سرشناسه:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق.
عنوان و نام پديدآور: منتهی المطلب فی تحقیق المذهب / للعلامه الحلی الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر؛ تحقیق قسم الفقه فی مجمع البحوث الاسلامیه.
مشخصات نشر: مشهد : آستان قدس رضوی بنیاد پژوهش های اسلامی، 1414ق.= 1994م.= -1373
مشخصات ظاهری:15 ج.
شابک:19000 ریال:ج.7: 964-444-293-8
وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری
يادداشت: عربی.
يادداشت:فهرستنویسی براساس جلد ششم.
يادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1421ق. = 1379).
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.
یادداشت:نمایه.
موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.
موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه
شناسه افزوده:مجمع البحوث الاسلامية
رده بندی کنگره:BP182/3/ع8م8 1373
رده بندی دیویی:297/342
شماره کتابشناسی ملی:2559784
ص :1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص :2
منتهی المطلب فی تحقیق المذهب
للعلامه الحلی الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر
تحقیق قسم الفقه فی مجمع البحوث الاسلامیه.
ص :3
سرشناسه:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق.
عنوان و نام پديدآور: منتهی المطلب فی تحقیق المذهب / للعلامه الحلی الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر؛ تحقیق قسم الفقه فی مجمع البحوث الاسلامیه.
مشخصات نشر: مشهد : آستان قدس رضوی بنیاد پژوهش های اسلامی، 1414ق.= 1994م.= -1373
مشخصات ظاهری:15 ج.
شابک:19000 ریال:ج.7: 964-444-293-8
وضعیت فهرست نویسی:برون سپاری
يادداشت: عربی.
يادداشت:فهرستنویسی براساس جلد ششم.
يادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1421ق. = 1379).
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.
یادداشت:نمایه.
موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.
موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه
شناسه افزوده:مجمع البحوث الاسلامية
رده بندی کنگره:BP182/3/ع8م8 1373
رده بندی دیویی:297/342
شماره کتابشناسی ملی:2559784
ص :4
تقدیم
بقلم
الدکتور محمود البستانی
ص :5
ص :6
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يعدّ«العلاّمة الحلّيّ»واحدا من أبرز الأسماء الّتي أفرزتها عصور التاريخ الفقهيّ،
و إذا كان التاريخ الفقهيّ قد حفل بأسماء كثيرة من المتميّزين،فإنّ هناك-في صعيد المتميّزين أنفسهم-أسماء متفوّقة معدودة فرضت فاعليّتها بنحو متفرّد في ميدان النّشاط الفقهيّ،حيث يجيء«العلاّمة»في مقدّمة الأسماء المشار إليها.
و يتمثّل هذا النشاط«نوعيّا»في«تطوير»الممارسة الفقهيّة و غيرها من ضروب المعرفة،أي:إدخال الجديد من أدوات الممارسة،فضلا عن اتّشاحها بالشّمول و العمق و الدّقة.
و أمّا«كمّيّا»،فيتمثّل هذا النّشاط في تنويع المعرفة«فقه،أصول،كلام، رجال،.إلخ»حيث لا تنحصر نشاطات«العلاّمة»في ضرب واحد منها،بل يتجاوزها إلى مختلف ضروب المعرفة،و حتّى في ميدان المعرفة الواحدة-من نحو النّشاط الفقهيّ مثلا- توفّرت هذه الشّخصيّة على مصنّفات مختلفة عرفت بمختصراته و متوسّطاته و مطوّلاته،فضلا عن كونها تصبّ في اتّجاهات متنوّعة تتوزّع بين النّمط الاستدلاليّ و الفتوائيّ و التّراوح بينهما و بين المنهج المقارن و غير المقارن.إلخ.
يضاف إلى ذلك:أنّ هذه الشّخصيّة قد اقترن نشاطها العلميّ بنشاط اجتماعيّ أكسبها مزيدا من الأهمّيّة التّأريخيّة،حيث احتلّت موقعا رياديّا بالنّسبة إلى«المؤسّسة المرجعيّة» مثلما احتلّت موقعا له فاعليّته في الحياة الاجتماعيّة العامّة،حيث كان الصّراع بين الطّائفة و بين الاتّجاهات المذهبيّة من جانب،و فترات المدّ و الجزر من جانب آخر،يضفي على هذه
ص:7
الشّخصيّة أهمّيّة اجتماعيّة خاصّة،تكسبها مزيدا من الاهتمام التّاريخيّ بها.
إنّنا لن نتحدّث عن«الموقع الاجتماعيّ»للعلاّمة،و انعكاسات الوضع السّياسي على نشاطه،حيث توفّرت المصادر الّتي تعنى بالسّيرة و التّأريخ على هذا الجانب،كما لن نتحدّث عن نشاطه العلميّ بعامّة،و مساهمته الفذّة في نشر المذهب،و لن نتحدّث عن مجمل نشاطه الّذي يحوم على الجانب الثّقافيّ،فيما يقول عنه مترجموه بأنّ حصيلة ذلك أكثر من مائة كتاب أو يزيد على ذلك،لن نتحدّث عن ذلك كلّه،بل نحصر حديثنا في صعيد النّشاط الفقهيّ المتمثّل في أحد كتبه فحسب،و هو:«المنتهى»دون مصنّفاته الأخرى الّتي قد تتماثل منهجا و ممارسة في بعض الجوانب،مثل:«التّذكرة»و«المختلف»فيما يتميّز كلّ منهما بسمات خاصّة قد نعرض لها عابرا خلال حديثنا عن الكتاب المشار إليه.
«المنتهى»كتاب ضخم يتّشح بطابعين هما:«الاستدلال»و«المقارنة».
أمّا «الاستدلال»فإنّ التّأريخ الفقهيّ الّذي سبق«العلاّمة»قد شهد تطوّرا ملحوظا فيه،على يد روّاد كبار أمثال:«الشيخ المفيد»و«السيّد المرتضى»و«الشيخ الطوسي»و من سواهم،فيما يمكن ملاحظة ذلك في كتب عديدة من نحو:«الانتصار»و«النّاصريات» و«الخلاف»و غيرها مع ملاحظة أنّ الجيل اللاّحق لهذه الأسماء قد شهد أيضا بعض الممارسات الاستدلاليّة لدى«ابن إدريس»في«سرائره»و«ابن زهرة»في«غنيته» و«المحقّق»في«معتبره»حيث يظلّ هذا الأخير قريبا من«العلاّمة»من حيث النّسب، و من حيث المستوي العلميّ في تطويره للممارسة الفقهيّة منهجا و فكرا.
إنّ هذه المقدّمة لا تسمح لنا بمتابعة خطوط التّطوّر الّذي شهدته الأجيال الفقهيّة المختلفة،بدءا من نماذج الاستدلال العابر«لدى الرّواة المعاصرين للمعصومين عليهم السلام»حيث و مضت نماذج منه لدى بعض الرّواة عصرئذ مرورا ب«نشأته»مع عصر الغيبة -فيما يشير المعنيّون بشؤون الفقه-إلى توفّره لدى أسماء من مثل:«ابن الجنيد»و«ابن أبي عقيل»،و امتدادا إلى أسماء متميّزة مثل:«الصّدوق»،و انتهاء إلى الأسماء الرّائدة الّتي
ص:8
أشرنا إليها حيث يمكن القول بأنّ خطوط التّطوّر تظلّ ملحوظة لدى هذه الأسماء بشكل أو بآخر بما يواكبها من«أدوات أصوليّة»يشير إليها المؤرّخون،أو ما وصل إلى أيدينا منه مثل:
«الرّسالة الموجزة في الأصول»للمفيد،و«الذّريعة»للمرتضى و«العدّة»ل«الطّوسي»، و مثل:«المقدّمات»الّتي كتبها«ابن زهرة»في«الغنية»و«المحقّق»في«المعتبر»و من سواهم.و بالرّغم من أنّ الأداة الأصوليّة-في مستوى النّظرية-لا تعني أنّ الفقيه يمارس عمليّة«تطبيق»شاملة لمبادئ«الأصول»الّتي يصوغها،إلاّ أنّ انعكاسات ذلك على الممارسات الفقهيّة-و لو في نطاق محدود-يظلّ تعبيرا عن خطوط التّطوّر الّذي أشرنا إليه، و من ثمَّ يظلّ مؤشّرا إلى مستويات التّطوّر الفكريّ الّذي يمكن ملاحظته لدى«العلاّمة»فيما يعدّ نقطة تحوّل ملحوظة في هذا الميدان.
أمّا الطّابع الآخر،و نعني به:«المقارنة»فإنّ كلاّ من«المفيد»و«المرتضى» و«الطّوسي»يمثّلون أسماء رائدة في هذا الصّعيد،بحيث يمكن الذّهاب إلى أنّ طبيعة الحياة الاجتماعيّة:سياسيّا،و مذهبيّا،و علميّا،مضافا إلى شخصيّاتهم الرّائدة-من حيث كونهم ممثّلين للمؤسّسة المرجعيّة في قمّة هرمها الاجتماعيّ-فرضت على الأسماء المشار إليها نوعا من النّشاط الفقهيّ القائم على«المقارنة»بين المذهب الإماميّ و بين المذاهب العامّة الأخرى،حيث شهدت تلكم المذاهب أيضا نشاطا مماثلا فيما بينها في صعيد المقارنة.
المهم أنّ نشاط فقهائنا في ميدان«المقارنة»تجسّد بوضوح في مصنّفات أشرنا إليها من نحو«الانتصار»«النّاصريّات»«الخلاف»و ما سواها من الكتب الّتي يشير إليها المؤرّخون لدى المفيد و المرتضى و الطّوسي و غيرهم،ممّا نلحظ شذرات منه في الأجيال اللاّحقة أيضا.
لا شكّ،أنّ«العلاّمة»قد أفاد من الأسماء المذكورة،كما أنّه تأثّر ببعض خطوط مناهجهم في«المقارنة»و«الاستدلال»أيضا،إلاّ أنّه-في الحصيلة العامّة-أضاف جديدا، كما هو طابع أيّة شخصيّة متميّزة رائدة،بحيث تمتدّ في الماضي،و تصنع الحاضر،و تقدّم جديدا يترك أثره على اللاّحق،بما تمتلكه من قدرة ذاتيّة على الكشف في ممارستها العلميّة، بحيث يقتادها ذلك إلى الإسهام في تطوير المعرفة و أدواتها،بالنّحو الّذي نلحظه لدى «العلاّمة»في كتابه:«المنتهى»الّذي نتحدّث عنه،أو كتبه الأخرى الّتي تكشف عن
ص:9
تطويره لعنصري:الاستدلال،و المقارنة.
و نبدأ في الحديث عن منهجه أوّلا،من حيث:
المقارنة:
«المقارنة»نوع من النّشاط العلميّ الّذي خبرته ضروب المعرفة الإنسانيّة في حقول التّربية،و النّفس،و الاجتماع،و الاقتصاد.إلخ،بصفة أنّ مقارنة الشّيء مع الآخر -سواء كان ذلك من خلال«التّماثل»القائم بينهما،أو من خلال«التّضاد»بينهما -يسهم في بلورة و تعميق المفهوم الّذي يستهدفه الباحث.
و المقارنة تتمّ-كما هو ملاحظ في البحوث المعاصرة-في مستويات مختلفة،منها:
«المقارنة المستقلّة»الّتي تقوم أساسا على الموازنة بين ضربين من المعرفة-كما لو قمنا بمقارنة بين الإسلام مثلا و بين الأديان الأخرى-و هذا ما يندرج ضمن الأبحاث الّتي تأخذ شكلا له استقلاليّته في الدّراسات الحديثة بخاصّة.
كما أنّ هناك نوعا من المقارنة الّتي تشكّل عنصرا واحدا من عناصر البحث دون أن تستقلّ بالمقارنة،أي:تكون«المقارنة»جزءا من أجزاء البحث.
هذا فضلا عن أنّ المقارنة بقسميها المتقدّمين قد تكون«شاملة»تتناول جميع الجوانب المبحوث عنها،مقابل المقارنة«الموضعيّة»الّتي تتناول جانبا واحدا أو عملا منحصرا لدى كتاب واحد أو مؤلّف واحد على سبيل المثال.
و يلاحظ أنّ فقهاءنا قد توفّروا على شتّى مستويات«المقارنة»الّتي أشرنا إليها قديما و حديثا،بل يمكن القول بأنّه لا يكاد أي كتاب استدلاليّ أو فتوائيّ-حينا-يخلو من أحد أشكال المقارنة،بل إنّ الممارسات الفقهيّة بنحو عام تتميّز عن سواها من الممارسات الّتي خبرتها علوم النّفس،و الاجتماع،و التاريخ،و التّربية،و الأدب،و الفنّ،و سواها باعتمادها«المقارنة»عنصرا أو بحثا مستقلاّ لا يكاد كتاب فقهيّ يخلو منها في الغالب.
كلّ ما في الأمر أنّ المقارنة قد تأخذ صفة التّغليب داخل المذهب مثلا مثلما تأخذ صفة كونها
ص:10
«عنصرا»من عناصر الممارسة الفقهيّة.أمّا المقارنة«المستقلّة»و«الشّاملة»فتأخذ حجما أصغر من الاهتمام الفقهيّ،حيث تسهم الظّروف الاجتماعيّة في تضخيم أو تضئيل هذا الحجم،فيما لا يعنينا التّحدّث عنه الآن.و لكن يعنينا أن نشير إلى أنّ الفقهاء قديما و حديثا قد توفّروا على هذا النمط من النّشاط المقارن،و في مقدّمتهم«العلاّمة»حيث عرف بهذا النشاط من خلال قيامه بأبحاث ضخمة تناولت كلاّ من المقارنة داخل المذهب مثل:
«المختلف»،و خارج المذهب أيضا مثل:«التّذكرة»-في نطاق محدّد-بينا جاءت مقارنته خارج المذهب«شاملة»متجسّدة في كتابه الّذي نتحدّث عنه«المنتهى»فيما أكسبه مزيدا من الأهميّة العلميّة الّتي آن لنا أن نعرض لخطوطه المنهجيّة.
و يمكننا عرض الخطوط لمنهجة المقارن،وفقا لما يلي:
تبدأ الخطوة الاولى من ممارساته المقارنة بعرض الآراء الفقهيّة للمؤلّف،أو وجهة النّظر لفقهاء الطّائفة بعامّة،أو أحد فقهائها،أو فقهاء المذاهب الأخرى،أو مطلق الفقهاء حسب ما يتطلّبه سياق المسألة المطروحة،حيث يتدخّل مدى التّوافق أو التّخالف بين الآراء في منهجيّة العرض للأقوال.بيد أنّ الغالب يبدأ بوجهة نظر المؤلّف طالما نعلم بأنّ هدف «المقارنة»أو مطلق الممارسات الفقهيّة ليس هو مجرّد العرض للآراء،بل تثبيت وجهة النّظر الصّائبة في تصوّر المؤلّف.لذلك،فإنّ تثبيته و جهة نظره أوّلا،ثمَّ عرض الآراء الأخرى، يظلّ خطوة منهجيّة لها مشروعيّتها دون أدنى شك.كما أنّ إرداف و جهة نظره بأقوال فقهاء الطّائفة يحمل نفس المشروعيّة ما دام هدف المقارنة-في أحد خطوطه-هو:إقناع«الجمهور» بصواب المذهب.لذلك،نجده بعد عرضه لوجهة نظره،ثمَّ وجهة نظر فقهائنا،يتّجه-في المرحلة الثّالثة-إلى عرض وجهة نظر«الجمهور»و في الحالات جميعا يلتزم المؤلّف بالحياد العلميّ من جانب،و بمتطلّبات المنهج المقارن من جانب آخر،حيث يستقطب جميع الأقوال داخل المذهب و خارجه،على نحو ما نلحظه في الممارسة التّالية مثلا،و هي تتناول مسح الرّأس في عمليّة الوضوء
ص:11
(الواجب من مسح الرّأس لا يتقدّر بقدر في الرّجل،و في المرأة يكفي منه أقل ما يصدق عليه الاسم.و به قال الشّيخ في«المبسوط»،و الأفضل أن يكون بقدر ثلاث أصابع مضمومة،و به قال السّيّد المرتضى،و قال في«الخلاف»:يجب مقدار ثلاث أصابع مضمومة،و هو اختيار ابن بابويه،و أبي حنيفة في إحدى الرّاويتين،و قال الشّافعيّ:يجزي ما وقع عليه الاسم،و ذهب بعض الحنابلة إلى أنّ قدر الواجب هو:النّاصية،و هو رواية عن أبي حنيفة،و حكي عن أحمد أنّه لا يجزي إلاّ مسح الأكثر).
فالملاحظ هنا،أنّ المؤلّف بدأ بتصدير فتواه،ثمَّ بفتاوى الآخرين من فقهاء المذهب -على اختلاف الآراء بين المرتضى و الطّوسي و ابن بابويه-ثمَّ عرض آراء«الجمهور»في مدى توافقها أو تخالفها مع«فقهاء الخاصّة»من نحو ما نقله من الاتّفاق بين ابن بابويه و الطّوسي و أبي حنيفة،ثمَّ ما نقله من التّفاوت بين آراء«العامّة».إلخ.
طبيعيّا،لا يعني هذا أنّ المؤلّف يلتزم بهذا المنهج في ممارساته جميعا بقدر ما يعني أنّ الطّابع الغالب على مقارناته-كما قلنا-هو:السّمة المذكورة،و إلاّ نجده حينا يكتفي بالمقارنة«داخل المذهب»كما هو ملاحظ في الممارسة التّالية:
(في جواز إحرام المرأة في الحرير المحض:قولان،أحدهما:الجواز،و هو اختيار«المفيد»في كتاب:أحكام النّساء،و اختاره«ابن إدريس».و الآخر:المنع،اختاره«الشّيخ».
و الأقوى:الأوّل).
و نجده حينا آخر يكتفي بالمقارنة«خارج المذهب»كما هو ملاحظ في الممارسة الآتية:
(لو صلّى المكتوبة بعد الطّواف لم تجزه عن الرّكعتين.و به قال الزّهري و مالك و أصحاب الرّأي،و روي عن ابن عبّاس و عطاء و جابر بن زيد و الحسن و سعيد بن جبير و إسحاق و عن أحمد روايتان).
و قد يتخلّى أحيانا عن عرض الأقوال نهائيّا،مكتفيا بوجهة نظره فحسب،من نحو معالجته للمسألة التّالية:
(مسألة:يحرم عمل الصّور المجسّمة و أخذ الأجرة عليه،روى ابن بابويه عن
ص:12
الحسين.إلخ).
و قد يتخلّى حتّى عن تقديم وجهة نظره مباشرة،مكتفيا من ذلك بإيراد الدّليل،و هو:
ما يدرج ضمن«الفتوى»بمتن الرّواية على نحو ما نلحظه في الممارسة التّالية:
(فصل:روى الشّيخ في الصّحيح عن محمّد بن مسلم،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يرشو الرّجل الرّشوة على أن يتحوّل من مسكنه فيسكنه؟قال عليه السلام:لا بأس).
لكن-كما قلنا-إنّ أمثلة هذه الموارد الّتي يتخلّى فيها عن المقارنة-في صعيد عرض الأقوال-تظلّ نادرة بالقياس إلى الطّابع الغالب على ممارساته.و في تصوّرنا:انّ عدم خلاف يعتدّ به بين علماء الخاصّة،أو بينهم و بين«العامّة»أو كون المسألة المعروضة ذات طابع فرعيّ أو كون اللّجوء إلى عرض الأقوال في المسائل جميعا تستتلي إطالة البحث أو قلّة فائدته، أو كون المسألة لا يسمح الوقت بعرضها،أو كون الوقوف عليها يتعذّر حينا،أو كونها غير مبحوث فيها،كلّ ذلك يفسّر لنا السّرّ الكامن وراء تخلية أحيانا عن عرض الأقوال شاملة.
و خارجا عن ذلك،يظلّ عرض الأقوال لدى المؤلّف طابعا ملحوظا في غالبيّة ممارساته،حتّى أنّه ليقدّم أحيانا قوائم ضخمة من الأسماء بنحو يثير الدّهشة،حيث يعرض الأسماء الممثّلة للمذاهب الرّئيسة و ما ترتبط بها من خطوط و تيّارات داخل المذهب الواحد،كما يعرض الأسماء التي اندثرت مذاهبها،مضافا إلى أقوال كبار الصّحابة و التّابعين و سائر الفقهاء المتميّزين في مختلف الفترات التاريخيّة،ممّا يكشف ذلك عن قابليّة فذّة في بذل الجهد للعثور على تلكم الأسماء و استخلاص أقوالها،بخاصّة أنّ بيئته التاريخيّة لم تخبر وسائل الطّباعة الحديثة،حيث يتطلّب الوقوف على أقوال الفقهاء-في مختلف تيّاراتهم و أجيالهم-قابليّة ضخمة لا تتوفّر إلاّ لدى الأفذاذ،دون أدنى شك.
بما أنّ المؤلّف يبدأ غالبا«في عرضه للأقوال»بتصدير وجهة نظره،أو تخليلها ضمن العرض أو نهايته،حينئذ فإنّ الخطوة الثّانية من منهجه المقارن تبدأ بعرض الدّليل الشّخصي
ص:13
الّذي يمثّل وجهة نظره.و سنرى عند حديثنا عن أدوات الاستدلال الّتي يستخدمها:أنّ المؤلّف يعتمد أوّلا:الأدلّة الرئيسة:«الكتاب،السّنّة.إلخ»ثمَّ:الأدلّة الثّانويّة من أصل عمليّ،و غيره،مضافا إلى أدوات الاستدلال العامّة الّتي نعرض لها في حينه.
لكن،ما يعنينا الآن هو:منهج العرض،دون تفصيلاته،حيث يبدأ ذلك بالكتاب أو السّنّة أو الإجماع أو العقل،أو بثلاثة منها أو باثنين أو بها جميعا:حسب توافر الأدلّة الّتي تتاح له،أو يبدأ ذلك بدليل ثانويّ أو بالأدلّة جميعا:الرّئيسي و الثّانويّ.هذا إلى أنّ منهجه في عرضه للأدلّة المشار إليها يبدأ بعبارة«لنا»و هي تشير إلى دليله الشّخصي بطبيعة الحال،حيث يعرض الدّليل الإجماليّ أوّلا ثمَّ يبدأ بتفصيله،و هذا ما يمكن ملاحظته في الممارسة الآتية:
(مسألة:قال علماؤنا:النّوم الغالب على السّمع و البصر ناقض للوضوء.و هو مذهب المزنيّ و إسحاق و أبي عبيد.
لنا:النّصّ و المعقول.
أمّا النّصّ،فقوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ .) و أمّا المعقول،فهو:أنّ النّوم سبب لخروج الحديث.إلخ).
و بما أنّ ما يعنينا-في هذه الخطوة من منهجه-هو:عرض الدّليل من خلال المقارنة ،و ليس الدّليل مطلقا-حيث نتحدّث عنه لا حقا-حينئذ فإنّ عرضه لدليله الشّخصي لا بدّ أن يتناسب مع منهجه المقارن الّذي يحرص فيه على تقديم الأدلّة متوافقة مع مبادي الخاصّة و العامّة،لكن بما أنّ مبادي العامّة تظلّ مستهدفة من حيث حرصه على تحقيق عمليّة «الإقناع»لهم،حينئذ نجده يقدّم أدلّتهم أوّلا،ثمَّ يتبعها بالدّليل الخاص.من هنا يبدأ بعرض الدّليل من«الكتاب»-إذا أمكن-بصفته دليلا مشتركا بين الخاصّ و العام،ثمَّ من روايات«العامّة»ثمَّ يورد الرّوايات«الخاصّة»حيث أنّ إيرادها أخيرا يظلّ أكثر إلزاما لهم من حيث كونها متوافقة مع أدلّتهم من جانب،مضافا إلى كون ذلك أسلوبا من أساليب«المجاملة»العلميّة.و يمكن ملاحظة هذا المنهج-في عرض الأدلّة-متمثّلا في الممارسة الآتية عن مسوّغات التّيمّم:(لنا:قوله تعالى «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً .».
ص:14
و بما أنّ ما يعنينا-في هذه الخطوة من منهجه-هو:عرض الدّليل من خلال المقارنة ،و ليس الدّليل مطلقا-حيث نتحدّث عنه لا حقا-حينئذ فإنّ عرضه لدليله الشّخصي لا بدّ أن يتناسب مع منهجه المقارن الّذي يحرص فيه على تقديم الأدلّة متوافقة مع مبادي الخاصّة و العامّة،لكن بما أنّ مبادي العامّة تظلّ مستهدفة من حيث حرصه على تحقيق عمليّة «الإقناع»لهم،حينئذ نجده يقدّم أدلّتهم أوّلا،ثمَّ يتبعها بالدّليل الخاص.من هنا يبدأ بعرض الدّليل من«الكتاب»-إذا أمكن-بصفته دليلا مشتركا بين الخاصّ و العام،ثمَّ من روايات«العامّة»ثمَّ يورد الرّوايات«الخاصّة»حيث أنّ إيرادها أخيرا يظلّ أكثر إلزاما لهم من حيث كونها متوافقة مع أدلّتهم من جانب،مضافا إلى كون ذلك أسلوبا من أساليب«المجاملة»العلميّة.و يمكن ملاحظة هذا المنهج-في عرض الأدلّة-متمثّلا في الممارسة الآتية عن مسوّغات التّيمّم:(لنا:قوله تعالى «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً .».
و ما رواه الجمهور عن أبي ذر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«إنّ الصّعيد الطّيّب.
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح عن ابن سنان.إلخ).
واضح-كما قلنا-أنّ البدء بدليل الكتاب،فالرّواية العامّة،فالرّواية الخاصّة يحقّق هدفا مزدوجا-في مجال البحث المقارن-هو:إقناع«العامّة»أو إلزامهم من خلال أدوات استدلالهم،فضلا عن إقناع«الخاصّة»بأدواتهم أيضا.و الأمر نفسه حينما يتقدّم بالأدلّة الأخرى الّتي تشكّل أدوات مشتركة بين الفريقين،حيث تتطلّب المقارنة استخدام ما هو مشترك أيضا مثل:الإجماع،أو العقل،أو الأصل،و هو أمر يمكن ملاحظته في الممارسة الآتية الّتي استدلّ بها على طهارة الماء و مطهّريّته،مرتكنا-فضلا عن الكتاب و السّنّة-إلى الإجماع و العقل:
(أمّا الإجماع:فلأنّ أحدا لم يخالف في أنّ الماء المطلق طاهر.
و أمّا المعقول:فلأنّ النّجاسة حكم طارئ على المحل،و الأصل:عدم الطّريان،و لأنّ تنجّس الماء يلزم منه الحرج.إلخ).
و الأمر نفسه يمكن ملاحظته بالنّسبة إلى توسّله بسائر الأصول الأخرى،كالاستصحاب مثلا،و هذا من نحو:
(إذا أسر المشرك و له زوجة لم يؤسرها المسلمون،فالزّوجيّة باقية،عملا بالاستصحاب).
لكن:إذا كان المؤلّف يستخدم ما هو«مشترك»من الأدوات بين الفريقين،أو ما يختصّ بأدوات«الجمهور»فهذا لا يعني أنّه يستخدم مطلق أدواتهم بقدر ما يعني أنّه ينتخب من الأدوات ما لا يتعارض بنحو أساسي مع مبادئه الخاصّة،كالقياس و غيره من المعايير المنهيّ عنها في الشّريعة.
طبيعيّا،أنّ غالبيّة الأدوات الّتي يتوكّأ المؤلّف عليها بالنّسبة إلى أدوات الاستدلال لدى الجمهور،ليست حجّة عند المؤلّف،مثل رواياتهم الواردة من غير طرق الخاصّة،و مثل عمل الصّحابة،و مثل إجماعاتهم.إلاّ أنّه يستخدمها بمثابة إلزام يستدلّ من خلالها على
ص:
تثبيت وجهة نظره.حيث إنّ المسوّغ لأمثلة هذا التّوكّؤ على أدلّة السّنّة النّبويّة من طرقهم أو إجماعاتهم أو قول و عمل الصّحابة دون القياس و الاستحسان و نحوها من الأدلّة الّتي تدخل ضمن«الرّأي»هو:أنّ هذه الأدلّة لا تتعارض مع أدلّة«الخاصّة»من حيث كونها مستندة إلى كلام النّبي(ص)أو فعله أو تقريره،كلّ ما في الأمر أنّ«طرقها»مشكوك فيها، أي:أنّها ذات مظانّ شرعيّة من حيث المصدر دون طرقه الكاشفة عنه،و هذا بخلاف الأدلّة المستندة إلى«الرّأي»المنهيّ عنه شرعا،حيث لا مستند لها البتّة،لذلك يمكن الاستدلال بالرّواية أو الإجماع أو عمل الصّحابة«في مقام إلزامهم»على العكس من أدلّة «الرّأي»،فروايات الجمهور-مثلا-حيال طهارة و مطهّريّة الماء،أو إجماعهم على عدم انفعال الكثير منه بالنّجاسة،أو عمل الصّحابة في عدم الالتفات إلى«تغيّر»الماء الّذي لا يمكن التّحرّز منه بالنّسبة إلى مطهّريّته.أمثلة هذه الأدلّة الّتي استند إليها المؤلّف تظلّ أدوات معززة لدليل«الخاصّة»:من حيث استنادها إلى مصدر«شرعيّ»بالرّغم من أنّها ذات طرق مشكوك في حجّتها و لكنّها ما دامت-بشكل أو بآخر-تدّعي الانتساب إلى ما هو «شرعيّ»،فحينئذ لا مانع من التّوكّؤ عليها في صعيد«الإلزام»للمخالف.
و في ضوء هذه الحقائق يمكننا أن نستشهد ببعض ممارسات المؤلّف في تعامله مع أدلّة الجمهور في مرحلة عرض الأدلّة،سواء أ كان ذلك في صعيد التّعامل مع«الرّوايات»أو «الإجماع»أو«قول و فعل الصّحابيّ».
أمّا بالنّسبة إلى تعامله مع الرّواية،فنجده يرتكن-بنحو عام-إلى معايير الجمهور في «التّعديل و الجرح»لها،حيث إنّ المقارنة تفرض عليه أن يعتمد معايير الطّرف الآخر من أطراف المقارنة.لذلك يحرص على تقديم الرّواية المعتبرة سندا لدى الجمهور،حتّى أنّه ليشير أحيانا إلى كونها«معتبرة»من خلال التّنصيص عليها.و هذا من نحو تعقيبه على الرّوايات الّتي ساقها للتّدليل على عدم طهارة جلد الميتة حتّى لو دبغ،حيث علّق على إحداها قائلا:(و رواه أبو داود،قال:إسناده جيّد)و عقّب على أخرى،قائلا:(و إسناده حسن).
بالمقابل نجده في مرحلة ردوده على أدلّة الآخرين-كما سنرى لا حقا-يرفض الرّواية
ص:16
الضّعيفة مستندا أيضا لمعاييرهم في«الترجيح».و هذا يعني أنّ المؤلّف يظلّ ملتزما بما تفرضه متطلّبات المقارنة بين الأطراف من حيث الرّكون إلى معاييرهم في تعديل الرّواية أو تجريحها.
لكن،ثمّة ملاحظة لا مناص من تسجيلها هنا،و هي:أنّ المؤلّف يعتمد على الرّواية العاميّة مع كونها غير معتبرة،في نظره من أجل«إلزام المخالف»حيث يصرّح بكونها«غير معتبرة»و لكنّه يقدّمها بمثابة«إلزام»للمخالف.فمثلا،في تقديمه لإحدى الرّوايات الّتي تزعم أنّ النّبي(ص)قد سلّم في ركعتي الرّباعيّة نسيانا،و تكلّم بعد ذلك مستفسرا بعد أن نبّه على ذلك حيث ساقها المؤلّف للتّدليل على جواز التّكلّم علّق قائلا:
(لنا.و رواية ذي اليدين-و هي الرّواية الّتي ساقها للتّدليل على جواز التّكلّم لمن ظنّ الإتمام-و ان لم تكن حجّة لنا،فهي في معرض الإلزام).كذلك،في تعقيبه على صلاة جعفر حيث قدّم رواية من الجمهور بأنّ النّبي(ص)علّم العبّاس بن عبد المطّلب تلكم الصّلاة،بينا تشير الرّوايات الواردة من طرق الخاصّة أنّه(ص)قد علّمها«جعفرا»فيما عقّب المؤلّف على ذلك قائلا:
(و نحن إنّما ذكرنا تلك الرّواية احتجاجا على أحمد النّافي لمشروعيّتها).أمثلة هذه النّماذج تكشف عن أنّ المؤلّف يعنيه أن يلزم المخالف في الدّرجة الأولى حتّى لو كان ذلك على حساب الرّواية الضّعيفة.
لذلك-كما قلنا-لا يتقبّل الرّواية الضّعيفة في مرحلة«الرّدّ»من جانب،مضافا إلى أنّه لا يتقبّلها مطلقا-في حالة مناقشته للخاصّة-من جانب آخر،و هذا ما نلحظه في تعليقه على رواية للجمهور،احتجّ بها الطّوسي في عدم جواز تقدّم المرأة على الرّجل في الصّلاة،قائلا:
(إنّه غير منقول من طرقنا فلا تعويل عليه)فالمؤلّف هنا يرفض الرّواية العاميّة حتّى لو كانت معتبرة لدى العامّة-عند مناقشته الخاصّة-ما دامت ليست حجّة من حيث طرقها و لكنّه يتقبّلها في معرض إلزامه للمخالف،مع ملاحظة أنّه يخضعها لمعايير التّعديل و الجرح عند تعامله مع الجمهور،إلاّ في حالة الإلزام،حيث لا يلتزم بصحّة الرّواية أو عدمها للسّبب الّذي ذكرناه.و هذا يعني أنّ المؤلّف يأخذ طرفي المقارنة بنظر الاعتبار حتّى أنّنا لنجده في
ص:17
تعامله مع الرّواية الواحدة-من حيث طرفي المقارنة-يخضعها لمستويين من التّعامل،حيث وجدناه يرفض الرّواية الّتي احتجّ بها«الطّوسيّ»،من خلال«السّند»،و لكنّه عندما يناقش أبا حنيفة-حيث احتجّ أيضا بالرّواية المذكورة-نجده يرفض الرّواية ليس من حيث «سندها»بل من حيث«دلالتها»فيما عقب عليها قائلا:
(لا يصحّ احتجاج أبي حنيفة،لأنّه إذا وجب أنّ يؤخّرها،وجب عليها أن تتأخّر،و لا فرق بينهما،بل الأولى أن يقول:إنّ المنهيّ هي المرأة عن التقدّم).
لا شك،انّ أمثلة هذا التّعامل مع روايات الجمهور،تظلّ منهجا صائبا ما دام يأخذ بنظر الاعتبار أدوات الجمهور و الخاصّة.حيث يتعيّن عليه أن يرفض روايات العامّة عند مناقشته«الخاصّة»،مثلما يحق له أن يقدّم الرّواية الضّعيفة حينما يحتجّ بها على المخالف في حالة كونها معتبرة لدى الأخير،و هذا ما نجده واضحا عندما يحتجّ-مثلا-على أبي حنيفة برواية مرسلة ما دام الأخير لا يمانع من العمل بها-كما صرّح المؤلّف بذلك في بعض احتجاجاته على الشّخص المذكور.
بيد أنّنا لا نوافق المؤلّف على احتجاجه بالرّواية الضّعيفة في حالة تضمّنها ما هو مضادّ لمبادئ الشّرع من جانب،و ما هو متناقض في الاستدلال بها من جانب آخر.و هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في ممارستين للمؤلّف،تحدّث في أولاهما عن الكلام متعمّدا في الصّلاة،و تحدّث في أخراهما عن الكلام ممّن ظنّ إتمامها،حيث رفض«في المسألة الأولى» رواية للجمهور تزعم-كما أشرنا-بأنّ النّبيّ«ص»سلّم في ركعتي الرّباعيّة نسيانا،فيما لفت«ذو اليدين»نظر النّبيّ«ص»إلى ذلك،و انّه«ص»قد استفسر عن صحّة ما زعمه الشّخص المذكور.المؤلّف ردّ هذه الرّواية بجملة وجوه،منها:انّ الرّاوي أبا هريرة أسلم بعد وفاة الشّخص المشار إليه بسنتين،و منها-و هذا ما نعتزم التأكيد عليه-:انّ الرّواية تتضمّن ما يتنافى مع عصمة النّبي«ص»و هو النّسيان.
أمّا«في المسألة الثّانية»فإنّ المؤلّف يقدّم الرّواية ذاتها للتّدليل على جواز التّكلّم بالنّسبة لمن ظنّ الإتمام.فبالرغم من أنّه لم يعتدّ بهذه الرّواية،حيث علّق قائلا:(و رواية ذي اليدين-و ان لم تكن لنا حجّة-فهي في معرض الإلزام)إلاّ أنّ سوقها هنا للتّدليل على
ص:18
جواز التّكلّم بالنّسبة لمن ظنّ الإتمام،ينطوي على جملة من الملاحظات،منها:استشهاده بها في حكمين مختلفين هما:النّسيان و الظّنّ مع أنّها لا تتضمّن إلاّ حكما واحدا.و حتّى مع صحّة الفرضيّة الاولى لا يمكننا أن نعتمدها ما دام المؤلّف نفسه قد رفضها بالنّسبة إلى النّسيان،فيما ينبغي أن يرفضها بالنّسبة إلى الظّنّ أيضا،ما دامت متعلّقة بفعل واحد.
مضافا لما تقدّم،فإنّ الرّواية المذكورة ما دامت تتضمّن ما هو يتنافى مع عصمة النّبيّ«ص»حينئذ لم يكن هناك أيّ مسوّغ للاستدلال بها ما دام المؤلف قد أخذ على نفسه ألاّ يعتمد-حتّى في مجال الإلزام-ما لا يتّسق مع الشّرع بنحو ما قلناه مثلا:في رفضه لمعاييرهم المرتبطة بالقياس و الاستحسان و نحوهما ممّا يرفضها حتّى في حالة«الإلزام».
و أيّا كان،فإنّ المؤلّف خارجا عن الملاحظة المذكورة،يظلّ-كما قلنا-متعاملا مع «روايات»الجمهور حسب ما يتطلّبه منهج«المقارنة»من الاعتماد على«أدواتهم الاستدلاليّة»الّتي لا تتعارض مع أدلّة«الخاصّة»بالنّحو الّذي أوضحناه.
أمّا ما يتّصل بأدوات الاستدلال الأخرى،فإنّ المؤلّف يمارس نفس المنهج،و هذا مثل تعامله مع دليلي:«الإجماع»و«عمل الصّحابة».و هو ما يمكن ملاحظته في الممارسة التّالية«بالنّسبة إلى عدم جواز المسح على الخف،فيما عرض جملة من أدلّة الجمهور»،منها:
(.و ما روي عن الصّحابة من إنكاره،و لم ينكر المنازع،فدلّ على أنّه إجماع).
و مثل الممارسة التّالية«بالنّسبة إلى جواز التّكلّم في الصّلاة ممّن ظنّ إتمامها»:
(.نقل عن جماعة من الصّحابة أنّهم تكلّموا بعد السّلام بظنّ الإتمام،ثمَّ أتمّوا مع الذّكر كالزّبير و ابنيه:عبد اللّه،و عروة،و صوّبهم ابن عبّاس،و لم ينكر،فكان إجماعا).
و مثل الممارسة الآتية«مستدلاّ بها على طهارة و مطهّريّة الماء المطلق في حالة امتزاجه بما لا يمكن التّحرّز منه»:
(.و لأنّ الصّحابة كانوا يسافرون و غالب أوعيتهم الأدم،و هي تغيّر الماء غالبا).
و أمّا«عمل الصّحابي»منفردا«بخلاف العمل الجماعيّ السّابق بصفته كاشفا عن السّيرة الشّرعيّة بالنّسبة لمقاييس الجمهور»فإنّ تعامل المؤلّف مع هذا الجانب،يظلّ مماثلا لتعامله مع«الرّواية»من حيث تقديمه دليلا معزّزا لوجهة نظره الشّخصيّة،ثمَّ رفضه للدّليل
ص:19
المذكور نفسه في مرحلة ردّه على أدلّة المخالفين تمشّيا مع منهجه القائم على«إلزام» المخالف بالنّحو الّذي لحظناه في إلزامه الآخرين بالنّسبة إلى الرّواية الضّعيفة الّتي يقدّمها في مرحلة عرض الدّليل الشّخصيّ،ثمَّ يرفضها في مرحلة الرّد و هذا ما نلحظه-مثلا-في عرضه لإعمال كبار الصّحابة بمثابة تعزيز لأدلّته الخاصّة،بينا يرفضها مطلقا في حالة احتجاجهم ذاهبا إلى أنّها ليست«حجّة»ما دامت غير مرتكنة إلى النّبي«ص».
و بعامّة،فإنّ تعامل المؤلف مع أدوات الاستدلال لدى الجمهور«في مرحلة عرض الأدلة الشّخصية»،يتمثّل:إمّا في أداة مشتركة مثل:«الكتاب»أو«إجماع المسلمين»أو «العقل»أو«الأصل».أو في أدواتهم المختصّة بهم.و أمّا تعامله مع فقهاء الخاصّة، فلا بدّ أن يتمّ-بطبيعة الحال-وفق أدواتهم الخاصّة بهم أيضا ما داموا من جانب،أحد طرفي «المقارنة»و ما دام المؤلّف يمثّل أحد فقهائهم من جانب آخر،مع ملاحظة أنّه يستخدم نفس التّعامل بالنّسبة إلى عمليّة«الإلزام»،أي:العمل بما هو ليس«حجة»لديه في صعيد التّعزيز لوجهة نظره،أو صعيد«الرّدّ»على أدلّة الآخرين بالنّحو الّذي نعرض له لا حقا عند حديثنا عن الجانب الآخر من ممارسته،و هو:«الاستدلال».
المؤلّف عندما يعرض أدلّته الشّخصيّة في المرحلة الثّانية،يفترض أحيانا إمكانيّة «الإشكال»عليها من قبل الآخرين كما لو افترض أنّ النّصوص الّتي استشهد بها مطعونة سندا،أو معارضة بنصوص أخرى،أو أنّ أدلّته بعامّة غير صائبة مثلا.إلخ،حينئذ يتقدّم المؤلّف بالرّدّ على الإشكال المتقدّم.و هذا ما يمكن ملاحظته مثلا في النّموذج الآتي، حيث قدّم المؤلّف أدلّته الشّخصيّة على عدم انفعال ماء البئر بالنّجاسة،و منه:الرّواية القائلة(كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرّضا«ع»،فقال:ماء البئر واسع لا يفسده شيء.إلخ)حيث عقّب المؤلّف على هذه الرّواية قائلا:
(و اعترضوا على الحديث الأوّل بوجوه
ص:20
أحدها:أنّ قوله«ع»:لا يفسده.أي:فسادا يوجب التّعطيل.
الثّاني:أنّ الرّاوي أسندها إلى المكاتبة،و هي ضعيفة.
الثّالث:المعارضة بخبر ابن بزيع-و هو الخبر القائل بأن ينزح من البئر دلاء،حيث تستشف منه نجاسة البئر.
و الجواب عن الأوّل:أنّه تخصيص لا يدلّ اللفظ عليه.
و عن الثّاني:أنّ الرّاوي قال:فقال«ع»كذا،و الثّقة لا يخبر بالقول إلاّ مع القطع، على أنّ الرّسول«ص»كان ينفذ رسله بالمكاتبات.
و عن الثّالث:انّما يتمّ على تقدير نصوصيّة الحديث.و ليس كذلك).
واضح من خلال هذه الممارسة أنّ المؤلّف قد التزم بمتطلّبات المقارنة الشّاملة الّتي تفرض عليه أن يتوقّع إشكالات الأخيرين عليه،فيما يمكن ألاّ يقتنعوا بصواب دليله الشّخصي.فجاء مثل هذا العرض أو افتراض الإشكال عليه،يحمل مسوّغة دون أدنى شكّ.كما جاء«الرّدّ»على هذه الإشكالات محكوما بنفس المسوّغ،طالما يستهدف من ذلك تثبيت وجهة نظره الخاصّة،كما هو واضح.
و يلاحظ:أنّ عرض المؤلّف لاعتراضات الآخرين،يأخذ أكثر من صياغة،فهو حينا يصوغ الإشكال بنحوه المتقدّم،و حينا آخر يستخدم أسلوب«المقولات»أي:عبارة:«لا يقال»و«لأنّا نقول».و هذا من نحو ذهابه إلى عدم وجوب استيعاب الرّجلين بالمسح،عبر ارتكانه إلى الدّليل القرآنيّ في آية الوضوء من عطف عبارة«الأرجل»على«الرّؤس»حيث افترض هذا الإشكال:
(لا يقال:فقد قرئ بالنّصب،و ذلك يقتضي العطف على المحل فلا يكون مبعّضا.
لأنّا نقول:لا منافاة بينهما،لأنّ التّبعيض لمّا ثبت بالجرّ،وجب تقديره في النّصب، و إلاّ لتنافت القراءات.إلخ).
هذا إلى أنّ أسلوب«المقولات»يجيء أيضا في المراحل الأخرى من منهجه المقارن:عند ما يعرض أدلّة الآخرين و الرّدّ عليها،حيث تتطلّب المناقشة أمثلة هذه الإشكالات و الرّدّ عليها،كما سنرى في حينه.
ص:21
و يلاحظ أيضا:أنّ هناك صياغة اخرى يستخدمها المؤلّف في مرحلة«النّقض» لأدلّته،ألا و هي:تطوّع المؤلّف بإيراد الإشكال على دليله دون أن يفترضه من الآخرين، و هذا يتمّ-غالبا-عند تقديمه للأدلّة الرّوائيّة:من حيث انطواؤها على اعتراضات في السّند أو الدّلالة حينا.و يمكن ملاحظة ذلك في ممارسات متنوّعة من نحو تقديمه جملة من الرّوايات الّتي ساقها للتّدليل على وجوب الموالاة في أفعال الوضوء،حيث استشهد برواية لأبي بصير،و عقّب قائلا:
(و في طريقها سماعة،و فيه قول).
و استشهد برواية أخرى،و عقّب عليها قائلا:
(و في طريقها معلّى بن محمّد،و هو ضعيف).
فالمؤلّف في أمثلة هذه الممارسات،يتطوّع بإيراد الإشكال على أدلّته،حيث ينسج حولها صمتا حينا،كما هو طابع النّصوص المتقدّمة الّتي لم يردّ عليها.و لكنّه يردّ على ذلك حينا آخر،كما هو ملاحظ في تعقيبه على رواية ساقها للتّدليل على أنّ الواجب في غسل الأعضاء-بالنّسبة للوضوء-هو:المرّة الواحدة،حيث أشار إلى أنّ في طريقها سهل بن زياد، و هو ضعيف.و لكنّه يردّ على هذا الإشكال بأنّ الرّواية قد تأيّدت بروايات صحيحة تحوم على نفس الموضوع.
لا شكّ،أنّ تقديم الرّواية الضّعيفة في سياق الرّوايات المعتبرة يعدّ نوعا من«التّزكية» لها،إلاّ أنّ الملاحظ أنّ المؤلّف نجده-بعض الأحيان-يورد الرّواية الضّعيفة في سياق خاصّ هو كونها«مقوّية»لأدلّته لا أنّها«تستدل»بها و هذا ما نلحظه مثلا:في تعقيبه على رواية ضعيفة أوردها للتّدليل على عدم نجاسة ما لا نفس له سائلة،حيث قال:
(و هذه مقوّية،لا حجّة).
هنا ينبغي أن نشير إلى أنّ تقوية الاستدلال برواية ضعيفة لا يمكن الاقتناع به،لبداهة أنّ ما هو«ضعيف»لا قابليّة له على«التّقوية»،بل العكس هو الصّحيح،أي:أنّ الرّواية الضّعيفة هي ما تتقوّى بالرّوايات المعتبرة-كما لاحظنا ذلك في نصّ أسبق.
و أيّا كان،يعنينا أن نشير إلى أنّ المؤلّف في المرحلة الثّالثة من منهجه المقارن يلتزم
ص:22
بموضوعيّة«المقارنة»حينما يتطوّع بإيراد الإشكالات المتوقّعة حيال أدلّته الشّخصيّة،بالنّحو الّذي تقدّم الحديث عنه.
بعد أن يعرض المؤلّف دليله الشّخصيّ و الإشكالات الواردة عليه من قبل المؤلّف نفسه،يتّجه إلى عرض الأدلّة المخالفة لوجهة نظره حيث يصدّرها بعبارة:«احتجّ»فيما تومئ هذه العبارة إلى المستند الشّرعيّ أو العقليّ للأقوال الّتي عرضها المؤلّف في المرحلة الاولى من منهجه المقارن،أي:الأقوال المخالفة لوجهة نظره-كما قلنا.
طبيعيّا،يظلّ العرض لأدلّة المخالفين مرتبطا بطبيعة المسألة المطروحة من حيث شمولها لكلّ من«العامّة»و«الخاصّة»فيما يفرد لكلّ منهما حقلا خاصّا،و من حيث تعدّد الأقوال أو توحّدها،حيث يحرص على عرضها جميعا ما أمكنه ذلك.فمثلا،عند عرضه لمسألة عدم رؤية الهلال،نقل جملة آراء:شهادة العدل الواحد،شهادة العدلين،شهادتهما مع الصّحو،شهادة عدد كبير مع العلّة.إلخ،حيث حرص على عرض الأدلّة لها بهذا النّحو:
(احتج سلار.
و احتجّ الشّافعيّ.
و احتجّ أبو حنيفة.
و احتجّ الشّيخ.).
إلاّ أنّ الملاحظ أنّ المؤلّف لا يعرض أحيانا للاحتجاجات كلّها،بل نجده يكتفي بعرض واحد منها،و هذا من نحو عرضه للأقوال المختلفة بالنّسبة إلى عدم تعيّن«الحمد»أو تعيّنها في الثّالثة و الرّابعة من الفرائض حيث نقل قولا بوجوبها في كلّ الرّكعات،و قولا في معظم الصّلاة،و قولا في ركعة واحدة.و لكنّه اكتفى ب«احتجاج»منها،هو:ما نقله الجمهور عن النّبي«ص»بأنّه كأنه يقرأ بالحمد في الرّكعتين الأخيرتين،دون أن يعرض لأدلّة القولين الآخرين.و هذا ما لا يلتئم مع حرصه الّذي لحظناه بالنّسبة إلى عرض الأدلّة
ص:23
جميعا.إلاّ أنّنا نحتمل أنّ عدم وجود دليل يعتدّ به،أو عدم العثور عليه بسبب فقدان النّصوص الاستدلالية للمخالف،يقف سببا وراء ذلك،و هذا ما يصرّح به المؤلّف أحيانا عندما يقرّر بأنّه لم يعثر على دليل لهذا الفقيه أو ذاك،بخاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ تقديمه لأدلّة المخالفين لا ينحصر في عثوره على المصدر الاستدلاليّ للمخالف،بل يلتمس المؤلّف أدلّة تتناسب مع فتوى المخالف حيث إنّ كثيرا من الفقهاء لم يؤثر عنهم أيّ كتاب استدلاليّ،كما أنّ بعض أقوالهم تنقل عنهم بواسطة الآخرين،ممّا يجعل العثور على أدلّتهم أمرا متعذّرا،و من ثمَّ ينحصر عرض الدّليل في محاولة المؤلّف بأن يلتمس دليلا تخمينيّا يمكن أن يشكّل مستندا للأقوال المشار إليها.
و هذا كلّه فيما يتّصل بطريقة العرض للأدلّة المخالفة.
أمّا فيما يتّصل بمستوياتها-من حيث الاختزال أو التّفصيل،و من حيث أدوات الاستدلال الّتي يعتمدها-فتظلّ مماثلة لمنهجه في عرض الأدلّة الشّخصيّة،حيث يخضع المسألة لمتطلّبات السّياق الّذي ترد فيه،ففي صعيد الإجمال أو التّفصيل للأدلّة نجده حينا يكتفي بتقديم الدّليل عابرا،و نجده في ممارسات اخرى يفصّل الحديث في ذلك،و هذا من نحو الممارسة التّالية الّتي يعرض فيها أدلّة القائلين بانفعال ماء البئر بالنّجاسة:
(احتجّ القائلون بالتّنجيس بوجوه:
الأوّل:النّص،و هو ما رواه الشّيخ في الصّحيح.
الثّاني:عمل الأصحاب.
الثّالث:لو كان طاهرا لما ساغ التيمّم،و التّالي باطل فالمقدّم مثله،و الشّرطيّة ظاهرة،فإنّ الشّرط في جواز التّيمّم فقدان الطّاهر،و بيان بطلان التّالي من وجهين:
الأوّل:ما رواه الشّيخ في الصّحيح عن عبد اللّه بن أبي يعفور و عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّه«ع»قال:«إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجد دلوا و لا شيئا يغرف به،فتيمّم بالصّعيد الطّيّب،فانّ ربّ الماء ربّ الصّعيد،و لا تقع على البئر و لا تفسد ماءهم».
الثّاني:لو لم يجز التّيمّم لزم أحد الأمرين:
إمّا جواز استعمال ماء البئر بغير نزح،أو
ص:24
طرح الصّلاة،و هما باطلان.أمّا الأوّل:فلأنّه لو صحّ،ما وجب النّزح،و هو باطل بالأحاديث المتواترة الدّالّة على وجوبه.و أمّا الثّاني:فبالإجماع.
الرّابع:انّه لو كان طاهرا لكان النّزح عبثا،و المقدّم كالتّالي باطل).
فالملاحظ أنّ المؤلّف فصل في عرضه لأدلّة المخالفين،حيث قدّم أوّلا أربعة أدلّة رئيسة و معزّزة،و فصّل ثانيا في عرضه للدّليل الثّالث ففرّع عليه فرعين،ثمَّ فرّع على الأخير منهما فرعين أيضا.و مثل هذا التّفصيل في عرضه لأدلّة المخالف فضلا عن كونه عملا جادّا يكشف عن براعته في العرض،و فضلا عن كونه يتناسب مع أهمّية المسألة المطروحة حيث إنّ السّابقين على«العلاّمة»قد اشتهر القول لديهم بانفعال ماء البئر-و قد خالفهم في ذلك- ممّا يجعل لتفصيله المذكور مسوّغا علميّا دون أدنى شكّ.و فضلا عن ذلك كلّه،فإنّ المؤلّف من خلال حرصه على تفصيل الأدلّة،يكشف عن الحياد العلميّ الّذي تتطلّبه المقارنة الشّاملة،كما هو واضح.
بعد أن يعرض المؤلّف لأدلّة المخالف،حينئذ يتعيّن عليه«منهجيّا»أن يتّجه للرّدّ عليها طالما يستهدف تثبيت وجهة نظره بطبيعة الحال،و من الواضح،أنّ هذه المرحلة من مراحل منهجه المقارن،تظلّ مرتبطة بمستويات الأدلّة الّتي يلتمسها للمخالف،فيجمل أو يفصّل أو يبسّط أو يعمّق الرّدّ حسب متطلّبات السّياق.إلاّ أنّه بعامّة يلقي-في هذه المرحلة-بثقله العلميّ بنحو ملحوظ بحيث تتّضح أمام الملاحظ قابليّة المؤلّف في محاكمة أدلّة الآخرين، و من ثمَّ يمكننا أن نستكشف غالبيّة الأدوات الّتي يعتمدها في ممارسته الفقهيّة،بحيث يمكن القول بأنّ الطّابع العلميّ يتبدّى من خلال هذه المرحلة من منهجه المقارن.
و يمكننا-على سبيل المثال-أن نقدّم نموذجا للرّدّ المفصّل لدى المؤلّف،حيث لحظنا في المرحلة السّابقة«مرحلة عرض أدلّة المخالفين»أنّه فصّل الكلام في عرضه لأدلّة القائلين بانفعال ماء البئر.و ها هو يسلك نفس التّفصيل في الرّدّ على ذلك ما دام الموقف يتطلّب تجانسا بين أدلّة المخالف المفصّلة و بين الرّدّ عليها بنفس التّفصيل.
ص:25
يقول المؤلّف-و قد قدّم أدلّة المخالف في أربع نقاط مع تفريعاتها-:
(و الجواب عمّا احتجّوا:
أوّلا،من وجوه:
أحدها:انّه«ع»لم يحكم بالنّجاسة«أي:قوله«ع»:ينزح منها دلاء»أقصى ما في الباب أنّه أوجب النّزح.
و ثانيها:انّه لم لا يجوز أن يكون قوله:«ينزح منها دلاء»المراد من الطّهارة ها هنا:
النّظافة؟!.
ثالثها:يحمل على ما لو تغيّرت،جمعا بين الأدلّة.
رابعها:هذه دلالة مفهوم،و هي ضعيفة،خصوصا مع معارضتها للمنطوق.
و خامسها:يحمل المطهّر هنا على ما اذن في استعماله،و ذلك انّما يكون بعد النّزح لمشاركته للنّجس في المنع جمعا بين الأدلّة.و هذه الأجوبة آتية في الحديث الثّاني«أي:قوله «ع»يجزيك أن تنزح دلاء».
و عن الثاني بأنّ عمل الأكثر ليس بحجّة،و أيضا:فكيف يدّعى عمل الأكثر هنا مع أنّ الشّيخ و ابن ابي عقيل ذهبا إلى ما نقلناه-أي:مخالفتهما.
و عن الثالث:بالمنع من الملازمة«أي:احتجاجهم القائل:لو كان طاهرا لما ساغ التّيمّم،و التّالي باطل،فالمقدّم مثله»:
أوّلا:قوله:الشّرط فقدان الطّاهر،قلنا:ليس على الإطلاق،بل المأذون في استعماله،فإنّ المستعمل في إزالة الحدث الأكبر طاهر عند أكثر أصحابنا يجب معه التّيمّم،فكذا هنا.
و ثانيا:بالمنع من بطلان التّالي.و الحديث الّذي ذكروه«و هو قوله«ع»:فتيمّم بالصّعيد الطّيّب.و لا تقع على البئر و لا تفسد.إلخ غير دالّ على التّنجيس،فإنّه يحتمل رجوع النّهي إلى التّنجيس للمصلحة الحاصلة من فقدان الضّرر بالوقوع،و النّهي عن إفساد الماء:امّا على معنى عدم الانتفاع به إلاّ بعد النّزح.).
لقد استشهدنا بهذا النّص المطوّل ليتبيّن القارئ مدى اتّسام هذا الرّدّ بالتّفصيل
ص:26
و العمق و الشّمول،فيما ردّ على الدّليل الأوّل«و هو الرّوايتان القاضيتان بالنّزح»حيث علّل المخالف ذلك بقوله:(لو كانت طاهرة لكان تعليل التّطهير بالنّزح تعليلا لحكم سابق بعلّة لا حقة)ردّه على ذلك بخمسة وجوه اعتمد فيها على ذائقته الفقهيّة المتميّزة من جانب، مثل عدم الملازمة بين النّزح و النّجاسة،و مثل إمكان حمل ذلك على النّظافة و ليس الطّهارة الّتي تقابلها النّجاسة،و مثل تفسيره لعبارة«الإفساد لماء البئر بمعنى:عدم الانتفاع به، و ليس نجاسته.إلخ»مضافا-من جانب آخر-إلى محاولة تأليفه بين الرّوايات المتضاربة، حيث إنّ عبارات من نحو:(ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر)و(لا بأس)جوابا لمن سأله«ع»عن وقوع بعض النّجاسات في البئر،و(لا تعاد الصّلاة ما وقع في البئر إلاّ أن ينتن)أمثلة هذه العبارات(نصّ)في عدم انفعال ماء البئر بالنّجاسة،لذلك،فإنّ حمله الرّوايات الآمرة بالنّزح على«التّغيّر»و جمع بين الأدلّة،يكون بذلك قد استخدم ذائقته الفقهيّة في تفسير النّصّ أو تأويله«أي:الجمع»بالنّحو المطلوب.هذا فضلا عن اعتماد المؤلّف بعض الأدلّة العقليّة،في«الملازمات»التي نقضها.و فضلا عن اعتماده العنصر الاستقرائيّ في التماس أحكام أو أقوال«مماثلة»للمسألة المبحوث عنها،مثل استشهاده بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.إلخ،حيث تكشف هذه المستويات من«الرّدّ» عن مدى الجدّيّة و مدى الحرص على تفصيل الممارسة الّتي ينتهجها في هذا الميدان.
طبيعيّا،من الممكن أن تثار بعض الملاحظات على الرّدّ المذكور للمؤلّف،و منها مثلا:ذهابه إلى أنّ عمل الأكثر ليس بحجّة«و هو موقف صائب دون أدنى شكّ،بدليل أنّه خالف المشهور في انفعال ماء البئر،مع ملاحظة أنّ المؤلّف يعمل بالمشهور في غالبيّة ممارساته -كما سنرى لا حقا»إلاّ أنّ ردّه على المخالف بعبارة(فكيف يدّعى عمل الأكثر هنا مع أنّ الشّيخ و ابن ابي عقيل ذهبا إلى ما نقلناه).هذا الرّدّ لا يمكن التّسليم به من حيث نفيه صفة«الشّهرة»لمجرّد مخالفة فقيهين،لوضوح أنّ مخالفة الواحد أو الاثنين لا تقدح في تحقّق الشّهرة،و إلاّ كان القول«إجماعا»و ليس«شهرة»كما هو بيّن،و لا أدلّ على ذلك أنّ المؤلّف قد صدّر ممارسته لهذه المسألة بعبارة:(المشهور عند أصحابنا:تنجّس البئر بملاقاة النّجاسة.)حيث أقرّ بتحقّق«الشّهرة»في هذا القول،و حينئذ،كيف ينفيه«في ردّه
ص:27
المذكور على المخالف؟»و بالرّغم من أنّ المؤلّف كان في صدد الرّدّ على«الشّهرة الفتوائيّة» مقابل«الشّهرة العمليّة»بدليل أنّ المخالف-حسب ما نقله المؤلّف على لسانه-قد احتجّ بالقول:(عمل أكثر الأصحاب،و هو و إن لم يكن حجّة.فإذا انضمّ إلى ما ذكرناه من الأحاديث حصل القطع بالحكم)إلاّ أنّه في الحالين-سواء أ كانت«الشّهرة:فتوائيّة أو عمليّة»-فإنّ مخالفة الواحد أو الاثنين لا تزيلها،كما قلنا.
و بغضّ النّظر عن ذلك.فإنّ المؤلّف«في ردوده بصورة عامّة»يظلّ-كما أشرنا- متوفّرا على الممارسة الجدّيّة،العميقة،المستوعبة لكلّ متطلّبات الرّدّ المفصّل،بالنّحو الّذي لحظناه.أمّا من حيث أدوات«المقارنة»الّتي يستخدمها المؤلّف في مرحلة ردّه على أدلّة المخالفين،فإنّ الخطوط الّتي لحظناها في«مرحلة عرض أدلّتهم»تأخذ المنحى ذاته:من حيث اعتماده أدوات طرفي المقارنة«الخاصّة»و«العامّة»،مضافا إلى الأدوات المشتركة بينهما بطبيعة الحال،مع ملاحظة جانبين هما:
رفضه لأدوات«الجمهور»في أكثر من مجال،منها:الرّدّ على الرّواية الضّعيفة «حيث لا يرفضها-كما لحظنا-عند مرحلة عرض أدلّته الخاصّة»،و منها:الرّدّ على أدلّتهم المنهيّ عنها«كالقياس و الاستحسان و نحوهما».
اعتماده-في كثير من الحالات-على الأدلّة«الخاصّة»في تعامله مع الجمهور،سواء أ كان ذلك في صعيد«الجمع»بين أدلّة الطّرفين أو التّرجيح لأدلّة الخاصّة.
و يحسن بنا أن نستشهد بنماذج من ممارساته في صعيد تعامله مع الجمهور أوّلا،فيما نبدأ ذلك بتعامله مع أدلّتهم النّقليّة،و في مقدّمتها:الرّواية،حيث يخضعها لجملة من الاعتبارات،منها:
1-التعامل مع الرّواية،من خلال«تجريحها»سندا،حيث يعتمد في ذلك على معايير الجمهور نفسه،ففي ردّه على رواية«إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا»فيما استدلّ بها الشّافعيّ على اعتصام الماء الكثير،علّق قائلا:
(انّ الحنفيّة قد طعنوا فيه.فلو كان صحيحا لعرفه مالك).
و ردّ الأحاديث الذّاهبة إلى أنّ المسح هو:إلى المرفقين في التّيمّم،بقوله
ص:28
(و الجواب عن أحاديث أبي حنيفة بضعفها فإنّ أكثر العلماء أنكرها و لم يرو منها أصحاب السّنن و قال أحمد:ليس بصحيح عن النّبيّ«ص»انّما هو عن ابن عمر،و قال الخطابيّ:يرويه محمّد بن ثابت،و هو ضعيف).
فالملاحظ هنا،أنّ المؤلّف قد اعتمد مقاييس الجمهور في تجريح هذه الرّوايات،من خلال علماء الحديث،أو أصحاب السّنن،أو روّاد المذاهب أنفسهم من حيث إنكار بعضهم لمبادئ البعض الآخر،حيث يعدّ مثل هذا المنحى من الرّدّ أسلوبا بارعا في «الإلزام»،كما هو واضح.
بيد أنّه،إذا كان المؤلّف يعتمد مقاييس الجمهور في تقويم الرّواية من أجل«إلزامهم» بمقاييسهم ذاتهم،فهذا لا يعني أنّه يتقبّل ذلك بنحو مطلق حتّى لو كان ذلك على حساب مبادئه الخاصّة مثلا.بل إنّ«الموضوعيّة»و«الحياد العلميّ»الّذي تفرضه«المقارنة»من جانب،و خطأ بعض المقاييس الّتي يصدر عنها الجمهور من جانب آخر،يفرضان على المؤلّف الاّ يتقبّل المعيار المخطئ لديهم.لذلك نجده يرد مثلا على الحنابلة الّذين طعنوا في حديث-ورد عن طريق الجمهور-للإمام«ع»فيما قدّمه المؤلّف دليلا لوجهة نظره بالنّسبة إلى التّخيير في الأخيرتين بين التّسبيح و الحمد.يردّ على الطّعن المذكور،بقوله:
(و طعن الحنابلة-في حديث عليّ«ع»بأنّ الرّواية هي للحارث بن الأعور،و قد قال الشّعبيّ:إنّه كان كذّابا-باطل،لأنّ المشهور من حال الحارث:الصّلاح،و ملازمته لعليّ«ع».و أمّا الشّعبيّ،فالمعلوم منه:الانحراف عنه«ع»و ملازمته لبني أميّة،و مباحثته لهم،حتى عدّ في شيعتهم).
إنّ أمثلة هذا الرّدّ تتناسب مع موضوعيّة المنهج المقارن الّذي يفرض على المؤلّف ألاّ يتقبّل المعايير المخطئة للجمهور،بخاصّة أنّ المؤلّف استند إلى عنصري:«السّيرة و التّأريخ» في تدليله على فساد الطّاعن و صلاح المطعون.و منها:
2-التّعامل مع الرّواية من خلال السّمة الذّهنيّة للرّاوي من حيث إمكان«توهّمه»في عمليّة النّقل.و هذا من نحو رواية أبي هريرة عن النّبيّ«ص»القائلة:«جعل المضمضة و الاستنشاق للجنب ثلاثا:فريضة»حيث عقّب المؤلّف عليها قائلا
ص:29
(أنّه حكاية قول أبي هريرة فلعلّه«توهّم»ما ليس بفرض فرضا).
و ممّا يكسب أمثلة هذا الرّدّ قيمة علميّة،أنّ المؤلّف-في حالات كثيرة-لا يقف عند مجرّد إمكان«التّوهّم»،بل نجده يستدلّ على ذلك.و هذا من نحو ردّه على الاتّجاه الذّاهب إلى وجوب إرغام الأنف في السّجود،حيث احتجّ المخالف برواية لابن عبّاس عن النّبيّ«ص»:(أمرت أن أسجد على سبعة أعظم و أشار بيده إلى الأنف)فيما عقّب المؤلّف أوّلا على ذلك بقوله:
(فلعلّ الرّاوي رأى محاذاة يديه لأوّل الجبهة،فتوهّم الأنف).
بعد ذلك،استدلّ المؤلّف على«توهّمه المذكور»برواية أخرى للرّاوي نفسه،عدّ الأنف منها،فعقّب عليها بقوله:
(و قوله«ع»:أمرت أن أسجد على سبعة أعظم،ثمَّ عدّ الأنف،دليل على أنّه غير مراد بأمر الوجوب،و إلاّ لكان المأمور ثمانية).
إنّ أمثلة هذا الاستدلال يظلّ من المتانة و القوّة بمكان كبير،حيث أثبت إمكان «التّوهّم»من الرّاوي بما لا مجال للشّكّ فيه،و هو أمر يدعو إلى أكبار المؤلّف في أمثلة هذه الرّدود.و منها:
3-التّعامل مع الرّواية من خلال معارضتها من قبل الرّاوي نفسه،أي:معارضة روايته برواية أخرى للرّاوي ذاته.و هذا من نحو رواية أبي هريرة الّتي احتجّ بها المخالف بالنّسبة إلى وضع اليدين قبل الرّكبتين في الهويّ إلى السّجود:(إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه)حيث عقّب المؤلّف على هذه الرّواية:(و رواية أبي هريرة معارضة بالرّواية الّتي نقلناها عنه،و ذلك ممّا يوجب تطرّق التّهمة إليه)و يقصد بها رواية احتجّ بها المؤلّف لوجهة نظره الذّاهبة إلى وضع اليدين قبل الرّكبتين في الهويّ إلى السّجود،و الرّواية هي:(إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه،و لا يبرك بروك البعير).بيد أنّ مثل هذا الرّدّ يظلّ عرضة للإشكال من جانبين،أحدهما:سقوط الرّوايتين كلتيهما،حيث يفترض في مثل هذه الحالة إمّا أن يصحّح المؤلّف إحدى الرّوايتين أو يرجع الى ثالثة أو إلى الأصول العمليّة و نحوها:عند تعارضهما.الجانب الآخر:إنّ قول المؤلف بأنّ معارضة
ص:30
الرّواية الأولى بالثّانية توجب«تطرّق التّهمة»تنعكس عليه أيضا،لأنّ الرّواية الأولى ساقها للتّدليل على صحّة وجهة نظره،فإذا أسقط الرّوايتين،يكون قد أسقط دليله أيضا،و هذا ما يجعل الرّدّ المذكور غير محكوم بصواب ممارسته.و هذا على العكس مثلا من ممارسة اخرى، صحّح فيها المؤلّف إحدى الرّوايتين المتعارضتين عند ردّه على دليل خصمه فيما استند -بالنّسبة إلى زعمه بعدم وجوب سورة الحمد-إلى قوله«ص»(ثمَّ اقرأ ما تيسّر من القرآن.) حيث ردّ المؤلّف على ذلك بأنّ الرّواية المذكورة رويت بصيغة أخرى هي:(ثمَّ اقرأ بأمّ القرآن).و هذا ما يكسب الرّدّ المشار إليه،قيمة علميّة:ما دام المؤلّف قد اضطلع بتصحيح إحدى الرّوايتين و هي:الرّواية التي اعتمدها دليلا لوجهة نظره،كما هو واضح.و منها:
4-التّعامل مع الرّواية من خلال معارضتها مطلقا،أي:معارضتها بروايات اخرى.و هذا النّمط يتماثل مع سابقة-من حيث مستويات الرّدّ الّتي تتّجه إلى إسقاطهما أو تصحيح إحداهما.إلخ،ففي مجال التّصحيح مثلا،نجد المؤلّف يردّ على احتجاج المخالف الذّاهب إلى أنّ التكبير في الأذان مرّتان لا أربع،و استناده إلى رواية تقول بأنّ أحد المؤذّنين في زمن الرّسول«ص»كان يجعل التّكبير مرّتين،حيث ردّه المؤلّف:
(انّه معارض بحديث بلال-و كان المؤلّف قدّمه لدعم أدلّته الشّخصيّة-فيما تقول الرّواية بأنّ الرّسول«ص»علّمه التّكبير بأربع مرّات-و الأخذ به أولى،لأنّه كان أكثر ملازمة لرسول اللّه«ص»)و أهميّة مثل هذا الرّدّ تتمثّل في تصحيح الرّواية المعارضة من خلال كون المؤذّن أكثر ملازمة للنّبيّ«ص»و هذا مرجّح لها،أو إسقاط للرّواية المعارضة لها.فيما يكشف مثل هذا التّصحيح عن براعة فائقة في الممارسة الفقهيّة دون أدنى شك.و منها:
5-التّعامل مع الرّواية من خلال تذوّق دلالتها،أي:استشفاف المخالف دلالة مغايرة لظهورها و هذا ما يمكن ملاحظته في ردّ المؤلّف على الجمهور في ذهاب الأخير إلى عدم ناقضيّة النّوم للوضوء،إلاّ في حالات خاصّة،مستندين في ذلك إلى رواية تقول:(الوضوء على من نام مضطجعا،فإنّه إذا اضطجع استراحت مفاصله)و رواية أخرى جاء فيها:(بينا أنا جالس في صلاتي إذ رقدت،و إذا النّبيّ«ص»فقلت:يا رسول اللّه،عليّ من هذا
ص:31
وضوء؟،فقال:لا،حتّى تضع جنبيك).و قد عقّب المؤلّف على هاتين الرّوايتين،بقوله على الاولى:(إنّه نصّ على الاضطجاع و نصّ على العلّة الّتي هي الاسترخاء،و ذلك يقتضي تعمّم الحكم في جميع موارد العلّة).و قال عن الرّواية الأخرى:(يجوز أن يكون غير مستغرق بحيث يغيب عن مشاعره الإحساس).
فالمؤلّف هنا يرد تينك الرّوايتين من خلال تفسيرهما بما لا يتنافى و أدلّته الشّخصيّة، أو لنقل:يفسّرهما في ضوء النّقض للدّلالة الّتي أخطأ المستدل المخالف في استخلاص الحكم منها.بيد أنّ المهم هو:براعته في استخلاص الدّلالتين اللّتين لحظناهما حيث استخلص في أولاهما«مناطا»يتعمّم حكمه على جميع الموارد بما فيها المورد الّذي استهدف المخالف نفيه.كما استخلص في أخراهما:احتمالا هو عدم تحقّق «المناط»المشار إليه،حيث إنّ عدم الاستغراق في النّوم هو أحد مصاديقه،كما هو واضح.
يتعامل المؤلّف مع«الجمهور»-بالنّسبة إلى الإجماع-بنحو يماثل التّعامل مع الدّليل الرّوائيّ من حيث اعتماده«إجماع الجمهور»،إلاّ أنّه يضيف إلى ذلك«إجماع المسلمين» -بنحو ما لحظناه في«مرحلة الأدلّة الشّخصيّة»-كما أنّه يضيف إلى ذلك«إجماع الخاصّة» و في مقدّمته«إجماع أهل البيت عليهم السّلام»،حيث إنّ طبيعة هذه المرحلة«مرحلة الرّدّ على دليل المخالف»تفرض عليه من جانب:أن يردّ إجماعاتهم بما يضادّها من أدلّتهم،و بما ينافيها من«إجماع الخاصّة»من جانب آخر.
و يمكن ملاحظة هذه المستويات من الرّدّ،متمثّلة في ردّه-على سبيل المثال-على الاتّجاهات الذّاهبة إلى غسل الوجه ما بين العذار و الاذن،حيث احتجّ المخالفون على ذلك ب«الإجماع».ردّهم بقوله:
(الجواب.بالمنع من الإجماع مع وقوع الخلاف،و كيف يتحقّق ذلك و أهل البيت
ص:32
عليهم السّلام رووا هذا القول-و يقصد به:ما دارت عليه الإبهام و الوسطى-و مالك و يوسف و الزّهريّ و غيرهم؟).
و من نحو ردّه على الاتّجاه الذّاهب إلى أنّ مسح الرّأس في الوضوء:أن يكون بجميعه، ردّ ذلك قائلا:
(.انّ أهل البيت أجمعوا على ردّه).
و من نحو ردّه على أحد الاتّجاهات الذّاهبة إلى أنّ«المسافة»ليست شرطا في«قصر» الصّلاة،ردّ ذلك قائلا:
(.إنّه مناف للإجماع،إذ قد ثبت عن الصّحابة و التّابعين:التّحديد).
فالملاحظ في هذه الممارسات الثلاث،أنّ المؤلّف توكّأ على«إجماع العامّة»في ردّه على قول شاذ«عدم شرط المسافة»،عبر استناده إلى إجماع الصّحابة و التّابعين.حيث إنّ مخالفة فقيه من«العامّة»لفقهائهم الآخرين،يفرض على أن«يلزمه»من خلال أدلّتهم،كما هو واضح.و أمّا ردّه على الاتّجاه الذّاهب إلى تحديد الغسل ما بين العذار و الاذن.فبما أنّ هذا الاتّجاه ادّعى«الإجماع»على ذلك،حينئذ نقض الادّعاء المذكور بوجود المخالف من «الخاصّة»و«العامّة»:حيث إنّ إشارته إلى خلاف«الخاصّة»-مضافا إلى خلاف «العامّة»،أشدّ إلزاما.
و أمّا ردّه على الاتّجاه الذّاهب إلى مسح جميع الرّأس،فبما أنّ«العامّة»منشطرون إلى أكثر من اتّجاه خلافا للخاصّة فيما«أجمعوا»على تبعيض ذلك،حينئذ يكون«الاستدلال» بإجماع«الخاصّة»وحدهم له مسوّغة العلميّ،كما هو واضح.
تظلّ هذه الأدوات:من جملة الأدوات المشتركة الّتي يعتمدها المؤلّف في ردّه على أدلّة «الجمهور»بصفتها أدوات تعامل مع«الخاصّة»أيضا كما سنرى ذلك لا حقا.لذلك، نجده غير مقتصر على تقديم أدلّة طرف دون آخر،بل«يزاوج»بينهما في أكثر من ممارسة.
و هذا من نحو الممارسة التّالية الّتي يردّ فيها على روايتين قد أوردهما«الجمهور»بأنّ
ص:33
النّبيّ«ص»كان-في رفع اليدين-يقتصر على تكبيرة الافتتاح.حيث ردّ ذلك،قائلا:
(و الجواب عن الحديثين:أنّهما معارضان للأحاديث المتقدّمة-و يقصد بها:
الأحاديث الّتي عرضها المؤلّف«للخاصّة و العامّة»بالنّسبة لاستحباب رفع اليدين عند الرّكوع-مع«كثرة»رواياتها.و عمل الصّحابة بما قلناه،و عمل أهل البيت عليهم السّلام،مع أنّه:الحجّة،و هم أعرف بمظانّ الأمور الشّرعية).
