَد قاتَلَكَ مِن خِيارِها مَن قاتَلَكَ ، لَم يَخذُلنا إلّا مَن خَذَلَكَ . وأمّا إغراؤُكَ إيّانا بِعَدِيٍّ وتَيمٍ ؛ فَأَبو بَكرٍ وعُمَرُ خَيرٌ مِن عُثمانَ ، كَما أنَّ عُثمانَ خَيرٌ مِنكَ ، وقَد بَقِيَ لَكَ مِنّا يَومٌ يُنسيكَ ما قَبلَهُ ، ويُخافُ ما بَعدَهُ . وأمّا قَولُكَ : إنَّه لَو بايَعَ النّاسُ لي لاَاستقامَت لي ، فَقَد بايَعَ النّاسُ عَلِيّا وهُوَ خَيرٌ مِنّي فَلَم يَستَقيموا لَهُ ، وإنَّمَا الخِلافَةُ لِمَن كانَت لَهُ فِي المَشوَرَةِ . وما أنتَ يا مُعاوِيَةُ وَالخِلافَةَ ، وأنتَ طَليقٌ ؟ ! وَابنُ طَليقٍ ، وَالخِلافَةُ لِلمُهاجِرينَ الأَوَّلينَ ، ولَيسَ الطُّلَقاءُ مِنها في شَيءٍ . وَالسَّلامُ (1) .
.
ص: 493
الفصل العاشر : أشدّ الأيّام10 / 1وَقعَةُ الخَميسِكان يوم الخميس أشدّ أيّام الحرب في صفّين وأكثرها فزعا ؛ فقد كان الإمام عليه السلام يقاتل قتالاً شديدا في خضمّ تلك المعركة مضافا إلى قيادته للجيش . وكان يُهيج الجيش للقتال بما صنعه من ملاحم عظيمة مثيرة تشجّع على خوض الحرب . ولم يهدأ القتال يومئذٍ لحظةً واحدةً ، حتى صلّى الجند وهم يقاتلون . وكثر القتلى حتى صاروا كالتلّ ، وجُرح مالا يُحصى من الجيش ، وقتل الإمام عليه السلام آنذاك في يوم واحد (523) من مُنازِلي الأقران ، ومن شجعان العرب . وكان كلّما قتل يكبّر ، ومن تكبيرات الإمام عليه السلام كانوا يعرفون عدد من يُصرع من العدوّ . وقد سُمّي ذلك اليوم «وَقعَةَ الخَميسِ» أو «يَومَ الهَريرِ (1) » .
.
ص: 494
تاريخ الطبري عن زيد بن وهب :اِزدَلَفَ النّاسُ يَومَ الأَربَعاءِ ، فَاقتَتَلوا كَأَشَدِّ القِتالِ يَومَهُم حَتَّى اللَّيلِ ، لا يَنصَرِفُ بَعضُهُم عَن بَعضٍ إلّا لِلصَّلاةِ . وكَثُرَتِ القَتلى بَينَهُم ، وتَحاجَزوا عِندَ اللَّيلِ ، وكُلٌّ غَيرُ غالِبٍ ، فَأَصبَحوا مِنَ الغَدِ ، فَصَلّى بِهِم عَلِيٌّ غَداةَ الخَميسِ ، فَغَلَّسَ (1) بِالصَّلاةِ أشَدَّ التَّغليسِ (2) .
وقعة صفّين عن جندب الأزدي :لَمّا كانَ غَداةُ الخَميسِ لِسَبعٍ خَلَونَ مِن صَفَرٍ مِن سَنَةِ سَبعٍ وثَلاثينَ ، صَلّى عَلِيٌّ ، فَغَلَّسَ بِالغَداةِ ، ما رَأَيتُ عَلِيّا غَلَّسَ بِالغَداةِ أشَدَّ مِن تَغليسِهِ يَومَئِذٍ . ثُمَّ خَرَجَ بِالنّاسِ إلى أهلِ الشّامِ فَزَحَفَ إلَيهِم ، وكانَ هُوَ يَبدَؤُهُم فَيَسيرُ إلَيهِم ، فَإِذا رَأَوهُ وقَد زَحَفَ استَقبَلوهُ بِزُحوفِهِم (3) .
الفتوح_ في ذِكرِ وَقعَةِ الخَميسِ _: دَعا عَلِيٌّ رضى الله عنه بِدِرعِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَلَبِسَهُ ، وبِسَيفِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَتَقَلَّدَهُ ، وبِعِمامَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَاعتَجَرَ بِها ، ثُمَّ دَعا بِفَرَسِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَاستَوى عَلَيهِ وجَعَلَ يَقولُ : أيُّهَا النّاسُ ! مَن يَبِع نَفسَهُ يَربَح هذَا اليَومَ ؛ فَإِنَّهُ يَومٌ لَهُ ما بَعدَهُ مِنَ الأَيّامِ ، أما وَاللّهِ ! أن لَولا أن تُعَطَّلَ الحُدودُ ، وتَبطُلَ الحُقوقُ ، ويَظهَرَ الظّالِمونَ ، وتَفوزَ كَلِمَةُ الشَّيطانِ ، مَا اختَرنا وُرودَ المَنايا عَلى خَفضِ العَيشِ وطيِبِه . ألا إنَّ خِضابَ النِّساءِ الحِنّاءُ ، وخِضابَ الرِّجالِ الدِّماءُ ، وَالصَّبرُ خَيرُ عَواقِبِ الاُمورِ .
.
ص: 495
ألا إنَّها إحَنٌ بَدرِيَّةٌ ، وضَغائِنُ اُحُدِيَّةٌ ، وأحقادٌ جاهِلِيَّةٌ ، وَثَبَ بِها مُعاوِيةُ حينَ الغَفلَةِ لِيَذكُرَ بِها ثاراتِ بَني عَبدِ شَمسٍ : «فَقَ_تِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لآَ أَيْمَ_نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ» (1)(2) .
وقعة صفّين عن القعقاع بن الأبرد الطهوي :وَاللّهِ ، إنّي لَواقِفٌ قَريبا مِن عَلِيٍّ بِصِفّينَ يَومَ وَقعَةِ الخَميسِ ، وقَدِ التَقَت مَذحِجٌ _ وكانوا في مَيمَنَةِ عَلِيٍّ _ وعَكٌّ وجُذامٌ ولَخمٌ وَالأَشعَرِيّونَ ، وكانوا مُستَبصِرينَ في قِتالِ عَلِيٍّ . ولَقَد _ وَاللّهِ _ رَأَيتُ ذلِكَ اليَومَ مِن قِتالِهِم ، وسَمِعتُ مِن وَقعِ السُّيوفِ عَلَى الرُّؤوسِ ، وخَبطِ الخُيولِ بِحَوافِرِها فِي الأَرضِ وفِي القَتلى _ مَا الجِبالُ تَهِدُّ ، ولَا الصَّواعِقُ تَصعَقُ بِأَعظَمَ هَولاً فِي الصُّدورِ مِن ذلِكَ الصَّوتِ . نَظَرتُ إلى عَلِيٍّ وهُوَ قائِمٌ فَدَنَوتُ مِنهُ ، فَسَمِعتُهُ يَقولُ : «لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ ، وَالمُستَعانُ اللّهُ» . ثُمَّ نَهَضَ حينَ قامَ قائِمُ الظَّهيرَةِ ، وهُوَ يَقولُ : «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَ_تِحِينَ» (3) . وحَمَلَ عَلَى النّاسِ بِنَفسِهِ ، وسَيفُهُ مُجَرَّدٌ بِيَدِهِ ، فَلا وَاللّهِ ما حَجَزَ بَينَنا إلَا اللّهُ رَبُّ العالَمينَ ، في قَريبٍ مِن ثُلُثٍ اللَّيلِ ، وقُتِلَت يَومَئِذٍ أعلامُ العَرَبِ ، وكانَ في رأسِ عَلِيٍّ ثَلاثُ ضَرَباتٍ ، وفي وَجهِهِ ضَربَتانِ . نصر : وقَد قيلَ : إنَّ عَلِيّا لَم يُجرَح قَطُّ . وقُتِلَ في هذَا اليَومِ خُزَيمَةُ بنُ ثابِتٍ ذُو الشَّهادَتَينِ ، وقُتِلَ مِن أهلِ الشّامِ عَبدُ اللّه
.
ص: 496
بنُ ذِي الكَلاعِ الحِميَرِيُّ (1) .
الأخبار الطوال :حَمَلَ عَلِيٌّ بِنَفسِهِ عَلى أهلِ الشّامِ حَتّى غابَ فيهِم ، فَانصَرَفَ مُخَضَّبا بِالدِّماءِ ، فَلَم يَزالوا كَذلِكَ يَومَهُم كُلَّهُ وَاللَّيلَ حَتّى مَضى ثُلُثُهُ ، وجُرِحَ عَلِيٌّ خَمسَ جِراحاتٍ ، ثَلاثٌ في رَأسِهِ ، وَاثنَتانِ في وَجهِهِ (2) .
10 / 2لَيلَةُ الهَريرِمروج الذهب :كانَت لَيلَةُ الجُمُعَةِ _ وهِيَ لَيلَةُ الهَريرِ _ فَكانَ جُملَةُ مَن قَتَلَ عَلِيٌّ بِكَفِّهِ في يَومِهِ ولَيلَتِهِ خَمسَمِئَةٍ وثَلاثَةً وعِشرينَ رَجُلاً، أكثَرُهُم فِي اليَومِ ، وذلِكَ أنَّهُ كانَ إذا قَتَلَ رَجُلاً كَبَّرَ إذا ضَرَبَ ، ولَم يَكُن يَضرِبُ إلّا قَتَلَ . ذَكَرَ ذلِكَ عَنهُ مَن كانَ يَليهِ في حَربِهِ ولا يُفارِقُهُ مِن وَلَدِهِ وغَيرِهِم (3) .
الفتوح :قامَتِ الفُرسانُ فِي الرُّكُبِ ، فَاصطَفَقوا بِالسُّيوفِ ، وَارتَفَعَ الرَّهجُ وثارَ القَتامُ (4) ، وتَضَعضَعَتِ الرّاياتُ ، وحُطَّتِ الأَلوِيَةُ ، وغابَتِ الشَّمسُ ، وذَهَبَت مَواقيتُ الصَّلاةِ ، حَتّى ماكانَ فِي الفَريقَينِ أحَدٌ يُصَلّي ذلِكَ اليَومَ ولا سَجَدَ للّهِِ سَجدَةً ، ولا كانَتِ الصَّلاةُ إلّا بِالتَّكبيرِ وَالإِيماءِ نَحوَ القِبلَةِ . قالَ : وهَجَمَ عَلَيهِمُ اللَّيلُ ، وَاشتَدَّتِ الحَربُ ، وهذِهِ لَيلَةُ الهَريرِ ، فَجَعَلَ بَعضُهُم يَهِرُّ عَلى بَعضٍ ، ويَعتَنِقُ بَعضُهُم بَعضا ، ويُكرِمُ بَعضُهُم بَعضا (5) .
.
ص: 497
قالَ : وجَعَلَ عَلِيٌّ رضى الله عنه يَقِفُ ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ ، ويَرفَعُ رَأسَهُ إلَى السَّماءِ وهُوَ يَقولُ : «اللّهُمَّ إلَيكَ نُقِلَتِ الأَقدامُ ، وإلَيكَ أفضَتِ القُلوبُ ، ورُفِعَتِ الأَيدي ، ومُدَّتِ الأَعناقُ ، وطُلِبَتِ الحَوائِجُ ، وشَخَصَتِ الأَبصارُ . اللّهُمَّ «افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَ_تِحِينَ» ثُمَّ إنَّهُ حَمَلَ في سَوادِ اللَّيلِ ، وحَمَلَتِ النّاسُ مَعَهُ ، فَكُلَّما قَتَلَ بِيَدِهِ رَجُلاً مِن أهلِ الشّامِ كَبَّر تَكبيرَةً حَتّى اُحصِيَ لَهُ كَذا كَذا تَكبيرَةً . قالَ أبو مُحَمَّدٍ (ابنُ أعثَمَ) : اُحصِيَ لَهُ خَمسُمِئَةِ تَكبيرَةٍ وثَلاثٌ وعِشرونَ تَكبيرَةً ، في كُلِّ تَكبيرَةٍ لَهُ قَتيلٌ . قالَ : وكانَ إذا عَلا قَدَّ ، وإذا وَسَطَ قَطَّ (1)(2) .
تاريخ الطبري عن أبي مخنف :فَاقتَتَلَ النّاسُ تِلكَ اللَّيلَةَ كُلَّها حَتَّى الصَّباحِ ؛ وهِيَ لَيلَةُ الهَريرِ ، حَتّى تَقَصَّفَتِ الرِّماحُ ، ونَفِدَ النَّبلُ ، وصارَ النّاسُ إلَى السُّيوفِ . وأخَذَ عَلِيٌّ يَسيرُ فيما بَينَ المَيمَنَةِ وَالمَيسَرَةِ ، ويَأمُرُ كُلَّ كَتيبَةٍ مِنَ القُرّاءِ أن تَقَدَّمَ عَلَى الَّتي تَليها ، فَلَم يَزَل يَفعَلُ ذلِكَ بِالنّاسِ ، ويَقومُ بِهِم حَتّى أصبَحَ وَالمَعرَكَةُ كُلُّها خَلفَ ظَهرِهِ ، وَالأَشتَرُ في مَيمَنَةِ النّاسِ ، وَابنُ عَبّاسٍ فِي المَيَسَرةِ ، وعَلِيٌّ فِي القَلبِ ، وَالنّاسُ يَقتَتِلونَ مِن كُلِّ جانِبٍ ، وذلِكَ يَومُ الجُمُعَةِ ، وأخَذَ الأَشتَرُ يَزحَفُ بِالمَيمَنَةِ ويُقاتِلُ فيها ، وكانَ قَد تَوَلّاها عَشِيَّةَ الخَميسِ ولَيلَةَ الجُمُعَةِ إلَى ارتِفاعِ الضُّحى ، وأخَذَ يَقولُ لِأَصحابِهِ : اِزحَفوا قِيدَ (3) هذَا الرُّمحِ ، وهُوَ يَزحَفُ بِهِم نَحوَ أهلِ الشّامِ ، فَإِذا فَعَلوا قالَ : اِزحَفوا قادَ هذَا القَوسِ ، فَإِذا فَعَلوا سَأَلَهُم مِثلَ ذلِكَ ، حَتّى مَلَّ أكثَرُ النّاسِ الإِقدامَ .
.
ص: 498
فَلَمّا رَأى ذلِكَ الأَشتَرُ قالَ : اُعيذُكُم بِاللّهِ أن تَرضَعُوا الغَنَمَ سائِرَ اليَومِ ، ثُمَّ دَعا بِفَرَسِهِ ، وتَرَكَ رايَتَهُ مَعَ حَيّانَ بنِ هَوذَةَ النَّخَعِيِّ ، وخَرَجَ يَسيرُ فِي الكَتائِبِ ويَقولُ : مَن يَشتَري نَفسَهُ مِنَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ويُقاتِلُ مَعَ الأَشتَرِ حَتّى يَظهَرَ أو يَلحَقَ بِاللّهِ ! فَلا يَزالُ رَجُلٌ مِنَ النّاسِ قَد خَرَجَ إلَيهِ ، وحَيّانَ بنِ هَوذَةَ (1) .
وقعة صفّين عن زياد بن النضر الحارثي :شَهِدتُ مَعَ عَلِيٍّ بِصِفّينَ ، فَاقتَتَلنا ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ ، حَتّى تَكَسَّرَتِ الرِّماحُ ، ونَفِدَتِ السِّهامُ ، ثُمِّ صِرنا إلَى المُسايَفَةِ ؛ فَاجتَلَدنا بِها إلى نِصفِ اللَّيلِ ، حَتّى صِرنا نَحنُ وأهلُ الشّامِ فِي اليَومِ الثّالِثِ يُعانِقُ بَعضُنا بَعضا . وقَد قاتَلتُ لَيلَتَئِذٍ بِجَميعِ السِّلاحِ ؛ فَلَم يَبقَ شَيءٌ مِنَ السِّلاحِ إلّا قاتَلتُ بِهِ ، حَتّى تَحاثَينا بِالتُّرابِ ، وتَكادَمنا بِالأَفواهِ ، حَتّى صِرنا قِياما يَنظُرُ بَعضُنا إلى بَعضٍ ، ما يَستَطيعُ واحِدٌ مِنَ الفَريقَينِ يَنهَضُ إلى صاحِبِهِ ولا يُقاتِلُ . فَلَمّا كانَ نِصفُ اللَّيلِ مِنَ اللَّيلَةِ الثّالِثَةِ انحازَ مُعاوِيَةُ وخَيلُهُ مِنَ الصَّفِّ ، وغَلَبَ عَلِيٌّ عليه السلام عَلَى القَتلى في تِلكَ اللَّيلَةِ ، وأقبَلَ عَلى أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وأصحابِهِ فَدَفَنَهُم ، وقَد قُتِلَ كَثيرٌ مِنهُم ، وقُتِلَ مِن أصحابِ مُعاوِيَةَ أكثَرُ (2) .
الصراط المستقيم عن عمرو بن العاص_ يَومَ الهَريرِ _: للّهِِ دَرُّ ابنِ أبي طالِبٍ ! ما كانَ أكثَرَهُ عِندَ الحُروبِ ! ما آنَستُ أن أسمَعَ صَوتَهُ في أوَّلِ النّاسِ إلّا وسَمِعتُهُ في آخِرِهِم ، ولا فِي المَيمَنَةِ إلّا وسَمِعتُهُ فِي المَيسَرَةِ (3) .
.
ص: 499
10 / 3دُعاءُ الإِمامِ لَيلَةَ الهَريرِ ويَومَهُمُهَج الدعوات عن ابن عبّاس :قُلتُ لِأَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام لَيلَةَ صَفّينَ : أ ما تَرَى الأَعداءَ قَد أحدَقوا بِنا ؟ فَقالَ : وقَد راعَكَ هذا ؟ قُلتُ : نَعَم . فَقالَ : اللّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ أن اُضامَ في سلُطانِكَ ، اللّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ أن أفتَقِرَ في غِناكَ ، اللّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ أن اُضَيَّعَ في سَلامَتِكَ ، اللّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ أن اُغلَبَ وَالأَمرُ إلَيكَ (1) .
وقعة صفّين عن جابر بن عمير الأنصاري :وَاللّهِ لَكَأَنّي أسمَعُ عَلِيّا يَومَ الهَريرِ حينَ سارَ أهلَ الشّامِ وذلِكَ بَعدَما طَحَنَت رَحى مَذحِجٍ فيما بَينَها وبَينَ عَكٍّ ولَخمٍ وجُذامٍ وَالأَشعَرِيّينَ بِأَمرٍ عَظيمٍ تَشيبُ مِنهُ النَّواصي مِن حينَ استَقَلَّتِ الشَّمسُ حَتّى قامَ قائِمُ الظَّهيرَةِ ، ثُمَّ إنَّ عَلِيّا قالَ : حَتّى مَتى نُخَلّي بَينَ هذَينِ الحَيَّينِ وقَد فَنِيا وأنتُم وُقوفٌ تَنظُرونَ إلَيهِم ؟ أ ما تَخافونَ مَقتَ اللّهِ ؟ ثُمَّ انفَتَلَ إلَى القِبلَةِ ورَفَعَ يَدَيهِ إلَى اللّهِ ، ثُمَّ نادى : يا اللّهُ يا رَحمنُ يا رَحيمُ يا واحِدُ يا أحَدُ يا صَمَدُ ، يا اللّهُ يا إلهَ مُحَمَّدٍ ، اللّهُمَّ إلَيكَ نُقِلَتِ الأَقدامُ ، وأفضَتِ القُلوبُ ، ورُفِعَتِ الأَيدي ، وَامتَدَّتِ الأَعناقُ ، وشَخَصَتِ الأَبصارُ ، وطُلِبَتِ الحَوائِجُ ، اللّهُمَّ إنّا نَشكو إلَيكَ غَيبَةَ نَبِيِّنا صلى الله عليه و آله ، وكَثرَةَ عَدُوِّنا ، وتَشَتُّتَ أهوائِنا ، «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَ_تِحِينَ» (2) سيروا عَلى بَرَكَةِ اللّهِ ، ثُمَّ نادى : لا إلهَ إلَا اللّهُ وَاللّهُ أكَبَرُ كَلِمَةُ التَّقوى (3) .
الإمام الصادق عليه السلام :دَعا أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يَومَ الهَريرِ حينَ اشتَدَّ عَلى أولِيائِهِ الأَمرُ دُعاء
.
ص: 500
الكَربِ ؛ مَن دَعا بِهِ وهُوَ في أمرٍ قَد كَرَبَهُ وغَمَّهُ نَجّاهُ اللّهُ مِنهُ وهُوَ : «اللّهُمَّ لا تُحَبِّب إلَيَّ ما أبغَضتَ ، ولا تُبَغِّض إلَيَّ ما أحبَبتَ ، اللّهُمَّ إنّي أعوذُ بِكَ أن أرضى سَخَطَكَ ، أو أسخَطَ رِضاكَ ، أو أرُدَّ قَضاءَكَ ، أو أعدُوَ قَولَكَ ، أو اُناصِحَ أعداءَكَ ، أو أعدُوَ أمرَكَ فيهِم . اللّهُمَّ ما كانَ مَن عَمَلٍ أو قَولٍ يُقَرِّبُني مِن رِضوانِكَ ، ويُباعِدُني مِن سَخَطِكَ ، فَصَبِّرني لَهُ ، وَاحمِلني عَلَيهِ يا أرحَمَ الرّاحِمينَ . اللّهُمَّ إنّي أسأَلُكَ لِسانا ذاكِرا ، وقَلبا شاكِرا ، ويَقينا صادِقا ، وإيمانا خالِصا وجَسَدا مُتَواضِعا ، وَارزُقني مِنكَ حُبّا ، وأَدخِل قَلبي مِنكَ رُعبا ، اللّهُمَّ فَإِن تَرحَمني فَقَد حَسُنَ ظَنّي بِكَ ، وإن تُعَذِّبني فَبِظُلمي وجَوري وجُرمي وإسرافي عَلى نَفسي ؛ فَلا عُذرَ لي إنِ اعتَذَرتُ ، ولا مُكافاةَ أحتَسِبُ بِها . اللّهُمَّ إذا حَضَرَتِ الآجالُ ، ونَفِدَتِ الأَيّامُ ؛ وكانَ لابُدَّ مِن لِقائِكَ ؛ فَأَوجِب لي مِنَ الجَنَّةِ مَنزِلاً يَغبِطُني بِهِ الأَوَّلونَ وَالآخِرونَ ، لا حَسرَةَ بَعدَها ، ولا رَفيقَ بَعدَ رَفيقِها ، في أكرَمِها مَنزِلاً . اللّهُمَّ ألبِسني خُشوعَ الإِيمانِ بِالعِزِّ ، قَبلَ خُشوعِ الذُّلِّ فِي النّارِ ، اُثني عَلَيكَ رَبِّ أحسَنَ الثَّناءِ ؛ لِأَنَّ بَلاءَكَ عِندي أحسَنُ البَلاءِ . اللّهُمَّ فَأَذِقني مِن عَونِكَ وتَأييدِكَ وتَوفيقِكَ ورِفدِكَ ، وَارزُقني شَوقا إلى لِقائِكَ ، ونَصرا في نَصرِكَ حَتّى أجِدَ حَلاوَةَ ذلِكَ في قَلبي ، وَاعزِم لي عَلى أرشَدِ اُموري ؛ فَقَد تَرى مَوقِفي ومَوقِفَ أصحابي ، ولا يَخفى عَلَيكَ شَيءٌ مِن أمري . اللّهُمَّ إنّي أسأَلُكَ النَّصرَ الَّذي نَصَرتَ بِهِ رَسولَكَ ، وفَرَّقتَ بِهِ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ ، حَتّى أقَمتَ بِهِ دينَكَ ، وأفلَجتَ بِهِ حُجَّتَكَ ، يا مَن هُوَ لي في كُلِّ مَقامٍ (1) .
.
ص: 501
الفصل الحادي عشر : توقّف الحرب11 / 1مَكرُ اللَّيلِوقعة صفّين عن عمّار بن ربيعة :إنّ عَلِيّا قامَ خَطيبا ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! قَدَ بَلَغَ بِكُمُ الأَمرُ وبِعَدُوِّكُم ما قَد رَأَيتُم ، ولَم يَبقَ مِنهُم إلّا آخِرُ نفَسٍ ، وإنَّ الاُمورَ إذا أقبَلَتِ اعتُبِرَ آخِرُها بِأَوَّلِها ، وقَد صَبَرَ لَكُمُ القَومُ عَلى غَيرِ دينٍ حَتّى بَلَغنا مِنهُم ما بَلَغنا ، وأنَا غادٍ عَلَيهِم بِالغَداةِ اُحاكِمُهُم إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ . فَبَلَغَ ذلِكَ مُعاوِيَةَ ، فَدَعاَعمرَو بنَ العاصِ ، فَقالَ : يا عَمرُو ! إنَّما هِيَ اللَّيلَةُ حَتّى يَغدُوَ عَلِيٌّ عَلَينا بِالفَيصَلِ ، فَما تَرى ؟ قالَ : إنَّ رِجالَكَ لا يَقومونَ لِرِجالِهِ ، ولَستَ مِثلَهُ ، هُوَ يُقاتِلُكَ عَلى أمرٍ ، وأنتَ تُقاتِلُهُ عَلى غَيرِهِ . أنتَ تُريدُ البَقاءَ وهُوَ يُريدُ الفَناءَ ، وأهلُ العِراقِ يُخافونَ مِنكَ إن ظَفِرتَ بِهِم ، وأهلُ الشّامِ لا يَخافونَ عَلِيّا إن ظَفِرَ بِهِم . ولكِن ألقِ إلَيهِم أمرا إن قَبِلوهُ اختَلَفوا ، وإن رَدّوهُ اختَلَفوا ؛ اُدعُهُم إلى كِتابِ اللّهِ حَكَما فيما بَينَكَ وبَينَهُم ؛ فَإِنَّكَ بالِغٌ بِهِ حاجَتَكَ فِي القَومِ ؛ فَإِنّي لَم أزَل اُؤَخِّرُ هذَا الأَمرَ لِوَقتِ حاجَتِكَ إلَيهِ .
.
ص: 502
فَعَرَفَ ذلِكَ مُعاوِيَةُ ، فَقالَ : صَدَقتَ (1) .
وقعة صفّين عن صعصعة :قامَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ الكِندِيُّ لَيلةَ الهَريرِ في أصحابِهِ مِن كِندَةَ فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ ، أحمَدُهُ ، وأستَعينُهُ ، واُؤمِنُ بِهِ ، وأتَوَكَّلُ عَلَيهِ ، وأستَنصِرُهُ ، وأستَغفِرُهُ ، وأستَخيرُهُ ، وأستَهديهِ . . . قَد رَأَيتُم _ يا مَعشَرَ المُسلِمينَ _ ما قَد كانَ في يَومِكُم هذَا الماضي ، وما قَد فَنِيَ فيهِ مِنَ العَرَبِ ، فَوَاللّهِ لَقَد بَلَغتُ مِنَ السِّنَّ ما شاءَ اللّهُأن أبلُغَ ، فَما رَأَيتُ مِثلَ هذَا اليَومِ قَطُّ . ألا فَليُبَلِّغِ الشّاهِدُ الغائِبَ ، إنّا إن نَحنُ تَوَاقَفنا غَدا إنَّهُ لَفَناءُ العَرَبِ ، وضَيعَةُ الحُرُماتِ ، أما وَاللّهِ ما أقولُ هذِهِ المَقالَةَ جَزَعا مِنَ الحَتفِ ، ولكِنّي رَجُلٌ مُسِنٌّ أخافُ عَلَى النِّساءِ وَالذَّرارِيِّ غَدا إذا فَنينا . اللّهُمَّ ! إنَّكَ تَعلَمُ أنّي قَد نَظَرتُ لِقَومي ولِأَهلِ ديني فَلَم آلُ ، وما تَوفيقي إلّا بِاللّهِ ، عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وإلَيهِ اُنيبُ ، والرّأيُ يُخطِئُ ويُصيبُ ، وإذا قَضَى اللّهُ أمرا أمضاهُ عَلى ما أحَبَّ العِبادُ أو كَرِهوا ، أقولُ قَولي هذا ، وأستَغفِرُ اللّهَ العَظيمَ لي ولَكُم . قالَ صَعصَعَةُ : فَانطَلَقَت عُيونُ مُعاوِيَةَ إلَيهِ بِخُطبَةِ الأَشعَثِ فَقالَ : أصابَ ورَبِّ الكَعبَةِ ! لَئِن نَحنُ التَقَينا غَدا لَتَميلَنَّ الرّومُ عَلى ذَرارِيِّنا ونِسائِنا ، ولَتَميلَنَّ أهلُ فارِسٍ عَلى نِساءِ أهلِ العِراقِ وذَرارِيِّهِم ، وإنَّما يُبصِرُ هذا ذَوُو الأَحلامِ وَالنُّهى . اِربِطُوا المَصاحِفَ عَلى أطرافِ القَنا . قالَ صَعصَعَةُ : فَثارَ أهلُ الشّامِ فَنادَوا في سَوادِ اللَّيلِ : يا أهلَ العِراقِ ! مَن لِذَرارِيِّنا إن قَتَلتُمونا ، ومَن لِذَرارِيِّكُم إن قَتَلناكُم ؟ اللّهَ اللّهَ فِي البَقِيَّةِ (2) .
.
ص: 503
11 / 2دُعاءُ الإِمامِ قَبلَ رَفعِ المَصاحِفِمهج الدعوات عن سعد بن عبد اللّه_ : إنَّ هذَا الدُّعاءَ دَعا بِهِ عَلِيٌّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ قَبلَ رَفعِ المَصاحِفِ الشَّريفَةِ _، ثُمَّ قالَ ما مَعناهُ : _ إنَّ إبليسَ صَرَخَ صَرخَةً سَمِعَها بَعضُ العَسكَرِ يُشيرُ عَلى مُعاوِيَةَ وأصحابِهِ بِرَفعِ المَصاحِفِ الجَليلَةِ لِلحيلَةِ ، فَأَجابَهُ الخَوارِجُ لِمُعاوِيَةَ إلى شُبُهاتِهِ ، فَرَفَعوها فَاختَلَفَ أصحابُ أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ عليه السلام كَمَا اختَلَفوا في طاعَةِ رَسولِ اللّه صلى الله عليه و آله في حَياتِه، فَدَعا عليه السلام ، فَقالَ : اللّهُمَّ إنّي أسأَلُكَ العافِيَةَ مِن جَهدِ البَلاءِ ، ومِن شَماتَةِ الأَعداءِ . اللّهُمَّ اغفِر لي ذَنبي ، وزَكِّ عَمَلي ، وَاغسِل خَطايايَ ؛ فَإِنّي ضَعيفٌ إلّا ما قَوَّيتَ ، وَاقسِم لي حِلما تَسُدُّ بِهِ بابَ الجَهلِ ، وعِلما تُفَرِّجُ بِهِ الجَهَلاتِ ، ويَقينا تُذِهبُ بِهِ الشَّكَّ عَنّي ، وفَهما تُخرِجُني بِهِ مِنَ الفِتَنِ المُعضِلاتِ ، ونورا أمشي بِهِ فِي النّاسِ ، وأهتَدي بِهِ فِي الظُّلُماتِ . اللّهُمَّ اصلِح لي سَمعي وبَصَري وشَعري وبَشَري وقَلبي صَلاحا باقِيا تَصلُحُ بِها ما بَقِيَ من جَسَدي ، أسأَلُكَ الرّاحَةَ عِندَ المَوتِ ، وَالعَفوَ عِندَ الحِسابِ . اللّهُمَّ إنّي أسأَلُكَ أيَّ عَمَلٍ كانَ أحَبَّ إلَيكَ وأقرَبَ لََديكَ ، أن تَستَعمِلَني فيهِ أبَدا ، ثُمَّ لَقِّني أشرَفَ الأَعمالِ عِندَكَ ، وآتِني فيهِ قُوَّةً وصِدقا وجِدّا وعَزما مِنكَ ونَشاطا ، ثُمَّ اجعَلني أعمَلُ ابتِغاءَ وَجهِكَ ، ومَعاشَةً في ما آتَيتَ صالِحي عِبادِكَ ، ثُمَّ اجعَلني لا أشتَري بِهِ ثَمَنا قَليلاً ، ولا أبتَغي بِهِ بَدَلاً ، ولا تُغَيِّرهُ في سَرّاءَ ولا ضَرّاءَ ولا كَسَلاً ولا نِسيانا ، ولا رِياءً ، ولا سُمعَةً ، حَتّى تَتَوَفّاني عَلَيهِ ، وَارزُقني أشرَفَ القَتلِ في سَبيلِكَ ، أنصُرُكَ وأنصُرُ رَسولَكَ ، أشتَرِى ¨
.
ص: 504
الحَياةَ الباقِيَةَ بِالدُّنيا ، وأغنِني بِمَرضاةٍ مِن عِندِكَ . . . (1) .
11 / 3رَفعُ المَصاحِفِتاريخ الطبري عن أبي مخنف :لَمّا رَأى عَمرُو بنُ العاصِ أنَّ أمرَ أهلِ العِراقِ قَدِ اشتَدَّ ، وخافَ في ذلِكَ الهَلاكَ ، قالَ لِمُعاوِيَةَ : هَل لَكَ في أمرٍ أعرِضُهُ عَلَيكَ لا يَزيدُنا إلَا اجتِماعا ، ولا يَزيدُهُم إلّا فُرقَةً ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : نَرفَعُ المَصاحِفَ ثُمَّ نَقولُ : ما فيها حَكَمٌ بَينَنا وبَينَكُم ، فَإِن أبى بَعضُهُم أن يَقبَلَها وَجَدتُ فيهِم مَن يَقولُ : بَلى يَنبَغي أن نَقبَلَ ، فَتَكونُ فُرقَةٌ تَقَعُ بَينَهُم ، وإن قالوا : بَلى نَقبَلُ ما فيها ، رَفَعنا هذَا القِتالَ عَنّا وهذِهِ الحَربَ إلى أجَلٍ أو إلى حينٍ . فَرَفَعُوا المَصاحِفَ بِالرِّماحِ وقالوا : هذا كِتابُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ بَينَنا وبَينَكُم ، مَن لِثُغورِ أهلِ الشّامِ بَعدَ أهلِ الشّامِ ؟ ومَن لِثُغورِ أهلِ العِراقِ بَعدَ أهلِ العِراقِ ! فَلَمّا رَأَى النّاسُ المَصاحِفَ قَد رُفِعَت ، قالوا : نُجيبُ إلى كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ونُنيبُ إلَيهِ (2) .
تاريخ اليعقوبي :زَحَفَ أصحابُ عَلِيٍّ وظَهَروا عَلى أصحابِ مُعاوِيَةَ ظُهورا شَديدا ، حَتّى لَصِقوا بِهِ ، فَدَعا مُعاوِيَةُ بِفَرَسِهِ لِيَنجُوَ عَلَيهِ . فَقالَ لَهُ عَمرُو بنُ العاصِ : إلى أينَ ؟ قالَ : قَد نَزَلَ ما تَرى ، فَما عِندَكَ ؟
.
ص: 505
قالَ : لَم يَبقَ إلّا حيلَةٌ واحِدَةٌ ؛ أن تَرفَعَ المَصاحِفَ ، فَتَدعُوَهُم إلى ما فيها ، فَتَستَكِفَّهُم ، وتُكَسِّرَ مِن حَدِّهِم ، وتَفُتَّ في أعضادِهِم . قالَ مُعاوِيَةُ : فَشَأنَكَ ! فَرَفَعُوا المَصاحِفَ ، ودَعَوهُم إلَى التَّحَكُّمِ بِما فيها ، وقالوا : نَدعوكُم إلى كِتابِ اللّهِ . فَقالَ عَلِيٌّ : إنَّها مَكيدَةٌ ، ولَيسوا بِأَصحابِ قُرآنٍ . فَاعتَرَضَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ الكِندِيُّ _ وقَد كانَ مُعاوِيَةُ استَمالَهُ ، وكَتَبَ إلَيهِ ودَعاهُ إلى نَفسِهِ _ فَقالَ : قَد دَعَا القَومُ إلَى الحَقِّ ! فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : إنَّهُم إنَّما كادوكُم ، وأرادوا صَرفَكُم عَنهُم . فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ ، لَئِن لَم تُجِبهُمُ انصَرَفتُ عَنكَ . ومالَتِ اليَمانِيَّةُ مَعَ الأَشعَثِ ، فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ ، لَتُجيبَنَّهُم إلى ما دَعَوا إلَيهِ ، أو لَنَدفَعَنَّكَ إلَيهِم بِرُمَّتِكَ (1) .
مروج الذهب_ في ذِكرِ ما جَرى يَومَ الهَريرِ _: وكانَ الأَشتَرُ في هذَا اليَومِ _ وهُوَ يَومُ الجُمُعَةِ _ عَلى مَيمَنَةِ عَلِيٍّ ، وقَد أشرَفَ عَلَى الفَتحِ ، ونادَت مَشيَخَةُ أهلِ الشّامِ : يا مَعشَرَ العَرَبِ ! اللّهَ اللّهَ فِي الحُرُماتِ وَالنِّساءِ وَالبَناتِ . وقالَ مُعاوِيَةُ : هَلُمَّ مُخَبَّآتِكَ يَابنَ العاصِ ؛ فَقَد هَلَكنا ، وتَذَكَّر وِلايَةَ مِصرَ ، فَقالَ عَمرٌو : أيُّها النّاسُ ! مَن كانَ مَعَهُ مُصحَفٌ فَليَرفَعهُ عَلى رُمحِهِ . فَكَثُرَ فِي الجَيشِ رَفعُ المَصاحِفِ ، وَارتَفَعَتِ الضَّجَّةُ ، ونادَوا : كِتابُ اللّهِ بَينَنا وبَينَكُم ؛ مَن لِثُغورِ الشّامِ بَعدَ أهلِ الشّامِ ؟ ومَن لِثُغورِ أهلِ العِراقِ بَعدَ أهلِ العِراقِ ؟ ومنَ لِجِهادِ الرّومِ ؟ ومَن لِلتُّركِ ؟ ومَن لِلكُفّارِ ؟
.
ص: 506
ورُفِعَ في عَسكَرِ مُعاوِيَةَ نَحوٌ مِن خَمسِمِئَةِ مُصحَفٍ . وفي ذلِكَ يَقولُ النَّجاشِيُّ بنُ الحارِثِ : فَأَصبَحَ أهلُ الشّامِ قَد رَفَعُوا القَنا عَلَيها كِتابُ اللّهِ خَيرُ قُرانِ ونادَوا عَلِيّا يَا ابنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ أما تَتَّقي أن يَهلِكَ الثَّقَلانِ فَلَمّا رَأى كَثيرٌ مِن أهلِ العِراقِ ذلِكَ قالوا : نُجيبُ إلى كِتابِ اللّهِ ونُنيبُ إلَيهِ ، وأحَبَّ القَومُ المُوادَعَةَ ، وقيلَ لِعَلِيٍّ : قَد أعطاكَ مُعاوِيَةُ الحَقَّ ، ودَعاكَ إلى كِتابِ اللّهِ فَاقبَل مِنهُ ، وكانَ أشَدَّهُم في ذلِكَ اليَومِ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ (1) .
وقعة صفّين عن تميم بن حذيم :لَمّا أصبَحنا مِن لَيلَةِ الهَريرِ نَظَرنا ، فَإِذا أشباهُ الرّاياتِ أمامَ صَفِّ أهلِ الشّامِ وَسطَ الفَيلَقِ من حِيالِ مَوقِفِ مُعاوِيَةَ ، فَلَمّا أسفَرنا إذا هِيَ المُصاحِفُ قَد رُبِطَت عَلى أطرافِ الرِّماحِ ، وهِيَ عِظامُ مَصاحِفِ العَسكَرِ ، وقَد شَدّوا ثَلاثَةَ أرماحٍ جَميعا وقَد رَبَطوا عَلَيها مُصحَفَ المَسجِدِ الأَعظَمِ يُمسِكُهُ عَشَرَةُ رَهطٍ . وقالَ أبو جَعفَرٍ وأبو الطُّفَيلِ : اِستَقبَلوا عَلِيّا بِمِئَةِ مُصحَفٍ ، ووَضَعوا في كُلِّ مُجَنِّبَةٍ (2) مِئَتَي مُصحَفٍ ، وكانَ جَميعُها خَمسَمِئَةِ مُصحَفٍ . قالَ أبو جَعفَرٍ : ثُمَّ قامَ الطُّفَيلُ بنُ أدهَمَ حِيالَ عَلِيٍّ عليه السلام ، وقامَ أبو شُرَيحٍ الجُذامِيُّ حِيالَ المَيمَنَةِ ، وقامَ وَرقاءُ بنُ المُعَمَّرِ حِيالَ المَيسَرَةِ ، ثُمَّ نادَوا : يا مَعشَرَ العَرَبِ ! اللّهَ اللّهَ في نِسائِكُم وبَناتِكُم ، فَمَن لِلرّومِ وَالأَتراكِ وأهلِ فارِسٍ غَدا إذا فَنيتُم ، اللّهَ اللّهَ في دينِكُم ، هذا كِتابُ اللّهِ بَينَنا وبَينَكُم . فَقالَ عَلِيٌّ : اللّهُمَّ إنَّكَ تَعلَمُ أنَّهُم مَا الكِتابَ يُريدونَ ، فَاحكُم بَينَنا وبَينَهُم ، إنَّكَ أنتَ الحَكَمُ الحَقُّ المُبينُ .
.
ص: 507
فَاختَلَفَ أصحابُ عَلِيٍّ فِي الرَّأيِ ، فَطائِفَةٌ قالَت : القِتالُ ،وطائِفَةٌ قالَت : المُحاكَمَةُ إلَى الكِتابِ ، ولا يَحِلُّ لَنَا الحَربُ وقَد دُعينا إلى حُكمِ الكِتابِ (1) .
وقعة صفّين عن صعصعة :أقبَلَ عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إن كانَ أهلُ الباطِلِ لا يَقومونَ بِأَهلِ الحَقِّ ؛ فَإِنَّهُ لم يُصَب عُصبَةٌ مِنّا إلّا وقَد اُصيبَ مِثلُها مِنهُم ، وكلٌّ مَقروحٌ ، ولكِنّا أمثَلُ بَقِيَّةً مِنهُم ، وقَد جَزِعَ القَومُ ، ولَيسَ بَعدَ الجَزَعِ إلّا ما تُحِبُّ ، فَناجِزِ القَومَ . فَقامَ الأَشتَرُ النَّخَعِيُّ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنَّ مُعاوِيَةَ لا خَلَفَ لَهُ مِن رِجالِهِ ، ولَكَ بِحَمدِ اللّهِ الخَلَفُ ، ولَو كانَ لَهُ مِثلُ رِجالِكَ لَم يَكُن لَهُ مِثلُ صَبرِكَ ولا بَصَرِكَ ، فَاقرَعِ الحَديدَ بِالحَديدِ ، وَاستَعِن بِاللّهِ الحَميدِ . ثُمَّ قامَ عَمرُو بنُ الحَمِقِ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنّا وَاللّهِ ما أجَبناكَ ، ولا نَصَرناكَ عَصَبِيَّةً عَلَى الباطِلِ ولا أجَبنا إلَا اللّهَ عَزَّ وجَلَّ ، ولا طَلَبنا إلَا الحَقَّ ، ولَو دَعانا غَيرُكَ إلى مادَعَوتَ إلَيهِ لاستَشرى فيهِ اللَّجاجُ ، وطالَت فيهِ النَّجوى ؛ وقَد بَلَغَ الحَقُّ مَقطَعَهُ ، ولَيسَ لَنا مَعَكَ رَأيٌ . فَقامَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ مُغضِباً فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنّا لَكَ اليَومَ عَلى ما كُنّا عَلَيهِ أمسِ ، ولَيسَ آخِرُ أمرِنا كَأَوَّلِهِ ، وما مِنَ القَومِ أحَدٌ أحنى عَلى أهلِ العِراقِ ولا أوتَرَ لِأَهلِ الشّامِ مِنّي ؛ فَأَجِبِ القَومَ إلى كِتابِ اللّهِ ؛ فَإِنَّكَ أحَقُّ بِهِ مِنهُم ، وقَد أحَبَّ النّاسُ البَقاءَ ، وكَرِهُوا القِتالَ . فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : إنَّ هذا أمرٌ يُنظَرُ فيهِ . وذَكَروا أنَّ أهلَ الشّامِ جَزِعوا فَقالوا : يا مُعاوِيَةُ ! ما نَرى أهلَ العِراقِ أجابوا إلى
.
ص: 508
ما دَعَوناهُم إلَيهِ ، فَأَعِدها جَذَعَةً ؛ فَإِنَّكَ قَد غَمَرتَ بِدُعائِكَ القَومَ ، وأطمَعتَهُم فيكَ (1) .
11 / 4الإِمامُ في حِصارِ أصحابِ الجِباهِ السُّودِوقعة صفّين عن صعصعة :دَعا مُعاوِيَةُ عَبدَ اللّهِ بنَ عَمرِو بنِ العاصِ ، وأمَرَهُ أن يُكَلِّمَ أهلَ العِراقِ ، فَأَقبَلَ حَتّى إذا كانَ بَينَ الصَّفَّينِ نادى : يا أهلَ العِراقِ ! أنا عَبدُ اللّهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ ، إنَّها قَد كانَت بَينَنا وبَينَكُم اُمورٌ لِلدّينِ وَالدُّنيا ، فَإِن تَكُن لِلدّينِ فَقَد وَاللّهِ أعذَرنا وأعذَرتُم ، وإن تَكُن لِلدُّنيا فَقَد وَاللّهِ أسرَفنا وأسرَفتُم . وقَد دَعَوناكُم إلى أمرٍ لَو دَعَوتُمونا إلَيهِ لاََبناكُم ؛ فَإِن يَجمَعنا وإيّاكُمُ الرِّضا فَذلِكَ مِنَ اللّهِ ، فَاغتَنِموا هذِهِ الفُرجَةَ لَعَلَّهُ أن يَعيشَ فيهَا المُحتَرِفُ ، ويُنسى فيهَا القَتيلُ ؛ فَإِنَّ بَقاءَ المُهلِكِ بَعدَ الهالِكِ قَليلٌ . فَخَرَجَ سَعيدُ بنُ قَيسٍ فَقالَ : يا أهلَ الشّامِ ! إنَّهُ قَد كانَ بَينَنا وبَينَكُم اُمورٌ حامَينا فيها عَلَى الدّينِ وَالدّنيا ، سَمَّيتُموها غَدرا وسَرَفا . وقَد دَعوتُمونَا اليَومَ إلى ما قاتَلناكُم عَلَيهِ بِالأَمسِ ، ولَم يَكُن لِيَرجِعَ أهلُ العِراقِ إلى عِراقِهِم ،ولا أهلُ الشّامِ إلى شامِهِم بِأَمرٍ أجمَلَ مِن أن يُحكَمَ بِما أنزَلَ اللّهُ ، فَالأَمرُ في أيدينا دونَكُم ، وإلّا فَنَحنُ نَحنُ ، وأنتُم أنتُم . وقامَ النّاسُ إلى عَلِيٍّ فَقالوا : أجِبِ القَومَ إلى ما دَعَوكَ إلَيهِ ؛ فَإِنّا قد فُنينا . . . أكَلَتنَا الحَربُ وقُتِلَتِ الرِّجالُ . وقالَ قَومٌ : نُقاتِلُ القَومَ عَلى ما قاتَلناهُم عَلَيهِ أمسِ . ولَم يَقُل هذا إلّا قَليلٌ مِن
.
ص: 509
النّاسِ ، ثُمَّ رَجَعوا عَن قَولِهِم مَعَ الجَماعَةِ ، وثارَتِ الجَماعَةُ بِالمُوادَعَةِ . فَقامَ عَلِيٌّ أميرُ المُؤمِنينَ فَقالَ : إنَّهُ لَم يَزَل أمري مَعَكُم عَلى ما اُحِبُّ إلى أن أخَذَت مِنكُمُ الحَربُ ، وقَد وَاللّهِ أخَذَت مِنكُم وتَرَكَت ، وأخَذَت مِن عَدُوِّكُم فَلَم تَترُك ، وإنَّها فيهِم أنكى (1) وأنهَكُ . ألا إنّي كُنتُ أمسِ أميرُ المُؤمِنينَ ، فَأَصبَحتُ اليَومَ مَأمورا ، وكُنتُ ناهِيا فَأَصبَحتُ مَنهِيّا ، وقَد أحبَبتُمُ البَقاءَ ولَيسَ لي أن أحمِلَكُم عَلى ما تَكرَهونَ (2) .
