تفسير الصراط المستقيم المجلد 5

اشارة

سرشناسه : بروجردی، حسین بن رضا، ق 1276 - 1238

عنوان و نام پديدآور : تفسیر الصراط المستقیم/ تالیف حسین البروجردی؛ صححه و علق علیه غلامرضابن علی اکبر البروجردی

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان، 1416ق. = - 1374.

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عنوان دیگر: صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم

موضوع : تفاسیر (سوره فاتحه)

موضوع : تفاسیر (سوره بقره)

موضوع : تفسیر

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن ق 13

شناسه افزوده : مولانا بروجردی، غلامرضا، مصحح

رده بندی کنگره : BP102/ب 4ت 7

رده بندی دیویی : 297/18

شماره کتابشناسی ملی : م 75-2634

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تتمة سورة البقرة

تفسير الآية 28

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ استفهام فيه إنكار و تعجب، و توبيخ لهم على كفرهم، و الخطاب لهم على سبيل الالتفات تسجيلا لكفرهم بما قدّمت لهم أنفسهم.

(و كيف) اسم وضع للسؤال عن الحال الّتي يكون عليها الشّي ء، و اشتقّوا منه الكيفيّة كما اشتقّوا الكميّة من الكم على وجه الانتساب، و إنكار الحال يدلّ على إنكار ذي الحال على وجه أبلغ، و حيث إنّه حقيقة أو ظاهر و لو بمعونة المقام في السّؤال عن جميع الأحوال فالمعنى أنّه لا يصحّ و لا ينبغي أن يوجد حال ما لكفركم و قد علمتم ذلك بضرورة عقولكم فأخبروني على أيّ حالّ تكفرون و الحال أنّكم كنتم أمواتا؟

وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً أعداما محضة لا حظّ لها من التقرير و الثبوت بحسب الماهيّة و الوجود في شي ء من العوالم الكونيّة و الإمكانيّة، كما قال: أَ وَ لا يَذْكُرُ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 6

الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً «1» أو فاقدين للوجودات الكونيّة و إن كنتم متميّزين باعتبار التقريرات الإمكانية بناء على أنّها أمور اعتبارية كما قيل، أو باعتبار كونها مجعولة بالمشيّة الإمكانية على وجه ليس لها حدّ و نهاية كما هو الحقّ أو أجساما لا حياة لها قطرات مزنية أو سجينيّة، و رشحات سحابيّة، و بسائط عنصريّة، و اغذية حيوانيّة، و اخلاطا بدنيّة و نطفا أمشاجيّة، و مضغا مخلّقة و غير مخلّقة، و عظاما باللّحم مكسوّة، أو فاقدين للعلم و الشعور و الإدراك الذي به الحياة الانسانية كما قال: وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ «2» أو للايمان و التصديق الذي به

الحياة الحقيقيّة الابديّة كما قال: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ «3»، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «4»، أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «5»، أو خاملي الذكر، بناء على ما قيل: من أنّ العرب تسمّي كلّ أمر خامل ميّتا و كلّ أمر مشهور حيّا قال:

فأحييت عن ذكري و ما كان خاملا و لكن بعض الذكر أنبه من بعض فَأَحْياكُمْ خلقكم بالمشيّة الإمكانية ثمّ بالمشيّة الكونيّة ثمّ فطر عقولكم و أبدع نفوسكم و ركب أرواحكم و أنشأ أبدانكم خلقا من بعد خلق إلى أن أنشأكم خلقا آخر على ما جرى به القدر، و جعل لكم السمع و الأبصار و القدرة و الاختيار، و علّمكم بعد الجهالة الجهلاء و نجّاكم من الضلالة الظّلماء، و هداكم إلى المحجّة البيضاء، و كنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها و نشر ذكركم و رفع قدركم بعد

__________________________________________________

(1) مريم: 67.

(2) النّحل: 78.

(3) يس: 70.

(4) النمل: 80.

(5) الانعام: 122.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 7

أن كنتم مستضعفين في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس فآواكم و أيّدكم بنصره.

ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم الطّبيعيّة و الاختراميّة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للسؤال في القبور و للبعث و النشور يوم ينفخ في الصور ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، بالنشور للحساب أو بالمصير إلى الجزاء من الثواب أو العقاب.

و إنّما عطف الأوّل بالفاء الدّالة على الاتّصال و الباقي بثمّ الدّالة على التّراخي، لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقّب الموت الّذي طرى عليه الحياة بشي ء من الوجوه المتقدّمة بغير تراخ لاعتبار المقابلة في معنييهما على ما سمعت، فانّ الإحياء قد ترتّب على كونهم أمواتا الصّادق على ما قبل الإحياء و إن كان له أزمنة

غير متناهية متحققة أو موهومة من جهة المبدء، و أمّا الموت فقد تراخى عن الإحياء كما أنّ الإحياء الثّاني في القبر أو الحشر متراخ عن الموت، و كذا الرّجوع على الوجهين.

و الموت عدم الحياة مطلقا او عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة، و يتقابلان بالمعاني المتقدّمة، و الحقّ أنّهما مخلوقان لقوله: خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ «1» و لما ورد من ذبح الموت بين الجنّة و النّار «2»، نعم الموت بالمعنى الأوّل و هو العدم الأزلي المطلق المستمرّ غير مخلوق و لا مجعول.

و الكفر في الآية يشمل كفر الجحود و العناد و الاعتقاد و العصيان، فيكون الخطاب للمؤمنين و المنافقين و الكفّار، و يحتمل الإختصاص بالأخيرين على ما مرّ، و بعضهم و إن أنكر حياة القبر و البعث في الحشر و انّه إليه يرجع الأمر، إلّا أن تمكّنهم عن تحصيل العلم بها بعد نصب الدّلائل و إخبار الرسل و تظافر الحجج و شهادة العقول نزّلها عندهم منزلة الأمور المعلومة الّتي لا يحوم حولها شبهة و ريبة، مع أنّ

__________________________________________________

(1) الملك: 2.

(2) بحار الأنوار ج 60 ص 261.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 8

في الآية دلالة لطيفة على ما يرشدهم إلى صحّتها و التصديق بها، و هو أنّه تعالى لمّا قدر أن أحياهم أوّلا و هم حيارى في فيافي العدم قدر أن يحييهم ثانيا، فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته بل الإعادة أهون عليه.

و يحتمل الحمل على ما يشمل كفر النعمة حيث عدّد عليهم أصول النّعم، و هي الوجود و البقاء و الحياة الحقيقيّة الابديّة و الرّجوع إليه سبحانه و إن فصّلنا عن الحياة الدّنيوية بالموت،؟ و لذا؟ أعدّه أيضا من جملة النّعم

مع أنّه استراحة لقوم إذ به يحصل الفراغ عن الكدورات الحسّية و العوائق البدنيّة، و قد سمعت أنّ الآية تشمل المؤمنين أيضا بل قد يحتمل اختصاص الخطاب بهم لتقرير المنّة عليهم و تبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر منكم و أنتم عالمون باستناد جميع الشؤون إليه متوقعون لنيل جميع الخيرات من لديه.

و الواو في وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً، للحال و المعنى قد كنتم بإضمار «قد» فيه كما في قوله: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «1» فانّ الماضي لما كان بعيدا عن الحال توصلوا إلى تقريبه بدخول «قد» و إضماره ليصلّح لها، أو أنّ المعنى كيف تكفرون باللّه، و قصّتكم هذه و حالكم أنّكم كنتم أمواتا فأحياكم فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم و زوال الغدر عنكم.

و قرء يعقوب «2» ترجعون بفتح التّاء في جميع القرآن.

و الآية تدلّ على فساد القول بالجبر و نفي الاختيار و انّ الكفر بأقسامه من قبل العباد لأنّه لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز توبيخهم عليه مع إسناد الفعل

__________________________________________________

(1) النساء: 90.

(2) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد اللّه أبو محمد الحضرمي البصري أحد القراء العشرة مات سنة (205) ه و له (88) سنة.

غاية النهاية ج 2 ص 386.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 9

إليهم في قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ كما أنّه لا يجوز إسناد الفعل إليهم و لا ذمّهم في الأفعال الخلقية كالطول و القصر و الملاحة و القباحة فلا يقال كيف تكونون طوالا و قصارا، ضرورة أنّه يقبح من الحكيم أن يخلق فيهم الكفر و يقول لهم: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، و يمنعهم عن الايمان و يقول لهم: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا* «1»، فَما

لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «2»، و يخلق فيهم الإعراض و الإفك فيقول فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «3»، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* «4» إلى غير ذلك من التقريعات الغريبة و التوبيخات الشديدة على أنّ النّعمة التي منّ بها عليهم في الآية لا تكون نعمة لهم حقيقة بل نقمة عليهم حيث أنّه أوجب عليهم بما خلق فيهم و أجبرهم عليه العذاب الدّائم و الخسار اللازم مثل من قدم إلى غيره طعاما مسموما له حلاوة ظاهرة و أجبره على أكله فانّه لا يعدّ نعمة منه، و هذا ظاهر جدّا.

و أمّا ما يقال: من أنّ الاستدلال بهذه الوجوه و نظائرها يرجع إلى التمسك بطريقة المدح و الذّم و الأمر و النهي و الثّواب و العقاب، و نحن أيضا نقابلها بشبهة العلم الأزلي المتعلّق بكفرهم فلو لم يقع لا نقلب علمه جهلا و هو محال و مستلزم المحال محال، و بأنّ القدرة على الكفر كانت صالحة للإيمان و امتنع كونها مصدرا لشي ء منهما إلّا لمرجّح راجع إلى العبد و هو محال على ما قرّروه أو إلى اللّه تعالى و هو المطلوب.

ففيه أنّه و إن افتخر بعض المشككين من أحزاب الشياطين حتّى قال إمامهم الرّازي: «إنّ المعتزلي إذا طوّل كلامه و فرّع وجوهه في المدح و الذّم فعليك بمقابلتها

__________________________________________________

(1) الإسراء: 94.

(2) الانشقاق: 20.

(3) المدثر: 49.

(4) الانعام: 95.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 10

بهذين الوجهين فانّهما يهدمان جميع كلماته و يشوّشان كلّ شبهاته» «1».

إلّا أنّ الجواب عنهما واضح مشهور و في أصول الاماميّة مسطور و قد أشرنا إليه فيما تقدّم عند تفسير آية الختم و غيرها، و أمّا الاستدلال بها على التجسّم بظهور الرّجوع إليه في التّحيز، و على بطلان

عذاب القبر بحمل قوله ثُمَّ يُحْيِيكُمْ على الحياة الاخروية، كما هو أحد الوجهين فضعيف جدّا للمنع عن الظهور إذ المراد الرجوع إلى أمره و حكمه و لذا يسمّى الحشر رجوعا إليه تعالى كما قال: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ «2» و ذلك لأنّه رجوع إلى حيث لا يتوّلى الأمر و الحكم غيره تعالى و لذا قال: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ «3»، وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ «4»، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «5»، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «6».

و أمّا نفي عذاب القبر فليس فيها إشعار عليه بشي ء من الدّلالات إلّا من جهة عدم التعرض الذي هو أعمّ منه.

مع أنّ فيه دلالة على الحياة البرزخيّة كما هو الوجه الأظهر فيها، مضافا إلى أنّه هو المصرّح به في تفسير الامام عليه السّلام للآية حيث قال عليه السّلام: أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكفّار قريش، و اليهود كيف تكفرون باللّه الّذي دلّكم على طرق الهدى و جنّبكم إن أطعتموه سبل الردى وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً في أصلاب آبائكم و أرحام أمّهاتكم

__________________________________________________

(1) تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 151.

(2) الانعام: 62.

(3) الغاشية: 25.

(4) ق: 43.

(5) الشورى: 53.

(6) الانفطار: 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 11

فَأَحْياكُمْ أخرجكم أحياء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ في هذه الدّنيا و يقبركم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في القبور، و ينعم فيها المؤمنون «1» بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ولاية عليّ عليه السّلام، و يعذّب فيها الكافرون «2» بهما، ثمّ إليه ترجعون في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد ثمّ تجيئوا «3» للبعث يوم القيامة، ترجعون

إلى ما وعدكم من الثّواب على الطاعات إن كنتم فاعليها، و من العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها «4».

