سرشناسه:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق.
عنوان و نام پديدآور: منتهی المطلب فی تحقیق المذهب / للعلامه الحلی الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر؛ تحقیق قسم الفقه فی مجمع البحوث الاسلامیه.
مشخصات نشر: مشهد : آستان قدس رضوی بنیاد پژوهش های اسلامی، 1414ق.= 1994م.= -1373
مشخصات ظاهری:15 ج.
شابک:19000 ریال:ج.7: 964-444-293-8
وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری
يادداشت: عربی.
يادداشت:فهرستنویسی براساس جلد ششم.
يادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1421ق. = 1379).
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.
یادداشت:نمایه.
موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.
موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه
شناسه افزوده:مجمع البحوث الاسلامية
رده بندی کنگره:BP182/3/ع8م8 1373
رده بندی دیویی:297/342
شماره کتابشناسی ملی:2559784
ص :1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص :2
منتهی المطلب فی تحقیق المذهب
للعلامه الحلی الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر
تحقیق قسم الفقه فی مجمع البحوث الاسلامیه.
ص :3
سرشناسه:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق.
عنوان و نام پديدآور: منتهی المطلب فی تحقیق المذهب / للعلامه الحلی الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر؛ تحقیق قسم الفقه فی مجمع البحوث الاسلامیه.
مشخصات نشر: مشهد : آستان قدس رضوی بنیاد پژوهش های اسلامی، 1414ق.= 1994م.= -1373
مشخصات ظاهری:15 ج.
شابک:19000 ریال:ج.7: 964-444-293-8
وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری
يادداشت: عربی.
يادداشت:فهرستنویسی براساس جلد ششم.
يادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1421ق. = 1379).
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.
یادداشت:نمایه.
موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.
موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه
شناسه افزوده:مجمع البحوث الاسلامية
رده بندی کنگره:BP182/3/ع8م8 1373
رده بندی دیویی:297/342
شماره کتابشناسی ملی:2559784
ص :4
ص :5
ص :6
في الجهاد و سيرة الإمام
و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
و فيه مقاصد:
فيمن يجب عليه
و فيه مباحث:
ص:7
ص:8
في وجوب الجهاد
نزل عليه جبرئيل عليه السلام،فقال له: اِقْرَأْ فقال:«و ما أقرأ؟»قال: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)ففزع من ذلك و خاف على نفسه،فمضى إلى خديجة رضي اللّه عنها (2)، فأخبرها الخبر و قال:«زمّلوني و دثّروني»فنزل عليه يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (3)و يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (4)(5)ثمّ نزل عليه وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (6).
رتّب اللّه تعالى له الإنذار،فأمره بتكليف أهله أوّلا،فقال: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
ص:9
وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها (1)ثمّ كلّفه إنذار العشيرة-الذين هم أعمّ من الأهل-بقوله وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (2)ثمّ عمّم التكليف بقوله: وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها (3).
ثمّ زاد التعميم بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ (4).و قال: وَ أَنْذِرِ النّاسَ (5).
فلمّا كلّفه أوّلا بإنذار العشيرة،اتّبعه عليّ و خديجة و فاطمة عليهم السلام، و جماعة على الإسلام.
و فرض اللّه تعالى الصلاة بمكّة،ثمّ أذن لهم في الهجرة،فمنهم من هاجر إلى الحبشة،و منهم من هاجر إلى المدينة،و هاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، ثمّ فرض اللّه تعالى الصوم بعد سنتين من الهجرة،و فرض الحجّ في السنة السادسة بقوله: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (6)،و قيل:في سنة خمس (7).
و أمّا الزكاة:فقيل:أوجبها بعد الصيام،و قيل:قبله (8).
و أمّا الجهاد:فلم يؤذن له بمكّة،فلمّا هاجر،أمره اللّه تعالى في القتال لمن يبدأ به،فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (9).
فلمّا قويت شوكة المسلمين و كثروا،فرض اللّه تعالى الجهاد،فقال تعالى:
ص:10
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (1)الآية،و قد كثرت الآيات الواردة في القرآن بوجوب (2)الجهاد.
به يتمّ نظام العالم،و حفظ الشرائع و الأديان،و قد ورد في القرآن آيات لا تحصى كثرة دالّة على وجوب الجهاد.
روى الجمهور عن ابن مسعود،قال:سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيّ الأعمال أفضل؟قال:«الصلاة لوقتها»قلت:ثمّ أيّ؟قال:«برّ الوالدين»قلت:ثمّ أيّ؟قال:«الجهاد في سبيل اللّه تعالى» (3).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن الأصبغ بن نباتة،قال:قال أمير المؤمنين عليه السلام:«كتب اللّه الجهاد على الرجال و النساء،فجهاد الرجل أن يبذل ماله و نفسه حتّى يقتل في سبيل اللّه،و جهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها و عشيرته» (4).
و قد أجمع المسلمون كافّة على وجوب الجهاد.
ص:11
في فضله
و فيه ثواب كثير و أجر عظيم،قال اللّه تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (1).
و روى الجمهور عن سهل بن سعد الساعديّ،عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«و الذي نفسي بيده[غدوة] (2)في سبيل اللّه أو روحة خير من الدنيا و ما فيها» (3).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن وهب (4)،عن أبيه،عن جعفر،عن أبيه
ص:12
عليهما السلام،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«إنّ جبرئيل عليه السلام أخبرني بأمر،قرّت به عيني و فرح به قلبي،قال:يا محمّد من غزا غزوة في سبيل اللّه من أمّتك فما أصابه قطرة من السماء أو صداع،إلاّ كانت له شهادة يوم القيامة» 1.
و عن حيدرة 2،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض» 3.
و عن السكونيّ،عن جعفر 4،عن أبيه،عن آبائه عليهم السلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«فوق كلّ ذي برّ برّ حتّى يقتل في سبيل اللّه،فإذا قتل في
ص:13
سبيل اللّه فليس فوقه برّ،و فوق كلّ عقوق عقوق حتّى يقتل أحد والديه[فإذا قتل أحد والديه] (1)فليس فوقه عقوق» (2).
و عن عثمان بن مظعون،قال:قلت:يا رسول اللّه إنّ نفسي تحدّثني بالسياحة و أن ألحق بالجبال،فقال:«يا عثمان لا تفعل،فإنّ سياحة أمّتي الغزو و الجهاد» (3).
و عن أبان،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:الخير كلّه في السيف،و تحت ظلّ السيف،و لا يقيم الناس إلاّ السيف و السيوف مقاليد (4)الجنّة و النار» (5).
و عن وهب،عن جعفر،عن أبيه عليهما السلام،قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:للجنّة باب يقال له:باب المجاهدين يمضون إليه،فإذا هو مفتوح و هم متقلّدون بسيوفهم و الجمع في الموقف و الملائكة تزجر (6)،فمن ترك الجهاد ألبسه اللّه تعالى ذلاّ و فقرا في معيشته و محقا في دينه،إنّ اللّه عزّ و جلّ أعزّ أمّتي بسنابك (7)خيلها و مركز رماحها» (8).و الأخبار في ذلك كثيرة.
ص:14
في كيفيّة وجوبه
إذا قام به البعض،سقط عن الباقين،و هو في الابتداء كفرض الأعيان يجب على الجميع،لكن يفارقه بأنّ فرض الأعيان لا يسقط بفعل البعض،بخلاف الواجب على الكفاية،فإنّ الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ،لا يسقط عن أحد بفعل (1)غيره.
و غسل الميّت و الصلاة عليه،يسقط بفعل البعض،و كذا الجهاد أيضا،ذهب إليه علماؤنا أجمع،و هو قول عامّة العلماء.
و حكي عن سعيد بن المسيّب أنّه قال:الجهاد واجب على الأعيان (2).
لنا:قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى (3).
و هو يدلّ على انتفاء الإثم عن القاعد،و لو كان واجبا عليه مع جهاد غيره، لاستحقّ الإثم.
و لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يبعث سراياه إلى الغزو و يقيم هو
ص:15
و أصحابه (1).
احتجّ المخالف:بقوله تعالى: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ (2)ثمّ قال: إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (3).
و قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ (4).
و روى أبو هريرة:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«من مات و لم يغز و لم يحدّث نفسه بالغزو،مات على شعبة من النفاق» (5). (6)
و الجواب عن الآية من وجوه:
أحدها:ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال:إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (7). (8)
الثاني:يحتمل أنّه أراد حين استنفرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى غزاة (9)تبوك،فكانت إجابتهم حينئذ واجبة،و لهذا هجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كعب بن مالك و أصحابه الذين خلّفوا حتّى تاب اللّه عليهم بعد ذلك (10).
الثالث:أنّا نقول بموجب الآية و لا دلالة فيها؛لأنّ الجهاد في الابتداء واجب
ص:16
على الأعيان؛لاستحالة تكليف غير المعيّن و عدم أولويّة المعيّن،فلم يبق إلاّ تكليف الجميع.نعم،إنّه يسقط بفعل البعض و لهذا لو لم يفعله أحد،اشتركوا بأجمعهم في العقاب،و لو لم يعمّ الوجوب لما استحقّوا بأسرهم العقاب.
و أمّا الحديث:فإنّا نقول بموجبه؛لأنّ الجهاد واجب،فمن تركه و ترك العزم عليه فعل حراما؛لأنّ العزم من أحكام الدين.
مسألة:و معنى الكفاية في الجهاد أن ينهض (1)له قوم يكفون في قتالهم،إمّا بأن يكونوا جندا معدّين للحرب و لهم أرزاق على ذلك على ما يأتي،أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له تبرّعا بحيث إذا قصدهم العدوّ،حصلت المنعة بهم.
قال الشيخ-رحمه اللّه-:و القدر الذي يسقط به فرض الجهاد عن الباقين أن يكون على كلّ طرف من أطراف بلاد الإسلام قوم يكونون أكفاء لمن يليهم من الكفّار،و على الإمام أن يغزو بنفسه أو بسراياه في كلّ سنة دفعة حتّى لا يتعطّل الجهاد،[اللهمّ] (2)إلاّ أن يعلموا خوفا فيكثر من ذلك (3).
زمان
و في مكان دون آخر.
أمّا الزمان:فإنّه كان جائزا في جميع السنة إلاّ في الأشهر الحرم،و هي رجب و ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم:لقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (4).
و أمّا المكان:فإنّ الجهاد كان سائغا في جميع البقاع إلاّ الحرم،فإنّ الابتداء
ص:17
بالقتال فيه كان محرّما؛لقوله تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ (1).
إذا عرفت هذا:فإنّ أصحابنا قالوا:إنّ تحريم القتال في أشهر الحرم باق إلى الآن لم ينسخ في حقّ من يرى للأشهر الحرم حرمة،و أمّا من لا يرى لها حرمة فإنّه يجوز قتاله فيها.
و ذهب جماعة من الجمهور إلى أنّهما منسوختان (2)بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (3). (4)و بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السلام إلى الطائف،فافتتحها في ذي القعدة (5).
و قال تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (6).
أمّا تحريم القتال في المسجد الحرام فإنّه منسوخ.
أوجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المهاجرة على من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام.
و اعلم أنّ الناس في الهجرة على أقسام ثلاثة:
أحدها:من تجب عليه،و هو من أسلم في بلاد الشرك و كان مستضعفا فيهم
ص:18
لا يمكنه إظهار دينه،و لا عذر له من مرض و غيره؛لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (1).
الثاني:من لا تجب عليه لكن تستحبّ له المهاجرة،و هو من أسلم بين المشركين،و له عشيرة تحميه عن المشركين،و يمكنه إظهار دينه،و يكون آمنا على نفسه مع مقامه بين ظهرانيّ المشركين،كالعبّاس و عثمان (2)و لهذا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الحديبيّة إلى أهل مكّة عثمان؛لأنّ عشيرته كانت أقوى بمكّة،و إنّما لم تجب عليه المهاجرة؛لتمكّنه من إظهار دينه و عدم مبالاته بهم، و إنّما استحبّت له؛لأنّ فيه تكثيرا لعددهم و اختلاطا بهم.
الثالث:من لا تجب عليه و لا تستحبّ له،و هو من كان له عذر يمنعه من المهاجرة:من مرض أو ضعف أو عدم نفقة أو غير ذلك،فلا جناح عليه؛لقوله تعالى: إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ (3).
و لأنّهم غير متمكّنين و كانوا بمنزلة المكرهين،فلا إثم عليهم،و لو تجدّدت له القدرة،وجبت عليه المهاجرة.
إذا ثبت هذا:فإنّ الهجرة (4)باقية ما دام الشرك باقيا؛لوجود المقتضي و هو الكفر الذي يعجز معه عن إظهار شعائر الإسلام.
و لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«لا تنقطع الهجرة حتّى تنقطع
ص:19
التوبة،و لا تنقطع التوبة حتّى تطلع الشمس من مغربها» (1).
و أمّا ما روي عنه عليه السلام أنّه قال:«لا هجرة بعد الفتح» (2)فله تأويلان:
أحدهما:أنّه أراد لا هجرة بعد الفتح،فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح؛لأنّ الهجرة قبل الفتح كانت أفضل منها بعد الفتح.و كذا الإنفاق؛لقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا (3).
الثاني:أنّه أراد:لا هجرة من مكّة؛لأنّها صارت دار الإسلام أبدا.
ص:20
فيمن يجب عليه و شرائط وجوبه
فلا يجب على المرأة إجماعا؛لما روت عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قالت:قلت:يا رسول اللّه هل على النساء جهاد؟فقال:«جهاد لا قتال فيه:الحجّ و العمرة» (1).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن الأصبغ بن نباتة،قال:قال أمير المؤمنين عليه السلام:«كتب اللّه الجهاد على الرجال و النساء،فجهاد الرجل أن يبذل ماله و نفسه حتّى يقتل في سبيل اللّه،و جهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها و عشيرته (2)» (3)و التفصيل في معنى الجهاد بينهما قاطع للشركة.
و لأنّها ليست من أهل القتال؛لضعفها و خورها،و لهذا لم يسهم لها من الغنيمة، و لا نعلم فيه خلافا.
الخنثى المشكل لا يجب عليه الجهاد؛
لأنّ الذكورة شرط الوجوب،و مع الشكّ في الشرط يحصل الشكّ في المشروط،مع أنّ الأصل العدم،أمّا من التحق بالرجال
ص:21
فإنّه يجب عليه الجهاد؛لأنّه ذكر.
فلا يجب على الصبيّ إجماعا.
روى ابن عمر،قال:عرضت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة بدر (1)و أنا ابن ثلاث عشرة سنة (2)فردّني (3).
و لأنّه غير مكلّف.و لأنّه ضعيف البنية،فيسقط عنه،و لا نعلم فيه خلافا.
فلا يجب على المجنون إجماعا؛لأنّه لا يتأتّى منه الجهاد.و لأنّه غير مكلّف،و هو وفاق.
و الحرّيّة شرط؛فلا يجب على العبد إجماعا؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يبايع الحرّ على الإسلام و الجهاد،و[يبايع] (4)العبد على الإسلام دون الجهاد (5).
و لأنّه عبادة يتعلّق بها قطع مسافة،فلا تجب على العبد،كالحجّ.و كذا لا يجب على المدبّر،و أمّ الولد،و المكاتب المشروط،و من انعتق بعضه؛لعدم الشرط في حقّهم كلّهم.
أمّا الإسلام فليس شرطا عندنا؛لأنّ الكفّار مخاطبون بفروع العبادات.
ص:22
لو أخرج الإمام العبيد بإذن ساداتهم،
و النساء و الصبيان،جاز (1)؛لحصول النفع بهم في إتيان المياه و مداواة الجرحى،و معالجتهم و الطبخ و ما يحتاجون إليه من المداواة (2)،و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يخرج معه أمّ سليم و غيرها (3).أمّا المجنون:فلا يخرجه؛لعدم الانتفاع به.
لعجزه و ضعف قوّته عن الحرب،قال اللّه تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ (4).
و كذا يسقط فرض الجهاد عن الأعمى إجماعا،قال اللّه تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ (5).
و لأنّ الجهاد متعذّر عليه.
فأمّا (6)الأعور فإنّه يجب عليه؛لإمكانه منه.
و يسقط أيضا فرض الجهاد بالعرج إذا كان يمنع من المشي أو الركوب، كالزمن؛لقوله تعالى: وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ (7).
ص:23
و لو كان به عرج يسير يمكنه معه الركوب و المشي و إنّما يتعذّر عليه شدّة العدو؛فإنّه يجب عليه الجهاد؛لتمكّنه منه،فكان كالأعور.
و أمّا المريض فقسمان:
أحدهما:أن يكون مرضه شديدا،كالبرسام (1)و الحمّى المطبقة و أشباههما،فإنّه يسقط عنه فرض الجهاد؛لعجزه عنه،قال اللّه تعالى: وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ (2)، و قوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى (3).
الثاني:أن يكون مرضه يسيرا،كوجع الضرس و الصداع اليسير،و حمّى يوم يتمكّن معه (4)من الجهاد،فإنّه يجب عليه؛لتمكّنه منه.
سقط عنه فرض الجهاد؛لقوله تعالى:
وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ (5).
إذا ثبت هذا:فإن كانت المسافة قصيرة لا يحتاج معها إلى الحمولة،لم يجب عليه حتّى يكون له زاد و نفقة عياله في غيبته و سلاح يقاتل به،و لا يعتبر الراحلة؛ لقرب السفر.
و إن كانت المسافة طويلة،اعتبر مع ما ذكرناه وجود الراحلة؛لحاجته إليها؛ لقوله تعالى: وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (6).
ص:24
و الضابط في إسقاط الجهاد لأجل عدم الراحلة:هو الحاجة إليها،سواء قصرت المسافة أو طالت،و الشيخ-رحمه اللّه-اعتبر مسافة التقصير (1)،و ليس بمعتمد،بل الضابط ما قلناه نحن.
فإذا قام به من فيه كفاية و غنى، سقط عن الباقين (2).و لا يجب على غيرهم إلاّ أن يعيّنه الإمام؛لاقتضاء المصلحة أو قصور القائمين عن الدفع بحيث لا يحصل الدفع إلاّ بالاجتماع،أو يعيّنه على نفسه بالنذر و شبهه أو بالاستئجار،فيجب عليه حينئذ،و لا يكفي فيه غيره.
و من تعيّن عليه الجهاد،وجب أن يخرج بنفسه أو يستأجر غيره عنه؛لحصول المقصود به.
و قد يكون للدفع بأن يدهم المسلمين عدوّ.
فالأوّل:لا يجوز إلاّ بإذن الإمام العادل،أو من يأمره الإمام.
و الثاني:يجب مطلقا.
و قال أحمد:يجب الأوّل مع كلّ إمام برّ و فاجر (3).
لنا:أنّ الداعي يجب أن يكون بشرائط الإمامة أو منصوبا من قبله؛لأنّه العارف بشرائط الإسلام و له الولاية المطلقة.
و ما رواه الشيخ عن أبي عمرو الزبيديّ (4)،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:
ص:25
قلت له:أخبرني عن الدعاء إلى اللّه عزّ و جلّ و الجهاد في سبيله،أ هو لقوم لا يحلّ إلاّ لهم،و لا يقوم به إلاّ من كان منهم؟أو هو مباح لكلّ من وحّد اللّه تعالى و آمن برسوله صلّى اللّه عليه و آله،و من كان كذا فله أن يدعو إلى اللّه عزّ و جلّ و إلى طاعته، و أن يجاهد في سبيل اللّه؟فقال:«ذلك لقوم لا يحلّ إلاّ لهم،و لا يقوم بذلك إلاّ من كان منهم»و قال في أثناء الحديث:«و لا يكون داعيا إلى اللّه تعالى من أمر بدعاء مثله إلى التوبة و الحقّ،و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و لا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به،و لا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه،فمن كان قد ثبت 1فيه شرائط اللّه عزّ و جلّ التي قد وصف بها أهلها من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد» 2و الحديث طويل.
و عن أبي حمزة الثماليّ،قال:قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما السلام:أقبلت على الحجّ و تركت الجهاد،فوجدت الحجّ ألين عليك؟و اللّه تعالى يقول: إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ الآية فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام:
ص:26
«أقرأ ما بعدها»فقرأ: اَلتّائِبُونَ... (1)الآية فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام:
«إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئا» (2).
و عن بشير،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:قلت له:رأيت في المنام أنّي قلت لك:إنّ القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام،مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير،فقلت:نعم هو كذلك،فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:«هو كذلك هو كذلك» (3).
احتجّ أحمد:بما روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:«الجهاد واجب عليكم مع كلّ أمير برّا كان أو فاجرا» (4)(5).
و عن أنس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«ثلاث من أصل الإيمان:
الكفّ عمّن قال لا إله إلاّ اللّه،لا نكفّره بذنب و لا نخرجه من الإسلام بعمل،و الجهاد ماض منذ بعثني اللّه تعالى إلى أن يقاتل آخر أمّتي الدجّال،و الإيمان بالإنذار (6)» (7).
و لأنّ ترك الجهاد مع الفجّار يفضي إلى قطع الجهاد،و ظهور الكفّار على
ص:27
المسلمين،و قال اللّه تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ (1)الآية.
و الجواب عن الأوّل:أنّ أبا هريرة مطعون في حديثه؛و لهذا أدّبه عمر على كثرة حديثه (2)،فلو لم يكن في محلّ التهمة،لما فعل عمر به ذلك،على أنّا نقول:إنّ أحد نوعي الجهاد يجب مع كلّ برّ و فاجر.
و عن الثاني:أنّا نقول بموجبه،فإنّ وجوب الجهاد دائم ما دامت الشريعة،لكن وجوبها لا يخرجها عن اشتراطها بأمور أخرى.
و عن الثالث:بأنّ الجهاد للدفع عن الضرر كاف في كفّ الفجّار،على أنّ الإمام الفاجر ليس محلاّ للأمانة،فكيف يسوغ جعله رئيسا مطلقا على المسلمين كافّة، و ربّما واطأ الكفّار و حصل للمسلمين بذلك ضرر لا يمكن تداركه.
أمّا القسم الثاني من أنواع الجهاد،فإنّه يجب مطلقا،فإنّه متى دهم المسلمين- و العياذ باللّه-عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام،وجب على المسلمين كافّة النفور إليهم و دفعهم،سواء كان الداعي إلى جهادهم برّا أو فاجرا،لأنّ دفع الضرر لا يحصل إلاّ به،فيجب.
و كذا لو كان المسلم في أرض العدوّ من الكفّار ساكنا بينهم بأمان حتّى دهمهم عدوّ من المشركين و خشي على نفسه إذا تخلّف،جاز له معاونة الكفّار و مساعدتهم،و يكون قصده بذلك الدفع عن نفسه لا معاونة المشركين.
رواه الشيخ عن طلحة بن زيد،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:سألته عن رجل دخل أرض الحرب بأمان،فغزا القوم الذين دخل عليهم (3)قوم آخرون،قال:
ص:28
«على المسلم أن يمنع عن نفسه و يقاتل على حكم اللّه و حكم رسوله،و أمّا أن يقاتل الكفّار على حكم الجور و سنّتهم،فلا يحلّ له ذلك» (1).
و كذا من خشي على نفسه مطلقا أو ماله إذا غلب السلامة،جاز له أن يجاهد.
و بين أن يستأجر غيره ليجاهد عنه،و تكون الإجارة صحيحة،و لا يلزمه ردّ الأجرة،ذهب إليه علماؤنا.
و قال الشافعيّ:لا تنعقد الإجارة،و يجب عليه ردّ الأجرة إلى صاحبها (2).
لنا:ما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«من جهّز غازيا،كان له مثل أجره» (3).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن وهب،عن جعفر،عن أبيه أنّ عليّا عليه السلام سئل عن الإجعال للغزو،فقال:«لا بأس به أن يغزو الرجل عن الرجل و يأخذ منه الجعل» (4).
و لأنّ القصد من الجهاد و هو معونة المسلمين،و حراستهم يحصل بفعله مباشرة و تسبيبا،فيتساويان.
ص:29
و لأنّها عبادة،فجاز عقد الإجارة فيها و لزم،كالحجّ،و لأنّه يجوز (1)أخذ الرزق عليها من بيت المال،فجاز أن يأخذ عليها إجارة.و لأنّه من فروض الكفايات فيجزئ عنه فعل غيره،و لأنّ الضرورة قد تدعو إلى الاستئجار،فيكون مشروعا،كغيره من الإجارات.
احتجّ الشافعيّ:بأنّه يتعيّن بحضوره الصفّ للجهاد،و إذا تعيّن عليه الفرض،لم يجز له أن يفعله عن غيره،كما لو كان عليه حجّ الإسلام لا يجوز له أن يحجّ عن غيره (2).
و الجواب:المنع أوّلا من التعيين (3)،و النقض بالحجّ،فإنّه إذا حضر مكّة تعيّن عليه الإحرام،و مع هذا جاز أن يقع الإحرام المتعيّن عليه عن غيره،فكذا هنا.
لم يجز له الاستنابة؛لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (4).
فإن فعل، وقع عنه و وجب عليه ردّ الجعل إلى صاحبه؛لأنّه قد تعيّن عليه،فلا يجوز له أن ينوب عن غيره فيه،كالحجّ.
و للمستأجر ثواب
ص:30
النفقة،و أمّا ما يأخذه أهل الديوان من الأرزاق،فليس بأجرة،بل هم يجاهدون لأنفسهم (1)،و يأخذون حقّا جعله اللّه لهم،فإن كانوا أرصدوا أنفسهم للقتال و أقاموا في الثغور،فهم أهل الفيء،لهم سهم من الفيء يدفع إليهم،و إن كانوا مقيمين في بلادهم يغزون إذا خفّوا (2)،فهؤلاء أهل الصدقات يدفع إليهم سهم (3)منها (4).
ففيها فضل كثير من السلطان و العوامّ (5)و كلّ واحد،و يستحقّون بها الثواب؛لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال:«من جهّز غازيا أو حاجّا أو معتمرا أو خلفه في أهله فله مثل أجره» (6).
و عن جعفر بن محمّد،عن أبيه عليهما السلام،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«من بلّغ رسالة غاز كان كمن أعتق رقبة و هو شريكه» (7).
أحدها:تعيين الإمام.
الثاني:النذر و شبهه.
الثالث:الاستئجار.
الرابع:عدم الاكتفاء بغيره.
ص:31
الخامس:إذا التقى الزحفان و تقابل الفئتان.
أمّا الأوّل:فلأنّ الإمام إذا استنفر قوما،وجب عليهم النفور معه؛لقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (1)إلى آخره.
و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«إذا استنفرتم فانفروا» (2).
و أمّا الثاني:فلما يأتي من وجوب ما يتعلّق به النذر من الطاعات.
و أمّا الثالث:فلأنّ عقد الإجارة لازم على ما تقدّم (3).
و أمّا الرابع:فإنّا بيّنّا معنى وجوب الكفاية (4)و أنّه متى قام به من في قيامه غنى،سقط عن الباقين،و إلاّ لم يسقط.
و أمّا الخامس:فلقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا (5).
و قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (6)الآية.
فلو بذل له ما يحتاج إليه، وجب عليه الجهاد حينئذ؛لأنّه بالبذل متمكّن،كالحجّ إذا بذل للمعسر كفايته فيه،
ص:32
فإنّه يجب عليه؛لأنّه تمكّن بالبذل،كذا هنا،و لو كان على سبيل الأجرة،لم يجب؛ لأنّ وجوب الجهاد مشروط باليسار،و لا يجب على المكلّف تحصيل شرط الوجوب،كالنصاب في الزكاة،و لو عجز عن الجهاد بنفسه و كان موسرا فهل يجب عليه إقامة غيره أم لا؟فيه قولان:
أحدهما:الوجوب،كالحجّ (1).
و الثاني:السقوط؛لعدم المكنة (2).و الأقرب:الاستحباب.
و لو كان قادرا فجهّز غيره،سقط عنه فرض الجهاد ما لم يتعيّن عليه.
ص:33
في اشتراط إذن الأبوين و صاحب الدين
أحدهما:أن يكون الدين حالاّ، و الآخر أن يكون مؤجّلا.
فإن كان حالاّ فلا يخلو إمّا أن يكون متمكّنا من أدائه أو لا يكون،فإن كان متمكّنا منه،لم يجز له الخروج إلى الجهاد إلاّ بإذن صاحب الدين إلاّ أن يترك وفاء، أو يقيم به كفيلا يرتضي (1)به،أو يوثقه برهن.
و إن لم يكن متمكّنا منه،هل يجوز له أن يخرج بغير إذن صاحب الدين أم لا؟ قال قوم:نعم،له ذلك (2)،و به قال مالك (3).
و قال الشافعيّ (4)،و أحمد بن حنبل:ليس له ذلك،و لصاحب الدين منعه من الغزو (5).و الأوّل أقرب.
لنا:أنّه لا يتوجّه له المطالبة به و لا حبسه من أجله،فلم يمنع من الغزو،كما لو
ص:34
لم يكن عليه دين.
احتجّوا:بأنّ الجهاد يقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحقّ بفواتها (1).
و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ رجلا جاء إليه،فقال:يا رسول اللّه إن قتلت في سبيل اللّه صابرا محتسبا يكفّر عنّي خطاياي؟قال:«نعم،إلاّ الدّين،فإنّ جبرئيل عليه السلام قال لي ذلك» (2).
و الجواب:أنّ الشهادة غير معلومة و لا مظنونة،فلا يترك لأجلها ما هو أعظم أركان الإسلام.
و الرواية نحن نقول بموجبها؛لأنّ من فرّط في قضاء الدين،لا يسقط دينه بالجهاد و القتل في سبيل اللّه،و يدلّ على التفريط أنّه استثناه من الخطايا،و لا ريب أنّ تأخير الدين للمعسر ليس بخطيئة.
أمّا الدين المؤجّل،فهل لصاحبه منعه منه أم لا؟قال مالك:ليس له المنع (3).
و قال الشافعيّ (4)و أحمد:له المنع (5).و الاحتجاج من الفريقين ما تقدّم، و الوجه:ما قاله مالك.
ص:35
وجب عليه الخروج فيه،سواء كان الدين حالاّ أو مؤجّلا،موسرا كان أو معسرا،أذن له غريمه أو لم يأذن،لأنّ الجهاد تعلّق بعينه،فكان مقدّما على ما في ذمّته،كسائر فروض الأعيان.
جاز له الغزو،سواء أذن له صاحب الدين أو لم يأذن؛لأنّ المانع-و هو فوات الدين-زائل هنا.و لأنّ عبد اللّه بن حرام 1أبا جابر بن عبد اللّه خرج إلى أحد و عليه دين كثير،فاستشهد،فقضاه عنه ابنه جابر بعلم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و لم يذمّه،و لم ينكر فعله بل مدحه و قال:
«ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفعتموه» 2.
على ما بيّنّاه،لكن يستحبّ له أن لا يتعرّض لمظانّ القتل،بأن يبارز أو يقف في أوّل المقاتلة؛لما فيه من التغرير 3بفوات الحقّ.
و لهما منعه،و به قال
ص:36
أهل العلم كافّة.
روى ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فقال:يا رسول اللّه أجاهد؟فقال:«أ لك أبوان؟»قال:نعم،قال:
«ففيهما فجاهد» (1).
و في رواية:جئت أبايعك على الهجرة و تركت أبويّ يبكيان،قال:«ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» (2).
و عن أبي سعيد أنّ رجلا هاجر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«هل لك باليمن أحد؟»قال:نعم،أبواي،قال:«أذنا لك؟»قال:لا،قال:«فارجع فاستأذنهما،فإن أذنا لك فجاهد،و إلاّ فبرّهما» (3).
و لأنّ طاعة الأبوين فرض عين،و الجهاد فرض كفاية،و فرض العين مقدّم على فرض الكفاية.
لنا:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يخرج معه من الصحابة إلى الجهاد من كان له أبوان كافران،من غير استئذان،كأبي بكر و غيره.
و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة (1)،كان مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر، و أبوه كان رئيس المشركين يومئذ قتل ببدر،و أبو عبيدة قتل أباه في الجهاد (2).
و لأنّهما كافران،فلا ولاية لهما على المسلم.و لأنّه يسوغ له قتلهما،فترك قبول قولهما أولى.
احتجّ الثوريّ:بعموم الأخبار (3).
و الجواب:ما ذكرناه خاصّ،فيكون مقدّما و يخصّص (4)العامّ.
اَلنّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (1)و لم يشترط إذنهما،و لا نعرف في ذلك خلافا.
لأنّ طاعة كلّ واحد منهما فرض،كما أنّ طاعتهما فرض.
فعموم كلام الشيخ-رحمه اللّه (2)-يقتضي أنّ لهما المنع،كالحرّين؛عملا بالعموم،و لأنّهما أبوان مسلمان،فكانا كالحرّين.
و قيل:لا اعتبار بإذنهما؛لأنّه لا ولاية لهما (3).
لم يكن لهما (4)اعتبار و لا إذن لهما؛لعدم إمكان استئذانهما.
استحبّ له استئذانهما و أن لا يخرج من دون إذنهما،و لو منعاه،لم يحرم عليه مخالفتهما.و فارق الجهاد؛لأنّ الغالب فيه الهلاك،و هذا الغالب فيه السلامة.
فمنعاه منه بعد سيره (5)و قبل وجوبه، كان عليه أن يرجع؛لأنّ لهما منعه في الابتداء،فكذا في الأثناء،كسائر الموانع،إلاّ أن يخاف على نفسه في الرجوع،أو يحدث له عذر من مرض أو ذهاب نفقة،أو
ص:39
نحو ذلك،فإنّه إن أمكنته الإقامة في الطريق و إلاّ مضى مع الجيش،فإذا حضر الصفّ،تعيّن عليه بحضوره و لم يبق لهما إذن،و لو رجعا في الإذن بعد وجوبه عليه و تعيّنه،لم يؤثّر رجوعهما.
و لو كانا كافرين فأسلما و منعاه،فإن كان بعد وجوبه و تعيّنه عليه لم يعتدّ بمنعهما،و إن كان قبله،وجب عليه الرجوع مع المكنة.و كذا البحث في الغريم (1)إذا أذن للمدين في الجهاد ثمّ رجع عن الإذن.
و لو أذن له والداه في الغزو و شرطا عليه أن لا يقاتل فحضر القتال،تعيّن عليه و لم يعتدّ بشرطهما؛لأنّه صار واجبا عليه،فلا طاعة لهما في تركه،و لو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثمّ بدا له الرجوع،لم يجز له ذلك.
فإن أذن له مولاه،صحّ،و إلاّ لم يجز، و لو أذن ثمّ رجع عن الإذن،كان حكمه حكم رجوع الأبوين،و قد سلف (2).
و المرأة لا جهاد عليها و يجوز لها أن تخرج لمعونة المسلمين-على ما قلناه- بشرط إذن الزوج لها في ذلك،و قد سلف (3).
فتجدّد العذر،فإن كان قبل أن يلتقي الزحفان كان كوجوده قبل خروجه،إن كان العذر في نفسه،كالمرض و شبهه،تخيّر في الرجوع و المضيّ،و إن كان في غيره،مثل أن يرجع صاحب الدين الحالّ في إذنه،و الأبوان فيه،أو يسلم الأبوان ثمّ يمنعانه،فيجب عليه الرجوع،إلاّ أن يخاف على نفسه.
و إن حدث بعد التقاء الزحفين،فإن كان العذر في نفسه قال الشيخ-رحمه اللّه
ص:40
كان له الانصراف (1).و هو أحد قولي الشافعيّ؛لأنّه لا يمكنه القتال،فكان له الانصراف.