مروج الذهب_ بَعدَ ذِكرِ رَفعِ المَصاحِفِ _: فَلَمّا رَأى كَثيرٌ مِن أهلِ العِراقِ ذلِكَ ، قالوا : نُجيبُ إلى كِتابِ اللّهِ ونُنيبُ إلَيهِ ، وأحَبَّ القَومُ المُوادَعَةَ وقيلَ لِعَلِيٍّ : قَد أعطاكَ مُعاوِيَةُ الحَقَّ ، ودَعاكَ إلى كِتابِ اللّهِ ، فَاقبَل مِنهُ ، وكانَ أشَدَّهُم في ذلِكَ اليَومِ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ ، فَقالَ عَلِيٌّ : أيُّهَا النّاسُ ! إنَّهُ لَم يَزَل مِن أمرِكُم ما اُحِبُّ حَتّى قَرَحَتكُمُ الحَربُ ، وقَد وَاللّهِ أخَذَت مِنكُم وتَرَكَت ، وإنّي كُنتُ بِالأَمسِ أميرا ، فَأَصبَحتُ اليَومَ مَأمورا ، وقَد أحبَبتُمُ البَقاءَ (3) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ لَمّا اضطَرَبَ عَليهِ أصحابُهُ في أمرِ الحُكومَةِ _: أيُّهَا النّاسُ ! إنَّهُ لَم يَزَل أمري مَعَكُم عَلى ما اُحِبُّ ، حَتّى نَهَكَتكُمُ الحَربُ ، وقَد وَاللّهِ أخَذَت مِنكُم وتَرَكَت ، وهِيَ لِعَدُوِّكُم أنهَكُ ، لَقَد كُنتُ أمسِ أمِيرا ، فَأَصبَحتُ اليَومَ مَأمورا ، وكُنتُ أمسِ ناهِيا ، فَأَصبَحتُ اليَومَ مَنهِيّا ، وقَد أحبَبتُمُ البَقاءَ ، ولَيسَ لي أن أحمَلَكُم عَلى ما تَكرَهونَ ! (4)
.
ص: 510
وقعة صفّين عن عمر بن سعد :لَمّا رَفَعَ أهلُ الشّامِ المُصاحِفَ عَلَى الرِّماحِ يَدعونَ إلى حُكمِ القُرآنِ قالَ عَلِيٌّ عليه السلام : عِبادَ اللّهِ ! إنّي أحَقُّ مَن أجابَ إلى كِتابِ اللّهِ ، ولكِنَّ مُعاوِيَةَ ، وعَمرَو بنَ العاصِ ، وَابنَ أبي مُعَيطٍ ، وحَبيبَ بنَ مَسلَمَةَ ، وَابنَ أبي سَرحٍ لَيسوا بِأَصحابِ دينٍ ولا قُرآنٍ ، إنّي أعرَفُ بِهِم مِنكُم ، صَحِبتُهُم أطفالاً ، وصَحِبتُهُم رِجالاً ، فَكانوا شَرَّ أطفالٍ ، وشَرَّ رِجالٍ . إنَّها كَلِمَةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطِلٌ ، إنَّهُم وَاللّهِ ما رَفَعوها أنَّهُم يَعرِفونَها ويَعمَلونَ بِها ، ولكِنَّهَا الخَديعَةُ وَالوَهنُ وَالمَكيدَةُ . أعيروني سَواعِدَكُم وجَماجِمَكُم ساعَةً واحدَةً ، فَقَد بَلَغَ الحَقُّ مَقطَعَهُ ، ولَم يَبقَ إلّا أن يُقطَعَ دابِرُ الَّذينَ ظَلَموا . فَجاءَهُ زُهاءُ عِشرينَ ألفا مُقَنِّعينَ فِي الحَديدِ شاكِي السِّلاحِ ، سُيوفُهُم عَلى عَواتِقِهِم ، وقَدِ اسوَدَّت جِباهُهُم مِنَ السُّجودِ ! ! يَتَقَدَّمُهُم مِسعَرُ بنُ فَدَكِيٍّ ، وزَيدُ بنُ حُصَينٍ ، وعِصابَةٌ مِنَ القُرّاءِ الَّذينَ صاروا خَوارِجَ مِن بَعدُ ، فَنادَوهُ بِاسمِهِ لا بِإِمرَةِ المُؤمِنينَ : يا عَلِيُّ ! أجِبِ القَومَ إلى كِتابِ اللّهِ إذ دُعيتَ إلَيهِ ، وإلّا قَتَلناكَ كَما قَتَلنَا ابنَ عَفّانَ ، فَوَاللّهِ لَنَفعَلَنَّها إن لَم تُجِبهُم . فَقالَ لَهُم : وَيحَكُم ! أنا أوَّلُ مَن دَعا إلى كِتابِ اللّهِ ، وأوَّلُ مَن أجابَ إلَيهِ ، ولَيسَ يَحِلُّ لي ولا يَسَعُني في ديني أن اُدعى إلى كِتابِ اللّهِ فَلا أقبَلَهُ ، إنّي إنَّما اُقاتِلُهُم لِيَدينوا بِحُكمِ القُرآنِ ؛ فَإِنَّهُم قَد عَصَوُا اللّهَ فيما أمَرَهُم ، ونَقَضوا عَهدَهُ ، ونَبَذوا كِتابَهُ ، ولكِنّي قَد أعلَمتُكُم أنَّهُم قَد كادوكُم ، وأنَّهُم لَيسُوا العَمَلَ بِالقُرآنِ يُريدونَ . قالوا : فَابعَث إلَى الأَشتَرِ لِيَأتِيَكَ . وقَد كانَ الأَشتَرُ صَبيحَةَ لَيلَةِ الهَريرِ قَد أشرَفَ عَلى عَسكَرِ مُعاوِيَةَ لِيَدخُلَهُ (1) .
.
ص: 511
11 / 5رُجوعُ الأَشتَرِ مِنَ المَعرَكَةِتاريخ الطبري عن إبراهيم بن الأشتر :كُنتُ عِندَ عَلِيٍّ حينَ أكرَهَهُ النّاسُ عَلَى الحُكومَةِ ، وقالوا : اِبعَث إلَى الأَشتَرِ فَليَأتِكَ . قالَ : فَأَرسَلَ عَلِيٌّ إلَى الأَشتَرِ يَزيدَ بنَ هانِئٍ السَّبيعِيَّ أنِ ائتِني . فَأَتاهُ فَبَلَّغَهُ . فَقالَ : قُل لَهُ : لَيسَ هذِهِ السّاعَةُ الَّتي يَنبَغي لَكَ أن تُزيلَني فيها عَن مَوقِفي ، إنّي قَد رَجَوتُ أن يُفتَحَ لي ؛ فَلا تُعجِلني . فَرَجَعَ يَزيدُ بنُ هانِئٍ إلى عَلِيٍّ فَأَخبَرَهُ ، فَما هُوَ إلّا أنِ انتَهى إلَينا ، فَارتَفَعَ الرَّهَجُ ، وعَلَتِ الأَصواتُ مِن قِبَلِ الأَشتَرِ (1) ، فَقالَ لَهُ القَومُ : وَاللّهِ ما نَراكَ إلّا أمَرتَهُ أن يُقاتِلَ . قالَ : مِن أينَ يَنبَغي أن تَرَوا ذلِكَ ! رَأَيتُموني سارَرتُهُ ؟ أ لَيسَ إنَّما كَلَّمتُهُ عَلى رُؤوسِكُم عَلانِيَةً ، وأنتُم تَسمَعونَني ! قالوا : فَابعَث إلَيهِ فَليَأتِكَ ، وإلّا وَاللّهِ اعتَزَلناكَ . قالَ لَهُ : وَيحَكَ يا يَزيدُ ! قُل لَهُ : أقبِل إلَيَّ ؛ فَإِنَّ الفِتنَةَ قَد وَقَعَت ! فَأَبلَغَهُ ذلِكَ ، فَقالَ لَهُ : أ لِرَفعِ المَصاحِفِ ؟ قالَ : نَعَم ، قالَ : أما وَاللّهِ ، لَقَد ظَنَنتَ حينَ رُفِعَت أنَّها سَتوقِعُ اختِلافا وفُرقَةً ، إنَّها مشَورَةُ ابنِ العاهِرَةِ ،أ لا تَرى ما صَنَعَ اللّهُ لَنا ! أ يَنبَغي أن أدَعَ هؤُلاءِ وأنصَرِفَ عَنهُم !
.
ص: 512
وقالَ يَزيدُ بنُ هانِئٍ : فَقُلتُ لَهُ : أ تُحِبُّ أنَّكَ ظَفِرتَ هاهُنا ، وأنَّ أميرَ المُؤمِنينَ بِمَكانِهِ الَّذي هُوَ بِهِ يُفرَجُ عَنهُ أو يُسلَمُ ؟ قالَ : لا وَاللّهِ ، سُبحانَ اللّهِ ! قالَ : فَإِنَّهُم قَد قالوا : لَتُرسِلَنَّ إلَى الأَشتَرِ فَليَأتِيَنَّكَ أو لَنَقتُلَنَّكَ كَما قَتَلنَا ابنَ عَفّانَ . فَأَقبَلَ حَتَّى انتَهى إلَيهِم فَقالَ :يا أهلَ العِراقِ ! يا أهلَ الذُّلِّ وَالوَهنِ ! أ حينَ عَلَوتُمُ القَومَ ظَهرا ، وظَنّوا أنَّكُم لَهُم قاهِرونَ ، رَفَعُوا المَصاحِفَ يَدعونَكُم إلى ما فيها ! وقَد وَاللّهِ تَرَكوا ما أمَرَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ فيها ، وسُنَّةَ مَن اُنزِلَت عَلَيهِ صلى الله عليه و آله ؟ فَلا تُجيبوهُم ، أمهِلوني عَدوَ الفَرَسِ ؛ فَإِنّي قَد طَمِعتُ فِي النَّصرِ . قالوا : إذَن نَدخُلَ مَعَكَ في خَطيئَتِكَ ، قالَ : فَحَدِّثوني عَنكُمُّ وقَد قُتِلَ أماثِلُكُم ، وبَقِيَ أراذِلُكُم ، مَتى كُنتُم مُحِقّينَ ؟ أ حينَ كُنتُم تُقاتِلونَ وخِيارُكُم يُقتَلونَ ! فَأَنتُمُ الآنَ إذ أمسَكتُم عَنِ القِتالِ مُبطِلونَ ؛ أمِ الآنَ أنتُم مُحِقّونَ ؟ فَقَتلاكُمُ الَّذينَ لا تُنكِرونَ فَضلَهُم ، فَكانوا خَيرا مِنكُم ، فِي النّارِ إذا ! قالوا : دَعنا مِنكَ يا أشتَرُ ، قاتَلناهُم فِي اللّهِ عَزّ وجَلَّ ، ونَدَعُ قِتالَهُم للّهِِ سُبحانَهُ ، إنّا لَسنا مُطيعيكَ ولا صاحِبَكَ ، فَاجتَنِبنا . فَقالَ : خُدِعتُم وَاللّهِ فَانخَدَعتُم ، ودُعيتُم إلى وَضعِ الحَربِ فَأَجَبتُم . يا أصحابَ الجِباهِ السّودِ ! كُنّا نَظُنُّ صَلَواتِكُم زَهادَةً فِي الدُّنيا ، وشَوقا إلى لِقاءِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، فَلا أرى فِرارَكُم إلّا إلَى الدُّنيا مِنَ المَوتِ . ألا قُبحا يا أشباهُ النِّيبِ الجَلّالَةِ (1) ! وما أنتُم بِرائينَ بَعدَها عِزّا أبَدا ، فاَبَعدوا كَما بَعِدَ القَومُ الظّالِمونَ ! فَسَبّوهُ ، فَسَبَّهُم ، فَضَرَبوا وَجهَ دابَّتِهِ بِسِياطِهِم ، وأقبَلَ يَضرِبُ بِسَوطِهِ وُجوه
.
ص: 513
دَوابِّهِمِ ، وصاحَ بِهِم عَلِيٌّ فَكَفّوا (1) .
وقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر_ في بَيانِ ماجَرى بَعدَ رَفعِ المَصاحِفِ _: قالَ الأَشترُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! احمِلِ الصَّفَّ عَلَى الصَّفِّ يُصرَعِ القَومُ . فَتَصايَحوا : إنَّ عَلِيّا أميرَ المُؤمِنينَ قَد قَبِلَ الحُكومَةَ ، ورَضِيَ بِحُكمِ القُرآنِ ، ولَم يَسَعهُ إلّا ذلِكَ . قالَ الأَشتَرُ : إن كانَ أميرُ المُؤمِنينَ قَد قَبِلَ ورَضِيَ بحِكُمِ القُرآنِ ، فَقَد رَضيتُ بِما رَضِيَ أميرُ المُؤمِنينَ . فَأَقبَلَ النّاسُ يَقولونَ : قَد رَضِيَ أميرُ المُؤمِنينَ ، قَد قَبِلَ أميرُ المُؤمِنينَ ، وهُوَ ساكِتٌ ، لا يَبَضُّ بِكَلِمَةٍ ، مُطرِقٌ إلَى الأَرضِ (2) .
11 / 6فَرَحُ مُعاوِيَةَالفتوح :كانَ مُعاوِيَةُ بَعدَ ذلِكَ [أي بَعدَ خِتامِ الحَربِ] يَقولُ : وَاللّهِ ، لَقَد رَجَعَ عَنِّي الأَشتَرُ يَومَ رَفعِ المَصاحِفِ ، وأنَا اُريدُ أن أسأَلَهُ أن يَأخُذَ لِيَ الأَمانَ مِن عَلِيٍّ . وقَد هَمَمتُ ذلِكَ اليَومَ بِالهَرَبِ ، ولكِن ذَكَرتُ قَولَ عَمرِو بنِ الإِطنابَةِ حَيثُ يَقولُ : أبَت لي عِفَّتي وأبى بَلائي وأخذِي الحَمدِ بِالثَّمنِ الرَّبيحِ (3)
الفتوح :فَغَمَدَ النّاسُ أسيافَهُم ، ووَضَعوا أسلِحَتَهُم ، وعَزَموا عَلَى الحُكمِ ، فَقالَ عَمرٌو لِمُعاوِيَةَ : كَيفَ رَأَيتَ رَأيي ؟ لَقَد كُنتَ غَرِقتَ في بَحرِ العِراقِ وأنقَذتُكَ .
.
ص: 514
فَقالَ مُعاوِيَةُ : صَدَقتَ أبا عَبدِ اللّهِ ، ولِمِثلِها كُنتُ أرجوكَ (1) .
11 / 7رِسالَةُ مُعاوِيَةَ إلَى الإِمامِوقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر :بَعَثَ مُعاوِيَةُ أبَا الأَعوَرِ السَّلَمِيَّ عَلى بِرذَونٍ أبيَضَ ، فَسارَ بَينَ الصَّفَّينِ ؛ صَفِّ أهلِ العِراقِ وصَفِّ أهلِ الشّامِ ، وَالمُصحَفُ عَلى رَأسِهِ وهُوَ يَقولُ : كِتابُ اللّهِ بَينَنا وبَينَكُم . فَأَرسَلَ مُعاوِيَةُ إلى عَلِيٍّ : إنَّ الأَمرَ قَد طالَ بَينَنا وبينَكَ ، وكُلُّ واحِدٍ مِنّا يَرى أنَّهُ عَلَى الحَقِّ فيما يَطلُبُ مِن صاحِبِهِ ، ولَن يُعطِيَ واحِدٌ مِنَّا الطّاعَةَ لِلآخَرِ ، وقَد قُتِلَ فيما بَينَنا بَشَرٌ كَثيرٌ ، وأنَا أتَخَوَّفُ أن يَكونَ ما بَقِيَ أشَدَّ مِمّا مَضى ، وإنّا سَوفَ نُسأَلُ عَن ذلِكَ المَوطِنِ ، ولا يُحاسَبُ بِهِ غَيري وغَيرُكَ ، فَهَل لَكَ في أمرٍ لَنا ولَكَ فيهِ حَياةٌ وعُذرٌ وبَراءَةٌ ، وصَلاحٌ لِلاُمَّةِ ، وحَقنٌ لِلدِّماءِ ، واُلفَةٌ لِلدّينِ ، وذَهابٌ لِلضَّغائِنِ وَالفِتَنِ ؛ أن يُحَكَّمَ بَينَنا وبَينَكَ حَكَمانِ رَضِيّانِ ؛ أحدُهُما مِن أصحابي ، وَالآخَرُ مِن أصحابِكَ ؛ فَيَحكُمانِ بِما في كِتابِ اللّهِ بَينَنا ؛ فَإِنَّهُ خَيرٌ لي ولَكَ ، وأقطَعُ لِهذِهِ الفِتَنِ . فَاتَّقِ اللّهَ فيما دُعيتَ لَهُ ، وَارضَ بِحُكمِ القُرآنِ إن كُنتَ مِن أهلِهِ . وَالسَّلامُ (2) .
11 / 8جَوابُ الإِمامِ عَنهُ وقَبولُهُ التَّحكيمَوقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر_ بَعدَ ذِكرِ كِتابِ مُعاوِيَةَ لِلإِمامِ عليه السلام _: فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِى ¨ُّ
.
ص: 515
بنُ أبي طالِبٍ : مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ . أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ أفضَلَ ما شَغَلَ بِهِ المَرءُ نَفسَهُ اتِّباعُ ما يَحسُنُ بِهِ فِعلُهُ ، ويُستَوجَبُ فضَلُهُ ، ويَسلَمُ مِن عَيبِهِ . وإنَّ البَغيَ وَالزّورَ يُزرِيانِ بِالمَرءِ في دينِهِ ودُنياهُ ، ويُبدِيانِ مِن خَلَلِهِ عِندَ مَن يُغنيهِ مَا استَرعاهُ اللّهُ ما لا يُغني عَنهُ تَدبيرُهُ . فَاحذَرِ الدُّنيا ؛ فَإِنَّهُ لا فَرَحَ في شَيءٍ وَصَلتَ إلَيهِ مِنها . ولَقَد عَلِمتَ أنَّكَ غَيرُ مُدرِكٍ ما قُضِيَ فَواتُهُ . وقَد رامَ قَومٌ أمرا بِغَيرِ الحَقِّ ؛ فَتَأَوَّلوا عَلَى اللّهِ تَعالى ، فَأَكذَبَهُم ومَتَّعَهُم قَليلاً ، ثُمَّ اضطَرَّهُم إلى عَذابٍ غَليظٍ . فَاحذَر يَوما يَغتَبِطُ فيهِ مَن أحمَدَ عاقِبَةَ عَمَلِهِ ، ويَندَمُ فيهِ مَن أمكَنَ الشَّيطانَ مِن قِيادِهِ ولَم يُحادَّهُ ، فَغَرَّتهُ الدُّنيا وَاطمَأَنَّ إلَيها . ثُمَّ إنَّكَ قَد دَعَوتَني إلى حُكمِ القُرآنِ ؛ ولَقَد عَلِمتُ أنَّكَ لَستَ مِن أهلِ القُرآنِ ، ولَستَ حُكمَهُ تُريدُ ، وَاللّهُ المُستَعانُ . وقَد أجَبنَا القُرآنَ إلى حُكمِهِ ، ولَسنا إيّاكَ أجَبنا . ومَن لَم يَرضَ بِحُكمِ [القُرآنِ] (1) فَقَد ضَلَّ ضَلالاً بَعيدا (2) .
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كِتابٍ لَهُ إلى مُعاوِيَةَ _: وإنَّ البَغيَ وَالزّورِ يوتِغانِ (3) المَرءَ في دينِهِ ودُنياهُ ، ويُبدِيانِ خَلَلَهُ عِندَ مَن يَعيبُهُ . وقَد عَلِمتُ أنَّكَ غَيرُ مُدرِكٍ ما قُضِيَ فَواتُهُ . وقَد رامَ أقوامٌ أمرا بِغيرِ الحَقِّ ، فَتَأَ لَّوا عَلَى اللّهِ فَأَكذَبَهُم . فَاحذَر يَوما يَغتَبِطُ فيهِ مَن أحمَدَ عاقِبَةَ عَمَلِهِ ، ويَندَمُ مَن أمكَنَ الشَّيطانَ مِن قِيادِهِ فَلَم يُجاذِبهُ . وقَد دَعَوتَنا إلى حُكمِ القُرآنِ ولَستَ مِن أهلِهِ ، ولَسنا إيّاكَ أجَبنا ، ولكِنّا أجَبنَا القُرآنَ في حُكمِهِ . وَالسَّلامُ (4) .
.
ص: 516
11 / 9كَلامُ الإِمامِ في ذَمِّ أصحابِهِالإرشاد_ مِن كَلامِهِ عليه السلام حينَ رَجَعَ أصحابُهُ عَنِ القِتالِ بِصِفّينَ ، لَمَّا اغتَرَّهُم مُعاوِيَةُ بِرَفعِ المَصاحِفِ _: لَقَد فَعَلتُم فَعلَةً ضَعضَعَت مِنَ الإِسلامِ قُواهُ ، وأسقَطَت مُنَّتَهُ (1) ، وأورَثَت وَهنا وذِلَّةً . لَمّا كُنتُم الأَعلَينَ ، وخافَ عَدُوُّكُمُ الاِجتِياحَ ، واَستَحَرَّ بِهِمُ القَتلُ ، ووَجَدوا ألَمَ الجِراحِ ؛ رَفَعُوا المَصاحِفَ ودَعَوكُم إلى ما فيها لِيَفثَؤوكُم (2) عَنهُم ، ويَقطَعُوا الحَربَ فيما بَينَكُم وبَينَهُم ، ويَتَرَبَّصوا (3) بِكُم رَيبَ المَنونِ خَديعَةً ومَكيدَةً . فَما أنتُم إن جامَعتُموهُم عَلى ما أحَبّوا ، وأعطَيتُموهُم الَّذي سَأَلوا إلّا مَغرورونَ . وَايمُ اللّهِ ، ما أظُنُّكُم بَعدَها مُوافِقي رُشدٍ ، ولا مُصيبي حَزمٍ (4) .
وقعة صفّين :جاءَ عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ يَلتَمِسُ عَلِيّا ، ما يَطَأُ إلّاعَلى إنسانٍ مَيِّتٍ أو قَدَمٍ أو ساعِدٍ ، فَوَجَدَهُ تَحتَ راياتِ بَكرِ بنِ وائِلٍ ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ !أ لا نَقومُ حَتّى نَموتَ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : ادنُهْ ، فَدَنا حَتّى وَضَعَ أُذُنَهُ عِندَ أنفِهِ ، فَقالَ : وَيحَكَ ! إنَّ عامَّةَ مَن مَعي يَعصيني ، وإنَّ مُعاوِيَةَ فيمَن يُطيعُهُ ولا يَعصيهِ (5) .
.
ص: 517
الفصل الثاني عشر : تعيين الحَكَم12 / 1مُخالَفَةُ الإِمامِ في تَعيينِ الحَكَمِالإمام الباقر عليه السلام :لَمّا أرادَ النّاسُ عَلِيّا عَلى أن يَضَعَ حَكَمَينِ قالَ لَهُم عَلِيٌّ : إنَّ مُعاوِيَةَ لَم يَكُن لِيَضَعَ لِهذَا الأَمرِ أحَدا هُوَ أوثَقُ بِرَأيِهِ ونَظَرِهِ مِن عَمرِو بنِ العاصِ ، وإنَّهُ لا يَصلُحُ لِلقُرَشِيِّ إلّا مِثلُهُ ، فَعَلَيكُم بِعَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ فَارموهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ عَمرا لا يَعقِدُ عُقدَةً إلّا حَلَّها عَبدُ اللّهِ ، ولا يَحُلُّ عُقدَةً إلّا عَقَدَها ، ولا يُبرِمُ أمرا إلّا نَقَضَهُ ، ولا يَنقُضُ أمرا إلّا أبرَمَهُ . فَقالَ الأَشعَثُ : لا وَاللّهِ ، لا يَحكُمُ فيها مُضَرِيّانِ حَتّى تَقومَ السّاعَةُ ، ولكِنِ اجعَلهُ رَجُلاً مِن أهلِاليَمنِ إذ جَعَلوا رَجُلاً مِن مُضَرَ . فَقالَ عَلِيٌّ : إنّي أخافُ أن يُخدَعَ يَمَنِيُّكُم ؛ فَإِنَّ عَمرا لَيسَ مِنَ اللّهِ في شَيءٍ إذا كانَ لَهُ في أمرٍ هوىً . فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ ، لِأَن يَحكُما بِبَعضِ مانَكرَهُ ، وأحَدُهُما مِن أهلِ اليَمنِ ، أحَبُّ إلَينا مِن أن يَكونَ بَعضُ ما نُحِبُّ في حُكمِهِما وهُما مُضَرِيّانِ (1) .
.
ص: 518
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ في شَأنِ الحَكَمَينِ وذَمِّ أهلِ الشّامِ _: جُفاةٌ طَغامٌ ، وعَبيدٌ أقزامٌ ، جُمِعوا مِن كُلِّ أوبٍ ، وتُلُقِّطوا مِن كُلِّ شَوبٍ ، مِمَّن يَنبَغي أن يُفَقَّهَ ويُؤَدَّبَ ، ويُعَلَّمَ ويُدَرَّبَ ، ويُوَلَّى عَلَيهِ ، ويُؤخَذَ عَلى يَدَيهِ . لَيسوا مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، ولا مِنَ الَّذينَ تَبَوَّؤُوا الدّارَ وَالإِيمانَ . ألا وإنَّ القَومَ اختاروا لِأَنفُسِهِم أقرَبَ القَومِ مِمّا يُحِبّونَ (1) ، وإنَّكُمُ اختَرتُم لِأَنفُسِكُم أقرَبَ القَومِ مِمّا تَكرَهونَ . وإنَّما عَهدُكُم بِعَبدِ اللّهِ بنِ قَيسٍ بِالأَمسِ يَقولُ : «إنَّها فِتنَةٌ ، فَقَطِّعوا أوتارَكُم ، وشيموا سُيوفَكُم» . فَإِن كانَ صادِقا فَقَد أخطَأَ بِمَسيرِهِ غَيرَ مُستَكرَهٍ ، وإن كانَ كاذِبا فَقَد لَزِمَتهُ التُّهَمَةُ . فَادفَعوا في صَدرِ عَمرِو بنِ العاصِ بِعَبدِ اللّهِ بنِ العَبّاسِ ، وخُذوا مَهَلَ الأَيّامِ ، وحوطوا قَواصِيَ الإِسلامِ . أ لا تَرَونَ إلى بِلادِكُم تُغزى ، وإلى صَفاتِكُم تُرمى ؟ (2)
وقعة صفّين :ذَكَروا أنَّ ابنَ الكَوّاءِ قامَ إلى عَلِيٍّ فَقالَ : هذا عَبدُ اللّهِ بنُ قَيسٍ وافِدُ أهلِ اليَمنِ إلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وصاحِبُ مَقاسِمِ أبي بَكرٍ ، وعامِلُ عُمَرَ ، وقَد رَضِيَ بِهِ القَومُ . وعَرَضنا عَلَى القَومِ عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ فَزَعَموا : أنَّهُ قَريبُ القَرابَةِ مِنكَ ، ظَنونٌ في أمرِكَ (3) .
الأخبار الطوال :اِجتَمَعَ قُرّاءُ أهلِ العِراقِ وقُرّاءٌ أهلِ الشّامِ ، فَقَعَدوا بَينَ الصَّفَّينِ ، ومَعَهُمُ المُصحَفُ يَتَدارَسونَهُ ، فَاجتَمَعوا عَلى أن يُحَكِّموا حَكَمَينِ ، وَانصَرَفوا . فَقالَ أهلُ الشّامِ : قَد رَضينا بِعَمرٍو .
.
ص: 519
وقالَ الأَشعَثُ ومَن كانَ مَعَهُ مِن قُرّاءِ أهلِ العِراقِ : قَد رَضينا نَحنُ بِأَبي موسى . فَقالَ لَهُم عَلِيٌّ : لَستُ أثِقُ بِرَأيِ أبي موسى ، ولا بِحَزمِهِ ، ولكِن أجعَلُ ذلِكَ لِعَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ . قالوا : وَاللّهِ ، ما نُفَرِّقُ بَينَكَ وبَينَ ابنِ عَبّاسٍ ، وكَأَنَّكَ تُريدُ أن تَكونَ أنتَ الحاكِمَ ، بَلِ اجعَلهُ رَجُلاً هُوَ مِنكَ ومِن مُعاوِيَةَ سَواءٌ ، لَيسَ إلى أحَدٍ مِنكُما بِأَدنى مِنهُ إلَى الآخَرِ . قالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : فَلِمَ تَرضَونَ لِأَهلِ الشّامِ بِابنِ العاصِ ، ولَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : اُولئِكَ أعلَمُ ، إنَّما عَلَينا أنفُسَنا . قالَ : فَإِنّي أجعَلُ ذلِكَ إلَى الأَشتَرِ . قالَ الأَشعَثُ : وهَل سَعَّرَ هذِهِ الحَربَ إلَا الأَشتَرُ ؟ وهَل نَحنُ إلّا في حُكمِ الأَشتَرِ ؟ قالَ عَلِيٌّ : وما حُكمُهُ ؟ قالَ : يَضرِبُ بَعضٌ وُجوهَ بَعضٍ حَتّى يَكونَ ما يُريدُ اللّهُ . قالَ : فَقَد أبَيتُم إلّا أن تَجعَلوا أبا موسى ؟ ! قالوا : نَعَم . قالَ : فَاصنَعوا ما أحبَبتُم (1) .
تاريخ الطبري عن أبي مخنف :جاءَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ إلى عَلِيٍّ فَقالَ لَهُ : ما أرَى النّاسَ إلّا قَد رَضوا ، وسَرَّهُم أن يُجيبُوا القَومَ إلى ما دَعَوهُم إلَيهِ مِن حُكمِ القُرآنِ ، فَإِن شِئتَ أتَيتُ مُعاوِيَةَ فَسَأَلتُهُ ما يُريدُ ، فَنَظَرتُ ما يَسأَلُ .
.
ص: 520
قالَ : اِيتِهِ إن شِئتَ فَسَلهُ . فَأَتاهُ فَقالَ : يا مُعاوِيَةُ ! لِأَيِّ شَيءٍ رَفعتُم هذِهِ المَصاحِفَ ؟ قالَ : لِنَرجِعَ نَحنُ وأنتُم إلى ما أمَرَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ في كِتابِهِ ، تَبعَثونَ مِنكُم رَجُلاً تَرضَونَ بِهِ ، ونَبعَثُ مِنّا رَجُلاً ، ثُمَّ نَأخُذُ عَلَيهِما أن يَعمَلا بِما في كِتابِ اللّهِ لا يَعدُوانِهِ ، ثُمَّ نَتَّبِعُ ما اتَّفَقا عَلَيهِ . فَقالَ لَهُ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ : هذَا الحَقُّ . فَانصَرَفَ إلى عَلِيٍّ فَأَخبَرَهُ بِالَّذي قالَ مُعاوِيَةُ . فَقالَ النّاسُ : فَإِنّا قَد رَضينا وقَبِلنا . فَقالَ أهلُ الشّامِ : فَإِنّا قَدِ اختَرنا عَمَرو بنَ العاصِ . فَقالَ الأَشعَثُ واُولئِكَ الَّذينَ صاروا خوَارِجَ بَعدُ : فَإِنّا قَد رَضينا بِأَبي موسى الأَشعَرِيِّ . قالَ عَلِيٌّ : فَإِنَّكُم قَد عَصَيتُموني في أوَّلِ الأَمرِ ، فَلا تَعصونِي الآنَ ، إنّي لا أرى أن اُولِّيَ أبا موسى . فَقالَ الأَشعَثُ ، وزَيدُ بنُ حُصَينٍ الطّائِيُّ ، ومِسعَرُ بنُ فَدَكِيٍّ : لا نَرضى إلّا بِهِ ، فَإِنَّهُ ما كانَ يُحَذِّرُنا مِنهُ وَقَعنا فيهِ . قالَ عَلِيٌّ : فَإِنَّهُ لَيسَ لي بِثِقَةٍ ، قَد فارَقَني ، وخَذَّلَ النّاسَ عَنّي ، ثُمَّ هَرَبَ مِنّي حَتّى آمَنتُهُ بَعدَ أشهُرٍ ، ولكِن هذَا ابنُ عَبّاسٍ نُوَلّيهِ ذلِكَ . قالوا : ما نُبالي أنتَ كُنتَ أمِ ابنُ عَبّاسٍ ! لا نُريدُ إلّا رَجُلاً هُوَ مِنكَ ومِن مُعاوِيَةَ سَواءٌ ، لَيسَ إلى واحِدٍ مِنكُما بِأَدنى مِنهُ إلَى الآخَرِ . فَقالَ عَلِيٌّ : فَإِنّي أجعَلُ الأَشتَرَ . قالَ أبو مِخنَفٍ : أنَّ الأَشعَثَ قالَ : وهَل سَعَّرَ الأَرضَ غَيرُ الأَشتَرِ ؟ ! . . .
.
ص: 521
وهَل نَحنُ إلّا في حُكمِ الأَشتَرِ ؟ ! قالَ عَلِيٌّ : وما حُكمُهُ ؟ قالَ : حُكمُهُ أن يَضرِبَ بَعضُنا بَعضا بِالسُّيوفِ حَتّى يَكونَ ما أرَدتَ وما أرادَ . قالَ : فَقَد أبَيتُم إلّا أبا موسى ؟ ! قالوا : نَعَم . قالَ : فَاصنَعوا ما أرَدتُم . فَبَعثوا إلَيهِ وقَد اعتَزَلَ القِتالَ ، وهُوَ بِعُرضٍ (1) ، فَأَتاهُ مَولىً لَهُ ، فَقالَ : إنَّ النّاسَ قَدِ اصطَلَحوا . فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ رَبِّ العالَمينَ ! قالَ : قَد جَعَلوكَ حَكَما . قالَ : إنّا للّهِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ ! وجاءَ أبو موسى حَتّى دَخَلَ العَسكَرَ ، وجاءَ الأَشتَرُ حَتّى أتى عَلِيّا فَقالَ : ألِزَّني بِعَمرِو بنِ العاصِ ، فَوَاللّهِ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ ، لَئِن مَلَأتُ عَيني مِنهُ لَأَقتُلَنَّهُ . وجاءَ الأَحنَفُ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! إنَّكَ قَد رُميتَ بِحَجَرِ الأَرضِ ، وبِمَن حارَبَ اللّهَ ورَسولَهُ أنفَ الإِسلامَ ، وإنّي قَد عَجَمتُ (2) هذَا الرَّجُلَ ، وحَلَبتُ أشطُرَهُ ، فَوَجَدتُهُ كَليلَ الشَّفرَةِ ، قَريبَ القَعرِ ، وإنَّهُ لا يَصلُحُ لِهؤُلاءِ القَومِ إلّا رَجُلٌ يَدنو مِنهُم حَتّى يَصيرَ في أكُفِّهِم ، ويَبعَدُ حَتّى يَصيرَ بِمَنزِلَةِ النَّجمِ مِنهُم . فَإِن أبَيتَ أن تَجعَلَني حَكَما ، فَاجعَلني ثانِيا أو
.
ص: 522
ثالِثا ، فَإِنَّهُ لَن يعَقِدُ عُقدَةً إلّا حَلَلتُها ، ولَن يَحُلَّ عُقدَةً أعقَدَها إلّا عَقَدتُ لَكَ اُخرى أحكَمَ مِنها . فَأَبَى النّاسُ إلّا أبا موسى وَالرِّضا بِالكِتابِ (1) .
12 / 2وَثيقَةُ التَّحكيمِالأمالي للطوسي عن جندب :لَمّا وَقَعَ الاِتِّفاقُ عَلى كَتِب القَضِيَّةِ بَينَ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام وبَينَ مُعاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانَ ، حَضَرَ عَمرُو بنُ العاصِ في رِجالِ مِن أهلِ الشّامِ وعَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ في رِجالٍ مِن أهلِ العِراقِ . فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام لِلكاتِبِ : اُكتُب : هذا ما تَقاضى عَلَيهِ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ ابنُ أبي طالِبٍ ومُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ . فَقالَ عَمرُو بنُ العاصِ : اُكتُبِ اسمَهَ وَاسمَ أبيهِ ولا تُسَمِّه بِإِمرَةِ المُؤمِنينَ ، فَإِنَّما هُوَ أميرُ هؤُلاءِ ولَيسَ بِأَميرِنا . فَقالَ الأَحنَفُ بنُ قَيسٍ : لا تَمحُ هذَا الاِسمَ فَإِنّي أتَخَوَّفُ إن مَحَوتَهُ لا يَرجِعُ إلَيكَ أبَدا . فَامتَنَعَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام مِن مَحوِهِ ، فَتَراجَعَ الخِطابُ فيهِ مَلِيّا مِنَ النَّهارِ ، فَقالَ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ : اُمحُ هذَا الاِسمَ تَرَّحَهُ اللّهُ . فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : اللّهُ أكبَرُ ! سُنَّةٌ بِسُنَّةٍ ومَثَلٌ بِمَثَلٍ ، وَاللّهِ ، إنّي لَكاتِبُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَومَ الحُدَيبِيَّةِ وقَد أملى عَلَيَّ : هذا ما قاضى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّه
.
ص: 523
سُهَيلَ بنَ عَمرٍو ، فَقالَ لَهُ سُهَيلٌ : اُمحُ رَسولَ اللّهِ فَإِنّا لا نُقِرُّ لَكَ بِذلِكَ ، ولا نَشهَدُ لَكَ بِهِ ، اكتُبِ اسمَكَ وَاسمَ أبيكَ ، فَامتَنَعتُ مِن مَحوِهِ فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : اُمحُهُ يا عَلِيُّ ! وسَتُدعى إلى مِثلِها فَتُجيبُ ، وأنتَ عَلى مَضَضٍ . فَقالَ عَمرُو بنُ العاصِ : سُبحانَ اللّهِ ! ومِثلُ هذا يُشَبَّهُ بِذلِكَ ونَحنُ مُؤمِنونَ ، واُولئِكَ كانوا كُفّارا ! فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : يَابنَ النّابِغَةِ ! ومَتى لَم تَكُن لِلفاسِقينَ وَلِيّا ولِلمُسلِمينَ عَدُوّا ، وهَل تُشبِهُ إلّا اُمَّكَ الَّتي دَفَعَت بِكَ ؟ فَقالَ عَمرٌو : لا جَرَمَ ، لا يَجمَعُ بَيني وبَينَكَ مَجلِسٌ أبَدا . فَقالَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : وَاللّهِ ، إنّي لَأَرجو أن يُطَهِّرَ اللّهُ مَجلِسي مِنكَ ومِن أشباهِكَ . ثُمَّ كُتِبَ الكِتابُ وَانصَرَفَ النّاسُ (1) .
تاريخ الطبري عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه_ في ذِكرِ مَا احتَوَت عَلَيهِ وَثيقَةُ التَّحكيمِ _: وَثيقَةُ التَّحكيمِ هِيَ ما يَلي : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم هذا ما تَقاضى عَلَيهِ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ومُعاوِيَةُ بنُ أبي سُفيانَ ، قاضى عَلِيٌّ عَلى أهلِ الكوفَةِ ومَن مَعَهُم مِن شيعَتِهِم مِنَ المُؤمِنينَ وَالمُسلِمينَ ، وقاضى مُعاوِيَةُ عَلى أهلِ الشّامِ ومَن كانَ مَعَهُم مِنَ المُؤمِنينَ وَالمُسلِمينَ ، إنّا نَنزِلُ عِندَ حُكمِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وكِتابِهِ ، ولا يَجمَعُ بَينَنا غَيرُهُ ، وإنَّ كِتابَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ بَينَنا مِن فاتِحَتِهِ إلى خاتِمَتِهِ ، نُحيي ما أحيا ، ونُميتُ ما أماتَ .
.
ص: 524
فَما وَجَدَ الحَكَمانِ في كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ _ وهُما أبو موسَى الأَشعَرِيُّ عَبدُ اللّهِ بنُ قَيسٍ ، وعَمرُو بنُ العاصِ القُرَشِيُّ _ عَمَلا بِهِ ، وما لَم يَجِدا في كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ فَالسُّنَّةُ العادِلَةُ الجامِعَةُ غَيرُ المُفَرِّقَةِ . وأخَذَ الحَكَمانِ مِن عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ ومِنَ الجُندَينِ مِنَ العُهودِ وَالميثاقِ ، وَالثِّقَةِ مِنَ النّاسِ ، أنَّهُما آمِنانِ عَلى أنفُسِهِما وأهلِهِما ، والاُمَّةُ لَهُما أنصارٌ عَلَى الَّذي يَتَقاضِيانِ عَلَيهِ . وعَلَى المُؤمِنينَ وَالمُسلِمينَ مِنَ الطّائِفَتَينِ كِلتَيهِما عَهدُ اللّهِ وميثاقُهُ أنّا عَلى ما في هذِهِ الصَّحيفَةِ ، وأن قَد وَجَبَت قَضِيَّتُهُما عَلَى المُؤمِنينَ ، فَإِنَّ الأَمنَ وَالاِستِقامَةَ ووَضعَ السِّلاحِ بَينَهُم أينَما ساروا عَلى أنفُسِهِم وأهليهِم وأموالِهِم ، وشاهِدِهِم وغائِبِهِم . وعَلى عَبدِ اللّهِ بنِ قَيسٍ وعَمرِو بنِ العاصِ عَهدُ اللّهِ وميثاقُهُ أن يَحكُما بَينَ هذِهِ الاُمَّةِ ، ولا يَرُدّاها في حَربٍ ولا فُرقَةٍ حَتّى يُعصِيا ، وأجلُ القَضاءِ إلى رَمَضانَ . وإن أحَبّا أن يُؤَخِّرا ذلِكَ أخَّراهُ عَلى تَراضٍ مِنهُما ، وإن تُوُفِّيَ أحَدُ الحَكَمَينِ فَإِنَّ أميرَ الشّيعَةِ يَختارُ مَكانَهُ ، ولا يَألو مِن أهلِ المَعدَلَةِ وَالقِسطِ . وإنَّ مَكانَ قَضِيَّتِهِمَا الَّذي يَقضِيانِ فيهِ مَكانٌ عَدلٌ بَينَ أهلِ الكوفَةِ وأهلِ الشّامِ ، وإن رَضِيا وأحَبّا فَلا يَحضُرُهُما فيهِ إلّا مَن أرادا ، ويَأخُذُ الحَكَمانِ مَن أرادا مِنَ الشُّهودِ ، ثُمَّ يَكتُبانِ شَهادَتَهُما عَلى ما في هذِهِ الصَّحيفَةِ ، وهُم أنصارٌ عَلى مَن تَرَكَ ما في هذِهِ الصَّحيفَةِ ، وأرادَ فيهِ إلحادا وظُلما . اللّهُمَّ ! إنّا نَستَنصِرُكَ عَلى مَن تَرَكَ ما في هذِهِ الصَّحيفَةِ (1) .
شرح نهج البلاغة عن أبي إسحاق الشيباني :قَرَأتُ كِتابَ الصُّلحِ عِندَ سَعيدِ بنِ أبي بُردَةَ فى ¨
.
ص: 525
صَحيفَةٍ صَفراءَ عَلَيها خاتَمانِ خاتَمٌ مِن أسفَلِها وخاتَمٌ مِن أعلاها عَلى خاتَمِ عَلِيٍّ عليه السلام «مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّهِ» وعَلى خاتَمِ مُعاوِيَةَ «مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّهِ» وقيلَ لِعَلِيٍّ عليه السلام حينَ أرادَ أن يَكتُبَ الكِتابَ بَينَهُ وبَينَ مُعاوِيَةَ وأهلِ الشّامِ :أ تُقِرُّ أنَّهُم مُؤمِنونَ مُسلِمونَ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : ما أقِرُّ لِمُعاوِيَةَ ولا لِأَصحابِهِ أنَّهُم مُؤمِنونَ ولا مُسلِمونَ ، ولكِن يَكتُبُ مُعاوِيَةُ ما شاءَ بِما شاءَ ويُقِرُّ بِما شاءَ لِنَفسِهِ ولِأَصحابِهِ ، ويُسَمّي نَفسَهُ بِما شاءَ وأصحابَهُ (1) .
تاريخ الطبري عن فضيل بن خديج الكندي_ في وَثيقَةِ التَّحكيمِ _: كانَ الكِتابُ في صَفَرٍ والأَجَلُ رَمَضانُ إلى ثَمانِيَةِ أشهُرٍ ، إلى أن يَلتَقِيَ الحَكَمانِ . ثُمَّ إنَّ النّاسَ دَفَنوا قَتلاهُم ، وأمَرَ عَلِيٌّ الأَعوَرَ فَنادى فِي النّاسِ بِالرَّحيلِ (2) .
تاريخ الطبري عن أبي جعفر :كُتِبَ كِتابُ القَضِيَّةِ بَينَ عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ يَومَ الأَربَعاءِ لِثَلاثِ عَشرَةَ خَلَت مِن صَفَرٍ سَنَةَ سَبعٍ وثَلاثينَ مِنَ الهِجرَةِ عَلى أن يُوافِيَ عَلِيٌّ ومُعاوِيَةُ مَوضِعَ الحَكَمَينِ بِدومَةِ الجَندَلِ في شَهرِ رَمَضانَ (3) .
12 / 3عَدَمُ رِضاءِ الأَشتَرِ بِما فِي الوَثيقَةِتاريخ الطبري عن عُمارة بن ربيعة الجرمي :لَمّا كُتِبَتِ الصَّحيفَةُ دُعِيَ لَهَا الأَشتَرُ فَقالَ : لا صَحِبَتني يَميني ولا نَفَعَتني بَعدَها شِمالي إن خُطَّ لي في هذِهِ الصَّحيفَةِ اسمٌ عَلى
.
ص: 526
صُلحٍ ولا مُوادَعَةٍ ، أ وَلَستُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي ومِن ضَلالِ عَدُوّي ؟ أ ولَستُم قَد رَأَيتُمُ الظَّفَرَ لَو لَم تُجمِعوا عَلَى الجَورِ ؟ فَقالَ لَهُ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ : إنَّكَ وَاللّهِ ، ما رَأَيتَ ظَفَرا ولا جَورا ، هَلُمَّ إلَينا فَإنَّهُ لا رَغبَةَ بِكَ عَنَّا . فَقالَ : بَلى وَاللّهِ ، لَرَغبَةٌ بي عَنكَ فِي الدُّنيا لِلدُّنيا وَالآخِرَةِ لِلآخِرَةِ ، ولَقَد سَفَكَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِسَيفي هذا دِماءَ رِجالٍ ما أنتَ عِندي خَيرٌ مِنهُم ولا أحرَمُ دَما . قالَ عُمارَةُ : فَنَظَرتُ إلى ذلِكَ الرَّجُلِ وكَأَنَّما قُصِعَ عَلى أنفِهِ الحُمَمُ _ يَعنِي الأَشعَثَ _ (1) .
تاريخ الطبري عن فضيل بن خديج الكندي :قيلَ لِعَلِيٍّ بَعدَما كُتِبَتِ الصَّحيفَةُ : إنَّ الأَشتَرَ لا يُقِرُّ بِما فِي الصَّحيفَةِ ، ولا يَرى إلّا قِتالَ القَومِ . قالَ عَلِيٌّ : وأنَا وَاللّهِ ، ما رَضيتُ ولا أحَبَبتُ أن تَرضَوا ، فَإِذ أبَيتُم إلّا أن تَرضَوا فَقَد رَضيتُ ، فَإِذ رَضيتُ فَلا يَصلُحُ الرُّجوعُ بَعدَ الرِّضا ، ولَا التَّبديلُ بَعدَ الإِقرارِ ، إلّا أن يُعصَى اللّهُ عَزَّ وجَلَّ ويُتَعَدّى كِتابُهُ ، فَقاتِلوا مَن تَرَكَ أمرَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ . وأمَّا الَّذي ذَكَرتُم مِن تَركِهِ أمري وما أنَا عَلَيهِ فَلَيسَ مِن اُولئِكَ ، ولَستُ أخافُهُ عَلى ذلِكَ ، يالَيتَ فيكُم مِثلَهُ اثنَينِ ! يالَيتَ فيكُم مِثلَهُ واحِدا ! يَرى في عَدُوّي ما أرى ؛ إذا لَخَفَّت عَلَيَّ مَؤونَتُكُم ورَجَوتُ أن يَستَقيمَ لي بَعضُ أوَدِكُم ، وقَد نَهَيتُكُم عَمّا أتَيتُم فَعَصَيتُموني ، وكُنتُ أنَا وأنتُم كَما قالَ أخو هَوازِنَ : وهَل أنَا إلّا مِن غَزِيَّةَ إن غَوَت غَوَيتُ وإن تَرشُد غَزِيَّةُ أرشُد (2)
.
ص: 527
12 / 4اِختِلافُ الكَلِمَةِ في أصحابِ الإِمامِتاريخ الطبري عن أبي جناب :خَرَجَ الأَشعَثُ بِذلِكَ الكِتابِ يَقرَؤُهُ عَلَى النّاسِ ، ويَعرِضُهُ عَلَيهِم فَيَقرَؤُنَهُ حَتّى مَرَّ بِهِ عَلى طائِفَةٍ مِن بَني تَميمٍ فيهِم عُروَةُ بنُ أُدَيَّةَ وهُوَ أخو أبي بِلالٍ فَقَرَأَهُ عَلَيهِم فَقالَ عُروَةُ بنُ أُدَيَّةَ : تُحَكِّمونَ في أمرِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ الرِّجالَ ؟ ! لا حُكمَ إلّا للّهِِ ، ثُمَّ شَدَّ بِسَيفِهِ فَضَرَبَ بِهِ عَجُزَ دابَّتِهِ ضَربَةً خَفيفَةً وَاندَفَعَتِ الدّابَّةُ ، وصاحَ بِهِ أصحابُهُ أن أملِك يَدَكَ فَرَجَعَ ، فَغَضِبَ لِلأَشعَثِ قَومُهُ وناسٌ كَثيرٌ مِن أهلِ اليَمَنِ فَمَشَى الأَحنَفُ بنُ قَيسٍ السَّعدِيُّ ومَعقِلُ بنُ قَيسٍ الرِّياحِيُّ ومِسعَرُ بنُ فَدَكِيٍّ وناسٌ كَثيرٌ مِن بَني تَميمٍ فَتَنَصَّلوا (1) إلَيهِ وَاعتَذَروا فَقَبِلَ وصَفَحَ (2) .