فقيل له: يا رسول اللّه ففي القبر «5» نعيم و عذاب؟ قال: أي و الّذي بعث محمّدا بالحق نبيّا و جعله زكيّا هاديا مهديّا و جعل أخاه عليّا بالعهد وفيّا، و بالحق مليّا و لدى اللّه مرضيّا، و إلى الجهاد سابقا و للّه في أحواله موافقا، و للمكارم حائزا، و بنصر اللّه على أعدائه فائزا، و للعلوم حاويا و لأوليائه مواليا و لأعدائه معاديا «6» و بالخيرات ناهضا «7»، و للقبائح رافضا و للشيطان مخزيا، و للفسقة المردة مقصيا «8» و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله نفسا، و بين يديه لدى المكاره جنّة و ترسا، آمنت به أنا و أخي علي بن أبي طالب عبد ربّ الأرباب، المفضّل على أولي الألباب، الحاوي لعلوم الكتاب، زين من يوافي يوم القيامة في عرصات الحساب بعد محمّد صفي الكريم العزيز الوهاب، إنّ في القبر نعيما يوفّر اللّه به حظوظ أوليائه، و إنّ في القبر عذابا يشدّد اللّه به على أشقياء أعدائه، إن المؤمن الموالي لمحمّد و آله الطيبين المتّخذ لعلي بعد محمّد إمامه

__________________________________________________

(1) في تفسير البرهان: المؤمنين.

(2) في تفسير البرهان: الكافرين.

(3) في تفسير البرهان: تحيوا.

(4) البرهان ج 1 ص 72.

(5) في البحار: ففي القبور.

(6) في البحار: مناويا.

(7) في البحار: ناويا.

(8) في تفسير العسكري المطبوع: مغضبا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 12

الّذي يحتذي مثاله، و سيّده الذي يصدّق أقواله، و يصوّب أفعاله، و يطيعه بطاعة من يندبه من أطائب ذريته لأمور الدين و سياسته إذا حضره من أمر اللّه ما لا

يردّ، و نزل به من قضاء اللّه ما لا يصدّ، و حضره ملك الموت و أعوانه وجد عند رأسه محمّدا رسول اللّه من جانب، و من جانب آخر عليّا سيّد الوصيّين، و عند رجليه من جانب الحسن سبط سيّد النّبيّين، و من جانب آخر الحسين سيّد الشّهداء أجمعين، و حواليه بعدهم خيار خواصّهم و محبّيهم الذين هم سادة هذه الأمّة بعد ساداتهم، من آل محمّد، ينظر إليهم العليل المؤمن فيخاطبهم بحيث يحجب اللّه صوته عن آذان حاضريه كما يحجب رؤيتنا أهل البيت و رؤية خواصّنا عن عيونهم، ليكون ايمانهم بذلك أعظم ثوابا لشدّة المحنة عليهم فيه فيقول المؤمن: بأبي أنت و أمّي يا رسول ربّ العزّة، بابي أنت و أمّي يا وصيّ رسول الرحمة، بأبي أنتما و أمّي يا شبلي محمّد و ضرغاميه، و يا ولديه و سبطيه، و يا سيّديّ شباب أهل الجنّة المقربين من الرحمة و الرّضوان، مرحبا بكم معاشر خيار أصحاب محمّد و عليّ و ولديهما، ما كان أعظم شوقي إليكم، و ما أشدّ سروري الأن بلقائكم، يا رسول اللّه هذا ملك الموت قد حضرني و لا أشكّ في جلالتي في صدري لمكانك و مكان أخيك منّي، فيقول:

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا ملك الموت استوص بوصيّة اللّه في الإحسان إلى مولانا و خادمنا و مؤثرنا، فيقول ملك الموت: يا رسول اللّه مره أن ينظر إلى ما قد أعدّ له في الجنان، فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنظر فينظر إلى العلو و ينظر إلى ما لا يحيط به الألباب و لا يأتي عليه العدد و الحساب، فيقول ملك الموت: كيف لا أرفق بمن ذلك ثوابه هذا

محمّد و عترته زوّاره يا رسول اللّه لو لا أنّ اللّه تعالى جعل الموت عقبة لا يصل إلى تلك الجنان إلّا من قطعها لما تناولت روحه، و لكن لخادمك هذا و محبّك أسوة بك و بسائر أنبياء اللّه و رسله و أوليائه الذين أذيقوا الموت بحكم اللّه تعالى.

ثمّ يقول محمّد صلّى اللّه عليه و آله: يا ملك الموت هاك أخاه قد سلّمناه إليك فاستوص به

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 13

خيرا ثمّ يرتفع هو و من معه إلى روض الجنان و قد كشف عن الغطاء و الحجاب لعين ذلك المؤمن العليل، فيراهم المؤمن هناك بعد ما كانوا حول فراشه فيقول يا ملك الموت الوحا «1» تناول روحي و لا تلبثني هاهنا فلا صبر لي عن محمّد و عترته و الحقني بهم فعند ذلك يتناول ملك الموت روحه فيسلّها كما يسلّ الشعرة من الدقيق، و ان كنتم ترون أنّه في شدّة فليس في شدّة بل هو في رخاء و لذّة، فإذا أدخل قبره وجد جماعتنا هناك، و إذا جاء منكر و نكير قال أحدهما للآخر: هذا محمّد و عليّ و الحسن و الحسين و خيار أصحابهم بحضرة صاحبنا فلنتّضع «2» لهم «3» فيأتيان و يسلّمان على محمّد سلاما تامّا منفردا ثمّ يسلّمان على عليّ عليه السّلام سلاما تامّا منفردا «4» ثمّ يسلّمان على ساير من معنا من أصحابنا ثمّ يقولان قد علمنا يا رسول اللّه زيارتك في خاصّتك لخادمك و مولاك و لو لا أنّ اللّه يريد اظهار فضله لمن بهذه الحضرة من أملاكه و من يسمعنا من ملائكته بعدهم لما ساءلناه و لكن أمر اللّه لا بدّ من امتثاله، ثمّ يسألانه فيقولان: من ربّك

و ما دينك و من نبيّك و من إمامك و ما قبلتك «5» و من إخوانك؟ فيقول: اللّه ربّي، و محمّد نبيّي و عليّ وصيّي محمد إمامي، و الكعبة قبلتي، و المؤمنون الموالون لمحمّد و عليّ و اوليائهما و المعادون لأعدائهما إخواني، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله و انّ أخاه عليّا وليّ اللّه، و أنّ من نصبهم للامامة من أطائب عترته و خيار ذرّيته و خلفاء الامّة و ولاة الحقّ و القوّامون بالعدل «6» فيقولان: على هذا حييت و على هذا

__________________________________________________

(1) كلمة تقال في الاستعجال و معناه: البدار البدار.

(2) أي فلنتذلل و لنخشع.

(3) في البحار: لهما.

(4) في البحار: ثم يسلّمان على الحسين سلاما يجمعانهما.

(5) في البحار: و من شيعتك و من إخوانك؟

(6) في البحار: بالصدق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 14

متّ و على هذا تبعث ان شاء اللّه و تكون مع من تتولّاه في دار كرامة اللّه و مستقرّ رحمته.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن كان لأوليائنا معاديا و لأعدائنا مواليا و لأضدادنا بألقابنا ملقّبا فإذا جاءه ملك الموت لنزع روحه مثّل اللّه لذلك الفاجر سادته الّذين اتّخذهم أربابا من دون اللّه عليهم من أنواع العقاب ما يكاد نظره إليهم يهلكه، لا يزال يصل إليه من حرّ عذابهم ما لا طاقة له به، فيقول له ملك الموت: أيّها الفاجر الكافر تركت أولياء اللّه إلى أعدائه فاليوم لا يغنون عنك شيئا، و لا تجد إلى مناص سبيلا، فيرد عليه من العذاب ما لو قسّم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم، ثمّ إذا أدنى في قبره

رأى بابا من الجنّة مفتوحا إلى قبره، فيرى منه خيراتها فيقول منكر و نكير، انظر إلى ما حرمته من الخيرات، ثمّ يفتح له في قبره باب من النّار و يدخل عليه منه عذابها، فيقول: يا رب لا تقم السّاعة يا ربّ لا تقم الساعة «1».

و في كتاب الكافئة للمفيد رحمه اللّه أنّه لما قدم عليّ الكوفة و جلس إليه الناس فسأل عن رجل من الصحابة كان ينزله الكوفة فقال قائل استأثر اللّه به، فقال عليه السّلام: أنّ اللّه لا يستأثر بأحد من خلقه إنّما أراد اللّه جلّ ذكره بالموت إعزاز نفسه و إذلال خلقه ثمّ قرء عليه السّلام وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 6 ص 236 و ص 176 عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام ص 210- 215.

(2) بحار الأنوار ج 32 ص 355.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 15

تفسير الآية 29

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لمّا ذكر في الآية السابقة إنعامه علينا بخلق ذواتنا و الإفاضة علينا بنور الوجود و نفخ الأرواح و التّنقل إلى الأطوار البرزخيّة و الاخرويّة عقّبها ببيان نعمة أخرى لعامّة الخلق مترتبة عليها، و هي خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم و به يتمّ معاشهم من البسيطة الغبراء و المحيطة الخضراء، و ما بينهما من الأجسام البسيطة و المركبة، و ما يتعلّق بها من القوى و الأرواح و الكيفيات و غيرها من الاعراض التي خلقت لأجل انتفاع الناس بها في دنياهم بان يتمتّعوا منها بفنون المطاعم و المشارب و المناكح و الملابس و المراكب و المساكن و المناظر و غيرها ممّا ينتفعون بها في مصالح أبدانهم و

دفع المضارّ عنها و تقويها على الطاعة و حفظ المقاصد المطلوبة و في دينهم بالنظر فيها و الاستدلال بها و بما تتضمّنه من عجائب الصّنع و غرائب البدع على الصانع الحكيم و القادر العليم.

و لذا روى الامام عليه السّلام في هذه الآية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه خلق لكم لتعتبروا به و تتوصلوا به إلى رضوانه و تتوقوا من عذاب نيرانه «1».

و الاقتصار عليه في كلامه لكونه الأهم الاعمّ من الانتفاعين، و إلّا فالآية بعمومها و إطلاقها تدلّ على جواز انتفاعهم بكلّ ما فيها من المنافع الخالية عن المضرّة، و لذا استدلّوا بها على أصالة الاباحة الشرعيّة حسبما قرّر في الأصول من تطابق العقل و الشرع على ذلك و فساد القول بأصالة الحظر فيها قبل ورود الشرع أو بعد بيانه عقلا أو شرعا و فساد القول بالتوقف أيضا، و بالجملة فالأشياء كلّها من الأفعال و المطاعم و غيرها على الإباحة الاصليّة بل الشرعيّة إلّا ما ورد النص فيه بالحرمة بالخصوص أو بالعموم و لو لكونه من الخبائث كما في الآية أو ممّا يضرّ في

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 72 عن تفسير الامام عليه السّلام ص 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 16

البدن.

كما في خبر المفضل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ قال عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرّم عليهم، و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحل لهم و أباحه تفضّلا

منه عليهم به لمصلحتهم و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم ثمّ اباحه للمضطر و أحلّه في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن يتناول منه بقدر البلغة لا غير ذلك «1» الخبر على ما يأتي في تحريم الخمر و أخواتها.

و ممّا يدل على الأصل المتقدم مضافا إلى الآية و آيات كثيرة تأتي الإشارة إليها قوله عليه السّلام: كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي «2» إلى غير ذلك ممّا حررناه في الأصول فلا يقدح في الأصل المزبور إمكان تطرق المناقشة في الآية بأنّ الحمل على العموم في المطلقات مشروط بعدم كون المقام مقام الإجمال و الإهمال، بل مقام البيان و ليس المقام منه إذ المقصود بيان أنّ في خلق الأشياء منفعة لكم لا بيان أنّها أي شي ء و في أي شي ء و بان «ما» و إن كان من ألفاظ العموم إلّا أنّ وجوه الانتفاع المستفادة من اللام إمّا مجمل أو مطلق فلا وجه للحمل على العموم بالنسبة إليها أيضا سيّما بعد ما مرّ في كلام الإمام عليه السّلام من تفسيره بالانتفاع في الأمور الدينية و بأنّ غاية ما تدل عليه أنّه خلق الكل للكل لا أنّه خلق كلّ شي ء ممّا في الأرض لكل فرد من أفراد الإنسان، فإذا احتمل اختصاص شي ء من المنافع بغيره و لو لأسباب طارئة لم يجز استعماله لعدم الدّليل سيّما مع ما ذكروه في مقابلة الجمع

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 65 ص 134 عن المحاسن.