و قال في الآخر:ليس له الانصراف؛لأنّه كان مخيّرا قبل التقاء الزحفين، فوجب أن يتعيّن بعد التقاء الزحفين و لا جامع هنا (2).
و لو كان العذر في غيره،كرجوع الغريم و الأبوين قال الشيخ-رحمه اللّه-:
ليس له الرجوع؛لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا (3). (4)
و لأنّ رجوعه ربّما كان فيه كسر المسلمين،فلا يجوز له الرجوع،و هو أحد قولي الشافعيّ.
و قال في الآخر:له الرجوع؛لأنّ الثبات فرض و حقّ الغريم فرض و هو السابق،فكان أولى (5).
و ليس بجيّد؛لأنّ الغريم أسقط حقّه من المنع.
و كفّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه،و يجوز له قتله (1).
و لو ظهر منه ما لا يجوز الصبر عليه،جاز قتله،كسبّ اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام،فقد (2)روي أنّ أبا عبيدة قتل أباه حين سمعه (3)سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فلمّا قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«لم قتلته؟»قال:سمعته يسبّك،فسكت عنه (4).
ص:42
في الرباط
و معناه:الإقامة عند الثغر لحفظ المسلمين،و أصله:من رباط الخيل؛لأنّ هؤلاء يربطون خيولهم كلّ قوم بعد آخرين،فسمّي المقام بالثغر رباطا،و إن لم يكن خيل،و فضله متّفق عليه.
روى سلمان-رحمه اللّه-قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:
«رباط ليلة في سبيل اللّه خير من صيام شهر و قيامه،فإن مات،جرى عليه عمله الذي كان يعمل،و أجري عليه رزقه،و أمن الفتّان» (1).
و عن فضالة بن عبيد (2)أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،قال:«كلّ ميّت يختم على عمله،إلاّ المرابط في سبيل اللّه،فإنّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة و يؤمن من فتّان القبر» (3).
فطرف القلّة ثلاثة أيّام،و طرف
ص:43
الكثرة أربعون يوما،فإن جاز الأربعين،كان جهادا،و ثوابه ثواب المجاهدين، و لم يكن رباطا.
أمّا طرف القلّة فاختاره الشيخ-رحمه اللّه- (1)و هو قول علمائنا.
و قال أحمد:لا طرف له في القلّة (2).
لنا:أنّ مفهومه إنّما يصدق بثلاثة أيّام غالبا،فإنّ المجتاز في الثغر أو من أقام به ساعة مثلا لا يقال له في العرف:إنّه مرابط.
و يؤيّده:ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم و زرارة،عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام،قال:«الرباط ثلاثة أيّام و أكثره أربعون يوما،فإذا جاز ذلك فهو جهاد» (3).
و أمّا طرف الكثرة فمتّفق عليه؛لما قلناه من حديث زرارة و محمّد بن مسلم عنهما عليهما السلام.
و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«تمام الرباط أربعون يوما» (4).
عليه السلام،
أمّا في حال غيبته فإنّها مستحبّة أيضا استحبابا غير مؤكّد؛لأنّها
ص:44
لا تتضمّن (1)قتالا،بل حفظا و إعلاما،و كانت (2)مشروعة حال الغيبة.
و أفضل الرباط المقام بأشدّ الثغور خوفا؛لشدّة الحاجة هناك و كثرة النفع بمقامه به.
و كلّ موضع معقل (3)للمسلمين يستحبّ للرجل أن يقيم به و بأهله.
روى الشيخ عن يونس،عن أبي الحسن عليه السلام في حديث،قال:«فليرابط و لا يقاتل»قلت:مثل قزوين و عسقلان و الديلم و ما أشبه هذه الثغور؟قال:
«نعم» (4).
و روى الجمهور عن الأوزاعيّ،قال:أتيت المدينة فسألت من فيها من العلماء؟ فقيل:محمّد بن المنكدر (5)،و محمّد بن كعب القرظيّ (6)،و محمّد بن عليّ 7بن
ص:45
عبد اللّه بن العبّاس،و محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الباقر عليهم السلام،فقلت:و اللّه لأبد أنّ به قبلهم،فدخلت إليه فأخذ بيدي و قال:«من أيّ إخواننا أنت؟»قلت:من أهل الشام،قال:«من أيّهم؟»قلت:من أهل دمشق،قال:
«حدّثني أبي عن جدّي،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:يكون للمسلمين ثلاث معاقل:فمعقلهم في الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أنطاكيّة دمشق، و معقلهم من الدجّال بيت المقدس،و معقلهم من يأجوج و مأجوج طور سيناء» 1.
إذا ثبت هذا:فإن رابط حال ظهور الإمام بإذنه و سوّغ له القتال،جاز له ذلك، و إن كان مستترا أو لم يسوّغ له المقاتلة،لم يجز له القتال ابتداءً،بل يحفظ 2الكفّار من الدخول إلى بلاد الإسلام و يعلم المسلمين بأحوالهم و إرادة دخولهم إليهم إن أرادوا ذلك،و لا يبدؤهم بالقتال،فإن قاتلوه،جاز له قتالهم،و يقصد بذلك الدفع عن نفسه و عن الإسلام،و لا يقصد به الجهاد.
لجواز استيلاء الكفّار عليهم،و ظفر العدوّ بالذراريّ و النسوان مع ضعفهم عن الهرب و الحرب لو احتاجوا إليهما.
و لو عجز عن المرابطة بنفسه،فرابط فرسه،أو غلامه أو جاريته أو أعان المرابطين،كان له في ذلك ثواب عظيم.
و ينبغي لأهل الثغور أن يجتمعوا في المساجد للصلوات؛لأنّه ربّما جاء هم
ص:46
الكفّار دفعة فخافوا بسبب كثرتهم.
و يستحبّ الحرس في سبيل اللّه،قال ابن عبّاس:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:«عينان لا تمسّهما النار:عين بكت من خشية اللّه،و عين باتت تحرس في سبيل اللّه» (1).
و قال عليه السلام:«حرس ليلة في سبيل اللّه،أفضل من ألف ليلة قيام ليلها و صيام نهارها» (2).
و عن سهل بن الحنظليّة (3)أنّهم ساروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم حنين فأطنبوا السير حتّى كان عشيّة...قال:«من يحرسنا الليلة؟»قال أنس بن أبي مرثد الغنويّ (4):أنا يا رسول اللّه قال:«فاركب»فركب فرسا له،و جاء (5)إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فقال له:«استقبل هذا الشعب حتّى تكون في أعلاه و لا نغرّنّ من قبلك الليلة»فلمّا أصبحنا جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مصلاّه
ص:47
فركع ركعتين ثمّ قال:«هل أحسستم فارسكم؟»قالوا:لا،فنودي (1)بالصلاة، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي و هو يلتفت إلى الشعب حتّى إذا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلاته و سلّم قال:«أبشروا قد جاءكم فارسكم»...فإذا هو قد جاء حتّى وقف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فقال:
إنّي انطلقت حتّى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فلمّا أصبحت اطّلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«هل نزلت الليلة؟»قال:لا،إلاّ مصلّيا أو قاضي حاجة،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«قد أوجبت،فلا عليك أن لا تعمل بعدها» (2).
وجب عليه الوفاء به،سواء كان الإمام ظاهرا أو مستترا؛لأنّه طاعة قد نذرها،فيجب عليه الوفاء به،كغيره من الطاعات،غير أنّه لا يبدأ العدوّ بالقتال و لا يجاهدهم إلاّ على وجه الدفع عن الإسلام و النفس،لأنّ البدأة بالقتال إنّما تجوز مع إذن الإمام؛لقول أبي[الحسن] (3)عليه السّلام:«يرابط و لا يقاتل،فإن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل،فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان،لأنّ في درس الإسلام درس ذكر محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (4).
إذا عرفت هذا:فلو نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين في حال ظهور الإمام،وجب عليه الوفاء به،و إن كان في حال استتاره،قال الشيخ-رحمه اللّه-:لا يجب الوفاء بالنذر،بل يصرفه في وجوه البرّ (5).و قال ابن إدريس:يجب عليه
ص:48
الوفاء به (1).
أمّا الشيخ-رحمه اللّه-:فله أن يحتجّ بما رواه عليّ بن مهزيار،قال:كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام:إنّي كنت نذرت نذرا منذ سنين (2)أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا ممّا يرابط فيه المتطوّعة نحو مرابطتهم (3)[بجدّة] (4)و غيرها من سواحل البحر،أ فترى-جعلت فداك-أنّه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني؟أو أفتدي للخروج إلى ذلك الموضع بشيء من أبواب البرّ لأصير إليه إن شاء اللّه تعالى؟فكتب إليه بخطّه و قرأته:«إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين،فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته،و إلاّ فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البرّ،وفّقنا اللّه و إيّاك لما يحبّ و يرضى» (5).
احتجّ ابن إدريس:بأنّه نذر في طاعة،فيجب الوفاء به.و لأنّ النذر إن بطل،لم يجب صرف المال في البرّ،و إن صحّ،لزم صرفه في الجهة المعيّنة في النذر (6).
و قول ابن إدريس قويّ.
ثمّ قال الشيخ-رحمه اللّه-:إلاّ أن يخاف الشنعة من تركه،فيجب عليه حينئذ صرفه إلى المرابطة (7).و هو استناد إلى رواية ابن مهزيار.
فإن كان الإمام ظاهرا،
ص:49
وجب عليه الوفاء به؛لأنّها إجارة على فعل طاعة،فصحّت و لزمت،كما لو استأجره للجهاد.
و لو كان في حال الغيبة و استتار الإمام عليه السّلام،قال الشيخ-رحمه اللّه-:لا يلزمه الوفاء به،و يردّ عليه ما أخذه،فإن لم يجده،فعلى ورثته،فإن لم يكن له ورثة،لزمه الوفاء به (1).
و منع ابن إدريس ذلك و أوجب عليه الوفاء به و لزوم الإجارة في الحالين (2).
و هو الوجه عندي،غير أنّه لا يقصد بالجهاد الدعاء إلى الإسلام؛لأنّه مخصوص بالإمام أو من يأذن له،بل يقصد الدفاع عن نفسه و عن الإسلام.و متى قتل المرابط، كان شهيدا و ثوابه ثواب الشهداء.
و في رواية عبد اللّه بن سنان،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟قال:فقال:«الويل يتعجّلون قتلة في الدنيا و قتلة في الآخرة،و اللّه ما الشهداء (3)إلاّ شيعتنا و لو ماتوا على فرشهم» (4).
و هي غير معارضة لما قلناه،لأنّها تدلّ بمفهومها على أنّ المراد:من رابط و هو على غير الاعتقاد الذي ينبغي.
ص:50
في بيان من يجب جهاده و كيفيّة الجهاد
و فيه مباحث:
ص:51
ص:52
من يجب جهاده
الأوّل:البغاة على إمام المسلمين من أهل الإسلام.
الثاني:أهل الذمّة،و هم اليهود و النصارى و المجوس إذا أخلّوا بشرائط الذمّة.
الثالث:من عدا هؤلاء من أصناف الكفّار،قال اللّه تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ (1).
و قال تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (2).
و قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (3).
و قال تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ (4).
فهذه الآيات تدلّ على وجوب جهاد الأصناف التي ذكرناها.
ص:53
و روى الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«من أعطى إماما صفقة (1)يده و ثمرة قلبه فليطعه ما استطاع،فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» (2).
و روى بريدة (3)قال:كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا بعث أميرا على سريّة أو جيش أمره بتقوى اللّه في خاصّته و بمن معه من المسلمين و قال:«إذا لقيت عدوّك من المشركين،فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم و كفّ عنهم:ادعهم إلى الإسلام،فإن أجابوك فاقبل منهم و كفّ عنهم،فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية،فإن أجابوك فاقبل منهم و كفّ عنهم،فإن أبوا فاستعن باللّه عليهم و قاتلهم» (4).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن حفص بن غياث،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:«سأل رجل[أبي] (5)عن حروب أمير المؤمنين عليه السّلام،و كان السائل من محبّينا،فقال له أبو جعفر عليه السّلام:بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بخمسة أسياف:ثلاثة منها شاهرة لا تغمد إلى أن (6)تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ،و لن تضع الحرب أوزارها حتّى تطلع الشمس من مغربها...فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم
ص:54
تكن آمنت من قبل...و سيف منها مكفوف،و سيف منها مغمود سلّه إلى غيرنا و حكمه إلينا.
فأمّا السيوف الثلاثة الشاهرة:فسيف على مشركي العرب،قال اللّه تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ... (1)فهؤلاء لا يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام...
و السيف الثاني:على أهل الذمّة...،قال اللّه تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ (2)الآية...فهؤلاء لا يقبل منهم إلاّ الجزية أو القتل...
و السيف الثالث:سيف على مشركي العجم،يعني الترك و الخزر و الديلم...قال اللّه تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ (3)...فهؤلاء لا يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام،و لا يحلّ لنا نكاحهم ما داموا في[دار] (4)الحرب.
و أمّا السيف المكفوف:فسيف على أهل البغي و التأويل،قال اللّه تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما إلى قوله: حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ (5)
فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:إنّ منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل،فسئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من هو؟قال:
هو خاصف النعل-يعني أمير المؤمنين عليه السّلام-قال عمّار بن ياسر:قاتلت بهذه الراية (6)مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا و هذه الرابعة،و اللّه لو ضربونا حتّى
ص:55
يبلغوا بنا (1)السعفات من هجر (2)لعلمنا أنّا على الحقّ و أنّهم على الباطل،و كانت السيرة[فيهم] (3)من أمير المؤمنين عليه السّلام ما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى (4)أهل مكّة يوم فتح مكّة،فإنّه لم يسب لهم ذرّيّة،و قال:من أغلق بابه،أو ألقى (5)سلاحه،أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن،و كذلك قال أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام فيهم:لا تسبوا لهم ذرّيّة و لا تتمّوا على جريح و لا تتّبعوا مدبرا،و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن.
و أمّا السيف المغمود:[فالسيف] (6)الذي يقام به القصاص قال اللّه تعالى:
اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ (7)الآية فسلّه إلى أولياء المقتول و حكمه إلينا،فهذه السيوف التي بعث اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بها،فمن جحدها أو جحد واحدا منها أو شيئا من سيرها و أحكامها فقد كفر بما أنزل اللّه تعالى على محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (8).
ص:56
إمّا لكفّهم (1)أو لنقلهم إلى الإسلام،فإن بدءوا بالقتال،وجب جهادهم،و إن كفّوا،وجب جهادهم بحسب المكنة،و أقلّه في كلّ عام مرّة؛لأنّ الجزية تجب على أهل الذمّة في كلّ عام،و هي بدل عن (2)النصرة،فكذلك مبدلها و هو الجهاد،فيجب في كلّ عام مرّة.
و لأنّ تركهم أكثر من ذلك يوجب تقويتهم و ظهور شوكتهم،و لو اقتضت المصلحة التأخير عن ذلك،جاز؛نظرا إلى المصلحة،و ذلك بأن يكون في المسلمين ضعف في عدد أو عدّة،أو يكون الإمام منتظرا لمدد يستعين به على جهادهم،أو يكون الطريق إليهم ممنوعا،أو لا علف فيها أو لا ماء بها،أو يعلم الإمام من العدوّ الرغبة في الإسلام و حسن الرأي فيه و يطمع في إسلامهم إن أخّر قتالهم،و يعلم أنّ قتالهم ينفّرهم عن ذلك،أو غير ذلك من المصالح،فيجوز تأخير الجهاد و تركه حينئذ بهدنة و بغير هدنة،فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صالح قريشا عشر سنين، و أخّر قتالهم حتّى نقضوا عهده.و أخّر قتال قبائل العرب بغير هدنة (3).
و كما أنّه يجوز التأخير عن الجهاد في كلّ عام،فكذا يجوز فعله في السنة مرّتين و مرارا بحسب المصلحة.
و لو احتيج إلى أكثر من ذلك،وجب؛لأنّه فرض كفاية،فيجب منه ما دعت الحاجة إليه.
و لا يتولّى المهادنة إلاّ الإمام أو من يأذن له،على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
و التزامهم بشرائعه،فإن فعلوا،و إلاّ قوتلوا.
ص:57
و الداعي إنّما يكون الإمام أو من نصبه؛لحديث بريدة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا بعث أميرا قال له:«إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم و كفّ عنهم[ثمّ] (1)ادعهم إلى الإسلام،فإن أجابوك فاقبل منهم» (2)الحديث.
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ-رحمه اللّه-عن السكونيّ،عن أبي عبد اللّه،[عن أبيه] (3)،عن آبائه عليهم السلام،قال:«قال أمير المؤمنين عليه السّلام:
بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى اليمن فقال:يا عليّ لا تقاتل (4)أحدا حتّى تدعوه و ايم اللّه لأن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس، و غربت و لك و لاؤه يا عليّ» (5).
و لأنّ الغرض من الحرب هو إدخالهم في الإسلام،و إنّما يتمّ بالدعاء إليه.
و العمل بها و الإسلام و ما تعبّدنا اللّه تعالى به.
و يستحبّ أن يدعوهم بما رواه الشيخ عن سليمان بن داود (6)المنقريّ،عن
ص:58
سفيان (1)،عن الزهريّ،قال:دخل رجل من قريش على عليّ بن الحسين عليهما السلام،فسأله كيف الدعوة إلى الدين؟فقال:«تقول بسم اللّه أدعوك إلى اللّه و إلى دينه،و جماعه (2)أمران:أحدهما:معرفة اللّه،و الآخر:العمل برضوانه،و أنّ معرفة اللّه أن يعرف بالوحدانيّة و الرأفة و الرحمة و العزّة و العلم و القدرة و العلوّ
ص:59
على كلّ شيء،و أنّه النافع الضار،القاهر لكلّ شيء،الذي لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير،و أنّ محمّدا عبده و رسوله-صلّى اللّه عليه و آله و أنّ ما جاء به هو الحقّ من عند اللّه،و ما سواه هو الباطل،فإذا أجابوا إلى ذلك، فلهم ما للمؤمنين و عليهم ما على المؤمنين» (1).
أحدهما:بلغتهم الدعوة و عرفوا ببعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أنّهم (2)مكلّفون بتصديقه.
و الآخر:لم تبلغهم الدعوة.
فالثاني:لا يجوز قتالهم،إلاّ بعد الدعاء إلى الإسلام و محاسنه،و إظهار الشهادتين،و الإقرار بالتوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة و جميع شرائع الإسلام،فإن أجابوا و إلاّ قتلوا؛لقوله لعليّ عليه السلام:«يا عليّ لا تقاتل (3)أحدا حتّى تدعوه» (4).
و الأوّل:يجوز قتالهم ابتداءً من غير أن يدعوهم الإمام إلى الإسلام؛لأنّه معلوم عندهم؛إذ قد بلغتهم دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و علموا أنّه يدعوهم إلى الإيمان و الإقرار به،و أنّ من لم يقبل منه،قاتله،و من قبل منه،آمنه،فهؤلاء حرب للمسلمين مثل الروم،و الترك،و الزنج،و الخزر (5)،و غيرهم من أصناف الكفّار الذين بلغتهم الدعوة،و سواء كان الكافر الذي بلغته الدعوة حربيّا،أو ذمّيّا فإنّه يجوز قتاله ابتداءً من غير دعاء؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أغار على بني المصطلق
ص:60
و هم غارّون آمنون و إبلهم تسقى على الماء (1).
و قال سلمة بن الأكوع:أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فغزونا ناسا من المشركين فبيّتناهم (2). (3)
و الدعاء أفضل؛لما رواه الجمهور:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر عليّا عليه السلام حين أعطاه الراية يوم خيبر و بعثه إلى قتالهم أن يدعوهم (4)،و هم ممّن قد بلغتهم الدعوة،و دعا سلمان أهل فارس (5)،و دعا عليّ عليه السلام عمرو بن عبد ودّ العامريّ (6)فلم يسلم مع بلوغه الدعوة (7).
ص:61
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن السكونيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:«لمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السلام إلى اليمن،قال:يا عليّ لا تقاتل (1)أحدا حتّى تدعوه» (2)و هو عامّ.
لو بدر إنسان فقتل واحدا من الكفّار قبل بلوغ الدعوة إليه،أساء،و لا قود عليه و لا دية؛عملا بالأصل،هذا اختيار الشيخ-رحمه اللّه (3)-و به قال أبو حنيفة (4)، و أحمد (5).
قال ابن القضبان المالكيّ:هو قياس قول مالك (6).
و قال الشافعيّ:يجب ضمانه؛لأنّه كافر أصليّ محقون الدم؛لحرمته،فوجب ضمانه،كالذمّيّ (7).
و الجواب:الفرق،فإنّ الذمّيّ قد التزم بقبول الجزية،فحرم قتله،أمّا هاهنا فلم يعلم ذلك منه،فلا يجب به الضمان؛لأنّه كافر لا عهد له،فلا يجب ضمانه، كالحربيّ.
ص:62
أحدها:من له كتاب،و هم اليهود و النصارى لهم التوراة و الإنجيل،فهؤلاء يطلب منهم أحد الأمرين:إمّا الإسلام أو الجزية،فإن أسلموا فلا بحث،و إن امتنعوا و بذلوا الجزية،أخذت منهم و أقرّوا على دينهم بلا خلاف،قال اللّه تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (1).
الثاني:من له (2)شبهة كتاب،و هم المجوس فإنّه قد كان لهم نبيّ قتلوه و كتاب حرّقوه،و هؤلاء حكمهم حكم أهل الكتاب إن أسلموا،و إلاّ طلبت منهم الجزية، فإن بذلوها،أقرّوا على دينهم و أخذت منهم بلا خلاف أيضا؛لقوله عليه السلام:
«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (3).
الثالث:من لا كتاب له و لا شبهة كتاب،كعبدة الأوثان و النيران و من لا دين له يتديّن به.
و بالجملة:كلّ من عدا الأصناف الثلاثة من الكفّار،فإنّه لا يقبل منهم إلاّ الإسلام،فإن أجابوا،و إلاّ قتلوا،و لو بذلوا الجزية،لم تقبل منهم،ذهب إليه علماؤنا أجمع،و به قال الشافعيّ (4)،و أحمد في إحدى
ص:63
الروايتين (1).
و قال أبو حنيفة:تقبل من عبدة الأوثان من العجم الجزية،و لا يقبل من العرب إلاّ الإسلام (2).و هو رواية عن أحمد (3).
و حكي عن مالك:إنّ الجزية تقبل من جميع الكفّار إلاّ كفّار قريش (4).
لنا:عموم قوله تعالى: وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (5).
و عموم قوله عليه السلام:«أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه» (6).خرج عنهما أهل الذمّة،بقوله (7)تعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (8)و المجوس،بقوله عليه السلام:«سنّوا بهم سنّة أهل
ص:64
الكتاب» (1)فيبقى من عداهما على مقتضى العموم.
و لأنّ الصحابة توقّفوا في أخذ الجزية من المجوس حتّى روى لهم عبد الرحمن بن عوف قوله عليه السلام:«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب»و ثبت عندهم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ الجزية من مجوس هجر (2).
و إذا كان حال من له شبهة كتاب هذا،دلّ على أنّهم لم يقبلوا الجزية ممّن سواهم بطريق أولى.
و لأنّ قوله عليه السلام:«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب»يقتضي تخصيص أهل الكتاب بأخذ الجزية؛إذ لو شاركهم غيرهم،لم تختصّ الإضافة بهم.
و لأنّ كفرهم أغلظ و أشدّ؛لإنكارهم الصانع و رسله أجمع و لم تكن لهم شبهة، فلا يساوون من له كتاب و اعتراف باللّه تعالى،كالمرتدّ.
احتجّ أبو حنيفة:بأنّهم يقرّون على دينهم بالاسترقاق فأقرّوا بالجزية،كأهل الكتاب و المجوس (3).
و احتجّ مالك:بقوله عليه السلام في حديث بريدة:إذا بعث أميرا على جيش أو سريّة،قال له:«إذا لقيت عدوّك فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال»من جملتها
ص:65
الجزية (1).و هو عامّ في كلّ مشرك.و لأنّهم كفّار،فيقبل منهم الجزية،كالمجوس (2).
و الجواب عن الأوّل:بالفرق بين المقيس و المقيس عليه،فإنّ أهل الكتاب لهم كتاب يتديّنون (3)به،و المجوس لهم شبهة كتاب.
روى الشيخ عن أبي يحيى الواسطيّ،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن المجوس،فقال:«كان لهم نبيّ قتلوه (4)و كتاب أحرقوه أتاهم نبيّهم بكتابهم في اثني عشر جلد ثور و كان يقال له:جاماست (5)» (6)و الشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما يبنى على الاحتياط،فحرمت دماؤهم للشبهة،بخلاف من لا كتاب له و لا شبهة كتاب.
و نمنع إقرارهم على دينهم بالاسترقاق،و حديث بريدة مخصوص بأهل الذمّة.
إذا ثبت هذا:فإن كان المشركون ممّن لا يؤخذ منهم الجزية،فإنّ الأمير يعرض عليهم الإسلام،فإن أسلموا،حقنوا دماءهم و أموالهم،و إن أبوا،قاتلهم و سبى
ص:66
ذراريهم و نساءهم و غنم أموالهم و قسّمها،على ما يأتي،و إن كانوا ممّن يؤخذ منهم الجزية،دعاهم إلى الإسلام،فإن أجابوا،كفّ عنهم،و إن أبوا،دعاهم إلى إعطاء الجزية،فإن بذلوها،قبل منهم،و إن امتنعوا،قاتلهم و سبى ذراريهم و نساءهم و غنم أموالهم و قسّمها على المستحقّين.
ص:67
في المقاتلين مع الإمام
غير همّ (2)و لا مريض و لا أعمى و لا أعرج،الجهاد على الكفاية،و يتعيّن إذا عيّنه الإمام العادل.
هذا إذا كان الجهاد للدعاء إلى الإسلام،أمّا إذا كان للدفع بأن يدهم المسلمين عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام،فإنّه يجب على كلّ متمكّن الجهاد،سواء أذن الإمام أم لم يأذن؛للدفع عن النفس و الإسلام.
و يجب على المقلّ و المكثر النفير،و لا يجوز لأحد التخلّف إلاّ مع الحاجة إلى تخلّفه (3)،لحفظ (4)المكان و الأهل و المال،و من يمنعه الإمام من الخروج أو القتال؛لقوله تعالى: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً (5).
و قوله عليه السلام:«إذا استنفرتم فانفروا» (6)و قد ذمّ اللّه تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب بقوله تعالى: وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ
ص:68
إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً (1).
إذا ثبت هذا:فإن أمكن استخراج إذن الإمام في الخروج إليهم،وجب إذنه؛ لأنّه أعرف،و أمر الحرب موكول إليه؛لعلمه بكثرة العدوّ و قلّته،و مكامن العدوّ و كيده،فيرجع إليه؛لأنّه أحوط للمسلمين،و لو لم يمكن استئذانه؛لغيبته و مفاجأة العدوّ،لم يجب استئذانه،و وجب الخروج إلى القتال.
فإن كان العدوّ بعيدا يمكن الجمع بين الصلاة و الخروج،صلّوا ثمّ خرجوا،و لو كان بالقرب بحيث يخشى من التأخير بالصلاة، خرجوا و صلّوا على ظهور دوابّهم و كان النفير أولى من الصلاة جماعة،و قد نفر من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غسيل الملائكة و هو جنب،يعني حنظلة بن الراهب (2)،و لو كانوا في الصلاة أتمّوها،و لو كان في خطبة الجمعة أتمّوها.
و لو نادى الإمام بالصلاة جامعة لأمر يحدث فيشاور فيه،لم يتخلّف أحد إلاّ لعذر.
و لا ينبغي أن تنفر الخيل إلاّ عن حقيقة الأمر،و لا ينبغي لهم أن يخرجوا مع قائد معروف بالهزيمة (3)و تضييع المسلمين؛لاشتماله على الضرر الذي لا يتدارك، و ينبغي أن يخرجوا مع من له شفقة و نظر على المسلمين.
و لو كان القائد معروفا بشرب الخمر أو غيره من المعاصي و هو شجاع،جاز النفور معه؛لقوله عليه السلام:«إنّ اللّه ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر» (4).
ص:69
هذا كلّه مع الحاجة إلى النفير من غير إذن الإمام العادل،أمّا مع عدم الحاجة، فلا يجوز على حال.
و يثبّطهم (1)عن الغزو و يزهدهم في الخروج إليه في القتال،كمن يقول:الحرّ شديد أو البرد،و المشقّة شديدة،و لا يؤمن هزيمة هذا الجيش،و لا المرجف:و هو الذي يقول:قد هلكت سريّة المسلمين،و لا مدد لهم،و لا طاقة لكم بالكفّار،و الكفّار أكثر منكم،و لهم قوّة و مدد و صبر،و لا يقوى بهم أحد،و لا يثبت لهم مقاتل،و نحو ذلك.و لا من يعين على المسلمين بالتجسّس للكفّار و مكاتبتهم بأخبار المسلمين،و اطلاعهم على عوراتهم و إيواء جاسوسهم.و لا من يوقع العداوة بين المسلمين و يسعى بينهم بالفساد؛لقوله تعالى: وَ لكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ* لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ (2).
و لأنّ فيهم ضررا على المسلمين فيلزم الإمام منعهم من الخروج.
و لو خرج واحد من هؤلاء،لم يسهم له و لا يرضخ له رضيخة (3)و إن أظهر معونة (4)المسلمين؛لأنّه أظهره نفاقا،و السهم إنّما يستحقّه من يعاون المسلمين (5).
و لو كان الأمير أحد هؤلاء،لم يخرج الناس معه؛لأنّه إذا كان متبوعا منع من
ص:70
استصحابه فالتابع (1)أولى؛لأنّ (2)ضرره أكثر.
لمداواة الجرحى و معالجتهم و غير ذلك من المصالح (3).
إذا ثبت هذا:فإنّما يستحبّ إخراج العجائز،أمّا الشوابّ فيكره إخراجهنّ إلى أرض العدوّ؛لأنّه لا فائدة لهنّ في الحرب؛لاستيلاء الجبن عليهنّ،و لا يؤمن ظفر المشركين بهنّ،فينالون منهنّ الفاحشة.
و قد روى حشرج بن زياد (4)عن جدّته أمّ أبيه،أنّها خرجت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة[خيبر] (5)سادسة ستّ نسوة،فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فبعث إلينا،فجئنا فرأينا فيه الغضب،فقال:«مع من خرجتنّ؟»فقلنا:
يا رسول اللّه،خرجنا نغزل الشعر و نعين به في سبيل اللّه تعالى و معنا دواء للجرحى، و نناول السهام،و نسقي السويق،فقال:«قمن»حتّى إذا فتح اللّه خيبرا أسهم لنا كما أسهم للرجال،فقلت لها:يا جدّة،ما كان ذلك؟قالت:تمرا (6).
أمّا العجائز و الطواعن في السنّ إذا كان فيهنّ نفع،كسقي الماء و معالجة
ص:71
الجرحى،فلا بأس به،فإنّ أمّ[سليم] (1)و نسيبة بنت كعب كانتا (2)تغزوان مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (3)،و قالت الربيّع:كنّا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لسقي الماء و معالجة الجرحى (4).
و قال أنس:كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يغزو بأمّ سليم (5)و نسوة معها من الأنصار،يسقين الماء و يداوين الجرحى (6).
و لو احتاج إلى إخراج الشابّة منهنّ،جاز إخراجها،فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خرج بعائشة في غزوات (7).
و هذا مخصوص بالأمير،أمّا الرعيّة فتشتدّ الكراهية في حقّهم.
أحدهما:أن يكون في المسلمين قلّة و حاجة إليهم.
و الثاني:أن يكونوا ممّن يوثق بهم؛لما رواه ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استعان بيهود بني قينقاع و رضخ لهم (8).و استعان بصفوان بن أميّة على حرب
ص:72
هوازن قبل إسلامه (1).
أمّا مع فقد أحد الشرطين فلا يجوز؛لقوله عليه السلام:«إنّا لا نستعين بالمشركين على المشركين» (2)و إنّما أراد به عليه السلام مع فقد أحد الشرطين.
و لأنّهم مع عدم الحاجة إليهم مغضوب عليهم،فلا تحصل النصرة بهم،و مع عدم أمنهم لا يجوز استصحابهم؛لأنّا منعنا الخاذل و المرجف من المسلمين،فمن الكفّار أولى.
إذا ثبت هذا:فإنّ الشافعيّ وافقنا على ذلك (3).و منع ابن المنذر من الاستعانة بالمشركين مطلقا (4).و عن أحمد روايتان (5).
لما روته عائشة،قالت:خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى بدر،حتّى إذا كان بحرّة الوبرة (6)أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة و نجدة،فسر المسلمون به،فقال:يا رسول اللّه جئت لأتّبعك و أصيب معك،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«أ تؤمن باللّه و رسوله؟»قال:لا،قال:«فارجع فلن نستعين بمشرك»قالت:ثمّ مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«أ تؤمن باللّه و رسوله؟»قال:
ص:73
نعم،قال:«فانطلق» (1).
و عن عبد الرحمن بن خبيب (2)قال:أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنا و رجل من قومي و هو يريد غزوة و لم نسلم،فقلنا:إنّا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم،قال:«فأسلمتما؟»قلنا:لا قال:«فإنّا لا نستعين بالمشركين على المشركين»قال:فأسلمنا و شهدنا معه (3).
و لأنّه غير مأمون على المسلمين،فأشبه المخذّل.
و الجواب عن الحديثين:أنّهما محمولان على حالة الاستغناء،أو على من يخذّل و لا يؤمن،أو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علم أنّه إذا قال ذلك،أسلموا،فقال عليه السّلام مريدا به إحدى الحالتين من غير إيضاح حتّى يسلم،أو أن يكون منسوخا،فإنّه عليه السّلام استعان بعد ذلك ببني قينقاع.
إذا ثبت هذا:فإنّه عليه السّلام يرضخ لهم،و لا يبلغ بهم سهم المجاهدين المسلمين (4).
لئلاّ يشقّ عليهم،إلاّ مع الحاجة،فيجوز،كما جدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في السير جدّا
ص:74
شديدا حين بلغه قول عبد اللّه بن أبي:ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل (1).
و لا يميل الأمير مع موافقيه في المذهب و النسب على مخالفيه فيهما؛لئلاّ يكسر قلوب غيرهم فيخذلونه عند الحاجة.
و ينبغي أن يستشير أصحابه من ذوي الرأي:لقوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (2).
و يتخيّر لأصحابه المنازل الجيّدة و موارد المياه و مواضع العشب.
و يحمل من نفقت (3)دابّته إذا كان معه أو مع أصحابه فضل.
و لو خاف رجل تلف آخر لموت دابّته،قيل:يجب عليه بذل فضل مركوبه؛ ليحيى به صاحبه،كما يجب عليه بذل فاضل الطعام للمضطرّ و تخليصه من عدوّه (4).
و لا بأس بالعقبة بأن يكون الفرس الواحد لشخصين يتعاقبان عليه:لما فيه من المعونة و الإرفاق.
ص:75
في كيفيّة القتال
و يلزم الرعيّة طاعته فيما (1)يراه،و ينبغي له أن يبدأ بترتيب قوم على أطراف البلاد رجالا يكفون من بإزائهم من المشركين،و يأمر بعمل حصون لهم و حفر خنادق و جميع ما فيه مصلحة لهم ليحترسوا بها من المشركين و يحفظوا المسلمين.
و ينبغي له أن يجعل في كلّ ناحية أميرا يقلّده أمر الحرب و تدبير الجهاد،يكون ذا أمانة و رفق و نصح للمسلمين و رأي في التدبير و عقل و قوّة و شجاعة و مكايدة للعدوّ؛لأنّه لا يؤمن على الأطراف من المشركين،فوجب حراستهم بما ذكرناه.