الكامل للمبرّد عن أبي العبّاس :أمّا أوَّلُ سَيفٍ سُلَّ مِن سُيوفِ الخَوارِجِ فَسَيفُ عُروَةَ بنِ اُدَيَّةَ ، وذلِكَ أنَّهُ أقبَلَ عَلَى الأَشعَثِ فَقالَ : ما هذِهِ الدَّنيئَةُ يا أشعَثُ ؟ وما هذَا التَّحكيمُ ؟ أشرَطٌ أوثَقُ مِن شَرطِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ؟ ! ثُمَّ شَهَرَ عَلَيهِ السَّيفَ وَالأَشعَثُ مُوَلٍّ ، فَضَرَبَ بِهِ عَجُزَ البَغلَةِ ، فَشَبَّتِ البَغلَةُ فَنَفَرَتِ اليَمانِيَةُ ، وكانوا جُلَّ أصحابِ عَلِيٍّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ . فَلَمّا رَأى ذلِكَ الأَحنَفُ قَصَدَ هُوَ وجارِيَةُ بنُ قُدامَةَ ، ومَسعودُ بنُ فَدَكِيِّ بنِ أعبُدَ ، وشَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ الرِّياحِيُّ إلَى الأَشعَثِ ، فَسَأَلوهُ الصَّفحَ ، فَفَعَلَ (3) .
مروج الذهب :لَمّا وَقَعَ التَّحكيمُ تَباغَضَ القَومُ جَميعا ، وأقبَلَ بَعضُهُم يَتَبَرَّأُ مِن بَعضٍ :
.
ص: 528
يَتَبَرَّأُ الأَخُ مِن أخيهِ ، وَالاِبنُ مِن أبيهِ ، وأمَرَ عَلِيٌّ بِالرَّحيلِ ، لِعِلمِهِ بِاختِلافِ الكَلِمَةِ ، وتَفاوُتِ الرَّأيِ ، وعَدمِ النِّظامِ لِاُمورِهِم ، وما لَحِقَهُ مِنَ الخِلافِ مِنهُم ، وكَثُرَ التَّحكيمُ في جَيشِ أهلِ العِراقِ ، وتَضارَبَ القَومُ بِالمَقارِعِ ونِعالِ السُّيوفِ ، وتَسابّوا ، ولامَ كُلُّ فَريقٍ مِنهُمُ الآخَرَ في رَأيِهِ . وسارَ عَلِيٌّ يَؤُمَّ الكوفَةَ ، ولَحِقَ مُعاوِيَةُ بِدِمَشقَ مِن أرضِ الشّامِ وفَرَّقَ عَساكِرَهُ ، فَلَحِقَ كُلُّ جُندٍ مِنهُم بِبَلَدِهِ (1) .
.
ص: 529
الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين13 / 1خُطبَةُ الإِمامِ عِندَ مُنصَرَفِهِ مِن صِفّينَنهج البلاغة_ مِن خُطبَةٍ لَهُ عليه السلام بَعدَ انصِرافِهِ مِن صِفّينَ _: أحمَدُهُ استِتماما لِنِعَمتِهِ ، وَاستِسلاما لِعِزَّتِهِ ، وَاستِعصاما مِن مَعصِيَتِهِ . وأستَعينُهُ فاقَةً إلى كِفايَتِهِ ؛ إنَّهُ لا يَضِلُّ مَن هَداهُ ، ولا يَئِلُ مَن عاداهُ ، ولا يَفتَقِرُ مَن كَفاهُ ؛ فَإِنَّهُ أرجَحُ ما وُزِنَ وأفضَلُ ما خُزِنَ . وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، شَهادَةً مُمتَحَنا إخلاصُها ، مُعتَقَدا مُصاصُها ، نَتَمسَّكُ بِها أبَدا ما أبقانا . ونَدَّخِرُها لِأَهاويلِ ما يَلقانا ، فَإِنَّها عَزيمَةُ الإِيمانِ ، وفاتِحَةُ الإِحسانِ ، ومَرضاةُ الرَّحمنِ ، ومَدحَرَةُ الشَّيطانِ . وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ ، أرسَلَهُ بِالدِّينِ المَشهورِ ، وَالعَلَمِ المَأثورِ ، وَالكِتابِ المَسطورِ ، وَالنّورِ السّاطِعِ ، وَالضِّياءِ اللّامِعِ ، والأَمرِ الصّادِعِ ، إزاحَةً لِلشُّبُهاتِ ، وَاحتِجاجا بِالبَيِّناتِ . وتَحذيرا بِالآياتِ ، وتَخويفا بِالمَثُلاتِ ، وَالنّاسِ في فِتَنٍ انجَذَمَ فيها حَبلُ الدّينِ ، وتَزَعزَعَت سَوارِي اليَقينِ ، وَاختَلَفَ النَّجرُ (1) وتَشَتَّتَ الأَمرُ ، وضاقَ المَخرَجُ وعَمِى ¨َ
.
ص: 530
المَصدَرُ ، فَالهُدى خامِلٌ وَالعَمى شامِلٌ . عُصِيَ الرَّحمنُ ، ونُصِرَ الشَّيطانُ ، وخُذِلَ الإِيمانُ ، فَانهارَت دَعائِمُهُ ، وتَنَكَّرَت مَعالِمُهُ ، ودَرَسَت سُبُلُهُ ، وعَفَت شُرُكُهُ . أطاعُوا الشَّيطانَ فَسَلَكوا مَسالِكَهُ ، ووَرَدوا مَناهِلَهُ ، بِهِم سارَت أعلامُهُ ، وقامَ لِواؤُهُ في فِتَنٍ داسَتهُم بِأَخفافِها (1) ، ووَطِئَتهُم بِأَظلافِها (2) ، وقامَت عَلى سَنابِكِها (3) ، فَهُم فيها تائِهونَ حائِرونَ جاهِلونَ مَفتونونَ في خَيرِ دارٍ وشَرِّ جيرانٍ . نَومُهُم سُهودٌ وكُحلُهُم دُموعٌ ، بِأَرضٍ عالِمُها مُلجَمٌ وجاهِلُها مُكرَمٌ . [قالَ الشَّريفُ الرَّضِيُّ :] ومِنها يَعني آلَ النَّبِيِّ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : هُم مَوضِعُ سِرِّهِ ، وَلَجَأُ أمرِهِ ، وعَيبَةُ (4) عِلمِهِ ، ومَوئِلُ (5) حُكمِهِ ، وكُهوفُ كُتُبِهِ ، وجِبالُ دينِهِ ، بِهِم أقامَ انحناءَ ظَهرِهِ وأذهَبَ ارتِعادَ فَرائِصِهِ . [قال الشَّريفُ الرَّضِيُّ : ]ومِنها يَعني قَوما آخَرينَ : زَرَعُوا الفُجورَ ، وسَقَوهُ الغُرورَ ، وحَصَدُوا الثُّبورَ (6) . لا يُقاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِن هذِهِ الاُمَّةِ أحَدٌ ، ولا يُسَوّى بِهِم مَن جَرَت نِعمَتُهُم عَلَيهِ أبَدا . هُم أساسُ الدّينِ ، وعِمادُ اليَقينِ . إلَيهِم يَفيءُ الغالي ، وبِهِم يُلحَقُ التّالي . ولَهُم خَصائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ ، وفيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِراثَةُ . الآنَ إذ رَجَعَ الحَقُّ إلى أهلِهِ ، ونُقِلَ إلى مُنتَقَلِهِ (7) .
.
ص: 531
13 / 2رِسالَةُ الإِمامِ لِابنِهِ الحَسَنِ في حاضِرَينِ 1الإمام الباقر عليه السلام :لَمّا أقبَلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام مِن صِفّينَ كَتَبَ إلَى ابنِهِ الحَسَنِ عليه السلام : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم مِنَ الوالِدِ الفانِ ، المُقِرِّ لِلزَّمانِ ، المُدبِرِ العُمُرِ ، المُستَسلِمِ لِلدَّهرِ . الذّامِّ لِلدُّنيا ، السّاكِنِ مَساكِنَ المَوتى ، والظّاعِنِ عَنها غَدا . إلَى المَولودِ المُؤَمِّلِ ما لا يُدرَكُ ، السّالِكِ سَبيلَ مَن قَد هَلَكَ ، غَرَضِ الأَسقامِ ، ورَهينَةِ الأَيّامِ ، ورَمِيَّةِ المَصائِبِ ، وعَبدِ الدُّنيا ، وتاجِرِ الغُرورِ ، وغَريمِ المَنايا ، وأسيرِ المَوتِ ، وحَليفِ الهُمومِ ، وقَرينِ الأَحزانِ ، ونُصُبِ الآفاتِ ، وصَريعِ الشَّهواتِ ، وخَليفَةِ الأَمواتِ . أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ فيما تَبَيَّنتُ مِن إدبارِ الدُّنيا عَنّي ، وجُموحِ الدَّهرِ عَلَيَّ ، وإقبالِ الآخِرَةِ إلَيَّ ، ما يَزَعُني (1) عَن ذِكرِ مَن سِوايَ ، وَالاِهتِمامِ بِما وَرائي ، غَيرَ أنّي حَيثُ تَفَرَّدَ بي دونَ هُمومِ النّاسِ هَمُّ نَفسي ، فَصَدَفَني رَأيي ، وصَرَفَني عَن هَوايَ ،
.
ص: 532
وصَرَّحَ لي مَحضُ أمري ، فَأَفضى بي إلى جِدٍّ لا يَكونُ فيهِ لَعِبٌ ، وصِدقٍ لا يَشوبُهُ كَذِبٌ . ووَجَدتُكَ بَعضي ، بَل وَجَدتُكَ كُلّي حَتّى كَأَنَّ شَيئا لَو أصابَكَ أصابَني ، وكَأَنَّ المَوتَ لَو أتاكَ أتاني ، فَعَناني مِن أمرِكَ ما يَعنيني مِن أمرِ نَفسي ، فَكَتَبتُ إلَيكَ مُستَظهِرا بِهِ إن أنَا بَقيتُ لَكَ أو فَنيتُ . فَإِنّي اُوصيكَ بِتَقوَى اللّهِ _ أي بُنَيَّ _ ولُزومِ أمرِهِ ، وعِمارَةِ قَلبِكَ بِذِكرِهِ ، وَالاِعتِصامِ بِحَبلِهِ . وأيُّ سَبَبٍ أوثَقُ مِن سَبَبٍ بَينَكَ وبَينَ اللّهِ إن أنتَ أخَذتَ بِهِ ؟ ! أحيِ قَلبَكَ بِالمَوعِظَةِ ، وأمِتهُ بِالزَّهادَةِ ، وقَوِّهِ بِاليَقينِ ، ونَوِّرهُ بِالحِكمَةِ ، وذَلَّلهُ بِذِكرِ المَوتِ ، وقَرِّرهُ بِالفَناءِ ، وبَصِّرهُ فَجائِعَ الدُّنيا ، وحَذِّرهُ صَولَةَ الدَّهرِ وفُحشَ تَقَلُّبِ اللَّيالي وَالأَيّامِ ، وَاعرِض عَليهِ أخبارَ الماضينَ ، وذَكِّرهُ بِما أصابَ مَن كانَ قَبلَكَ مِنَ الأَوَّلينَ ، وسِر في دِيارِهِم وآثارِهِم ، فَانظُر فيما فَعَلوا وعَمَّا انتَقَلوا ، وأينَ حَلّوا ونَزَلوا ! فَإِنَّكَ تَجِدُهُم قَد انتَقَلوا عَنِ الأَحِبَّةِ ، وحَلّوا دِيارَ الغُربَةِ ، وكَأَنَّكَ عَن قَليلٍ قَد صِرتَ كَأَحَدِهِم . فَأَصلِح مَثواكَ ، ولا تَبِع آخِرَتَكَ بِدُنياكَ ، ودَعِ القَولَ فيما لا تَعرِفُ ، وَالخِطابَ فيما لَم تُكَلَّف . وأمسِك عَن طَريقٍ إذا خِفتَ ضَلالَتَهُ فَإِنَّ الكَفَّ عِندَ حَيرَةِ الضَّلالِ خَيرٌ مِن رُكوبِ الأَهوالِ . وَأمرُ بِالمَعروفِ تَكُن مِن أهلِهِ ، وأنكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ ولِسانِكَ ، وبايِن مَن فَعَلَهُ بِجُهدِكَ . وجاهِد فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ، ولا تَأخُذكَ فِي اللّهِ لَومَةُ لائِمٍ . وخُضِ الغَمَراتِ لِلحَقِّ حَيثُ كانَ ، وتَفَقَّه فِي الدّينِ ، وعَوِّد نَفسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى المَكروهِ ونِعمَ الخُلُقُ التَّصَبُّرُ ! وألجِئ نَفسَكَ فِي الاُمورِ كُلِّها إلى إلهِكَ ، فَإِنَّكَ تُلجِئُها إلى كَهفٍ حَريزٍ ، ومانعٍ عَزيزٍ . وأخلِص فِي المَسأَلَةِ لِرَبِّكَ ، فَإِنَّ بِيَدِهِ العَطاءَ وَالحِرمانَ ، وأكثِرِ الاِستِخارَةَ ، وتَفَهَّم وَصِيَّتي ، ولا تَذهَبَنَّ عَنها صَفحا ، فَإِنَّ خَيرَ القَولِ ما نَفَعَ . وَاعلَم أنَّهُ لا خَيرَ في عِلمٍ لا يَنفَعُ ، ولا يُنتَفَعُ بِعِلمٍ لا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ .
.
ص: 533
أي بُنَيَّ ، إنّي لَمّا رَأَيتُني قَد بَلغتُ سِنّا ، ورَأَيتُني أزدادُ وَهنا ، بادَرتُ بِوَصِيَّتي إلَيكَ ، وأورَدتُ خِصالاً مِنها قَبلَ أن يَعجَلَ بي أجَلي دونَ أن اُفضِيَ إلَيكَ بِما في نَفسي ، وأن اُنقَصَ في رَأيي كَما نُقِصتُ في جِسمي ، أو يَسبِقَني إلَيكَ بَعضُ غَلَباتِ الهَوى وفِتَنِ الدُّنيا ، فَتَكونَ كَالصَّعبِ النَّفورِ . وإنَّما قَلبُ الحَدَثِ كَالأَرضِ الخالِيَةِ ما اُلقِيَ فيها مِن شَيءٍ قَبِلَتهُ . فَبادَرتُكَ بِالأَدَبِ قَبلَ أن يَقسَُو قَلبُكَ ويَشتَغِلَ لُبُّكَ ؛ لِتَستَقبِلَ بِجِدِّ رَأيِكَ مِنَ الأَمرِ ما قَد كَفاكَ أهلُ التَّجارِبِ بُغيَتَهُ وتَجرِبَتَهُ ، فَتَكونُ قد كُفيتَ مَؤونَةَ الطَّلَبِ ، وعوفيتَ مِن عِلاجِ التَّجرِبَةِ ، فَأَتاكَ مِن ذلِكَ ما قَد كُنّا نَأتيهِ ، وَاستَبانَ لَكَ ما رُبَّما أظلَمَ عَلَينا مِنهُ . أي بُنَيَّ ، إنّي وإن لَم أكُن عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كانَ قَبلي ، فَقَد نَظَرتُ في أعمالِهِم ، وفَكَّرتُ في أخبارِهِم ، وسِرتُ في آثارِهِم حَتّى عُدتُ كَأَحَدِهِم ، بَل كَأَنّي بِمَا انتَهى إلَيَّ مِن اُمورِهِم قَد عُمِّرتُ مَعَ أوَّلِهِم إلى آخِرِهِم ، فَعَرَفتُ صَفوَ ذلِكَ مِن كَدَرِهِ ، ونَفعَهُ مِن ضَرَرِهِ ، فَاستَخلَصتُ لَكَ مِن كُلِّ أمرٍ نَخيلَهُ (1) وتَوَخَّيتُ لَكَ جَميلَهُ وصَرَفتُ عَنكَ مَجهولَهُ ، ورَأَيتُ حَيثُ عَناني مِن أمرِكَ ما يَعنِي الوالِدَ الشَّفيقَ ، وأجمَعتُ عَلَيهِ مِن أدَبِكَ أن يَكونَ ذلِكَ وأنتَ مُقبِلُ العُمُرِ ومُقتَبَلُ الدَّهرِ ، ذو نِيَّةٍ سَليمَةٍ ونَفسٍ صافِيَةٍ ، وأن أبتَدِئَكَ بِتَعليمِ كِتابِ اللّهِ وتَأويلِهِ ، وشَرائِعِ الإِسلامِ وأحكامِهِ ، وحَلالِهِ وحَرامِهِ ، لا اُجاوِزُ ذلِكَ بِكَ إلى غَيرِهِ . ثُمَّ أشفَقتُ أن يَلتَبِسَ عَلَيكَ ما اختَلَفَ النّاسُ فيهِ مِن أهوائِهِم مِثلَ الَّذِي التَبَسَ عَلَيهِم ، فَكانَ إحكامُ ذلِكَ عَلى ما كَرِهتُ مِن تَنبيهِكَ لَهُ أحَبَّ إلَيَّ مِن إسلامِكَ إلى أمرٍ لا آمَنُ عَلَيكَ بِهِ الهَلَكَةَ ، ورَجَوتُ أن يُوَفِّقَكَ اللّهُ فيهِ لِرُشدِكَ ، وأن يَهدِيَكَ لِقَصدِكَ ، فَعَهِدتُ إلَيكَ وَصِيَّتي هذِهِ . وَاعلَم يا بُنَيَّ ، أنَّ أحَبَّ ما أنتَ آخِذٌ بِهِ إلَيَّ مِن وَصِيَّتي تَقوَى اللّهِ وَالاِقتِصار
.
ص: 534
عَلى ما فَرَضَهُ اللّهُ عَلَيكَ ، وَالأَخذُ بِما مَضى عَلَيهِ الأَوَّلونَ مِن آبائِكَ ، وَالصّالِحونَ مِن أهلِ بَيتِكَ ، فَإِنَّهُم لَم يَدَعوا أن نَظَروا لِأَنفُسِهِم كَما أنتَ ناظِرٌ ، وفَكَّروا كَما أنتَ مُفَكِّرٌ ، ثُمَّ رَدَّهُم آخِرُ ذلِكَ إلى الأَخذِ بِما عَرَفوا وَالإِمساكِ عَمّا لَم يُكَلَّفوا ، فَإِن أبَت نَفسُكَ أن تَقبَلَ ذلِكَ دونَ أن تَعلَمَ كَما عَلِموا فَليَكُن طَلَبُكَ ذلِكَ بِتَفَهُّمٍ وتَعَلُّمٍ ، لا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهاتِ وغُلُوِّ الخُصوماتِ (1) . وَابدَأ قَبلَ نَظَرِكَ في ذلِكَ بِالاِستِعانَةِ بِإلهِكَ وَالرَّغبَةِ إلَيهِ في تَوفيقِكَ ، وتَركِ كُلِّ شائِبَةٍ أولَجَتكَ في شُبهَةٍ ، أو أسلَمَتكَ إلى ضَلالَةٍ . فَإِذا أيقَنتَ أن قَد صَفا قَلبُكَ فَخَشَعَ ، وتَمَّ رَأيُكَ فَاجتَمَعَ ، وكانَ هَمُّكَ في ذلِكَ هَمّا واحِدا فَانظُر فيما فَسَّرتُ لَكَ ، وإن أنتَ لَم يَجتَمِع لَكَ ما تُحِبُّ مِن نَفسِكَ ، وفَراغِ نَظَرِكَ وفِكرِكَ ، فَاعلَم أنَّكَ إنَّما تَخبِطُ العَشواءَ (2) ، وتَوَرَّطُ الظَّلماءَ . ولَيسَ طالِبُ الدّينِ مَن خَبَطَ أو خَلَطَ ، وَالإِمساكُ عَن ذلِكَ أمثَلُ . فَتَفَهَّم يا بُنَيَّ وَصِيَّتي ، وَاعلَم أنَّ مالِكَ المَوتِ هُوَ مالِكُ الحَياةِ ، وأنَّ الخالِقَ هُو المُميتُ ، وأنَّ المُفنِيَ هُوَ المُعيدُ ، وأنَّ المُبتَلِيَ هُوَ المُعافي ، وأنَّ الدُّنيا لَم تَكُن لِتَستَقِرَّ إلّا عَلى ما جَعَلَهَا اللّهُ عَلَيهِ مِنَ النَّعماءِ ، وَالاِبتلاءِ ، وَالجَزاءِ فِي المَعادِ أو ما شاءَ مِمّا لا نَعلَمُ ، فَإِن أشكَلَ عَلَيكَ شَيءٌ مِن ذلِكَ فَاحمِلهُ عَلى جَهالَتِكَ بِهِ ، فَإِنَّكَ أوَّلُ ما خُلِقتَ خُلِقتَ جاهِلاً ثُمَّ عُلِّمتَ . وما أكثَرَ ما تَجهَلُ مِنَ الأَمرِ ويَتَحَيَّرُ فيهِ رَأيُكَ ، ويَضِلُّ فيهِ بَصَرُكَ ! ثُمَّ تُبصِرُهُ بَعدَ ذلِكَ ، فَاعتَصِم بِالَّذي خَلَقَكَ ورَزَقَكَ وسَوّاكَ ، وَليَكُن لَهُ تَعَبُّدُكَ وإلَيهِ رَغبَتُكَ ومِنهُ شَفَقَتُكَ . وَاعلَم يا بُنَيَّ أنّ أحَدا لَم يُنبِئ عَنِ اللّهِ كَما أنبَأَ عَنهُ الرَّسولُ صلى الله عليه و آله فَارضَ بِهِ رائِدا ،
.
ص: 535
وإلَى النَّجاةِ قائِدا ، فَإِنّي لَم آلُكَ نَصيحَةً . وإنَّكَ لن تَبلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفسِكَ _ وإنِ اجتَهَدتَ _ مَبلَغَ نَظَري لَكَ . وَاعلَم يا بُنَيَّ أنَّهُ لَو كانَ لِرَبِّكَ شَريكٌ لَأَتَتكَ رُسُلُهُ ، ولَرَأَيتَ آثارَ مُلكِهِ وسُلطانِهِ ، ولَعَرَفتَ أفعالَهُ وصِفاتِهِ ، ولكِنَّهُ إلهٌ واحِدٌ كَما وَصَفَ نَفسَهُ ، لا يُضادُّهُ في مُلكِهِ أحَدٌ ، ولا يَزولُ أبَدا ولَم يَزَل . أوَّلٌ قَبلَ الأَشياءِ بِلا أوَّلِيَّةٍ ، وآخِرٌ بعدَ الأَشياءِ بِلا نِهايَةٍ . عَظُمَ عَن أن تَثبُتَ رُبوبِيَّتُهُ بِإِحاطَةِ قَلبٍ أو بَصَرٍ . فَإِذا عَرَفتَ ذلِكَ فَافعَل كَما يَنبَغي لِمِثلِكَ أن يَفعَلَهُ في صِغَرِ خَطَرِهِ ، وقِلَّةِ مَقدِرَتِهِ ، وكَثرَةِ عَجزِهِ ؛ وعَظيمِ حاجَتِهِ إلى رَبِّهِ في طَلَبِ طاعَتِهِ ، وَالرَّهبَةِ مِن عُقوبَتِهِ ، وَالشَّفَقَةِ من سُخطِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَم يَأمُركَ إلّا بِحَسَنٍ ، ولَم يَنهَكَ إلّا عَن قَبيحٍ . يا بُنَيَّ ، إنّي قَد أنبَأتُكَ عَنِ الدُّنيا وحالِها وزَوالِها وَانتِقالِها ، وأنبَأتُكَ عَنِ الآخِرَةِ وما اُعِدَّ لِأَهلِها فيها ، وضَربَتُ لَكَ فيهِمَا الأَمثالَ ؛ لِتَعتَبِرَ بِها وتَحذُوَ عَلَيها . إنَّما مَثَلُ مَن خَبَرَ الدُّنيا كَمَثَلِ قَومٍ سَفرٍ نَبا بِهِم مَنزِلٌ جَديبٌ ، فَأَمّوا مَنزِلاً خَصيبا وجَنابا مَريعا ، فَاحتَمَلوا وَعثاءَ الطَّريقِ وفِراقَ الصَّديقِ ، وخُشونَةَ السَّفَرِ ، وجُشوبَةَ المَطعَمِ ؛ لِيَأتوا سَعَةَ دارِهِم ومَنزِلَ قَرارِهِم ، فَلَيسَ يَجِدونَ لِشَيءٍ مِن ذلِكَ ألَما ، ولا يَرَونَ نَفَقَةً مَغرَما ، ولا شَيءَ أحَبُّ إلَيهِم مِمّا قَرَّبَهُم مِن مَنزِلِهِم ، وأدناهُم مِن مَحَلِّهِم . ومَثَلُ مَنِ اغتَرَّ بِها كَمَثَلِ قَومٍ كانوا بِمَنزِلٍ خَصيبٍ فَنَبا بِهِم إلى مَنزِلٍ جَديبٍ ، فَلَيسَ شَيءٌ أكرَهَ إلَيهِم ولا أفظَعَ عِندَهُم مِن مُفارَقَةِ ما كانوا فيه إلى ما يَهجُمونَ عَلَيهِ ويَصيرونَ إلَيهِ . يا بُنَيَّ ، اجعَل نَفسَكَ ميزانا فيما بَينَكَ وبَينَ غَيرِكَ ، فَأَحبِب لِغَيرِكَ ما تُحِبُّ لِنَفسِكَ ، وَاكرَه لَهُ ما تَكرَهُ لَها ، ولا تَظلِم كَما لا تُحِبُّ أن تُظلَمَ ، وأحسِن كَما تُحِبُّ أن يُحسَنَ إلَيكَ ، وَاستَقبِح مِن نَفسِكَ ما تَستَقبِحُ مِن غَيرِكَ ، وَارضَ مِنَ النّاسِ بِما تَرضاه
.
ص: 536
لَهُم مِن نَفسِكَ ، ولا تَقُل ما لا تَعلَمُ وإن قَلَّ ما تَعلَمُ ، ولا تَقُل ما لا تُحِبُّ أن يُقالَ لَكَ . وَاعلَم أنَّ الإِعجابَ ضِدُّ الصَّوابِ ، وآفَةُ الأَلبابِ . فَاسعَ في كَدحِكَ ، ولا تَكُن خازِنا لِغَيرِكَ . وإذا أنتَ هُديتَ لِقَصدِكَ فَكُن أخشَعَ ما تَكونُ لِرَبِّكَ . وَاعلَم أنَّ أمامَكَ طَريقا ذا مَسافَةٍ بَعيدَةٍ ومَشَقَّةٍ شَديدَةٍ ، وأنَّهُ لا غِنى لَكَ فيهِ عَن حُسنِ الاِرتيادِ وقَدرِ (1) بَلاغِكَ مِنَ الزّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهرِ ، فَلا تَحمِلَنَّ عَلى ظَهرِكَ فَوقَ طاقَتِكَ ، فَيَكونَ ثِقلُ ذلِكَ وَبالاً عَلَيكَ . وإذا وَجَدتَ مِن أهلِ الفاقَةِ مَن يَحمِلُ لَكَ زادَكَ إلى يَومِ القِيامَةِ فَيُوافيكَ بِهِ غَدا حَيثُ تَحتاجُ إلَيهِ فَاغتَنِمهُ وحَمِّلهُ إيّاهُ ، وأكثِر مِن تَزويدِهِ وأنتَ قادِرٌ عَلَيهِ ، فَلَعَلَّكَ تَطلُبُهُ فَلا تَجِدُهُ . وَاغتَنِم مَنِ استَقرَضَكَ في حالِ غِناكَ ؛ لِيَجعَلَ قَضاءَهُ لَكَ في يَومِ عُسرَتِكَ . وَاعلَم أنَّ أمامَكَ عَقَبَةً كَؤودا (2) ، المُخِفُّ فيها أحسَنُ حالاً مِنَ المُثقِلِ ، وَالمُبطِئُ عَلَيها أقبَحُ حالاً مِنَ المُسرِعِ ، وأنَّ مَهبِطَكَ بِها لا مَحالَةَ عَلى جَنَّةٍ أو عَلى نارٍ . فَارتَد لِنَفسِكَ قَبلَ نُزُلِكَ ووَطِّي المَنزِلَ قَبلَ حُلولِكَ ، فَلَيس بَعدَ المَوتِ مُستَعتَبٌ ، ولا إلَى الدُّنيا مُنصَرَفٌ . وَاعلَم أنَّ الَّذي بِيَدِهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالأَرضِ قَد أذِنَ لَكَ فِي الدُّعاءِ وتَكَفَّلَ لَكَ بِالإِجابَةِ ، وأمَرَكَ أن تَسأَلَهُ لِيُعطِيَكَ وتَستَرحِمُهُ لِيَرحَمَكَ ، ولَم يَجعَل بَينَكَ وبَينَهُ مَن يَحجُبُهُ عَنكَ ، ولَم يُلجِئكَ إلى مَن يَشفَعُ لَكَ إلَيهِ ، ولَم يَمنَعكَ إن أسَأتَ مِنَ التَّوبَةِ ، ولَم يُعاجِلكَ بِالنِّقمَةِ ، ولَم يُعَيِّركَ بِالإِنابَةِ ، ولَم يَفضَحكَ حَيثُ الفَضيحَةُ بِكَ أولى ، ولَم يُشَدِّد عَلَيكَ في قَبولِ الإِنابَةِ ، ولَم يُناقِشكَ بِالجَريمَةِ ، ولَم يُؤيِسكَ مِنَ الرَّحمَةِ . بل جَعَلَ نُزوعَكَ عَنِ الذَّنبِ حَسَنَةً ، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ واحِدَةً ، وَحَسَب
.
ص: 537
حَسَنَتَكَ عَشرا ، وفَتَحَ لَكَ بابَ المَتابِ . فَإِذا نادَيتَهُ سَمِعَ نِداءَكَ ، وإذا ناجَيتَهُ عَلِمَ نَجواكَ ، فَأَفضَيتَ إلَيهِ بِحاجَتِكَ ، وأبثَثتَهُ ذاتَ نَفسِكَ ، وشَكَوتَ إلَيهِ هُمومَكَ ، وَاستَكشَفتَهُ كُروبَكَ ، وَاستَعَنتَهُ عَلى اُمورِكَ ، وسَأَلتَهُ مِن خَزائِنِ رَحمَتِهِ ما لا يَقدِرُ عَلى إعطائِهِ غَيرُهُ مِن زِيادَةِ الأَعمارِ وصِحَّةِ الأَبدانِ وسَعَةِ الأَرزاقِ . ثُمَّ جَعَلَ في يَدَيكَ مَفاتيحَ خَزائِنِهِ بِما أذِنَ لَكَ مِن مَسأَلَتِهِ ، فَمَتى شِئتَ استَفتَحتَ بِالدُّعاءِ أبوابَ نِعمَتِهِ ، وَاستَمطَرتَ شَآبيبَ (1) رَحمَتِهِ . فَلا يُقَنِّطَنَّكَ إبطاءُ إجابَتِهِ ، فَإِنَّ العَطِيَّةَ عَلى قَدرِ النِّيَّةِ . ورُبَّما اُخِّرَت عَنكَ الإِجابَةُ لِيَكونَ ذلِكَ أعظَمَ لِأَجرِ السّائِلِ وأجزَلَ لِعَطاءِ الآمِلِ . ورُبَّما سَأَلتَ الشَّيءَ فَلا تُؤتاهُ واُوتيتَ خَيرا مِنهُ عاجِلاً أو آجِلاً ، أو صُرِفُ عَنكَ لِما هُوَ خَيرٌ لَكَ . فَلَرُبَّ أمرٍ قَد طَلَبتَهُ فيهِ هَلاكُ دينِكَ لَو اُوتيتَهُ . فَلتَكُن مَسأَلَتُكَ فيما يَبقى لَكَ جَمالُهُ ويُنفى عَنكَ وَبالُهُ ، فَالمالُ لا يَبقى لَكَ ولا تَبقى لَهُ . وَاعلَم أنَّكَ إنَّما خُلِقتَ لِلآخِرَةِ لا لِلدُّنيا ، ولِلفَناءِ لا لِلبَقاءِ ، ولِلمَوتِ لا لِلحَياةِ ، وأنَّكَ في مَنزِلِ قُلعَةٍ (2) ودارِ بُلغَةٍ (3) وطِريقٍ إلَى الآخِرَةِ ، وأنَّكَ طَريدُ المَوتِ الَّذي لا يَنجو مِنهُ هارِبُهُ ، ولابُدَّ أنَّهُ مُدرِكُهُ ، فَكُن مِنهُ عَلى حَذَرٍ أن يُدرِكَكَ وأنتَ عَلى حالٍ سَيِّئَةٍ ، قَد كُنتَ تُحَدِّثُ نَفَسَك مِنها بِالتَّوبَةِ فَيَحولَ بَينَكَ وبَينَ ذلِكَ ، فَإِذا أنتَ قَد أهلَكتَ نَفسَكَ . يا بُنَيَّ ، أكثِر مِن ذِكرِ المَوتِ ، وذِكرِ ما تَهجُمُ عَلَيهِ ، وتُفضي بَعدَ المَوتِ إلَيهِ ، حَتّى يَأتِيَكَ وقَد أخَذتَ مِنهُ حِذرَكَ ، وشَدَدتُ لَهُ أزرَكَ ، ولا يَأتِيَكَ بَغتَةً فَيَبهَرَكَ . وإيّاكَ أن تَغتَرَّ بِما تَرى مِن إخلادِ أهلِ الدُّنيا إلَيها ، وتَكالُبِهِم عَلَيها ، فَقَد نَبَّأَكَ اللّهُ عَنها ، ونَعَت لَكَ نَفسَها ، وتَكَشَّفَت لَكَ عَن مَساويها ، فَإِنَّما أهلُها كِلابٌ عاوِيَةٌ ،
.
ص: 538
وسِباعٌ ضارِيَةٌ ، يَهِرُّ بَعضُها بَعضا ، ويَأكُلُ عَزيزُها ذَليلَها ، ويَقهَرُ كَبيرُها صَغيرَها . نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ ، واُخرى مُهمَلَةٌ ، قَد أضَلَّت عُقولَها ورَكِبَت مَجهولَها . سُروحُ عاهَةٍ بِوادٍ وَعثٍ (1) ، لَيسَ لَها راعٍ يُقيمُها ، ولا يُسيمُها . سَلَكَت بِهِمُ الدُّنيا طَريقَ العَمى ، وأخَذَت بِأَبصارِهِم عَن مَنارِ الهُدى ، فَتاهوا في حَيرَتِها ، وغَرِقوا في نِعمَتِها ، وَاتَّخَذوها رَبّا ، فَلَعِبَت بِهِم ولَعِبوا بِها ونَسوا ماوَراءَها . رُوَيدا يُسفِرُ الظَّلامُ ، كَأَن قَد وَرَدَتِ الأَظعانُ ، يوشِكُ مَن أسرَعَ أن يَلحَقَ ! وَاعلَم أنَّ مَن كانَت مَطِيَّتُهُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ فَإِنَّهُ يُسارُ بِهِ وإن كانَ واقِفا ، ويَقطَعُ المَسافَةَ وإن كانَ مُقيما وادِعا . وَاعلَم يَقينا أنَّكَ لَن تَبلُغَ أمَلَكَ ولَن تَعدُوَ أجَلَكَ ، وأنَّكَ في سَبيلِ مَن كانَ قَبلَكَ . فَخَفِّض فِي الطَّلَبِ ، وأجمِل فِي المُكتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَد جَرَّ إلى حَرَبٍ ، فَلَيسَ كُلُّ طالِبٍ بِمَرزوقٍ ، ولاكُلُّ مُجمِلٍ بِمَحرومٍ . وأكرِم نَفسَكَ عَن كُلِّ دَنِيَّةٍ وإن ساقَتكَ إلَى الرَّغائِبِ ، فَإِنَّكَ لَن تَعتاضَ بِما تَبذُلُ مِن نَفسِكَ عِوَضا . ولا تَكُن عَبدَ غَيرِكَ وقَد جَعَلَكَ اللّهُ حُرّا . وما خَيرُ خَيرٍ لا يُنالُ إلّا بِشَرٍّ ، ويُسرٍ لا يُنالُ إلّا بِعُسرٍ . وإيّاكَ أن توجِفَ بِكَ مَطايَا الطَّمَعِ ، فَتورِدَكَ مَناهِلَ الهَلَكَةِ . وإنِ استَطَعتَ ألّا يَكونَ بَينَكَ وبَينَ اللّهِ ذُو نِعمَةٍ فَافعَل ، فَإِنَّكَ مُدرِكٌ قَسمَكَ وآخِذٌ سَهمَكَ . وإنَّ اليَسيرَ مِنَ اللّهِ سُبحانَهُ أعظَمُ وأكرَمُ مِنَ الكَثيرِ مِن خَلقِهِ وإن كانَ كُلٌّ مِنهُ . وتَلافيكَ ما فَرَطَ مِن صَمتِكَ أيسَرُ مِن إدراكِكَ ما فاتَ مِن مَنطِقِكَ ، وحِفظُ ما فِي الوِعاءِ بِشَدِّ الوِكاءِ (2) ، وحِفظُ ما في يَدَيكَ أحَبُّ إلَيَّ مِن طَلَبِ ما في يَدِ غَيرِكَ . ومَرارَةُ اليَأسِ خَيرٌ مِنَ الطَّلَبِ إلَى النّاسِ . وَالحِرفَةُ مَعَ العِفَّةِ خَيرٌ مِنَ الغِنى مَعَ الفُجورِ . وَالمَرءُ أحفَظُ لِسِرِّهِ . ورُبَّ ساعٍ فيما يَضُرُّهُ ! مَن أكثَرَ أهجَرَ . ومَن تَفَكَّر
.
ص: 539
أبصَرَ . قارِن أهلَ الخَيرِ تَكُن مِنهُم . وبايِن أهلَ الشَّرِّ تَبِن عَنهُم . بِئسَ الطَّعامُ الحَرامُ ! وظُلمُ الضَّعيفِ أفحَشُ الظُّلمِ ! إذا كانَ الرِّفقُ خُرقا كانَ الخُرقُ رِفقا . رُبَّما كانَ الدَّواءُ داءً . ورُبَّما نَصَحَ غَيرُ النّاصِحِ ، وغَشَّ المُستَنصَحُ . وإيّاكَ وَاتِّكالَكَ عَلَى المُنى فَإِنَّها بَضائِعُ المَوتى ، وَالعَقلُ حِفظُ التَّجارِبِ . وخَيرُ ما جَرَّبتَ ما وَعَظَكَ . بادِرِ الفُرصَةَ قَبلَ أن تَكونَ غُصَّةً . لَيسَ كُلُّ طالِبٍ يُصيبُ ، ولا كُلُّ غائِبٍ يَؤوبُ . ومِنَ الفَسادِ إضاعَةُ الزّادِ ومَفسَدَةُ المَعادِ . ولِكُلِّ أمرٍ عاقِبَةٌ . سَوفَ يَأتيكَ ما قُدِّرَ لَكَ . التّاجِرُ مُخاطِرٌ . ورُبَّ يَسيرٍ أنمى مِن كَثيرٍ ! لا خَيرَ في مُعينٍ مَهينٍ ولا في صَديقٍ ظَنينٍ . ساهِلِ الدَّهرَ ما ذَلَّ لَكَ قُعودُهُ . ولا تُخاطِر بِشَيءٍ رَجاءَ أكثَرَ مِنهُ . وإيّاكَ أن تَجمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجاجِ . اِحمِل نَفسَكَ مِن أخيكَ عِندَ صَرمِهِ (1) عَلَى الصِّلَةِ ، وعِندَ صُدودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالمُقارَبَةِ ، وعِندَ جُمودِهِ عَلَى البَذلِ ، وعِندَ تَباعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ ، وعِندَ شِدَّتِهِ عَلَى اللّينِ ، وعِندَ جُرمِهِ عَلَى العُذرِ حَتّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبدٌ وكَأَنَّهُ ذُو نِعمَةٍ عَلَيكَ . وإيَّاك أن تَضَعَ ذلِكَ في غَيرِ مَوضِعِهِ ، أو أن تَفعَلَهُ بِغَيرِ أهلِهِ . لا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَديقِكَ صَديقا فَتُعادِيَ صَديقَكَ . وَامحَض أخاكَ النَّصيحَةَ حَسَنَةً كانَت أو قَبيحَةً . وتَجَرَّعِ الغَيظَ (2) فَإِنّي لَم أرَ جُرعَةً أحلى مِنها عاقِبَةً ولا ألَذَّ مَغَبَّةً ! وَلِن لِمَن غالَظَكَ فَإِنَّهُ يوشِكُ أن يَلينَ لَكَ . وخُذ عَلى عَدُوِّكَ بِالفَضلِ فَإِنَّهُ أحلَى الظَّفَرَينِ . وإن أرَدتَ قَطيعَةَ أخيكَ فَاستَبقِ لَهُ مِن نَفسِكَ بَقِيَّةً تَرجِعُ إلَيها إن بَدا لَهُ ذلِكَ يَوما ما . ومَن ظَنَّ بِكَ خَيرا فَصَدِّق ظَنَّهُ . ولا تُضِيعَنَّ حَقَّ أخيكَ اتِّكالاً عَلى ما بَينَكَ وبَينَهُ ، فَإِنَّهُ لَيسَ لَكَ بِأخٍ مَن أضَعتَ حَقَّهُ . ولا يَكُن أهلُكَ أشقَى الخَلقِ بِكَ . ولا تَرغَبَنَّ فيمَن زَهِدَ فيكَ . ولا يَكونَنَّ أخوكَ أقوى عَلى قَطيعَتِكَ مِنكَ عَلى صِلَتِهِ . ولا تَكونَنَّ عَلَى الإِساءَةِ أقوى مِنكَ عَلَى الإِحسانِ . ولا يَكبُرَنَّ عَلَيكَ ظُلمُ مَن ظَلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسعى في مَضَرَّتِه
.
ص: 540
ونَفعِكَ . ولَيسَ جَزاءُ مَن سَرَّكَ أن تَسوءَهُ . وَاعلَم يا بُنَيَّ ، أنَّ الرِّزقَ رِزقانِ : رِزقٌ تَطلُبُهُ ، ورِزقٌ يَطلُبُكَ فَإِن أنتَ لَم تَأتِهِ أتاكَ . ما أقبَحَ الخُضوعَ عِندَ الحاجَةِ وَالجَفاءَ عِندَ الغِنى ! إنّ لَكَ مِن دُنياكَ ما أصلَحتَ بِهِ مَثواكَ . وإن جَزِعتَ عَلى ما تَفَلَّتَ مِن يَدَيكَ فَاجزَع عَلى كُلِّ ما لَم يَصِل إلَيكَ . اِستَدِلَّ عَلى ما لَم يَكُن بِما قَد كانَ ، فَإِنَّ الاُمورَ أشباهٌ . ولا تَكونَنَّ مِمَّن لا تَنفَعُهُ العِظَةُ إلّا إذا بالَغتَ في إيلامِهِ ، فَإِنَّ العاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآدابِ وَالبَهائِمَ لا تَتَّعِظُ إلّا بِالضَّربِ . اِطرَح عَنكَ وارِداتِ الهُمومِ بِعَزائِمِ الصَّبرِ وحُسنِ اليَقينِ . مَن تَرَكَ القَصدَ جارَ . وَالصّاحِبُ مَناسِبٌ . وَالصَّديقُ مَن صَدَقَ غَيبُهُ . وَالهَوى شَريكُ العَناءِ . رَبَّ قَريبٍ أبعَدُ مِن بَعيدٍ ، ورُبَّ بَعيدٍ أقرَبُ مِن قَريبٍ . وَالغَريبُ مَن لَم يَكُن لَهُ حَبيبٌ . مَن تَعَدَّى الحَقَّ ضاقَ مَذهَبُهُ . ومَنِ اقتَصَرَ عَلى قَدرِهِ كانَ أبقى لَهُ . وأوثَقُ سَبَبٍ أخَذتَ بِهِ سَبَبٌ بَينَكَ وبَينَ اللّهِ ! ومَن لَم يُبالِكَ فَهُو عَدُوُّكَ . قَد يَكونُ اليَأسُ إدراكا إذا كانَ الطَّمَعُ هَلاكا . لَيسَ كُلُّ عَورَةٍ تَظهَرُ ولا كُلُّ فُرصَةٍ تُصابُ . ورُبَّما أخطَأَ البَصيرُ قَصدَهُ وأصابَ الأَعمى رُشدَهُ . أخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إذا شِئتَ تَعَجَّلتَهُ . وقَطيعَةُ الجاهِلِ تَعدِلُ صِلَةَ العاقِلِ . مَن أمِنَ الزّمانَ خانَهُ ، ومَن أعظَمَهُ أهانَهُ . لَيسَ كُلُّ مَن رَمى أصابَ . إذا تَغَيَّرَ السُّلطانُ تَغَيَّرَ الزَّمانُ . سَل عَنِ الرَّفيقِ قَبلَ الطَّريقِ ، وعَنِ الجارِ قَبلَ الدّارِ . إيّاكَ أن تَذكُرَ فِي الكَلامِ ما يَكونُ مُضحِكا وإن حَكَيتَ ذلِكَ عَن غَيرِكَ . وإيّاكَ ومُشاوَرَةَ النِّساءِ فَإِنَّ رَأيَهُنَّ إلى أفنٍ (1) وعَزمَهُنَّ إلى وَهنٍ . وَاكفُف عَلَيهِنَّ مِن أبصارِهِنَّ بِحِجابِكَ إيّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ الحِجابِ أبقى عَلَيهِنَّ ، ولَيسَ خُروجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِن إدخالِكَ مَن لا يُوثَقُ بِهِ عَلَيهِنَّ ، وإنِ استَطَعتَ أن لا يَعرِفنَ غَيرَكَ فَافعَل . ولا تُمَلِّكِ المَرأَةَ مِن أمرِها ما جاوَزَ نَفسَها فَإِنَّ المَرأَةَ رَيحانَةٌ ولَيسَت بِقَهرَمانَةٍ ولا تَعْدُ بِكَرامَتِها نَفسَها ، ولا تُطمِعها في أن تَشفَعَ بِغَيرِها . وإيّاكَ وَالتَّغايُر
.
ص: 541
في غيرِ مَوضِعِ غَيرَةٍ فَإِنَّ ذلِكَ يَدعُو الصَّحيحَةَ إلَى السَّقَمِ وَالبَريئَةَ إلَى الرِّيَبِ . وَاجعَل لِكُلِّ إنسانٍ مِن خَدَمِكَ عَمَلاً تَأخُذُهُ بِهِ فَإِنَّهُ أحرى أن لا يَتَواكَلوا في خِدمَتِكَ . وأكرِم عَشيرَتَكَ فَإِنَّهُم جَناحُكَ الَّذي بِهِ تَطيرُ ، وأصلُكَ الَّذي إلَيهِ تَصيرُ ، ويَدُكَ الَّتي بِها تَصولُ . أستَودِعُ اللّهَ دينَكَ ودُنياكَ ، وَأَسالَهُ خَيرَ القَضاءِ لَكَ فَي العاجِلَةِ وَالآجِلَةِ وَالدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَالسَّلامُ (1) .
13 / 3بَدءُ تَدَفُّقِ الاِعتِراضِتاريخ الطبري عن جندب الأزدي_ في بَيانِ مَسيرِ الإِمامِ عليه السلام مِن صِفّينَ إلَى الكوفَةِ _: ثُمَّ مَضى عَلِيٌّ غَيرَ بَعيدٍ ، فَلَقِيَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ وَديعَةَ الأَنصارِيُّ ، فَدَنا مِنهُ ، وسَلَّمَ عَلَيهِ وسايَرَهُ . فَقالَ لَهُ : ما سَمِعتَ النّاسَ يَقولونَ في أمرِنا ؟ قالَ : مِنهُم المُعجَبُ بِهِ ، ومِنهُمُ الكارِهُ لَهُ ، كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ : «وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» (2) . فَقالَ لَهُ : فَما قَولُ ذَوِي الرَّأيِ فيهِ ؟ قالَ : أمّا قَولُهُم فيهِ فَيَقولونَ : إنَّ عَلِيّا كانَ لَهُ جَمعٌ عَظيمٌ فَفَرَّقَهُ ، وكانَ لَهُ حِصنٌ حَصينٌ فَهَدَمَهُ ، فَحَتّى مَتى يَبني ما هَدَمَ ، وحَتّى مَتى يَجمَعُ ما فَرَّقَ ! فَلَو أنَّهُ كانَ مَضى بِمَن أطاعَهُ _ إذ عَصاهُ مَن عَصاهُ _ فَقاتَلَ حَتّى يَظفَرَ أو يَهلِكَ إذا كانَ ذلِكَ الحَزمَ . فَقالَ عَلِيٌّ : أنَا هَدَمتُ أم هُم هَدَموا ! أنا فَرَّقتُ أم هُم فَرَّقوا ! أمّا قَولُهُم : إنَّهُ لَو
.
ص: 542
كانَ مَضى بِمَن أطاعَهُ إذ عَصاهُ مَن عَصاهُ فَقاتَلَ حَتّى يَظفَرَ أو يَهلِكَ ، إذا كانَ ذلِكَ الحَزمَ ؛ فَوَاللّهِ ، ما غَبِيَ عَن رَأيي ذلِكَ ، وإن كُنتُ لَسَخِيّا بِنَفسي عَنِ الدُّنيا ، طَيِّبَ النَّفسِ بِالمَوتِ ، ولَقَد هَمَمتُ بِالإِقدامِ عَلَى القَومِ ، فَنَظَرتُ إلى هذَينِ قَد ابتَدَراني _ يَعنِي الحَسنَ وَالحُسينَ _ ونَظَرتُ إلى هذَينِ قَد استَقدَماني _ يَعني عَبدَ اللّهِ بنَ جَعفَرٍ ومُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ _ فَعَلِمتُ أنَّ هذَينِ إن هَلَكَا انقَطَعَ نَسلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِن هذِهِ الاُمَّةِ ، فَكَرِهتُ ذلِكَ ، وأشفَقتُ عَلى هذَينِ أن يَهلِكا ، وقَد عَلِمتُ أن لَولا مَكاني لَم يَستَقدِما _ يَعني مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ وعَبدَ اللّهِ بنَ جَعفَرٍ _ وَايمُ اللّهِ ، لَئِن لَقيتُهُم بَعدَ يَومي هذا لَأَلقَيَنَّهُم ولَيسوا مَعي في عَسكَرٍ ولا دارٍ (1) .