(2) بحار الأنوار ج 2 ص 274.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 17

بالجمع إلى غير ذلك من المناقشات التي لا ينبغي الإصغاء إليها بعد اعتضاد الأصل المتقدم بالعقل و النقل

بل الإجماع نقلا و تحصيلا فيما يتعلق بالأعيان و غيرها مع عدم المخصص بأحد الوجهين.

هذا مضافا إلى أنّه يمكن الجواب عن الوجوه المتقدّمة بظهور ورود الآية في مقام الامتنان الذي هو أعلى مراتب البيان و لذا قالوا بافادة المفرد المنكر في مثله للعموم كما في قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً «1» و «اللام» و ان كان مطلقا من حيث جهات الانتفاع إلّا أنّ الإطلاق كاف سيّما في مقام الامتنان، و مجرّد الاقتصار في تفسير الآية على ذكر البعض غير صالح لشي ء من التقييد و التخصيص، و أمّا مقابلة الكل بالكل فلا دلالة فيها على اختصاص البعض بالبعض و إن علم ذلك من أدلّة أخرى، و لذا لزم أن يرجع في الإختصاص إلى سائر الأسباب، و به يضعف استدلال أهل الإباحة بالآية على نفي الإختصاص و رفض اسباب الملكيّة و جواز انتفاع كلّ أحد بما يجده من المطاعم و الملابس و المناكح و غيرها.

نعم يستفاد منها أنّ لكلّ شي ء ممّا في الأرض فائدة و نفعا و ان لم نعلمها بالخصوص.

و ما يقال من أنّ ما لا نفع فيه كأنواع السموم و الحيوانات الموذية من الحيّات و الأفاعي و العقارب و نحوها خارج عن ذلك ففيه أنّه ناش عن التصور و الجهالة، بما أودع اللّه فيها من الخواص الجليلة و المنافع العظيمة التي لم يزل الناس من أهل الملل و المذاهب يطّلعون عليها شيئا فشيئا على مر الدهور و الأعصار، و ناهيك في ذلك الاطلاع على جملة ممّا استنبطه أطباء الافرنج و الأندلس و حكماؤهم من الخواص الغريبة و الآثار العجيبة من تلك العقاقير و النباتات التي ربما يتوهم الجاهل

__________________________________________________

(1) الفرقان: 48.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 5، ص: 18

خلوها عن المنافع حتى من مثل السموم القاتلة و نحوها و منافع لحوم الأفاعي مفردة و مركبة مع الترياق و غيره غير خفية.

ثمّ إنّها و إن دلت على جواز الانتفاع بجميع ما في الأرض نظرا إلى وضع الموصول سيّما مع كون جَمِيعاً حالا عنه في المقام، بل و مع كونه توكيدا أيضا و ان كان احتماله في غاية البعد لقلّة التوكيد به و لخلوه عن الضّمير إذ لو كان كذا لقيل جميعه.

و بالجملة ففيها دلالة على إباحة الانتفاع بما في الأرض إلّا أنّه تختلف كيفيّة الانتفاع به باختلاف الأشياء، فقد يكون في بعضها بالأكل و في بعضها بالشرب، و في بعضها باللبس، و في بعضها بالسكون، و الزراعة و الحراثة و نحوها، فإذا كان للشي ء منفعة واحده أو كانت واحدة منها ظاهرة فلا ريب في جواز الانتفاع بها، و أمّا المنافع الغير الظاهرة و التي لم يتداول الانتفاع بها عند الناس أو ما لم يطّلعوا عليها قبل ذلك فهل يجوز الانتفاع بشي ء منها بعد الإطلاع و حصول الانتفاع وجهان بل قولان: يظهر من البعض العدم لإجمال الآية بالنسبة إلى هذه الصورة نظرا إلى بعض الوجوه المتقدّمة، و قد عرفت ضعفها، و منه يظهر أنّ الأظهر الأوّل و لذا لا ينبغي التأمّل في جواز استعمال العقاقير المختلفة في وجوه الانتفاعات التي تطّلع عليها الحكماء و غيرهم يوما فيوما على مرّ الدهور و الأعصار ممّا لم تكن متداولة في القرون السابقة و الأزمنة المتقدّمة.

و منه يظهر أيضا ضعف ما ربما يستدل بالآية على حرمة أكل الطين نظرا إلى أنّ أكله من المنافع الغير المتداولة مع أنّها أنما دلّت على إباحة ما في الأرض

لا هي نفسها إذ فيه أنّ أكل الطين و ان كان حراما في الشرع لكن الحرمة غير مستفادة من الآية لا منطوقا كما لا يخفى و لا مفهوما لعدم شي ء من المفاهيم المعتبرة و إن كان مراد القائل عدم الدّلالة على الإباحة لا اثبات الدّلالة على الحرمة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 19

و أمّا ما يقال: من أنّ المراد بالأرض جهة السفل كما أنّ المراد بالسماء جهة العلو فالمعنى خلق لكم ما في هذه الجهة المقابلة للعلو فيشمل الأرض، و انّ من جملة الأرض ما يطلق عليه أنّه في الأرض فيكون جامعا للوصفين.

ففيه مع الغض عمّا فيهما من التكلف انّه لا منفعة في أكل الطين بل المضرّة فيه واضحة جدّا كما صرّح به الأطباء و غيرهم.

بل في الخبر المحكي عن «العلل» و «المحاسن» و «الكافي» عن ابي جعفر عليه السّلام إنّ أكثر مصائد الشيطان أكل الطين إنّ أكل الطين يوجب السقم في الجسد و يهيج الداء و من أكل الطين فضعفت قوته التي كانت قبل أن يأكله و ضعف عن عمله الذي كان يعمله حوسب على ما بين ضعفه و قوته و عذب عليه «1».

و عن الصادق عليه السّلام: من أنهمك في أكل الطين فقد شرك في دم نفسه «2».

و عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه «3»، إلى غير ذلك ممّا يدل على أنّه يوقع الحكة في الجسد و يورث البواسير و يهيج السوداء و يذهب بالقوة من الساقين و القدمين و غيرها، بل الظاهر من كثير منها و المصرح به في كلام جملة من الأصحاب عدم الفرق في الحرمة بين التراب الخالص و الممزوج

بالماء.

و من الغرائب ما في «الجواهر» من اختصاص الحكم بالطين الذي هو الممزوج بالماء، و أمّا التراب الخالص فلا دليل على حرمته، بل مقتضى الأصول عدمها ضرورة خروجه عن مسمّى الطين إلى آخر «4» ما ذكره هناك حيث تفرد القول

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 60 ص 153 ح 1 عن العلل و فيه: إنّ أكل الطيب يورث السقم.

(2) العلل ص 533 و عنه البحار ج 60 ص 152 ح 8.

(3) المحاسن للبرقي ح 975 و عنه البحار ج 60 ص 154.

(4) الجواهر ج 36 ص 355- 356.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 20

بحلّية أكله مستدلا له بما لا دلالة فيه أصلا فلاحظ و تأمّل إذ من البيّن أنّه و إن كان الحكم في الاخبار معلّقا على الطين الذي هو ظاهر في المخلوط بالماء لكن المستفاد من الاخبار في المقام إرادة مطلق التراب عنه كما انّه المراد أيضا في استثناء طين قبر الحسين عليه السّلام بل و كذا في طين الأرمني الذي وقع التصريح بجواز أكله في الأخبار و في كلمات الأصحاب بل الأطباء ذكروا في باب الأدوية المفردة الطين المطلق و الطين الأرمني و المختوم و غيرها و لم يذكروا التراب أصلا بل ربّما يحصل القطع بارادة العموم من التأمل في فحاوي الأخبار الناهية عن أكله سيّما بعد ملاحظة العلل المنصوصة المشتركة بينه و بين التراب و الرّمل بل و مطلق وجه الأرض و ان من يأكل ذلك فالغالب أنّه يأكل اليابس دون المبلول بالماء.

مضافا إلى ما في «الخصال» عن أبي الحسن الأوّل قال أربعة من الوسواس:

أكل الطين، وفت الطين «1» إلخ الظاهر في إرادة اليابس منهما و لو بقرينة الفت

الذي هو الكسر.

و ما في مرفوع البرقي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن أكل المدر «2»، بل هو الظاهر أيضا من الاستثناء الوارد في المعتبرة المشتملة على حرمة أكل الطين كلّه إلّا طين القبر و طين الحائر الظاهر فيما يؤخذ من الموضع الشريف، كما هو بل لعله الظاهر أيضا ممّا دل على النهي عن بيعه، و الاستخفاف به، و التعبير في بعض الاخبار و الادعية بأنّ الشفاء في تربته «3»، و في بعضها التعبير بطين قبره، بحيث يمكن تحصيل القطع باتحاد المراد منهما الى غير ذلك من الشواهد التي يطول بذكرها

__________________________________________________

(1) الخصال ص 221 ح 46 و عنه البحار ج 6 ص 151 ح 3.

(2) البحار ج 60 ص 158 ح 28 عن معاني الاخبار ص 262.

(3) الوسائل الباب 67 من أبواب المزار ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 21

الكلام و انما أشرنا إلى شطر منها في المقام لما في القول المذكور من الغرابة.

بقي الكلام في شي ء و هو أنّه قد اختلف أهل العلم في معنى اللام في المقام و في قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» و قوله وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ «2» و غيرها مما يضاهيها.

فاصحابنا الإمامية و أكثر المعتزلة حملوها على ظاهرها من الدلالة على الغاية و الفائدة و لو باعتبار عودها إلى خلقه لا إلى ذاته الذي هو غني عن فعله فضلا عن غيره.

و أمّا الاشاعرة فقالوا أنّه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشي ء لأجل الغرض لا جرم أطلق عليه ما يدل على الغرض بقرينة المشابهة

المسوغة للتجوز، و استدلوا على نفي الغرض بأن من فعل فعلا لغرض كان مستكملا بفعل ذلك الشي ء و المستكمل بغيره ناقص لذاته.

و توهم ان فعله تعالى معلل بغرض غير عايد إليه بل إلى غيره مدفوع بأنّ عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى للّه تعالى من لا عود ذلك الغرض أو ليس أولى، فان كان الاول فهو قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور، و ان كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض للغير غرضا للّه تعالى فلا يكون مؤثرا في فعله و بان من فعل فعلا لغرض كان عاجزا عن تحصيل ذلك إلا بواسطة ذلك الفعل و العجز محال عليه سبحانه.

و بأنّه تعالى لو فعل فعلا لغرض فذلك الغرض ان كان قديما لزم قدم الفعل، و إن كان حادثا كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر و لزم التسلسل و هو محال.

__________________________________________________

(1) الذاريات: 56.

(2) هود: 119.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 22

و بأنّه تعالى لو كان لفعله غرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين و لو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك كلّف من علم أنّه لا يؤمن.

فهذه هي الوجوه التي استدلت بها الأشاعرة على نفي الغرض على ما حكاه الرازي و غيره، و قد سمعت الجواب عن الاول في تفسير الفاتحة عند البحث عن حقيقة الاستعانة مع الإشارة إلى ما ينفعك في تحقيق أصل المسألة.

و الجواب عن الثاني انّه لا دلالة فيه على العجز فانّ الحكمة قد تقتضي ترتب الغايات على المبادئ التي هي الأفعال، و ان أمكن تعلق المشيّة بنفس الغايات على أنّه ربما ينشأ عدم القبول فضلا عن

عدم الحكمة و المصلحة من خصوص المحل كما أشير إليه في الخبر المتضمن لخلق الدنيا في البيضة عن دون أن تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة «1».

و عن الثالث أنّ الفعل لغرض غير حاصل لكنّه لا يجب أن يكون لذلك الغرض غرض آخر مغاير له و لا أن يكون الغرض لنفس الفعل بل قد يكون نفسه كما في المشيّة على ما حقق في محله.

و السؤال عن سبب تخصيص بعض الازمنة دون غيره بخلقها ساقط عندنا بعد ظهور كون الازمنة من متعلقات المشية و كذا الأمكنة و غيرها من متعلقات الفعل فلا أين و لا متى و لا كيف في صقع انوجاد المشية فضلا عن إيجادها.