و لو احتاجوا إلى المدد،استحبّ للإمام ترغيب الناس في المقام عندهم، و الترداد (2)إليهم كلّ وقت؛ليأمنوا فساد المشركين و يستغنوا عن استنقاذ ما يأخذونه بالجيوش الكثيرة و الأموال العظيمة.
فإن رأى الإمام بالمسلمين قلّة يحتاج معها إلى المهادنة،هادنهم،و إن كان فيهم قوّة،لم يترك الغزو و جاهدهم،و ينبغي له أن يغزو في كلّ عام،و أقلّه مرّة-على ما تقدّم- (3)إمّا بنفسه أو بمن يأمره،و كلّما كثر الجهاد،كان أفضل؛لأنّه واجب على
ص:76
الكفاية فالإكثار منه مستحبّ.
لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ (1).
و لأنّ الأقرب أكثر ضررا،و في قتاله دفع ضرره عن المقاتل له و عمّن وراءه، و الاشتغال عنه بالبعيد يمكّنه من انتهاز الفرصة في المسلمين؛لاشتغالهم عنه.
و قد روى الشيخ عن عمران بن عبد اللّه القمّيّ،عن جعفر بن محمّد عليهما السلام في قول اللّه عزّ و جلّ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ (2)قال:
«الديلم» (3).
إذا ثبت هذا:فإن كان الأبعد أشدّ خطرا و أعظم ضررا،كان الابتداء بقتاله أولى، و لو كان قريبا و أمكنه الفرصة من الأبعد،أو كان الأقرب مهادنا،أو منع من قتاله مانع،جازت البدأة به أيضا؛لكونه موضع الحاجة.
إذا عرفت هذا:فإنّ الإمام يتربّص بالمسلمين إذا كان فيهم (4)قلّة و ضعف، و يؤخّر الجهاد حتّى يشتدّ أمر المسلمين،فإذا اشتدّت شوكتهم،وجب عليه المبادرة إلى الجهاد.
و قد عدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفرار من الزحف من الكبائر (1).
إذا عرفت هذا:فإنّما يجب الثبات بأمرين:
أحدهما:أن لا يزيد الكفّار على الضعف من المسلمين،فإن زادوا،لم يجب الثبات؛لقوله تعالى: اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (2)و هذا خبر في الصورة و أمر في المعنى؛لأنّه لو كان خبرا حقيقيّا،لم يكن ردّنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفا،و متى لم يزيدوا على الضعف،وجب الثبات؛للآية،و قد كان الواجب ثبات الواحد للعشرة.
قال ابن عبّاس:نزلت: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (3)فشقّ على المسلمين،ثمّ جاء التخفيف،فقال: اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ (4). (5)
[و] (6)قال ابن عبّاس:من فرّ من اثنين فقد فرّ،و من فرّ من ثلاثة فما فرّ (7).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن الحسن بن صالح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:كان يقول:«من فرّ من رجلين في القتال من الزحف فقد فرّ،و من فرّ من ثلاثة في القتال من الزحف فلم يفرّ» (8).
الثاني:أن لا يقصد بفراره الهزيمة من الحرب،فلو قصد الهزيمة و الهرب،كان
ص:78
فارّا من الزحف.
و لو قصد التحرّف لقتال أو التحيّز إلى فئة،لم يكن فارّا من الزحف،و كان سائغا.
و معنى التحرّف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون أمكن للقتال،كاستدبار الشمس أو الريح،أو يرتفع عن هابط،أو يمضي إلى موارد المياه من المواضع المعطشة،أو يفرّ من بين أيديهم لتنتقض صفوفهم،أو تنفرد الخيّالة من الرجّالة،أو ليجد فيهم فرصة،أو ليستند إلى جبل،أو غير ذلك من الأسباب و المصالح التي جرت عادة أهل الحرب بها.
و أمّا التحيّز إلى فئة،فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم،فيقوى بهم على عدوّهم،سواء بعدت المسافة أو قصرت،و سواء كانت الفئة قليلة أو كثيرة؛ عملا بالعموم.
لقوله تعالى: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (1).
و قيل:يجوز (2)؛لقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (3).
و الأوّل أقوى؛لقوله تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا (4).
و لا يسلّم نفسه
ص:79
للأسر،فيفوز بثواب اللّه تعالى و درجة الشهادة،و يسلم من حكم الكفّار عليه بالتعذيب و الاستخدام و الفتنة.
لم يجب الثبات إجماعا، و لو غلب على ظنّ المسلمين الظفر،استحبّ لهم الثبات؛لما فيه من المصلحة،و لا يجب؛لأنّهم لا يأمنون العطب.و لأنّ الحكم بجواز الفرار علّق على مظنّته،و هو كون المسلمين أقلّ من نصف العدوّ،و لهذا لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف و لو غلب على ظنّهم الهلاك فيه.
قيل:يجب الانصراف إذا أمنوا معه؛لقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1).
و قيل:لا يجب؛لأنّ لهم غرضا في الشهادة (2).و هو حسن.
و كذا القول فيمن قصده رجل فغلب في ظنّه أنّه إن ثبت له،قتله،فعليه الهرب.
و لو غلب على ظنّهم الهلاك في الانصراف و الثبات،فالأولى لهم الثبات؛لينالوا درجة الشهادة و هم مقبلون على القتال صابرون عليه و لا يكونون من المولّين.
و لجواز أن يغلبوا؛لقوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ (3)و هل يجب؟فيه إشكال.
لأنّ الثبات للضعف إنّما يجب إذا تعدّد المسلمون فيقوى كلّ واحد منهم بصاحبه،أمّا مع انفراد المسلم فقد يزداد ضعفا،فلهذا لم يجب.
ص:80
و قيل:يجب (1)،و عليه دلّت رواية الحسن بن صالح عن الصادق عليه السلام، و قد مرّت (2).
و إن كانوا أكثر من النصف؛ليلحقهم المدد و النجدة،و لا يكون ذلك فرارا و لا تولّيا؛لأنّ الفرار إنّما يكون بعد اللقاء،و كذا التولّي.
و لو لقوهم خارج الحصن،جاز لهم التحيّز إلى الحصن؛للاستثناء في الآية (3).
و لو غزوا فذهبت دوابّهم،فليس عذرا لجواز الفرار؛لأنّ القتال ممكن للرجّالة.
و لو تحيّزوا إلى جبل ليقاتلوا فيه و هم رجّالة جاز؛لأنّه تحرّف لقتال.
و لو تلف سلاحهم و التجئوا إلى مكان يمكنهم القتال فيه بالحجارة و التستّر بالشجر و نحوه،جاز.
و لو ولّوا حينئذ لا بنيّة القتال بالحجارة و الخشب،ففي لحوق الإثم بهم نظر؛ لأنّهم لا يقدرون في هذه الحالة على الدفع.
فاشتعلت فيها،فإن غلب على ظنّهم السلامة بالمقام أقاموا،و إن (4)غلب بالإلقاء في الماء ألقوا أنفسهم،و إن استوى الأمران،قال الأوزاعيّ:هما موتتان فاختر أيّهما شئت (5).
و قال بعض الجمهور:يلزمهم المقام؛لأنّهم إذا رموا أنفسهم في الماء،كان موتهم بفعلهم،و إن أقاموا،فموتهم بفعل غيرهم (6).
ص:81
و الأوّل:أقرب.
و الرفق بالمسلمين،و أن لا يحملهم على مهلكة،و لا يكلّفهم نقب (1)حصن يخاف من سقوطه عليهم،و لا دخول مطمورة (2)يخشى من قتلهم تحتها،فإن فعل شيئا من ذلك فقد أساء و استغفر اللّه تعالى،و لا يجب عليه عقل و لا دية و لا كفّارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته؛لأنّه فعله باختياره و معرفته،فلا يكون ضامنا.
بما رواه الشيخ في الحسن عن معاوية بن عمّار،قال:أظنّه عن أبي حمزة الثماليّ،عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه،ثمّ يقول:سيروا بسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تغلّوا و لا تمثّلوا و لا تغدروا و لا تقتلوا شيخا فانيا و لا صبيّا و لا امرأة،و لا تقطعوا شجرا إلاّ أن تضطرّوا إليها،و أيّما رجل من أدنى المسلمين و أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه،فإن تبعكم فأخوكم في دينكم،و إن أبى فأبلغوه،مأمنه،ثمّ استعينوا باللّه عليه» (3).
و عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا أراد[أن] (4)يبعث أميرا له (5)على سريّة،أمره بتقوى اللّه عزّ و جلّ في خاصّة نفسه ثمّ في أصحابه عامّة،ثمّ يقول:اغزوا بسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه،
ص:82
قاتلوا من كفر باللّه و لا تغلّوا و لا تمثّلوا،و لا تقتلوا وليدا و لا متبتّلا في شاهق (1)،و لا تحرقوا النخل،و لا تغرقوه بالماء،و لا تقطعوا شجرة مثمرة، و لا تحرقوا زرعا،لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه،و لا تعقروا[من] (2)البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ (3)لكم من أكله،و إذا لقيتم عدوّا من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث،فإن هم أجابوكم إليها فاقبل منهم و كفّ عنه؛ادعوهم إلى الإسلام فإن فعلوا فاقبل منهم و كفّ عنهم،[و ادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام،فإن فعلوا فاقبل منهم و كفّ عنهم] (4)،و إن أبوا أن يهاجروا و اختاروا ديارهم و أبوا أن يدخلوا في دار الهجرة،كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين،و لا يجري لهم في الفيء[من] (5)القسمة شيئا إلاّ أن يجاهدوا في سبيل اللّه،فإن أبوا هاتين فادعوا إلى إعطاء الجزية عن يد و هم صاغرون،فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم و كفّ عنهم،و إن أبوا فاستعن باللّه عليهم و جاهدهم في اللّه حقّ جهاده،و إذا حاصرت أهل حصن فإن أرادوا أن ينزلوا على حكم اللّه فلا تنزلهم، و لكن أنزلهم على حكمي،ثمّ اقض فيهم بعد بما شئتم،فإنّكم إن أنزلتموهم لم تدروا[هل] (6)تصيبوا حكم اللّه فيهم أم لا،فإذا حاصرتم أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على ذمّة اللّه و ذمّة رسوله فلا تنزلهم،و لكن أنزلهم على ذمّتكم (7)و ذمم
ص:83
آبائكم و إخوانكم فإنّكم إن تخفروا (1)ذمّتكم و ذمم آبائكم و إخوانكم،كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمّة اللّه و ذمّة رسوله-صلّى اللّه عليه و آله-» (2).
دخولا و خروجا بلا خلاف.
قال اللّه تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ (3).
و حاصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أهل الطائف شهرا (4).و لأنّهم ربّما رغبوا في الإسلام و عرفوا محاسنه.
و يجوز أن ينصب عليهم المنجنيق،و يرميهم بالحجارة،و يهدم الحيطان و الحصون و القلاع؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نصب على أهل الطائف منجنيقا (5).
و يجوز أيضا:نصب العرّادة (6)و يرمي الرجال و يهدم به الحصون و يقتل الكفّار؛لأنّ أكثر ما فيه أنّه (7)يقتلهم غيلة،و ذلك جائز على ما يأتي.
و يجوز نصب المنجنيق و الرمي بالحجارة و إن كان فيهم نساء و صبيان؛لما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه نصب على أهل الطائف المنجنيق و كان فيهم نساء و صبيان (8).
ص:84
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن حفص بن غياث،قال:كتب إليّ بعض إخواني أن أسأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن مدينة من مدائن الحرب هل يجوز أن يرسل عليهم (1)الماء،أو يحرقون بالنيران،أو يرمون بالمنجنيق حتّى يقتلوا و فيهم النساء و الصبيان و الشيخ الكبير و الأسارى من المسلمين و التجّار؟فقال:«يفعل ذلك،و لا يمسك عنهم لهؤلاء،و لا دية عليهم و لا كفّارة» (2).
و لأنّه في محلّ الضرورة،فكان (3)سائغا.
و نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن قتل النساء و الصبيان مصروف إلى قتلهم صبرا (4)؛لأنّه عليه السلام رماهم بالمنجنيق في الطائف.
نزل المشركون إليهم و ظفروا بهم،جاز الرمي؛
لأنّه في محلّ الضرورة؛إذ حفظ من معه من المسلمين أولى،و يدلّ عليه:حديث حفص بن غياث.
و إن لم يكن خوف و لا هناك ضرورة إلى الرمي،نظر إلى المسلمين،فإن كانوا نفرا يسيرا،جاز رمي المشركين؛لأنّ الظاهر أنّه يصيب غيرهم لكنّه يكون مكروها؛لأنّه ربّما قتل مسلما من ضرورة.
و إن كان المسلمون كثيرين،لم يجز الرمي؛لأنّ (5)الظاهر أنّه يصيبهم، و لا يجوز قتل المسلمين لغير ضرورة.
و لو لم يكن في المشركين أحد من المسلمين،جاز الرمي مطلقا بكلّ حال.
ص:85
لقوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ (1).
و لأنّه إذا جاز قتلهم،جاز تخريب بيوتهم،هذا إذا غلب على ظنّه الحاجة إلى ذلك و أنّه لا يملكهم (2)إلاّ بتخريب منازلهم.
أمّا لو لم يحتج إلى ذلك فالأولى أن لا يفعله،و لو فعله،جاز؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خرّب حصون بني النضير و خيبر و هدم ديارهم (3).
أمّا إلقاء النار إليهم و قذفهم بها و رميهم بالنفط،فإنّه جائز مع الحاجة إليه في قول أكثر أهل العلم (4)،خلافا لبعضهم (5).
لنا:أنّ أبا بكر أمر بتحريق أهل الردّة،و فعله خالد بن الوليد بأمره (6).
و من طريق الخاصّة:رواية (7)حفص بن غياث،عن أبي عبد اللّه عليه السلام (8)و هل يجوز مع عدم الحاجة؟قال بعضهم:لا يجوز (9)،و كلام الشيخ-رحمه اللّه-
ص:86
يفهم منه الجواز (1)،و هو الحقّ؛لأنّه سبب في إهلاكهم،فكان جائزا،كقتلهم بالسيف،و لحديث حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السلام.
احتجّ المخالف (2):بما رواه حمزة الأسلميّ (3)أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمّره على سريّة،قال:فخرجت فيها،فقال:«إن أخذتم فلانا،فأحرقوه بالنار» فولّيت فناداني فرجعت،فقال:«إن أخذتم فلانا فاقتلوه و لا تحرقوه،فإنّه لا يعذّب بالنار إلاّ ربّ النار» (4).
و الجواب:أنّه غير محلّ النزاع؛لأنّ الواجب عندنا قتل الأسير بالسيف،أمّا حرقه فلا يجوز،و ليس النزاع فيه،بل في فتح بلادهم بالنار.
من رمي الحيّات القواتل إليهم و العقارب،و كلّ ما فيه ضرر عليهم.
و كذا يجوز تغريقهم (5)بالماء،و فتح البثوق (6)عليهم،لكن يكره مع القدرة عليهم بغيره،خلافا لبعضهم،فإنّه منع (7)و البحث فيه كما في إلقاء النار.
و هل يجوز إلقاء السمّ في بلادهم؟الأولى الكراهية.و منع منه الشيخ رحمه اللّه (8).
ص:87
احتجّ عليه:بما رواه السكونيّ عن جعفر،عن أبيه،عن عليّ عليهم السلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يلقى السمّ في بلاد المشركين (1).
و لنا (2):أنّه سبب في الظفر،فجاز فعله،كالنار و المنجنيق،و النهي محمول على الكراهية.
و لو احتاج إليه،جاز في قول عامّة أهل العلم.و منع منه أحمد (3).
لنا:قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ (4)قال ابن عبّاس:اللينة:النخلة غير الجعرور (5).
و روى الجمهور:أنّ النبيّ (6)صلّى اللّه عليه و آله قطع الشجر بالطائف و نخلهم، و قطع النخل بخيبر،و قطع شجر بني المصطلق و أحرق (7).
و أمّا الكراهية؛فلإمكان تملّكهم أرضهم فيكون تضييعا على المسلمين.
و ما رواه الشيخ-في الحسن-عن أبي حمزة الثماليّ،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه،ثمّ يقول:سيروا بسم اللّه»إلى قوله:«و لا تقطعوا شجرا إلاّ أن
ص:88
تضطرّوا إليها» (1)
و في حديث مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:«و لا تحرقوا النخل،و لا تغرقوه بالماء،و لا تقطعوا شجرة مثمرة، و لا تحرقوا زرعا؛لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه» (2).
و إنّما يلاقون بالنهار،و لو احتاجوا إلى ذلك،فعلوه بهم.
روى الجمهور:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شنّ الغارة (3)على بني المصطلق ليلا (4).و لأنّه في محلّ الحاجة.و لأنّ الغرض قتلهم،فجاز التبييت؛لأنّه أبلغ في احتفاظ (5)المسلمين.
و أمّا الكراهية:فإنّما تثبت مع الغنى عن التبييت؛لما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا طرق العدوّ ليلا لم يغر حتّى يصبح (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن عبّاد بن صهيب،قال:سمعت أبا عبد اللّه
ص:89
عليه السلام يقول:«ما بيّت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدوّا قطّ ليلا» (1).
إذا ثبت هذا:فإنّه يستحبّ القتال بعد الزوال؛لأنّه ربّما يحضر وقت صلاة الظهر فلا يمكنهم أداؤها،بخلاف العشاءين؛لأنّهم بالليل ينكفّون عن القتال.
و لما رواه الشيخ عن يحيى بن أبي العلاء،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:
«كان عليّ عليه السلام لا يقاتل (2)حتّى نزول الشمس،و[يقول:] (3)تفتح أبواب السماء و تقبل الرحمة و ينزل النصر،و يقول:هو أقرب إلى الليل و أجدر أن يقلّ القتل و يرجع الطلب و يغلب المهزوم (4)» (5).
قتلها حال قتالهم (1).
لنا:ما رواه الجمهور عن أبي بكر،قال في وصيّته (2)ليزيد بن أبي سفيان (3)حين بعثه أميرا على القتال:و لا تعقرنّ شجرا مثمرا،و لا دابّة عجماء،و لا شاة إلاّ لمأكلة (4).
و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن قتل شيء من الدوابّ صبرا (5).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«و لا تعقروا[من] (6)البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله» (7).
و لأنّه حيوان ذو حرمة،فلا يجوز قتلها،لمغايظة الكفّار،كالنساء و الصبيان.
و أمّا في حال الحرب فيجوز فيها قتل المشركين بدوابّهم كيف كان؛لأنّها حالة يجوز فيها قتل الصبيان و النسوان و الأسارى من المسلمين،فالدوابّ أولى،و لأنّه
ص:91
يتوصّل بقتل بهائمهم إلى قتلهم و هربهم.و قد عقر حنظلة بن الراهب فرس أبي سفيان يوم أحد،فرمت به فخلّصه ابن شعوب (1). (2)و لا نعرف في جواز ذلك خلافا.
إذا كان ممّا لا يتّخذ إلاّ للأكل، كالدجاج و الحمام،و ما أشبه ذلك من أصناف الطيور بالإجماع؛لأنّه كالطعام، فجاز تناوله.
و لو كان ممّا يحتاج إليه للقتال،كالخيل،جاز ذبحه عند الحاجة إليه،خلافا لبعض الجمهور (3).
لنا:أنّ فيه إضعافا لهم،مع دعوى الحاجة إليه،فكان سائغا،كحال الحرب و لو كان ممّا لا يحتاج إليه في القتال،كالغنم و البقر فإنّه يجوز ذبحها.
و عن أحمد روايتان:إحداهما:المنع (4).
لنا:أنّ هذا الحيوان مثل الطعام في الأكل و القوت،فكان مثله في إباحته.و إذا ذبح الحيوان،أكل لحمه،و ليس له الانتفاع بجلده،بل يردّ إلى المغنم.و لأنّه حيوان
ص:92
مأكول،فأبيح أكله،كالطير.و لحديث مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«و لا تعقروا[من] (1)البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله» (2)،و الاستثناء يدلّ على الجواز.
احتجّ أحمد (3):بما رواه ثعلبة بن الحكم (4)قال:أصبنا غنما للعدوّ فانتهبناها فنصبنا قدورنا،فمرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالقدور و هي تغلي،فأمر بها فكبّت فأكفئت،ثمّ قال لهم:«إنّ النهبة لا تحلّ» (5).
و لأنّها حيوانات تكثر قيمتها و تشحّ أنفس الغانمين بها،و يمكن حملها إلى دار الإسلام.
و الجواب:أنّ الحديث مخصوص بمن له هدنة لا يحلّ نهب ماله،لا مطلقا.
و كثرة القيمة لا تمنع من ذبحها للحاجة،كما لو أذن الإمام.
و كذا لو قسمها؛لما روى معاذ، قال:غزونا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خيبر فأصبنا غنما فقسم بيننا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طائفة و جعل بقيّتها في المغنم (6).
ص:93
جاز ذبحه و الانتفاع به مع الحاجة و عدمها؛لانتفاع المسلمين بها و إن لم يكن لهم حاجة فيها.
و خافوا أن يأخذوها من أيديهم،لم يجز لهم قتلها و لا عقرها؛لما قلناه (1).
أمّا لو كانوا رجّالة،أو على خيل قد كلّت،و خافوا أن يستردّوها فيركبونها و يظفرون بهم،فإنّه يجوز لهم قتلها للحاجة.
فإن كانت الحرب ملتحمة،جاز قتالهم،و لا يقصد قتل الصبيّ و لا المرأة،بل قتل من خلفهم،و لا يكفّ عنهم لأجل الترس؛لما رواه الشيخ عن حفص بن غياث،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،هل يجوز أن يرسل عليهم الماء،أو يحرقون بالنار،أو يرمون بالمنجنيق حتّى يقتلوا و فيهم النساء و الصبيان،و الشيخ الكبير و الأسارى من المسلمين و التجّار؟فقال:«يفعل ذلك بهم و لا يمسك عنهم لهؤلاء،و لا دية عليهم و لا كفّارة» (2).
و لأنّ تركهم يؤدّى إلى قتل المسلمين؛لأنّهم يرمونهم و لا يرميهم المسلمون.
و لأنّ قتل النساء و الصبيان منع منه مع الانفراد.
و لأنّ في الكفّ عنهم تعطيلا للجهاد؛لأنّهم متى ما أراد المسلمون الجهاد تترّسوا عنهم.
أمّا إذا لم تكن الحرب ملتحمة،فإن كان المشركون في حصن متحصّنين،أو كانوا من وراء خندق كافّين عن القتال،قال الشيخ-رحمه اللّه-:يجوز رميهم.
و الأولى تجنّبهم (3)،و للشافعيّ قولان:
ص:94
أحدهما:لا يجوز رميهم؛لأنّه لا حاجة به إلى قتل النساء و الصبيان.
و الثاني:يرميهم؛لأنّه يؤدّي إلى تعطيل الجهاد (1).
و الأقرب عندي:اعتبار الحاجة،فإن وجدت،جاز رميهم،و إلاّ كره،و يكون سائغا؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رماهم بالمنجنيق و فيهم النساء و الصبيان (2).
فإن لم تكن الحرب قائمة،لم يجز الرمي،و كذا لو أمكنت القدرة عليهم بدون الرمي،أو أمن شرّهم،فلو خالفوا و رموا،كان الحكم فيه كالحكم في غير هذا المكان،إن كان القتل عمدا فالقود و الكفّارة على قاتله،و إن كان خطأ فالدية على العاقلة و الكفّارة عليه؛لأنّه فعل ذلك من غير حاجة.
و لو كان حال التحام الحرب،جاز رميهم،و يقصد بالرمي المشركين لا المسلمين؛للضرورة إلى ذلك.هذا إذا دعت الضرورة إلى رميهم،بأن يخاف منهم لو تركوا.و لو لم يخف منهم لكن لا يقدر عليهم إلاّ بالرمي،فالأولى القول بالجواز أيضا،و به قال الشافعيّ (3).
و قال الليث و الأوزاعيّ:لا يجوز رميهم (4).
لنا:أنّ تركهم يفضي إلى تعطيل الجهاد.
احتجّوا:بقوله تعالى: وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ... الآية (5).قال الليث:ترك فتح
ص:95
حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حقّ (1).
و قال الأوزاعيّ:كيف يرمون من لا يرونه؟! (2)إنّما يرمون أطفال المسلمين (3).
و هو ضعيف؛لما بيّنّا (4).و الآية محمولة على غير حال التحام الحرب.
و لم يعلم أنّه مسلم و الحرب قائمة،فلا دية عليه؛لأنّه مأمور بالرمي.و لأنّا لو أوجبنا الدية أدّى إلى بطلان الجهاد جملة؛لأنّه يجوز أن يكون كلّ رجل يقصده مسلما فيمتنع من الرمي.
لنا:قوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (1)و لم يذكر الدية فلا تكون واجبة.
و لأنّ إيجاب الضمان يستلزم إبطال الجهاد.و لأنّه رمي مباح،فأشبه ما إذا لم يعلمه.
و يؤيّده:حديث حفص بن غياث،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (2).
احتجّ المخالف:بقوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ (3).
و لأنّه قتل معصوما بالإيمان،و القاتل من أهل الضمان،فأشبه ما لو لم يتترّس به (4).
و الجواب عن الآية:أنّها عامّة،و الآية التي تلوناها خاصّة،فتكون مقدّمة عليه.
و عن الثاني:بالفرق بين التترّس و عدمه إجماعا،فيكون الحكم مستندا إلى الفارق.
و أحمد بن حنبل (1).
و قال أبو حنيفة:لا تجب الكفّارة أيضا (2).و هو رواية لنا أيضا (3).
لنا:قوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (4).
و لأنّه قتل معصوم الدم بالإيمان،و القاتل من أهل الضمان فوجبت عليه الكفّارة.
احتجّ المخالف:بأنّه جوّز له الرمي و إن غلب على ظنّه أنّه يصيبه،فإذا أصابه لم تتعلّق به الكفّارة،كمباح الدم (5).
و الجواب:الفرق؛فإنّ مباح الدم لا يجب توقّيه،و هذا يجب توقّيه،فافترقا.
و لا نسائهم و لا المجانين منهم.
روى الجمهور عن أنس بن مالك،أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«انطلقوا بسم اللّه و باللّه و على ملّة رسول اللّه لا تقتلوا شيخا فانيا،و لا صغيرا و لا امرأة» (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ-في الحسن-عن أبي حمزة الثماليّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه،ثمّ يقول:سيروا بسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه
ص:98
و على ملّة رسول اللّه-صلّى اللّه عليه و آله-لا تغلّوا و لا تمثّلوا و لا تغدروا،و لا تقتلوا شيخا فانيا و لا صبيّا و لا امرأة» (1).الحديث.
و في الصحيح عن محمّد بن حمران و جميل بن درّاج كليهما،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا بعث سريّة بعث (2)أميرها فأجلسه إلى جنبه و أجلس أصحابه بين يديه،ثمّ قال:سيروا بسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه-صلّى اللّه عليه و آله-لا تغدروا و لا تمثّلوا و لا تغلّوا،و لا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطرّوا إليها،و لا تقتلوا شيخا و لا صبيّا و لا امرأة، و أيّما رجل من أدنى المسلمين و أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه،فإن تبعكم فأخوكم في دينكم،و إن بغت (3)فاستعينوا باللّه عليه و أبلغوا به مأمنه» (4).
و لأنّهم ليسوا من أهل المحاربة،فلا ينبغي قتلهم.
لو قاتلت المرأة،لم يجز قتلها
إلاّ مع الاضطرار؛عملا بعموم النهي،أمّا مع الضرورة فيجوز قتلها إجماعا؛للضرورة.
و لما رواه ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرّ بامرأة مقتولة يوم الخندق، فقال:«من قتل هذه؟»فقال رجل:أنا يا رسول اللّه،قال:«و لم؟»قال:نازعتني
ص:99
قائم سيفي،فسكت (1).
و لو أسرت،لم يجز قتلها؛لنهيه صلّى اللّه عليه و آله عن قتل النساء و الولدان (2).و لو وقفت امرأة في صفّ الكفّار أو على حصنهم،فشتمت المسلمين أو تكشّفت لهم،جاز رميها.
روى عكرمة،قال:لمّا حاصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أهل الطائف، أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها،فقال:«هادونكم فارموا» (3)فرماها رجل من المسلمين،فما أخطأ ذلك منها (4).
و يجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى الرمي.
أحدها:أن يكون له رأي و قتال،فيجوز قتله إجماعا.
الثاني:أن يكون فيه قتال و لا رأي له،فيجوز قتله أيضا.
الثالث:أن يكون له رأي و لا قتال فيه،فيجوز قتله أيضا إجماعا؛لأنّ دريد بن الصمّة (5)قتل يوم حنين و كان له مائة و خمسون سنة،و كان له معرفة بالحرب، و كان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد ليعرّفهم كيفيّة القتال،فقتله
ص:100
المسلمون،و لم ينكر عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1).
الرابع:أن لا يكون له قتال و لا رأي له،كالشيخ الفاني،فهذا لا يجوز قتله عندنا.و به قال أبو حنيفة (2)،و مالك،و الثوريّ،و الليث،و الأوزاعيّ،و أبو ثور (3).
و قال أحمد بن حنبل:يقتل (4).و به قال المزنيّ (5)،و أبو إسحاق (6).و للشافعيّ قولان (7):
لنا:قوله عليه السّلام:«لا تقتلوا شيخا فانيا» (8).
و لأنّه لا ضرر فيه من حيث المخاصمة و من حيث المشورة.و لأنّه ليس من أهل القتال،فلا يقتل،كالمرأة.و قد أومأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى هذه العلّة في
ص:101
المرأة،فقال:«ما بالها قتلت و هي لا تقاتل» (1).
احتجّوا:بعموم قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (2). (3)
و ما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«اقتلوا شيوخ المشركين و استبقوا شرخهم» (4).و الشرخ:هم الصبيان.
و قال ابن المنذر:لا أعرف حجّة في ترك قتل الشيوخ،يستثنى بها من عموم قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ .و لأنّه كافر لا نفع في حياته،فيقتل،كالشابّ (5).
و الجواب عن الأوّل:أنّه مخصوص بالنساء و الصبيان إجماعا،فكذا الشيخ الهمّ؛لأنّه في معناهما.
و عن الثاني:أنّ المراد بالشيوخ:الذين فيهم قوّة القتال أو معونة عليه برأي أو تدبير؛جمعا بين الأحاديث.
و لأنّ حديثنا أخصّ لأنّه يتناول الشيخ الفاني،و حديثهم أعمّ؛لأنّه يتناول الشيوخ مطلقا.
ص:102
إن كانوا شيوخا لهم قوّة أو رأي، و كذا لو كانوا شبّانا قتلوا،كغيرهم،إلاّ من كان شيخا فانيا عادم الرأي؛للعموم.
قال الشيخ-رحمه اللّه-:و قد روي أنّ هؤلاء[لا] (1)يقتلون (2).
الأولى إلحاقهما بالشيخ الفاني؛لأنّهما ليسا من أهل القتال،فأشبها المرأة.
لأنّهم يصيرون رقيقا للمسلمين بالسبي،فحكمهم حكم النساء و الصبيان.
و لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«أدركوا خالدا فمروه أن لا يقتل ذرّيّة (4)، و لا عسيفا (5)» (6)و هم العبيد.
إلاّ النساء،إلاّ لضرورة،على ما تقدّم (7).
و يؤيّده:ما رواه حفص عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن قتل النساء و الولدان في دار الحرب،إلاّ أن تقاتل،فإن قاتلت أيضا فأمسك عنها ما أمكنك»ثمّ قال:«و كذلك المقعد من أهل الذمّة
ص:103
و الشيخ الفاني و المرأة و الولدان» (1).
و كذا الشيوخ و الصبيان؛لما تقدّم (2)،و لما رواه السكونيّ عن جعفر،عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام[قال] (3):«إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:اقتلوا المشركين و استحيوا شيوخهم و صبيانهم» (4).
أمّا مع الضرورة إلى قتل النساء،فإنّه جائز،فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن مسلمة (5). (6)و وقف على امرأة مقتولة،فقال:«ما بالها قتلت و هي لا تقاتل» (7).
لأنّ ذلك بمنزلة الإجهاز على الجريح،أمّا لو آيس من برئه،فالوجه:أنّه يكون بمنزلة الزّمن؛لأنّه لا يخاف منه أن يصير إلى حال يقاتل فيها.
منه الإسلام،و به قال الشافعيّ (1).و خالف فيه أحمد بن حنبل (2).
لنا:ما تقدّم،و قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (3).
احتجّوا (4):بقول عمر بن الخطّاب:اتّقوا اللّه في الفلاّحين الذين لا ينصبون لكم الحرب (5).
و الجواب:أنّ قول عمر ليس بحجّة في نفسه فضلا إذا عارض القرآن.
خمسة:
فيحرزوا (6)بالإسلام دماءهم و أموالهم؛لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها» (7).
فإن كان جزية و هم من أهلها،قبلت
ص:105
منهم؛لقوله تعالى: حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (1).
و إن لم يكن جزية،بأن كانوا حربيّين،اعتبرت المصلحة،فإن وجد الإمام من المصلحة قبوله،قبله منهم،و إلاّ فلا.
و يملكه و يقهرهم عليه.
إمّا بأن يتضرّر المسلمون بالإقامة،أو بأن يحصل اليأس منه،أو لتحصيل مصلحة تفوت بالإقامة مع الحاجة إليها،كما روي:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حاصر أهل الطائف،فلم ينل منهم شيئا،فقال:«إنّا قافلون إن شاء اللّه تعالى غدا»فقال المسلمون:أ نرجع و لم نفتحه؟! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«اغدوا على القتال»فغدوا عليه،فأصابهم الجراح،فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«إنّا قافلون غدا»فأعجبهم فقفل (2)رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (3).
كما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ،فأجابهم إلى ذلك (4).
و لا الغدر بهم و لا الغلول منهم؛لقول أبي
ص:106
عبد اللّه عليه السلام في حديث أبي حمزة الثماليّ-الحسن-عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«إذا أراد أن يبعث سريّة،دعاهم،فأجلسهم بين يديه،ثمّ يقول:سيروا بسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه-صلّى اللّه عليه و آله-لا تغلّوا و لا تمثّلوا و لا تغدروا،و لا تقتلوا شيخا فانيا و لا صبيّا و لا امرأة»الحديث (1).
و كذا في حديث مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السلام،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«قاتلوا في سبيل اللّه من كفر باللّه و لا تغدروا و لا تغلّوا و لا تمثّلوا» (2).
و كذا في حديث جميل بن درّاج-الصحيح-عن أبي عبد اللّه عليه السلام (3).
ص:107
في المبارزة
في قول عامّة أهل العلم،إلاّ الحسن البصريّ،فإنّه لم يعرفها و كرهها (1).
لنا:ما رواه الجمهور أنّ عليّا عليه السلام بارز يوم خيبر فقتل مرحبا (2)و بارز عمرو بن عبد ودّ يوم الخندق فقتله (3).
و بارز حمزة و عليّ عليه السلام و عبيدة بن الحارث (4)يوم بدر بإذن رسول اللّه
ص:108
صلّى اللّه عليه و آله (1)،و بارز شبر بن علقمة (2)إسوارا (3)فقتله،فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنفّله إيّاه سعد (4).و لم يزل أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يبارزون في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعده،و لم ينكر ذلك منكر،فكان إجماعا، و لا اعتداد بخلاف الحسن البصريّ.