الإرشاد عن الإمام عليّ عليه السلام_ في جَوابِ الخَوارِجِ المُعتَرِضينَ عَلَى التَّحكيمِ قَبلَ دُخولِ الكوفَةِ _: اللّهُمَّ هذا مَقامٌ مَن فَلَجَ (2) فيهِ كانَ أولى بِالفَلجِ يَومَ القِيامَةِ ، ومَن نَطِفَ (3) فيهِ أو غَلَّ فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أعمى وأضَلُّ سَبيلاً . نَشَدتُكُم بِاللّهِ ! أ تَعلَمونَ أنَّهُم حينَ رَفَعُوا المَصاحِفَ ، فَقُلتُم : نُجيبُهُم إلى كِتابِ اللّهِ ، قُلتُ لَكُم : إنّي أعلَمُ بِالقَومِ مِنكُم ، إنَّهُم لَيسوا بِأَصحابِ دينٍ ولا قُرآنٍ ، إنّي صَحِبتُهُم وعَرَفتُهُم أطفالاً ورِجالاً ؛ فَكانوا شَرَّ أطفالٍ ، وشَرَّ رِجالٍ ، امضوا عَلى حَقِّكُم وصِدقِكُم ، إنَّما رَفَعَ القَومُ لَكُم هذِهِ المَصاحِفَ خَديعَةً ووَهنا ومَكيدَةً . فَرَدَدتُم عَلَيَّ رَأيي ، وقُلتُم : لا ، بَل نَقبَلُ مِنهُم . فَقُلتُ لَكُم : اُذكُروا قَولي لَكُم ومَعصِيَتَكُم إيّايَ ؟
.
ص: 543
فَلَمّا أبَيتُم إلَا الكِتابَ ، اشتَرَطتُ عَلَى الحَكَمَينِ أن يُحيِيا ما أحياهُ القُرآنُ ، وأن يُميتا ما أماتَ القُرآنُ ؛ فَإِن حَكَما بِحُكمِ القُرآنِ فَلَيسَ لَنا أن نُخالِفُ حُكمَ مَن حَكَمَ بِما فِي الكِتابِ ، وإن أبَيا فَنَحنُ مِن حُكمِهِما بُرَآءُ . فَقالَ لَهُ بَعضُ الخَوارِجِ : فَخَبِّرنا أ تَراهُ عَدلاً تَحكيمَ الرِّجالِ فِي الدِّماءِ ؟ فَقالَ : إنّا لَم نُحَكِّمِ الرِّجالَ ، إنَّما حَكَّمنَا القُرآنَ ، وهذَا القُرآنُ إنَّما هُوَ خَطٌّ مَسطورٌ بَينَ دَفَّتَينِ لا يَنطِقُ ، وإنَّما يَتَكَلَّمُ بِهِ الرِّجالُ . قالوا لَهُ : فَخَبِّرنا عَنِ الأَجَلِ ؛ لِمَ جَعَلتَهُ فيما بَينَكَ وبَينَهُم . قالَ : لِيَتَعَلَّمَ الجاهِلُ ، ويَتَثَبَّتَ العالِمُ ، ولَعَلَّ اللّهَ أن يُصلِحَ في هذِهِ الهُدنَةِ هذِهِ الاُمَّةَ . اُدخُلوا مِصرَكُم رَحِمَكُمُ اللّهُ . ودَخَلوا مِن عِندِ آخِرِهِم (1) .
الإمام عليّ عليه السلام_ لَمّا قالَ لَهُ رَجُلٌ مِن أصحابِهِ : نَهَيتَنا عَنِ الحُكومَةِ ، ثُمَّ أمَرتَنا بِها ، فَلَم نَدرِ أيُّ الأَمرَينِ أرشَدُ ؟ _: هذا جَزاءُ مَن تَرَكَ العُقدَةَ ! أما وَاللّهِ لَو أنّي حينَ أمَرتُكُم بِهِ حَمَلتُكُم عَلَى المَكروهِ الَّذي يَجعَلُ اللّهِ فيهِ خَيرا ، فَإِنِ استَقَمتُم هَدَيتُكُم ، وإنِ اعوَجَجتُم قَوَّمتُكُم ، وإن أبَيتُم تَدارَكتُكُم _ لَكانَتِ الوُثقى . ولكِن بِمَن ، وإلى من ؟ اُريدُ أن اُداوِيَ بِكُم وأنتُم دائي ؛ كَناقِشِ الشَّوكَةِ بِالشَّوكَةِ وهُوَ يَعلَمُ أنَّ ضَلعَها (2) مَعها ! اللّهُمَّ قَد مَلَّت أطِبّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ ، وكَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأشطانِ الرَّكِيِّ !
.
ص: 544
أينَ القَومُ الَّذينَ دُعوا إلَى الإِسلامِ فَقَبِلوهُ ، وقَرَؤُوا القُرآنَ فَأَحكَموهُ ، وهِيجوا إلَى الجِهادِ فَوَلِهوا وَلَهَ اللِّقاحِ إلى أولادِها ، وسَلَبُوا السُّيوفَ أغمادَها ، وأخَذوا بِأَطرافِ الأَرضِ زَحفا زَحفا ، وصَفّا صَفّا . بَعضٌ هَلَكَ ، وبَعضٌ نَجا . لا يُبَشَّرونَ بِالأَحياءِ ، ولا يُعَزَّونَ عَنِ المَوتى . مُرْهُ العُيونِ مِنَ البُكاءِ ، خُمصُ البُطونِ مِنَ الصِّيامِ ، ذُبلُ الشِّفاهِ مِنَ الدُّعاءِ ، صُفرُ الأَلوانِ مِنَ السَّهَرِ ، عَلى وُجوهِهِم غَبَرَةُ الخاشِعينَ . اُولئِكَ إخوانِيَ الذّاهِبونَ . فَحَقٌّ لَنا أن نَظمَأَ إلَيهِم ، ونَعَضَّ الأَيدِيَ عَلى فِراقِهِم . إنَّ الشَّيطانَ يُسَنِّي لَكُم طُرُقَهُ ، ويُريدُ أن يَحُلَّ دينَكُم عُقدَةً عُقدَةً ، ويُعطِيَكُم بِالجَماعَةِ الفُرقَةَ ، وبِالفُرقَةِ الفِتنَةَ ، فَاصدِفوا عَن نَزَغاتِهِ ونَفَثاتِهِ ، وَاقبَلُوا النَّصيحَةَ مِمَّن أهداها إلَيهِم ، وَاعقِلوها عَلى أنفُسِكُم 1(1) .
13 / 4دُخولُ الكُوفَةِ وبَدءُ فِتنَةٍ اُخرىتاريخ الطبري عن عمارة بن ربيعة_ في صِفَةِ أصحابِ الإِمامِ عليه السلام _: خَرَجوا مَعَ عَلِيٍّ إلى صِفّينَ وهُم مُتَوادّونَ أحِبّاءُ ، فَرَجَعوا مُتَباغِضينَ أعداءَ ، ما بَرِحوا مِن عَسكَرِهِم
.
ص: 545
بِصِفّينَ حَتّى فَشا فيهِمُ التَّحكيمُ، ولَقَد أقبَلوا يَتَدافَعونَ الطَّريقَ كُلَّهُ ويَتَشاتَمونَ ويَضطَرِبونَ بِالسِّياطِ . يَقولُ الخَوارِجُ : يا أعداءَ اللّهِ ! أدهَنتُم في أمرِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وحَكَّمتُم ! وقالَ الآخِرونَ : فارَقتُم إمامَنا ، وفَرَّقتُم جَماعَتَنا . فَلَمّا دَخَلَ عَلِيٌّ الكوفَةَ لَم يَدخُلوا مَعَهُ حَتّى أتَوا حَرَوراءَ (1) ، فَنَزَلَ بِها مِنهُمُ اثنا عَشَرَ ألفا ، ونادى مُناديهِم : إنَّ أميرَ القِتالِ شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ التَّميمِيُّ ، وأميرَ الصَّلاةِ عبَدُ اللّهِ بنُ الكَوّاءِ اليَشكُرِيُّ ، وَالأَمرُ شورى بَعدَ الفَتحِ ، وَالبَيعَةُ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ، وَالأَمرُ بِالمَعروفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ . . . ولَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ الكوفَةَ وفارَقَتهُ الخَوارِجُ وثَبَتَ إلَيهِ الشّيعَةُ فَقالوا : في أعناقِنا بَيعَةٌ ثانِيَةٌ ؛ نَحنُ أولياءُ مَن والَيتَ ، وأعداءُ مَن عادَيتَ . فَقالَتِ الخَوارِجُ : اِستَبَقتُم أنتُم وأهلُ الشّامِ إلَى الكُفرِ كفرَسَي رِهانٍ ؛ بايَعَ أهلُ الشّامِ مُعاوِيَةَ عَلى ما أحَبّوا وكَرِهوا ، وبايَعتُم أنتُم عَلِيّا عَلى أنَّكُم أولياءُ مَن والى وأعداءُ مَن عادى ! فَقالَ لَهُم زِيادُ بنُ النَّضرِ : وَاللّهِ ما بَسَطَ عَلِيٌّ يَدَهُ فَبايَعناهُ قَطُّ إلّا عَلى كِتابِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ولكِنَّكُم لَمّا خالَفتُموهُ جاءَتهُ شيعَتُهُ فَقالوا : نَحنُ أولِياءُ مَن والَيتَ ، وأعداءُ مَن عادَيتَ ، ونَحنُ كَذلِكَ وهُوَ عَلَى الحَقِّ وَالهُدى ، ومَن خالَفَهُ ضالٌّ مُضِلٌّ (2) .
.
ص: 546
. .
ص: 547
الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم14 / 1تَقييمُ الحَكَمَينِالطرائف عن أبي رافع :لَمّا أحضَرَني أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام وقَد وَجَّهَ أبا موسَى الأَشعَرِيَّ فَقالَ لَهُ : اُحكُم بِكِتابِ اللّهِ ولا تُجاوِزهُ ، فَلَمّا أدبَرَ قالَ : كَأَنّي بِهِ وقَد خُدِعَ . قُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَلِمَ تُوَجِّهُهُ وأنتَ تَعلَمُ أنَّهُ مَخدوعٌ ؟ فَقالَ : يا بُنَيَّ ، لَو عَمِلَ اللّهُ في خَلقِهِ بِعِلمِهِ ما احتَجَّ عَلَيهِم بِالرُّسُلِ (1) .
وقعة صفّين :بَعَثَ [ مُعاوِيَةُ ] إلى رِجالٍ مِن قُرَيشٍ مِنَ الَّذينَ كَرِهوا أن يُعينوهُ في حَربِهِ : إنَّ الحَربَ قَد وَضَعَت أوزارَها ، وَالتَقى هذانِ الرَّجُلانِ بِدومَةِ الجَندَلِ (2) ، فَاقدَموا عَلَيَّ . فَأَتاهُ عَبدُ اللّهِ بنُ الزُّبَيرِ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ ، وأبُو الجَهمِ ابنُ حُذَيفَةَ ، وعَبدُ الرَّحمنِ بنُ الأَسوَدِ بنِ عَبدِ يَغوثَ الزُّهرِيُّ ، وعَبدُ اللّهِ بنُ صَفوانَ الجُمَحِيُّ ، ورِجالٌ مِن قُرَيشٍ . وأتاهُ المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ ؛ وكانَ مُقيما بِالطّائِفِ لَم يَشهَد صِفّينَ .
.
ص: 548
فَقالَ : يا مُغيرَةُ ما تَرى ؟ قالَ : يا مُعاوِيَةُ لَو وَسِعَني أن أنصُرَكَ لَنَصَرتُكَ ، ولكِن عَلَيَّ أن آتِيَكَ بِأَمرِ الرَّجُلَينِ ، فَرَكِبَ حَتّى أتى دومَةَ الجَندَلِ ، فَدَخَلَ عَلى أبي موسى كَأَنَّهُ زائِرٌ لَهُ فَقالَ : يا أبا موسى ، ما تَقولُ فيمَنِ اعتَزَلَ هذَا الأَمرَ وكَرِهَ الدِّماءَ ؟ قالَ : اُولئِكَ خِيارُ النّاسِ ، خَفَّت ظُهورُهُم مِن دِمائِهِم ، وخَمَصَت بُطونُهُم مِن أموالِهِم ، ثُمَّ أتى عَمرا فَقالَ : يا أبا عَبدِ اللّهِ ، ما تَقولُ فيمَنِ اعتَزَلَ هذَا الأَمرَ ، وكَرِهَ هذِهِ الدِّماءَ ؟ قالَ : اُولئِكَ شِرارُ النّاسِ ؛ لَم يَعرِفوا حَقّا ، ولَم يُنكِروا باطِلاً ، فَرَجَعَ المُغيرَةُ إلى مُعاوِيَةَ فَقالَ لَهُ : قَد ذُقتُ (1) الرَّجُلَينِ ؛ أمّا عَبدُ اللّهِ بنُ قَيسٍ فَخالِعٌ صاحِبَهُ وجاعِلُها لِرَجُلٍ لَم يَشهَد هذَا الأَمرَ ، وهَواهُ في عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ ، وأمّا عَمرٌو فَهُوَ صاحِبُ الَّذي تَعرِفُ ، وقَد ظَنَّ النّاسُ أنَّهُ يَرومُها لِنَفسِهِ ، وأنَّهُ لا يَرى أنَّكَ أحَقُّ بِهذَا الأَمرِ مِنهُ (2) .
14 / 2وَصِيَّةُ ابنِ عَبّاسٍ لِأَبي موسىمروج الذهب :وفي سَنَةِ ثَمانٍ وثَلاثينَ كانَ التِقاءُ الحَكَمَينِ بِدومَةِ الجَندَلِ وقيلَ بِغَيرِها ، عَلى ما قَدَّمنا مِن وَصفِ التَّنازُعِ في ذلِكَ ، وبَعَثَ عَلِيٌّ بِعَبدِ اللّهِ بنِ العَبّاسِ ، وشُرَيحِ ابنِ هانئٍ الهَمدانِيِّ في أربَعِمِئَةِ رَجُلٍ فيهِم أبو موسَى الأَشعَرِيُّ ، وبَعَثَ مُعاوِيَةُ بِعَمرِو ابنِ العاصِ ومَعَهُ شُرَحبيلُ بنُ السِّمطِ في أربَعِمِئَةٍ ، فَلَمّا تَدانَى القَومُ مِنَ المَوضِعِ الَّذي كانَ فيهِ الاِجتِماعُ قالَ ابنُ عَبّاسٍ لِأَبي موسى : إنَّ عَِليّا لَم يَرضَ بِكَ حَكَما لِفَضلٍ عِندَكَ ، وَالمُتَقَدِّمونَ عَلَيكَ كَثيرٌ ، وإنَّ النّاسَ أبَوا غَيرَكَ ، وإنّي لَأَظُنَّ ذلِكَ لِشَرٍّ يُرادُ بِهِم ، وقَد ضُمَّ داهِيَةُ العَرَبِ مَعَكَ .
.
ص: 549
إن نَسيتَ فَلا تَنسَ أنَّ عَلِيّا بايَعَهُ الَّذينَ بايَعوا أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ ، ولَيسَ فيهِ خَصلَةٌ تُباعِدُهُ مِنَ الخِلافَةِ ، ولَيسَ في مُعاوِيَةَ خَصلَةٌ تُقَرِّبُهُ مِنَ الخِلافَةِ (1) .
شرح نهج البلاغة :لَمّا أجمَعَ أهلُ العِراقِ عَلى طَلَبِ أبي موسى ، وأحضَروهُ لِلتَّحكيمِ عَلى كُرهٍ مِن عَلِيٍّ عليه السلام ، أتاهُ عَبدُ اللّهِ بنُ العَبّاسِ ، وعِندَهُ وُجوهُ النّاسِ وأشرافُهُم ، فَقالَ لَهُ : يا أبا موسى ! إنَّ النّاسَ لَم يَرضَوا بِكَ ، ولَم يَجتَمِعوا عَلَيكَ لِفَضلٍ لا تُشارَكُ فيهِ ، وما أكثَرَ أشباهَكَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ واَلمُتَقَدِّمينَ قَبلَكَ ، ولكِنَّ أهلَ العِراقِ أبَوا إلّا أن يَكونَ الحَكَمُ يَمانِيّا ، ورَأَوا أنَّ مُعظَمَ أهلِ الشّامِ يَمانٍ ، وَايمُ اللّهِ إنّي لَأَظُنُّ ذلِكَ شَرّا لَكَ ولَنا ؛ فَإِنَّهُ قَد ضُمَّ إلَيكَ داهِيَةُ العَرَبِ ، ولَيسَ في مُعاوِيَةَ خَلَّةٌ يَستَحِقُّ بِهَا الخِلافَةَ ، فَإِن تَقذِف بِحَقِّكَ عَلى باطِلِهِ تُدرِك حاجَتَكَ مِنهُ ، وإن يَطمَع باطِلُهُ في حَقِّكَ يُدرِك حاجَتَهُ مِنكَ . وَاعلَم يا أبا موسى أنَّ مُعاوِيَةَ طَليقُ الإِسلامِ ، وأنَّ أباهُ رَأسُ الأَحزابِ ، وأنَّهُ يَدَّعِي الخِلافَةَ مِن غَيرِ مَشوَرَةٍ ولا بَيعَةٍ ؛ فَإِن زَعَمَ لَكَ أنَّ عُمَرَ وعُثمانَ استَعمَلاهُ فَلَقَد صَدَقَ ؛ استَعمَلَهُ عُمَرُ ؛ وهُوَ الوالي عَلَيهِ بِمَنزِلَةِ الطَّبيبِ يَحميهِ ما يَشتَهي ، ويُوجِرُهُ ما يَكرَهُ ، ثُمَّ استَعمَلَهُ عُثمانُ بِرَأيِ عُمَرَ ، وما أكثَرَ مَنِ استَعمَلا مِمَّن لَم يَدَّعِ الخِلافَةَ . وَاعلَم أنَّ لِعَمرٍو مَعَ كُلِّ شَيءٍ يَسُرُّكَ خَبيئا يَسوؤُكَ ومَهما نَسيتَ فَلا تَنسَ أنَّ عَلِيّا بايَعَهُ القَومُ الَّذينَ بايَعوا أبا بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ ، وأنَّها بَيعَةُ هُدىً وأنَّهُ لَم يُقاتِل إلَا العاصينَ وَالنّاكِثينَ (2) .
.
ص: 550
14 / 3وَصِيَّةُ شُرَيحِ بنِ هانِئٍ لِأَبي موسىوقعة صفّين عن الجرجاني :لَمّا أرادَ أبو موسَى المَسيرَ قامَ شُرَيحٌ ، فَأَخَذَ بِيَدِ أبي موسى فَقالَ : يا أبا موسى ! إنَّكَ قَد نُصِبتَ لِأَمرٍ عَظيمٍ لا يُجبَرُ صَدعُهُ ، ولا يُستَقالُ فَتقُهُ ، ومَهما تَقُل شَيئا لَكَ أو عَلَيكَ يَثبُت حَقُّهُ ويُرَ صِحَّتُهُ وإن كانَ باطِلاً . وإنَّهُ لا بَقاءَ لِأَهلِ العِراقِ إن مَلَكَها مُعاوِيَةُ ، ولا بَأسَ عَلى أهلِ الشّامِ إن مَلَكَها عَلِيٌّ . وقَد كانَت مِنكَ تَثبيطَةٌ أيّامَ قَدِمتَ الكُوفَةَ ؛ فَإِن تَشفَعها بِمِثلِها يَكُنِ الظَّنُّ بِكَ يَقينا ، وَالرَّجاءُ مِنكَ يَأسا ، وقالَ شُرَيحٌ في ذلِكَ : أبا موسى رُميتَ بِشَرِّ خَصمٍ فَلا تُضِعِ العِراقَ فَدَتكَ نَفسي ! وأعطِ الحَقَّ شامَهُمُ وخُذْهُ فَإِنَّ اليَومَ في مَهَلٍ كَأَمسِ وإنَّ غَدا يَجى ءُ بِما عَلَيِه يَدورُ الأَمرُ مِن سَعدٍ ونَحسِ ولا يُخدِعْك عَمرٌو إنَّ عَمرا عَدُوُّ اللّهِ مَطَلعَ كُلِّ شَمسِ لَهُ خُدَعٌ يَحارُ العَقلُ فيها مُمَوَّهَةٌ مُزَخرَفَةٌ بِلَبسِ فَلا تَجعَل مُعاوِيَةَ بنَ حَربٍ كَشَيخٍ فِي الحَوادِث غَيرِ نِكسِ هَداهُ اللّهُ لِلإِسلامِ فَردا سِوى بِنتِ النَّبِيِّ ، وأيُّ عِرسِ فَقالَ أبو موسى : ما يَنبَغي لِقَومٍ اتَّهَموني أن يُرسِلوني لِأَدفَعَ عَنهُم باطِلاً أو أجُرَّ إلَيهِم حَقّا . . .و سارَ مَعَ عمَرِو بنِ العاصِ شُرَحبيلُ بنُ السِّمطِ الكِندِيُّ في خَيلٍ عَظيمَةٍ ، حَتّى إذا أمِنَ عَلَيهِ خَيلَ أهلِ العِراقِ وَدَّعَهُ ، ثُمَّ قالَ : يا عَمرُو ! إنَّكَ رَجُل
.
ص: 551
قُرَيشٍ ، وإنَّ مُعاوِيَةَ لَم يَبعَثكَ إلّا ثِقَةً بِكَ ، وإنَّكَ لَن تُؤتى مِن عَجزٍ ولا مَكيدَةٍ ، وقَد عَرَفتَ أن وَطَّأتُ هذَا الأَمرَ لَكَ ولِصاحبِكَ ، فَكُن عِندَ ظَنِّنا بِكَ . ثُمَّ انصَرَفَ ، وَانصَرَفَ شُرَيحُ بنُ هانِئٍ حينَ أمِنَ أهلَ الشّامِ عَلى أبي موسى ، ووَدَّعَهُ هُوَ ووُجوهُ النّاسِ (1) .
14 / 4وَصِيَّةُ الأَحنَفِ بنِ قَيسٍ لِأَبي موسىوقعة صفّين عن الجرجاني :كانَ آخِرُ مَن وَدَّعَ أبا موسَى الأَحنَفُ بنُ قَيسٍ ، أخَذَ بِيَدِهِ ثُمَّ قالَ لَهُ : يا أبا موسى ! اِعرِف خَطبَ هذَا الأَمرِ ، وَاعلَم أنَّ لَهُ ما بَعدَهُ ، وأنَّكَ إن أضَعتَ العِراقَ فَلا عِراقَ . فَاتَّقِ اللّهَ ؛ فَإِنَّها تَجمَعُ لَكَ دُنياكَ وآخِرَتَكَ ، وإذا لقيتَ عَمرا غَدا فَلا تَبدَأهُ بِالسَّلامِ ؛ فَإِنَّها وإن كانَت سُنَّةً إلّا أنَّهُ لَيسَ مِن أهلِها ، ولا تُعطِهِ يَدَكَ ؛ فَإِنَّها أمانَةٌ ، وإيّاكَ أن يُقعِدَكَ عَلى صَدرِ الفِراشِ ؛ فَإِنَّها خُدعَةٌ ، ولا تَلقَهُ وَحدَهُ ، وَاحذَر أن يُكَلِّمَكَ في بَيتٍ فيهِ مُخدَعٌ تُخَبَّأُ فيهِ الرِّجالُ وَالشُّهودُ . ثُمَّ أرادَ أن يَبورَ (2) ما في نَفسِهِ لِعَلِيٍّ فَقالَ لَهُ : فَإِن لَم يَستَقِم لَكَ عَمرٌو عَلَى الرِّضا بِعَلِيٍّ فَخَيِّرهُ أن يَختارَ أهلُ العِراقِ مِن قُرَيشِ الشّامِ مَن شاؤوا ؛ فَإِنَّهُم يُوَلّونَا الخِيارَ ؛ فَنَختارُ مَن نُريدُ ، وإن أبَوا فَليَختَر أهلُ الشّامِ مِن قُرَيشِ العِراقِ مَن شاؤوا ، فَإِن فَعَلوا كانَ الأَمرُ فينا . قالَ أبو موسى : قَد سَمِعتُ ما قُلتَ . ولَم يَتَحاشَ لِقَولِ الأَحنَفِ . قالَ : فَرَجَعَ الأَحنَفُ فَأَتى عَلِيّا فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ! أخرَجَ وَاللّهِ أبو موسى
.
ص: 552
زُبدَةَ سِقائِهِ في أوَّلِ مَخضِهِ ، لا أرانا إلّا بَعَثنا رَجُلاً لا يُنكِرُ خَلعَكَ . فَقالَ عَلِيٌّ : يا أحنَفُ ! إنَّ اللّهَ غالِبٌ عَلى أمرِهِ . قالَ : فَمِن ذلِكَ نَجزَعُ يا أميرَ المُؤمِنينَ . وفَشا أمرُ الأَحنَفِ وأبي موسى فِي النّاسِ (1) .
14 / 5وَصِيَّةُ مُعاوِيَةَ لِعَمرِو بنِ العاصِالبيان والتبيين :قالَ مُعاوِيَةُ لِعَمرِو بنِ العاصِ : يا عَمرُو ! إنَّ أهلَ العِراقِ قَد أكرَهوا عَلِيّا عَلى أبي موسى ، وأنَا وأهلُ الشّامِ راضونَ بِكَ . وقَد ضُمَّ إلَيكَ رَجُلٌ طَويلُ اللِّسانِ ، قَصيرُ الرَّأيِ ؛ فَأَجِدِ الحَزَّ ، وطَبِّقِ المَفصِلَ ، ولا تَلقِهِ بِرَأيِكَ كُلِّهِ (2) .
14 / 6نَصيحَةُ الإِمامِ لِعَمرِو بنِ العاصِوقعة صفّين عن شقيق بن سلمة :كَتَبَ عَلِيٌّ إلى عَمرِو بنِ العاصِ يَعِظُهُ ويُرشِدُهُ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ الدُّنيا مَشغَلَةٌ عَن غَيرِها ، ولَم يُصِب صاحِبُها مِنها شَيئا إلّا فَتَحَت لَهُ حِرصا يَزيدُهُ فيها رَغبَةً ، ولَن يَستَغنِيَ صاحِبُها بِما نالَ عَمّا لَم يَبلُغهُ ، ومِن وَراءِ ذلِكَ فِراقُ ما جَمَعَ . وَالسَّعيدُ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ ؛ فَلا تُحبِط _ أبا عَبدِ اللّهِ _ أجرَكَ ،
.
ص: 553
ولا تُجارِ مُعاوِيَةَ في باطِلِهِ . فَأَجابَهُ عَمرُو بنُ العاصِ : أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ ما فيهِ صَلاحُنا واُلفَتُنَا الإِنابَةُ إلَى الحَقِّ ، وقَد جَعَلنَا القُرآنَ حَكَما بَينَنا ، فَأَجِبنا إلَيهِ . وصَبرَ الرَّجُلُ مِنّا نَفسَهُ عَلى ما حَكَمَ عَلَيهِ القُرآنُ ، وعَذَرَهُ النّاسُ بَعدَ المُحاَجَزةِ . وَالسَّلامُ . فَكَتَبَ إلَيهِ عَلِيٌّ : أمّا بَعدُ فَإِنَّ الَّذي أعجَبَكَ مِنَ الدُّنيا مِمّا نازَعَتكَ إلَيهِ نَفسُكَ ووَثِقتَ بِهِ مِنها لَمُنقَلِبٌ عَنكَ ، ومُفارِقٌ لَكَ ؛ فَلا تَطمَئِنَّ إلَى الدُّنيا ؛ فَإِنَّها غَرَّارَةٌ . ولَوِ اعتَبَرتَ بِما مَضى لَحَفِظتَ ما بَقِيَ ، وَانتَفَعتَ بِما وُعِظتَ بِهِ . وَالسَّلامُ . فَأَجابَهُ عَمرٌو : أمّا بَعدُ ؛ فَقَد أنصَفَ مَن جَعَلَ القُرآنَ إماما ، ودَعَا النّاسَ إلى أحكامِهِ . فَاصبِر أبا حَسنٍ ، وأنَا غَيرُ مُنيلِكَ إلّا ما أنالَكَ القُرآنُ (1) .
14 / 7مُفاوَضاتُ الحَكَمَينِشرح نهج البلاغة عن أبي جناب الكلبي :إنَّ عَمرا وأبا موسى لَمَّا التَقَيا بِدومَةِ الجَندَلِ أخَذَ عَمرٌو يُقَدِّمُ أبا موسى فِي الكَلامِ ، ويَقولُ : إنَّكَ صَحِبتَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قَبلي ، وأنتَ أكبَرُ مِنّي سِنّا ، فَتَكَلَّم أنتَ ، ثُمَّ أتَكَلَّمُ أنَا ، فَجَعَلَ ذلِكَ سُنَّةً وعادَةً بَينَهُما ، وإنَّما كانَ مَكرا وخَديعَةً وَاغتِرارا لَهُ أن يُقَدِّمَهُ ؛ فَيَبَدَأ بِخَلعِ عَلِيٍّ ، ثُمَّ يَرى رَأيَهُ . وقالَ ابنُ دَيزيلَ في كِتابِ «صِفّينَ» : أعطاهُ عَمرٌو صَدرَ المَجلِسِ ، وكانَ لا يَتَكَلَّمُ قَبلَهُ ، وأعطاهُ التَّقَدُّمَ فِي الصَّلاةِ ، وفِي الطَّعامِ لا يَأكُلُ حَتّى يَأكُلَ ، وإذا خاطَبَهُ فَإِنَّما يُخاطِبُهُ بِأَجَلِّ الأَسماءِ ويَقولُ لَهُ :
.
ص: 554
يا صاحِبَ رَسولِ اللّهِ ، حَتَّى اطمَأَنَّ الَيهِ وظَنَّ أنَّهُ لا يَغُشُّهُ (1) .
تاريخ الطبري عن الزهري_ في بَيانِ ما جَرى بَينَ الحَكَمَينِ _: قالَ عَمرٌو : يا أبا موسى ، أأَنتَ عَلى أن نُسَمِّيَ رَجُلاً يَلي أمرَ هذِهِ الاُمَّةِ ؟ فَسَمِّهِ لي ؛ فَإِن أقدِر عَلى أن اُتابِعَكَ فَلَكَ عَلَيَّ أن اُتابِعَكَ ، وإلّا فَلي عَلَيكَ أن تُتابِعَني ! قالَ أبو موسى : اُسَمّي لَكَ عَبدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ . وكانَ ابنُ عُمَرَ فيمَنِ اعتَزَلَ . قالَ عَمرٌو : إنّي اُسَمّي لَكَ مُعاوِيَةَ بنَ أبي سُفيانَ ، فَلَم يَبرَحا مَجلِسَهُما حَتَّى استَبّا (2) .
تاريخ الطبري عن أبي جناب الكلبي_ في ذِكرِ خَبرِ اجتِماعِ الحَكَمَينِ _: قالَ أبو موسى : أما وَاللّهِ ، لَئِنِ استَطَعتُ لَاُحيِيَنَّ اسمَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ . فَقالَ لَهُ عَمرٌو : إن كُنتَ تُحِبُّ بَيعَةَ ابنِ عُمَرَ ، فَما يَمنَعُكَ مِن ابني وأنتَ تَعرِفُ فَضلَهُ وصَلاحَهُ ! فَقالَ : إنَّ ابنَكَ رَجُلُ صِدقٍ ، ولكِنَّكَ قَد غَمَستَهُ في هذِهِ الفِتنَةِ (3) .
مروج الذهب :دَعا عَمرٌو بِصَحيفَةٍ وكاتِبٍ ، وكانَ الكاتِبُ غُلاما لِعَمرٍو ، فَتَقَدَّمَ إلَيهِ لِيَبدَأَ بِهِ أوَّلاً دونَ أبي موسى ؛ لِما أرادَ مِنَ المَكرِ بِهِ ، ثُمَّ قالَ لَهُ بِحَضرَةِ الجَماعَةِ : اُكتُب ؛ فَإِنَّكَ شاهِدٌ عَلَينا ، ولا تَكتُب شَيئا يَأمُرُكَ بِهِ أحَدُنا حَتّى تَستَأمِرَ الآخَرَ فيهِ ، فَإِذا أمَرَكَ فَاكتُب ، وإذا نَهاكَ فَانتَهِ حَتّى يَجتَمِعَ رَأيُنا ، اكتُب : بِسمِ اللّهِ الرَّحمن
.
ص: 555
الرَّحيمِ ، هذا ما تَقاضى عَلَيهِ فُلانٌ وفُلانٌ ، فَكَتَبَ وبَدَأَ بِعَمرٍو ، فَقالَ لَهُ عَمرٌو : لا اُمَّ لَكَ ! أ تُقَدِّمُني قَبلَهُ كَأَنَّكَ جاهِلٌ بِحَقِّهِ ؟ ! فَبَدَأَ بِاسمِ عَبدِ اللّهِ بنِ قَيسٍ ، وكَتَبَ : تَقاضَيا عَلى أنَّهُما يَشهَدانِ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ ، وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وأنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ ، أرسَلَهُ بِالهُدى ودينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ ولَو كَرِهَ المُشرِكونَ . ثُمَّ قالَ عَمرٌو : ونَشهَدُ أنَّ أبا بَكرٍ خَليفَةُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَمِلَ بِكِتابِ اللّهِ وسُنَّةِ رَسولِ اللّهِ حَتّى قَبَضَهُ اللّهُ إلَيهِ ، وقَد أدَّى الحَقَّ الَّذي عَلَيهِ ، قالَ أبو موسى : اُكتُب ، ثُمَّ قالَ في عُمَرَ مِثلَ ذلِكَ ، فَقالَ أبو موسى : اُكتُب . ثُمَّ قالَ عَمرٌو : وَاكتُب : وأنَّ عُثمانَ وَلِيُّ هذَا الأَمرِ بَعدَ عُمَرَ عَلى إجماعٍ مِنَ المُسلِمينَ وشورى مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ورضِىً مِنهُم ، وأنَّهُ كانَ مُؤمِنا ، فَقالَ أبو موسَى الأَشعَرِيُّ : لَيسَ هذا مِمّا قَعَدنا لَهُ ، قالَ عَمرٌو : وَاللّهِ لابُدَّ مِن أن يَكونَ مُؤمِنا أو كافِرا ، فَقالَ أبو موسى : كانَ مُؤمِنا ، قالَ عَمرٌو : فَمُرهُ يَكتُب قالَ أبو موسى : اُكتُب ، قالَ عمرٌو : فَظالِما قُتِلَ عُثمانُ أو مَظلوما ، قالَ أبو موسى : بَل قُتِلَ مَظلوما ، قالَ عَمرٌو : أفَلَيسَ قَد جَعَلَ اللّهُ لِوَلِيِّ المَظلومِ سُلطانا يَطلُبُ بِدَمِهِ ؟ قالَ أبو موسى : نَعَم ، قالَ عَمرٌو : فَهَل تَعلَمُ لِعُثمانَ وَلِيّا أولى مِن مُعاوِيَةَ ؟ قالَ أبو موسى : لا ، قالَ عَمرٌو : أ فَلَيسَ لِمُعاوِيَةَ أن يَطلُبَ قاتِلَهُ حَيثُما كانَ حَتّى يَقتُلَهُ أو يَعجِزَ عَنهُ ؟ قالَ أبو موسى : بَلى ، قالَ عَمرٌو لِلكاتِبِ : اُكتُب ، وأمَرَهُ أبو موسى فَكَتَبَ ، قالَ عَمرٌو : فَإِنّا نُقيمُ البَيِّنَةَ أنَّ عَلِيّا قَتَلَ عُثمانَ ، قالَ أبو موسى : هذا أمرٌ قَد حَدَثَ فِي الإِسلامِ ، وإنَّمَا اجتَمَعَنا لِغَيرِهِ ، فَهَلُمَّ إلى أمرٍ يُصلِحُ اللّهُ بِهِ أمرَ اُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، قالَ عَمرٌو : وما هُوَ ؟ قالَ أبو موسى : قَد عَلِمتَ أنَّ أهلَ العِراقِ لا يُحِبّونَ مُعاوِيَةَ أبَدا ، وأنَّ أهلَ الشّامِ لا يُحِبّونَ عَلِيّا أبَدا ؛ فَهَلُمَّ نَخلَعُهُما جَميعا ونَستَخلِفُ عَبدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ ! وكانَ عَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ عَلى بِنتِ أبي موسى (1) .
.
ص: 556
العقد الفريد عن أبي الحسن_ في ذِكرِ اجتِماعِ الحَكَمَينِ _: اُخلِيَ لَهُما[عَمرِو بنِ العاصِ وأبي موسى ]مَكانٌ يَجتَمِعانِ فيهِ ، فَأَمهَلَهُ عَمرُو بنُ العاصِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ، ثُمَّ أقبَلَ إلَيهِ بِأَنواعٍ مِنَ الطَّعامِ يُشَهّيهِ بِها ، حَتّى إذَا استَبطَنَ أبو موسى ناجاهُ عَمرٌو ، فَقالَ لَهُ : يا أبا موسى ! إنَّكَ شَيخُ أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وذو فَضلِها ، وذو سابِقَتِها ، وقَد تَرى ما وَقَعَت فيهِ هذِهِ الاُمَّةُ مِنَ الفِتنَةِ العَمياءِ الَّتي لا بَقاءَ مَعَها ، فَهَل لَكَ أن تَكونَ مَيمونَ هذِهِ الاُمَّةِ ؛ فَيَحقُنُ اللّهُ بِكَ دِماءَها ؛ فَإِنَّهُ يَقولُ في نَفسٍ واحِدَةٍ : «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا» (1) ، فَكَيفَ بِمَن أحيا أنفُسَ هذَا الخَلقِ كُلِّهِ ! قالَ لَهُ : وكَيفَ ذلِكَ ؟ قالَ : تَخلَعُ أنتَ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ ، وأخلَعُ أنَا مُعاوِيَةَ بنَ أبي سُفيانَ ، ونَختارُ لِهذِهِ الاُمَّةِ رَجُلاً لَم يَحضُر في شَيءٍ مِنَ الفِتنَةِ ، ولَم يَغمِس يَدَهُ فيها . قالَ لَهُ : ومَن يَكونَ ذلِكَ ؟ _ وكانَ عَمرُو بنُ العاصِ قَد فَهِمَ رَأيَ أبي موسى في عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ _ فَقالَ لَهُ : عَبدُ اللّهِ بنُ عُمَرَ . فَقالَ : إنَّهُ لَكَما ذَكَرتَ ، ولكِن كَيفَ لي بِالوَثيقَةِ مِنكَ ؟ فَقالَ لَهُ : يا أبا موسى ، «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَ_ئِنُّ الْقُلُوبُ » (2) ، خُذ مِنَ العُهودِ وَالمَواثيقِ حَتّى تَرضى . ثُمَّ لَم يُبقِ عَمرُو بنُ العاصِ عَهدا ولا مَوثِقا ولا يَمينا مُؤَكَّدَةً حَتّى حَلَفَ بِها ، حَتّى بَقِيَ الشَّيخُ مَبهوتا ، وقالَ لَهُ : قَد أحبَبتُ (3) .
.
ص: 557
14 / 8رَأيُ الحَكَمَينِتاريخ الطبري عن أبي جناب الكلبي :إنَّ عَمرا وأبا موسى حَيثُ التَقَيا بِدومَةِ الجِندَلِ ، أخَذَ عَمرٌو يُقَدِّمُ أبا موسى فِي الكَلامِ ، يَقولُ : إنَّكَ صاحِبُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وأنتَ أسَنُّ مِنّي ، فَتَكَلَّم وأتَكَلَّمُ ؛ فَكانَ عَمرٌو قَد عَوَّدَ أبا موسى أن يُقَدِّمَهُ في كُلِّ شَيءٍ ، اغتَزى بِذلِكَ كُلِّهِ أن يُقَدِّمَهُ ، فَيَبدَأَ بِخَلعِ عَلِيٍّ . قالَ : فَنَظَرَ في أمرِهِما ومَا اجتَمَعا عَلَيهِ ، فَأَرادَهُ عَمرٌو عَلى مُعاوِيَةَ فَأَبى ، وأرادَهُ عَلَى ابنِهِ فَأَبى ، وأرادَ موسى عَمرا عَلى عَبدِ اللّهِ بنِ عُمَرَ فَأَبى عَلَيهِ ، فَقالَ لَهُ عَمرٌو : خَبِّرني ما رَأيُكَ ؟ قالَ : رَأيي أن نَخلَعَ هذَينِ الرَّجُلَينِ ، ونَجعَلَ الأَمرَ شورى بَينَ المُسلِمينَ ، فَيَختارَ المُسلِمونَ لِأَنفُسِهِم مَن أحَبّوا . فَقالَ لَهُ عَمرٌو : فَإِنَّ الرَّأيَ ما رَأَيتَ . فَأَقبَلا إلَى النّاسِ وهُم مُجتَمِعونَ ، فَقالَ : يا أبا موسى ، أعلِمهُم بِأَنَّ رَأيَنا قَد اجتَمَعَ وَاتَّفَقَ ، فَتَكَلَّمَ أبو موسى فَقالَ : إنَّ رَأيي ورَأيَ عَمرٍو قَدِ اتَّفَقَ عَلى أمرٍ نَرجو أن يُصلِحَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ أمرَ هذِهِ الاُمَّةِ . فَقالَ عَمرٌو : صَدَقَ وبَرَّ ، يا أبا موسى ! تَقَدَّم فَتَكَلَّم ، فَتَقَدَّمَ أبو موسى لِيَتَكَلَّمَ ، فَقالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : وَيحَكَ ! وَاللّهِ إنّي لَأَظُنَّهُ قَد خَدَعَكَ . إن كُنتُما قَد اتَّفَقتُما عَلى أمرٍ ؛ فَقَدِّمهُ فَليَتَكَلَّم بِذلِكَ الأَمرِ قَبلَكَ ، ثُمَّ تَكَلَّم أنتَ بَعدَهُ ؛ فَإِنَّ عَمرا رَجُلٌ غادِرٌ ، ولا آمَنُ أن يَكونَ قَد أعطاكَ الرِّضا فيما بَينَكَ وبَينَهُ ، فَإِذا قُمتَ في النّاسِ خالَفَكَ _ وكانَ أبو موسى مُغَفَّلاً _ فَقالَ لَهُ : إنّا قَدِ اتَّفَقنا . فَتَقَدَّمَ أبو موسى فَحَمِدَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! إنّا قَد نَظَرنا في أمرِ هذِهِ الاُمَّةِ فَلَم نَرَ أصلَحَ لِأَمرِها ، ولا ألَمَّ لِشَعَثِها مِن أمرٍ قَد أجمَعَ رَأيي ورَأيُ عَمرٍو عَلَيهِ ؛ وهُوَ أن نَخلَعَ عَلِيّا ومُعاوِيَةَ ، وتَستَقبِلَ هذِهِ الاُمَّةُ هذَا الأَمرَ ؛ فَيُوَلّوا مِنهُم مَن أحَبّوا عَلَيهِم ، وإنّي قَد خَلَعتُ عَلِيّا ومُعاوِيَةَ ،
.
ص: 558
فَاستَقبِلوا أمرَكُم ، ووَلّوا عَلَيكُم مَن رَأَيتُموهُ لِهذَا الأَمرِ أهلاً . ثُمَّ تَنَحّى . وأقبَلَ عَمرُو بنُ العاصِ فَقامَ مَقامَهُ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ وقالَ : إنَّ هذا قَد قالَ ما سَمِعتُم وخَلَعَ صاحِبَهُ ، وأنَا أخلَعُ صاحِبَهُ كَما خَلَعَهُ ، واُثبِتُ صاحِبي مُعاوِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ وَلِيُّ عُثمانَ بنِ عَفّانَ ، وَالطّالِبُ بِدَمِهِ ، وأحَقُّ النّاسِ بِمَقامِهِ . فَقالَ أبو موسى : ما لَكَ لا وَفَّقَكَ اللّهُ ! غَدَرتَ وفَجَرتَ ! إنَّما مَثَلُكَ «كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحمِل عليه يَلْهَثْ أو تتركه يَلْهث» (1) . قالَ عَمرٌو : إنَّما مَثَلَكُ «كَمَثَلِ الْحِمَارِيَحْمِلُ أَسْفَارَا» (2) . وحَمَلَ شُرَيحُ بنُ هانِئٍ عَلى عَمرٍو فَقَنَّعَهُ بِالسَّوطِ ، وحَمَلَ عَلى شُرَيحٍ ابنٌ لِعَمرٍو فَضَرَبَهُ بِالسَّوطِ ، وقامَ النّاسُ فَحَجَزوا بيَنَهُم . وكانَ شُرَيحٌ بَعدَ ذلِكَ يَقولُ : ما نُدِمتُ عَلى شَيءٍ نَدامَتي عَلى ضَربِ عَمرٍو بِالسَّوطِ ألّا أكونَ ضَرَبتُهُ بِالسَّيفِ آتِيا بِهِ الدَّهرُ ما أتى . وَالتَمَسَ أهلُ الشّامِ أبا موسى ، فَرَكِبَ راحِلَتَهُ ولَحِقَ بِمَكَّةَ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : قَبَّحَ اللّهُ رَأىَ أبي موسى ! حَذَّرتُهُ وأمَرتُهُ بِالرَّأيِ فَما عَقَلَ . فَكانَ أبو موسى يَقولُ : حَذَّرَنِي ابنُ عَبّاسٍ غَدرَةَ الفاسِقِ ، ولكِنِّي اطمَأنَنتُ إلَيهِ ، وظَنَنتُ أنَّهُ لَن يُؤثِرَ شَيئا عَلى نَصيحَةِ الاُمَّةِ . ثُمَّ انصَرَفَ عَمرٌو وأهلُ الشّامِ إلى مُعاوِيَةَ ، وسَلَّموا عَلَيهِ بِالخِلافَةِ ، ورَجَعَ ابنُ عَبّاسٍ وشُرَيحُ بنُ هانِئٍ إلى عَلِيٍّ (3) .
تاريخ اليعقوبي :تَنادَى النّاسُ : حَكَمَ وَاللّهِ الحَكَمانِ بِغَيرِ ما فِي الكِتابِ وَالشَّرطُ عَلَيهِما غَيرُ هذا . وتَضارَبَ القَومُ بِالسِّياطِ ، وأخَذَ قَومٌ بِشُعورِ بَعضٍ ، وَافتَرَقَ النّاسُ .
.
ص: 559
ونادَتِ الخَوارِجُ : كَفَرَ الحَكَمانِ ، لا حُكمَ إلّا للّهِِ (1) .
14 / 9كَلامُ الإِمامِ لَمّا بَلَغَهُ أمرُ الحَكَمينِالإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ بَعدَ التَّحكيمِ وما بَلَغَهُ مِن أمرِ الحَكَمَينِ _: أمّا بَعدُ ؛ فَإِنَّ مَعصِيَةَ النّاصِِح الشَّفيقِ العالِمِ المُجَرِّبِ ، تورِثُ الحَسرَةَ ، وتُعقِبُ النَّدامَةَ . وقَد كُنتُ أمَرتُكُم في هذِهِ الحُكومَةِ أمري ، ونَخَلتُ لَكُم مَخزونَ رَأيي ، لَو كانَ يُطاعُ لِقَصيرٍ أمرٌ (2) ! فَأَبيَتُم عَلِيَّ إباءَ المُخالِفينَ الجُفاةِ ، وَالمُنابِذينَ العُصاةِ . حَتَّى ارتابَ النّاصِحُ بِنُصحِهِ ، وضَنَّ الزَّندُ بِقَدحِهِ ، فَكُنتُ أنَا وإيّاكُم كَما قالَ أخو هَوازِنَ : أمَرتُكُمُ أمري بِمُنعَرَجِ اللِّوى فَلَم تَستَبينُوا النُّصحَ إلّا ضُحَى الغَدِ (3)
.
ص: 560
بَحثٌ حَولَ التَّحكيمِإنّ قضيّة التحكيم في معركة صفّين تُعدّ واحدة من أكثر الوقائع الباعثة على الأسف والأسى في عهد حكومة الإمام عليّ عليه السلام ؛ حيث جاءت هذه الحادثة المريرة في وقت شارَفَ فيه جيش الإمام على إحراز النصر النهائي ، فحالَ قبول التحكيم دون تحقيق ذلك الانتصار الساحق ، وليس هذا فحسب ، بل إنّه أفضى أيضا إلى وقوع خلافات في جيشه عليه السلام وانهماكه في صراعات مع كوكبة واسعة من خيرة مقاتليه . ولغرض تسليط الأضواء على هذا الموضوع لابدّ أوّلاً من مناقشة عدّة اُمور :
1 _ سبب قبول التحكيمالسؤال الأوّل الذي يتبادر إلى الأذهان هو : لماذا وافق الإمام على فكرة التحكيم ؟ فهل إنّه كان في شكّ من أمره ومواقفه ؟ بل ما معنى التحكيم بين الحقّ والباطل ؟ أوَلم تكن الحكمة والسياسة تقضيان أن يقاوم الإمام ضغوط رهْط من جيشه ، ولا ينصاع لفكرة التحكيم ؟ وفي معرض الإجابة عن هذه التساؤلات نقول : بلى ، إنّ مقتضى الحكمة والسياسة ألّا يقبل الإمام بالتحكيم ، إلّا أنّه عليه السلام _ كما تفيد الوثائق التاريخيّة القطعيّة _ لم يقبل التحكيم بإرادته وإنّما فُرض عليه فرضا ، ولم تكن مقاومته أمام ذلك الرأى ¨
.