و عن الرابع ان التكليف في نفسه لطف و مصلحة لعامة المكلفين على ما قرر في الكتب الكلاميّة.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 140 ح 7 عن توحيد الصدوق ص 122 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 23

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «1» قصد إليها بعلمه و مشيّته و ارادته قصدا تقتضيه الحكمة البالغة و القدرة الشاملة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا من غير أن يلوي على شي ء أو أقبل إليها آخذا في خلقها و إتقانها كما يظهر من تفسير الإمام «2» عليه السّلام، و يؤيده ما عن أحمد «3» بن يحيى بن ثعلب من أنّ الاستواء في صفة اللّه هو الإقبال على الشي ء يقال كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى عليّ و إليّ يكلمني على معنى أقبل عليّ و إليّ أو استوى و علا أمره الفعلي إلى ناحية السماء لإيجادها و تسويتها او استولى و قهر و ملك كما ذكروه في قوله: ثُمَّ اسْتَوى

عَلَى الْعَرْشِ* «4» و منه قوله:

فلما علونا و استوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر و كاسر و قال آخر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق «5» و المعنى استيلاؤه ملكا و تدبيرا و علما و قدرة عليها كغيرها من سائر خلقه.

و قيل: انّ المراد تفرده بملكها و انّه لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه و هو ضعيف في المقام كضعف إرادته منه و لو في غيره سيّما مع التعدي «بإلى» دون «على» و مرجع الوسطين إلى الأوّل فلا تغفل، و أمّا الاستواء بمعنى الانتصاب و الاعتدال الذي ضدّه الاعوجاج فلا يتصف سبحانه به لأنّه من صفات الأجسام.

و المراد بالسماء جهة العلو أو الاجرام العلوية أو خصوص الأفلاك السبعة

__________________________________________________

(1) البقرة: 29.

(2) تفسير الامام العسكري عليه السّلام ص 215.

(3) احمد بن يحيى بن زيد بن سيّار النحوي اللغوي الأديب المعروف بثعلب المتوفى س (291).

(4) الأعراف: 54، يونس: 3.

(5) مجمع البيان ج 1 ص 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 24

الكليّة أو مع جزئياتها على فرضها، و هي اسم جنس يطلق على القليل و الكثير، و قيل: أنّها جمع سماوة أو سماءة.

ثم إنّ ظاهر هذه الآية و كذا قوله في سورة السجدة: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «1»، إلى قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «2»، أنّ خلق الأرض كان قبل خلق السّماء مع أنّ مقتضى قوله في سورة و النازعات: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها، وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «3».

أن التدحية التي هي البسط كانت بعد خلق السماء و لذا

أورد بعض الملاحدة تناقضا بين هذه الآيات و أجيب عنه في المشهور بانّ خلق الأرض كان قبل السماء كما هو ظاهر الآيتين الّا أنّ دحوها بعد خلق السماء كما هو صريح الثالثة.

و يدل عليه ما رواه في «الكافي» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام في خبر طويل و فيه انه قال: إنّ اللّه سبحانه خلق الشي ء الذي جميع الأشياء منه، و هو الماء الذي خلق الأشياء منه، و خلق الريح من الماء، ثم سلط الريح على الماء، فشققت الريح متن الماء حتى صار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور، فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و لا نقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة ثمّ طواها فوضعها فوق الماء، ثمّ خلق اللّه النّار فشققت النّار متن الماء حتى صار من الماء دخان على قدر ما شاء اللّه أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و ذلك قوله: أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها،

__________________________________________________

(1) فصلت: 9.

(2) فصلت: 11.

(3) النازعات: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 25

وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها، و قال: و لا شمس و لا قمر و لا نجوم و لا سحاب ثمّ طواها فوضعها فوق الأرض ثمّ نسب الخليقتين فرفع السماء قبل الأرض فذلك قوله: عزّ ذكره وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول بسطها الخبر «1».

و المراد بقوله ثم نسب الخليقتين أنّه رتبهما في الوضع و جعل أحدهما فوق الاخرى، أو أنّه بيّن بنسبة خلقهما في كتابه بقوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «2» فبيّن أنّ دحو الأرض

بعد رفع السماء، أو أنه رفع الأشرف الألطف ثمّ بسط الأوضع الأخس تحقيقا لرتبتهما كذا قيل في معنى النسبة لكن الأظهر الاول كما لا يخفى.

و في «الإحتجاج» عن هشام بن الحكم عن الصادق عليه السّلام أنّه سأله الزنديق عن النهار خلق قبل الليل: قال عليه السّلام نعم خلق النهار قبل الليل و الشمس قبل القمر و الأرض قبل السماء «3» الى غير ذلك من الاخبار التي ستسمع شطرا منها في تفسير الآيات الآتية.

و يؤيده ما رواه في «الدر المنثور» عن ابن عباس أنّ رجلا قال له: آيتان في كتاب اللّه تخالف إحداهما الاخرى، فقال: أنّما أتيت من قبل رأيك، اقرء قال:

أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «4»، حتى بلغ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «5»، و قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «6» قال خلق اللّه الأرض قبل أن يخلق السماء ثمّ خلق السماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء و انما قوله

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 57 ص 97 ح 81 عن الكافي الروضة ص 94 ح 67.

(2) النازعات: 30.

(3) الاحتجاج ص 193 و عنه البحار ج 60 ص 78 ح 1.

(4) فصلت: 9.

(5) فصلت: 11.

(6) النازعات: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 26

دحاها يعني بسطها «1».

و يؤيده في الجملة ما رواه في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام انّ اللّه تعالى خلق الخير يوم الأحد و ما كان ليخلق الشر قبل خلق الخير، و في يوم الأحد و الاثنين خلق الأرضين، و خلق أقواتها في يوم الثلاثاء، و خلق السّموات يوم الأربعاء، و يوم الخميس و خلق أقواتها يوم الجمعة و ذلك قوله عزّ و جل:

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ* «2» آه «3»، حيث أنها تدل على تقدم خلق الأرضين.

نعم فيها إشكال من وجوه سنشير إليها و إلى الجواب عنها في سورة السجدة.

و في «العلل» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أنّ اللّه تعالى خلق البيت قبل الأرض ثمّ خلق الأرض من بعده فدحاها من تحته «4».

و في «التوحيد» و «مجالس» الصدوق و «الاحتجاج» و غيرها في مناظرة الصادق عليه السّلام لابن أبي العوجاء، قال عليه السّلام: هذا بيت استعبد اللّه به خلقه- إلى قوله- خلقه اللّه تعالى قبل دحو الأرض بألفي عام «5».

و أمّا ما رواه القمي عن الصادق عليه السّلام: من أنّه تعالى كان عرشه على الماء و الماء على الهواء و الهواء لا يحدّ، و لم يكن يومئذ خلق غيرهما، و الماء يومئذ عذب فرات، فلمّا أراد أن يخلق الأرض أمر الرّياح، فضربت الماء حتى صار موجا، ثم أزبد فصار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلا من زبد، ثم دحى

__________________________________________________

(1) الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 313.

(2) الفرقان: 59.

(3) روضة الكافي ص 145 و عنه البحار ج 57 ص 58- 59 ح 30.

(4) العلل ج 2 ص 85 و عنه البحار ج 57 ص 65 و فيه: إنّ خلق البيت قبل الأرض.

(5) بحار الأنوار ج 10 ص 210 ح 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 27

الأرض من تحته فقال اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً «1» ثمّ مكث الرب تبارك و تعالى ما شاء فلما أراد أن يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتى زبدتها «2»، فخرج من ذلك

الموج و الزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار، فخلق منه السماء فجعل فيها النجوم و البروج و منازل الشمس و القمر «3»، الخبر.

فهو و إن كان بظاهره يدل على تقدم الدحو على خلق السماء أيضا إلا أنّه لمخالفته لظاهر الآية بل صريحه يجب تأويله بعدم ترتب قوله: فلما أراد أن يخلق السماء على سابقه الذي هو الدحو، بل على ما تقدم من خلق الأرض أو أن الفاء لمجرد الارتباط دون الترتب، فانه لم يلحظ فيه.

كما أنّه لم يلحظ فيما ذكره الإمام عليه السّلام في تفسيره قال: إنّ اللّه تعالى لما خلق الماء فجعل عرشه عليه قبل أن يخلق السماوات و الأرض، فأرسل الرياح على الماء فتفجر «4» الماء من أمواجه، و ارتفع عنه الدخان و علا فوقه الزبد، فخلق من دخانه السماوات السبع و خلق من زبده الأرضين، فبسط الأرض على الماء، و جعل الماء على الصفا، و الصفا على الحوت و الحوت على الثور، و الثور على الصخرة إلى أنّ قال: فلما خلق اللّه الأرض دحاها من تحت الكعبة ثم بسطها على الماء فأحاطت بكل شي ء «5» آه.

و فيما ذكر الباقر عليه السّلام لمحمد بن مسلم على ما رواه في «الكافي» قال عليه السّلام:

كان كلّ شي ء ماء و كان عرشه على الماء فأمر اللّه عزّ و جلّ الماء فاضطرم نارا، ثم أمر النار

__________________________________________________

(1) آل عمران: 96.

(2) في المصدر: أزبد بها.

(3) تفسير القمي ج 2 ص 69- 70 و عنه البحار ج 57 ص 72 و في المصدر: فبخّر الماء.

(4) و في المصدر: فبخّر الماء.

(5) تفسير الامام عليه السّلام ص 144- 145 و عنه البحار ج 57 ص

87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 28

فخمدت، فارتفع من خمودها دخان، فخلق اللّه السماوات من ذلك الدخان، و خلق الأرض من الرماد، آه «1».

و ربما يستشكل هذا الوجه مرة بأنّ الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية، فإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء، كان خلقها أيضا متأخرا عن خلق السماء، و أخرى بأنّ الآية في المقام دلت على أنّ خلق الأرض و خلق كلّ ما فيها متقدم على خلق السماء، و خلق الأشياء في الأرض لا يكون إلّا بعد ما كانت مدحوّة فدلت على تقدم كونها مدحوة فالتناقض بحاله.

و يضعف الاول بوضوح عدم امتناع انفكاك خلقها عن التدحية سيما بعد ما دلت عليه الاخبار الكثيرة حسب ما سمعت شطرا منها.

و المناقشة في اطلاق خلق الأرض على إيجادها غير مدحوّة لا ينبغي الإصغاء إليها بعد ما سمعت من الآية و الرواية.

و الثاني بأن تقدم خلق ما في الأرض لا يستلزم تقدم دحوها ضرورة أنّه ليس المراد بالموصولة خصوص ما يتجدد فيها من أفراد النبات و الثمار و الحيوان و ضروب الانتفاعات الجزئية، فإنها متأخرة عن الجميع كائنة فاسدة بمر الدهور و الازمنة، بل المراد بها أصول أسبابها القابلة الاستعدادية التي كانت قائمة بسنخ الأرض و نوعها بل بالأرض التي كانت كالطينة و الخميرة للأرض المدحية، و لذا عبر بالدّحو الذي هو مجرد البسط و السعة، و بالجملة فالجواب المذكور بمكان من الصحة و القبول.

نعم ربما يجاب عن أصل الإشكال بوجوه أخر أيضا: منها أنّ كلمة «ثم» في آيتي البقرة و السجدة لتفاوت ما بين الخلقين و فضل خلق السماء على خلق الأرض

__________________________________________________

(1) روضة الكافي ص 95 ح 68 و عنه البحار ج

57 ص 98 ح 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 29

كما يقول الرجل لصاحبه: أليس قد أعطيتك ثم رفعت منزلتك ثم بعد هذا كله فعلت كذا و كذا، و مثله قوله: فَكُّ رَقَبَةٍ «1» إلى قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «2»، أي و كان فعلى هذا يكون خلق الأرض بما فيها من الأقوات و غيرها متأخرا عن خلق السماء، و هذا الوجه ذكره شيخنا الطبرسي و تبعه الرازي و القاضي و غيرهما.

و منها: أنّ معنى قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «3» أي مع ما ذكر من خلقها و جعلها مهادا كما في قوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «4» أي مع ذلك، و هو المحكي عن مجاهد و السدي «5».

و منها ما يرجع إلى سابقه و هو أن تكون كلمة بعد لمجرد الإذكار و تعداد النعم لا للتأخر الزماني و الرتبي حيث لا يتعلق لغرض بالاخبار عن الأوقات و الازمنة كما تقول: أليس قد أعطيتك كذا و كذا و بعد ذلك أحسنت إليك في كذا «6».

و أما كون الظرف للاخبار بعد الاخبار لا المخبر عنه فلا يخلو عن تكلف.