فالملاحظ هنا،أنّه قد اعتمد«الشّهرة الرّوائيّة»أوّلا:حينما أشار إلى كثرة الرّوايات الذّاهبة إلى رفع اليدين.كما اعتمد-ثانيا-الشّهرتين«العمليّة»و«الفتوائيّة»:في حالة ما إذا كان عمل الصّحابة مستندا إلى رواياتهم الّتي ذكرها،أو مطلقا.و اعتمد-ثالثا-عمل أهل البيت عليهم السّلام حيث رجّح هذا الجانب على سواه.
و أهميّة مثل هذا الرّدّ تتمثّل في:كون المؤلّف قد اعتمد أدوات طرفي«المقارنة»فيما أكسب ممارسته أهميّة كبيرة،بيد أنّ الأهم من ذلك أنّه أكسب عمل أهل البيت عليهم السّلام قيمة خاصّة تترجّح على سواها بصفة أنّهم أعرف بمظانّ الأمور الشّرعيّة.و هذا يعني أنّ المؤلّف-في أمثلة هذه الممارسة-قد التزم بما تفرضه«منهجيّة المقارنة»من جانب،مضافا إلى ضرورة العمل بما يعتقده«حجّة»بينه و بين اللّه تعالى في ذهابه إلى أنّ أهل البيت عليهم السّلام هم الأعرف بمظانّ الأمور الشّرعيّة.
لحظنا بعض الممارسات المرتبطة بعمل الصّحابة في مرحلة عرض الأدلّة الشّخصيّة و غيرها،هنا«في مرحلة الرّدّ على أدلّتهم،يمارس نفس المنحى من حيث تقبّله لهذا الدّليل» في حالة كونه كاشفا عن سيرة«شرعيّة»لدى الجمهور،كما هو الأمر بالنّسبة إلى ما لحظناه -قبل قليل-عن سيرتهم في«رفع اليدين»و«تحديد المسافة»حيث توكّأ على سيرة الصّحابة في«ردّه»على أدلّتهم المخالفة لوجهة نظره.
و الأمر كذلك،بالنّسبة إلى قول أو عمل الصّحابي«في حالة كونه مستقلا»حيث يردّ على مخالفيه قول أو فعل الصّحابي،من خلال إشارته إلى كونه معارضا بصحابيّ آخر،أو
ص:34
خرقه لإجماعهم أو إسقاطه أساسا،من حيث كونه غير حجّة ما لم يستند إلى الرّسول«ص».و هذا ما نلحظه-مثلا-في ممارسته الّتي يردّ بها على من ذهب إلى أنّ «عمر»همّ أن يعاقب أحد الأشخاص المفطرين ممّن انفرد برؤية الهلال،حيث علّق المؤلّف قائلا:
(إنّه-أي:سلوك الصّحابيّ المذكور-مستند إلى«صحابيّ»فلا يكون حجّة ما لم يسنده إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.).
و نقصد بها:أدوات«القياس»و«الاستحسان»و الرأي و نحوها و حيث إنّ المؤلّف لا يعتمد أمثلة هذه الأدلّة المنهيّ عنها،فيما يفرض عليه ذلك،أن«يردّ»عليها بطبيعة الحال.و هذا ما يمكن ملاحظته-على سبيل الاستشهاد-في«ردّه»على من ذهب إلى جواز انعقاد الصّلاة بغير الصّيغة المنحصرة بعبارة«اللّه أكبر»حيث ذهب المخالف إلى أنّه يتمّ بأيّة عبارة تتضمّن ذكر اللّه تعالى و تعظيمه،مشابهة للتّكبير.حيث ردّه المؤلّف قائلا:
(و الجواب.أنّه«قياس»في مقابل النّصّ،فلا يكون مقبولا).
و الملاحظ أنّ المؤلّف-في كثير من ممارساته-لا يكتفي بمجرّد الإشارة إلى معارضة هذا القياس أو ذاك للنّصّ،بل نجده يوضّح عقم هذا القياس أو ذلك:إمّا من خلال توضيحه الفارق بين الأصل و الفرع،أو بتقديم معارض له في القياس ذاته.فالمخالف الّذي سبق أن ردّه المؤلّف قد احتجّ بقياس آخر على المسألة المتقدّمة بأنّ ذلك يقاس على الخطبة الّتي لا صيغة محدّدة لها،حيث ردّه المؤلّف قائلا:
(و الفرق بينه و بين الخطبة ظاهر،إذ لم يرد عن النّبيّ«ص»فيها لفظ معيّن).
و أمّا ردّ القياس بما هو معارض له،فيمكن ملاحظته في ردّه على من ذهب إلى عدم جواز أن«يصافّ»الصّبيّ الإمام في صلاة الجماعة قياسا على المرأة،حيث قال:
(القياس منقوض بالنّوافل،و بالأمّي مع القارئ،و بالفاسق مع العدل).
و أمّا ردوده على«الاستحسان»و سواه من أدوات«الرّأي»المنهيّ عنها،فيمكن
ص:35
ملاحظتها في ردوده على بعض المخالفين ممّن ذهب إلى تقدير الماء الكثير بالقلّتين،أو بعدم وصول النّجاسة إليه،أو تقديره بعشرة أذرع.إلخ،حيث ردّ القولين الأخيرين«حركة الماء و التّقدير بالأذرع»قائلا:
(و القول بمذهب أبي حنيفة باطل«أي:الحركة»لأنّه تقدير غير شرعيّ،و لأنّه مجهول، فإنّ الحركة قابلة للشّدّة و الضّعف.و التّقدير بعشرة أذرع مجرّد استحسان من غير دليل).
إنّ أمثلة هذا الرّد تتّسم بأهمّيّة كبيرة.فبالرغم من ردّه أدوات استدلال المخالف «من حيث عدم مشروعيّتها»،إلاّ أنّه يتعامل-من جانب آخر-مع هذه الأدوات:إمّا بإبراز فسادها،مثل:القياس قبال النّصّ،أو الاستحسان من غير دليل حيث جاء في أحد تعريفاته مثلا أنّه دليل ينقدح في الذّهن.و إمّا بنقضه بنفس الأدلّة مثل القياس المعارض بمثله،بالنّحو الّذي لحظناه في الممارسات المتقدّمة.
و هذا كلّه فيما يتّصل بأدوات«ردّه»على الجمهور.
أمّا ما يتّصل بتعامله مع الخاصّة،فسنعرض له عند حديثنا عن السّمة الاستدلاليّة في ممارساته.
و الآن:بعد ملاحظتنا هذه المرحلة من منهجه المقارن.نتقدّم إلى المرحلة الأخيرة، و هي:
هذه هي المرحلة أو الخطوة الأخيرة من الخطوات الّتي ينتجها المؤلّف في منهجه المقارن.
لقد كانت المرحلة السّابقة تتمثّل في:ردوده على المخالفين،أمّا الخطوة الأخيرة فتتمثّل في:فرضيّة الإشكال من قبل مخالفيه،حيث يتوقّع المؤلّف أن يردّ مخالفوه على ردوده الّتي تحدّثنا عنها في المرحلة الخامسة من منهجه المقارن.لذلك،فإنّ المرحلة السّادسة الّتي نعرض لها الآن تكاد تماثل المرحلة الثّالثة الّتي وقفنا عند مستوياتها المتمثّلة في:فرضيّة الرّدّ على أدلّته الشّخصيّة.أمّا هنا،فإنّ«الرّدّ»يتمّ من خلال ردوده على الآخرين،و ليس من
ص:36
خلال عرض أدلّته الشّخصيّة.و تبعا لهذا،نجد أنّ هذه الخطوة تتميّز عن سابقتها بتنوّع الإشكال و تضخّمه،و أيضا بتنوّع ردّه على الإشكالات المشار إليها.
و من الواضح،أنّ هذه الخطوة تعدّ في قمّة الأهمّيّة بالنّسبة لمتطلّبات المنهج المقارن، نظرا لإمكانيّة أن تثار على ردوده إشكالات أخر:ما دام طرفا المقارنة يمكنهما أن يقدّما الإجابة على ردّ كل واحد للآخر.و بمقدورنا أن نستشهد ببعض النّماذج في هذا الصّعيد.منها:ردّه على القول الذاهب بعدم انفعال الماء بالنّجاسة في حالة بلوغه قلّتين،أو القول المستند إلى ما هو غير شرعيّ،بالنّسبة إلى تقديره،حيث ردّهم،بالطّعن في السّند في موضوع القلّتين،و ردّهم بعد استناد تقديرهم إلى الشّرع بل لمجرّد الاستحسان و نحوه«كما لحظنا في المرحلة السّابقة».و هنا،نجد أنّ المؤلّف يورد«إشكالا»على ردّه المذكور،حيث افترض ما يلي:
(لا يقال:ينتقض ما ذكرتموه بما رواه الشّيخ عن عبد اللّه بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه«ع»قال:إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شيء.و بما رواه في الصّحيح عن صفوان،قال:سألت أبا عبد اللّه«ع»عن الحياض الّتي من مكّة إلى المدينة،تردها السّباع.فقال«ع»:و كم قدر الماء؟قلت:إلى نصف السّاق إلى الرّكبة،قال«ع»:
توضّأ).
لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّه مرسل،و لأنّه مناف لعمل الأصحاب،و لأنّه ورد للتّقيّة.
و عن الثّاني بأنّه مناف لإجماع المسلمين،لأنّ القائل بالتّقدير لم يقدّره بذلك).
فالمؤلّف هنا قد أوفى«المقارنة»حقّها،و سلك المنحى الموضوعيّ في ذلك،حينما وجد أنّ في نصوص«الخاصّة»ما يتوافق مع أقوال«العامّة»،لذلك لم ينسج صمتا حيال هذه الرّوايات،بل ردّ الاولى منهما بضعف السّند،و منافاتها لعمل الأصحاب،و ورودها تقيّة.و ردّ الأخرى بمخالفتها لإجماع المسلمين.
و إذا كانت هذه الممارسة تعرض«الإشكال»و تردّه،من خلال إقراره فعلا بوجود نصوص مماثلة لأدلّة المخالف،فإنّه-في مستوى آخر من الممارسة-لا يقرّ ب«النّقض»إلاّ من
ص:37
خلال ما هو«افتراض»فحسب،حيث نجده يردّ على«الفرضيّة»المذكورة بأسلوب آخر من الرّدّ.و هذا ما نلحظه متمثّلا في أسلوب هو:استخدامه عبارة«سلّمنا»حيث تتناسب هذه العبارة مع طبيعة«الفرضيّة»الّتي لم يقتنع بها،بخلاف أسلوبه الأوّل الّذي يعتمد«المقولات»أي:عبارة:«لا يقال»و«لأنّا نقول»حيث تتناسب العبارة الأخيرة مع طبيعة الإشكال الّذي يقتنع بمشروعيّته فيما لحظناه قد أقرّ بوجود روايات للخاصّة تماثل روايات العامّة.
و المهم يمكننا ملاحظة الأسلوب الآخر الّذي يعتمد مجرّد«التّسليم»بالإشكال دون أن يقتنع به،متمثّلا في ردّه على من ذهب إلى أنّ الواجب من الغسل هو:ذلك البدن بواسطة اليد،و لا يكفي مجرّد الصّبّ،مستندا في ذلك إلى هذه المقولة:(و لأنّه فعل،و الفعل لا يتحقّق إلاّ بالدّلك)حيث أجابه قائلا:
(قوله:هو فعل،قلنا:مسلّم،لكنّه غير مقصود لذاته،بل المقصود:الطّهارة،و قد حصلت.سلّمنا،لكنّ تمكين البدن و تقريبه إليه:فعل،فخرج به عن العهدة بدون الدّلك).
فالملاحظ هنا،أنّ المؤلف قد اعتمد عنصر«التّسليم»على نحو«الفرضيّة»في عبارة «سلّمنا»،ثمَّ ردّ ذلك بأنّ تمكين البدن«فعل»أيضا،بالنّحو الّذي لحظناه،و أهمّيّة مثل هذا الأسلوب تتمثّل في شموليّة الممارسة لكلّ الاحتمالات الّتي يمكن أن يتقدّم بها المخالف،حتّى تصبح«المقارنة»مستكملة لشروطها جميعا،و هذا ما توفّر عليه المؤلّف حقّا،كما لحظنا.
ما تقدّم،يجسّد منهج المؤلّف في ممارسته ل«عنصر المقارنة»الّتي طبعت كتاب «المنتهى»،أمّا العنصر الآخر الّذي قلنا بأنّه يطبع كتابه المذكور:فهو:
ص:38
(عنصر الاستدلال)
«المقارنة»قد تتمّ-كما أشرنا-في صعيد عرض الأقوال كما هو طابع الكثير من المؤلّفات.و قد تتمّ في صعيد الممارسة الفكريّة«الاستدلال»،كما هو طابع كتاب «المنتهى»و هذا العنصر الأخير،قد يتمّ عابرا،أو مختزلا و قد يتمّ بنحوه المفصّل الشّامل، فيما يطبع كتاب«المنتهى»أيضا.لكنّ ما يعنينا هو:أن نعرض لمنهج المؤلّف في الاستدلال،من حيث تعامله مع«الأدلّة»الّتي يعتمدها«و الأدوات»الّتي تواكبها طبيعيّا،إنّ هذه الصّفحات لا تسمح لنا بالتّناول المفصّل لمنهج المؤلّف،بقدر ما يحسن بنا أن نعرض سريعا لطبيعة تعامله مع الأدلّة و أدواتها.
سلفا،ينبغي أن نشير إلى أنّ المؤلّف قد توفّر على«الممارسة الاستدلاليّة»بكلّ متطلّباتها من حيث تعامله مع الأدلّة الرّئيسة من الكتاب و السّنّة أو الكاشفة عنها من شهرة أو سيرة شرعيّة أو عقلائيّة،فضلا عن دليلي الإجماع و العقل،و فضلا عن الأدلّة الثّانويّة من أصل عمليّ و نحوه بما يواكب ذلك من«الأدوات»الّتي يتمّ التّعامل من خلالها مع الأدلّة المذكورة،و هي:أدوات التّعامل اللّغوي و العرفي«الظّواهر اللّفظيّة»من عموم و إطلاق و خصوص و تقييد.إلخ،مضافا-بطبيعة الحال-إلى أدوات التّعامل مع«السّند».
المؤلّف-كما قلنا-يتعامل مع الأدلّة المذكورة و أدواتها بكل ما يتطلّبه البحث من سعة و عمق و جدّيّة.و لعلّ وقوفنا على منهجه المقارن يكشف عن الطّابع المذكور بوضوح.بيد أنّنا نعتزم عرض هذا الجانب مشفوعا مع الملاحظات الّتي يمكن أن تثار حيال منهجه في هذا الصّعيد.
و نقف أوّلا مع منهجه في التّعامل مع النّصوص«كتابا أو سنّة»:
ص:39
يتعامل المؤلّف مع النّصوص وفقا لما يتطلّبه التّعامل من كشف لدلالاتها اللّغويّة أوّلا، أي:الكشف أو التّفسير لدلالة لغويّة كالظّواهر النّحويّة مثلا أو الدّلالة المعجميّة للعبارات أو الدّلالة العرفيّة لها.
في صعيد الكشف اللّغويّ مثلا،نواجه تفسيره للآية الكريمة (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ) حيث أوضح مفروغيّة القراءة بالجرّ و ليس النّصب،مشيرا إلى قراءة كلّ من ابن كثير و أبيّ عمرو و حمزة و سواهم،و اتّفاق أهل اللّغة على اشتراك الواو في المعنى و الإعراب، موردا الإشكال الذّاهب إلى أنّ الجرّ لا يقتضي العطف على المجرور لإمكانيّة أن يكون العطف على الأيدي و الجرّ بالمجاورة،مستشهدا ببيت شعريّ و بمثل،رادّا ذلك بأنّ الإعراب بالمجاورة لا يقاس عليه عند أهل العربيّة أوّلا،و أنّ بعض النّحاة لا يقرّونه ثانيا، و أنّه يتمّ في حالة عدم اللّبس:كالمثل و البيت اللّذين أشرنا إليهما ثالثا،مستشهدا بآية:
(و حور عين)-فيمن قرأها بالجرّ-من أنّ العطف هو على قوله تعالى (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مع أنّ أكثريّة القرّاء:على الرّفع،موردا-من جديد-إشكالا آخر،هو:القراءة بالنّصب أيضا،و اقتضاء ذلك:العطف على الأيدي،رادّا ذلك بعدم إيجاب النّصب:عطف ذلك على الأيدي،لجواز العطف على الرّؤوس أيضا،و أنّ العطف،على الموضع هو المشهور لغويّا،موردا للمرّة الجديدة إشكالا ثالثا،هو:أولويّة العطف على اللّفظ،رادّا ذلك بعدم التّسليم بهذه الأولويّة،موردا للمرّة الرّابعة افتراضا آخر،هو:التّسليم بإمكان الأولويّة المذكورة،إلاّ أنّه أوضح أنّ هذه الأولويّة معارضة بأولويّتين مثلهما،و هما:القرب من جانب،و قبح الانتقال من حكم قبل تمامه إلى آخر غير مشارك له من جانب آخر،موضّحا-في نهاية كلامه-«بعد أن يستشهد بنماذج في هذا الصّدد»أنّ العطف على الأيدي ممتنع لاستتلائه بطلان قراءة الجرّ،في حين أنّ العطف على الموضع تقتاد إلى الجمع بين القراءتين.إلخ.
ص:40
واضح من هذه الممارسة،أنّ المؤلّف قد بذل أقصى الجهد في التدليل على مفروغيّة القراءة بالجرّ،حيث عرض مختلف الوجوه الّتي تسوّغ القراءة بالجرّ،و عرض مختلف الوجوه الّتي تسوّغ العكس،رادّا عليها جميعا من خلال الاستشهاد باللّغويّين و النّصوص،بالنّحو الّذي عرضنا له،ممّا تكشف مثل هذه الممارسة عن سعتها و دقّتها و استيعابها لكلّ الجوانب،و هو ما يتطلّبه الكشف العلميّ الجاد في صعيد التّفسير اللّغويّ للنّص من الزّاوية النّحويّة.
و الأمر نفسه بالنّسبة إلى التّفسير«المعجميّ».ففي تفسيره لدلالة«الصّعيد»الّذي يتيمّم به،أورد المؤلّف مجموعة من أقوال اللّغويّين و غيرهم ممّن فسّر«الصّعيد»بأنّه «التّراب»أو«التّراب الخالص»أو«غبار الأرض المستوية».إلخ،مضافا إلى اعتماده «الحسّ أو الذّوق الفنّيّ الخاص»في ردّه على الاتّجاه الذّاهب إلى إمكانيّة شمول «الصّعيد»لما كان من جنس الأرض أو مشابهة،مثل الرّماد و الجصّ و غيرهما،معلّقا على نفي ذلك بأكثر من وجه،و منه قوله:
(الطّهارة اختصّت بأعمّ المائعات وجودا،و هو:الماء،فتخصّ بأعمّ الجامدات وجودا،و هو:التّراب).
و بالرّغم من أنّ هذا التّعليل لا يكشف ضرورة عن الأسرار الكامنة وراء التّيمّم بالتّراب،إلاّ أنّه ينمّ عن تذوّق خاصّ لدلالة العبارة في أحد جوانبها،بخاصّة أنّه أورد ذلك في سياق الرّدّ على من ذهب إلى أنّ«النّعومة»و غيرها هي المسوّغ في مشاركة«الرّماد»و غيره لدلالة«الأرض»،حيث إنّه نفي هذا المعيار و حصره في الأرض،و فسّر ذلك في ضوء تذوّقه الخاص الّذي أشرنا إليه.
و مهما يكن،يعنينا أن نشير إلى أنّ المؤلّف يمنح الممارسة المرتبطة بتفسير النّصّ لغويّا «نحويّا أو معجميّا»كلّ متطلّبات الموقف،ما دام التّعرّف على دلالته اللّغويّة يشكّل الخطوة التمهيديّة للتّعامل مع النّصّ،بصفة أنّ استخلاص دلالته شرعيّا يتوقّف على فهمه لغويّا أوّلا،كما هو واضح.
هذا إلى أنّه-في حالة تعارض النّصوص اللّغويّة-يرتكن إلى وجهة نظر المشرّع الإسلاميّ في
ص:41
حسم الموقف و هذا من تحقيقه اللّغوي لعبارة«الكعبين»الّتي وردت في باب الوضوء، فيما خلص من تحقيقه إلى أنّ المقصود منهما هو:العظمان في وسط القدم،و ليس النّابتين في جانبي السّاق،كما زعم بعضهم و المؤلّف بعد أن يثبت ذلك،يتقدّم بالرّدّ على بعض اللّغويين ممّن فسر ذلك تبعا للمخالف،علّق قائلا:
(فما نقلناه عن الإمام الباقر«ع»أولى)مشيرا بذلك إلى ما ورد عنه«ع»من تفسيرهما بما تقدّم.و من الواضح أنّ مثل هذا التّرجيح لقول المشرّع الإسلاميّ يحمل قيمة استدلاليّة مهمّة:ما دام المشرّع الإسلاميّ يملك الحسم في تحديد ما هو مختلف فيه،حتّى لو كان ذلك في صعيد اللّغة،بالنّحو الّذي لحظناه.
و هذا فيما يتّصل بالكشف،نحويّا و معجميّا.
و الأمر نفسه فيما يتّصل بالكشف أو التّفسير للنّصّ،من خلال لغته«العرفيّة».
و يمكن تقديم نموذج-على سبيل الاستشهاد-في هذا الميدان.ففي تفسيره لقوله تعالى:
(إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) الواردة في صلاة القصر،ردّ الذّاهبين إلى أنّ«القصر»يتحقّق مع خروج المسافر من منزله،ردّهم بأنّ ذلك يتحقّق مع خفاء الجدران،و أنّ«الضّرب في الأرض»:لا يتحقّق مع الحضور في البلد،فلا بدّ من التّباعد الّذي يصدق معه اسم «الضّرب».
فالملاحظ في هذا النّمط من أنّه قد اعتمد«العرف»في توضيحه لدلالة الضّرب في الأرض،كما هو واضح.
هنا يتعيّن علينا أن نشير إلى أنّ المؤلّف-في بعض ممارساته-يحمّل النّصّ تفسيرا يصعب التّسليم به.و هذا من نحو تأويله مثلا-في صعيد اللّغة العرفيّة-لرواية تحدّد الحيض بثمانية أيّام«من طرف كثرته»،حيث علّق عليها قائلا:
(الغالب وقوع المتوسّط و هو ثمانية أيّام أو سبعة أو ستة،فيكون ذلك إشارة إلى بيان أكثر أيّامه في الغالب،لا مطلقا).إنّ هذا التّأويل لا يمكن التّسليم به،لبداهة أنّ«الوسط» لا يتحدّد في الرّقم المذكور،بدليل أنّ المؤلّف نفسه قد ذكر السّتّة و السّبعة أيّام أيضا،كما أنّ«الغالب»لم يتحدّد-عرفا-في الرقم المذكور نظرا لعدم إمكان«الاستقراء»في ذلك.
ص:42
و لو أنّ المؤلّف طرح هذا الخبر لشذوذه مقابل الشّهرة الرّوائيّة لرقم«العشرة أيّام»لكان أجدر.و المؤلّف أقرّ-في الواقع-بشذوذ الرّواية عند ما قال في البدء:(هذا خبر لم يذهب إليه أحد من المسلمين)،إلاّ أنّه أضاف قائلا:(فيجب تأويله).و لعلّ قناعته بصحّة الرّواية من جانب،و حرصه على مقولة«الجمع أولى من الطّرح»حمله على التّفسير المتقدّم، و هو أمر سنعرض له عند حديثنا عن«تأليفه بين النّصوص»في حقل لا حق حيث يمكن أن يثأر«التّشكيك»حيال«المقولة»المذكورة بالنّحو الّذي نعرض له في حينه.
المهم،أنّ هذه الأنماط الثلاثة من التّفسير اللّغويّ للنّصّ:نحويّا و معجميّا و عرفيّا، تظلّ خطوة اولى من التّعامل مع النّصّ،قد توفّر المؤلّف عليها حسب ما يتطلّبه الموقف من تفصيل أو اختزال.
أمّا الخطوة الأخرى لتعامله مع النّصّ،فتتمثّل في:
و هو أنّ يفسّر النّصّ في ضوء سياقه الّذي ورد فيه،أو في ضوء النّصوص الأخرى الواردة في المسألة المطروحة،أو غيرها ممّا تفتقر إلى التّوضيح:للإجمال الّذي يطبع النّصّ،و هذا ما يندرج ضمنه:«التّأليف بين النّصوص»من خلال ما يسمّي ب«الجمع العرفيّ»، و يتجاوزه إلى«الجمع التّبرّعي»أيضا،و سائر الاشكال الّتي تجمع بين النّصوص المتضاربة في الظّاهر.
أمّا النّمط الأوّل من التّفسير،أي:كشف الدّلالة من خلال سياقها الّذي وردت فيه،فيمكن ملاحظته في ممارسات متنوّعة من نحو ردّه مثلا على من ذهب إلى أنّ الفاقد للماء«حضرا»لا يشمله حكم«التّيمّم»،نظرا لوروده في سياق«السّفر»تبعا للآية الكريمة عن التّيمّم.حيث ردّ ذلك بقوله:
(الآية لا تدلّ عليه،لأنّه تعالى ذكر أمورا في الأغلب هي أعذار كالمرض و السّفر،فإذا خرج الوصف مخرج الأغلب،لا يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه.).
و من نحو ردّه على من ذهب إلى وجوب غسل الجمعة مثلا،استنادا إلى رواية
ص:43
(قال«ع»:اغتسل يوم الفطر و الأضحى و الجمعة)من حيث إنّ الأمر يدلّ على الوجوب.
ردّ ذلك قائلا:
(لو كان للوجوب لكانت الأغسال الّتي عدّدها واجبة،و ليس كذلك).
ففي هذه الممارسة و سابقتها فسّر المؤلّف دلالة النّص في ضوء السّياق الّذي و ردت فيه، حيث كان السّياق في الآية الكريمة يتناول أمورا تقترن بالأعذار مثل«السّفر»و«المرض» و حيث كان السّياق في الرّواية يتناول أغسالا ليست واجبة كالفطر و الأضحى.و من الواضح،أنّ التّفسير من خلال السّياق ينطوي على أهميّة كبيرة في صعيد الكشف عن الدّلالة المستهدفة في النّصّ،لبداهة أنّ عزلها عن السّياق الّذي وردت فيه،يجعل الحكم مبتورا،كما هو واضح.
إلاّ أنّه يلاحظ-في بعض الأحيان-أنّ المؤلّف تتعذّر عليه إضاءة الدّلالة من خلال سياقها الّذي وردت فيه-فنجده مثلا في محاولته الاستدلال على عدم وجوب الأذان و الإقامة في صلاة الجماعة،يردّ الذّاهبين إلى وجوبها-في استنادهم إلى الرّواية القائلة:(سألته «ع»:أ يجزي أذان واحد؟فقال«ع»:إن صلّيت جماعة لم يجز إلاّ أذان و إقامة،و إن كنت وحدك تبادر أمرا تخاف أن يفوتك،تجزيك إقامة إلاّ الفجر و المغرب،فإنّه ينبغي أن تؤذّن فيهما و تقيم)حيث عقّب المؤلّف على هذه الرّواية بقوله:
(يحتمل الاستحباب،و يدلّ عليه:إلزامه بالإقامة،في حالة الانفراد).
فالملاحظ،أنّ المؤلّف كان في صدد الرّدّ على عدم وجوب الأذان و الإقامة جماعة، و لكن ليس في الرّواية ما يدلّ على نفي الوجوب،بل هناك دلالة على سقوط الأذان في الصّلاة المنفردة.لذلك تتعذّر ملاحظة علاقة بين تفسيره لعدم وجوبهما جماعة و بين السّياق (1)الّذي اعتمد عليه في التّدليل على ذلك،حيث لا علاقة بين الإلزام بالإقامة عند
ص:44
الانفراد،و بين وجوبهما جماعة،كما هو واضح.
أمّا ما يتّصل بتفسير النّصّ في ضوء الإضاءة بالنّصوص الأخرى،فإنّ المؤلّف يتوفّر عليه بطبيعة الحال سواء أ كان ذلك في نطاق الجمع بين ما هو عام،و خاص،و مطلق، و مقيّد،و نحوهما،أو في نطاق الحمل على الاستحباب أو الكراهة،أو في نطاق ما هو مجمل أو مبيّن،أو في نطاق«التّأويل»مطلقا بحيث يزول التّنافي بين النّصّين المتضاربين.
و لا نجدنا بحاجة إلى الاستشهاد بنماذج في هذا الصّدد نظرا لوضوحها في الأذهان.
بيد أنّ ما يلفت النّظر حقّا،هو أنّ المؤلّف يبدي حرصا بالغ المدى على ضرورة الجمع بين النّصوص،بدلا من طرحها:خلا ما يتّسم منها بضعف السّند.و من الواضح أنّ هذا الحرص هو صدى لمقولة معروفة قد اشتهرت بين الفقهاء،بخاصّة لدى«الطّوسيّ»الّذي أكّد هذه المقولة نظريّا في كتابه الأصوليّ«العدّة»و طبّقها في ممارساته المتنوّعة،و هي مقولة «الجمع أولى من الطّرح»مهما أمكن.
بيد أنّ هذه المقولة تقتاد في كثير من الحالات الّتي يصعب فيها الجمع بين المتضاربين إلى نمط من التّفسير الّذي قد لا يتحمّله النّصّ،ممّا نجده بوضوح في كثير من تفسيرات«الطّوسيّ»بحيث إنّ«العلاّمة»-و هو يشارك الطّوسيّ في هذا الاتّجاه-قد أشار بدوره إلى بعض هذه النّماذج المطبوعة بسمة«التّكلّف».
لا نشكّ أنّ هذا الاتّجاه لدى«الطّوسيّ»يعدّ عملا رائدا من شخصيّة متفرّدة طوال التاريخ الفقهيّ،كما أنّ حرصه على عدم طرح الخبر-مهما أمكن-يدلّ على صواب وجهة نظره:ما دام«التّأويل»أمرا قد أشار إليه أهل البيت«ع»و ما دام التّمييز صعبا بين ما هو مقبول أو غير مقبول من الدّلالات،و هذا ما توفّر عليه الطّوسيّ في ممارساته«الرّائدة»الّتي شكّلت تراثا ضخما في تأريخ الفقه.إلاّ أنّ الإلحاح على هذا النّمط يقتاد إلى تحميل النّصّ أحيانا ما لا يحتمله،كما قلنا.
و حين نعود إلى«العلاّمة»نجده أيضا موفّقا في ممارساته القائمة على المقولة المذكورة،إلاّ أنّه أيضا يقع-نتيجة إلحاحه على هذا الجانب-في بعض الممارسات الّتي تثير التّساؤل.المؤلّف ينجح دون أدنى شكّ-في تأويلاته الجامعة بين دلالات
ص:45
النّصوص،و هذا مثل حمله-على سبيل الاستشهاد-لما ورد من الإسهام للمرأة في الغنيمة، حيث حمله على«الرّضخ»و حيث ورد من النّصوص ما يشير إلى إعطائها«سهما»في بعض حروب النّبيّ«ص»مماثلا لما«أسهمه»للرّجال،فيما عقّب المؤلّف على هذه النّصوص قائلا:
(يحتمل أنّ الرّاوي سمّى«الرّضخ»«سهما»،و قولها-أي:المرأة الرواية لهذا الخبر-:
«أسهم لنا كما أسهم للرّجال»معناه:قسم بيننا الرّضخ كما قسم الغنيمة بين الرّجال).
أمثلة هذا«التّأويل»تتناسب مع دلالة النّصّ الذي تردم الفارق بين«الرّضخ» و«السّهم»بصفة أنّ كليهما تعبير عن إعطاء الحصّة لمن اشترك في المعركة،بغضّ النّظر عن الفارس الّذي يتعيّن له:الإسهام،و العبد أو المرأة اللّذين يتعيّن لهما الرّضخ مثلا.إلاّ أنّ هناك«تأويلات»لا تتجانس فيها عبارة النّصّ مع تأويل المؤلّف.و هذا من نحو تعقيبه-على سبيل الاستشهاد-على الرّوايات الّتي تشير إلى أنّ المتيمّم إذا دخل في الصّلاة و وجد الماء أثناء ذلك،فعليه أن يتمّ صلاته ما لم يركع،عقّب قائلا:
(و يمكن أن يحمل قوله«ع»«و قد دخل في الصّلاة»قارب الدّخول فيها،أو دخل في مقدّماتها من التّوجّه بالأذان و التّكبير،و قوله«فلينصرف ما لم يركع»أي:ما لم يدخل في الصّلاة ذات الرّكوع،و أطلق على الصّلاة اسم الرّكوع مجازا من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ،و هذان المجازان-و إن بعدا-إلاّ أنّ المصير إليهما للجمع أولى).
فالمؤلّف يقرّ بأنّ المصير إلى هذين المجازين بعيد،و لكنّه يقرّ أيضا بأنّ المصير إليهما أولى من أجل الجمع بين النّصوص.إنّ بعد هذين المجازين عن الحقيقة أمر من الوضوح بمكان كبير،حيث لا يمكن الاقتناع بأنّ عبارة«دخل في الصّلاة»معناها«قارب الدّخول في الصّلاة»فإنّ هذا خلاف العرف اللّغويّ،كما أنّ عبارة«ما لم يركع»لا يمكن أن تعني «ما لم يدخل في الصّلاة ذات الرّكوع»لأنّ أمثلة هذه الاحتمالات تلغي حجّيّة كلّ الظّواهر اللّغويّة التي تسالم عليها العرف.إلاّ أنّ الانصاف يقتضي أن نقرّر بأنّ المؤلّف -كما لحظنا-أخضع هذه التأويلات لمجرّد«الاحتمال»حيث صرّح بذلك بقوله:
(و يحتمل.)كما أخضعها للبعد بقوله:(و إن بعدا)كما حملها-أوّلا-«و هذا هو المهم»
ص:46
على الاستحباب،حيث اتّجه إلى هذا الحمل في أوّل ردوده.و بما أنّ المؤلّف-كما سنرى لاحقا-لا يكتفي في تقديم أدلّته و ردوده بدليل واحد أو وجه واحد بل يعرض كلّ الاحتمالات الواردة،حينئذ نستخلص بأنّ الدّليل أو الوجه الّذي يعتمده أساسا هو:ما يذكره أوّلا،و هذا هو الّذي يمنح ممارسته الفقهيّة قيمتها الحقّة،و أنّ ما يذكره من أدلّة أو وجوه اخرى تظلّ مجرّد أدوات يستخدمها لإلزام المخالف،فيما يفصح مثل هذا المنحى في الاستدلال عن كونه خطأ في حقل المناقشة و الرّدّ و نحوهما،و ليس خطأ في استخلاص الحكم النّهائيّ للمسألة،حيث قلنا أنّ استخلاصه للحكم يتحدّد-في الغالب-في الدّليل أو الوجه الأوّل من فاتحة الأدلّة أو الّتي يسردها في مناقشاته مع الآخرين.
الممارسات المتقدّمة،تمثّل نموذجا لتعامل المؤلّف مع النّصوص المتضاربة الّتي لا يمكن الجمع بينها،فإنّ المؤلّف يسلك المنحى الاستدلالي الّذي تفرضه طبيعة الموقف في أمثلة هذا التّضارب الّذي عرضت له روايات أهل البيت عليهم السّلام،و قدّمت الحلول المتنوّعة في معالجته،متمثّلة في ترجيح الموثوق سندا،و المشهور رواية،و الموافق للقرآن الكريم، و المخالف لآراء العامّة.إلخ.
أمّا ما يرتبط بوثاقة الرّاوي،فسنعرض له لا حقا عند حديثنا عن تعامله مع السّند.
و أمّا المرجّحات الأخرى،فإنّ المؤلّف يتوفّر على العمل بها بنحو ملحوظ،و في مقدّمتها التّرجيح بالشّهرة الرّوائيّة.و هذا ما يمكن ملاحظته في ممارسات متنوّعة،من نحو ترجيحه للرّوايات الذّاهبة إلى أن حدّ النّفاس هو حد أكثر الحيض مقابل ما ورد من النّصوص الّتي تحدّده أكثر من ذلك،معلّقا على ذلك بقوله:(إنّ ما رويناه أكثر،و الكثرة تدلّ على الرّجحان)،و من نحو ترجيحه للرّوايات المحدّدة لرؤية الهلال بالرّؤية،و مضيّ ثلاثين يوما،مقابل رواية تحدّده بالغيبوبة قبل الشّفق و بعده:(إذا غاب الهلال قبل الشّفق فهو لليلة،و إذا غاب بعد الشّفق فهو لليلتين)حيث رجّح الرّوايات الاولى،بقوله:
(لكثرتها و اشتهارها حتّى قاربت المتواتر).و نحو التّعقيب الّذي استند فيه إلى وجهة نظر
ص:47
الطّوسيّ،على رواية شاذّة تنفي وجوب طواف النّساء في العمرة المفردة:(يجب العدول عنها،إلى العمل بالأكثر.إلخ).
و هذا بالنّسبة للشّهرة الرّوائية،أمّا العمليّة فإنّ المؤلّف مقتنع بكونها أحد المرجّحات في حقل التّعارض بين النّصوص،أو مطلقا،و هذا ما يمكن ملاحظته في الممارسة التّالية، حيث رجّح بها الرّواية الّتي تقرّر بأنّ العائد من السّفر ينتهي عند الحدّ مقابل الرّواية الذّاهبة إلى أنّه ينتهي مع دخوله البيت،قائلا و هو في معرض الرّدّ:(يترجّح ما ذكرناه أوّلا لوجوه:
أحدها:الشّهرة بين الأصحاب).
طبيعيّا،لا يعنينا أن تكون قناعة المؤلّف بهذه الشّهرة نابعة من استخلاصه إيّاها من المرجّحات المنصوص عليها(مثل قوله«ع»:خذ بما اشتهر بين أصحابك)في مرفوعة زرارة، أو في رواية ابن حنظلة الّتي استفاد البعض منها الشّهرتين:الرّوائيّة و الفتوائيّة،أو تكون قناعته نابعة من مطلق المرجّحات الّتي يتوكّأ المؤلّف عليها في ممارساته عند تعارض الخبرين،أو الخبر مع الأصل.إلخ،بقدر ما يعنينا أن نشير إلى أنّ«الشّهرة»تظلّ واحدا من المرجّحات عند التّعارض.و لكن ليس بنحو مطلق،بل حسب متطلّبات السّياق، حيث سبق أن لحظنا-في ردّ المؤلّف على القائلين بعدم انفعال البئر بالنّجاسة-عدم قناعته بعمل الأكثر و أنّها ليست حجّة (1)و لكنّها تكون كذلك في سياقات خاصّة.
و أمّا التّرجيح بموافقة القرآن الكريم،فيمكن ملاحظته في ممارسات متنوّعة،منها:
ترجيحه للرّوايات النّافية لغسل الجنابة بالنّسبة لمن يتضرّر به مقابل الرّوايات الآمرة بالغسل،حيث عقّب على الرّوايات الأخيرة قائلا:(و هذه الرّوايات-و إن كانت صحيحة السّند-إلاّ أنّ مضمونها مشكل،إذ هو معارض لعموم قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .و منها:
رفضه للرّواية الواردة بأنّ النّبيّ«ص»مسح على الخفّ بالنّسبة للوضوء،حيث عقّب قائلا:
ص:48
(إنّ هذه الرّواية تقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد،و ذلك لا يجوز).
و بالرغم من أنّ هذه الممارسة ترتبط بموضوع آخر هو:
بالنّسبة إلى إمكانيّة النّسخ و عدمه،إلاّ أنّها تطبيق واضح لعمليّة التّرجيح (1)بموافقة الكتاب،خاصّة أنّ المؤلّف أضاف إلى دليله المتقدّم قائلا:(فهي معارضة برواية عليّ«ع» نسخ الكتاب المسح على الخفّين)حيث يجسّد هذا التّعليق:الأخذ بالنّصّ القرآنيّ مقابل معارضة الخبر.
و أمّا التّرجيح بمخالفة العامّة،فإنّ نماذجه متنوّعة في هذا الميدان،فيما لا حاجة إلى الاستشهاد بها مع ملاحظة أنّ المؤلّف يتحفّظ أحيانا في العمل بهذا المرجّح إمّا لكونه يتعامل مع العامّة في مقارناته،أو لإمكان قناعته بالمرجّحات الأخرى بما أنّها أقرب إلى الواقع في تصوّره،و لعلّ الملاحظ في هذا الصّعيد أنّ المؤلّف في كثير من ممارساته،يتوكّأ على الشّيخ الطّوسيّ في العمل بهذا المرجّح،ممّا يكشف ذلك عن«تحفّظه»-كما قلنا-حيال المرجّح المذكور.
هذا،و ينبغي أن نشير إلى أنّ المؤلّف يتجاوز-بطبيعة الحال-العمل بالمرجّحات المنصوص عليها،إلى غيرها من المرجّحات الأخرى-في حالة التّعارض-ممّا نلحظه -نظريّا-في كتابه الأصولي المقارن:«نهاية الوصول»حتّى أنّه يسرد عشرات المواقف الّتي يتعيّن فيها ترجيح الخبر على غيره،كما أنّه-تطبيقيّا-يمارس أكثر من عمليّة استدلال في هذا الصّعيد ممّا نعرض لنماذجه عند حديثنا عن تعامله مع السّند.
من الظّواهر اللاّفتة للنّظر في تعامل المؤلّف مع النّصوص،أنّه طالما يدعم أدلّته الّتي يعرضها بمشابه لها من النّصوص المرتبطة بمختلف أبواب الفقه.و هذا ما يمكن ملاحظته في
ص:49
عشرات الممارسات،من نحو:
1-بالنّسبة إلى وجوب الطّلب عند فقدان الماء،علّق:(و لهذا لمّا أمر بالإعتاق في كفّارة الظّهار،ثمَّ بصيام الشّهرين إن لم يجد،كان الطّلب واجبا،ثمَّ حتّى أنّه قبل الطّلب لا يعد أنّه غير واجد،فكذا ها هنا).و علّق أيضا على الموضوع ذاته:(و لأنّه سبب للطّهارة،فيلزمه الاجتهاد في تحصيله بالطّلب و البحث عند الإعواز،كالقبلة.).
2-بالنّسبة لعدم وجوب قضاء الصّوم عن الميّت الّذي حجزه المرض عن الصّوم، علّق:(و لأنّه مات من يجب عليه قبل إمكان فعله،فسقط إلى غير بدل،كالحج).
3-بالنّسبة لاستحباب التّأخير إلى آخر الوقت برجاء الحصول على الماء،و علّق:(لا ضرورة قبل التّضييق،و لأنّه يمكن وصول الماء إليه،فكان التّأخير أولى،فإنّه قد استحبّ تأخيرها لإدراك الجماعة)و للتّدليل على جواز تأخير الصّلاة بالتّيمّم دون وجوبه،علّق قائلا:(و لأنّه لو وجب التّأخير لرجاء حصول الطّهارة،لوجب على أصحاب الأعذار ذلك، كالمستحاضة).
4-بالنّسبة إلى إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء،علّق:(و لأنّهما عبادات من جنس واحد،فتدخل الصّغرى في الكبرى،كالعمرة و الحجّ).و علّق أيضا على الرّوايات الآمرة بالتّيمّم لكلّ صلاة:(يحمل ذلك على الاستحباب،كما في تجديد الوضوء) 5-بالنّسبة إلى تقديم زكاة الفطر قبل وقتها،علّق:(إنّ سبب الصّدقة:الصّوم و الفطر،فاذا وجد أحد السّببين،جاز التّقديم،كزكاة المال).
6-بالنّسبة لمن ظنّ الغروب أو الطّلوع،فأكل ثمَّ شكّ،علّق:(لا قضاء عليه.
فأشبه ما لو صلّى ثمَّ شكّ في الإصابة بعد صلاته).
هذه الأمثلة و عشرات سواها تظلّ نموذجا لمنهج المؤلّف في تعامله مع النّصوص«المشابهة» الّتي يتوكّأ عليها في دعم أدلّته الشّرعيّة و العقليّة.و لا شكّ أنّ أمثلة هذه الأداة الاستدلاليّة تحمل قيمة ذات أهمّيّة ملحوظة،طالما تظلّ الاستعانة بالأحكام الّتي تفرزها النّصوص الأخرى،تجسّد إثراء لعمليّة«الإقناع»بالدّليل،بخاصّة أنّ المؤلّف يورد أمثلة هذه«الاستقراءات»بمثابة دعم لمختلف الأدلة،فضلا عن أنّه في بعض الحالات،قد
ص:50
يستشهد بالرّواية الّتي تتضمّن عنصر التّشابه الّذي يورده.
بيد أنّ تعامل المؤلّف مع الدّليل الاستقرائيّ،تنتفي ضرورته عندما يتكفّل النّصّ بتحديد ذلك،و تعذّر القناعة به حينا آخر،عندما يقدّم استقراء ناقصا لا شاهد عليه من الموارد الأخرى،أو كون الشّاهد لا يتّضح مناطه في هذا الاستقراء،أو كونه مشكوكا على الأقل،حيث نلحظ التّشكيك عند المؤلّف أحيانا،من نحو ذهابه إلى أنّ قراءة(سبّح)في صلاة العيدين-و هو يردّ على الرّوايات الّتي ورد فيها غير السّورة المذكورة-يقول:(و لأنّ في سبّح الحثّ في زكاة الفطرة فاستحبّ قراءتها في يوم فضلها،كالجمعة)فهو يعلّل قراءة سبّح في العيدين من خلال شباهتها لقراءة سورة الجمعة في يوم الجمعة من حيث التّجانس،مع أنّ صلاة الأضحى ليس فيها زكاة الفطر،فما هو وجه الشّبه أو المناط في ذلك؟مضافا إلى أنّ مناسبة قراءة السّورة في الجمعة لا تعني أنّها مأخوذة من الموارد الأخرى،كما هو بيّن.
و هذا من نحو ممارسته الذّاهبة إلى أنّ المرأة لو طافت أكثر من النّصف تتمّ طوافها بعد الطّهر و إلاّ تستأنف.و بما أنّ النّصوص الواردة في غير الحائض أشارت إلى هذا المعيار-و هو تجاوز النّصف أو عدمه-حينئذ علّق المؤلّف على طواف المرأة قائلا:(قد ثبت اعتبار مجاوزة النّصف في حقّ غير الحائض باعتبار أنّه المعظم،و إن كان هذا أصلا فليعتمد عليه.)بيد أنّ هناك رواية معتبرة تقول:(امرأة طافت ثلاثة أطواف أو أقلّ من ذلك ثمَّ رأت دما، فقال(ع)تحفظ مكانها،فإذا طهرت طافت منه و اعتدّت بما مضى)و قد علّق المؤلّف على هذه الرّواية بأنّ ابن بابويه أفتى بمضمونها نظرا لإسنادها،بخلاف الرّوايات الّتي تشير إلى معيار مجاوزة النّصف.
إنّ أمثلة هذه الرّواية تزيل حكم الاستقراء،لأنّ مجرّد مجاوزة النّصف بالنّسبة لغير الحائض لا يعني تمريره على الموارد الأخرى حيث يجرّ مثل هذا المعيار الفقيه أحيانا إلى الوقوع في القياس المنهيّ عنه،لذلك يصعب الاقتناع بوجهة نظر المؤلّف في التماسه أمثلة هذه الاستقراءات،بخاصّة أنّه لا يعمل بالضّعيف الّذي أشار إلى مجاوزة النّصف.هذا إلى أنّ بعض الموارد-كما أشرنا-يصعب فيها الاستقراء نظرا لعدم وجود مناط أو علاقة وثيقة بين المسألة المبحوث عنها و المسألة المقيس عليها،و هذا مثل ذهابه إلى أنّ غسل الجنابة مجز عن
ص:51
الوضوء حيث شبّهه بالحج المجزي عن العمرة المفردة،من حيث دخول الأصغر ضمن الأكبر،حيث يرد على هذا الاستقراء السّؤال القائل:إذا كان المعيار هو دخول الأصغر ضمن الأكبر،فلما ذا ينفرد غسل الجنابة دون غيره من الأغسال في الحكم المذكور؟لذلك -كما قلنا-تصعب القناعة أحيانا بأمثلة هذه الاستقراءات لكن خارجا عن أمثلة هذه الموارد،يظلّ تعامل المؤلّف مع الأدلّة الاستقرائيّة (1)،عملا له أهمّيّته و إمتاعه فقهيّا و فنّيّا.
هناك ظاهرة استدلاليّة تلفت النّظر حقّا،حتّى أنّه ليكاد المؤلّف يتفرّد فيها من حيث تضخيمها في ممارساته،ألا و هي:«التّعليل»الّذي يقدّمه في أدلّته.أي:أنّ المؤلّف يضطلع بتقديم السّبب الكامن وراء النّصّ الّذي يتضمّن هذا الحكم الشّرعيّ أو ذاك.طبيعيّا،إنّ الأحكام لا تصاب بالعقول،و هي حقيقة لا يتجادل فيها اثنان لكن-في الآن ذاته-ثمّة«أحكام»قد«علّلها»الشّرع نفسه،كما أنّ هناك«أحكاما»من الممكن أن يدركها«الخبير»في مسائل النّفس،و الاجتماع،و التّربية،و الاقتصاد.
إلخ،بحيث يستخلص السّرّ الكامن وراء هذا الحكم الشّرعي أو ذاك،كما لو أدرك الطّبيب مثلا سرّ«الصّوم»من حيث المعطى الصّحّي له،أو سرّ التّحريم الّذي يكمن في
ص:52
ظواهر مثل الخمر،أو لحم الخنزير،أو الميتة من حيث الخسارة الصّحّيّة.أو كما يدرك الخبير النّفسيّ و التّربويّ و الاجتماعيّ سرّ الحظر لظواهر مثل القمار و الغش و الغناء و سواها من حيث الأمراض النفسيّة و الاجتماعيّة الّتي تترتّب على ممارسة الظّواهر المنهيّ عنها.أيضا من الممكن أن يدرك الفقيه بعض الأسرار المرتبطة بوجوب أو حرمة هذا الشّيء أو ذاك.
و هذا ما يسوّغ الرّكون إلى ظاهرة«التّعليل»في جانب من ممارسات المؤلّف-كما قلنا- فمثلا،نجد أنّ المؤلّف قد عقّب على الأصناف الّتي لا تقصّر في صلاتها عند السّفر،قائلا:
(و لأنّ الفعل المعتاد (1)يصير كالطّبيعيّ،و السّفر لهؤلاء معتاد،فلا مشقّة فيه عليهم، فلا يقصّر)كما نجده في تعقيبه على إتمام الصّلاة في الأماكن المقدّسة الأربعة،يقول:
(و لأنّها (2)مواضع اختصّت بزيادة شرف،فكان إتمام العبادة فيها مناسبا لتحصيل فضيلة العبادة فيها،فكان مشروعا).
إنّ أمثلة هذا التّعليل تفرض مشروعيّتها لسبب واضح،هو:أنّ فهم الأحكام له دخل كبير في إقناع الشّخصيّة غير المؤمنة،كما أنّ له دخلا في تعميق القناعة لدى المؤمن،بيد أنّ هناك نمطين من البحث يمكن أن يتوفّر الباحث عليها في هذا الميدان،أحدهما:أن يكون التّناول لهذه الظّواهر يختصّ بدراسة مستقلّة،كما لو تناول عالم النّفس،أو الاجتماع،أو الاقتصاد،مسائل نفسيّة،و اجتماعيّة،و اقتصادية،و درسها في ضوء الأحكام الّتي توجب،أو تحرّم،أو تبيح،أو تندب لهذا العمل أو ذاك.و النّمط الآخر،هو:أن يبيّن الفقيه نفسه«علل»الأحكام،على نحو التّعقيب و التّعليق عليها (3).إلاّ أنّ المؤلّف-كما يبدو-قد أورد هذه التّعليلات ضمن الأدلّة و ليس ضمن التّعليق عليها،و هذا ما ينبغي أن
ص:53
نتحفّظ حياله دون أدنى شكّ،نظرا لإمكانيّة أن تكون العلّة المستكشفة جزءا من«علل» اخرى مجهولة لدينا،فضلا عن إمكانيّة ألاّ تكون«العلّة»المستكشفة صائبة أساسا.و في تصوّرنا أنّ حرص المؤلّف على تعدّد الأدلّة-كما سنرى لا حقا-يقتاده إلى عرض التّعليل ضمن سائر الأدلّة الّتي يعرضها،فهو في النّموذجين السّابقين أورد نصوصا للإتمام في الصّلاة سفرا بالنّسبة إلى الأصناف المشار إليها و الأماكن الأربعة،ثمَّ أضاف إليها عبارة«و لأنّ» حيث توحي هذه العبارة بأنّ دليلا آخر أضيف إلى النّصّ الشّرعيّ،حتّى أنّنا لنجده يعدّد «الأدلّة»حتّى في صعيد التّعليل ذاته،مثل ممارسته التّالية بالنّسبة إلى جواز تقديم زكاة الفطر قبل العيد:
(لنا:أنّ سبب الصّدقة:الصّوم و الفطر معا،فإذا وجد أحد السّببين،جاز التّقديم كزكاة المال،و لأنّ في تقديمه مسارعة إلى الثّواب و المغفرة،فيكون مأمورا به،و لأنّ خبر حال الفقراء على القطع،و مع التّأخير على الشّك لجواز موته أو فقره،فيكون مشروعا.و يؤيّده:ما رواه الشّيخ في الصّحيح.و هو في سعة أن يعطيها في أوّل يوم يدخل في شهر رمضان.
و لأنّ جواز التّقديم يوما و يومين يقتضي جوازه من أوّل الشهر،إذ سببه:الصّوم،موجود هنا.و أمّا تقديمها على شهر رمضان فغير جائز،عملا بالأصل السّالم عن معارضته سبب الصّوم،و لأنّ تقديمها قبل الشّهر تقديم للزّكاة قبل السّببين،فيكون ممنوعا،كتقديم زكاة المال قبل الحول و النّصاب)إنّ هذه الممارسة تكشف لنا عن جملة أمور،منها:تعدّد الأدلّة العقليّة حيث أنهاها إلى ثلاثة أدلّة:سبب الصّوم المسارعة إلى الثّواب،اليقين بالفقر أوّل الشهر مقابل الشّك في آخره،و منها:عرضه لأقوال الفقهاء«الخاصّة و العامّة»حيث نقل عن الخاصّة تجويزهم ذلك،و نقل عن ابن إدريس عدم الجواز لدليل عقليّ هو أنّ التّقديم إبراء للذّمّة قبل شغلها و هو باطل،و نقل عن العامّة تجويزهم ذلك قبل يومين و بعد انتصاف الشّهر،و أوّل الحول.من هنا نحتمل أنّ عرض المؤلّف لأدلّته العقليّة من جانب و تقديمها على النّصّ من جانب آخر،نابع من كونه يقوم بعمليّة«مقارنة»حيث تفرض عليه المقارنة أن يتعامل مع أدلّة المخالفين«الخاصّة و العامّة»ما داموا جميعا قد استندوا إلى دليل عقليّ في جواز التّقديم،حيث استند ابن إدريس-و هو من الخاصّة-إلى دليل عدم البراءة،
ص:54
و استندت العامّة إلى«أقيسة»استقرائيّة مثل جواز الخروج من المزدلفة قبل منتصف اللّيل، و مثل المقايسة بزكاة المال بعد وجود النّصاب.إلخ،و حينئذ يتعيّن على المؤلّف أن يعرض دليله أو ردّه،مقرونا بما هو«عقليّ»أو«استقرائيّ»أيضا:كما لحظنا.لذلك وجدناه يضيف دليلا رابعا-بعد إيراده للرّواية-يقول فيه:(و لأنّ جواز التّقديم يوما و يومين يقتضي جوازه من أوّل الشّهر،إذ سببه:الصّوم،موجود).و هذا الدّليل،جاء في سياق عرضه للاتّجاه المجوّز لتقديم الزّكاة قبل يومين،كما هو واضح.لذلك،نجده أيضا«في مرحلة ردّه على الآخرين»يستند إلى الدّليل العقليّ نفسه في ردّه على أبي حنيفة المجوز تقديمها أوّل الحول،حيث ردّه قائلا:(و الفرق بين زكاة المال و زكاة الفطرة،لأنّ السّبب هناك:
النّصاب،و قد حصل في الحول،فجاز إخراجها فيه،و زكاة الفطر سببها:الفطر بدليل إضافتها إليه،و لأنّ المقصود إغناء الفقراء هناك في الحول،و إغناؤهم هنا في هذا اليوم).
إذن:المسوّغ للتّعامل مع الأدلّة العقليّة أو الاستقرائيّة،يظلّ نابعا من طبيعة الموقف الّذي يفرض على المؤلّف مثل هذا التّعامل.
بيد أنّ هذا المسوّغ قد يفقد دلالته حينما«يتعارض»مع النّصّ،أو حينما يبتعد «تعليله»عن جوهر النّصّ أو روح التّشريع أساسا.و هذا ما يمكن ملاحظته مثلا في ذهابه إلى جواز الجمع بين«الجزية»-بالنّسبة إلى أهل الذّمّة-بين وضعها على«الرّؤس» مضافا إلى«الأرض»،حيث علّل ذلك بقوله:(لنا:أنّ الجزية غير مقدّرة في طرفي الزّيادة و النّقصان.بل هي موكولة إلى نظر الإمام،فجاز أن يأخذ من أراضيهم و رءوسهم،كما يجوز له أن يضعّف الجزية الّتي على رءوسهم في الحول الثّاني،و لأنّ ذلك أثبت للصّغار.
فالمؤلّف هنا«يماثل» (1)بين عدم تقدير الجزئية-حيث وردت نصوص في ذلك-و بين الجمع بين الرأس و الأرض«حيث لا علاقة بينهما كما هو واضح»مضافا إلى أنّ هناك نصوصا«ظاهرة»في التّخيير لا الجمع،مثل قوله«ع»:(ليس للإمام أكثر من الجزية:إن شاء الإمام وضع على رءوسهم-و ليس على أموالهم شيء،و إن شاء ففي أموالهم-و ليس على
ص:55
رءوسهم شيء)فبالرّغم من أنّ عبارة«ليس»تتنافى مع«التّخيير»،إلاّ أنّه عقّب على هذه الرّواية بقوله:(نحملها على ما إذا صالحهم على قدر،فإن شاء أخذه من رءوسهم و لا شيء حينئذ على أراضيهم،و بالعكس:ليس فيهما دلالة على المنع).واضح،أنّ هذا الحمل لا ينسجم مع قوله«ع»:(و ليس على أموالهم شيء)و(ليس على رءوسهم شيء)و حتّى مع إمكان مثل هذا الحمل،فإنّ«التّعليل»العقليّ الّذي قدّمه المؤلّف بقوله:«و لأنّ ذلك أثبت للصّغار»لا يمكن التّسليم به،لأنّ قوله تعالى (حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ) لا يعني أنّ الوالي بمقدوره أن يحقّق كلّ المصاديق الّتي ينطبق عليها معنى «الصّغار»بل لا بدّ من تقييد ذلك بالموارد الّتي تحدّدها«السّنّة»و إلاّ أمكن للوالي أن يصنع ما يشاء إمعانا في«الصّغار»و هو أمر يصعب التّسليم به،كما قلنا.
من الظّواهر المألوفة في بعض النّصوص،أنّها تتضمّن أحكاما«نادرة»لا شاهد لها في النّصوص الأخرى،كما لم يعمل بها الفقهاء عامّة،إلى جانب تضمّنها أحكاما اعتياديّة.
فمثلا-في إحدى الرّوايات-جاء فيها:(أنّ الكذب على اللّه تعالى و رسوله يفطّر الصّائم و ينقض الوضوء).أمثلة هذه الرّواية المتضمّنة نوعين من الحكم:«النّادر،و الاعتياديّ أو المقبول»يقف الفقهاء حيالها على نمطين:نمط يرفض العمل بها مطلقا نظرا لتضمّنها ما هو غير مقبول،و نمط يعمل بما هو مقبول منها و يرفض الآخر.و نحن إذا أخضعنا هذه الظّاهرة إلى«العرف»حينئذ لا نجد مسوّغا لرفض الرّواية بجزئيها لمجرّد أنّ أحد جزئيها خاضع للإحالة.و السّرّ في ذلك أنّ الرّاوي من الممكن جدّا أن يتوهّم في النّقل أو السّماع فيثبت إحدى الحقائق بصورة مغلوطة،و يثبت الحقائق الأخرى في صورها الصّائبة،و هذا ما يمكن ملاحظته في حياتنا اليوميّة الّتي نخبر فيها أمثلة هذا التّوهّم.المؤلّف يبدو أنّه ينتسب إلى الفريق الثّاني الّذي يؤمن بإمكان تفكيك الرّواية و العمل بأحد أجزائها و الرّفض لأجزائها غير المقبولة،و هذا ما نلحظه بالنّسبة إلى موقفه من الرّواية المشار إليها،حيث ذهب إلى مفطّريّة الكذب دون نقضه للوضوء مستندا في ذلك إلى الرّواية ذاتها.هذه الرّواية لأبي
ص:56
بصير.و هناك رواية لسماعة تتضمّن نفس الحكمين،إلاّ أنّ المؤلّف رفضها لكون سماعة ضعيفا من جانب،و لكونها مضمرة لم يسندها إلى المعصوم«ع»من جانب آخر،لذلك عقّب قائلا:(و الأقرب الإفساد،عملا بالرّواية الاولى،و بالاحتياط المعارض لأصل البراءة).
كذلك في ذهابه إلى مفطّريّة الغبار،استند إلى رواية سليمان المروزي:(سمعته يقول:إذا تمضمض الصّائم في شهر رمضان أو استنشق متعمّدا أو شمّ رائحة غليظة أو كنس بيتا فدخل في أنفه و حلقه غبار،فعليه صوم شهرين متتابعين.)حيث تضمّنت الرّواية أحكاما لا قائل بها مثل مفطّريّة الرّائحة.و لكنّه قد اعتمدها بالنّسبة إلى الغبار«و هذه الرّواية مضمرة»و لكنّه لم يعقّب عليها،لأسباب نذكرها لا حقا.
كذلك،نجده قد اعتمد رواية عبد اللّه بن سنان الّتي تضمّنت حكمين،أحدهما:
طهارة و مطهّريّة الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر،و الآخر:عدم مطهّريّة المستعمل في رفع الحدث الأكبر،حيث عمل المؤلّف بجزئها الأوّل و رفض العمل بجزئها الآخر،علما بأنّ الرّواية في طريقها أحمد بن هلال المعروف بالضّعف-و سنوضّح سرّ العمل بها في حينه- بيد أنّ المهمّ هو:أنّ المؤلّف في هذه النّماذج الثّلاثة و في نماذج اخرى لا ضرورة للاستشهاد بها قد فكّك بين محتويات النّصّ،فعمل بأحد أجزائها دون الأجزاء الأخرى،انطلاقا من إدراكه لإمكانيّة مثل هذا التّفكيك بالرّواية،و هو موقف يدلّ على صواب وجهة نظره ما دمنا قد أشرنا إلى أنّ إمكان التّوهّم في شيء لا يستلزم التّوهّم في الأشياء الأخرى.لكن ثمّة ملاحظ (1)على نمط تعامله مع أمثلة هذه النّصوص.فالمؤلّف عندما عرض رواية ابن سنان،لم يعلّق على ضعفها مع أنّ دابة-كما لحظنا عند حديثنا عن منهجه المقارن في الخطوة الثّانية-الإشارة إلى ضعف الخبر بالرّغم من كونه واردا ضمن أدلّته الشّخصيّة،و لكنّنا نجده بعد سطور«و هو يدلّل على مطهّريّة الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر»و يردّ القائلين بعدم مطهّريّته فيما استندوا إلى الجزء الآخر من رواية ابن سنان
ص:57
نجده يقول:(في طريقها ابن هلال،و هو ضعيف جدّا).علما بأن المؤلّف قد عمل بهذه الرواية في جزئها الأول.طبيعيّا،سوف نرى عند حديثنا عن تعامله مع السّند «و هو أمر لحظناه في تعامله مع روايات الجمهور»،انّ المؤلّف يستهدف«إلزام المخالف»فحسب،لذلك«يشكل»عليه ما أمكن،و هو أمر له مشروعيته حقّا في حالة كون المؤلّف قد أورد الخبر بمثابة تكثير للأدلّة الّتي تعزّز صحّة الخبر الضّعيف.بيد أنّ الأمر الّذي تحدر ملاحظته في هذا الصّعيد،هو:أنّ المؤلّف عند ما ينفرد بدليل روائيّ واحد و يترتّب عليه الحكم حينئذ لا مجال المؤاخذة المخالف بالعمل بها.ففي تدليله على عدم استلزام الكذب للكفّارة:ردّ المخالف على استدلاله بخبري أبي بصير و سماعة قائلا:(و الجواب عن الحديثين باشتمالهما على ما منعتم من العمل به)كما أنّه في استدلاله برواية سليمان بالنّسبة إلى استلزام الغبار للكفّارة،عقّب قائلا:
(الاستدلال بهذه الرّواية ضعيف لوجهين،أحدهما:عدم الاتّصال إلى إمام.الثّاني:
اشتمال هذه الرّواية على أحكام لا تثبت على ما يأتي).
فالملاحظ هنا أنّ استدلاله بكون رواية سليمان تشتمل على أحكام غير ثابتة، يتزامن مع كونه قد رتّب عليها أثرا و هو مفطّريّة الغبار.كذلك اشتمال رواية أبي بصير على ما منع به الآخرون العمل،يتضمّن نفس الشّيء حيث إنّ المؤلّف أيضا قد عمل بجزء من الرّواية و ترك العمل بما هو ممنوع منه.لذلك نجد أنّ«تضادّا»ملحوظا في مثل هذه الممارسات لدى المؤلّف،ممّا يصعب التسليم بها في هذا المجال،إلاّ مع فرضيّة «إلزامه»المخالف.إلاّ أنّ المخالف ما دام قد عمل بجزء من الرّواية-بدليل ذهابه إلى مفطّريّة الكذب مثلا-حينئذ لا مجال لإلزامه بالقول بأنّ الرّواية تضمّنت ما لم يعملوا بها من الأحكام.
النّماذج المتقدّمة،تجسّد تعامل المؤلّف مع النّص:كتابا و سنّة،كما تجسّد تعاملا مع الدّليل الثّالث«العقل».و أمّا الدّليل الرّابع«الإجماع»فقد لحظنا مستوياته عند عرضنا
ص:58
لمنهجه في المقارنة.و أمّا بالنّسبة للأصول العمليّة و سواها فبالرّغم من أنّنا لحظنا تعامله مع الأصول المذكورة في صعيد«المقارنة»إلاّ أنّ ثمّة ملاحظات لا بدّ من عرضها في هذا الحقل الّذي نتحدّث عنه الآن،و لعلّ أهمّ ما ينبغي أن نلحظه هو:منهج المؤلّف في التّعامل مع الأصول،حيث نعرف جميعا بأنّ الأصل العمليّ هو:الدّليل الثّانوي الّذي يلجأ إليه الفقيه في حالة عدم الحصول على الدّليل المحرز،و هذا ما أشار المؤلّف إليه في مواقع متنوّعة من ردوده على المخالف،مثل ردّه على من اعتمد«الاستصحاب»في طهارة المسكر قائلا:
(الاستصحاب إنّما يكون دليلا ما لم يظهر مناف،و الأدلّة الّتي ذكرناها-أي النّصوص- تزيل حكم الاستصحاب)و مثل ردّه على القائل بعدم الكفّارة لمن فاته صيام رمضان في اعتماده أصل البراءة،قائلا:(إنّ أصالة براءة الذّمّة لا يصار إليها مع وجود المزيل و هو ما تقدّم من الأحاديث).غير أنّ المؤلّف هنا لا يحقّ له إلغاء«الأصل»الّذي اعتمده المخالف«و هو ابن إدريس»حيث لم يعتمد هذا الفقيه الأخبار الّتي أوردها المؤلّف بل اعتبرها«ظنّيّة»ممّا سوّغ له الرّجوع إلى«الأصل».و بغضّ النّظر عن ذلك،فإنّ المؤلّف انطلاقا من هذا المبدأ نجده يعتمد«الأصل»-بمختلف أقسامه و مستوياته-عند فقدان الدّليل،مثل ذهابه إلى عدم طهارة المياه بعد زوال تغيّرها بالنّجاسة،قائلا:(و لأنّها نجسة قبل الزّوال فيستصحب الحكم)و مثل ذهابه إلى عدم تكرّر الكفّارة لمن أخّر قضاء صومه لسنتين قائلا:(لأنّ الأصل:براءة الذّمّة).
فالمؤلّف حينما اعتمد الاستصحاب و البراءة في النّموذجين السّابقين إنّما اعتمدهما بناء على فقدان النّص،كما أنّه حينما ردّ المخالف على اعتماده دليلي الاستصحاب و البراءة و غيرهما،إنّما كان ردّه نابعا من وجود النّصّ.و هذا يعني انتفاء«الأصل»في حالة وجود النّص،لكن يبدو أنّ المؤلّف ينطلق من قناعات خاصّة«و مثله الكثير من فقهائنا قديما و حديثا»بالنّسبة إلى اعتماده«الأصل»في حالة وجود النّصّ أيضا بالرّغم من كونه ينكر على الآخرين مثل هذا الاعتماد،كما لحظنا.
فالملاحظ في ممارساته أنّه يعتمد«الأصل»إلى جانب«النّصّ»-في حالة توافق الدّليلين:«النّصّ و الأصل»كما لو أضاف إلى النّصّ«أصلا»،و هذا من نحو ذهابه إلى
ص:59
عدم نجاسة المذي حيث قدّم نصوصا على الطّهارة ثمَّ قال:(و لأنّ الأصل الطّهارة فتستصحب إلى أنّ يقوم دليل المنافي)و مثل ذهابه إلى عدم نجاسة«القيء»فيما أورد النّصّ أوّلا،ثمَّ عقّب قائلا:(و لأنّه طاهر قبل الاستحالة فيستصحب).
و ما دام المؤلّف يحرص على عرض أكثر من دليل كما سنرى لا حقا،حينئذ فإنّ المسوّغ لتقديم«الأصل»إضافة إلى النّصّ يتناسب مع المنهج المذكور-و إن كنّا نتحفّظ في قيمة الأصل مقابل النّصّ-فمع توفّر النّصوص الكثيرة الدّالّة على عدم نجاسة المذي،تنتفي مشروعيته«الأصل»الّذي أورده المؤلّف،إلاّ في حالة عدم قناعة المخالف بالنّصوص الّتي استدلّ بها.
و ممّا تجدر ملاحظته هنا أنّ المؤلّف يقدّم ما هو«أصل»على النّصّ في غالبيّة ممارساته بحيث يعرض أوّلا«الأصل»ثمَّ يردفه بالنّصّ،و هذا من نحو ذهابه إلى عدم نجاسة عرق الجنب حيث قال مستدلاّ:(لنا:أنّ الأصل الطّهارة،فتستصحب،و ما رواه الشيخ في الصّحيح.إلخ).
و من نحو ذهابه إلى عدم جواز شهادة المرأة في الهلال،حيث قال:(لنا:الأصل براءة الذّمّة و عدم التّكليف بالصّوم عند شهادتهنّ،و ما تقدّم في الحديث عن عليّ«ع».)ففي هذه النّماذج و سواها،يقدّم المؤلّف«الأصل»أوّلا ثمَّ يدعمه بالنّصّ.لكن لا فاعليّة لمثل هذا التّقديم،لبداهة أنّ النّصّ هو المحرز لاكتشاف الحكم،فكيف يقدّم عليه ما هو غير محرز؟! (1)و أيضا،ثمّة مسوّغ آخر يمكن التّسليم به،و هو:ما إذا كان المؤلّف في صدد تقديم دليل يتوافق مع مبادي«العامّة»مثلا،حينئذ يكون تقديم«الأصل»متجانسا مع المنهج المقارن.أمّا في حالة العكس-كما هو ملاحظ مثلا في تعامل المؤلّف مع فقهاء الخاصّة الّذين أورد و جهات نظرهم حيال طهارة أو نجاسة عرق الجنب،ثمَّ استدلّ ب«الأصل»
ص:60
أوّلا ثمَّ أورد النّصوص،كما لحظنا-في مثل هذه الحالة تفتقد الفاعلية لأمثلة هذا التّقديم.
المهم،أنّ تعامل المؤلّف مع«الأصل»يقترن حينا بما هو غير ضروري،و حينا آخر يقترن بما هو مسوّغ منهجيّا،كما هو الأمر بالنّسبة إلى عدم حجّيّة النّص لديه،كما لو كان الخبر ضعيفا أو كان حيال خبرين متعارضين حيث يسقطهما و يتمسّك ب«الأصل»و يمكن الاستشهاد في الحالة الاولى«و هي:سقوط الخبر لضعفه»بممارسته (1).
من الظّواهر الملحوظة في ممارسات المؤلّف،هي اللّجوء إلى أكثر من دليل واحد في تحريره للمسألة المبحوث عنها.طبيعيّا،ثمّة مواقف تفرض تعدّد الأدلّة:مثل الكتاب ثمَّ النّصوص الحديثية مضافا إلى فعل المعصوم«ع»و تقريره،حيث أنّ حشدها جميعا يعمّق من القناعة بصحّة الاستدلال،فمثلا في تدليله على عدم انفعال الماء الجاري بالنّجاسة، كان من الممكن أن يكتفي بدليل من السّنّة هو قوله«ع»(لا بأس بأن يبول في الماء الجاري)إلاّ أنّه أورد ثلاثة أدلّة أخرى رئيسة و ثانويّة هي:(و لأنّ الجاري قاهر للنّجاسة.و لأنّ الأصل الطّهارة،فتستصحب.و لأنّه إجماع)حيث أورد دليلا رئيسا هو«الإجماع»ثمَّ أورد دليلا ثانويّا هو«الأصل»كما أورد دليلا استقرائيّا مستخلصا من نصوص اخرى هو:كونه قاهرا.مع أنّ واحدا منها كاف في التّدليل.لكن-كما قلنا-يظلّ تعدّد مثل هذه الأدلّة له ما يسوّغه في عمليّة الإقناع.
كما أنّ منهج المقارنة يفرض تنوّع الأدلّة حسب المعايير الّتي ينبغي الرّكون إليها بالنّسبة لأطراف المقارنة،سواء أ كانوا من العامّة أو الخاصّة،ما دام الفقهاء داخل المذهب الواحد
ص:61
يتمايزون فيما بينهم بالنّسبة للمباني الّتي يعتمدونها.كلّ أولئك يفسّر لنا مشروعيّة تعدّد الأدلّة.
و الحقّ،أنّنا لا نجدنا بحاجة إلى الاستشهاد بنماذج في هذا الصّدد،حيث أنّ وقوفنا على منهجه المقارن و الاستدلالي أبرز لنا طبيعة التّعدّد أو التّنوّع في كتبهم الاستدلالية للأدلّة الّتي يعتمدها المؤلّف،فيما تفصح مستوياتها عن مدى الثّراء و العمق و الجدّيّة و السّعة العلميّة.و المهم هو:أنّ حرص المؤلّف على تعدّد الأدلّة ما دام نابعا من كونه يقوم بعمليّة مقارنة-من جانب،و عرض الأدلّة بما يحقّق الإقناع للقارئ من جانب آخر-فإنّ طبيعة المناقشة أو البرهنة العلميّة-من جانب ثالث،تفرض عليه أن يعتمد«تعدّد الأدلّة»:حتّى لو خضعت لما هو«محتمل»أو«ممكن»من الأدلّة،ما دام الهدف هو:«إلزام»المخالف و«إقناعه»بصواب ما يذهب إليه المؤلّف،و بخطإ ما يذهب إليه المخالف.فمثلا،عند ردّه لرواية خاصّة تحدّد عدم انفعال الماء إذا كان قدر قلّتين،يردّه قائلا:(بأنّه مرسل،و لأنّه مناف لعمل الأصحاب،و لأنّه ورد للتّقيّة،و لأنّه يحتمل أن تكون القلّة.)فالإرسال، و عدم العمل به،و وروده تقيّة،أو احتمال بلوغ القلّة قدر الكرّ.كلّ واحد من هذه الفرضيّات الأربع،كاف في الرّدّ على الرّواية،إلاّ أنّ المؤلّف أخضع ذلك لافتراضات أربعة«من حيث سند الرّواية و دلالتها»،حتّى«يلزم»المخالف بوجهة النّظر،سليمة من الإشكالات أيّا كان نمطها.
ما تقدّم،يمثّل تعامل المؤلّف مع الدّلالة.
أمّا الآن،فنعرض لتعامله مع«السّند»،في كتابه:«المنتهى».
سلفا،ينبغي التّأكيد على حقيقة ملحوظة في منهج المؤلّف بالنّسبة إلى تعامله مع السّند،و هي:أنّه يرتّب أثرا على الرّواية من حيث«اعتبارها»أو عدمه.و هو مبدأ عام في ممارساته،حيث يظلّ مثل هذا التّعامل أمرا له أهمّيّته العمليّة دون أدنى شك،لبداهة أنّ تحقيق النّصّ و تصحيح نسبته إلى قائله،يظلّ واحدا من أهمّ معالم«المنهج التّاريخيّ»في
ص:62
البحوث القديمة و المعاصرة:بخاصّة إذا كان النّصّ المبحوث عنه ينتسب إلى«الموروث» الممتد إلى أزمنة قديمة.لا شكّ أنّ البحث الفقهيّ سبق البحوث العلميّة الأخرى في منهجه (1)التاريخيّ الّذي تبلورت معالمه في أزمنتنا الحديثة.و المهم أيضا أنّ«العلاّمة»أعار اهتماما أكثر من سواه بالنّسبة إلى تصحيح النّصّ«من حيث صدوره»حتّى أنّه-كما يشير مؤرّخوه-حرص على تصنيف الأحاديث إلى أقسامها المعروفة:(الصّحيح،الحسن،.
إلخ)ممّا يكشف ذلك عن مدى اهتمامه بهذا الجانب،حيث ينبغي لنا أن نثمّنه كلّ التّثمين،ما دام الحكم الشّرعيّ يتوقّف على مدى صحّة النّصّ و عدمها-كما هو واضح.