ص: 561
الساذج تُجديه نفعا ، بل كانت تؤدّي إلى وقوع معركة النهروان في صفّين ، وسيضطرّ الإمام إلى محاربة قسم كبير من جيشه في ذات الميدان الذي كان يقاتل فيه جيش الشام . عندما أدرك معاوية بأنّه لا طاقة له على الصمود أمام جيش الإمام ، وأنّ الحرب لو استمرت لكان الانتصار الحاسم حليف الإمام ، لجأ _ بما لديه من معرفة بفريق واسع من جيش الإمام ، وبناءً على اقتراح من عمرو بن العاص _ إلى حيلتين شيطانيّتين خطيرتين : الاُولى هدفها إيقاف القتال مؤقّتا ، بينما ترمي الثانية إلى تمزيق أو إضعاف جيش الإمام . وقد آتت كلتا الحيلتين اُكلهما بمعاضدة العناصر المتغلغلة في جيش الإمام . كانت الحيلة الاُولى رفع القرآن على الرماح ، ودعوة الإمام إلى تحكيم القرآن ، حتى أوقف القتال ، أمّا الحيلة الثانية فكانت قضيّة التحكيم التي تمّ حبكها على نحو أكثر تعقيدا ، ممّا أدّى في خاتمة المطاف إلى وقوف قطاع من خيرة جيشه في وجهه . وهذا هو السبب الذي دفع الإمام لاحقا إلى مقاتلة أنصاره في معركة النهروان . ولم يكن أمامه مناص في معركة صفّين سوى الانصياع لضغوطهم وقبول التحكيم . وهناك قول مشهور للإمام في وصف حالته أثناء قبول التحكيم : «لقد كنت أمسِ أميرا ، فأصبحت اليوم مأمورا ! وكنتُ أمس ناهيا ، فأصبحت اليوم منهيّا !» . وهو يعبّر بكلّ وضوح عن هذا الواقع المرير .
2 _ لماذا أبو موسى ؟تفيد بعض الوثائق التاريخيّة أنّ أبا موسى الأشعري كان رجلاً منافقا ؛ فقد نُسب إلى حذيفة وعمّار بن ياسر القول بذلك (1) . وهذا الادّعاء حتّى لو افترضناه غيرصحيح ،
.
ص: 562
إلّا أنّ من المسلّم به أنّه كان رجلاً ساذجا ومغفّلاً وكان مناهضا لسياسة الإمام في التصدّي الحاسم لمثيري الفتنة الداخليّة . وموقفه هذا هو الذي جعله يثبّط الناس عن أمير المؤمنين عند قدومه البصرة ، ويحثّهم على لزوم بيوتهم ، وفي نهاية الأمر أرغمه مالك الأشتر على مغادرة قصر الإمارة . وهنا يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال وهو : لماذا عيّن الإمام شخصا ساذجا له كهذا ، مندوبا عنه في أمر التحكيم ؟ ألم يعلم بما ستكون عليه نتيجة التحكيم فيما لو دخل أبو موسى فيه ؟ والجواب هو : بلى ، إنّ الإمام كان يعلم بالنتيجة ؛ فقد ذكر عبد اللّه بن أبي رافع كاتب الإمام عليّ عليه السلام بأنّ أبا موسى عندما أراد المسير إلى التحكيم ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : «كَأَنّي بِهِ وقَد خُدِعَ !» ، غير أنّ الضغوط التي أرغمت الإمام على قبول التحكيم هي نفسها التي أرغمته على إرسال أبي موسى ممثّلاً عنه . ومع أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حاول أن يبعث عبد اللّه بن عبّاس أو مالكا الأشتر حكما ، إلّا أنّ محاولاته لم تُجْد نفعا ! فقال عليه السلام : «إنَّكُم عَصَيتُموني في أوَّلِ الأَمرِ ؛ فَلا تَعصونِي الآنَ ! إنّي لا أرى أن اُوَلِّيَ أبا موسى» . فقال الأشعث وزيد بن الحصين الطائي ومسعر بن فدكي : لا نرضى إلّا به ؛ فإنّه ما كان يحذّرنا منه وقعنا فيه ! قال عليّ عليه السلام : «فَإِنَّهُ لَيسَ لي بِثِقَةٍ ؛ قَد فارَقَني وخَذَّلَ النّاسَ عَنّي ، ثُمّ هَرَبَ مِنّي حَتّى آمَنتُهُ بَعدَ أشهُرٍ . . .» . ولم يستطع الإمام أن يثنيهم عن رأيهم ، فقال لهم في نهاية الأمر : «فَاصنَعوا ما أرَدتُم !» .
.
ص: 563
3 _ موضوع التحكيملنتطلّع الآن في موضوع الحَكَميّة ، وما الذي يجب أن يحكم فيه الحكمان ؟ لا يلاحظ في وثيقة التحكيم ما يشير إلى موضوع التحكيم ، ولا واجبات وصلاحيّات الحكَمَين ، وإنّما اشتملت على واجب عامّ للحكَمَين وهو «أن ينزل الحَكَمان عند حكم القرآن ، وما لم يجداه مسمّىً في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول اللّه » . لم يرد في نصّ الوثيقة ما يشير إلى موضوع التحكيم قطّ ، أو أنّه يُعنى بالنظر في أمر قتَلة عثمان ؛ كما أشار البعض إلى «أنّ الذي يُستشفّ من كتب وكلمات معاوية أنّ ما فُوّض إلى الحَكَمين هو النظر في أمر قتلة عثمان ، وهل كانوا محقّين في عملهم أم لا ؟» (1) . أوَهل كان موضوع التحكيم واضحا بحيث لم تكن هناك ضرورة لإدراجه في نصّ الوثيقة ؟ أم يحتمل أنّ موضوع التحكيم كان موجودا في الوثيقة ، إلّا أنّه حُذف أو حُرِّف لاحقا ؟ الذي يبدو أنّ تحريف نصّ الوثيقة كان أمرا مستبعدا ، وكذلك لو كان موضوع التحكيم يختصّ بقتلة عثمان لاُشير إليه في نصّ الوثيقة . وما جاء في كلام الإمام أو في رسائله إلى معاوية لا يكشف عن أنّ مسألة قتلة عثمان كان أحد مواضيع التحكيم . ويظهر أنّ موضوع التحكيم يختصّ بحلّ اختلافات الجانبين ، ولا توجد حاجة لتعيينه ؛ فقد يكون الاختلاف تارة حول مسائل الزواج ، كما جاء في الآية (35) من
.
ص: 564
سورة النساء ، أو مسائل سياسيّة ، كما وقع في معركة صفّين ، أو مسائل اُخرى . وفي كلّ الحالات يجب على الحكمين البتّ في جميع المسائل المختلف عليها بين الفريقين المتنازعين ، وتوفير أجواء المصالحة بينهما . ومعنى هذا الكلام عدم تخصيص موضوع الحكَميّة في معركة صفّين بمسألة قتلة عثمان ، وإنّما كان يشمل جميع الاُمور المتنازع عليها بين عليّ عليه السلام ومعاوية . وهذا هو السبب الذي جعل الوثيقة خالية من ذكر أيّ موضوع خاصّ ، إلّا أنّ هذا المعنى لم يكن يشمل تعيين الخليفة ، وإنّما كان واجب الحكمين البتّ في تنازع جيش الكوفة والشام ووضع حدّ لحالة الحرب وسفك الدماء . والحقيقة هي أنّ ما اُعلن بوصفه رأيا نهائيّا على أثر الخديعة التي حاكها عمرو بن العاص ، جاء خارج موضوع التحكيم وفوق الصلاحيّات المفوّضة إلى الحَكَمين .
4 _ سبب انخداع جيش الإماموالآن نُجيل النظر في أسباب انخداع جيش الإمام عليّ عليه السلام ؛ ولماذا لم يدركوا أو لم يريدوا أن يدركوا بأنّ رفع المصاحف على الرماح لم يكن إلّا مكيدة أراد بها الشاميّون إيقاف القتال ؟ ولماذا لم يُصغوا لكلام إمامهم ، وأرغموه على قبول التحكيم ؟ ينبغي الإجابة عن هذا السؤال بالقول : إنّه وإن كان ثمّة أفراد في جيش الإمام كانوا طوع أمره ، وأرادوا أن تستمرّ المعركة حتّى انتصار جيش الكوفة ، إلّا أنّ الوثائق التاريخيّة تُثبت أنّ الأكثريّة العظمى من جيش الإمام كانت قد سئمت الحرب أوّلاً ، وكانوا يعلمون أنّهم حتى لو انتصروا فلن يحصلوا على أيّة غنائم _ مثلما حدث في معركة الجمل _ ثانيا ؛ ومن هنا فهم كانوا يفتقدون الدوافع المحفزة على مواصلة القتال . وعندما عرض عديّ بن حاتم على الإمام عليه السلام مواصلة الحرب
.
ص: 565
قائلاً : يا أمير المؤمنين ، ألا نقوم حتى نموت ؟ فقال عليّ عليه السلام : «اُدنُهْ» ، فَدَنا حَتّى وَضَعَ اُذُنَهُ عِندَ أنفِهِ ، فَقالَ : «وَيحَكَ ! إنَّ عامَّةَ مَن مَعي يَعصيني ، وإنَّ مُعاوِيَةَ فيمَن يُطيعُهُ ولا يَعصيهِ» . نعم ، فقد كان قرّاء الكوفة _ الذين كان لهم دور أساسي في جيش الإمام _ من جملة هذه الشِّرْذِمة ، ونظرا لمكانتهم بين أهل الكوفة ، فقد أصبح لهم الدور الأكبر في صياغة هذا المشهد الأليم ، وكان جهلهم وغرورهم بمثابة الغشاء الذي حال بينهم وبين إدراك الخدعة التي لجأ إليها الشاميّون برفع المصاحف على الرماح لغرض إيقاف الحرب والحيلولة دون هزيمتهم المتوقّعة ، وقد أدّى التطرّف الديني (1) _ المقرون بالجهل والحماقة _ بهؤلاء العبّاد الجهلة إلى إرغام إمامهم على قبول التحكيم . وممّا دعم الموقف الأحمق للقرّاء في تلك الأثناء وساهم في نجاح مكيدة معاوية لإيقاف الحرب وبثّ الفرقة في جيش الإمام _ كما سبقت الإشارة إليه _ هو موقف اُولئك الذين كانوا يتعاملون مع الإمام تعاملاً منافقا ، ومن كانوا يمنّون أنفسهم بوعود معاوية ، وعلى رأسهم الأشعث بن قيس . فالأشعث بن قيس من قبيلة كندة التي كانت تقطن جنوب الجزيرة العربيّة ، وقد وفد على الرسول صلى الله عليه و آله مع جماعة من قومه في السنة العاشرة للهجرة ، وأسلم ، ثمّ ارتدّ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله ، فبعث أبو بكر جيشا لقتاله ، واُسر واقتيد مكبّلاً بالأغلال إلى المدينة ، فعفا عنه أبو بكر وزوّجه اُخته ! ! وبعد مقتل عثمان بايع عليّا عليه السلام ، بيد أنّه لم يكن يتعامل معه بإخلاص ؛ فمواقفه إزاء الإمام وخاصّة فيما يتعلّق بالتحكيم ، وبثّ الفرقة بين صفوف جيش الإمام ،
.
ص: 566
تشير إلى أنّه تحوّل إلى واحد من العناصر المندسّة في جيش الإمام لصالح معاوية . إلّا أنّ الإمام عليّ عليه السلام لم يكن قادرا على البتّ في أمره ؛ بسبب مكانته الاجتماعيّة وضخامة قبيلته التي كان لها دور مؤثّر في جيش الكوفة .
5 _ الحكمة من عدم اغتنام الفرصة بعد توبة الخوارجوتوقّفت المعركة على أثر المكيدة التي ابتكرها عمرو بن العاص . ولكن ما لبث قرّاء الكوفة أن انتبهوا إلى أنّهم قد انطلت عليهم الخدعة ، وأنّهم قد أخطؤوا في حمل الإمام على قبول التحكيم . فجاؤوا إليه وأعربوا عن خطأ موقفهم ، وتوبتهم ممّا كان منهم ، وأنّه هو الآخر قد أخطأ في قبول رأيهم ، ويجب أن يتوب أيضا ! واعتبروا الوثيقة التي صيغت على أساس المكيدة فاقدة لأيّة قيمة ، ولابدّ من نقضها واستئناف الحرب . إلّا أنّ الإمام رفض قبول هذه الاقتراحات ، وانتهى ذلك الرفض إلى انشقاق القُرّاء عن الإمام ووقوع معركة النهروان . والسؤال الأساسي الأخير فيما يخصّ أمر التحكيم هو : لماذا رفض الإمام اقتراح القرّاء بنقض الوثيقة ومعاودة القتال ؟ ألم يكن يعلم بما سيؤول إليه رفض تلك المقترحات ؟ وما هي الحكمة الكامنة وراء عدم اغتنام الإمام لتلك الفرصة الذهبيّة لإنهاء فتنة القاسطين ، وتوقّي وقوع فتنة المارقين ؟ وجواب هذا السؤال : هو أنّ استجابة الإمام لتلك المقترحات تنطوي على ثلاثة أخطاء سياسيّة ودينيّة كبرى لم يكن الإمام على استعداد لاقترافها ، وهي :
أ _ الاعتراف بخطأ القيادةكان الطلب الأوّل للخوارج أن يعترف بأنّه قد أخطأ فيما يخصّ القبول بأمر التحكيم ، غير أنّ الإمام لم يكن على استعداد للإعلان عن ارتكابه لأيّ خطأ ؛ وذلك لأنّ القبول بالتحكيم لحلّ الاختلافات لا يُعدّ تصرّفا خاطئا ، بل هو أمر محبّذ يؤيّده
.
ص: 567
القرآن . والمؤاخذة الوحيدة في هذا السياق هي أنّ التحكيم في هذه الواقعة جاء خلافا للحكمة والسياسة التي أعلنها الإمام صراحة ، لكنّهم هم الذين استنكروا منه ذلك الموقف وأملوا عليه وعلى جيش الكوفة الرضوخ للتحكيم . وفضلاً عن ذلك ، فإنّ الإمام كان يميل إلى الاستقالة على نحو يُرضي الخوارج ، غير أنّ الأشعث لم يقبل وأصرّ على أن يعترف الإمام بالخطأ على نحو يسيء إلى مكانته بوصفه قائدا .
ب _ نقض العهدولو افترضنا أنّ الإمام قد اعترف بخطأ ؛ فإنّ الخوارج كان لديهم طلب آخر ؛ وهو نقض الوثيقة بين جيش الشام والكوفة . بينما كان الإمام يرى أنّ التمسّك بالمواثيق يعدّ واحدا من المبادئ الدوليّة في الإسلام ، ولا ينبغي أن ينقض المواثيق تحت أيّة ذريعة كانت . ومن هنا فقد كتب في عهده إلى مالك الأشتر : «وإن عَقَدتَ بَينَكَ وبَينَ عَدُوِّكَ عُقدَةً أو ألبَستَهُ مِنكَ ذَمَّةً ، فَحُط عَهدَكَ بِالوَفاءِ ، وَارعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمانَةِ ، وَاجعَل نَفسَكَ جُنَّةً دونَ ما أعطَيتَ ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ مِن فَرائِضِ اللّهِ شَيءٌ النّاسُ أشَدُّ عَلَيهِ اجتِماعا ، مَعَ تَفَرُّقِ أهوائِهِم وتَشَتُّتِ آرائِهِم ، مِن تَعظيمِ الوَفاءِ بِالعُهودِ . وقَد لَزِمَ ذلِكَ المُشرِكونَ فيما بَينَهُم دونَ المُسلِمينَ لَمَّا استَوبَلوا مِن عَواقِبِ الغَدرِ ؛ فَلا تَغدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ، ولا تَخيسَنَّ بِعَهدِكَ ، ولا تَختِلَنَّ عَدُوَّكَ ؛ فَإِنَّهُ لا يَجتَرِئُ عَلَى اللّهِ إلّا جاهِلٌ شَقِيٌّ . وقَد جَعَلَ اللّهُ عَهدَهُ وذِمَّتَهُ أمنا أفضاهُ بَينَ العِبادِ بِرَحمَتِهِ ، وحَريما يَسكُنونَ إلى مَنَعَتِهِ ، ويَستَفيضونَ إلى جِوارِهِ ؛ فَلا إدغالَ ولا مُدالَسَةَ ولا خِداعَ فيهِ» (1) .
.
ص: 568
فإذا كان الإمام عليّ عليه السلام ينقض هذا المبدأ الإسلامي الأساسي ، فما عسانا أن نتوقّع من غيره !
ج _ خطورة تسلّط الجهلة المتنسّكينإنّ خطر تسلّط الجهلة المتنسّكين _ في منظار الإمام عليه السلام _ لا يقلّ عن خطر العلماء الفاسقين ؛ فالاعتراف بخطأ ، ونقض العهد في أمر التحكيم ، كان يعني انصياع عليّ عليه السلام لتسلّط الجهلة المتنسّكين _ المصابين بمرض العجب وحبّ الدنيا والتطرّف الديني لدى من اشتُهروا باسم «القرّاء» _ على نفسه وعلى الاُمّة الإسلاميّة ، وأنّه قد فوّض إليهم القرارات الأساسيّة في الحرب والسلام ، ومن بعدهما في جميع الاُمور المهمّة والحسّاسة . وهذا ليس بالأمر الذي يمكن أن يتقبّله أو يستسيغه قائد الاُمّة الإسلاميّة . وهذا ما جعل الإمام يقاوم طلباتهم بكلّ قوّة ، ويقول : «فَإِنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» .
.
ص: 569
المدخلدراسة حول المارقين وجذور انحرافهمإنّ ظهور حركة الخوارج وبالتالي قيام معركة النهروان يُعَدّ من الحوادث المليئة بالعبر في التاريخ الإسلامي وعصر حكومة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؛ ذلك أنّ طبيعة سلوكهم ، وسابقتهم الدينيّة ، وتمسّكهم القشري بالإسلام ، ثمّ مواجهتهم للإمام عليه السلام ، كلّ ذلك يعتبر من الاُمور المهمّة الحسّاسة في السيرة العلويّة . ويمكننا أن نقف على المخاطر والمحاذير إزاء مواجهة تيّارهم ومحاربتهم ، من خلال كلامٍ رفيعٍ للإمام عليه السلام قال فيه : « . . . إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ؛ ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» (1) . أجلْ ، كيف يتسنّى أن تُسلّ السيوف على وجوهٍ قرآنيّة الظاهر ، وجباهٍ ثَفِنَةٍ من كثرة السجود ، ومن ثَمّ قهرها وإبادتها ؟ ! نحن في هذا الموضوع سوف نتوفر _ وقبل كلّ شيء _ على دراسة الوضع النفسي والاجتماعي للخوارج اعتمادا عل الوثائق التاريخيّة والحديثيّة ، ونستعرض كيفيّة تبلور أفكارهم ، وما كان لهم من موقف متشدّد مَشُوب باللجاجة والجهل في قبال الإمام عليه السلام .
.
ص: 572
الدين والاعتدالالإسلام دينٌ وَسَط (1) ، وتعاليمه زاخرة بالتأكيد على الاعتدال ، وبالنظرة الشموليّة المستوعبة ، وبضرورة الابتعاد عن الإفراط ، والنظرة الضيّقة الاُحاديّة الجانب إلى الاُمور . ورسول اللّه صلى الله عليه و آله _ الذي كان يعرض الإسلام بوصفه منهاجا للتكامل المادّي والمعنوي ويؤكّد شموليّته وكماله في استيعابه المصالح الفرديّة والاجتماعيّة _ كان يرى الإفراط والنظرة الاُحاديّة الجانب أكبر خطر على اُمّته ودينه . ولم يزل ينبّه على هذه الحقيقة طيلة عمره المبارك ، فقد كان صلى الله عليه و آله يقول : «لا يَقومُ بِدينِ اللّهِ إلّا مَن حاطَهُ مِن جَميعِ جَوانِبِهِ» (2) . وكان صلى الله عليه و آله يرى أنّ الذين يحملون النظرة الشموليّة المستوعبة للدين ، ويُحيطون بجميع التعاليم الدينيّة في مجال الفكر ، والقول ، والتكامل الفردي والاجتماعي هم وحدهم الذين تُثمر جهودهم في نصرة الدين ، وكان يحرص على تعليم ذلك لاُمّته . ومن هنا كان صلى الله عليه و آله يقول : «إنَّ دينَ اللّهِ عَزَّوجَلَّ لَن يَنصُرَهُ إلّا مَن حاطَهُ مِن جَميعِ جَوانِبِهِ» (3) . ورسول اللّه صلى الله عليه و آله _ إلى جوار ما كانت تعيشه الاُمّة من تعاليم سيرته الوضّاءة التي يُتحفها بها من أجل هدايتها واستقامتها على الطريقة ، وجعلها الاُمّة الوسط _ كان يدلّ على القدوة في هذا المجال ، ويؤكّد تمسّك المسلمين بسيرة العترة التي كان
.
ص: 573
يعرّفها للاُمّة بوصفها المثال البارز للاعتدال والوسطيّة (1) . وقد أشار الأئمّة عليهم السلامإلى منزلة أهل البيت ومكانتهم ، من ذلك دعاء الإمام السجّاد عليه السلام في الصلوات الشعبانيّة ، حيث جاء فيها : اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ الفُلكِ الجارِيَةِ فِي اللُّجَجِ الغامِرَةِ ؛ يَأمَنُ مَن رَكِبَها ، ويَغرَقُ مَن تَرَكَها ، المُتَقَدِّمُ لَهُم مارِقٌ ، وَالمُتَأَخِّرُ عَنهُم زاهِقٌ ، وَاللّازِمُ لَهُم لاحِقٌ (2) . وهكذا نبّه أئمّة الدين الناسَ على لزوم الاعتدال في الفكر والحياة ، وأكّدوا ذلك . ويمكننا أن نُدرك من هذا كلّه أنّ الخروج عن جادّة الاعتدال ، والسقوط في حضيض الإفراط والتطرّف لا يستتبع إلّا الشذوذ ، وربّما الانجراف مع تيّار الفساد . ومثّل الخوارج _ في نطاق الثقافة الإسلاميّة _ تيّارا متطرّفا ذا مواقف حادّة متشنّجة بعيدة عن الاعتدال ، ونُعتوا في الأحاديث النبويّة بصفة «التعمّق» : «إنَّ أقواما يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ يَمرُقونَ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . ونتناول هذا الاصطلاح فيما يأتي بإيجاز قبل أن نتحدّث عن جذور تيّار الخوارج :
.
ص: 574
التطرّف الديني في اصطلاح الحديثذكرنا أنّ الإسلام دينٌ وسطٌ يرفض الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال ، ولنا أن نلمس هذه الحقيقة في التعاليم الدينيّة بعناوين متنوّعة . منها : إنّنا نلحظ أنّ الإفراط والتطرّف وردا في لسان الأحاديث والروايات تحت عنوان «التعمّق» ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «إيّاكُم وَالتَّعَمُّقَ فِي الدّينِ ! فَإِنَّ اللّهَ تَعالى قَد جَعَلَهُ سَهلاً ، فَخُذوا مِنهُ ما تُطيقونَ ؛ فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ مادامَ مِن عَمَلٍ صالِحٍ وإن كانَ يَسيرا» (1) . ونُلقي فيما يأتي نظرة عابرة على هذه المفردة مستهدين بما ذكره أرباب المعاجم . قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : المُتَعَمِّق : المبالغ في الأمر المنشود فيه الذي يُطلب أقصى غايته (2) . وجاء في «لسان العرب» : المُتَعَمِّق : المبالغ في الأمر المتشدّد فيه الذي يطلب أقصى غايته (3) .
.
ص: 575
ونجد هذا المعنى أيضا في كلام المحدّثين ؛ فقد ذهبوا في شرح روايات جمّة إلى أنّ التعمّق هو الإغراق في الخروج عن الاعتدال ، والإفراط في مقابل الاعتدال (1) . إنّ التنقيب عن مواضع استعمال «التعمّق» في المعاجم والأحاديث الإسلاميّة المنقولة في مصادر الفريقين لا يُريب الباحث في أنّ المراد من هذه الكلمة في الثقافة الإسلاميّة ليس إلّا الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال . وعلى أيّ حال لو لم يكن إلّا الحديث الذي أوردناه آنفا لكفى به برهانا على ما نقول . وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يوصي أصحابه دائما ألّا يتجاوزوا حدّ الاعتدال في اُمور الدين ، ولا يُحرجوا أنفسهم ، ولا يفقدوا حماسهم ونشاطهم في العبادة ، وأن يُراعوا حدود السنّة ، ولأنّ المجال هنا يضيق عن ذكر جلّ وصاياه وتعاليمه التربويّة المليئة بالدروس والعبر ، الجديرة بالقراءة والتأمّل . فإننا نذكر نزرا يسيرا منها : «ألا وإنَّ لِكُلِّ عِبادَةٍ شِرَّةً ، ثُمَّ تَصيرُ إلى فَترَةٍ ، فَمَن صارَت شِرَّةُ عِبادَتِهِ إلى سُنَّتي فَقَدِ اهتَدى ، ومَن خالَفَ سُنَّتي فَقَد ضَلَّ ، وكانَ عَمَلُهُ في تَبابٍ ، أما إنّي اُصَلّي وأنامُ ، وأصومُ واُفطِرُ ، وأضحَكُ وأبكي ؛ فَمَن رَغِبَ عَن مِنهاجي وسُنَّتي فَلَيسَ مِنّي» (2) . وكان صلى الله عليه و آله ينظر في مرآة الزمان إلى أفراد من اُمّته يناهضون الحقّ لإفراطهم وتطرّفهم ، ويصرّون على موقفهم إصرارا سُرعان ما يُبعدهم عن الدين وحقائقه ،
.
ص: 576
ولذا قال في حقّهم : «إنَّ أقواما يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ يَمرُقونَ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (1) . وقال مشيرا إلى علامات هؤلاء : «إنَّ فيكُم قَوما يَعبُدونَ ويَدأَبونَ يَعني يُعجِبونَ النّاسَ وتُعجِبُهُم أنفُسُهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . فالتعمّق هو التطرّف والإفراط ، وإذا ما جُعل ميزانا لأفعال الآخرين فلا يُنتج إلّا الحكم الجائر ؛ فيرى الحقّ دوما في جانبه ، وليس للآخرين حظٌّ منه ، وهذا النوع من الرؤى هو الذي يسبّب الفرقة ، ويستتبع الزيغ ويوجِد الشقاق ، وبالتالي فيصبح دعامة للكفر ، وحسبنا في المقام كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بيان هذه الحقيقة ، وأنّ التعمّق أحد اُسس الكفر ، إذ يقول : «وَالكُفرُ عَلى أربَعِ دَعائِمَ : عَلَى التَّعَمُّقِ ، وَالتَّنازُعِ ، وَالزَّيغِ ، وَالشِّقاقِ ؛ فَمَن تَعَمَّقَ لم يُنِب إلَى الحَقِّ» (2) . ومثل هؤلاء المتعمّقين بتماديهم في ظنونهم وأوهامهم ، وإغراقهم في أفكارهم ، ومن ثمّ أساليبهم المفرطة ، لا يجدون مجالاً للإنابة إلى الحقّ ، ومن هنا لا ينقادون للإسلام ، وهل الإسلام إلّا التسليم للحقّ ، والإقرار به ، والخضوع له بعد فهمه ؟ والمؤسف أنّ مشكلة الخوارج الكبرى قد تمثّلت في توجّهاتهم المتطرّفة المفرطة اللامتناهية ، لذلك آلَ أمرهم إلى حكمهم بالكفر على كلّ من لا يرى رأيهم ولا يعمل عملهم !
.
ص: 577
نقطة البداية في الانحرافإنّ عددا من المسلمين في عصر صدر الإسلام لم يتلقّ تحذير النبيّ صلى الله عليه و آله من «التعمّق» بكثيرٍ من الجِدّية ؛ لأسباب سنعرضها عند الحديث عن جذور «التعمّق» ؛ فهؤلاء قد تجاوزوا السنّة النبويّة ، وأفرطوا في نزعاتهم حتى وقحُوا في بعض المرّات واجترؤوا يؤاخذون النبيّ صلى الله عليه و آله إذ كان صلى الله عليه و آله في أحد الأيّام مشغولاً بتوزيع الغنائم ، وقسمتها بمراعاة مصالح معيّنة ، فهبّ أحد هؤلاء «المتقدّسين» ، وقد سوّلت له نفسه أنّه أعدل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في القسمة بزعمه ، وطلب منه أن يعدل في التوزيع ! وطعن في تقسيمه القائم على التعاليم القرآنيّة ، وكان أثر السجود بائنا على جبهته ، ورأسه محلوق على طريقة «المتقدّسين» يومئذٍ ورفع عقيرته بغلظة وفظاظة قائلاً : «يا مُحَمَّدٌ ، وَاللّهِ ما تَعدِلُ !» فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله مُغضبا : وَيحَكَ ! فَمَن يَعدِلُ إذا لَم أعدِل ؟ ! وَهَمَّ الصحابةُ بقتله لموقفه الوقِح هذا ، بَيْد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله منَعهم ، وحكى لهم صورةً عن مستقبله ، وأنبأهم بأنّه ورفقاءه بعيدون عن الحقّ من منطلق «التعمّق» وقال : «سَيَكونَ لَهُ شيعَةٌ يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ حَتّى يَخرُجوا مِنهُ» . (1) وقال في خبر آخر : «إنَّهُ يَخرُجُ هذا في أمثالِهِ وفي أشباهِهِ وفى ضُرَبائِهِ يَأتيهِمُ الشَّيطانُ مِن قِبَلِ دينِهِم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لا يَتَعَلَّقونَ مِن الإِسلامِ بِشَيءٍ» . (2) والعجب أنّ هؤلاء قد تقمّصوا الزهد ، وعليهم سيماء العابدين أو هيئة الزاهدين ، بَيْد أنّهم _ من منظار رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ من الدين خارجون ، وعن الحقّ والحقيقة بعيدون ، وهم الذين كانوا يسمّون أنفسهم «القُرّاء» أيضا ، في حين أبان النبيّ صلى الله عليه و آله هذه الصفة وجلّى طبيعتها أيضا ، فقد قال صلى الله عليه و آله : «يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حُلوقَهُم أو
.
ص: 578
حَناجِرَهُم !» (1) . ويحسن بنا أن نتحدّث بإجمال عن مصطلح «القرّاء» ؛ لِما كان له من أرضيّة اجتماعيّة في التاريخ الإسلامي .
تيّار القرّاء وتبلورهكان في المجتمع الإسلامي أشخاص مشهورون بحُسن القراءة ، وحظي هؤلاء بشعبيّة لافتة للنظر ، وإقبال حَسَن بين الناس ، حتى غدا عنوان «القارئ» امتيازا له أثر في تعيين المناصب أحيانا (2) . وقد ازداد عددهم بمرور الأيّام ، وكانوا يحلقون رؤوسهم على طريقة خاصّة (3) ، ويضعون عليها برانس خاصّة لتمييزهم عن غيرهم ، فعُرفوا ب«أصحاب البرانس» . وكان القرّاء متفرّقين في مكّة ، والمدينة ، والشام ، والكوفة ، لكنّ معظمهم كان في الكوفة (4) . ولم يشتركوا في الشؤون السياسيّة غالبا ، بَيْد أنّهم طفقوا ينتقدون عثمان في أيّام خلافته ، ولم يُطِق انتقادهم وتعنيفهم فنفاهم ، ولهم في الثورة عليه وقتله دَورٌ أيضا .
دور القرّاء في جيش الإمام عليّكان القرّاء _ بسابقتهم الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة هذه _ يشكّلون قسما لافتا للنظر من جيش الإمام عليه السلام ، وعُرفوا بالشجاعة والإقدام والقتال ، وكان لهم موقع فى ¨
.
ص: 579
جيشه عليه السلام ، بحيث إنّهم لمّا اُبيدوا في النهروان تركوا فراغا مشهودا في الجيش . ويدلّ على موقعهم أيضا أنّ معاوية عندما شنّ غاراته ، وحثَّ الإمامُ عليه السلام جُنده على الدفاع عن الثغور ، فلم يسمع جوابا منهم ، قال أحد أصحابه : «ما أحوَجَ أميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام ومَن مَعَهُ إلى أصحابِ النَّهرَوانِ !» (1) .
القرّاء وفرض التحكيم على الإمامممّا يؤسف له أنّ هؤلاء القرّاء بماضيهم المعروف قد خدعتهم _ وهم في جيش الإمام عليه السلام _ المكائد الخفيّة لمعاوية وعمرو بن العاص وعملائهما ، بسبب تطرّفهم ، وإفراطهم أو تعمّقهم على حدّ تعبير النبيّ صلى الله عليه و آله ، ففرضوا التحكيم على الإمام عليه السلام . لقد احتال ابن العاص وسوّل للجيش مكيدته في وقتٍ أوشك أن يُطوى فيه ملفّ الشام إلى الأبد ، وتستريح الاُمّة من هذه الفتنة العمياء السوداء ، وأمر برفع المصاحف على الرماح دلالةً على الكفّ عن القتال ، وأمارةً على تحكيم كتاب اللّه فيه ، فاتّخذ اُولئك القرّاء موقفهم المُشين المشهور ، وهم المعروفون بسطحيّتهم ونظرهم إلى ظاهر الاُمور لا باطنها ، ولم يروا وجه الحيلة ، فأجبروا الإمام عليه السلام على قبول التحكيم ، والإمساك عن القتال تعظيما لحرمة القرآن بزعمهم ، وأكرهوه على ذلك بالرغم من معارضته عليه السلام ومعه الخاصّة من أصحابه ، وهدّدوه بالقتل عند الرفض ، ولم يكن له عليه السلام سبيل إلّا الاستجابة لذلك المنطق المتعسّف الخاوي الجهول ؛ لما كان لهم من تغلغل ونفوذ في جيشه ، وقَبِل الإمام عليه السلام اقتراحهم ، فاستدعى «مالكا» الذي كان قد تقدّم في المعركة واقترب من فسطاط معاوية . وهكذا انطلت الخديعة ، وواجهت حكومة الإمام عليه السلام مشكلة جدّية .
.
ص: 580
انفصال القرّاء عن الإمامما لبث أن اُميط اللثام ، وافتضحت خديعة معاوية ، وأدرك القرّاء السطحيّون خطأهم وانخداعهم بمكيدة رفع المصاحف ، ولكنّهم بدل أن يستفيقوا فيعيدوا الحقّ إلى نصابه ، والماء إلى مسابه نراهم كابروا بمضاعفة تطرّفهم ، وجهلهم ، وإفراطهم ، ونظرتهم الضيّقة المنغلقة ، واجترحوا سيّئةً أكبر من سابقتها ، فقالوا للإمام عليه السلام : لقد كفرنا بفعلنا هذا ، وإنّا تائبون منه ، وأنت كفرت أيضا ؛ فعليك أن تتوب مثلنا ، وتنكث ما عاهدت عليه معاوية ، وتعود إلى مقاتلته ! ولا ريب في أنّ نكث الإمام عهدَهُ _ مضافا إلى ما فيه من مخالفةٍ لسيرته واُسلوبه وتعاليم دينه _ يُفضي إلى تضييق هؤلاء «المتقدّسين» المتعنّتين الخناق على الإمام عليه السلام ، وتحديد نطاق حكومته إلى درجة ينفلت معها زمام الاُمور ، ويفقد عليه السلام القدرة على صنع قراره في الحرب والسلم ، والسياسة والإدارة ؛ وتخرج الاُمور المهمّة من يده . فلذا واجه عليه السلام هذا الطلب الجهول بكلّ قوّة ، لكنّ اُولئك القرّاء بدل أن يتأمّلوا في هشاشة موقفهم الأحمق هذا ، افترقوا _ عند الرجوع من صفّين _ عن أمير المؤمنين وإمام المتديّنين ؛ انطلاقا من «التعمّق» في الدين والإفراط في السلوك المشين ، وعسكروا في «حروراء» قريبا من الكوفة .
انقلاب «القرّاء» إلى «المارقين»أجَل ، تحقّقت نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ وإذا الذين كانوا بالأمس وجوه المسلمين البارزة ، وممّن جمعوا في حياتهم بين الجهاد والقتال ، والزهد والعبادة ، يقفون اليوم أمام الدين وإمام المسلمين بسبب إصابتهم بداء التعمّق والتطرّف ؛ متذرّعين بذريعة الدفاع عن ساحة القرآن وحريم الدين . وهكذا أخرجهم داء الإفراط والتطرّف من الدين حتى لم يبق في نفوسهم للدين من أثر . وهكذا استحقّوا عنوان «المارقين» الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد وصفهم به من
.
ص: 581
قبل . وممّا كان صلى الله عليه و آله قد قاله للإمام عليه السلام : «يا عَلِيُّ ! لَولا أنتَ لَما قوتِلَ أهلُ النَّهرِ ، قالَ : فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ! ومَن أهلُ النَّهرِ ؟ قالَ : قَومٌ يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (1) .
الإمام ومباهاته باجتثاث فتنة «التعمّق»اتّضح ممّا ذكرناه إلى الآن حول تيّار «التعمّق» والوجوه المنتمية إليه أنّ الاصطدام به كان عملاً صعبا ، وحقيقة الأمر أنّ استئصال جذور هذه الفتنة _ التي كانت في ظاهرها تيّارا وطيدا في التديّن _ عملٌ في غاية الإعضال ، وكان الإمام عليه السلام يرى أنّ إبادة هذا التيّار واقتلاع جذور الفتنة من مفاخر عصر خلافته ، فقد قال عليه السلام : «إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» (2) . إنّ قتالَ أدعياء الحقّ ؛ القرّاء الذين كانت ترنيمات القرآن قد ملأت حياتهم ، وجرى على السنتهم نداء «لا حُكْم إلّا للّه » وهم بِسيَرٍ ربّانيّة الظاهر ، عملٌ جدُّ عسير ؛ فهؤلاء كانوا يُحيون الليل بالعبادة ، ويخرّون للأذقان سُجّدا سجدات طويلة ، وجباههم ثفنات من كثرة السجود . وكانوا لا يعرفون حدّا لانتقاد غيرهم ، واشتُهروا بوصفهم رجالاً اُولي شأنٍ وقوّةٍ في الدين . لكن واأسفاه ! إذ كانوا مرضى القلوب ، ضيّقي الأفكار ، صغار العقول . من هنا كان الاصطدام بتيّار «التعمّق» _ بناءً على ما ذُكر _ ممّا لم يقدر عليه يومئذ إلّا الإمام عليه السلام وكان قمعه يتطلّب بصيرة وحزما خاصّا متميّزا لم يقدر عليه سوى عليّ عليه السلام . وهذه الكلمة كلمته المشهورة التي نطق بها بعد قتال الخوارج لم يَقُلها _ لذلك _ في حربه مع «الناكثين» و«القاسطين» فإنّه ما قال في قتال هاتين الطائفتين : «لَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» أو «لَولا أنَا ما قُوتِلَ . . .» ، بيد أنّه قال ذلك في قتال الخوارج .
.
ص: 582
جذور التعمّقلننظر الآن من أين ظَهَر هذا التيّار ، وكيف ؟ ولماذا ظهر إنّ دراسة جذور هذا التيّار ، والوقوف على بواعث انحراف أصحابه يعتبران من أهمّ موضوعاته وتتجلّى أهميّة هذه الدراسة بملاحظة إخبار النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام عليّ عليه السلام باستمرار هذا التيّار عبر التاريخ الإسلامي ، وأنّ مقارعة التطرّف والإفراط ، واليقظة والحذر منهما حاجة لازمة للاُمّة الإسلاميّة . قال النبيّ صلى الله عليه و آله في استمرار هذا التيّار الفكري : «كُلَّما قُطِعَ مِنهُم قَرنٌ نَشَأَ قَرنٌ ثُمَّ يَخرُجُ في بَقِيَّتِهِمُ الدَّجّالُ» . (1) وعندما اُبيد الخوارج في النهروان وقيل للإمام عليه السلام : هلك القوم بأجمعهم ، قال عليه السلام : «كَلّا وَاللّهِ ، إنَّهُم نُطَفٌ في أصلابِ الرِّجالِ وقَراراتِ النِّساءِ ؛ كُلَّما نَجَمَ مِنهُم قَرنٌ قُطِعَ ، حَتّى يَكونَ آخِرُهُم لُصوصا سَلّابينَ» . (2) من هنا ، ينبغي التوفّر قبل كلّ شيء على دراسة نفسيّات المارقين ، والتنقيب عن جذور «التعمّق» ، واستقصاء ممهّدات هذا التطرّف ، لعلّ في ذلك عبرة لمعتبر في عصرنا هذا وجميع الأعصار .
1 _ الجهللا مناصَ من عدّ الجهل أوّل عامل في دراسة جذور «التعمّق» وقد نصّت الأحاديث والروايات على هذه النقطة ؛ فإنّنا نلحظ عليّا عليه السلام ينظر إلى الجهل مصدرا للإفراط
.
ص: 583
والتفريط ، والتطرّف والتلكّؤ ، قال عليه السلام : «لا تَرَى الجاهِلَ إلّا مُفرِطا أو مُفَرِّطا» (1) . وهكذا نجده في كلام الإمام الباقر عليه السلام إذ عدّه أساس تطرّف الخوارج وموقفهم المفرِط ، فقد قال إسماعيل الجُعفي : سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسعُ العبادَ جهلُه ؟ فقال : «الدّينُ واسِعٌ ، ولكِنَّ الخَوارِجَ ضَيَّقوا عَلى أنفُسِهِم مِن جَهلِهِم» (2) . وهذه هي النقطة التي أكّدها أمير المؤمنين عليه السلام من قبل عند تحليله النفسي والفكري للخوارج وسبب تطرّفهم ونزعاتهم المفرطة ، فقال : « . . . ولكِن مُنيتُ بِمَعشَرٍ أخِفّاءِ الهامِ ، سُفَهاءِ الأَحلامِ» (3) . وقال في كلام آخر يخاطبهم به : «وأنتُم _ وَاللّهِ _ مَعاشِرُ أخِفّاءُ الهامِ سُفَهاءُ الأَحلامِ» (4) . وفي كلام رفيع له عليه السلام كان يهدف منه إيقاظهم ، أوصاهم في سياق توضيح بعض الحقائق أن يرعووا عن لجاجهم وعملهم الذي يسوّله لهم جهلهم ، وأن يتبيّنوا طريق الاعتدال ، وأشار فيه إلى خلقهم وجبلّتهم فقال عليه السلام : «ثُمَّ أنتُم شِرارُ النّاسِ ، ومَن رَمى بِهِ الشَّيطانُ مَرامِيَهُ ، وضَرَبَ بِهِ تيهَهُ . وسَيهَلِكُ فِيَّ صِنفانِ : مُحِبٌّ مُفرِطٌ يَذهَبُ بِهِ الحُبُّ إلى غَيرِ الحَقِّ ؛ ومُبغِضٌ مُفرِطٌ يَذهَبُ بِهِ البُغضُ إلى غَيرِ الحَقِّ . وخَيرُ النّاسِ فِيَّ حالاً النَّمَطُ الأَوسَطُ ؛ فَالزَموهُ» (5) .
.
ص: 584
العقل مقياس الأعمالإنّ التعقّل ، والانطلاق من العقل في العمل ، وقياس السلوك بالفكر والتفكّر كلّ اُولئك في غاية الأهميّة من منظار الدين . وللدين تأكيد عجيب في هذا المجال ، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ما قَسَمَ اللّهُ لِلعِبادِ شَيئا أفضَلَ مِنَ العَقلِ ، فَنَومُ العاقِلِ أفضَلُ مِن سَهَرِ الجاهِلِ ، وإقامَةُ العاقِلِ أفضَلُ مِن شُخوصِ الجاهِلِ» (1) . من هنا ، لا يقام وزن للأعمال التي لا تُمارَس من وحي العقل ، ولا للجهود المنطلقة من الجهل والحمق . وهكذا كان الخوارج في خفّة عقولهم وجهلهم ؛ فإنّهم لم يلجؤوا إلى ركن وثيق في الدين مع جميع ما كانوا عليه من العبادة وقيام الليل . والغريب أنّهم لم يظفروا بمعتقدات راسخة قطّ مع ما عرفوا به من استبسالهم في ساحات الوغى ، وعباداتهم الطويلة ، وتحمّلهم مشقّات في العبادة . وهذا كلّه لم يؤدّ دورا تكامليّا في عقائدهم . وحين سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً من الحروريّة يتهجّد ويقرأ ، قال : «نَومٌ عَلى يَقينٍ خَيرٌ مِن صَلاةٍ في شَكٍّ» (2) .
عمق جهل الخوارجإنّ جهل الخوارج مُدهش إلى درجة أنّهم كانوا في مِرْيةٍ وشكّ من أمرهم حتى اللحظات الأخيرة من الحرب التي أوقدوها وزهقت فيها أرواحهم ، بَيدْ أنّهم لم يرعووا عن مكابرتهم . وهذه من النقاط المهمّة في تحليل شخصيّتهم ، أي أنّهم على الرغم من تطرّفهم الشديد في العمل لم يلجؤوا إلى ركن وثيق في العقيدة . وعلى سبيل المثال لمّا هلك أحدهم في النهروان قال : «حَبَّذَا الرَّوحَةُ إلَى الجَنَّةِ» ، فقال قائدهم عبد اللّه بن وهب : ما أدري أإلَى الجَنَّةِ أم إلَى النّارِ ؟ فَقالَ رَجُلٌ مِن بَني سَعد
.
ص: 585
كان يرى هذا المشهد : «إنّما حَضَرتُ اغتِرارا بِهذا ، وأراهُ قَد شَكَّ ! ! فَانخَزَلَ بِجَماعَةٍ مِن أصحابِهِ ومالَ إلى ناحِيَةِ أبي أيّوبَ الأَنصارِيِّ» . ونُذكّر بأنّ جواب صادق آل محمّد صلى الله عليه و آله بشأن الخوارج جدير بالمطالعة والتأمّل . فقد سمّاهم «الشُّكّاك» ، ونبّه أيضا على مواقفهم من الوجهة النفسيّة ، فعن جميل بن درّاج : قالَ رَجُلٌ لِأَبي عَبدِ اللّهِ [الإِمامِ الصّادقِ] عليه السلام : الخَوارِجُ شُكّاكٌ ؟ فَقالَ : نَعَم . قالَ : كَيفَ وهُم يَدعونَ إلَى البِرازِ ؟ قالَ : ذلِكَ مِمّا يَجِدونَ في أنفُسِهِم (1) . والنقطة الملفتة للانتباه في هذا الحوار هي أنّ السائل يجد صعوبة في أن يقرّ بأنّ رجالاً يشهرون سيوفهم ويقاتلون دفاعا عن عقيدةٍ مشوبة بالشّك والارتياب . وجواب الإمام عليه السلام هو أنّهم لا ينطلقون في تحرّكهم من وحي عقيدةٍ راسخة معيّنة ، بل من وحي عواطف باطنيّة دعتهم إلى اتّخاذ مثل ذلك الموقف ، وهذه النقطة شديدة الإثارة للتأمّل والدعوة إلى الاعتبار ، فقد يحدث _ بل كثيرا ما يحدث _ أن يقع الإنسان دونما تفكير أسيرا لعواطفه دفعةً واحدة ، في المواطن المثيرة والمواضع التي تحكمها اللحظة الحاضرة إلى درجة يتعطّل معها عقله بغتةً ، وهو يعيش إعصار العاطفة ، فإذا ما سكن هذا الإعصار وهدأت فورته يفهم الراكب موجته ماذا كان فعل ، وكيف فَقَدَ كنزه ! وكلام الإمام عليه السلام يدلّ على أنّ تحرّك المارقين لم يعتمد على عقيدة راسخة . وفيما ذكرناه _ وفي غيره من الحقائق التي تصدق على حياة بعضهم _ إنارة وبيان لهذه الحقيقة .
.
ص: 586
2 _ حبّ الدنيايمكن أن نعدّ حبّ الدنيا وتأثير مغرياتها العامل الثاني لانحراف الخوارج ، مهما تعدّدت أشكال هذا الحبّ ومؤشّراته . وهذا الموضوع في الحقيقة أهمّ عامل في زيغ التيّارات الثلاثة : الناكثين والقاسطين والمارقين . وقد تعرّض الإمام عليه السلام إلى هذه الحقيقة في كلام عميق له قال فيه : «فَلَمّا نَهَضتُ بِالأَمرِ نَكَثَت طائِفَةٌ ، ومَرَقَت اُخرى ، وقَسَطَ آخَرونَ ، كَأَنَّهُم لَم يَسمَعوا كَلامَ اللّهِ حَيثُ يَقولُ : «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَ الْعَ_قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1) . بَلى وَاللّهِ ، لَقَد سَمِعوها ووَعَوها ، ولكِنَّهُم حَلِيَتِ الدُّنيا في أعيُنِهِم ، وراقَهُم زِبرِجُها (2) . ولعلّ ما جاء في التاريخ حول الخوارج يجعل التصديق بهذا الموضوع عسيرا بعض العُسر ، ذلك أنّ قوما اتّخذوا الزهد شعارا لهم ، وظهروا بمظهر العازفين عن الدنيا ، وأتعبوا أنفسهم في العبادة ، وجاوزوا حدّ الاعتدال فيها ، ورغبوا عن مادّيات هذه الحياة ، وكانوا يُبلون بلاءً حسنا في ميادين القتال ، كيف يكون لحبّ الدنيا من معنىً بالنّسبة إليهم ؟ ! وهنا ينبغي أن نقول : «هاهنا ألف مسألة هي أدقّ من الشعرة» (3) . فللإقبال على الدنيا معالم ووجوه ، ذلك أنّ منهم مَن يتشدّد فيها على نفسه حينا ، ويعنُف بها ؛ لكي يكون مشهورا محبوبا بين الناس ، ويذيع صيته ، ويتحدّث المتحدّثون باسمه ! أجل : كُلُّ مَن فِي الوُجودِ يَطلُبُ صَيدا إنَّمَا الاِختِلافُ فِي الشَّبَكاتِ
.