و كان أبو ذرّ يقسم أنّ قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا (5)نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر و هم:حمزة و عليّ عليه السلام و عبيدة،بارزوا عتبة و شيبة و الوليد بن عتبة (6). (7)
و قال أبو قتادة:بارزت رجلا يوم حنين (8)فقتلته (9).
ص:109
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن ابن القدّاح،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«دعا رجل بعض بني هاشم إلى البراز،فأبى أن يبارزه،فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:ما منعك أن تبارزه؟فقال:كان فارس العرب و خشيت أن يقتلني،فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:فإنّه بغى عليك،و لو بارزته لقتلته،و لو بغى جبل على جبل لهدّ الباغي»و قال أبو عبد اللّه عليه السلام:«إنّ الحسن بن عليّ عليهما السلام دعا رجلا إلى المبارزة فعلم أمير المؤمنين عليه السلام،فقال له:لئن عدت إلى مثلها لأعاقبنّك،و لئن دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنّك،أ ما علمت أنّه بغي؟!» (1).
إلاّ بإذن الإمام إذا أمكن.و به قال الثوريّ،و إسحاق (2)،و أحمد بن حنبل (3).
و رخّص فيها مطلقا،من غير إذن الإمام،مالك (4)،و الشافعيّ (5)،و ابن المنذر (6).
لنا:أنّ الإمام أعلم بفرسانه و فرسان المشركين،و من يصلح للمبارزة و من لا يصلح لها،و ربّما حصل للمسلمين ضرر بذلك،فإنّه (7)إذا انكسر صاحبهم كسر
ص:110
فيكون أقرب إلى الظفر و أحفظ لقلوب المسلمين و كسر قلوب المشركين.
و يؤيّده:ما رواه الجمهور أنّ عليّا عليه السلام و حمزة و عبيدة استأذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر (1).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن عمرو بن جميع رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل عن المبارزة بين الصفّين بغير إذن الإمام،قال:«لا بأس به و لكن لا يطلب ذلك إلاّ بإذن الإمام» (2).
احتجّوا:بما رواه أبو قتادة،قال:بارزت رجلا يوم حنين (3)فقتلته (4).و لم يعلم أنّه استأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5).
و الجواب:من وجهين:
أحدهما:أنّه حكاية حال لا عموم لها،و لا تتناول الاستئذان و عدمه على الجمع،بل على البدل،و لا اختصاص لأحدهما دون الآخر،فلا دلالة فيه (6)،بل الاستئذان أولى؛لما عرف من حال الصحابة من متابعتهم للرسول صلّى اللّه عليه و آله خصوصا في كيفيّة الحرب.
الثاني:أنّه غير محلّ النزاع؛لأنّ المتنازع فيه:أنّه هل ينبغي أن يطلب المسلم المبارزة أم لا؟و الحديث دلّ على المبارزة،فجاز أن يكون أبو قتادة فعلها بعد سؤال المشرك،لا لطلب أبي قتادة لها.
ص:111
منها:في قول عليّ عليه السلام،لمّا سئل عن المبارزة بين الصفّين بغير إذن الإمام،قال:«لا بأس،و لكن لا يطلب ذلك إلاّ بإذن الإمام» (1).
و منها:إنكار عليّ عليه السلام على بعض بني هاشم لمّا دعي إلى البراز فامتنع، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:«ما منعك أن تبارزه؟»الحديث (2).
و منها:قوله عليه السلام للحسن عليه السلام لمّا دعا رجلا إلى البراز:«لئن عدت[إلى مثلها] (3)لأعاقبنّك،و لئن دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنّك» (4).
إذا ثبت هذا:فقد ظهر أنّ طلب المبارزة ممنوع منه بغير إذن الإمام و فعلها سائغ من دون إذنه.
و هل طلب المبارزة من دون إذنه حرام أو مكروه؟كلاهما يلوحان من كلام الشيخ (5)-رحمه اللّه-و الذي تدلّ الأخبار عليه:التحريم.
إذا ثبت هذا:فإنّ المبارزة حينئذ تنقسم أقساما أربعة:واجبة،و مستحبّة، و مكروهة،و مباحة.
فالواجبة:إذا ألزم الإمام بها.
و المستحبّة:أن يخرج المشرك فيطلب المبارزة،فيستحبّ لذي القوّة من المسلمين الخروج إليه.
و المكروهة:أن يخرج الضعيف من المسلمين الذي لا يعلم من نفسه المقاومة، فيكره له المبارزة؛لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا.
و المباحة:أن يخرج ابتداءً فيبارز.
لا يقال:إنّ ضعيف (1)القوّة قد جوّز له الدخول في القتال من غير كراهة،فكيف كره له المبارزة!
لأنّا نقول:الفرق بينهما ظاهر،فإنّ المسلم هنا يطلب الشهادة و لا يترقّب (2)منه الغلبة،بخلاف المبارزة،فإنّه يطلب منه الظفر و الغلبة،فإذا قتل،كسر ذلك في المسلمين.
جاز لكلّ أحد رميه و قتله؛لأنّه مشرك لا أمان له و لا عهد،إلاّ أن تكون العادة بينهم جارية أنّ من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له،فيجري ذلك مجرى الشرط.
إذا ثبت هذا:فإن خرج إليه أحد يبارزه بشرط أن لا يعينه عليه سواه،وجب الوفاء له بالشرط؛لقوله عليه السلام:«المؤمنون عند شروطهم» (3).
ص:113
فإن انهزم المسلم تاركا للقتال أو مثخنا بالجراح،جاز قتاله؛لأنّ المسلم إذا صار إلى هذه الحالة فقد انقضى القتال.و لأنّ المشرك شرط الأمان ما دام في القتال و قد زال.
و لو شرط المشرك أن لا يقاتل حتّى يرجع إلى صفّه،وجب الوفاء له إلاّ أن يترك المسلم قتاله أو يثخنه بالجراح فيرجع فيتبعه ليقتله (1)،أو يخشى عليه منه فيمنع و يدفع عن المسلم و يقاتل إن امتنع من الكفّ عنه إلاّ بالقتال؛لأنّه نقض الشرط و أبطل أمانه بمنعهم من إنقاذه (2).
و لو أعان المشركون صاحبهم،كان على المسلمين معونة صاحبهم،و يقاتلون من أعان عليه و لا يقاتلونه (3)؛لأنّه ليس النقض من جهته.
فإن كان قد شرط أن لا يقاتله غير مبارزه،وجب الوفاء له،فإن استنجد أصحابه فأعانوه،فقد نقض أمانه،و يقاتل معهم.و لو منعهم فلم يمتنعوا،فأمانه باق، فلا يجوز قتاله و لكن يقاتل أصحابه.هذا إذا أعانوه بغير قوله،و لو سكت و لم ينههم عن معاونته،فقد نقض أمانه؛لأنّ سكوته يدلّ على الرضا بذلك،أمّا لو استنجدهم، فإنّه يجوز قتاله مطلقا.
لو طلب المشرك المبارزة و لم يشترط،
جاز معونة قرنه.و لو شرط أن لا يقاتله غيره،وجب الوفاء له.فإن فرّ المسلم فطلبه (4)الحربيّ،جاز دفعه على ما قلناه،
ص:114
سواء فرّ المسلم مختارا أو لإثخانه بالجراح.
و يجوز لهم معاونة المسلم مع إثخانه على ما قلناه.
و قال الأوزاعيّ:ليس لهم ذلك و إن أثخن بالجراح،قيل له:فخاف (1)المسلمون على صاحبهم؟قال:و إن؛لأنّ المبارزة إنّما تكون هكذا،و لكن لو حجزوا بينهما و خلّوا سبيل العلج،جاز (2).
لنا:ما رواه الجمهور أنّ حمزة و عليّا عليهما السلام أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين أثخن عبيدة (3).
و لو لم يطلبه المشرك،لم تجز محاربته؛لأنّه لم ينقض شرطا.
و قيل:يجوز قتاله ما لم يشترط الأمان حتّى يعود إلى فئته (4).
و يجوز للمبارز أن يخدع قرنه ليتوصّل بذلك إلى قتله إجماعا.
روى الجمهور أنّ عمرو بن عبد ودّ بارز عليّا عليه السلام،فقال:ما أحبّ قتلك يا ابن أخي،فقال عليّ عليه السلام:«لكنّي أحبّ أن أقتلك»فغضب عمرو و أقبل إليه،فقال عليّ عليه السلام:«ما برزت لأقاتل اثنين»فالتفت عمرو فوثب عليّ عليه السلام فضربه،فقال عمرو:خدعتني،فقال عليّ عليه السلام:«الحرب خدعة» (5).
ص:115
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمّار،عن جعفر،عن أبيه عليهما السلام:«إنّ عليّا عليه السلام كان يقول:لأن تخطفني (1)الطير أحبّ إليّ [من] (2)أن أقول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لم يقل،سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول[في يوم الخندق] (3)الحرب خدعة،يقول متكلّما ممّا (4)أردتم» (5).
و عن مسعدة بن صدقة قال:حدّثني شيخ من ولد عديّ بن حاتم،عن أبيه،عن جدّه عديّ بن حاتم-و كان مع عليّ عليه السلام في غزوته-أنّ عليّا عليه السلام قال يوم التقى هو و معاوية[...بصفّين فرفع بها صوته يسمع أصحابه:«و اللّه لأقتلنّ معاوية] (6)و أصحابه»ثمّ قال[في] (7)آخر قوله:«إن شاء اللّه تعالى»خفض بها صوته،و كنت منه قريبا،فقلت:يا أمير المؤمنين إنّك حلفت على ما قلت ثمّ استثنيت،فما أردت بذلك؟فقال:«إنّ الحرب خدعة و أنا عند المؤمنين غير كذوب،فأردت أن أحرّض[أصحابي] (8)عليهم لكي لا يفشلوا و لكي يطمعوا فيهم، فافهم فإنّك تنتفع بها بعد اليوم إن شاء اللّه تعالى،و اعلم أنّ اللّه عزّ و جلّ قال لموسى عليه السلام حيث أرسله إلى فرعون: فَأْتِياهُ (9)فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ
ص:116
أو يخشى (1)و قد علم أنّه لا يتذكّر و لا يخشى و لكن ليكون ذلك أحرص لموسى على الذهاب» (2).
و إنّما يلاقون بالنهار،و يستحبّ أن يبدأ بالقتال بعد الزوال،و يكره قبله إلاّ مع الحاجة (3).
و يكره أن تعرقب الدابّة،و إن وقفت به،ذبحها و لا يعرقبها؛لما رواه الشيخ عن السكونيّ،عن جعفر،عن أبيه عليهما السلام،قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:إذا حرن (4)على أحدكم دابّته-يعني إذا قامت في أرض العدوّ في سبيل اللّه- فليذبحها و لا يعرقبها» (5).
و روى الشيخ عن السكونيّ أيضا عن جعفر،عن أبيه عليهما السلام،قال:
«...أوّل من عرقب الفرس في سبيل اللّه جعفر بن أبي طالب عليه السلام ذو الجناحين،عرقب فرسه» (6).
و لو ثبت هذا الحديث الثاني،لكان منسوخا بالأوّل.
و تكره أيضا المبارزة بغير إذن الإمام،و قيل:تحرم (7).و الأوّل أقوى.
و تستحبّ إذا ندب إليها الإمام،و تجب إذا ألزم.
ص:117
ص:118
في عقد الأمان
و فيه مباحث:
ص:119
ص:120
في الجواز
و هو جائز إجماعا.
قال اللّه تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (1).
و روى الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه أمّن المشركين يوم الحديبيّة و عقد (2)معهم الصلح (3).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن السكونيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:قلت:ما معنى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«يسعى بذمّتهم أدناهم»؟قال:
«لو أنّ جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل،فقال:
أعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم فأناظره (4)فأعطاه الأمان أدناهم،وجب على أفضلهم الوفاء به» (5).
ص:121
و لا خلاف بين المسلمين في ذلك.
فلو اقتضت المصلحة ترك الأمان و أن لا يجابوا إليه،لم يفعل،و سواء في ذلك عقد الأمان لمشرك واحد أو لجماعة كثيرة،فإنّه جائز مع المصلحة،و لا نعلم فيه خلافا.
وجب أن يعطى أمانا ثمّ يردّ إلى مأمنه،و لا نعلم فيه خلافا؛لقوله تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (1)قال الأوزاعيّ:هي إلى يوم القيامة (2).
إذا عرفت هذا:فإنّه يجوز عقد الأمان للرسول من الكفّار،و للمستأمن؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يؤمّن رسل المشركين،و جاءه رسل مسيلمة،فقال:
«لو لا أنّ الرسل لا تقتل لقتلتكما» (3).
و لأنّ الحاجة داعية إلى المراسلة،و لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت المصلحة الناشئة من المراسلة.
إذا ثبت هذا:فإنّه يجوز عقد الأمان لهما مطلقا و مقيّدا بزمان معيّن طويل أو قصير؛اعتبارا بالمصلحة و نظرا إلى تحصيلها.
ص:122
في العاقد
لأنّ أمور الحرب موكولة إليه،كما كانت موكولة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و هو مكلّف بتكليفه صلّى اللّه عليه و آله، فيجوز له أن يعقد أمانا،كما جاز للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك،و هو إجماع.
إذا عرفت هذا:فإنّ عقد الأمان منوط بنظره،فإن رأى من المصلحة عقد الأمان لواحد،عقده،و كذا له أن يعقد الأمان لأهل حصن أو قرية أو بلد أو إقليم أو لجميع الكفّار بحسب ما يراه من المصلحة.و لا نعلم فيه خلافا؛لأنّ ولايته عامّة على المسلمين كافّة.
و كذا يجوز عقد الأمان لنائب الإمام لمن هو في ولايته جميعهم و آحادهم، و أمّا في غير ولايته،فهو كآحاد الرعايا؛لأنّ ولايته على أولئك دون غيرهم.
أمّا آحاد الرعيّة:فيصحّ أمان الواحد منهم للواحد من المشركين و للعدد اليسير منهم،كالعشرة،و القافلة القليلة،و الحصن الصغير؛لعموم قوله عليه السلام:«و يسعى بذمّتهم أدناهم» (1).
و ما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام:«إنّ عليّا
ص:123
عليه السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن و قال:هو من المؤمنين» (1).
و لأنّ المقتضي لجواز أمانه للواحد-و هو استمالته إلى الإسلام مع أمن ضرره موجود في العدد اليسير.
أمّا العدد الكثير من المشركين،فلا يجوز للواحد من المسلمين عقد الأمان معهم،و لا لأهل بلد،و لا إقليم؛لأنّ في ذلك تعطيلا للجهاد على الإمام،و تقوية للمشركين.
سواء في ذلك المأذون له في الجهاد و غير المأذون،ذهب إليه علماؤنا،و به قال الثوريّ،و الأوزاعيّ (2)، و الشافعيّ (3)،و أحمد بن حنبل (4)،و إسحاق (5)،و أكثر أهل العلم.و هو مرويّ عن عليّ عليه السلام (6)،و عمر بن الخطّاب (7).
و قال أبو حنيفة و أبو يوسف:لا يصحّ أمان العبد إلاّ أن يكون مأذونا له في القتال (8).
لنا:ما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«ذمّة المسلمين
ص:124
واحدة يسعى بها أدناهم،فمن أخفر (1)مسلما،فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل منه صرف و لا عدل (2)» (3).
و عن فضل بن يزيد الرقاشيّ (4)،قال جهّز عمر بن الخطّاب جيشا فكنت فيه، فحصرنا موضعا فرأينا أنّا سنفتحها (5)اليوم،و جعلنا نقبل و نروح،فبقي عبد منّا فراطنهم و راطنوه (6)،فكتب لهم الأمان في صحيفة و شدّها على سهم فرمى بها إليهم فأخذوها و خرجوا،فكتب إلى عمر بن الخطّاب بذلك،فقال:العبد المسلم رجل من المسلمين ذمّته ذمّتهم (7).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام:«إنّ عليّا عليه السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن و قال:هو من المؤمنين» (8).
ص:125
و لأنّه مسلم مكلّف،فصحّ أمانه،كالحرّ،و لأنّ إعطاء الأمان منوط بالمصالح للمسلمين،و هو من جملتهم،فيصحّ أمانه،كغيره من المسلمين الأحرار.
احتجّوا:بأنّه لا يجب عليه الجهاد،فلا يصحّ أمانه،كالصبيّ.و لأنّه مجلوب من دار الحرب،فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم (1).
و الجواب:أنّهما منقوضان بالمرأة و المأذون له.
لأنّ أمّ هانئ قالت:يا رسول اللّه إنّي أجرت أحمائي (2)و أغلقت عليهم،و إنّ ابن أمّي أراد قتلهم،فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانئ،إنّما يجير على المسلمين أدناهم» (3).
و أجارت زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا العاص بن الربيع (4)،
ص:126
فأمضاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1).
لقوله عليه السلام:«رفع القلم عن ثلاث...
عن المجنون حتّى يفيق» (2).
و كذا الصبيّ لا ينعقد أمانه،سواء كان مميّزا أو لم يكن،و به قال الشافعيّ (3)، و أبو حنيفة (4).
و قال مالك (5)،و أحمد:يصحّ أمان الصبيّ المراهق (6).
لنا:قوله عليه السلام:«رفع القلم عن الصبيّ حتّى يبلغ» (7).
ص:127
و لأنّه غير مكلّف و لا يلزم (1)بقوله حكم،فلا يلزم غيره،كالمجنون.
احتجّ أحمد:بعموم الحديث،و هو قوله عليه السلام:«إنّما يجير على المسلمين أدناهم» (2).
و لأنّه مسلم مميّز،فيصحّ أمانه كالبالغ (3).
و الجواب عن الأوّل:أنّ إسلامه ليس بحقيقيّ و إنّما هو تمرين و لا يستحقّ به ثواب فلا يندرج تحت المسلمين المراد منه الحقيقة.
و عن الثاني:بالفرق،فإنّ البالغ تصحّ عقوده من البيوع و المعاملات،بخلاف الصبيّ،فكذا عقد الأمان على أنّا نمنع التشارك في الإسلام على ما بيّنّاه.
لأنّه قول أكره عليه بغير حقّ فلم يصحّ (1)،كالإقرار.
و لا يصحّ أمان زائل العقل بنوم أو سكر أو إغماء أو جنون أو صغر؛لأنّ كلامه غير معتبر و لا يثبت به حكم لا في حقّ نفسه و لا في حقّ الغير.و لأنّه لا يعرف المصلحة من غيرها،فلا اعتداد بقول أحدهم كالمجنون.
و لا ينعقد أمان الكافر و إن كان ذمّيّا؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» (2)فجعل الذمّة للمسلمين،فلا تحصل لغيرهم.
و لأنّ الكافر متّهم على الإسلام و أهله،فأشبه الحربيّ،و لأنّه منوط بمصلحة (3)المسلمين،و الكافر ليس أهلا للنظر (4)فيها.
و لو انعقد فاسدا،لم يجب الوفاء به بلا خلاف،و ذلك،كأمان الصبيّ و المجنون و الكافر و غيرهم ممّن لا يقبل ذمامه،أو كان الذمام متضمّنا لشرط (1)لا يسوغ الوفاء به.
و في هذه الحالات كلّها يجب ردّ الحربيّ إلى مأمنه،و لا يجوز قتله؛لأنّه اعتقد صحّة الأمان و هو معذور؛لأنّه (2)غير عارف بأحكام الإسلام.
و كذا كلّ حربيّ دخل دار الإسلام بشبهة الأمان،كمن سمع (3)لفظا فيعتقده أمانا أو يصحب رفقة فيتوهّمها أمانا.
و كذا لو طلبوا الأمان؛فقال لهم المسلمون:لا نذمّكم،فاعتقدوا أنّهم أذمّوهم، فإنّهم في جميع ذلك يردّون إلى مأمنهم و لا يجوز قتلهم؛لأنّهم اعتقدوا صحّة الأمان،فكانوا آمنين حتّى يرجعوا إلى مأمنهم.
و يؤيّده ما رواه الشيخ-في الحسن-عن محمّد بن حكيم (4)عن أبي عبد اللّه عليه السلام أو أبي الحسن عليه السلام،قال:«لو أنّ قوما حاصروا مدينة فسألوهم الأمان،فقالوا:لا،فظنّوا أنّهم قالوا:نعم،فنزلوا إليهم،كانوا آمنين» (5).
ص:130
في العبارة و الوقت
إحداهما:أجرتك،و الثانية:أمّنتك.
قال اللّه تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ (1).
و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«أجرنا من أجرت و أمّنّا من أمّنت» (2).
و قال:«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن،و من أغلق عليه بابه فهو آمن» (3).
فبأيّ اللفظين أتى،انعقد الأمان،و كذا كلّ لفظ يدلّ على هذا المعنى صريحا، كقوله:أذممتك،أو أنت في ذمّة الإسلام،و كذا كلّ كناية علم بها ذلك من قصد العاقد،سواء كان بلغة العرب،أو بلغة أخرى،فلو قال بالفارسيّة:«مترس»فهو آمن.
أمّا قوله:لا بأس عليك،أو:لا تخف،أو:لا تذهل،أو:لا تحزن،أو ما شاكل ذلك،فإن علم من قصده الأمان،كان أمانا؛لأنّ المراعى هو القصد دون اللفظ.
ص:131
و إن لم يقصد بذلك الأمان،لم يكن أمانا،غير أنّهم إذا سكنوا إلى ذلك و دخلوا، لم يتعرّض لهم؛لأنّه شبهة،و يردّون إلى مأمنهم ثمّ يصيرون حربا (1).
و كذا الحكم إذا أومأ مسلم إلى مشرك بما توهّمه أنّه أمان،فركن إلى ذلك و دخل دار الإسلام،كان حكمه ما قدّمناه.و هذا كلّه لا نعلم فيه خلافا.
خلافا لبعض الجمهور (2).
و قال الأوزاعيّ:إن ادّعى الكافر أنّه أمان،أو قال:إنّما وقفت لندائك،فهو آمن،و إن لم يدّع ذلك،فليس بأمان و لا يقبل (3).
لنا:أنّه لفظ لا يشعر منه الأمان و لا يستعمل فيه دائما؛إذ استعماله غالبا للإرهاب و التخويف،فلم يكن أمانا،كقوله:لأقتلنّك.
إذا عرفت هذا:فإنّه يرجع إلى المتكلّم،فإن قال:أردت الأمان،فهو أمان،و إن قال:لم أرده،سئل الكافر،فإن قال:اعتقدته أمانا،ردّ إلى مأمنه،و لم يجز قتله،و إن لم يعتقده أمانا،فليس بأمان،كما لو أشار إليهم بما اعتقدوه (4)أمانا.
و قال:أردت به الأمان فهو أمان، و إن قال:لم أرد منه الأمان،فالقول قوله:لأنّه أبصر بنيّته فيرجع إليه فيها.
و لو خرج الكفّار من حصنهم إلى الإسلام بناء على هذه الإشارة و توهّمهم
ص:132
أنّها أمان،لم يجز قتلهم،و ردّوا إلى مأمنهم.
و لو مات المسلم و لم يبيّن أو غاب،كانوا آمنين و يردّون إلى مأمنهم ثمّ يصيرون حربا،إلاّ أن يجدّد لهم الوالي أمانا.
و إنّما جوّزنا عقد الأمان بالإشارة بخلاف الطلاق و سائر العقود؛لأنّ الدماء ينبغي حقنها،فعلينا حقن الدماء كما علينا حقن دم المجوس للشبهة في الكتاب و إن لم يكونوا أهل كتاب.
فيجوز عقده لآحاد المشركين قبل الأسر إجماعا،و هل يجوز لآحاد المسلمين عقد الأمان بعد الأسر؟قال علماؤنا:لا يصحّ، و به قال الشافعيّ،و أكثر أهل العلم (1).
و قال الأوزاعيّ:يصحّ عقده بعد الأسر (2).
لنا:أنّه قد ثبت للمسلمين حقّ استرقاقه،فلا يجوز إبطاله.و لأنّ المشرك إذا وقع في الأسر يتخيّر الإمام فيه بين أشياء يأتي ذكرها،و مع الأمن يبطل التخيير،فلا يجوز إبطال ذلك عليه.
احتجّ المخالف (3):بأنّ زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره،فأجاز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمانها (4).و أمّن عمر بن
ص:133
الخطّاب هرمزان (1)بعد الأسر (2).
و الجواب:عن الأوّل:أنّ زينب إنّما جاز أمانها لإجازة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك.
و عن الثاني:أنّه الرئيس فكان له الأمن.
لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أجاز أمان زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع،و أمّن عمر الهرمزان بعد الأسر.
و لأنّ للإمام أن يمنّ عليه فيطلقه،و الأمان دون ذلك،بخلاف آحاد المسلمين، فإنّه لا يجوز لهم ذلك،بل إنّما يجوز قبل الأسر ما دام على الامتناع.
و إن حصل في مضيق أو في حصن و لحقهم المسلمون،فإنّه يصحّ الأمان،لأنّه لم يحصل،بل هو بعد على الامتناع.
فإن كان في وقت يصحّ منه إنشاء الأمان،كما لو أقرّ قبل الأسر،صحّ إقراره و قبل منه إجماعا،و إن كان في وقت لا يصحّ منه إنشاء الأمان-كما لو أقرّ بعد الأسر-لم يقبل قوله؛لأنّه لا يصحّ منه إنشاء الأمان و لا يملكه بعد الأسر فلا يملك الإقرار به.
و لو قامت له بيّنة أنّه أمّنه قبل الأسر،ثبت حكم الأمان.
و لو شهد جماعة من المسلمين أنّهم أمّنوه،فالوجه:أنّه لا يثبت؛لأنّهم
ص:134
يشهدون على فعل أنفسهم،قاله الشيخ-رحمه اللّه- (1)و به قال الشافعيّ (2).
و قال بعض الجمهور:يقبل؛لأنّهم عدول من المسلمين غير متّهمين شهدوا بأمانه،فوجب أن يقبل،كما لو شهدوا على غيرهم أنّه أمّنه (3).
أمّا لو شهد بعضهم أنّ البعض الآخر أمّنه،قبلت شهادتهم إجماعا إذا كانوا بصفة الشهود.
و لو شهد واحد أنّني أمّنته،فعلى قول الشيخ-رحمه اللّه-لا يقبل (4)؛لما ذكر من العلّة.
و على قول بعض الجمهور يقبل،كما لو قال الحاكم بعد عزله:كنت حكمت على فلان بحقّ،فإنّه يقبل قوله.و لأنّه يقبل أمانه فيقبل خبره،كالحاكم في حال ولايته،و هذا الأخير يتمشّى على قول الأوزاعيّ من أنّه يصحّ له إنشاء الأمان بعد الأسر (5).
و الوجه:ما قاله الشيخ-رحمه اللّه-لأنّه ليس له أن يؤمّنه في الحال،فلم يقبل إقراره به،كما لو أقرّ بحقّ على غيره.
و ادّعى الكافر أنّه أمّنه،فالقول قول المسلم؛لأنّه معتضد بالأصل،و هو إباحة دم الحربيّ و عدم الأمان.
و قيل:يقبل قول الأسير؛لأنّه يحتمل صدقه و حقن دمه،فيكون هذا شبهة تمنع من قتله.
ص:135
و قيل:يرجع إلى من يعضده الظاهر،فإن كان الكافر ذا قوّة و معه سلاحه فالظاهر:صدقه،و إن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه،فالظاهر كذبه (1)،و الوجه:الأوّل.
و لو صدّقه المسلم،قال أصحاب الشافعيّ:لا يقبل؛لأنّه لا يقدر على أمانه و لا يملكه،فلا يقبل إقراره به (2).
و قيل:يقبل؛لأنّه كافر لم يثبت أسره و لا نازعه فيه منازع،فقبل قوله في الأمان (3).
لو أشرف جيش الإسلام على الظهور (5)فاستذمّ الخصم،
جاز مع نظر المصلحة.و لو استذمّوا بعد حصولهم في الأسر فأذمّ،لم يصحّ على ما قلناه (6).
و لو ادّعى الحربيّ الأمان فأنكر المسلم،فالقول قول المسلم على ما بيّنّاه (7)؛لأنّ الأصل عدم الأمان و إباحة دم المشرك،و لو حيل بينه و بين الجواب بموت أو إغماء،لم تسمع دعوى الحربيّ.و في الحالين يردّ إلى مأمنه ثمّ هو حرب (8).
ص:136
في الأحكام
و لا يجوز له الغدر،فإن نقضه،كان غادرا آثما،و يجب على الإمام منعه عن النقض إن عرف بالأمان.
إذا ثبت هذا:فلو عقد الحربيّ الأمان ليسكن في دار الإسلام،وجب الوفاء له، و يدخل ماله تبعا له في الأمان و إن لم يذكره،لأنّ الأمان يقتضي الكفّ عنه،و أخذ ماله إدخال الضرر عليه،و ذلك يقتضي نقض الأمان و هو غير سائغ،و لا نعلم فيه خلافا،و لو شرط الأمان لماله،كان ذلك تأكيدا.
فالوجه:أنّه حرب و لا أمان له في نفسه و لا في ماله؛لأنّه لم يوجد الأمان فيهما،أمّا لو اعتقد الكافر أنّ دخوله بمتاعه على سبيل التجارة أمان،لم يكن أمانا و ردّ إلى مأمنه.
و قال بعض الجمهور:لو كان معه متاع و قد جرت العادة بدخولهم إلينا تجّارا
ص:137
بغير أمان،لم يعرض لهم (1)،و هو حسن بشرط اعتقاد الكافر أنّه أمان،أمّا مطلقا، فلا.
من أرض العدوّ يريدون بلاد الإسلام،قال بعض الجمهور:لم يعرضوا لهم و لا يقاتلوهم (2).و فيه نظر.
فهو آمن حتّى يرجع إلى مأمنه على ما بيّنّاه،و يعامل بالبيع و الشراء،و لا يسأل عن شيء،و إن لم تكن معه تجارة و قال:جئت مستأمنا،فالوجه:أنّه لا يقبل منه، و يكون الإمام مخيّرا فيه.و به قال الأوزاعيّ (3)،و الشافعيّ (4).
و لو كان ممّن ضلّ الطريق أو حملته الريح في المركب إلينا،قيل:يكون فيئا.
و قيل:يكون لمن أخذه (5).
فقد قلنا:إنّه يدخل ماله في الأمان؛ تبعا،و كذا لو شرط الأمان لماله.
إذا ثبت هذا:فلو عاد إلى دار الحرب،فإن كان لتجارة أو رسالة أو تنزّه و في نيّته العود إلى دار الإسلام،فالأمان باق؛لأنّه باق على نيّة الإقامة في دار الإسلام، فهو كالذمّيّ إذا دخل لذلك (6)،و إن كان للاستيطان بدار الحرب و الكون بها،بطل
ص:138
الأمان في نفسه دون ماله؛لأنّه بدخوله دار الإسلام و أخذ الأمان ثبت الأمان في ماله الذي معه،فإذا بطل في نفسه لمعنى لم يوجد في المال-و هو الدخول في دار الحرب-بقي الأمان في ماله؛لأنّ المقتضى للإبطال مختصّ (1)بالنفس دون المال، فيختصّ البطلان بها (2)،دونه.
لا يقال:الأمان في المال حصل على سبيل التبعيّة لأمان النفس،و قد بطل المتبوع،فيبطل التابع؛قضيّة للتبعيّة.
لأنّا نقول:إنّه ثبت له الأمان بمعنى (3)وجد فيه-و هو إدخاله معه-و هو يقتضي ثبوت الأمان له و إن لم يثبت في نفسه،كما لو بعثه مع مضارب له أو وكيل، فإنّه يثبت الأمان و لم يثبت في نفسه،و لم يوجد فيه هاهنا ما يقتضي نقض الأمان فيه،فيبقى على ما كان عليه؛عملا بالاستصحاب السالم عن المزيل،أمّا لو أخذه معه إلى دار الحرب؛فإنّه ينتقض الأمان فيه،كما ينتقض في نفسه؛لوجود المبطل فيهما معا.
تحقيقا للأمان فيه،و إن تصرّف فيه ببيع أو هبة أو غيرهما،صحّ تصرّفه.
فإن كان الوارث مسلما،ملكه ملكا صحيحا،و إن كان حربيّا،انتقل إليه أيضا و انتقض الأمان فيه.
ص:139
و به قال أبو حنيفة (1).
و قال المزنيّ:لا يبطل الأمان،بل يكون باقيا (2)-و به قال أحمد بن حنبل (3)- و للشافعيّ قولان (4).
لنا:أنّه مال لكافر لا أمان بيننا و بينه في نفسه و لا ماله،فيكون كسائر أموال أهل الحرب.
احتجّ المخالف:بأنّ الأمان حقّ لازم متعلّق بالمال،فإذا انتقل إلى الوارث، انتقل بحقّه،كسائر الحقوق من الرهن و الضمان و الشفعة (5).
و الجواب نمنع (6)ملازمته للمال؛لأنّ الأمان تعلّق بصاحبه و قد مات،فيزول الأمان المتعلّق به.
و حينئذ ينتقل إلى الإمام خاصّة من الفيء؛لأنّه لم يؤخذ بالسيف،و لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب،فهو بمنزلة ميراث من لا وارث له.
و نقل المزنيّ عن الشافعيّ أنّه يكون غنيمة (7).و ليس بجيّد؛لأنّه لم يؤخذ
ص:140
بالقهر و الغلبة.
إنّه ينتقض الأمان بانتقاله إلى وارثه.
إذا ثبت هذا:فإنّه بموته ينتقل إلى وارثه،سواء كان الوارث في دار الإسلام أو في دار الحرب،و إذا انتقل إلى وارثه الحربيّ في دار الإسلام أو دار الحرب،صار فيئا للإمام على ما قلناه.
و قال الشافعيّ في أحد الوجهين:لا ينتقل إلى وارثه في دار الإسلام؛لأنّه مع اختلاف الدارين يسقط الميراث (1)،و ليس بجيّد.
و كذا الذمّيّ إذا مات و له ولد في دار الإسلام و ولد في دار الحرب،كان ميراثه لهما.
و لو كان له ولد في دار الإسلام،صار ماله له،و لو كان في دار الحرب،انتقل ماله إليه،و صار فيئا.
فإن كان له وارث مسلم،انتقل إليه و ملكه،و إن كان له وارث كافر في دار الحرب،انتقل المال إليه،و صار فيئا؛لأنّه مال لكافر لا أمان بيننا و بينه،فيكون فيئا كما قلناه (2)في الأوّل.
و قال بعض الشافعيّة:يردّ إلى وارثه،و اختلفوا على طريقين.
أحدهما (3):منهم من قال:فيه قولان،كما لو مات في دار الحرب.
و منهم من قال هنا:يردّ،قولا واحدا؛لأنّه إذا رجع إلى دار الحرب فقد بطل
ص:141
أمانه،و هاهنا مات و أمانه باق (1).
إذا ثبت هذا:فإنّه ينتقل إلى الإمام؛لأنّه لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب،و كذا لو لم يكن له وارث.
فإنّ الأمان باق في ماله على ما قلناه (2)،فإن رجع ليأخذ ماله،جاز سبيه.
و قال بعض الشافعيّة:لا يجوز،و يكون الأمان ثابتا؛لأنّا لو سبيناه،أبطلنا ملكه،و أسقطنا (3)حكم الأمان في ماله (4).
و ليس بجيّد؛لأنّ ثبوت الأمان لماله لا يثبت له الأمان،كما لو دخل إلى دار الإسلام بأمان ثمّ خرج إلى دار الحرب،فإنّ الأمان باق في المال،دونه،و كما لو أدخل ماله بأمان و هو في دار الحرب،فإنّ الأمان لا يثبت له لو دخل دار الإسلام، و يثبت لماله.