و منها أنّه فرق بين التسوية المطلقة للسماء المذكورة في آيتي السجدة و النازعات و بين تسويتها سبع سماوات المذكورة في المقام، فتسويتها مطلقا متقدّمة على دحو الأرض و المقيدة متأخرة عنه، و أمّا قوله في آية السجدة: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «7» فمترتبة على قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ

__________________________________________________

(1) البلد: 12.

(2) البلد: 17.

(3) النازعات: 30.

(4) القلم: 13.

(5) مجمع البيان ج 5 ص 434.

(6) مجمع البيان ج 1 ص 72.

(7) فصلت: 12.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 30

دُخانٌ «1»، إلّا أنها مبينة لها و يدل عليه ما رواه في «الدر المنثور» كما تقدم.

و منها: أن كلمتي «بعد» و «ثم» على ظاهرهما من التأخر و التراخي إلّا أنّ المراد بالخلق هو التقدير لا الإيجاد في العين و إطلاقه عليه شايع كثير، و لذا يقيد الخلق في الاخبار مرة بالتكوين و أخرى بالتقدير و يؤيّده قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى «2» و قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «3» و في الخبر عن الرضا عليه السّلام: أفعال العباد مخلوقة للّه خلق تقدير لا خلق تكوين «4».

و على هذا فخلق الأرض و ما فيها متأخر عن خلق السماء كتأخر دحوها عنه إلّا أن تقديرها و هندستها متقدم على خلق السماء، و يؤيده أنّه سبحانه ذكر في سورة السجدة خلق الأرض و أقواتها ثم قال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «5».

و من البيّن أن المراد الإتيان من العدم إلى الوجود تعبيرا للخلقة العينية و تصويرا للقدرة الكاملة، و لذا ذهب بعضهم إلى تقدم خلق السماء على الأرض و ما فيها.

و ما رواه الكيدري في شرح النهج، قال ورد في الخبر: أنّ اللّه تعالى لما أراد خلق السماء و الأرض خلق جوهرا أخضر ثمّ، ذوّبه فصار ماء مضطربا ثم أخرج منه بخارا كالدخان و خلق منه السماء كما قال ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «6»، ثم فتق تلك السماء فجعلها سبعا ثم جعل من ذلك الماء زبدا فخلق منه

__________________________________________________

(1) فصلت: 11.

(2) الأعلى: 2.

(3) آل عمران: 59.

(4) بحار الأنوار ج 5 ص 30 ح 38 عن العيون.

(5) فصلت: 11.

(6) فصلت: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 31

أرض مكة، ثم بسط الأرض كلها من تحت الكعبة، و لذلك تسمى مكة أم القرى، لأنّها أصل جميع الأرض، ثمّ شق من تلك الأرض سبع أرضين و جعل بين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام، و كذلك بين كلّ أرض و أرض، و كذلك بين هذه السماء و هذه الأرض «1»، الخبر.

و في «الدر المنثور» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «2»، قال: إنّ اللّه تعالى كان عرشه على الماء و لم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد و الاثنين، فجعل الأرض على الحوت و هو الذي ذكره في قوله: ن وَ الْقَلَمِ و الحوت في الماء على صفاة، و الصفاة على ملك، و الملك على صخرة، و الصخرة على الريح و هي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء و لا في الأرض، فتحرك الحوت، فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فذلك قوله: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ «3» و خلق الجبال فيها و أقوات أهلها و شجرها و ما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء و الأربعاء و ذلك قوله: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «4» إلى قوله: وَ بارَكَ فِيها يقول أنبت فيها شجرها و

قدر فيها أقواتها

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 57 ص 29 ح 4 عن شرح نهج للكيدري.

(2) البقرة: 29.

(3) الأنبياء: 31.

(4) فصلت: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 32

يقول أقواتها و أهلها في أربعة أيام سواء للسائلين يقول من سال فهكذا الأمر ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «1» فكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين في الخميس و الجمعة و انما سمي يوم الجمعة لأنّه جمع فيه خلق السموات و الأرض «2» الخبر و هذا الخبر ظاهر في الوجه المتقدم و ان خلق السماء كان أولا على وجه الدخانية ثم بعد خلق الأرض و أقواتها جعلها سماء واحدة ثم جعلها سبع سموات.

و منها: أن لا يكون معنى دحيها مجرد البسط بل يكون المراد أنّه بسطها بسط مهيأ لنبات الأقوات و يؤيده قوله مبينا للدحو المذكور أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها «3»، و ذلك لان الاستعداد لا يحصل للأرض إلّا بعد وجود السماء فان الأرض كالام و السماء كالأب، و ما لم يحصلا لم تتولد المواليد التي هي المعادن و النباتات و الحيوانات.

و منها: أن الأرض مقدمة في الخلقة و يدفع المنافات المذكورة باعتبار الآية الثالثة بان الفاء في قوله: فَسَوَّاها بمعنى ثم أو لمطلق الترتب و المشار إليه بذلك في قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «4» و هو بناء السماء و خلقها لا مجموع ما ذكر قبله حتى تسويتها، فيجوز معه تأخر التسوية عن التدحية.

و منها: أنّ قوله وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقتضي تقدم خلق السماء على دحو الأرض و لا يقتضي تقدم تسوية السماء على دحو الأرض

فجاز تأخر التسوية عن الدحو فيكون خلق الأرض قبل خلق السماء و خلق السماء قبل الدحو و الدحو

__________________________________________________

(1) فصلت: 11.

(2) الدر المنثور ج 1 ص 43 و عنه البحار ج 57 ص 204- 205 ح 152.

(3) النازعات: 31.

(4) النازعات: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 33

قبل تسوية السماء.

و فيه نظر واضح لدلالة آية الدحو على تأخره عن تسوية السماء إلّا أن يرفع التنافي بشي ء من الوجوه المتقدمة أو الآتية فيرجع إليه.

و منها: ما يحكى عن مقاتل أنه قال: خلق اللّه السماء قبل الأرض و قبل دحوها و خلق أرزاقها و أمّا قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فمعناه ثم كان قد استوى و هي دخان قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان كما في قوله تعالى قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «1»، معناه أن يكن سرق.

و منها: أن تكون دحيها جملة مستأنفة و تنصب الأرض بفعل مقدر دل عليه أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً «2» مثل تعرف الأرض و اذكرها و تدبر أمرها بعد ذلك و هو كما ترى.

و منها: أن يضمر الفعل على شريطة التفسير كما هو الظاهر و يكون ذلك إشارة إلى المذكور سابقا فالمشار إليه ذكر خلق السماء لا خلقها نفسه للدلالة على أنّه قاصر في الدلالة عن الاول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت و كيت و مثله شايع في الاستعمال.

و منها: ما ذكره الشيخ الأمجد الاحسائي طاب ثراه حيث سئل عن ذلك فأجاب بأنّه تعالى لما رمق الماء بعين الهيبة فذاب و زبد و ارتفع دخانه و كان الزبد و الدخان فصعد الدخان و كان الدخان قد أخذ في الصعود

لطيفة قبل بدء الزبد و ارتفع أخره عند انتهاء الزبد خلق الأرض و أقواتها من الزبد في أربعة أيام ثم توجه وجه المشية إلى الدخان به الصاعد فخلق من وسطه فلك الشمس و ذلك لاستوائه في اللطافة و الغلظ و خلق فلك القمر و فلك زحل و فلك عطارد و فلك المشتري

__________________________________________________

(1) يوسف: 77.

(2) الصافات: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 34

و فلك الزهرة و فلك المريخ فصار الاستواء إلى السماء بعد الأرض و السماء دخان موجودة و هو قوله تعالى: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «1» إلى قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «2» فكان كون السماء قبل كون الأرض و كان عين الأرض قبل عين السماء فكلما لطف و علا تأخرت صورة الجسمانية و لذا قلنا فلك القمر و فلك زحل و المراد بالاستواء الالتفات أي توجه وجه المشية و القدر.

و هذا الوجه يساعده في الجملة ظاهر آية السجدة لكن الأظهر في دفع التنافي ما ذكرناه أولا، و امّا سائر الوجوه فبعضها و إن لم يكن به بأس على وجه الاحتمال إلّا أنّ كثيرا منها لا يخلو من ضعف أو اختلال.

فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ التسوية هو التعديل و جعل الشيئين أو الأشياء على حد سواء، و المعنى خلقهن مصونة من العوج و الأمت و الفطور و التفاوت على أعدل ما يمكن و أقومه و أحسنه و أتقنه، و الضمير للسماء بناء على كونها جمعا أو جنسا على ما مر و إن نوقش فيهما بعدم ثبوت الأوّل و عدم كفاية الثاني، و لذا قيل:

إن الاولى كونه مبهما يفسره ما بعده كقولهم: ربه رجلا مع أنّ فيه حينئذ

من التفخيم و التشويق و الإبهام و التفسير و التمكن في النفس و نحو ذلك ما لا يخفى، و يمكن كونه للسماء باعتبار نواحيها و جهاتها فتكون الواحدة جماعة كما في قولهم: ثوب اخلاق و امهال أو باعتبار أن السماوات كانت سماء فوق سماء فتكون الجملة واحدة من حيث الاطباق و الاحتواء، أو باعتبار أن المراد بالسماء هو الجوهر الدخاني الذي خلق منه السموات فالافراد باعتبار الوحدة و عدم التميز و التعدد

__________________________________________________

(1) فصلت: 9.

(2) فصلت: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 35

يومئذ و التعدد باعتبار الاول و المشارفة هذا مضافا إلى ما قد يقال من جواز اجراء اسماء الأجناس في الإضمار و التوصيف على الوجهين كما يقال: أهلك الناس الدراهم البيض و الدنانير الصفر، و السبع للمؤنث كالسبعة للمذكر و اشتقوا منه السبع بضم الباء و سكونها لأنّه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات أو لأنه كامل القوى، فانّ السبعة عدد كامل مركب من زوج الفرد و فرد الزوج أو زوج الزوج و فرد الفرد، و نصبه على البدل أو التفسير و السموات هي الأفلاك.

و أما ما يحكى عن علي بن عيسى من التغاير و انّ الأفلاك تتحرك و تدور و السموات لا تتحرك و لا تدور لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «1» أي تتحركا فضعيف جدا و معنى الآية نفي زوالها عن مراكزها التي تدور عليها أو نفي رجوعها إلى العدم الاصلي الذي مر مقتضي امكاناتها لأنّ كل ممكن سيّال الوجود دائم الحركة إلى العدم الاصلي، و أمّا بقاؤه فانّما هو بالإضافات السيّالة المتجددة الدائمة حسبما هو مقتضى قيوميّة الفعلية، و بالجملة فالقول المذكور شاذ لا يعرف به

قائل غيره.

نعم قد يحكى ذلك أيضا عن الشيخ الكراجكي في كتابه كنز الفوائد، حيث قال: اعلم أن الأرض على هيئة الكرة و الهواء يحيط بها من كل جهة، و الأفلاك يحيط بالجميع احاطة استدارة، و هي طبقات بعضها يحيط ببعض، فمنها سبعة يختص بالنيّرين و الكواكب الخمسة التي تسمى بالمتحيرة، و لكل منها فلك يختص به ثم عدّ الأفلاك السبعة على ما هو المشهور عند الجمهور إلى أنّ قال: و يحيط بهذه الأفلاك السبعة فلك الكواكب الثابتة و هي جميع ما يرى في السماء غير ما ذكرنا ثم الفلك المحيط الأعظم المحرّك لجميع هذه الأفلاك، ثمّ السموات السبع تحيط

__________________________________________________

(1) فاطر: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 36

بالأفلاك و هي مساكن الأفلاك، و من رفعه اللّه تعالى الى سمائه من أنبيائه و حججه عليهم السّلام انتهى «1».

و هو مع شذوذه مردود بالاخبار الكثيرة كالخطبة العلوية المذكورة في «النهج» و فيها: ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها و أدام مربّها و اعصف مجراها و أبعد منشأها فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار و آثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوّله على آخره و ساجيه على مائرة، حتى عبّ عبابه و رمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، و جوّ منفهق، فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا، و علياهن سقفا محفوظا و سمكا مرفوعا بغير عمد يدعمها، و لا دسار ينظمها، ثمّ زينتها بزينة الكواكب، و ضياء الثواقب، فأجرى فيها سراجا مستطيرا و قمرا منيرا في فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم مائر، ثم فتق ما بين السماوات العلى فملأهن أطوارا من ملائكته منهم سجود لا يركعون، و ركوع لا

ينتصبون، و صافون لا يتزايلون «2»، الخطبة.