ص: 587
وليس للمرء أن يُخلِصَ دخيلته فيها ما لم يَخلَصْ من حبالة النفس وفخّ الشيطان ، ومن الواضح أنّ الإقبال على الدنيا _ إذا كان في قالب التديّن ولباس أهل الآخرة _ أخطر بكثيرٍ ممّا إذا كان في قالب حبّ الدنيا واللهث وراءها ، وفي زيّ الإتراف . ذلك أنّ من العسير إدراك هذه الحقيقة من وراء ذلك الظاهر . ولنا أن نلمس هذه الحقيقة بوضوح في تصوير شامل للإمام أمير المؤمنين عليه السلام يتحدّث فيه عن أصناف الناس في عصره ، قال عليه السلام : «ومِنهُم مَن يَطلُبُ الدُّنيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ ولا يَطلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنيا ، قَد طامَنَ مِن شَخصِهِ ، وقارَبَ مِن خَطوِهِ ، وشَمَّرَ مِن ثَوبِهِ ، وزَخرَفَ مِن نَفسِهِ لِلأَمانَةِ ، وَاتَّخَذَ سِترَ اللّهِ ذَريعَةً إلَى المَعصِيَةِ» (1) . ومن الصعب تمييز النماذج الماثلة لطلّاب الدنيا بخاصّة طلّابها الذين عليهم مسحة التوجه إلى الآخرة ، فهذا اللون من التوجّه لا يظهر إلّا عند محطّات الاختبار وفى منعطفات الحياة الوعرة ، وهناك تنجلي جوهرة الباطن ، ونِعمَ ما قاله الإمام عليه السلام في هذا المجال : «في تَقَلُّبِ الأَحوالِ عِلمُ جَواهِرِ الرِّجالِ» . (2) إن إدراك الحقيقة المستخفية وراء حجاب الرياء والتدليس أمر لا يهتدي إليه كلّ أحد ؛ فهو يتطلّب بصيرة عميقة ثاقبة كبصيرة مالك الأشتر ، حتى يتسنّى أن يُرى حبّ الدنيا كامنا وراء السجدات الطويلة والنزعات الخادعة ببريق قداستها المفتعلة . لقد كان مالك على مشارف النصر في صفّين ، وتقدّم حتى اقترب من خيمة طلّاب السلطة ، لكنّه اُكره على التقهقر تحت ضغط «القرّاء» . وحين عاد خاطبهم
.
ص: 588
بحرقة وألم ، فقال لهم : «يا أصحابَ الجِباهِ السُّودِ ! كُنّا نَظُنُّ صَلَواتِكُم زَهادَةً فِي الدُّنيا ، وشَوقا إلى لِقاءِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ ، فَلا أرى فِرارَكُم إلّا إلَى الدُّنيا مِنَ المَوتِ ، ألا قُبحاً يا أشباهَ النِّيبِ الجَلّالَةِ» (1) . وهذا اللون من طلب الدنيا وضروب حبّها والركون إليها ورد أيضا في كلام تربويّ للإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليه السلام يبعث على التذكير والتنبيه ، فلنقرأه معاً : «إذا رَأَيتُمُ الرَّجُلَ قَد حَسُنَ سَمتُهُ وهَديُهُ ، وتَماوَتَ في مَنطِقِهِ ، وتَخاضَعَ في حَرَكاتِهِ ، فَرُوَيدا لا يَغُرَّنَّكُم ؛ فَما أكثَرَ مَن يُعجِزُهُ تَناوُلُ الدُّنيا ورُكوبُ المَحارِمِ مِنها لِضَعفِ نِيَّتِهِ ، ومَهانَتِهِ ، وجُبنِ قَلبِهِ ؛ فَنَصَبَ الدّينَ فَخّا لَها ، فَهُو لا يَزالُ يَختِلُ النّاسَ بِظاهِرِهِ ؛ فَإِن تَمَكَّنَ مِن حَرامٍ اقتَحَمَهُ . وإذا وَجَدتُموهُ يَعِفُّ عَنِ المالِ الحَرامِ فَرُوَيدا لا يَغُرَّنَّكُم ؛ فَإِنَّ شَهَواتِ الخَلقِ مُختَلِفَةٌ ؛ فَما أكثَرَ مَن يَنبو عَنِ المالِ الحَرامِ وإن كَثُرَ ، ويَحمِلُ نَفسَهُ عَلى شَوهاءَ قَبيحَةٍ فَيأتي مِنها مُحَرَّما ، فَإِذا وَجَدتُموهُ يَعِفُّ عَن ذلِكَ فَرُوَيدا لا يَغُرَّكُم حَتّى تَنظُروا ما عَقَدَهُ عَقلُهُ ، فَما أكثَرَ مَن تَرَكَ ذلِكَ أجمَعَ ، ثُمَّ لا يَرجِعُ إلى عَقلٍ مَتينٍ ، فَيَكونُ ما يُفسِدُهُ بِجَهلِهِ أكثَرَ مِمّا يُصلِحُهُ بِعَقلِهِ ، فَإِذا وَجَدتُم عَقلَهُ مَتينا ، فَرُوَيدا لا يَغُرَّكُم حَتّى تَنظُروا : أ مَع هَواهُ يَكونُ عَلى عَقلِهِ ، أو يَكونُ مَعَ عَقلِهِ عَلى هَواهُ ؟ وكَيفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّئاساتِ الباطِلَةِ وزُهدُهُ فيها ؟ فَإِنَّ فِي النّاسِ مَن خَسِرَ الدُّنيا وَالآخِرَةَ يَترُكُ الدُّنيا لِلدُّنيا ، ويَرى أنَّ لَذَّةَ الرِّئاسَةِ الباطِلَةِ أفضَلُ مِن لَذَّةِ الأَموالِ وَالنِّعَمِ المُباحَةِ المُحَلَّلَةِ ، فَيَترُكُ ذلِكَ أجمَعَ طَلَبا لِلرِّئاسَةِ الباطِلَةِ ، حَتّى إذا قيلَ لَهُ : اِتَّقِ اللّهَ ، أخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ ، فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ ، ولَبِئسَ المِهادُ ؛ فَهُو يَخبِطُ خَبط
.
ص: 589
عَشواءَ ، يَقودُهُ أوَّلُ باطِلٍ إلى أبعَدِ غاياتِ الخَسارَةِ ، ويُمِدُّهُ رَبُّهُ بَعدَ طَلَبِهِ لِما لا يَقدِرُ عَلَيهِ في طُغيانِهِ ، فَهُو يُحِلُّ ما حَرَّمَ اللّهُ ، ويُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللّهُ ، لا يُبالي ما فاتَ مِن دينِهِ إذا سَلِمَت لَهُ رِئاسَتُهُ الَّتي قَد شَقِيَ مِن أجلِها ، فَاُولئِكَ الَّذينَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيهِم ولَعَنَهُم وأعَدَّ لَهُم عَذابا مُهينا . ولكِنَّ الرَّجُلَ كُلَّ الرَّجُلِ نِعمَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذي جَعَلَ هَواهُ تَبَعا لِأَمرِ اللّهِ ، وقُواهُ مَبذولَةً في رِضَى اللّهِ ، يَرَى الذُّلَّ مَعَ الحَقِّ أقرَبَ إلى عِزِّ الأَبَدِ مِنَ العِزِّ فِي الباطِلِ ، ويَعلَمُ أنَّ قَليلَ ما يَحتَمِلُهُ مِن ضَرّائِها يُؤَدّيهِ إلى دَوامِ النَّعيمِ في دارٍ لا تَبيدُ ولا تَنفَدُ ، وأنَّ كَثيرَ ما يَلحَقُهُ مِن سَرّائِها إنِ اتَّبَعَ هَواهُ يُؤَدّيهِ إلى عَذابٍ لَا انقِطاعَ لَهُ ولا زَوالَ ، فَذلِكُمُ الرَّجُلُ نِعمَ الرَّجُلُ ، فَبِهِ فَتَمَسَّكوا ، وبِسُنَّتِهِ فَاقتَدوا ، وإلى رَبِّكُم بِهِ فَتَوَسَّلوا ؛ فَإِنَّهُ لا تُرَدُّ لَهُ دَعوَةٌ ، ولا تُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةٌ» (1) .
.
ص: 590
آثار التعمّقمن المناسب أن نتحدّث عن آثار «التعمّق» بعد أن تعرّفنا على طبيعته وجذوره ؛ فإنّا نلحظ أنّ الأحاديث التي أحصت أخطار الجاهل «المتنسّك» هي في الحقيقة قد صوّرت آثار «التعمّق» الضارّة . ونقرأ في هذه الأحاديث : أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخبر بهلاك اُمّته على يد العلماء الفجّار ، والعبّاد الجهّال . وقد تجسّد هذا الخبر في أيّام حكومة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام واتّخذ شكله يومئذٍ ، قال عليه السلام : «قَصَمَ ظَهري عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ» (1) . وقال : «قَطَعَ ظَهرِي اثنانِ : عالِمٌ فاسِقٌ . . . وجاهِلٌ ناسِكٌ» (2) وقال في خطبة له عليه السلام : «قَطَعَ ظَهري رَجُلانِ مِنَ الدُّنيا : رَجُلٌ عَليمُ اللِّسانِ فاسِقٌ ، ورَجُلٌ جاهِلُ القَلبِ ناسِكٌ ؛ هذا يَصُدُّ بِلِسانِهِ عَن فِسقِهِ ، وهذا بِنُسُكِهِ عَن جَهلِهِ ؛ فَاتَّقُوا الفاسِقَ مِنَ العُلَماءِ ، وَالجاهِلَ مِنَ المُتَعَبِّدينَ ، اُولئِكَ فِتنَةُ كُلِّ مَفتونٍ» (3) .
.
ص: 591
نلحظ هنا أنّ الإمام عليه السلام بكلماته هذه يذكّر بمشكلة حكومته في الحقيقة ، وأنّه يلفتنا إلى أنّ حكومته قد تلقّت ضربتين قاصمتين من شريحتن ، وأنّ عمودها الفقري قد اُصيب وتضعضع بذلك ، وهاتان الشريحتان هما : 1 _ العلماء المتهتّكون ؛ وهم الوجوه البارزة الذين أوقدوا فتنة الجمل وصفّين (الناكثون والقاسطون) ومهّدوا سبل الفساد ، وقسطوا ونكثوا عامِدين . 2 _ الجهّال العابدون الذين واجهوا الإمام عليه السلام في النهروان بسيماء الزاهدين وباسم الدين منطلقين من جهلهم وحمقهم . وهكذا ، فلا قيمة لعبادات الجاهل المتنسّك ، ولا وزن لتهجّداته ، ولا خلاقَ له منها . وليس هذا فحسب ، بل إنّهم يشكّلون خطرا عظيما على الإسلام والحكومة الإسلاميّة ، وبعبارة اُخرى : مَثَلُ العالم المتهتّك في خطره على النظام الإسلامي كمثل الجاهل المتنسّك في خطره على الاُمّة الإسلاميّة والنظام الإسلامي أيضا . ولا غرْو أن تُختم حياة الإمام عليه السلام على يد هذه الشريحة الثانية ، فدلّ واقع التاريخ على أنّ خطر العبّاد الجاهلين أشدّ وأنكى . فاستبان _ إذن _ أنّ أمرّ ثمرةٍ وأضرّها لشجرة «التعمّق» الخبيثة _ الضاربة جذورها في الجهل وحبّ الدنيا والمرتدية لباس الدين _ هو تقويض أركان النظام الإسلامي . والآن نعرّج على أغصان هذه الشجرة بشيء من التوضيح :
1 _ العُجبالعُجُب ، والزهو ، والتعظّم ، كلّ ذلك يمثّل أوّل غصن للتعمّق ، والتطرّف ، والتنسّك الجاهل . وقد مُني القرّاء بهذه الأدواء الوبيلة ؛ لإفراطهم في تعبّدهم وتنسّكهم ، ونظرهم إلى هذا المرض على أنّه قيمة مهمّة . وزعموا _ بفعل هذا المرض _ أنْ ليس في الناس من هو أفضل منهم . ومن هنا سأل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله أحدهم بغية كشف باطنه
.
ص: 592
الخفيّ له ووضعه أمامه ، فقال : «أ قُلتَ في نَفسِكَ حينَ وَقَفتَ عَلَى المَجلِسِ : لَيسَ فِي القَومِ خَيرٌ مِنّي ؟ قالَ : نَعَم !» . فأراد صلى الله عليه و آله أن ينبّهه على إصابته بداء الزهو والعُجب . وقال فيه وفي نظائره : «إنَّ فيكُم قَوما يَدأَبونَ ويَعمَلونَ حَتّى يُعجِبُوا النّاسَ وتُعجِبَهُم أنفُسُهُم» (1) .
خطر العُجبالعُجب أخطر الأمراض الأخلاقيّة ، فإذا استفحل عند أحد غدا عُضالاً ، وأودى بصاحبه . وكلام صادق آل محمّد عليه السلام آية بيّنة على هذه الحقيقة ، قال عليه السلام : «مَن اُعجِبَ بِنَفسِهِ هَلَكَ ، ومَن اُعجِبَ بِرَأيِهِ هَلَكَ ، وإنَّ عيسَى بنَ مَريَمَ عليه السلام قالَ : داوَيتُ المَرضى فَشَفَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ ، وأبرَأتُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ بِإِذنِ اللّهِ ، وعالَجتُ المَوتى فَأَحيَيتُهُم بِإِذنِ اللّهِ ، وعالَجتُ الأَحمَقَ ؛ فَلَم أقدِر عَلى إصلاحِهِ ! فَقيلَ : يا روحَ اللّهِ ، ومَا الأَحمَقُ ؟ قالَ : المُعجَبُ بِرَأيِهِ ونَفسِهِ ، الَّذي يَرَى الفَضلَ كُلَّهُ لَهُ لا عَلَيهِ ، ويُوجِبُ الحَقَّ كُلَّهُ لِنَفسِهِ ، ولا يوجِبُ عَلَيها حَقّا ، فَذاكَ الأَحمَقُ الَّذي لا حيلَةَ في مُداواتِهِ» (2) . وقال السيّد الإمام الخميني رحمه الله في وصيّته لابنه : «يا بُنيّ اعتُقْ نفسك من رقّ الزهو والعُجب ؛ فإنّه إرث الشيطان الذي عصى اللّه تعالى في الخضوع لوليّه وصفيّه جلّ وعلا بسببه . واعلَمْ أنّ جميع بلايا الإنسان من هذا الإرث الشيطاني ، فهو أصل اُصول الفتنة» (3) .
.
ص: 593
وإذا ترسّخ هذا الداء في نفس أحد ، فلا ينفعه عندئذٍ أيّ عمل من أعماله في نجاته وتكامله . وقال الإمام الصادق عليه السلام : «قالَ إبليسُ _ لَعنَةُ اللّهِ عَلَيهِ _ لِجُنودِهِ : إذَا استَمكَنتُ مِنِ ابنِ آدَمَ في ثَلاثٍ ، لَم اُبالِ ما عَمِلَ ؛ فَإِنَّهُ غَيرُ مَقبولٍ مِنهُ : إذَا استَكثَرَ عَمَلَهُ ، ونَسِيَ ذَنبَهُ ، ودَخَلَهُ العُجبُ» (1) . إنّ داء العجب في الحقيقة يحول دون استمتاع المرء ببركات أعماله الصالحة من جهة ، ويُفضي إلى ضروب الانحرافات الأخلاقيّة من جهة اُخرى . وهكذا ينبغي أن نؤكّد أنّ سائر أعراض «التعمّق» التي سنُشير إليها لاحقا ترشُف من هذه الرذيلة .
2 _ استدامة الجهلوتُمثّل الغصن الآخر من أغصان شجرة «التعمّق» ، ولها في العُجب جذور على نحوٍ ما ؛ فحينما يُفرط الإنسان في عمله ، وينطلق فيه بلا تعقّل ، ويرى نفسه أفضل من الآخرين من دون منازِع ؛ فإنّه لا يعيد النظر في فكره وعمله ، ويسعى في جهله ، ويَلجّ فيه ، ويَظلّ حبيسَ حبالته . ومن هنا قال الإمام الهادي عليه السلام : «العُجبُ صارِفٌ عَن طَلَبِ العِلمِ ، داعٍ إلَى التَّخَبَّطِ فِي الجَهلِ» (2) . وفي الواقع أنّ داء العُجب يُلقي الإنسان في الجهل المركّب حقّا ، و«المتعمّق» _ كما قلنا _ يرى أنّ ما يفعله هو الأفضل ، فلِمَ التأمّل وإعادة النظر فيه إذن ؟ وتحدّث القرآن الكريم عن أمثال هذا النموذج بنحو يدعو إلى الاعتبار والاتّعاظ . قال جلّ من قائل :
.
ص: 594
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَ_لاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» (1) . وحين تُليت هذه الآية الكريمة عند الإمام عليه السلام ، قال : «أهلُ حَرَوراءَ مِنهُم» (2) . وهكذا يأسر العجب الإنسان في الجهل ، والمفتون بهذا الجهل لا يرى نفسه جاهلاً أبدا ، ولا ينفكّ من هذا القيد بتاتا ، وكلام الإمام عليه السلام في هذا الشأن معبِّر ناطق بليغ ، فقد قال عليه السلام في وصيّته لابنه الحسن عليه السلام : «إنَّ الجاهِلَ مَن عَدَّ نَفسَهُ _ بِما جَهِلَ مِن مَعرِفَةِ العِلمِ _ عالِما ، وبِرَأيِهِ مُكتَفِيا ؛ فَما يَزالُ لِلعُلَماءِ مُباعِدا ، وعَلَيهِم زارِيا ، ولِمَن خالَفَهُ مُخَطِّئا ، ولِما لَم يَعرِف مِنَ الاُمورِ مُضَللاً ، فَإِذا وَرَدَ عَلَيهِ مِنَ الاُمورِ ما لَم يَعرِفهُ أنكَرَهُ وكَذَّبَ بِهِ وقالَ بِجَهالَتِهِ : ما أعرِفُ هذا ، وما أراهُ كانَ ، وما أظُنُّ أن يَكونَ ، وأنّى كانَ ؟ ! وذلِكَ لِثِقَتِهِ بِرَأيِهِ ، وقِلَّةِ مَعرِفَتِهِ بِجَهالَتِهِ . فَما يَنفَكُّ _ بِما يَرى مِمّا يَلتَبِسُ عَلَيهِ رَأيُهُ مِمّا لا يَعرِفُ _ لِلجَهلِ مُستَفيدا ، ولِلحَقِّ مُنكِرا ، وفِي الجِهالَةِ مُتَحَيِّرا ، وعَن طَلَبِ العِلمِ مُستَكبِرا» (3) .
3 _ التكفير والاتّهامإنّ إحدى الثمار المرّة المضرّة للتطرّف المنطلق من الجهل ، والإفراط الهشّ الخاوي ، و«التعمّق» في الدين ، وحبّ التمحور المنبثق منه هي اتّهام الآخرين بالخروج من الدين ؛ فالسطحيّون المتحجّرون الزاهون بأنفسهم العادّون سلوكهم معيارا للحقّ يحكمون على الآخرين بلا أناةٍ ولا أساس ، ويقصمون ظهر كلّ من لا يفكّر تفكيرهم بعصا التكفير . وهكذا كان الخوارج ، فهم الذين كانوا قد فرضوا التحكيم
.
ص: 595
على الإمام عليه السلام غير آذِنين لأنفسهم بالتفكير فيه والتأمّل فيما ابتدعوه ولو قليلاً ، ثمّ حملوا عصا التكفير وكفّروا الإمام عليه السلام وهو الذي كان كيان الإيمان الماثل ، وصورة الحقّ المتجسّد ، ومظهر الربّانيّة الرفيعة . والعجب أنّهم قد أفتوا بقتل كلّ من لم يعتقد بعقيدتهم ، وأقدموا على ذلك عمليّا ، فقتلوا أشخاصا في هذا السبيل (1) . وواصلوا نهجهم على هذا المنوال ، وشرّعوا التكفير ، وقالوا بكفر كلّ من يرتكب الكبيرة . ومن هنا ، لمّا سُئل أحد قادتهم ؛ وهو قطري بن الفُجاءة ، في إحدى المعارك : هل تقاتل أم لا ؟ فأجاب بالنفي ، ثمّ استدرك فعزم على القتال ، قال جنده : كَذَبَ وكَفَرَ . وعرّضوا به قائلين : «دابّة اللّه » ، فحكم عليهم بالكفر (2) .
4 _ التعصّب واللجاجاللجاج من وحي الجهل والتعصّب الأعمى إفراز آخر من الإفرازات الخطرة للتطرّف الديني والعُجب المنبثق منه . وهكذا فالشخص المتعمّق مرتهن بحبالة الزيغ والضلال بحيث تتعذّر نجاته . من هذا المنطلق ، ولمّا اتّصف به الخوارج ، خاطبهم الإمام عليه السلام قائلاً : «أيَّتُهَا العِصابَةُ الَّتي أخرَجَتها عَداوَةُ المِراءِ وَاللَّجاجَةِ ، وصَدَّها عَنِ الحَقِّ الهَوى ، وطَمَحَ بِهَا النَّزَقُ (3) ، وأصبَحَت فِي اللَّبسِ وَالخَطبِ العَظيمِ» (4) . وهكذا «فالمتعمّقون» و «المتعصّبون» أولو اللجاجة لم ينظروا فيما يعتقدون به قطّ ، ولم يحتملوا فيه الخطأ فيرونه بحاجةٍ إلى إعادة نظر وتمحيص . من هنا صمّوا عن سماع توجيهات الإمام عليه السلام الناصحة الشفيقة ، ولم يعيدوا النظر في مواقفهم حين
.
ص: 596
حاورهم ابن عبّاس وغيره من رُسُل الإمام عليه السلام حوارا استدلاليّا واعيا ، بل أنّهم قد تصامّوا عن الكلام ؛ لئلّا يسمعوهُ فيؤثّر فيهم . قال عبد اللّه بن وهب ، وهو يقاتل : «ألقُوا الرِّماحَ ، وسَلّوا سُيوفَكُم مِن جُفونِها ؛ فَإِنّي أخافُ أن يُناشِدوكُم كَما ناشَدوكُم يَومَ حَرَوراءَ !» . (1) وصرخوا بعد مناظرةٍ للإمام عليه السلام معهم قائلين : «لا تُخاطِبوهُم ولا تُكَلِّموهُم» . (2) ولمّا سمعوا احتجاج ابن عبّاس الرصين ، وقد أغلق عليهم منافذ التذرّع والتشبّث ، مستهديا بالقرآن الكريم ، صاحوا : «لا تَجعَلُوا احتِجاجِ قُرَيشٍ حُجَّةً عَلَيكُم ؛ فَإِنَّ هذا مِنَ القَومِ الَّذينَ قالَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ فيهِم : «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » (3) ! وحين سمعوا أجوبته القويّة في حوار آخر وعَيَوا عن ردّه ، رفعوا عقيرتهم بوجهه مخاطبين إيّاه بقولهم : «أمسِك عَنّا غَربَ لِسانِكَ يَا ابنَ عَبّاسٍ ؛ فَإِنَّهُ طَلقٌ ذَلقٌ غَوّاصٌ عَلى مَوضِعِ الحُجَّةِ !» . (4) وعلى هذا فالخوارج _ وبعنوان آخر «القرّاء» ، وأخيرا «المتعمّقون» في الدين ، وفيما نتج عنهم من الإفراط ، والتطرّف ، والجهل ، واللجاجة _ قد ظلّوا على كفرهم ، وصاروا مصدرا للغيّ والضياع في المجتمع الإسلامي .
.
ص: 597
دور المتغلغلينينبغي في الختام ألّا نغفل عن نقطةٍ في تحليل فتنة الخوارج واستقصاء جذورها ، وتتمثّل هذه النقطة في دور المتغلغلين بخاصّة «القاسطين» في انحراف «المارقين» ، مع تذكيرنا بصعوبة العثور على وثائق تاريخيّة لإثبات هذا الموضوع نتيجةً للسرّيّة الموجودة في هذا المجال بشكل طبيعيّ ، بَيْد أنّنا يتسنّى لنا أن نبلغ ما نصبوا إليه إلى حدٍّما عبر قرائن معيّنة ، ومن هذه القرائن التي يمكن أن تساعد الباحث في هذا الحقل : دراسة دور الأشعث بن قيس في هذه الفتنة (1) . إنّ التأمّل في النصوص التاريخيّة ، لاسيّما فيما ذكره كتاب «وقعة صفّين» الثمين حول الأشعث وموقفه في ذروة القتال يوم صفّين وما بعده لا يدع مجالاً للشكّ في أنّه لم يرتبط بالإمام عليه السلام ولم يُوالِه قطّ ، وأنّه كان عنصرا متغلغلاً عميلاً لمعاوية في جيشه عليه السلام ، ويعود ذلك إمّا لإقالته عن ولاية آذربايجان (2) ، وعزله عن رئاسة قبيلته (3) ، أو لتقلّباته الاعتقاديّة واضطراب عقائده الدينيّة ، ممّا دفع ابن أبي الحديد أن يقول : «كُلُّ فَسادٍ كانَ في خِلافَةِ عَلِيٍّ عليه السلام وكُلُّ اضطِرابٍ حَدَثَ فَأَصلُهُ الأشَعَثُ» (4) .
.
ص: 598
وكان الأشعث متّهما بارتباطه بمعاوية ، وهو نفسه كان منتبها إلى هذه النقطة ، حذِرا منها ، وكان يحاول ألّا يعمل ما يفضحه ويكشف للناس حقيقته ، وقد راودته فكرة التوجّه إلى معاوية بعد عزله ، فمنعه قومه من ذلك (1) . وارتباطاته مع معاوية ، وحواره مع رُسُله إليه دليل على نفاقه (2) . وعندما احتدم القتال ، وتضعضع جيش معاوية ، ولاحت في الاُفق بشائر آيات النصر لجيش الإمام عليه السلام ، خطب الأشعث بقبيلته ، وأفزعهم ذاكرا ترمّل النساء ويُتم الأطفال ، فبان وهن عجيب في صفوفهم (3) . ولمّا رفع أصحاب معاوية المصاحف بمكيدة ابن العاص ، خطب الأشعث وأكره الإمام عليه السلام على قبول التحكيم (4) . وحينما وافق الإمام على التحكيم ، واختار مالك الأشتر أو عبد اللّه بن عبّاس ممثّلاً عنه ، عمل الأشعث بكلّ ماله من قوّة للحيلولة دون ذلك (5) . ولمّا كُتِب نصّ التحكيم رفعه أمام الجيش ، فصاح بعض الأفراد قائلين : لا حكم إلّا للّه (6) . و بعد أن انكشفت أسرار المؤامرة قليلاً هبّ أولئك المخدوعون فاتّهموا عليّا عليه السلام بالإثم ، وطلبوا منه أن يتوب . وعندما أراد عليه السلام أن يُخمد نار الفتنة باُسلوب لطيف ، ويُعبّئ الناس نحو الشام واصل الأشعث إثارته للفتنة ، وحاول أن يُرجع المخدوعين الذين كانوا عازمين على الذهاب مذعنين بالحقّ إلى موضعهم الأوّل ، فزاد بذلك إيقاد الفتنة (7) . وهكذا زرع الأشعث بذرة الفتنة ، واتّخذ سبيله مع أشخاص كثيرين ، وخرج من
.
ص: 599
جيش الإمام عليه السلام ، وقصد الكوفة . وكان الأشعث ملوّث النفس ، سقيم الفكر ، ذا موقفٍ معادٍ ، واستطاع أن يمارس دورا خبيثا مؤثّرا في إثارة الفتنة إبّان حرب النهروان . وكان يتّخذ المواقف من منطلق الأهواء ، والميول المادّية ، والعصبيّات القَبَليّة متلبّساً برداء المعايير الإلهيّة والإنسانيّة ، وحريّ بالذكر أيضا أنّ الإمام عليه السلام عندما اختار عبد اللّه بن عبّاس للتحكيم قال الأشعث : لا وَاللّهِ ، لا يَحكُمُ فيها مُضَرِيّانِ حَتّى تَقومَ السَّاعَةُ ، ولكِنِ اجعَلهُ رَجُلاً مِن أهلِ اليَمَنِ إذ جَعَلوا رَجُلاً مِن مُضَرَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : إنّي أخافُ أن يُخدَعَ يَمَنِيُّكُم ؛ فَإِنَّ عَمرا لَيسَ مِنَ اللّهِ في شَيءٍ إذا كانَ لَهُ في أمرٍ هَوىً . فَقالَ الأَشعَثُ : وَاللّهِ لَأَن يَحكُما بِبَعضِ ما نَكرَهُ وأحَدُهُما مِن أهلِ اليَمَنِ ، أحَبُّ إلَينا مِن أن يَكونَ بَعضُ ما نُحِبُّ في حُكمِهِما وهُما مُضَرِيّانِ . (1) وهكذا فالعصبيّة القبليّة والعريكة الجاهليّة التي كان عليها الأشعث وعدد من أصحابه هي التي أوقدت فتنة النهروان بعد تلك الأحداث ، ممّا أدّى إلى أن يُقرَن رجل أحمق غير واعٍ كأبي موسى الأشعري اليمني إلى رجل محتال ماكر مثير للفتن كعمرو بن العاص ، ويبدّل من بعدها مجرى التاريخ الإسلامي !
.
ص: 600
. .
ص: 601
الحرب الثالثة : وقعةُ النّهروانوفيه فصول :الفصل الأوّل : نظرة عامّةالفصل الثاني : مواصفات الحربالفصل الثالث : مسير المارقين إلى النهروانالفصل الرابع : عزم الإمام على قتال معاوية ثانياالفصل الخامس : مسير جيش الإمام إلى النهروانالفصل السادس : إقامة الحجّة في ساحة القتالالفصل السابع : القتالالفصل الثامن : خروج بقايا من الخوارجالفصل التاسع : خروج الخرّيت بن راشد
.
ص: 570
. .
ص: 571
الفصل الأوّل : نظرة عامّة1 / 1أسماءُ مُسَعِّرِي الحَربِوصفت النصوص التاريخيّة والحديثية مثيري حرب النهروان بخمس صفات، هي:
1 _ المارقونأوّل من نعتهم بهذا الاسم هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وذلك أنّه كان يرى بالبصيرة الإلهيّة بأنّ هذه الفئة بسبب تطرّفها الديني تمرق من الدين بسرعة بحيث لا يبقى عليها أيّ أثر من الآثار الحقيقيّة للدين؛ فقال في هذا المجال: «يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ (1) مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ؛ فَيَنظُرُ الرّامي إلى سَهمِهِ، إلى نَصلِهِ، إلى رِصافِهِ، فَيَتَمارى فِي الفوقَةِ هَل عَلِقَ بِها مِنَ الدَّمِ شَيءٌ» (2) .
.
ص: 602
2 _ الحروريّةاما سبب تسميتهم بالحروريّة فقد أورد المبرّد في كتابه «الكامل» ما يلي: وكان سبب تسميتهم الحروريّة أنّ عليّاً رضوان اللّه عليه لمّا ناظرهم _ بعد مناظرة ابن عبّاس إيّاهم _ كان فيما قال لهم: «ألا تَعلَمونَ أنَّ هؤُلاءِ القَومَ لَمّا رَفَعُوا المَصاحِفَ قُلتُ لَكُم: إنَّ هذِهِ مَكيدَةٌ ووَهنٌ، وأنَّهُم لَو قَصَدوا إلى حُكمِ المَصاحِفِ لَم يَأتوني (1) . ثُمَ سَأَلونِي التَّحكيمَ، أفَعَلِمتُم أنَّهُ ما كانَ مِنكُم أحَدٌ أكرَهَ لِذلِكَ مِنّي؟ قالوا: اللّهُمَّ نَعَم... فَرَجَعَ مَعَهُ مِنهُم ألفانِ مِن حَرَوُراء، وقَد كانوا تَجَمَّعوا بِها. فَقالَ لَهُم عَلِيٌّ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ : ما نُسَمّيكُم؟ ثُمَّ قالَ: أنتُمُ الحَرَورِيَّةُ؛ لِاجتِماعِكُم بِحَرَوراءَ» (2) .
3 _ الشُراةوهذا الاسم يحمل معنيين متضادّين: أ _ مأخوذ من «شَرَى» بمعنى «غضب» وقيل في معناه: سُمّوا بذلك لأنَّهم غضبوا ولَجّوا (3) . ب _ مأخوذ من «شَرَى» بمعنى «باع» . وكان الخوارج يعتبرون أنفسهم «شُراة» بهذا المعنى ، بزعمهم أنّهم شروا دنياهم بالآخرة ، وأنّهم مصداق للآية الكريمة:
.
ص: 603
«وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ» (1)(2) . وقال عليّ عليه السلام في ردّ هذه التصوّر الجاهل : بَل إنَّهُم مِصداقٌ لِهذِهِ الآيَةِ: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَ_لاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» (3) .
4 _ الخوارجوهذا الاسم من الأسماء المعروفة لمثيري حرب النهروان ، وسمُّوا بهذا الاسم لخروجهم عن طاعة الإمام عليّ عليه السلام وتمرّدهم على حكمه (4) .
5 _ البُغاةالبُغاة: مشتق من البغي بمعنى التعدّي والظلم والفساد. فعندما سُئِل عليّ عليه السلام عن أصحاب النهروان هل هم مشركون أم منافقون؟ سمّاهم بغاة. ولهذه التسمية جذر قرآني حيث يقول الباري تعالى: «وَ إِن طَ_آئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَ_تِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » (5) . وممّا ينبغي الالتفات إليه في هذا المضمار أنّ الأسماء الثلاثة الاُول خاصّ بأصحاب النهروان، وأمّا «الخارج» و «الباغي» فيشملان الناكثين والقاسطين أيضاً ، بل يطلقان على كلّ من تمرّد على الإمام العادل .
.
ص: 604
1 / 2إخبارُ النَّبِيِّ عَن خَصائِصِهِم ومَصيرِهِمرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ فِي الحَرَورِيَّةِ _: يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ (1)(2) .
عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ أقواما يَتَعَمَّقونَ فِي الدِّينِ ، يَمرُقونَ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ (3) .
صحيح البخاري عن أبي سلمة وعطاء بن يسار :إنَّهُما أتَيا أبا سَعيدٍ الخُدرِيَّ فَسَأَلاهُ عَنِ الحَرَورِيَّةِ : أ سَمِعتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ؟ قالَ : لا أدري مَا الحَرَورِيَّةُ ؟ سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَقولُ : يَخرُجُ في هذِهِ الاُمَّةِ _ ولَم يَقُل مِنها _ قَومٌ تَحقِرونَ صَلاتَكُم ، مَعَ صَلاتِهِم ، يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حُلوقَهُم أو حَناجِرَهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَيَنظُرُ الرّامي إلى سَهمِهِ ، إلى نَصلِهِ ، إلى رِصافِهِ (4) ، فَيَتَمارى (5) فِي الفوقَةِ (6) ، هَل عَلِقَ بِها مِنَ الدَّمِ شَيءٌ (7)(8) .
.
ص: 605
صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ذَكَرَ قَوما يَكونونَ في اُمَّتِهِ يَخرُجونَ في فُرقَةٍ مِنَ النّاسِ ، سيماهُمُ التَّحالُقُ ، هُم شَرُّ الخَلقِ _ أو مِن أشَرِّ الخَلقِ _ يَقتُلُهُم أدنَى الطّائِفَتَينِ إلَى الحَقِّ (1) .
صحيح مسلم عن أبي ذرّ :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : إنَّ بَعدي مِن اُمَّتي _ أو سَيَكونُ بَعدي مِن اُمَّتي _ قَومٌ يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَلاقيمَهُم ، يَخرُجونَ مِنَ الدّينِ كَما يَخرُجُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، ثُمَّ لا يَعودونَ فيهِ . هُم شَرُّ الخَلقِ وَالخَليقَةِ (2)(3) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :تَمرُقُ مارِقَةٌ في فُرقَةٍ مِنَ النّاسِ ، فَيَلي قَتلَهُم أولَى الطّائِفَتَينِ (4) بِالحَقِّ (5) .
عنه صلى الله عليه و آله :تَكونُ في اُمَّتي فِرقَتانِ ؛ فََتخرُجُ مِن بَينِهِما مارِقَةٌ ، يَلي قَتلَهُم أولاهُم بِالحَقِّ (6) .
عنه صلى الله عليه و آله :إنَّ فِرقَةً تَخرُجُ عِندَ اختِلافِ النّاسِ ، تَقتُلُهُم أقرَبُ الطّائِفَتَينِ بِالحَقِّ (7) .
سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله :سَيَكونُ في اُمَّتِى ¨
.
ص: 606
اختِلافٌ وفُرقَةٌ ، قَومٌ يُحسِنونَ القيلَ ويُسيؤونَ الفِعلَ ، يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لا يَرجِعونَ حَتّى يَرتَدَّ عَلى فُوقِهِ ، هُم شَرُّ الخَلقِ وَالخَليقَةِ ، طوبى لِمَن قَتَلَهُم وقَتَلوهُ ، يَدعونَ إلى كِتابِ اللّهِ ولَيسوا مِنهُ في شَيءٍ ، مَن قاتَلَهُم كانَ أولى بِاللّهِ مِنهُم . قالوا : يا رَسولَ اللّهِ ما سيماهُم ؟ قالَ : التَّحليقُ (1) .
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يَأتي في آخِرِ الزَّمانِ قَومٌ حُدَثاءُ الأَسنانِ ، سُفَهاءُ الأَحلامِ ، يَقولونَ مِن خَيرِ قَولِ البَرِيَّةِ ، يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لا يُجاوِزُ إيمانُهُم حَناجِرَهُم ، فَأَينَما لَقيتُموهُم فَاقتُلوهُم ؛ فَإِنَّ في قَتلِهِم أجرا لِمَن قَتَلَهُم يَومَ القِيامَةِ (2) .
المستدرك على الصحيحين عن أنس :إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : سَيَكونُ في اُمَّتِي اختِلافٌ وفُرقَةٌ ، وسَيَجيءُ قَومٌ يُعجِبونَكُم وتُعجِبُهُم أنفُسُهُم ، الَّذينَ يَقتُلونَهُم أولى بِاللّهِ مِنهُم ، يُحسِنونَ القيلَ ويُسيؤونَ الفِعلَ ، ويَدعونَ إلَى اللّهِ ولَيسوا مِنَ اللّهِ في شَيءٍ ، فَإِذا لَقيتُموهُم فَأَنِيموهُم (3) . قالوا : يا رَسولَ اللّهِ ، أنعِتهُم لَنا . قالَ : آيَتُهُمُ الحَلقُ وَالتَّسبيتُ . يَعِني استِئصالَ التَّقصيرِ ، قالَ : وَالتَّسبيتُ استِئصالُ الشَّعرِ (4) .
.
ص: 607
مسند ابن حنبل عن سعيد بن جهمان :كُنّا نُقاتِلُ الخَوارِجَ وفينا عَبدُ اللّهِ بنُ أبي أوفى وقَد لَحِقَ لَهُ غُلامٌ بِالخَوارِجِ ، وهُم مِن ذلِكَ الشَّطِّ ونَحنُ مِن ذَا الشَّطِّ ، فَنادَيناهُ : أبا فَيروزَ ، أبا فَيروزَ ! وَيحَكَ ! هذا مَولاكَ عَبدُ اللّهِ بنُ أبي أوفى ، قالَ : نِعمَ الرَّجُلُ هُوَ لَو هاجَرَ ! قالَ : ما يَقولُ عَدُوُّ اللّهِ ؟ قالَ : قُلنا : يَقولُ : نِعمَ الرَّجُلُ لَو هاجَرَ ! قالَ : فَقالَ : أ هِجرَةٌ بَعدَ هِجرَتي مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ ثُمَّ قالَ : سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : طوبى لِمَن قَتَلَهُم وقَتَلوهُ (1) .
صحيح البخاري عن يسير بن عمرو :قُلتُ لِسَهلِ بنِ حُنَيفٍ : هَل سَمِعتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَقولُ فِي الخَوارِجِ شَيئا ؟ قالَ : سَمِعتُهُ يَقولُ _ وأهوى بِيَدِهِ قِبَلَ العِراقِ _ : يَخرُجُ مِنهُ قَومٌ يَقرَؤونَ القُرآنَ ، لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ (2) .
شرح نهج البلاغة :قَد تَظافَرَتِ الأَخبارُ _ حَتّى بَلَغَت حَدَّ التَّواتُرِ _بِما وَعَدَ اللّهُ تَعالى قاتِلِي الخَوارِجِ مِنَ الثَّوابِ عَلى لِسانِ رَسولِهِ صلى الله عليه و آله (3) .
1 / 3رِواياتُ عائِشَةَ فيهِمالسنّة عن أبي سعيد الرقاشي :دَخَلتُ عَلى عائِشَةَ فَقالَت : ما بالُ أبِي الحَسَنِ يَقتُلُ أصحابَهُ القُرّاءَ ؟ ! قالَ : قُلتُ : يا اُمَّ المُؤمِنينَ ، إنّا وَجَدنا فِي القَتلى ذَا الثُّدَيَّةِ . قالَ:
.
ص: 608
فَشَهِقَت أو تَنَفَّسَت ثُمَّ قالَت : كاتِمُ الشَّهادَةِ مَعَ شاهِدِ الزّورِ ، سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ : يَقتُلُ هذِهِ العِصابَةَ خَيرُ اُمَّتي (1) .
شرح نهج البلاغة عن مسروق :إنَّ عائِشَةَ قالَت لَهُ لَمّا عَرَفَت أنَّ عَلِيّا عليه السلام قَتَلَ ذَا الثُّدَيَّةِ : لَعَنَ اللّهُ عَمرَو بنَ العاصِ ! فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَيَّ يُخبِرُني أنَّهُ قَتَلَهُ بِالإِسكَندَرِيَّةِ ، ألا إنَّهُ لَيسَ يَمنَعُني ما في نَفسي أن أقولَ ما سَمِعتُهُ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، يَقولُ : يَقتُلُهُ خَيرُ اُمَّتي مِن بَعدي (2) .
شرح نهج البلاغة عن مسروق :قالَت لي عائِشَةُ : إنَّكَ مِن وُلدي ، ومِن أحَبِّهِم إلَيَّ ، فَهَل عِندَكَ عِلمٌ مِنَ المُخدَجِ ؟ فَقُلتُ : نَعَم ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عَلى نَهرٍ يُقالُ لِأَعلاهُ : تامَرّا ، ولِأَسفَلِهِ : النَّهرَوانُ ، بَينَ لَخاقيقَ (3) وطَرفاءَ . قالَت : اِبغِني عَلى ذلِكَ بَيِّنَةً ، فَأَقَمتُ رِجالاً شَهِدوا عِندَها بِذلِكَ . فَقُلتُ لَها : سَأَلتُكِ بِصاحِبِ القَبرِ ، مَا الَّذي سَمِعتِ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فيهِم ؟ فَقالَت : نَعَم ، سَمِعتُهُ يَقولُ : إنَّهُم شَرُّ الخَلقِ وَالخَليقَةِ ، يَقتُلُهُم خَيرُ الخَلقِ وَالخَليقَةِ ، وأقرَبُهُم عِندَ اللّهِ وَسيلَةً (4) .
.
ص: 609
1 / 4المارِقونَ مِن وِجهَةِ نَظرِ الإِمامِالإمام الحسين عن الإمام عليّ عليهماالسلام :أنَّهُ سُئِلَ عَن أهلِ النَّهرَوانِ (1) أ مُشرِكينَ كانوا ؟ قالَ : مِنَ الشِّركِ فَرّوا ، فَقيلَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، مُنافِقينَ كانوا ؟ قالَ : المُنافِقونَ لا يَذكُرونَ اللّهَ إلّا قَليلاً ، فَقيلَ لَهُ : فَما هُم ؟ قالَ : قَومٌ بَغَوا عَلَينا ، فَنَصَرَنَا اللّهُ عَلَيهِم (2) .
الفتوح عن حبيب بن عاصم الأزدي_ لِلإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام _: يا أميرَ المُؤمِنينَ ، هؤُلاءِ الَّذينَ نُقاتِلُهُم ، أ كُفّارٌ هُم ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : مِنَ الكُفرِ هَرَبوا ، وفيهِ وَقَعوا . قالَ : أفَمُنافِقونَ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : إنَّ المُنافِقينَ لا يَذكُرونَ اللّهَ إلّا قَليلاً . قالَ : فَما هُم يا أميرَ المُؤمِنينَ حَتّى اُقاتِلَهُم عَلى بَصيرَةٍ ويَقينٍ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ : هُم قَومٌ مَرَقوا مِن دينِ الإِسلامِ ، كَما مَرَقَ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ؛ يَقرَؤونَ القُرآنَ فَلا يَتَجاوَزُ تَراقِيَهُم ، فَطوبى لِمَن قَتَلَهُم أو قَتَلوهُ (3) .
المستدرك على الصحيحين عن عامر بن واثلة :سَمِعتُ عَلِيّا رضى الله عنه قامَ فَقالَ : سَلوني قَبلَ أن تَفقِدوني ، ولَن تَسأَلوا بَعدي مِثلي . فَقامَ ابنُ الكَوّاءِ فَقالَ :مَنِ «الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَ أَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَار
.
ص: 610
الْبَوَارِ » (1) ؟ قالَ : مُنافِقو قُرَيشٍ قالَ : فَمَنِ «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا » ؟ (2) قالَ : مِنهُم أهلُ حَرَوْراءَ (3) . (4)
الكامل للمبرّد :إنَّ عَلِيّا رضى الله عنه تُلِيَ بَِحضرَتِهِ : «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَ_لاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» (5) فَقالَ عَلِيٌّ : أهلُ حَرَوْراءَ مِنهُم (6) .
نهج البلاغة :سَمِعَ عَلِيٌّ عليه السلام رَجُلاً مِنَ الحَرَورِيَّةِ يَتَهَجَّدُ ويَقرَأُ ، فَقالَ : نَومٌ عَلى يَقينٍ خَيرٌ مِن صَلاةٍ في شَكٍّ (7) .
إرشاد القلوب :إنَّهُ [عَلِيّا عليه السلام ] خَرَجَ ذاتَ لَيلَةٍ مِن مَسجِدِ الكوفَةِ مُتَوَجِّها إلى دارِهِ وقَد مَضى رُبعٌ مِنَ اللَّيلِ ومَعَهُ كُمَيلُ بنُ زِيادٍ _ وكانَ مِن خِيارِ شيعَتِهِ ومُحِبّيهِ _ فَوَصَلَ فِي الطَّريقِ إلى بابِ رَجُلٍ يَتلُو القُرآنَ في ذلِكَ الوَقتِ ، ويَقرَأُ قَولَهُ تَعالى : «أَمَّنْ هُوَ قَ_نِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَ قَآئِمًا يَحْذَرُ الْأَخِرَةَ وَ يَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِين
.
ص: 611
يعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_بِ » (1) ، بِصَوتٍ شَجِيٍّ حَزينٍ ، فَاستَحسَنَ ذلِكَ كُمَيلٌ في باطِنِهِ ، وأعجَبَهُ حالُ الرَّجُلِ مِن غَيرِ أن يَقولَ شَيئا ، فَالتَفَتَ إلَيهِ عليه السلام وقالَ : يا كُمَيلُ ، لا تُعجِبكَ طَنطَنَةُ الرَّجُلِ ، إنَّهُ مِن أهلِ النّارِ وسَاُنَبِّئُكَ فيما بَعدُ ، فَتَحَيَّرَ كُميلٌ لِمُشافَهَتِهِ لَهُ عَلى ما في باطِنِهِ ، وشَهادَتِهِ لِلرَّجُلِ بِالنّارِ مَعَ كَونِهِ في هذَا الأَمرِ ، وفي تِلكَ الحالَةِ الحَسَنَةِ ظاهِرا في ذلِكَ الوَقتِ ، فَسَكَتَ كُمَيلٌ مُتَعَجِّبا مُتَفَكِّرا في ذلِكَ الأَمرِ . ومَضى مُدَّةٌ مُتَطاوِلَةٌ إلى أن آلَ حالُ الخَوارِجِ إلى ما آلَ ، وقاتَلَهُم أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، وكانوا يَحَفظونَ القُرآنَ كَما اُنزِلَ ، وَالتَفَتَ أميرُ المُؤمِنينَ إلى كُمَيلِ بنِ زِيادٍ وهُوَ واقِفٌ بَينَ يَدَيهِ وَالسَّيفُ في يَدِهِ يَقطُرُ دَما ، ورُؤوسُ اُولئِكَ الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ مُحَلَّقَةٌ عَلَى الأَرضِ ، فَوَضَعَ رَأسَ السَّيفِ مِن رَأسِ تِلكَ الرُّؤوسِ ، وقالَ : يا كُمَيلُ «أَمَّنْ هُوَ قَ_نِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَ قَآئِمًا» أي هُوَ ذلِكَ الشَّخصُ الَّذي كانَ يَقرَأُ في تِلكَ اللَّيلَةِ فَأَعجَبَكَ حالُهُ . فَقَبَّلَ كُميلٌ مُقَدَّمَ قَدَمَيهِ وَاستَغفَرَ اللّهَ (2) .
الإمام عليّ عليه السلام :إنَّما أصبَحنا نُقاتِلُ إخوانَنا فِي الإِسلامِ عَلى ما دَخَلَ فيهِ مِنَ الزَّيغِ وَالاِعوجاجِ وَالشُّبهَةِ وَالتَّأويلِ (3) .