لم يزل الأمان عن ماله.ثمّ لا يخلو إمّا أن يمنّ عليه الإمام أو يسترقّه أو يفاديه أو يقتله،فإن قتله،انتقل إلى وارثه المسلم إن كان،و إلاّ فإلى الحربيّ و صار فيئا على ما قلناه (5).
و إن فاداه أو منّ عليه،ردّ ماله إليه،و إن استرقّه زال ملكه عنه؛لأنّ المملوك لا يملك شيئا و صار فيئا،و إن أعتق بعد ذلك،لم يردّ إليه،و كذا لو مات،لم يردّ على ورثته،سواء كانوا مسلمين أو كفّارا؛لأنّه لم يترك شيئا.
ص:142
وجب عليه ردّه على (1)أربابه؛لأنّهم أعطوه الأمان بشرط أن يترك خيانته لهم،و أمنه إيّاهم من نفسه و إن لم يكن ذلك مذكورا في اللفظ،فإنّه معلوم من حيث المعنى.
و لو أسر المشركون مسلما ثمّ أطلقوه بأمان على أن يقيم في دارهم و يترك خيانتهم،حرمت عليه أموالهم بالشرط،و لا يجوز له المقام مع المكنة على المهاجرة هذا إذا أمّنوه،و إن لم يؤمّنوه و لكن استرقّوه و استخدموه،كان له الهرب و أخذ ما أمكنه من مالهم؛لأنّهم قهروه على نفسه و لم يملكوه بذلك،فجاز له قهرهم.
و لو أطلقوه على مال،لم يجب الوفاء به؛لأنّ الحرّ لا قيمة له.
و لو دخل المسلم دار الحرب بأمان،فاقترض من حربيّ مالا و عاد إلينا، و دخل صاحب المال بأمان،كان عليه ردّه إليه؛لأنّ مقتضى الأمان الكفّ عن أموالهم.
و لو اقترض حربيّ من حربيّ مالا ثمّ دخل المقترض إلينا بأمان،فإنّ (2)عليه ردّه إليه؛لأنّ الأصل وجوب الردّ،و لا دليل على براءة الذمّة منه.
وجب عليه ردّه عليها.
و كذا لو أسلما معا و ترافعا إلينا،فإنّا نلزم الزوج المهر إن كان ممّا يصحّ للمسلمين تملّكه،و إلاّ وجب عليه قيمته.
لم يكن للزوجة مطالبته به؛لأنّها أهل حرب و لا أمان لها على هذا المهر.
ص:143
و كذا لو ماتت و لها ورثة كفّار،لم يكن لهم أيضا المطالبة به؛لما مرّ في الزوجة.و لو كان الورثة مسلمين،كان لهم المطالبة به.
كان لوارثها المسلم مطالبة الزوج بالمهر،و ليس للحربيّ مطالبته به.و كذا لو أسلمت قبله ثمّ ماتت،طالبه وارثها المسلم،دون الحربيّ.
فخرج بمال من مالهم اشترى به شيئا،لم يتعرّض له،سواء كان مع المسلم أو الذمّيّ؛لأنّه أمانة معهم، و للحربيّ أمان.
و لو دفع الحربيّ إلى الذمّيّ في دار الإسلام شيئا وديعة،كان في أمان إجماعا.
و استحلفوه على أن يبعث إليهم فداء عنه،أو يعود إليهم،فإن كان ذلك كرها و قهرا،لم يلزمه الوفاء لهم برجوع و لا فدية لهم إجماعا؛لأنّه مكره،فلا يلزمه ما أكره عليه؛لقوله عليه السلام:«رفع عن أمّتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه» (1).و إن لم يكره على ذلك،بل شرط لهم مختارا،لم يجب الوفاء بالمال،و به قال الشافعيّ (2).
و قال عطاء،و الحسن،و الزهريّ،و النخعيّ،و الثوريّ،و الأوزاعيّ (3)،و أحمد بن حنبل:يجب الوفاء به (4).
ص:144
لنا:أنّه حرّ لا يستحقّون بدله (1)،فلا يجب الوفاء بشرطه.و لأنّ في الوفاء به تقوية للمشركين و معونة لهم.
احتجّوا:بقوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ (2).
و لأنّ في الوفاء مصلحة للأسارى و في الغدر مفسدة في حقّهم؛لأنّهم لا يأمنون بعده و الحاجة داعية إليه،فلزمه الوفاء (3).
و الجواب عن الأوّل:أنّه ليس على إطلاقه إجماعا،بل المعتبر فيه المصلحة الدينيّة و هو الجواب عن الثاني.
إذا ثبت هذا:فلو عجز عن المال،لم يجز الرجوع إليهم،سواء كان امرأة أو رجلا.
أمّا المرأة:فقد أجمعوا على تحريم رجوعها إليهم.
و أمّا الرجل فعندنا كذلك.و به قال الحسن البصريّ،و النخعيّ،و الثوريّ (4)، و الشافعيّ (5)،و أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين.
و في الأخرى:يلزمه الرجوع (6).و به قال عثمان بن عفّان،و الزهريّ، و الأوزاعيّ (7).
لنا:أنّ الرجوع إليهم معصية،فلا يلزمه بالشرط،كما لو كان امرأة،و كما
ص:145
لو شرط قتل مسلم،أو شرب خمر.
احتجّوا:بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عاهد قريشا على ردّ من جاءه مسلما (1).
و الجواب:المنع من ذلك.
ص:146
فقد بيّنّا (2)أنّه ينبغي للإمام أن يؤمّنهم إلاّ إذا رأى المصلحة بترك أمانهم،فلا يلتفت إليهم.
إذا ثبت هذا:فلو طلبوا أمانا لأنفسهم،كانوا مأمونين على أنفسهم.
و لو طلبوا الأمان لأهليهم،فقالوا:أمّنوا أهلينا،فقال لهم المسلمون:أمّنّاهم، فهم فيء و أهلهم آمنون؛لأنّهم طلبوا الأمان لأهليهم (3)و لم يذكروا أنفسهم صريحا و لا كناية،فلا يتناولهم الأمان.
أمّا لو قالوا:نخرج على أن نراوضكم (4)في الأمان على أهلينا،فقالوا لهم:
اخرجوا،فهم آمنون و أهليهم؛لأنّهم بأمرهم بالخروج للمراوضة على الأمان أمّنوهم،و لهذا لو لم يتّفق بينهم أمر،كان عليهم أن يردّوهم إلى مأمنهم و لا يعرضوا (5)لهم بشيء.
فهم آمنون و أولادهم و أولاد أبنائهم و إن سلفوا؛لعموم اسم الذرّيّة جميع هؤلاء،و هل يدخل أولاد
ص:147
البنات في ذلك؟الوجه:دخولهم؛لقوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ إلى قوله: وَ عِيسى (1)و لم يكن ابن ابنه.
و لأنّ الذرّيّة اسم للفرع المتولّد من الأصل،و الأب و الأمّ أصلان في إيجاد (2)الولد،بل التولّد و التفرّع في جانب الأمّ أرجح؛لأنّ ماء الفحل يصير مستهلكا في رحمها،و إنّما يتولّد الولد منها بواسطة ماء الفحل.
و لو قالوا:أمّنونا على أولادنا،فهل يدخل أولاد البنات كما يدخل أولاد الذكور؟فيه بحث يأتي في باب الوصايا إن شاء اللّه تعالى.
فهم آمنون؛لأنّ اسم الإخوة عند الإطلاق يتناول الذكور و الإناث عند الاجتماع.
قال اللّه تعالى: وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً (3).
هذا من حيث الاستعمال،و في أصل الوضع الصيغة للذكور إلاّ أنّ العرب عند الاجتماع غلّبوا الذكور على الإناث،فأطلقوا اسم الذكور على الكلّ.
أمّا الأخوات بانفرادهنّ فلا يدخلن في الأمان؛لأنّ الإناث بانفرادهنّ لا يتناولهنّ اسم الذكور.
و كذا لو قالوا:أمّنونا على أبنائنا،دخل فيه الذكور و الإناث،و لا يتناول الإناث بانفرادهنّ إلاّ إذا كان المضاف إليه أبا القبيلة،و المراد به النسبة إلى القبيلة.
و لو تقدّم من المستأمن لفظ يدلّ على طلب الأمان لهنّ،انصرف الأمان إليهنّ و إن كان بلفظ الذكور،كما لو قال:ليس لي إلاّ هؤلاء البنات و الأخوات فأمّنوني على بنيّ أو على إخوتي،فالإناث آمنات.
ص:148
دخلوا جميعا في الأمان؛لأنّ اسم الآباء يتناول الآباء و الأمّهات،فإنّ الأمّهات تسمّى آباء.
قال اللّه تعالى: وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (2).و قال: وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ (3).
و كذا لو كان له أب واحد و أمّهات شتّى؛لتناول الاسم للجميع من حيث الاستعمال.
و هل يدخل الأجداد في ذلك؟قال أبو حنيفة:لا يدخلون (4)؛لأنّ اسم الأب لا يتناول الأجداد حقيقة و لا بطريق التبعيّة؛لأنّهم أصول الآباء يختصّون باسم خاصّ،فلا يتناولهم اسم الآباء على وجه الاتّباع لفروعهم.
و الوجه:دخولهم؛لأنّ الأب يطلق عليه من حيث إنّه أب الأب،و الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة.و الصدق على سبيل التبعيّة في الاستعمال لا ينحصر في التبعيّة في الوجود.
لأنّ اسم الابن يتناول ابن الابن؛لأنّه طلب الأمان لمن يكون مضافا إليه بالبنوّة،إلاّ أنّه ناقص في الإضافة و النسبة إليه؛لأنّه يضاف إليه بواسطة الابن؛لأنّه متفرّع عنه و متولّد عنه بواسطة الابن،و الإضافة الناقصة كافية في إثبات الأمان؛لأنّه يحتاط في إثباته؛ لأنّ موجبه حرمة الاسترقاق،و الشبهة ملحقة بالحقيقة في موضع الاحتياط، بخلاف الوصيّة،فإنّ الشبهة فيها غير كافية في الاستحقاق؛لثبوت مزاحمة الوارث.
ص:149
فالحكم متعلّق به مع استعماله،لكنّا قد بيّنّا أنّ صيغة الأمان يكفي فيها أيّ لغة كانت (1)،فلو كان بعض اللغات يتناول ما أخرجناه في بعض هذه الصور و طلب الأمان بتلك اللغة،دخل فيه ما أخرجناه.
و كذا لو اعتقد المشرك دخول من أخرجناه في الأمان حتّى خرج بهم،لم يجز التعرّض لهم (2)؛لأنّهم دخلوا إلينا بشبهة الأمان فيردّون إلى مأمنهم ثمّ يصيرون حربا.
ص:150
في الأمان بالرسالة و الكتابة
أن يختار لرسالته رجلا مسلما أمينا عدلا،و لا يختار خائنا و لا ذمّيّا و لا حربيّا مستأمنا؛لأنّه ركون إليه، و قد قال اللّه تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (2).
و لأنّه متّهم في حقّ المسلمين،و لهذا أنكر عمر بن الخطّاب على أبي موسى الأشعريّ لمّا أمره أن يأمر كاتبه أن يدخل المسجد ليقرأ كتابه،فقال:إنّ كاتبي لا يدخل (3)المسجد،فقال:أجنب هو؟فقال:لا،و لكنّه نصرانيّ،فقال:سبحان اللّه، اتّخذت بطانة من دون المؤمنين؟!أ ما سمعت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً (4)(5)أي:لا يقصّرون في فساد أموركم، و لا نعرف في ذلك خلافا.
و ينبغي أن يكون بصيرا بالأمور عارفا بمواقع أداء الرسالة؛لأنّه ربّما يرى مصلحة لم ينبّهه الأمير عليها فيفعل بحسبها.
فبلّغه
ص:151
الرسالة،ثمّ قال له:إنّي أرسل على لساني إليك الأمان و لأهل ملّتك فافتح الباب،ثمّ ناوله كتابا صنعه على لسان الأمير و قرأه بمحضر من المسلمين،فلمّا فتحوا و دخل المسلمون و شرعوا في السبي،قال لهم أمير المشركين:إنّ رسولكم أخبرنا أنّ أميركم أمّننا،و شهد أولئك المسلمون على مقالته،كانوا آمنين،و لا يجوز سبيهم؛ لأنّ التمييز بين الحقّ و الاحتيال متعذّر في حقّ المبعوث إليه،إذ لا طريق له إلى الوقوف إلى حقيقة الرسالة،و إنّما يتمكّن من الاعتماد على خبر الرسول،فيجعل ما أخبر به الرسول،كأنّه حقّ و صدق بعد ما ثبتت رسالته؛لئلاّ (1)يؤدّي إلى الغرور في حقّهم و هو حرام،كما لو قال لهم الأمير:إنّ هذا رسولي،ثمّ أتاهم بأمان،لكانوا آمنين،فكذا هنا.
ثمّ رجع إليه فأخبره أنّه قد أدّى الرسالة،فهم آمنون و إن لم يعلم المسلمون التبليغ؛لأنّ الواجب هو البناء على الظاهر في ما لا يمكن الوقوف على حقيقته،و الظاهر:أنّ الرسول بعد ما دخل إليهم أنّه لا يخرج إلاّ بعد التبليغ.و لأنّ قول الرسول يحتمل الصدق فتثبت شبهة التبليغ، و الأمان يتحقّق بالشبهة.
و لو كتب من ليس برسول كتابا فيه أمانهم و قرأه عليهم و قال:إنّي رسول الأمير إليكم،لم يكن أمانا من جهته؛لأنّه ليس للواحد من المسلمين أن يؤمّن حصنا كبيرا،و لا من جهة الإمام؛لأنّه ليس برسوله و لا غرور هنا؛لأنّ التقصير من جانبهم حيث عوّلوا على قول مجهول لم يعتضد بشهادة أحد من المسلمين، و لا باعتبار الرسالة من الأمير في وقت من الأوقات و الأمير غير متمكّن من الاحتراز عن مثل هذا؛لأنّه لا يعرف المفتعل (2)حتّى يمنعه من الافتعال (3).
ص:152
و لو ناداهم من صفّ المسلمين مسلم-و هم قليلون يصحّ أمان الواحد لهم- إنّي رسول الأمير إليكم و إنّه أمّنكم و أنتم آمنون،كان ذلك أمانا من جهته؛لأنّ من يملك الأمان إذا أخبر عمّن يملك الأمان،كان أمانا صحيحا،أمّا إذا كان صدقا فظاهر؛لأنّه يكون من جهة المخبر عنه،و أمّا إن كان كذبا،فإنّه يكون أمانا من جهة المخبر.
على ما يأتي بشروط نذكرها.
إذا ثبت هذا:فلو أمّنهم المسلمون ثمّ بعثوا رجلا لينبذ (1)إليهم و يخبرهم أنّهم قد نقضوا العهد،فجاء الرسول و ذكر أنّه أعلمهم،لم يعرض لهم و يكونون (2)آمنين حتّى يعلموا ذلك بشاهدين؛لأنّه قد جاءهم خبر دائر بين الصدق و الكذب،و هو ليس بحجّة في نقض العهد و إن كان حجّة في الأمان.
و الفرق بينهما:أنّ النبذ يتعلّق به إباحة السبي و استحلال الأموال و الفروج و الدماء،و هو لا يثبت مع الشبهة،و خبر الواحد لا ينفكّ عن الشبهة،أمّا الأمان فيتعلّق به حفظ الأموال و حراسة الأنفس و حقن الدماء و حرمة السبي و الفروج، و هو يثبت مع الشبهة.
فلو أغار المسلمون عليهم،فقالوا:لم يبلغنا خبر رسولكم،فالقول قولهم؛ لأنّهم أنكروا نبذ الأمان،و الأصل يعضدهم،فيصار إلى قولهم؛لأنّ في وسع الإمام أن يرسل إليهم رسولا و يشهد عليه شاهدين و يسيّرهما معه.
أمّا لو كتب الإمام إليهم نقض العهد و سيّره مع رسوله و شاهدين،فقرأه عليهم بالعربيّة فاحتاجوا إلى ترجمان فترجم لهم بلسانهم،و شهد الآخران عليهم،ثمّ ادّعوا أنّ الترجمان لم يخبرهم بنقض العهد،بل أخبرنا أنّ الإمام قد زاد في مدّة الأمان،
ص:153
لم يلتفت إليهم؛لأنّ الإمام أتى بما في وسعه من الإخبار بالنقض و الشهادة،و إنّما التقصير من جهتهم (1)حيث اختاروا للترجمة خائنا،إلاّ أن يعلم من حضر من المسلمين أنّ الترجمان خانهم،فيقبل قولهم حينئذ.
التي لا تتمّ إلاّ بأمان رسلهم،و قد تقدّم (2).
فلو خاف الإمام أن يكون الرسول قد رأى عورة للمسلمين يدلّ عليها العدوّ، جاز له منعه من الرجوع،و كذا يمنع التاجر لو انكشف على عورة ينبغي إخفاؤها عن المشركين،و يجعل عليهما حرسا يحرسونهما؛نظرا للمسلمين و دفعا للفتنة عنهم.
و لو حضر قتال و احتاج الإمام إلى شغل الحرس و خاف انفلاتهما،جاز له أن يقيّدهما حتّى ينقضي الشغل؛للضرورة،و الثابت للضرورة يتقدّر بقدرها.
و لو لم يخف الإمام منهما أنفذهما،فإن خافا من اللصوص،فينبغي أن يرسل معهما من يبلغهما مأمنهما؛لقوله تعالى: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ (3).
و يجوز الاستئجار عليه من بيت المال،و كذا مئونتهما تكون من بيت المال في الموضع الذي يمنعهما من الرجوع؛لأنّ ذلك كلّه لمصلحة المسلمين.
ص:154
في الأمان على جعل
فناداهم رجل:أمّنوني أفتح لكم الحصن، جاز أن يعطوه أمانا و لا نعلم فيه خلافا.فإن (1)أمّنوه،لم يكن لهم نقض أمانه إجماعا.
فإن أشكل الذي أعطي الأمان و ادّعاه كلّ واحد من أهل الحصن،فإن عرف صاحب الأمان،عمل على ما عرف،و إن لم يعرف،لم يقتل واحد منهم؛لاحتمال صدق كلّ واحد،و قد حصل اشتباه المحرّم بالمحلّل (2)فيما لا ضرورة إليه،فكان الكلّ حراما،كما لو اشتبهت الأخت بأجنبيّات.
قال الشافعيّ:و يحرم استرقاقهم؛لما ذكرنا في القتل،فإنّ استرقاق من لا يحلّ استرقاقه،محرّم (3).
و قال بعض الجمهور:يقرع،فيخرج صاحب الأمان و يسترقّ (4)الباقون؛لأنّ الحقّ لواحد و قد اشتبه فيقرع بينهم،كما لو أعتق عبدا من عشرة أعبد ثمّ اشتبه، و يخالف القتل؛لأنّ الاحتياط في الدم أبلغ من الاحتياط في الاسترقاق (5).
ص:155
و قال الأوزاعيّ:لو أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه،فأشرف علينا ثمّ أشكل،فادّعى كلّ واحد منهم أنّه الذي أسلم،سعى كلّ واحد منهم في قيمة نفسه، و ترك له عشر قيمته (1).
فأمّنوه على ذلك،فهو آمن و أهل الحصن آمنون.
قالت الحنفية:أموالهم كلّها فيء؛لأنّ الأمان بشرط فتح الباب لا تدخل فيه الأموال لا بالتنصيص و لا التبعيّة للنفوس؛لأنّه لم يبق للمسلمين حينئذ فائدة في فتح الباب،و إنّما قصدوا بذلك التوسّل إلى استغنام أموالهم (2).
و لو قال:اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن أدلّكم على طريق موضع كذا،ففعلوا ففتحوا الباب فجميع النفوس و الأموال تدخل في الأمان؛لأنّ شرط الأمان هنا جزاء على الدلالة لا على فتح الباب،فيكون كلامه بيانا أنّه يدلّهم ليتمكّنوا في القرار في حصنه مع أهل الحصن فتدخل الأموال؛تبعا للنفوس؛لأنّه لا يمكنهم المقام فيه إلاّ بالمال،بخلاف الصورة الأولى؛لأنّ في اشتراط فتح الباب دلالة على أنّ الذين تناولهم (3)الأمان غير مقرّين بالسكنى في الحصن،و إنّما تدخل الأموال في الأمان؛لأنّ التمكّن من المقام يكون بالأموال،و إذا انعدم السكنى،لم تدخل الأموال في الأمان.
و لو قال:اعقدوا لي الأمان على أن تدخلوا فيه فتصلّوا،دخل الأموال في الأمان؛لأنّ في هذا تصريحا بفائدة فتح الباب،و هو الصلاة فيه دون إزعاج أهله، و قد يرغب المسلمون في الصلاة في ذلك المكان إمّا لينتقل الخبر بأنّ المسلمين
ص:156
صلّوا جماعة في الحصن الفلانيّ فيدخل الرعب في قلوب باقي المشركين،أو ليكونوا قد عبدوا اللّه في مكان لم يعبده في ذلك المكان أهله،و مكان العبادة شاهد للمؤمن يوم القيامة.
و لو قال:أمّنوني على قلعتي أو مدينتي،فأمّنوه،دخل المال و الأنفس فيه و إن كان تنصيص الأمان إنّما هو عليهما لا غير؛لأنّ المقصود من هذا الأمان بقاء القلعة و المدينة على ما كانتا عليه عرفا و يكون هو المتصرّف و المتغلّب،و ليس غرضه إبقاء عين القلعة أو المدينة مع إفناء أهلهما و نهب الأموال.
فهو آمن على ما طلب،و يكون الباقي فيئا.
و لو لم يف ماله بالألف،لم يكن له زيادة على ماله.
و لو لم يكن له دراهم و لكنّه كان له عروض،أعطى من ذلك ما يساوي ألفا؛ لأنّه شرط في الأمان جزءا من ماله،و الأموال كلّها جنس واحد في صفة الماليّة.
أمّا لو قال:عليّ ألف درهم من دراهمي.و لا دراهم له (1)،كان لغوا،لأنّه شرط جزءا من دراهمه و لا دراهم له،فلا يصادف الأمان محلاّ،فيكون لغوا.
ص:157
في التحكيم
جاز أن يعقد عليهم أن ينزلوا على حكمه،فيحكم فيهم بما يرى هو أو بعض أصحابه،و لا نعلم فيه خلافا؛لما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا حاصر (1)بني قريظة،رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأجابهم عليه السلام إلى ذلك (2).
إذا عرفت هذا:فهل يجوز للإمام إنزالهم على حكم اللّه تعالى؟الذي رواه علماؤنا:المنع من ذلك،و هو مرويّ عن محمّد بن الحسن.و قال أبو يوسف:يجوز ذلك (3).
لنا:ما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:كان إذا بعث جيشا أو سريّة،أوصاهم بتقوى اللّه تعالى-إلى أن قال-:«و إذا حاصرتم (4)حصنا أو مدينة، فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم اللّه فلا تنزلوهم،فإنّكم لا تدرون ما حكم اللّه تعالى
ص:158
فيهم،و لكن أنزلوهم على حكمكم،ثمّ اقضوا فيهم ما رأيتم» (1).
و من طريق الخاصّة:عن مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«و إذا (2)حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم (3)على حكم اللّه،فلا تنزلهم و لكن أنزلهم على حكمكم (4)ثمّ اقض فيهم بعد بما شئتم فإنّكم إن أنزلتموهم على حكم اللّه لم تدروا أ تصيبوا حكم اللّه فيهم أم لا» (5).
و لأنّ حكم اللّه تعالى في الرجال:القتل أو المنّ أو الاسترقاق أو المفاداة،و في النساء:الاسترقاق أو المنّ،فيكون مجهولا،فكان الإنزال على حكم مجهول،فكان باطلا.
احتجّ أبو يوسف:بأنّ حكم اللّه تعالى معلوم؛لأنّه في حقّ الكفرة:القتل في المقاتلين،و الاسترقاق في ذراريهم،و الاستغنام في أموالهم.ثمّ تأوّل الحديثين اللذين تلوناهما بأنّهما كانا في زمن لم تكن الأحكام مستقرّة و النسخ كان متصوّرا، فإنّ الوحي ينزل في كلّ وقت و ينسخ حكم بحكم،فمن الجائز أن يكون الإنزال على حكم قد نسخ،فأمّا الآن فقد استقرّت الشريعة و لا نسخ،و عرف حكم اللّه تعالى،فجاز الإنزال عليه (6).
ص:159
و الجواب:أنّ حكم اللّه تعالى معلوم في حقّ قوم ممتنعين وقع (1)الظهور عليهم،أمّا في حقّ قوم ممتنعين تركوا منعتهم باختيارهم فمجهول.
و لا نعلم فيه خلافا،فيحكم فيهم بما يرى؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا حاصر بني قريظة،رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ،فأجابهم إلى ذلك،فحكم عليهم بقتل رجالهم و سبي ذراريهم،فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«لقد حكمت بما حكم اللّه تعالى فوق سبعة أرقعة» (2)يعني (3):سبع سماوات.
قال الخليل:الرقيع اسم سماء هذه الدنيا،و يقال:كلّ واحدة رقيع للأخرى، فهي أرقعة (4).
أن يكون حرّا مسلما بالغا عاقلا ذكرا فقيها عدلا.
فلا يجوز أن يكون عبدا؛لأنّه ليس مظنّة للفراغ في النظر في أمور المسلمين و كيفيّة القتال و ما يتعلّق به من المصالح؛لاشتغال وقته في خدمة مولاه.
و لا يجوز أن يكون كافرا؛لأنّه لا نظر له في حقّ المسلمين،و لا يؤمن عليهم.
و لا يجوز أن يكون صبيّا؛لخفاء الأمور المنوطة بالحرب عنه.
ص:160
و لا يجوز أن يكون مجنونا؛لفقد قصده و عدم تعقّله (1)بمزايا (2)الأمور.
و لا يجوز أن يكون امرأة؛لقصور نظرها،و قلّة معرفتها بمواقع الحرب (3)و مصالحه.
و لا يجوز أن يكون جاهلا بما حكم فيه؛لجواز أن يحكم فيهم بما لا يسوغ شرعا العمل به،فيجب تركه حينئذ،فتبطل فائدة التحكيم.
و لا يجوز أن يكون فاسقا؛لأنّه ظالم،فلا يجوز الركون إليه؛لقوله تعالى:
وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (4).
و لا يشترط أن يكون فقيها في كلّ المسائل،عارفا بجميع الأحكام؛لأنّ سعد بن معاذ أجاز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحكيمه (5)(6)،و لم يعلم أنّه كان عالما بجميع الأحكام،بل أن يكون عارفا بما يتعلّق بهذا الحكم،و ما يجوز فيه و يعتبر له، و نحو ذلك.
حنبل (1).
و قال أبو حنيفة:لا يجوز (2).
لنا:أنّ المقصود رأيه دون بصره،و ذلك شيء لا يحتاج فيه إلى الرؤية،فعدم البصر لا يضرّ في مسألتنا.
احتجّ أبو حنيفة:بأنّه لا يصلح للقضاء،فلا يكون حاكما هنا.
و الجواب:الفرق،فإنّ القاضي لا يستغني عن البصر؛لاحتياجه إلى معرفة المدّعي و المدّعى عليه،و الشاهد و المشهود له و عليه،و المقرّ و المقرّ له،بخلاف المتنازع؛لأنّ القصد معرفة المصلحة في أحد أقسام الحكم،و التقدير:حصوله.
على أنّا نمنع الحكم في الأصل،و سيأتي.
لم يكن به بأس.
و قال أبو حنيفة:لا يجوز (3).
لنا:أنّه مسلم عدل بالتوبة وجدت فيه الشرائط،لأنّ التقدير كذلك،فيجوز أن يكون حكما،كغير المحدود.
جاز.
و قال أبو حنيفة:لا يجوز؛لأنّه مقهور معهم،فكان كالمملوك (4).
لنا:أنّه عدل عارف،فجاز أن يكون حكما،كغيره،و القهر يرتفع بالردّ إليه.
أمّا لو كان حسن الرأي فيهم،كره القبول.
ص:162
و كذا لو حكّموا رجلا مسلما أسلم عندهم و هو حسن الرأي فيهم،أو حكّموا رجلا مسلما عندنا و هو حسن الرأي فيهم أيضا،كره ذلك؛للتهمة في طرفه،لكنّه يكون جائزا إذا جمع الصفات المشترطة في الحاكم.
و أسندوا التعيين إلى ما يختارونه لأنفسهم من أهل العسكر،قبل ذلك منهم،ثمّ ينظر،فإن اختاروا من يجوز أن يكون حاكما،قبل منهم،و إن اختاروا من لا يجوز تحكيمه،كالعبد و الصبيّ و الفاسق،لم يجز؛اعتبارا للانتهاء بالابتداء.
و قال الشافعيّ:لا يجوز إسناد الاختيار إليهم؛لأنّهم ربّما اختاروا من لا يصلح لذلك (1).
و الأوّل:مذهب أبي حنيفة (2)،و عندي فيهما:تردّد.
أمّا لو جعلوا اختيار التعيين إلى الإمام فإنّه يجوز إجماعا؛لأنّه لا يختار إلاّ من يصلح للتحكيم.
كما جاز الواحد،فإن اتّفقا على (3)الحكم،جاز.و لو مات أحدهما،لم يحكم الآخر إلاّ بعد الاتّفاق عليه أو يعيّنوا غيره.و لو اختلفا،لم يمض الحكم حتّى يتّفقا،و لو اختلفت الفئتان،فقالت إحداهما:يحكم بهذا،و قالت الأخرى:لا يحكم بهذا،لم يجز أن يحكما حتّى يتّفقوا عليهما.
و كذا يجوز أن يكون الحاكم أكثر من اثنين إجماعا.
لم يجز؛
ص:163
لأنّ الكافر لا حكم له و لا يركن إليه لا بالاستقلال و لا بالجزئيّة (1).
فمات قبل الحكم،لم يحكم فيهم غيره إلاّ إذا اتّفقوا عليه،فإن لم يتّفقوا على من يقوم مقامه أو طلبوا حكما لا يصلح،لم يجز،و ردّوا إلى مأمنهم.
و نزلوا على ذلك إلينا،ثمّ بان أنّه لا يصلح،لم يحكم،و يردّون إلى مأمنهم كما كانوا، و يكونون على الحصار؛لأنّهم نزلوا إلينا على هذا الشرط،و قد بيّنّا بطلانه (2)، فيردّون إلى مواضعهم حتّى يرضوا بحكم من يجوز أن يكون حكما.
و لا يمضي الحكم (4)إلاّ بما يكون الحظّ فيه للمسلمين،ثمّ ينظر،فإن حكم بقتل الرجال و سبي النساء و الذرّيّة و غنيمة المال،نفذ ذلك إجماعا؛لأنّ سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك،فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«لقد حكم بحكم اللّه تعالى من فوق سبعة أرقعة» (5).
و إن حكم باسترقاق الرجال و سبي النساء و الولدان و أخذ الأموال،جاز أيضا، و إن حكم بالمنّ و ترك السبي بكلّ حال،جاز أيضا إذا رآه حظّا؛لأنّه قد يكون مصلحة للمسلمين،و كما يجوز للإمام أن يمنّ على الأسارى إذا رآه مصلحة،فكذا
ص:164
يجوز للحاكم.
و إن حكم بأن يعقدوا عقد الذمّة و يؤدّوا الجزية،جاز و لزمهم أن ينزلوا على حكمه في ذلك-قاله الشيخ رحمه اللّه- (1)لأنّهم رضوا بحكمه و حكم ما يجوز، فيلزمهم كغيره من الأحكام،و به قال الشافعيّ في أحد الوجهين.
و في الآخر:لا يلزمهم ذلك؛لأنّ عقد الذمّة عقد معاوضة،فلا يثبت إلاّ بالتراضي،و لهذا لم يجز للإمام أن يجبر الأسير على إعطاء الجزية (2).
و الجواب:الفرق،فإنّ الأسير لم يرض بما يفعله الإمام،و هؤلاء قد رضوا بحكمه.
و إن حكم عليهم بالفداء،جاز؛لأنّه يجوز للإمام،فكذا (3)للحاكم.
و لو حكم بالمنّ على الذرّيّة،قال بعض الجمهور:لا يجوز؛لأنّ الإمام لا يملك المنّ على الذرّيّة إذا سبوا،فكذلك الحاكم.
و قيل بالجواز؛لأنّهم لم يتعيّنوا للسبي،بخلاف من سبي،فإنّه يصير رقيقا بنفس السبي (4)،و إن حكم (5)بالاسترقاق،نفذ حكمه؛لأنّه إذا نفذ حكمه بالقتل، نفذ بالاسترقاق؛لأنّه أخفّ.
و إن حكم على من أسلم بالاسترقاق و من أقام على الكفر بالقتل،جاز.و لو (6)أراد أن يسترقّ بعد ذلك من أقام على الكفر،لم يكن له ذلك؛لأنّه لم يدخل على
ص:165
هذا الشرط.
و إن أراد أن يمنّ عليه،جاز؛لأنّه ليس فيه إبطال شيء شرطه،بل فيه إسقاط ما كان شرطا من القتل.
و لو حكم بالقتل و أخذ الأموال و سبي الذرّيّة و رأى الإمام أن يمنّ على الرجال أو على بعضهم،جاز؛لأنّ سعدا حكم على بني قريظة بقتل الرجال،ثمّ إنّ ثابت بن قيس الأنصاريّ (1)سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يهب له الزبير بن باطا اليهوديّ (2)من قريظة ففعل (3)،بخلاف مال الغنيمة إذا حازه المسلمون،فإنّ ملكهم قد استقرّ عليه.
عصموا أموالهم و دماءهم و ذراريهم من الاستغنام و القتل و السبي؛لأنّهم أسلموا و هم أحرار لم يسترقّوا و أموالهم لهم لم تغنم،فلم يجز استرقاقهم و لا استغنام مالهم.
و لو (4)أسلموا بعد الحكم عليهم،فإن كان قد حكم عليهم بقتل الرجال و سبي الذراريّ و نهب الأموال،مضى الحكم عليهم إلاّ القتل،فإنّهم لا يقتلون؛لأنّ من %1417m-nm
ص:166
أسلم فقد عصم دمه؛لقوله عليه السلام:«أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم» (1).
و لو أراد الإمام استرقاقهم بعد الإسلام لم يجز؛لأنّهم ما نزلوا على هذا الحكم، بل وجب القتل عليهم بالحكم و قد سقط بالإسلام.
و قال بعض الجمهور:يجوز استرقاقهم،كما لو أسلموا بعد الأسر (2).
و ليس بجيّد؛لأنّ الأسير قد ثبت للإمام استرقاقه.و يكون المال على ما حكم فيه من الاستغنام،و تسترقّ الذرّيّة.
و إذا حكم بقتل الرجال و سبي النساء و الذرّيّة و أخذ المال،كان المال غنيمة، و يجب فيه الخمس؛لأنّه أخذ بالقهر و السيف.
و لو نزلوا على أن يحكم فيهم بكتاب اللّه تعالى أو القرآن (3)،كره ذلك؛لأنّ هذا الحكم ليس بمنصوص في كتاب اللّه تعالى،فيحصل الاختلاف.
فقال له الإمام:إن رجعت إلى دار الحرب
ص:167
و إلاّ حكمت عليك حكم أهل الذمّة،فأقام سنة،جاز أن يأخذ منه الجزية.
و إن قال له:اخرج إلى دار الحرب،فإن أقمت عندنا،صيّرت نفسك ذمّيّا،فأقام سنة،ثمّ قال:أقمت لحاجة،قبل قوله،و لم يجز أخذ الجزية منه،بل يردّ إلى مأمنه؛ لأنّ الأصل براءة الذمّة.