و انطلاقا من هذه الحقيقة نجد المؤلّف يرتّب الأثر على هذا الجانب،فيقبل الرّواية المستجمعة لشرائط الصّحّة،و يرفض الرّواية الفاقدة للشّروط المذكورة،بحيث يرتّب على ذلك أثرا في استخلاص الحكم الشّرعيّ.ففي معالجته-على سبيل الاستشهاد-لقضيّة المسافر في شهر رمضان«من حيث تقييد إفطاره بتبييت النّيّة ليلا أو عدمه»رفض هذا القيد،و أسقط جميع الرّوايات المقيّدة،قائلا:
(الجواب عن الحديث الأوّل:انّ في طريقه.و هو ضعيف.و الحديث الثّاني في طريقه ابن فضّال،و هو ضعيف.و عن الثّالث في طريقه ابن فضّال،و هو ضعيف.و الرّابع مرسل.إلخ)حيث رتّب على هذا الرّفض للرّوايات حكما شرعيّا هو:أنّ المعيار هو السفر قبل الزوال و بعده،حيث يفطر إذا كان السّفر قبل الزوال،و يتمّ إذا كان بعده.
بيد أنّ هذا المبدأ العام يظلّ خاضعا للاستثناء،شأنه شأن سائر المبادي أو القوانين الخاضعة للاستثناءات،إذ أنّ لكلّ قاعدة استثناء،كما هو واضح.لذلك نجده-في سياقات خاصّة-يعمل بالخبر الضّعيف،و بالمقابل قد يرفض ما هو صحيح في حالة معارضته بمثله،فيسقطهما و يرجع إلى«الأصل»أو في حالة معارضته للقرآن الكريم مثلا، أو في حالة ندرته قبالة ما هو مشهور،أو في حالة عدم عمل الأصحاب به.إلخ).
أمّا عمله بالخبر الضّعيف،فيأخذ مستويات متنوّعة،منها:
ص:63
و هذا المبدأ-و إن كنّا نتحفّظ في أهمّيّته الّتي يؤكّدها كثير من الفقهاء-يظلّ واحدا من المبادي الّتي يعتمدها«العلاّمة»في ممارساته،بصفة أنّ عمل القدماء بالخبر الضّعيف يكشف عن وجود قرائن على صحّته،ما دامت البيئة الّتي يحياها القدماء تساعد على كشف مثل تلكم القرائن المحتفّة به.و المهم،أنّ المؤلّف يرتّب أثرا على هذا المبدأ و إن كان في نماذج من ممارساته يخالف المبدأ المذكور،كما لحظنا.
و أيّا كان،بمقدورنا أن نستشهد بنماذج من ممارساته في هذا الميدان.و هذا من نحو عمله بمرسلة ابن أبي عمير الواردة في تحديد الكرّ-وزنا،و برواية أبي بصير-و في طريقها رأو واقفي-الواردة في تحديد الكرّ:مساحة،حيث عقّب على الاولى بقوله:(عمل عليها الأصحاب)،و حيث عقّب على الأخرى بقوله:(و هذه الرّواية عمل عليها أكثر الأصحاب).و من نحو تعقيبه على روايتي عمّار و سماعة الواردتين في إراقة الإناءين المشتبه أحدهما بالنّجاسة،قائلا:(و سماعة و عمّار و إن كانا ضعيفين،إلاّ أنّ الأصحاب تلقّت هذين الحديثين بالقبول).و منها:
من الاستثناءات للعمل بالخبر الضّعيف لدى المؤلّف هو:العمل بما أجمع الأصحاب على تصحيح ما يرويه نفر خاصّ من الرّواة،من أمثال مراسيل ابن أبي عمير و سواه،حيث عمل المؤلّف بمراسيل هذا الأخير،من نحو ذهابه إلى عدم جواز بيع العجين النّجس، مستدلاّ بمرسلة ابن أبي عمير القائلة بأنّه:(يدفن و لا يباع).كما أنّه قبل مراسيله بشكل عام،حينما علّق على مرسلة أخرى تتحدّث عن العجين النّجس،بأنّه يظهر بالنّار،قائلا:
(و إن كانت مراسيل ابن أبي عمير معمولة بها،إلاّ أنّها معارضة ب«الأصل»فلا تكون مقبولة).و منها:
ص:64
و من الاستثناءات لدى المؤلّف في العمل بالخبر الضّعيف هو:مناسبته للمذهب أو للرّوايات الصّحيحة،و هذا مثل تعليقه على روايتين تتحدّثان عن طهارة الأسئار للسّباع و غيرها-و في طريقهما واقفيّ و فطحيّ-حيث قال:(و حديث أبي بصير و عمّار-و إن كانا ضعيفين،لأنّ في الأوّل عليّ بن أبي حمزة،و هو واقفيّ،و عمّار،و هو فطحيّ-إلاّ أنّه مناسب للمذهب).
و الحق،أنّ العمل بالخبر الضّعيف من حيث مناسبته للمذهب،و لا يكتسب صفة «عمليّة»إلاّ في حالة فقدان النّصوص المعتبرة،أمّا مع وجود النّصوص المعتبرة فلا يزيد عن كونه قد«تأيّد»بها من حيث مجانسته لها،دون أن يأخذ صفة استقلاليّة،لذلك يتعذّر القول بأنّ المؤلّف قد عمل بالخبرين المذكورين،لأنّ العمل أساسا قد تمَّ من خلال النصوص المعتبرة الّتي جاء هذان الخبران في سياقهما،كما هو واضح.و هذا على العكس ممّا لو اكتسب الخبر الضّعيف صفة استقلاليّة بحيث يصحّ أن يعتمده المؤلّف في حالة فقدان النّصوص المعتبرة«من خلال مناسبته للمذهب»و هذا من نحو عمله بالرّواية الذّاهبة إلى أنّ الصّائم يقضي صومه في حالة إفطاره قبل المغرب لتوهّم الظّلمة و نحوها،حيث عقّب المؤلّف على ذلك قائلا:(و حديثنا-و إن كان يرويه محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرّحمن،و قد توقّف ابن بابويه فيما يرويه محمّد بن عيسى عن يونس-إلاّ أنّه اعتضد بأنّه تناول ما ينافي الصّوم عامدا.)،فمناسبة هذا الخبر للمذهب تتجسّد في كونه قد تجانس مع الدّليل القائل بأنّ تناول ما ينافي الصّوم يستلزم إفساده،و لذلك جاء العمل بهذا الخبر الضّعيف مقرونا بالأهمّيّة من حيث تجانسه مع دليل عقليّ،على العكس من الحالة السّابقة الّتي جاء فيها الخبران الضّعيفان في سياق الأخبار المعتبرة،حيث لا فاعليّة لمفهوم«المناسبة للمذهب»فيهما،ما دام النّصّ المعتبر هو الدّليل،و ليس الدّليل العقليّ أو الاستقرائيّ،كما قلنا.
ص:65
و هذا النّمط من العمل بالخبر الضّعيف،سبق أنّ تحدّثنا عنه،و قلنا في حينه:إنّ إيراد الخبر الضّعيف في سياق الأخبار المعتبرة يكسب الضّعيف قوّة،و ليس العكس،و لذلك لا ضرورة لهذا النّمط من العمل بالضّعيف،طالما لا يترك أثره على عمليّة الاستدلال، حيث إنّ الضّعيف يكتسب قيمته الاستدلاليّة في حالة انفراده،كما هو بيّن.
لعلّ العمل بالضّعيف لدى المؤلّف-في حالة إيراده بمثابة«إلزام»للمخالف-يظلّ عرضة لإثارة أكثر من إشكال حيال هذا التّعامل.و هذا التّعامل يأخذ لدى المؤلّف أكثر من أسلوب.فهو حينا يعمل به في سياق عرض أدلّته الشّخصيّة،و حينا آخر يعمل به في سياق أدلّة المخالف و الرّدّ عليها.
أمّا العمل في صعيد عرض الأدلّة المخالفة،فأمر يحمل مسوّغاته دون أدنى شك،فما دام المخالف مقتنعا بالخبر الضّعيف،فحينئذ يجيء إلزامه بالخبر المذكور مناسبا للموقف.
و حتّى في صعيد عرض الأدلّة الشّخصيّة يكون العمل بالضّعيف مشروعا في حالة كونه مرتبطا بروايات«العامّة»ما دام هدف المؤلّف«إلزامهم»بوجهة نظره الّتي يلتمس لها أدلّة معزّزة بروايات«الجمهور».
أمّا في حالة كونه مرتبطا بروايات«الخاصّة»فإنّ المسوّغ للعمل به ينحصر في حالة الّذي يناقشه كون الفقيه المؤلّف مقتنعا بحجّيّة هذه الرّواية الضّعيفة أو تلك،كما قلنا،و خارجا عن ذلك،لا نجد مسوّغا للعمل بالخبر الضّعيف.لذلك،فإنّ المؤلّف يتعامل بصورة ذكيّة جدّا في كثير من ممارساته القائمة على مناقشة الآخرين،فهو يورد الأدلّة الرّوائية المعتبرة أوّلا«و هذه هي المرحلة المعبّرة عن وجهة نظره الّتي هي حجّة بينه و بين اللّه تعالى»و بعد ذلك يورد الخبر الضّعيف«إلزاما»لمن يناقشه.فمثلا،لحظنا أنّ المؤلّف قد أسقط جميع الرّوايات الواردة بالنّسبة إلى تبييت النّيّة لمن يسافر في رمضان،لكنّه-مع
ص:66
ذلك،لأجل الإلزام-رتّب عليها أثرا،فحملها على أكثر من محمل،مثل قوله عن أحد الأخبار الضّعيفة:(و هو ضعيف،و محمول على من سافر بعد الزّوال)و قوله عن آخر:(و هو ضعيف:و مع ذلك،يحتمل التأويل).و هكذا مع سائر روايات المسألة المشار إليها، حيث أوّلها بما لا يتنافى مع وجهة نظره الذّاهبة إلى أنّ ميزان الإفطار هو:السّفر قبل الزّوال و ليس تبييت النّيّة.
و يلاحظ هنا:- إسقاط المؤلّف حينا:الرّواية،ثمَّ العمل بها حينا آخر،حيث يصرّح في الحالة الأولى بسبب ذلك،و هو:ضعف الرّاوي،كما لو كان فطحيّا أو واقفيّا أو غيرهما من أمثال سماعة و عمّار و ابن فضّال و ابن بكير و سواهم.و لكنّه-في الحالة الثّانية-يصرّح بأنّ الرّاوي«ثقة»:مع أنّ الرّاوي هو نفسه في الحالتين.أي:إنّه بسبب من كون أولئك الرّواة قد تأرجح القول في«وثاقتهم و عدمها»حيث وثّقهم البعض،و قدح فيهم بعض آخر، حينئذ نجده عند التّأييد لوجهة نظره يصرّح بوثاقتهم من قبل أهل التّعديل و الجرح«مع أنّه في كتابه الرّجاليّ المعروف يحسم الموقف حينا،فيميل إلى التّرجيح بوثاقتهم،و يتردّد بالنّسبة إلى آخرين».و أمّا في حالة اخرى نجده يقدح بهم،و هذا ما يمكن ملاحظته-على سبيل الاستشهاد-بالنّسبة إلى«ابن فضّال»،حيث نجده-في ذهابه إلى عدم إجزاء الغسل عن الوضوء-يسقط رواية ابن فضّال القاضية بالإجزاء،قائلا بأنّه«فطحيّ»،كذلك بالنّسبة لإسقاطه روايتين لحظنا هما عند حديثنا عن روايات تبييت النّيّة في سفر رمضان، حيث أسقطهما لمكان ابن فضّال فيهما.و لكنّه بالنّسبة لحكم الحائض المبتدئة،مثلا يعلّق على رواية في طريقها ابن فضّال نفسه،قائلا:(و هو فطحيّ،إلاّ أنّ الأصحاب شهدوا له بالثّقة و الصّدق)،بل نجده في إيراده لرواية أخرى لابن فضّال تتعلّق بوجوب الغسل في صحّة الصّوم بالنّسبة إلى الحائض،يستشهد بقول«النّجاشيّ»عن ابن فضّال:
(فقيه أصحابنا بالكوفة،و وجههم،و ثقتهم،و عارفهم بالحديث.إلخ)و الأمر كذلك بالنّسبة إلى رواه آخرين مثل عمر و إسحاق و.حيث يسقط رواياتهم«عند الرّدّ» و يضفي عليهم طابع«الوثاقة»عندما يعزّز برواياتهم وجهة نظره،مشيرا إلى أنّ الأصحاب
ص:67
شهدوا بالثّقة لهذا الرّاوي أو ذاك.
إنّه من الممكن أن نقول بأنّ المؤلّف حينما سكت عن عمّار،أو سماعة،أو ابن فضّال،أو غيرهم:فلأنّ مناقشيه يعتمدون رواياتهم مثلا،و أنّه لا يعتمدهم في حالة تقديمه لأدلّته الخاصّة،لكن حينما يؤكّد على أنّ الأصحاب شهدوا لهم بالثّقة،حينئذ كيف يسوّغ له أن يرفض رواياتهم الّتي لا تتّسق مع وجهة نظره،و بكلمة جديدة:إنّ المؤلّف إمّا أن يكون مقتنعا بوثاقتهم-و هذا هو الصّحيح،بدليل أنّه قد وثّقهم كما لحظنا في النّماذج السّابقة،فضلا عمّا أوضحه أيضا في كتابه الرّجاليّ-و إمّا أن يقتنع بعدم وثاقتهم،فحينئذ لا معنى للاعتماد على رواياتهم إلاّ في حالة«الإلزام»و هذا ما لا ينطبق على حالة الرّواة المشار إليهم.
طبيعيّا،لو كان المؤلّف مقتنعا بعدم وثاقتهم-كما هو الحال بالنّسبة إلى رأو مثل أحمد بن هلال مثلا،فحينئذ عندما يسكت عن الطّعن به،نفسّر ذلك بأنّه يستهدف«إلزام» المخالف بروايته كما حدث بالنّسبة إلى استدلاله على مطهّريّة المستعمل في رفع الحدث الأصغر.و عندما«يطعن»بالرّواية نفسها-كما حدث بالنّسبة إلى استدلاله على مطهّريّة المستعمل في رفع الحدث الأكبر،حيث نفت الرّواية ذلك-حينئذ نفسّر موقفه بأنّ قناعته الحقيقيّة بعدم وثاقة الرّاوي المذكور تفرض عليه ذلك،و أنّ عدم طعنه إنّما جاء«إلزاما للمخالف فحسب.أمّا في حالة كونه قد اقتنع بوثاقة الرّاوي-كما هو الحال بالنّسبة لبعض الفطحيّين و الواقفيّين-حينئذ فإن رفض رواياتهم يظلّ محلّ تساؤل
من الموارد الّتي لوحظ فيها أنّ المؤلّف يعمل بالخبر الضّعيف فيها،هو:ذهابه إلى أنّ العمل بالرواية أولى من طرحها-و قد لاحظنا ذلك بشكل عام في حقل سابق.أمّا ما يرتبط ب«الضّعيف»من الرّوايات،فإنّ العمل بها،يظلّ نادرا.و هذا من نحو ممارسته الذّاهبة إلى إمكان العمل برواية سبق أن رفضها عندما استدلّ على عدم الاعتماد في ثبوت رمضان
ص:68
المبارك-في حالة غيمومة الهلال-على الرّواية القائلة بأن ينظر إلى اليوم الّذي كان الصّوم فيه من العام الماضي،و عدّ خمسة أيّام منه،ثمَّ الصّوم في اليوم الخامس.هذه الرّواية الّتي رفضها في هذا المورد بسبب ضعفها-كما صرّح بذلك-قبلها المؤلّف في مورد آخر هو:في حالة ما إذا غامت الأهلّة جميعا،حيث علّق قائلا:
(فالأقرب:الاعتبار برواية الخمسة.
لنا:أنّ العادة قاضية متواترة على نقصان بعض الشّهور في السّنة بعدد الخمس أو أزيد أو أنقص،فيحمل على الأغلب للرّواية الدّالّة على الخمسة،فإنّها معتبرة هاهنا،و إلاّ لزم إسقاطها بالكلّيّة،إذ لا يعمل بها في غير هذه الصّورة).
المؤلّف ذكر روايتين عن الخمسة و رماهما بالإرسال و الضّعف،حيث رفضهما في غيمومة الهلال.و في مورد غيمومة الأهلّة جميعا،كما أشرنا.و الملاحظ هنا جهتان:
إمّا عدّهما معتبرتين من حيث السّند،أو من حيث الدّلالة،فإذا سقطتا سندا فلا مسوّغ للعمل بهما في بعض الموارد دون غيرها.و إذا لوحظت دلالتهما،فيمكن العمل بهما،كما أشار المؤلّف.بيد أنّ رفضهما في غيمومة رمضان المبارك-بسبب من الضّعف و الإرسال-لا يتناسب مع اعتبارهما في غيمومة (1)الشّهور.
بالرّغم من أنّ غالبيّة ممارسات المؤلّف تقوم على رفض العمل بالرّواية الضّعيفة-كما لحظنا، عدا الموارد الاستثنائية المتقدّمة،إلاّ أنّنا نجده حينا يعمل بالخبر الضّعيف مطلقا،دون أن يعلّل ذلك.و التّعامل مع الخبر الضّعيف أحيانا،ينطوي على تقدير صائب للموقف،دون أدنى شكّ،فما دام الرّاوي«المطعون فيه»لا يعني أنّه«كاذب»في الحالات جميعها،و ما دام خبره-من جانب آخر-قد يتوافق مع«الاحتياط»مثلا،أو غير معارض بخبر آخر، مضافا إلى خضوع البعض منها لقاعدة ما يسمّى ب«التّسامح»في غير موارد الوجوب أو الحرمة،
ص:69
حينئذ:فإنّ العمل بها يحمل مسوّغاته،بخاصّة إذا اقترنت بالقناعة«وجدانيّا»-و إن كانت«علميّا»مرفوضة من حيث الخضوع لقواعد الحجّيّة،إلاّ أن«الوجدان»و ملاحظة القرائن المحتفّة بها،تحمل الفقيه على الظّنّ المعتدّ بصحّة مثل هذه الرّوايات.و المهم،أنّ المؤلّف-في أمثلة هذه المواقف-يعمل بالخبر الضّعيف،كما قلنا،و هذا من نحو عمله بالرّوايات المانعة من أخذ الرّشاء في الحكم مثلا،حيث استشهد بالرّوايات الضّعيفة في ذلك.و من نحو عمله برواية ضعيفة تحرّم الحجّ بمال غير حلال،فيما يعزّزها حكم«العقل» أو القاعدة الشرعيّة بذلك.و حتّى في حالة عدم تأييدها بحكم عقليّ أو بعدم خلاف بين الفقهاء،حيث إنّه في حالة عدم الخلاف من الممكن أن يكون العمل بالضّعيف مستندا إلى عمل الأصحاب،يظلّ العمل بالضّعيف أمرا ملحوظا لدى المؤلّف،مثل ذهابه (1)إلى استحباب المقام على تجارة معيّنة إذا ربح فيها،و استحباب التّحوّل عنها إذا خسر فيها، و استحباب قلّة الرّبح.إلخ،حيث اعتمد المؤلّف على روايات ضعيفة في المسائل المشار إليها.
و هذا فيما يتّصل بمطلق التّعامل مع الرّوايات الضّعيفة.و في حالة التّضارب بين خبرين ضعيفين،نجد أنّ المؤلّف يعمل بهما أيضا ما دام الخبران المتضاربان لم «يعارضهما»ما هو معتبر من الرّوايات.و هذا من نحو عمله بروايتين:إحداهما:مرسلة، و الأخرى:غير معتبرة،لمكان«السّكونيّ»فيها،حيث جمع بينهما-في حديثه عن صفق الوجه بالماء أو صبّه على نحو التّفريق،مستندا إلى وجهة نظر الفقهاء،قائلا:(و جمع بينهما بأنّ الأوّل محمول على إباحته و لا يجب خلافه و الثّاني محمول على أولويّة غيره،فلا ينافي).و حتّى في حالة كون أحدهما ضعيفا و الآخر معتبرا،فإنّ المؤلّف يعمل بهما في صعيد التّضارب أيضا،و هذا من نحو جمعه بين روايات بعضها معتبر و بعضها غير معتبر، تمنع الدائن من أخذ حقّه إذا أودع المدين لديه مالا،و بين روايات ضعيفة تبيح ذلك (2)،
ص:70
حيث جمع بين الطّائفتين بحمل الرّوايات المانعة على ما لو أنكر المدين،فاستحلفه على ذلك فحلف.
بيد أنّ الملاحظ أنّ سكوت المؤلّف عن خدش الرّواية،يتضخّم بنحو ملحوظ في أبواب التّجارة.و لعلّ ذلك يتساوق مع ما قلناه-في مقدّمة هذه الصّفحات-من أنّ المؤلّف يتخلّى عن المنهج المفصّل في الأبواب الأخيرة من الكتاب،لاحتمالات متنوّعة،أشرنا إليها في حينه.
يظلّ استخلاص الحكم هو النّتيجة النّهائية لأيّة ممارسة فقهيّة،و إذا كانت الممارسة تعنى بعرض الآراء و الأدلّة و مناقشتها و الرّدّ عليها،فلأنّها مقدّمات لا بدّ أن تقضي إلى ما هو نهائيّ من الحكم.و هذا الاستخلاص للحكم يأخذ عند المؤلّف:أمّا طابعا حاسما لإمكان فيه للافتراض أو التأرجح أو التّوقّف،و إمّا أن يخضع لافتراضات متنوّعة تتطلّبها طبيعة مناقشة الآخرين،و هذان النمطان من استخلاص الحكم لحظناهما بوضوح لدى المؤلّف،فهو يفتي حاسما من خلال دليله الشّخصي الّذي يقدّمه أوّلا ثمَّ يفترض إمكان خضوع هذا النّصّ أو الدّليل إلى حكم آخر كالاستحباب أو الكراهة.إلخ،لكن هناك من الممارسات ما يقف المؤلّف عندها متأرجحا بين هذا الحكم أو ذاك،و من ثمَّ يتوقّف عن إصدار الحكم.و لا شكّ أنّ كلاّ من التّأرجح و التّوقّف له مسوّغاته الّتي ينبغي أن نثمّنها لدى المؤلّف ما دامت طبيعة الدّليل لا تسمح له إلاّ بالتّأرجح أو التّوقّف.
و يمكننا ملاحظة المستوي الأوّل من إصدار الحكم،أي:التّأرجح،فمثلا في ممارسته الذّاهبة إلى جواز الاقتصار على جزء من السّورة أو قراءة السّورة كاملة قائلا:(و لو قيل فيه روايتان،إحداهما:جواز الاقتصار على البعض،و الأخرى:المنع،كان وجها،و يحمل المنع على كمال الفضيلة).
و سبب هذا التّأرجح أنّ المؤلّف استدلّ أوّلا على وجوب السّورة كاملة،إلاّ أنّه عرض نصوصا معتبرة تجوّز ذلك،ممّا اقتاده إلى التّأرجح المذكور.كذلك في ممارسته الذّاهبة إلى
ص:71
أنّ من استمرّ به المرض إلى رمضان آخر،لا قضاء عليه بل يتصدّق مستدلاّ على ذلك بنصوص لزرارة و ابن مسلم و سواهما،لكنّه نقل قولا لابن بابويه بوجوب القضاء حيث استند هذا الأخير إلى عموم الآية (مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) في شمولها لمن استمرّ فيه المرض أو عدم استمراره،حيث عقّب قائلا:(و قول ابن بابويه عندي قويّ،لا يعارض الآية الّتي استدلّ بها:الأحاديث المرويّة بطريق الآحاد).و التّأرجح هنا واضح من خلال ذهابه إلى عدم وجوب القضاء في استناده للنّصوص المشار إليها«و قد استدلّ بها في مسألة سابقة تتعلّق بقضاء السّنة الماضية دون أن يشير إلى أنّها أخبار آحاد»ثمَّ ذهابه إلى «قوّة»الرّأي الّذي ذهب إليه ابن بابويه،حيث يجسّد هذان النّمطان من الحكم تأرجحا بينهما،كما هو واضح.بيد أنّ ذهاب المؤلّف إلى أنّ النّصوص المشار إليها أخبار آحاد ممّا يلفت النّظر حقّا،بصفة أنّه عمل بهذه الأخبار من جانب،و بصفة أنّها لا تتضارب مع الآية الكريمة من جانب آخر،بل إنّها تفصّل إجمالها أو تخصّص عمومها،فلا مسوّغ حينئذ للقول بأنّها تطرح،لمخالفتها الكتاب الكريم.
و يمكننا الاستشهاد بنموذج ثالث من ممارساته الّتي يرجّح فيها أحد الجانبين إلاّ انّه يتوقّف في النّهاية،ما نلحظه في ممارسته الذّاهبة إلى عدم جواز«القران»بين سورتين في الفريضة حيث استدلّ على ذلك بنصوص مانعة،و بالمقابل قدّم أدلّة المخالف الّتي تجوّز ذلك.
و بالرّغم من أنّه ردّ أدلّة المخالف بكون أدلّته الشّخصيّة أصحّ سندا و أوفق للاحتياط، إلاّ أنّه في النّهاية صرّح بأنّه(في هذه المسألة:من المتردّدين).كذلك-في نموذج رابع-في ممارسته الذّاهبة إلى عدم طهارة فضلات ما لا يؤكل لحمه،استند إلى جملة من النّصوص منها:رواية ابن سنان:(اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه)لكن بما أنّ هناك رواية لأبي بصير تستثنى عضويّة«الطّير»من ذلك(كلّ شيء يطير فلا بأس.)حينئذ عقّب قائلا:(و الرّواية مشكلة،و هي معارضة الرواية ابن سنان.إلاّ أنّ القائل يقول:إنّها غير مصرّحة بالتّنجيس،أقصى ما في الباب أنّه أمر بالغسل منه،و هذا غير دالّ على النّجاسة إلاّ من حيث المفهوم.).
ص:72
وجه تردّده هو أنّ المؤلّف قد استند إلى رواية ابن سنان في تنجيسها لفضلات ما لا يؤكل لحمه،و هنا تردّد في تصريحها بالتّنجيس،مضافا إلى أنّ رواية أبي بصير الذّاهبة إلى عدم نجاسة عضويّة الطّير-كما هو رأي المؤلّف-معارضة لرواية ابن سنان،لأنّ الالتزام بأحدهما يلغي الآخر.
طبيعيّا،يمكن أن تقيّد رواية ابن سنان بالطير فتكون النّتيجة:أنّ ما لا يؤكل لحمه نجس إلاّ الطّير.و من الممكن أن تقيّد رواية أبي بصير برواية ابن سنان فتكون النّتيجة:أنّ ما لا يؤكل لحمه من الطّير نجس.إلاّ أنّ الحمل الأخير لا وجه له،لاستلزامه«عبثيّة» القيد،و إذا كنّا نعرف بأنّ كلام المعصوم«ع»لا يمكن أن يتضمّن قيدا عبثا،حينئذ نستخلص بسهولة أنّ قيد«الطّيران»له مدخليّة في الحكم،و أنّ«الطّير»مستثنى من قاعدة:(ما لا يؤكل لحمه)،و من هنا لا نرى وجها لتردّد المؤلّف في هذه المسألة.و يمكن ملاحظة نمط آخر من التّردّد المقترن بالتّرجيح،يتمثّل في الممارسة التّالية:
(حكم الاستنشاق حكم المضمضة في ذلك،على تردّد،لعدم النّص).
فالمؤلّف هنا يرجّح أن يلحق الاستنشاق بالمضمضة-من حيث عدم مفطّريّته إذا كان في الوضوء-و لكن:نظرا لعدم وجود النّص،يتردّد في الإلحاق المذكور.كما هو واضح، فالملاحظ-في هذه النّماذج-أنّ عدم«ظهور»النّص من جانب أو فقدانه من جانب آخر، دفع المؤلّف إلى التّردد في إصدار الحكم.
و أيّا كان،فإنّ النّماذج المتقدّمة من تردّد«العلاّمة»نابع من كونه يستند إلى أدلّة مرجّحة في نظره،و لكنّه يتوقّف في النّهاية من إصدار الحكم.لكن هناك نموذج من الممارسات الّتي لا ترجيح فيها لأحد الأدلّة،حيث يتكافأ الدّليلان ممّا يحمله ذلك على التّردّد أو التّوقّف في إصدار الحكم،و هذا من نحو ممارسته التّالية:
(الصّحيح الّذي يخشى المرض بالصّيام هل يباح له الفطر؟فيه:تردّد ينشأ من وجوب الصّوم بالعموم و سلامته عن معارضة المرض،و من كون المرض إنّما يبيح له الفطر لأجل الضّرر به،و هو حاصل هنا،لأنّ الخوف من تجدّد المرض:في معنى الخوف من زيادته و تطاوله).كذلك يمكن ملاحظة تردّده النّابع من تكافؤ الدّليلين،في ممارسته الآتية:
ص:73
(لو فكّر،ففي الإفساد تردّد:ينشأ من قوله(ع)«عفى لأمّتي الخطأ و النّسيان و ما حدّثت به أنفسها ما لم يعلم أو تعلم،و من كونه متمكّنا من فعله و تركه.)فالملاحظ في هذه النّماذج هو تكافؤ الأدلّة الّتي تستاقه إلى التّردّد،في حين كانت النّماذج الّتي سبقتها مطبوعة بتردّد يترجّح فيها أحد الدّليلين،و لكنّه لا يصل إلى اليقين و الظّنّ الّذي يسمح للمؤلّف بأن يحسم المسألة.و في الحالين ثمّة مسوّغات تدفع المؤلّف إلى أمثلة هذا التّردّد الّذي ينبغي تثمينه،دون أدنى شكّ.
إذا كان المؤلّف في النّماذج المتقدّمة يتوقّف عن إصدار الحكم،فهناك نمط من التّعامل مع «الحكم»يقوم على مجرّد الافتراض في مشروعيّة الآراء المخالفة الّتي يتردّد فيها أو يحسم المسألة فيها على خلاف وجهة نظرهم.و هذا ما ندرجه ضمن عنوان:
هناك نمط من التّعامل مع«استخلاص الحكم»قائم على مجرّد الفرضيّة بصحّة ما يحكم به الآخرون،حيث يرتّب المؤلّف على هذا الافتراض آثارا شرعيّة.
طبيعيّا،ثمّة فارق بين فرضيّة تقوم على مجرّد التّسليم بما يقوله الآخرون،كما لو اقتنع المؤلّف بدليل خاص لديه،و لكنّه حكم بحكم آخر لإلزام المخالف بفساد وجهة نظر الأخير،حيث لحظنا أمثلة هذا المنحى في سياق ردّه على أدلّة المخالفين،و بين فرضية تسلّم بوجهة نظر المخالف ثمَّ ترتّب عليه الأثر الشّرعيّ،و هذا ما يتمثّل في منهج خاص من الاستدلال يقوم على عبارة«لو قلنا»بجواز أو حرمة هذا الشّيء أو ذاك.إلخ،حيث لا يقتنع المؤلّف بالحكم المذكور،و لكنّه يفرض إمكان صحّته،فيتناوله بالدّراسة مثل سائر المسائل المطروحة.و هذا ما يمكن ملاحظته في ممارسات من نحو:
(إذا قلنا بجواز الاقتصار على بعض السّورة فلا فرق بين أوّلها و آخرها و أوسطها.)ثمَّ يستدلّ على ذلك بروايات في هذا الصّدد.
و من نحو افتراضه الآتي:من الماء النّجس المتمّم كرّا حيث حكم سابقا بعدم تطهّره
ص:74
بإتمامه كرّا:(لو قلنا بالطّهارة،لم يشترط خلوّه من نجاسة عينيّة.نعم،يشترط خلوّه عن التّغيّر).
و من نحو افتراضه الآتي عن تحريم نقل الزّكاة من بلد المالك إلى غيره حيث حكم سابقا بجواز النّقل،و لكنّه ما دام قد نقل قولا بعدم الجواز،حينئذ فقد افترض ما يلي:
(لو قلنا بتحريم النّقل-أي:نقل الزّكاة إلى بلد آخر تجزئ إذا وصلت إلى الفقراء)ثمَّ يستدرك على ذلك بقوله:(لنا:أنّه دفع المالك إلى مستحقّه فيخرج عن العهدة،كما لو أخرجها من بلده).
ففي النّموذج الأوّل افترض المؤلّف جواز الاقتصار على بعض السّورة،مع أنّه كان «متردّدا»فيها،كما لحظنا في نموذج أسبق من ممارساته،و في النّموذج الثّاني و الثّالث افترض طهارة المتمّم كرّا و تحريم نقل الزّكاة إلى بلد آخر مع أنّه لا يرى طهارة الأوّل و لا تحريم الآخر.و المهم هو ملاحظة هذا المنحى من الاستدلال من حيث مسوّغاته العلميّة.
و في تصوّرنا،ثمّة مسوّغ علميّ من النّمط الأوّل من الممارسة،و هو النّمط القائم على تردّده في الحكم،فبما أنّه لم يحسم المسألة،حينئذ فإنّ افتراضه الذّاهب إلى جواز الاقتصار على أوّل السّورة أو وسطها أو آخرها يتناسب مع تردّده طالما يظلّ هناك احتمال بجواز الاقتصار على بعض السّورة يتكافأ مع الاحتمال الآخر،و هو:عدم الجواز،حيث يترتّب-مع احتمال الجواز في تبعيض السّورة-إمكانيّة أن يكون التّبعيض في أوّلها أو وسطها أو آخرها.
كما أنّ الاستدلال على إمكانيّة ذلك يتناسب مع الاحتمال المذكور.لكن عندما نتّجه إلى النّمط الآخر من عرض المسألة الّتي لم يقتنع بها المؤلّف،حينئذ يثأر السّؤال عن ضرورة أن يستدلّ المؤلّف على إتمام المنجّس كرّا ما دام مقتنعا بأنّ الماء القليل لا يطهر بإتمامه كرّا سواء أ كان مصحوبا بالنّجاسة العينيّة أو غير مصحوب.
نعم،في النّموذج الثّالث من الممارسة يمكن أن نجد مسوّغا للطّرح و هو نقل الزّكاة إلى بلد غير المالك،فبالرّغم من أنّ المؤلّف يرى جواز النّقل،إلاّ أنّ عرضه للمسألة جاء في سياق الإجزاء أو عدمه،حيث أنّه مع القول بالتّحريم حينئذ فإنّ المالك إذا دفعها فقد أبرأ ذمّته
ص:75
و إن كان قد عمل محرّما من حيث النّقل،و هذا من نحو الصّلاة في المكان المغصوب أو البيع في يوم الجمعة عند النّداء مثلا،حيث تترتّب آثار الإبراء للذّمّة و تحقّق الملكيّة بالرّغم من ممارسته ممّا هو محرّم.لذلك،فإنّ المسوّغ العلميّ-في النّموذج الثّالث-يظلّ فارضا فاعليّته في هذا الصّعيد.
و هو أمر ينطوي على فائدتين في ميدان البحث،أولاهما:الفائدة العلميّة المتمثّلة في رحابة صدر المؤلّف لأن يفترض إمكانيّة الصّواب لوجهة النّظر المفترضة، و الأخرى:الفائدة المصحوبة بالإمتاع العلميّ،حيث انّ تناول المسألة في شتّى صورها تحقّق إمتاعا علميّا له إسهامه في إثراء تجربة القارئ و تحريك ذهنه على المحاكمات العقليّة،و هذا ما توفّر عليه فقيهنا الكبير«العلاّمة»في عرضه الممتع لكثير من افتراضاته الّتي تفصح عن إسهامه العلميّ الضّخم في هذا الميدان و في سائر الميادين الّتي طبعت شخصيّة«العلاّمة»بسمات فائقة جعلت منه شخصيّة علميّة متفرّدة في تأريخنا الفقهيّ الموروث و المعاصر.
و الآن،خارجا عن الملاحظات الّتي طرحناها في سياق تقويمنا لممارسات «العلاّمة»و هي ملاحظات قد لا يوافقنا القرّاء عليها،بخاصّة أنّ طبيعة الممارسة الاستدلاليّة الشّاملة الّتي لا تقتصر على صياغة الدّليل العابر،تتطلّب منهجا يقوم على تثبيت وجهة النّظر أو إلزام المخالف من الخاصّة و العامّة من خلال طرائق متنوّعة،مثل:
افتراض صحّة الرّواية حينا،و الطّعن بها في موقع آخر،و مثل:الاستدلال على مسألة لم يقتنع الفقهاء بها،ثمَّ ترتيب الآثار عليها على نحو الافتراض،و مثل:تقديم الأصل على الأمارة،.إلخ،أولئك جميعا قد تفرضها طبيعة الممارسة الفقهيّة الّتي لم تقتصر على فقيهنا الكبير،بل انسحبت على المتأخّرين أيضا،بحيث أصبحت جزءا من الصّناعة الفقهيّة الّتي اكتسبت طابعا مشروعا.و لذلك،فإنّ إبداء الملاحظات على هذه الصّناعة لا يعني أنّها تقلّل من ضخامة و إحكام و متانة العمارة الفقهيّة الضّخمة الّتي خطّط لها«العلاّمة».
ص:76
و هذا ما يدفعنا إلى القول-و نحن نختم حديثنا عن فقيهنا الكبير-بأنّنا نواجه فقيها عملاقا قد انفرد بين السّابقين عليه بكونه قد«طوّر»الممارسة الفقهيّة،و«جدّدها» على المستويات جميعا،سواء أ كان ذلك في صعيد الأداة الأصوليّة الّتي طرح مفرداتها الضّخمة في كتابه المخطوط:«نهاية الوصول إلى علم الأصول»حيث سلك فيه نفس المنهج الفقهيّ المقارن من حيث تتّبعه المدهش لآراء الأصوليّين و مناقشتها و الرّدّ عليها و إبداء وجهة نظر جديد حيالها،أو كان ذلك في صعيد«الأداة الرّجاليّة و الحديثيّة»حيث اختطّ حيالها منحى فيه«الجدّة»دون أدنى شك،أو كان ذلك في صعيد الممارسة الفقهيّة بعامّة:منهجا و استدلالا،حيث نلاحظ«الجدّة أو التّطوير»فيها يتجاوز طرح «المبادئ إلى طرح«المنهج»أيضا،و هو ما لحظناه خلال هذه السّطور الّتي كتبناها عن فقيهنا الفذّ،حيث كانت«السّعة»و«التّنوع»و«العمق»و«الجدّة»:طوابع علميّة لهذا الفقيه لم يكد لسواه أن يتوفّر عليها بنفس الحجم الّذي لحظناه عند«العلاّمة»،فهو -كما سبقت الإشارة-يرصد آلاف الآراء لمذاهب و تيّارات و أشخاص،في كلّ العصور،و في كلّ الأمكنة،داخل المذهب و خارجه،و هو يلتمس«الأدلّة»لها و ليس مجرّد رصدها،بما تستتبعها من منهجيّة جديدة بالنّحو الّذي يضفي على بحثه حيويّة لافتة للنّظر تجعلك منبهرا و مندهشا حيال قابليّته الفذّة الّتي وهبها اللّه تعالى لفقيهنا الكبير،حتّى ليكاد«يتفرّد»-مع آخرين لا يتجاوزون عدد الأصابع-في عصور التّأريخ الفقهيّ.
ص:77
ص:78
كلمة القسم
ص:79
ص:80
لمّا كان هدفنا في تحقيق الكتاب هو إخراج نصّه صحيحا مفهوما لا يشوبه إبهام،خاليا من التّعقيد و الالتواء،بعيدا عن المظاهر الشّكليّة الّتي يقتصر عليها بعض المحقّقين في عملهم،فقد اعتمدنا-في عملنا هذا-على تسع نسخ مخطوطة،هي كما يلي:
المحفوظة في مكتبة الآستانة الرّضويّة المقدّسة في مشهد، تحت رقم 9548،و هي تشتمل على كتاب الطّهارة فقط،جاء في آخرها:كتب آخر هذا الكتاب على يد أقلّ خلق اللّه و أحوجهم إلى رحمة ربّه الغنيّ محمّد بن محمّد الجزائريّ،السّاكن في بلدة شيراز.و كان الفراغ من كتابته في بلدة بغداد في شهر صفر،ختم بالخير و الظّفر سنة 1047.تقع في 156 ورقة،تحتوي كلّ صفحة منها على 29 سطرا،بحجم 20x13 سم،و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:«خ».
تحت رقم 10597،و هي تشتمل على كتب:الطّهارة،الصّلاة،الزّكاة،الخمس،و بعض من كتاب الصّوم.جاء في آخر كتاب الطّهارة:و فرغ من نسخة نسختها من نسخة الأصل العبد المذنب الرّاجي إلى رحمة اللّه تعالى يوسف بن يعقوب طالقانيّ،و جاء في آخر كتاب صلاة الخوف:كتبه العبد الفقير إلى اللّه تعالى محمّد بن شاه منصور التّبريزيّ.و ذلك في سابع[و]عشرين من شهر شعبان المعظّم من سنة ثلاث و سبعين و تسعمائة.تقع في 397 ورقة،تحتوي كلّ صفحة منها على 31 سطرا،بحجم 20x12 سم،و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:«ن».
تحت رقم 1228،و هي
ص:81
تشتمل على كتب:الطّهارة،الصّلاة،الزّكاة،الخمس،و بعض من كتاب الصّوم،كتبها:محمّد هادي ميرزا عرب شيرازي في يوم الثّلاثاء الخامس من شهر شعبان المعظّم:و لم يذكر سنة كتابتها.تقع في 463 ورقة،كلّ صفحة منها تحتوي على 30 سطرا،بحجم 21x11 سم،و قد رمزنا لها في هامش الكتاب بالحرف:«م».
تحت رقم 1012،و هي تشتمل على كتب:الصّلاة،الزّكاة،الخمس،و بعض من كتاب الصّوم،كتبها:محمّد بن شمس بن عليّ بن حسن بن أبي الحسن بن جعفر بن الغسّانيّ.جاء في آخر كتاب الصّلاة:وقع الفراغ من نسخها عصريّة يوم الاثنين لخمس خلون من شهر ربيع الأوّل من شهور أحد و ثمانين و تسعمائة من الهجرة(على مهاجرها الصّلاة و السّلام و التّحيّة و الإكرام).تقع في 572 ورقة، تحتوي كلّ صفحة منها على 23 سطرا،بحجم 22x13 سم،و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:
«غ».
تحت رقم 2850،و هي تشتمل على القسم الأخير من كتاب الصّوم،و كتب:الحج،الجهاد،و بعض من كتاب التّجارة، قال في آخرها:و فرغ من نسخته(كذا)أقلّ عباد اللّه و أحوجهم إلى غفرانه،العبد الفقير،كثير الخطايا و الزّلل:عليّ بن الحاج قوام الدّين بن محمود العاقوليّ اللّيثيّ أصلا،النّجفيّ مولدا،الحلّي منشأ.و ذلك في غرّة ذي القعدة سنة 982 هجريّة(على مهاجرها أفضل الصّلوات و أكمل التّحيّات).تقع في 143 ورقة،تحتوي كلّ صفحة منها على 41 سطرا،بحجم 23x14 سم،و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:«ع».
تحت رقم 554،و هي تشتمل على:البحث الثّامن و التّاسع من كتاب الصّوم،و تمام كتاب الاعتكاف،و القسم الأكبر من كتاب الحج إلى أواسط الصّنف الثّالث عشر:الصّيد.جاء في آخر الفصل السّادس في الحلق و التّقصير من كتاب الحج:و كان الفراغ من تسويده على يدي العبد الفقير إلى اللّه تعالى حسن بن يوسف بن المطهّر مصنّف الكتاب في ثاني عشر ربيع الأوّل من سنة سبع و ثمانين و ستّمائة،وفّق اللّه تعالى إتمام الكتاب بمنّه و كرمه و الحمد للّه ربّ العالمين.و لم يذكر اسم ناسخها.تقع في 267 ورقة،بخطّ النّسخ القديم،و صفحاتها مختلفة من حيث السّطور،فصفحة فيها 16 سطرا،و أخرى 22 سطرا،بحجم 16x11 سم،و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:«ج».
تحت رقم 1326،و هي
ص:82
تشتمل على بعض من كتاب الصّلاة حيث تبدأ من المقصد الثّامن في الخلل الواقع في الصّلاة، و كتاب الزّكاة و الخمس،و بعض من كتاب الصّوم،إلى البحث الثّامن في بقيّة أقسام الصّوم.لم يعلم اسم كاتبها و لا تأريخ كتابتها،حيث جاء في آخرها:تمَّ الجزء الثّالث من كتاب:منتهى المطلب في تحقيق المذهب،و الحمد للّه وحده،و يتلوه في.و قد كتب في هامش الصّفحة الأخيرة بخطّ مغاير للأصل:من متملّكات أفقر الطّلبة إلى ربّه المجيد محمّد مكّي بن محمّد بن شمس الدّين بن الحسن بن زين الدّين عليّ بن خير الدّين من سلالة أبي عبد اللّه الشّريف الشّهيد ابن مكّي بن أحمد بن حامد المطّلبيّ الحارثيّ الهمدانيّ الخزرجيّ العامليّ.و مكتوب فوق هذه العبارات بخطّ أخضر بالفارسيّة:(خط نوه شهيد)أي:خط حفيد الشّهيد،و النّسخة مختومة في عدّة أماكن منها بمهر حفيد الشّهيد و ختمه،حيث جاء في الختم:من ولد الشّريف أبي عبد اللّه الشّهيد محمّد بن مكّي العامليّ.تقع في 310 ورقة،تحتوي كلّ صفحة منها على 19 سطرا،بحجم 16x10 سم، و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:«ش».
تحت رقم 12314،و هي تشتمل على كتب:الطّهارة،الصّلاة،الزّكاة،الخمس،الصّوم،الحجّ،الجهاد،و بعض من كتاب التّجارة جاء في آخر كتاب الطّهارة:قد فرغ من كتابة هذا الجزء محمّد حسين بن حاجي حسين الرّويدشتي من أعمال أصفهان.في يوم الاثنين الثّاني عشر من شهر ربيع الأوّل سنة 1066.تقع في 419 ورقة،تحتوي كلّ صفحة منها على 36 سطرا،بحجم 21x12 سم،و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:«ق».
و هي تشتمل على كتاب الطّهارة،جاء في آخرها،فرغ من نسخة و تعليقه الفقير إلى عفو ربّه الغنيّ عليّ بن محمّد بن هلال، صدر نهار السّبت آخر يوم من صفر سنة خمسة و ثمانين و تسعمائة هجريّة نبويّة.ثمَّ جاء في هامش آخرها:قد وقعت المقابلة لهذه النّسخة الشّريفة مع نسخة الأصل طابق النّعل بالنّعل.تقع في 298 ورقة،بخط النّسخ القديم،تحتوي كلّ صفحة منها على 21 سطرا،بحجم 30x20 سم،و قد رمزنا لها في الهامش بالحرف:«د».
و حيث أنّنا عثرنا عليها متأخّرا،أي:بعد طبع حروف الجزء الأوّل و ترتيب فصوله و إخراجه الفنّيّ،لذلك لم يكن لنا مجال لإثبات اختلافاتها في الهامش،إلاّ أنّنا قابلناها مع فصول هذا الجزء بأجمعه،و أخذنا باختلافاتها مع بقيّة النّسخ،و قد كانت مفيدة للغاية،و سيأتي تثبيت اختلافاتها في الهامش عند تحقيق الأجزاء اللاّحقة من كتاب الطّهارة.
ص:83
إنّ كتاب المنتهى هو من أجمع الكتب الفقهيّة المقارنة،و أضخمها في بابها،و أكثرها جمعا، و أغزرها علما،و أحسنها تفصيلا و تفريعا،و أجودها تقسيما و تنويعا.قد حوى جلّ أمّهات المسائل الخلافيّة في الفقه-داخل المذهب و خارجه-فكان حقيقا بأن يسمّى:«منتهى المطلب.»و قد أشار العلاّمة نفسه إلى أهمّيّته و عظمته علميّا في تقديمه له،و في مواضع متعدّدة من بقيّة كتبه الأخرى.كما و أشاد بفضله جمع كثير من علمائنا المتأخّرين،و جعلوه في عداد أفضل ما كتب في هذا الباب على الإطلاق،لما جاء فيه من متانة في المقارنة العلميّة،و روعة في الاستدلال الفقهيّ.
و لمّا كان«المنتهى»بما يمثّله من عطاء فقهيّ زاخر،و تراث علميّ جمّ.و إخراجه محقّقا، مصحّحا بالشّكل الّذي يتناسب و مستواه يحتاج إلى جهود جادّة و طاقات مخلصة.كان أن سعى الإخوة المحقّقون في قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلاميّة بكلّ ما أوتوا من عزم و همّة إلى تفجير طاقاتهم،و صبّ جهودهم بشكل جدّيّ و متواصل.من أجل إخراج هذا السّفر الجليل بكيفيّة تناسب محتواه العلميّ،آخذين بنظر الاعتبار و عاملين وفق أحدث القواعد العلميّة و الفنيّة في موضوع تحقيق و تصحيح التّراث الإسلاميّ الخالد.
فكان أن شمّر هؤلاء بأجمعهم عن ساعد الجدّ و توزّعوا إلى ستّ لجان تحقيقيّة،كلّ حسب اختصاصه العلميّ و الثّقافيّ،كما يلي:
1-لجنة المقابلة،و عملها مقابلة النّسخ المخطوطة-الآنفة الذّكر-مع بعضها الآخر،و ضبط الاختلافات الواقعة بينها،و تثبيتها على حدة.
2-لجنة التّخريجات،و عملها تخريج الآيات القرآنيّة،و الأحاديث النّبويّة الشّريفة الواردة عن طريق الجمهور،و الأحاديث و الرّوايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام،و كذا تخريج الأقوال الفقهيّة الّتي أوردها المصنّف و استدلّ بها أو ناقشها أثناء بحثه و خوضه في مسائل الكتاب،و إرجاعها إلى مصادرها الأصليّة،و الإشارة إلى ذلك في الهامش.
3-لجنة التّرجمة،و عملها ترجمة جميع الأعلام و الرّواة-على اختلاف طبقاتهم و مذاهبهم- الوارد ذكرهم في الكتاب،مع ترجمة مختلف المدارس الفقهيّة و الطّوائف و الفرق الإسلاميّة.
4-لجنة تقويم النّصّ،و عملها تقطيع النّصّ و توزيع فقراته بحسب عناوينه و معنوناته،و جمله حسب ما تقتضيه العبارة،مع ملاحظة جميع الاختلافات الواردة بين النّسخ الخطّيّة و النّسخة
ص:84
الحجريّة المطبوعة،و تثبيت ما ترجّح منها،و الإشارة إلى المرجوح عليه في الهامش عند اقتضاء ذكره.
5-لجنة تنزيل الهامش،و عملها تنزيل هوامش الكتاب،بالاستفادة من كلّ ما أنجزته اللّجان المتقدّمة،في صياغة الهوامش النّهائيّة بخطّ واضح و جميل.
6-مهمّة الإشراف النّهائيّ فنّيّا على الكتاب-متنا و هامشا-و ضبط الملاحظات النّهائيّة، مع مراعاة فنّيّة التّرقيم و التّنقيط و صياغة الكلمات الإملائيّة القديمة بقالب فنّيّ جديد،مع وضع فهارس الكتاب.ملتمسين لهم التّوفيق و التّسديد في إخراج بقيّة الأجزاء الأخرى بالشّكل المطلوب إن شاء اللّه تعالى.
و لا يفوتنا هنا أن نتقدّم بالشّكر و الامتنان إلى كلّ الإخوة المحقّقين،الّذين شاركوا في تحقيق و إخراج هذا الجزء من الكتاب،و هم:حجج الإسلام الشّيخ علي اعتمادي،و الشّيخ نوروز علي حاجي آبادي،و الشّيخ صفاء الدّين البصري،و الشّيخ عبّاس معلّمي،و الشّيخ محمّد بشيري، و الشّيخ هادي علي زاده،و السّيّد رضا سيادت،و الشّيخ أبو الحسن ملكي،و الشّيخ محمّد علي ملكي،و السّيّد طالب الموسوي،و الشّيخ محمّد أكبري،و السيد حسن الشريفي.كما نشكر سماحة الشّيخ إلهي الخراساني في إشرافه على التّحقيق،ملتمسين لهم جميعا التوفيق و التّسديد في إنجاز بقيّة أجزاء الكتاب،إن شاء اللّه تعالى.
ختاما نسأل اللّه العليّ القدير أن يعيننا على أنفسنا،و يأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير،و أن يتقبّل منّا هذا القليل خالصا لوجهه،و يجعلنا من محيي تراث مدرسة أهل البيت عليهم السّلام،و يجعلنا نعم خلف لأولئك الماضين من علمائنا العظماء الّذين كانوا-و بحقّ-نعم سلف لنا،ملتمسين بذلك القربة إليه و حسن الثّواب،إنّه وليّ النّعم،و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلاميّة
ص:85
ص:86
منتهی المطلب فی تحقیق المذهب
للعلامه الحلی الحسن بن یوسف بن علی بن المطهر
تحقیق قسم الفقه فی مجمع البحوث الاسلامیه.
ص :1
ص :2
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه المتفضّل فلا يبلغ مدحته الحامدون،المنعم فلا يحصي نعمته (1)العادّون، الكريم فلا يحصر مدى كرمه الحاصرون،الكامل في ذاته و صفاته فلا يقدر على إدراكه المجتهدون،القديم فلا أزليّ سواه،الباقي فكلّ شيء فان عداه،القادر فكلّ موجود منسوب إلى قدرته،العالم فكلّ مخلوق مندرج تحت عنايته،نحمده على إفضال أسداه إلينا، و نشكره على نوال تكرّم به علينا،و نستزيده من نعمه الجسام،و نسترفده من عطاياه العظام.
و الصّلاة على أشرف النّفوس الزّكيّة،و أعظم الذّوات القدسيّة،خصوصا على سيّد البريّة،محمّد المصطفى و عترته المرضيّة،صلاة باقية إلى يوم الدّين،مستمرّة على مرّ الدّهور و السّنين،و سلّم عليهم أجمعين.
أمّا بعد:فإنّ اللّه تعالى لمّا أوجد الأشياء بعد العدم بمقتضى إرادته،و ميّز بينها بحسب عنايته،جعلها متفاوتة في النّقصان و الكمال،و متباينة بالثّبات و الزّوال،و اقتضت الحكمة الإلهيّة و العناية الأزليّة تشريف الإنسان على غيره من الموجودات السّفليّة،و تفضيله على جميع المركّبات العنصريّة بما أودع فيه من العقل الدّرّاك الفارق بين متشابهات الأمور، و الباقي إدراكه على تعاقب الدّهور.
ثمَّ لمّا كان مقتضى الحكمة الأزليّة تتميم هذا التّكميل،و تحصيل هذا التّشريف على أبلغ تحصيل،و كان ذلك إنّما يتمّ بمعرفته،و يحصل بالعلم بكمال حقيقته،لا جرم،أمر
ص:3
بالسّلوك في هذا الطّريق،و كلّف العلم به على وجه التّحقيق،و لمّا كان الإنسان مطبوعا على النّسيان،و مجبولا على النّقصان،كان من مقتضى الحكمة تكرير التّذكير المقرون بالانقياد،المشفوع بالاستعداد لتحصيل المراد،فأمر بالشّرائع على مقتضى حكمته،و سنّ السّنن بموجب لطفه بخليقته.
ثمَّ لمّا كان الوصول إلى معرفة الشّرائع على كلّ واحد متعذّرا،و الوقوف على مقاصد السّنن متعسّرا،لا جرم،أوجب النّفور على بعض المكلّفين بقوله فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ (1).
و لمّا لطف اللّه تعالى لنا بالبحث عن الشّريعة المحمّديّة و الملّة الأحمديّة على أحقّ الطّرائق و أصدقها و أكمل المسالك معرفة و أوثقها،و هي طريقة الإماميّة المتمسّكين بأقوال الأئمّة المعصومين من الزّلل في القول و العمل صلوات اللّه عليهم أجمعين،أحببنا أن نكتب دستورا في هذا الفنّ يحتوي على مقاصده،و يشتمل على فوائده،على وجه الإيجاز و الاختصار،متجنّبين الإطالة و الإكثار،مع ذكر الخلاف الواقع بين أصحابنا،و الإشارة إلى مذاهب المخالفين المشهورين،مع ذكر ما يمكن أن يكون حجّة لكلّ فريق على وجه التّحقيق و قد وسمناه:ب(منتهى المطلب في تحقيق المذهب)و نرجو من لطف اللّه تعالى أن يكون هذا الكتاب بعد التّوفيق لإكماله أنفع من غيره.
أمّا أوّلا:فبذكر الخلاف الواقع بين الأصحاب و المخالفين مع ذكر حججهم و الرّدّ على الفاسد منها.
و أمّا ثانيا:فباشتماله على المسائل الفقهيّة الأصليّة و الفرعيّة على وجه الاختصار،فكان هذا الكتاب متميّزا عن غيره من الكتب.
و قد رتّبنا هذا الكتاب على أربع قواعد،و قبل الخوض في المقصود،لا بدّ من تقديم مقدّمات:
ص:4
قد بيّنا في كتبنا العقليّة:انّ اللّه تعالى إنّما فعل الأشياء المحكمة المتقنة لغرض و غاية، لا لمجرّد العبث و الاتّفاق (1)-كما قاله بعض من لا تحصيل له (2)-و لا شكّ انّ أشرف الأجسام السّفليّة،هو:نوع الإنسان،فالغرض لازم في خلقه و لا يمكن أن يكون الغرض منه حصول ضرر له،فإنّ ذلك إنّما يقع من المحتاج أو الجاهل،تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، فلا بدّ و أن يكون هو النّفع،و لا يجوز عوده إليه تعالى لاستغنائه،فلا بدّ و أن يكون عائدا إلى العبد.
ثمَّ لمّا بحثنا عن المنافع الدّنيويّة وجدناها في الحقيقة غير منافع،بل هي دفع آلام،فإن كان فيها شيء يستحقّ أن يطلق عليه اسم النّفع فهو يسير جدّا،و مثل هذا الغرض لا يمكن أن يكون غاية في حصول هذا المخلوق الشّريف،خصوصا مع انقطاعه و شوبه بالآلام المتضاعفة،فلا بدّ و أن يكون الغرض شيئا آخر ممّا يتعلّق بالمنافع الأخرويّة.
و لمّا كان ذلك النّفع من أعظم المطالب،و أنفس المقاصد،لم يكن مبذولا لكلّ أحد، بل إنّما يحصل بالاستحقاق،و ذلك لا يكون إلاّ بالعمل في هذه الدّار،المسبوق بتحصيل كيفيّة العمل المشتمل عليه هذا العلم،فكان ذلك من أعظم المنافع في هذا العلم،و الحاجة إليه ماسّة جدّا لتحصيل هذا النّفع و التّخلّص من العقاب الدّائم.
ص:5
اعلم انّ العلوم قد يتقدّم بعضها على بعض إمّا لتقدّم موضوعاتها،أو لتقدّم غاياتها،أو لاشتمالها على مبادئ العلوم المتأخّرة،أو لأمور أخر ليس هذا موضع ذكرها.
و الحقّ عندي انّ مرتبة هذا العلم متأخّرة عن غيره بالاعتبار الثّالث،و ذلك لافتقاره إلى سائر العلوم،و استغنائها عنه.
أمّا تأخّره عن علم الكلام فلأنّ هذا العلم باحث عن كيفيّة التّكليف،و هو لا شكّ مسبوق بالبحث عن معرفة التّكليف و المكلّف.
و أمّا تأخّره عن علم أصول الفقه فظاهر،لأنّ هذا العلم ليس ضروريّا بل لا بدّ فيه من الاستدلال،و أصول الفقه متكفّل ببيان كيفيّة ذلك الاستدلال،و بهذا الاعتبار كان متأخّرا عن علم المنطق المتكفّل ببيان فساد الطّرق و صحّتها.
و أمّا اللّغة و النّحو و التّصريف،فلأنّ مبادئ هذا العلم إنّما هو القرآن و السّنّة و غيرهما،و لا شكّ في انّ القرآن و السّنّة عربيّان فوجب تقديم البحث عن اللّغة و النّحو و التّصريف على البحث عن هذا العلم،فهذه العلوم الّتي يحتاج هذا العلم إلى تقدّم معرفتها .
اعلم انّ كلّ علم على الإطلاق لا بدّ و أن يكون باحثا عن أمور لا حقة لغيرها،و تسمّى تلك الأمور مسائل ذلك العلم،و ذلك الغير موضوعه،و لا بدّ له من مقدّمات يتوقّف الاستدلال عليها،و من تصوّرات للموضوع و أجزائه و جزئيّاته إن كانت،و يسمّى ذلك أجمع بالمبادي.
ص:6
و لمّا كان الفقه باحثا عن الوجوب و النّدب و الإباحة و الكراهة و التّحريم و الصحّة و البطلان،لا من حيث هي،بل من حيث هي عوارض لأفعال المكلّفين،لا جرم،كان موضوع هذا العلم هو أفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء و التّخيير.
و مبادئه هي:المقدّمات الّتي يتوقّف عليها ذلك العلم كالقرآن،و الأخبار،و الإجماع، و التّصوّرات الّتي يتوقّف عليها ذلك العلم.
و مسائله هي:المطالب الجزئيّة الّتي يشتمل عليها علم الفقه .
لا يمكن تحديد علم من العلوم إلاّ بالإضافة إلى متعلّقه،لدخول الإضافة فيه و كونها جزءا منه،و الفقه في اللّغة،هو الفهم،و أمّا في الاصطلاح،فهو عبارة عن العلم بالأحكام الشّرعيّة الفرعيّة،مستندا إلى الأدلّة التّفصيليّة،و قد بيّنا في أصول الفقه شرح هذا الحدّ على الاستقصاء (1).
أمّا المعقول،فهو انّ معرفة التّكليف واجبة،و إلاّ لزم تكليف ما لا يطاق،و لا يتمّ إلاّ بتحصيل هذا العلم قطعا،و ما لا يتمّ الواجب إلاّ به يكون واجبا،فيكون تحصيل هذا العلم واجبا.
و أمّا المنقول،فقوله تعالى:
ص:7
فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1).
و يدلّ عليه ما تقدّم من القرآن،فإنّه دلّ على وجوب التّفقّه على الطّائفة من كلّ فرقة، و لو كان واجبا على الأعيان،لكان واجبا على كلّ فرقة.
و لأنّ الأصل عدم الوجوب،و الدّليل إنّما ينهض بالوجوب على الكفاية.
و لأنّ الوجوب على الأعيان ضرر عظيم،و هو منفيّ اتّفاقا .
اعلم انّ النّاس على أقسام ثلاثة بالنّسبة إلى العلم.
أحدها:الّذي هو الأصل،و المستنبط له،و المظهر لكنوزه،و الدّال على فوائده و كأنّه الخالق لذلك العلم و المبتدع له،و هذا القسم أشرف الأقسام و أعلاها.
و ثانيها:من كان له مرتبة دون هذه المرتبة،و حظّه من العلم أنقص من حظّ الأوّل، و كان سعيه و كدّه فهم ما يرد عليه من العلوم المنقولة عن الأوّل،و تحصيل ما أراده الأوّل، و لهذا القسم أيضا شرف قاصر عن شرف الأوّل.
و ثالثها:من قصر عن هاتين المرتبتين و لم يفز بأحد هذين المقامين،و هم الغالب في زماننا،و هم في الحقيقة ينقسمون إلى قسمين:
الأوّل:من تعاطى درجة العلم،و هم المتجاهلون،و غاية سعيهم،الرّدّ على أهل
ص:8
الحقّ،و التّخطئة لهم،و جبر نقصهم بذلك،و هم الحشويّة (1).
الثّاني:من لم تسم نفسه إلى ذلك،و هم الجاهلون،و هم أشرف من اولى هذه المرتبة، و إلى ذلك (2)أشار مولانا أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه بقوله:«النّاس ثلاثة:
عالم ربّانيّ،و متعلّم على سبيل نجاة،و همج رعاع أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح،لم يستضيئوا بنور العلم،و لم يلجأوا إلى ركن وثيق» (3).
ما كان رواته ثقاة عدولا،و في بعضها،في الحسن،و نريد به:ما كان بعض رواته قد أثنى عليه الأصحاب و إن لم يصرّحوا بلفظ التّوثيق له،و في بعضها في الموثّق،و نعني به:ما كان بعض رواته من غير الإماميّة كالفطحيّة (1)،و الواقفيّة (2)،و غيرهم،إلاّ انّ الأصحاب شهدوا بالتّوثيق له .
لمّا رأينا انّ الغالب على النّاس في هذا الزّمان الجهل،و طاعة الشّهوة و الغضب و الرّفض،لإدراك المعاني القدسيّة،و ترك الوصول إلى أنفس المعارج العلويّة،و اقتنائهم لرذائل الأخلاق،و اتّصافهم بالاعتقادات الباطلة على الإطلاق،و التّشنيع على من سمت همّته (3)عن درجتهم،و طلبت نفسه الصّعود عن منزلتهم،حتّى انّا في مدّة عمرنا هذا، و هو اثنان و ثلاثون سنة لم نشاهد من طلاّب الحقّ إلاّ من قلّ،و من القاصدين للصّواب إلاّ من جلّ، أحببنا إظهار شيء من فوائد هذا العلم عسى[أن] (4)يحصل لبعض النّاس مرتبة الاقتداء، و يرغب في الاقتفاء و ذلك من أشرف فوائد وضع هذا الكتاب،لما فيه من السّنّة المقتدى
ص:10
بها،الفائز صاحبها بالسّهم المعلّى من السّعادة،و المتخلّص من مراتب الشّقاوة،فشرعنا في عمل هذا الكتاب المحتوي على المسائل اللّطيفة،و المباحث الدّقيقة الشّريفة،و إن كان أصحابنا المتقدّمون و علماؤنا السّابقون-رضوان اللّه عليهم-قد أوضحوا سبيل كلّ خير و نهجوا طريق كلّ فائدة،خصوصا شيخنا الأقدم،و الإمام الأعظم،المستوجب للكرامة، و المستحقّ لمراتب الإمامة،أبو جعفر محمّد بن الحسن الطّوسي-قدّس اللّه روحه الشّريفة- فإنّه الواصل بنظره الثّاقب إلى أعظم المطالب،و لمّا انتقل إلى جوار الرّحمن،و نزل بساحة الرّضوان،درس هذا العلم بعده،و طمست معالمه،و انمحت مراسمه،و لم يتعلّق المتأخّرون بعده إلاّ بفوائده،و لم يغترفوا إلاّ من بحر فرائده،و لم يستضيئوا إلاّ بأنواره،و لم يستخرجوا إلاّ درر نثاره،إلاّ انّ في أصحابنا المتأخّرين عنه زمانا،من استنبط بنظره ما لم يثبته في كتبه،و إن كان يسيرا لا اعتداد (1)به،فوضعنا هذا الكتاب الجامع لتلك الفوائد، و الحاوي لتلك الفرائد.
هذا مع انّ كتابنا هذا لا يخلو عن مطالب دقيقة،و مباحث عميقة،لم توجد في شيء من صحف الأوّلين،و لم تسطر في دفاتر الأقدمين،ممّا استنبطناه من فكرنا و نظرنا،و من اللّه تعالى نستمدّ المعونة و التّوفيق،و أن يجعل ذلك خالصا لوجهه،عليه توكّلت و إليه أنيب.
ص:11
ص:12
في العبادات،و تشتمل على عدّة كتب:
و فيه مقدّمة و مقاصد:
ص:13
ص:14
الطّهارة لغة:النّظافة،و شرعا قال الشّيخ:ما يستباح به الدّخول في الصّلاة (1).و أورد على طرده إزالة النّجاسة،و على عكسه وضوء الحائض (2).
و الجواب عن الأوّل:المعنى ما يستباح به الدّخول على سبيل الاستقلال في وقت ما، فيخرج الإزالة بخلاف الطّهارة الّتي يستباح بها إذا كانت الحال حال ضرورة.
و عن الثّاني:بالمنع من تسميته طهارة،و قد رواه محمّد بن مسلم (3)عن الصّادق عليه السّلام،قلت:الحائض تتطهّر يوم الجمعة و تذكر اللّه تعالى؟قال:«أمّا الطّهر فلا و لكن تتوضّأ. (4)الحديث».
لا يقال:لا شكّ في صدق الوضوء عليه،و هو نوع من الطّهارة،فيستلزم صدق الجنس.
لأنّا نقول:لفظة النّوع يقال عليه لا لوجوده فيه،بل بالاشتراك.
و هذا الحدّ بحسب الغاية،و للشّيخ حدّ آخر بالنّظر إلى نفس الماهيّة (5)،و ذلك انّه لمّا نظرنا إلى الأنواع وجدناها مشتركة في كونها أفعالا،و انّها واقعة في البدن،مقترنة بالنّيّة و التّرتيب،يراد لأجل الصّلاة،و انّ ما عدا هذه أمور مخصّصة لكلّ نوع،فأخذنا الأوّل في حدّ المشترك،فقلنا:انّها أفعال مخصوصة في البدن على وجه مخصوص يستباح بها عبادة مخصوصة.
ص:15
إذا عرفت هذا،فنقول:الحقّ انّ لفظة الطّهارة بالنّسبة إلى المعنى الشّرعيّ حقيقة شرعيّة،مجاز لغويّ.
أمّا الأوّل:فللسّبق إلى الفهم بالنّسبة إلى عادة الشّرع،و ذلك دليل الحقيقة.
و أمّا الثّاني:فظاهر،لعدم فهم أهل اللّغة ذلك،و منه يظهر عدم اشتراط التّوقيف فيه، و إذا نظر إلى الموضوعين كان مشتركا،و إذا ظهر ذلك ثبت انّها من المنقولات،و هكذا حكم سائر الألفاظ الشّرعيّة.
تذنيب:جعل لفظ الطّهارة واقعا على أنواعها الثّلاثة بالتّواطؤ لاشتراكها فيما ذكرناه أولى من جعلها مشتركة و مجازا في أحدها .
الطّهارة،إمّا أن تكون صغرى أو كبرى،و الصّغرى قسمان:وضوء و تيمّم، و الكبرى:الغسل،و الشّيخ في نهايته قسّمها إلى وضوء و تيمّم (1).
و وجه الاعتذار انّه ذكر أقسام الطّهارة بالنّسبة إلى الضّرورة و الاختيار،و الطّهارة الضّرورية هي التّيمّم.
و لمّا كان أغلب الطّهارة في الاختيار الوضوء،ذكره و أعرض عن ذكر الغسل الّذي هو نادر،أو نقول:انّ الوضوء شامل للغسل بالنّظر إلى الاعتبار اللّغويّ و هو التّحسين.
الطّهارة إمّا أن تكون واجبة،أو مندوبة،و لمّا كانت الطّهارة غير مقصودة لذاتها بل لغيرها،لا جرم،كان وجوبها و ندبها تابعين لوجوب ذلك الغير و ندبيّته.
فالوضوء،إنّما يجب لوجوب الصّلاة أو الطّواف،أو لمسّ كتابة القرآن إن وجب بنذر و شبهه على رأي (2)،أو للنّذر و شبهه.
ص:16
و الغسل،إنّما يجب لما ذكرنا،و للصّوم إذا بقي لطلوع الفجر مقدار الغسل،و لصوم المستحاضة مع انغماس القطنة،و لدخول المساجد،و قراءة العزائم إن وجبا بما ذكرناه، و للنّذر و شبهه.
و التّيمّم،إنّما يجب للصّلاة الواجبة مع الشّروط الآتية،و للخروج عن المسجدين إذا أجنب فيهما،و للنّذر و شبهه.
و المندوب لما عدا ذلك،و قد يأتي مفصّلا في أبوابه .
الماء على ضربين:مطلق و مضاف،و المراد من المطلق،هو الّذي يصحّ عليه السلام بانفراده مع امتناع سلبه عنه أو الباقي على أوصاف الخلقة،و يقع عليه السلام الماء من غير إضافة،و ليس المراد من أوصاف الخلقة الجميع،كالحرارة و ضدّها،بل الأوصاف الّتي هي مدار الطّهوريّة،و من المضاف خلاف ذلك.
و المطلق على ضربين:جار،و راكد.
و الرّاكد على ضربين:ماء البئر،(و غير ماء البئر) (1).
و غير ماء البئر على ضربين:قليل و كثير،و الفقهاء بحثوا عن أحكام هذه الأقسام لاختلافها بالنّسبة إلى وقوع النّجاسة فيها.
،سواء نزل من السّماء أو نبع من الأرض،أو اذيب من الثّلج و البرد (2)،أو كان ماء بحر و غيره.
أمّا الحكم الأوّل،فبالنّصّ و الإجماع.
ص:17
أمّا النّص،فقوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1)و قوله وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (2).
و ما رواه الجمهور من قوله عليه السّلام:(الماء طهور لا ينجّسه شيء) (3).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:(انّ اللّه جعل التّراب طهورا كما جعل الماء طهورا) (4).
و أمّا الإجماع،فلأنّ أحدا لم يخالف في انّ الماء المطلق طاهر.
(و أمّا المعقول،فلأنّ النّجاسة حكم طارئ على المحل،و الأصل عدم الطّريان،و لأنّ تنجّس الماء يلزم منه الحرج المنفيّ إجماعا) (5).
و أمّا الثّاني،فللنّصّ و الإجماع.
أمّا النّص،فقوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (6).
و ما ورد في النّصوص المتقدّمة من انّه طهور (7)،و الطّهور من صيغ المبالغة و الطّهارة لا تقبل الشدّة و الضّعف،فتحمل المبالغة على التّعدّي عن المحلّ بأن يكون طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره،و قد نصّ الجوهريّ (8)على انّ الطّهور هو الّذي يتطهّر به (9).
ص:18
و قول أبي حنيفة (1):الطّهور هو الطّاهر (2)،و قول مالك (3):الطّهور ما يتكرّر به الطّهارة (4)،ضعيفان لما تقدّم،و لقوله عليه السّلام:(طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا) (5)و معناه:مطهّر إناء أحدكم.رواه الجمهور.و لقوله عليه السّلام:
(جعلت لي الأرض مسجدا و ترابها طهورا) (6)و لو أراد الطّاهر،لم يثبت المزيّة.و لقوله عليه السّلام عن ماء البحر و قد سئل عن الطّهارة به:(انّه الطّهور ماؤه) (7)و لو أراد الطّاهر،لم يحصل الجواب.
و أمّا الإجماع،فلأنّ أحدا لم يخالف فيه سوى ما نقل عن
ص:19
سعيد بن المسيّب (1)،و عبد اللّه بن عمرو بن العاص (2)،انّه لا يجوز التّوضّؤ بماء البحر مع وجود غيره (3)،و هو محجوج بالإجماع،و بما رواه الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه سئل عن التّوضّؤ بماء البحر؟فقال:(هو الطّهور ماؤه،الحلّ ميتته).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن عبد اللّه بن سنان (4)،قال:
سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ماء البحر أ طهور هو؟قال:(نعم) (5).
احتجّا بأنّه نار (6).
و الجواب:إن أرادا به انّه في الحال كذلك،فهو تكذيب للحسّ،و إن أرادا صيرورته كذلك،فلا يمنع الطّهوريّة (7).
اللّون،أو الطّعم،أو الرّائحة،فإن كان تغيّره بالنّجاسة،نجس سواء كان قليلا أو كثيرا،جاريا أو راكدا،و هو قول كلّ من يحفظ عنه العلم،و يدلّ عليه الإجماع،فإنّي لا أعرف فيه مخالفا،و ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى
ص:20
اللّه عليه و آله قال:(خلق الماء طهورا لا ينجّسه إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه) (1).
و من طريق الخاصّة ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:
(كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب،فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطّعم فلا توضّأ منه و لا تشرب) (2).و لأنّ انفعاله بالنّجاسة و تغير أوصافه بها يدلّ على قهرها له، و إزالة قوّة الماء الّتي باعتبارها كان مطهّرا.
و إن كان تغيّره بمرور رائحة النّجاسة عليه لم ينجس،لأنّ الرّائحة ليست نجاسة.
و إن كان تغيّره بملاقاة جسم طاهر،فإن لم يسلبه التّغيّر إطلاق الاسم فهو باق على طهارته.و يصحّ التّطهّر به إجماعا إن لم يمكن التّحرّز منه كالطّحلب،و ما ينبت في الماء، و ما يتساقط من ورق الشّجر النّابت فيه،أو يحمله الرّيح،و كالتّراب الّذي أصله مطهّر، و كالملح الّذي أصله الماء،كالبحريّ.و كذا ما تغيّر الماء بمجاورته من غير ممازجته كالعود و الدّهن،لأنّ الموجب للتّطهير هو كونه ماء طاهرا و هو موجود مع التّغيّر.
أمّا لو امتزج بما يمكن التّحرّز منه-كقليل الزّعفران-فإنّه باق على أصله في الطّهوريّة إجماعا منّا.و به قال أبو حنيفة (3).
و قال مالك (4)و الشّافعيّ (5):
ص:21
لا يجوز الطّهارة به (1).و عن أحمد (2)روايتان (3).
لنا:عموم الآية،و قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (4)و النكرة في سياق النّفي للعموم،فلا يجوز التّيمّم مع وجود هذا الماء،و لقوله عليه السّلام لأبي ذر (5):
(التّراب كافيك ما لم تجد الماء) (6)و لأنّ الصّحابة كانوا يسافرون و غالب أسقيتهم الأدم، و هي تغيّر الماء غالبا،و لأنّه طهور خالطه طاهر و لم تغيّر جنسه و لا جريانه،فأشبه المتغيّر بالدّهن.
اعتبر بما يوجد فيه الرّائحة،فإن كان بحيث لو امتزج به مثله في المقدار سلبه الاسم،منع ها هنا
ص:22
من الطّهوريّة،و إلاّ فلا .
و كذا بالثّلج نفسه إن جرى على العضو المغسول،أمّا الملح الذّائب إذا كان أصله السّبخ،فلا .
و ماء ورد لا يتغيّر إطلاق الاسم بامتزاجه به فمزجه،جازت الطّهارة به لأنّه حينئذ مطلق.و هو إحدى الرّوايتين عن أحمد (1).و في الأخرى:لا يجوز (2)،للعلم بأنّه استعمل المضاف في الوضوء،و يبطل بأنّه لمّا لم تظهر صفة المائع،بقي الاعتبار بالماء،كما لو مزج ما يكفيه لطهارته بمضاف ثمَّ استعمله و بقي قدر المضاف فإنّه وافق على الصّحّة.و هل يجب عليه المزج للطّهارة أم لا؟ نصّ الشّيخ في المبسوط على عدم الوجوب (3)،و وجهه انّه غير واجد للماء المطلق،فحصل شرط التّيمّم.و عندي فيه نظر،فإنّه بعد المزج يجب عليه الوضوء به،لكونه واجدا للماء المطلق،فقبل المزج هو متمكّن من الماء المطلق،فلا يجوز له التّيمّم .