حيث دلت على أن السماوات هي المجاري للكواكب و المساكن للملائكة و الاخبار بهذا المعنى كثيرة جدا، و ورد أنّ زحل مطلعه في السماء السابعة، و أنّه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا «3» و انّ الشمس في السماء الرابعة إلى غير ذلك ممّا يدل على ما ذكرناه فلا اشكال فيه و ان اختلفوا في أنّ المراد بالفلك هل هو نفس السماء؟ أو المجرى أو المنطقة أو غيرها ممّا لا يهمنا البحث عنه في المقام إنّما الكلام فيما ذكره الرياضيون من الترتيب بين الأفلاك الكليّة و اثبات أفلاك

__________________________________________________

(1) كنز الفوائد ج 2 ص 101- 102.

(2) نهج البلاغة الخطبة الاولى ص 1.

(3) البحار ج 58 ص 220.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 37

جزئية للحركات السبع المشهورة و اثبات فلكين اخرين مضافا إليها فانّها عندهم تسع، سبع منها للسبعة السيّارة على الترتيب المشهور، و ثامنها فلك الثوابت و تاسعها فلك الأفلاك المحرك لجميعها حركة يوميّة سريعة شرقيّة و استندوا في ذلك إلى جملة من المشاهدات و الحدسيات و الأصول الطبيعية التي لم يقم على كثير منها برهان، و بالجملة فإنّهم لم يأتوا بدليل متين أو بسلطان مبين فيما اتفقوا عليه و اختلفوا فيه من اعداد الأفلاك قلة و كثرة، نعم دلّ صريح الكتاب و هو الحجة بأنّها سبعة فجعلوها للكواكب السبعة التي أحسوا باختلاف حركتها طولا في الجميع و عرضا في غير الشمس، فانّ لها الميل و هي النيّران و الخمسة المتحيرة التي فسر بها قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ «1» في العلوي «2» المروي في «المجمع» و غيره و جعلوا أدناها للقمر و أعلاها لزحل

و البواقي على الترتيب المشهور و في بعض الأخبار دلالة على بعضها مثل ما روي عن الصادق عليه السّلام من أنّ زحل مطلعه في السماء السابعة و أنّه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا فمن ثم سماه اللّه النجم الثاقب «3» و العلوي المتضمن للخمسة المتحيرة على الترتيب الذكري الدال على كونها كذلك حيث قال عليه السّلام: أنّ الخنّس خمسة أنجم زحل و المشتري و المريخ و الزهرة و عطارد «4»، إلّا أنّهم استندوا فيما ذكروه من الترتيب إلى وجهين:

الأوّل الكسف فإنّ الكوكب الأسفل يكسف الأعلى في المقارنة المرئية بحسب عين الناظر و إن لم تكن باعتبار المركز و يعرف الكاسف بلونه الغالب ككمودة زحل و دريّة المشتري و حمرة المريخ و بياض الزهرة و صفرة عطارد ثمّ

__________________________________________________

(1) التكوير: 15.

(2) مجمع البيان ج 5 ص 446.

(3) البحار ج 58 ص 220.

(4) بحار الأنوار ج 58 ص 220.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 38

أنّهم وجدوا القمر يكسف الكواكب و عطارد يكسف الزهرة، و هكذا في الجميع إلّا أنّه بقي الشك في أمر الشمس فالأكثر على أنّها في وسط الأفلاك السبعة فوق الزهرة و عطارد لاقتضاء النظام الطبيعي أن يكون ما هو أبطأ حركة من الكواكب أكثر بعدا و أعظم مدارا و أن تكون الشمس واسطة في النظم و الترتيب بمنزلة شمسة القلادة بين ما يبعد عنها الابعاد الاربعة و هي المقابلة و أخواتها و بين ما لا يبعد منها أقلّ البعد و هو التسديس و لما يحكى عن جماعة أنّهم رأوا الزهرة كشامة على صفحتها، و عن آخر أنّه رأي شامتين و حسبهما الزهرة.

و هذه الوجوه كلها ضعيفة بل قيل:

إنّه في وجه الشمس نقطة سوداء فوق مركزها بقليل كالمحو في وجه القمر و لعلها الشامة المرئية، و لذا ذهب بعض القدماء إلى أنها تحتهما و بعض المتأخرين إلى أنّه فوق عطارد و تحت الزهرة بل جزم به صاحب التحفة لدليل لاح له في الابعاد و الاجرام.

و الثاني اختلاف المنظر لكنّه غير جار في الجميع لانتفائه في العلوية محسوسا و محسوبا و كونه في الشمس في غاية القلة بل عن أبي الريحان و غيره أنّ اختلاف المنظر لا يحس إلّا في القمر فإنهم صرحوا بانّه في الشمس غير محسوس بالآلات الرصدية أصلا و ان اقتضاه حسابهم بحسبانهم و أمّا السفليتان فلتعذر الوقوف على مواضعهما الحقيقية في الطول و العرض.

ثمّ أنّ هذا كلّه على ما حققه الحكماء السابقون و أمّا المتأخرون من حكماء الأندلس و الافرنج فقد ذهبوا إلى نفي الأفلاك رأسا، و انّ كرة الشمس ساكنة في مركز العالم و أنّ كرة الأرض من جملة السيارة التي تدور حول جرم الشمس و تكتسب منها النور و الحرارة، و انّ كلّا من الثوابت المرصودة و غيرها ممّا لا يعلم عددها أحد إلّا اللّه مركز لعالم كلي كالشمس في عالمها و لكلّ منها أقمار و سيارات مشتملة على عوالم كثيرة و أصناف من المخلوقات كالمواليد و غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 39

و هذا كله رجم بالغيب و مخالفة للنواميس و القواعد الحكميّة على ما أشرنا إليه آنفا نعم قدر ورد في بعض الاخبار تعدد «1» القباب و العوالم و الشموس بل في البصائر عن ابي الحسن عليه السّلام قال: إنّ للّه تعالى خلف هذا النطاق زبرجدة خضراء فمن خضرتها اخضرت السماء قيل و ما النطاق؟ قال

عليه السّلام: الحجاب و للّه وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدد الانس و الجن و كلهم يلعن فلانا و فلانا «2»، و عن الصادق عليه السّلام:

إنّ من وراء شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق كثير، و انّ من وراء قمركم أربعين قمرا فيها خلق كثير لا يدرون أنّ اللّه خلق أدم أم لم يخلقه ألهموا إلهاما لعنة فلان و فلان «3».

و أمّا اسماء السماوات و ألوانها فقد روي في «العلل» و «العيون» و «الخصال» في خبر الشامي أنّه سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن ذلك فقال عليه السّلام: اسم السماء الدنيا رفيع و هي من ماء و دخان و اسم السماء الثانية قيدوم و هي على لون النحاس و السماء الثالثة اسمها الماروم، و هي على لون الشبه، و السماء الرابعة اسمها أرفلون و هي على لون الفضة، و السماء الخامسة اسمها هيفون و هي على لون الذهب و السماء السادسة اسمها عروس، و هي ياقوتة خضراء و السماء السابعة اسمها عجماء و هي درة بيضاء «4»، الخبر.

و روي عن أبن جعفر عليه السّلام: السجين: الأرض السابعة و عليون: السماء السابعة «5».

و في حديث ابن سلام أنّه سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال اخبرني ما بال السماء الدنيا

__________________________________________________

(1) البحار: ج 47 ص 159.

(2) البصائر ص 492 ح 7 و عنه البحار ج 57 ص 330 ح 15.

(3) البحار ج 27 ص 45.

(4) البحار ج 10 ص 76.

(5) البحار ج 58 ص 51 ح 4 عن المحاسن ص 334 ح 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 40

خضراء؟ قال عليه السّلام: اخضرت من جبل قاف قال صدقت

فاخبرني ممّا خلق؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من موج مكفوف قال: و ما الموج المكفوف؟ قال: يا ابن سلام ماء قائم لا اضطراب لها و كانت في الأصل دخانا، قال: صدقت يا محمّد، إلى أن قال: فاخبرني عن السماء الثانية ممّ خلقت؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من الغمام قال: صدقت فاخبرني عن السماء الثالثة ممّ خلقت؟ قال: من زبرجد خضراء قال: فالرابعة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من ذهب احمر قال: فالخامسة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: من ياقوتة حمراء، قال: فالسادسة؟ قال: من فضّة بيضاء؟

قال: فالسابعة؟ قال: من ذهب قال صدقت، الخبر «1».

و بعض النّاس قد تكلم في أمثال هذا الخبر بالتأويل و التوجيه و التطبيق على قواعد الفلاسفة و ترهات الصوفية و الأكاذيب الاحكامية من اثبات الطبائع و المنسوبات للأفلاك و الكواكب و الحمل على ظاهرها و السكوت عن التأويل أولى فان كان و لا بد فلعلها كانت مشتهرة عندهم كذلك أو كانت رموزا موروثة عن الأنبياء عليهم السّلام.

بقي الكلام فيما قد طال التشاجر بينهم فيه و هو أنّ السماوات و ما فيها من الكواكب هل هي حيّة مدركة أم لا؟ فجمهور الحكماء على الاول و اكثر أهل الشرع على الثاني و في الآيات و الاخبار إشارات إلى القولين و لذا قال شيخنا البهائي طاب ثراه في الحديقة الهلاليّة بعد قوله: أيّها الخلق المطيع الدائب السريع المتردد في منازل التقدير المتصرف في ذلك التدبير بعد جملة كلام له: أنّه لا يبعد أن يراد بفلك التدبير الفلك الذي يدبره القمر نفسه نظرا إلى ما ذهب اليه طائفة من أنّ كلّ واحد من السيارات السبع مدبر لفلكه كالقلب في

بدن الحيوان.

قال سلطان المحققين في شرح الإشارات: ذهب فريق إلى أنّ كلّ كوكب منها

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 60 ص 247- 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 41

ينزل مع أفلاكه منزلة حيوان واحد ذي نفس واحدة تتعلق بالكوكب أوّل تعلقها و بأفلاكه بواسطة الكوكب كما تتعلق نفس الحيوان بقلبه أوّلا و بأعضائه الباقية بعد ذلك، فالقوة المحركة منبعثة عن الكوكب الذي هو كالقلب في أفلاكه التي هي كالجوارح و الأعضاء الباقية انتهى كلامه زيد إكرامه إلى أن قال: إنّ خطابه للقمر و نداؤه له وصفه بالطاعة و الجد و التعب و التردد في المنازل و التصرف في الفلك ربما يعطي بظاهره كونه ذا حياة و إدراك و لا استبعاد في ذلك نظرا إلى قدرة اللّه تعالى إلّا انّه لم يثبت بدليل عقلي قاطع يشفي العليل او نقلي ساطع لا يقبل التأويل، نعم أمثال هذه الظواهر ربما تشعر به و قد يستند في ذلك بظاهر قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ* «1» فانّ الواو و النون لا يستعملان حقيقة في غير العقلاء، و قد أطبق الطبيعيون على أنّ الأفلاك بأجمعها حيّة ناطقة عاشقة مطيعة لمبدعها و خالقها و أكثرهم على أنّ غرضها من حركاتها نيل التشبه بجنابه و التقريب إليه جلّ شأنه، و بعضهم على أنّ حركاتها لورود الشوارق القدسيّة عليها آنا فآنا فهي من قبيل هزة الطرب و الرقص الحاصل من شدّة السرور و الفرح، و ذهب جم غفير منهم إلى أنّه لا ميت في شي ء من الكواكب ايضا حتى اثبتوا لكلّ واحد منها نفسا على حدة تحركه حركة مستديرة على نفسه، و ابن سينا في «الشّفاء» مال إلى هذا القول و رجّحه و حكم

به في النمط الخامس من (الإشارات) و لو قال به قائل لم يكن مجازفا و كلام ابن سينا و أمثاله و إن لم يكن حجّة يركن إليها الديانيون في أمثال هذه المطالب إلا أنّه يصلح للتأييد و لم يرد في الشريعة المطهرة على الصادع بها أفضل الصلوات و أكمل التسليمات ما ينافي هذا القول، و لا قام دليل عقلي على بطلانه و إذا جاز أن يكون لمثل البعوضة و النّملة و ما دونهما حياة فايّ مانع من أن يكون لتلك الاجرام