قال الشيخ-رحمه اللّه-:و إن قلنا:إنّه يصير ذمّيا،كان قويّا؛لأنّه خالف الإمام (1).
لأنّه غير مشروع،و قد قلنا:إنّ حكم الحاكم يشترط فيه المشروعيّة (2).
جاز له أن يحكم إجماعا على ما تقدّم (3).
و لا يجب عليه الحكم،سواء قبل التحكيم أو لم يقبله،بل يجوز له أن يخرج نفسه من الحكومة؛لأنّه دخل باختياره،فجاز أن يخرج باختياره.
لم يقبل على ما تقدّم (4).
فلو (5)حكم بعد ذلك بالجائز،فالوجه:نفوذه؛لأنّ الحكم الأوّل وقع فاسدا لا اعتبار له في نظر الشرع،فلا يخرجه عن الحكومة،كما لو وكّله المالك في بيع سلعة بألف،فباعها بخمسمائة ثمّ باعها بألف،فإنّه يجوز.
و قال أبو حنيفة:لا يجوز حكمه بعد ذلك استحسانا (6).
ص:168
إن لم يحكم فلان في ذلك بلغتمونا إلى مأمننا،ثمّ حكم فلان بأن يبلغوهم إلى مأمنهم،جاز،و يكون مكروها؛لأنّهم ما رضوا بالصلح إلاّ بهذا الشرط (1)،فإذا لم يف بهذا،كان غدرا (2)منّا،و التحرّز عن الغدر (3)واجب،و إنّما قلنا:إنّه مكروه؛لما فيه من إعادتهم حربا علينا بعد تركهم ذلك باختيار منهم.
ص:169
ص:170
في الغنائم
الغنيمة:هي الفائدة المكتسبة،سواء اكتسبت برأس مال، كأرباح التجارات و الزراعات و غيرهما،أو اكتسبت بالقتال و المحاربة.
و القسم الأوّل مضى البحث فيه (1)،و الكلام هنا يقع في القسم الثاني و أقسامه ثلاثة:
ما ينقل و يحوّل،كالأمتعة و الأقمشة،و الذهب و الفضّة و الحيوان و غير ذلك.
و ما لا ينقل و لا يحوّل،كالأرضين و العقارات.
و ما هو سبي،كالأطفال و النساء.فلنبحث عن أحكام هذه الأقسام،و نتبع ذلك بالبحث عن كيفيّة القسمة و الجعائل و التنفيل و غير ذلك ممّا هو مختصّ بهذا الباب بعون اللّه تعالى.
و هاهنا أبحاث:
ص:171
ص:172
فيما ينقل و يحوّل
من أموال المشركين، و لما يغنم بالمعاش و الربح (1).
و عند الجمهور:الغنيمة اسم للمعنى الأوّل (2).
و الوضع يساعدنا على الشمول للمعنيين معا.
و أمّا الفيء فهو مشتقّ من فاء يفيء إذا رجع.و المراد به في قوله تعالى: ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ الآية (3):ما حصل و رجع عليه من غير قتال و لا إيجاف بخيل و لا ركاب،و ما هذا حكمه فهو للرسول عليه السلام خاصّة،و لمن قام مقامه بعده من الأئمّة عليهم السلام،ليس لغيرهم في ذلك نصيب.
و الغنيمة مشتقّة من الغنم،و هو المستفاد مطلقا على ما بيّنّاه (4).
و ما يؤخذ بالفزع،مثل أن ينزل المسلمون على حصن أو قلعة،فيهرب أهله و يتركون أموالهم فيه؛فزعا منهم،فإنّه يكون من جملة الغنائم التي تخمّس،و أربعة الأخماس للمقاتلة،كالغنائم.
ص:173
و قال الشافعيّ:إنّ ذلك من جملة الفيء؛لأنّ القتال ما حصل فيه (1).
قال الشيخ-رحمه اللّه-:و هو الأقوى (2).
إذا عرفت هذا:فإنّ الغنيمة كانت محرّمة فيما تقدّم من الأديان،و كانوا يجمعون الغنيمة،فتنزل النار من السماء فتأكلها،فلمّا أرسل اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله،أنعم بها عليه،فجعلها له خاصّة.
قال اللّه تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ (3).
و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«أحلّ لي الخمس و لم يحلّ لأحد قبلي...و جعلت لي الغنائم» (4).
و قال عليه السلام:«أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي»و ذكر فيها«و أحلّت لي الغنائم» (5).
إذا ثبت هذا:فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان مختصّا بالغنائم؛لقوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ (6)نزلت يوم بدر لمّا تنازعوا في الغنائم،فلمّا نزلت،قسّمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و أدخل معهم جماعة لم تحضر الوقعة؛لأنّها كانت له عليه السلام يصنع بها ما شاء،ثمّ نسخ ذلك و جعلت للغانمين خاصّة أربعة أخماسها،و الخمس الباقي
ص:174
قال اللّه تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ الآية (3)،فأضاف الغنيمة إليهم،و جعل الخمس للأصناف التي عدّدها،المغايرين للغانمين،فدلّ على أنّ الباقي لهم.
و روى الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«الغنيمة لمن شهد الوقعة» (4).و لا نعلم فيه خلافا.
و إلى ما لا يصحّ تملّكه للمسلمين،كالخمور و الخنازير،و هذا القسم لا يكون غنيمة؛لأنّه غير مملوك.أمّا ما يصحّ تملّكه للمسلمين،فإنّه يصير غنيمة،و يختصّ به الغانمون إجماعا بعد الخمس و الجعائل.فيقسّم الخمس ستّة أقسام:ثلاثة منها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و هي الآن للإمام عليه السلام،و أربعة الأخماس الباقية تكون للمقاتلة خاصّة على ما يأتي من كيفيّة القسمة.
أمّا الأشياء المباحة في الأصل،كالصيود و الأحجار و الأشجار في دار الإسلام إذا وجد في دار الحرب و لم يكن عليه أثر تملّك لهم،فإنّه لواجده فلا يكون غنيمة؛ لأنّه لم يملكه بالقهر و الغلبة.
و لو وجد شيء من ذلك عليه أثر ملك،كالطير المقصوص و الأشجار المقطوعة و الأحجار المنحوتة،أو كان موسوما،فإنّه غنيمة؛بناء على الظاهر؛لأنّه دلالة
ص:175
على ثبوت يدهم عليه.
و لو وجد في دار الحرب شيء يحتمل أن يكون للمسلمين و لأهل الحرب، كالخيمة و السلاح،فالوجه:أنّ حكمه حكم اللقطة.
و قيل:يعرّف سنة ثمّ يلحق بالغنيمة،ذهب إليه الشيخ في المبسوط (1)و هو اختيار أحمد (2).
و لو وجد في الصحراء وتدا منحوتا أو قدحا منحوتا،كان النحت دليلا على أنّه مملوك،و لو عرفه المسلمون،كان لهم،و إن لم يعرفوه،فهو غنيمة؛لأنّ الظاهر أنّه لهم؛لأنّه في دارهم،فإن ادّعاه واحد من المسلمين،فالوجه:أنّ عليه إقامة البيّنة.
إذا عرفت هذا:فإنّ الشافعيّ وافقنا على أنّ ما يجده المسلم في دار الحرب ممّا هو مباح الأصل و لا أثر عليه لمالك،يكون لواجده (3)،و وافقنا أيضا مكحول عليه، و الأوزاعيّ (4).
و قال أبو حنيفة (5)،و الثوريّ:لا يختصّ به الواجد،بل يكون للمسلمين كافّة (6).
لنا:أنّه لو أخذه من دار الإسلام،ملكه،فإذا أخذه من دار الحرب،كان ملكا له، كالشيء اليسير.
ص:176
احتجّوا:بأنّه مال ذو قيمة مأخوذ من أرض الحرب بظهر المسلمين،فكان غنيمة،كالمطعومات (1).
و الجواب:المنع من كونه غنيمة؛لأنّ التقدير أنّه لا مالك له.
أمّا لو وجد صيدا في أرضهم و احتاج إلى أكله،أو وجد ما يحتاج إلى الانتفاع به ممّا ليس بمملوك،فإنّه له و لا يردّه إجماعا؛لأنّه لو وجد طعاما مملوكا للكفّار.
كان له أكله إذا احتاج إليه،فما يأخذه من الصيود و المباحات أولى.
كالمسنّ (2)و الأدوية،فهو أحقّ به إجماعا.
و لو صارت له قيمة بنقله أو معالجته فكذلك.و به قال أحمد بن حنبل، و مكحول،و الأوزاعيّ،و الشافعيّ (3).
و قال الثوريّ:إذا جاء به دار الإسلام،دفعه في المقسم،و إن عالجه فصار له ثمن،أعطي بقدر عمله فيه،و دفع في المقسم (4).
لنا:أنّه مباح،فكان مملوكا لواجده و قد تقدّم (5).
و لأنّ القيمة إنّما صارت له بعمله أو نقله،فلم يكن غنيمة حال أخذه له،فكان كما لو أخذ ما لا قيمة له.
ص:177
فقال:من حمله فهو له،كان جائزا و يصير لآخذه.و به قال مالك،و خالف بعض الجمهور فيه (2).
لنا:أنّه-إذا لم يجد من يحمله و لم يقدر على حمله-بمنزلة ما لا قيمة له، و إنّما حصلت له القيمة بحمله إلينا،فلم يكن غنيمة.
فإن كان في موضع يقدر عليه بنفسه،فهو كما لو وجده في دار الإسلام يخرج منه الخمس و الباقي له،و إن لم يقدر عليه إلاّ بجماعة المسلمين،فإن كان في مواتهم قال الشافعيّ:يكون كما لو وجده في دار الإسلام،و إلاّ فهو غنيمة (3).
و قال مالك،و الأوزاعيّ،و الليث،و أحمد:هو غنيمة،سواء كان في مواتهم أو في غير مواتهم؛لأنّه مال مشترك ظهر عليه بقوّة جيش المسلمين،فكان غنيمة، كالأموال الظاهرة (4).
و أصحاب الرأي (1).
و قال الزهريّ:لا يؤخذ إلاّ بإذن الإمام (2).
لنا:ما رواه الجمهور عن نافع،عن ابن عمر،قال:كنّا نصيب العسل و الفواكه في مغازينا فنأكله و لا نرفعه (3).
و عن عبد اللّه بن أبي أوفى،قال:أصبنا طعاما يوم خيبر و كان الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثمّ ينصرف (4).و كتب صاحب جيش الشام إلى عمر:أنّا أصبنا أرضا كثيرة الطعام و العلف،و كرهت أن أتقدّم في شيء من ذلك،فكتب إليه عمر:دع الناس يعلفون و يأكلون،فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضّة،ففيه خمس اللّه و سهام المسلمين (5).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمير السريّة:«و لا تقطعوا شجرة مثمرة،و لا تحرقوا زرعا؛لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه،و لا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله» (6).
و لو لم يكن التناول سائغا،لما سوّغ له الزرع على إطلاقه.
و لأنّ الحاجة تشتدّ إليه،و في المنع منه مضرّة عظيمة بالمسلمين و بدوابّهم؛
ص:179
لتعسّر نقل الطعام و العلف من بلاد الإسلام،و لا يجدون بدار الحرب ما يشترونه، و لو وجدوه لم يجدوا الثمن،و لا يمكن قسمة ما يجده الواحد منهم،و لو قسّم، لم يحصل للواحد منهم شيء ينتفع به،و لا يدفع به حاجته،فكان مباحا.
احتجّ الزهريّ:بأنّه مال مغنوم فلم يجز أخذه بغير إذن الإمام،كسائر الأموال (1).
و الجواب:بالفرق من حيث الحاجة و الضرورة و عدمهما.
على قدر الحاجة (2).و هل يجوز مع عدم الحاجة أم لا؟الوجه عندي:أنّه لا يجوز،و يدلّ عليه مفهوم قوله عليه السلام:«و لا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله» (3).
و لأنّه مال مغنوم بين جماعة،فلا يجوز التناول منه إلاّ مع الحاجة،كالسلاح و الثياب.
و قال بعض الجمهور:يجوز التناول مطلقا مع الحاجة و غيرها للغنيّ و الفقير (4)؛لأنّ عمر سوّغ الأكل و لم يعلّقه بالحاجة (5).و لأنّه يتعذّر عليهم حمل الطعام و العلف مدّة مقامهم في دار الحرب؛لما فيه من الحرج،و الشراء منهم متعذّر،
ص:180
فلو لم يجز التناول،لضاق الأمر على الغانمين،فبقي على الإباحة الأصليّة؛لمكان الضرورة،و متى بقي على الإباحة الأصليّة للضرورة،يجوز للغنيّ التناول بغير حاجة.
أمّا مع الحاجة فيجوز،و أمّا مع عدمها فعلى ما مضى.
إذا ثبت هذا:فهل تجب عليه القيمة مع القول بالجواز؟قيل:تجب عليه القيمة؛ لأنّ الحاجة إليه تندر،بخلاف الطعام (1).
و قيل:لا تجب؛لأنّه يغتذى به،فكان كالطعام (2)،و هو الأقرب؛لأنّه لو لا ذلك لما ساغ ذبحه،و جرى مجرى غيره من الأموال.
و يدلّ على الجواز مع الحاجة قوله عليه السلام:«و لا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله» (3).
و لم يجز استعمالها؛ لأنّه ليس ممّا تدعو الحاجة إليه،مع اشتراك الغانمين فيها،فتردّ إليهم.
و لأنّه ليس بطعام،فلا يثبت فيه الترخّص،كغيره من أموال الغنيمة،و لو استعمل الجلود في سقاء أو نعل أو شراك،وجب ردّه في المغنم،و عليه أجرة المثل للمدّة التي أقام في يده،و أرش ما نقص من أجزائه بالاستعمال؛لأنّه مضمون مع تلفه فيضمن أجزاءه،و لو زادت القيمة بالصنعة لم يكن له شيء؛لأنّه متعدّ.
و لا استعماله و لا الانفراد به؛لقوله عليه السلام:«أدّوا الخيط و المخيط؛فإنّ الغلول عار و نار و شنار يوم
ص:181
القيامة» (1).
لأنّه طعام، فأشبه الحنطة و الشعير.و لو كان غير مأكول فاحتاج إلى أن يدهن به دابّته من جرب أو عقر،لم يكن له ذلك إلاّ بالقيمة،قاله الشافعيّ؛لأنّه ممّا لا تعمّ الحاجة إليه، و لا هو طعام و لا علف (2).
و قال بعض الجمهور:يجوز لهم استعماله؛لأنّ الحاجة إليه في إصلاح بدنه و دابّته كالحاجة إلى الطعام و العلف (3).
أو يشربه-كالجلاّب (4)و السكنجبين و غيرهما-عند الحاجة؛لأنّه من الطعام.
و قال أصحاب الشافعيّ:ليس له تناوله،لأنّه ليس من القوت و لا يصلح به القوت.و لأنّه لا يباح مع عدم الحاجة إليه،فلا يباح مع الحاجة،كغير الطعام (5).
و الوجه:الجواز؛لأنّه محتاج إليه،فأشبه الفواكه،و قولهم يبطل بالفاكهة.
لأنّه ليس بطعام و لا علف،و إنّما يراد للتحسين و التزيين لا للضرورة،فلا يكون في معنى الطعام و العلف،فلا يثبت
ص:182
الترخّص فيه.
و لا اتّخاذ النعال منها و لا الجرب (1)و لا الخيوط و الحبال،و به قال الشافعيّ (2).
و رخّص مالك في الحبل يتّخذ من الشعر،و النعل و الخفّ يتّخذ من جلود البقر (3).
لنا:أنّه مال مغنوم فلا يختصّ به بعض الغانمين،كغير الطعام.و لأنّه روي أنّ قيس بن أبي حازم (4)قال:إنّ رجلا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكبّة شعر (5)من المغنم (6)،فقال:يا رسول اللّه إنّا نعمل الشعر فهبها لي،قال:«نصيبي منها لك» (7).
و الظاهر أنّه لو كان سائغا لما خصّص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله العطيّة بنصيبه عليه السلام.
و لأنّه مال مغنوم لا تدعو الحاجة العامّة إلى أخذه،فلم يجز،كالثياب و غيرها.
ص:183
إن كانت ممّا ينتفع بها،مثل كتب الطبّ و الأدب،فهي غنيمة،و إن كانت ممّا لا ينتفع بها،مثل التوراة و الإنجيل،فإن أمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد الغسل،غسل و كانت غنيمة لا يختصّ بها الآخذ،و إلاّ فلا.
يشترك فيها الغانمون،و كذا إن كانت كلابا للصيد،إن قلنا بجواز بيعها،و لو لم يرغب فيها أحد من الغانمين،جاز إرسالها و إعطاؤها غير الغانمين،و لو رغب فيها بعض الغانمين،دفعت إليه و لا تحتسب عليه من نصيبه؛لأنّه لا قيمة لها،و إن رغب فيها الجميع،قسّمت،و لو تعذّرت القسمة؛أو تنازعوا في الجيّد منها،أقرع بينهم،و لو وجدوا خنازير،قتلوها؛ لعدم الانتفاع بها و حصول الأذى منها،و لو وجدوا خمرا،أراقوه،و لو كان لظروفه قيمة،أخذوها و كانت غنيمة.
لما رواه رو يفع بن ثابت الأنصاريّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يركب دابّة من فيء المسلمين حتّى إذا أعجفها ردّها فيه،و من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتّى إذا أخلقه ردّه فيه» (1).
و لأنّه مال مغنوم،فلا يختصّ به أحد دون غيره.
جاز أن يطعمهم ممّا يجوز له الأكل
ص:184
منه،سواء كانوا للقنية (1)أو للتجارة لدعوى الحاجة إليه،و لو كان معه بزاة أو صقورة،لم يكن له أن يطعمها من المغنم؛لأنّه لا حاجة به إليها،بخلاف الخيل؛ لأنّه (2)محتاج إليها.
لم يجز لأحد أخذه إلاّ لضرورة.
أمّا عندنا فظاهر؛لأنّا إنّما أبحنا له الأخذ قبل استيلاء يد المسلمين عليها مع الضرورة،فبعد الاستيلاء أولى.
و أمّا عند المخالف؛فلأنّهم أباحوه قبل جمعه؛لأنّه لم يثبت فيه ملك المسلمين (3)بعد،فأشبه المباح من الحطب و الحشيش،فإذا جمعت و حيزت،ثبت ملك المسلمين فيها،فخرجت عن المباحات و صارت ملكا لهم محضا،فلم يجز الأكل منها إلاّ مع الضرورة،و هو أن لا يجدوا ما يأكلونه،فيجوز لهم التناول منه؛ لأنّ حفظ النفس واجب،سواء حيزت في دار الحرب أو في دار الإسلام (4).
و قال بعض الجمهور:إن حيزت في دار الحرب،جاز الأكل منها،كما يجوز قبل الحيازة؛لأنّ دار الحرب مظنّة الحاجة؛لتعذّر نقل الميرة (5)إليها،بخلاف دار الإسلام (6).
و هو عندي حسن و إن كان لا يخلو من بعد؛فإنّ ما ثبت عليه يد المسلمين
ص:185
و تحقّق ملكهم له،لا ينبغي أخذه إلاّ برضاهم،كسائر الأملاك.و لأنّ الحيازة في دار الحرب تثبت الملك،كالحيازة في دار الإسلام،و لهذا يجوز قسمته،و تثبت فيه أحكام الملك.
ردّه إلى المغنم،كثيرا كان أو قليلا.أمّا الكثير فالإجماع على وجوب ردّه لا نعلم فيه خلافا؛لأنّ ما أبيح له من ذلك،هو ما يحتاج إليه في دار الحرب،فإذا أخذه على وجه يفضل منه فقد أخذ ما لا يحتاج إليه،لزمه ردّه؛عملا بالأصل المقتضي للتحريم؛لأنّه مشترك بين الغانمين،كسائر المال،خرج منه ما دعت الحاجة إليه،فيبقى الزائد على التحريم، و لهذا لم يسغ له بيعه.
و أمّا اليسير،فإنّه يجب ردّه أيضا،و هو أحد قولي الشافعيّ (1)،و مذهب أبي ثور (2)،و أبي حنيفة (3)،و ابن المنذر (4)،و إحدى الروايتين عن أحمد (5).
و قال مالك:يكون مباحا و لا يجب ردّه إلى المغنم (6).و به قال الأوزاعيّ،
ص:186
و عطاء الخراسانيّ،و مكحول (1)،و الشافعيّ في القول الآخر (2)،و هو الرواية الأخرى عن أحمد (3).
لنا:قوله عليه السلام:«ردّوا الخياط (4)و المخيط» (5).و لأنّه من مال الغنيمة لم يقسّم،فلا يباح في دار الإسلام،كالكثير.
احتجّوا:بقول الأوزاعيّ:أدركت الناس يقدمون بالقديد،فيهديه بعضهم إلى بعض،لا ينكره إمام و لا عامل و لا جماعة (6).
و لأنّه أبيح إمساكه عن القسمة،فأبيح في دار الإسلام،كمباحات دار الحرب.
و الجواب عن الأوّل:أنّه حكاية حال،فلا عموم لها،فيجوز تناولها للمتّفق عليه دون المختلف فيه.
و عن الثاني:بالفرق،و هو ظاهر.
سواء جمعوها في دار الحرب أو في دار الإسلام.و به قال الشافعيّ (7).
ص:187
و قال أبو حنيفة:إذا حازوها في دار الحرب،لا تملك،و إنّما تملك بعد إحرازها في دار الإسلام (1).و ليس بمعتمد؛و لهذا تجوز القسمة في دار الحرب على ما يأتي.
إذا ثبت هذا:فإنّ مع الحيازة للغنيمة يثبت لكلّ واحد منهم حقّ الملك.
و قيل:لا يملك إلاّ باختيار التمليك (2)-و هو اختيار أبي إسحاق الشيرازيّ (3)- و استدلّ عليه:بأنّه لو قال واحد منهم:أسقطت حقّي،سقط،و لو كان قد ملك،لم يزل ملكه بذلك،كما لو قال الوارث:أسقطت حقّي في الميراث،لم يسقط؛لثبوت الملك له و استقراره (4).و فيه نظر؛لأنّه بالحيازة زال ملك الكفّار عنها،و لا يزول إلاّ إلى المسلمين.نعم،ملك كلّ واحد منهم ليس بمستقرّ في شيء بعينه،أو جزء مشاع، بل للإمام أن يعيّن نصيب كلّ واحد بغير اختياره،بخلاف سائر الأملاك المشتركة التي يتوقّف تملّك العين فيها على الاختيار،فالحاصل أنّه ملك ضعيف.
رحله؛إلاّ المصحف و ما فيه روح (1).و به قال أحمد بن حنبل (2).
لنا:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يحرق رحل الغالّ،روى عبد اللّه بن عمرو (3)أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم،فيخمّسه و يقسّمه،فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال:يا رسول اللّه،هذا فيما كنّا أصبنا[ه] (4)من الغنيمة،فقال:«سمعت بلالا ينادي ثلاثا؟»قال:نعم،قال:«فما منعك أن تجيء به؟»فاعتذر،فقال:«كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك» (5).
و لأنّ إحراق المتاع عقوبة لم يثبت لها نظير في الشرع في صورة من الصور.
و لأنّ عقوبة السارق القطع،أمّا حرق المتاع فلا.
و لأنّه إضاعة للمال،و لقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن إضاعة المال (6).
احتجّوا (7):بما رواه صالح بن محمّد بن زائدة (8)،قال:دخلت مع
ص:189
مسلمة (1)أرض الروم،فأتي برجل قد غلّ،فسأل سالما عنه،فقال:سمعت أبي يحدّث عن عمر بن الخطّاب،عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:«إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه و اضربوه»قال:فوجدنا في متاعه مصحفا،فسأل سالما عنه، فقال:بعه و تصدّق بثمنه (2).
و الجواب:المنع من الحديث،فإنّه لم يثبت عندنا ذلك.
إذا عرفت هذا:فإنّ المصحف لا يحرق إجماعا؛لحرمته.و كذا الحيوان-؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يعذّب بالنار إلاّ ربّ النار (3)-لحرمة الحيوان في نفسه،و لا نعلم فيه خلافا.
أمّا عندنا فظاهر؛لأنّه لا يحرق شيء من متاعه على ما قلناه.
و أمّا عند أحمد؛فلأنّه يحتاج إليه للانتفاع به.و لأنّه تابع لما لا يحرق،فأشبه جلد المصحف و كيسه (4).
ص:190
و قال الأوزاعيّ:يحرق سرجه (1).و ليس بجيّد؛لأنّه ملبوس حيوان،فأشبه ثياب الغالّ.
لأنّه لا يجوز تركه عريانا.
لأنّه من غنيمة المسلمين،بل يردّ إلى المغنم إجماعا.
لأنّه يحتاج إليه للقتال،و هو منفعة للمسلمين عامّة، و لا نفقته؛لأنّه ممّا لا يحرق عادة.
إلاّ المغنوم،فإنّه يردّ إلى الغنيمة.و كذلك ما أبقت (2)النار من حديد أو غيره،فإنّه لصاحبه؛لأنّ ملكه كان ثابتا عليه قبل الإحراق،فيستصحب الحكم؛لفقدان المزيل.و المعاقبة بإحراق المتاع،لا يخرج المملوك ممّا لا يحرق عن ملكه.
أمّا عندنا فظاهر،و أمّا عند المخالف؛فلأنّه نفع يعود إلى الدين،و ليس القصد بالإحراق إضراره في دينه،بل الإضرار به في شيء من دنياه.
أمّا عندنا؛فلما تقدّم (1).
و أمّا عند أحمد؛فلأنّه عقوبة فيسقط بالموت،كالحدود،و لأنّ الموت ناقل للمال إلى الورثة،فإحراقه عقوبة على غير الجاني،فلا يكون مشروعا (2).
ما عندنا فظاهر.
و أمّا عند أحمد؛فلأنّه انتقل إلى غيره،فأشبه ما لو انتقل بالموت عنه إلى الوارث (3).
و قيل:ينقض البيع و الهبة و يحرق؛لأنّه تعلّق به حقّ سابق على البيع و الهبة، فيقدّم،كالقصاص في حقّ الجاني (4).و هو فاسد الأصل.
أمّا عندنا فظاهر،و أمّا عندهم؛فلأنّ الإحراق عقوبة،و ليس الصبيّ من أهلها،فأشبه الحدّ (5).
أمّا عندنا فظاهر، و أمّا عند المخالف،فلأنّ المتاع لسيّده،فإحراقه عقوبة للسيّد بجناية عبده،و ذلك غير سائغ،و لو استهلك ما غلّه،فهو في رقبته؛لأنّه من جنايته (6).
لم يحرق متاعهما عندنا.
و قال أحمد:يحرق متاعهما؛لأنّهما من أهل العقوبة،و لهذا قطعا في السرقة، و يحدّان في الزنا (7).و هو مبنيّ على الأصل الفاسد،فيكون فاسدا.
ص:192
لم يحرق متاعه إجماعا، أمّا عندنا فبالأصل.و أمّا عند أحمد؛فلأنّ الأصل عدم الغلول.
و لو ثبت الغلول بالإقرار أو البيّنة،لم يحرق متاعه عندنا،و عند أحمد يحرق إذا شهد عدلان (1)،و قد مضى فساده (2).
سواء كان صبيّا أو بالغا،و هو إحدى الروايتين عن أحمد.
و في الرواية الأخرى:يحرم سهمه،و قال الأوزاعيّ:إن كان صبيّا،حرم سهمه (3).
لنا:أنّ سبب الاستحقاق-و هو حضور الحرب-قائم،و الغلول لا يصلح معارضا،كغيره من أنواع الفسوق،و لم يثبت حرمانه بخبر و لا قياس،فيبقى على حالة الاستحقاق.
و قال مالك:إذا تاب بعد القسمة أدّى خمسه إلى الإمام،و تصدّق بالباقي (1).
و به قال الحسن البصريّ،و الزهريّ،و الأوزاعيّ،و الثوريّ،و الليث (2)،و أحمد بن حنبل (3).
لنا:أنّه مال لغيره،فيجب ردّه إلى أربابه،كما لو تاب قبل القسمة.
احتجّ المخالف:بما رواه صفوان بن عمرو (4)،قال:غزا الناس الروم،و عليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (5)،فغلّ رجل مائة دينار،فلمّا قسّمت الغنيمة و تفرّق (6)الناس،ندم فأتى عبد الرحمن،فقال:قد غللت مائة دينار فاقبضها،قال:
قد تفرّق الناس فلن أقبضها منك حتّى توافي اللّه بها يوم القيامة،فأتى معاوية فذكر ذلك له،فقال له مثل ذلك،فخرج و هو يبكي،فمرّ بعبد اللّه بن الشاعر (7)،فقال:
ص:194
ما يبكيك؟فأخبره،فقال: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ،أ مطيعي (1)أنت يا عبد اللّه؟قال:
نعم،قال:فانطلق إلى معاوية،فقل له:خذ منّي خمسك،فأعطه عشرين دينارا، و انظر إلى الثمانين الباقية فتصدّق بها عن ذلك الجيش،فإنّ اللّه تعالى يعلم أسماءهم و مكانهم،و إنّ اللّه يقبل التوبة عن عباده،فقال معاوية:أحسن،و اللّه لأن أكون أنا أفتيته بهذا،أحبّ إليّ من أن يكون لي مثل كلّ شيء امتلكت (2).
و الجواب:أنّ فعل معاوية ليس بحجّة.
إذا عرفت هذا:فإن تمكّن الإمام من قسمته بين العسكر،فعل؛لأنّه حقّهم،و إن لم يتمكّن؛لتفرّقهم و كثرتهم و قلّة المغلول،فالوجه عندي:اختيار مالك؛لأنّ تركه تضييع له و تعطيل لمنفعته التي خلق لها،و لا يتخفّف به شيء من إثم الغالّ،و في الصدقة به نفع لمن يصل إليه من المساكين،و ما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى صاحبه فيذهب به الإثم عن الغالّ،فيكون أولى.
فإن كان له نصيب من الغنيمة و سهم منها، فإن كان بقدر نصيبه أو أزيد بما لا يبلغ نصاب القطع،لم يجب عليه القطع؛لأنّه و إن لم يملكه لكنّ الشبهة الحاصلة له بالشركة درأت عنه الحدّ،و إن زاد على نصيبه بمقدار النصاب الذي يجب فيه القطع،وجب عليه القطع؛لأنّه سارق،فيدخل تحت عموم قوله تعالى: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (3).
هذا إذا لم يعزل منه الخمس،و لو عزل الإمام الخمس ثمّ سرق و لم يكن من أهل الخمس فإن كان من الخمس،وجب القطع مطلقا،و إن كان من أربعة الأخماس،كان الحكم فيه ما تقدّم.
ص:195
و للشافعيّ وجهان:
أحدهما:إذا سرق من أربعة الأخماس ما يزيد على نصيبه بمقدار النصاب، وجب القطع؛عملا بالآية:و لأنّه لا شبهة له فيه.
و الثاني:لا يقطع؛لأنّ حقّه لم يتعيّن،فكلّ جزء مشترك بينه و بينهم،فكان كالمال المشترك (1)،و الأصل عندنا ممنوع،إذ يجب القطع عندنا في السرقة من المال المشترك-و سيأتي-مع أنّ (2)قول الشافعيّ به رواية (3)عندنا،لكنّ التفصيل أولى.
لأنّه يرضخ له،فإن كان ما سرقه أزيد ممّا يرضخ بمقدار النصاب،وجب القطع،و إلاّ فلا،و كذا المرأة.
لأنّه زيادة ضرر بالغانمين.نعم، يؤدّب؛حسما لمادّة الفساد.
فلا نصيب له منها،فيقطع.
و لو كان أحد الغانمين ابنا للسارق (4)،لم يقطع إلاّ إذا زاد ما سرقه عن نصيب
ص:196
ولده بمقدار النصاب؛لأنّ مال الولد في حكم ماله.
و لو كان السارق ممّن له سهم في الخمس و سرق منه أو من الغنيمة قبل تخميسها،كان الحكم ما قدّمناه من أنّه إن سرق أزيد من نصيبه بمقدار النصاب، قطع و إلاّ فلا،و لو لم يكن من أهل الخمس و لا من قدّمناه،قطع بكلّ حال.
و كذا لو كان من أهل الخمس و سرق من أربعة الأخماس و لا نصيب له فيها، فإنّه يقطع (1)إذا بلغ النصاب.
و لو كان السارق سيّد عبد[له نصيب] (2)في الغنيمة،كان حكمه حكم من له نصيب؛لأنّ مال العبد لسيّده.و بهذه الأحكام قال الشافعيّ،و أبو حنيفة (3).و زاد الشافعيّ:الابن إذا سرق و للأب سهم في الغنيمة،و كذا (4)أحد الزوجين (5).
و زاد أبو حنيفة:إذا كان لذي رحم محرم منه فيها حقّ،لم يقطع (6).و البحث فيه سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
و لا يطلع الإمام عليه و لا يضعه مع الغنيمة،و قد تقدّم الحكم فيه (7).
و لا ينزّل منزلة السارق في القطع،إلاّ أن يغلّ على وجه السرقة؛فإنّ الغلول:
أخذ مال لا حافظ له و لا يطّلع عليه غالبا،و السرقة:أخذ مال محفوظ.
ص:197
إذا ثبت هذا:فإنّ السارق لا يحرق رحله عندنا،كما مرّ في الغالّ.
و قيل:يحرق رحله،كالغالّ:لأنّه في معناه (1)،و قد سلف (2).
و سيأتي البحث فيه في فصل الأسارى إن شاء اللّه تعالى.
فلو باع أحد الغانمين غيره شيئا منها،فإن كان المشتري من الغانمين أيضا،لم يصحّ البيع؛لعدم الاختصاص.
و قيل:يصحّ بيعه في قدر نصيبه (4).و ليس بصحيح،أمّا أوّلا:فلأنّه لا يعلم وقوعه في المستحقّين له؛لجواز أن يسهمه (5)الإمام غيره.
و أمّا ثانيا:فلأنّ نصيبه مجهول.
إذا ثبت هذا:فإنّه يقرّ في يد المشتري،و ليس للمشتري ردّه إلى البائع، و لا يجوز للبائع قهره عليه؛لأنّه أمانة في يدهما لجميع المسلمين.و إن لم يكن من الغانمين،لم تقرّ يده عليه؛إذ لا نصيب له فيه.
إذا عرفت هذا:فلو كان المبيع طعاما،و قد قلنا:إنّه يجوز للمسلمين تناول الطعام (6)،فهل يصحّ البيع أم لا؟الوجه:أنّه لا يصحّ بيعه؛لأنّ الضرورة المبيحة إنّما سوّغت التناول،أمّا (7)البيع فلا.و إذا لم يصحّ البيع فإن كان المشتري من الغانمين،
ص:198
كان أحقّ به من البائع؛لثبوت يده حينئذ عليه،و لا يكون تبايعا حقيقة،بل هو معاوضة مباح بمباح و انتقال من يد (1)إلى يد،فما حصل في يد كلّ واحد منهما، يكون أحقّ بالتصرّف فيه،فعلى هذا لو باع أحدهما الآخر صاعين من طعام بصاع منه من مال الغنيمة كان جائزا؛لأنّه ليس ببيع في الحقيقة.و لو كان المشتري من غير الغانمين لم تقرّ يده عليه؛لأنّه لا نصيب له في الغنيمة.
كان سائغا،و ليس بقرض حقيقة؛لأنّه لم يملكه الأوّل،و إنّما كان مباحا له التصرّف فيه، و يده عليه،فإذا أقرضه،صار يد الغير عليه،فيكون الثاني أحقّ باليد.