فإن سلبه إطلاق الاسم لم يجز الطّهور به،و لا يخرج عن كونه طاهرا،و إلاّ فلا بأس و لكنّه مكروه.و لا خلاف بين عامّة أهل العلم في جواز الطّهارة به إلاّ ابن سيرين (4)و (5)لما رواه الجمهور انّه عليه السّلام توضّأ من بئر بضاعة و كان ماؤها نقاعة الحنّاء (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الماء
ص:23
الآجن يتوضّأ منه إلاّ أن يجد غيره (1).
فإن سلبه إطلاق الاسم لم يجز،و إلاّ صحّ الوضوء به.
و اعلم أنّه لمّا كانت هذه الكيفيّات الثّلاث إنّما تحصل غالبا بالممازجة للنّجاسة،لا جرم،كانت مؤثّرة في زوال الوصف السّابق من حصول الطّهارة،أمّا غيرها من الكيفيّات فلا اعتبار به،لأنّه قد يحصل و إن لم يقع امتزاج.
.و قال أبو حنيفة (2)و مالك:لا يكره (3)،و للشّافعيّ قولان (4)،و عن أحمد روايتان (5).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه نهى عائشة (6)عن استعمال الشّمس و قال:(انّه يورث البرص) (7).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:(دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عائشة و قد وضعت قمقمتها (8)في الشّمس فقال:يا حميراء،ما
ص:24
هذا؟قالت:أغسل رأسي و جسدي،قال:لا تعودي فإنّه يورث البرص) (1).
و ما رواه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:(قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:الماء الّذي يسخن بالشّمس لا توضّأوا به،و لا تغتسلوا به،و لا تعجنوا به،فإنّه يورث البرص) (2).
و روى الشّيخ في حديث مرسل،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:(لا بأس بأن يتوضّأ بالماء الّذي يوضع في الشّمس) (3).
و في طريق هذا الحديث محمّد بن سنان (4)،و فيه قول،و الجمع بين الأحاديث بعد تسليمها،حمل النّهي على التّنزيه و الكراهة،و يدلّ عليه العلّة الّتي أومأ إليها صلّى اللّه عليه و آله الدّالّة على المصلحة العائدة إلى المنافع الدّنيويّة.
و يحتمل عدمه و اختصاصه بما يخاف منه المحذور كالشمس في البلاد الحارّة دون المعتدلة،أو فيما يشبه آنية الحديد و الرّصاص دون الذّهب و الفضّة لصفاء جوهرهما .
فالأقرب بقاء الكراهة،لعدم خروجه عن كونه مشمّسا.
ص:25
،لبقاء الاسم خلافا لمجاهد (1)و (2).
و كذا ما كان مسخنا من منبعه.
و روى الجمهور،عن شريك قال:أجنبت و أنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجمعت حطبا و أحميت الماء فاغتسلت فأخبرت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم ينكر (3).
و روى الشّيخ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،انّه اضطرّ إليه و هو مريض فأتوه به مسخنا فاغتسل (4).بل يكره تغسيل الميّت منه،لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:(لا يسخن الماء للميّت) (5)و لأنّ فيه أجزاء ناريّة،فلا تعجّل له.
و قد نصّ أبو عبد اللّه عليه السّلام على هذه العلّة فيما رواه الشّيخ عنه عليه السّلام قال:
(لا يسخن للميّت الماء،لا تعجّل له النّار) (6)و في الطّريق ضعف،فإن خاف الغاسل من
ص:26
البرد زالت الكراهة على ما ذكره الشّيخ رحمه اللّه (1)و المفيد (2)،لأنّ فيه دفعا للضّرر.
و يكره التّداوي بالمياه الحارّة من الجبال الّتي يشمّ منها رائحة الكبريت،ذكره ابن بابويه رحمه اللّه (3)، (4)،لأنّها من فوح جهنّم على ما روي (5).
و لا فرق بين أن يكون مسخنا بالنّجاسة أو لا،إذا لم يعلم وصول أجزاء النّجاسة إليه، عملا بالأصل السّالم عن ممازجة النّجاسة.و عن أحمد في كراهيّة الطّهارة بالمسخن بالنّجاسة روايتان (6).
أمّا الأوّل:فبالإجماع،و بالنّصوص الدّالّة على نجاسة المتغيّر (7).
و أمّا الثّاني:فبالأصل الدّالّ على الطّهارة،السّليم عن المعارض و هو المتغيّر،و الملاقاة لا توجب التّنجيس له لما يأتي،و كذلك البحث في الواقف الزّائد على الكرّ،فإنّ ما عدا المتغيّر إن بلغ كرّا فهو على الأصل،و إلاّ لحقه الحكم،لحصول الملاقاة الموجب للتّنجيس السّالم عن بلوغ الكرّيّة.
و قال الشّافعيّ:إن كانت النّجاسة تجري مع الماء،فما فوقها و ما تحتها طاهران.
و أمّا الجرية الّتي فيها النّجاسة فحكمها كالرّاكد-و عنى بالجرية،القدر الّذي بين حافتي النّهر عرضا عن يمين النّجاسة و شمالها-إن كان أقلّ من قلّتين فهو نجس و إلاّ فلا، و إن كانت النّجاسة واقفة و الماء يجري عليها،فلكلّ جرية حكم نفسها إن كانت أقلّ من قلّتين نجست و إلاّ فلا (1).
لنا:ما رواه الجمهور من قوله عليه السّلام:(الماء كلّه طاهر لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته) (2)و ذلك عامّ إلاّ ما أخرجه الدّليل.
و ما رواه الشّيخ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا بأس بأن يبول الرّجل في الماء الجاري.) (3)و لأنّ الماء الجاري قاهر للنّجاسة غالب عليها و هي غير ثابتة،و لأنّ الأصل الطّهارة،فيستصحب حتّى تظهر دلالة تنافيه،و لأنّه إجماع.
فلا تعتبر الجرية الّتي فيها النّجاسة بانفرادها،خلافا لبعض الشّافعيّة حيث حكموا بنجاستها إن كانت دون القلّتين (4)،لأنّه ماء متّصل متدافع،فيمنع استقرار الجرية .
لم يلحقه حكم التّنجيس.و قال بعض الشّافعيّة:إن بلغت الجرية قلّتين لم تنجس،و إلاّ كانت نجسة (5).و ليس بجيّد،لما تقدّم .
نعم،الأقرب اشتراط الكرّيّة،لانفعال
ص:28
النّاقص عنها مطلقا.
و لو كان القليل يجري على أرض منحدرة،كان ما فوق النّجاسة طاهرا .
لاتّحاده بالاتّصال،فتتناوله الأدلّة،و لو كان الجاري متغيّرا،اعتبر في الواقف الكرّيّة .
و يلوح من كلام الشّيخ في التّهذيب و المبسوط،اشتراط الجريان من الميزاب (1)،لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه في ميزابين سالا،أحدهما بول،و الآخر ماء المطر،فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضرّ ذلك (2).
و استدلّ الشّيخ على الاشتراط بما رواه في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر (3)،عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام،عن البيت يبال على ظهره و يغتسل من الجنابة ثمَّ يصيبه المطر،أ يؤخذ من مائه و يتوضّأ للصّلاة؟فقال:(إذا جرى فلا بأس) (4).
و نحن نمنع هذا الشّرط و نحمل الجريان على النّزول من السّماء لعدم التّقييد في الخبر، و لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه:عن الرّجل يمرّ في ماء المطر و قد صبّ فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلّي فيه،قبل أن يغسله؟فقال:(لا يغسل ثوبه و لا رجله و يصلّي فيه فلا بأس) (5).
ص:29
لا يقال:هذا يتناول حال الانقطاع.
لأنّا نقول:نحمله على غير تلك الحالة عملا بما رويناه أوّلا،و لما رواه ابن يعقوب (1)، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث،قلت:يسيل عليّ من ماء المطر أرى فيه التّغيير و أرى فيه آثار القذر فتقطر القطرات عليّ و ينتضح منه عليّ،و البيت يتوضّأ على سطحه، فيكف (2)على ثيابنا،فقال:(ما بذا بأس،لا تغسله،كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهر) (3).
و لما رواه ابن بابويه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن السّطح يبال عليه فتصيبه السّماء فيكف فيصيب الثّوب،فقال:(لا بأس به،ما أصابه من الماء أكثر منه) (4).
و لأنّه بتقاطره يشبه الجاري،فيلحقه حكمه،و لأنّ الاحتراز منه يشقّ،و بالتّخفيف تندفع المشقّة.أمّا إذا استقرّ على الأرض،و انقطع التّقاطر ثمَّ لاقته نجاسة،اعتبر فيه ما يعتبر في الواقف،لانتفاء العلّة الّتي هي الجريان.
.و هو محكيّ عن أبي حنيفة (5).
و عن أحمد بن حنبل انّه قال (6):انّه بمنزلة الجاري (7).
لنا:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(هو بمنزلة الماء الجاري) (8)و لأنّ الضّرورة داعية إليه،و الاحتراز عنه حرج عظيم،فيكون منفيّا،و لأنّه
ص:30
بجريانه من المادّة يشبه الجاري فيلحقه حكمه،و أمّا اشتراط المادّة،فلما رواه الشّيخ،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(ماء الحمّام لا بأس به إذا كان له مادّة) (1)و لأنّه بوجودها يقهر النّجاسة،فلا يساوي حال عدمها،و يشترط عدم العلم بالنّجاسة في المادّة،لا العلم بعدمها،فإنّ بينهما فرقا كثيرا.
أمّا الأوّل:فلأنّ النّجس لا يطهر بالجريان.
و أمّا الثّاني:فللعموم،و لأنّه متعذّر،و لأنّه حرج.
ص:31
الوجه ذلك،لأنّ ما قصر عنه مساو له،فلا يفيد حكما ليس له .
لو اتّصلت به بانبوبة أو شبهها،لا حال انقطاعها عنه .
ففي إلحاقه بماء الحمّام نظر .
ما لم يغلب عليه بحيث يستولي عليه،لأنّ الصّادق عليه السّلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري (1)،و لو تنجّس الجاري،لم يطهر إلاّ باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله.
بن صالح بن حيّ (1)،حكاه الطّحاويّ (2)، (3)،و روي التّقدير بالقلّتين (4).
و ذهب الشّافعيّ و أحمد إلى التّقدير بالقلّتين (5).
و قال أبو حنيفة:إن كان الماء يصل بعضه إلى بعض نجس بحصول النّجاسة فيه،و إلاّ فلا (6).و فسّره أبو يوسف (7)، (8)،و الطّحاويّ بحركة أحد الجانبين عند حركة الآخر
ص:33
و عدمها،فالموضع الّذي لم يبلغ التّحرّك إليه لم ينجس.
و قال بعضهم:ما كان كلّ من طوله و عرضه عشرة أذرع في عمق شبر لم ينجس،و إن كان أقلّ نجس بالملاقاة للنّجاسة،و إن بلغ ألف قلّة (1).
و قال المتأخّرون من أصحابه:الاعتبار بحصول النّجاسة علما أو ظنّا،و الحركة اعتبرت للظّنّ،فإن غلب ظنّ الخلاف،حكم بالطّهارة (2)، (3).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) (4)و في رواية:(لم يحمل خبثا) (5).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن معاوية بن عمّار (6)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) (7)و لأنّ الأصل الطّهارة،خرج ما دون الكرّ بما نذكره،فيبقى الباقي على الأصل إلى أن يظهر مناف.و لأنّ الإجماع واقع على التّقدير،و القول بالقلّتين باطل.
ص:34
أمّا أوّلا:فللمنع من الحديث الّذي استدلّ به الشّافعيّ (1)،و هو قوله عليه السّلام:
(إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا) (2)فإنّ الحنفيّة قد طعنوا فيه،حتّى قالوا:انّه مدنيّ (3)،فلو كان صحيحا لعرفه مالك (4).
و أمّا ثانيا:فلأنّ القلّة مجهولة،و قد (5)فسّرها أهل اللّغة بالجرّة (6)،و هي أيضا مجهولة،فالحوالة فيما يعمّ به البلوى،و ما تمسّ الحاجة إليه على مثل هذا الخفيّ مناف للحكمة،و أيضا:فإنّ ابن دريد (7)،قال:القلّة من قلال هجر عظيمة تسع خمس قرب (8)، فلا يكون منافيا لما ذهبنا إليه من الكرّ.و القول بمذهب أبي حنيفة باطل،لأنّه تقدير غير شرعيّ،و لأنّه مجهول،فإنّ الحركة قابلة للشّدّة و الضّعف،و التّعليق للطّهارة و النّجاسة بذلك إحالة على ما لا يعلم،و التّقدير بعشرة أذرع مجرّد استحسان من غير دليل،مع انّ الحديث الصّحيح عندهم يبطل ذلك كلّه،و هو انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتاه أهل الماء،فقالوا:
انّ حياضنا ترده السّباع،و الكلاب،و البهائم؟قال:(لها ما أخذت بأفواهها و لنا ما غبر) (9).
ص:35
و الحوض غالبا يتحرّك طرفاه بحركة بعضه و لا يبلغ هذا التّقدير،و لأنّ التّقدير بالحركة يؤدّي إلى الحكم بالطّهارة و النّجاسة في ماء واحد على تقدير اختلاف أوضاعه،و هو محال.
احتجّ أبو حنيفة (1)بقوله عليه السّلام:(لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم و لا يغتسلنّ فيه من جنابة) (2)أراد بالدّائم:الواقف،فلو لم يكن البول مؤثّرا في تنجيسه،لم يكن للنّهي فائدة.
و الجواب من وجهين:
الأوّل:أنّا نحمله على القليل جمعا بين الأدلّة.
الثّاني:المنع من حصر الفوائد فيما ذكرتم،فإنّه قد نهي عن البول في الجاري (3)، و النّهي فيهما نهي تنزيه.
لا يقال:ينتقض ما ذكرتموه بما رواه الشّيخ،عن عبد اللّه بن المغيرة (4)،عن بعض أصحابه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شيء و القلّتان جرّتان) (5).
و بما رواه في الصّحيح،عن صفوان (6)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحياض الّتي بين مكّة إلى المدينة تردها السّباع،و يلغ فيها الكلب،و تشرب منها الحمير،
ص:36
و يغتسل منها الجنب و يتوضّأ منه (1)؟فقال:(و كم قدر الماء؟)قلت:إلى نصف السّاق و إلى الرّكبة،فقال:(توضّأ منه) (2).
لأنّا نجيب عن الأوّل:بأنّه مرسل،و لأنّه مناف لعمل الأصحاب،و لأنّه ورد للتّقيّة، و لأنّه يحتمل أن يكون القلّة تسع ستّمائة رطل،و قد ذكرناه.
و عن الثّاني:بأنّه مناف لإجماع المسلمين،لأنّ القائل بالتّقدير لم يقدّره بذلك، و أيضا:فيحتمل انّ الإمام فهم من ذلك بلوغ الماء قدر كرّ جمعا بين الأدلّة .
،فالمشهور بين الأصحاب ما رواه ابن أبي عمير (3)،عن بعض أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الكرّ من الماء الّذي لا ينجّسه شيء ألف و مائتا رطل) (4)و هي حسنة عمل عليها الأصحاب،لكن اختلف الأصحاب في تعيين الرّطل،فقال الشّيخ (5)و المفيد:إنّه عراقيّ،و قدره مائة و ثلاثون درهما (6).
و قال المرتضى (7)و ابن بابويه:انّه مدنيّ،و قدره مائة و خمسة و تسعون درهما (8).
ص:37
و روى الشّيخ في الصّحيح،عن إسماعيل بن جابر (1)،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:الماء الّذي لا ينجّسه شيء؟قال:(ذراعان عمقه في ذراع و شبر سعته) (2)و تأوّلها الشّيخ على احتمال بلوغ الأرطال (3).و هو حسن،لأنّه لم يعتبر أحد من أصحابنا هذا المقدار.
و روى في الصّحيح،عن إسماعيل بن جابر،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الماء الّذي لا ينجّسه شيء؟قال:(كرّ)قلت:و ما الكرّ؟قال:(ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار) (4)و هي مدفوعة بمخالفة الأصحاب لها إلاّ ابن بابويه ذكر انّ الكرّ ثلاثة أشبار طولا في عرض في عمق (5)،و لعلّه تعويل على هذه الرّواية،و هي قاصرة عن إفادة مطلوبه.
و روى الشّيخ،عن أبي بصير (6)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكرّ من
ص:38
الماء كم يكون قدره؟قال:(إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصفا في مثله في ثلاثة أشبار و نصف في عمقه في الأرض فذلك الكرّ من الماء) (1)و هذه الرّواية عمل عليها أكثر الأصحاب (2)إلاّ انّ في طريقها عثمان بن عيسى (3)،و هو واقفيّ،لكنّ الشّهرة تعضدها.
و روى الشّيخ،عن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الكرّ ستّمائة رطل) (4)و تأوّلها الشّيخ باحتمال كون الأرطال ضعف العراقيّ (5)،و هو يقوّي ما فسّره الشّيخ في الرّطل.
و روى الشّيخ،عن عبد اللّه بن المغيرة،عن بعض أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الكرّ من الماء نحو حبّي هذا) (6)و أشار إلى حبّ من تلك الحباب الّتي تكون بالمدينة،فلا يمتنع أن يكون الحبّ يسع مقدار الكرّ.
و روى الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة (7)،قال:(إذا كان الماء أكثر من رواية لم
ص:39
ينجّسه شيء.) (1)و ليس بمناف لما أصّلناه،لتعليق الحكم على الزّيادة،فيحمل على بلوغ المقدّر،جمعا بين الأدلّة.
و روى محمّد بن يعقوب،عن الحسن بن الصّالح الثّوريّ (2)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الكرّ ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها) (3)و ليس يحضرني الآن حال الحسن بن صالح و أمّا الحسن بن صالح بن حيّ، فإنّه قدّر الكرّ بثلاثة آلاف رطل (4)،و هو مدفوع بما قدّمناه من الأحاديث،و بالإجماع، فإنّ أحدا لم يقدّره بذلك.
لأنّ إحالة الشّرع في ذلك إنّما هو على المتعارف .
لأنّه تقدير شرعيّ تعلّق به حكم شرعيّ فيناط به،و مجموعه[تكسيرا] (5)اثنان و أربعون شبرا و سبعة أثمان شبر.
ص:40
و قال القطب الرّاونديّ (1):مجموعه عشرة أشبار و نصف،لأنّ المراد ليس هو الضّرب، أمّا الشافعيّ فقد اختلف أصحابه في الرّواية عنه،فقال قوم:انّه تحقيق (2).و آخرون:انّه تقريب (3)،و عن الحنابلة وجهان (4).
جاز استعمال جميعه.و هو قول أكثر الشّافعيّة خلافا لبعضهم (6)،لأنّ البلوغ موجب لعدم التّأثير،فيسقط حكم اعتبار النّجاسة.و لأنّ النّجاسة شائعة في أجزاء الماء،فتخصيص الباقي المساوي بالمنع ترجيح من غير مرجّح.
و هذا التّقدير سار في كلّ واقف سواء كان محويا (7)في آنية أو غيرها.
و إن كانت النّجاسة متميّزة،جاز استعمال الماء المجاور لها،و لا يجب التّباعد حدّ الكثير (8)،خلافا للشّافعيّ في الجديد (9)
لعدم قبول التّأثير عن الملاقي إلاّ مع التّغيّر،من حيث انّ التّغيّر قاهر للماء عن قوّته المؤثّرة في التّطهير،فهل التّغيّر علامة على ذلك(و الحكم يتبع الغلبة) (10)أم هو المعتبر؟الأولى الأوّل،فلو زال التّغيّر من قبل نفسه
ص:41
لم يزل حكم التّنجيس .
فالأقرب الحكم بنجاسة الماء إن كان (1)يتغيّر بمثلها على تقدير المخالفة،و إلاّ فلا،و يحتمل عدم التّنجيس لانتفاء المقتضي و هو التّغيّر .
فإن كان الباقي كرّا فصاعدا،اختصّ المتغيّر بالتّنجيس (2)،و إلاّ نجس الجميع.
و قال بعض الشّافعيّة:الجميع نجس و إن كثر و تباعدت أقطاره،لأنّ المتغيّر نجس، فينجس ما يلاقيه،ثمَّ ينجس ملاقي ملاقيه،و هكذا (3).و هو غلط،لأنّ الباقي الكرّ لا ينجس بالملاقاة .
كان المأخوذ طاهرا و الباقي نجسا،و لو كانت غير متميّزة،كان الباقي طاهرا،و على التّقدير الأوّل،لو دخلت النّجاسة في الآنية كان باطنها و ما فيه نجسين،و الماء و ظاهر الآنية طاهرين إن دخلت النّجاسة (4)مع أوّل جزء من الماء،و إن دخلت آخرا فالجميع نجس،و لو لم تدخل النّجاسة في الآنية،فالماء الّذي فيها و باطنها طاهران،و ظاهرها و باقي الماء نجسان إن جعلت الآنية تحت الماء،و إلاّ فالجميع نجس،لأنّ الماء يدخل الآنية شيئا فشيئا و الّذي يدخل فيها آخرا نجس،فيصير ما في الإناء نجسا .
يتوضّأ منه،لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يبول الرّجل في الماء الدّائم ثمَّ يتوضّأ منه (1).و يجوز لغيره،و إن تغوّط فيه و لم يتغيّر،لم ينجس و جاز له و لغيره الوضوء منه،و لو بال على الشّطّ و جرى في الماء،جاز أن يتوضّأ منه إذا لم يتغيّر،لأنّه لم يبل في الماء (2).
و عندنا أنّه يكره البول في الماء .
النّجاسات،
لعموم قوله عليه السّلام:(إذا بلغ الماء قدر كرّ،لم ينجّسه شيء) (4).
و قال أحمد:انّ الماء الكثير الواقف الّذي يمكن نزحه كالزّائد على القلّتين ينجس بوقوع بول الآدميّين أو عذرتهم الرّطبة خاصّة (5)،لقوله عليه السّلام:(لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمَّ يغتسل منه) (6).و هو يتناول القليل و الكثير،و عامّة الفقهاء لم يفرّقوا بين البول و غيره،و النّهي لا يدلّ على النّجاسة،مع أنّه وافق على أنّ بول الكلب أزيد نجاسة من بول الآدميّ،و انّ القلّتين لا ينجس بوقوع بول الكلب،فأولى أن لا ينجس ببول الآدميّ.
،سواء غيّرت أحد أوصافه أولا.ذهب
ص:43
إليه أكثر علمائنا (1)،و به قال أبو حنيفة (2)،و سعيد بن جبير (3)،و ابن عمر (4)، و مجاهد،و إسحاق (5)،و أبو عبيد (6)، (7).
و قال ابن أبي عقيل (8)من علمائنا:لا ينجس إلاّ بالتّغيّر كالكثير (9)،و هو مرويّ
ص:44
عن حذيفة (1)،و أبي هريرة (2)،و ابن عبّاس (3)،و سعيد بن المسيّب،و الحسن (4)،و عكرمة (5)،و عطاء (6)،و طاوس (7)،
ص:45
و جابر بن زيد (1)،و ابن أبي ليلى (2)،و مالك،و الأوزاعيّ (3)،و الثّوريّ (4)، و ابن المنذر (5)، (6)،و للشّافعيّ قولان (7)،و عن أحمد روايتان (8).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(إذا بلغ الماء قلّتين،لم ينجّسه شيء) (9).
ص:46
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الجنب يجعل الرّكوة أو التّور فيدخل إصبعه فيه؟قال:(إن كانت يده قذرة فأهرقه،و إن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه (1)).
و ما رواه في الصّحيح،عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر (2)،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرّجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة؟قال:(يكفئ (3)الإناء) (4).
و ما رواه الشّيخ في الحسن،عن سعيد الأعرج (5)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن سؤر اليهوديّ و النّصرانيّ؟قال:(لا) (6).
و ما رواه في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام،قال:سألته عن النّصرانيّ يغتسل مع المسلم في الحمّام؟قال:(إذا علم انّه نصرانيّ،اغتسل بغير ماء الحمّام) (7).
ص:47
و ما رواه في الصّحيح عن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟قال:(اغسل الإناء) (1).
و ما رواه في الصّحيح،عن الفضل أبي العبّاس (2)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن فضل الهرّة و الشّاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السّباع فلم أترك شيئا إلاّ سألته عنه؟فقال:(لا بأس)حتّى انتهيت إلى الكلب،فقال:(رجس نجس لا تتوضّأ بفضله و اجتنب ذلك الماء و اغسله بالتّراب أوّل مرّة ثمَّ بالماء) (3).
و أيضا:قوله عليه السّلام:(الماء الّذي لا ينجّسه شيء ألف و مائتا رطل) (4)و قوله:
(إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) (5)علّق الحكم على الشّرط،فينتفي عند انتفائه.
و أيضا:ما رواه ابن جابر فيما قدّمناه،و هو قوله:سألته عن الماء الّذي لا ينجّسه شيء؟فقال:(كرّ) (6).
فنقول:لو لم يكن ما دون الكرّ قابلا للتّنجيس لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة، و هو لا يجوز إجماعا،و لكان توقيف الحكم على الكرّيّة عبثا،و لأنّ النّجاسة امتزجت بالماء و شاعت أجزاؤها في أجزائه و يجب الاحتراز عن أجزاء النّجاسة و قد تعذّر إلاّ بالاحتراز عن
ص:48
أجزاء الماء المختلط أجزاؤه بأجزائها.
احتجّ ابن أبي عقيل (1)بما روي عنه عليه السّلام،و هو قوله:(الماء طاهر لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه) (2).
و بما روي،عن الباقر عليه السّلام،قال:سئل (3)عن الجرّة و القربة يسقط فيهما فأرة أو جرذ أو غيره،فيموت فيهما (4)؟قال:(إذا غلبت رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه، و إن لم تغلب فاشرب منه و توضّأ) (5).
و بما روي،عن الصّادق عليه السّلام انّه استقي له من بئر،فخرج في الدّلو فأرتان، فقال:(أرقه)فاستقى آخر،فخرج فيه فأرة،فقال:(أرقه)ثمَّ استقى آخر،فلم يخرج فيه شيء،فقال:(صبّه في الإناء فتوضّأ و اشرب) (6).
و بما روي،عن الصّادق عليه السّلام،قال:سئل عن الماء النّقيع يبول فيه الدّواب؟ فقال:(إن تغيّر الماء،فلا تتوضّأ منه،و إن لم تغيّره أبوالها،فتوضّأ منه،و كذلك الدّم إذا سال في الماء و أشباهه) (7).
احتجّ مالك بالحديث الأوّل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (8)،و لأنّ التّنجيس موجب للحرج،فإنّه لا يمكن حينئذ تطهير شيء بالماء،فإنّه ينجس بملاقاة النّجاسة، و النّجس لا يطهر.
ص:49
و الجواب عن الأوّل:انّه ليس من الألفاظ الدّالّة على العموم،فيحمل على الكثير جمعا بين المطلق و المقيّد.
و عن الحديثين الآخرين بضعف السّند،فإنّ الرّاوي عليّ بن حديد (1)،و هو ضعيف مع أنّه مرسل.
و امّا الحديث الرّابع،فإنّ راويه ياسين الضّرير (2)،و لا احقّق حاله،فهو مدفوع و معارض بما ذكرناه.
و عن حجّة مالك النّقليّة:بما أجبنا به ابن أبي عقيل.و أيضا:فإنّ ذلك ورد في بئر بضاعة-بضمّ الباء و فتحها-و ماؤها يجري في البساتين.فعلى هذا كأنّه قال:(الماء الجاري طهور.الحديث).
و ما ذكره من الملازمة في العقليّة ممنوع،لأنّ التّطهير هناك حصل لأجل الضّرورة.على انّ لنا المنع من الملازمة أيضا على مذهب السّيّد المرتضى (3)،و مذهب الشّافعيّ من الفرق بين ورود الماء على النّجاسة و ورودها عليه (4)،و معارض بما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم) (5)فلو لم يكن قابلا للتّنجيس،لم يكن فيه فائدة،و فيه كلام ذكرناه سالفا (6).
ص:50
و أيضا:بما روي،عن عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن الزّبير (1)،أنّهما حكما بنجاسة بئر زمزم،حيث وقع الزّنجيّ فيه فمات حتّى أمرا بنزح ماء البئر كلّه (2).
و بما روي،عن عليّ عليه السّلام انّه حكم بنجاسة البئر بوقوع الفأرة فيه حتّى أوجب نزح دلاء (3).و قد روى بعض الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه أمر بنزح (4)ثلاثين دلوا (5).
لا يقال:يعارض ما ذكرتم بما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن حريز (6)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب،فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطّعم فلا توضّأ منه و لا تشرب) (7).
و بما رواه في الصّحيح،عن ابن مسكان (8)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:
ص:51
سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه و السّنّور أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك يتوضّأ منه أو يغتسل؟قال:(نعم،إلاّ أن تجد غيره فتنزّه عنه) (1).
لأنّا نجيب عن الأوّل:انّه ليس فيه ما يدلّ على العموم،و السّور الكليّ دخل على الغلبة لا على الماء المطلق،فيحمل على البالغ كرّا جمعا بين الأدلّة،و هو الجواب عن الثّاني.
و إن كانت دما يسيرا بحيث لا يدركه الطّرف كرؤوس الإبر.
و قال الشيخ في المبسوط:انّ ما لا يدركه الطّرف معفوّ عنه،دما كان أو غيره (2)، و قال في الاستبصار:إذا كان الدّم مثل رؤوس الإبر،لم ينجس به الماء (3).
لنا:حصول المؤثّر و القابل،فيوجد الأثر.
احتجّ الشّيخ بما رواه في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام، قال:سألته عن رجل امتخط فصار الدّم قطعا صغارا فأصاب إناءه،هل[يصلح] (4)الوضوء منه؟قال:(إن لم يكن شيء يستبين في الماء،فلا بأس،و إن كان شيئا بيّنا،فلا يتوضّأ منه) (5)و لأنّ وجوب التّحرّز عنه مشقّة و حرج،فيكون منفيّا.
و الجواب عن الأوّل:انّه غير دالّ بصريحه على صورة النّزاع،فإنّه ليس فيه إشعار بإصابة الماء و إن كان المفهوم منه ذلك،لكنّ دلالة المفهوم أضعف ممّا ذكرناه.
و(يعارضه:ما) (6)رواه محمّد بن يعقوب في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه
ص:52
موسى عليه السّلام،قال:سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ فيقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟قال:(لا) (1)و لم يشترط الظّهور،و يحتمل أن يكون الأوّل معناه إذا أصاب الإناء و شكّ في وصوله إلى الماء اعتبر بالظّهور حسّا.
و عن الثّاني:انّ اعتبار المشقّة مع قيام الموجب ساقط .
حتّى انّ سلاّر أوجب إراقتها و إن كان كثيرا (3)،و هذا الإطلاق غير واضح.
لنا:العموم المستفاد من قوله عليه السّلام:(إذا بلغ الماء قدر كرّ،لم ينجّسه شيء) (4).
لا يقال:يعارضه الأحاديث الدّالّة على نجاسة الأواني عند الملاقاة.
لأنّا نقول:الإطلاق هناك بناء على الغالب من صغر الإناء عن بلوغ الكرّيّة،و لأنّه مقيّد بما ذكرنا.
و الحقّ انّ مرادهما بالكثرة هنا،الكثرة العرفيّة بالنّسبة إلى الأواني و الحياض الّتي يسقى منها الدّواب،و هي غالبا تقصر عن الكرّ .
و اعتبر الكرّيّة فيهما مع السّاقية جميعا، أمّا لو كان أحدهما أقلّ من كرّ و لاقته نجاسة فوصل بغدير بالغ كرّا،قال بعض الأصحاب:
ص:53
الأولى بقاؤه على النّجاسة،لأنّه ممتاز عن الطّاهر،مع انّه لو مازجه و قهره لنجّسه (1).
و عندي فيه نظر،فإنّ الاتّفاق واقع على انّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه،و لا شكّ انّ المداخلة ممتنعة،فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا .
فالوجه التّنجيس،لأنّ الأصل القلّة و للاحتياط، و يحتمل عدمه،لأنّه كان طاهرا قبل وقوع النّجاسة،و شكّ في تنجيسه بها و لا يرفع اليقين بالشّكّ .
أمّا لو تغيّر بما نجاسته عارضيّة كالزّعفران النّجس و المسك النّجس،فإنّه لا ينجس بذلك،لأنّ الملاقي يطهر بالماء.نعم، لو سلبه إطلاق اسم الماء،فإنّه ينجّسه.
،لأنّه منفعل بها،فكيف يعدمها عن غيره و هو إجماع؟!و كذا كلّ ما منع من استعماله كالمشتبه و إن لم يكن نجسا.
و يجب التّيمّم إذا لم يوجد غيره،لأنّه منع من الطّهارة به شرعا،فكان كالعدم،و لا يجوز استعماله أيضا في أكل و لا شرب إلاّ عند الضّرورة،لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن حريز بن عبد اللّه،عن الصّادق عليه السّلام قال:(فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطّعم فلا توضّأ منه و لا تشرب) (3).
و في الصّحيح،عن الفضل أبي العبّاس،عن الصّادق عليه السّلام و قد سأله عن أشياء حتّى انتهى إلى الكلب؟فقال:(رجس نجس لا تتوضّأ بفضله و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتّراب أوّل مرّة،ثمَّ بالماء) (4).
ص:54
جاز الاستعمال و بنى على اليقين.و لو تيقّن النّجاسة و شكّ في الطّهارة،بنى على النّجاسة عملا بالمتيقّن،و تركا للمرجوح .
لم يجب القبول و إن أسندها إلى سبب،بناء على ما ذكرنا من ترجيح الأصل المتيقّن على الخبر المظنون،خلافا للحنابلة (1)فيما إذا ذكر السّبب.و كذا البحث لو وجده متغيّرا و شكّ في استناد التّغيّر إلى النّجاسة.
أمّا لو شهد عدلان بالنّجاسة،فالأولى القبول،لأنّ شهادة العدلين معتبرة في نظر الشّرع قطعا،فإنّ المشتري لو ادّعى سبق النّجاسة،لثبت جواز الرّدّ بناء على وجود العيب.و قال ابن البرّاج (2):لا يحكم بالشّهادة عملا بالأصل القطعيّ السّالم عن اليقين بصدقهما (3).
أمّا لو تعارضت البيّنتان في إناءين،فقال في الخلاف:سقطت شهادتهما و رجع إلى الأصل (4)،و قال في المبسوط:لو قلنا إن أمكن الجمع بينهما قبلتا و نجسا،كان قويّا (5)، و لم يتعرّض لما لا يمكن فيه الجمع،و الوجه فيه وجوب الاحتراز منهما و الحكم بنجاسة أحدهما لا بعينه،و القول بسقوط شهادتهما فيما يتعذّر الجمع فيه لا يخلو من قوّة.و هو قول الحنابلة (6).
ص:55
و لو علم سبقها على الطّهارة و شكّ في بلوغ الكرّيّة أعاد،لأنّ الأصل عدمها،و لو شكّ في نجاسة الواقع أو في كون الحيوان الميّت من ذوات الأنفس،بنى على الطّهارة.
فالوجه القبول،و لو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه،فالأقرب القبول أيضا.و لو سقط عليه من طريق ماء،لم يلزمه السّؤال عنه،لأصالة الطّهارة.
.و هو أحد قولي الشّيخ (2).و قال في التّهذيب:لا يغسل الثّوب و لا تعاد الطّهارة ما لم يتغيّر بالنّجاسة، لكن لا يجوز استعماله إلاّ بعد تطهيره (3).
و ذهب الجمهور إلى التّنجيس أيضا مع قلّة الماء أو تغيّره (4)،و الحقّ أنّها لا تنجس بمجرّد الملاقاة.و قد أجمع العلماء كافّة على نجاستها بالتّغيّر بالنّجاسة.
الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها الصّلاة؟فوقّع عليه السّلام في كتابي بخطّه:(ينزح منها دلاء) (1)فلو كانت طاهرة،لما حسن تقريره على السّؤال.
و ما رواه أيضا في الصّحيح،عن عليّ بن يقطين (2)،عن أبي الحسن موسى عليه السّلام،قال:سألته عن البئر يقع فيها الحمامة و الدّجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرّة؟ فقال:(يجزيك أن تنزح منها دلاء،فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء اللّه) (3)و لو كانت طاهرة، لكان تعليل التّطهير بالنّزح تعليلا لحكم سابق بعلّة لا حقة،و هو محال .
،و هو و إن لم يكن حجّة قطعيّة،لكنّه يفيد أولويّة ما،فإذا انضمّ إلى ما ذكرنا من الأحاديث حصل القطع بالحكم .
،و التّالي باطل،فالمقدّم مثله،و الشّرطيّة ظاهرة،فإنّ الشّرط في جواز التّيمّم،فقدان الطّاهر.و بيان بطلان التّالي من وجهين:
الأوّل:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن عبد اللّه بن أبي يعفور (5)،و عنبسة بن
ص:57
مصعب (1)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به،فتيمّم بالصّعيد الطّيّب،فإنّ ربّ الماء ربّ الصّعيد،و لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم ماءهم) (2).
و اعلم انّ هذا الحديث كما دلّ على بطلان التّالي،فله دلالة على المطلوب ابتداء مستفادة من قوله عليه السّلام:(و لا تفسد على القوم ماءهم).
الثّاني:لو لم يجز التّيمّم،لزم أحد الأمرين:إمّا جواز استعمال ماء البئر بغير نزح،أو إطراح الصّلاة،و هما باطلان.
أمّا الأوّل:فلأنّه لو صحّ لما وجب النّزح،و هو باطل بالأحاديث المتواترة الدّالّة على وجوبه (3).
و أمّا الثّاني:فبالإجماع.
،و المقدّم كالتّالي باطل .
،و هو روايات.
منها:ما دلّ بمنطوقه،و هو ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن إسماعيل،قال:
كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرّضا عليه السّلام؟فقال:(ماء البئر واسع لا يفسده شيء،إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه،فينزح منه حتّى يذهب الرّيح و يطيب طعمه، لأنّه (4)له مادّة) (5)و قد أشار عليه السّلام إلى العلّة،فكان أبلغ في التّنصيص (6).
ص:58
و ما رواه،عن عليّ بن حديد،عن بعض أصحابنا،قال:كنت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام في طريق مكّة،فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد اللّه عليه السّلام دلوا،فخرج فيه فأرتان،فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:(أرقه)فاستقى آخر،فخرجت فيه فأرة،فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:(أرقه)قال:فاستقى الثّالث فلم يخرج فيه شيء،فقال:(صبّه في الإناء) (1)و هذا و إن كان مرسلا،لكنّه مرجّح.
و ما رواه الشّيخ في حديث حسن،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام، قال:سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زنبيل من سرقين،أ يصلح الوضوء منها؟قال:(لا بأس) (2).
و ما رواه في الصّحيح،عن محمّد بن إسماعيل،عن الرّضا عليه السّلام،قال:(ماء البئر واسع لا يفسده شيء،إلاّ أن يتغيّر) (3).
و ما رواه الشّيخ،عن عمّار (4)،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة؟فقال:(لا بأس إذا كان فيها ماء كثير) (5)و عمّار و إن كان فطحيّا،إلاّ انّه يعتمد كثيرا على روايته لثقته.
و منها:ما يدلّ بمفهومه،و هو ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن معاوية،عن أبي عبد
ص:59
اللّه عليه السّلام،قال،سمعته يقول:(لا يغسل الثّوب و لا تعاد الصّلاة ممّا وقع في البئر إلاّ أن ينتن،فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصّلاة و نزحت البئر) (1).
و ما رواه في الصّحيح،عن معاوية،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،في الفأرة تقع في البئر فيتوضّأ الرّجل منها و يصلّي و هو لا يعلم أ يعيد الصّلاة و يغسل ثوبه؟فقال:(لا يعيد الصّلاة و لا يغسل ثوبه) (2).
و ما رواه،عن أبان بن عثمان (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل عن الفأرة تقع في البئر لا يعلم بها إلاّ بعد ما يتوضّأ منها،إيعاد الوضوء؟فقال:(لا) (4).
و ما رواه،عن أبي بصير،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:بئر يستقى منها و توضّىء به و غسل منه الثّياب و عجن به،ثمَّ علم انّه كان فيها ميّت؟قال:(لا بأس،و لا يغسل الثّوب و لا تعاد منه الصّلاة) (5).
و ما رواه في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر،أ يتوضّأ من ذلك الماء؟قال:(لا بأس) (6).
ص:60
و اعترضوا على الحديث الأوّل بوجوه:
أحدها:انّ قوله عليه السّلام:لا يفسده،أي:فسادا يوجب التّعطيل.
الثّاني:انّ الرّاوي أسندها إلى المكاتبة،و هي ضعيفة.
الثّالث:المعارضة بخبر ابن بزيع المتقدّم (1).
و الجواب عن الأوّل:انّه تخصيص لا يدلّ اللّفظ عليه،و لأنّ الاستثناء ينفيه،لأنّه حينئذ لا يبقى فرق بين المستثنى و المستثنى منه.
و عن الثّاني:انّ الرّاوي قال:فقال عليه السّلام كذا،و الثّقة لا يخبر بالقول إلاّ مع القطع.على انّ الرّسول عليه السّلام قد (2)كان ينفذ رسله بالمكاتبات،فلو لم يكن حجّة دالاّ لما ساغ (3)ذلك.على انّ الحديث الّذي استدلّوا به أوّلا من هذا النّوع.
و عن الثّالث:انّ المعارضة إنّما تتمّ على تقدير نصوصيّة الحديث الأوّل على المعنى المطلوب منه،و ليس كذلك .
،و قد تقدّمت (4)،و تخصيصها بالماء القليل حال ملاقاة النّجاسة لا يخرجها عن كونها حجّة.
،و التّالي باطل اتفاقا،و لأنّه حرج،فالمقدّم مثله.
بيان الشّرطيّة:انّه لا طريق إلى التّطهير إلاّ النّزح حينئذ،و إلاّ لزم إحداث الثّالث، و ليس بصالح لذلك.
أمّا أوّلا:فإنّه لم يعهد (5)في الشّرع تطهير شيء بإعدام بعضه.
و أمّا ثانيا:فلأنّه غالبا قد يسقط من الدّلو الأخير إلى البئر،فيلزم تنجيسها،و لا ينفكّ المكلّف من النّزح،و ذلك ضرر عظيم.
ص:61
و أمّا ثالثا:فلأنّ الأخبار اضطربت في تقدير النّزح،فتارة دلّت على التّضييق في التّقديرات المختلفة،و تارة دلّت على الإطلاق،و ذلك ممّا لا يمكن أن يجعله الشّارع طريقا إلى التّطهير .
فيتساويان حكما .
المستفاد من التّنجيس .
و الجواب عمّا احتجّوا به أوّلا من وجوه:
أحدها:انّه عليه السّلام لم يحكم بالنّجاسة،أقصى ما في الباب انّه أوجب النّزح.
و ثانيها:انّه لم لا يجوز أن يكون قوله ينزح منها دلاء،و إن كان متضمّنا للطّهارة إلاّ انّ المراد من الطّهارة هاهنا النّظافة،لا ضدّ النّجاسة،فإنّ هذه الأشياء المعدودة من القاذورات،و تقريره عليه السّلام لقول السّائل حتى يحلّ الوضوء منها بعد تسليمه،ليس فيه دلالة على التّنجيس،فإنّا نقول بموجبة حيث أوجبنا النّزح و لم نسوّغ الاستعمال قبله.
و ثالثها:يحمل على ما إذا تغيّرت جمعا بين الأدلّة.
و رابعها:انّ هذه دلالة مفهوم،و هي ضعيفة،خصوصا مع معارضتها للمنطوق و المفهوم.
و خامسها:يحمل المطهّر هاهنا على ما اذن في استعماله،و ذلك إنّما يكون بعد النّزح، لمشاركته للنّجس في المنع جمعا بين الأدلّة.و هذه الأجوبة آتية في الحديث الثّاني.
و عن الثّاني:بأنّ عمل الأكثر ليس بحجّة،و أيضا:فكيف يدّعي عمل الأكثر هاهنا مع انّ الشّيخ و ابن أبي عقيل ذهبا إلى ما نقلناه عنهما (1).
و عن الثّالث:بالمنع عن الملازمة أوّلا،قوله:الشّرط فقدان الطّاهر،قلنا:ليس على الإطلاق،بل المأذون في استعماله،فإنّ المستعمل في إزالة الحدث الأكبر طاهر عند أكثر أصحابنا (2)يجب معه التّيمّم،فكذا هاهنا،و ثانيا:بالمنع من بطلان التّالي.
و الحديث الّذي ذكروه غير دالّ على التّنجيس،فإنّه يحتمل رجوع النّهي إلى المصلحة
ص:62
الحاصلة من فقدان الضّرر بالوقوع،و النّهي عن إفساد الماء إمّا على معنى عدم الانتفاع به إلاّ بعد النّزح،و إمّا على معنى النّهي عن إظهار الأجزاء الحمائيّة (1)في البئر و خلطها بالماء.
و بالجملة:فهذا الحديث أيضا يدلّ بمفهومه،و الملازمة الثّانية من الوجه الثّاني ممنوعة، و الملازمة في الوجه الرّابع ممنوعة،و لا يلزم من عدم العلم بالفائدة،العلم بالعدم.
و إذا عرفت هذا،فالأقوى عندنا عدم التّنجيس بالملاقاة.
،و يستوي في ذلك زمزم و غيرها من الآبار.
و هو (2)مذهب العلماء.
و يحكى عن أحمد كراهة الطّهارة بماء زمزم (3).
لنا:انّه ماء مطلق فيساوي غيره.
احتجّ بما روي عن العبّاس (4)انّه قال:(لا أحلّه لمغتسل،أمّا للشّارب فحلّ و بلّ) (5)، (6).
و الجواب بعد سلامة النّقل:لعلّه قال ذلك في وقت قلّة المياه،و كثرة الحاجة إلى الشّرب،أو لأنّ المغتسل ربّما لا ينفكّ عن النّجاسة،و يحرم غسلها في المسجد.
ص:63
،فالجاري إنّما يطهر بإكثار الماء المتدافع حتّى يزول التّغيّر،لأنّ الحكم تابع للوصف،فيزول بزواله،و لأنّ الطّارئ لا يقبل النّجاسة لجريانه،و المتغيّر مستهلك فيه فيطهر.
و الواقف بإلقاء كرّ عليه دفعة من المطلق بحيث يزول تغيّره،و إن لم يزل فبإلقاء كرّ آخر،و هكذا لأنّ الطّارئ غير قابل للنّجاسة لكثرته،و المتغيّر مستهلك فيه فيطهر.
و لو زال التّغيّر من قبل نفسه أو بملاقاة أجسام طاهرة غير الماء أو بتصفيق الرّياح،المشهور انّه لا يطهر،لأنّ النّجاسة حكم شرعيّ،فيتوقّف زواله عليه،و لأنّها نجّسته قبل الزّوال، فيستصحب الحكم،و لأنّ النّجاسة تثبت بوارد،فلا تزول إلاّ بوارد،بخلاف نجاسة الخمر،فإنّها تثبت بغير وارد،فتطهر بغير وارد.
و قال الشّافعيّ و أحمد:إن زال بطول المكث عاد طهورا،و إن زال بطرح المسك و الزّعفران فلا،لأنّهما ساتران لا مزيلان (1).و في التّراب قولان له مبنيّان على انّه مزيل أو ساتر (2).
و لو زال التّغيّر بأخذ بعضه لم يطهر،و إن كان الباقي كرّا،و كذا لو زال التّغيّر بإلقاء أقلّ من الكرّ على الأقوى،خلافا لبعض علمائنا (3)،و للشّافعيّ (4).
ص:64
لنا:انّه بملاقاته الماء النّجس ينجس فلا يكون مطهّرا،و كذا باقي الأجسام كالمسك و الزّعفران (1)،و لأنّها لا تطهّر نفسها،فأولى أن لا تطهّر غيرها .
أيضا دفعة،فإن زال تغيّره فقد طهر إجماعا،و إن لم يزل وجب إلقاء كرّ آخر،و هكذا إلى أن يزول التّغيّر.
و لا يطهر بزوال التّغيّر من قبل نفسه إجماعا منّا،و هو ظاهر،و من القائلين بطهارة الكثير المتغيّر بزوال تغيّره،لأنّ المقتضي للتّنجيس في الكثيرة التّغيّر،فيزول بزواله،و في القليل الملاقاة لا التّغيّر،فلا يؤثّر زواله في عدم التّنجيس.
و إن لم يتغيّر،قال الشّيخ في الخلاف:يشترط في تطهير الكرّ:الورود (2)،و قال في المبسوط:لا فرق بين أن يكون الطّارئ نابعا من تحته،أو يجري إليه،أو يغلب (3).فإن أراد بالنّابع ما يكون نبعا من الأرض،ففيه إشكال من حيث انّه ينجس بالملاقاة،فلا يكون مطهّرا،و إن أراد به ما يوصل إليه من تحته،فهو حقّ.و هل يطهر بالإتمام؟الوجه انّه لا يطهر سواء تمّم بنجس أو طاهر،و تردّد في المبسوط (4)،و جزم المرتضى في المسائل الرّسيّة (5)،و ابن البرّاج (6)،و ابن إدريس (7)بالتّطهير (8)،و للشّافعيّة في اجتماع القلّتين، من الماء النّجس وجهان (9).
لنا:انّ النّجاسة حكم شرعيّ فيقف زواله عليه،و لأنّ النّجاسة سابقة (10)قبل البلوغ،
ص:65
فلا يؤثّر في العمل به الشّكّ عنده،و للنّهي عن استعمال غسالة ماء الحمّام،و هي لا تنفكّ عن الطّاهر.
،و لا فرق بين وقوعها قبل البلوغ و بعده .
إذا اشتبه وقوع النّجاسة فيه قبل البلوغ و بعده،و التّالي باطل اتّفاقا،فالمقدّم مثله.
بيان الملازمة:انّ احتمال الوقوع في الحالتين على السّويّة،فلا أولويّة (1).
ادّعاه متواترا .
وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (3)و قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (4)و قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (5)و قوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا (6)أجاز الدّخول في الصّلاة بعد الاغتسال،فالمغتسل بالمتنازع يصدق عليه اسم الاغتسال،و قوله عليه السّلام لأبي ذر:(إذا وجدت الماء فأمسّه جلدك) (7)و المتنازع فيه ماء،و قوله عليه السّلام:(أمّا أنا فأحثو ثلاث حثيات من ماء، فإذا أنا قد طهرت) (8)و لم يخصّ ماء بالذّكر.
ص:66
.
و الجواب عمّا احتجّ به السّيّد المرتضى (2)،أوّلا:بالمنع من المساواة،ضرورة كون الأصل منصوصا عليه بخلاف المتنازع،فإن أسندها إلى القياس فباطل،و الفرق واقع،فإنّ النّابع له قوّة على عدم الانفعال عن الملاقي بخلاف المنفعل.
و عن الثّاني:بالمنع من الملازمة،و تساوي الاحتمالين ممنوع بالأصل الدّالّ على الطّهارة،فالحاصل انّ الطّهارة لم تستند (3)إلى انّ البلوغ رافع للتّنجيس.
و عمّا احتجّ به ابن إدريس أوّلا:بالمنع من الرّواية،فإنّ الشّيخ رواها مرسلة في المبسوط (4)و لم يسندها في غيره.نعم،قد وردت أحاديث كثيرة بقولهم عليهم السّلام:
(إذا بلغ الماء قدر كرّ،لم ينجّسه شيء) (5)و هذا يدلّ على انّ بلوغ الكرّيّة مانع من التّأثير، لا على انّه رافع لما كان ثابتا.
و عن الثّاني:انّ الآيات و الأحاديث الّتي ذكرها غير دالّة على محلّ النّزاع،فإنّا لم نمنع من جواز استعمال الماء،و لكنّ النّزاع في تطهير النّجس بالإتمام.
و عن الثّالث:انّه دعوى الإجماع كدعوى تواتر حديثه .
فكالأوّل .
كما لو كان كرّا عند وقوع النّجاسة ثمَّ فرّق .
نعم،يشترط خلوّه من التّغيّر.
ص:67
فلو كوثر (1)النّجس القليل بماء ورد،لم يطهر،و لو كمل الطّاهر بماء ورد كرّا ثمَّ وقعت فيه نجاسة،فالأقرب عدم التّأثيران بقي الإطلاق،خلافا للشّافعيّ (2).
التّنجيس.
خلافا للشّافعيّة (3)في أحد الوجهين،لكن شرطوا طهارة الوارد،و وروده على النّجس،و أن يزيد الوارد على الأوّل،و أن لا يكون فيه نجاسة جامدة .
خلافا للحنابلة (4)حيث جوّزوا تطهير الدّهن بأن يلقى عليه ماء كثير و يضرب جيّدا.و هو باطل لعدم العلم بالوصول .
،فالنّزح الوارد عن الأئمّة عليهم السّلام إنّما كان تعبّدا (6)،و القائلون بالتّنجيس جعلوه طريقا إلى التّطهير.
إذا عرفت هذا،فنقول:
،و هو موت البعير أو الثّور فيها،و وقوع الخمر،و كلّ مسكر، و الفقاع،و المنيّ،و دم الحيض،و الاستحاضة،و النّفاس،لما رواه الحلبيّ (7)في
ص:68
الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا مات فيها بعير أو يصبّ فيها خمر فلينزح) (1).
و روى عبد اللّه بن سنان في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(و إن مات فيها ثور أو نحوه أو صبّ فيها خمر،نزح الماء كلّه) (2).
و لا يعارض هذا برواية عمرو بن سعيد بن هلال (3)،عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:سألته عمّا يقع في البئر-و عدّ أشياء إلى أن قال:-حتّى بلغت الحمار و الجمل؟ قال:(كرّ من ماء) (4)لأنّ عمرا هذا فطحيّ،و الأصحاب لم يعملوا بهذه الرّواية أيضا.
و لا برواية زرارة،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:بئر،قطر فيها قطرة دم أو خمر؟قال:(الخمر و الدّم و الميّت و لحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ينزح منه عشرون دلوا، فإن غلبت الرّيح نزحت حتّى تطيب) (5)لأنّي لم أعرف من الأصحاب من عمل بها غير ابن بابويه في المقنع (6)،و الرّواة لها لا يحضرني الآن حالهم.قال الشّيخ:و أيضا فهذا خبر
ص:69
واحد لا يدفع ما تقدّم،و لأنّ العمل بالأوّل يستلزم العمل بهذا بخلاف العكس (1).
و لا برواية كردويه (2)،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن البئر يقع فيها قطرة دم،أو نبيذ مسكر،أو بول أو خمر؟قال:(ينزح منها ثلاثون دلوا) (3)لما ذكرناه أوّلا.
و قال بعض المتأخّرين:يمكن تنزيل الرّوايتين على القطرة من الخمر و يفرّق بين القطرة و صبّه كالدّم،لأنّه ليس أثر القطرة في التّنجيس كالمصوب لشياعه (4)،و هذا ضعيف.
أمّا أوّلا:فلأنّ رواية زرارة اشتملت على حكم التّغيّر،و من المستبعد بل المحال حصول التّغيّر عن القطرة.
لا يقال:المراد فإن تغيّرت بالانصباب.
لأنّا نقول:هذا ضعيف من وجهين:
الأوّل:الإضمار.
الثّاني:انّ الأنصاب موجب لنزح الجميع،فمع التّغيّر أولى.
و أمّا ثانيا:فلأنّ أحدا من أصحابنا لم يفرّق بين قليل الخمر و كثيرها إلاّ من شذّ (5).
و قال الشّيخ،و المفيد،و السّيّد المرتضى:انّ حكم المسكرات حكم الخمر (6)،و لم نظفر في ذلك بحديث،سوى ما رويناه عن زرارة،و هم غير عاملين به.نعم،يمكن أن
ص:70
يقال:انّه يدخل تحت حكمه،لما رواه عطاء بن يسار (1)،عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(كلّ مسكر خمر) (2).
و روى ابن يقطين،عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام،قال:(كلّما عاقبته عاقبة الخمر،فهو خمر) (3).
فنقول:إطلاق الخمر على المسكر إمّا بالقياس في التّسمية،و الجامع الإسكار،و يلزم منه جواز إثبات اللّغة بالقياس،و قد ذهب إليه بعضهم (4)،و إمّا من حيث المشاركة في الحكم،و على كلا التّقديرين يلزم المطلوب.
و أمّا الفقاع،فقد ألحقه الشّيخ بالخمر (5)و تبعه أبو الصّلاح (6)، (7)،و ابن إدريس و ادّعى فيه الإجماع (8)،و لم نقف على حديث يدلّ عليه،سوى ما رواه هشام بن
ص:71
الحكم (1)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الفقاع؟فقال:(لا تشربه فإنّه خمر مجهول) (2).
و عن الرّضا عليه السّلام:(و هو حرام و هو خمر) (3).
و عن أبي الحسن الأخير عليه السّلام،قال:(هي خمر استصغرها النّاس) (4)و البحث فيه كالخمر.
و أمّا المنيّ:فقد قال الشّيخ:انّه يوجب نزح الجميع (5)،و تبعه جماعة (6)،و لم نقف فيه على خبر،و يمكن أن يقال:انّه ماء محكوم بنجاسته،و تقدير بعض المنزوحات ترجيح من غير مرجّح،فيجب الجميع،لكنّا لمّا طعنّا في المقدّمة الأولى سقط عندنا هذا الدّليل.
و أمّا دم الحيض و الاستحاضة و النّفاس،فقد ألحقه الشّيخ بهذا النّوع (7)،و لم نظفر فيه بحديث مرويّ.
ص:72
تراوح عليها أربعة رجال مثنى مثنى (1)من طلوع الفجر إلى الغروب،و لم أعرف فيه مخالفا من القائلين بالتّنجيس.
و يدلّ عليه أيضا:ما رواه عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل قال:
و سئل عن بئر وقع فيه كلب،أو فأرة،أو خنزير؟قال:(ينزف كلّها فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى اللّيل،ثمَّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين فينزفون يوما إلى اللّيل و قد طهرت) (2)و هذه الرّواية ضعيفة من وجهين:
الأوّل:السّند،فإنّ رواتها فطحيّة (3).
الثّاني:المتن،فإنّ أحدا من أصحابنا لم يوجب نزح الجميع بموت الكلب و الفأرة و الخنزير.
أجاب الشّيخ عن الثّاني باحتمال التّغيّر (4)،و استدلّ الشّيخ أيضا بما رواه عمرو بن سعيد بن هلال،عن الباقر عليه السّلام قال:سألته عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة و السّنّور إلى الشّاة،فكلّ ذلك يقول:(سبع دلاء)قال:حتّى بلغت الحمار و الجمل؟قال:(كرّ من ماء) (5)و إن كان كثيرا،قال الشّيخ:تراوح الأربعة يوما يزيد عن الكرّ،فيجب أن يكون مجزيا (6).
و البحث في هذه الرّواية في السّند و المتن كما مرّ،و يزيد عليه انّ هذه الرّواية دلّت على
ص:73
الاكتفاء بالكرّ،و التّراوح و إن زاد على الكرّ،لكن لا دلالة في هذه الرّواية على انّه يقوم مقام نزح الجميع.و الأقرب أن يقال:انّه بالتّراوح يغلب على الظّن زوال ما كان في البئر، فيصار إليه .
،و يشكل لو ساوت قوّتهم قوّة الرّجال،و إن عملنا بالحديث المتناول للقوم (1)أجزأ النّساء و الصّبيان
،و لا يكفي الآحاد و إن قصر زمان التّراوح .
،ففي الإجزاء نظر أقربه ذلك إن علم مساواته لتراوح الأربعة .
كالإنسان .
،و هو:موت الحمار،و البغل،و الفرس،و البقر و أشباهها.
أمّا الحمار،فقد ذهب إليه أكثر أصحابنا (2)مستدلّين برواية عمرو بن سعيد،عن الباقر عليه السّلام،و هي ضعيفة من حيث السّند،و من حيث التّسوية بين الحمار و الجمل،إلاّ انّ أصحابنا عملوا فيها بالحمار،و التّسوية سقطت باعتبار حصول المعارض، فلا يلزم نفي الحكم عمّا فقد عنه المعارض.
و أمّا البقرة و الفرس،فقد قال الشّيخ و السّيّد المرتضى و المفيد بمساواتهما للحمار في الكرّ (3)،و لم نقف في ذلك على حديث،إلاّ ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،
ص:74
و محمّد بن مسلم،و بريد بن معاوية العجليّ (1)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و أبي جعفر عليه السّلام:في البئر يقع فيها الدّابّة،و الفأرة،و الكلب،و الطّير،فيموت؟قال:
(يخرج،ثمَّ ينزح من البئر دلاء،ثمَّ اشرب و توضّأ) (2).
قال صاحب الصّحاح:الدّابة:اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض،و الدّابّة:اسم لكلّ ما يركب (3)،فنقول:لا يمكن حمله على المعنى الأوّل و إلاّ لعمّ،و هو باطل لما يأتي، فيجب حمله على الثّاني.
فنقول:الألف و اللاّم(في الدّابّة) (4)ليست للعهد،لعدم سبق معهود يرجع إليه، فإمّا أن يكون للعموم،كما ذهب إليه الجبائيّان (5)،أو لتعريف الماهيّة على المذهب الحقّ.
و على التّقديرين يلزم العموم في كلّ مركوب.
أمّا الأوّل:فظاهر.
و أمّا الثّاني:فلأنّ تعليق الحكم على الماهيّة يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها،و إلاّ لم يكن علّة.هذا خلف،و إذا ثبت العموم دخل فيه الحمار،و الفرس،و البغل، و الإبل،و البقر نادرا غير انّ الإبل،و الثّور،خرجا بما دلّ بمنطوقه على نزح الجميع،فيكون
ص:75
الحكم ثابتا في الباقي.
فإن قلت:يلزم التّسوية بين ما عدّده الإمامان عليهما السّلام،قلت:خرج ما استثني لدليل منفصل،فيبقى الباقي،لعدم المعارض.و أيضا:التّسوية حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدّلاء (1)،و إن افترقت بالكثرة و القلّة،و ذلك شيء لم يتعرّضا له عليهما السّلام،إلاّ انّ لقائل أن يقول:انّ ما ذكرتموه لا يدلّ على بلوغ الكرّيّة،و يمكن التّمحّل بأن يحمل الدّلاء على ما يبلغ الكرّ جمعا بين المطلق و المقيّد خصوصا مع الإتيان بصيغة جمع الكثرة.
لا يقال:إن حمل الجمع على الكثرة استحال إرادة القلّة منه،و إلاّ لزم الجمع بين إرادتي الحقيقة و المجاز،و إن حمل على القلّة فكذلك.
لأنّا نقول:لا نسلّم استحالة التّالي (2).سلّمنا،لكن إن حمل على معناه المجازيّ و هو مطلق الجمع،لم يلزم ما ذكرتم،على انّ لنا في كون الصّيغ المذكورة حقائق أو مجازات في القلّة و الكثرة نظرا.و بعض المتأخّرين استدلّ بهذه الرّواية على وجوب النّزح للحمار دون الفرس و البقرة،و ألحقهما بما لم يرد فيه نصّ (3)،و قد ظهر بطلانه.و قد روى مثل هذه الرّواية:البقباق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (4).
،و ينزح لموته سبعون دلوا.و هو مذهب القائلين بالتّنجيس أجمع،و استدلّ عليه الشّيخ برواية ابن فضّال (5)،عن عمرو بن
ص:76
سعيد (1)،عن مصدّق بن صدقه (2)،عن عمّار (3)،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟فقال:(ينزح منها دلاء هذا إذا كان ذكيّا فهو هكذا ،و ما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره (4)،الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقلّه العصفور و ينزح منها دلو واحد،و ما سوى ذلك فيما بين هذين) (5).
و الاستدلال بهذه الرّواية ضعيف فإنّ رواتها فطحيّة،و لم أقف على غيرها إلاّ ما يدلّ بمفهومه لا على هذا الحكم،و هو ما رواه الشّيخ،عن زرارة،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:بئر قطر فيها قطرة دم.إلى آخر الرّواية،و قد تقدّمت (6).
و ما رواه في الحسن،عن محمّد بن مسلم،عن أحدهما عليهما السّلام:في البئر تقع فيها الميتة،قال:(إذا كان لها ريح،نزح منها عشرون دلوا)و قال:(إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء) (7)و وجه الاستدلال من الحديثين انّ الحكم علّق تارة على لفظ الميّت و تارة على لفظ الميتة،و هو تعليق على الماهيّة،فيعمّ في موارد عمومها،إلاّ انّ أصحابنا لم يعملوا
ص:77
بالعشرين (1)،فيكون الاستدلال بهما ساقطا.و الحنفيّة أوجبوا نزح الجميع (2).
و اعلم انّ هذا الحكم عند القائلين به سار في الصّغير و الكبير،و السّمين و المهزول، و الذّكر و الأنثى،أمّا المسلم و الكافر،فهل يستويان فيه؟منع ابن إدريس منه،لأنّ بملاقاته حيّا يجب نزح الجميع،فلا يطهر بالموت،و منع من تناول المطلق له،قياسا على الجنب في قولهم:(ينزح له سبع)فإنّه يختصّ المسلم (3)،و هو ضعيف،فإنّ المقدّمة الأولى تبنى (4)على انّ ملاقاة النّجاسة الّتي لم يرد فيها نصّ يوجب نزح الجميع،و هو ممنوع و سيأتي.و القياس الّذي ذكره ضعيف،فإنّه لا مناسبة بين الموضعين،إلاّ من حيث انّ لفظة الإنسان مطلق،و لفظة الجنب مطلق،و هذا لا يوجب انّ أحد المطلقين إذا قيّد بوصف لدليل وجب تقييد الآخر.
و لا يختصّ النّقص (5)بصورة النّزاع،بل في كلّ اسم جنس حلي بلام التّعريف،بأن يقال مثلا:انّ لفظ البيع في قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (6)و كذا لفظ اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي (7)و اَلسّارِقُ وَ السّارِقَةُ (8)ليس للعموم،لأنّ لفظ الجنب ليس للعموم،و لا شكّ في فساده،على انّا نقول:هل وجد ما يخصّص لفظ الجنب أم لا؟فإن وجد،امتنع القياس للفارق،و إن لم يوجد منع من التّقييد فيه بالإسلام أيضا.سلّمنا،لكن لا نسلّم عدم النّصّ،فإنّ النّصّ كما يدلّ بمنطوقه يدلّ بمفهومه،و هو ثابت هنا،لأنّ الإنسان لفظ مطلق يتناول المسلم و الكافر،فيجري مجرى النّطق بهما،فإذا وجب في موته سبعون لم يجب في مباشرته أكثر،لأنّ الموت يتضمّن المباشرة،فيعلم نفي ما زاد من مفهوم النّصّ.سلّمنا،
ص:78
لكن نمنع بقاء نجاسة المشرك بعد موته،و إنّما يحصل له نجاسة الموت مغايرة لنجاسة حال حياته.
و بيانه:انّ النّجاسة حكم شرعيّ يتبع مورد النّصّ،لتساوي الجواهر في الجسميّة، فالمشرك إنّما لحقه حكم التّنجيس باعتبار كفره و قد انتفى بموته،فينتفي الحكم التّابع له و يلحقه حكم آخر شرعيّ تابع للموت،و الحكمان متغايران .
،و هو:الدّم الكثير،و العذرة الرّطبة.
أمّا الدّم،فقال الشّيخ في النّهاية:للكثير خمسون،و كذا في المبسوط (1).و قال المفيد:
في الكثير عشر (2).و قال ابن بابويه:في دم ذبح الشّاة من ثلاثين إلى أربعين (3).و قال علم الهدى في المصباح:في الدّم ما بين الدّلو الواحدة إلى العشرين (4).
و أمّا القليل،فقال ابن بابويه:ينزح له دلاء يسيرة (5)و قال المفيد:خمس دلاء (6).
و قال في النّهاية و المبسوط (7):عشر.و الأقوى ما ذكره ابن بابويه.
و يدلّ عليه ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام،قال:سألته عن رجل ذبح شاة فاضطربت[و وقعت] (8)في بئر ماء و أوداجها تشخب دما،هل يتوضّأ من ذلك البئر؟قال:(ينزح منها ما بين الثّلاثين إلى الأربعين دلوا ثمَّ يتوضّأ منها و لا بأس)قال:و سألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر،هل يصلح أن يتوضّأ منها؟قال:(ينزح منها دلاء يسيرة ثمَّ يتوضّأ منها)و سألته عن
ص:79
رجل يستقي من بئر و يرعف فيها،هل يتوضّأ منها؟قال:(ينزح منها دلاء يسيرة) (1).
و ما ذكره السّيّد المرتضى،فيمكن الاحتجاج له برواية زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و هي قوله:(الدّم و الخمر و الميّت و لحم الخنزير في ذلك كلّه واحد نزح منه عشرون دلوا)و قد تقدّمت (2)،إلاّ انّ هذا الحديث دلّ على نزح العشرين،فقول المرتضى:من دلو إلى عشرين،غير مطابق.
فإن قلت:هذا الحديث يتناول الكثير،و قول السّيّد المرتضى:من واحد إلى عشرين، يحمل على التّفصيل إن كان الدّم قليلا فواحدة و إلاّ فعشرون،و ما بينهما بحسب تفاوت الكثرة و القلّة.
قلت:هذا ضعيف من وجهين:
الأوّل:انّه ليس في قول المرتضى دلالة على التّفصيل.
الثّاني:انّ الحديث وقع جوابا عن قول السّائل:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر؟قال:(الدّم و الخمر).فالألف و اللاّم هاهنا للعهد لمسبوقيّة الذّكر لفظا.
و استدلّ الشّيخ في التّهذيب على قول المفيد برواية محمّد بن إسماعيل بن بزيع في الصّحيح،قال:كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرّضا عليه السّلام عن البئر يكون في المنزل للوضوء،فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شيء من العذرة كالبعرة أو نحوها،ما الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصّلاة؟فوقّع عليه السّلام في كتابي بخطّه:(ينزح منها دلاء) (3).
قال الشّيخ:وجه الاستدلال انّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة،فيجب الأخذ به،إذ لا دليل على ما دونه.و بعض المتأخّرين سلّم المقدّمة الاولى،ثمَّ قال:لا نسلّم انّه
ص:80
إذا جرّد عن الإضافة كان حاله كذا،فإنّه لا يعلم من قوله:عندي دراهم،انّه لم يخبر عن زيادة عن عشرة،فإنّ دعوى ذلك باطلة (1).
و الحقّ:ما ذكره الشّيخ،لأنّ الإضافة هاهنا و إن جرّدت لفظا،لكنّها مقدّرة،و إلاّ لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
إذا عرفت هذا،فنقول:لا بدّ من إضمار عدد يضاف إليه تقديرا،فيحمل على العشرة الّتي هي أقلّ ما يصلح إضافته إلى هذا الجمع أخذا بالمتيقّن،و حوالة على الأصل من براءة الذّمّة.
لا يقال:فكان يجب على الإمام بيانه،لما ذكرتم.
لأنّا نقول:يجوز أن يكون الإمام عليه السّلام عرف من المخاطب علمه بالحاجة إلى الإضمار،و بالبراءة الأصليّة،فكان ذلك بمنزلة التّنصيص.
و هاهنا نوع من التّحقيق،و هو انّ هذا الحديث يمكن أن يستدلّ به على ما ذهب الشّيخ إليه في القليل،لأنّ السّؤال يضمن قوله:قطرات دم،و هو جمع تصحيح.و نصّ سيبويه (2)على انّ جمع التّصحيح للقلّة،فيكون السّؤال يضمن القليل.
و أمّا الحكم بالعدد،فإمّا لما ذكره الشّيخ،و إمّا لأنّه جمع كثرة فيحمل على أقلّها و هو العشرة.
و أمّا العذرة،فقال ابن بابويه:لها عشر،فإن ذابت فأربعون أو خمسون (3).
و قال المفيد في المقنعة:للرّطبة أو الذّائبة خمسون،و لليابسة عشر (4).
و قال الشّيخ:للرّطبة خمسون،و لليابسة عشر (5).
ص:81
و قال المرتضى في المصباح:لليابسة عشر،فإن ذابت و تقطّعت خمسون دلوا (1).
و الأقوال متقاربة،فإنّ الرّطبة و الذّائبة اشتركتا في شياع أجزائهما في أجزاء الماء،فتعلّق بهما حكم واحد بخلاف اليابسة،و الرّواية تتضمّن ما ذكره ابن بابويه.روى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن العذرة تقع في البئر؟فقال:(ينزح منها عشر دلاء فإن ذابت فأربعون أو خمسون دلوا) (2)و يمكن التّعدية إلى الرّطبة،للاشتراك في شياع الأجزاء أو لأنّها تصير حينئذ رطبة .
،و هو موت الكلب،و الخنزير،و الثّعلب،و الأرنب، و الشّاة،و السّنّور،و ما أشبهها،و بول الرّجل.هذا مذهب الشّيخين (3)،و وافقهما السّيّد المرتضى في الكلب،و وافقهما مع ابني بابويه في البول (4).و لنذكر ما وصل إلينا من الرّوايات في ذلك،فإنّها غير دالّة على مقصودهم.
أمّا الكلب و السّنّور:فروى الشّيخ في الحسن،عن أبي أسامة (5)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الفأرة و السّنّور و الدّجاجة و الطّير و الكلب؟قال:(ما لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء،فيكفيك خمس دلاء فإن تغيّر الماء،فخذه حتّى يذهب الرّيح) (6)و في موضع آخر:
(فخذ منه حتّى يذهب الرّيح) (7).
ص:82
و روى في الضّعيف،عن عمرو بن سعيد بن هلال،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة و السّنّور إلى الشّاة؟فقال:كلّ ذلك يقول:(سبع دلاء) (1).
و روى الشّيخ،عن الحسين بن سعيد (2)،عن القاسم (3)،عن عليّ (4)،قال:
سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر؟قال:(سبع دلاء)،قال:و سألته عن الطّير و الدّجاجة تقع في البئر؟قال:(سبع دلاء،و السّنّور عشرون أو ثلاثون أو أربعون دلوا و الكلب و شبهه) (5).و هذه الرّواية ضعيفة،فإنّ القاسم بن محمّد و عليّ بن أبي حمزة واقفيّان.
قال الشّيخ عقيب هذا الحديث:و هذا يدخل فيه الشّاة،و الغزال،و الثّعلب،و الخنزير
ص:83
و كلّ ما ذكر (1).
و روى في الضّعيف،عن سماعة (2)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام.إلى قوله:(و إن كان سنّورا أو أكبر منه نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا) (3).
و روى في الصحيح،عن زرارة،و محمّد بن مسلم،و بريد بن معاوية العجليّ،عن أبي عبد اللّه و أبي جعفر عليهما السّلام في البئر يقع فيها الدّابّة و الفأرة و الكلب و الطّير فيموت؟قال:(يخرج ثمَّ ينزح من البئر دلاء،ثمَّ اشرب و توضّأ)و قد تقدّم البحث في هذه الرّواية (4).
و روى في الضّعيف،عن إسحاق بن عمّار (5)،عن جعفر،عن أبيه،انّ عليّا عليه السّلام كان يقول:(الدّجاجة و مثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان و ثلاثة (6)فإذا كانت شاة و ما أشبهها فتسعة أو عشرة) (7).
ص:84
و روى،عن البقباق (1)مثل رواية زرارة،و محمّد بن مسلم،و بريد.
و مثلها روى عليّ بن يقطين،عن الكاظم عليه السّلام،إلاّ انّه ذكر عوض الدّابّة و الطّير الحمامة و الدّجاجة،و زاد أو الهرّة،و ذكر العطف بأو،و قد تقدّمت أيضا (2).
و في رواية أبي مريم (3)في الصّحيح،عن أبي جعفر عليه السّلام:(إذا مات الكلب في البئر نزحت) (4).
و في رواية ياسين،عن حريز،عن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الدّم و الخمر و الميّت و لحم الخنزير في ذلك كلّه واحد،ينزح منه عشرون دلوا) (5).
و في رواية عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:(ينزف البئر كلّها لوقوع الكلب أو الفأرة أو الخنزير) (6)و رواتها فطحيّة.
و قال ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه:ينزح الكلب من ثلاثين إلى أربعين،و في السّنّور سبع،و في الشّاة و ما أشبهها تسعة إلى عشرة (7)،و يمكن أن يكون حجّته رواية إسحاق بن عمّار (8).
ص:85
و أمّا البول،فقد روى الشّيخ،عن عليّ بن أبي حمزة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:سألته عن بول الصّبيّ الفطيم يقع في البئر؟فقال:(دلو واحد)قلت:بول الرّجل؟ قال:(ينزح منها أربعون دلوا) (1)و عليّ بن أبي حمزة لا يعوّل على روايته،غير انّ الأصحاب قبلوها.
و في رواية معاوية بن عمّار في الحسن،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،في البئر يبول فيها الصّبيّ أو يصبّ فيها بول أو خمر؟قال:(ينزح الماء كلّه) (2)و حمله الشّيخ على التّغيّر (3)، و في رواية كردويه:(ينزح ثلاثون)و قد تقدّمت (4)،و في رواية محمّد بن بزيع في الصّحيح:(ينزح منها دلاء) (5)من غير ذكر تفصيل البول.و الأقرب في العمل عندي:
الأخذ برواية محمّد بن بزيع لسلامة سندها.
و يحمل الدّلاء في البول على رواية كردويه،فإنّها لا بأس بها.و رواية معاوية بن عمّار،تحمل على التّغيّر في البول أو على الاستحباب.
لإطلاق الاسم .
،إن عملنا برواية محمّد بن بزيع أو برواية كردويه،و إن عملنا برواية عليّ بن أبي حمزة حصل الفرق.و ابن إدريس لم يفرّق بينهما من مأخذ آخر،قال:لأنّها إنسان،و الحكم معلّق عليه معرّفا باللام الدّالّ على
ص:86
العموم (1).و مقدّماته كلّها فاسدة.نعم،لا فرق في المرأة بين الصّغيرة و الكبيرة في وجوب الأربعين .