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 42

الشريفة أيضا ذلك، و قد ذهب جماعة إلى أن لجميع الأشياء نفوسا مجردة و نطقا و جعلوا قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» محمولا على ظاهره، و ليس غرضنا من هذا الكلام ترجيح القول بحياة الأفلاك بل كسر سورة استبعاد المصرّين على إنكاره و ردّه و تسكين صولة المشنعين على من قال به و جوّزه «2» انتهى كلامه زيد مقامه، و اعترضه شيخنا المجلسي طاب ثراه بانّ هذا الترجيح الذي أبداه في لباس الاحتمال و التجويز مناف لسياق اكثر الآيات و الأخبار الواردة في أحوال الكواكب و الأفلاك و مسيرها و حركاتها و الإشارات التي تمسك بها ظاهر من سياقها انّها من قبيل المجازات و الاستعارات الشائعة في كلام البلغاء بل في اكثر المحاورات فانّهم يخاطبون الجمادات بخطاب العقلاء و غرضهم تفهيم غيرها كما في هذا الخطاب و خطاب شهر رمضان و وداعه و خطاب البيت و المخاطب فيها حقيقة هو اللّه تعالى و الغرض إظهار نعمه تعالى و شكره عليها و لم أر أحدا من المتكلمين من فرق المسلمين قال

بذلك إلّا بعض المتأخرين الذين يقلّدون الفلاسفة في عقائدهم و يوافقون المسلمين فيما لا يضرّ بمقاصدهم، ثمّ حكى عن السيّد المرتضى أنّه قال في كتاب «الغرر و الدرر»: قد دلت الدلالة الصحيحة الواضحة على أنّ الفلك و ما فيه من شمس و قمر و نجوم غير متحرك لنفسه و لا طبعه على ما يهذي به القوم و انّ اللّه تعالى هو المحرك له و المتصرف باختياره فيه و قال رحمه اللّه في موضع آخر: لا خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة من الفلك و ما يشتمل عليه من الكواكب فانّها مسخرة مدبرة متصرفة و ذلك معلوم من دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضرورة.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 44.

(2) بحار الأنوار: ج 55 ص 185- 186.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 43

أقول: لا يخفى أنّه لو قلنا بأنّ الأشياء من الجمادات و غيرها كلّها مدركة شاعرة حيّة مسبحة للّه سبحانه حسبما تسمع تمام الكلام فيه عند تفسير قوله:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1»، فلا ريب في القول بذلك في الأفلاك و الكواكب أيضا سيّما مع التصريح بالسماوات و ما فيها كما في أوّل الآية و في المسبّحات و غيرها من الآيات و ان حملنا ذلك على التسبيح التكويني و قلنا أن الأجسام على قسمين: منها حيّة مدركة كالإنسان و منها فاقدة للإدراك و الشعور كالجمادات فمن البيّن أنّه لم يدل دليل على الحاق الأفلاك و الكواكب بالثاني دون الأوّل بعد ظهور إمكان كلّ من الوجهين فيها فلا ينبغي الجزم بأحد الوجهين من دون حجّة و لذا قال شيخنا الشهيد الأوّل في قواعده كلّ من اعتقد في الكواكب

أنّها مدبرة لهذا العالم و موجدة فيه فلا ريب أنّه كافر و ان اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه سبحانه هو المؤثر الأعظم كما يقوله أهل العدل فهو مخطئ إذ لا حياة لهذه الكواكب ثابتة بدليل عقلي و لا نقلي «2» آه.

و مراده كما ترى عدم الثبوت لا ثبوت العدم، و من هنا يظهر ضعف ما ذكره الشيخ الأكبر «3» في شرح القواعد «4» مازجا عبارته بعبارة العلّامة قائلا: و عمل التّنجيم حرام، و كذا تعلّم علم النّجوم و الفلكيّات، و تعليمه، و علمه بالنظر من غير تعليم مع اعتقاد قدمها لذاتها، و هو كفر الإنكار و الإشراك، أو لقدم علّتها، و حدوثها متّصفة بالعلوم و الإدراكات و صفة الاختيار لها مع الصفات، و هذان من كفر إنكار الضّروريّات انتهى.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 44.

(2) القواعد للشهيد: ج 2 ص 35.

(3) هو الشيخ جعفر بن خضر الجناجي النجفي المتوفى سنة (1227) ه

(4) هو شرح مبسوط لطهارة «قواعد العلّامة» مستقصى فيه كلام الفقهاء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 44

إذ فيه أنّ ضروريّة الأخير غير واضحة، اللّهم إلّا أن يكون مراده كغيره ممّن يدّعي الإجماع عليه، نفي الحياة و الشعور و الارادة الموجبة للتّصرف في السّفليات بإيجاد الآثار على وجه الاستقلال أو التشريك أو التفويض أو غيرها، و هذا لا شبهة في قيام الإجماع بل الضرورة على فساده على اكثر الوجوه، و لعلّ هذا هو المنساق منهم في نفي الحياة و الاختيار، حيث أنّ كلامهم مع الفلاسفة و المنجّمين القائلين باستناد الحوادث بأسرها إليها على وجه الاختيار أو الإيجاب، و لذا قال العلامة «1» أعلى اللّه مقامه في «أنوار الملكوت في شرح الياقوت» «2»:

اختلف قول المنجّمين على قسمين: أحدهما قول من قال: انّ الكواكب السّبعة حيّة مختارة، و الثاني قول من قال: انّها موجبة، و القولان باطلان، أمّا الأوّل فلانّها أجسام محدثة فلا تكون، آلهة، و لأنّها محتاجة إلى محدث غير جسم، فلا بّد من القول بالصّانع إلى آخر ما ذكره.

فانظر كيف أبطل قولهم بنفي إلاهيّتها و إثبات الصّانع المحدث لها، و أين هذا من القول بأنّها مصنوعة محدثة حيّة مختارة في عبادة ربّها، مع عدم استناد شي ء من الحوادث إليها بوجه، أو مع القول بإثبات نوع ارتباط لها إليها على وجه لا يمنع من القول به شي ء من العقل و النقل.

و لذا قال شيخنا المدقّق الورع التستري «3» دام ظله العالي بعد نقل عبارة الشهيد المتقدّمة ما لفظه: و ظاهره «4» أنّ عدم القول بذلك لعدم المقتضي له و هو

__________________________________________________

(1) آية اللّه العلّامة الحلي المتوفى (726) ه

(2) الياقوت: في علم الكلام لأبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كان من أعلام الشيعة في عصر الامام الرضا عليه السّلام.

(3) هو الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الانصاري المولود (1214) ه و المتوفى (1281).

(4) أي و ظاهر كلام الشهيد الأول في قوله: و إن اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها، و اللّه تعالى هو المؤثر الأعظم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 45

الدّليل، لا لوجود المانع منه، و هو انعقاد الضرورة على خلافه، فهو ممكن غير معلوم الوقوع، و لعلّ وجهه أنّ الضّروري، عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل مختار باختيار مستقل مغاير لاختيار اللّه تعالى، كما هو ظاهر قول المفوّضة.

أمّا استنادها إلى الفاعل بارادة اللّه المختار بعين مشيّته و اختياره حتّى يكون كالآلة بزيادة الشعور

و قيام الاختيار به بحيث يصدّق عليه أنّه فعله و فعل اللّه تعالى، فلا مانع عنه إذ المخالف للضرورة انكار نسبة الفعل إلى اللّه على وجه الحقيقة لا إثباته لغيره أيضا بحيث يصدق أنّه فعله.

نعم ما ذكر الشهيد طاب ثراه من عدم الدّليل عليه حقّ، فالقول به تخرّص، و نسبة لفعل اللّه إلى غيره بلا دليل و هو قبيح ثمّ قال سلمه اللّه: و ما ذكره قدّس سرّه كأنّ مأخذه ما في «الاحتجاج» عن هشام «1» بن الحكم قال سأل الزّنديق أبا عبد اللّه عليه السّلام، فقال: ما تقول فيمن يزعم أنّ هذا التدبير الّذي يظهر في هذا العالم تدبير النّجوم السّبعة؟ «2» قال عليه السّلام: يحتاجون إلى دليل أنّ هذا العالم الأكبر و العالم الأصغر من تدبير النّجوم الّتي تسبح في الفلك «3» و تدور حيث دارت متبعة، لا تفتر «4» و سائرة لا تقف، ثمّ قال: عليه السّلام: و انّ كلّ نجم منها موكّل مدبّر فهي بمنزلة العبيد

__________________________________________________

(1) هشام بن الحكم الكوفي الواسطي البغدادي المتوفى سنة (179) ه

(2) و هي الشمس و القمر، و زحل و المرّيخ و المشتري، و عطارد و الزهرة، بناء على رأي القدماء.

(3) الفلك (بضم الفاء و سكون اللام): جمع فلك (بفتح الفاء و اللام) و هي المدارات حول الشمس.

(4) تفتر: فعل مضارع على وزان يقعد و يجلس أي لا تضعف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 46

المأمورين المنهيّين، فلو كانت قديمة ازليّة لم يتغيّر من حال إلى حال «1» الخبر.

و الظّاهر أنّ قوله بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين يعني في حركاتهم لا أنّهم مأمورون بتدبير العالم بحركاتهم، فهي مدبّرة باختيارها المنبعث عن أمر اللّه.

ثمّ حكى عن

المحدّث «2» الكاشاني. أنّه قال في «الوافي» في توجيه البداء كلاما ربما يظهر منه مخالفته للمشهور حيث قال: اعلم أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الأمور، بل إنّما تنقش فيها الحوادث شيئا فشيئا، فإنّ ما يحدث في عالم الكون و الفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك و نتائج بركاتها، فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا انتهى ما حكاه عن الكاشاني «3».

ثمّ قال: و ظاهره «4» أنّها فاعلة بالاختيار لملزومات الحوادث، و بالجملة فكفر المعتقد بالرّبط على هذا الوجه الثاني لم يظهر من الأخبار، و مخالفتها لضرورة الدّين لم يثبت أيضا، إذ ليس المراد العليّة التّامة كيف و قد حاول المحدّث الكاشاني بهذه المقدّمات اثبات البداء «5»، أقول: و هو جيّد وجيه فيما ذكره من المنع عن قيام الإجماع و الضرورة على نفي الحياة و القول بالتأثير في الجملة، و إن كان لا يخلو من نظر فيما ذكره في معنى الخبر حسبما سنشير إليه و الى ما يرد على المحدّث الكاشاني في تفسير الآيات

__________________________________________________

(1) الاحتجاج ط النجف الأشرف ج 2 ص 72.

(2) هو العالم الفاضل الكامل الحكيم المتأله محمد بن المرتضى المدعوّ بالمولى محسن القاشاني توفي سنة (1091) ه

(3) الوافي: ج 1 ص 112.

(4) أي و ظاهر كلام المحقّق الكاشاني.

(5) المكاسب ج 2 بتعليق الكلانتر ص 331- 344.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 47

المتعلّقة بها.

ثمّ أنّ قوله عليه السّلام في الخبر المتقدّم بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين ظاهر فيما ذكرناه من الحياة و الإختيار على كلا الوجهين في معنى الخبر فلا تغفل، فقد ظهر ممّا مرّ أنّه ليس

لهم الاستناد في نفي الحياة إلى الإجماع و الضّرورة و أمّا الوجوه الّتي ربما يحكى عن المتكلّمين فهي بمكان من الضّعف و القصور، و لذا قال السيّد المرتضى «1» في أجوبة «2» المسائل السلارية أنّه قد سطر المتكلّمون طرقا كثيرة في أنّ النجوم ليست بحيّة و لا قادرة، أكثرها معترض، و أشفّ ما قيل في ذلك أنّ الحياة معلوم أنّ الحرارة الشّديدة كحرارة النّار تفنيها و لا تثبت معها، و معلوم أنّ حرارة الشّمس أشدّ و أقوى من حرارة النّار بكثير، لأنّ الّذي يصل إلينا على بعد المسافة من حرارة الشّمس بشعاعها يماثل أو يزيد على حرارة النّار و لما كان بهذه الصّفة من الحرارة يستحيل كونه حيّا.

أقول: و هو كما ترى، ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا المجلسي طاب ثراه قد صرّح في موضع آخر بأنّ للأشياء كلّها شعورا و اختيارا و تسبيحا إراديّا حملا للآيات و الاخبار النّاطقة بذلك على ظاهرها، و قد مرّت حكاية عبارته، فاعتراضه في المقام على شيخنا البهائي طاب ثراه لا يخلو من غرابة، سيّما مع ما ربّما يوهمه كلامه من التعريض عليه أو على غيره.