قال الشيخ رحمه اللّه-:ليس عليه ردّه،فإن ردّه،كان المردود عليه أحقّ به؛لثبوت يده عليه (2).
لم يكن للمقترض ردّه عليه،بل يردّه إلى المغنم؛لأنّه إنّما أذن له في الأكل منه ما دام في دار الحرب و قد خرج إلى بلاد الإسلام فيردّ إلى (3)المغنم.
ردّه إلى المغنم أيضا على ما قلناه،و فيه خلاف بين الجمهور و لا يردّه إلى المقرض الأوّل؛لأنّه بحصوله
ص:199
في دار الإسلام،صار كالغنيمة (1).
لم يصحّ قرضه،و استعيد من القابض،و كذا لو باعه منه؛لأنّه أخذ ملك غيره.
و كذا لو جاء رجل من غير الغانمين فأخذ من طعام الغنيمة،لم تقرّ يده عليه؛ لأنّه لا نصيب له فيه و عليه ضمانه.و لو باعه من غير الغانمين،بطل البيع،و استعيد.
و لو باعه من غانم،كان الغانم أولى به،و لا يكون بيعا صحيحا.
فلو عاد الكفّار و أخذوا المبيع من المشتري في دار الحرب،فإن كان لتفريط من المشتري، مثل أن خرج به من العسكر وحده،فضمانه عليه،و إن حصل بغير تفريط،فالتلف منه أيضا.و هو قول الشافعيّ،و أحمد في إحدى الروايتين.
و في الأخرى:ينفسخ البيع،و يكون من ضمان أهل الغنيمة،فإن كان المشتري قد وزن الثمن،استعاده،و إلاّ سقط (2).
لنا:أنّه مال مقبوض أبيح لمشتريه،فكان ضمانه عليه،كما لو أخذه من دار الإسلام،و لأنّ التلف في يد المشتري،فلا يرجع بالضمان على غيره،كغيره من المبيعات.و لأنّ أخذ العدوّ له نوع من التلف،فلا يضمنه البائع،كسائر أنواع التلف، و لأنّ نماءه للمشتري،فضمانه عليه؛لقوله عليه السلام:«الخراج بالضمان» (3).
ص:200
احتجّ أحمد:بأنّ القبض لم يكمل؛لأنّ المال في دار الحرب غير محرز،و كونه على خطر من العدوّ (1).
و الجواب:الحرز ليس شرطا في المبيع (2).
جاز لكلّ من أخذ سهمه التصرّف فيه كيف شاء بالبيع و غيره،فلو باع بعضهم شيئا فغلب المشتري عليه،لم يضمنه البائع على ما تقدّم (3).
و لأحمد روايتان (4)،و قد سلف البحث معه (5).
قبل القسمة و بعده.
و قال أحمد:ليس له ذلك؛لأنّه يحابى (6).و ليس بمعتمد؛لأنّه يندفع الخيال بأخذه بالقيمة العدل.
ص:201
في أحكام الأسارى
و الذكور:بالغون و أطفال.
فالنساء و الأطفال-و هم من لم يبلغ خمس عشرة سنة من الذكور-يملكون بالسبي،و لا يجوز قتلهم بلا خلاف؛لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن قتل النساء و الولدان (1). (2)و كان عليه السلام يسترقّهم إذا سباهم (3).
و لو أشكل أمر الصبيّ في البلوغ و عدمه،أعتبر بالإنبات،فإن كان قد أنبت الشعر الخشن على عانته،حكم ببلوغه،و إن لم ينبت ذلك،جعل من جملة الذرّيّة؛ لأنّ سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بهذا (4)،و أجازه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
ص:202
و رواه الشيخ عن أبي البختريّ،عن جعفر،عن أبيه عليهما السلام،قال:«قال [إنّ] (1)رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عرضهم يومئذ على النباتات (2)،فمن وجده أنبت،قتله،و من لم يجده أنبت،ألحقه بالذراريّ» (3).
تخيّر الإمام بين قتلهم و بين قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف،و حينئذ يتركون حتّى ينزفوا بالدم و يموتوا (4).و لا يجوز إبقاؤهم و لا استرقاقهم و لا مفاداتهم.
و إن أسروا بعد أن وضعت الحرب أوزارها و انقضى القتال،تخيّر الإمام بين المنّ و الفداء،و الاسترقاق،و الخيار إلى الإمام،لأنّه أعرف بمصلحة المسلمين.
و لا يجوز له قتلهم حينئذ بل يتخيّر بين أن يمنّ عليه فيطلقه،و بين أن يفاديه على مال يدفعه الأسير إليه و يخلّص به رقبته من العبوديّة،و بين أن يسترقّه و يستعبده،ذهب إلى ذلك علماؤنا أجمع.
و قال الشافعيّ:يتخيّر الإمام بين أربعة أشياء:القتل،و الاسترقاق،و المنّ، و الفداء على ما يراه من المصلحة في ذلك،لا على اختيار الشهوة (5).
و قال أبو حنيفة:ليس له المنّ و الفداء،و إنّما يتخيّر بين القتل و الاسترقاق،
ص:203
لا غير (1).
و قال أبو يوسف:لا يجوز المنّ،و يجوز الفداء بالرجال دون الأموال (2).
و في رواية عن مالك:أنّه يتخيّر بين القتل و المنّ و المفاداة،و لا يجوز الاسترقاق (3)،و هو إحدى الروايات عن أحمد،و به قال الأوزاعيّ،و أبو ثور (4).
و قال مالك أيضا في رواية:إنّه لا يجوز المنّ بغير فداء (5).
و حكي عن الحسن البصريّ،و عطاء،و سعيد بن جبير:كراهة قتل الأسارى، و قالوا:منّ عليه أو فاده (6). (7)و لا نعلم أحدا منهم قال بالتفصيل الذي ذكرناه.
لنا:على جواز المنّ و الفداء:قوله تعالى: فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً (8).
ص:204
و منّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ثمامة بن أثال (1)، (2)و أبي عزّة الشاعر (3)(4)و أبي العاص بن الربيع (5).و قال في أسارى بدر:«لو كان مطعم بن عديّ (6)حيّا ثمّ سألني في هؤلاء النتنى (7)لأطلقتهم له» (8)و فادى أسارى بدر-
ص:205
و كانوا ثلاثة و سبعين رجلا-كلّ رجل (1)بأربعمائة (2).و فادى يوم بدر رجلا برجلين (3).
و أمّا تسويغ القتل:فبعموم قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (4).و كان (5)النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قتل رجال بني قريظة و هم بين ستّمائة رجل و سبعمائة (6)،و قتل يوم بدر النضر بن الحارث (7)،و أنشدته ابنته:
أ محمّد و لأنت ضنء (8)نجيبة في قومها و الفحل فحل معرق (9)
ما كان ضرّك لو مننت و ربّما منّ الفتى و هو المغيظ المحنق
النضر أقرب من قتلت قرابة و أحقّهم إن كان عتق يعتق
فليسمعنّ النضر لو ناديته لو كان يسمع ميّت أو ينطق
ص:206
فقال صلّى اللّه عليه و آله:لو سمعت هذه الأبيات ما قتلته (1).و هو يدلّ على تسويغ القتل و المنّ معا.
و روى الجمهور:أنّه صلّى اللّه عليه و آله قتل عقبة بن أبي معيط (2)صبرا (3).
و قتل أبا عزّة يوم أحد (4).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد الحلبيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«لم يقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلا صبرا قطّ غير رجل واحد:عقبة بن أبي معيط،و طعن ابن أبي خلف (5)فمات بعد ذلك» (6).
ص:207
و لأنّ كلّ خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح من غيرها في بعض الأسرى،فإنّ ذا القوّة و النكاية في المسلمين قتله أنفع للمسلمين،و بقاؤه ضرر عليهم،و الضعيف ذا المال الكثير لا قدرة له على الحرب،ففداؤه أصلح للمسلمين.
و منهم من هو حسن الرأي في الإسلام و يرجى إسلامه،فالمنّ عليه أولى،و قد يكون للمسلمين فيه نفع بأن يطلق أسراهم (1)و يدفع عنهم،فإذا أطلق و منّ عليه، كان أولى من قتله.
و منهم من يحصل بخدمته نفع،و يؤمن ضرره،كالنساء و الصبيان،فاسترقاقه أولى،و الإمام أعلم بهذه المصالح،فكان النظر إليه في ذلك كلّه.
و أمّا الذي يدلّ على التفصيل الذي ذكرناه (2)؛فلأنّ الأسير قبل تقضّي الحرب لا يؤمن شرّه،فيتعيّن (3)قتله،أمّا بعد انقضاء الحرب و الاستظهار (4)عليهم فشرّه مأمون،فيتعيّن (5)إطلاقه على إحدى الوجوه التي ذكرناها (6).
و يؤيّده:ما رواه الشيخ عن طلحة بن زيد،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:
سمعته يقول:«كان أبي يقول:إنّ للحرب حكمين:إذا كانت قائمة لم تضع أوزارها و لم تضجر أهلها،فكلّ أسير أخذ في تلك الحال،فإنّ الإمام فيه بالخيار،إن شاء ضرب عنقه،و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف بغير حسم،و تركه يتشحّط في دمه حتّى يموت،فهو قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا
ص:208
مِنَ الْأَرْضِ (1)إلى آخر الآية،ألا ترى أنّ التخيير الذي خيّر اللّه تعالى الإمام على شيء واحد،و هو الكلّ (2)و ليس على أشياء مختلفة»فقلت لجعفر بن محمّد عليهما السلام:قول اللّه: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قال:«ذلك للطلب أن تطلبه الخيل حتّى يهرب،فإن أخذته الخيل،حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك.
و الحكم الآخر:إذا وضعت اَلْحَرْبُ أَوْزارَها و أثخن أهلها،فكلّ أسير أخذ على تلك الحال فكان في أيديهم،فالإمام فيه بالخيار،إن شاء منّ عليه (3)،و إن شاء فاداهم أنفسهم،و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا» (4).
و احتجّ مالك:بأنّه لا مصلحة في المنّ بغير عوض،و إنّما يجوز للإمام فعل ما فيه مصلحة (5).
و احتجّ عطاء:بقوله تعالى: فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً (6)فخيّره بعد الأسر بين هذين لا غير (7).
و احتجّ أبو حنيفة:بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (8)بعد قوله: فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً (9)؛لأنّ آية المنّ نزلت بمكّة و آية القتل نزلت بالمدينة في آخر سورة نزلت و هي براءة،فيكون ناسخا،و لأنّ فيه إعانة و تقوية
ص:209
لأهل الحرب و صيرورته حربا علينا بسبب المال (1).
و الجواب:عن الأوّل:أنّا قد بيّنّا أنّه قد تكون المصلحة في المنّ و المفاداة بسبب المال،فيكون سائغا (2).
و عن الثاني:أنّه مخيّر في الأسير إذا أخذ بعد انقضاء الحرب.
و عن الثالث:بالمنع من النسخ،فإنّ العامّ و الخاصّ إذا تعارضا،خصّص العامّ بالخاصّ،و عمل بالعامّ في غير صورة الخاصّ،و عمل بالخاصّ في صورته.
و عن الرابع:أنّ الإعانة منتفية؛لأنّا سوّغنا ذلك بعد الاستظهار عليهم بالقتل (3).
سواء كانوا ممّن يقرّ على دينه بالجزية كأهل الكتاب،أو لا يقرّون،كأهل الحرب من عبدة الأوثان.
و به قال الشافعيّ (5).
و قال الشيخ-رحمه اللّه-:إن أسر رجل بالغ،فإن كان من أهل الكتاب أو ممّن له شبهة كتاب،فإنّ الإمام مخيّر فيه على ما مضى بين الأشياء الثلاثة (6)،و إن كان من عبدة الأوثان،فإنّ الإمام مخيّر فيه بين المفاداة و المنّ،و يسقط الاسترقاق (7).
ص:210
و به قال أبو سعيد الإصطخريّ من الشافعيّة (1)،و عن أحمد روايتان،كالقولين (2).
و قال أبو حنيفة:يجوز في العجم دون العرب (3).
لنا:أنّه كافر أصليّ،فجاز استرقاقه،كالكتابيّ،و ما تقدّم في حديث طلحة بن زيد (4)،فإنّه عامّ في كلّ أسير.
احتجّ الشيخ-رحمه اللّه-:بأنّه لا يجوز له إقرارهم بالجزية،فلا يجوز له إقرارهم بالاسترقاق (5).
و الجواب:المنع من الملازمة و يبطل بالنساء و الصبيان؛فإنّه يجوز استرقاقهم إجماعا،و لا يقرّون بالجزية.
هذا التخيير تخيير مصلحة و اجتهاد لا تخيير شهوة،
فمتى رأى الإمام المصلحة في خصلة من هذه الخصال،تعيّنت عليه،و لم يجز العدول عنها (6).و لو تساوت المصالح،فالوجه:التخيير للإمام حينئذ تخيير شهوة.
ص:211
و قيل:القتل أولى،اختاره مالك (1).
سواء أخذ قبل تقضّي الحرب أو بعده،و لا نعلم فيه خلافا؛لقوله صلّى اللّه عليه و آله:«أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها» (2).
و روى الشيخ عن عيسى بن يونس (3)،عن الأوزاعيّ،عن الزهريّ،عن عليّ بن الحسين عليهما السلام،قال:«الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه و صار فيئا» (4).
إذا ثبت هذا،فهل بسقوط القتل يصير رقّا أم لا؟للشافعيّ قولان:
أحدهما:أنّه يسترقّ بنفس الإسلام،و به قال أحمد بن حنبل (5).
ص:212
و في الآخر:يتخيّر الإمام بين المنّ و الفداء و الاسترقاق (1).و هو قول الشيخ رحمه اللّه.
و احتجّ عليه الشيخ-رحمه اللّه- (2):بأنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسروا رجلا من بني عقيل فأوثقوه و طرحوه في الحرّة،فمرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال:يا محمّد علام أخذت و أخذت سابقة الحاجّ (3)؟فقال:«أخذت بجريرة حلفائك من ثقيف»و كانت ثقيف قد أسرت رجلين من المسلمين،و مضى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،فناداه:يا محمّد يا محمّد،فقال له:«ما شأنك؟»فقال:إنّي مسلم،فقال له:«لو قلتها و أنت تملك أمرك لأفلحت كلّ الفلاح»و فادى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الرجلين (4).و لو صار رقيقا لم يفاد به؛و لأنّه قبل الإسلام مخيّر بين أربعة أشياء،و الإسلام يقتضي حقن الدم،فيبقى التخيير بين الثلاثة؛عملا بالاستصحاب.
و احتجّ الشافعيّ:بأنّه أسير يحرم قتله،فيجب استرقاقه،كالمرأة (5).
و الجواب:الفرق،فإنّ النساء يسترققن،بالسبي،بخلاف الرجل،فإنّه يتخيّر فيه
ص:213
الإمام قبل الإسلام،فكذا بعده.
و أيضا:فإنّه لو لم يسلم،لجاز للإمام أن يمنّ عليه فيطلقه،فبعد الإسلام أولى؛ لأنّه يناسب الإكرام و التعظيم لا الإهانة بالاسترقاق،فكيف يكون حاله مع المقتضي للإكرام أدون من حاله مع المقتضي للإهانة.
فإنّ الإمام يتخيّر فيه بين المنّ و المفاداة و الاسترقاق،أيّ هذه الثلاثة اختار،جاز.
أمّا عند الشافعيّ في أحد قوليه،فإنّه بنفس الإسلام يسترقّ و يكون للمسلمين و لا يمنّ عليه و لا يفادى به إلاّ بإذن الغانمين؛لأنّه صار مالا لهم.
فإن فاداه بالرجال، جاز بشرط أن يكون له عشيرة تحميه من المشركين حيث صار مسلما،و إن لم يكن له عشيرة تمنعه منهم،لم يجز ردّه إليهم،و إنّما قلنا بجواز أن يفادي به بالمال و الرجال؛لأنّه يتخلّص بذلك من الاسترقاق.
لا يقال:الغانمون لا حقّ لهم في الأسير (1)؛لأنّ الإمام مخيّر فيه،فكيف يكون لهم حقّ في بدله؟!.
لأنّا نقول:لا نسلّم أنّ الغانمين لا حقّ لهم في الأسير،و تخيير الإمام إنّما هو فيما يتعلّق بمصلحة المسلمين في الأسير؛لأنّه لم يصر مالا،فإذا صار مالا،تعلّق حقّ الغانمين به؛لأنّهم أسروه و قهروه،و هذا كثير النظائر،فإنّ من عليه الدين إذا
ص:214
قتل عمدا،لم يكن لأرباب الدين حقّ على القاتل،فان اختار الورثة المال و رضي به القاتل،تعلّق حقّهم حينئذ فيه.
لم يجز قتله إجماعا؛لما تقدّم (1)،و لا استرقاقه و لا المفاداة به؛لأنّه أسلم قبل أن يحصل مقهورا بالسبي،فلا يثبت فيه التخيير.و سواء أسلم في حصن محصور أو مصبور،أو رمى نفسه في بئر؛ لأنّه لم يحصل في أيدي الغانمين بعد،و يكون دمه محقونا لا سبيل لأحد عليه بالقتل و الاسترقاق،و يحقن ماله من الاستغنام و ذرّيّته من الأسر،و أمّا البالغون من أولاده فحكمهم حكم الكفّار،و لا يكون إسلامه عاصما لهم؛لأنّ لكلّ بالغ حكم نفسه.
و يدلّ على ذلك:ما رواه الشيخ عن حفص بن غياث،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب و ظهر عليهم المسلمون بعد ذلك،فقال:«إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار،و هم أحرار،و ماله و متاعه و رقيقه له،فأمّا الولد الكبار فهم فيء للمسلمين،إلاّ أن يكونوا أسلموا قبل ذلك،و أمّا الدور و الأرضون فهي فيء و لا تكون له؛لأنّ الأرض هي أرض جزية لم يجر فيها حكم أهل الإسلام،و ليس بمنزلة ما ذكرناه؛لأنّ ذلك يمكن احتيازه و إخراجه إلى دار الإسلام» (2).
فالزوجيّة باقية؛ عملا بالاستصحاب.و لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سبى يوم بدر سبعين رجلا من الكفّار،فمنّ على بعضهم،و فادى بعضا،فلم يحكم عليهم بفسخ أنكحتهم (3).هذا
ص:215
مذهب علمائنا أجمع و به قال أكثر العلماء.
و قال أبو حنيفة:ينفسخ النكاح؛لافتراق الزوجين في الدار و طروّ الملك على أحدهما فانفسخ النكاح،كما لو سبيت المرأة وحدها (1).
و الجواب:أنّ الملك لا يحصل بنفس الأسر،بل باختيار الإمام له.
إذا ثبت هذا:فإن منّ عليه الإمام أو فاداه،فالزوجيّة على حالها،و إن استرقّه الإمام،انفسخ النكاح.
و لو أسر الزوجان معا،انفسخ النكاح عندنا،و به قال مالك،و الثوريّ، و الليث (2)،و الشافعيّ (3)،و أبو ثور (4).
و قال أبو حنيفة:لا ينفسخ النكاح،و به قال الأوزاعيّ،و أحمد بن حنبل (5).
لنا:قوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (6)وَ الْمُحْصَناتُ :المزوّجات إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بالسبي.
ص:216
قال أبو سعيد الخدريّ:نزلت هذه الآية في سبي أوطاس (1). (2)
و قال ابن عبّاس:إلاّ ذوات الأزواج من المسبيّات (3).
و لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال في سبي أوطاس:«لا توطأ حامل حتّى تضع،و لا حائل حتّى تحيض» (4)فأباح الوطء بعد وضع الحامل و استبراء الحائل، و لو كان نكاحهنّ باقيا،لم يبح الوطء،و لأنّ ملك الرقبة أقوى (5)من ملك النكاح، فإذا طرأ عليه أزاله،و لأنّه استولى على محلّ حقّ الكافر،فزال ملكه،كما لو سباها وحدها.
احتجّ أبو حنيفة:بأنّ الرقّ لا يمنع ابتداء النكاح،فلا يقطع استدامته،كالعتق (6).
و الجواب:البحث في استجداد الملك،و هو عندنا موجب لفسخ النكاح، و الفرق واقع بين الابتداء و الاستدامة على ما سيأتي.
أمّا لو أسرت الزوجة وحدها،فإنّ النكاح ينفسخ إجماعا،و لا نعلم فيه خلافا؛
ص:217
لقوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (1).
و روى أبو سعيد الخدريّ قال:أصبنا سبايا يوم أوطاس،و لهنّ أزواج في قومهنّ،فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فنزلت وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (2). (3)
إذا ثبت هذا:فسواء سبي زوجها بعدها بيوم أو بأزيد أو بأنقص،فإنّ النكاح ينفسخ.
و قال أبو حنيفة:إن سبي زوجها بعدها بيوم،لا ينفسخ النكاح (4).
و ليس بمعتمد؛لأنّ المقتضي للفسخ و هو السبي موجود،فانفسخ النكاح،كما لو حصل السبي بعد شهر.
بين أن يسبيهما رجل واحد أو رجلان.
و الوجه:أنّه إذا سباهما رجل واحد و ملكهما معا أنّ النكاح باق و له فسخه، و كذا لو بيعا من واحد.
كما قلنا في حقّ المرأة؛
ص:218
لتجدّد الملك بأسره،بخلاف البالغ.
قيل:لا ينفسخ النكاح؛لعدم حدوث رقّ فيهما؛لأنّه كان ثابتا قبل السبي (1).
و الوجه:أنّ الغانم يتخيّر،كما لو بيعا عليه.
حقن ماله و دمه و أولاده الصغار من السبي،و المال المعصوم هنا إنّما هو ما ينقل و يحوّل،أمّا ما لا ينقل،فإنّه فيء للمسلمين.
و لو دخل دار الإسلام فأسلم فيها،و له أولاد صغار في دار الحرب،صاروا مسلمين و لم يجز سبيهم،و به قال مالك (2)،و الشافعيّ (3)،و الأوزاعيّ،و أحمد بن حنبل (4).
و قال أبو حنيفة:ما كان في يده من ماله و رقيقه و متاعه و ولده الصغار،ترك له، و ما كان بدار الحرب،جاز سبيهم (5).
لنا:أنّه مسلم فيتبعه الصغار من أولاده في الإسلام،كما لو كانوا معه في الدار، و ماله مال مسلم،فلا يجوز استغنامه،كما لو كان في دار الإسلام.
ص:219
و يؤيّده:ما تقدّم في حديث حفص بن غياث عن الصادق عليه السلام،من أنّ:
«إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار،و هم أحرار،و ماله و متاعه و رقيقه له» (1).
احتجّ أبو حنيفة:بأنّه لم يثبت إسلامهم بإسلامه؛لاختلاف الدارين بينهم،و لهذا إذا سبي الطفل و أبواه في دار الكفر،لم يتبعهما،و يتبع سابيه في الإسلام (2).
و الجواب:أنّ اختلاف الدار لا يقتضي ما ذكره،و نمنع (3)تبعيّة المسبيّ للسابي في الإسلام،و لو سلّم،فالفرق ظاهر؛لأنّا إنّما جعلناه تبعا للسابي؛لأنّا لا نعلم بقاء أبويه،فإن قاسهم على البالغين،منعنا المساواة؛لأنّ البالغ له حكم نفسه،و لهذا لم يقل أحد أنّه يتبع السابي في الإسلام،بخلاف الصغير.
و قال أبو حنيفة:يحكم برقّه مع أمّه (1).
لنا:أنّه محكوم بحريّته و إسلامه،كالأب-على ما تقدّم-فلا يجوز استرقاقه، كالمولود.
احتجّ أبو حنيفة:بأنّ الأمّ سرى الرقّ إليها بالسبي،فيحكم برقّه مع أمّه؛لأنّ ما سري إليه العتق،سرى إليه الرقّ،كسائر أعضائها (2).
و الجواب:الفرق،فإنّ الأعضاء لا تنفرد بحكم عن الأصل،بخلاف الحمل.
فظهر عليها المسلمون و غنموها،سلمت عليه أمواله المنقولة،دون الأرضين و العقارات،فإنّها تكون غنيمة،و به قال أبو حنيفة (3).
و قال مالك (4)،و الشافعيّ (5)،و أحمد:لا تكون غنيمة،بل تكون له (6).
لنا:أنّها بقعة من دار الحرب،فجاز اغتنامها،كما لو كانت لحربيّ.
ص:221
احتجّوا:بأنّه مال مسلم فأشبه ما لو كانت في دار الإسلام (1).
و الجواب:الفرق،فإنّ دار الإسلام لا يصحّ استغنامها،بخلاف دار الحرب.
فلو غنمها المسلمون،كانت غنيمة و كانت المنافع للمستأجر؛لأنّه ملكها بالعقد، فلا تبطل بتجديد الملك بالاستغنام،كما لو باع الموجر ما آجره؛لأنّه إبطال حقّ لمسلم (2)سابق على الغنيمة.
لا يقال:قد أجزتم استرقاق الحربيّة إذا غنمت و إن كان زوجها قد أسلم،و في استرقاقها إبطال حقّ زوجها المسلم.
لأنّا نقول:جواز استرقاقها من حيث إنّها كافرة لا أمان لها،فجاز استرقاقها، كما لو لم يسلم زوجها.و لأنّ منفعة النكاح فارقت منفعة الأموال،فإنّها لا تضمن باليد،و لا يجوز أخذ العوض عنها،بخلاف حقّ الإجارة.
فقد بيّنّا أنّه إذا أسلم،عصم الحمل من الاسترقاق،و يجوز استرقاق الزوجة (3).و للشافعيّ وجهان:
أحدهما:هذا؛للكفر،كما لو لم تكن زوجة مسلم.
و الثاني:لا تسترقّ؛لأنّ فيه إبطال حقّه (4).و قد تقدّم البحث فيه (5).
فأعتقه على وجه يجوز فيه عتق المسلم للكافر،إمّا بالنذر إن لم نجوّزه،أو مطلقا إن جوّزنا عتقه بغير نذر،فلحق العبد بدار
ص:222
الحرب ثمّ أسر،فهل يجوز استرقاقه أم لا؟فيه وجهان:
أحدهما:الجواز؛عملا بإطلاق الإذن في الاسترقاق.
و الثاني:المنع؛لأنّ للمسلم عليه حقّ الولاء،و استرقاقه يقتضي إبطاله عنه،فلا يجوز استرقاقه،كما لو أبق و هو مملوك.
فإن لحق بدار الحرب فأسر،جاز استرقاقه عندنا إجماعا،و للشافعيّ وجهان:
أحدهما:هذا.
و الثاني:المنع (1).
لنا:أنّ سيّده لو لحق بدار الحرب،جاز استرقاقه فعبده أولى،و سقط حقّه بلحوق معتقه بدار الحرب.
احتجّ:بأنّ حقّ الذمّيّ تعلّق به و هو الولاء،فأشبه المسلم (2).
و الجواب:الفرق،فإنّ المسلم لو لحق بدار الحرب،لم يجز استرقاقه،بخلاف الذمّيّ.
فإن خرج إلينا قبل مولاه،فهو حرّ،و إن خرج بعده،فهو على الرقّيّة.و من الناس من لم يشترط الخروج قبل مولاه (3)،و الأوّل:أصحّ.
ص:223
قال الشيخ-رحمه اللّه-:و إن قلنا:إنّه يصير حرّا على كلّ حال،كان قويّا (1).
روى الجمهور عن ابن عبّاس،قال:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم (2).
و عن أبي سعيد الأعسم (3)قال:قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العبد و سيّده قضيّتين:قضى أنّ العبد إذا أخرج من دار الحرب قبل سيّده،أنّه حرّ،فإن خرج سيّده بعد (4)،لم يردّ عليه،و قضى أنّ السيّد إذا خرج قبل العبد ثمّ خرج العبد، ردّ على سيّده (5).
و عن الشعبيّ،عن رجل من ثقيف،قال:سألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يردّ علينا أبا بكرة،و كان عبدا لنا أتى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و هو محاصر ثقيف فأسلم،فأبى أن يردّه علينا و قال:«هو طليق اللّه ثمّ طليق رسوله» فلم يردّه علينا (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن السكونيّ،عن جعفر،عن أبيه،عن آبائه عليهم السلام:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث حاصر أهل الطائف قال:
«أيّما عبد خرج إلينا قبل مولاه فهو حرّ،و أيّما عبد خرج إلينا بعد مولاه فهو
ص:224
عبد» (1).
و لأنّه بخروجه إلينا قبل مولاه يكون قد قهره على نفسه،فيكون قد ملكها؛ لأنّ القهر يقتضي التملّك،فكان حرّا،أمّا إذا خرج مولاه إلينا قبله،فإنّ العبد يكون قد رضي ببقائه في العبوديّة حيث لم يقهره على نفسه بالخروج،فكان باقيا على الرقّيّة.
ملك نفسه؛لما قلناه (2).
و لو كان سيّده صبيّا أو امرأة و لم يسلم حتّى غنمت و قد حارب معنا،جاز أن يملك مولاه.
و كذا لو أسر سيّده و أولاده و أخذ ماله و خرج إلينا،فهو حرّ و المال له و السبي رقيقه.
و لو لم يخرج قبل مولاه،فإن أسلم مولاه،كان باقيا على الرقّيّة له،و إن لم يسلم حتّى غنم المسلمون العبد،كان غنيمة للمسلمين كافّة.
لها أن تتزوّج بغير استبراء،كما لو كانت لذمّيّ.
فإن بقي مولاه على الكفر حتّى غنم، انتقل إلى المسلمين،و زال ملك مولاه عنه،و إن أسلم مولاه،كان باقيا على ملكيّته.
و لو عقد لنفسه أمانا،لم يقرّ المسلم على ملكه؛لقوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (1).
و كذا حكم المدبّر و المكاتب المشروط و المطلق و أمّ الولد الحكم في ذلك كلّه على السواء.
كره التفرقة بينهما،بل ينبغي للإمام أن يدفعهما إلى واحد،فإن لم يبلغ سهمه ثمنهما،دفعهما إليه و استعاد الفاضل،أو يجعلهما في الخمس،فإن لم يفعل،باعهما و ردّ ثمنهما في المغنم.
و قال بعض أصحابنا:لا تجوز التفرقة (2).
و الأقرب:الكراهيّة؛لأنّ للمالك التسلّط على ملكه بالبيع و غيره من أنواع التصرّفات السائغة،و المنع من التفرقة قصر للعامّ على بعض موارده من غير دليل.
و أطبق الجمهور على المنع من التفرقة،و به قال مالك في أهل المدينة (3)، و الأوزاعيّ في أهل الشام،و الليث في أهل مصر (4)،و الشافعيّ (5)،و أبو ثور (6)
ص:226
و أصحاب الرأي (1)؛لما رواه أبو أيّوب،قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:«من فرّق بين والدة و ولدها،فرّق اللّه بينه و بين أحبّته يوم القيامة» (2).
و لأنّ في ذلك إضرارا بالولد (3).
و الحديث غير دالّ على التحريم،و الإضرار مندفع (4).
كره ذلك أيضا؛لما فيه من الإضرار بالولد.
و لأنّ المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثمّ يتغيّر قلبها بعد ذلك فتندم.
فيكره للمالك أن يفرّق بين الأمّ و الولد،بل ينبغي له إذا أراد بيع أحدهما باع الآخر،و في أصحابنا من منع من ذلك (5)،و الوجه:
الكراهية،و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالى.
(1)و قال بعض أصحابه:تجوز (2)-كما قاله الشيخ-رحمه اللّه-و به قال مالك و الليث (3).
لنا:أنّه ليس من أهل الحضانة بنفسه.و لأنّ الأصل الجواز،و لم يرد فيه نصّ بالمنع و لا معنى النصّ؛لأنّ الأمّ أشفق من الأب،فافترقا.
احتجّوا:بأنّه أحد الأبوين،فلم يجز التفريق بينهما،كالأمّ (4).
و الجواب-بعد تسليم الأصل-:بالفرق،و قد تقدّم.
سعد (1).
و قال أبو ثور:إذا كان يلبس ثيابه وحده و يتوضّأ وحده؛لأنّه إذا كان كذلك استغنى عن أمّه (2).
و قال الشافعيّ في القول الآخر:لا يجوز التفريق بينهما إلى أن يبلغ (3).و به قال أحمد بن حنبل (4)و أصحاب الرأي (5).
و احتجّوا:بما روى عبادة بن الصامت:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«لا يفرّق بين الوالدة و ولدها»فقيل:إلى متى؟قال:«حتّى يبلغ الغلام و تحيض الجارية» (6).و لأنّ ما دون البلوغ مولّى عليه،فأشبه الطفل (7).
احتجّ الشيخ-رحمه اللّه-:بأنّه في تلك الحال يستغني عن الأمّ،فلا يبقى له حاجة إليها،فينتفي الضرر بالتفريق،و لأنّه حينئذ يخيّر الغلام بين أمّه و أبيه إذا صار كذلك،و لأنّه يجوز التفريق بينهما بتخييره،فجاز بيعه و قسمته.
في قول عامّة أهل العلم.
ص:229
و عن أحمد روايتان،إحداهما:المنع (1).
لنا:ما رووه أنّ سلمة بن الأكوع أتى بامرأة و ابنتها،فنفله أبو بكر ابنتها، فاستوهبها منه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فوهبها له (2)،و لم ينكر التفريق بينهما،و لو لم يكن سائغا،لأنكره.
و لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أهديت إليه مارية و أختها سيرين (3)،فأمسك مارية و وهب سيرين لحسّان بن ثابت (4). (5)
و لأنّ الأحرار يتفرّقون بعد الكبر،فإنّ المرأة تزوّج ابنتها فالرقّ أولى.
احتجّ أحمد:بعموم الخبر المقتضي لتحريم التفريق.و لأنّ الوالدة تتضرّر
ص:230
بمفارقة ولدها الكبير،فلا تجوز التفرقة،كالصغير (1).
و الجواب:عن الأوّل:أنّ عموم الحديث مخصوص بما تلوناه من الأحاديث.
و عن الثاني:أنّ ضرر الأمّ بالمفارقة لا اعتبار به،و لهذا ساغ قتله إذا كان مشركا.
فلا يجب،و عند الشيخ محرّم،فلو باع،قال الشيخ-رحمه اللّه-:يصحّ البيع (2)،و به قال أبو حنيفة (3).
و قال الشافعيّ:لا ينعقد البيع (4)،و به قال أحمد (5).
لنا:أنّه عقد فيدخل تحت قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (6).و لأنّ الأصل الصحّة،و النهي لا يقتضي الفساد في المعاملات،و لأنّ النهي عن هذا العقد لا لمعنى في المعقود عليه،فأشبه البيع في وقت النداء.
احتجّ المخالف:بما رواه أبو داود في سننه أنّ عليّا عليه السلام فرّق بين الأمّ
ص:231
و ولدها،فردّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله البيع (1). (2)
و الجواب:المنع من الحديث.
لأنّها بمنزلة الأمّ في الحضانة (3).
و قال أكثر الجمهور:لا يفرّق بين الولد و الجدّ للأب أيضا،و كذا الجدّة له أو الجدّ للأمّ؛لأنّهما بمنزلة الأبوين،فإنّ الجدّ أب و الجدّة أمّ،و لهذا يقومان مقامهما في استحقاق الحضانة و الميراث،فقاما مقامهما في تحريم التفريق (4).
و نحن نقول بالكراهيّة في الجميع.
و قال أحمد بن حنبل:لا تجوز (1)،و به قال أصحاب الرأي (2).
لنا:أنّ الأصل الجواز،و لأنّها قرابة لا تمنع الشهادة،فلم يحرم التفريق،كقرابة ابن العمّ.