،و ذلك روى الشّيخ،عن كردويه،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول و العذرة و أبوال الدّواب و أرواثها و خرء الكلاب؟قال:(ينزح منها ثلاثون دلوا،و إن كانت مبخرة) (2).
السّلام،قال:(إذا وقع في البئر الطّير و الدّجاجة و الفأرة،فانزح منها سبع دلاء) (1)و كذا في رواية عليّ بن أبي حمزة،و قد تقدّمت في قسم الكلب.و كذا في رواية سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و في رواية زرارة،و محمّد بن مسلم،و بريد بن معاوية، عنهما عليهما السّلام(دلاء)و قد تقدّمت.و كذا في رواية البقباق (2)،و رواية عليّ بن يقطين (3).
و في رواية الحلبيّ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها،فانزح منها دلاء)قال:(فإن وقع فيها جنب،فانزح منها سبع دلاء،و إن مات فيها بعير أو صبّ فيها خمر،فلينزح) (4).
و في رواية عبد اللّه بن سنان في الحسن،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إن سقط في البئر دابّة صغيرة أو نزل فيها جنب،نزح منها سبع دلاء) (5).
و في رواية إسحاق بن عمّار:(الدّجاجة و مثلها يموت في البئر،تنزح منها دلوان أو ثلاثة) (6).
و في رواية أبي أسامة في الحسن،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،في الفأرة و السّنّور و الدّجاجة و الطّير و الكلب؟قال:(ما لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء،فيكفيك خمس دلاء، فإن تغيّر الماء،فخذه حتّى يذهب الرّيح) (7).
ص:88
قال ابن إدريس:و السّبع يجب للنّعامة و الحمامة و ما بينهما (1).
و ثانيها:اغتسال الجنب،و يدلّ عليه:رواية الحلبيّ و ابن سنان.
و في رواية أبي بصير،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يدخل البئر فيغتسل منها؟قال:(ينزح منها سبع دلاء) (2).
و روى الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،عن أحدهما عليهما السّلام،في البئر يقع فيها الميتة؟قال:(إذا كان له ريح نزح منها عشرون دلوا)و قال:(إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء) (3).
تنبيه:قال ابن إدريس:الحكم يتعلّق (4)بالارتماس بحيث يغطّي ماء البئر رأسه لا بالنّزول (5).و الرّوايات الّتي أوردناها ليس فيها إشعار بذلك،فرواية الحلبيّ بعبارة الوقوع و رواية ابن سنان بعبارة النّزول،و رواية أبي بصير بالدّخول و الاغتسال،و رواية محمّد بن مسلم بالدّخول.
آخر:هذا الحكم إنّما يتعلّق مع الخلوّ عن النّجاسة العينيّة.كذا ذكره ابن إدريس (6)بناء منه على انّ المنيّ يوجب نزح الجميع.و نحن لمّا لم تقم عندنا دلالة على وجوب النّزح للمنيّ،لا جرم توقّفنا في هذا الاشتراط.
و ينبغي أن يعلم انّ القائلين بتنجيس البئر،منهم من قال بالمنع من المستعمل في الكبرى فأوجب النّزح للجنب كالشّيخين (7)،و منهم من لم يمنع منه فلم يتعرّض للنّزح
ص:89
كالمرتضى (1)،إلاّ سلاّر،فإنّه أوجب النّزح و لم يمنع من الاستعمال (2).أمّا نحن فلمّا أوجبنا النّزح للتعبّد،قلنا بالوجوب هاهنا،عملا بهذه الرّوايات.
و ثالثها:خروج الكلب حيّا بعد وقوعه،لرواية أبي مريم في الصّحيح،قال:حدّثنا جعفر قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:(إذا مات الكلب في البئر نزحت)و قال جعفر عليه السّلام:(إذا وقع فيها ثمَّ اخرج منها حيّا نزح منها سبع دلاء) (3)و هو اختيار الشّيخ في المبسوط (4).و قال في النّهاية:و قد روي إذا وقع فيها كلب و خرج حيّا،نزح منها سبع دلاء (5).و ابن إدريس استضعف هذه الرّواية،و قال:ينزح منها أربعون دلوا (6)،و لا أعرف من أين هذا الاستضعاف و التّقدير الّذي صار إليه،فإن كان استضعافه لقول الشّيخ في النّهاية:و روي (7)،فهو خيال فاسد.
و رابعها:الفأرة إذا تفسّخت أو انتفخت (8).كذا قال المفيد (9)و أبو الصّلاح (10)و سلاّر (11)،و قال الشّيخ:إذا تفسّخت فسبع دلاء (12).و قال المرتضى في المصباح:في الفأرة سبع دلاء و قد روي ثلاث (13).
ص:90
و قال ابن بابويه:و إن وقع فيها فأرة،فدلو واحدة،و إن تفسّخت،فسبع دلاء (1).
قال ابن إدريس:و حدّ تفسّخها انتفاخها (2).
لنا:ما رواه أبو عيينة (3)،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال:(إذا خرجت فلا بأس،و إن تفسّخت فسبع دلاء) (4).
و ما رواه أبو سعيد المكاري (5)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا وقعت الفأرة في البئر فتسلّخت،فانزح منها سبع دلاء) (6).
و ما رواه منصور (7)،قال:حدّثني عدّة من أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:(ينزح منها سبع إذا بال فيها الصّبيّ أو وقعت فيها فأرة أو نحوها) (8)و لا يحضرني
ص:91
الآن حال رواه هذه الأحاديث،لكن روى الشّيخ في الصّحيح،عن معاوية بن عمّار، قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة و الوزغة تقع في البئر؟قال:(ينزح منها ثلاث دلاء) (1)و مثله روى في الصّحيح،عن ابن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (2).
و روى في الصّحيح،عن الحلبيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا سقط في البئر شيء صغير فمات فيها،فانزح منها دلاء) (3).
و روى في الحسن،عن عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إن سقط في البئر دابّة صغيرة أو نزل فيها جنب نزح منها سبع دلاء) (4)علّق الحكم على موت صغير الحيوان الصّادق على الفأرة،فيوجد عند ثبوته.
و روى،عن سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،في الفأرة تقع في البئر أو الطّير؟ قال:(إن أدركته قبل أن ينتن نزحت منه سبع دلاء) (5)و سماعة واقفيّ،و الرّاوي عنه عثمان بن عيسى واقفيّ (6)،فالاستدلال بها ضعيف.
و في رواية عليّ بن يقطين في الصّحيح:(ينزح منها دلاء) (7)من غير ذكر التّفسّخ
ص:92
و لا العدد (1).و كذا في رواية زرارة،و محمّد،و بريد عنهما،و قد تقدّمت (2).
و في رواية أبي أسامة في الحسن:(إذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء[فيكفيك] (3)خمس دلاء) (4).
و في رواية عليّ بن أبي حمزة:(سبع دلاء) (5)،و لم يذكر التّفسّخ،و هي ضعيفة السّند.و كذا في رواية عمرو بن سعيد بن هلال (6)،و هي ضعيفة أيضا،و كذا في رواية أبي أسامة و أبي يوسف يعقوب بن عثيم (7).
و روى في الصّحيح،عن ابن مسكان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّا يقع في الآبار؟قال:(أمّا الفأرة،فينزح منها حتّى تطيب،و إن سقط فيها كلب فقدرت على أن تنزح ما فيها فافعل،و كلّ شيء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك،فلا بأس) (8)و لكنّ هذه الرّواية إنّما تدلّ على ما وجد فيه التّغيّر لدلالة قوله عليه السّلام:(حتّى تطيب)عليه.
و روى أبو خديجة (9)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل عن الفأرة تقع في
ص:93
البئر؟قال:(إذا ماتت و لم تنتن،نزح أربعين دلوا) (1)و حمل الشّيخ هذه الرّواية على الاستحباب (2)و إطلاق الرّواية بالسّبع على التّفسّخ،و بالثّلاث على عدمه.
و قد عرّفناك ضعف الرّوايات الدّالة على التّفصيل مع أنّ في رواية أبي أسامة (3)نزح خمس مع عدم التّفسّخ.
و خامسها:بول الصّبيّ،و تدلّ (4)عليه رواية منصور،عن عدّة من أصحابنا.و قد تقدّمت في الفأرة (5).و في رواية عليّ بن أبي حمزة نزح لبول الصّبيّ الفطيم دلو واحد (6).
.اختاره الشّيخ (7)،و قيّده المفيد و ابن إدريس بالجلاّل (8)،و لم أقف على حديث يدلّ على شيء منهما .
،و هو موت الفأرة مع عدم التّفسّخ على ما ذكره الشّيخ (9)، و بول الصّبيّ إذا أكل الطّعام على ما ذكره السّيّد المرتضى (10)،و بول الصّبيّ الرّضيع على ما ذكره أبو الصّلاح (11)،و قد تقدّم البحث في ذلك كلّه (12).
و لموت الحيّة سواء تفسّخت أو لا،و ألحق الشّيخ بها الوزغة (13)،و العقرب،و اقتصر
ص:94
المفيد على الوزغة (1)و قال أبو الصّلاح:للحيّة و العقرب ثلاث دلاء،و للوزغة دلو واحدة (2).و قال عليّ بن بابويه (3):إذا وقع فيها حيّة أو عقرب أو خنافس أو بنات وردان (4)،فاستق للحيّة دلوا،و ليس عليك فيما سواها شيء (5).و ابن إدريس اقتصر على الحيّة بثلاث (6).
أمّا الحيّة،فلم نقف على حديث يدلّ على ما ذكروه فيها،و يمكن التّمسّك فيها بحديث عبد اللّه بن سنان (7)،الدّالّ على حكم الدّابّة الصّغيرة،لكنّه يدلّ على نزح سبع دلاء.
و أمّا الوزغة،فيدلّ عليه روايتا معاوية و ابن سنان في الصّحيح،و قد تقدّمتا في فصل الفأرة (8).
و في رواية الحلبيّ في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا سقط في البئر حيوان صغير،فانزح منها دلاء) (9)و هي دالّة على الوزغة و الحيّة أيضا،و يحمل على الثّلاثة أخذا بالمتيقّن في أقلّ الجمع.
ص:95
و في رواية يعقوب بن عثيم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:سام أبرص وجدناه قد تفسّخ في البئر؟قال:(إنّما عليك أن تنزح منه سبع دلاء)قال:قلت:فثيابنا الّتي صلّينا فيها،نغسلها و نعيد الصّلاة؟قال:(لا) (1).
و سأل جابر بن يزيد الجعفيّ (2)أبا جعفر عليه السّلام عن السّام أبرص يقع في البئر؟ فقال:(ليس بشيء،حرّك الماء بالدّلو) (3)و جمع الشّيخ بينهما،بأن حمل الثّاني على عدم التّفسّخ.
و الأولى عندي تعلّق الحكم،و هو نزح الثّلاث بالحيّة دون غيرها ممّا عدّدناه،لوجود النّفس السّائلة لها دون غيرها،و ميتتها نجسة،و أحمل رواية يعقوب في سام أبرص على الاستحباب.
أمّا أوّلا:فلرواية جابر.
و أمّا ثانيا:فلأنّها لو كانت نجسة بوقوعه،لما أسقط عنه غسل الثّوب.
و سأل يعقوب بن عثيم أبا عبد اللّه عليه السّلام،فقال له:بئر ماء في مائها ريح يخرج منها قطع جلود؟فقال:(ليس بشيء،انّ الوزغ ربّما طرح جلده و إنّما يكفيك من ذلك دلو واحد) (4)و ربّما كان ذلك اعتماد أبي الصّلاح (5).
ص:96
و في رواية هارون بن حمزة الغنويّ (1)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الفأرة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّا،هل يشرب من ذلك الماء و يتوضّأ منه؟قال:(يسكب منه ثلاث مرّات،و قليله و كثيره بمنزلة واحدة،ثمَّ يشرب منه و يتوضّأ غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه) (2).
و الأقرب عندي تفريعا على القول بالتّنجيس:استحباب النّزح للعقرب أيضا.و يدلّ عليه ما رواه ابن مسكان في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله:(و كلّ شيء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس) (3).
و في رواية المنهال بن عمرو (4)،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:العقرب تخرج من البئر ميّتة؟قال:(استق منها عشرة دلاء)قال:فقلت:فغيرها من الجيف؟ قال:(الجيف كلّها سواء إلاّ جيفة قد أجيفت،فإن كانت جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو،فإن غلب عليها الرّيح بعد مائة دلو،فانزحها كلّها) (5)فما تضمّنت هذه الرّواية من نزح العشرة على جهة الاستحباب.و منهال،لا يحضرني الآن حاله،فإن كان ثقة فالرّواية صحيحة.
ص:97
و لنا:ما روي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة) (1).
،و هو:العصفور و ما أشبهه،و بول الرّضيع،و أمّا العصفور و شبهه،فقال به الشّيخان (2)و أتباعهما (3).و تدلّ عليه رواية عمّار السّاباطيّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام،و ذكر الحديث إلى أن قال:(و أقلّ ما يقع في البئر عصفور نزح منها دلو واحد) (4)و عمّار فطحيّ (5)،لكنّ الأصحاب قبلوا روايته و شهدوا له بالثّقة.
و في رواية الحلبيّ في الصّحيح،و رواية ابن سنان في الحسن،دلالة على نزح ما هو أكثر،و قد تقدّمتا (6).
و أمّا البول،فقد مضى الكلام فيه (7).و حدّ ابن إدريس الرّضيع بمن كان له دون الحولين،سواء أكل الطّعام أو لا (8).
و قال أبو الصّلاح:لبول الصّبيّ الرّضيع ثلاث دلاء (9).و ألحق الصّهرشتيّ (10)
ص:98
بالعصفور كلّ طائر في حال صغره (1).و فيه إشكال.و الأقرب إلحاقه بنوعه،لتناول الاسم له.
و اشترط الرّاونديّ فيه أن يكون مأكولا،قال:و احترز بذلك عن الخفّاش،فإنّه نجس (2)،و هو أشدّ إشكالا من الأوّل.
و للحنفيّة تقسيم آخر للنّجاسة الواقعة في البئر،قالوا:إمّا أن يكون ذا روح أو لا.
و الثّاني يوجب نزح الجميع،كالبول،و الدّم،و الخمر قلّت أو كثرت.و الأوّل لا يخلو إمّا أن يكون فأرة و نحوها،كالعصفور و شبهه،أو دجاجة و نحوها كالسّنّور،أو شاة و نحوها كالإنسان،فلا يخلو إمّا أن يخرج حيّا،أو ميّتا،و بعد الموت لا يخلو إمّا أن تكون منتفخة،أو منفسخة (3)تمعّط (4)شعرها،أو غير منتفخة و غير منفسخة (5)و لم يتمعّط شعرها،فإن خرج حيّا فلا يوجب النّزح شيء منها إلاّ الكلب و الخنزير،ذكره القاضي الشّهيد في نكته، و قال:انّ الفأرة إذا وقعت في البئر هاربة من الهرّ،فإنّها توجب تنجيس ماء البئر،و إن خرجت حيّة لأنّها تبول من فزعها،و كذا الهرّة إذا وقعت هاربة من الكلب و غير الكلب، و الخنزير إذا خرج حيّا لم ينزح له شيء إذا لم يصب الماء فمه،فإن أصاب فمه،فإن كان سؤره طاهرا فالماء طاهر،و إن كان نجسا فالماء نجس،و إن كان مكروها فالماء مكروه.
و يستحبّ أن ينزح منها عشر دلاء.و إن كان سؤره مشكوكا كالبغل،و الحمار،نزح الماء كلّه،كذا ذكر في الفتاوي عن أبي يوسف (6)،و إن استخرج بعد التّفسّخ و تمعّط الشّعر، نزح الماء كلّه في الفصول بأسرها،و إن استخرج قبله بعد الموت،فإن كان فأرة و نحوها نزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون بعد إخراجها،و إن كان سنّورا و شبهه،نزح منها أربعون أو خمسون،و إن كانت شاة و شبهها،نزح الماء كلّه حتّى يغلبهم الماء،و في الإوزّة، و السّخلة،و الجدي روايتان عن أبي حنيفة.
ص:99
إحداهما:أنّها كالشّاة.
و الأخرى:كالدّجاجة.
ثمَّ اختلفوا في نزح الماء كلّه (1)،فقال محمّد (2)في النّوادر:إذا نزح ثلاثمائة دلو أو مائتا دلو (3)فإن لم ينزف فقد غلبهم الماء.
و روي عن أبي حنيفة انّه قال:ينزح منها مائتا دلو.و في رواية:مائة دلو (4).و عن أبي يوسف روايتان:
إحداهما:يحفر من جانبها حفرة مقدار عرض الماء و طوله و عمقه فتجصّص و ينزح ماؤها فيصبّ فيها حتّى تملأ،فإذا امتلأت حكم بطهارتها.
و الأخرى:يرسل فيها قصبة أو خشبة،فيجعل لمبلغ الماء علامة،ثمَّ ينزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون (5)،فينظر كم انتقص،فإن انتقص شبر،نزح لكلّ شبر ذلك المقدار إلى آخره (6).
و قيل:يؤتى برجلين عارفين بأمر الماء فيحكمان فيه،فينزح مقدار ما حكما به (7).
و قال الكرخيّ (8):يحكم بالاجتهاد و إن سكن قلبه انّه طهر حكم به،قالوا:و هذا
ص:100
كلّه استحسان.و القياس إمّا أن لا يحكم بنجاسة الماء كما قال الشّافعيّ (1)،أو إذا حكم بالنّجاسة لا يحكم بالطّهارة بعد ذلك،كما قال بشر (2):يطمّ البئر طمّا (3).
و نحن قد عرفت ما عندنا فيه من انّ المراد بنزح كلّ الماء نزح الجميع بحيث لا يبقى منه شيء و لا يتقدّر بقدر،و مع التّعذّر بالتّراوح عملا بالنّصّ .
.و هو اتّفاق علماء الإسلام،و اختلف الأصحاب في تطهيره،فقال الشّيخان:ينزح الجميع،فإن تعذّر نزح حتّى تطيب (4).
و قال السّيّد المرتضى (5)و ابنا بابويه:مع التّعذّر يتراوح عليها أربعة رجال يوما (6).
و قال أبو الصّلاح:نزح حتّى يزول التّغيّر (7).
و قال ابن إدريس:إن كانت ممّا يوجب نزح الجميع نزح،و مع التّعذّر يتراوح الأربعة يوما،فإن زال التّغيّر طهرت،و إلاّ نزحت حتّى يزول التّغيّر،و لا يتقدّر بعد ذلك بمدّة بل بالزّوال،و إن كانت ممّا يوجب نزح مقدار محدود نزح المقدّر،فإن زال التّغيّر طهرت و إلاّ نزحت حتّى يزول (8).و الأولى عندي:ما ذكره أبو الصّلاح.
ص:101
لنا:رواية أبي أسامة في الحسن،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:(فإن تغيّر الماء فخذه حتّى يذهب الرّيح) (1).
و رواية ابن بزيع في الصّحيح،عن الرّضا عليه السّلام:(فينزح منه حتّى يذهب الرّيح و يطيب طعمه،لأنّه (2)له مادّة) (3).
و في رواية سماعة:(و إن أنتن حتّى يوجد ريح النّتن في الماء،نزحت البئر حتّى يذهب النّتن من الماء) (4).
و في رواية زرارة:(فإن غلبت الرّيح،نزحت حتّى تطيب) (5)و لأنّ العلّة هي التّغيّر بالنّصّ و الدّوران في الطّرفين على مذهبنا،و قد زال،فيزول الحكم التّابع،و لأنّه قبل وقوع المغيّر طاهر،فكذا بعده مع زوال التّغيّر،و الجامع المصلحة النّاشئة من الطّهارة في الحالين، و لأنّ نزح الجميع حرج و ضرر،فيكون منفيّا،و لأنّه لو لم يكن زوال التّغيّر غاية،لزم:إمّا خرق الإجماع،أو الفرق بين الأمور المتساوية بمجرّد التّحكّم (6)،أو إلحاق الأمور المختلفة بعضها ببعض لمعنى غير معتبر شرعا،و التّالي بأقسامه باطل،فالمقدّم مثله.
بيان الملازمة:انّه حينئذ إمّا أن لا يطهر بالنّزح و هو خرق الإجماع،أو يطهر،فإمّا بنزح الجميع حالتي الضّرورة و الاختيار،و هو خرق الإجماع أيضا،و إمّا بنزح الجميع حالة الاختيار،و بالزّوال حالة الضّرورة و العجز،و هو الفرق بين الأمور المتساوية،ضرورة تساوي الحالتين في التّنجيس،أو بالجميع في الاختيار،و بالتّراوح عند الضّرورة،قياسا على الأشياء المعيّنة الموجبة لنزح الجميع،و هو قياس أحد المختلفين على الآخر،ضرورة عدم
ص:102
النّصّ الدّالّ على الإلحاق،أو ينزح شيء معيّن،و هو خرق الإجماع.ضرورة عدم القائل به من الأصحاب.
لا يقال:لا نسلّم تساوي حالتي الضّرورة و الاختيار.
لأنّا نقول:نعني بالتّساوي هاهنا اتّحادهما في الحكم بالتّنجيس،مع سقوط التّعليل بالمشقّة و الحرج في نظر الشّرع،إذ هو حوالة على وصف خفيّ مضطرب،و مثل هذا لا يجعله الشّارع مناطا للحكم،و لأنّه يشبه الجاري بمادّته فيشبهه في الحكم،و قد نصّ الرّضا عليه السّلام على هذه العلّة (1).و لا شكّ في انّ الجاري يطهر بتواتر جريانه حتّى يزول التّغيّر، فكذا البئر إذا زال التّغيّر بالنّزح،يعلم حصول الجريان من النّابع الموجب لزوال التّغيّر.
حجّة الشّيخ:ما رواه في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:(فإن أنتن غسل الثّوب و أعاد الصّلاة و نزحت البئر) (2).
و في رواية منهال:(و إن كان (3)جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو،فإن غلب عليها الرّيح بعد مائة دلو،فانزحها كلّها) (4)،و لأنّه ماء محكوم بنجاسته إجماعا،فالتّقدير تحكّم.
و الجواب عن الحديث الأوّل من وجهين:
أحدهما:يحتمل(نزحت البئر حتّى تطيب)و يجب المصير إليه جمعا بين الأخبار.
الثّاني:يحتمل انّ الماء قد تغيّر تغيّرا لا يزيله إلاّ نزح الجميع،إمّا لقلّته أو لغلبة النّجاسة.
و عن الثّاني:بالوجه الثّاني من هذين،و يدلّ عليه العادة،فإنّ من المستبعد نزح مائة دلو من ماء متغيّر،و لا يزول تغيّره إلاّ لغلبة النّجاسة و ضيق مجاري الماء و قلّة الجريان.
ص:103
و عن الثّالث:بالمنع من التّحكّم،و بالخصوص مع وجود النّصّ المتقدّم .
،فعندنا لا يتعلّق به حكم.
و القائلون بالتّنجيس اختلفوا،فقال بعضهم بالجميع،لأنّه ماء محكوم بنجاسته،فلا بدّ من النّزح (1)،و التّخصيص ببعض المقادير ترجيح من غير مرجّح،فوجب نزح الجميع.
و بعضهم أوجب نزح أربعين (2)،لرواية كردويه (3)،و هي إنّما تدلّ على نزح ثلاثين، و مع ذلك فالاستدلال بها لا يخلو من تعسّف،و تردّد الشّيخ في المبسوط (4).و الأقوى عندي تفريعا على التّنجيس:الأوّل .
،و أبو حنيفة قال:إن كان لها دلو معروف نزح به،و إلاّ اتّخذ دلوا تسع عشرة أرطال،و قيل:ثمانية أرطال (5).
و قال أبو حنيفة و صاحباه (1):يحكم بالطّهارة (2).
.و هو أحد وجهي الشافعيّة،و الآخر:تنجس (4).فيغسل لو أريد تطهيرها،و ليس بجيّد للضرر،و عدم إمكان التّطهير.و عن أحمد روايتان كالوجهين (5).
،لعدم الدّليل الدّالّ على ذلك،و لأنّه حكم شرعيّ،فكان يجب على الشّرع بيانه،و لأنّه يستحبّ زيادة النّزح في البعض،و لو كان نجسا لتعدّت نجاسته إلى الماء .
،لعدم الدّليل الدّالّ على الوجوب،و لأنّه ليس في نفسه عبادة مطلوبة،بل معنى وجوب النّزح عدم جواز الاستعمال إلاّ به،لا انّه مستقرّ في الذّمّة، فجرى مجرى إزالة النّجاسات (6).
فرع:يجوز أن يتولّى النّزح البالغ و غيره،و المسلم و غيره مع عدم المباشرة،للمقتضي،و هو النّزح السّالم عن معارضة اشتراط النّيّة .
،و المتساقط من الدّلو معفوّ عنه للمشقّة،و لأنّ الحكم بالطّهارة معلّق (7)بالنّزح و قد حصل،و لأنّ البئر معدن الطّاهر، و الدّلو معدن النّجس،فإذا انفصل عن وجه الماء،تميّز النّجس عن الطّاهر،فيطهر،كما لو نحّي عن رأس البئر.
ص:105
و قال أبو حنيفة و أبو يوسف:لا يطهر إلاّ إذا نحّي عن رأس البئر،لأنّ الفصل بين ماء البئر و ماء الدّلو واجب[لا الفصل (1)]بين الظّرفين،و ماء البئر متّصل بالدّلو حكما،لأنّه لا ينجس الماء بما يتقاطر منه،فحكم المتقاطر حكم ماء البئر،فلا يقع الانفصال من كلّ وجه،بخلاف ما إذا نحّي عن رأس البئر،لأنّه انفصال حقيقيّ،و لهذا لو عاد شيء من ماء الدّلو إليه،وجب النّزح ثانيا (2).
،فإن غيّرت الماء،حكم بنجاسته من حين الوقوف على التّغيّر،و إلاّ فلا،سواء وجدت منتفخة أو لا.هذا على رأينا،و أمّا القائلون بالتّنجيس،فحكموا به من حين الوجدان (3)،و هو اختيار أبي يوسف و محمّد (4)،لأنّ النّجاسة في الحال متيقّنة،و في الماضي مشكوك فيه (5)،لاحتمال موتها خارجا و انتفاخها ثمَّ سقوطها،فلا تثبت النّجاسة في الماضي بالشّك.
و عند أبي حنيفة إن وجدت منتفخة حكم بنجاستها منذ ثلاثة أيّام و لياليها،و إن كانت غير منتفخة منذ يوم و ليلة (6)،لأنّ الموت حادث لا بدّ له من سبب ظاهر،و الوقوع في الماء سبب صالح،فيضاف إليه للمناسبة،و من المعلوم انّه لا يموت بالسّقوط في زمان قصير، بل يمضي مدّة كثيرة و نهايتها غير مضبوطة،فقدّرناها بيوم و ليلة الّذي هو أدنى الكثرة.
و الانتفاخ يفتقر إلى زمان أكثر من زمان الموت،و هو غير ممكن أن يوقف عليه،فقدّرناه بثلاثة أيّام و لياليها.و ما ذكره أبو حنيفة ليس بجيّد،لأنّ الوصف الّذي ذكره مناسبا، مرسل غريب،فإنّه لم يشهد له أصل من الأصول بالاعتبار بطريق من الطّرق،فكان مرسلا،و لم يعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم،فكان غريبا،فيكون مردودا اتّفاقا.
ص:106
و أيضا:المناسبة إنّما تتمّ على تقدير عدم وجود مفسدة راجحة أو مساوية (1)،و المفسدة هنا موجودة،و هي الضّرر الحاصل من التّنجيس في الماضي.
و أيضا:الموت حاصل من اللّه تعالى،فكيف يطلب له سبب ظاهر،و بالخصوص مع عدم توقّف الموت على السّبب دائما و لا أكثريّا؟! و أيضا:التّقييد لأدنى كثرة الموت بيوم و ليلة و لأدنى الانتفاخ بثلاث،تخمين غير مطابق للوجود،بل في الغالب يحصلان لأقلّ من المقدّرين .
،فإن كانت من نوع واحد،فالأقرب سقوط التّكرير في النّزح،لأنّ الحكم معلّق على الاسم المتناول للقليل و الكثير لغة،أمّا إذا تغايرت،فالأشبه عندي:التّداخل.
لنا:انّه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين،فيحصل الإجزاء،و قد بيّنا انّ النّيّة غير معتبرة، فلا يقال:انّه يجب عليه النّزحان (3)لكلّ نجاسة مقدار مغاير.
لا يقال:يلزم تعليل الشّيء الواحد بعلل متغايرة،و هو محال.
لأنّا نقول:الحقّ انّ هذه علامات و معرّفات لا علل عقليّة،و لا استحالة في اجتماع المعرّفات،و يحتمل التّزايد،لأنّ كثرة الواقع يزيد مقدار النّجاسة،فيؤثّر زيادة شياع للنّجاسة في الماء.و لهذا اختلف النّزح بزيادة (4)مقدار الواقع و موته و إن كان طاهرا في الحياة .
،عملا بالاحتياط الدّالّ على المساواة،و بأصالة البراءة الدّالّة على عدم الزّيادة .
،و هو متّفق عليه بين القائلين بالتّنجيس،فإنّه قبل الإخراج لا فائدة فيه و إن كثر.
ص:107
،فالّذي أقوله تفريعا على القول بالتّنجيس:انّه لا يجب نزح ما زاد على العدد عملا بالأصل،و لأنّه لم تزد (1)النّجاسة بالنّزح و الإلقاء،و كذا إذا القي الدّلو الأوسط.أمّا لو القي الدّلو الأخير بعد انفصاله عنها،فالوجه دخوله تحت النّجاسة الّتي لم يرد فيها نصّ.و كذا لو رمي الدّلو الأوّل في بئر طاهرة الحق بغير المنصوص.
و قالت الحنفيّة:تطهر البئر الثّانية بما تطهر به البئر الاولى (2)و ليس بجيّد،لأنّ النّزح الأوّل وجب لنجاسة معيّنة،و الماء المصبوب مغاير لها،فلا يلحقه حكمها من حيث النّصّ.و أمّا القياس فيه فباطل،خصوصا على رأيهم في انّه لا يجري القياس في الأمور المقدّرة،كالحدود و الكفّارات.
و لو ألقيت النّجاسة العينيّة و ما وجب لها من المنزوح في الطّاهرة،فالأولى التّداخل.
و هو مذهب الحنفيّة (3).
،فالأصل فيه الطّهارة.
لا يقال:ظهور الماء عقيب الجفاف أمارة على انّ العائد هو الأوّل.
لأنّا نقول:جاز أن يكون هو الأوّل،و جاز أن يكون قد انصبّ إليها من(مواد جهات) (5)لها،و إذا جاز الأمران جوازا متساويا،كيف يجعل الإعادة أمارة على أحد الجائزين دون الآخر؟! لا يقال:البئر قد تعلّق عليها الحكم بوجوب النّزح،فلا يسقط إلاّ به.
لأنّا نقول:النّزح لم يتعلّق بالبئر،بل بمائها المحكوم بنجاسته الّذي لا يعلم وجوده، فالتّكليف بالنّزح منه،تكليف بما لا يطاق،و لأنّ التّكليف سقط وقت الذّهاب،فعوده
ص:108
يحتاج إلى دليل مستأنف .
،فالأولى على التّخريج:الحكم بالطّهارة،لأنّ المتّصل بالجاري كأحد أجزائه،فيخرج عنه حكم البئر .
نصّ في المبسوط انّه لا يطهر (1)و يمكن أن يكون ذلك منه بناء على مذهبه من انّ الماء المستعمل في الكبرى لا يجوز استعماله لا من حيث انّه نجس لعدم ملاقاته للنّجاسة (2)،و العجب انّ ابن إدريس القائل بطهارة المستعمل،حكم هنا بنجاسة البئر (3)،و لم يوجد في الأحاديث شيء يدلّ عليه، و لا في لفظ أصحابنا ذلك،و الحق عندي بناء على التّنجيس:عدم تنجيس الماء و الاكتفاء بالطّهارة،و لا ينافي ذلك وجوب النّزح.
و قال أبو حنيفة:إذا ارتمس بغير نيّة الاغتسال،فالماء نجس و الرّجل طاهر،لأنّ الماء مطهّر بذاته،و إنّما يتنجّس بعد مزايلته عن البدن (4)،و هو بناء على تنجيس المستعمل و عدم اشتراط النّيّة.و سيأتي البحث فيهما.
و قال أبو يوسف:الرّجل جنب و الماء نجس (5).لأنّ صبّ الماء عنده شرط لإزالة الحدث،و لم يوجد،و الماء نجس لملاقاته البدن و هو النّجس،و المقدّمتان ممنوعتان.
و قال محمّد:الماء طاهر و الرّجل طاهر (6)،لأنّ الماء لاقى بدنه و هو مطهّر،فيطهر،و لا ينجس الماء،لاشتراط نيّة التّقرّب عنده في صيرورة الماء مستعملا،و لم يوجد .
.
ص:109
لنا:ما رواه محمّد بن القاسم (1)،عن أبي الحسن عليه السّلام،في البئر يكون بينها و بين الكنيف خمس و أقلّ و أكثر يتوضّأ منها؟فقال:(ليس يكره من قرب و لا بعد،يتوضّأ منها و يغتسل ما لم يتغيّر الماء) (2)و لأنّ طهارة الماء معلومة فلا تزول إلاّ مع تيقّن السّبب، و لأنّه حرج،فيكون منفيّا.نعم،يستحبّ تباعدهما قدر خمسة أذرع إن (3)كانت البئر فوق البالوعة أو كانت الأرض صلبة،و مع فقدهما سبعة،لما رواه الحسن بن رباط (4)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن البالوعة تكون فوق البئر؟قال:(إذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع و إن كانت فوق البئر فسبعة أذرع من كلّ ناحية و ذلك كثير) (5).
و في رواية قدامة بن أبي زيد الحمّار (6)،عن بعض أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته،كم أدنى ما يكون بين البئر-بئر الماء-و البالوعة؟فقال:(إن كان سهلا فسبعة أذرع،و إن كان جبلا فخمسة) (7).
ص:110
و في رواية محمّد بن سليمان الدّيلميّ (1)،عن أبيه،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف؟فقال لي:(انّ مجرى العيون كلّها مع مهبّ الشّمال،فإذا كانت البئر النّظيفة فوق الشّمال و الكنيف أسفل منها،لم يضرّها إذا كان بينهما أذرع،و إن كان الكنيف فوق النّظيفة،فلا أقلّ من اثني عشر ذراعا،و إن كان تجاها بحذاء القبلة و هما مستويان في مهبّ الشّمال،فسبعة أذرع) (2).
و في رواية زرارة و محمّد بن مسلم،و أبي بصير في الحسن،قالوا:قلنا له:بئر يتوضّأ منها يجري البول قريبا منها،أ ينجّسها؟قال:فقال:(إن كانت البئر في أعلى الوادي، فالوادي (3)يجري فيه البول من تحتها و كان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شيء،و إن كانت البئر في أسفل الوادي و يمرّ عليها الماء و كان بين البئر و بينه تسعة (4)أذرع،لم ينجّسها،و ما كان أقلّ من ذلك،لم يتوضّأ منه)قال زرارة:فقلت له:فإن كان يجري يلزقها (5)و كان لا يلبث (6)على الأرض؟فقال:(ما لم يكن له قرار فليس به بأس،فإن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض و لا يغوله حتى يبلغ البئر،و ليس على البئر منه بأس،فتوضّأ منه إنّما ذلك إذا استنقع كلّه) (7).
لا يقال:هذا الحديث يدلّ على التّنجيس من وجوه:
ص:111
الأوّل:انّه علّق عدم التّنجيس بعدد،فينتفي عند انتفائه.
الثّاني:قوله:(و إن كان أقلّ من ذلك لم يتوضّأ منه)و ما ذاك إلاّ للتّنجيس.
الثّالث:قوله:(ما لم يكن له قرار،فليس به بأس)دلّ من حيث المفهوم على ثبوت البأس مع الاستقرار.
الرّابع:قوله:(و ما كان منه قليل لا يثقب الأرض،فليس به بأس)دلّ على ثبوت البأس مع الكثرة.
الخامس:قوله:(إنّما ذلك إذا استنقع كلّه)دلّ بالنّصوصيّة على ثبوت التّنجيس مع الاستنقاع.
لأنّا نقول:الجواب عمّا ذكرتموه من حيث الإجمال و من حيث التّفصيل:
أمّا الإجمال فمن وجهين:
أحدهما:انّ هؤلاء الرّواة لم يسندوها عن إمام،و يجوز أن يكون قولهم:(قلنا)إشارة إلى بعض العلماء،و إن كان هذا الاحتمال مرجوحا إلاّ انّه غير ممتنع.
الثّاني:انّ الوجوه الّتي ذكرتموها،غير دالّة على التّنجيس بمنصوص الخطاب،بل بمفهومه،فلا يعارض النّصّ.
و أمّا التّفصيل،فالجواب عن الأوّل بالمنع من عدم الحكم عند عدم العدد.و لنزد هذا تحقيقا فنقول:إذا (1)كان العدد النّاقص علّة للعدم،امتنع الوجود في الزّائد لوجود علّة العدم فيه،أمّا لو كان النّاقص موصوفا بحكم لم يجب اتصاف الزّائد به،فإنّه لا يلزم من إيجاب الثّمانين إيجاب الزّائد،و إذا كان العدد موصوفا بوصف الإباحة،كان النّاقص عنه إذا كان داخلا تحته في كلّ حال موصوفا بها،كإباحة جلد الثّمانين المستلزم لإباحة العشرين، و إن لم يدخل تحته البتّة لم يتعدّ الوصف إليه،كإباحة العمل بالشّاهدين،و إن دخل في حال دون أخرى كإباحة استعمال ألف و مائتي رطل إذا وقع فيها نجاسة،لم تدلّ على الثّبوت في الأقلّ،أمّا لو حرّم عددا،فقد يكون الأقل أولى بالتّحريم،كما في تحريم استعمال ما نقص عن الكرّ مع وقوع النّجاسة المستلزم لتحريم استعمال ما نقص عن
ص:112
النّاقص،و قد لا يكون،فإنّه لا يستلزم تحريم جلد القاذف مائة،تحريم الثّماني،و حكم الإيجاب حكم الإباحة.
و عن الثّاني:لا نسلّم انّ النّهي نهي تحريم.سلّمنا،لكن لا نسلّم انّه للتّنجيس، و كيف يحكم بذلك من يستدلّ على التّنجيس من أصحابنا و هم قد اتّفقوا على عدم التّنجيس بالتّقارب جدّا؟! و عن الثّالث انّ هذا مفهوم دليل الخطاب،و هو ضعيف،و لو سلّم فلا نسلّم انّ البأس يستلزم التّحريم،و هو الجواب عن الرّابع.
و عن الخامس:انّه ليس دالاّ على التّنجيس،بل على ثبوت البأس،و لو سلّم لكن ليس مطلق الاستقرار مقتضيا للتّنجيس،بل الاستقرار الموجب للنّفوذ،و يدلّ عليه قوله:
(فإن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض)و نحن نقول بموجبة،فإنّه مع النّفوذ من المستبعد أن لا يغيّر الماء فيحكم بالتّنجيس حينئذ.
و في رواية ابن بابويه،عن أبي بصير،قال:نزلنا في دار فيها بئر و إلى جانبها بالوعة ليس بينهما إلاّ نحو من ذراعين،فامتنعوا من الوضوء منها و شقّ ذلك عليهم،فدخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام،فأخبرناه به،فقال:(توضّأوا منها فإن لتلك البالوعة مجاري تصبّ في واد تصبّ (1)في البحر (2)).
و هذه الرّواية مناسبة للمذهب و إن كان في طريقها عليّ بن أبي حمزة،فيعمل عليها بموافقة الأصل،و غيرها من الأحاديث (3).
فرع:لو تغيّر ماؤها تغيّرا يصلح استناده إلى البالوعة،فهو على الطّهارة ما لم يحصل اليقين بالاستناد.و كذا غير البالوعة من النّجاسات.
آخر:لو وقع حيوان غير مأكول اللّحم في البئر،لم ينجّسها مع خروجه حيّا،لأنّ المخرج ينضمّ انضماما شديدا لخوفه،فلا يحصل ملاقاة الماء لموضع النّجاسة،و ما نقلناه عن أبي
ص:113
حنيفة أوّلا فليس شيئا البتّة.
و هو كلّ ما افتقر صدق اسم الماء عليه إلى تقييد و صحّ سلب المطلق عنه،سواء اعتصر من جسم،أو استخرج منه،أو مزج به ما يسلبه الإطلاق،كماء الرّمّان،و الورد، و الزّعفران،و هو طاهر إجماعا.
و لأنّ الأصل:الطّهارة،و النّجاسة طارئ،فيفتقر إلى السّبب،و لا يرفع حدثا إجماعا منّا،و ما اخترناه مذهب الشّافعيّ (1)،و مالك (2)،و أحمد (3)،و أبي عبيدة (4)، (5)، خلافا لأبي حنيفة،فإنّه جوّز الوضوء بنبيذ التّمر مع عدم الماء إذا كان حلوا أو قارسا (6)، (7).
و لو غلى و اشتدّ و قذف بالزّبد،لم يجز التّوضّؤ به في رواية (8).
ص:114
و لو انّه طبخ أدنى طبخة،فحكمه حكم المثلّث من العنب،فإنّه يجوز شربه في قول أبي حنيفة و أبي يوسف (1)،و عند محمّد:لا يتصوّر،فما دام حلوا فهو على الاختلاف المذكور (2).
و لو غلى و اشتدّ،قال أبو حنيفة:له أن يتوضّأ به (3).و قال محمّد:ليس له أن يتوضّأ به (4).كما اختلفوا في شربه (5)،و قال الأوزاعيّ:يجوز التّوضّؤ بالأنبذة كلّها،حلوا كان أو غير حلو،مسكرا كان أو غير مسكر،إلاّ الخمر خاصّة (6).
و روى نوح بن أبي مريم (7)عن أبي حنيفة انّ التّوضؤ بنبيذ التّمر منسوخ (8).
و قال أبو يوسف:يتيمّم و لا يتوضّأ بالنّبيذ (9).قال:و ذكر الحسن (10)عن أبي حنيفة:انّه يجمع بين التّيمّم و النّبيذ،فإن ترك أحدهما،لم تجز صلاته (11).
و قال محمّد:يجوز أن يجمع بينهما احتياطا أيّهما ترك لا يجوز،و أيّهما قدّم و أخّر جاز (12).
ص:115
و قال الحسن البصريّ:لا بأس بالوضوء بالنّبيذ (1).
و قال عكرمة:النّبيذ وضوء لمن لم يجد الماء (2).
و قال إسحاق:النّبيذ حلوا أحبّ إلى من التّيمّم،و جمعهما أحبّ إليّ (3).
لنا:وجوه:
أحدها:قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (4)أوجب التّيمّم عند عدم الماء المطلق،و واجد المضاف غير واجد للمطلق،فانتفت الواسطة.
الثّاني:رواية أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن الرّجل يكون معه اللّبن، أ يتوضّأ منه للصّلاة؟قال:(لا،إنّما هو الماء و الصّعيد) (5)نفي أن يكون غير الماء المطلق و التّراب مطهّرا.
الثّالث:الوضوء حكم شرعيّ،فيقف تحصيله على الشّرع،و الّذي قطع الشّرع الحصول به،الماء المطلق،فيبقى الباقي غير مجز.
الرّابع:منع الدّخول في الصّلاة لأجل الحدث مستفاد من الشّرع،فيستمرّ ما لم يظهر دلالة شرعيّة على زواله.
الخامس:لو حصل رفع الحدث بالنّبيذ لحصل بماء الباقلاّء المغليّ،و المقدّم كالتّالي باطل.
بيان الشّرطيّة:انّ الارتفاع لو حصل في محلّ النّزاع،كان لرجحان صفة المائيّة الأصليّة على صفة الحلاوة الفرعيّة عملا بالمناسبة،و لو كان كذلك،لزم حصول الارتفاع بماء الباقلاّء ترجيحا للمائيّة الأصليّة على صفة الآدميّة (6)،إذ القول بالافتراق مع التّساوي في الدّاعي ممتنع اتّفاقا.
ص:116
السّادس:لو حصل الرّفع بالمضاف،لكان لكونه منصوصا عليه أو في معناه أو بغيرها، و الحصر ظاهر،و الأوّل باطل،لأنّ المنصوص عليه هو المطلق،ضرورة انّ الإطلاق في الأسماء ينصرف إلى الكامل من المسمّيات،اعتبره بإجزاء السّليم في الزّكاة دون غيرها، و الكامل من الماء هو الباقي على الصّفات الأصليّة،فإذا تبدّلت بأضدادها،خرجت عن الكمال،فلا ينصرف لفظ الإطلاق إليه،و لأنّ النّصوص إنّما وردت بالماء في أوّل خلقه و نزوله،و هو حينئذ عار من الإضافة.
و أمّا الثّاني:فالنّاس قائلان،منهم:من لم يعلّل الطّهوريّة في الماء،و منهم:من علّلها بتحصيل النّظافة (1)،و على القول الأوّل لا قياس،و المعنى الثّاني غير موجود في ماء الزّعفران مثلا،لأنّه غير صالح للتّنزّه و التّنظيف،و الثّالث باطل،لأنّه يصير تحكّما محضا.
و قد روى يونس (2)،عن أبي الحسن عليه السّلام في الرّجل يتوضّأ بماء الورد و يغتسل به، قال:(لا بأس) (3)و هذه الرّواية ضعيفة السّند.
و قد ذكر ابن بابويه أيضا عن ابن الوليد (4)،انّه:لا يعتمد على حديث محمّد بن
ص:117
عيسى (1)عن يونس.نقله النّجاشيّ (2)، (3)،و يحتمل أن يكون الورد قليلا غير مؤثّر في سلب الاسم،قال الشّيخ:هذا الحديث شاذّ شديد الشّذوذ،أجمعت العصابة على ترك العمل به (4).
احتجّ أبو حنيفة (5)بما روي،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال لابن مسعود (6)ليلة الجنّ:(هل معك ماء؟)فقال:لا،إلاّ نبيذ التّمر في إداوة.فقال صلّى اللّه عليه و آله:
(تمرة طيّبة و ماء طهور)فأخذه و توضّأ به (7).
ص:118
و هذا الحديث مردود من وجوه:
أحدها:انّ أبا يوسف لم يصحّحه،و لو كان صحيحا لما خفي عنه (1).
الثّاني:انّ راويه أبو زيد (2)،و هو مجهول.
الثّالث:انّ عبد اللّه بن مسعود سئل هل كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة الجنّ؟فقال:ما كان معه منّا أحد،و وردت انّي كنت معه (3).
الرّابع:يحتمل أن يكون المراد بالنّبيذ هاهنا ما ترك فيه قليل تمر أزال ملوحة الماء فلم يبلغ الشّدّة،و يدلّ عليه:ما ورد من طريق الأصحاب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:
سئل عن النّبيذ،فقال:(حلال)فقال:إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر (4)و ما سوى ذلك فقال:(شه شه (5)،تلك الخمرة المنتنة)قال:فقلت:جعلت فداك،فأيّ نبيذ تعني؟ قال:(انّ أهل المدينة شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تغيّر الماء و فساد طبائعهم، فأمرهم أن ينبذوا،فكان الرّجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمه إلى كفّ من تمر فيقذف به في الشّنّ فمنه شربه و منه طهوره)فقلت:و كم كان عدد التّمر الّذي في الكفّ؟فقال:(ما حمل الكفّ)قلت:واحدة أو اثنتين (6)؟فقال:(ربّما كانت واحدة،و ربّما كانت اثنتين (7))فقلت:و كم كان يسع الشنّ (8)؟فقال:(ما بين الأربعين إلى الثّمانين إلى فوق ذلك)فقلت:بأيّ الأرطال؟فقال:(أرطال مكيال العراق) (9)و مع هذا الاحتمال
ص:119
يندفع الاستدلال.
المضاف إن اعتصر من الجسم
كماء الورد أو خالطه فغيّر اسمه كالمرق أو طبخ فيه كماء الباقلاّء المغليّ،لم يجز الوضوء و لا الغسل به،في قول عامّة أهل العلم،إلاّ ما حكي عن ابن أبي ليلى و الأصمّ (1)،في المياه المعتصرة انّها طهور يرفع بها الحدث و يزال بها الخبث (2)،و للشّافعيّة وجه في ماء الباقلاّء المغليّ (3).إلاّ النّبيذ،فإنّا قد بيّنا الخلاف فيه (4).
لنا:وجوه:
الأوّل:ما ورد من وجوب الغسل بالماء عند الملاقاة،و الماء إنّما يفهم منه عند الإطلاق،المطلق.
و المقدّمة الأولى نقليّة،رواها الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في صحيحي مسلم (1)و البخاريّ (2)من حديث أسماء (3)انّ امرأة سألت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن دم الحيض يصيب الثّوب،فقال صلى اللّه عليه و آله:(حتّيه،ثمَّ اقرصيه،ثمَّ اغسليه (4)بالماء) (5).
و ما رواه الأصحاب،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الحسن،روى الحسين بن أبي العلاء (6)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصّبيّ يبول على الثّوب؟قال:
ص:121
(يصبّ عليه الماء قليلا ثمَّ يعصره) (1).
و روى الحلبيّ،عنه عليه السّلام،قال:سألته عن بول الصّبيّ؟قال:(تصبّ عليه الماء) (2).
و روى أيضا الحلبيّ في الحسن،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره؟قال:(يصلّي فيه،و إذا وجد الماء غسله) (3).
وجه الاستدلال:انّهم عليهم السّلام أمروا (4)بالغسل بالماء جوابا للسّؤال (5)و جعلوه طريقا في تحصيل الطّهارة،فلو حصلت بغيره لكان التّعيين تضييقا،و هو منفيّ،لما فيه من الحرج،و عبثا لخلّوه عن (6)الفائدة.
لا يقال:هذه قضيّة في عين،و قضايا الأعيان لا عموم لها لتناولها صورة واحدة،فيكون محلّ النزاع خاليا عن الحجّة.
و أيضا:نمنع دلالة التّخصيص على التّعيين،فإنّه قد يأتي لغيره كالتّنبيه (7)كما في صورة التّأفيف،و كالتّعدية في غير محلّ التّنصيص للجامع المستنبط،و ككون المذكور أغلب،كما في الرّبيبة،فلم لا يجوز ذلك هاهنا؟! و أيضا:التّخصيص إنّما دلّ على التّعيين على سبيل الاستحباب بدليل الأمر بالحتّ و القرص،و ليسا بواجبين و لا طريقين إلى حصول الطّهارة.
و أيضا:نقول بالموجب،فإنّه أمر بإزالة العين المرئيّة،و مع زوالها بالحكّ مثلا لم يبق ما
ص:122
يتوجّه الخطاب إليه،كمن نذر ذبح شاة فماتت.
لأنّا نجيب عن الأوّل:بأنّ قضايا الأعيان حجّة اتّفاقا إلاّ من داود،فلا يسمع من أبي حنيفة و السّيّد المرتضى هذا المنع،و هل أكثر الأحكام الشّرعيّة إلاّ مستندة إلى حكمه عليه السّلام؟! و عن الثّاني:انّ الحكيم لا يخصّ شيئا بالذّكر مع انتفاء المقتضي للتّخصيص من التّعيين بسؤال أو قرينة حال،إلاّ لاختصاصه بالحكم خصوصا مع انّه ذكر جنس الغسل، فلو أراد التّعميم لاقتصر عليه.
و عن الثّالث:بأنّ الأمر قد ثبت انّه للوجوب،على انّا لم نتمسّك بالأمر في إثبات الإيجاب ليحمل على الاستحباب،و إنّما وقع التّمسّك بكونه نصّ على الماء بالذّكر في جهة البيان،فيختصّ بالتّطهير.
و أمّا الحتّ و القرص،فهما واجبان إذا لم يمكن الإزالة إلاّ بهما،على انّ خروج الدّليل عن الدّلالة في صورة المعيّن لا يقتضي الخروج العام.
و عن الرّابع،و هو سؤال القول بالموجب الّذي هو أقواها (1):انّا نقول:انّا لم نستدلّ على الإيجاب ليدّعي الخصم انتفاء الخطاب،و إنّما تمسّكنا به لإثبات تعيين الماء على ما سبق.سلّمنا الإيجاب،لكنّ الضّمير في قوله:(ثمَّ اغسليه)عائد إلى الثّوب بدليل قوله عليه السّلام:(ثمَّ صلّي فيه)لا إلى الحيض.
الثّاني:لا يجوز إزالة النّجاسة الحكميّة و هو الحدث به،فلا يجوز إزالة الحقيقيّة به،بل أولى،لأنّ الحكميّ تقدير الحقيقيّ و هو دونها.
الثّالث:انّه بملاقاة النّجاسة ينجس،فلا يطهر المحلّ.
لا يقال:ينتقض بالماء.
لأنّا نقول:يقتضي الدّليل نجاستهما،خالفناه في الماء للإجماع،فلا يتعدّى إلى غيره، لما فيه من كثرة مخالفة الدّليل.
الرّابع:الشّرع منع من الصّلاة في الثّوب النّجس و استصحاب النّجس في الصّلاة،
ص:123
فيقف زوال المنع على الإذن،و يستصحب المنع إلى أن يظهر المنافي.
الخامس:الطّهارة تراد لأجل الصّلاة،فلا تحصل بغير الماء كطهارة الحدث،و يؤيّده من حيث الشّبه و المعنى:أمّا الشّبه،فاعتبار إحدى الطّهارتين بالأخرى نظرا إلى الاشتراك في الاسم و المقصود،فإنّه مشعر باتّحاد الوسيلتين في الحكم إلاّ أن يبدي الخصم فارقا،و أمّا المعنى،فهو انّ المحلّ إذا نجس استدعى محيلا،و الإحالة من خصائص الماء دون غيره من المائعات،و دليل الاختصاص طهارة الحدث.
لا يقال:يمنع الاشتراك لفظا من حيث انّ الإزالة ليست طهارة،بل إزالة نجاسة عن المحلّ الطّاهر في الأصل.سلّمنا سلامته عن هذا،لكن لا نسلّم عن المطالبة،و ما ذكرتموه من التّقرير بالاشتراك في الاسم و المقصود لا يستقيم،فإنّه ما من شيئين إلاّ و يشتركان من جهة و يختلفان من اخرى،لكنّ الجمع لا يمكن إلاّ إذا اتّفقا في المعنى المحصّل للحكم و لم يثبتوا ذلك.
و أيضا:الفرق بين الطّهارتين بكون إحداهما مزيلة لعين مرئيّة دون الأخرى فلا فرق في زوال العين بالخلّ و بغيره،و بكون إحداهما يشترط فيها النّيّة و الموالاة و التّرتيب،فجاز اشتراطها بالماء دون الأخرى،و بأنّ طهارة الخبث أكثر توسعة في التّحصيل،فإنّها تحصل بفعل الصّبيّ و المجنون بخلاف الأخرى.
و أيضا:النّقض بالخمر المنقلب،فإنّه يطهر الدّن و إن لم يحصل استعمال الماء.
و أيضا:القلب،فنقول طهارة تراد للصّلاة فتوجد بغير الماء كطهارة الحدث الحاصلة بالتّيمّم.
لأنّا نجيب عن الأوّل:بأنّ هذا غير مسموع فإنّا نعلم قطعا من عرف اللّغة إطلاق لفظ الطّهارة على إزالة النّجاسة.
و أيضا:الشّارع نصّ على ذلك في قوله:(طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب،أن يغسله سبعا) (1)و غير ذلك من الأحاديث الّتي نقلتموها.
و عن سؤال المطالبة ما بيّنّا من الجامع.
ص:124
و عن الفرق الأوّل:بأنّ الخلّ ليس في معنى الماء،لسيلانه و شدّة رطوبته و لطافته، و غوصة في أجزاء الجسم،فيستأصل أجزاء النّجاسة.
و عن الثّاني:انّه غير لائق من أبي حنيفة،فإنّه لا يقول باشتراط النّيّة و التّرتيب (1)، و أيضا:فهو وارد على أحد المأخذين،أعني:الشّبه.
و عن الثّالث:انّ المقصود هو استعمال الماء،و قد وجد.
و عن النّقض:بالفرق،فإنّ الحاجة ماسّة إلى الخلول،و هي مفتقرة إلى الظّروف،فلو حكمنا بنجاستها كان ذلك حكما بنجاسة الخلّ.
و عن القلب:بالمنع من حكم الأصل،فإنّ التّيمّم لا يرفع الحدث،و لا يسمّى طهارة حقيقة عند بعضهم (2).
و أيضا:فهذا غير لائق من أبي حنيفة،فإنّه يرى انّ التّيمّم بدل (3)،و لا يرى القياس في الأبدال (4).
احتجّوا بأنّه قد ورد الأمر بالغسل،روى الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قال لخولة بنت يسار (5):(حتّيه،ثمَّ اقرصيه،ثمَّ اغسليه) (6).
و روى الأصحاب،عن الصّادق عليه السّلام:(إذا أصاب الثّوب المنيّ، فليغسل) (7)و ليس في ذلك تقييد بالماء.
ص:125
و أيضا:روى الشّيخ في الحسن،عن حكم بن حكيم الصّيرفيّ (1)،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:أبول فلا أصيب الماء،و قد أصاب يدي شيء من البول فأمسحه بالحائط و التّراب،ثمَّ تعرق يدي فأمسّ وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟قال:
(لا بأس به) (2).
و عن غياث بن إبراهيم (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن أبيه،عن عليّ عليه السّلام،قال:(لا بأس أن تغسل الدّم بالبصاق) (4).
و لأنّ النّجاسة تابعة للعين بالدّوران و قد زالت،فيزول معلولها.
و الجواب عن الأوّل:انّه لا ينافي التّقييد بالماء،فيحمل عليه،لما قلناه من الأدلّة، و لأنّ إطلاق الغسل ينصرف إلى تحصيله بالماء كما في إطلاق(اسقني).
و عن الرّواية الاولى:انّ المراد،لا بأس بالصّلاة مع ذلك قبل الغسل للضّرورة،و ليس فيه دلالة على الطّهارة،و تحمل الرّواية حينئذ على ما إذا زالت الرّطوبة بالعرق ثمَّ يمسّ جسده أو وجهه أو ثوبه.
و عن الثّانية:انّها ضعيفة السّند فإنّ غياثا هذا بتريّ،فلا تعويل على روايته،على انّه يمكن حملها على الدّم الّذي ليس بنجس،كدم ما لا نفس له سائلة،أو يحمل على الاستعانة
ص:126
بالبصاق،لا انّه مطهّر.
و عن الثّالث:بالمنع من المقدّمتين .
،سواء كانت النّجاسة قليلة أو كثيرة،و سواء غيّرت أحد أوصافه أو لم تغيّره،و هو إحدى الرّوايات عن أحمد.و في الثّانية:اعتبار القلّتين،و الثّالثة:انّ ما أصله الماء كالخلّ التّمريّ،فكالماء،و ما لا، فلا (1).و هذه الرّوايات في جميع المائعات و إن كانت من غير الماء،كالدّهن و شبهه.
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟فقال:عليه السّلام:(إن كان مائعا،فلا تقربوه) (2)و لم يفرّق بين القليل و الكثير.
و من طريق الخاصّة:ما رواه زرارة،عن الباقر عليه السّلام،قال:(إذا وقعت الفأرة في السّمن فماتت،فإن كان جامدا،فألقها و ما يليها و كلّ ما بقي،و إن كان ذائبا فلا تأكله،و لكن أسرج به) (3)و لأنّها لا قوّة لها على دفع النّجاسة،فإنّها لا تطهّر غيرها فلا يدفعها عن نفسها كالقليل،و الطّريق إلى تطهيره حينئذ،إلقاء كرّ فما زاد عليه من الماء المطلق،لأنّ بلوغ الكرّيّة سبب لعدم الانفعال عن الملاقي،و قد مازجه المضاف فاستهلكه، فلم يكن مؤثّرا في تنجيسه لوجود السّبب،و لا يمكن الإشارة إلى عين نجسة،فوجب الجزم بطهارة الجميع.
لنا:الأصل الطّهارة،و انفعال الكرّ بالنّجس ليس انفعالا بالنّجاسة،و المؤثّر في التّنجيس إنّما هو الثّاني لا الأوّل .
فالأقوى حصول الطّهارة،و ارتفاع الطّهوريّة.
و حكاه عيسى بن أبان (1)عن الشّافعيّ في ردّه على الشّافعيّ،و حكى أبو ثور عنه:انّه توقّف فيه (2).
و قال محمّد:انّه طاهر غير طهور (3).و هو قول الشّافعيّ في الجديد (4)،و به قال الأوزاعيّ (5)،و أحمد في إحدى الرّوايتين (6)،و اللّيث بن سعد (7)، (8)،و هو مرويّ عن مالك (9).
و قال أبو حنيفة:انّه نجس نجاسة غليظة-في رواية الحسن عنه-كالدّم و البول و الخمر،حتّى انّه إذا أصاب الثّوب أكثر من قدر الدّرهم،منع أداء الصّلاة (10).
و قال أبو يوسف:انّه نجس نجاسة خفيفة حتّى انّه إذا أصاب الثّوب أكثر من الدّرهم،لم يمنع من الصّلاة ما لم يكن كثيرا فاحشا،و رواه عن أبي حنيفة (11)،و بقول
ص:129
أبي يوسف أخذ مشايخ بلخ (1)،و بقول محمّد أخذ مشايخ العراق (2).
و قال زفر:إن كان المتوضّي محدثا،فهو كما قال محمّد،و إن كان المتوضّي غير محدث،فهو طاهر و طهور (3)،و هو قول الشّافعيّ أيضا (4).
لنا:وجوه:
أحدها:انّ بلالا (5)أخرج وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فتبادر إليه الصّحابة و مسحوا به وجوههم (6).و لو كان نجسا لما فعلوا.
و أيضا:روى الجمهور،عنه انّه صبّ على جابر (7)من وضوئه (8).
و رووا أيضا عنه عليه السّلام،انّه قال:(الماء لا يجنب) (9).
ص:130
و عنه عليه السّلام،انّه قدّمت إليه امرأة من نسائه قصعة ليتوضّأ منها،فقالت امرأة:
انّي غمست يدي فيها و أنا جنب،فقال:(الماء ليس عليه جنابة) (1).
و روى الجمهور،عن ربيع (2)انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسح رأسه بفضل ما كان في يده (3).
الثّاني:ما رواه الأصحاب،روى (4)عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل)و قال:(الماء الّذي يغسل به الثّوب و يغتسل به الرّجل من الجنابة،لا يجوز أن يتوضّأ به و أشباهه،و أمّا الماء الّذي يتوضّأ به الرّجل فيغسل وجهه و يده في شيء نظيف،فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضّأ به) (5).
و روى زرارة،عن أحدهما عليهما السّلام،قال:(كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ أخذوا ما سقط من وضوئه فيتوضّؤن به) (6).
و روى حريز بن عبد اللّه في الصّحيح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب) (7).
وجه الاستدلال فيه من وجهين:
أحدهما:عموم جواز الاستعمال سواء استعمل في الوضوء أم لا.
ص:131
الثّاني:انّه إذا لاقى النّجاسة العينيّة،كان حكمه جواز الاستعمال ما دام وصف الماء باقيا،فالأولى انّه إذا رفع به الحدث مع عدم ملاقاة النّجاسة جاز استعماله.
الثّالث:المقتضي موجود و هو الأمر باستعمال الماء المطلق،و المعارض و هو الاستعمال لا يصلح أن يكون معارضا،لأنّه لم يخرجه عن إطلاقه،و إضافته إلى الاستعمال لم يؤثّر تغيّر وصف و لا هيئة فيكون كإضافته إلى المحلّ،و لأنّه طاهر لاقى طاهرا،فلا يخرجه عن تأدية الفرض به ثانيا،كالثّوب إذا تعدّدت الصّلاة فيه.
احتجّ أبو حنيفة و أبو يوسف (1)بأنّ هذا الفعل يسمّى طهارة،و ذلك يستدعي نجاسة المحلّ فشارك الّذي أزيلت به النّجاسة الحقيقيّة،و لمّا كانت النّجاسة مجتهدا فيها،خفّف حكمها كبول ما يؤكل (2)لحمه.
و الجواب:انّ وقوع لفظ الطّهارة على مزيل الحدث و على مزيل الخبث بالاشتراك اللّفظيّ فلا جامع بينهما،و لا نسلّم أنّ التّسمية تستدعي سابقيّة النّجاسة،و الفرق بين مزيل الحدث و الخبث ملاقاة النّجاسة العينيّة الصّالحة للحوق حكم التّنجيس،فلا يتمّ القياس.
عندنا طاهر
بالإجماع،و للشّافعيّة وجهان:
أحدهما:ذلك،لأنّه لم يؤدّ به فرضا.
و الثّاني:المنع،لأنّه مستعمل في الطّهارة (3).و عن أحمد روايتان (4).
و للشّافعيّ وجهان:
أحدهما ذلك،لأنّ للماء فعلين،رفع الحدث و إزالة الخبث،فإذا رفع الحدث بقي
ص:132
تطهير الخبث.
و الثّاني:المنع،و هو المشهور عندهم،لأنّه مائع لا يزيل الحدث فلا يرفع الخبث كالمائعات (1)،و ليس للماء فعلان،بل فعل واحد،و هو رفع أحدهما،أعني:النّجاسة أو الحدث لا بعينه،فأيّهما حصل زالت طهوريّته .
للشّافعيّة وجهان:
أحدهما:جواز التّطهير به،لأنّ البلوغ مانع من قبول النّجاسة،فرفع حكم الاستعمال أولى.
و الثّاني:المنع،لأنّه مستعمل (2).
و عن أحمد في الحكم الثّاني روايتان:
إحداهما:المنع،لأنّه مستعمل في طهارة تعبّد أشبه المستعمل في رفع الحدث (3)، و الأصل عندنا باطل.
،قال الشيخان (4)و ابنا بابويه:انّه طاهر غير مطهّر (5)،و قال السّيّد المرتضى:انّه (6)مطهّر (7)،و قول الجمهور هاهنا كقولهم ثمَّ،فإنّهم لم يفصلوا بين الماءين.
و الّذي أذهب إليه انّه طاهر مطهّر،فالبحث هاهنا يقع في مقامين:
الأوّل:انّه طاهر و ذلك مجمع عليه عندنا،و لأنّ التّنجيس حكم شرعيّ،فيتوقّف ثبوته
ص:133
على الشّرع،و ليس في الشّرع دلالة عليه.
و لأنّ القول بالتّنجيس مع القول بطهارة المستعمل في الوضوء ممّا لا يجتمعان إجماعا، و الثّاني ثابت إجماعا،فينتفي الأوّل،و إلاّ لزم خرق الإجماع.
و لما رووه،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قوله:(الماء لا يجنب)و في قوله:(الماء ليس عليه جنابة) (1).
و روى أحمد و ابن ماجه (2)معا انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اغتسل من الجنابة،فرأى لمعة لم يصبها الماء،فعصر شعره عليها (3).
و لأنّ الماء طاهر لاقى محلا طاهرا،فلا يخرج عن وصف الطّهارة.
أمّا المقدّمة الثّانية:فلما رواه الجمهور عن أبي هريرة،قال:(لقيني النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنا جنب فا[نسللت] (4)منه،فاغتسلت ثمَّ جئت،فقال:(أين كنت يا أبا هريرة؟)فقلت:يا رسول اللّه كنت جنبا فكرهت أن اجالسك فذهبت فاغتسلت ثمَّ جئت،فقال:(سبحان اللّه،المسلم لا ينجس) (5).
و أمّا الملازمة فظاهرة،و لأنّ المقتضي موجود و المعارض لا يصلح أن يكون معارضا و قد تقدّما.
و لرواية حريز في الصّحيح من قوله:(كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ) (6).
ص:134
المقام الثّاني:في كونه مطهّرا،و هو ما ذكرناه في المستعمل في الصّغرى.
احتجّ المانعون بوجوه:
أحدها:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم و لا يغتسل فيه من جنابة) (1)و لو لم يكن نجسا،لم يكن للنّهي فائدة.
الثّاني:رواية عبد اللّه بن سنان.و قد تقدّمت في الوضوء (2).
الثّالث:انّه مشكوك فيه،فيجب أن لا يجوز استعماله.
و الجواب عن الأوّل بالمنع من الدّلالة على التّنجيس،فإنّه قد نهي عن البول في الماء الجاري (3)مع انّه لا ينجس لو فعل إجماعا.
و عن الثّاني بالطّعن في رواتها (4)،فإنّ في طريقها أحمد بن هلال (5)،و هو ضعيف جدّا،و ابن فضّال،و هو فطحيّ.
و عن الثّالث بالمنع من الشّكّ فيه،و وجهه أن نقول:الشّكّ إمّا أن يقع في كونه طاهرا، أو في كونه مطهّرا،و الأوّل باطل عند الشّيخ (6)،و الثّاني أيضا باطل،فإنّه حكم تابع لطهارة الماء و إطلاقه،و قد حصلا،فأيّ شكّ هاهنا؟!
ص:135
،قال الشّيخ:
فليرشّ عن يمينه و يساره و أمامه و خلفه،ثمَّ يأخذ كفّا كفّا يغتسل به (1)،تعويلا على ما رواه أحمد بن محمّد بن أبي نصر في كتاب الجامع،عن عبد الكريم (2)،عن محمّد بن ميسر (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل و الماء في وهدة (4)،فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟قال:(ينضح بكفّ بين يديه،و كفّ خلفه،و كفّ عن يمينه،و كفّ عن شماله و يغتسل) (5).
و رواه الشّيخ في الصّحيح،عن ابن مسكان،قال:حدّثني صاحب لي ثقة أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام (6)،و بمثله روى في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام (7).
و اختلف في المراد،فقيل:انّه يمسح جسده بالماء ثمَّ يغتسل،و الفائدة سرعة جريان الماء عند الغسل بحيث لا ينزل إلى الماء قبله (8)،و قيل:يرشّ على الأرض في الجهات (9)،
ص:136
لهذه الفائدة أيضا.
أقول:و هذا عندي على وجه الاستحباب دون الإيجاب.
و روى الشّيخ في الحسن،عن عبد اللّه بن يحيى الكاهليّ (1)،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:(إذا أتيت ماء و فيه قلّة،فانضح عن يمينك و عن يسارك و بين يديك و توضّأ) (2).
فالمستعمل إذا قلّ عن الكرّ،نجس إجماعا،بل الحكم بالطّهارة إنّما يكون مع الخلوّ من النّجاسة العينيّة،فإذا ارتمس فيه ناويا للغسل صار الماء مستعملا و طهر الجنب.و به قال الشّافعيّ (4)،لأنّه إنّما يصير مستعملا بارتفاع حدث فيه.
و قال أحمد:يصير مستعملا،و لا يرتفع حدثه (5)،لقوله عليه السّلام:(لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم) (6)و النّهي يقتضي الفساد.و الكبرى (7)ممنوعة.
و لو غسل مرتّبا فتساقط الماء من رأسه أو من جانبه الأيمن عليه،صار مستعملا،فليس له استعمال الباقي.على قول الشّيخ (8).
و لو نزل فيه اثنان و ارتمسا دفعة و اتّفقا في زمن النّيّة طهرا،و لو سبق أحدهما،طهر و صار مستعملا في حقّ الثّاني.
و لو غسل رأسه خارجا،ثمَّ أدخل يده في القليل ليأخذ ما يغسل به جانبه،فالأقرب أنّ
ص:137
الماء لا يصير مستعملا،و لو نوى غسل يده،صار مستعملا .
،لإطلاقه،و المنع من رفع الحدث به عند بعض الأصحاب (1)،لا يوجب المنع من إزالة النّجاسة،لأنّهم إنّما قالوه ثمَّ لعلّة لم توجد في إزالة الخبث،فإن صحّت تلك العلّة ظهر الفرق و بطل الإلحاق، و إلاّ حكموا بالتّساوي في البابين كما قلناه نحن .
،قال الشّيخ في المبسوط:زال عنه حكم المنع (2)،و تردّد في الخلاف (3).و الّذي أختاره تفريعا على القول بالمنع،زوال المنع هاهنا،لأنّ بلوغ الكرّيّة موجب لعدم انفعال الماء عن الملاقي،و ما ذلك إلاّ لقوّته،فكيف يبقى انفعاله عن ارتفاع الحدث الّذي لو كان نجاسة لكانت تقديريّة،و لأنّه لو اغتسل في كرّ لما[انفعل] (4)فكذا المجتمع.
لا يقال:يرد ذلك في النّجاسة العينيّة.
لأنّا نقول هناك إنّما حكمنا بعدم الزّوال،لارتفاع قوّة الطّهارة بخلاف المتنازع فيه .
،أو في غسل الثّوب أو الآنية الطّاهرين ليس بمستعمل،لأنّ الاستعمال لم يسلبه الإطلاق،فيجب بقاؤه على التّطهير للآية (5).
و قالت الحنفيّة:كلّ مستعمل في غسل بني آدم على وجه القربة فهو مستعمل،و ما لا فلا.
فلو غسل يده للطّعام أو من الطّعام صار مستعملا،بخلاف ما لو غسل لإزالة الوسخ أو لإزالة العجين من يده (6)،و لو توضّأ أو اغتسل للتبرّد،قال الطّحاويّ:يصير مستعملا (7).
ص:138
و عند أبي يوسف إنّما يصير مستعملا بأحد أمرين إمّا بنيّة التّقرّب أو بإسقاط الفرض.
و عند محمّد:بنيّة التّقرّب لا غير (1).
و تظهر الفائدة في الجنب المرتمس في البئر لطلب الدّلو،فعلى هذه الرّواية،عن أبي يوسف:الماء بحاله و الرّجل بحاله (2).و قد ذكرنا عنه أوّلا انّ الماء نجس و الرّجل جنب (3).و روى الكرخيّ عنه قولا ثالثا،و هو انّ الماء نجس و الرّجل طاهر.
و لو انّ الطّاهر انغمس في البئر لطلب الدّلو لم يصر مستعملا اتّفاقا.
قال محمّد:و لو أدخل رأسه أو خفّه في إناء فيه ماء للمسح،لا يجوز (4)عن المسح و يصير مستعملا،و يخرج رأسه و خفّه من الماء المستعمل،لأنّه قصد التّقرّب.
و قال أبو يوسف:يجوز (5)المسح و لا يصير الماء مستعملا،لأنّ المسح هو الإصابة دون الإسالة،و التّقرّب و سقوط الفرض إنّما يقع بالإصابة لا بالإسالة،و اتّفقا على انّه لو لم يقصد المسح فإنّه يجوز (6)عن المسح و لا يصير الماء مستعملا،لأنّ قصد التّقرّب لم يوجد و عند أبي يوسف و إن سقط الفرض عن ذمّته،لكنّه أسقط الفرض بالإصابة لا بالإسالة (7).
فصرف البلل الّذي على العضو إلى تلك اللّمعة،جاز،أمّا على ما اخترناه نحن فظاهر،و أمّا على قول الحنفيّة فكذلك،لأنّه إنّما يكون مستعملا بانفصاله عن البدن،و في اشتراط استقراره في المكان خلاف عندهم (8).
و أمّا في الوضوء،فقالوا:لا يجوز صرف البلل الّذي في اليمنى إلى اللّمعة الّتي في اليسرى،لأنّ البدن في الجنابة كالعضو الواحد فافترقا (9)،و ليس للشّيخ فيه نصّ،و الّذي
ص:139
ينبغي أن يقال على مذهبه عدم الجواز في الجنابة،فإنّه لم يشترط في المستعمل الانفصال .
كالواجد في ثوبه المختصّ أو المتيقّن لها و للغسل الشّاكّ في السّابق،أو من حيض مشكوك فيه كالنّاسية للوقت أو العدد،هل يكون ماؤه مستعملا؟فيه إشكال،فإنّ لقائل أن يقول:انّه غير مستعمل،لأنّه ماء طاهر في الأصل لم يعلم إزالة الجنابة به،فلا يلحقه حكم المستعمل،و يمكن أن يقال:انّه مستعمل،لأنّه قد اغتسل به من الجنابة و إن لم تكن معلومة إلاّ انّ الاغتسال معلوم فيلحقه حكمه،و لأنّه ماء أزال مانعا من الصّلاة،فانتقل المنع إليه كالمتيقّن .
،فإن نوى بعد تمام انغماسه و إيصال (1)الماء بجميع البدن ارتفع حدثه لوصول الماء الطّهور إلى محلّ الحدث مع النّيّة و يكون مستعملا، و هل يحكم بالاستعمال في حقّ غيره قبل انفصاله عنه؟الوجه ذلك.
و لو خاض (2)جنبان و نويا دفعة بعد تمام الانغماس (3)،ارتفع حدثهما،و إن نوى قبل إكمال الانغماس،فالأقرب انّه لا يكون مستعملا بأوّل الملاقاة،بل يرتفع (4)حدثه عند كمال الانغماس .
لأنّ الكافر نجس.و عن أحمد روايتان:
إحداهما:انّه مطهّر،لأنّه لم يزل مانعا من الصّلاة،فأشبه ما لو تبرّد به.
و الأخرى:انّه غير مطهّر،لأنّها أزالت به المانع من الوطء (5).
و غيرهما من المسنونات طاهر
ص:140
مطهّر.و قد تقدّم (1)،و عن أحمد روايتان (2).
،إمّا أن ينفصل متغيّرا بها،فهو نجس إجماعا لتغيّره،و إمّا أن ينفصل غير متغيّر قبل طهارة المحلّ و هو كذلك،لأنّه ماء يسير لاقى نجاسة لم يطهّرها،فكان نجسا كالمتغيّر،و كما لو وردت النّجاسة عليه و كالباقي في المحلّ،فإنّه نجس و هو جزء من الماء الّذي غسلت به النّجاسة،و لأنّه قد كان نجسا في المحلّ،فلا يخرجه العصر إلى التّطهير،لعدم صلاحيّته،و هو أحد وجهي الشّافعيّ (3)،و في الآخر:انّه طاهر (4)،لأنّ الماء الوارد على النّجاسة يعتبر فيه التّغيّر،لأنّ الحاجة داعية إلى ملاقاته النّجاسة،فاعتبر فيه التّغيّر كالقلّتين،لمّا شقّ حفظ ذلك من النّجاسة اعتبر فيه التّغيّر.ثمَّ اختلفوا،فقال ابن خيران (5):يجوز أن يتوضّأ به (6)،و لا تزيل النّجاسة (7)،و المشهور عندهم انّه طاهر غير مطهّر (8).