1 / 5مُباهاُت الإِمامِ بِقِتالِهِمالإمام عليّ عليه السلام :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : . . . يا عَلِيُّ ! أنتَ مِنّي وأنَا مِنكَ ، يا عَلِيُّ ! لولا أنتَ لَما قوتِلَ أهلُ النَّهرِ ، فَقلُتُ : يا رَسولَ اللّهِ ! ومَن أهلُ النَّهرِ ؟ قالَ : قَومٌ يَمرُقونَ مِن
.
ص: 612
الإِسلامِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ (1) .
عنه عليه السلام :أنَا فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ (2) .
عنه عليه السلام :أمّا بَعدَ حَمدِ اللّهِ وَالثَّناءِ عَلَيهِ ، أيُّهَا النّاسُ ! فَإِنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري بَعدَ أن ماجَ غَيهَبُها ، وَاشتَدَّ كَلَبُها (3)(4) .
عنه عليه السلام :أنَا فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَولا أنَا ما قوتِلَ أهلُ النَّهرَوانِ ، وأهلُ الجَمَلِ ، ولَولا أنّي أخَشى أن تَترُكُوا العَمَلَ لَأَخبَرتُكُم بِالَّذي قَضَى اللّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى لِسانِ نَبِيِّكُم صلى الله عليه و آله لِمَن قاتَلَهُم مُبصِرا لِضَلالِهِم عارِفا بِالهُدَى الَّذي نَحنُ عَلَيهِ (5) .
الغارات عن زرّ بن حبيش :خَطَبَ عَلِيٌّ عليه السلام بِالنَّهرَوانِ . . . فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ثُمَّ قالَ : أيُّهَا النّاسُ ! أمّا بَعدُ ؛ أنَا فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن أحَدٌ لِيَجتَرِئَ عَلَيها غَيري . . . ولَو لَم أكُ فيكُم ما قوتِلُ أصحابُ الجَمَلِ ، وأهلُ النَّهروانِ . وَايمُ اللّهِ ، لَولا أن تَنكُلوا ، وتَدَعُوا العَمَلَ ، لِحَدَّثتُكُم بِما قَضَى اللّهُ عَلى لِسانِ نَبِيِّكُم صلى الله عليه و آله لِمَن قاتَلَهُم مُبصِرا لِضَلالَتِهِم ، عارِفا لِلهُدَى الَّذي نَحنُ عَلَيهِ (6) .
.
ص: 613
1 / 6نَهيُ الإِمامِ عَن قِتالِهِم بَعدَهُنهج البلاغة :قالَ عليه السلام : لا تُقاتِلُوا الخوَارِجَ بَعدي ؛ فَلَيسَ مَن طَلَبَ الحَقَّ فَأَخطَأَهُ كَمَن طَلَبَ الباطِلَ فَأَدرَكَهُ . قالَ الشَّريفُ الرَّضِيُّ : يَعني مُعاوِيَةَ وأصحابَهُ 1 .
الإمام الباقر عليه السلام :ذُكِرَتِ الحَرَورِيَّةُ عِندَ عَلِيٍّ عليه السلام قالَ : إن خَرَجوا مَعَ جَماعَةٍ أو عَلى إمامٍ عادلٍ فَقاتِلوهُم ، وإن خَرَجوا عَلى إمامٍ جائِرٍ فَلا تُقاتِلوهُم ؛ فَإِنَّ لَهُم في ذلِكَ مَقالاً (1) .
المصنَّف عن عبد اللّه بن الحارث عن رجلٍ من بني نضير بن معاوية :كُنّا عِندَ عَلِيٍّ فَذَكَروا أهلَ النَّهرِ ، فَسَبَّهُم رَجُلٌ فَقالَ عَلِيٌّ : لاتَسُبّوهُم ، ولكِن إن خَرَجوا عَلى إمامٍ عادلٍ فَقاتِلوهُم ، وإن خَرَجوا عَلى إمامٍ جائِرٍ فَلا تُقاتِلوهُم ؛ فَإِنَّ لَهُم بِذلِكَ مَقالاً (2) .
.
ص: 614
1 / 7هُوِيَّةُ رُؤَسائِهِمانبثق الخوارج من قلب فئة كانت تسكن الكوفة وتعرف باسم «القراء». وجاءت نشأتهم في ظل مشاعر جيّاشة استفحلت في الأيّام الأخيرة من معركة صفّين، ولم تأتِ من نوازع قائمة على التفكير والتعقّل. كان زمام قيادتهم العسكريّة بيد شبث بن ربعي، فيما كان زمام زعامتهم الدينيّة والفكريّة بيد عبد اللّه ابن الكوّاء. وفي أعقاب تقلّص حدّة المشاعر، ومن بعد المناظرات والاحتجاجات التي أجراها معهم الإمام عليّ عليه السلام وعبد اللّه بن عبّاس، انشقَّ هذان الشخصان عن الخوارج وعادا إلى جيش الإمام عليّ عليه السلام ، وكانا في عداد جيشه عند اضطرام معركة النهروان، وتولّى شبث بن ربعي قيادة ميسرة جيش الإمام. وأخذ بزمام قيادة الخوارج فيما بعد أفراد من عامّة الناس ومن مجاهيلهم، ولا تتوفّر بين أيدينا معلومات عنهم. وقد وردت أسماء أشخاص مثل شريح بن أوفى، وزيد بن الحصين، وحمزة بن سنان في عداد الشخصيّات البارزة للخوارج، ولكن لا تتوفّر لدينا معلومات عن حياتهم وسيرتهم.
1 / 7 _ 1حُرقوصُ بنُ زُهَيرٍكان حرقوص من الصحابة (1) ، ولكنّه خاوٍ من الاعتقاد الراسخ . وقد ذكرنا كلمته البذيئة النابية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله في غزوة حنين ، إذ قال له : اعدِلْ يا محمّد ! وكذلك
.
ص: 615
جواب النبيّ صلى الله عليه و آله له (1) . أمره عمر بن الخطّاب بقمع التمرّد الذي قام به الهرمزان في خوزستان ، فنجح في مهمّته (2) . وشارك في الثورة على عثمان . وهمّ أصحاب الجمل بقتله ، لكنّه استطاع الفرار من أيديهم (3) . كان في عداد أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيّام خلافته ، لكنّه انخدع بمكيدة عمرو بن العاص في صفّين ، ووقف بوجه الإمام عليه السلام ، وقام بدور مهمّ في فرض التحكيم ، بما كان يحمله من أرضيّة فكريّة وروحيّة منحرفة كما أشرنا إلى ذلك سلفا . وكان عنصرا مؤثّرا أيضا في تنظيم الخوارج لحرب الإمام عليه السلام . كما كان متشدّدا في عدائه له وحقده عليه (4) . وهو وإن رفض الإمارة على أصحاب النهروان ، لكنّه كان على رجّالتهم في تلك المعركة (5) . ثمّ قتله الإمام عليه السلام فيها (6) . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أخبر بهلاكه في النهروان ، وعن كيفيّة ذلك . وبعد معركة النهروان قال الإمام عليه السلام : اُطلُبوهُ ، فَلَم يَجِدوهُ ، فَقالَ عليه السلام مُؤَكِّدا : اِرجِعوا ، فَوَاللّهِ ما كَذَبتُ ولا كُذِّبتُ مَرَّتَينِ أو ثَلاثا ثُمَّ وَجَدوهُ في خَرِبَةٍ (7) . فهذا التأكيد دليل على حقّانيّة الإمام عليه السلام من جهة ، وعلى انحراف الخوارج وضلالهم الثابت من جهة اُخرى ، وهو خطوة لتثبيت قلوب أصحاب الإمام عليه السلام الذين
.
ص: 616
كان قد شقّ عليهم قتال اُناس يتظاهرون بالزهد والعبادة . وهكذا أصحر الإمام عليه السلام بحقّه وثبات خُطاه هو وأصحابه مرارا في معركة النهروان .
الإرشاد :لَمّا قَسَّمَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله غَنائِمَ حُنَينٍ، أقبَلَ رَجُلٌ طُوالٌ آدَمُ أجنَأُ (1) ، بَينَ عَينَيهِ أثَرُ السُّجودِ ، فَسَلَّمَ ولَم يَخُصَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ قالَ : قَد رَأَيتُكَ وما صَنعتَ فيهذِهِ الغَنائِمِ . قالَ : وكَيفَ رَأَيتَ ؟ قالَ : لَم أرَكَ عَدَلتَ ! فَغَضِبَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وقالَ : وَيلَكَ ! إذا لَم يَكُنِ العَدلُ عِندي فَعِندَ مَن يَكونُ ؟ ! فَقالَ المُسلِمونَ : أ لا نَقتُلُهُ ؟ فَقالَ : دَعوهُ ؛ سَيَكونَ لَهُ أتباعٌ يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَقتُلُهُمُ اللّهُ عَلى يَدِ أحَبِّ الخَلقِ إلَيهِ مِن بَعدي . فَقَتَلَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام فيمَن قَتَلَ يَومَ النَّهرَوانِ مِنَ الخَوارِجِ (2) .
صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللّه :أتى رَجُلٌ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالجِعرانَةِ مُنصَرَفَهُ مِن حُنَينٍ وفي ثَوبِ بِلالٍ فِضَّةٌ ، ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقبِضُ مِنها ، يُعطِي النّاسَ ، فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ! اِعدِل . قالَ : وَيلَكَ ! ومَن يَعدِلُ إذا لَم أكُن أعدِلُ ؟ لَقَد خِبتَ وخَسِرتَ إن لم أكُن أعدِلُ . فَقالَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ : دَعني يا رَسولَ اللّهِ فَأَقتُلَ هذَا المُنافِقَ . فَقالَ : مَعاذَ اللّهِ أن يَتَحَدَّثَ النّاسُ أنّي أقتُلُ أصحابي ، إنَّ هذا وأصحابَهُ يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُم ، يَمرُقونَ مِنهُ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ (3) .
السنّة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص :أتاهُ رَجُلٌ _ يَعنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله _وهُوَ يَقسِمُ تِبراً يَومَ حُنَينٍ ، فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ! اعدِل ، فَقالَ : وَيحَكَ ! إن لَم أعدِل عِندَ مَن يُلتَمَسُ العَدلُ ؟
.
ص: 617
ثُمَّ قالَ : يوشِكُ أن يَأتِيَ قَومٌ مِثلُ هذا يَسأَلونَ كِتابَ اللّهِ وهُم أعداؤُهُ ، يَقرَؤونَ كِتابَ اللّهِ ، مُحَلَّقَةٌ رُؤوسُهُم ، إذا خَرَجوا فَاضرِبوا أعناقَهُم (1) .
صحيح البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن :إنَّ أبا سَعيدٍ الخَدرِيَّ قالَ : بَينَما نَحنُ عِندَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهُوَ يَقسِمَ قَسما ، أتاهُ ذُو الخُوَيصِرَةِ _ وهُوَ رَجُلٌ مِن بَني تَميمٍ _ فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ! اعدِل ، فَقالَ : وَيلَكَ ! ومَن يَعدِلُ إذا لَم أعدِل ؟ قد خِبتَ وخَسِرتَ إن لم أكُن أعدِل . فَقالَ عُمَرُ : يا رَسولَ اللّهِ ، ائذَن لي فيهِ فَأَضرِبَ عُنُقَهُ ؟ فَقالَ : دَعهُ ؛ فَإِنَّ لَهُ أصحابا يَحقِرُ أحدُكُم صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِم ، وصيامَهُ مَعَ صِيامِهِم ، يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُم ، يَمرُقونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ . يُنظَرُ إلى نَصلِهِ فَلا يوجَدُ فيهِ شَيءٌ ، ثُمَّ يَنظَرُ إلى رِصافِهِ فَما يوجَدُ فيهِ شيءٌ ، ثُمَّ يَنظَرُ إلى نَضِيِّهِ _ وهُوَ قِدحُهُ (2) _ فَلا يوجَدُ فيهِ شَيءٌ ، ثُمَّ يَنظَرُ إلى قُذَذِهِ (3) فَلا يوجَدُ فيهِ شَيءٌ ، قَد سَبَقَ الفَرثَ وَالدَّمَ . آيَتُهُم رَجُلٌ أسوَدُ ، إحدى عَضُدَيِه مِثلُ ثَديِ المَرأَةِ ، أو مِثلُ البَضعَةِ تَدَردَرُ ، ويَخرُجونَ عَلى حينَ فُرقَةٍ مِنَ النّاسِ . قالَ أبو سَعيدٍ : فَأَشهَدُ أنّي سَمِعتُ هذَا الحَديثَ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وأشهَدُ أنَّ عَلِى
.
ص: 618
بنَ أبي طالِبٍ قاتَلَهُم وأنَا مَعَهُ ، فَأَمَرَ بِذلِكَ الرَّجُلِ فَالتُمِسَ ، فَاُتِيَ بِهِ حَتّى نَظَرتُ إلَيهِ عَلى نَعتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله الَّذي نَعَتَهُ (1) .
الكامل للمبرّد :يُروى أنَّ رَجُلاً أسوَدَ شَديدَ بَياضِ الثِّيابِ وَقَفَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وهُوَ يَقسِمُ غنَائِمَ خَيبَرَ _ ولَم تَكُن إلّا لِمَن شَهِدَ الحُدَيبِيَةَ _ فَأَقبَلَ ذلِكَ الأَسوَدُ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقالَ : ما عَدَلتَ مُنذُ اليَومِ ! فَغَضِبَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله حَتّى رُؤِيَ الغَضَبُ في وَجهِهِ ، فَقالَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ : أ لا أقتُلُهُ يا رَسولَ اللّهِ ؟ فَقالَ : إنَّهُ سَيَكونُ لِهذا ولِأَصحابِهِ نَبَأٌ . قالَ أبو العَباسِ : وفي حَديثٍ آخَرَ : إنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قالَ لَهُ : وَيحَكَ ! فَمَن يَعدِلُ إذا لَم أعدِل ؟ ثُمَّ قالَ لِأَبي بَكرٍ : اُقتُلهُ ، فَمَضى ثُمَّ رَجَعَ ، فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، رَأَيتُهُ راكِعا . ثُمَّ قالَ لِعُمَرَ : اُقتُلهُ ، فَمَضى ثُمَّ رَجَعَ ، فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، رَأَيتُهُ ساجِدا . ثُمَّ قالَ لِعَلِيٍّ : اُقتُلهُ ، فَمَضى ثُمَّ رَجَعَ ، فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، لَم أرَهُ (2) .
مسند أبي يعلى عن أنس بن مالك :كانَ رَجُلٌ عَلى عَهدِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَغزو مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَإِذا رَجَعَ وحَطَّ عَن راحِلَتِهِ ، عَمَدَ إلى مَسجِدِ الرَّسولِ ، فَجَعَلَ يُصَلّى ¨
.
ص: 619
فيهِ فَيُطيلُ الصَّلاةَ ، حَتّى جَعَلَ بَعضُ أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله يَرَونَ أنَّ لَهُ فَضلاً عَلَيهِم . فَمَرَّ يَوما ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله قاعِدٌ في أصحابِهِ . فَقالَ لَهُ بَعضُ أصحابِهِ : يا نَبِيَّ اللّهِ ، هذا ذاكَ الرَّجُلُ _ فَإِمّا أرسَلَ إلَيهِ نَبِيُّ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وإمّا جاءَ مِن قِبَلِ نَفسِهِ _ فَلَمّا رَآهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مُقبِلاً قالَ : وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ إنَّ بَينَ عَينَيهِ سُفعَةً (1) مِنَ الشَّيطانِ . فَلَمّا وَقَفَ عَلَى المَجلِسِ قالَ لَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أ قُلتَ في نَفسِكَ حينَ وَقَفتَ عَلَى المَجلِسِ : لَيسَ فِي القَومِ خَيرٌ مِنّي ؟ . قالَ : نَعَم ! (2)
1 / 7 _ 2عَبدُ اللّهِ بنُ وَهبٍتولّى قيادة الخوارج في فتنة النهروان . وليس في أيدينا معلومات تُذكَر عن ماضيه . علما أنّه لم يَقُم بالأمر في بداية تبلور التيّار الخارجي ؛ فقد كان ابن الكوّاء أمير الصلاة ، وشَبَث بن رِبعيّ أمير الحرب (3) . ثمّ انفصلا عن الخوارج فيما بعد (4) ، ممّا دفعهم إلى البحث عن قائد جديد لهم . وكان المرشّحون للقيادة : هم زيد بن حُصَين ، وحرقوص بن زُهير ، وحمزة بن سِنان ، وشُريح بن أوفى ، بَيْد أنّهم رفضوا ذلك ، فتأمّر عبد اللّه بن وهب عليهم (5) . ونظّمهم من أجل الحرب ، ودعاهم إليها في خُطَبه الحماسيّة ، وحذّرهم من التحدّث إلى الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ،
.
ص: 620
والاستماع إلى خُطَبِهِ (1) . وتدلّ بعض النصوص التاريخيّة على أنّه لم يكن ثابت العقيدة في طريقه الذي كان قد اختاره لنفسه (2) . ونقل المؤرّخون أنّه دعا الإمام عليّا عليه السلام إلى البِراز بكلّ وقاحة وصلافة ، ولكنّه قُتل في اللحظات الاُولى التي واجه فيها ليث الوغى الذي لا نِدّ له (3) .
.
ص: 621
الفصل الثاني : مواصفات الحرب2 / 1تاريخُهابعدما يقرب من سنة واحدة على واقعة صفّين، وفي وقت لم تكن قد اُخمدت فيه نيران هذه الحرب الدامية، اندلع لهيب ثالث حرب داخليّة منطلقاً هذه المرّة من داخل جيش الإمام وبزعامة المتطرّفين من المسلمين. وهكذا كان الإمام منذ تسلّمه لزمام السلطة السياسية يواجه في كلّ عام حرباً أهليّة. إنّ تاريخ وقوع معركة النهروان غير محدّد على وجه الدقّة؛ فقد ذكر بعض المؤرّخين أنّها وقعت سنة 38 ه (1) ، بينما ذكر آخرون أنّها وقعت سنة 37 ه (2) ، وأشار غيرهم الى وقوعها سنة 39 ه (3) . ويبدو أنّ الرأي الأوّل أقرب إلى الصواب؛ فبالإضافة إلى أنّ الكثير من
.
ص: 622
أصحاب السيَر _ أو أكثرهم كما يقول الطبري _ يذهبون إلى هذا القول؛ فإنَّ التتبّع الدقيق لمجريات الأحداث في عهد حكومة الإمام عليّ عليه السلام يؤيّد هذا الرأي أيضاً. وأمّا الشهر الذي وقعت فيه معركة النهروان فلم يُشِر إليه أكثر المؤرّخين إلّا أنّ البعض منهم يرى أنّها حدثت في شهر صفر سنة 38 ه (1) ويرى آخرون أنّها كانت في شهر شعبان سنة 38 ه (2) ويبدو أنّ القول الصحيح هو الأوّل أي في شهر صفر سنة 38 ه ؛ لأنّ وقت التحكيم كان قد عُيّن في شهر رمضان، ومن بعده جهّز الإمام جيشاً وسار به نحو الشام، وإذا به يواجه تمرّد الخوارج عليه. وكانت مدّة الحرب قصيرة جدّاً وما لبثت أن خمدت على وجه السرعة (3) .
2 / 2مَكانُهادارت رحى الحرب في النهروان وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي (4) على أربعة فراسخ من بغداد (5) .
.
ص: 623
2 / 3عَدَدُ المُشارِكينَ فيهاشكّل جيش الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من ثمانية وستين ألفا ؛ وذلك أنّ الإمام عليه السلام تهيّأ لقتال أهل الشام ، ولم يكن عزم على قتال الخوارج (1) . وأمّا جيش الخوارج فكان أربعة آلاف (2) ، أو ألفين وثمانمِئَة (3) .
تاريخ الطبري عن جبر بن نوف :جَمَعَ [الإِمامُ عَلِيٌ عليه السلام ] إلَيهِ رُؤوسَ أهلِ الكُوفَةِ ، ورُؤوسَ الأَسباعِ ، ورُؤوسَ القَبائِلِ ، ووُجوهَ النّاسِ ، فَحَمِدَ اللّهَ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : يا أهلَ الكوفَةِ ! أنتُم إخواني ، وأنصاري ، وأعواني عَلَى الحَقِّ ، وصَحابَتي عَلى جِهادِ عَدُوِّي المُحِلّينَ بِكُم ، أضرِبُ المُدبِرَ ، وأرجو تَمامَ طاعَةِ المُقبِلِ ، وقد بَعَثتُ إلى أهلِ البَصرَةِ فَاستَنفَرتُهُم إلَيكُم فَلَم يَأتِني مِنهُم إلّا ثَلاثَةُ آلافٍ ومِئَتا رَجُلٍ ، فَأَعينوني بِمُناصَحَةٍ جَلِيَّةٍ ، خَلِيَّةٍ مِنَ الغَشِّ ، إنَّكُم . . . (4) مَخرَجُنا إلى صِفّينَ ، بَل استَجمَعوا بِأَجمَعِكُم ، وإنّي أسأَلُكُم أن يَكتُبَ لي رَئيسُ كُلِّ قَومٍ ما في عَشيرَتِهِ مِنَ المُقاتِلَةِ ، وأبناءِ المُقاتِلَةِ الَّذينَ أدرَكُوا القِتالَ ، وعُبدانِ عَشيرَتِهِ ومَواليهِم ، ثُمَّ يَرفَعُ ذلِكَ إلَينا . فَقامَ سَعيدُ بنُ قَيسٍ الهَمدانِيُّ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ سَمعاً وطاعَةً ، ووُدّاً ونَصيحَةً ، أنَا أوَّلُ النّاسِ جاءَ بِما سَأَلتَ وبِما طَلَبتَ .
.
ص: 624
وقامَ مَعقِلُ بنُ قَيسٍ الرِّياحِيُّ فَقالَ لَهُ نَحواً مِن ذلِكَ . وقامَ عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ وزِيادُ بنُ خَصَفَةَ وحُجرُ بنُ عَدِيٍّ وأشرافُ النّاسِ وَالقَبائِلِ فَقالوا مِثلَ ذلِكَ . ثُمَّ إنَّ الرُّؤوسَ كَتَبوا مَن فيهِم ، ثُمَّ رَفَعوهُم إلَيهِ ، وأمَروا أبناءَهُم وعَبيدَهُم ومَوالِيَهُم أن يَخرُجوا مَعَهُم ، وألّا يَتَخَلَّفَ مِنهُم عَنهُم أحَدٌ ، فَرَفَعوا إلَيهِ أربَعينَ ألفَ مُقاتِلٍ ، وسَبعَةَ عَشَرَ ألفاً مِنَ الأَبناءِ مِمَّن أدرَكَ ، وثَمانِيةَ آلافٍ مِن مَواليهِم وعَبيدِهِم ، وقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ أمّا مَن عِندَنا مِنَ المُقاتِلَةِ وأبناءِ المُقاتِلَةِ مِمَّن قَد بَلَغَ الحُلُمَ وأطاقَ القِتالَ فَقَد رَفَعنا إلَيكَ مِنهُم ذَوِي القُوَّةِ وَالجَلَدِ ، وأمَرناهُم بِالشُّخوصِ مَعَنا ، ومِنهُم ضُعَفاءُ وهُم في ضِياعِنا وأشياءُ مِمّا يُصلِحُنا . وكانَتِ العَرَبُ سَبعَةً وخَمسينَ ألفاً مِن أهلِ الكوفَةِ ، ومِن مَواليهِم ومَمَاليكِهِم ثَمانِيةَ آلافٍ ، وكانَ جَميعُ أهلِ الكوفَةِ خمَسَةً وستّينَ ألفاً وثَلاثةَ آلافٍ ومِئَتَي رَجُلٍ مِن أهلِ البَصرَةِ ، وكانَ جَميعُ مَن مَعَهُ ثَمانِيةً وسِتينَ ألفاً ومِئَتَي رَجُلٍ (1) .
تاريخ الطبري عن أبي سلمة الزهري_ في ذِكرِ ما بَقِيَ مِن أصحابِ النَّهرَوانِ بَعدَ إعطاءِ الإِمامِ لَهُمُ الأَمانَ _: كانوا أربَعَةَ آلافٍ ، فَكانَ الَّذينَ بَقوا مَعَ عَبدِ اللّهِ بنِ وَهبٍ مِنهُم ألفَينِ وثَمانَمِئَةٍ (2) .
2 / 4قادَةُ جَيشِ الإِمامقائد الميمنة : حُجرُ بنُ عَدِيٍّ الكِندِيُّ . قائد الميسرة : شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ أو مَعقِلُ بنُ قَيسٍ الرِّياحِيُّ .
.
ص: 625
قائد الخيّالة : أبو أيّوبَ الأَنصارِيُّ . قائد الرجّالة : أبو قَتادَةَ الأَنصارِيُّ . قائد أهل المدينة : قَيسُ بنُ سَعدِ بنِ عُبادَةَ الأَنصارِيُّ (1) .
2 / 5قادَةُ جَيشِ المارِقينَقائد الميمنة : زَيدُ بنُ حُصَينٍ الطّائِيُّ . قائد الميسرة : شُرَيحُ بنُ أوفَى العَبسِيُّ . قائد الخيّالة : حَمزَةُ بنُ سِنانٍ الأَسَدِيُّ . قائد الرجّالة : حُرقوصُ بنُ زُهَيرٍ السَّعدِيُّ (2) . وقيل : قائد الميمنة : يَزيدُ بنُ حُصَينٍ ، وقائد الخيل : عَبدُ اللّهِ بنُ وَهبٍ (3) .
.
ص: 626
. .
ص: 627
الفصل الثالث : مسير المارقين إلى النهروان3 / 1بِدايَةُ الفُرقَةِتاريخ الطبري عن عمارة بن ربيعة_ في صِفَةِ جَيشِ الإِمامِ عليه السلام _: خَرَجوا مَعَ عَلِيٍّ إلى صِفّينَ وهُم مُتَوادّونَ أحِبّاءُ ، فَرَجَعوا مُتَباغِضينَ أعداءَ ، ما بَرِحوا مِن عَسكَرِهِم بِصِفّينَ حَتّى فَشا فيهِمُ التَّحكيمُ ، ولَقَد أقبَلوا يَتَدافَعونَ الطَّريقَ كُلَّهُ ، ويَتَشاتَمونَ ، ويَضطَربِونَ بِالسِّياطِ ؛ يَقولُ الخَوارِجُ : يا أعداءَ اللّهِ ! أدهَنتُم في أمرِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وحَكَّمتُم ! وقالَ الآخَرونُ : فارَقتُم إمامَنا ، وفَرَّقتُم جَماعَتَنا ! فَلَمّا دَخَلَ عَلِيٌّ الكوفَةَ لَم يَدخُلوا مَعَهُ حَتّى أتَوا حَرَوراءَ ، فَنَزَلَ بِها مِنهُمُ اثنا عَشَرَ ألفا ، ونادى مُناديهِم : إنَّ أميرَ القِتالِ شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ التَّميمِيُّ ، وأميرَ الصَّلاةِ عَبدُ اللّهِ بنُ الكَوّاءِ اليَشكُرِيُّ ، وَالأَمرُ شورى بَعدَ الفَتحِ ، وَالبَيعَةُ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ، وَالأَمرُ بِالمَعروفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ (1) .
الكامل في التاريخ :لَمّا رَجَعَ عَلِيٌّ مِن صِفّينَ فارَقَهُ الخَوارِجُ وأتَوا حَرَوراءَ ، فَنَزَل
.
ص: 628
بِها مِنهُمُ اثنا عَشَرَ ألفا ، ونادى مُناديهِم : إنَّ أميرَ القِتالِ شَبَثُ بنُ رِبعِيٍّ التَّميمِيُّ ، وأميرَ الصَّلاةِ عَبدُ اللّهِ بنُ الكَوَّا اليَشكُرِيُّ ، وَالأَمرُ شورى بَعدَ الفَتحِ ، وَالبَيعَةُ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ، وَالأَمرُ بِالمَعروفِ ، وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ . فَلَمّا سَمِعَ عَلِيٌّ ذلِكَ وأصحابُهُ قامَتِ الشّيعَةُ ، فَقالوا لَهُ : في أعناقِنا بَيعَةٌ ثانِيَةٌ ، نَحنُ أولِياءُ مَن والَيتَ ، وأعداءُ مَن عادَيتَ . فَقالَتِ الخَوارِجُ : اِستَبَقتُم أنتُم وأهلُ الشّامِ إلَى الكُفرِ كَفَرَسَي رِهانٍ (1) ؛ بايَعَ أهلُ الشّامِ مُعاوِيَةَ عَلى ما أحَبّوا وكَرِهوا ، وبايَعتُم أنتُم عَلِيّا عَلى أنَّكُم أولِياءُ مَن والى ، وأعداءُ مَن عادى . فَقالَ لَهُم زِيادُ بنُ النَّضرِ : وَاللّهِ ، ما بَسَطَ عَلِيٌّ يَدَهُ فَبايَعناهُ قَطُّ إلّا عَلى كِتابِ اللّهِ ، وسُنَّةِ نَبِيِّهِ ، ولكِنَّكُم لَمّا خالَفتُموهُ جاءَتهُ شيعَتُهُ فَقالوا لَهُ : نَحنُ أولِياءُ مَن والَيتَ ، وأعداءُ مَن عادَيتَ ، ونَحنُ كَذلِكَ ، وهُوَ عَلَى الحَقِّ وَالهُدى ، ومَن خالَفَهُ ضالٌّ مُضِلٌّ (2) .
تاريخ الطبري عن الزهري :تَفَرَّقَ أهلُ صِفّينَ حينَ حُكِّمَ الحَكَمانِ . . . فَلَمَّا انصَرَفَ عَلِيٌّ خالَفَتِ الحَرَورِيَّةُ وخَرَجَت _ وكانَ ذلِكَ أوَّلَ ما ظَهَرَت _ فَآذَنوهُ بِالحَربِ ، ورَدّوا عَلَيهِ أن حَكَّمَ بَني آدَمَ في حُكمِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وقالوا : لا حُكمَ إلّا للّهِِ سُبحانَهُ ! وقاتَلوا (3) .
.
ص: 629
3 / 2اِحتِجاجُ الإِمامِ عَلى زُرعَةَ وحُرقوصٍتاريخ الطبري عن عون بن أبي جحيفة :إنَّ عَلِيّا لَمّا أرادَ أن يَبعَثَ أبا موسى لِلحُكومَةِ أتاهُ رَجُلانِ مِنَ الخَوارِجِ : زُرعَةُ بنُ البُرجِ الطّائِيُّ ، وحُرقوصُ بنُ زُهَيرٍ السَّعدِيُّ ، فَدَخَلا عَلَيهِ ، فَقالا لَهُ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ ! فَقالَ عَلِيٌّ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ . فَقالَ لَهُ حُرقوصٌ : تُب مِن خَطيئَتِكَ ، وَارجِع عَن قَضِيَّتِكَ ، وَاخرُج بِنا إلى عَدُوِّنا نُقاتِلهُم حَتّى نَلقى رَبَّنا ! فَقالَ لَهُم عَلِيٌّ : قَد أرَدتُكُم عَلى ذلِكَ فَعَصَيتُموني ، وقَد كَتَبنا بَينَنا وبَينَهُم كِتابا ، وشَرَطنا شُروطا ، وأعطَينا عَلَيها عُهودَنا ومَواثيقَنا ، وقَد قالَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ : «وَ أَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَ_هَدتُّمْ وَ لَا تَنقُضُواْ الْأَيْمَ_نَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ» (1) . فَقالَ لَهُ حُرقوصٌ : ذلِكَ ذَنبٌ يَنبَغي أن تَتوبَ مِنهُ . فَقالَ عَلِيٌّ : ما هُوَ ذَنبٌ ، ولكِنَّهُ عَجزٌ مِنَ الرَّأيِ ، وضَعفٌ مِنَ الفِعلِ ، وقَد تَقَدَّمتُ إلَيكُم فيما كانَ مِنهُ ، ونَهَيتُكُم عَنهُ . فَقالَ لَهُ زُرعَةُ بنُ البُرجِ : أما وَاللّهِ يا عَلِيُّ لَئِن لَم تَدَع تَحكيمَ الرِّجالِ في كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ قاتَلتُكَ ؛ أطلُبُ بِذلِكَ وَجهَ اللّهِ ورِضوانَهُ ! فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : بُؤسا لَكَ ، ما أشقاكَ ! كَأَنّي بِكَ قَتيلاً تَسفي عَليكَ الرّيحُ . قالَ : وَدِدتُ أن قَد كانَ ذلِكَ .
.
ص: 630
فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : لَو كُنتَ مُحِقّا كانَ فِي المَوتِ عَلَى الحَقِّ تَعزِيَةٌ عَنِ الدُّنيا ، إنَّ الشَّيطانَ قَد استَهواكُم ، فَاتَّقُوا اللّهَ عَزَّ وجَلَّ ، إنَّهُ لا خَيرَ لَكُم في دُنيا تُقاتِلونَ عَلَيها . فَخَرَجا مِن عِندِهِ يُحَكِّمانِ (1) .
3 / 3إشخاصُ عَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ إليهِمالإمام عليّ عليه السلام_ مِن وَصِيَّتِهِ لِعَبدِ اللّهِ بنِ العَبّاسِ لَمّا بَعَثَهُ لِلاِحتِجاجِ عَلَى الخَوارِجِ _: لا تُخاصِمهُم بِالقُرآنِ ؛ فَإِنَّ القُرآنَ حَمّالٌ ذو وُجوهٍ ؛ تَقولُ ويَقولونَ ، ولكِن حاجِجهُم بِالسُّنَّةِ ، فَإِنَّهُم لَن يَجِدوا عَنها مَحيصا (2) .
الفتوح_ في ذِكرِ ابتِداءِ أخبارِ الخَوارِجِ مِنَ الشُّراةِ وخُروجِهِم عَلى عَلِيٍّ عليه السلام _: بَينا عَلِيٌّ كَرَّمَ اللّهُ وَجهَهُ مُقيمٌ بِالكوفَةِ يَنتَظِرُ انقِضاءَ المُدَّةِ الّتي كانَت بَينَهُ وبَينَ مُعاوِيَةَ ثُمَّ يَرجِعُ إلى مُحارَبَةِ أهلِ الشّامِ ، إذ تَحَرَّكَت طائِفَةٌ مِن خاصَّةِ أصحابِهِ في أربَعَةِ آلافِ فارِسٍ ، وهُم مِنَ النُّسّاكِ العُبّادِ أصحابِ البَرانِسِ ، فَخَرَجوا عَنِ الكوفَةِ وتَحَزَّبوا ، وخالَفوا عَلِيّا كَرَّمَ اللّهُ وَجهَهُ وقالوا : لا حُكمَ إلّا للّهِِ ، ولا طاعَةَ لِمَن عَصَى اللّهَ . قالَ : وَانحازَ إلَيهِم نَيِّفٌ عَن ثَمانِيَةِ آلافِ رَجُلٍ مِمَّن يَرى رَأيَهُم . قالَ : فَصارَ القَومُ فِي اثنَي عَشَرَ ألفا ، وساروا حَتّى نَزَلوا بِحَرَوراءَ ، وأمَّروا عَلَيهِم عَبدَ اللّهِ بنَ الكَوّاءِ . قالَ : فَدَعا عَلِيٌّ رضى الله عنه بِعَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ ، فَأَرسَلَهُ إلَيهِم ، وقالَ : يَابنَ عَبّاسٍ امضِ إلى هؤُلاءِ القَومِ فَانظُر ما هُم عَلَيهِ ، ولِماذَا اجتَمَعوا .
.
ص: 631
قالَ : فَأَقبَلَ عَلَيهِمُ ابنُ عَبّاسٍ ، حَتّى إذا أشرَفَ عَلَيهِم ونَظَروا إلَيهِ ناداهُ بَعضُهُم وقالَ : وَيلَكَ يَابنَ عَبّاسٍ ، أكَفَرتَ بِرَبِّكَ كَما كَفَرَ صاحِبُكَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ؟ فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : إنّي لا أستَطيعُ أن اُكَلِّمَكُم كُلَّكُم ، ولكِنِ انظُروا أيُّكُم أعلَمُ بِما يَأتي ويَذَرُ فَليَخرُج إلَيَّ ؛ حَتّى اُكَلِّمَهُ . قالَ : فَخَرَجَ إلَيهِ رَجُلٌ مِنهُم يُقالُ لَهُ : عَتّابُ بنُ الأَعوَرِ الثَّعلَبِيُّ حَتّى وَقَفَ قُبالَتَهُ _ وكَأَنَّ القُرآنَ إنَّما كانَ مُمَثَّلاً بَينَ عَينَيهِ _ فَجَعَلَ يَقولُ ويَحتَجُّ ويَتَكَلَّمُ بِما يُريدُ ، وابنُ عَبّاسٍ ساكِتٌ لا يُكَلِّمُهُ بِشَيءٍ ، حَتّى إذا فَرَغَ مِن كَلامِهِ أقبَلَ عَلَيهِ ابنُ عَبّاسٍ فَقالَ : إنّي اُريدُ أن أضرِبَ لَكَ مَثلاً ، فَإِن كُنتَ عاقِلاً فَافهَم . فَقالَ الخارِجِيُّ : قُل ما بَدا لَكَ . فَقالَ لَهُ ابنُ عَبّاسٍ : خَبِّرني عَن دارِ الإِسلامِ هذِهِ هَل تَعلَمُ لِمَن هِيَ ، ومَن بَناها ؟ فَقالَ الخارِجِيُّ : نَعَم ، هِيَ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ، وهُوَ الَّذي بَناها عَلى أنبِيائِهِ وأهلِ طاعَتِهِ ، ثُمَّ أمَرَ مَن بَعَثَهُ إلَيها مِنَ الأَنبِياءِ أن يَأمُرُوا الاُمَمَ أن لا تَعبُدوا إلّا إيّاهُ ، فَآمَنَ قَومٌ ، وكَفَرَ قَومٌ ، وآخِرُ مَن بَعَثَهُ إلَيها مِنَ الأَنبِياءِ مُحَمَدٌ صلى الله عليه و آله . فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : صَدَقتَ . ولكِن خَبِّرني عَن مُحَمَّدٍ حينَ بُعِثَ إلى دارِ الإِسلامِ فَبَناها _ كَما بَناها غَيرُهُ مِنَ الأَنبِياءِ _ هَل أحكَمَ عِمارَتَها ، وبَيَّنَ حُدودَها ، وأوقَفَ الاُمَّةَ عَلى سُبُلِها وعَمَلِها وشَرائِعِ أحكامِها ومَعالِمِ دينِها ؟ قالَ الخارِجِيُّ : نَعَم ، قَد فَعَلَ مُحَمَّدٌ ذلِكَ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَخَبِّرنِي الآنَ عَن مُحَمَّدٍ هَل بَقِيَ فيها ، أو رَحَلَ عَنها ؟ قالَ الخارِجِيُّ : بَل رَحَلَ عَنها . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَخَبِّرني رَحَلَ عَنها وهِيَ كامِلَةُ العِمارَةِ بَيِّنَةُ الحُدودِ ، أم رَحَلَ عَنها وهِي خَرِبَةٌ لا عُمرانَ فيها ؟
.
ص: 632
قالَ الخارِجِيُّ : بَل رَحَلَ عَنها وهِيَ كامِلَةُ العِمارَةِ ، بَيِّنَةُ الحُدودِ ، قائِمَةُ المَنارِ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : صَدَقتَ الآنَ ، فَخَبِّرني هَل كانَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أحَدٌ يَقومُ بِعِمارَةِ هذِهِ الدّارِ مِن بَعدِهِ أم لا ؟ قالَ الخارِجِيُّ : بَلى ، قَد كانَ لَهُ صَحابَةٌ وأهلُ بَيتٍ ووَصِيٌّ وذُرِّيَّةٌ يَقومونَ بِعِمارَةِ هذِهِ الدّارِ مِن بَعدِهِ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَفَعَلوا أم لَم يَفعَلوا ؟ قالَ الخارِجِيُّ : بَلى ، قَد فَعَلوا وعَمَّروا هذِهِ الدّارَ مِن بَعدِهِ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَخَبِّرنِي الآنَ عَن هذِهِ الدّارِ مِن بَعدِهِ هَل هِيَ اليَومَ عَلى ما تَرَكَها مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله مِن كَمالِ عِمارَتِها وقِوامِ حُدودِها ، أم هِيَ خَرِبَةٌ عاطِلَةُ الحُدودِ ؟ قالَ الخارِجِيُّ : بَل هِيَ عاطِلَةُ الحُدودِ خَرِبَةٌ . قالَ ابنُ عَبّاسِ : أفَذُرِّيَّتُهُ وَلِيَت هذِهِ الخَرابَ ، أم اُمَّتُهُ ؟ قالَ : بَل اُمَّتُهُ . قالَ : قالَ ابنُ عَبّاسٍ : أفَأَنتَ مِنَ الاُمَّةِ أو مِنَ الذُّرِّيَّةِ ؟ قالَ : أنَا مِنَ الاُمَّةِ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : يا عَتّابُ فَخَبِّرنِي الآنَ عَنكَ كَيفَ تَرجُو النَّجاةَ مِنَ النّارِ وأنتَ مِن اُمَّةٍ قَد أخرَبَت دارَ اللّهِ ودارَ رَسولِهِ ، وعَطَّلَت حُدودَها ؟ فَقالَ الخارِجِيُّ : إنّا للّهِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ ، وَيحَكَ يَابنَ عَبّاسٍ ! احتَلتَ وَاللّهِ حَتّى أوقَعتَني في أمرٍ عَظيمٍ ، وألزَمتَنِي الحُجَّةَ ، حَتّى جَعَلتَني مِمَّن أخرَبَ دارَ اللّهِ . ولكِن وَيحَكَ يَابنَ عَبّاسٍ فَكَيفَ الحيلَةُ فِي التَّخليصِ مِمّا أنَا فيهِ ؟ قالَ ابنُ عَبّاسٍ : الحيلَةُ في ذلِكَ أن تَسعى في عِمارَةِ ما أخرَبَتهُ الاُمَّةُ مِن
.
ص: 633
دارِ الإِسلامِ . قالَ : فَدُلَّني عَلَى السَّعيِ في ذلِكَ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : إنَّ أوَّلَ ما يَجِبُ عَلَيكَ في ذلِكَ أن تَعلَمَ مَن سَعى في خَرابِ هذِهِ الدّارِ فَتُعادِيَهُ ، وتَعلَمَ مَن يُريدُ عِمارَتَها فَتُوالِيَهُ . قالَ : صَدَقتَ يَابنَ عَبّاسٍ ، وَاللّهِ ما أعرِفُ أحَدا في هذَا الوَقتِ يُحِبُّ عِمارَةَ دارِ الإِسلامِ غَيرَ ابنِ عَمِّكَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ لَولا أنَّهُ حَكَّمَ عَبدَ اللّهِ بنَ قَيسٍ في حَقٍّ هُوَ لَهُ . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : وَيحَكَ يا عَتّابُ ، إنّا وَجَدنَا الحُكومَةَ في كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ؛ إنَّهُ قالَ تَعالى : «فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَ_حًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ» (1) ، وقالَ تَعالى : «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ» (2) . قالَ : فَصاحَتِ الخَوارِجُ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ وقالوا : فَكَأَنَّ عَمرَو بنَ العاصِ عِندَكَ مِن العُدولِ ، وأنتَ تَعلَمُ أنَّهُ كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ رَأسا ، وفِي الإِسلامِ ذَنبَا ، وهُوَ الأَبتَرُ ابنُ الأَبتَرِ ، مِمَّن قاتَلَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ، وفَتَنَ اُمَّتَهُ مِن بَعدِهِ ! قالَ : فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : يا هؤُلاءِ ! إنَّ عَمرَو بنَ العاصِ لَم يَكُن حَكَماً ، أفَتَحتَجّونَ بِهِ عَلَينا ؟ إنَّما كانَ حَكَما لِمُعاوِيَةَ ، وقَد أرادَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيٌّ رضى الله عنه أن يَبعَثَني أنَا فَأَكونَ لَهُ حَكَما ، فَأَبَيتُم عَلَيهِ وقُلتُم : قَد رَضينا بِأَبي موسَى الأَشعَرِيِّ ، وقَد كانَ أبو موسى _ لَعَمري _ رَضِيَ في نَفسِهِ وصُحبَتِهِ وإسلامِهِ وسابِقَتِهِ ، غَيرَ أنَّهُ خُدِعَ فَقالَ ما قالَ ، ولَيس يَلزَمُنا مِن خَديعَةِ عَمرِو بنِ العاصِ لِأَبي موسى ، فَاتَّقوا رَبَّكُم ، وَارجِعوا إلى ما كُنتُم عَلَيهِ مِن طاعَةِ أميرِ المُؤمِنينَ ، فَإِنَّهُ وإن كانَ قاعِدا عَن طَلَب
.
ص: 634
حَقِّهِ فَإِنَّما يَنتَظِرُ انقِضاءَ المُدَّةِ ثُمَّ يَعودُ إلى مُحارَبَةِ القَومِ ، ولَيسَ عَلِيٌّ رضى الله عنهمِمَّن يَقعُدُ عَن حَقٍّ جَعَلَهُ اللّهُ لَهُ . قالَ : فَصاحَتِ الخَوارِجُ ؛ وَقالوا : هَيهاتَ يَابنَ عَبّاسٍ ! نَحنُ لا نَتَوَلّى عَلِيّا بَعدَ هذَا اليومِ أبَدا ، فَارجِع إلَيهِ وقُل لَهُ فَليَخرُج إلَينا بِنَفسِهِ ؛ حَتّى نَحتَجَّ عَلَيهِ ، ونَسمَعَ كَلامَهُ ، ويَسمَعَ مِن كَلامِنا ، فَلَعَلَّنا إن سَمِعنا مِنهُ شَيئا يَعلَقُ إمّا (1) أن نَرجِعَ عَمَّا اجتَمَعنا عَلَيهِ مِن حَربِهِ . قالَ : فَخَرَجَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ إلى عَلِيٍّ رضى الله عنهفَخَبَّرَهُ بِذلِكَ (2) .
شرح نهج البلاغة عن عمر مولى غفرة :لَمّا رَجَعَ عَلِيٌّ عليه السلام مِن صِفّينَ إلَى الكوفَةِ ، أقامَ الخَوارِجُ حَتّى جَمّوا (3) ، ثُمَّ خَرَجوا إلى صَحراءَ بِالكوفَةِ تُسَمّى حَرَوراءَ ، فَنادَوا : لا حُكمَ إلّا للّهِِ ولَو كَرِهَ المُشرِكونَ . ألا إنَّ عَلِيّا ومُعاوِيَةَ أشرَكا في حُكمِ اللّهِ . فَأَرسَلَ عَلِيٌّ عليه السلام إلَيهِم عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ ، فَنَظَرَ في أمرِهِم ، وكَلَّمَهُم ، ثُمَّ رَجَعَ إلى عَلِيٍّ عليه السلام ، فَقالَ لَهُ : ما رَأَيتَ ؟ فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : وَاللّهِ ، ما أدري ما هُم ! فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام : رَأَيتَهُم مُنافِقينَ ؟ قالَ : وَاللّهِ ، ما سيماهُم بِسيمَا المُنافِقينَ ، إنَّ بَينَ أعيُنِهِم لَأَثَرَ السُّجودِ ، وهُم يَتَأَوَّلونَ القُرآنَ . فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : دَعوهُم ما لَم يَسفِكوا دَما ، أو يَغصِبوا مالاً . وأرسَلَ إلَيهِم : ما هذَا الَّذي أحدَثتُم ، وما تُريدونَ ؟
.
ص: 635
قالوا : نُريدُ أن نَخرُجَ نَحنُ وأنتَ ومَن كانَ مَعَنا بِصِفّينَ ثَلاثَ لَيالٍ ، ونَتوبَ إلَى اللّهِ مِن أمرِ الحَكَمَينِ ، ثُمَّ نَسيرَ إلى مُعاوِيَةَ فَنُقاتِلَهُ ، حَتّى يَحكُمَ اللّهُ بَينَنا وبَينَهُ . فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : فَهَلّا قُلتُم هذا حِينَ بَعَثنَا الحَكَمَينِ ، وأخَذنا مِنهُم العَهدَ ، وأعطَيناهُموهُ ! أ لا قُلتُم هذا حِينَئِذٍ ! قالوا : كُنّا قَد طالَتِ الحَربُ عَلَينا ، وَاشتَدَّ البَأسُ ، وكَثُرَ الجِراحُ ، وخَلَا الكُراعُ والسِّلاحُ . فَقالَ لَهُم : أفَحينَ اشتَدَّ البَأسُ عَلَيكُم عاهَدتُم ، فَلَمّا وَجَدتُمُ الجَمامَ (1) قُلتُم : نَنقُضُ العَهدَ ! إنَّ رَسولَ اللّهِ كانَ يَفي لِلمُشرِكينَ ، أفَتَأمُرونَني بِنَقضِهِ ! (2)
الكامل للمبرّد :ذَكَرَ أهلُ العِلمِ مِن غَيرِ وَجهٍ أنَّ عَلِيّا رضى الله عنه لَمّا وَجَّهَ إلَيهِم عَبدَ اللّهِ بنَ العَبّاسِ لِيُناظِرَهُم ، قالَ لَهُم : مَا الَّذي نَقَمتُم عَلى أميرِ المُؤمِنينَ ؟ قالوا : قَد كانَ لِلمُؤمِنينَ أميرا ، فَلَمّا حَكَّمَ في دينِ اللّهِ خَرَجَ مِنَ الإِيمانِ ، فَليَتُب بَعدَ إقرارِهِ بِالكُفرِ نَعُد لَهُ . فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : ما يَنبَغي لِمُؤمِنٍ لَم يَشُب إيمانَهُ شَكٌّ أن يُقِرَّ عَلى نَفسِهِ بِالكُفرِ . قالوا : إنَّهُ قَد حَكَّمَ . قالَ : إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ قَد أَمَرَنا بِالتَّحكيمِ في قَتلِ صَيدٍ ، فَقالَ عَزَّ وجَلَّ : «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ» ، فَكَيفَ في إمامَةٍ قَد أشكَلَت عَلَى المُسلِمينَ ؟ ! فَقالوا : إنَّهُ قَد حُكِمَ عَلَيهِ فَلَم يَرضَ . فَقالَ : إنَّ الحُكومَةَ كَالإِمامَةِ ، ومَتى فَسَقَ الإِمامُ وَجَبَت مَعصِيَتُهُ ، وكَذلِك
.