احتجّوا:بما روي عن عليّ عليه السلام،قال:«وهب لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غلامين أخوين،فبعت (3)أحدهما،فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
ما فعل غلامك؟فأخبرته،فقال:ردّه ردّه» (4).
و لأنّه ذو رحم محرم،فلم يجز التفريق بينهما،كالولد و الوالد (5).
و الجواب:لعلّ الأمر بالردّ لا لمعنى التفريق،و القياس يضعّف بالفارق من قوّة الشفقة و كثرة الضرر في مفارقة الأبوين،دون الإخوة.
أخيها،و الخالة مع ابن أختها (1).
لنا:أنّ الأصل حلّ البيع و التفريق،و القياس على الأبوين باطل؛لأنّهم أقرب.
و لا نعلم فيه خلافا؛لعدم النصّ،و امتناع قياسه على المنصوص مع قيام الفارق.
و كذا يجوز التفريق بين الولد و أمّه من الرضاع و أخته منه،بالإجماع.و لأنّ قرابة الرضاع لا توجب عتق أحدهما على صاحبه و لا نفقة و لا ميراثا،فلا (2)تمنع التفريق،كالصداقة.
فتعتق الأمّ دون الولد،و بالعكس.و كذا يجوز التفريق في الفداء،و لا نعلم فيه خلافا؛لأنّ العتق لا تفرقة فيه في المكان، و الفداء تخليص،كالعتق.
و حسبوا عليه بنصيبه بناء على أنّهم أقارب يحرم التفريق بينهم،فبان أنّه لا نسب بينهم،وجب عليه ردّ الفضل الذي فيهم على المغنم؛لأنّ قيمتهم تزيد بذلك،فإنّ من اشترى اثنين على أنّ أحدهما أمّ، لا يحلّ له الجمع بينهما في الوطء،و لا التفرقة بينهما فتقلّ قيمتهما لذلك،فإذا ظهر أنّ إحداهما أجنبيّة من الأخرى،أبيح له وطؤهما و بيع إحداهما دون الأخرى، فتكثر القيمة،فيردّ الفضل،كما لو اشتراهما فوجد معهما حليا،و كما لو أخذ دراهم، فبانت أكثر ممّا حسب عليه.
و تعلّق أرش الجناية
ص:234
برقبتها و لها ولد صغير،لم يتعلّق الأرش به،فإن فداها السيّد،فلا كلام،و إن امتنع، لم يجز بيعها دون ولدها؛لأنّ فيه تفريقا بينهما،لكنّهما يباعان،و يعطى المجنيّ عليه ما يقابل قيمة جارية ذات ولد،و الباقي للسيّد،فيقال:كم قيمة الجارية-و لها ولد- دون ولدها؟فيقال:مائة،فيقال:كم قيمة ولدها؟فيقال:خمسون،فيخصّها ثلثا الثمن،و الولد الثلث،فإن و فى الثلثان بالأرش،و إلاّ فلا شيء له غيره،و إن كان أكثر،ردّ الفضل على السيّد.قال-رحمه اللّه-:و لو كانت الجارية حاملا،فإن فداها السيّد (1)،فلا بحث،و إن امتنع،لم يجز بيعها إن كانت حاملا بحرّ،و تصبر حتّى تضع،و يكون الحكم كما لو كان منفصلا،و إن كانت حاملا بمملوك،جاز بيعها معا- على ما مضى-إذا كان الولد منفصلا (2).
ففلس المشتري و قد وضعت ولدا مملوكا من زنا أو زوج،فهل له الرجوع فيها دون ولدها؟فيه وجهان:
أحدهما:ليس له؛لأنّه تفريق بينها و بين ولدها،و يكون بالخيار بين أن يعطي قيمة ولدها و يأخذهما،و بين أن يدع و يضرب مع الغرماء بالثمن.
و الثاني:له الرجوع فيها؛لأنّ ذلك ليس[فيه] (3)تفرقة،فإنّهما يباعان معا و ينفرد هو بحصّتها.
قال:و لو ابتاع جارية فأتت بولد مملوك في يد المشتري و علم بعيبها،لم يكن له ردّها بالعيب؛لأنّه تفريق بينها و بين ولدها،و لا يلزمه ردّ الولد؛لأنّه ملكه و يسقط الردّ،و يكون له الأرش،فإن علم بالعيب و هي حامل،كان مخيّرا بين ردّها
ص:235
و بين الأرش (1).
ثمّ لا يخلو إمّا أن يسبى مع أبويه أو مع أحدهما أو منفردا،فالأقسام ثلاثة:
الأوّل:أن يسبى مع أبويه الكافرين،فإنّه يكون على دينهما.و به قال أبو حنيفة (2)،و مالك (3)،و الشافعيّ (4).
و قال الأوزاعيّ:يكون مسلما (5).
لنا:قوله عليه السلام:«كلّ مولود يولد على الفطرة،و إنّما أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه» (6)و هما معه.
احتجّ الأوزاعيّ:بأنّ السابي يكون أحقّ به،فإنّه يملكه بالسبي،و تزول ولاية أبويه عنه،و ينقطع ميراثهما منه و ميراثه منهما،فيكون تابعا له في الإسلام،كما لو
ص:236
انفرد السابي به (1).
و الجواب:المنع من الأصل،و سيأتي،و ملك السابي لا يمنع اتّباعه لأبويه، ألا ترى أنّه لو كان لمسلم عبد و أمة كافران،فزوّجه منهما،فإنّ الولد يكون كافرا و إن كان المالك مسلما.
الثاني:أن يسبى منفردا عن أبويه،قال الشيخ-رحمه اللّه-:و يتبع حينئذ السابي في الإسلام (2).و هو قول الجمهور كافّة؛لأنّ الكفر إنّما يثبت له تبعا لأبويه، و قد انقطعت تبعيّته لهما؛لانقطاعه عنهما و إخراجه عن دارهما و مصيره إلى دار الإسلام تبعا لسابيه المسلم،فكان تابعا له في دينه.
قال الشيخ-رحمه اللّه-:و حينئذ لا يباع إلاّ من مسلم،فإن بيع من كافر،بطل البيع (3).
الثالث:أن يسبى مع أحد أبويه،و قد حكم الشيخ-رحمه اللّه-:بأنّه يتبع أحد أبويه في الكفر (4).و به قال الشافعيّ (5)،و أبو حنيفة (6)،و أحمد في إحدى الروايتين و قال في الأخرى:يحكم بإسلامه.و به قال الأوزاعيّ (7).
و قال مالك:إن سبي مع أبيه،تبعه،و إن سبي مع أمّه،تبع السابي في
ص:237
الإسلام (1).
احتجّ الشيخ-رحمه اللّه-:بأنّه لم ينفرد عن أحد أبويه،فلم يحكم بإسلامه، كما لو سبي معهما (2).
احتجّ أحمد:بقوله صلّى اللّه عليه و آله:«كلّ مولود يولد على الفطرة،و إنّما أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه» (3)و هو يدلّ من حيث المفهوم على أنّه لا يتبع أحدهما؛لأنّ الحكم متى علّق بشيئين،لا يثبت بأحدهما،و التهويد يثبت بهما،فإذا كان مع أحدهما،لم يهوّده.و لأنّه يتبع سابيه منفردا فيتبعه مع أحد أبويه،كما لو أسلم أحد الأبوين (4).
و الجواب عن الأوّل:أنّه لا دلالة في الحديث إلاّ من حيث المفهوم الضعيف، و هو غير حجّة.
و عن الثاني:بالمنع من قوله:إنّه يتبع السابي.
ص:238
قال الشيخ-رحمه اللّه-:لو مات أبوا الطفل (1)المسبيّ معهما،
لم يحكم بإسلامه،و جاز بيعه على المسلمين،و يكره بيعه على الكافر؛لأنّه بحكم الكافر، فجاز بيعه على الكافر (2).
و قال أحمد:لو مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه (3).
و احتجّ:بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«كلّ مولود يولد على الفطرة،و إنّما أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه» (4)و هو يدلّ على أنّه إذا ماتا أو مات أحدهما، حكم بإسلامه؛لأنّ العلّة إذا عدمت،يعدم المعلول (5).
احتجّ الشيخ-رحمه اللّه-:بأنّه مولود بين كافرين،فإذا ماتا أو مات أحدهما، لم يحكم بإسلامه،كما لو كانا في دار الحرب.و لأنّه كافر أصليّ،فلم يحكم بإسلامه بموت أبويه،كالبالغ.
بينهم بما يوجب التوارث،قبل قولهم بذلك سواء كان ذلك قبل العتق أو بعده، و يورثون (1)على ذلك؛لأنّه لا يمكن إقامة البيّنة من المسلمين على صحّة أنسابهم.
و سواء كان النسب نسب الوالدين و الولد،أو من يتقرّب بهما،إلاّ أنّه لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم،و لا يقبل إقرارهم به.
إذا عرفت هذا:فإنّ الشافعيّ قال:إذا أخذ الطفل من بلاد الشرك،كان رقيقا و هو حقّ-فإن أعتقه السابي،نفذ عتقه و ثبت له الولاء عليه،فإن أقرّ هذا المعتق بنسب،نظرت،فإن اعترف بنسب أب أو جدّ أو أخ أو ابن عمّ،لم يقبل منه إلاّ ببيّنة؛ لأنّه يبطل حقّ مولاه بذلك (2)و هو حسن.
قال الشافعيّ:لو أقرّ بولد،ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها:لا يقبل إقراره؛لأنّه يبطل حقّ المولى من الولاء،و يقدّم المقرّ به في الميراث.
الثاني:يقبل؛لأنّه يملك أن يستولد،فيملك الإقرار بالولد.
و الثالث:إن أمكن أن يكون ولد له بعد عتقه قبل؛لأنّه يملك الاستيلاد بعد عتقه،و لا يملكه قبل ذلك (3).
و عجز المشرك عن المشي،لم يجب قتله؛لأنّه لا يدري المسلم ما حكم الإمام فيه.
و يؤيّده:ما رواه الشيخ-رحمه اللّه-عن عيسى بن يونس،عن الأوزاعيّ،عن الزهريّ،عن عليّ بن الحسين عليهما السلام،قال:«لا يحلّ للأسير أن يتزوّج في
ص:240
أيدي المشركين مخافة أن يلد له فيبقى ولده كفّارا (1)في أيديهم»و قال:«إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي،و لم يكن معك محمل،فأرسله و لا تقتله؛فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه» (2).
كان هدرا؛لأنّه كافر،فلا يجب بقتله كفّارة و لا دية،و بهذا قال الشافعيّ (3).
و قال الأوزاعيّ:يجب عليه الدية؛لأنّه قد تعلّق حقّ الغانمين به،و لهذا للإمام أن يفاديه بالمال و يكون لهم (4).
و الجواب:الحقّ إنّما يتعلّق بالبدل لا به،فإنّه حرّ لا ملك لهم فيه،و يعارض بأنّه مباح الدم؛لكفره (5)،فلا يجب بقتله الضمان،كالمرتدّ.
و إن أريد قتله بعد لحظة؛لما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (6)قال:«هو
ص:241
الأسير»و قال:«الأسير يطعم و إن كان يقدّم للقتل»و قال:«إنّ عليّا عليه السلام كان يطعم من خلّد في السجن من بيت مال المسلمين» (1).
و عن سليمان بن خالد،قال:سألته عن الأسير،فقال:«طعام الأسير على من أسره و إن كان يريد قتله من الغد،فإنّه ينبغي أن يطعم و يسقى و يظلّل (2)و يرفق به من كان،كافرا أو غيره» (3).
من الأسير و غيره،و معناه:يحبس للقتل،فإن أريد قتله،قتل على غير ذلك الوجه،رواه الشيخ-في الصحيح-عن محمّد الحلبيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«لم يقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلا صبرا قطّ غير رجل واحد:عقبة بن أبي معيط،و طعن ابن أبي خلف فمات بعد ذلك» (4).
فقد ملك كلّ واحد من الغانمين نصيبا من الغنيمة مشاعا،و قد بيّنّا الخلاف فيه،و أنّ بعض الشافعيّة يذهب إلى أنّه لا يملك إلاّ باختيار التملّك،و قد سلف (5).
إذا ثبت هذا:فلو وطئ واحد من الغانمين جارية من المغنم قبل القسمة عالما بالتحريم،درئ عنه من الحدّ بمقدار نصيبه منها،و يقام عليه الحدّ بمقدار نصيب
ص:242
باقي الغانمين،سواء قلّوا أو كثروا.و بوجوب الحدّ قال مالك،و أبو ثور (1).
و قال الأوزاعيّ:كلّ من سلف من علمائنا يقول:عليه أدنى الحدّين مائة جلدة (2).
و قال الشافعيّ (3)و أبو حنيفة (4)و أحمد بن حنبل:لا حدّ عليه (5).
لنا:قوله تعالى: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (6)و هو زان؛لأنّ التقدير أنّه عالم.و لأنّه وطئ في غير ملك عامدا عالما بالتحريم،فلزمه الحدّ،كما لو وطئ جارية غيره،و إنّما قلنا بسقوط الحدّ بمقدار نصيبه؛لأنّه لا يكون زانيا باعتبار وطئه ملكه،كالجارية المشتركة.
احتجّوا:بأنّ فيها شبهة الملك،فلم يجب عليه الحدّ،كوطء جارية له فيها شريك (7).
و الجواب:المنع من ثبوت الحكم في الأصل على ما يأتي.
ص:243
لأنّ الشركة شبهة، و التقدير عدم علمه بالتحريم،فيسقط عنه الحدّ؛لقوله عليه السلام:«ادرءوا الحدود بالشبهات» (1).
أمّا مع العلم فقد بيّنّا وجوب الحدّ عليه،و يسقط عنه بمقدار نصيبه،سواء قلّ النصيب أو كثر (2).
و عند الشافعيّ يسقط أيضا و يجب التعزير و لا يبلغ به إلى الحدّ،و قد سلف البحث معه (3).
لعدم الدلالة على شغل الذمّة به مع ثبوت البراءة الأصليّة (4).
و قال الشافعيّ:يجب عليه المهر؛لأنّه وطء في غير ملك سقط (5)فيه الحدّ عن الواطئ،فوجب المهر،كوطء الأب جارية ابنه (6).
و قال بعض الجمهور:يسقط عنه من المهر قدر نصيبه،كما لو وطأ جارية مشتركة (7).
ص:244
و أبطل بأنّا لو أسقطنا نصيبه،و أخذنا الباقي و طرحناه في المغنم،ثمّ قسمناه على الجميع و هو فيهم،عاد إليه سهم من حصّة غيره.و لأنّ قدر حصّته قد لا يمكن العلم به؛لقلّة المهر و كثرة الغانمين.و لو أخذناه و قسمناه بانفراده على غيره،لم يمكن (1).
و الجواب عن كلام الشافعيّ:المنع من ثبوت المشترك (2).
و إن أوجبناه ثمّ قسّمت الغنيمة فحصلت الجارية في نصيبه،لم يسقط المهر؛لأنّ ملكه تعيّن عليها بعد القسمة، و وجوب المهر حصل بالوطء السابق على القسمة،فلا يسقط بتجديد الملك،كما لو وطئ جارية غيره ثمّ اشتراها.
فيكون له منه بقدر (3)نصيبه من الغنيمة،و يقوّم بقيّة سهم الغانمين عليه،و يلزمه سهم الغانمين،و ينظر،فإن كانت القيمة (4)قدر حقّه،فقد استوفى حقّه،و إن كان أقلّ، أعطي تمام حقّه،و إن كان أكثر،ردّ الفضل،و يلحق به الولد لحوقا صحيحا؛لأنّه شبهة،و تكون الجارية أمّ ولده؛لأنّ الاشتقاق يقتضيه (5).و بهذا قال الشافعيّ (6)و أحمد بن حنبل (7).
ص:245
و قال أبو حنيفة:يكون الولد رقيقا،و لا يلحق نسبه (1).
لنا:أنّه وطئ بشبهة للنصيب،فكان الولد حرّا،و لحق به بسببه،و لأنّ الشبهة تلحق النسب في الأب (2)إذا وطئ جارية ابنه،فهنا أولى.
احتجّ أبو حنيفة:بأنّ الغانمين يملكون بالقسمة،و قد صادف وطؤه غير ملك (3)، فأشبه الزنا (4).
و الجواب:لا نسلّم أنّ الغانمين إنّما يملكون بالقسمة،بل بنفس الاستغنام،فله نصيب منها،و ما ذكره ينتقض بوطء الأب جارية الابن.
لنا:أنّه وطء يلحق به النسب بشبهة الملك،فتصير أمّ ولد له،كوطء جارية الابن.و به يبطل احتجاج الشافعيّ،فإنّ جارية الابن غير مملوكة للواطئ،و مع هذا تصير أمّ ولد له.
و أيضا:يمنع أنّ الملك لا يثبت في الغنيمة إلاّ بعد القسمة،فإنّا قد بيّنّا أنّه يثبت في الغنيمة بمجرّد الاستغنام (1).
الغانمين .
و به قال أحمد (3).و للشافعيّ قولان:أحدهما:هذا،و الثاني:لا تقوّم عليه؛لأنّها ليست أمّ ولد عنده (4).
لنا:أنّها صارت أمّ ولد على ما تقدّم (5)،فوجب عليه قيمتها؛لأنّه أخرجها من الغنيمة بفعله و فوّتها على الغانمين،فلزمته القيمة،كما لو قتلها؛إذ لا يجوز قسمتها بين الغانمين؛لأنّه لا يجوز بيعها؛لأنّها حملت بحرّ،فقوّمت عليه.
قال بعض الشافعيّة:إذا لم يجز تقويمها على غيره لم يجز تقويمها عليه (6).
قلنا:ممنوع؛لأنّها قوّمت عليه؛لأنّه منع بإحبالها من بيعها.
فإن كان نصيبه بقدر القيمة،حسب عليه منه و قد استوفى حقّه،و إن كان أقلّ،أعطي تمام حقّه،و إن كان
ص:247
أكثر،ردّ الفضل.
فإن كانت قوّمت عليه قبل الوضع،فلا يقوّم عليه الولد؛لأنّ الولد إنّما يقوّم إذا وضعت،و في هذه الحال وضعته في ملكه،و إن كانت بعد لم تقوّم عليه،قوّمت هي و الولد معا بعد الوضع،و أسقط منه نصيبه،و غرم الباقي للغانمين (1).لأنّه منع من رقّه؛لشبهته (2)بالوطء.
أمّا أحمد فعنه روايتان:إحداهما:أنّه تلزمه قيمته حين الوضع تطرح في المغنم؛لأنّه فوّت رقّه،فأشبه ولد المغرور.
و الثانية:لا ضمان عليه لقيمته (3)؛لأنّه ملكها حين علقت،و لم يثبت ملك الغانمين في الولد بحال،فأشبه ولد الأب من جارية ابنه إذا وطئها،و لأنّه يعتق حين علوقه و لا قيمة له حينئذ (4).
و الحقّ ما قاله الشيخ؛لأنّها قبل التقويم ملك للغانمين،و لا نسلّم عتقه من حين علوقه،و بعد التقويم ولدت على ملكه،فكان الولد له،و لا قيمة عليه للغانمين.
فإن قلنا:إنّه بها يملك الغانم،سواء رضي بما عيّنه له الإمام أو لم يرض،فإن كان قد عيّنها له،كان وطؤه مصادفا لملكه و حكمه حكم من وطئ جاريته،و إن كان قد عيّنها لغيره،وجب عليه ما يجب على من وطئ جارية غيره من الحدّ و المهر،و كان الولد رقيقا لمولاها.هذا إذا كان عالما بالتحريم، و إن لم يكن عالما بالتحريم،بأن يتوهّم أنّ تعيين الإمام غير كاف في التمليك فوطئ كان شبهة في سقوط الحدّ.
ص:248
و إن قلنا:إنّه يملك بعد الاختيار،فإذا وطئ قبل اختيار التملّك (1)،فالحكم فيه على ما مضى فيمن وطئ جارية المغنم قبل القسمة؛لأنّه إنّما يتعيّن ملكه بالاختيار.
و إن كان بعد الاختيار،فإن وطئ ما حصل في نصيبه و اختار تملّكه،فقد وطئ ملكه و كان كسائر أملاكه،و إن وطئ ما حصل لغيره،فهو كما لو وطئ أمة غيره، و إن كان قد وطئ ما هو مشترك بينه و بين غيره،كان الحكم فيه،كما لو وطئ جارية بينه و بين شريكه.
قال الشيخ-رحمه اللّه-:قوّمت عليه مع ولدها و استسعى في نصيب الباقين،فإن لم يسع في ذلك،كان له من الجارية مقدار نصيبه، و الباقي للغانمين،و يكون الولد حرّا بمقدار نصيبه،و الباقي يكون مملوكا لهم، و الجارية تكون أمّ ولد و إن ملكها فيما بعد (2).
و قال بعض الجمهور:إذا وطأها و هو معسر،كان في ذمّته قيمتها و تصير أمّ ولد؛لأنّه استيلاد جعل بعضها أمّ ولد،فيجعل جميعها أمّ ولد،كاستيلاد جارية الابن (3).
و قال آخرون:يحسب عليه قدر حصّته من الغنيمة،و يصير ذلك المقدار أمّ ولد،و الباقي رقيق (4)للغانمين؛لأنّ كونها أمّ ولد إنّما يثبت بالسراية في ملك غيره، فلم يسر في حقّ المسلم،كالإعتاق (5).
ص:249
و ليس له نصيب فيها بل لولده، كان الحكم فيه،كما لو وطئ الابن.
كالأب و الولد مثلا، قال الشيخ-رحمه اللّه-:الذي يقتضيه المذهب أن نقول:إنّه ينعتق منه نصيبه منه، و يكون الباقي للغانمين (1).و به قال أحمد (2).
و قال الشافعيّ:لا ينعتق عليه لا كلّه و لا بعضه (3).و هو مقتضى قول أبي حنيفة (4).
لنا:ما تقدّم من أنّ الملك يثبت للغانمين بالاستيلاء التامّ (5)و قد وجد.و لأنّ ملك الكفّار زال و لا يزول إلاّ إلى المسلمين،و هو أحدهم،فيكون له نصيب مشاع من الغنيمة،فينعتق (6)عليه ذلك النصيب.
احتجّ الشافعيّ:بأنّه لم يحصل الملك؛لأنّ للإمام أن يعطيه حصّته من غيره، فنصيبه غير متميّز من الغنيمة (7).
قال الشيخ-رحمه اللّه-و الأوّل:أقوى (8).
إذا عرفت هذا:فإنّ الشيخ-رحمه اللّه-لمّا قال:ينعتق نصيبه،قال:لا يلزمه
ص:250
قيمة ما يبقى للغانمين؛لأنّ الأصل براءة الذمّة،و لا دليل على شغلها (1).و القياس على المعتق (2)باطل؛لأنّه هناك إنّما يجب عليه التقويم؛لأنّ العتق منه.
إذا ثبت هذا:فلو جعله الإمام في نصيبه أو نصيب جماعة هو (3)أحدهم،فإنّه ينعتق نصيبه قولا واحدا.و قيل:يجب عليه شراء حصص الباقين (4).و فيه إشكال.
أمّا إذا رضي بالقسمة،فالأقرب:التقويم عليه؛لأنّه بذله برضاه.
هذا إذا كان موسرا،و لو كان معسرا،عتق قدر نصيبه و لم يقوّم عليه الباقي.
لو أسر أباه منفردا به،
قال بعض أصحاب الشافعيّ:لا ينعتق عليه؛لأنّ الأسير لا يصير رقيقا بالاسترقاق،بل باختيار الإمام؛لأنّ للإمام حقّ الاختيار،إن شاء قتله،و إن شاء استرقّه،و إن شاء منّ عليه،و إن شاء فاداه،فإن اختار الإمام استرقاقه،عتق على السابي أربعة أخماسه،و قوّم الخمس عليه إن كان موسرا.قال:
و لو أسر أمّه،أو ابنه الصغير،فإنّه يصير رقيقا بالأسر،فإن اختار تملّكهما،عتق عليه أربعة أخماسهما،و قوّم الباقي عليه إن كان موسرا،و إن كان معسرا،رقّ الباقي.و إن لم يختر التملّك،كان أربعة الأخماس لمصالح المسلمين و خمسه لأهل الخمس (5).
قال:و لو أنّ حربيّا باع من المسلمين امرأته و قد قهرها،جاز،و لو باع أباه أو ابنه بعد قهرهما،لم يجز؛لأنّه إذا قهر زوجته،ملكها،فيصحّ بيعها،و إذا قهر أباه أو
ص:251
ابنه،ملكه فيعتق عليه فلا يجوز بيعه (1).
لو أعتق بعض الغانمين عبدا من الغنيمة قبل القسمة،
فإن كان ممّن لم يثبت فيه الرقّ،كالرجل قبل استرقاقه،لم يعتق؛لأنّه عليه السلام قال:«لا عتق إلاّ في ملك» (2)و التقدير أنّه لم يثبت الملك حال العتق،فكان العتق باطلا.
و إن كان ممّا (3)يملك،كالصبيّ و المرأة،فالوجه عندنا:أنّه يعتق عليه قدر حصّته و يسري إلى الباقي،فيقوّم عليه و يطرح باقي القيمة في المغنم.
هذا إذا كان موسرا،و إن كان معسرا،عتق عليه قدر نصيبه؛لأنّه موسر بقدر حصّته من الغنيمة،فإن كان بقدر حقّه (4)من الغنيمة،عتق و لم يأخذ من الغنيمة شيئا،و إن كان دون حقّه (5)،أخذ باقي نصيبه،و إن كان أكثر،عتق قدر نصيبه.
و لو أعتق عبدا آخر (6)و فضل من حقّه عن الأوّل شيء،عتق بقدره من الثاني، و إن لم يفضل شيء،كان عتق الثاني باطلا.
ص:252
في أحكام الأرضين
فإنّها تكون للمسلمين قاطبة و لا تختصّ بها المقاتلة،بل يشاركهم (1)غير المقاتلة من المسلمين،و كما لا يختصّون بها،كذلك لا يفضّلون،بل هي للمسلمين قاطبة.ذهب إليه علماؤنا أجمع،و به قال مالك (2).
و قال الشافعيّ:إنّها تقسّم بين الغانمين،كسائر الأموال (3).و به قال أنس بن مالك،و الزبير،و بلال (4).
و قال قوم:إنّ الإمام مخيّر بين القسمة و الوقف على المسلمين.و رواه الجمهور عن عليّ عليه السلام،و عمر.و به قال الثوريّ (5).
و قال أبو حنيفة:الإمام مخيّر بين ثلاثة:بين قسمتها و وقفها و أن يقرّ أهلها
ص:253
[عليها] (1)و يضرب عليهم الخراج يصير حقّا على رقبة الأرض لا يسقط بالإسلام (2).
لنا:ما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه فتح هوازن و لم يقسّمها (3).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشيخ عن حمّاد بن عيسى،قال:رواه لي بعض أصحابنا ذكره عن العبد الصالح أبي الحسن الأوّل عليه السلام في حديث طويل:«و الأرض التي أخذت عنوة بخيل و ركاب،فهي موقوفة متروكة في يد (4)من يعمرها و يحييها،و يقوم عليها على صلح ما يصالحهم الإمام على قدر طاقتهم من الخراج:
النصف أو الثلث أو الثلثان،و على قدر ما يكون لهم صالحا و لا يضرّ بهم،فإذا خرج منها نماؤها (5)،فأخرج منه العشر من الجميع ممّا سقت السماء أو سقي (6)سيحا، و نصف العشر ممّا سقي بالدوالي و النواضح،فأخذه الوالي فوجّهه في الوجه الذي وجّهه اللّه له (7)على ثمانية أسهم: لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ،وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ،وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ،ثمانية أسهم يقسّمها بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق و لا تقتير،فإن فضل من
ص:254
ذلك شيء،ردّ إلى الوالي،و إن نقص من ذلك شيء و لم يكتفوا به،كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم (1)حتّى يستغنوا،و يؤخذ بعد ما يبقى من العشر فيقسّمه بين الوالي (2)و بين شركائه الذين هم عمّال الأرض و أكرتها،فيدفع إليهم أنصباءهم على قدر ما صالحهم عليه،و يأخذ الباقي فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه (3)من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد، و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير»الحديث (4).
احتجّ الشافعيّ (5):بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قسّم خيبر على ثمانية عشر سهما (6).و لأنّ الأرض تملك عنهم بالعقد فتملك بالاغتنام،كالمنقول.
و الجواب عن الأوّل:بمنع الفعل،فقد روي أنّه عليه السلام قسّم نصف خيبر و تولّى نصفها (7)،و مع الاضطراب في النقل يطرح الجميع خصوصا مع ما نقلناه أوّلا.
و عن الثاني:بالفرق،فإنّ الأرض ملك متأبّد و نفعها دائم ففارقت الأمتعة المنقولة.
ممّن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث،و على المتقبّل إخراج مال القبالة و حقّ الرقبة،و فيما يفضل في يده إذا كان نصابا،العشر أو نصف العشر،و هذا الضرب من الأرضين
ص:255
لا يصحّ التصرّف فيها بالبيع و الشراء و الوقف و غير ذلك،و للإمام أن ينقله من متقبّل إلى غيره إذا انقضت مدّة ضمانه و له التصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين،و ارتفاع هذه الأرض ينصرف إلى المسلمين بأجمعهم و إلى مصالحهم، و ليس للمقاتلة خصوصا،إلاّ ما يحويه العسكر.
روى الشيخ-رحمه اللّه-عن صفوان بن يحيى و أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال:«...و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى،كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخيبر،قبّل سوادها و بياضها-يعني أرضها و نخلها-و الناس يقولون:لا تصلح قبالة الأرض و النخل،و قد قبّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خيبر،و على المتقبّلين سوى قبالة الأرض العشر و نصف العشر في حصصهم» (1).
و في الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر،عن أبي الحسن الرضا عليه السلام،قال:«و ما أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبّله بالذي يرى،كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخيبر،قبّل أرضها و نخلها و الناس يقولون:لا تصلح قبالة الأرض و النخل إذا كان البياض أكثر من السواد،و قد قبّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خيبر و عليهم في حصصهم العشر و نصف العشر» (2).
و عن مصعب بن يزيد الأنصاريّ 3،قال:استعملني أمير المؤمنين عليّ بن أبي
ص:256
طالب عليه السلام على أربعة رساتيق المدائن:البهقباذات 1،و نهر سير 2،و نهر
ص:257
جوبر (1)، (2)و نهر الملك (3)،و أمرني أن أضع على كلّ جريب زرع غليظ درهما و نصفا،و على كلّ جريب[وسط درهما،و على كلّ جريب] (4)زرع رقيق ثلثي درهم،و على كلّ جريب كرم عشرة دراهم،و على كلّ جريب نخل عشرة دراهم، و على كلّ جريب البساتين التي تجمع النخل و الشجر عشرة دراهم،و أمرني أن ألقي كلّ نخل شاذ عن القرى لمارّة الطريق و ابن السبيل و لا آخذ منه شيئا،و أمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين و يتختّمون بالذهب على كلّ رجل منهم ثمانية و أربعين درهما،و على أوساطهم و التجّار منهم على كلّ رجل منهم أربعة و عشرين درهما،و على سفلتهم و فقرائهم اثنى عشر درهما على كلّ إنسان منهم،قال:فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة (5).
من غير قتال،فتترك في أيديهم ملكا لهم،يصحّ لهم التصرّف فيها بالبيع و الشراء و الوقف و سائر أنواع التصرّف إذا عمروها و قاموا بعمارتها،و يؤخذ منهم العشر أو نصف العشر زكاة إذا بلغ النصاب،فإن تركوا عمارتها و تركوها خرابا،كانت
ص:258
للمسلمين قاطبة،و جاز للإمام أن يقبّلها ممّن يعمرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع،و كان على المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة و مئونة الأرض إذا بقي معه النصاب،العشر أو نصف العشر،ثمّ على الإمام أن يعطي أربابها حقّ الرقبة.
روى الشيخ عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر،قال:ذكرنا لأبي الحسن الرضا عليه السلام الكوفة و ما وضع عليها من الخراج،و ما سار فيها أهل بيته،فقال:«من أسلم طوعا تركت أرضه في يده،و أخذ منه العشر ممّا سقت السماء و الأنهار، و نصف العشر ممّا كان بالرشاء فيما عمروه منها،و ما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبّله ممّن يعمره و كان للمسلمين،و على المتقبّلين في حصصهم العشر و نصف العشر،و ليس في أقلّ من خمسة أوساق شيء من الزكاة» (1).
و هي أرض الجزية يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من نصف أو ثلث أو غير ذلك،و ليس عليهم غير ذلك،فإذا أسلم أربابها،كان حكم أرضيهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، و يسقط عنهم الصلح؛لأنّه جزية و قد سقطت بالإسلام و يصحّ لأربابها التصرّف فيها بالبيع و الشراء و الهبة و غير ذلك.
و للإمام أن يزيد و ينقص ما يصالحهم عليه بعد انقضاء مدّة الصلح حسب ما يراه من زيادة الجزية و نقصانها.
و لو باعها المالك من مسلم،صحّ،و انتقل ما عليها إلى ذمّة البائع.
هذا إذا صولحوا على أنّ الأرض لهم،أمّا إذا صولحوا على أنّ الأرض للمسلمين و على أعناقهم الجزية،كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوة، عامرها للمسلمين و مواتها (2)للإمام.
ص:259
أو كانت مواتا لغير المالك فأحييت،أو كانت آجاما و غيرها ممّا لا يزرع فاستحدثت مزارع،فإنّها كلّها للإمام خاصّة ليس لأحد معه فيها نصيب،و كان له التصرّف فيها بالقبض و الهبة و البيع و الشراء حسب ما يراه،و كان له أن يقبّلها بما يراه من نصف أو ثلث أو ربع.
و يجوز له نزعها من يد متقبّلها إذا انقضى مدّة الضمان،إلاّ ما أحييت بعد موتها، فإنّ (2)من أحياها أولى بالتصرّف فيها إذا تقبّلها بما يتقبّلها غيره،فإن (3)أبى ذلك، كان للإمام نزعها من يده و يقبّلها لمن يراه (4)،و على المتقبّل بعد إخراج مال القبالة فيما يحصل في حصّته العشر أو نصف العشر.
قال الشيخ-رحمه اللّه-:و كلّ موضع أوجبنا فيه العشر أو نصف العشر من أقسام الأرضين إذا أخرج الإنسان مئونته و مئونة عياله لسنته،وجب عليه فيما بقي (5)بعد ذلك الخمس لأهله (6).
روى الشيخ-في الصحيح-عن حريز،عن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:قلت له:ما يقول اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ (7)؟قال:
«الأنفال،و هي كلّ أرض انجلى أهلها من غير أن يحمل عليها خيل و لا ركاب
ص:260
و لا رجال،فهي نفل للّه و الرسول» (1).
و في الحسن عن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،أنّه سمعه يقول:
«إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم،أو قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم،فما كان من أرض خربة أو بطون أودية،فهذا كلّه من الفيء،و الأنفال للّه و للرسول (2)،فما كان للّه فهو للرسول يضعه حيث (3)يحبّ» (4).
بل هي للمسلمين قاطبة إن كانت محياة وقت الفتح،و لا يصحّ بيعها و لا هبتها و لا وقفها،بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح،مثل سدّ الثغور،و معونة الغزاة،و بناء القناطير، و يخرج منها أرزاق القضاة و الولاة و صاحب الديوان،و غير ذلك من مصالح المسلمين.
و أمّا الموات منها وقت الفتح،فهي للإمام خاصّة،و لا يجوز لأحد إحياؤها إلاّ بإذنه إن كان موجودا،و لو تصرّف فيها من غير إذنه،كان على المتصرّف طسقها