و إمّا أن ينفصل غير متغيّر من الغسلة الّتي طهّرت المحل،فللشّيخ قولان:قال في المبسوط:هو نجس،و في النّاس من قال:لا ينجس إذا لم يغلب على أحد أوصافه،و هو قويّ،و الأوّل أحوط (9)،و جزم في الخلاف بنجاسة الغسلة الاولى،و طهارة الغسلة الثّانية (10)،و الأقوى عندي:التّنجيس،و هو مذهب أبي حنيفة (11)،
ص:141
و الأنماطي (1)من الشّافعيّة (2)،و للحنابلة وجهان (3).
لنا:انّه ماء قليل لاقى نجاسة فينجس بها كما لو وردت عليه.
و ما رواه عيص بن القاسم (4)،قال:سألته عن رجل أصابه قطر من طشت فيه وضوء؟فقال:(إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه) (5).
و ذهب الشّافعيّ إلى انّه طاهر (6)،لأنّه جزء من المتّصل،و المتّصل طاهر،فكذا المنفصل،و لأنّه ماء أزال حكم النّجاسة و لم يتغيّر بها،فكان طاهرا كالمنفصل من الأرض.
و الجواب عن الأوّل:بالمنع من كونه جزءا حالة الانفصال،و قياسه على المتّصل باطل، لوقوع الفرق و هو لزوم المشقّة في تنجيس المتّصل دونه.
و عن الثّاني:بالمنع في الأصل على ما يأتي.
رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النّجاسة لا يجوز إجماعا.
أمّا على قولنا فظاهر،و أمّا على قول الشّيخ،فلما رواه عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الماء الّذي يغسل به الثّوب أو يغتسل به من الجنابة،لا يتوضّأ
ص:142
منه (1)) (2)و لأنّه أزال مانعا من الصّلاة،فينتقل إلى الماء ما كان في الثّوب من المنع و إن كان طاهرا كماء الحدث.
،سواء رجع على (4)الأرض الطّاهرة أو لا،و صرّح الشّيخان بطهارته (5)،أمّا لو سقط و على الأرض نجاسة ثمَّ رجع على الثّوب أو البدن،فهو نجس سواء تغيّر أو لا،و كذا لو تغيّر أحد أوصافه من الاستنجاء.
لنا:ما رواه الأحول (6)في الحسن،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء فيقع ثوبي في ذلك الماء الّذي استنجيت به؟فقال:(لا بأس به) (7).
و ما رواه محمّد بن النّعمان (8)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قلت له:أستنجي ثمَّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب؟فقال:(لا بأس به) (9).
ص:143
و ما رواه عبد الكريم بن عتبة الهاشميّ (1)،قال:سألت أبا عبد اللّه عن الرّجل يقع ثوبه على الماء الّذي استنجى به،أ ينجس ذلك ثوبه؟فقال:(لا) (2).
و هكذا حكم الماء الّذي يتوضّأ به أو يغتسل به من الجنابة،أمّا عندنا فهو ظاهر،و أمّا عند الشّيخ فلما رواه في الصّحيح،عن الفضيل بن يسار (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال في الرّجل الجنب:يغتسل فينضح من الأرض في إنائه،فقال:(لا بأس ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4)) (5).
و في الصّحيح،عن الفضيل أيضا،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يغتسل فينضح الماء من الأرض في الإناء؟فقال:(لا بأس،هذا ممّا قال اللّه تعالى «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (6).
و لأنّ التّحرّز عن هذه المياه ممّا يعسر جدّا،فشرّع العفو دفعا للحرج،و يدلّ عليه:تعليل الإمام عليه السّلام في المغتسل به.
لعموم اسم الاستنجاء لهما .
ص:144
و قال الشّيخ في الخلاف:إذا أصاب الثّوب أو الجسد من الماء الّذي يغسل به إناء الولوغ لا يغسل،سواء كان من الغسلة الأولى أو الثّانية (1).و تردّد في المبسوط في نجاسة الاولى (2).
لنا:انّه ماء قليل لاقى نجاسة،فينفعل بها و لا يتعدّى إليه الرّخصة الّتي في الاستنجاء،لأنّه استعمال الماء الّذي قام المانع على المنع منه مع عدم قيام الموجب،و ذلك غير سائغ اتّفاقا.
احتجّ الشّيخ بوجهين:
الأوّل:عدم الدّلالة الشّرعيّة على التّنجيس.
الثّاني:الإلزام بعدم تطهير الإناء،فإنّه دائما لا ينفكّ عن أجزاء مائيّة تخلّفت من الغسلة،فلو كانت نجسة لكان الماء الملاقي لها في المرّة الأخرى ينجس،فلا تحصل الطّهارة البتّة (3).
و الجواب عن الأوّل:بوجود الدّليل الشّرعيّ،و هو قوله عليه السّلام:(إذا بلغ الماء قدر كرّ،لم ينجّسه شيء) (4)و مع انتفاء الشّرط ينتفي المشروط،و إلاّ لم يكن شرطا،و لأنّه وافقنا على انّ الماء القليل ينجس بالملاقاة.
و عن الثّاني:بالفرق بين المرّة الثّالثة و الثّانية،فإنّ الإجماع واقع (5)على الطّهارة بعد المرّة الثّانية،و بالفرق بين المنفصل و المستخلف بوجود المشقّة و عدمها في أحدهما دون الثّاني .
لم يزل عنه المانع لانفعاله بالنّجاسة أوّلا فيكون المنع ثابتا فيستصحب إلى أن تظهر دلالة شرعيّة على زواله،و على رأي
ص:145
الشّيخ يلزم الحكم بكونه طهورا (1)،أمّا لو اجتمع ماء الغسلة الاولى و الثّانية فبلغ كرّا فعلى أحد قوليّ الشّيخ يكون باقيا على المنع (2).
بأن يصبّ عليه الماء فسد الماء و خرج من الثّانية طاهرا اتّحدت الآنية أو تعدّدت.
و قال أبو يوسف:إذا غسل في ثلاث إجانات خرج من الثّالثة طاهرا (3)،و ماء (4)الإجانة الرّابعة فما فوقها طاهر.
و لو كان المغسول عضوا من أعضاء الوضوء،قال أبو يوسف:فسدت المياه كلّها و لو كانت مائة آنية و لم تطهر (5).و قال محمّد:يخرج المغسول من الإجانة الثّالثة طاهرا و الماء بعد ذلك طاهر و طهور في الثّوب،و طاهر غير طهور في العضو (6)،و نحن قد سلف منّا بيان طهارة المستعمل في رفع الأحداث (7).
بقي علينا أن نبيّن الدّلالة على طهارة الثّوب المذكور،و يدلّ عليه وجهان:
الأوّل:انّه قد حصل الامتثال بغسله مرّتين فيكون طاهرا و إلاّ لم يدلّ الأمر على الإجزاء.
الثّاني:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الثّوب يصيبه البول؟قال:(اغسله في المركن مرّتين،فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة) (8).
ابن بابويه:لا يجوز التّطهير بغسالة الحمّام (1)،و ادّعى ابن إدريس الإجماع على ذلك، و كثرة الأخبار الدّالّة عليه (2)،و لم يصل إلينا من القدماء غير حديثين ضعيفين يدلاّن على ذلك:
أحدهما:ما رواه حمزة بن أحمد (3)،عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام،قال:(و لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها ماء الحمّام،فإنّه يسيل فيها ماء يغتسل به الجنب و ولد الزّنا و النّاصب لنا أهل البيت،و هو شرّهم) (4)و هي مرسلة،فإنّ محمّد بن محبوب (5)رواها عن عدّة من أصحابنا،و أيضا:فإنّ حمزة بن أحمد لا أعرف حاله.
الثّاني:ما رواه محمّد بن يعقوب في كتابه،عن بعض أصحابنا،عن ابن جمهور،عن محمّد بن القاسم،عن ابن أبي يعفور،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها غسالة الحمّام،فإنّ فيها غسالة ولد الزّنا.الحديث) (6)و هذا مع إرساله ضعيف،فإنّ ابن جمهور ضعيف جدّا،قال النّجاشيّ:محمّد بن جمهور،ضعيف في الحديث فاسد المذهب،و قيل فيه أشياء،اللّه أعلم بها من عظمها (7).و الأقوى عندي انّه على أصل الطّهارة،و قد روى الشّيخ،عن أبي يحيى الواسطيّ (8)،عن بعض أصحابنا،
ص:147
عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام،قال:سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة النّاس يصيب الثّوب؟قال:(لا بأس) (1).
و أيضا:روى في الصّحيح،عن حريز بن عبد اللّه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:(كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب) (2).
و روى في الصّحيح،عن الحلبيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(في الماء الآجن يتوضّأ منه إلاّ أن يجد ماء غيره.) (3)و هذان عامّان.
،فالآدميّ إن كان مسلما أو بحكمه، فسؤره طاهر،عدا النّاصب و الغلاة،و غير المسلم و النّاصب و الغلاة سؤرهم نجس.
و غير الآدميّ مأكول اللّحم و غيره،فالأوّل سؤره طاهر،فإن كان لحمه مكروها،كان سؤره كذلك كالفرس و الحمار و البغل،و غير المأكول إمّا أن يكون نجس العين كالكلب و الخنزير أولا،و الأوّل سورة نجس،و الثّاني سؤره طاهر.
هذا على القول المشهور لأصحابنا (4)،و هو اختيار الشّيخ في الخلاف (5)،و وافق في المبسوط على ذلك،إلاّ في شيء واحد،و هو غير مأكول اللّحم من الحيوان الإنسيّ،فإنّه منع
ص:148
من استعمال سؤره إلاّ ما لا يمكن التّحرّز منه (1).و ما اخترناه أوّلا هو مذهب الشّافعيّ (2)إلاّ في قسم الآدميّ،و هو قول عمرو بن العاص (3)و أبي هريرة (4).
و قال أبو حنيفة:سؤر الآدميّ طاهر،سواء كان مسلما أو لا،صغيرا أو كبيرا،إلاّ سور شارب الخمر،فإنّه نجس إلاّ إذا ابتلع بصاقه ثلاث مرّات،و كذا سؤر مأكول اللّحم (5)، و سؤر الفرس مكروه في إحدى الرّوايتين،و في الأخرى:هو طاهر (6)،و هو اختيار محمّد و أبي يوسف.و كذا الطّيور المأكولة إلاّ الدّجاجة المطلقة،فإنّه مكروه،و سؤر الكلب و الخنزير نجس،و سؤر سباع الوحش كالأسد نجس،و سؤر سباع الطّير مكروه،و كذا الحشرات كالحيّة و العقرب،و كذا سؤر الهرّة،و سؤر البغل و الحمار مشكوك فيه (7).
و ذهب الجمهور إلى طهارة الكفّار،و طهارة سؤرهم،و عرقهم،و ما باشروه برطوبة (8).
و قال أحمد:كلّ حيوان يؤكل لحمه فسؤره طاهر،و كذا حشرات الأرض و الهرّ (9)،
ص:149
و أمّا السّباع ففيه روايتان:إحداهما:انّ سؤرها طاهر،و الأخرى:نجس،و كذا في البغل و الحمار روايتان (1).
و قال مالك (2)و الأوزاعيّ (3)و داود:سؤر الكلب و الخنزير طاهر يتوضّأ به و يشرب، و إن ولغا في طعام لم يحرم أكله (4).
و قال الزّهريّ:يتوضّأ به إذا لم يجد غيره (5).
و قال عبيدة بن أبي لبابة (6)،و الثّوريّ،و ابن ماجشون (7)،و ابن مسلمة (8):
يتوضّأ به و يتيمّم (9).
و قال مالك:و يغسل الإناء الّذي ولغ الكلب فيه تعبّدا (10).
و أمّا سؤر السّباع عدا السّنّور،و ما دونها في الخلقة،و سؤر جوارح الطّير،و الحمار
ص:150
الأهليّ،و البغل،فكلّه طاهر عندنا،إلاّ انّه مكروه.و به قال الحسن البصريّ،و عطاء، و الزّهريّ،و يحيى الأنصاريّ (1)،و ربيعة (2)، (3)،و مالك (4)،و الشّافعيّ (5)،و ابن المنذر (6)،لما رواه جابر انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله سئل:أ يتوضّأ بما أفضلت الحمر؟ فقال:(نعم،و بما أفضلت السّباع كلّها) (7)و هو رواية عن أحمد،و في الرّواية الأخرى:انّ جميع ذلك نجس،إذا لم يجد غيره يتيمّم و يتركه (8).فقد وقع الاتفاق بين العلماء كافّة على طهارة سؤر المسلمين غير الخوارج و الغلاة،و على نجاسة سؤر الكلب و الخنزير (9)،إلاّ من مالك (10)و من تقدّم،فإنّه قال بطهارة سؤرهما (11)،و حكى الطّحاويّ عن مالك في سؤر النّصرانيّ،و المشرك انّه لا يتوضّأ به.
لنا على نجاسة سؤر الكافر:قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (12).
ص:151
و أيضا:ما رواه الجمهور،عن أبي ثعلبة الخشنيّ (1)قال:قلت:يا رسول اللّه،إنّا بأرض قوم[من] (2)أهل الكتاب نأكل في آنيتهم؟فقال:(لا تأكلوا فيها إلاّ أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثمَّ كلوا فيها) (3).
لا يقال:على الآية و الخبر انّهم لمّا كثرت مباشرتهم للنّجاسات أطلق عليهم اسم النّجس و إن لم تكن أعيانهم نجسة و لا أوانيهم.
لأنّا نقول:هذا صرف للّفظ عن الظّاهر مع عدم الدّليل،و لأنّ إذلال الكافر أمر مطلوب،و التّنجيس طريق صالح.
و أيضا:ما رواه الشّيخ في الحسن،عن سعيد الأعرج،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن سؤر اليهوديّ و النّصرانيّ؟قال:(لا) (4).
و أمّا النّاصب فإنّه قادح في أمير المؤمنين عليه السّلام،و قد علم بالضّرورة من الدّين تحريم ذلك فهو من هذه الحيثيّة داخل في الكفّار لخروجه عن الإجماع.
و أمّا الغلاة فإنّهم و إن أقرّوا بالشّهادة إلاّ انّهم خارجون عن الإسلام أيضا.
و أمّا نجاسة سؤر الكلب و الخنزير،فيدلّ عليه:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قال:(طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا) (5)أخرجه أبو داود (6).
ص:152
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن الفضل أبي العبّاس،قال:
سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن فضل الهرّة،و الشّاة،و البقرة،و الإبل،و الحمار، و الخيل،و البغال،و الوحش،و السّباع،فلم أترك شيئا إلاّ سألته عنه؟فقال:(لا بأس به)حتّى انتهيت إلى الكلب،فقال:(رجس نجس لا تتوضّأ بفضله و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتّراب أوّل مرّة ثمَّ بالماء) (1).
و ما رواه في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟قال:(اغسل الإناء)و عن السّنّور؟قال:(لا بأس أن تتوضّأ من فضلها،إنّما هي من السّباع) (2).
و ما رواه معاوية بن شريح (3)،قال:سأل عذافر (4)أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن سؤر السّنّور،و الشّاة،و البقرة،و البعير،و الحمار،و الفرس،و البغل،و السّباع،يشرب منه أو يتوضّأ منه؟فقال:(نعم،اشرب منه و توضّأ)قال:قلت له:الكلب؟قال:(لا) قلت:أ ليس هو سبع؟قال:(لا و اللّه انّه نجس،لا و اللّه انّه نجس) (5)و مثله روى
ص:153
معاوية،بن ميسرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (1).
و لأنّهما نجسا العين،فينجّسان ما يلاقيانه،و لأنّ لعابهما متولّد من لحمهما و هو نجس العين،فإذا (2)امتزج بالماء،نجس الماء.
لا يقال:إنّ الكلب من الطّوافين علينا فكان سؤره طاهرا كالهرّة.
و أيضا:روى الشّيخ في الصّحيح،عن ابن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه و السّنّور،أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك، أ يتوضّأ منه أو يغتسل؟قال:(نعم،إلاّ أن تجد غيره فتنزّه عنه) (3).
لأنّا نجيب عن الأوّل:بالمنع من كونه من الطّوّافين.سلّمنا،لكنّ القياس في معارضة النّصّ باطل.
و عن الثّاني:بأنّ المراد:ما (4)ولغ فيه الكلب ممّا بلغ كرّا،و يدلّ عليه:ما رواه أبو بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(ليس بفضل السّنّور بأس لمن يتوضّأ منه و يشرب،و لا يشرب سؤر الكلب إلاّ أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه) (5).
فائدة:الأحاديث الّتي قدّمناها ليس فيها دلالة على [حرمة سؤر الخنزير] الخنزير،بل الطّريق إليه وجوه:
أحدها:انّه نجس،فينجس سؤره.
الثّاني:الإجماع،و قول مالك خارق له،و يمكن أن نقول:ثبت نجاسة سؤر الكلب، فيثبت نجاسة سؤر الخنزير بالإجماع.
الثّالث:قوله تعالى أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ،فَإِنَّهُ رِجْسٌ (6).
ص:154
الرّابع:قال الشّيخ:الخنزير يسمّى كلبا لغة (1)،و قد روى الشّيخ في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام،قال:سألته عن الرّجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله،فذكر و هو في صلاته،كيف يصنع به؟قال:(إن كان دخل في صلاته فليمض،و إن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلاّ أن يكون فيه أثر فيغسله)قال:و سألته عن خنزير شرب من (2)إناء،كيف يصنع به؟قال:(يغسل سبع مرّات) (3)احتجّوا (4)بقوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (5)و لم يأمر بغسل ما أصابه فمه.
و سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الحياض الّتي بين مكّة و المدينة تردها السّباع،و الكلاب،و الحمر،و عن الطّهارة بها؟فقال:(لها ما حملت في بطونها و لنا ما غبر طهور) (6)فيدلّ على انّ ما بقي طهور،و لأنّه حيوان،فكان طاهرا كالمأكول.
و الجواب:الأمر بالغسل مستفاد من الأخبار (7).سلّمنا،لكنّ المشقّة منعت من وجوب الغسل،و الحياض الكبيرة لا تنجس بالملاقاة،و الفرق ظاهر بين المأكول و الكلب.
و أمّا طهارة سؤر غيرهما من الحيوانات،فلأنّها طاهرة،و الماء على أصل الطّهارة،فمع الملاقاة لا موجب للتّنجيس (8).
و لما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه سئل عن الحياض الّتي في الفلوات و ما يؤتيها (9)من السّباع؟فقال:(لها ما حملت في بطونها،و ما أبقت فهو
ص:155
لنا شراب و طهور) (1).
و من طريق الخاصّة:رواية الفضل الصّحيحة،و قد تقدّمت (2)،و رواية محمّد بن مسلم في الصّحيح أيضا الدّالّة على طهارة سؤر الهرّة بالتّنصيص،و على طهارة سؤر السّباع كلّها بالإيماء (3)،و روايتا معاوية بن شريح و معاوية بن ميسرة،و قد تقدّمتا (4).
و أيضا:روى الشّيخ في الصّحيح،عن إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،انّ أبا جعفر عليه السّلام كان يقول:(لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن يشرب منه و يتوضّأ منه) (5).
و روى في الصّحيح،عن معاوية بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،في الهرّة (أنّها من أهل البيت و يتوضّأ من سؤرها) (6)و يدلّ هذا من حيث المفهوم على طهارة (7)سؤر الحشرات.
و روى في الصّحيح،عن أبي الصّباح (8)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(كان عليّ عليه السّلام يقول:لا تدع فضل السّنّور أن يتوضّأ منه،إنّما هي سبع) (9)و هو يدل بالإيماء على طهارة سؤر السّباع.
ص:156
و روى في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(في كتاب عليّ عليه السّلام انّ الهرّ سبع،و لا بأس بسؤره،و انّي لأستحيي من اللّه أن أدع طعاما لأنّ الهرّ أكل منه) (1).
و روى في الصّحيح،عن جميل بن درّاج (2)،قال:سألت أبا عبد اللّه عن سؤر الدّوابّ و الغنم و البقر أ يتوضّأ منه و يشرب؟فقال:(لا بأس) (3).
و روى عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(فضل الحمامة و الدّجاج لا بأس به و الطّير) (4).
و روى عن عمّار بن موسى،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل عمّا تشرب منه الحمامة؟قال:(كلّما أكل لحمه،يتوضّأ من سؤره و يشرب)و عمّا (5)يشرب منه باز أو صقر أو عقاب؟فقال:(كلّ شيء من الطّير،يتوضّأ ممّا يشرب منه،إلاّ أن ترى في منقاره دما،فإن رأيت في منقاره دما،فلا تتوضّأ منه و لا تشرب) (6).
و حديث أبي بصير و عمّار و إن كانا ضعيفين لأنّ في الأوّل عليّ بن أبي حمزة و هو واقفيّ،و عمّار فطحيّ،إلاّ انّه مناسب للمذهب.
و أيضا:الإجماع قد وقع على طهارة سؤر الطّيور و على طهارة سؤر الهرّ و ما دونها في الخلقة
ص:157
كالفأرة و ابن عرس و غيرهما من حشرات الأرض،فإنّ عامّة أهل العلم من الصّحابة و التّابعين من أهل المدينة و الشّام و أهل الكوفة و أصحاب الرّأي على طهارتها و جواز شرب سؤرها و الوضوء به.
و كره أبو حنيفة سؤر الهرّ (1)،و كذا ابن عمر،و يحيى الأنصاريّ،و ابن أبي ليلى (2).
و قال أبو هريرة:يغسل مرّة أو مرّتين (3).و به قال ابن المسيّب (4).
و قال الحسن و ابن سيرين:يغسل مرّة (5).
و قال طاوس:يغسل سبعا كالكلب (6).و ما تقدّم يبطل ذلك كلّه.
و ما نقلناه عن الشّيخ في المبسوط فضعيف (7)،للأحاديث الّتي نقلناها (8).
و استدلّ في التّهذيب على نجاسة سؤر الكلب و الخنزير بما رواه عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(كلّما يؤكل لحمه،فلا بأس بسؤره) (9)قال:و هذا يدلّ على انّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز الوضوء منه و لا الشّرب،و الظّاهر انّ ما صار إليه في المبسوط مستند إلى هذا،و هو ضعيف من وجهين:
الأوّل:انّ عمّارا فطحيّ،و كذا الرّاوي عنه،و هو مصدّق بن صدقة،و كذا الرّاوي عن مصدّق،و هو عمرو بن سعيد،و كذا الرّاوي عن عمرو،و هو أحمد بن الحسن بن عليّ، فلا تعارض الرّوايات الّتي قدّمناها.
الثّاني:انّ ما ذكره الشّيخ دليل الخطاب،فلا يجوز التّعويل عليه خصوصا مع النّصّ المعارض.
ص:158
و احتجّ أبو حنيفة على نجاسة سؤر سباع الوحش بأنّ لعابه نجس بدليل حرمة أكله مع كونه صالحا للغذاء من غير استحقاقه الكرامة (1)و الاحترام،و إذا كان لعابه نجسا و قد امتزج بالماء أوجب نجاسته (2)،و خصّ ما ورد من الحديث بالحياض الكبيرة.
و الجواب عنه بالمنع من نجاسة اللّعاب،و تحريم أكل اللّحم لا يدلّ على النّجاسة فإنّ التّحريم قد يكون للنّجاسة،و قد يكون لاشتماله على المؤذي،و قد يكون لمصالح أخر خفيّة علينا،فكيف يعارض النّصّ بمثل هذا الاستدلال الضّعيف،على انّا نقول:حيوان يطهر جلده بالدّباغ،فيكون سؤره طاهرا كالشّاة و الحمار،و الجامع انّ طهارة الجلد تدلّ على انّ عينه ليست نجسة،فلا يكون لحمه نجسا،و تخصيص الحديث لغير دليل باطل خصوصا مع انّ السّؤال وقع عن الجمع المحلّى بالألف و اللام الموضوع للعموم،فلو لم يكن الجواب بحيث يدخل فيه كلّ الأفراد،لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة،و ذلك باطل بالاتّفاق.
و استدلّ من قال بنجاسة سؤر الحمر (3)بما روي،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قال يوم خيبر في الحمر:(انّه رجس) (4)و هو ضعيف،فإنّ البخاريّ قال:راوي هذا الحديث ابن أبي حبيبة،و هو منكر الحديث (5)،و إبراهيم بن أبي يحيى،و هو
ص:159
كذّاب (1)فلا يعوّل عليه.
،و الّذي نراه:انّه مكروه،فإنّ تمسّك بكفره منعنا ذلك،و يمكن أن يستدلّ عليه بما رواه محمّد بن يعقوب بإسناده،عن الوشّاء (3)،عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،انّه كره سؤر ولد الزّنا،و اليهوديّ،و النّصرانيّ،و المشرك و كلّ ما خالف الإسلام،و كان أشدّ ذلك عنده سؤر النّاصب (4).و وجهه انّه لا يريد بلفظة(كره)المعنى الظّاهر له،و هو النّهي عن الشّيء نهي تنزيه لقوله:(و اليهوديّ)فإنّ الكراهة فيه تدلّ على التّحريم،فلم يبق المراد إلاّ كراهيّة التّحريم،و لا يجوز أن يرادا معا،و إلاّ لزم استعمال المشترك في كلا معنييه،أو استعمال اللّفظ في معنى الحقيقة و المجاز،و ذلك باطل.
و الجواب:المنع من الحديث،فإنّه مرسل.سلّمنا،لكن قول الرّاوي(كره)ليس إشارة إلى النّهي بل الكراهة الّتي في مقابلة الإرادة،و قد يطلق على ما هو أعمّ من المحرّم و المكروه.سلّمنا،لكنّ الكراهة قد تطلق على النّهي المطلق فليحمل عليه و لا يلزم ما ذكرتم.
ص:160
،و قال ابن إدريس بنجاسة سؤر غير المؤمن و المستضعف (3)،و يمكن أن يكون مأخذهما قوله تعالى كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (4)و الرّجس:النّجس،و قول ابن إدريس مشكل،و تنجّس سؤر المجبّرة ضعيف،و في المجسّمة قوّة .
إذا خلا موضع الملاقاة من عين النّجاسة، و هو قول السّيّد المرتضى (5).
لنا:ما أوردناه من الأحاديث العامّة في استعمال سؤر الطّيور و السّباع،و هي لا تنفكّ عن تناول ذلك عادة،فلو كان ذلك مانعا لوجب التّنصيص عليه،و إلاّ لزم صرف الظّاهر إلى نادر لا دلالة للّفظ الشّامل عليه،و ذلك بعيد و محال حيث انّه تأخير للبيان عن وقت الحاجة.
و هكذا سؤر الهرّة،و إن أكلت الميتة ثمَّ شربت،قلّ الماء أو كثر،غابت عن العين أو لم تغب،لعموم الأحاديث المبيحة،و لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نفي عموم النّجاسة عنها مطلقا،اللّهم إلاّ أن يكون أثر النّجاسة ظاهرا على المنقار أو الفم،أو يشاهد في الماء.و عند الشّافعيّة و الحنابلة وجهان:أحدهما مثل قولنا،و الثّاني:إن لم تغب فالماء نجس،و هو ظاهر نصّ الشّافعيّ،و إن غابت ثمَّ عادت فشربت فوجهان:أحدهما:التّنجيس،لأنّ الأصل بقاء النّجاسة،و الثّاني:الطّهارة لأصالة طهارة الماء (6)،و يمكن أن يكون قد وردت حال غيبوبتها على ماء كثير.
ص:161
.و هو اختيار الشّيخ في النّهاية،و أطلق في المبسوط (1)لنا:ما رواه الشّيخ،عن عيص بن القاسم،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟قال:(توضّأ منه و توضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة و تغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء،و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يغتسل هو و عائشة في إناء واحد و يغتسلان جميعا) (2).
و رواه محمّد بن يعقوب في الصّحيح،عن العيص بن القاسم،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن سؤر الحائض؟قال:(لا تتوضّأ منه و توضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة و تغتسل يديها قبل أن تدخلها في الإناء و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يغتسل هو و عائشة في إناء واحد و يغتسلان جميعا) (3).
و روى في الحسن،عن الحسين بن أبي العلاء،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحائض يشرب سؤرها؟قال:(نعم و لا يتوضّأ) (4).
و هذا يدلّ على الكراهية،لأنّه إن كان طاهرا جاز الوضوء منه،و إلاّ لم يجز الشّرب، و مثله روي عن عنبسة بن مصعب (5).
و أيضا مع التّهمة يتطرّق تجويز النّجاسة،فيكره الاستعمال احتياطا للعبادة .
لنا:رواية الفضل (1)،و لأنّ الأصل الطّهارة،و حكم السّؤر حكم اللّعاب.
و يكره سؤر الدّجاج لعدم انفكاكها من استعمال النّجاسة،و لا بأس بسؤر الفأرة، و الحيّة.و كذا لو وقعتا في الماء و خرجتا.
و قال في النّهاية:الأفضل ترك استعماله (2).
لنا:ما رواه إسحاق بن عمّار،و قد تقدّم (3)،و أيضا فإنّه جسم طاهر لاقى ماء طاهرا،فلا يوجب المنع،و الوجه:انّ الوزغ كذلك.
و قال في النّهاية:لا يجوز استعمال ما وقع فيه الوزغ و إن خرج حيّا (4).و هو اختيار ابن بابويه (5).
لنا:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام قال:سألته عن العظاية،و الحيّة،و الوزغ تقع في الماء فلا يموت،أ يتوضّأ منه للصّلاة؟ قال:(لا بأس) (6)و لأنّه في الأصل لاقى طاهرا،فلا يوجب التّنجيس.
و رواية أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن حيّة دخلت حبّا فيه ماء و خرجت منه؟قال:(إن وجد ماء غيره فليهرقه) (7)غير دالّة على التّنجيس مع انّ في طريقها وهبا (8)،فإن كان هو وهب بن وهب أبا البختريّ
ص:163
فهو ضعيف جدّا.
و رواية عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل عن العظاية تقع في اللّبن؟ قال:(يحرم اللّبن)و قال:(انّ فيها السّم) (1)ضعيفة أيضا،فإنّ رواتها الحسن بن فضّال،عن عمرو بن سعيد،عن مصدّق بن صدقة،عن عمّار الساباطيّ،و هؤلاء فطحيّة.
و أيضا:فإنّ فيه إشارة إلى انّ التّحريم إنّما كان لأجل السّم،و ذلك ليس ممّا نحن فيه،فإنّه غير دالّ على التّنجيس.
و أيضا:فإنّ الرّواية قد اشتملت على قوله:سئل عن الخنفساء و الذّباب و الجرد و النّملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزّيت و السّمن و شبهه؟قال:(كلّ ما ليس له دم،فلا بأس) .
ما لم يكن هناك نجاسة عينيّة.و هو قول أكثر أهل العلم (2).
و قال أحمد:يكره إذا خلت به المرأة،و عنه رواية اخرى انّه لا يجوز (3).
و حكى ابن المنذر عن إسحاق الكراهة (4).و كذا حكي عن الحسن و ابن المسيّب (5)،و كان ابن عمر لا يكره فضل وضوئها إلاّ أن تكون جنبا أو حائضا،قال:
فإذا خلت به فلا تقربه (6).
لنا:ما تقدّم من الأحاديث الدّالّة على جواز استعمال سؤر الحائض (7)،و ما رواه
ص:164
محمّد بن يعقوب بإسناده،عن ابن أبي يعفور،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام أ يتوضّأ الرّجل من فضل المرأة؟قال:(إذا كانت تعرف) (1).
و لما رواه الجمهور،عن ميمونة (2)قالت:اغتسلت من جفنة ففضلت منها فضلة قلت:يا رسول اللّه،إنّي اغتسلت منه؟فقال:(الماء ليس عليه جنابة) (3)و لأنّه في الأصل طاهر،فيبقى على الأصل.
احتجّ ابن حنبل بما روى الحكم بن عمرو (4)انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يتوضّأ الرّجل بفضل وضوء المرأة (5).و هذا ضعيف،فإنّ محمّد بن إسماعيل قال:هذا الحديث موقوف،و من رفعه فقد أخطأ (6).
ص:165
و لا يؤثّر في نجاسة ما يلاقيه من الماء و غيره (1).و هو مذهب الحنفيّة (2)،و عامّة الفقهاء (3)،و أحد قولي الشّافعيّ،و القول الآخر له:انّه ينجس ما يموت فيه عدا السّمك،و أمّا الحيوان فإنّه ينجس،قولا واحدا (4).قال ابن المنذر:لا أعرف أحدا قال بنجاسة الماء سوى الشّافعي (5).و نقل أبو جعفر من الحنفيّة في شرح الطّحاويّ،عن بعض الحنفيّة:إنّ الضّفدع إذا مات في الخلّ أو العصير،نجّسه،فاعتبر موته في غير موطنه و معدنه،و لم يعتبر سيلان الدّم.
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(موت ما لا نفس له سائلة في الماء،لا يفسده) (6).
و ما رووه،عن سلمان (7)،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(أيّما طعام أو شراب مات فيه دابّة ليس لها نفس سائلة،فهو الحلال أكله و شربه و الوضوء منه) (8).
و ما رواه مسلم و أبو داود،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(إذا وقع الذّباب في إناء أحدكم فليمقله،فإنّ في أحد جناحيه داء و في الآخر شفاء) (9)قال الشّافعيّ:مقلة
ص:166
ليس بقتله (1).
قلنا:اللّفظ عامّ في كلّ شراب بارد أو حار أو دهن بما (2)يموت بغمسه فيه.
و طعن التّرمذيّ (3)في الحديث الثّاني بأنّ راويه بقية (4)،و هو مدلّس لا التفات إليه،لأنّ جماعة صحّحوه،و لأنّ التّرمذيّ قال:بقية مدلّس فإذا روى عن الثّقات جوّد (5)، و للحديث السّابق و اللاّحق.
و من طريق الأصحاب:ما رواه الشيخ،عن ابن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(كلّ شيء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك، فلا بأس) (6).
و ما رواه،عن محمّد بن يحيى (7)،رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة) (8).
ص:167
و ما رواه حفص بن غياث (1)،عن جعفر بن محمّد عليه السّلام،قال:(لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة) (2)و حفص و إن كان عاميّا،إلاّ انّ روايته مناسبة للمذهب، و ابن سنان (3)الّذي روى،عن ابن مسكان الحديث الأوّل و إن كان قد ضعّفه بعض أصحابنا،إلاّ انّ بعضهم قد شهد له بالثّقة،و أيضا:فهي مناسبة للمذهب.
و ما رواه عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،انّه سئل عن الخنفساء و الذّباب و الجراد و النّملة و أشباه ذلك يموت في اللّبن (4)و الزّيت و شبهه،قال:(كلّ ما ليس له دم،فلا بأس) (5)و هذه مقويّة لا حجّة،و الأقرب الاستدلال بالأصل،و بما روي،عن الصّادق عليه السّلام،قال:(الماء كلّه طاهر حتّى يعلم انّه قذر) (6).
و لأنّ الموت ليس لذاته علّة للنّجاسة،و إلاّ لنجس المذكّى الّذي حلّه الموت،و انّما كان نجسا لما فيه من الدّماء،و هذا ليس له دم،و حرمة (7)الانتفاع به لعدم صلاحيّة الغذاء لا للنّجاسة.
و عن أحمد في الوزغ روايتان:
ص:168
إحداهما:النّجاسة،لما روي،عن عليّ عليه السّلام انّه كان يقول:(إن ماتت الوزغة أو الفأرة في الحبّ فصبّ ما فيه،و إن ماتت في بئر فانزحها حتّى يغلبك) (1).
و الجواب:النّزح و الصبّ في الوزغ لا باعتبار النّجاسة،بل باعتبار الطّيب.
كلّ حيوان يعيش في الماء،فلا يخلو إمّا أن يكون ذا نفس سائلة أو لا،فإن كان كالتّمساح و شبهه ممّا له عرق يخرج منه الدّم،فهو نجس بالموت،فينجس الماء إن كان قليلا.و به قال أحمد (2)خلافا للحنفيّة (3).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الحديثين السّابقين (4)،فإنّه علّق الحكم فيها على كون النّفس ليست سائلة.
و من طريق الخاصّة:رواية محمّد بن يحيى بإسناده،عن الصّادق عليه السّلام،قال:
(لا يفسد الماء،إلاّ ما كانت له نفس سائلة) (5)و الاستثناء من النّفي إثبات،و ما اخترناه روي عن أبي يوسف أيضا (6).
احتجّ (7)المخالف بقوله عليه السّلام:(هو الطّهور ماؤه،الحلّ ميتته) (8).
و الجواب:انّه مختصّ بالسّموك،و إلاّ لزم تحليل الجميع و ليس كذلك إجماعا،و أيضا:
ليس هذه الصّيغة من صيغ العموم،فلا يتناول ذا النّفس و غيره جميعا.
و إن لم يكن ذا نفس سائلة لم ينجس سواء مات في الماء أو خارجه.
و لو تقطّعت أجزاء حيوان الماء ذي النّفس السّائلة في الماء،نجّسه إن كان قليلا،و إن
ص:169
كان كثيرا،جاز استعماله،و عند الحنفيّة يكره شربه (1)،لأنّه لا يتوصّل إليه إلاّ و معه جزء من أجزاء الّذي لا يحلّ أكله و شربه.
و الضّفدع لا ينجس بالموت،لأنّه ليس ذا نفس سائلة.و به قال مالك (2)و أبو حنيفة (3)،و محمّد بن الحسن (4).و قال الشّافعيّ (5)،و أبو يوسف (6)،و أحمد (7):انّه نجس،لأنّه يعيش في البرّ،فأشبه حيوان البرّ.
و الجواب:المقتضي للنّجاسة:سيلان النّفس .
،كالفأر،ودود الخلّ،و شبهه، و المتولّد من النّجاسات كدود العذرة كذلك،لأنّه غير ذي نفس سائلة،فيدخل تحت العموم الدّالّ على طهارة ما مات فيه حيوان غير ذي نفس.
و قال أحمد:انّ المتولّد من الأعيان النّجسة نجس حيّا و ميّتا،لأنّها كائنة عن النّجاسة، فتكون نجسة (8)كولد الكلب و الخنزير (9).
و الجواب:المقدّمتان ممنوعتان فإنّ المعلوم تولّده في النّجاسة،أمّا منها فلا،و لو سلّم، منع من نجاسة المتولّد من النّجس،و ولد الكلب ليس نجسا باعتبار تولّده عن النّجس،بل باعتبار اسم الكلب عليه بخلاف دود العذرة.
و يحرم أكله عند علمائنا أجمع سواء انفصل عن الطّعام أو اتّصل به.و هو أحد قولي
ص:170
الشّافعيّ،لاستقذاره.احتجّ حالة الاتّصال بعسر الإزالة و حالة الانفصال بالطّهارة (1)، و هما غير دالّين على المطلوب .
،لأنّ له نفسا سائلة.و هو مذهب أبي حنيفة (2)،خلافا للشّافعيّ على أحد القولين (3)،و لأحمد في إحدى الرّوايتين (4).
لنا انّه ذو نفس سائلة فيدخل تحت قوله:(لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة) (5).
و لأنّ زنجيّا وقع في بئر زمزم في عهد عبد اللّه بن عبّاس و ابن الزّبير،فأمرا بنزح الماء فلم يمكنهم ذلك و كان لها عين تنبع في أسفلها كأنّها(عنق جزور) (6)فأمرا بسدّها بالإقطاع (7)فلم يقدروا عليه،فأمرا بنزح البعض و حكما بطهارة الباقي (8).
احتجّوا (9)بما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(المؤمن لا ينجس) (10)متّفق عليه.
و الجواب:المؤمن (11)إنّما يتناول حقيقة الحيّ،أمّا الميّت فإنّما يطلق عليه بالمجاز
ص:171
و يطهر بالغسل إن كان مسلما،أمّا الكافر فلا .
،فإن كان الجرح قاتلا فهو حلال و الماء طاهر،و إلاّ فلا فيهما سواء اشتبه أو علم استناد الموت إلى الماء.قيل:انّه مع اشتباه موته بالماء و عدمه يكون الأصل طهارة الماء و حرمة الحيوان،فيحكم بطهارة الماء و تحريم الحيوان (1)عملا بالأصلين (2)،و اخترناه نحن في بعض كتبنا (3)،و ليس بجيّد، لأنّ العمل بالأصلين إنّما يصحّ مع الإمكان و هو هنا منتف،فإنّه كما يستحيل اجتماع الشّيء مع نقيضه،كذا يستحيل اجتماعه مع نقيض لازمه،و موت الحيوان يستلزم نجاسة الماء،فلا يجامع الحكم بطهارته كما لا يجامع تذكيته .
الجامد
،الأقرب:عدم التّنجيس ما لم يغيّره.
لنا:قوله عليه السّلام:(إذا بلغ الماء قدر كرّ،لم ينجسه شيء) (4)و بالتّمجيد لم يخرج عن حقيقته،بل ذلك ممّا يؤكّد ثبوت مقتضي حقيقته،فإنّ الآثار الصّادرة عن الحقيقة كلّما قويت،كانت آكد في ثبوتها،و البرودة من معلولات طبيعة الماء،و هي تقتضي الجمود.
أمّا لو كان ناقصا عن الكرّ،هل يكون حكمه حكم الجامدات بحيث يلقى النّجاسة و ما يكتنفها أم يدخل تحت عموم التّنجيس للقليل؟الأقرب:الأوّل،لأنّه بجموده يمنع من شياع النّجاسة فيه،فلا يتعدّى موضع الملاقاة بخلاف الماء القليل الّذي تسري النّجاسة إلى جميع أجزائه.
ص:172
الحق:جوازه بشرط أن يكون ما يتحلّل منه جاريا على العضو بحيث يسمّى غاسلا.و الشّيخ اقتصر في الخلاف على الدّهن (1)،فإن كان المقصود الغسل الخفيف بحيث ينتقل جزء من الماء على جزئين من البدن،فهو صحيح.
لنا:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يجنب في السّفر لا يجد إلاّ الثّلج،قال:(يغتسل بالثّلج أو ماء النّهر) (2).
و روى،عن معاوية بن شريح،قال:سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده، قال:يصيبنا الدّمق (3)و الثّلج و نريد أن نتوضّأ فلا نجد إلاّ ماء جامدا،فكيف أتوضّأ، أدلك به جلدي؟قال:(نعم) (4).
و معاوية لا أعرفه،و في طريق هذه الرّواية عثمان بن عيسى،و هو واقفيّ،فالتّعويل على الاولى.
و ما رواه الشّيخ في الحسن،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام،قال:
سألته عن الرّجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء و هو يصيب ثلجا و صعيدا،أيّهما أفضل:التّيمّم،أم يمسح بالثّلج وجهه؟قال:(الثّلج إذا بلّ رأسه و جسده أفضل،فإن لم يقدر على أن يغتسل به،فليتيمّم) (5)أمره بالتّيمّم مع عدم القدرة،فينتفي عند وجودها ضرورة كونه شرطا،و لأنّه فعل حقيقة الغسل،فيكون ممتثلا للأمر بالاغتسال.
لا يقال:قد روى محمّد بن يعقوب في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه
ص:173
عليه السّلام،قال:سألته عن رجل أجنب و لم يجد إلاّ الثّلج،أو ماء جامدا،فقال:(هو بمنزلة الضّرورة،يتيمّم،و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض الّتي توبق دينه) (1).
فنقول:لو جاز الاغتسال به لما جاز التّيمّم،و لما (2)حكم عليه السّلام بكونه بمنزلة الضّرورة،و لما (3)نهاه عن العود إلى هذه الأرض،و لما (4)حكم بأنّها موبقة لدينه، و التّوالي كلّها باطلة،و قد روى الشّيخ أيضا هذه الرّواية (5)،و لأنّه لو جاز الاغتسال بالثّلج أو الوضوء لما خصّص الإمامان عليهما السّلام في الحديثين اللّذين استدللتم بهما بعدم وجدان الماء.
لأنّا نقول:أمّا الحديث الّذي ذكرتموه:فإنّا نحمله على من لم يتمكّن من استعمال الثّلج للبرد،لأنّ الغالب في تلك الأرض (6)الّتي لا يوجد فيها إلاّ الثّلج أو الجمد،شدّة البرودة المانعة من الملامسة،فيحمل عليه لظهوره،و جمعا بين الأدلّة،و أمّا التّخصيص فممنوع،فإنّه قد وقع الاتّفاق من المحقّقين على انّ الجواب عن صورة خاصّة لا يقتضي التّخصيص كما لو سئل عليه السّلام عن السّائمة فقال:فيها زكاة،مع وقوع الخلاف منهم على الدّلالة على التّخصيص إذا لم يكن جوابا.
بشرط الجريان .
ا
ففي نجاسته نظر،فإنّه يمكن أن يقال:ماء متّصل بالكرّ،فلا يقبل التّنجيس،و يمكن أن يقال:
ماء قليل متّصل بالجامد اتّصال مماسّة لا ممازجة و اتّحاد،فأشبه المتّصل بغير الماء في انفعاله عن النّجاسة لقلّته .
ص:174
و تيمّم سواء زاد عدد الطّاهر أو نقص.و هل يجب الإراقة؟جزم به الشّيخ في النّهاية،و ابن بابويه في كتابه،و المفيد في المقنعة (1).و الأولى:عدم الوجوب،و عن أحمد روايتان في الإراقة (2).
و قال الشّافعيّ:يجوز التّحرّي إن كانت نجاسة ظاهريّة (3).و جوّز أبو حنيفة التّحرّي بشرط غلبة الطّاهر،أمّا مع المساواة و الأقليّة فلا (4).و هو إحدى الرّوايتين عن أحمد (5).
و ما اخترناه،مذهب المزنيّ (6)،و أبي ثور،و أحمد في إحدى الرّوايتين،و هو أيضا مذهب أكثر الصّحابة (7).
و قال ابن الماجشون و محمّد بن[مسلمة] (8):لا يتحرّى و يتوضّأ بكلّ واحد منهما و يصلّي بعد أن يغسل بالثّاني ما أصابه من الأوّل (9).
لنا:ما رواه الشّيخ،عن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء،وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو و ليس يقدر على ماء غيره؟قال:
(يهريقهما جميعا و يتيمّم) (10).
و ما رواه سماعة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل معه إناءان فيهما
ص:175
ماء،وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو و ليس يقدر على ماء غيره؟قال:(يهريقهما جميعا و يتيمّم) (1).
و سماعة و عمّار و إن كانا ضعيفين،إلاّ انّ الأصحاب تلقّت هذين الحديثين بالقبول، و أيضا:شهدوا لهما بالثّقة.
و لأنّ الصّلاة بالماء النّجس حرام،فالإقدام على ماء لا يؤمن معه أن يكون نجسا إقدام على ما لا يؤمن معه فعل الحرام،فيكون حراما.
و لأنّه متيقّن لوجوب الصّلاة،فلا يزول إلاّ بمثله،لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،قال:و قال:(و لا ينقض اليقين أبدا بالشّكّ،و لكن ينقضه بيقين آخر) (2).
و لأنّه لو جاز له الاجتهاد،لجاز في الماء و البول و الماء المضاف كماء الورد،و لا يجوز هنا إجماعا،فلا يجوز هناك.
اعتذر أصحاب الشّافعيّ بأنّ البول لا أصل له في الطّهارة (3).
و الجواب:هذا الماء قد زال عنه أصل الطّهارة،فلم يبق للأصل أثر،و لأنّ البول قد كان ماء،فله أصل في الطّهارة،و أيضا:لو جاز التّحرّي،لجاز التّحرّي في الميتة،و المذكّاة، و المحرم،و الأجنبيّة،و التّالي باطل إجماعا،فكذا المقدّم.
و وجه الملازمة في البابين انّ الاجتهاد طريق صالح لتعيّن المجتنب عنه من غيره، فالتّخصيص تحكّم.و أيضا:لو جاز الاجتهاد لما جاز الاجتهاد،أو لزم جواز استعمال متيقّن النّجاسة،و التّالي بقسميه باطل،فالمقدّم مثله.
بيان الملازمة:انّه لو اجتهد وقت الصّبح في أحد الإناءين ثمَّ اجتهد وقت الظّهر في الآخر،فإمّا أن يعمل بالاجتهاد الثّاني أو لا،و على التّقدير الأوّل يلزم ما ذكرناه ثانيا، و على الثّاني يلزم الأوّل.
ص:176
و أمّا بطلان قسمي التّالي فبالإجماع في الثّاني،و بالعقل الدّالّ على امتناع ما أدّى ثبوته إلى انتفائه في الأوّل.
احتج الشّافعيّ بأنّه شرط الصّلاة،فجاز التّحرّي من أجله كما لو اشتبهت القبلة،و لأنّ الطّهارة تؤدّي باليقين تارة و بالظّنّ اخرى،و لهذا جاز الوضوء بالماء القليل المتغيّر الّذي لا يعلم سبب تغيّره (1).
و الجواب:القبلة يباح تركها حالة الضّرورة،و في السّفر في النّفل اختيارا،و لأنّ القبلة الّتي يتوجّه إليها مبنيّة على الظّنّ،و لو بان له يقين الخطأ لم يلزمه الإعادة،و المتغيّر من غير سبب يجوز الوضوء به عملا بأصالة الطّهارة و إن عارضه ظنّ النّجاسة،و هنا عارضه يقين النّجاسة،و لهذا لا يحتاج في القليل إلى التّحرّي بخلاف المتنازع.
سواء كان هناك أمارة أو لم يكن،و سواء كان الطّاهر هو الأكثر أو بالعكس أو تساويا،و سواء كان المشتبه بالطّاهر نجسا أو نجاسة أو ماء مضافا،و لو انقلب أحدهما لم يجز التّحرّي أيضا،لأنّه ظنّ، فلا يرفع يقين النّجاسة.
و وافقنا الشّافعيّ على عدم التّحرّي إذا كان أحد الإناءين نجاسة كالبول،لأنّه ليس له أصل في الطّهارة سواء زاد عدد الطّاهر أو لا (2).
و قال أبو حنيفة:إن زاد عدد الطّاهر،جاز (3).
قالت الشّافعيّة:لو أدّى اجتهاد أحد الرّجلين إلى طهارة إناء،و الآخر إلى طهارة آخر، صلّى كلّ منهما منفردا و لا يجوز الائتمام،لأنّه معتقد فساد طهارة إمامه،فلو كانت الأواني خمسة و اجتهد فيها خمسة و استعمل كلّ ما أدّى إليه اجتهاده،فإن كان الطّاهر
ص:177
واحدا صلّى كلّ منهم منفردا،فإن صلّوا جماعة لم يصحّ،و إن كان النّجس واحدا صحّت صلاتهم جماعة،فلو صلّوا الخمس جماعة و أمّ كلّ واحد منهم في واحدة،فكلّ من صلّى إماما صحّت صلاته،و كلّ صلاة صلاّها و هو مأموم فيها صحيحة إلاّ الصّلاة الأخيرة، فإمام العشاء لا يصحّ له صلاة المغرب،لأنّه يزعم أنّه تطهّر بالماء الطّاهر.و كذا إمام الصّبح و الظّهر و العصر،فتعيّن استعماله الماء النّجس بحكم اقتدائه بمن مثله في حقّ إمام المغرب، و على الباقين إعادة صلاة العشاء لما ذكرنا (1)،و هذا عندنا ساقط،لأنّا نوجب التّيمّم .
كما لو انقلب أحد المشتبهين ثمَّ اشتبه الباقي بمتيقّن الطّهارة،و كذا لو اشتبه الباقي بمتيقّن النّجاسة وجب الاجتناب .
،لاستوائهما في المنع،و خائف العطش يجوز أن يمسك النّجس،فالمشكوك أولى،و يجوز له أن يستعمل أيّهما شاء،و لا يلزمه التّحرّي،لأنّه مضطرّ،فساغ له التّناول،و لو لم يكونا مشتبهين شرب الطّاهر و تيمّم،و لو خاف العطش في ثاني الحال حبس الطّاهر،لأنّ وجود النّجس كعدمه عند الحاجة إلى الشّرب في الحال،فكذا في المآل،و خوف العطش في إباحة التّيمّم كحقيقته.و هو قول بعض الحنابلة و قال بعضهم:يحبس النّجس،لأنّه ليس بمحتاج إلى شربه في الحال،فلم يجز التّيمّم مع وجوده (2).
و لم يرتفع حدثه سواء قدّم الطّهارتين أو صلّى بكلّ واحدة صلاة،لأنّه ماء يجب اجتنابه فكان كالنّجس.و كذا لو استعمل أحدهما و صلّى به،لم تصحّ صلاته و وجب عليه غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقّن الطّهارة كالنّجس.و هو أحد وجهي الحنابلة،و في الآخر:لا يجب غسله،لأنّ المحل طاهر بيقين،فلا يزول بشكّ النّجاسة (3).
ص:178
و الجواب:لا فرق في المنع بين يقين النّجاسة و شكّها هنا بخلاف غيره،أمّا لو كان أحدهما ماء و الآخر مضافا،قال الشّيخ:يتطهّر بهما (1)،و هو حسن،خلافا لابن إدريس (2)،و قال الجمهور كافّة بمثل قول الشّيخ (3)،لأنّه يمكنه أداء فرضه بيقين من غير حرج فيه فوجب عليه،و لو احتاج إلى أحدهما للشّرب أبقاه و توضّأ بالآخر و تيمّم،و كذا لو صبّ أحدهما ليحصل له يقين البراءة.
لنا:انّه متمكّن من تحصيل الطّهارة و لم يتناوله المنع،فوجب عليه الفعل .
سواء كان الاشتباه بين الطّاهرين أو بين الطّاهر و النّجس و لا استعمالهما في الموضعين.و هو اختيار أبي إسحاق المروزيّ (4)من الشّافعيّة (5)،و قال أكثرهم:هو مخيّر بين التّحرّي و استعمال المتيقّن (6).
لنا:ما تقدّم من الأدلّة المانعة من التّحرّي لفاقد المتيقّن (7)،فلو أجده أولى .
،و لو تطهّر بهما ففي الإجزاء نظر ينشأ من إتيانه بالمأمور به و هو الطّهارة بماء مملوك،فيخرج عن العهدة،و من طهارته بما نهي عنه فيبطل،و هو الأقوى.و لو غسل ثوبه بالمغصوب أو بالمشتبه به،طهر و صحّت الصّلاة فيه .
عملا بالأصل،و ليست شرطا في التّيمّم،لأنّ الوجدان مفقود هنا لعدم التّمكّن من الاستعمال .
و لو فعل كان الجميع نجسا على ما اخترناه،
ص:179
و يجيء على أحد قولي الشّيخ وجوب المزج (1).
.و هو أحد قولي الشّافعيّة (2)،و وجب التّيمّم،و من وافقنا من الشّافعيّة،قال بعضهم:يتيمّم-كما قلناه و قال آخرون:
يتوضّأ،لأنّ الأصل الطّهارة،و نجاسته مشكوك فيها و قد زال يقين النّجاسة (3).و ليس بجيّد،لما قلناه (4)من وجوب الاجتناب.
و لو اجتهد في الصّلاة الثّانية بعد إراقة أحدهما فأدّاه اجتهاده إلى طهارة الباقي،قال بعض الشّافعيّة:يتيمّم (5).و عندنا الاجتهاد من أصله باطل.و وافقنا الشّافعيّ في المنع من التّحرّي في حقّ الأعمى في أحد القولين(و جوّز له في الآخر التّحرّي (6)) (7).
فهاهنا مباحث:
ص:181
ص:182
،إمّا أن يوجب الطّهارة الصّغرى لا غير،و هو خمسة أشياء،خروج البول،و الغائط،و الرّيح،و النّوم الغالب على الحاسّتين السّمع و البصر،و كلّما أزال العقل من إغماء و جنون (2)و سكر و شبهه.
و إمّا أن يوجب الكبرى لا غير،و هو الجنابة خاصّة.
و إمّا أن يوجبهما معا و هو الحيض،و النّفاس،و مسّ الأموات بعد بردهم بالموت و قبل تطهيرهم بالغسل.
و إمّا أن يوجب الوضوء خاصّة،في حال و الأمرين في حالة اخرى و هو الاستحاضة .
ناقض للطّهارة
و موجب للوضوء،و يدلّ عليه قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (3).
و ما رواه الشّيخ في الحسن،عن زرارة،قال:قلت لأبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام:ما ينقض الوضوء؟فقالا:(ما يخرج من طرفيك الأسفلين من الدّبر و الذّكر من غائط أو بول أو منيّ أو ريح،و النّوم حتّى يذهب العقل و كلّ النّوم يكره إلاّ أن تسمع الصّوت) (4).
و ما رواه في الصّحيح عن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا يوجب الوضوء إلاّ من غائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها) (5).
ص:183
و ما رواه في الصّحيح،عن سالم أبي الفضل (1)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:
(ليس ينقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفيك الأسفلين الّذين أنعم اللّه بهما عليك) (2).
.
و قال الشّيخ:إن خرج البول و الغائط ممّا دون المعدة نقض،و من فوقها لا ينقض (3).
و ما اخترناه هو مذهب الشّافعيّ في أحد قوليه (4)،و ما اختاره الشّيخ هو القول الثّاني.
و قال أبو حنيفة:انّه ينقض مطلقا،سواء خرج ممّا فوق المعدة أو دونها بشرط السّيلان (5)إلاّ الرّيح،فقد نقل الكرخي انّه لو خرج من الذّكر أو من قبل المرأة لم ينقض (6)،و روي عن محمّد انّه لو خرج من قبل المرأة ريح منتن نقض (7)،و للشّافعيّ قول انّ الرّيح ينقض سواء خرج من قبل الرّجل أو دبره،و كذا المرأة (8)،و يمكن خروج الرّيح من قبل المرأة و من قبل الرّجل إذا كان أدرّ.
لنا:رواية أبي الفضل،فإنّه عليه السّلام نفي النّقض إلاّ مع الخروج من الطرفين، و أيضا:رواية زرارة،فإنّه عليه السّلام أجاب عن السّؤال المستوعب لكلّ ناقض (9)لأنّ (ما)من صيغ العموم،فلو كان التّخصيص بالذّكر لا يقتضي نفي الحكم عمّا عداه،لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة،و كان في الجواب إيهاما للخطإ،و ذلك باطل،و لأنّ غسل
ص:184
غير موضع النّجاسة غير معقول،فيقتصر على مورد الشّرع،و لأنّ الأصل بقاء الطّهارة،فيقف انتقاضها على موضع الدّلالة.
و نقول على الحنفيّة إنّ أنس بن مالك (1)احتجم و لم يزد على غسل محاجمه (2).
و روى ثوبان (3)انّه قال:قاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:فصببت له وضوءا و قلت:يا رسول اللّه،أ يجب الوضوء من القيء؟فقال:(لو كان واجبا لوجدته في كتاب اللّه) (4)أتى صلّى اللّه عليه و آله بحرف(لو)الدّالّة على الامتناع للامتناع.
و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(لا وضوء إلاّ من صوت أو ريح) (5).
فنقول:لا يجب الوضوء بهذه النّصوص لما دلّت عليه،فلا يجب في الثّلاثة لأنّهم لم يفصّلوا،و لأنّ الخارج من غير السّبيلين لو كان ناقضا،لما اشترط فيه السّيلان قياسا على الخارج منهما.
احتجّ الشّيخ (6)بقوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (7)و هو مطلق
ص:185
سواء خرج من السّبيلين أو من غيرهما،لكنّ الخارج ممّا فوق المعدة لا يسمّى غائطا،فلا يكون ناقضا.
و احتجّ أبو حنيفة (1)بالآية،و بما روي انّ فاطمة بنت أبي حبيش (2)،قالت:يا رسول اللّه،إنّي امرأة أستحاض فلا أطهر،و أخاف أن لا يكون لي في الإسلام حظّ؟فقال:
(إنّما ذلك دم عرق و ليست بالحيضة،فتوضّئي و صلّي) (3)و كلمة(انّ)للتّعليل.
و أيضا:هو خارج نجس من الآدميّ فيؤثّر في تنجيس الأعضاء الأربعة حكما،إذ هو من لوازمه كما في الخارج من السّبيلين.
و الجواب عمّا ذكره الشّيخ:انّ الإطلاق ينصرف إلى المعتاد،فيتقيّد به،و أيضا:
فالرّوايات الّتي ذكرناها مقيّدة للإطلاق،و تخصيص الشّيخ ليس بجيّد،و قد ذهب إليه الشّافعيّ أيضا في بعض أقواله (4)،لأنّ الغائط لغة:المكان المطمئنّ،و عرفا:الفضلة المخصوصة،و لا اعتبار بالمخرج في التّسمية.
و عمّا ذكره أبو حنيفة أوّلا:من وجوه:
أحدها:انّه عليه السّلام لم يأمرها بالوضوء و إنّما هو من كلام عروة (5).
ص:186
هكذا ذكره اللاّلكائيّ (1).
الثّاني:انّه عليه السّلام لم يذكر الدّم و إنّما قال:عرق،على ما ذكره بعض المحدّثين (2)،فحينئذ يبطل ما ذكره من التّعليل.
الثّالث:الاستفسار،و تقريره أن نقول:لم لا يجوز أن يكون المراد بالوضوء غسل مورد النّجاسة؟!بقي علينا أن نبيّن جواز استعماله فيما ذكرنا،و يدلّ عليه الوضع اللّغويّ و هو ظاهر،و الاستعمال الشّرعيّ و هو ما رواه معاذ (3)انّ قوما سمعوا انّ النّبيّ عليه السّلام يقول:(الوضوء ممّا مسّت النار) (4).
الرّابع:المنع من انصراف التّعليل إلى إيجاب الوضوء،لأنّه ينصرف إلى ما قصد بيانه ممّا وقع الإشكال فيه،و الإشكال نشأ للمرأة من اشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة لقولها:
أخشى أن لا يكون لي حظّ في الإسلام،و ذلك لا يوجب اعتقاد انتفاء وجوب الطّهارة،فإنّ الحيض يوجب أعلى الطّهارتين،فيجب صرفه إلى نفي الغسل و الإطلاق في الصّلاة،و يدلّ على صرفه إليه و إن لم يكن مذكورا الإشارة بقوله:إنّما ذلك دم عرق إلى كونه بحال لا يمكنها الاحتراز عنه،و ذلك يناسب حكما يشعر بالتّخفيف و هو الاكتفاء
ص:187
بالوضوء عن الغسل .
منه إجماعا،لأنّه ممّا أنعم به.و كذا لو انسدّ المعتاد و انفتح غيره،أمّا لو انفتح مخرج آخر و المعتاد على حاله،فإنّ صار معتادا،فالأقرب مساواته له في الحكم،و إن كان نادرا، فالوجه انّه لا ينقض.
و لو خرج الرّيح من الذّكر لم ينقض،لأنّه غير معتاد،و لأنّ ما خرج منه لا يسمّى ضرطة و لا فسوة،و لأنّه لا منفذ له إلى الجوف.
أمّا المرأة:فالأقرب انّ ما يخرج من قبلها من الرّيح كذلك،و إن كان لها منفذ إلى الجوف بناء على المعتاد.
و أمّا ما يخرج من الفم كالجشاء،فلا ينقض إجماعا،و لو خرج البول من الأقلف حتى صار في قلفته نقض .
و الدّماء الثّلاثة
لا تنقض الطّهارة سواء كان طاهرا كالدّود،أو نجسا كالدّم،و هكذا لو استدخل دواءا كالحقنة و غيرها،إلاّ أن يستصحب شيئا من النّواقض،فيكون الحكم له.و وافق مالك أصحابنا في الدّود و الحصى و الدّم (1).
و قال الشّافعيّ (2)،و أبو حنيفة،و أصحابه (3)،و الثّوريّ،و الأوزاعيّ،و أحمد، و إسحاق،و أبو ثور:انّ جميع ذلك ناقض (4).
لنا:ما ذكرنا من الرّوايات،و أيضا:ما رواه الشّيخ،عن محمّد بن يعقوب،عن الفضيل،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن الرّجل يخرج منه مثل حبّ القرع،قال:
(ليس عليه وضوء)قال محمّد بن يعقوب:و روي(إذا كانت متلطّخة
ص:188
بالعذرة،أعاد الوضوء) (1).
و روى عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سئل عن الرّجل يكون في الصّلاة فيخرج منه مثل حب القرع فكيف يصنع؟قال:(إن كان خرج نظيفا من العذرة،فليس عليه شيء و لم ينقض وضوؤه،و إن خرج متلطّخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء،و إن كان في صلاته قطع الصّلاة و أعاد الوضوء و الصّلاة) (2).
و روى حريز،عمّن أخبره،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرّجل يسقط منه الدّواب و هو في الصّلاة،قال:(يمضي في صلاته و لا ينقض ذلك وضوءه) (3).
و روى عبد اللّه بن يزيد (4)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(ليس في حبّ القرع و الدّيدان الصّغار وضوء ما هو إلاّ بمنزلة القمل) (5).
و روى محمّد بن يعقوب في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام، قال:سألته عن الرّجل هل يصلح له أن يستدخل الدّواء ثمَّ يصلّي و هو معه،أ ينقض الوضوء؟قال:(لا ينقض الوضوء و لا يصلّي حتّى يطرحه) (6)و لأنّ الأصل الطّهارة، فيستصحب ما لم يثبت النّاقض،و لأنّ النّقض حكم شرعيّ،فيقف على الشّرع،و لأنّه لو نقض الخارج من السّبيلين،لنقض الخارج من غيرهما،و بالاتفاق التّالي باطل في الظّاهر،فالمقدّم مثله.
ص:189
.و قد اتّفق علماؤنا على انّهما غير ناقضين،و انّهما طاهران.
و خالف جميع الجمهور في ذلك (1).
لنا:ما تقدّم من الرّوايات الدّالّة على انحصار النّواقض فيما ذكرناه (2).
و أيضا:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زيد الشّحّام،و زرارة،و محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إن سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي فلا تغسله و لا تقطع له الصّلاة و لا تنقض له الوضوء،إنّما ذلك بمنزلة النّخامة،كلّ شيء خرج منك بعد الوضوء فإنّه من الحبائل) (3).
و في رواية حريز،عمّن أخبره،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الودي لا ينقض الوضوء،إنّما هو بمنزلة المخاط و البزاق) (4).
و أيضا:روى الشّيخ في الصّحيح،عن ابن أبي عمير،عن غير واحد من أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(ليس في المذي من الشّهوة،و لا من الإنعاظ،و لا من القبلة،و لا من مسّ الفرج،و لا من المضاجعة وضوء،و لا يغسل منه الثّوب و لا الجسد) (5).
و روى في الصّحيح عن إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن المذي؟فقال:(انّ عليّا كان رجلا مذّاء و أستحيي أن يسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه
ص:190
و آله لمكان فاطمة،فأمر المقداد (1)أن يسأله و هو جالس،فسأله،فقال له النّبيّ:(ليس بشيء) (2).
و روى عمر بن حنظلة (3)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المذي؟فقال:
(ما هو عندي إلاّ كالنّخامة) (4)و في طريقها ابن فضّال.
و روى عنبسة،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:(كان عليّ عليه السّلام لا يرى في المذي وضوءا و لا غسل ما أصاب الثّوب منه إلاّ في الماء الأكبر) (5)و في طريقها معلّى بن محمّد (6)،و هو مضطرب الحديث و المذهب،فالتّعويل على الرّوايات الصّحيحة، و لأنّ الأصل الطّهارة.
لا يقال:روى الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع،قال:سألت
ص:191
الرّضا عليه السّلام عن المذي،فأمرني بالوضوء منه،ثمَّ أعدت عليه في سنة أخرى،فأمرني بالوضوء،و قال:(انّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أمر المقداد بن الأسود أن يسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أستحيي أن يسأله،فقال:فيه الوضوء) (1).
لأنّا نقول:قال الشّيخ:و هذا خبر شاذّ،فيحمل على الاستحباب،لما روى الحسين بن سعيد في الصّحيح،عن محمّد بن إسماعيل،عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:سألته عن المذي،فأمرني بالوضوء منه،ثمَّ أعدت عليه سنة أخرى،فأمرني بالوضوء منه،و قال:
(انّ عليّا عليه السّلام أمر المقداد أن يسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستحيا أن يسأله فقال:فيه الوضوء،قلت:فإن لم أتوضّأ؟قال:لا بأس) (2)و لا شك في انّ الرّاوي،إذا روى الحديث تارة مع زيادة و تارة بدونها،عمل على تلك الزّيادة إذا لم تكن مغيّرة،و تكون بمنزلة الرّوايتين.
لا يقال:الزّيادة هنا مغيّرة لأنّها تدلّ على الاستحباب،مع انّ الخبر الأوّل الخالي عنها يدلّ على الوجوب.
لأنّا نقول:هذا ليس بتغيير،بل هو تفسير لما دلّ عليه لفظ الأمر الأوّل،لأنّه لو كان مغيّرا،لكان الخبر المشتمل على الزّيادة متناقضا،و ليس كذلك اتّفاقا،قال:و يحمل أيضا على المذي الّذي تقارنه (3)الشّهوة و يكون كثيرا يخرج عن المعتاد لكثرته،و يدلّ عليه:ما رواه عليّ بن يقطين في الصّحيح،عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:سألته عن المذي أ ينقض الوضوء؟قال:(إن كان من شهوة نقض (4)).
أقول:و يحمل المذي هاهنا على المنيّ،لأنّه من توابعه،و إطلاق اسم الملزوم على اللازم كثير.
ص:192
لا يقال:روى الشّيخ في الصّحيح،عن ابن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:(ثلاث يخرجن من الإحليل و هنّ:المنيّ فمنه الغسل،و الودي فمنه الوضوء،لأنّه يخرج من دريرة البول،قال:و المذي ليس فيه وضوء،إنّما هو بمنزلة ما يخرج من الأنف) (1)فهذا يدلّ على وجوب الوضوء من الودي.
لأنّا نقول:يحمل على ما إذا لم يكن استبرأ من البول،فإنّه لا ينفكّ عن ممازجة أجزاء من البول،و يدلّ عليه:التّعليل الّذي ذكره عليه السّلام.
لا يقال:روى الشّيخ في الصّحيح،عن يعقوب بن يقطين (2)،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرّجل يمذي و هو في الصّلاة من شهوة أو من غير شهوة؟قال:(المذي منه الوضوء) (3)فهذا يدلّ على إيجاب الوضوء من المذي مطلقا،و لا يمكن تأويله بما ذكرتم أوّلا.
لأنّا نقول:المراد منه،التّعجّب جمعا بين الأدلّة،هذا تأويل الشّيخ في التّهذيب، و يمكن حمله على الاستحباب أيضا .
و قال ابن بابويه من أصحابنا:الرّجل يرقد قاعدا انّه لا وضوء عليه ما لم ينفرج (1).
و قال الشّافعيّ:إذا نام قاعدا ممكّنا مقعدته من الأرض،لم ينقض (2).
و حكي عن أبي موسى الأشعريّ (3)،و أبي مجلز (4)،و حميد الأعرج (5)،انّهم قالوا:
النّوم لا ينقض الوضوء على سائر الأحوال (6).و نقله ابن الصّبّاغ (7)في الشّامل عن الإماميّة،و هو غلط في النّقل (8).
ص:194
و قال أبو حنيفة:لو نام في الصّلاة قائما أو قاعدا،أو راكعا أو ساجدا،غلبه النّوم أو تعمّد،و على كلّ حال،لم ينقض وضوؤه (1)،و كذا لو نام خارج الصّلاة قائما أو قاعدا، متمكّنا أو راكعا أو ساجدا.أمّا لو نام متوركا أو مضطجعا انتقض وضوؤه.و به قال داود (2).
و قال مالك:النّوم قاعدا إذا طال حدث (3).
و قال أحمد بن حنبل:نوم المضطجع ينقض كثيره و قليله،و نوم القاعد إن كان كثيرا نقض و إلاّ فلا.و نوم القائم و الرّاكع و السّاجد فيه روايتان:إحداهما:ينقض،و الأخرى:
لا ينقض (4).
لنا:النّصّ و المعقول،أمّا النّصّ،فقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا (5)نقل المفسّرون أجمع انّ المراد بها:إذا قمتم من النّوم (6)، و هذا يقتضي الوجوب على الإطلاق.
و أيضا:روى الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(العين وكاء (7)السّه (8)،
ص:195
فمن نام فليتوضّأ) (1).
و في حديث آخر:(العينان وكاء السّه،فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) (2).
و روى صفوان المراديّ (3)انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمرنا بأن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيّام و لياليها إذا كنّا سفرا إلاّ من جنابة،و لكن من غائط أو بول أو نوم (4).عطف مطلق النّوم على البول و الغائط الحدثين فكان المطلق حدثا.
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،عن أحدهما عليهما السّلام،قال:(لا ينقض الوضوء إلاّ ما يخرج من طرفيك أو النّوم) (5).
و ما رواه في الحسن،عن عبد الحميد بن عواض (6)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:سمعته يقول:(من نام و هو راكع أو ساجد أو ماش على أيّ الحالات،فعليه الوضوء) (7).
ص:196
و روى في الصّحيح،عن محمّد بن عبد اللّه (1)،و عبد اللّه بن المغيرة،قالا:سألنا الرّضا عليه السّلام عن الرّجل ينام على دابّته؟فقال:(إذا ذهب النّوم بالعقل فليعد الوضوء) (2).
و روى في الصّحيح،عن إسحاق بن عبد اللّه الأشعريّ (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا ينقض الوضوء إلاّ حدث،و النّوم حدث) (4).
و قد ذكرنا في كتاب(استقصاء الاعتبار في تحرير معاني الأخبار)وجه الاستدلال من هذا الحديث و ما فيه من المباحث اللّطيفة،و مع ذلك فلا نخلي هذا الكتاب عن بعضها، فنقول:في الظّاهر انّ هذا الحديث يدلّ على انّ النّوم ناقض،و إذا اعتبر بنوع من الاعتبار، ورد عليه الإشكال من حيث خروجه عن شرائط القياس.
فنقول:وجه الاستدلال منه انّ كلّ واحد من أنواع الحدث اشترك مع غيره منها في معنى الحدث (5)،و امتاز عنه بخصوصيّته،و ما به الاشتراك غير ما به الامتياز،و غير داخل فيه،فماهيّة الحدث من حيث هي مغايرة لتلك الخصوصيّات،و الإمام عليه السّلام حكم باستناد (6)النّقض إلى الحدث الّذي هو المشترك،فلا يكون لقيد الخصوصيّات مدخل في
ص:197
ذلك التّأثير،و حكم بأنّ تلك الماهيّة الّتي هي علّة موجودة في النّوم،و العقل قاض بأنّ المعلول لا يتخلّف عن علّته،فلا جرم،كان النّوم ناقضا.
لا يقال:يعارض ما ذكرتم من الأثر بما رواه الشّيخ،عن عمران بن حمران (1)،انّه سمع عبدا صالحا يقول:(من نام و هو جالس لا يتعمّد النّوم،فلا وضوء عليه) (2).
و ما رواه عن بكر بن أبي بكر الحضرميّ (3)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام ينام الرّجل و هو جالس؟فقال:(كان أبي يقول:إذا نام الرّجل و هو جالس مجتمع فليس عليه وضوء،و إن نام مضطجعا فعليه الوضوء) (4).
لأنّا نقول:نمنع أوّلا صحّة سند الحديث،فإنّ عمران بن حمران لا يعرف حاله،و بكر بن أبي بكر كذلك.
و ثانيا:يحمل ذلك على ما إذا لم يغلب النّوم على العقل،لما رواه في الصّحيح،عن أبي الصّباح الكنانيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الرّجل يخفق و هو في الصّلاة؟فقال:(إن كان لا يحفظ حدثا منه إن كان،فعليه الوضوء و إعادة الصّلاة و إن كان يستيقن انّه لم يحدّث،فليس عليه وضوء و لا إعادة) (5).
و روى في الصّحيح،عن زيد الشّحّام،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخفقة
ص:198
و الخفقتين؟فقال:(ما أدري ما الخفقة و الخفقتان،انّ اللّه يقول بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (1)إنّ عليّا كان يقول:من وجد طعم النّوم،فإنّما أوجب عليه الوضوء) (2).
و روى في الصّحيح،عن زرارة،قال:قلت له:الرّجل ينام و هو على وضوء،أ توجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟فقال:(يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن،فإذا نامت العين و الاذن و القلب،وجب الوضوء)قلت:فإن حرّك إلى جنبه شيء و لم يعلم به؟ قال:(لا حتّى يستيقن انّه قد نام،حتّى يجيء من ذلك أمر[بيّن] (3)و إلاّ فإنّه على يقين من وضوئه و لا ينقض اليقين أبدا بالشّكّ،و لكن ينقضه بيقين آخر) (4).
و أمّا المعقول:فهو انّ النّوم سبب لخروج الحدث بواسطة ذهاب وكاء السّه،فصار كالنّوم متورّكا و مضطجعا.
و أيضا:النّوم غالب على العقل و مزيل للتّمييز،فأشبه الإغماء،و لمّا كان المقيس عليه ناقضا على كلّ حال،فكذا المقيس.
احتجّ أبو حنيفة (5)بما رواه ابن عبّاس انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا،إنّما الوضوء على من نام مضطجعا،فإذا اضطجع استرخت مفاصله) (6).
و ما رواه ابن عبّاس أيضا،قال:رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نام و هو ساجد حتّى غطّ و نفخ،ثمَّ قام فصلّى،فقلت:يا رسول اللّه،صلّيت و لم تتوضّأ و قد نمت؟فقال:(إنّما
ص:199
الوضوء على من نام مضطجعا،فإنّه إذا اضطجع استرخت مفاصله) (1).
و ما رواه حذيفة بن اليمان،قال:بينما أنا جالس في صلاتي إذ رقدت،فوضع إنسان يده على كتفي و إذا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،فقلت:يا رسول اللّه عليّ من هذا وضوء؟ فقال:(لا حتّى تضع جنبيك) (2).
و ما رواه أنس قال:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:(إذا نام العبد في سجوده باهى اللّه به ملائكته،فيقول:انظروا إلى عبدي،روحه عندي و جسده في طاعتي) (3)فلو كان النّوم ناقضا لخرج عن كونه طائعا.
و استدلّ الشّافعيّ (4)بما رواه أنس انّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا ينامون ثمَّ يقومون يصلّون و لا يتوضّئون (5).
و الجواب عن الحديث الأوّل من وجهين:
أحدهما:الطّعن في السّند،فإنّ راوية أبو خالد الدّالانيّ (6)،عن قتادة (7)،عن أبي
ص:200
العالية (1)،عن ابن عبّاس،و أبو خالد لم يلق قتادة.و قال شعبة (2)و غيره:انّ قتادة لم يسمع من أبي العالية إلاّ أربعة أحاديث أو ثلاثة،و ليس هذا الحديث منها (3).