ص: 636
الحَكَمانِ ، لَمّا خالَفا نُبِذَت أقاويلُهُما . فَقالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ : لا تَجعَلُوا احتِجاجَ قُرَيشٍ حُجَّةً عَلَيكُم ؛ فَإِنَّ هذا مِنَ القَومِ الَّذينَ قالَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ فيهِم : «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» (1) ، وقالَ عَزَّ وجَلَّ : «وَ تُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا» (2) . (3)
الكامل للمبرّد :كانَ أصحابُ النُّخَيلَةِ (4) قالوا لِابنِ عَبّاسٍ : إن كانَ عَلِيٌّ عَلى حَقٍّ لم يَشُكك فيهِ وحَكَّمَ مُضطَرّا ، فَما بالُهُ حَيثُ ظَفِرَ لَم يَسبِ ؟ فَقالَ لَهُم ابنُ عَبّاسٍ : قَد سَمِعتُمُ الجَوابَ فِي التَّحكيمِ ، فَأَمّا قَولُكُم فِي السِّباءِ أفَكُنتُم سابينَ اُمَّكُم عائِشَةَ ؟ ! فَوَضَعوا أصابِعَهُم في آذانِهِم ، وقالوا : أمسِك عَنّا غَربَ لِسانِكَ (5) يَابنَ عَبّاسٍ ؛ فَإِنَّهُ طَلقٌ ذَلقٌ (6) ، غَوّاصٌ عَلى مَوضِعِ الحُجَّةِ (7) .
تاريخ الطبري عن عمارة بن ربيعة_ في ذِكرِ الخَوارِجِ _: بَعَثَ عَلِيٌّ ابنَ عَبّاسٍ إلَيهِم ، فَقالَ : لا تَعجَل إلى جَوابِهِم وخُصومَتِهِم حَتّى آتِيَكَ . فَخَرَجَ إلَيهِم حَتّى أتاهُم ، فَأَقبَلوا يُكَلِّمونَهُ ، فَلَم يَصبِر حَتّى راجَعَهُم فَقالَ : ما نَقَمتُم مِنَ الحَكَمَينِ ؛ وقَد قالَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ : «إِن يُرِيدَآ إِصْلَ_حًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ» ، فَكَيفَ بِاُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله . فَقالَتِ الخَوارِجُ : قُلنا : أمّا ما جَعَلَ حُكمَهُ إلَى النّاسِ وأمَرَ بِالنَّظَرِ فيهِ وَالإِصلاحِ لَهُ ، فَهُوَ إلَيهِم كَما أمَرَ بِهِ ، وما حَكَمَ فَأَمضاهُ فَلَيسَ لِلعِبادِ أن يَنظُروا فيهِ ؛ حَكَمَ فِى ¨
.
ص: 637
الزّاني مِئَةَ جَلدَةٍ ، وفِي السّارِقِ بِقَطعِ يَدِهِ ، فَلَيسَ لِلعِبادِ أن يَنظُروا في هذا . قالَ ابنُ عَبّاسٍ : فَإِنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقولُ : «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ» . فَقالوا : أوَتَجعَلُ الحُكمَ فِي الصَّيدِ ، وَالحَدَثِ يَكونُ بَينَ المَرأَةِ وزَوجِها كَالحُكمِ في دِماءِ المُسلِمينَ ! وقالَتِ الخَوارِجُ : قُلنا لَهُ : فَهذِهِ الآيَةُ بَينَنا وبَينَكَ ، أعَدلٌ عِندَكَ ابنُ العاصِ وهُوَ بِالأَمسِ يُقاتِلُنا ويَسفِكُ دِماءَنا ! فَإِن كانَ عَدلاً فَلَسنا بِعُدولٍ ، ونَحنُ أهلُ حَربِهِ ، وقَد حَكَّمتُم في أمرِ اللّهِ الرِّجالَ ، وقَد أمضَى اللّهُ عَزَّ وجَلَّ حُكمَهُ في مُعاوِيَةَ وحِزبِهِ أن يُقتَلوا أو يَرجِعوا ، وقَبلَ ذلِكَ ما دَعَوناهُم إلى كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ فَأَبَوهُ ، ثُمَّ كَتَبتُم بَينَكُم وبَينَهُ كِتابا ، وجَعَلتُم بَينَكُم وبَينَهُ المُوادَعَةَ وَالاِستِفاضَةَ ، وقَد قَطَعَ عَزَّ وجَلَّ الاِستِفاضَةَ وَالمُوادَعَةَ بَينَ المُسلِمينَ وأهلِ الحَربِ مُنذُ نَزَلَت بَراءَةُ ، إلّا مَن أقَرَّ بِالجِزيَةِ (1) .
شرح الأخبار عن عبد اللّه بن عبّاس :أرسَلَني عَلِيٌّ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام إلَى الخَوارِجِ الحَرَورِيَّةِ لِاُكَلِّمَهُم ، فَكَلَّمتُهُم . فَقالوا : لا حُكمَ إلّا للّهِِ . فَقُلتُ : أجَل ، ولكِن أما تَقرَؤونَ القُرآنَ وقَولَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ» (2) ، وقولَهُ : «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ» (3) ، وقولَهُ : «فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ» (4) ! وقَد شَهِدَ مَن شَهِدَ مِنكُم رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله إذ حَكَّمَ سَعدا في بَني قُرَيظَةَ ، فَلَمّا حَكَمَ فيهِم بِالحَقِّ أجازَ حُكمَهُ ، وقالَ : لَقَد حَكَمتَ فيهِم بِحُكمِ اللّهِ مِن فَوقِ سَبعَةِ أرقِعَةٍ ، فَهَل تَقولونَ إن
.
ص: 638
رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أخطَأَ في تَحكيمِ سَعدٍ في بَني قُرَيظَةَ ؟ ! وأيُّهُم عِندَكُم أوجَبُ أن يُحكَمَ فيهِ : أمرُ ما بَينَ رَجُلٍ وبَينَ امرَأَتِهِ ، أو جزاءُ صَيدٍ يُصيبُهُ مُحرِمٌ ، أوِ الحُكمُ في اُمَّةٍ قَدِ اختَلَفَت وقَتَلَ بَعضُها بَعضا ؛ لِيَرجِعَ مِنها إلى حُكمِ الكِتابِ مَن خالَفَهُ ، فَتُحقَنَ دِماءُ الاُمَّةِ ويُلَمَّ شَعَثُها ؟ فَقالَ لَهُمُ ابنُ الكَوّاءِ : دَعوا ما يَقولُ هذا وأصحابُهُ ، وأقبِلوا عَلى ما أنتُم عَلَيهِ ؛ فَإِنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ قَد أخبَرَ أنَّ هؤُلاءِ قَومٌ خَصِمونَ (1) .
3 / 4خُروجُ الإِمامِ إلى حَرَوراءَ وتَوبَةُ جَماعَةٍ مِنَ الخَوارِجِالفتوح_ بَعدَ ذِكرِ رُجوعِ عَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ مِن حَرَوراءَ وإخبارِهِ الإِمامَ بِما جَرى بَينَهُ وبَينَ الخَوارِجِ _: رَكِبَ عَلِيٌّ إلَى القَومِ في مِئَةِ رَجُلٍ مِن أصحابِهِ ، حَتّى وافاهُم بِحَرَوراءَ ، فَلَمّا بَلَغَ ذلِكَ الخَوارِجَ رَكِبَ عَبدُ اللّهِ بنُ الكَوّاءِ في مِئَةِ رَجُلٍ مِن أصحابِهِ حَتّى واقَفَهُ . فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : يَابنَ الكَوّاءِ إنَّ الكَلامَ كَثيرٌ ، ابرُز إلَيَّ مِن أصحابِكَ حَتّى أُكَلِّمَكَ . قالَ ابنُ الكَوّاءِ : وأنَا آمِنٌ مِن سَيفِكَ . قالَ عَلِيٌّ : نَعَم ، وأنتَ آمِنٌ مِن سَيفي . قالَ : فَخَرَجَ ابنُ الكَوّاءِ في عَشَرَةٍ مِن أصحابِهِ ودَنَوا مِن عَلِيٍّ رضى الله عنه . قالَ : وذَهَبَ ابنُ الكَوّاءِ لِيَتَكَلَّمَ فَصاحَ بِهِ رَجُلٌ مِن أصحابِ عَلِيٍّ وقالَ : اُسكُت ؛ حَتّى يَتَكَلَّمَ مَن هُوَ أحَقُّ بِالكَلامِ مِنكَ . قالَ : فَسَكَتَ ابنُ الكَوّاءِ ، وتَكَلَّمَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ، فَذَكَرَ الحَربَ الَّذي كان
.
ص: 639
بَينَهُ وبَينَ مُعاوِيَةَ ، وذَكَرَ اليَومَ الَّذي رُفِعَت فيهِ المَصاحِفُ ، وكَيفَ اتَّفَقوا عَلَى الحَكَمَينِ ، ثُمَّ قالَ لَهُ عَلِيٌّ : وَيحَكَ يَابنَ الكَوّاءِ ، أ لَم أقُل لَكُم في ذلِكَ اليَومِ الَّذي رُفِعَت فيهِ المَصاحِفُ : كَيفَ أهلُ الشّامِ يُريدونَ أن يَخدَعوكُم بِها ؟ أ لَم أقُل لَكُم بِأَنَّهُم قَد عَضَّهُمُ السِّلاحُ وكاعوا (1) عَنِ الحَربِ ، فَذَروني اُناجِزهُم ، فَأَبَيتُم عَلَيَّ وقُلتُم : إنَّ القَومَ قَد دَعَونا إلى كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ فَأَجِبهُم إلى ذلِكَ ، وإلّا لَم نُقاتِل مَعَكَ ، وإلّا دَفَعناكَ إلَيهِم ! فَلَمّا أجَبتُكُم إلى ذلِكَ وأرَدتُ أن أبعَثَ ابنَ عَمّي عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ لِيكَونَ لي حَكَما ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ لا يَبتَغي بِشَيءٍ مِن عَرَضِ هذِهِ الدُّنيا ولا يَطمَعُ أحَدٌ مِن النّاسِ في خَديعَتِهِ ، فَأَبى عَلَيَّ مِنكُم مَن أبى ، وجِئتُموني بِأَبي موسَى الأَشعَرِيِّ وقُلتُم : قَد رَضينا بِهذا . فَأَجَبتُكُم إلَيهِ وأنا كارِهٌ ، ولَو أصَبتُ أعوانا غَيرَكُم في ذلِكَ الوَقتِ لَما أجَبتُكُم . ثُمَّ إنِّي اشتَرَطتُ عَلَى الحَكَمَينِ بِحَضرَتِكُم أن يَحكُما بِما أنزَلَ اللّهُ مِن فاتِحَتِهِ إلى خاتِمَتِهِ أو السُّنَّةِ الجامِعَةِ ، فَإِن هُما لَم يَفعَلا ذلِكَ فَلا طاعَةَ لَهُما عَلَيَّ ، أكانَ ذلِكَ أم لَم يَكُن ؟ فَقالَ ابنُ الكَوّاءِ : صَدَقتَ ، قَد كانَ هذا بِعَينِهِ ، فَلِمَ لا تَرجِعُ إلى حَربِ القَومِ إذ قَد عَلِمتَ إنَّ الحَكَمَينِ لَم يَحكُما بِالحَقِّ، وأنَّ أحَدَهُما خَدَعَ صاحِبَهُ ؟ فَقالَ عَلِيٌ : إنَّهُ لَيسَ إلى حَربِ القَومِ سَبيلٌ إلَى انقِضاءِ المُدَّةِ الَّتي ضُرِبَت بَيني وبَينَهُم . قالَ ابنُ الكَوّاءِ : فَأَنتَ مُجمِعٌ عَلى ذلِكَ ؟ قالَ : وهَل يَسَعُني إلّا ذلِكَ ؟ اُنظُر يَابنَ الكَوّاءِ أنّي أصَبتُ أعوانا وأقعُدُ عَن حَقّي ؟
.
ص: 640
قالَ : فَعِندَها بَطَنَ (1) ابنُ الكَوّاءِ فَرَسَهُ وصارَ إلى عَلِيٍّ مَعَ العَشَرَةِ الَّذينَ كانوا مَعَهُ ، ورَجَعوا عَن رَأيِ الخَوارِجِ ، وَانصَرَفوا مَعَ عَلِيٍّ إلَى الكوفَةِ ، وتَفَرَّقَ الباقونَ وهُم يَقولونَ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ ، ولا طاعَةَ لِمَن عَصَى اللّهَ (2) .
الأخبار الطوال_ في ذِكرِ احتِجاجاتِ الإِمامِ عَلِيٍّ عليه السلام عَلَى الخَوارِجِ _: قالَ : لِيَخرُج إلَيَّ رَجُلٌ مِنكُم تَرضونَ بِهِ حَتّى أقولَ ويَقولَ ، فَإِن وَجَبَت عَلَيَّ الحُجَّةُ أقرَرتُ لَكُم وتُبتُ إلَى اللّهِ ، وإن وَجَبَت عَلَيكُم فَاتَّقُوا الَّذي مَرَدُّكُم إلَيهِ . فَقالوا لِعَبدِ اللّهِ بنِ الكَوّاءِ _ وكانَ مِن كُبَرائِهِم _ : اُخرُج إلَيهِ حَتّى تُحاجَّهُ ، فَخَرَجَ إلَيهِ . فَقالَ عَلِيٌّّ : هَل رَضيتُم ؟ قالوا : نَعَم . قالَ : اللّهُمَّ اشهَد ؛ فَكفى بِكَ شَهيدا . فَقالَ عَلِيٌّ رضى الله عنه : يَابنَ الكَوّاءِ ، مَا الَّذي نَقَمتُم عَلَيَّ بَعدَ رِضاكُم بِوِلايَتي ، وجِهادِكُم مَعي ، وطاعَتِكُم لي ؟ فَهلّا بَرِئتُم مِنّي يَومَ الجَمَلِ ؟ قالَ ابنُ الكَوّاءِ : لَم يَكُن هُناكَ تَحكيمٌ . فَقالَ عَلِيٌّ : يَابنَ الكَوّاءِ ، أنَا أهدى أم رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ قالَ ابنُ الكَوّاءِ : بَل رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله . قالَ : فَما سَمِعتَ قَولِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ» (3) ، أكانَ اللّهُ يَشُكَّ أنَّهُم هُمُ الكاذِبونَ ؟ قالَ : إنَّ ذلِكَ احتِجاجٌ عَلَيهِم ، وأنتَ شَكَكتَ في نَفسِكَ حينَ رَضيتَ بِالحَكَمَينِ ، فَنَحنُ أحرى أن نَشُكَّ فيكَ .
.
ص: 641
قالَ : وإنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «فَأْتُواْ بِكِتَ_بٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ» (1) . قالَ ابنُ الكَوّاءِ : ذلِكَ أيضا احتِجاجٌ مِنهُ عَلَيهِم . فَلَم يَزَل عَلِيٌّ عليه السلام يُحاجُّ ابنَ الكَوّاءِ بِهذا وشِبهِهِ ، فَقالَ ابنُ الكَوّاءِ : أنتَ صادِقٌ في جَميعِ ما تَقولُ ، غَيرَ أنَّكَ كَفَرتَ حينَ حَكَّمتَ الحَكَمَينِ . قالَ عَلِيٌّ : وَيحَكَ يَابنَ الكَوّاءِ ، إنّي إنَّما حَكَّمتُ أبا موسى وَحدَهُ ، وحَكَّمَ مُعاوِيَةُ عَمراً . قالَ ابنُ الكَوّاءِ : فَإِنَّ أبا موسى كانَ كافِراً . قالَ عَلِيٌّ : وَيحَكَ ، مَتى كَفَرَ ، أحينَ بَعَثتُهُ ، أم حينَ حَكَمَ ؟ قالَ : لا ، بَل حينَ حَكَمَ . قالَ : أفَلا تَرى أنّي إنَّما بَعَثتُهُ مُسلِما ، فَكَفَرَ _ في قَولِكَ _ بَعدَ أن بَعَثتُهُ ، أرَأَيتَ لَو أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَعَثَ رَجُلاً مِنَ المُسلِمينَ إلى اُناسٍ مِنَ الكافِرينَ لِيَدعُوَهُم إلَى اللّهِ ، فَدَعاهُم إلى غَيرِهِ ، هَل كانَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِن ذلِكَ شَيءٌ ؟ قالَ : لا . قالَ : وَيحَكَ ، فَما كانَ عَلِيَّ إن ضَلَّ أبو موسى ؟ أفَيَحِلُّ لَكُم بِضَلالَةِ أبي موسى أن تَضَعوا سُيوفَكُم عَلى عَواتِقِكُم فَتَعتَرِضوا بِهَا النّاسَ ؟ ! فَلَمّا سَمِعَ عُظَماءُ الخَوارِجِ ذلِكَ قالوا لِابنِ الكَوّاءِ : اِنصَرِف ، ودَع مُخاطَبَةَ الرَّجُلِ . فَانصَرَفَ إلى أصحابِهِ ، وأبَى القَومُ إلَا التَّمادِيَ فِي الغَيِّ (2) .
.
ص: 642
الكامل للمبرّد_ في ذِكرِ الخَوارِجِ _: يُروى أنَّ عَلِيّا في أوَّلِ خُروجِ القَومِ عَلَيهِ دَعا صَعصَعَةَ بنَ صوحانَ العَبدِيَّ _ وقَد كانَ وَجَّهَهُ إلَيهِم _ وزِيادَ بنَ النَّضرِ الحارِثِيَّ مَعَ عَبدِ اللّهِ بنِ العَبّاسِ ، فَقالَ لِصَعصَعَةَ : بِأَيِّ القَومِ رَأَيتَهُم أشَدَّ إطافَةً ؟ فَقالَ : بِيَزيدَ بنِ قَيسٍ الأَرحَبِيِّ . فَرَكِبَ عَلِيٌّ إلَيهِم إلى حَرَوراءَ ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُم حَتّى صارَ إلى مَضرِبِ يَزيدَ بنِ قَيسٍ ، فَصَلّى فيهِ رَكعَتَينِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَاتَّكَأَ عَلى قَوسِهِ ، وأقبَلَ عَلَى النّاسِ ، ثُمَّ قالَ : هذا مَقامٌ مَن فَلَجَ فيهِ فَلَجَ يَومَ القِيامَةِ ، أنشُدُكُمُ اللّهَ ، أعَلِمتُم أحَدا مِنكُم كانَ أكرَهُ لِلحُكومَةِ مِنّي ؟ قالوا : اللّهُمَّ لا . قال : أ فَعَلِمتُم أنَّكُم أكرَهتُموني حَتّى قَبِلتُها ؟ قالوا : اللّهُمَّ نَعَم . قالَ : فَعَلامَ خالَفتُموني ونابَذتُموني ؟ قالوا : إنّا أتَينا ذَنبا عَظيما ، فَتُبنا إلَى اللّهِ ، فَتُب إلَى اللّهِ مِنهُ وَاستَغفِرهُ نَعُد لَكَ . فَقالَ عَلِيٌّ : إنّي أستَغفِرُ اللّهَ مِن كُلِّ ذَنبٍ . فَرَجَعوا مَعَهُ ، وهُم سِتَّةُ آلافٍ . فَلَمَّا استَقَرّوا بِالكوفَةِ أشاعوا أنَّ عَلِيّا رَجَعَ عَنِ التَّحكيمِ ورَآهُ ضَلالاً ، وقالوا : إنَّما يَنتَظِرُ أميرُ المُؤمِنينَ أن يَسمَنَ الكُراعُ ، ويُجبَى المالُ ، فَيَنهَضَ إلَى الشّامِ . فَأَتَى الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ عَلِيّا فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ النّاسَ قَد تَحَدَّثوا أنَّكَ رَأَيتَ الحُكومَةَ ضَلالاً ، والإِقامَةَ عَلَيها كُفرا ! فَخَطَبَ عَلِيٌّ النّاسَ فَقالَ : مَن زَعَمَ أنّي رَجَعتُ عَنِ الحُكومَةِ فَقَد كَذَبَ ، ومَن رَآها ضَلالاً فَهُوَ أضَلُّ . فَخَرَجَتِ الخَوارِجُ مِنَ المَسجِدِ ، فَحَكَّمَت ، فَقيلَ لِعَلِيٍّ : إنَّهُم خارِجونَ عَلَيكَ .
.
ص: 643
فَقالَ : لا اُقاتِلُهُم حَتّى يُقاتِلوني ، وسَيَفعَلونَ (1) .
تاريخ الطبري عن عمارة بن ربيعة_ في ذِكرِ الخَوارِجِ _: بَعَثَ عَلِيٌّ زِيادَ ابنَ النَّضرِ إلَيهِم فَقالَ : اُنظُر بِأَيِّ رُؤوسِهِم هُم أشَدُّ إطافَةً . فَنَظَرَ ، فَأَخبَرَهُ أنَّهُ لَم يَرَهُم عِندَ رَجُلٍ أكثَرَ مِنهُم عِندَ يَزيدَ بنَ قَيسٍ . فَخَرَجَ عَلِيٌّ فِي النّاسِ حَتّى دَخَلَ إلَيهِم ، فَأَتى فُسطاطَ يَزيدَ بنِ قَيسٍ ، فَدَخَلَهُ فَتَوَضَّأَ فيهِ ، وصَلّى رَكعَتَينِ ، وأمَّرَهُ عَلى أصبَهانَ (2) وَالرَّيِّ (3) . ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انتَهى إلَيهِم وهُم يخُاصِمونَ ابنَ عَبّاسٍ ، فَقالَ : اِنتَهِ عَن كَلامِهِم ، أ لَم أنهَكَ رَحِمَكَ اللّهُ ! ثُمَّ تَكَلَّمَ فَحَمِدَ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : اللّهُمَّ إنَّ هذا مَقامٌ مَن أفلَجَ فيهِ كانَ أولى بِالفُلجِ يَومَ القِيامَةِ ، ومَن نَطَقَ فيهِ وأوعَثَ (4) فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أعمى وأضَلُّ سَبيلاً . ثُمَّ قالَ لَهُم : مَن زَعيمُكُم ؟ قالوا : ابِنُ الكَوّاءِ . قالَ عَلِيٌّ : فَما أخرَجَكُم عَلَينا ؟ قالوا : حُكومَتُكُم يَومَ صِفّينَ . قالَ : أنشُدُكُم بِاللّهِ ، أ تَعلَمونَ أنَّهُم حَيثُ رَفَعُوا المَصاحِفَ ، فَقُلتُم : نُجيبُهُم إلى كِتابِ اللّهِ ، قُلتُ لَكُم : إنّي أعلَمُ بِالقَومِ مِنكُم ، إنَّهُم لَيسوا بِأَصحابِ دينٍ ولا قُرآنٍ،
.
ص: 644
إنّي صَحِبتُهُم وعَرَفتُهُم أطفالاً ورِجالاً ، فَكانوا شَرَّ أطفالٍ وشَرَّ رِجالٍ . اِمضُوا عَلى حَقِّكُم وصِدقِكُم ، فَإِنَّما رَفَعَ القَومُ هذِهِ المَصاحِفَ خَديعَةً ودَهنا (1) ومَكيدَةً ، فَرَدَدتُم عَلَيَّ رَأيي ، وقُلتُم : لا ، بَل نَقبَلُ مِنهُم . فَقُلتُ لَكُم : اُذكُروا قَولي لَكُم ، ومَعصِيَتَكُم إيّايَ ، فَلَمّا أبَيتُم إلَا الكِتابَ اشتَرَطتُ عَلَى الحَكَمَينِ أن يُحييا ما أحيَا القُرآنُ ، وأن يُميتا ما أماتَ القُرآنُ ، فَإِن حَكَما بِحُكمِ القُرآنِ فَلَيسَ لَنا أن نُخالِفُ حَكَما يَحكُمُ بِما فِي القُرآنِ ، وإن أبَيا فَنَحنُ مِن حُكمِهِما بُرَآءُ . قالوا لَهُ : فَخَبِّرنا أ تَراهُ عَدلاً تَحكيمَ الرّجالِ فِي الدِّماءِ ؟ فَقالَ : إنّا لَسنا حَكَّمَنَا الرِّجالَ ، إنَّما حَكَّمَنَا القُرآنَ ، وهذَا القُرآنُ إنَّما هُوَ خَطٌّ مَسطورٌ بَينَ دَفَّتَينِ لا يَنطِقُ ، إنَّما يَتَكَلَّمُ بِهِ الرِّجالُ . قالوا : فَخَبِّرنا عَنِ الأَجَلِ ، لِمَ جَعَلتَهُ فيما بَينَكَ وبَينَهُم ؟ قالَ : لِيَعلَمَ الجاهِلُ ، ويَتَثَبَّتَ العالِمُ ، ولَعَلَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ يُصلِحُ في هذِهِ الهُدنَةِ هذِهِ الاُمَّةَ . اُدخُلوا مِصرَكُم رَحِمَكُمُ اللّهُ . فَدَخَلوا مِن عِندِ آخِرِهِم (2) .
العقد الفريد_ في ذِكرِ كَلامِ الإِمامِ مَعَ ابنِ الكَوّاءِ _: فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ : يَابنَ الكَوّاءِ ، إنَّهُ مَن أذنَبَ في هذَا الدّينِ ذَنبا يَكونُ فِي الإِسلامِ حَدَثا استَتَبناهُ مِن ذلِكَ الذَّنبِ بِعَينِهِ ، وإنَّ تَوبَتَكَ أن تَعرِفَ هُدى ما خَرَجتَ مِنهُ ، وضَلالَ ما دَخَلتَ فيهِ . قالَ ابنُ الكَوّاءِ : إنَّنا لا نُنكِرُ أنّا قَد فُتِنّا . فَقالَ لَهُ عَبدُ اللّهِ بنُ عَمرِو بنِ جُرموزٍ : أدرَكنا وَاللّهِ هذِهِ الآيَةَ: «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ» (3) _ وكانَ عَبدُ اللّهِ مِن قُرّاءِ أهلِ حَرَوراءَ _ . فَرَجَعوا فَصَلّوا خَلفَ عَلِى ¨ٍّ
.
ص: 645
الظُّهرَ ، وَانصَرَفوا مَعَهُ إلَى الكوفَةِ . ثُمَّ اختَلَفوا بَعدَ ذلِكَ في رَجعَتِهِم ، ولامَ بَعضُهُم بَعضا (1) .
3 / 5صَبرُ الإِمامِ عَلى أذاهُم ورِفقُهُ بِهِمتاريخ الطبري عن أبي رزين :لَمّا وَقَعَ التَّحكيمُ ورَجَعَ عَلِيٌّ مِن صِفّينَ رَجَعوا مُبايِنينَ لَهُ ، فَلَمّا انتَهَوا إلى النَّهرِ أقاموا بِهِ ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ فِي النّاسِ الكوفَةَ ، ونَزَلوا بِحَرَوراءَ ، فَبَعَثَ إلَيهِم عَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ ، فَرَجَعَ ولَم يَصنَع شَيئا . فَخَرَجَ إلَيهِم عَلِيٌّ فَكَلَّمَهُم حَتّى وَقَعَ الرِّضا بَينَهُ وبَينَهُم ، فَدَخَلُوا الكوفَةَ . فَأَتاهُ رَجُلٌ فَقالَ : إنَّ النّاسَ قَد تَحَدَّثوا أنَّكَ رَجَعتَ لَهُم عَن كُفرِكَ . فَخَطَبَ النّاسَ في صَلاةِ الظُّهرِ ، فَذَكَرَ أمرَهُم ، فَعابَهُ ، فَوَثَبوا مِن نَواحِي المَسجِدِ يَقولونَ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ . وَاستَقبَلَهُ رَجُلٌ مِنهُم واضِعٌ إصبَعَيهِ في اُذُنَيهِ ، فَقالَ : «وَ لَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَ_ئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَ_سِرِينَ » (2) . فَقالَ عَلِيٌّ : «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ » (3) . (4)
الإمام الصادق عليه السلام :إنَّ عَلِيّا عليه السلام كانَ في صَلاةِ الصُّبحِ فَقَرَأَ ابنُ الكَوّا وهُوَ خَلفَهُ : «وَ لَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَ_ئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَ_سِرِينَ » . فَأَنصَتَ عَلِيٌّ عليه السلام ؛ تَعظيما لِلقُرآنِ حَتّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ ، ثُمَّ عادَ فى ¨
.
ص: 646
قِراءَتِهِ ، ثُمَّ أعادَ ابنُ الكَوَّا الآيَةَ ، فَأَنصَتَ عَلِيٌّ عليه السلام أيضا ، ثُمَّ قَرَأَ ، فَأَعادَ ابنُ الكَوّا فَأَنصَتَ عَلِيٌّ عليه السلام ، ثُمَّ قالَ : «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ» ، ثُمَّ أتَمَّ السّورةَ ، ثُمَّ رَكَعَ (1) .
مروج الذهب عن الصلت بن بهرام :لَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ الكوفَةَ جَعَلَتِ الحَرَورِيَّةُ تُناديهِ وهُوَ عَلَى المِنبَرِ : جَزِعتَ مِنَ البَلِيَّةِ ، ورَضيتَ بِالقَضِيَّةِ ، وقَبِلتَ الدَّنِيَّةَ ، لا حُكمَ إلّا للّهِِ . فَيَقولُ : حُكمَ اللّهِ أنتَظِرُ فيكُم . فَيَقولونَ : «وَ لَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَ_ئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَ_سِرِينَ » . فَيَقولُ عَلِيٌّ : «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ» (2) .
تاريخ الطبري عن كثير بن بهز الحضرمي :قامَ عَلِيٌّ فِي النّاسِ يَخطُبُهُم ذاتَ يَومٍ ، فَقالَ رَجُلٌ _ مِن جانِبِ المَسجِدِ _ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ . فَقامَ آخَرُ فَقالَ مِثلَ ذلِكَ ، ثُمَّ تَوالى عِدَّةُ رِجالٍ يُحَكِّمونَ . فَقالَ عَلِيٌّ : اللّهُ أكبَرُ ، كَلِمَةُ حَقٍّ يُلتَمَسُ بِها باطِلٌ ! أما إنَّ لَكُم عِندَنا ثَلاثا ما صَحِبتُمونا : لا نَمنَعُكُم مَساجِدَ اللّهِ أن تَذكُروا فيهَا اسمَهُ ، ولا نَمنَعُكُمُ الفَيءَ ما دامَت أيديكُم مَعَ أيدينا ، ولا نُقاتِلُكُم حَتّى تَبدَؤونا . ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكانِهِ الَّذي كانَ فيهِ مِن خُطبَتِهِ (3) .
.
ص: 647
دعائم الإسلام :خَطَبَ [عَلِيٌّ عليه السلام ] بِالكوفَةِ فَقامَ رَجُلٌ مِنَ الخَوارِجِ فَقالَ : لا حُكمَ إلّا للّهِِ . فَسَكَتَ عَلِيٌّ ، ثُمَّ قامَ آخَرُ وآخَرُ ، فَلَمّا أكثَروا عَلَيهِ قالَ : كَلِمَةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطِلٌ ، لَكُم عِندَنا ثَلاثُ خِصالٍ : لا نَمنَعُكُم مَساجِدَ اللّهَ أن تُصَلّوا فيها ، ولا نَمنَعُكُمُ الفَيءَ ما كانَت أيديكُم مَعَ أيدينا ، ولا نَبدَؤُكُم بِحَربٍ حَتّى تَبدَؤونا بِهِ ، وأشهَدُ لَقَد أخبَرَنِي النَّبِيُّ الصّادِقُ عَنِ الرّوحِ الأَمينِ عَن رَبِّ العالَمينَ أنَّهُ لا يَخرُجُ عَلَينا مِنكُم فِرقَةٌ _ قَلَّت أو كَثُرَت إلى يَومِ القِيامَةِ _ إلّا جَعَلَ اللّهُ حَتفَها عَلى أيدينا ، وأنَّ أفضَلَ الجِهادِ جِهادُكُم ، وأفضَلَ الشُّهَداءِ مَن قَتَلتُموهُ ، وأفضَلَ المُجاهِدينَ مَن قَتَلَكُم ؛ فَاعمَلوا ما أنتُم عامِلونَ ، فَيَومَ القِيامَةِ يَخسَرُ المُبطِلونَ ، و «لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » (1)(2) .
تاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة الحنفي :إنَّ عَلِيّا خَرَجَ ذاتَ يَومٍ يَخطُبُ ، فَإِنَّهُ لَفي خُطبَتِهِ إذ حَكَّمَتِ المُحَكَّمَةُ في جَوانِبِ المَسجِدِ ، فَقالَ عَلِيٌّ : اللّهُ أكبَرُ ، كَلِمَةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطِلٌ ! إن سَكَتوا عَمَّمناهُم ، وإن تَكَلَّموا حَجَجناهمُ ، وإن خَرَجوا عَلَينا قاتَلناهُم . فَوَثَبَ يَزيدُ بنُ عاصِمٍ المُحارِبِيُّ فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ غَيرَ مُوَدَّعٍ رَبُّنا ، ولا مُستَغنىً عَنهُ . اللّهُمَّ ، إنّا نَعوذُ بِكَ مِن إعطاءِ الدَّنِيَّةِ في دِينِنا ؛ فَإِنَّ إعطاءَ الدَّنِيَّةِ فِي الدّينِ إدهانٌ في أمرِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وذُلُّ راجِعٌ بِأَهلِهِ إلى سَخَطِ اللّهِ . يا عَلِيُّ ، أبِالقَتلِ تُخَوِّفُنا ؟ أما وَاللّهِ ، إنّي لَأَرجو أن نَضرِبَكُم بِها عَمّا قَليلٍ غَيرَ مُصفَحاتٍ ، ثُمَّ لَتَعلَمَنَّ أيُّنا أولى بِها صِلِيّا . ثمّ خَرَجَ بِهِم هُوَ وإخوَةٌ لَهُ ثَلاثَةٌ هُوَ رابِعُهُم فَاُصيبوا مَعَ الخَوارِجِ بِالنَّهرِ ، واُصيبَ أحَدُهُم بَعدَ ذلِكَ بِالنُّخَيلَةِ (3) .
.
ص: 648
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ فِي الخَوارِجِ لَمّا سَمِعَ قَولَهُم : لا حُكمَ إلّا للّهِِ _: كَلِمَةُ حَقٍّ يُرادُ بِها باطِلٌ ! نَعَم ، إنَّهُ لا حُكمَ إلّا للّهِِ ، ولكِن هؤُلاءِ يَقولونَ : لا إمرَةَ إلّا للّهِِ ، وإنَّهُ لابُدَّ لِلنّاسِ مِن أميرٍ ؛ بَرٍّ أو فاجِرٍ ؛ يَعمَلُ في إمرَتِهِ المُؤمِنُ ، ويَستَمتِعُ فيهَا الكافِرُ ، ويُبَلِّغُ اللّهُ فيهَا الأَجَلَ ، ويُجمَعُ بِهِ الفَيءُ ، ويُقاتَلُ بِهِ العَدُوُّ ، وتَأمَنُ بِهِ السُّبُلُ ، ويُؤخَذُ بِهِ لِلضَّعيفِ مِنَ القَوِيِّ ، حَتّى يَستَريحَ بَرٌّ ، ويُستَراحَ مِن فاجِرٍ (1) .
نهج البلاغة :رُوِيَ أنَّهُ عليه السلام كانَ جالِسا في أصحابِهِ ، فَمَرَّت بِهِمُ امرَأَةٌ جَميلَةٌ ، فَرَمَقَها القَومُ بِأَبصارِهِم ، فَقالَ عليه السلام : إنَّ أبصارَ هذِهِ الفُحولِ طَوامِحُ ، وإنَّ ذلِكَ سَبَبُ هَبابِها (2) ، فَإِذا نَظَرَ أحَدُكُم إلَى امرَأَةٍ تُعجِبُهُ فَليُلامِس أهلَهُ ، فَإِنَّما هِيَ امرَأَةٌ كَامرَأَتِهِ . فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الخَوارِجِ : قاتَلَهُ اللّهُ ، كافِرا ما أفقَهَهُ ! فَوَثَبَ القَومُ لِيَقتُلوهُ . فَقالَ عليه السلام : رُوَيدا ؛ إنَّما هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ ، أو عَفوٌ عَن ذَنبٍ (3) .
3 / 6بَيعَتُهُم عَبدَ اللّهِ بنَ وَهبٍتاريخ الطبري عن عبد الملك بن أبي حرّة :إنَّ عَلِيّا لَمّا بَعَثَ أبا موسى لِاءِنفاذِ الحُكومَةِ لَقِيَتِ الخَوارِجُ بَعضُها بَعضا ، فَاجتَمَعوا في مَنزِلِ عَبدِ اللّهِ بنِ وَهَبٍ الرّاسِبِيِّ ، فَحَمِدَ اللّهَ عَبدُ اللّهِ بنُ وَهبٍ وأثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قالَ : أمّا بَعدُ ، فَوَاللّهِ مايَنبَغي لِقَومٍ يُؤمِنونَ بِالرَّحمنِ ويُنيبونَ إلى حُكمِ القُرآنِ أن تَكونَ هذِهِ الدّنيَا _ الَّتِي الرِّضا بِها وَالرُّكونُ بِها وَالإِيثارُ إيّاها عَناءٌ وتَبارٌ _ آثَرَ عِندَهُم مِنَ الأَمرِ بِالمَعروفِ ، وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَالقَولِ بِالحَقِّ ، وإن مُنَّ وضُرَّ فَإِنَّهُ مَن يُمَنُّ ويُضَرُّ في هذِهِ الدُّنيا فَإِنَّ ثوابَهُ يَومَ القيامَة
.
ص: 649
رِضوانُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وَالخُلودُ في جَنّاتِهِ . فَاخرُجوا بِنا إخوانَنا مِن هذِهِ القَريَةِ الظّالِمِ أهلُها إلى بَعضِ كُوَرِ الجِبالِ ، أو إلى بَعضِ هذِهِ المَدائِنِ ، مُنكِرينَ لِهذِهِ البِدَعِ المُضِلَّةِ . فَقالَ لَهُ حُرقوصُ بنُ زُهَيرٍ : إنَّ المَتاعَ بِهذِهِ الدُّنيا قَليلٌ ، وإنَّ الفِراقَ لَها وَشيكٌ ، فَلا تَدعُوَنَّكُم زينَتُها وبَهجَتُها إلَى المُقامِ بِها ، ولا تَلفِتَنَّكُم عَن طَلَبِ الحَقِّ ، وإنكارِ الظُّلمِ ، فَإِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ . فَقالَ حَمزَةُ بنُ سِنانٍ الأَسدِيُّ : يا قَومُ ! إنَّ الرَّأيَ ما رَأَيتُم ، فَوَلّوا أمرَكُم رَجُلاً مِنكُم ، فَإِنَّهُ لابُدَّ لَكُم مِن عِمادٍ وسِنادٍ ورايَةٍ تَحُفّونَ بِها ، وتَرجِعونَ إلَيها . فَعَرَضوها عَلى زَيدِ بنِ حُصَينٍ الطاّئِيِّ ، فَأَبى ، وعَرَضوها عَلى حُرقوصِ بنِ زُهَيرٍ ، فَأَبى ، وعَلى حَمزَةَ بنِ سِنانٍ وشُرَيحِ بنِ أوفَى العَبِسيِّ ، فَأَبَيا ، وعَرَضوها عَلى عَبدِ اللّهِ بنِ وَهبٍ ، فَقالَ: هاتوها ، أما وَاللّهِ لا آخُذُها رَغبَةً فِي الدُّنيا ، ولا أدَعُها فَرَقا (1) مِنَ المَوتِ . فَبايَعوهُ لِعَشرٍ خَلَونَ مِن شَوّالٍ ، وكانَ يُقالُ لَهُ : ذُو الثَّفِناتِ . ثُمَّ اجتَمَعوا في مَنزِلِ شُرَيحِ بنِ أوفَى العَبسِيِّ ، فَقالَ ابنُ وَهبٍ : اِشخَصوا بِنا إلى بَلدَةٍ نَجتَمِعُ فيها لِاءِنفاذِ حُكمِ اللّهِ ، فَإِنَّكُم أهلُ الحَقِّ . قالَ شُرَيحٌ : نَخرُجُ إلَى المَدائِنِ فَنَنزِلُها ، ونَأخُُذ بِأَبوابِها ، ونُخرِجُ مِنها سُكّانَها ، ونَبعَثُ إلى إخوانِنا مِن أهلِ البَصرَةِ فَيَقدَمونَ عَلَينا . فَقالَ زَيدُ بنُ حُصَينٍ : إنَّكُم إن خَرَجتُم مُجتَمِعينَ اتُّبِعتُم ، ولكِنِ اخرُجوا وُحدانا مُستَخفينَ ، فَأَمَّا المَدائِنُ فَإِنَّ بِها مَن يَمنَعُكُم ، ولكِن سيروا حَتّى تَنزِلوا جِسرَ النَّهرَوانِ وتُكاتِبوا إخوانَكُم مِن أهلِ البَصرَةِ . قالوا : هذَا الرَّأيُ . وكَتَبَ عَبدُ اللّهِ بنُ وَهبٍ إلى مَن بِالبَصرَةِ مِنهُم يُعلِمُهُم مَا اجتَمَعوا عَلَيهِ ، ويَحُثُّهُم عَلَى اللِّحاقِ بِهِم ، وسَيَّرَ الكِتابَ إلَيهِم ، فَأَجابوهُ أنَّهُم عَلَى اللِّحاقِ بِهِ .
.
ص: 650
فَلَمّا عَزَموا عَلَى المَسيرِ تَعَبَّدوا لَيلَتَهُم ؛ وكانَت لَيلَةُ الجُمُعَةِ ويَومُ الجُمُعَةِ ، وساروا يَومَ السَّبتِ ، فَخَرَجَ شُرَيحُ بنُ أوفَى العَبسِيُّ وهُوَ يَتلو قَولَ اللّهِ تَعالى : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّ__لِمِينَ * وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ» (1) . (2)
3 / 7قَتلُهُمُ ابنَ خَبّابٍ واَمرَأَتَهُ وهِيَ حُبلىمسند ابن حنبل عن أيّوب عن حميد بن هلال عن رجل من عبد القيس كان من الخوارج ثمّ فارقهم قال :دَخَلوا قَريَةً ، فَخَرَجَ عَبدُ اللّهِ بنُ خَبّابٍ ، ذَعِرا يَجُرُّ رِداءَهُ ، فَقالوا : لَم تُرَعْ ، قالَ : وَاللّهِ لَقَد رُعتَموني ! قالوا : أنتَ عَبدُ اللّهِ بنُ خَبّابٍ صاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ قالَ : نَعَم . قالوا (3) : فَهَل سَمِعتَ مِن أبيكَ حَديثا يُحَدِّثُهُ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله تُحَدِّثُناهُ ؟ قالَ : نَعَم ، سَمِعتُهُ يُحَدِّثُ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنَّهُ ذَكَرَ فِتنَةً ، القاعِدُ فيها خَيرٌ مِنَ القائِمِ ، وَالقائِمُ فيها خَيرٌ مِنَ الماشي ، وَالماشي فيها خَيرٌ مِنَ السّاعي . قالَ : فَإِن أدرَكتَ ذلِكَ فَكُن عَبدَ اللّهِ المَقتولَ _ قالَ أيّوبُ : ولا أعلَمُهُ إلّا قالَ : ولا تَكُن عَبدَ اللّهِ القاتِلَ _. قالوا : أ أنتَ سَمِعتَ هذا مِن أبيكَ يُحَدِّثُهُ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ قالَ : نَعَم .
.
ص: 651
قالَ : فَقَدَّموهُ عَلى ضَفَّةِ النَّهرِ ، فَضَرَبوا عُنُقَهُ ، فَسالَ دَمُهُ كَأَنَّهُ شِراكُ نَعلٍ مَا ابذَقَرَّ (1) ، وبَقَروا اُمَّ وَلَدِهِ عَمّا في بَطنِها (2) .
تاريخ الطبري عن حميد بن هلال :إنَّ الخارِجَةَ الَّتي أقبَلَت مِنَ البَصرَةِ جاءَت حَتّى دَنَت مِن إخوانِها بِالنَّهرِ ، فَخَرَجَت عِصابَةٌ مِنهُم ، فَإِذا هُم بِرَجُلٍ يَسوقُ بِامرَأَةٍ عَلى حِمارٍ ، فَعَبَروا إلَيهِ ، فَدَعَوهُ ، فَتَهَدَّدوهُ وأفزَعوهُ ، وقالوا لَهُ : مَن أنتَ ؟ قالَ : أنَا عَبدُ اللّهِ بنُ خَبّابٍ صاحِبِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله . ثُمَّ أهوى إلى ثَوبِهِ يَتَناوَلُهُ مِنَ الأَرضِ ، وكانَ سَقَطَ عَنهُ لَمّا أفزَعوهُ . فَقالوا لَهُ : أفزَعناكَ ؟ قالَ : نَعَم . قالوا لَهُ : لا رَوعَ عَلَيكَ ، فَحَدِّثنا عَن أبيكَ بِحَديثٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ؛ لَعَلَّ اللّهَ يَنفَعُنا بِهِ . قالَ : حَدَّثَني أبي عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنَّ فِتنَةً تَكونُ ، يَموتُ فيها قَلبُ الرَّجُلِ كَما يَموتُ فيها بَدَنُهُ ، يُمسي فيها مُؤمِنا ويُصبِحُ فيها كافِرا ، ويُصبِحُ فيها كافِرا ويُمسي فيها مُؤمِنا . فَقالوا : لِهذَا الحَديثِ سَأَلناكَ ، فَما تَقولُ في أبي بَكرٍ وعُمَرَ ؟ فَأَثنى عَلَيهِما خَيرا .
.
ص: 652
قالوا : ما تَقولُ في عُثمانَ ، في أوَّلِ خَلافَتِهِ وفي آخِرِها ؟ قالَ : إنَّهُ كانَ مُحِقّا في أوَّلِها وفي آخِرِها . قالوا : فَما تَقولُ في عَلِيٍّ قَبلَ التَّحكيمِ وبَعدَهُ ؟ قالَ : إنَّهُ أعلَمُ بِاللّهِ مِنكُم ، وأشَدُّ تَوَقِّيا عَلى دينِهِ ، وأنفَذُ بَصيرَةً . فَقالوا : إنَّكَ تَتَّبِعُ الهَوى ، وتُوالِي الرِّجالَ عَلى أسمائِها لا عَلى أفعالِها ، وَاللّهِ لَنَقتُلَنَّكَ قِتلَةً ما قَتَلناها أحَدا . فَأَخَذوهُ فَكَتَفوهُ ، ثُمَّ أقبَلوا بِهِ وبِامرَأَتِهِ وهِيَ حُبلى مُتِمٌّ (1) ، حَتّى نَزَلوا تَحتَ نَخلٍ مَواقِرَ ، فَسَقَطَت مِنهُ رُطَبَةٌ ، فَأَخَذَها أحَدُهُم فَقَذَفَ بِها في فَمِهِ ، فَقالَ أحَدُهُم : بِغَيرِ حِلِّها وبِغَيرِ ثَمَنٍ ! فَلَفَظَها وألقاها مِن فَمِهِ . ثُمَّ أخَذَ سَيفَهُ ؛ فَأَخَذَ يَمينَهَ فَمَرَّ بِهِ خِنزيرٌ لِأَهلِ الذِّمَّةِ ، فَضَرَبَهُ بِسَيفِهِ ، فَقالوا : هذا فَسادٌ فِي الأَرضِ ! فَأَتى صاحِبُ الخِنزيرِ فَأَرضاهُ مِن خِنزيرِهِ . فَلَمّا رَأى ذلِكَ مِنهُمُ ابنُ خَبّابٍ قالَ : لَئِن كُنتُم صادِقينَ فيما أرى فَما عَلَيَّ مِنكُم بَأسٌ ، إنّي لَمُسلِمٌ ، ما أحدَثتُ فِي الإِسلامِ حَدَثا ، ولَقَد أمَّنتُموني ؛ قُلتُم : لا رَوعَ عَلَيكَ . فَجاؤوا بِهِ فَأَضجَعوهُ ، فَذَبَحوهُ ، وسالَ دَمُهُ فِي الماءِ . وأقبَلوا إلَى المَرأَةِ ، فَقالَت : إنّي إنَّما أنَا امرَأَةٌ ، أ لا تَتَّقونَ اللّهَ ! فَبَقَروا بَطنَها ، وقَتَلوا ثَلاثَ نِسوَةٍ مِن طَيِّءٍ ، وقَتَلوا اُمَّ سِنانٍ الصَّيداوِيَّةَ (2) .
.
ص: 653
الفهرس التفصيلي .
ص: 654
. .
ص: 655
. .
ص: 656
. .
ص: 657
. .
ص: 658
. .
ص: 659
. .
ص: 660
. .
ص: 661
. .
ص: 662
. .
ص: 663
. .
ص: 664
. .
ص: 665
. .
ص: 666
. .
ص: 667
. .
ص: 668
. .
ص: 669
. .
ص: 670
. .