و قيل:انّ قتادة كان مدلّسا (4)،قال ابن سيرين:حدّث عمّن شئت إلاّ عن الحسن و أبي العالية لأنّهما لم يكونا يباليان عمّن أخذا (5).
الثّاني:انّه مع التّسليم فهو غير حجّة،لأنّه عليه السّلام نصّ على الاضطجاع و نصّ على العلّة الّتي هي الاسترخاء،و ذلك يقتضي تعميم الحكم في جميع موارد صور العلّة،و هذان جوابان عن الثّاني.
و عن الثّالث:يجوز أن يكون حذيفة غير مستغرق في النّوم بحيث يغيب عن مشاعره الإحساس و ليس في حديثه انّ رقاده انتهى إلى ذلك.
لا يقال:تعليق الإيجاب بوضع الجنب إلى الأرض يقتضي السّلب في غيره.
لأنّا نقول:التّعليق هنا خرج مخرج الأغلب،فلا يدلّ على النّفي في غيره إجماعا كما في النّهي عن الإكراه عند إرادة التّحصّن.
و عن الرّابع بوجوه:
أحدها:انّ السّجود قد يكون في الصّلاة و في غيرها،و ليس في الحديث
ص:201
إشعار بذكر الصّلاة.
و الثّاني:انّ قوله:(و جسده في طاعتي)لا يمكن حمله على حالة النّوم،بل يكون إشارة إلى حاله قبل النّوم،لأنّه في تلك الحال خرج عن أن يكون مكلّفا.
الثّالث:انّه قد روي هذا الحديث بغير هذه العبارة،فإنّه قد روي(روحه عندي و جسده بين يديّ) (1)و حينئذ لا دلالة.و حديث الشّافعيّ ضعيف،لأنّ رواية أنس على النّفي غير مقبولة.
و لأنّ قوله:ينامون،حكاية حال،فلا يعمّ،فجاز أن يكون المراد بذلك غير الغالب.
و لأنّه حكاية عن حال خفيّة عنه استدلّ عليها بظاهر فعلهم،فأمكن أن يظنّ نوما ما ليس بنوم.
،و المراد منها ابتداء النّعاس،لأنّه في تلك الحال لا يسمّى نائما،و لأنّ النّقض مشروط بزوال العقل لرواية أبي الصّباح و زرارة،و قد تقدّمتا (2).
،لا نعرف خلافا فيه بين أهل العلم،لأنّ النّوم الّذي يجوز معه الحدث موجب للوضوء،فالإغماء، و السّكر أولى.
و لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن معمّر بن خلاّد (3)،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل به علّة لا يقدر على الاضطجاع،[و الوضوء] (4)يشتدّ عليه و هو قاعد مستند بالوسائد فربّما أغفى و هو قاعد على تلك الحال؟قال:(يتوضّأ)قلت له:انّ الوضوء يشتدّ عليه؟فقال:(إذا خفي عنه الصّوت فقد وجب عليه الوضوء) (5)علّق الحكم بخفاء الصّوت فيطّرد.
ص:202
و أجمع العلماء على عدم وجوب الغسل على المغمى عليه.
و قال الشّافعيّ:قيل ما جنّ إنسان إلاّ أنزل (1)،و المعتمد انّه لا يجب الغسل على المغمى عليه أيضا،لأنّ ما ذكره الشّافعيّ لم يعلم تحقّقه .
لما ذكرناه (2).
و اختلفت الحنفيّة فيه،فقال بعضهم:ينقض،و قال آخرون:لا ينقض،لأنّه بمنزلة القائم و القاعد،و إن اتّفقوا على انّ النّوم كذلك في غير حال الصّلاة ناقض .
،خلافا لابن أبي عقيل منّا (3)،و هو قول أكثر الجمهور (4).
و قال ابن أبي عقيل منّا:ليس عليها وضوء.
و قال داود:ليس على المستحاضة مطلقا وضوء (5).و هو قول ربيعة (6)و مالك (7).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(المستحاضة تتوضّأ لكلّ صلاة) (8).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن معاوية بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(و إن كان الدّم لا يثقب الكرسف،توضّأت[و دخلت
ص:203
المسجد] (1)و صلّت كلّ صلاة بوضوء) (2).
و ما رواه زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم يثقب الدّم) (3)و في طريقها ابن بكير و إن كان فيه قول،إلاّ انّ أصحابنا شهدوا له بالثّقة (4).
احتجّ مالك بقول النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(و إن قطر الدّم على الحصير) (5).
و الجواب عنه:انّ المراد به في الوقت،لأنّ طهارتها باقية ببقاء الوقت،و لأنّا نقول بموجبة،لأنّها مكلّفة بالصّلاة و إن كان الدّم يسيل،و لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال في هذا الحديث:(توضّئي و صلّي)و أيضا:فهو خارج نجس،فصار كالبول.
سواء كانا فرضين أو أحدهما أو نفلين.
و قال الشّافعيّ:تتوضّأ لكلّ فرض و لا تجمع بين فرضين بوضوء،و لها أن تجمع بين فرض و نفل و بين نوافل (6).
ص:204
و قال أبو حنيفة و أحمد:تصلّي بوضوء واحد ما شاءت من الفرائض و النّوافل ما دامت في الوقت (1)، (2).و الشّيخ في المبسوط اختار قول الشّافعيّ (3).
لنا:ما رويناه من حديث زرارة و معاوية من قولهما عليهما السّلام:(تتوضّأ لكلّ صلاة).
و ما رواه الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(المستحاضة تتوضّأ لكلّ صلاة) (4)و لأنّها طهارة ضروريّة لكون الحدث مقارنا لها،فيتقدّر بقدر الضّرورة و هو الصّلاة الواحدة .
،و لقوله عليه السّلام:
(تتوضّأ لكلّ صلاة) .
.و هو قول الشّافعيّ (5)،لأنّه شرّع للضّرورة و قد زالت،فصارت كالمتيمّم،و لو صلّت من غير استئناف،أعادت الصّلاة (6)لأنّها دخلت غير متطهّرة سواء عاد الدّم قبل الفراغ أو بعده، أمّا لو انقطع في أثناء الصّلاة،فللشّافعيّة وجهان:
أحدهما:الاستئناف بعد إعادة الطّهارة.
و الثّاني:الاستمرار (7).
و أمّا عندنا،فالوجه عدم الاستئناف،لأنّها دخلت في الصّلاة دخولا مشروعا قطعا، و لا دليل على إيجاب الخروج،و الاستصحاب يدلّ على وجوب الإتمام،و قوله تعالى:
ص:205
وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (1).
و قال أبو حنيفة:إذا انقطع الدّم قبل الشّروع أو بعده قبل الفراغ فتمّ ذلك الانقطاع حتّى خرج وقت الظّهر مثلا انتقضت طهارتها،فإذا توضّأت للعصر فصلّت (2)فاستمرّ الانقطاع إلى الغروب لم تنتقض طهارتها،بل يجب عليها إعادة الظّهر،لأنّه انقطع دمها وقت العصر،و بيّن انّها صلّت الظّهر بطهارة العذر،و العذر قد زال،فلا يجب عليها إعادة العصر،لأنّ وجوب الظّهر إنّما يظهر بعد الغروب (3).
فالحاصل أنّ للمستحاضة عنده وضوءا كاملا و هو ما يحصل و الدّم منقطع،و حكمه أن يقع عن دم سائل قبل ذلك و عن دم لم يسل في الوقت،و لا يضرّها خروج الوقت إذا لم يسل في الوقت.
و ناقضا و هو الحاصل مع السّيلان،و حكمه أن يقع عن دم سائل قبل ذلك و عن دم يسيل في الوقت،و يضرّها خروج الوقت سال فيه أو لم يسل.
و لها انقطاع كامل كما قلنا في طهارة العصر في الفرض الّذي انقطع الدّم وقت الظّهر و استمرّ إلى الغروب،و حكمه أن يوجب زوال العذر،و نمنع اتّصال الدّم الثّاني بالدّم الأوّل.
و انقطاع ناقص،و هو أن ينقطع دون وقت صلاة كاملة،و حكمه أن لا يوجب زوال العذر،و لا نمنع اتّصال الدّم الثّاني بالدّم الأوّل و حكمه حكم الدّم المتّصل .
غير متشاغلة بها لا تدخل به في الصّلاة؟نصّ في المبسوط على وجوب الاتّصال،قال:لأنّ المأخوذ عليها أن تتوضّأ عند كلّ صلاة (4)،و ذلك يقتضي التّعقيب،و نحن لم نقف في شيء من أخبارنا على هذه (5)اللّفظة،و يمكن أن يقال انّها طهارة ضروريّة،فلا تتقدّم على الفعل بما يتعدّ به
ص:206
كالتّيمّم،و لأنّ الدّم حدث فيستبيح بالوضوء ما لا بدّ منه و هو قدر التّهيّؤ و الصّلاة،بل قد وردت هذه اللّفظة في الغسل (1).
و قد روى الشّيخ عن ابن بكير:(فإذا مضى عشرة أيّام فعلت ما تفعله المستحاضة ثمَّ صلّت) (2)و لفظة(ثمَّ)للتّراخي،إلاّ انّ الرّواية ضعيفة السّند،و ابن بكير لم يسندها إلى إمام،فنحن في هذا من المتوقّفين .
،لا على معنى انّها مرتفعة الحدث،و بالدّخول و الخروج يزول الارتفاع،بل بمعنى انّها كانت مستبيحة للدّخول في الصّلاة في وقتها بطهارتها،فإذا خرج وقتها أو دخل وقت اخرى وجب عليها استئناف الطّهارة.و هو اختيار أبي يوسف (3).
و قال أبو حنيفة،و محمّد:ينتقض بخروج الوقت لا بالدّخول (4)،و قال زفر:ينتقض بالدّخول لا بالخروج (5).
لنا:أنّها طهارة ضروريّة لمقارنة الحدث فيتقدّر بقدر الضّرورة،و الضّرورة مقدّرة بالوقت فلا تثبت قبل الوقت و لا بعده.
احتجّ أبو حنيفة و محمّد بأنّ طهارتها ثبتت للحاجة إلى أداء الصّلاة في الوقت فتثبت عند وجود دليل الحاجة،و يزول عند دليل زوال الحاجة،و دخول الوقت دليل الحاجة، و خروجه دليل زوال الحاجة،فكان المؤثّر في الانتقاض هو الخروج،و هذا الدّليل يقتضي أن لا تتقدّم الطّهارة على الوقت،إلاّ أنّ الحاجة دعت إلى تقديمها على الوقت،لأنّها لا تتمكّن من أداء الصّلاة في أوّل الوقت إلاّ بتقدم الطّهارة على الوقت حتّى تتمكّن.
و الجواب:هذا بناء على انّها في أوّل الوقت مخاطبة بفعل الصّلاة مع تقديم الطّهارة قبله أو مع عدم الطّهارة،و القسمان باطلان إجماعا،و معارض بقوله عليه السّلام:(المستحاضة تتوضّأ لوقت كلّ صلاة) (6)رواه الحنفيّة.
ص:207
و فائدة الخلاف تظهر في موضعين:
أحدهما:إذا توضّأت بعد الفجر ثمَّ طلعت الشّمس،انتقض عندنا و عند الثّلاثة (1)، و قال زفر:لا ينتقض لعدم دخول الوقت،لأنّ ذلك الوقت مهمل إلى الزّوال (2).
الثّاني:إذا توضّأت بعد طلوع الشّمس،انتقض وضوؤها بالزّوال عندنا،و عند أبي يوسف و زفر،خلافا لأبي حنيفة و محمّد (3)،و في غير هذين لا فائدة،فإنّه لا يخرج وقت إلاّ بدخول آخر،فتنتقض الطّهارة على المذاهب الثّلاثة .
،لما تقدّم من الأحاديث الدّالّة على الحصر،
.
،امرأة أو رجلا،بشهوة أو بغيرها،باطنا أو ظاهرا،لا يوجب الوضوء.و هو مذهب الشّيخين (4)و السّيّد المرتضى (5)و أتباعهم (6).
و قال ابن بابويه:من مسّ باطن ذكره بإصبعه أو باطن دبره،انتقض وضوؤه (7).
و قال ابن الجنيد:من مسّ ما انضمّ عليه الثّقبان نقض وضوؤه،و من مسّ ظاهر الفرج من غيره بشهوة يطهر إذا كان محرّما،و من مسّ باطن الفرجين فعليه الوضوء من المحرّم و المحلّل (8).
و ما اخترناه مذهب ابن عبّاس،و عطاء،و طاوس،و الثّوريّ (9)،و نقله الجمهور،
ص:208
عن عليّ (1)عليه السّلام،و عمّار بن ياسر (2)،و عبد اللّه بن مسعود (3).و هو مذهب أبي حنيفة،إلاّ أنّ (4)أبا حنيفة،قال:إذا باشر امرأته و انتشر و ليس بينهما ثوب و مسّ الفرج الفرج نقض،خرج شيء أو لم يخرج (5).و هو قول أبي يوسف (6)،و الّذي نقوله انّه لا ينقض إلاّ بالإيلاج أو بالإنزال.و هو قول محمّد (7).
و قال الشّافعيّ:مسّ الذّكر من نفسه أو من غيره،بالرّاحة أو بطون الأصابع ناقض، و كذا فرج المرأة و حلقة الدّبر في الجديد دون فرج البهيمة،و في القديم:ينقض و لا أثر للمسّ بما بين الأصابع و برؤسها (8)،و أظهر الوجهين عنده انّ فرج الميّت و الصّغير كفرج الحيّ و الكبير،و انّ الذّكر الأشلّ و اليد الشّلاّء كالصّحيحين،و انّ محلّ الجبّ كالشّاخص،قال:و لمس بشرة المرأة الأجنبية ناقض،بشهوة كان اللّمس أو بغير شهوة أيّ موضع كان من بدنها بأيّ موضع كان من بدنه سوى الشّعر (9)، (10).و هو قول ابن مسعود،
ص:209
و ابن عمر،و الزّهريّ،و ربيعة،و زيد بن أسلم (1)،و مكحول،و الأوزاعيّ (2).
و في المحرم و الصّغيرة و الميتة عند الشّافعيّ قولان (3)،و يستوي اللّمس سهوا و عمدا، و في الملموس قولان (4).
و لو مسّ الخنثى من نفسه أحد فرجيه،لم ينتقض عنده لاحتمال زيادته.و إن مسّ رجل ذكره أو امرأة فرجه انتقض،إذ لا يخلو عن مسّ أو لمس،و إن مسّ رجل فرجه أو امرأة ذكره،لم ينتقض لاحتمال الزّيادة.
و لو مسّ أحد الخنثيين من الآخر الفرج،و الآخر من الأوّل الذّكر،انتقضت طهارة أحدهما لا بعينه،و تصحّ صلاة كلّ واحد منهما،لأنّ بقاء طهارته ممكن،و اليقين لا يرفع بالشّك (5).
و قال مالك (6)و أحمد (7)و إسحاق:إن لمس المرأة بشهوة انتقض الوضوء،و إن كان بغير شهوة لم ينتقض (8).و حكاه ابن المنذر،عن النّخعيّ و الشّعبيّ (9)و الحكم (10).
ص:210
و قال داود:إن قصد لمس المرأة انتقض،و إن لم يقصد لم ينتقض.و خالفه ابنه، فقال:لا ينتقض بكلّ حال (3).
و قال داود:إذا مسّ ذكر غيره،لم تنتقض طهارته (4).
لنا:بعد ما تقدّم:ما رواه الجمهور،عن قيس بن طلق (5)،عن أبيه طلق بن عليّ (6)،انّه قال:يا رسول اللّه،ربّما أمسّ ذكري و أنا في الصّلاة،هل عليّ منه (7)وضوء؟فقال عليه السّلام:(لا،هل هو إلاّ بضعة منك) (8)نفي عليه السّلام الوجوب، و ذكر علّة جامعة بين الذّكر و الأعضاء.
و ما روت عائشة انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبّل و هو صائم،و قال:(انّ القبلة لا تنقض الوضوء،و لا تفطّر الصّائم،يا حميراء،انّ في ديننا لسعة (9)) (10).
ص:211
و عنها انّه كان عليه السّلام يقبّل بعض نسائه و كان يخرج إلى الصّلاة و لم يتوضّأ (1).
و روى يزيد بن سنان (2)،عن الأوزاعيّ،عن يحيى (3)،عن أبي سلمة (4)،عن أمّ سلمة (5):انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،كان يقبّلها و هو صائم،لا يفطر و لا يحدث وضوءا (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن ابن أبي عمير،عن غير واحد من أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(ليس في المذي من الشّهوة،و لا من
ص:212
الإنعاظ،و لا من القبلة،و لا من مسّ الفرج،و لا من المضاجعة وضوء،و لا يغسل منه الثّوب و لا الجسد) (1).
و ما رواه في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(ليس في القبلة و لا المباشرة و لا مسّ الفرج وضوء) (2).
و ما رواه في الصّحيح،عن الحلبيّ،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القبلة تنقض الوضوء؟قال:(لا بأس) (3).
لا يقال:روى الشّيخ عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا قبّل الرّجل المرأة من شهوة أو مسّ فرجها،أعاد الوضوء) (4).و روى أبو بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(من مسّ كلبا،فليتوضّأ) (5).
لأنّا نقول:في طريق الحديثين:عثمان بن عيسى و هو واقفيّ (6)،فلا تعويل على روايته خصوصا مع وجود الأحاديث الصّحيحة الدّالّة على خلافهما،و ذلك نعم المعين.على انّ الحديث الأوّل يحمل على الاستحباب،لما رواه عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه (7)،قال:
ص:213
سألته عن رجل مسّ فرج امرأته؟قال:(ليس عليه شيء،و إن شاء غسل يده) (1).
و يحمل الحديث الثّاني على غسل اليد،لما رواه الشّيخ في الصّحيح عن محمّد بن مسلم، قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرّجل؟قال:
(يغسل المكان الّذي أصابه) (2).
و أيضا:الحدث هو الخارج النّجس و لم يوجد،و أيضا:فإنّ مسّ ما هو نجس لا يؤثّر في الطّهارة،فمسّ الطّاهر أولى،و لأنّ مسّ الذّكر بظاهر الكفّ لا ينقض،فكذا بباطنه كسائر الأعضاء،و لأنّ كلّ أمر يتعلّق بالذّكر أوجب أعلى الطّهارتين لا يتعلّق بمسّ اليد،فوجب أنّ يكون الموجب لأصغرهما كذلك،و لأنّ مسّ الرّجل المرأة لو كان ناقضا،لكان مسّ الرّجل الرّجل ينقضه كالوطء،و لأنّه مسّ لا يؤثّر في الصّيام،فيجب أن لا ينقض الوضوء (و الأصل من مسّ نفسه) (3).
احتجّ الشّافعيّ (4)بما رواه أبو هريرة،عن النّبيّ عليه السّلام انّه قال:(إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينه و بينه حجاب و لا ستر،فليتوضّأ) (5).
و ما رواه (6)بسرة بنت صفوان (7)،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(إذا مسّ
ص:214
أحدكم ذكره،فليتوضّأ) (1)،و قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (2)و حقيقة اللّمس،باليد،و لأنّ مسّ الفرج بغير حائل سبب لخروج البلل،فأقيم مقام حقيقة الخروج احتياطا.
و الجواب عن الأوّل بأنّ رواية (3)يزيد بن عبد الملك النّوفليّ (4)،عن أبي موسى الحنّاط (5)،عن سعيد المقبريّ (6)،عن أبي هريرة،و يزيد ضعيف عند أهل النّقل،و أبو موسى مجهول.
و عن الثّاني:و هو حديث بسرة أنّ راويه مروان بن الحكم (7)و كان قد رواه لعروة فلم يرفع عروة بحديثه رأسا فبعثوا شرطيّا إلى بسرة فأخبر عنها الشّرطيّ بذلك،و كان إبراهيم
ص:215
الحربيّ (1)يقول حديث بسرة إنّما هو شرطيّ (2)عن امرأة،و ردّه يحيى (3)بن معين فلم يقبله،و مع التّسليم يحمل على غسل اليد مع عدم الاستنجاء.
و عن الثّالث:انّ المراد باللّمس،الوقاع مجازا و التّيمّم المذكور للجنابة على ما اتّفق عليه المفسّرون.
و عن الرّابع:انّه ليس بسبب ظاهر بل محتمل.سلّمنا،لكنّ السّبب إنّما يقوم مقام المسبّب مع تعذّر الوقوف على حقيقة المسبّب كما في النّوم و الغفلة،و هذه حالة يقظة، فأمكن الوقوف على حقيقة الخروج.
و هو أحد وجهي الشّافعيّة،و في الآخر:تنتقض (1).و كذا لو مسّه بعد قطعه فيه الوجهان عندهم (2).
و لا عند الشّافعيّ في النّقض (3).
و قال الزّهريّ و الأوزاعيّ و مالك:إنّه لا يجب على من مسّ ذكر الصّغير وضوء (4).
و به قال الشّافعيّ (5)،و حكي عن عروة بن الزّبير أنّ عليه الوضوء (6).
و به قال مالك (7)،و قال الشّافعيّ:ينتقض (8).
و لو مسّ فرج البهيمة لم ينتقض وضوؤه عندنا،و عند الشّافعيّ في أحد القولين (9)، و في الآخر:ينتقض (10)،و هو مذهب اللّيث بن سعد (11).
.ذهب إليه علماؤنا،و به قال عبد اللّه بن
ص:217
عبّاس،و عبد اللّه بن عمر،و عبد اللّه بن أبي أوفى (1)،و أبو هريرة،و عائشة،و جابر بن عبد اللّه (2)،و من التّابعين:سعيد بن المسيّب،و القاسم بن محمّد،و عطاء،و طاوس،و سالم بن عبد اللّه بن عمر (3)،و مكحول.و هو مذهب ربيعة،و مالك،و الشّافعيّ،و أبي ثور، و داود (4).
و قال أبو حنيفة:إن قاء طعاما،أو مرّة،أو صفراء،أو سوداء،أو دما لم يخالطه شيء بعد أن وصل الجوف ثمَّ عاد،نقض إن كان ملأ الفم،و إلاّ فلا (5).
و قال زفر:ينقض مطلقا (6).
و إن قاء بلغما إذا انحدر من الرّأس،لم ينقض إجماعا (7)،و إن ارتقى من الجوف،لم ينقض قليلا و كثيرا في قول أبي حنيفة و محمّد و إن ملأ الفم (8).
و قال أبو يوسف:ينقض إن كان ملأ الفم (9).
ص:218
و إن قاء دما ارتقى من الجوف نقض،قلّ أو كثر عند أبي حنيفة (1).
و قال محمّد:انّه ينقض إن كان ملأ الفم (2).
و إن انحدر من الرّأس فقد اتّفقوا على نقضه (3)،و أمّا إذا قاء مرارا قليلا قليلا (4)بحيث لو جمع يبلغ ملأ الفم إن اتّحد المجلس يجمع عند أبي يوسف (5).
و قال محمّد:إن اتّحد السّبب،و هو القيئان يجمع،و إلاّ فلا (6).
و قال الأوزاعيّ و الثّوريّ و أحمد و إسحاق:إن كان القيء ملأ الفم نقض،و إلاّ فلا (7).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قاء و لم يتوضّأ (8)،و رووا عنه عليه السّلام انّه قاء فغسل فمه،و قال:(هكذا الوضوء من القيء) (9).
و أيضا:ما رواه أبو الدّرداء (10)انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قاء فأفطر،قال ثوبان:
فسكبت له وضوءه،و قلت:الوضوء واجب من القيء يا رسول اللّه؟فقال:(لو كان واجبا
ص:219
لوجدته في كتاب اللّه عزّ و جل) (1).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الحسن عن أبي أسامة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القيء و الرّعاف و المدّة،هل ينقض الوضوء؟قال:(لا) (2).
و ما رواه في الصّحيح،عن إبراهيم بن أبي محمود (3)،قال:سألت الرّضا عليه السّلام عن القيء و الرّعاف و المدّة،أ تنقض الوضوء أم لا؟قال:(لا ينقض شيئا) (4)و لأنّ القليل ليس بحدث فكذلك الكثير،كالدّمع و غيره،و الجامع انّ غسل غير موضع النّجاسة ليس بمعقول فيقتصر على مورد الشّرع.
احتجّ أبو حنيفة (5)بما رواه ابن جريج (6)،عن أبيه،عن ابن أبي
ص:220
مليكة (1)،عن عائشة انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،قال:(من قاء أو رعف في صلاته فلينتقل (2)عن صلاته و ليتوضّأ و ليبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلّم أو يحدث) (3).
و لأنّه نجس خرج من البدن،فينقض (4)كالخارج من السّبيلين.
و الجواب عن الأوّل:انّ النّاس قد طعنوا في الحديث،فقالوا:انّ ابن جريج لم يرو عنه غير ابنه عبد الملك،و لم تثبت عدالته،و قالوا أيضا:انّ ابن جريج كان يرسله،فلا يكون حجّة (5)،و لأنّ مالكا قال:لا نصّ فيه،و لو كان صحيحا لما ذهب على مالك (6)،و لو سلّم فيحمل الوضوء على غسل الفم،و لأنّه عام في القليل و الكثير،و أبو حنيفة لا يقول به،و لأنّه لو كان ناقضا،لما جاز البناء على الصّلاة.
و عن الثّاني بالمنع من وجود العلّة،و سيأتي بيانه .
الأشعريّ (1)،و من التّابعين:القاسم بن محمّد،و عروة،و عطاء،و الزّهريّ،و مكحول (2).
و به قال مالك و أحمد و إسحاق و أبو ثور (3).
و قال أبو حنيفة:القهقهة إن حصلت في حرمة صلاة لها ركوع و سجود انتقضت طهارته و فسدت صلاته،و إن كان (4)بعد القعود مقدار التّشهّد انتقض وضوؤه و لم تفسد صلاته (5).و به قال أبو يوسف و محمّد (6).
و قال زفر:لا ينتقض وضوؤه (7).
و إن وقعت في حرمة صلاة ليس لها ركوع و لا سجود كالجنازة،و سجود التّلاوة فسدت الصّلاة و السّجدة و لم ينتقض الوضوء،و لو كانت خارجة الصّلاة لم تنتقض الطّهارة إجماعا (8).
و لو قهقه الإمام و المأمومون بعد القعود آخر الصّلاة مقدار التّشهّد انتقض وضوؤهم جميعا إن سبق الإمام بالقهقهة أو كانوا معا،لأنّ ضحكهم حصل في حرمة الصّلاة،أمّا لو تقدّم ضحك الإمام انتقض وضوؤه خاصّة،لأنّه وقع في حرمة الصّلاة،أمّا ضحك القوم فقد حصل خارج الحرمة،لأنّهم خرجوا من حرمة الصّلاة بخروج الإمام،و لا تفسد صلاة الإمام و المأمومين في واحدة من الصّور (9).
و قال الحسن،و النّخعيّ،و الثّوريّ:يجب الوضوء بالقهقهة في الصّلاة (10)،و عن
ص:222
الأوزاعيّ روايتان (1).
لنا:ما رواه الجمهور عن جابر،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(الضّحك ينقض الصّلاة،و لا ينقض الوضوء) (2).
و ما رووه عن جابر أيضا،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(من تقهقه في صلاته،يعيد صلاته و لا يعيد الوضوء) (3).
و ما رواه معاذ بن أنس (4):انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،قال:(الضّاحك في صلاته و المتكلّم سواء) (5)و الكلام غير ناقض،فكذا الضّحك قضيّة للتّسوية.
و من طريق الخاصّة:ما قدّمناه من الأحاديث الدّالّة على حصر النّاقض في الخارج من السّبيلين و النّوم (6).
و ما رواه محمّد بن يعقوب في الحسن عن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:
(القهقهة لا تنقض الوضوء،و تنقض الصّلاة) (7).
و لأنّها لو كانت حدثا في الصّلاة لكانت حدثا خارج الصّلاة قياسا على البول، و لأنّها لمّا لم تكن حدثا خارج الصّلاة لم تكن حدثا في الصّلاة كالكلام.
و لأنّ التّبسّم لا ينقض إجماعا،فكذا الكثير كالكلام و المشي.
و لأنّها ليست حدثا في الجنازة،فلا تكون حدثا في غيرها كالكلام و التّبسّم.
احتجّ أبو حنيفة بما رواه أسامة (8)،قال:(بينا نصلّي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه
ص:223
و آله إذ أقبل ضرير فتردّى في بئر،فضحكنا منه،فأمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإعادة الوضوء و إعادة الصّلاة) (1).
و الجواب من وجهين:
أحدهما:انّ راوي هذا الحديث الأصليّ (2)الحسن بن دينار،و هو ضعيف (3).
الثّاني:انّ الرّاوي،قال:أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم ينقل لفظ الرّسول، فلعلّه توهّم ما ليس بأمر أمرا.
لا يقال:قد روى الشّيخ في الصّحيح عن ابن أبي عمير،عن رهط سمعوه يقول:(انّ التّبسّم في الصّلاة لا ينقض الصّلاة و لا ينقض الوضوء،إنّما يقطع الضّحك الّذي فيه القهقهة) (4)لأنّا نجيب من وجهين:
أحدهما:انّ الرّهط لم يسندوا القول إلى إمام فلعلّهم رجعوا في ذلك إلى غيره.
الثّاني:انّه ليس فيه دلالة على انّ القهقهة تنقض الوضوء،و قوله:(إنّما يقطع الضّحك الّذي فيه القهقهة)إشارة إلى الصّلاة،فإنّ المفهوم من لفظ القطع إنّما يرجع إلى الصّلاة،فيقال:انقطعت صلاته لا الوضوء،فلا يقال:انقطع وضوؤه .
.
و قال أحمد بن حنبل:أكل لحم الإبل ناقض،سواء كان نيّا أو مطبوخا،عالما كان أو
ص:224
جاهلا (1)،و هو أحد قولي الشّافعيّ (2).قال الخطّابيّ (3):و إليه ذهب عامّة أهل الحديث (4)،و وافقنا على ما اخترناه مالك و الشّافعيّ،و أبو حنيفة (5)،و ذهب جماعة من السّلف إلى إيجاب الوضوء من أكل ما غيّرته النّار،منهم:ابن عمر،و زيد بن ثابت (6)، و أبو موسى،و أبو هريرة،و الحسن،و الزّهريّ (7)،و ذهب عامّة الفقهاء و الأئمّة من الصّحابة إلى انّه لا يجب الوضوء بأكل ما مسّته النّار (8).
لنا:ما رواه ابن عبّاس،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:(الوضوء ممّا يخرج،لا ممّا يدخل) (9).
ص:225
و ما رواه جابر قال:كان آخر الأمرين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ترك الوضوء ممّا مسّت النّار (1).
و ما رووه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(لا يتوضّأ من لحوم الغنم) (2).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن بكير بن أعين (3)،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الوضوء ممّا غيّرت النّار؟فقال:(ليس عليك فيه وضوء،إنّما الوضوء ممّا يخرج ليس ممّا يدخل) (4)و فيه دلالة على انّ أكل لحم (5)الجزور غير ناقض، من وجوه:
أحدها:جوابه بالنّفي عن«ما»المستوعبة.
الثّاني:حصره ب«انّما»للوضوء في الخارج.
و الثّالث:نفيه عن الدّاخل.
و ما رواه الشّيخ في الحسن (6)،عن سليمان بن خالد (7)،قال:سألت أبا عبد اللّه
ص:226
عليه السّلام،هل يتوضّأ من الطّعام أو شرب اللّبن ألبان البقر و الإبل و الغنم و أبوالها و لحومها؟قال:(لا يتوضّأ منه) (1).
و لأنّه مأكول أشبه سائر المأكولات.
احتجّ أحمد (2)بما رواه البراء بن عازب (3)،قال:سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن لحوم الإبل؟فقال:(توضّأ منها) (4).
و الجواب من وجوه:
أحدها:انّه منسوخ بخبر جابر،فإنّه قال:آخر الأمرين ترك الوضوء ممّا مسّت النّار.
الثّاني:يحتمل انّه أراد غسل اليد،لأنّ الوضوء إذا أضيف إلى الطّعام اقتضى (5)غسل اليد(كأمره) (6)بالوضوء قبل الطّعام و بعده (7)،و التّخصيص بالإبل للزّهومة (8)الّتي ليست في غيرها.
الثّالث:انّه يحمل على الاستحباب.
ص:227
.و عن أحمد في لبن الإبل روايتان (2).
لنا:ما تقدّم من الأحاديث،و لأنّه مشروب أشبه الماء،فيتساويان حكما.
احتجّ أحمد (3)بما رواه،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه سئل عن ألبان الإبل،فقال:
(توضّأ من ألبانها) (4).
و الجواب انّ المحدّثين طعنوا فيه،و قالوا:الحديث إنّما ورد في اللّحم (5)،فلا تعويل عليه حينئذ مع تخصيصه للنّصّ الدّالّ على حصر الأحداث فيما عدّدناه.
و غيره كالطّحال،و الكبد، و الدّهن،و المرق،و الكرش،و المصران،و السّنام.و عن أحمد فيه وجهان:
أحدهما:انّه ينقض،لأنّ إطلاق اللّحم في الحيوان يتناول الجملة (6)،و هو ضعيف لأنّ التّناول هاهنا (7)مجاز،فيقف على السّماع خصوصا مع وجود النّصّ الدّالّ بالحقيقة على ما ينافيه .
تبطل التّيمّم (1).و قال أحمد:أنّها تنقض الوضوء و التّيمّم.و به قال الأوزاعيّ و أبو ثور (2).
لنا:انّ حصول الطّهارة و زوالها حكم شرعيّ،فيتوقّف عليه.و لما ذكرناه من الأحاديث الدّالّة على حصر الأحداث (3)و ليس الردّة منها،و لأنّ الباقي بعد الفراغ من فعل الطّهارة صفة كونه طاهرا،لا نفس الفعل لاستحالة ذلك،و الكفر لا ينافيه كما في الغسل و في الوضوء عند زفر (4).
احتجّ أحمد (5)بقوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (6)و بقوله:
وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ (7)و بما روي عن ابن عبّاس،انّه قال:
الحدث حدثان:حدث اللّسان،و حدث الفرج،و أشدّهما حدث اللّسان (8).
و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتّى يتوضّأ) (9).
و احتجّ زفر بالآيتين،و بأنّ الردّة لو قارنت (10)التّيمّم منعت صحّته،فإذا طرأت عليه أبطلت،و الجامع انّها عبادة فلا تجامع الكفر.
و الجواب عن الآيتين انّهما مشروطتان بالموافاة،و قد بيّنّاه في علم الكلام (11)،و يدلّ عليه قوله تعالى:
ص:229
وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ (1)شرط في الإحباط الموت،و أمّا حديث ابن عبّاس فليس بحجّة.
أمّا أوّلا:فلأنّه لم ينقله عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،بل قاله برأيه.
و أمّا ثانيا:فلأنّ تسميته حدثا لا يوجب كونه ناقضا،فإنّ كلّ متجدّد حادث، و الاشتراك في الاسم لا يوجب الشّركة في الحكم المعلّق على أحد المسمّيين.
و كلام زفر ضعيف لوقوع الفرق بين المقارنة و التّقدّم،لعدم فقدان شرط التّيمّم في الأوّل و هو مقارنة النّيّة،و النّقض بالطّهارة المائيّة .
.و هو إجماع علماء الأمصار سواء كان في الصّلاة أو خارجا عنها.
لنا:ما رواه الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(الكلام ينقض الصّلاة، و لا ينقض الوضوء) (2)و ما رووه،عنه صلّى اللّه عليه و آله،قال:(من حلف باللات، فليقل:لا إله إلاّ اللّه) (3)و لم يأمر في ذلك بالوضوء.
و من طريق الخاصّة:ما رواه معاوية بن ميسرة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن إنشاد الشّعر،هل ينقض الوضوء؟قال:(لا) (4)و لا يعارض هذا برواية سماعة، قال:سألته عن نشيد الشّعر،هل ينقض الوضوء،أو ظلم الرّجل صاحبه،أو الكذب؟ فقال:(نعم،إلاّ أن يكون شعرا يصدق فيه،أو يكون يسيرا من شعر:الأبيات الثّلاثة و الأربعة،فأمّا أن يكثر من الشّعر الباطل فهو ينقض الوضوء) (5)لوجوه:
أحدها:انّ سماعة لم يسنده عن إمام،بل قال:سألته،و يحتمل أن يكون المراد بعض الفقهاء.
ص:230
الثّاني:انّ سماعة واقفيّ،و الرّاوي عنه:زرعة (1)،و هو واقفيّ أيضا.
الثّالث:انّه خبر واحد مع معارضة الإجماع،فلا يسمع.
الرّابع:المعارضة بما قدّمناه من الأحاديث النّاصّة على حصر الأحداث (2).
،لما رواه الشّيخ في الصّحيح عن سعيد بن عبد اللّه الأعرج،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:آخذ من أظفاري و من شاربي و أحلق رأسي،أ فأغتسل؟قال:([لا] (3)ليس عليك غسل)قلت فأتوضّأ؟قال:([لا] (4)ليس عليك وضوء)قلت:فأمسح على أظفاري الماء؟فقال:(لا،[هو] (5)طهور،ليس عليك مسح) (6).
و روى في الصّحيح عن زرارة،قال:قلت لأبي جعفر عليه السّلام:الرّجل يقلّم أظفاره و يجزّ شاربه و يأخذ من شعر لحيته و رأسه،هل ينقض ذلك وضوءه؟فقال:
(يا زرارة،كلّ هذا سنّة،و الوضوء فريضة،و ليس شيء من السّنة ينقض الفريضة و انّ ذلك ليزيده تطهيرا) (7).
و روى في الصّحيح عن الحلبيّ،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يكون على طهر فيأخذ من أظفاره أو شعره،أ يعيد الوضوء؟فقال:(لا،و لكن يمسح رأسه و أظفاره بالماء)قال:قلت:فإنّهم يزعمون انّ فيه الوضوء؟فقال:(إن خاصموكم فلا تخاصموهم
ص:231
و قولوا هكذا السّنّة) (1)و أمره عليه السّلام بالمسح بالماء للاستحباب من حيث انّ فيه إزالة وسخ إن كان .
الطّهارة
كيف خرج كثر أو قلّ،إلاّ الدّماء الثّلاثة.
و قال أبو حنيفة:الدّم،و القيح،و الصّديد،إذا خرج عن رأس الجرح و سال نقض الطّهارة،و إن لم يسل لم ينقض،قال:و لو خرج من رأس الجرح فمسحه ثمَّ خرج فمسحه،و هكذا،نظر إن كان بحال لو تركه سال،نقض،و إلاّ فلا،و لو أبطل رباط الجراح نقض إن نفذ (2)البلل إلى الخارج و إلاّ فلا،و لو كان الرّباط ذا طاقين فنفذ (3)إلى البعض نقض،و لو نزل الدّم إلى قصبة الأنف و أنفه مشدود (4)نقض،لأنّ داخل الأنف يقبل التّطهير،و لو نزل البول إلى قصبة الذّكر،لم ينقض (5).
و قال زفر:ينقض سواء سأل أو لم يسل (6).
و قال الشّافعيّ:الخارج من غير القبل و الدّبر كالدّم و البصاق و غير ذلك لا ينقض مطلقا (7)كما قلناه.و هو مذهب مالك (8)،و به قال عبد اللّه بن عبّاس،و عبد اللّه بن عمر،و عبد اللّه بن أبي أوفى،و أبو هريرة،و عائشة،و جابر بن عبد اللّه،و من التّابعين:
ص:232
سعيد بن المسيّب،و القاسم بن محمّد،و عطاء،و طاوس،و سالم بن عبد اللّه بن عمر، و محكول،و ربيعة،و أبو ثور،و داود (1).
و قال الأوزاعيّ،و الثّوريّ،و إسحاق:كلّ نجس خارج من البدن إذا سال يوجب الوضوء (2).
و قال أحمد:إن كان الدّم قطرة أو قطرتين لم يوجب الوضوء،و عنه رواية اخرى انّه إذا خرج قدر ما يعفى عنه و هو قدر الشّبر لم يوجب الوضوء (3).
لنا:ما رواه أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه احتجم و لم يتوضّأ (4).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن الحسن بن عليّ الوشّاء،قال:
سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول:(كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يقول:في الرّجل يدخل يده في أنفه فيصيب خمس أصابعه الدّم،قال:(ينقيه و لا يعيد الوضوء) (5).
و ما رواه عبد الأعلى (6)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الحجامة أ فيها وضوء؟قال:(لا،و لا يغسل مكانها،انّ الحجّام مؤتمن إذا كان ينظفه،و لم يكن صبيّا صغيرا) (7).
و ما رواه صفوان،قال:سأل رجل أبا الحسن عليه السّلام و أنا حاضر،فقال:انّ بي جرحا في مقعدتي فأتوضّأ ثمَّ أستنجئ ثمَّ أجد بعد ذلك النّداء و الصّفرة تخرج من المقعدة فأعيد الوضوء؟قال:(قد أنقيت؟)قال:نعم،قال:(لا،و لكن رشّه بالماء و لا تعد الوضوء) (8).
ص:233
و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الرّعاف و الحجامة و كلّ دم سائل؟فقال:(ليس في هذا وضوء،إنّما الوضوء من طرفيك،الّذين أنعم اللّه بهما عليك) (1).
و لأنّ النّقض حكم شرعيّ فيتوقّف على النّص .
،فلا يرتفع إلاّ بيقين،لما رواه الشّيخ في الصّحيح عن زرارة،قال:(و لا ينقض اليقين أبدا بالشّكّ و لكن ينقضه بيقين آخر) (3).
و ما رواه في الصّحيح عن معاوية بن عمّار،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:(انّ الشّيطان ينفخ في دبر الإنسان حتّى يخيّل إليه انّه قد خرجت منه ريح،فلا ينقض وضوءه إلاّ ريح يسمعها أو يجد ريحها) (4).
و ما رواه عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قلت له:
أجد الرّيح في بطني حتّى أظنّ انّها قد خرجت،فقال:(ليس عليك وضوء حتّى تسمع الصّوت[أ]و (1)تجد الرّيح) (2)و هو إجماع العلماء كافّة،و لا يعارض برواية زرعة،عن سماعة،قال:سألته عمّا ينقض الوضوء؟قال:(الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه، و القرقرة في البطن إلاّ شيء تصبر (3)عليه و الضّحك في الصّلاة و القيء) (4)لأنّ سماعة لم يسنده عن إمام فلعلّ المسؤول من لا يوثق بفتواه،و أيضا:فإنّ زرعة و سماعة واقفيّان،فلا تعويل على روايتهما إذا سلمت عن المعارض فضلا عمّا لا تحصل معه السّلامة .
إلاّ مع خروج شيء من الغائط،و هل يشترط انفصاله،أم لا؟فيه نظر.
الاستطابة:الاستنجاء بالماء أو بالأحجار،فيقال:طاب و استطاب:إذا استنجى، و سمّي استطابة،لوجود معنى الطّيب في جسده بإزالة الخبث عنه،و الاستنجاء:استفعال من:نجوت الشّجرة،أي:قطعتها،و الاستجمار:استفعال من الجمار،و هي:الحجارة الصّغار،لأنّه يستعملها في استجماره.
و يستحبّ لمن أراد التّخلّي أن يطلب موضعا يستتر فيه عن النّاس،فإنّ في ذلك تأسّيا
ص:235
بفعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و روى ابن المنذر بإسناده عن جابر،قال:خرجت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفر فإذا هو بشجرتين بينهما أربعة أذرع،فقال:(يا جابر انطلق إلى هذه الشّجرة،فقل:
يقول لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:الحقي بصاحبتك،حتّى أجلس خلفكما)فجلس النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلفهما ثمَّ رجعتا إلى مكانهما (1).
،لما رواه الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل،و لا المرأة إلى عورة المرأة) (2).
و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك) (3).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح عن حريز،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا ينظر الرّجل إلى عورة أخيه) (4).
و ما رواه عن حمزة بن أحمد،عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام،قال:(و غضّ بصرك) (5).
و ما رواه أبو بصير،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:يغتسل الرّجل بارزا؟فقال:
(إذا لم يره أحد،فلا بأس) (6).
و روى عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن عورة المؤمن [على المؤمن] (7)حرام؟فقال:(نعم)فقلت أعني سفليه؟فقال:(ليس حيث تذهب
ص:236
إنّما هو إذاعة سرّه) (1)و ليس هذا الحديث منافيا لما قلناه،لأنّ فيه تفسير لفظ العورة بمعنى آخر و حكما (2)بتحريمه،و نحن قد دلّلنا على تحريم النّظر إلى العورة بالمعنى الّذي قصدناه،فلا ينافي ذلك.
و نقل ابن بابويه في كتابه،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،قال:(من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلاّ بمئزر) (3).
و نقل عن الصّادق عليه السّلام انّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ (4)فقال:(كلّما كان في كتاب اللّه عزّ و جلّ من ذكر حفظ الفرج فهو من الزّنا،إلاّ في هذا الموضع فإنّه للحفظ من أن ينظر إليه) (5)و ذلك يدلّ على وجوب الاستتار.
،لما رواه الشّيخ عن أبي يحيى الواسطيّ،عن بعض أصحابه،عن أبي الحسن الماضي،قال:(العورة عورتان:القبل و الدّبر،و الدّبر [مستور] (7)بالأليتين فإذا سترت القضيب و البيضتين فقد سترت العورة) (8)،و لقول أبي عبد اللّه عليه السّلام:(الفخذ ليست من العورة)رواه الشّيخ أيضا (9)،و لأنّ الأصل عدم وجوب السّتر،فيخرج منه المجمع عليه،و لما رواه الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه كان يقبّل سرّه الحسين عليه السّلام (10)،و لا يظنّ به مسّ العورة من غيره.
ص:237
.
و قال ابن الجنيد منّا:يستحب للإنسان إذا أراد التّغوّط في الصّحراء أن يجتنب استقبال القبلة،أو الشّمس،أو القمر،أو الرّيح بغائط أو بول (1).و به قال أبو أيّوب (2)الأنصاريّ،و النّخعيّ (3).
و قال المفيد و سلاّر من أصحابنا:التّحريم مختصّ بالصّحاري (4)(5).و هو اختيار الشّافعيّ (6)،و به قال مالك،و إسحاق،و روي ذلك عن العبّاس بن عبد المطلب،و ابن عمر،و هو إحدى الرّوايات عن أحمد بن حنبل (7).
و قال أبو حنيفة و الثّوريّ:لا يجوز استقبال القبلة بذلك لا في الصّحاري و لا في البنيان (8)،و عنه في الاستدبار روايتان (9)،و روي مثله عن أحمد (10).
ص:238
و قال داود و ربيعة و عروة بن الزّبير:يجوز استقبالها و استدبارها (1).و فرّق أبو يوسف بين الاستقبال و الاستدبار (2).
لنا:ما رواه الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(إذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة و لا يولها ظهره شرّقوا أو غرّبوا) (3).
و ما رووا (4)عنه عليه السّلام،قال:(إذا جلس أحدكم على حاجته،فلا يستقبل القبلة و لا يستدبرها) (5).
و عنه عليه السّلام انّه قال:(إنّما أنا لكم مثل الوالد،فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة و لا يستدبرها بغائط و لا بول) (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ،عن عيسى بن عبد اللّه الهاشميّ (7)،عن أبيه، عن جدّه،عن عليّ عليه السّلام،قال:قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(إذا دخلت المخرج،فلا تستقبل القبلة و لا تستدبرها،و لكن شرّقوا[أ]و (8)غرّبوا) (9).
و ما رواه عن ابن أبي عمير،عن عبد الحميد بن أبي العلاء (10)أو غيره رفعه،قال:سئل
ص:239
الحسن بن عليّ عليهما السّلام،ما حدّ الغائط؟قال:(لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها و لا تستقبل الرّيح و لا تستدبرها) (1).
و روى عن عليّ بن إبراهيم (2)رفعه،قال:خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد اللّه عليه السّلام،و أبو الحسن موسى عليه السّلام قائم و هو غلام،فقال له أبو حنيفة:يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟فقال:(اجتنب أفنية المساجد،و شطوط الأنهار،و مساقط الثّمار، و منازل النّزّال،و لا تستقبل القبلة بغائط و لا بول و ارفع ثوبك وضع حيث شئت) (3).
و روى في الحسن عن محمّد بن إسماعيل،قال:دخلت على أبي الحسن الرّضا عليه السّلام،و في منزله كنيف[مستقبل القبلة] (4)سمعته يقول:(من بال حذاء القبلة ثمَّ ذكر فانحرف عنها إجلالا للقبلة و تعظيما لها،لم يقم من مقعده ذلك حتّى يغفر له) (5).
و استدلّ المفيد و سلاّر على تخصيص التّحريم بالصّحاري بما رواه محمّد بن إسماعيل في الحسن،قال:دخلت على الرّضا عليه السّلام و في منزله كنيف مستقبل القبلة (6)(7).
و لا حجّة فيه،لأنّ التّحريم يتناول حالتي القعود لا البناء.
و احتجّ الشّافعيّ (8)على الجواز في البنيان بما رواه البخاريّ في صحيحه،عن ابن عمر
ص:240
قال:ارتقيت فوق بيت حفصة (1)فرأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقضي حاجته مستدبر القبلة (2).
و الجواب:لعلّه عليه السّلام قد كان منحرفا،و لم يتنبّه ابن عمر له لقلّته،و الظّاهر انّه عليه السّلام لم يكن يحرّم هذا في الصّحراء إلاّ لحرمة القبلة،فكيف كان عليه السّلام يفعله في البنيان.
و احتجّ داود بأنّه قد تعارضت الأخبار (3)،و الأصل الإباحة.و هو ليس بجيّد،لأنّا قد بيّنا المحال في الجواز (4).
وجب عليه، و إن لم يمكنه و لم يتمكّن من غير ذلك المقعد،جاز له الاستقبال و الاستدبار لمكان الضرورة .
أحدهما:النّهي عن الاستقبال إلى بيت المقدس،لأنّه محترم لشرفه و قد كان قبلة له عليه السّلام إلى حين النّسخ،و نهي عن استقبال الكعبة.
الثّاني:انّه نهي عن استقبال الكعبة و استقبال بيت المقدس،لأنّه يكون مستدبر الكعبة،و هو منهيّ عنه .
بل كونه بحيث يستر القاعد عن أعين النّاس و لو كان بقدر مؤخّرة الرّجل .
بحيث لا يكون بينه و بين البناء إلاّ قدر ما بين الصّفين،فأمّا إذا تباعد عن البناء فإنّه يحرم، لأنّه لا يؤمن أن يكون هناك مصلّ من الإنس أو الجنّ أو الملائكة يقع بصره على عورته (1).
لأنّه قد كان قبلة،و لا يحرم للنّسخ.و هو قول الشّافعيّ أيضا (2).
،لما رواه الشّيخ، عن السّكونيّ (3)،عن جعفر عن آبائه عليهم السّلام،قال:(نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستقبل الرّجل الشّمس و القمر و هو يبول) (4).
و ما رواه عن عبد اللّه بن يحيى الكاهليّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(لا يبولنّ أحدكم و فرجه باد للقمر يستقبل به) (5).
ص:242
و لأنّهما اشتملا على نور من نور اللّه تعالى.
لأنّه لو استتر عن القبلة بالانحراف جاز،فهاهنا أولى .
لئلاّ يعكسه فيردّه على جسده و ثيابه،و لما قدّمناه من رواية ابن أبي العلاء (1).
،و لما رواه الشّيخ في الحسن،عن عبد اللّه بن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشدّ النّاس توقّيا عن البول،كان إذا أراد البول يعمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو إلى مكان من الأمكنة يكون فيه التّراب الكثير كراهيّة أن ينضح عليه البول) (2).
و روى عن سليمان الجعفريّ (3)،قال:بتّ مع الرّضا عليه السّلام في سفح [جبل] (4)فلمّا كان آخر اللّيل قام فتنحى و صار على موضع مرتفع فبال و توضّأ،و قال:
(من فقه الرّجل أن يرتاد لموضع بوله)و بسط سراويله و قام عليه و صلّى صلاة اللّيل (5).
و قد ظهر من هذا استحباب طلب المرتفع من الأرض .
سعد بن إبراهيم (1)لا يجيز شهادة من بال قائما (2).
و من طريق الخاصّة:ما رواه ابن بابويه في كتابه،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال:(البول قائما من غير علّة من الجفاء،و الاستنجاء باليمين من الجفاء) (3).
و روى الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه أتى سباطة قوم فبال قائما (4).و هذه الرّواية لا تنافي ما ذكرناه.
أمّا أوّلا:فللطّعن فيها،فإنّهم رووا عن عائشة انّها قالت:من حدّثكم انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يبول قائما فلا تصدّقوه،ما كان يبول إلاّ قاعدا.نقله التّرمذيّ، و قال:هذا شيء أصحّ ما في هذا الباب (5).
و أمّا ثانيا:فلأنّه عليه السّلام فعله بيانا للجواز،و لم يفعله إلاّ مرّة.
و أمّا ثالثا:فلاحتمال أن يكون في موضع لا يتمكّن من الجلوس فيه.
و أمّا رابعا:فإنّه قيل إنّما فعل ذلك لعلّة كانت بمأبضه،و المأبض:ما تحت الركبة من كلّ حيوان .
،لما رواه الشّيخ عن
ص:244
مسمع (1)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال أمير المؤمنين عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(يكره للرّجل أو ينهى الرّجل أن يطمّح ببوله من السّطح في الهواء) (2).
،و الرّاكد أشدّ كراهيّة،لما رواه الشّيخ،عن الفضيل،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا بأس بأن يبول الرّجل في الماء الجاري، و كره أن يبول في الرّاكد) (4).
و روى عن مسمع،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال أمير المؤمنين عليه السّلام:
(انّه نهى أن يبول الرّجل في الماء الجاري إلاّ من ضرورة)و قال:(إنّ للماء أهلا) (5).
،و تحت الأشجار المثمرة،و فيء النّزّال،و مساقط الثّمار،و جحرة الحيوان،و أفنية الدّور.لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن عاصم بن حميد (6)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال رجل لعليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما:أين يتوضّأ (7)الغرباء؟فقال:(يتّقي (8)شطوط الأنهار و الطّرق
ص:245
النّافذة و تحت الأشجار المثمرة و مواضع اللّعن)قيل له:و أين مواضع اللّعن؟قال:(أبواب الدّور) (1).
و في الحديث الّذي نقلناه عن أبي الحسن عليه السّلام جوابا لسؤال أبي حنيفة (2)ما يدلّ على كراهيّة أفنية المساجد و منازل النّزّال.
و روى الشّيخ عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخيّ (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(ثلاثة من فعلهنّ ملعون،المتغوّط في ظلّ النّزّال،و المانع الماء المنتاب،و سادّ الطّريق المسلوك) (4).
و روى الجمهور عن عبد اللّه بن سرجس (5)انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يبال في الجحر (6).و لأنّه لا يؤمن خروج حيوان يلسعه،فقد حكي انّ سعد بن عبادة (7)بال في جحر بالشّام فاستلقى ميّتا،فسمعت الجنّ تنوح عليه بالمدينة،و تقول:
ص:246
نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده
و رميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده (1)
،لما رواه ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه،عن موسى بن جعفر عليهما السّلام،قال:(السّواك على الخلاء يورث البخر) (2).
،لما رواه الجمهور،عن أبي سعيد الخدريّ (3)،قال:
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:(لا يخرج الرّجلان[يضربان] (4)الغائط كاشفان عن عورتهما يتحدّثان،فإنّ اللّه يمقت على ذلك) (5).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ عن صفوان (6)،عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام، انّه قال:(نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيب الرّجل آخر،و هو على الغائط أو يكلّمه حتّى يفرغ) (7).
أمّا الذّكر للّه تعالى أو حكاية الأذان أو قراءة آية الكرسيّ فلا يكره،لما رواه الشّيخ،عن
ص:247
عمر بن يزيد (1)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التّسبيح في المخرج و قراءة القرآن،قال:(لم يرخّص في الكنيف في أكثر من آية الكرسيّ و حمد اللّه أو آية) (2)،و مثله رواية محمّد بن بابويه في كتابه (3).
و روى الشّيخ عن محمّد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:قلت:الحائض و الجنب يقرءان شيئا؟قال:(نعم،ما شاءا إلاّ السّجدة،و يذكران اللّه على كلّ حال) (4).
و روى ابن بابويه في كتابه قال:لمّا ناجى اللّه موسى بن عمران عليه السّلام،قال موسى:(يا ربّ أ بعيد أنت منّي فأناديك،أم قريب فأناجيك؟فأوحى اللّه جلّ جلاله أنا جليس من ذكرني،فقال موسى يا ربّ انّي أكون في أحوال أجلّك أن أذكرك فيها؟فقال:
يا موسى،اذكرني على كلّ حال) (5).و كره الشّافعيّ ذلك كلّه (6).
لنا (7)ما تقدّم.
و احتجّ بما رواه المهاجرين قنفذ (8)انّه قال:(إنّي كرهت أن أذكر اللّه تعالى
ص:248
إلاّ على طهر) (1).و الجواب:أحاديثنا أشهر.
لقوله تعالى فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها (2)و الأمر للوجوب، و كرهه الشّافعيّ (3)،لما روى المهاجر بن قنفذ انّه سلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو يبول فلم يردّ عليه حتّى توضّأ فلمّا توضّأ ردّ عليه (4).
،لما فيهما من الذّكر،و كرههما الشّافعيّ (6).
فإن قدر عليه بغير الكلام كالتّصفيق باليد أو ضرب الحائط كان أولى من الكلام،و إلاّ تكلّم .
،لما نقله ابن بابويه،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
(من الجفاء الاستنجاء باليمين) (7).
و روى الجمهور انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(إذا بال أحدكم فلا يمسّ ذكره بيمينه،و إذا خلى فلا يستنج بيمينه) (8).
و عن عائشة قالت:كانت يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اليمنى لطعامه و طهوره،و يده اليسرى للاستنجاء (9).
و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله استحبّ أن يجعل اليمنى،لما علا من الأمور (
ص:249
و اليسرى لما دنا (1).
و ترك الأولى في قول العلماء،و حكي عن بعض الظّاهريّة عدم الإجزاء (2)للنّهي،و هو غلط،لأنّه نهي تنزيه .
خلافا لبعض الشّافعيّة (3)،و ذلك بصبّ الماء أو غيره لعدم تناول النّهي له،و للحاجة إليه .
كمرض اليسار و شبهه .
،أو أسماء أنبيائه،أو أحد الأئمّة عليهم السّلام،أو ما كان فصّه من حجر زمزم،فإن كان فيها شيء من ذلك فليحوّله،لما رواه عمّار السّاباطيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا يمسّ الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّه تعالى،و لا يستنجي و عليه خاتم فيه اسم اللّه تعالى،و لا يجامع و هو عليه،و لا يدخل المخرج و هو عليه) (4)،و لأنّ فيه إجلالا للّه تعالى و تعظيما،فكان ذلك مناسبا.
و لا يعارض بما روى الشّيخ عن وهب بن وهب،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:
(كان نقش خاتم أبي:العزّة للّه جميعا،و كان في يساره يستنجي بها،و كان نقش خاتم أمير المؤمنين عليه السّلام:الملك للّه،و كان في يده اليسرى يستنجي بها) (5)و لا بما رواه عن أبي القاسم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قلت له:الرّجل يريد الخلاء و عليه خاتم فيه
ص:250
اسم اللّه تعالى؟فقال:(ما أحبّ ذلك)قال:فيكون اسم محمّد؟قال:(لا بأس) (1)لأنّ وهب بن وهب كذّاب عاميّ المذهب،فلا يعوّل على روايته.و أمّا الرّواية الثّانية،فإنّ رواتها لا يعرف حالهم،و في طريقها ابن زياد (2)،فإن كان سهلا فهو ضعيف،على انّها لا تدلّ على الملاقاة بل إنّما تدلّ على الدّخول باستصحاب الخاتم .
،لما روى ابن بابويه في كتابه،قال:
دخل أبو جعفر الباقر عليه السّلام الخلاء فوجد لقمة خبز في القذر فأخذها و غسلها و دفعها إلى مملوك معه،و قال:(تكون معك لآكلها إذا خرجت)فلمّا خرج عليه السّلام،قال للمملوك:(أين اللّقمة؟)قال:أكلتها يا ابن رسول اللّه؟فقال:(انّها ما استقرّت في جوف أحد إلاّ وجبت له الجنّة فاذهب فأنت حرّ لوجه اللّه،فإنّي،أكره أن أستخدم رجلا من أهل الجنّة) (3)،فتأخيره عليه السّلام لأكلها مع ما فيه من الثّواب الوافر،دالّ على كراهيّة الأكل حينئذ خصوصا لما علّق الأكل بالخروج .
،لما رواه أبو جعفر بن بابويه،عن الصّادق عليه السّلام،قال:(طول الجلوس على الخلاء يورث الباسور) (1)و رواه الشّيخ أبو جعفر الطّوسيّ،عن محمّد بن مسلم،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:(قال لقمان:
طول الجلوس على الخلاء يورث الباسور،قال:فكتب هذا على باب الحشّ) (2).
،لما رواه ابن بابويه عن الباقر عليه السّلام،قال:(إذا بال الرّجل فلا يمسّ ذكره بيمينه) (3).
،لما رواه الشّيخ عن غياث،عن جعفر،عن أبيه عليه السّلام،انّه كره أن يدخل الخلاء و معه درهم أبيض (4)إلاّ أن يكون مصرورا (5).
،لما رواه الشّيخ عن عليّ بن أسباط (6)أو رجل عنه،عمّن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه كان إذا دخل الكنيف،يقنّع رأسه، و يقول سرّا في نفسه:(بسم اللّه و باللّه) (7).
قال المفيد:انّها من سنن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله (8).و لأنّه لا يؤمن من وصول الرّائحة
ص:252
إلى دماغه مع الكشف .
،لرواية عليّ بن أسباط،و لما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن معاوية بن عمّار،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:(إذا دخلت المخرج فقل:بسم اللّه و باللّه اللّهم إنّي أعوذ بك من الخبيث المخبث الرّجس النّجس الشّيطان الرّجيم،و إذا خرجت فقل:بسم اللّه،الحمد للّه الّذي عافاني من الخبيث المخبث،و أماط عنّي الأذى،و إذا توضّأت فقل:أشهد أن لا إله إلاّ اللّه،اللّهمّ اجعلني من التّوّابين و اجعلني من المتطهّرين و الحمد للّه ربّ العالمين) (1).
،لما تقدّم.
و روى عليّ بن أبي حمزة،عن أبي بصير،عن أحدهما عليهما السّلام،قال:(إذا دخلت الغائط فقل:أعوذ باللّه من الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان الرّجيم،فإذا فرغت فقل:الحمد للّه الّذي عافاني من البلاء،و أماط عنّي الأذى) (2).
و روى عن الحسين بن سعيد،عن محمّد بن الحسين (3)،عن الحسن بن عليّ،عن أبيه،عن آبائه،عن جعفر عليه السّلام،قال:قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(إذا انكشف أحدكم لبول أو غير ذلك فليقل:بسم اللّه،فإنّ الشّيطان يغضّ بصره) (4).
و روى في الصّحيح عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح (5)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن آبائه،عن عليّ عليه السّلام،انّه كان إذا خرج من الخلاء،قال:(الحمد للّه الّذي
ص:253
رزقني لذّته،و أبقى قوّته في جسدي و أخرج عنّي أذاه،يا لها نعمة)ثلاثا (1).
و روى ابن بابويه،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،انّه كان إذا أراد دخول المتوّضأ،قال:(اللّهم إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان الرّجيم، اللّهمّ أمط عنّي الأذى و أعذني من الشّيطان الرّجيم)و إذا استوى جالسا للوضوء،قال:
(اللّهمّ أذهب عنّي القذى و الأذى و اجعلني من المتطهّرين)فإذا تزحّر،قال:(اللّهم كما أطعمتنيه طيّبا في عافية فأخرجه منّي خبيثا في عافية) (2).
و روى أيضا،عنه عليه السّلام (3)،انّه كان يقول:(ما من عبد إلاّ و به ملك موكّل يلوي عنقه حتّى ينظر إلى حدثه ثمَّ يقول له الملك:يا ابن آدم هذا رزقك،فانظر من أين أخذته،و إلى ما صار؟فعند ذلك ينبغي للعبد أن يقول:اللهمّ ارزقني من الحلال و جنّبني الحرام) (4).
و كان أمير المؤمنين عليه السّلام إذا أراد الحاجة وقف على باب المتوضّأ ثمَّ التفت عن يمينه و يساره إلى ملكيه،فيقول:(أميطا عنّي فلكما اللّه عليّ أن (5)لا أحدّث بلساني شيئا حتّى أخرج إليكما).و يقول عند الدّخول:(الحمد للّه الحافظ المؤدّي) (6).
.
ذكره الأصحاب (7)،فإنّ المسجد مكان شريف،فاستحبّ ابتداء العضو الشّريف بالدّخول فيه،و الخلاء بضدّه .
،بأن يمسح يده من عند المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا ثمَّ يمسح القضيب ثلاثا و ينتره ثلاثا.
ص:254
قال علم الهدى:يستحبّ (1)عند البول نتر القضيب من أصله إلى طرفه،ثلاث مرّات (2).
لنا:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،قال:قلت لأبي جعفر عليه السّلام:رجل بال و لم يكن معه ماء؟قال:(يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات و ينتر طرفه،فإن خرج بعد ذلك شيء،فليس من البول و لكنّه من الحبائل) (3).و المراد منها:عروق الظّهر.
و احتجّ المرتضى بما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن حفص بن البختريّ (4)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،في الرّجل يبول،قال:(ينتره ثلاثا،ثمَّ إن سال يبلغ السّاق فلا يبالي) (5).
و لا تنافي بين الحديثين،لأنّ المستحبّ:الاستظهار (6)بحيث لا يتخلّف شيء من أجزاء البول في القضيب،و ذلك قابل للشدّة و الضّعف و متفاوت بقوّة المثانة و ضعفها.
و ذهب بعض الأصحاب إلى وجوب الاستبراء (7).
،و لا يجب منه إعادة الوضوء،لقول أبي جعفر عليه السّلام:(فليس من البول و لكنّه من الحبائل).
ص:255
و لا يعارض بما رواه الشّيخ،عن الصّفار (1)،عن محمّد بن عيسى (2)،قال:كتب إليه رجل:هل يجب الوضوء ممّا خرج من الذّكر بعد الاستبراء؟فكتب:(نعم) (3)لأنّ محمّد بن عيسى لم يسنده إلى إمام،فلعلّه عوّل على فتوى من لا يوثق به،و أيضا:فإنّه نقل بالكتابة لا المشافهة،و أيضا:يحتمل أن يكون المجيب،فهم انّ الخارج بول فأوجب منه الوضوء،و أيضا:يحتمل ان يكون أراد الاستحباب.كذا ذكره الشّيخ (4)،و هو بعيد،لأنّه أجاب ب(نعم)عقيب هل يجب الوضوء .
،لأنّ الظّاهر انقطاعه،و قد قيل:انّ الماء يقطع البول.
و لو رأى حينئذ بللا قبل الصّلاة أعاد الطّهارة لغلبة الظّنّ بكونه من بقايا البول المحتقن في الذّكر،فتكون الطّهارة مشكوكة،و لو رأى البلل بعد الصّلاة لم يعد صلاته لحصولها على الوجه المشروع فكانت مجزية و يعيد الوضوء لحصول الحدث و يغسل الموضع .
مالك (1)،و حكى ذلك الزّهريّ.
و قدّر أبو حنيفة النّجاسة تصيب الثّوب أو البدن بموضع الاستنجاء،فقال:إذا أصاب الثّوب أو البدن (2)قدر ذلك لم يجب إزالته،و قدّره بالدّرهم البغليّ (3).
و عند الشّافعيّ و أحمد و إسحاق و داود:يجب الاستنجاء،و يكفي فيه الحجر كالغائط (4)،و هو قول مالك في الرّواية الأخرى عنه (5).
لنا:ما رواه الجمهور عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه مرّ بقبرين جديدين فقال:(انّهما يعذّبان و ما يعذّبان بكبيرة،أمّا أحدهما:فكان يمشي بالنّميمة،و أمّا الآخر:فكان لا يتنزّه من البول) (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(و أمّا البول فلا بدّ من غسله) (7).
و ما رواه عن بريد بن معاوية،عن أبي جعفر عليه السّلام انّه قال:(يجزي من الغائط المسح بالأحجار،و لا يجزي من البول إلاّ الماء) (8).
و ما رواه في الصّحيح عن زرارة،قال:توضّأت يوما و لم أغسل ذكري ثمَّ صلّيت فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام[عن ذلك] (9)؟فقال:(اغسل ذكرك،و أعد
ص:257
صلاتك) (1)و الغسل حقيقة في الإزالة بالماء،فلو كان غيره مجزيا لما اقتصر عليه للتّنظيف (2).
و روى في الحسن،عن يونس بن يعقوب (3)قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:
الوضوء الّذي افترضه اللّه على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟قال:(يغسل ذكره و يذهب الغائط ثمَّ يتوضّأ مرّتين مرّتين) (4)فذكر الغسل جوابا عن السّؤال المشتمل على المفروض يدلّ على المقصود،و لهذا لم يجب الغسل في الغائط،قال فيه(و يذهب الغائط).
و روى (5)في الصّحيح عن ابن أذينة (6)،قال:ذكر أبو مريم الأنصاريّ انّ الحكم بن عتيبة (7)بال يوما و لم يغسل ذكره متعمّدا،فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام،
ص:258
فقال:(بئس ما صنع،عليه أن يغسل ذكره و يعيد صلاته و لا يعيد وضوءه) (1).
و ما رواه في الصّحيح عن عمرو بن أبي نصر (2)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يبول فينسب أن يغسل ذكره و يتوضّأ؟قال:(يغسل ذكره و لا يعيد وضوءه) (3).
و ما رواه في الصحيح عن داود بن فرقد (4)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:
(كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول،قرضوا لحومهم بالمقاريض،و قد وسّع اللّه عليكم بأوسع ما بين السّماء و الأرض و جعل لكم الماء طهورا،فانظروا كيف تكونون) (5)فتخصيصه عليه السّلام بالماء يدلّ على نفي الطّهوريّة عن غيره خصوصا عقيب ذكر النّعمة بالتّخفيف،فلو كان البول يزول بغيره لكان التّخصيص منافيا للمراد.
و ما رواه في الصّحيح،عن جميل بن درّاج،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا انقطعت درّة البول،فصبّ الماء) (6)و الأمر للوجوب.
و أيضا فإنّ مقتضى الدّليل عدم إزالة النّجاسة بغير الماء،فيجب المصير إليه.
و أيضا:لو جاز إزالة البول بغير الماء لجاز إزالته إذا تعدّى المخرج،و التّالي باطل عند الشّافعيّ (7).
ص:259
و بيان الملازمة:حصول الإزالة الموجبة للتّطهير بالمناسبة المشتركة بين البابين.
و أيضا:لو جاز إزالته بغير الماء،لجاز إزالة ما زاد على الدّرهم إذا (1)كان في غير المخرج، و التّالي باطل عند أبي حنيفة (2).
و وجه الملازمة:ما قدّمناه.
،لما قلناه.
أمّا المقتصرون على الأحجار،فرّقوا بينهما فجعلوا البكر كالرّجل،لأنّ عذرتها تمنع انتشار البول (3)،و أمّا الثّيّب فإن خرج البول بحدّة فلم ينتشر فكذلك،و إن تعدّى مخرج الحيض،فقد أوجب بعضهم الغسل،لأنّ مخرج الحيض و الولد غير مخرج البول (4).
،و إن أمكنه إخراجها كشفها إذا بال و غسل المخرج،فإن لم يكشفها وقت البول فهل يجب كشفها لغسل المخرج؟الأقرب الوجوب،و لو تنجّست (6)بالبول،وجب غسلها كما لو انتشر إلى الحشفة .
لنا:ما تقدّم من الرّوايات الصّحيحة كرواية ابن أذينة،و عمرو بن أبي نصر (1).
و ما رواه الشّيخ،عن عليّ بن يقطين،عن أبي الحسن موسى عليه السّلام،قال:سألته عن الرّجل يبول فلا يغسل ذكره حتّى يتوضّأ وضوء الصّلاة؟فقال:(يغسل ذكره و لا يعيد وضوءه) (2).
احتجّ ابن بابويه بروايات منها:ما رواه[سماعة] (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:(فإن كنت أهرقت الماء فنسيت أن تغسل ذكرك حتّى صلّيت فعليك إعادة الوضوء و الصّلاة و غسل ذكرك) (4).
و منها:ما رواه أبو بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام مثله (5).
و منها:ما رواه سليمان بن خالد،عن أبي جعفر عليه السّلام،في الرّجل يتوضّأ فينسى غسل ذكره؟قال:(يغسل ذكره ثمَّ يعيد الوضوء) (6).
و الجواب من حيث الإجمال،و من حيث التّفصيل:
أمّا الإجمال،فمن وجهين:
الأوّل:يحمل الأمر على الاستحباب،فإنّ تكرار الطّهارة مستحبّ.
الثّاني:يحمل الوضوء على مفهومه اللّغويّ جمعا بين الأدلّة.
و أمّا التّفصيل:أمّا الرّواية الأولى،فإنّ راويها محمّد بن عيسى،عن يونس،عن زرعة،عن سماعة،و زرعة و سماعة واقفيّان،فلا تعويل (7)على روايتهما،و أحاديث
ص:261
محمّد بن عيسى عن يونس،نقل ابن بابويه منع العمل بها،عن ابن الوليد (1).
و أمّا الثّانية:فإنّ في طريقها سماعة بن مهران و هو واقفيّ (2).
و أمّا الثّالثة:فإنّ سليمان بن خالد راويها،لم ينصّ أصحابنا على تعديله،بل ذكروا انّه خرج مع زيد بن عليّ (3)فقطعت يده.كذا قال النّجاشيّ (4)،و قال الشّيخ:قطعت إصبعه،قالا:و لم يخرج معه من أصحاب أبي جعفر عليه السّلام غيره (5).
و لا يعارض ما ذهبنا إليه من وجوب إعادة الصّلاة بما رواه هشام بن سالم (6)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،في الرّجل يتوضّأ و ينسى أن يغسل ذكره و قد بال،فقال:(يغسل ذكره و لا يعيد الصّلاة) (7).
أمّا أوّلا:فلاحتمال تخصيص هذا الحكم بمن لم يجد الماء.ذكره الشّيخ (8).
و أمّا ثانيا:فلأنّ في طريقها أحمد بن هلال،و هو ضعيف،قال الشّيخ:هو غال (9)،
ص:262
و قال النّجاشيّ:ورد فيه ذموم من سيّدنا أبي محمّد العسكريّ عليه السّلام (1).
،أجزأه المسح بالحجر و شبهه ممّا يزيل العين،لأنّ الواجب إزالة العين و الأثر،فلمّا تعذّرت إزالتهما لم يسقط إزالة العين.
و روى الشّيخ،عن عبد اللّه بن بكير،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:الرّجل يبول و لا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط؟قال:(كلّ شيء يابس زكيّ) (3).
تنبيه:لو وجد الماء بعد ذلك وجب عليه الغسل،و لا يجتزئ بالمسح المتقدّم،لأنّه اجتزأ به للضّرورة و قد زالت،و نجاسة المحل باقية،لأنّ المزيل لم يوجد،فلو لاقاه شيء برطوبة كان نجسا .
ممّا ليس ببول و لا دم و لا منيّ، لا يجب غسله،سواء كان جامدا،أو مائعا عملا بالأصلين:براءة الذّمّة،و الطّهارة.
و كذا لو أدخل شيئا ثمَّ أخرجه كالميل و الحقنة ما لم يحصل هناك نجاسة من أحد الثّلاثة،و للشّافعيّ قولان في الجامد كالحصى و الدّود إذا خرجت غير ملوّثة.
أحدهما:وجوب الاستنجاء إذ لا يخلو من نداوة و إن لم يظهر.
و الثّاني:عدم الوجوب لعدم البلّة فأشبه الرّيح (4).
و على الأوّل هل تجزي الحجارة أو يتعيّن الماء؟قولان (5)،و أوجب الاستنجاء من المائع كالدّم و القيح و الصّديد و المذي قطعا (6)،و في تعيين الماء أو التّخيير بينه و بين الحجارة، قولان (7).
ص:263
و لو خرجت البعرة يابسة لا بلل فيها،كان حكمها حكم الحصاة عنده (1)،و عندنا:
يجب فيها الاستنجاء.
و لو سال إلى فرج امرأة منيّ من ذكر أو أنثى ثمَّ خرج،لم يجب به وضوء و لا غسل و يكون حكمه حكم النّجاسة الملاقية للبدن في وجوب غسل موضع الملاقاة خاصّة .
،لأنّه محلّ النّجاسة، فالتّعدي في الغسل إلى غيره غير معقول،و هو إجماع علمائنا.
و روى عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا بال الرّجل و لم يخرج منه شيء غيره فإنّما عليه أن يغسل إحليله وحده و لا يغسل مقعدته) (2).
،هذا قول أبي الصّلاح (3)،و قدّره الشّيخان بمثلي ما على الحشفة (4).
لنا:انّ المنع تابع للعين و قد زالت،فيخرج (5)عن العهدة.
استدلّ الشّيخ بما رواه نشيط بن صالح (6)عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟قال:(مثلا ما على الحشفة من البلل) (7)و في
ص:264
طريق هذه الرّواية مروك بن عبيد (1)و لا أعرف حاله،فنحن فيها من المتوقّفين،و لأنّ الإجماع واقع على الاكتفاء في الغائط بالإزالة ففي البول أولى،لسرعة انفصاله بجميع (2)أجزائه.
و قد روى نشيط،عن بعض أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(يجزي من البول أن يغسله بمثله) (3)و هذا الخبر مرسل،و في طريقه مروك و لا نعرفه .
،و نقل عن بعض الحنفيّة قول مردود عندهم وجوبه (4)،و ليس بشيء لعدم الدّليل،و لأنّ الباطن لا يقبل النّجاسة و إلاّ لزم الحرج و الضّرر .
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(إذا ذهب أحدكم إلى الغائط،فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنّها تجزي عنه) (1).
و قال عليه السّلام:(لا يستنجئ أحدكم بدون ثلاثة أحجار) (2)رواه مسلم،و في لفظ:(لقد نهانا أن نستنجي بدون ثلاثة) (3)و الأمر يقتضي الوجوب،و الإجزاء إنّما يستعمل في الواجب،و النّهي عن الاقتصار على أقلّ من ثلاثة،يقتضي التّحريم.
و لأنّ المحلّ لا يخلو من ملاقاة نجاسة فيجب إزالتها ليحصل (4)الطّهور المشروط في الصّلاة بقوله عليه السّلام:(لا صلاة إلاّ بطهور) (5).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الحسن،عن يونس بن يعقوب قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:الوضوء الّذي افترضه اللّه على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال:(يغسل ذكره و يذهب الغائط ثمَّ يتوضّأ مرّتين مرّتين) (6).
و ما رواه الشّيخ في الحسن،عن ابن المغيرة،عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:(ينقي ما ثمّة) (7)و الأمر للوجوب.
و ما رواه الشّيخ عن مسعدة بن زياد (8)،عن جعفر،عن أبيه،عن آبائه،عن النّبيّ
ص:266
صلّى اللّه عليه و آله،قال لبعض نسائه:(مري نساء المؤمنين أن يستنجين بالماء،فإنّه مطهّرة للحواشي و مذهبة للبواسير) (1).
و روى،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام:قال:(جرت السنّة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان (2)و لا يغسله،و يجوز أن يمسح رجليه و لا يغسلها) (3).
و روى في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(لا صلاة إلاّ بطهور،و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار،بذلك جرت السّنّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و أمّا البول فلا بدّ من غسله) (4)و لفظ (5)الإجزاء يدلّ على الوجوب،خصوصا بعد قوله:(لا صلاة إلاّ بطهور)فإنّه لمّا ذكر ذلك و عقّب بالاستنجاء،كان القصد انّه من جملة الطّهور و إلاّ لم يكن لذكر الحكم الأوّل فائدة.
و روى في الصّحيح،عن عليّ بن جعفر،عن أخيه موسى عليه السّلام،قال:سألته عن رجل ذكر و هو في صلاته انّه لم يستنج من الخلاء؟قال:(ينصرف و يستنجي من الخلاء و يعيد الصّلاة،و إن ذكر و قد فرغ من صلاته أجزأه ذلك و لا إعادة عليه) (6).
احتجّ أبو حنيفة (7)بما رواه أبو داود،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(من استجمر فليوتر،من فعل فقد أحسن و من لا فلا حرج) (8)و لأنّها نجاسة يكتفي فيها
ص:267
بالمسح،فلم يجب إزالتها كيسير الدّم.
و الجواب عن الأوّل:انّ نفي الحرج عائد إلى الوتر إذ هو المأمور به في الخبر،و نحن نقول به.
و عن الثّاني:انّ الاجتزاء بالمسح لمشقّة الغسل،لكثرة تكرّره في محلّ الاستنجاء.
.و هو أحد قولي الشّافعيّ و إسحاق،و القول الثّاني للشّافعيّ انّه:إذا تعدّى إلى باطن الأليتين و لم يتجاوز إلى ظاهرهما فإنّه يجزيه الحجارة،فإن تجاوز ذلك و ظهر على الأليتين وجب الماء عنده قولا واحدا (1)،و أمّا البول فإذا انتشر على ما أقبل على الثّقب أجزأه الاستنجاء،و إن انتشر حتّى تجاوز ذلك وجب الماء فيما جاوزه (2).
و ذكر صاحب الفتاوي اختلاف الحنفيّة فيما إذا أصاب موضع الاستنجاء أكثر من قدر الدّرهم،فاستنجى بثلاثة أحجار،و لم يغسله فقال بعضهم بالطّهارة و نفاه آخرون،و لو كانت النّجاسة في سائر المواضع أكثر من قدر الدّرهم،لم يجز إلاّ الغسل.
لنا:ما رواه الجمهور،عن عليّ عليه السّلام،انّه قال:(انّكم كنتم تبعرون بعرا و أنتم اليوم تثلطون ثلطا،فاتّبعوا الماء و الأحجار) (3)و لأنّ المتعيّن لإزالة النّجاسة إنّما هو الماء، و الاستجمار في المحلّ المعتاد رخصة لأجل المشقّة الحاصلة من تكرّر (4)الغسل مع تكرّر (5)النّجاسة،أمّا ما لا يتكرّر فيه حصول النّجاسة فلا يجزي فيه إلاّ الغسل كالسّاق و الفخذ.
و من طريق الخاصّة:ما رواه مسعدة بن زياد من أمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله لنسائه، بأن يأمرن النّساء بالاستنجاء بالماء،و قد تقدّم (6).
و ما رواه عمّار بن موسى،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:(و إن خرج من مقعدته شيء
ص:268
و لم يبل فإنّما عليه أن يغسل المقعدة) (1)و الغسل حقيقة في الإزالة بالماء و لفظة(على)تدلّ على الوجوب.
و ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن إبراهيم بن أبي محمود،عن الرّضا عليه السّلام قال:
سمعته يقول في الاستنجاء:(يغسل ما ظهر على الشّرج و لا يدخل الأنملة) (2)(إذ الأمر) (3)للوجوب.
و روى في الصّحيح عن هشام بن الحكم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:يا معشر الأنصار انّ اللّه قد أحسن عليكم الثّناء فما ذا تصنعون؟قالوا:نستنجي بالماء) (4).
لا يقال:ما دلّت عليه هذه الآثار لا تقولون به،و ما تقولون به لا تدلّ عليه هذه الأخبار، بيانه:انّها كما تتناول المتعدّى تتناول غيره،و أنتم لا تقولون به،و ما تقولون به من التّخصيص بالمتعدّي لا تدلّ عليه هذه الأخبار.
لأنّا نقول:انّها كما دلّت على المطلوب و هو وجوب الغسل بالماء في المتعدّي لكونه أحد أفراد العموم المستفاد من الأحاديث،فهي دالّة على غيره،و نحن لم نتعرّض الآن له فإذا أخرجناه عن الإرادة للمخصّصات،لا يلزم خروج المطلوب عن الإرادة .
وقّاص (1)الاستنجاء بالماء (2)،و كان الحسن البصريّ لا يستنجئ بالماء (3).
و حكي عن قوم من الزّيديّة (4)و القاسميّة (5)ما يضادّ قول هؤلاء،و هو انّه لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء (6).
لنا:ما رواه الجمهور،عن عائشة،انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يستنجي بالماء (7).
و روى أنس،قال:كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدخل الخلاء فأحمل أنا و غلام نحوي أداؤه من ماء و عنزة فيستنجي بالماء (8).
و روى أبو هريرة،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(نزلت هذه الآية في أهل قبا فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا (9)قال:كانوا يستنجون بالماء) (10).
و من طريق الخاصّة:ما قدّمناه من حديث هشام،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله (11)
ص:270
و غيره من الأحاديث.
و ما رواه الشّيخ،عن الحسن بن راشد (1)،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(الاستنجاء بالماء البارد يقطع البواسير) (2).
و أمّا ما يدلّ على كون الماء أفضل:ما تقدّم من حديث أبي هريرة و عائشة.
و من طريق الخاصّة:ما رواه زرارة في الصّحيح،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:
(يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار) (3)و هذا يدلّ على أفضليّة غيره و هو الماء عليه،و ما رواه هشام أيضا،و لأنّه يطهّر المحلّ و يزيل العين و الأثر،و ذلك أبلغ في التّنظيف،و لما رواه الشّيخ،عن عيسى بن عبد اللّه،عن أبيه،عن جدّه،عن عليّ عليه السّلام،قال:(قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:إذا استنجى أحدكم،فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء) (4)فسوّغ الاستنجاء مع عدم الماء،و ليس ذلك شرطا لما يأتي من جواز الاقتصار على الأحجار.
و أمّا ما يدلّ على انّ الجمع أفضل فما رواه الشّيخ،عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(جرت السّنّة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار،و يتبع بالماء) (5)و ليس الجمع شرطا.
و أمّا ما يدلّ على جواز الاقتصار على الأحجار مع عدم التّعدّي:فإجماع علماء الإسلام، و ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنّها تجزي عنه)و قد تقدّم (6).
و من طريق الخاصّة:رواية زرارة و غيرها و قد تقدّمت (7).
ص:271
و ما رواه الشّيخ في الصّحيح عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(كان الحسين بن عليّ عليهما السّلام يتمسّح من الغائط بالكرسف و لا يغسل) (1)و لأنّ المحلّ طاهر حال الضّرورة،فكذا حال الاختيار .
،بحيث يزول العين و الأثر،لما رواه الشّيخ في الحسن،عن يونس بن يعقوب،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(و يذهب الغائط) و قد تقدّم (2).
و ما رواه الشّيخ في الحسن،عن ابن المغيرة،عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:قلت:
للاستنجاء حدّ؟قال:(لا،ينقي ما ثمّة)قلت:فإنّه ينقي ما ثمّة،و يبقي الرّيح؟قال:
(الرّيح لا ينظر إليها) (3).
و لأنّ المراد إزالة العين و الأثر،فلا يحصل المقصود دونه،أمّا الاستجمار فحدّه إزالة (4)العين،و الأثر معفوّ عنه،لأنّه لا يتعلّق بالجامد منه شيء و إنّما ينظّفه الماء،أمّا الرّائحة فإنّها معفوّ عنها في الاستنجاء بالماء و الأحجار .
و قال مالك و داود:الواجب الإنقاء دون العدد (1).و هو اختيار المفيد من أصحابنا (2).
و قال أبو حنيفة:المستحبّ الإنقاء و لا اعتبار بالعدد (3).
لنا:ما رواه الجمهور،عن سلمان رضي اللّه عنه،قال:(نهانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار) (4).
و من طريق الخاصّة:رواية زرارة الصّحيحة،عن أبي جعفر عليه السّلام:(و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السّنّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) (5).
و في رواية أخرى:(جرت السّنّة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان و لا يغسله) (6).
و لأنّ الحجر الواحد لا يحصل به الإزالة الكلّيّة فلا بدّ من تخلّف شيء من بقايا النّجاسة غالبا،و قليل النّجاسة ككثيرها،و في الثّلاثة يحصل القطع بالإزالة.
،و هو إجماع، لكن يستحبّ أن لا يقطع إلاّ على وتر،لرواية عليّ عليه السّلام،و قد تقدّمت (7).و نعني بالنّقاء:زوال عين النّجاسة و رطوبتها بحيث يخرج الحجر نقيّا ليس عليه أثر.
ص:273
و لأنّ المراد إزالة عين النّجاسة،و لمّا كان ذلك إنّما يحصل غالبا باستعمال الثّلاثة،لا جرم،قدّره الشّارع بها لمقارنتها الإزالة غالبا لا لإجزائها و إن لم يحصل النّقاء .
،قال في المبسوط:يجزي عند بعض أصحابنا،قال:و الأحوط اعتبار العدد (1).و منعه داود (2)،و الأقوى عندي الجواز، و هو أحد قوليّ الشّافعيّ (3)و إسحاق و أبي ثور (4)،و إحدى الرّوايتين عن أحمد (5).
احتجّ الشّيخ بالأحاديث الدّالّة على استعمال ثلاثة أحجار (6).
و لنا:انّه استجمر ثلاثا منقية بما وجد فيه شرط الاستجمار فأجزأه كما لو تعدّد حسّا، و لأنّه لو فصله لجاز استعماله إجماعا،و لا فرق بينهما إلاّ الفصل،و لا أثر له في التّطهير،و لأنّه لو استجمر به ثلاثة لحصل (7)لكلّ واحد منهم مسحة و قام مقام ثلاثة أحجار،فكذلك في الواحد،و لأنّ الواجب التّطهير،و هو إنّما يحصل بعدد المسحات دون الأحجار،و لهذا لو مسح بحائط أو ثوب ثلاث مسحات أجزأه،و احتجاجهم بالأحاديث ضعيف،لأنّها دالّة على تكرّر (8)المسحات بالحجر دون غير الأحجار،كما يقال:ضربته ثلاثة أسواط،أي:
ثلاث ضربات بسوط،لأنّ معناه معقول و المراد معلوم،و لهذا لم نقتصر على لفظة الأحجار بل جوّزنا استعمال الخشب و الخرق (9)و غيرهما.
لا يقال:يشترط الطّهارة في الأحجار و هي غير حاصلة.
لأنّا نقول:المشترط إنّما هو الطّهارة في محلّ الاستعمال،و لهذا لو تنجّس جانبه بغير
ص:274
الاستعمال جاز استعمال الجانب الآخر،و لو استعمل ثلاثة أنفس ثلاثة أحجار كلّ واحد منهم من كلّ حجر بشعبة (1)،أجزأهم،و على قول الشّيخ لا يجزي.
،لأنّه هو المقصود فيحصل به الاكتفاء،و ذلك يستدعي شيئين:
الأوّل:يجوز استعمال الخرق (2)و الخشب و المدر و الجلد و كلّ جامد طاهر مزيل،إلاّ ما نستثنيه.و هو قول أكثر أهل العلم (3).
و قال داود:الواجب الاقتصار على الأحجار (4)،و حكي ذلك عن زفر،و هو إحدى الرّوايتين عن أحمد بن حنبل (5).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(و استنظف بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب) (6).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الحسن،عن ابن المغيرة،عن أبي الحسن عليه السّلام،قلت:للاستنجاء حدّ؟قال:(لا،ينقي ما ثمّة) (7).
و ما رواه في الصّحيح عن زرارة،قال:كان يستنجي من البول ثلاث مرّات و من الغائط بالمدر و الخرق (8).
و ما رواه في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(كان الحسين عليه السّلام يتمسّح من الغائط بالكرسف،و لا يغتسل (9)) (10).
ص:275
و لأنّ المقصود إزالة عين النّجاسة،و هذا يحصل بغير الأحجار كحصوله بها.
و احتجّ داود بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر بالأحجار (1)،و هو يقتضي الوجوب، و لأنّه موضع رخصة ورد الشّرع فيها بآلة مخصوصة،فوجب الاقتصار عليها كالتّراب في التّيمّم.
و الجواب عن الأوّل:انّ الأمر إذا كان لمعنى،و وجد الشّرع (2)مشاركه،عدّي الحكم إليه عنده،و قد حصل في هذه الصّورة ما ذكرناه.
و عن الثّاني:انّ الرّخصة في التّيمّم غير معقولة المعنى،فلهذا لم يعدّ الحكم بخلاف ما ذكرناه.
الثّاني:لا يجوز استعمال ما يزلج من النّجاسة كالحديد الصّقيل،و الزّجاج،و اللّحم الرّخو،و أشباه ذلك،و لا يجزي لعدم المعنى المقصود منه،و هو الإزالة.و كذا التّراب،لأنّه يقع بعضه على المحلّ و قد صار نجسا،فيحصل في المحلّ نجاسة أجنبيّة.و هو أحد قولي الشّافعيّ،و في الآخر:يجوز (3)لقوله عليه السّلام:(أو ثلاث حثيات من تراب) (4).
.و هو قول علمائنا أجمع،و اختيار الشّافعيّ (5)و أحمد (6).و قال أبو حنيفة:يجزيه (7).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه أتاه ابن مسعود بحجرين و روثة يستجمر بها فأخذ الحجرين و ألقى الرّوثة،و قال:(هذا رجس) (8)يعني:نجس،و في
ص:276
حديث آخر:(انّها ركس) (1)و هذا تعليل منه عليه السّلام.
و من طريق الخاصّة:ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:(جرت السّنّة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار) (2)و هذه الرّواية و إن كانت مرسلة إلاّ انّها موافقة للمذهب،و لأنّه إزالة النّجاسة،فلا يحصل بالنّجاسة كالغسل.
،لأنّ المحلّ ينجس بنجاسة من غير المخرج فلم يجز فيها غير الماء كما لو تنجّس ابتداء،هذا إذا كانت نجاسته بغير الغائط،و لو كانت نجاسته به احتمل ذلك أيضا لما تقدّم،و الاكتفاء بثلاثة غيره،لأنّ النّجاسة واحدة في الجنس،أمّا لو كسر النّجس و استعمل الطّاهر منه،أو أزيلت النّجاسة بغسل أو غيره،أو استعمل الطّرف الطّاهر أجزأ.و كذا الاحتمال لو سهل بطنه فترشّشت النّجاسة من الأرض إلى محلّ الاستجمار،لأنّ الاستجمار رخصة في تطهير المحلّ من نجاسة خارجة منه لكثرتها،لا من نجاسة واردة عليه لندورها .
لنجاسته،أمّا لو كانت النّجاسة مائعة كالبول فزالت عينها بالشّمس،جاز استعماله لطهارته،و لو زالت بغيرها،لم يجز لبقاء نجاسته .
و منعت الشّافعيّة من الاستجمار (1)بالآجر إذا عمل بالسّرجين،إلاّ بعد أن يغسل و يجفّ (2).
.و هو قول علمائنا، و الشّافعيّ (3)،و إسحاق،و الثّوريّ (4)خلافا لأبي حنيفة،فإنّه أجاز الاستنجاء بالعظم و الرّوث (5)،و شرط مالك طهارتهما (6).
لنا:ما رواه الجمهور،عن ابن مسعود،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(لا تستنجوا بالرّوث و لا بالعظام،فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ) (7).
و روى الدّارقطنيّ (8):انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يستنجى بروث أو عظم و قال:(إنّهما لا يطهّران) (9).
ص:278
و روى أبو داود عنه،انّه قال لرويفع بن ثابت (1):(أخبر النّاس انّه من استنجى برجيع أو عظم فهو برئ من محمّد) (2).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ:عن ليث المراديّ (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن استنجاء الرّجل بالعظم أو البعر أو العود؟قال:(أمّا العظام و الرّوث فطعام الجنّ،و ذلك ممّا شرطوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:لا يصلح بشيء من ذلك) (4)و الرّواية و إن كانت ضعيفة السّند،إلاّ انّ الأصحاب تلقّوها بالقبول، و يؤيّدها الرّوايات الصّحيحة الدّالّة على الأحجار مقتضاها الاقتصار،إلاّ انّه صيّر إلى غيرها من المزيلات لدليل،فيبقى (5)الباقي على المنع،و أمّا الطّعام فالنّهي متناول له من طريق التّنبيه،لأنّ النّهي معلل في الرّوث بكونه زاد الجنّ،فزادنا أولى.
لنا:انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(إنّهما لا يطهّران)و أيضا:المنع من الدّخول في الصّلاة حكم شرعيّ،فيستصحب حتّى يقوم دليل شرعيّ على زواله.
و استدلّ الشّيخ رحمه اللّه بأنّه منهيّ عنه،و النّهي يدلّ على الفساد.و في الكبرى كلام، و الأقرب الطّهارة،لأنّ التّقدير زوال عين النّجاسة فحصلت الطّهارة كالحجر،و النّهي و إن اقتضى التّحريم،فإنّه لا ينافي الطّهارة كالماء المغصوب و الحجر المغصوب،و كالنّهي عن الاستنجاء باليمين مع حصول الطّهارة.
لا يقال:الاستجمار رخصة لموضع المشقّة فإذا كان ما تعلّقت به الرّخصة معصية،لم يجز كسفر المعصية.
لأنّا نقول:الفرق ظاهر،فإنّ شرط الرّخصة هناك منتف و منتقض بالحجر المغصوب .
زمزم
،و كتب الأحاديث،و ورق المصحف العزيز،و كتب الفقه،لأنّ فيه هتكا للشّريعة،و استخفافا لحرمتها،فهو في الحرمة أعظم من الرّوث و الرّمّة،و لو استنجى به لم يجزئه عند الشّيخ (1)،لما قلناه (2)أوّلا،و الأجود الإجزاء،لما تقدّم.
،فإنّ الرّطوبة تنتشر إلى النّجاسة فتزداد النّجاسة.
إلاّ أن تكون صفيقة تمنع نفوذ أجزاء النّجاسة إلى الجانب الآخر،فحينئذ ينبغي القول بالجواز، و الأليق بمذهب القائلين بعدم الاكتفاء بالحجر ذي الشّعب الثّلاث:عدم الاكتفاء هاهنا، و لو كانت طويلة فاستعمل طرفها جاز استعمال الطّرف الآخر على قولنا،و على المانعين من الحجر يجوز بعد القطع.
متّصل بالحيوان كذنبه و الصّوف على ظهره (1).
لنا:انّه مزيل فأجزأ،كالحجر و الخشب،و لو انفصل الجزء،جاز الاستجمار به إن كان طاهرا،و إلاّ فلا،و يجوز بالجلد المذكّى و إن لم يكن مدبوغا،لأنّه طاهر،و هو أحد قولي الشّافعيّ (2)،و منع في الآخر (3)،لأنّه لا يحصل منه الإنقاء ليبوسته.
و الجواب:المنع من عدم الإنقاء،فإنّ البحث معه.
لا يقال:انّه مأكول،لأنّا نقول:انّه لا يؤكل في العادة،و لا يقصد بالأكل،أمّا الجلد الميت فلا يجوز و إن دبغ،لبقاء نجاسته،خلافا للجمهور (4).
خلافا للشّافعيّ (5)و أبي حنيفة (6)،و اتّفق الجميع على انّ أثر النّجاسة بعد الاستنجاء و زوال العين معفوّ عنه.
لنا:قوله عليه السّلام:نهي عن العظم و الرّوث فإنّهما لا يطهّران (7)،دلّ من حيث المفهوم انّ غيرهما مطهّر،و لأنّ الصّحابة كانوا يستعملون الاستجمار كثيرا حتّى انّ بعضهم أنكر الماء،و قال آخرون:انّه بدعة مع سخونة بلادهم،و عدم انفكاك أبدانهم من العرق، و لم ينقل عنهم الاحتراز منه (8).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(لا صلاة إلاّ بطهور،و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة
ص:281
أحجار) (1)يدلّ بالمفهوم على انّها من الطّهور.
،سواء وزّع الثّلاثة على أجزاء المحل،أو جعل الثّلاثة متواردة على جميع المحل.و هو قول الشّيخ في المبسوط (3)،لحصول امتثال الأمر بالاستنجاء على التّقديرين.
و منع بعض الفقهاء (4)من ذلك لأنّه يكون تلفيقا فيكون بمنزلة مسحة واحدة و لا يكون تكرارا و هو ضعيف،لأنّا لو خلّينا و الأصل لاجتزأنا بالواحدة المزيلة،لكن لمّا دلّ النّصّ على العدد،وجب اعتباره و قد حصل ها هنا،و الفرق بين الواحد و المتعدّد:كون الواحد المنتقل إلى الجزء الثّاني من المحلّ يكون نجسا بمروره على الجزء الأوّل،أمّا المتكثّر ففي الجزء الثّاني يكون بكرا،و مع هذا الفرق لا يتمّ القياس.
كالغائط و الدّم، أمّا الدّود و الحصى و الحقنة الطّاهرة و الشّعر رطبا أو يابسا (5)فلا يتعلّق به الحكم،خلافا للجمهور (6)،لأنّ الرّطوبات طاهرة ما عدا ما عدّدناه،و الطّاهر (7)لا يجب إزالته،أمّا لو خرج مع هذه الأشياء شيء من أجزاء النّجاسة تعلّق به الحكم،و كذا لو احتقن بنجاسة ثمَّ خرجت،لأنّها بالملاقاة نجّست المحلّ،و هل يكون حكمها حكم الغائط في الاجتزاء (8)بالأحجار؟الأقرب المنع.
.و هو مذهب علماء الإسلام.
ص:282
و روى الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(من استنجى من ريح فليس منّا) (1).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن سليمان بن جعفر الجعفريّ،قال:
رأيت أبا الحسن عليه السّلام يستيقظ من نومه يتوضّأ و لا يستنجي،و قال كالمتعجّب من رجل سمّاه:(بلغني انّه إذا خرجت منه ريح استنجى) (2).
و روى عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الرّجل يكون منه الرّيح أ عليه أن يستنجي؟قال:(لا) (3).
.و هو مذهب أكثر أهل العلم (4).
و روي عن محمّد انّه قال:ما لم يدخل إصبعه لا يكون نظيفا (5).و هذا شاذّ.
لنا:الاكتفاء من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالاستجمار.
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن إبراهيم بن أبي محمود،عن الرّضا عليه السّلام،قال،سمعته يقول:(في الاستنجاء،يغسل ما ظهر على الشّرج و لا يدخل فيه الأنملة) (6).
و لأنّه بإدخال الإصبع لا يحصل النّقاء فيجب عليه تكرير الاستنجاء،لأنّ كلّ خارج عندهم موجب للاستنجاء و إن خلا من النّجاسة،و لأنّه ضرر،فيكون منفيّا.
فيه
ص:283
تردّد ينشأ من صرف الاستنجاء في الغالب إلى المكان المخصوص،و أيضا:فهو نادر بالنّسبة إلى سائر النّاس فلا تثبت فيه أحكام الفرج فإنّه لا ينقض الوضوء و لا يجب بالإيلاج فيه مهر و لا حدّ و لا غسل،فأشبه سائر البدن،و لأنّ المأخوذ في إزالة النّجاسة استعمال الماء، و جوّزنا الأحجار رخصة،فيقتصر على موضعه الّذي ثبت عمل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و الصّحابة عليه.و هو أحد وجهي الشّافعيّ (1).
و الثّاني الجواز،لأنّ الخارج من جنس المعتاد.و على هذا،لو بال الخنثى المشكل من أحد الفرجين كان حكمه حكم الفرج.
.و هو قول أهل العلم لما ثبت من اجتزاء النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.
روى عمّار السّاباطيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا أراد أن يستنجي بدأ بالمقعدة ثمَّ بالإحليل) (2)و يمكن أن يكون الوجه في ذلك افتقار البول إلى المسح من المقعدة و قبل غسلها لا تنفك اليد عن النجاسة،و بعض الجمهور عكس الحكم لئلاّ تتلوّث يده إذا شرع في الدّبر،لأنّ قبله بارز يصيبه إذا مدّها إلى الدّبر (3)،و الوجهان عندي سائغان،فإنّ عمّارا لا يوثق بما ينفرد به.
،أمّا النّادر كالدّم فلا بدّ فيه من الماء،و غيرهما عندنا طاهر لا يجب فيه استنجاء بحجر و لا ماء،و للشّافعيّ قول في النّادر انّه يجزي فيه الاستجمار (4).
لنا:ان الرّخصة إنّما شرعت مع الكثرة لحصول المشقّة بالاقتصار على الماء،و هذا المعنى منتف في النّادر.
ص:284
شرط الشّافعيّة في الاستجمار أن لا يقوم المتغوّط عن المحلّ،لأنّه بقيامه تنتقل النّجاسة من مكان إلى آخر (1).و هو جيّد على أصلنا،و شرطوا أيضا بقاء الرّطوبة في النّجاسة،لأنّ الحجر لا يزيل النّجاسة الجامدة.
.و هو مذهب أكثر الجمهور (2)،خلافا لإسحاق و داود حيث أوجباه (3).
لنا:ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قال:(لو لا أن أشقّ على أمّتي، لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة) (4)متّفق عليه،و ذلك يدلّ على عدم الوجوب.
لا يقال:هذا يدلّ على غير مطلوبكم،لأنّه يدلّ على انّه غير مأمور به و هو عندكم مندوب فحصلت المنافاة بين المطلوب و الدّليل.
لأنّا نقول:لا منافاة بينهما لوجهين:
أحدهما:انّ الأمر للوجوب،فلا يكون المندوب مأمورا به،و إنّما تحصل المنافاة،لو قلنا النّدب مأمور به.
الثّاني:تخصيص هذا الحديث بأمر الإيجاب دون الاستحباب،لاتّفاق النّاس على نقله.
و اعلم:انّ هذا الحديث كما يدلّ على عدم الوجوب،ففيه دلالة من حيث المفهوم على
ص:285
النّدبيّة،و يدلّ عليها أيضا:ما رواه الجمهور،عنه عليه السّلام انّه،قال:(السّواك مطهرة للفم،مرضاة للرّبّ) (1).
و من طريق الخاصّة:ما رواه ابن بابويه،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،قال:
(ما زال جبرئيل عليه السّلام يوصيني بالسّواك حتّى خفت أن أحفي أو أدرد) (2).
و روى عن الصّادق عليه السّلام،قال:(نزل جبرئيل بالسّواك و الحجامة و الخلال) (3).
و عنه عليه السّلام:(أربع من سنن المرسلين:التّعطّر،و السّواك،و النّساء، و الحنّاء) (4).
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام،قال:(إنّ أفواهكم طرق القرآن،فطهّروها بالسّواك) (5).
و في وصيّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام:(يا عليّ،عليك بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة) (6).
و قال عليه السّلام:(السّواك شطر الوضوء) (7).
و روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(لو لا أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة) (8).
و روى ابن يعقوب،عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،
ص:286
قال:(ركعتان بالسّواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك) (1).
و روى في الصّحيح،عن أبي أسامة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(من سنن المرسلين السّواك) (2).
و روى في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:(ما زال جبرئيل عليه السّلام يوصيني بالسّواك حتّى خفت أن أحفي أو أدرد) (3).
عند الصّلاة،لقوله عليه السّلام:(لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ صلاة) (4)رواه ابن يعقوب في كتابه،عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.
و عند الوضوء،لما رواه ابن بابويه في كتابه:(لأمرتهم عند وضوء كلّ صلاة)،و لما رواه ابن يعقوب،عن المعلّى بن خنيس (5)،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السّواك بعد الوضوء؟قال:(الاستياك قبل أن يتوضّأ) (6).
و عند السّحر،لما رواه ابن يعقوب،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا قمت باللّيل فاستك،فإنّ الملك يأتيك فيضع فاه على فيك و ليس من حرف تتلوه و تنطق به إلاّ صعد
ص:287
[به] (1)إلى السّماء،فليكن فوك طيّب الرّيح) (2).
،لما رواه ابن بابويه في كتابه،عن موسى بن جعفر عليه السّلام،قال:(السّواك في الخلاء يورث البخر (3)) (4).
و يكره أيضا في الحمّام،قال:(لأنّه يورث و باء الأسنان) (5).
سواء كان أوّل النّهار أو آخره لعموم الأمر به.
و قال الشّافعيّ:يكره للصّائم بعد الزّوال (6).و هو ضعيف للعموم،و لما رواه الجمهور عنه عليه السّلام انّه قال:(خير خلال الصّائم السّواك) (7).
و الّذي اخترناه قول عليّ عليه السّلام،و به قال ابن عبّاس،و عائشة،و النّخعيّ، و ابن سيرين،و عروة،و أصحاب الرّأي (8)،و قال عطاء و أبو ثور و مجاهد و إسحاق بقول الشّافعيّ،و هو قول عمر (9)(10)،و عن أحمد روايتان (11).
و قال مالك:إن كان الصّوم فرضا كره السّواك،و إن كان نفلا استحبّ لاستحباب إخفاء النّوافل،و بترك السّواك يظهر صومه،و لا بأس بالسّواك للمحرم،للعموم.
ص:288
و لا يضرّه و لا يتفتّت فيه كالأراك،لما روى ابن بابويه في كتابه:(انّ الكعبة شكت إلى اللّه تعالى ما تلقى من أنفاس المشركين فأوحى اللّه تبارك و تعالى إليها:قرّي كعبة فإنّي مبدّل لك بهم قوما يتنظّفون بقضبان الشّجر،فلمّا بعث اللّه عزّ و جلّ نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله،نزل جبرئيل بالسّواك) (1).
فإن لم يوجد استاك بيده،قاله علماؤنا و أحمد (2)،خلافا للشّافعيّ (3)،لما رواه الشّيخ،عن السّكونيّ،عن جعفر،عن أبيه،عن آبائه عليهم السّلام،انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:(التّسويك بالإبهام و المسبّحة عند الوضوء سواك) (4).
و روى ابن يعقوب،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(أدنى السّواك أن تدلكها بإصبعك) (5).
لقوله عليه السّلام:
(يا عليّ،عليك بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة) (6)و التّقدير مستفاد من رواية ابن بابويه و ابن يعقوب في كتابيهما،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال في السّواك:(لا تدعه في كلّ ثلاثة أيّام و لو أن تمرّه مرّة واحدة) (7).
رواها ابن بابويه،عن الصّادق عليه السّلام، قال:(هو من السّنّة،و مطهرة للفم،و مجلاة للبصر،و يرضي الرّحمن،و يبيّض الأسنان،
ص:289
و يذهب بالحفر،و يشدّ اللّثّة،و يشهّي الطّعام،و يذهب بالبلغم،و يزيد في الحفظ، و يضاعف الحسنات،و تفرح به الملائكة) (1).
و روى أيضا انّه أحد الحنيفيّة العشرة،و هي(خمس في الرأس،هي:المضمضة، و الاستنشاق،و السّواك،و قصّ الشّارب،و الفرق لمن طوّل شعر رأسه،و من لم يفرق شعره فرقه اللّه يوم القيامة بمنشار من نار،و خمس في البدن،و هي:الاستنجاء،و الختان،و حلق العانة،و قصّ الأظافير،و نتف الإبطين) (2).
،و أن يبدأ بجانبه الأيمن،لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،كان يحبّ التّيامن في كلّ شيء .
أ
فقيل:انّه من سننه، لأنّه نوع من النّظافة يؤمر به المتوضّئ (4)،و قيل:انّه سنّة مقصودة في نفسه (5)،لأنّه يؤمر به غير المتطهّر كالحائض و النّفساء كما يؤمر به المتطهّر،و تظهر الفائدة فيما لو نذر الإتيان بسنن الوضوء.
و الاغتراف بها إن كانت الآنية الّتي يغترف منها باليد،لما رواه الجمهور،عن عائشة انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يحبّ التّيمّن في تنعّله و ترجّله و طهوره و في شأنه كلّه (7).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة بن أعين،عن أبي جعفر عليه السّلام انّه حكى لنا وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدعا بقدح من ماء فأدخل
ص:290
يده اليمنى فأخذ كفّا من ماء فأسدلها على وجهه (1).و لأنّه أمكن في الاستعمال .
.و هو مذهب علمائنا،و به قال عطاء (3)،و مالك (4)،و الأوزاعيّ (5)،و الشّافعيّ (6)،و إسحاق، و أصحاب الرّأي (7)،و قال أحمد به في نوم النّهار،و أصحّ الرّوايتين عنه:وجوب غسلهما من نوم اللّيل (8)،و هو مذهب ابن عمر،و أبي هريرة،و الحسن البصري،إلا انّ الحسن البصري أوجب غسلهما من نوم النهار (9)أيضا.
لنا:قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (10)عقّب القيام إلى الصّلاة بغسل الوجه.
و قال المفسّرون:المراد:إذا قمتم من النّوم (11)،و ليس في الآية دلالة على غسل اليدين،
ص:291
فيحصل الاكتفاء بالمأمور به،و إلاّ لم يبق الأمر دالاّ على الإجزاء.(و أيضا:فالأصل عدم الوجوب) (1)و أيضا:ما رواه الشّيخ،عن سماعة،قال:سألته عن رجل يمسّ الطّست أو الرّكوة ثمَّ يدخل يده في الإناء قبل أن يفرغ على كفّيه؟قال:(يهريق من الماء ثلاث حفنات،و إن لم يفعل فلا بأس) (2)و الطّريق و إن كان ضعيفا إلاّ انّها مؤيّدة بالأصل و عمل الأصحاب.
و روى عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الجنب يجعل الرّكوة أو التّور فيدخل إصبعه فيه؟قال:(إن كانت إصبعه قذرة فليهرقه،و إن كانت لم يصبها قذر فليغتسل منه،هذا ممّا قال اللّه تعالى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (3)) (4)و في طريقها محمّد بن سنان،و فيه قول (5).
و روى الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،عن أحدهما عليهما السّلام،قال:
سألته عن الرّجل يبول و لم يمسّ يده اليمنى شيئا أ يغمسها في الماء؟قال:(نعم و إن كان جنبا) (6).و أيضا:فهو قائم من النّوم،فأشبه قيامه من نوم النّهار.
احتجّ أحمد (7)بقوله عليه السّلام:(إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا،فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده) (8).
ص:292
و الجواب:انّ التّعليل يشعر بأنّ الأمر للاستحباب فإنّ طريان الشّكّ على يقين الطّهارة لا يؤثّر فيها كما في الشّكّ في الحدث مع يقين الطّهارة.
و يدلّ على الاستحباب أنّها تدخل الإناء و تنقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلها احتراز لجميع أعضاء الوضوء،و ما رواه الجمهور من انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يفعله (1).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الحسن،عن عبيد اللّه الحلبيّ،قال:سألته عن الوضوء كم يفرغ الرّجل على يده اليمنى قبل أن يدخلها في الإناء؟قال:(واحدة من حدث البول،و اثنتان من الغائط و ثلاث من الجنابة) (2).
و ما رواه،عن حريز،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(يغسل الرّجل يده من النّوم مرّة و من الغائط و البول مرّتين و من الجنابة ثلاثا) (3).
و اختلاف الأحاديث دالّ على الاستحباب و غير قادح فيه.
لا يقال:انّه أمر و هو يدلّ على الوجوب،و به احتجّ الموجبون.
و أيضا روى الشّيخ،عن عبد الكريم بن عتبة الكوفيّ الهاشميّ،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يبول و لم يمسّ يده اليمنى شيء أ يدخلها في وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال:(لا حتّى يغسلها)قلت:فإنّه استيقظ من نومه و لم يبل،أ يدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها؟قال:(لا،لأنّه لا يدري حيث كانت يده فليغسلها) (4).
لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّ الأمر و إن كان في الأصل للوجوب إلاّ انّه قد يستعمل كثيرا في النّدب،و قد دلّلنا على الاستحباب فيحمل عليه.
و عن الثّاني بذلك أيضا،و النّهي لا يدلّ على التّحريم في كلّ صورة خصوصا مع قيام الدّليل الدّالّ على المصير إلى خلافه.
ص:293
لم يؤثّر في تنجيسه،قليلا كان أو كثيرا،و عند القائلين بالوجوب كذلك أيضا،لأنّ طهوريّة الماء كانت بيقين،و الغمس المحرم لا يقتضي زوالها،لأنّه لو زال لكان مستندا إلى و هم النّجاسة،و الوهم لا يزيل اليقين،و لأنّ (1)اليقين لا يزول بالشّك،فبالوهم أولى.
و قال الحسن:يجب إهراق الماء (2).
و قال أحمد:أحبّ إليّ أن يهريق الماء (3).و ليس بشيء .
و الأولى انّ المراد منها العضو من الكوع،لأنّه هو الواجب في مسح التّيمّم،و لأنّ الغمس لها،فلا يحصل الاكتفاء ببعض المغموس لقوله:
(فلا يدخل يده قبل أن يغسلها)و لا يستحبّ الزّيادة،لأنّ اليد من المرفق هو الواجب للوضوء،و لأنّه غير مغموس .
لأنّه مفهوم من قوله:
(لأنّه لا يدري حيث كانت يده).
و قال الحسن:لا يمنع (4)،لأنّ النّهي يتناول غمس الجميع و لا يلزم من كون الشّيء محكوما عليه بشيء،كون بعضه كذلك،و هو ضعيف لما قلناه من المفهوم،و نحن لم نقل بالملازمة بين الحكم على الجميع و البعض .
الغسل،
لأنّ النّهي باق لا يزول حتّى يغسلها كمال العدد .
عليه سراويله أو لم يكن عملا بالعموم.
و أيضا:الحكم المعلّق على المظنّة لا يعتبر فيه حقيقة الحكمة كالمشقّة في السّفر و كالاستبراء للرّحم في العدّة،فإنّه واجب في حقّ الصّغيرة و اليائسة.
و أيضا:الغسل تعبّد لا باعتبار النّجاسة،و لهذا فإنّ القائلين بالوجوب معترفون بطهارة اليد قبل الغسل.
و أيضا:احتمال النّجاسة لا ينحصر في مسّ الفرج،فقد يكون في البدن بثرة أو دمل، أو تلاقي يده نجاسة خارجة،أو تكون نجسة قبل نومه فينساها لطول نومه .
لأنّ المراد تطهيرها حكما و لا يحصل إلاّ فيمن (1)ذكرنا .
و الظّاهر انّ المراد منه التّناقض لأنّه مفهوم من قوله:(لأنّه لا يدري أين باتت يده).
و قال بعض الفقهاء من الجمهور:هو ما زاد على نصف اللّيل،قال:لأنّه لا يكون بائتا بالنّصف فإنّ من خرج من جمع (2)قبل نصف اللّيل لا يكون بائتا و يجب الدّم،و هو ضعيف،لأنّه لو جاء بعد الانتصاف المزدلفة فإنّه يكون بائتا بها إجماعا و لا دم،و قد بات دون النّصف (3).
،و مع تحقّقها لا تجب النّيّة فمع توهّمها أولى،و لأنّه قد فعل المأمور به و هو الغسل فيحصل الإجزاء،و القائلون بالوجوب أوجبوا النّيّة في أحد الوجهين (4).
ص:295
و قال بعض الجمهور:يفتقر،قياسا على الوضوء (1)، و نحن نمنع الحكم في الأصل لما يأتي،و يظهر الفرق بأنّ الوضوء آكد و هو في أربعة أعضاء، و أيضا:فإنّ شرط القياس حصول العلّة المتوقّف على معقوليّة المعنى و هو غير معقول هنا .
و من الغائط مرّتين و من الجنابة ثلاثا،لأنّ تفاوت الأحداث يناسب تفاوت الغسل،و الجمهور استحبّوا غسلهما من حدث النّوم ثلاثا خاصّة (2).
لنا:ما تقدّم في حديث الحلبيّ و حديث حريز،عن الباقر عليه السّلام،و قد تقدّما (3).
احتجّوا بما رواه أبو هريرة انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها ثلاثا،فإنّه لا يدري أين باتت يده) (4).
و الجواب:انّ أصحاب ابن مسعود أنكروا على أبي هريرة هذا،و قالوا:كيف نصنع بالمهراس (5).
سواء اتّحد الجنس أو اختلف .
فلو كانت الآنية تسع الكرّ لم يستحب.و كذا لو غمس يده في نهر جار.
و الأقرب انّ غسل اليدين تعبّد محض فلو تيقّن طهارة يده استحبّ له غسلها قبل الإدخال،و لو لم يرد الطّهارة ففي استحباب غسلها إشكال،أقربه ذلك،لعموم الأمر بالغسل لمريد الغمس.
و كذا يستحبّ غسلها لمن قام من النّوم و من لم يقم،و سواء توهّم على يده نجاسة أولا.
و هل غسلها من سنن الوضوء؟فيه احتمال من حيث الأمر به عند الوضوء و من حيث
ص:296
انّ الأمر به لتوهّم النّجاسة،لقوله:(فإنّه لا يدري أين باتت يده)فيكون من جملة السّنن .
.و هو مذهب عامّة العلماء،و هو إحدى الرّوايتين عن أحمد،و في الأخرى:انّها واجبة (1)،و به قال إسحاق بن راهويه (2).
لنا:قوله تعالى فَاغْسِلُوا (3)عقّب القيام بالغسل فانتفت الواسطة بين إرادة الصّلاة و الغسل.
و ما رواه الجمهور انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،قال:(من توضّأ فذكر اسم اللّه عليه كان طهورا لجميع بدنه،و من توضّأ و لم يذكر اسم اللّه عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه) (4)و معنى ذلك:الطّهارة من الذّنوب،لأنّ رفع الحدث لا يتبعّض،و ذلك يدلّ على انّ التّسمية موضع الفضيلة.
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام حكاية وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يذكر فيه التّسمية،و لو كانت واجبة لوجوب ذكرها (5).
و ما رواه في الصّحيح،عن ابن أبي عمير،عن بعض أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إذا سمّيت في الوضوء،طهر جسدك كلّه و إذا لم تسمّ لم يطهر من جسدك إلاّ ما مرّ عليه الماء) (6)و لو كانت شرطا لكان الإخلال بها مبطلا،فلا تحصّل طهارة شيء من الأعضاء.
ص:297
و أيضا:روى في الصّحيح،عن عيص بن القاسم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:(من ذكر اسم اللّه تعالى على وضوئه فكأنّما اغتسل) (1)و ذلك يدلّ على تأكّد الاستحباب فإنّ المشبّه به غير واجب،فلا يكون الطّريق إليه واجبا.
لا يقال:يعارض هذا ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن بعض أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(إنّ رجلا توضّأ و صلّى فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:أعد صلاتك و وضوءك،ففعل فتوضّأ و صلّى،فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:أعد وضوءك و صلاتك،ففعل فتوضّأ و صلّى،فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:أعد وضوءك و صلاتك فأتى أمير المؤمنين عليه السّلام فشكا ذلك إليه،فقال:هل سمّيت حيث توضّأت؟قال:
لا،قال فسمّ على وضوئك فسمّى فأتى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يأمره أن يعيد الوضوء) (2).
و بما (3)استدلّ به أهل الظّاهر (4)من قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:(لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه) (5).
لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّه يحتمل أن يكون المراد بالتّسمية:النّيّة،إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ،و ذلك باب مستعمل في المجاز يجب المصير إليه عند وجود الإجماع على امتناع الحمل على الحقيقة.
و عن الثّاني بذلك أيضا،على انّ أحمد،قال:ليس يثبت في هذا حديث،و لا أعلم فيه
ص:298
حديثا له إسناد جيّد (1).
و قال الحسن بن محمّد (2):ضعّف أبو عبد اللّه الحديث في التّسمية فإنّ رجاله مجهولون، و لو سلّم فالمراد نفي الكمال (3)كقوله عليه السّلام:(لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد) (4)جمعا بين الأدلّة.
و هو ظاهر على قولنا،أمّا القائلون بالوجوب فقالوا:إن تركها عمدا بطلت طهارته،لأنّه ترك واجبا في الطّهارة فأشبه ما لو ترك النّيّة (5)،و هو ضعيف فإنّ الأصل الصّحّة،و قياسهم مقلوب،فإنّا نقول:فلا يشترط فيه العمد كالنّيّة و هم قد اشترطوه،فإنّ أحمد قال:لو تركها ناسيا أرجو أن لا يكون عليه شيء (6)،و هذا النّوع من القلب يسمّى قلبا لإبطال مذهب المستدلّ بالإلزام .
لقوله عليه السّلام:(رفع عن أمّتي الخطأ و النّسيان) (1).
ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال(إذا وضعت يدك في الماء فقل:بسم اللّه و باللّه،اللّهم اجعلني من التّوّابين و اجعلني من المتطهّرين،فإذا فرغت فقل:الحمد للّه ربّ العالمين (2).
و روى في الضّعيف،عن عبد الرّحمن بن كثير (3)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن أمير المؤمنين عليه السّلام:(بسم اللّه و الحمد للّه الّذي جعل الماء طهورا و لم يجعله نجسا) (4).
و روى محمّد بن يعقوب في كتابه في الحسن،عن معاوية بن عمّار،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:(فإذا توضّأت فقل:أشهد أن لا إله إلاّ اللّه،اللهمّ اجعلني من التّوّابين و اجعلني من المتطهّرين و الحمد للّه ربّ العالمين (5).
الأنصاريّ،و اللّيث،و الأوزاعيّ (1).
و قال أحمد:إنّهما واجبان في الطّهارتين (2).و به قال إسحاق و ابن أبي ليلى (3)، و روي عنه رواية اخرى انّ الواجب هو الاستنشاق فيهما.و هو قول أبي ثور و داود (4)، و روي عنه أيضا انّ المضمضة و الاستنشاق واجبان في الكبرى،مستحبّان في الصّغرى.
و هو قول أبي حنيفة (5).
لنا:قوله تعالى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (6)و لم يجعل فاصلا بين إرادة القيام و غسل الوجه و ذلك يقتضي الإجزاء بالمأمور به.
و ما رواه الجمهور،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،انّه قال:(عشر من الفطرة) (7)و ذكر فيها المضمضة و الاستنشاق،و الفطرة سنّة،و ذكره لهما من الفطرة يدلّ على مخالفتهما لسائر الوضوء.
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(المضمضة و الاستنشاق ليسا من الوضوء) (8)أي:ليسا من فرائضه.
ص:301
و ما رواه في الحسن،عن أبي بصير،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عنهما؟فقال:
(هما من الوضوء فإن نسيتهما فلا تعد) (1)و هذا الخبر يدلّ على صحّة ما ذكرناه من التّأويل.
و ما رواه،عن أبي بكر الحضرميّ (2)،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(ليس عليك استنشاق و لا مضمضة لأنّهما من الجوف) (3).
و ما رواه عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(المضمضة و الاستنشاق ممّا سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) (4).
و ما رواه زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(ليس المضمضة و الاستنشاق فريضة و لا سنّة إنّما عليك أن تغسل ما ظهر) (5).
أقول:و يريد بالسّنّة الحنفيّة:السّنّة الّتي لا يجوز تركها،و يدلّ عليه،مفهوم قوله:
(إنّما عليك أن تغسل ما ظهر)فإنّ(على)دالّة على الإيجاب.
و ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام في صفة وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (6)و لم يذكر المضمضة و الاستنشاق لما كان فعله بيانا، فلو كانا واجبين لاستحال منه الإخلال بهما.
و ما رواه الشّيخ في الحسن،عن زرارة قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:(فقد يجزيك
ص:302
من الوضوء ثلاث غرفات،واحدة للوجه،و اثنتان للذّراعين) (1)فلو كانا واجبين لما حصل الإجزاء بدونهما.
و روى محمّد بن يعقوب في كتابه،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:
سألته عن المضمضة و الاستنشاق؟فقال:(ليس هما من الوضوء،هما من الجوف) (2)و هذا التّعليل يشعر بأنّهما ليسا واجبين في غسل الجنابة.
و يدلّ عليه من حيث المنطوق:ما رواه الشّيخ،عن عبد اللّه بن سنان،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:(لا يجنب الأنف و الفم لأنّهما سائلان) (3)و في طريقها موسى بن سعدان (4)،و هو ضعيف في الحديث إلاّ انّ الأصحاب تلقّته بالقبول.
و روى الشّيخ،عن الحسن بن راشد،قال:قال الفقيه العسكريّ عليه السّلام:(ليس في الغسل و لا في الوضوء مضمضة و لا استنشاق) (5)أي:ليسا بواجبين فيهما،لما رواه الشّيخ عن أبي بصير،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الجنابة؟قال:(تصبّ على يديك الماء فتغسل كفّيك ثمَّ تدخل يدك فتغسل فرجك ثمَّ تمضمض و تستنشق) (6).
لا يقال:الأمر يقتضي الوجوب،لأنّا نقول:قد بيّنا انتفاء الوجوب،و يدلّ على انتفائه هنا:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن أحمد بن محمّد،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن غسل الجنابة؟فقال:(تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك،و تبول إن
ص:303
قدرت على البول،ثمَّ تدخل يدك في الإناء،ثمَّ اغسل ما أصابك منه،ثمَّ أفض على رأسك و جسدك و لا وضوء فيه) (1)فلو كانا واجبين لوجب ذكرهما عقيب السّؤال و إلاّ لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة،و ذلك باطل اتّفاقا.
و أيضا:الفم و الأنف باطنان فلا يجب غسلهما كباطن اللّحية و باطن العينين،و لأنّ الوجه ما يحصل به المواجهة و لا تحصل المواجهة بها،و لأنّ غسل الجنابة واجب فلا يجب فيه المضمضة و الاستنشاق قياسا على غسل الميّت.
و احتجّ المخالف (2)بما رواه أبو هريرة،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه جعل المضمضة و الاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة (3).
و ما رواه أبو هريرة أيضا انّه عليه السّلام قال:(تحت كلّ شعرة جنابة فبلّوا الشّعر و انقوا البشرة) (4)و باطن الفم بشرة،و داخل الأنف شعر،فيجب بلّه.
قال أبو حنيفة:لأنّهما عضوان باطنان من وجه ظاهران من وجه،فأعطيناهما حكم الباطن في الوضوء و حكم الظّاهر في الجنابة (5).
و قال أحمد:انّهما ظاهران،لأنّ الصّائم لا يفطر بوضع الطّعام فيهما،و لا ينشر حرمة الرّضاع بوصول اللّبن إليهما،و لا يجب الحدّ بترك الخمر فيهما،فيجب غسلهما (6).
و الجواب عن الحديث الأوّل:انّه قد ضعّفه العلماء،قالوا:انّ رواية بركة الحلبيّ،و هو
ص:304
غير معروف (1)،و أيضا:فإنّه على خلاف مطلوبهم،فإنّه أوجب الثّلاث و هم لا يقولون به، و أيضا:فإنّه حكاية قول أبي هريرة فلعلّه توهّم ما ليس بفرض فرضا،فلا يبقى حجّة مع وجود المنافي،و أيضا:فالفرض في اللّغة التّقدير،فيحمل عليه و يدخل فيه الواجب و النّدب.
و عن الحديث الثّاني:انّ راويه الحارث بن وجيه (2)،و قد ضعّفه البخاريّ (3)،قال يحيى بن معين:حديث الحارث بن وجيه ليس بشيء (4)،و أيضا:يحتمل انّه أراد بالشّعر ما ظهر،و كذا في البشرة،على انّه قد قيل:انّ البشرة اسم لظاهر الجلد دون باطنه (5).
و عن كلام أبي حنيفة بالمنع من كونهما ظاهرين،ثمَّ بالمطالبة له بوجه التّخصيص.
و ينتقض ما ذكره أحمد جميعه بالعين،و بالمنع من التّعليل في الأحكام الّتي ذكرها، بكونهما (6)باطنين.
، و يستحبّ إدارة الماء في جميع الفم للمبالغة،و كذا في الأنف.
ص:305
،لأنّ المقصود به قد حصل،و هو قول الحنابلة القائلين بالوجوب (1)،و قول بعض الحنفيّة،و قال بعضهم:لا يجزيه،نقله شارح الطّحاويّ (2)،و ليس شيء .
،لما رواه الشّيخ،عن عبد الرّحمن بن كثير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في صفة وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام:ثمَّ تمضمض،فقال:(اللّهمّ لقّني حجّتي يوم ألقاك و أطلق لساني بذكرك)ثمَّ استنشق،فقال:(اللّهمّ لا تحرّم عليّ ريح الجنّة و اجعلني ممّن يشمّ ريحها و روحها و طيبها) (3).
و رواه أيضا ابن بابويه عنه عليه السّلام (4).
،و قال بعض الجمهور:التّمضمض باليمنى،و الاستنشاق باليسرى (5)(6).
لنا:ما رواه الجمهور،عن عائشة انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يحبّ التّيمّن في طهوره و شأنه كلّه (7).
متابعة لفعل أمير المؤمنين عليه السّلام،و المبالغة فيهما،أمّا في المضمضة فبأن يدخل الماء في الفم و يديره على جميع جوانبه (8)و يوصله إلى طرف حلقه و يمرّه على أسنانه و لسانه ثمَّ يمجّه،و في الاستنشاق يدخل الماء في الأنف و يأخذه بالنّفس حتّى يصل إلى خياشيمه ثمَّ يدخل إصبعه فيه فيزيل ما في
ص:306
الأنف من أذى (1)ثمَّ يستنثر مثل ما يفعله المتمخّط،إلاّ الصّائم،فإنّه لا ينبغي له المبالغة، لقوله عليه السّلام:(بالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائما) (2)و لأنّه ربّما وصل إلى الجوف أو الدّماغ (3).
إمّا بكفّ واحدة أو بأكثر.و به قال أبو حنيفة (4).
و قال الشّافعيّ:المستحبّ أن يأخذ كفّا من الماء فيتمضمض ببعضها و يستنشق بالبعض،ثمَّ يفعل ثانيا و ثالثا كذلك (5).
لنا:ما رواه الجمهور،عن طلحة بن مصرف (6)،عن أبيه،عن جدّه،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه فصل بين المضمضة و الاستنشاق (7).
و من طريق الخاصّة:ما رواه الشّيخ،من صفة وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام انّه تمضمض ثمَّ استنشق (8)،و(ثمَّ)للتّرتيب،و لأنّه أمكن (9)في التّطهير،و أشبه بأعضاء الطّهارة حيث ينتقل إلى الثّاني بعد إكمال الأوّل.
ص:307
احتجّ الشّافعيّ (1)بما رواه عبد اللّه بن زيد (2)انّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله تمضمض و استنشق بكفّ واحدة (3).
و الجواب:انّه محمول على انّه استعمل فيهما كفّا واحدا .
،لما رواه الشّيخ،عن عبد الرّحمن بن كثير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في صفة وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام،ثمَّ غسل وجهه،فقال:(اللّهمّ بيّض وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه،و لا تسوّد وجهي يوم تبيضّ فيه الوجوه)ثمَّ غسل يده اليمنى،فقال:(اللّهمّ أعطني كتابي بيميني،و الخلد في الجنان بيساري،و حاسبني حسابا يسيرا)ثمَّ غسل يده اليسرى،فقال:(اللّهمّ لا تعطني كتابي بشمالي،و لا تجعلها مغلولة إلى عنقي،و أعوذ بك من مقطّعات النّيران)ثمَّ مسح رأسه فقال:
(اللّهمّ غشّني برحمتك و بركاتك)ثمَّ مسح رجليه،فقال:(اللّهم ثبّتني على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام و اجعل سعيي فيما يرضيك عنّي)و رواه ابن بابويه أيضا (4).
و روى انّه يستحب أن يقول المتوضّئ:(اللّهمّ إنّي أسألك تمام الوضوء،و تمام الصّلاة،و تمام رضوانك،و الجنّة) (5).
.و هو اتّفاق علمائنا،لما رواه الشّيخ،عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع،عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام،قال:(فرض اللّه على النّساء في الوضوء أن يبدأن بباطن أذرعهنّ و في الرّجال:
ص:308
بظاهر الذّراع) (1)و المراد بالفرض هاهنا التّقدير لا الوجوب .
.
و قال أبو حنيفة:لا يجزي في الوضوء أقلّ منه (2).
لنا:قوله تعالى فَاغْسِلُوا (3)و مع تحقّق الامتثال بما (4)يسمّى غسلا يحصل الإجزاء.
و ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن زرارة،و محمّد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:(إنّما الوضوء حدّ من حدود اللّه ليعلم اللّه تعالى من يطيعه و من يعصيه،و انّ المؤمن لا ينجّسه شيء إنّما يكفيه اليسير) (5).
و يدلّ على الاستحباب:ما رواه الشّيخ في الصّحيح،عن محمّد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يغتسل بصاع من ماء و يتوضّأ بمدّ من ماء) (6).
و روى عن سليمان بن حفص المروزيّ (7)،قال:قال أبو الحسن عليه السّلام:
(الغسل بصاع من ماء،و الوضوء بمدّ من ماء،و صاع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:خمسة أمداد،و المدّ:وزن مائتين و ثمانين درهما،و الدّرهم:وزن ستّة دوانيق،و الدّانق:وزن ستّ حبّات،و الحبّة:وزن حبّتين من شعير من أوسط الحبّ لا من صغاره و لا من كباره) (8).
ص:309
و روى في الصّحيح عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:(كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتوضّأ بمدّ و يغتسل بصاع) (1)و المدّ:رطل و نصف،و الصّاع:ستّة أرطال،قال الشّيخ:يعني أرطال المدينة فيكون تسعة أرطال بالعراقيّ (2).
و روى ابن بابويه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،قال:(الوضوء مدّ و الغسل صاع و سيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلك فأولئك على خلاف سنّتي،و الثّابت على سنّتي معي في حظيرة القدس) (3).
،ذكره الشّيخ في بعض كتبه (4)،و به قال عبد اللّه بن عبّاس (5)،و قال في الخلاف:لا بأس به (6).و هو قول أكثر الفقهاء (7)،و للشّافعيّ قولان (8).
لنا:ما رواه ابن بابويه،عن الصّادق عليه السّلام،قال:(من توضّأ و تمندل كتبت له حسنة،و من توضّأ و لم يتمندل حتّى يجفّ وضوؤه كتبت له ثلاثون) (9).
احتجّ الشّيخ بما رواه في الصّحيح عن محمّد بن مسلم قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المسح بالمنديل قبل أن يجفّ؟قال:(لا بأس به) (10).
و الجواب:انّا نقول به،فإنّ (11)نفي البأس يفهم منه نفي التّحريم،و أيضا:يدلّ على ما
ص:310
قلناه:قول أمير المؤمنين عليه السّلام لولده محمّد لمّا وصف له الوضوء:(يا محمّد،من توضّأ مثل ما توضّأت و قال مثل ما قلت،خلق اللّه له من كلّ قطرة ملكا يقدّسه و يسبّحه و يهلله و يكبّره و يكتب له ثواب ذلك) (1)و مع التّمندل يزول التّقاطر .
،لما روى الحسن بن عليّ الوشّاء،قال:
دخلت على الرّضا عليه السّلام و بين يديه إبريق يريد أن يتهيّأ منه للصّلاة فدنوت منه لأصبّ عليه فأبى ذلك و قال:(مه يا حسن)فقلت له:لم تنهاني أن أصبّ على يدك،تكره أن أوجر؟قال:(تؤجر أنت و أوزر أنا)فقلت له:فكيف ذلك؟فقال:(أما سمعت اللّه يقول فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (2)و ها أنا ذا أتوضّأ للصّلاة و هي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد» (3).
و في طريق هذه الرّواية إبراهيم بن إسحاق الأحمر (4)و فيه ضعف (5)إلاّ انّ الأصحاب عملوا بمضمونها.
و لأنّ صفة وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام اشتملا على ترك الاستعانة (6).
و لأنّ فيه زيادة مشقّة في تحصيل أمر مطلوب شرعا،فيكون فيه زيادة ثواب و مع الاستعانة يفقد ذلك القدر.
،و يستحبّ دخوله بمئزر
ص:311
و إن لم يره غيره.
روى الشّيخ عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن آبائه،عن أمير المؤمنين عليهم السّلام،قال:(إذا تعرّى أحدكم نظر إليه الشّيطان فطمع فيه فاستتروا) (1).
و عن حمزة بن أحمد،عن أبي الحسن الأوّل،قال:سألته أو سأله غيري عن الحمّام؟ قال:(أدخله بمئزر و غضّ بصرك و لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها ماء الحمّام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزّنا و النّاصب لنا أهل البيت و هو شرّهم) (2).
و عن مسمع،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّه نهى أن يدخل الرّجل إلاّ بمئزر (3).
و روى عن أبي بصير،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:يغتسل الرّجل بارزا؟ فقال:(إذا لم يره أحد فلا بأس) (4).و روى في الصّحيح عن حريز،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:(لا ينظر الرّجل إلى عورة أخيه) (5).
و روى ابن بابويه،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،قال:(من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلاّ بمئزر) (6).
و نهى عليه السّلام عن الغسل تحت السّماء إلاّ بمئزر،و نهى عن دخول الأنهار إلاّ بمئزر، و قال:(انّ للماء أهلا و سكّانا) (7).
و روى عن حنّان بن سدير (8)،عن أبيه،قال:قال:دخلت أنا و أبي و جدّي و عمّي
ص:312
حمّاما في المدينة فإذا رجل في بيت المسلخ،فقال لنا:(ممّن القوم؟)فقلنا:من العراق، فقال:(و أيّ العراق؟)فقلنا:كوفيّون،فقال:(مرحبا بكم يا أهل الكوفة و أهلا،أنتم الشّعار دون الدّثار)ثمَّ قال:(ما يمنعكم من الإزار؟فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:عورة المؤمن على المؤمن حرام)قال:فبعث عمّي إلى كرباسة (1)فشقّها بأربعة ثمَّ أخذ كل واحد منّا واحدا ثمَّ دخلنا فيها فلمّا كنّا في البيت الحار صمد لجدّي،فقال:
(يا كهل ما يمنعك من الخضاب؟)فقال له جدّي:أدركت من هو خير منّي و منك لا يختضب،فقال:(و من ذلك الّذي هو خير منّي)قال:أدركت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،و لا يختضب فنكس رأسه و تصابّ عرقا و قال:(صدقت و بررت)ثمَّ قال:
(يا كهل إن تخضب فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد خضب و هو خير من عليّ عليه السّلام،و إن تترك فلك بعليّ عليه السّلام أسوة)قال:فلمّا خرجنا من الحمّام سألنا عن الرّجل في المسلخ فإذا هو عليّ بن الحسين و معه ابنه محمّد الباقر عليهما السّلام (2).
و قد اشتمل هذا الحديث على فوائد:
إحداها:الأمر بالمعروف برفق.
الثّانية:تحريم النّظر إلى عورة المؤمن.
الثّالثة:الأمر بالخضاب.
الرّابعة:جواز دخول الرّجل و ابنه الحمّام.
الخامسة:الدّلالة على متابعة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أفعاله.
و يستحبّ الدّعاء،روى ابن بابويه عن محمّد بن حمران (3)قال:قال الصّادق عليه السّلام:(إذا دخلت الحمّام فقل في الوقت الّذي تنزع ثيابك:اللّهمّ انزع عنّي ربقة النّفاق و ثبّتني على الإيمان،فإذا دخلت البيت الأوّل فقل:اللّهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ نفسي
ص:313
و أستعيذ بك من أذاه،و إذا دخلت البيت الثّاني فقل:اللّهمّ أذهب عنّي الرّجس النّجس و طهّر جسدي و قلبي،و خذ من الماء الحارّ وضعه على هامتك و صبّ منه على رجليك،و إن أمكن أن تبلع منه جرعة فافعل فإنّه ينقي المثانة،و البث في البيت الثّاني ساعة،فإذا دخلت البيت الثّالث فقل:نعوذ باللّه من النّار و نسأله الجنّة،تردّدها إلى وقت خروجك من البيت الحارّ،و إيّاك و شرب الماء البارد و الفقاع في الحمّام فإنّه يفسد المعدة،و لا تصبّنّ عليك الماء البارد فإنّه يضعف البدن،و صبّ الماء البارد على قدميك إذا خرجت فإنّه يسلّ الدّاء من جسدك،فإذا لبست ثيابك فقل:اللّهمّ ألبسني التّقوى و جنّبني الرّدى،فإذا فعلت ذلك أمنت من كلّ داء) (1).
و روى،عن محمّد بن مسلم انّه سأل أبا جعفر عليه السّلام،فقال:أ كان أمير المؤمنين عليه السّلام ينهى عن قراءة القرآن في الحمّام؟فقال:(لا،إنّما نهى أن يقرأ الرّجل و هو عريان،فإذا كان عليه إزار فلا بأس) (2).
و قال عليّ بن يقطين لموسى بن جعفر عليه السّلام،أقرأ في الحمّام و أنكح فيه؟قال:
(لا بأس) (3).
و قد ورد ذمّ و مدح في الحمّام،قال أمير المؤمنين عليه السّلام:(نعم البيت الحمّام تذكّر فيه النّار و يذهب بالدّرن) (4).
و قال عليه السّلام:(بئس البيت الحمّام يهتك السّتر و يذهب بالحياء) (5).
و قال الصّادق عليه السّلام:(بئس البيت الحمّام يهتك السّتر و يبدي العورة،و نعم البيت بيت الحمّام يذكّر حرّ جهنم) (6).
و من الأدب:أن لا يدخل الرّجل ولده معه الحمّام فينظر إلى عورته.
ص:314
و قال الصّادق عليه السّلام:(لا تتّك في الحمّام فإنّه يذيب شحم الكليتين،و لا تسرح في الحمّام فإنّه يرفق الشّعر،و لا تغسل رأسك بالطّين فإنّه يسمج الوجه،و لا تدلك بالخزف فإنّه يورث البرص،و لا تمسح وجهك بالإزار فإنّه يذهب بماء الوجه) (1).
و روي انّ المرأة بذلك طين مصر و خزف الشّام.
و قال أبو الحسن موسى عليه السّلام:(لا تدخلوا الحمّام على الرّيق،و لا تدخلوه حتّى تطعموا شيئا) (2).
و قال عليه السّلام:(الحمّام يوم و يوم لا،يكثر اللّحم،و إدمانه كلّ يوم يذيب شحم الكليتين) (3).
و دخل الصّادق عليه السّلام الحمّام،فقال له صاحب الحمّام:نخلّيه لك؟فقال:
(لا،انّ المؤمن خفيف المؤنة) (4).
و قال الصّادق عليه السّلام:(غسل الرّأس بالخطميّ في كلّ جمعة أمان من البرص و الجنون) (5).
و قال عليه السّلام:(غسل الرّأس بالخطميّ ينفي الفقر و يزيد في الرّزق) (6).
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام:(غسل الرّأس بالخطميّ يذهب بالدّرن و ينفي الأقذاء (7)) (8).(و انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اغتمّ فأمره جبرئيل عليه السّلام أن
ص:315
يغسل رأسه بالسّدر،و كان ذلك سدرا من سدرة المنتهى) (1).
و قال أبو الحسن موسى عليه السّلام:(غسل الرّأس بالسّدر يجلب الرّزق جلبا) (2).
و قال الصّادق عليه السّلام:(اغسلوا رءوسكم بورق السّدر،فإنّه قدّسه كلّ ملك مقرّب و كلّ نبيّ مرسل) (3).
و خرج الحسن بن عليّ عليه السّلام،فقال له رجل:طاب استحمامك،فقال له:
(يا لكع و ما تصنع بالاست هاهنا؟)قال:فطاب حمّامك،فقال:(إذا طاب الحمّام فما راحة البدن منه)؟!قال:فطاب حميمك،فقال:(ويحك،أما عرفت انّ الحميم عرق) فقال:فكيف أقول؟قال:(قل:طاب منك ما طهر،و طهر منك ما طاب) (4).
حلق العانة مستحبّ،روى ابن بابويه عن أبي الحسن موسى عليه السّلام:(ألقوا الشّعر عنكم فإنّه نجس) (5).
و كان الصّادق عليه السّلام يطلي في الحمّام،فإذا بلغ موضع العورة قال للّذي يطلي:
(تنحّ)ثمَّ يطلي هو ذلك الموضع (6).
قال ابن بابويه:و من أطلى فلا بأس أن يلقي المئزر عنه،لأنّ النّورة ستر (7).
ص:316
و السّنّة إزالتها بالنّورة،قال أمير المؤمنين عليه السّلام:(النّورة طهور) (1).
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام:(أحبّ للمؤمن أن يطلي في كلّ خمسة عشر يوما) (2).
و قال الصّادق عليه السّلام:(السّنّة في النّورة في كلّ خمسة عشر يوما فإن أتت عليك عشرون يوما و ليس عندك فاستقرض على اللّه عز و جلّ) (3).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر،فلا يترك عانته فوق أربعين يوما،و لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه و اليوم الآخر أن تدع ذلك منها فوق عشرين يوما) (4).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(احلقوا شعر البطن للذّكر و الأنثى) (5).
و كان الصّادق عليه السّلام يطلي إبطيه في الحمّام،و يقول:(نتف الإبط يضعف المنكبين،و يوهي و يضعف البصر) (1)و قال عليه السّلام:(حلقه أفضل من نتفه، و طليه أفضل من حلقه) (2)و المقصود إنّما هو الإزالة فمهما حصلت،حصلت الأفضليّة،و مع ذلك فينبغي الإزالة بالنّورة لما ورد فيها من الفضل (3).
لما فيه من التّحسين و التّزيين،و لما رواه ابن بابويه،عن الصّادق عليه السّلام،قال:(أخذ الشّعر من الأنف يحسّن الوجه) (4).
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(الشّعر الحسن من كسوة اللّه تعالى فأكرموه) (5).
و قال عليه السّلام:(من اتّخذ شعرا فليحسن ولايته أو ليجزّه) (6).
و قد روي خلاف ذلك،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لرجل:(احلق،فإنّه يزيد في جمالك) (7)و يحتمل انّ المراد هاهنا ما دلّ عليه اللّفظ صريحا و هو التّخصيص لمعرفته بحال المأمور من زيادة جماله بحلق شعره.
و قال الرّضا عليه السّلام:(قلّموا أظفاركم يوم الثّلاثاء،و استحمّوا يوم الأربعاء، و أصيبوا من الحجامة حاجتكم يوم الخميس،و تطيّبوا بأطيب طيبكم يوم الجمعة) (1).
و قال الحسين بن أبي العلاء للصّادق عليه السّلام:ما ثواب من أخذ من شاربه و قلّم أظفاره في كلّ جمعة؟قال:(لا يزال مطهّرا إلى الجمعة الأخرى) (2).
و قال الصّادق عليه السّلام:(من قصّ أظافيره يوم الخميس و ترك واحدا ليوم الجمعة، نفى اللّه عنه الفقر) (3).
و قال عبد اللّه بن أبي يعفور للصّادق عليه السّلام:جعلت فداك،يقال:ما استنزل الرّزق بشيء مثل التّعقيب ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس؟فقال:(أجل،و لكن أخبرك بخير من ذلك،أخذ الشّارب و تقليم الأظفار يوم الجمعة) (4)و تقليم الأظفار يوم الخميس يدفع الرّمد.
و قال الباقر عليه السّلام:(من أخذ من أظفاره كلّ خميس لم يرمد ولده) (5).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(من قلّم أظفاره يوم السّبت و يوم الخميس و أخذ من شاربه،عوفي من وجع الضّرس و وجع العين) (6).
و قال عليه السّلام:(انّ المجوس جزّوا لحاهم و وفروا شواربهم،و إنّا نجزّ الشّوارب و نعفي اللّحى و هي الفطرة) (1).
و قال الصّادق عليه السّلام:(أخذ الشّارب من الجمعة إلى الجمعة أمان من الجذام) (2).
و قال الصّادق عليه السّلام:(قصّها إذا طالت) (3).
و قال موسى بن بكر (4)له عليه السّلام:انّ أصحابنا يقولون:إنّما أخذ الشّارب و الأظفار يوم الجمعة،فقال:(سبحان اللّه خذها إن شئت في يوم الجمعة و إن شئت في سائر الأيّام) (5).
و روى عبد الرّحيم القصير (6)،عن الباقر عليه السّلام،قال:(من أخذ من أظفاره و شاربه كلّ جمعة،و قال حين يأخذه:بسم اللّه و باللّه و على سنّة محمّد و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله،لم تسقط منه قلامة و لا جزازة إلاّ كتب اللّه عزّ و جلّ له بها عتق نسمة و لم يمرض إلاّ مرضه الّذي يموت فيه) (7).
ص:320
،و لأنّ فيه تحسينا،و قال الصّادق عليه السّلام:(من اتّخذ شعرا و لم يفرقه،فرقه اللّه بمنشار من نار) (1).
و يستحبّ التّمشّط (2)،سئل أبو الحسن الرّضا عليه السّلام عن قوله عز و جلّ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (3)؟قال:(من ذلك التّمشّط عند كلّ صلاة) (4).
و قال الصّادق عليه السّلام:(مشط الرّأس يذهب بالوباء،و مشط اللّحية يشدّ الأضراس) (5).
و قال الصّادق عليه السّلام:(من سرّح لحيته سبعين مرّة و عدّها مرّة مرّة،لم يقربه الشّيطان أربعين يوما) (6).
روى ابن بابويه،عن الصّادق عليه السّلام،قال:(يدفن الرّجل شعره و أظافيره إذا أخذ منها و هي سنّة) (8)قال:و روي انّ من السّنّة دفن الشّعر و الظّفر و الدّم (9).
،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(من أطلى و اختضب بالحنّاء،آمنه اللّه عزّ و جلّ من ثلاث خصال:الجذام،و البرص،و الأكلة،إلى طلية مثلها) (10).
ص:321
و قال الصّادق عليه السّلام:(الحنّاء على أثر النّورة أمان من الجذام و البرص) (1).
و روي انّ من أطلى فتدلّك (2)بالحنّاء من قرنه إلى قدمه،نفي اللّه عنه الفقر) (3).
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(اختضبوا بالحنّاء،فإنّه يجلي البصر،و ينبت الشّعر،و يطيّب الرّيح،و يسكّن الزّوجة) (4).
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام:(الخضاب هدى محمّد صلّى اللّه عليه و آله،و هو من السّنّة) (5).
و قال الصّادق عليه السّلام:(لا بأس بالخضاب كلّه) (6).
و سأل محمّد بن مسلم أبا جعفر عليه السّلام عن الخضاب؟فقال:(كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخضب و هذا شعره عندنا) (7).
و قال الصّادق عليه السّلام:(الخضاب بالسّواد انس للنّساء،و مهابة للعدوّ) (8).
و قال عليه السّلام في قوله تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (9)قال:
(منه الخضاب بالسّواد) (10).
و روى ابن بابويه انّ رجلا دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد صفّر لحيته، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(ما أحسن هذا؟)ثمَّ دخل عليه بعد ذلك و قد أقنى
ص:322
بالحنّاء،فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و قال:(هذا أحسن من ذاك)ثمَّ دخل عليه بعد ذلك و قد خضب بالسّواد فضحك إليه،فقال:(هذا أحسن من ذاك و ذاك) (1).
و قال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام:(يا عليّ،درهم في الخضاب أفضل من ألف درهم في غيره في سبيل اللّه،و فيه أربع عشرة خصلة:يطرد الرّيح من الأذنين،و يجلو البصر،و يلين الخياشيم،و يطيّب النّكهة،و يشدّ اللّثة،و يذهب بالضّنى،و يقلّ وسوسة الشّيطان،و تفرح به الملائكة،و يستبشر به المؤمن،و يغيظ به الكافر،و هو زينة، و طيب،و يستحيي منه منكر و نكير،و هو براءة له في قبره) (2).
،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(الشّيب نور فلا تنتفوه) (3).
و كان عليّ عليه السّلام لا يرى بجزّ الشّيب بأسا،و يكره نتفه (4).
و قال الصّادق عليه السّلام:(لا بأس بجزّ الشّمط (5)و نتفه،و جزّه أحبّ إليّ من نتفه) (6).
و قال عليه السّلام:(من شاب شيبة في الإسلام،كانت له نورا يوم القيامة) (7).
و قال عليه السّلام:(أوّل من شاب،إبراهيم الخليل عليه السّلام و انّه ثنى لحيته فرأى طاقة بيضاء،فقال:يا جبرئيل،ما هذا؟فقال:هذا وقار،فقال إبراهيم:اللّهمّ زدني وقارا) (8).
و يستحبّ قصّ ما زاد على القبضة من اللّحية،قال الصّادق عليه السّلام:(تقبض
ص:323
بيدك على اللّحية و تجزّ ما فضل) (1).
و قال عليه السّلام:(ما زاد من اللّحية على القبضة فهو في النّار) (2)و هذا بعد سلامة السّند يدلّ على تأكّد الاستحباب لا الوجوب.
ص:324