__________________________________________________

(1) هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم الامام موسى الكاظم عليه السّلام توفى لخمس بقين من ربيع الاول سنة (436) ه

(2) كتاب في المسائل التي سألها عن السيّد المرتضى تلميذه حمزة بن عبد العزيز الديلمي أبو يعلى سلّار المتوفى (463) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 48

ثمّ أنّ ما ذكره شيخنا التّستري دام علاه في تحقيق الفاعليّة بقسميه و المنع من أحدهما دون الآخر لعلّه ينفعك في تقريب ما مرّت الإشارة إليه من معنى وساطة النّبي و

آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين للفيوض الإلهية و بابيّتهم و شفاعتهم و انّه غير التفويض الّذي نقول بكفر معتقده حسبما مر غير مرّة.

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لمّا وصف نفسه بكمال القدرة و الاستيلاء قرن ذلك بكمال العلم ليعلم وقوع الفعل منه على النمط الأتقن و الوجه الأحسن، فانّ القادر العالم بوجوه الصّنع و هندسة المقادير لا يختار في فعله بالحكمة البالغة إلّا الأكمل الأجمل، و هذا من الاستدلال بالعلّة على المعلول، و يحتمل العكس تنبيها على أنّ من كان فعله على هذا النظم العجيب و النّسق البديع مع اتّصال الإمداد و سيلان الفيض منه عليه الموجب لبقائه بقيّوميّته المطلقة فهو متّصف بكمال العلم بجميع ما في الإمكان و الأكوان، فانّ إتقان الأفعال و إحكامها و اختيار الوجه الأحسن الأتقن فيها أدلّ دليل على العلم و الحكمة.

و فيه تهديد شديد على من قابل الإحسان بالكفران حيث ختم به الامتنان عليهم بخلق أنفسهم و التفضل عليهم بما فيه حياتهم في العاجل و الآجل بعد توبيخهم على كفرهم في صدر الآية السابقة فكأنّه هدّدهم بأنّ عاقبتهم السّؤى لعلمه بقبح فعالهم و سوء مقالهم و نظيره قوله: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ «1».

__________________________________________________

(1) التوبة: 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 49

و من هنا ينقدح أنّ فيها إشارة إلى دفع الشبهة المختلجة في صدورهم الجارية على ألسنتهم من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت و تفرّقت أجزاؤها و تمزّقت كلّ ممزّق و اتّصلت أجزاؤها البسيطة بما يشاكلها في مراكزها و عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة، فكيف يجمع أجزاء كلّ بدن مرّة

ثانية بحيث لا يشذ منها شي ء و لا ينضمّ إليها غيرها، فأجاب بأنّه سهل يسير لمن له القدرة الكليّة و الإحاطة العلميّة كما في قوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «1»، و قوله: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ «2» و ذلك بعد ما أشار في الآية السّابقة إلى أنّ مواد الأبدان قابلة للجمع و التفريق و الحياة بعد الموت، و أنّ القادر على انشائها أوّل مرّة قادر على احيائها في الآخرة، فصحّ دلالة الآيتين على صحّة الحشر.

و قد ظهر ممّا مرّ وجه التعبير بصيغة الفعيل دون الفاعل، و لذا قال سيبويه «3»:

إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى فعيل نحو عليم و حكيم، و قد سكّن نافع «4» من طريق قالون «5»، و أبو عمرو «6»، و الكسائي «7» الهاء في نحو (فهو) و (و هو) تشبيها له بعضد،

__________________________________________________

(1) يس: 79.

(2) لقمان: 16.

(3) هو عمرو بن عثمان الفارسي البيضاوي الفارسي النحوي المتوفى (180) ه.

(4) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو رويم المدني المتوفى (169) أحد القرّاء السبعة.

(5) هو عيسى بن مينا بن وردان الملقب بقالون قارئ المدينة توفي سنة (220) ه

(6) هو زبان بن العلاء بن عمار ابو عمرو البصري المتوفى (154) أحد القراء السبعة.

(7) هو ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي المقرئ النحوي (المتوفى (179) أحد القراء السبعة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 50

و في نحو (فهي) و (هي) تشبيها له بكتف، تنزيلا للأوائل منزلة الأواسط، حيث جعلوا الواو و الفاء

كانّهما من نفس الكلمة، و هي لغة فصيحة.

تفسير الآية (30)

اشارة

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً شروع في ذكر بدء خلق آدم و كيفية تكريم اللّه تعالى له قبل ظهوره في هذا العالم، حيث بشّر به ملائكته و نوّه باسمه و أهّله للخلافة الكليّة، و أودعه علمه و حكمته، و النور الذي هو السبب الكلّي لإيجاده و تكريمه و أمره بسجود ملائكته له، و غير ذلك ممّا يأتي، و ذلك النور هو نور نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين، فالآية إشارة إلى مننه التي لا تحصى و لا تستقصى عليه و على ذريّته الطيّبين صلوات اللّه عليهم أجمعين، حيث إنّه سبحانه آتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، ثمّ على خصوص هذه الأمّة المرحومة الذين هم شيعتهم و محبّوهم حيث خلقهم اللّه تعالى من فاضل طينتهم، و عجنهم بماء ولايتهم، ثم على عموم بني آدم حيث خصّهم بهذه النّعمة العظمى من بين أهل العالم، فانّه من أدلّ الدلائل على عناية الباري سبحانه بشأن هذا النوع.

و إِذْ في الأصل ظرف للزمن الماضي، و استعماله للاستقبال في نحو يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها «1» قليل، أو مؤوّل، و تلزمه الإضافة إلى الجمل، فأشبه الحروف بافتقاره الأصلي، ثمّ أنّه قد يخرج عن الظرفيّة المحضة لكثرة دوره في

__________________________________________________

(1) الزلزال: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 51

الكلام، فيستعمل للتّعليل للمناسبة بينه و بين الظرف، و قد يحذف عامله نحو وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ «1» أي و إذ لم يهتدوا ظهر عنادهم، ثمّ توسّعوا فيه باستعماله بمعنى الوقت مطلقا، فنصبوه على المفعول به بتقدير اذكر، كما في الآية و في

كثير من أوائل القصص، أو على البداية كقوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ «2» و خفضوه بإضافة الأزمنة خاصّة إليه، في نحو حينئذ و يومئذ، و بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا «3».

و أمّا رفعه بالفاعليّة و نحوها فالجمهور على عدم جوازه، حسبما يحكى عنهم لكن الأظهر وفاقا لكثير ممّن تأخّر جوازه، و لذا وجّه الزّمخشري «4» قراءة بعضهم لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا «5» بكونه في محلّ الرّفع على الابتداء حملا له على إذا في قولهم: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما «6» للتّسوية بين المبتدأ و الخبر، و لا غرابة في ذلك بعد مساعدة القليل، و هو اتّفاقهم على التّصرف و الخروج عن الظّرفيّة، و من هنا يظهر أنّه لا يحتاج إلى سماع خاصّ، فلا يقدح فيه عدم التصريح به، و لعلّ فيما يأتي من عبارة الإمام عليه السّلام دلالة على ما اخترناه فلاحظ، و التزام ظرفيّته دائما حتّى في مثل المقام تكلف جدّا، بل قيل: إنّه و هم فاحش، لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر في الوقت الذي قد مضى مع أنّ امتثال الأمر في الحال أو الاستقبال، بل من البيّن أنّ المراد في مثل المقام ذكر الوقت نفسه

__________________________________________________

(1) الأحقاف: 11.

(2) المائدة: 20.

(3) آل عمران: 8.

(4) هو ابو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي المعتزلي المتوفى (538) ه.

(5) آل عمران: 164.

(6) الكشاف ج 1 ص 477 ط بيروت دار الفكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 52

لا الذكر في الوقت.

و جعله ظرفا للحادث المحذوف، كما توهمه البيضاوي «1» بأن يكون التقدير و اذكر الحادث، إذ قال ربّك، مع كونه خلاف المنساق عن

السّياق و اشتماله على التكلّف الظّاهر مردود بأولويّة المجاز من الإضمار.

و أوهن من الجميع القول بكونه زائدا في مثل المقام كما عن أبي عبيدة «2» و غيره.

و عامله في الآية اذكر على أن يكون مفعولا به له، لا على ما قيل من التأويل، و تكون الجملة عطفا على قوله: وَ بَشِّرِ «3» من عطف القصّة على القصّة، من غير التفات إلى ما فيها من الجمل إنشاء و إخبارا، و المتخلل من تمام القصّة، أو جار مجرى الاعتراض، و عطفا على فتدبّر، و نحوه مقدرا بعد قوله: و هو بكلّ شي ء عليم، كأنّه قال بعد تعداد النعم و الاستدلال بالعلّة على المعلول، أو العكس على ما تقدم فتدبر ذلك و اذكر.

و يحتمل أن يكون الفاعل فيه قوله في هذه الآية: قالُوا، فيكون على حقيقة الظرفيّة، و المعنى قالت الملائكة إذ قال ربّك لهم إنّي جاعل في الأرض خليفة: أ تجعل، و إن يكون ظرفا لمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل: و بدأ خلقكم.

__________________________________________________

(1) هو القاضي ناصر الدين عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي الفارسي الاشعري الشافعي توفي بتبريز سنة (685) ه- الكنى و الألقاب ج 2 ص 100.

(2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري النحوي اللغوي المتوفى (309) أو 211.

(3) سورة البقرة: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 53

لكن في تفسير الإمام عليه السّلام ما يستفاد منه كونه ظرفا لقوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ حيث قال عليه السّلام: لمّا قيل لهم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» قالوا: متى كان هذا؟ قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إبداعي هذا الخلق: لَكُمْ

ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً حين قال ربّك «2».

بناء على أحد الوجهين فيه، و الوجه الآخر خروجه عن الظّرفية بكونه خبرا عن قوله ابداعي، و لذا عبّر عنه بلفظ حين و جعله مسندا، و لعلّ المراد أنّهم لما سألوا عن الوقت أجيبوا بانّه حيث لم يكن لكم وجود، و لا قوّة اعانة له في خلق معايشكم، و لا لسان سؤال منه بل كان حين التفضل عليكم بالإخبار من إرادة خلق أبيكم و تكريمه بكذا و كذا، فالظّرف هو الزمان الممتد قبل خلق آدم، و إن كان خلق ما في الأرض في طرف منه، و القول في آخر تنبيها على أنّه هو المبتدء بالنعم قبل الاستحقاق و قبل وجود المستحق.

و القول موضوع لحكاية لفظ أو فعل أو حال باللّفظ الدّال عليه، و قد يعمّ في الحكاية كالمحكي بناء على التوسعة فيه عمّا وضع له في اصل اللغة، و يقال: قال بيده أي أشار، و هو منه تعالى بما يفيد الإفهام من وحي أو إلهام أو خلق صوت و كلام، أو نصب دليل على المرام.

و قد مرّت الإشارة إلى معاني الرّب في الفاتحة و الأنسب منها في المقام هو المربّي بإيصال الفيوض و المتفضل بالإمدادات الظاهرة و الباطنة مع دفع العوائق إلى أن يصل إلى الكمال اللائق، و أضافته إلى ضمير الخطاب المكنى به عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله للاشارة إلى أنه هو المقصود الاصلي و السبب الكلّي في خلق آدم و انّ ذلك من تمام

__________________________________________________

(1) البقرة: 29.

(2) تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام، نقل عنه تفسير البرهان ج 1 ص 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 54

تربيته و ارادة ظهوره في

هذا العالم، فانّه كالثمرة المقصودة من هذه الشجرة، و التنبيه على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان مقيما على حدّ العبوديّة متمكنا في مقام الشهود الدائم، و لذا شافهه كفاحا.

و الملائكة جمع ملك، و أصله ملأك، بل قيل: أنّه لا خلاف في ذلك و قد جاء الأصل في نحو.

و لست لإنسيّ و لكن لملأك تنزل من جوّ السّماء يصوب و انّما اختلفوا في ملأك فعن الكسائي و ابن السكيت «1» و اللّيث «2» أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك، و هي الرسالة، ثمّ قلبت بتقديم اللام، ثمّ تركت همزته لكثرة الاستعمال، فلما جمعوه ردّوها إليه فقالوا ملائكة و ملائك أيضا، و عن أبي عبيدة أنّه فعل من لاك إذا أرسل، قال في القاموس: الملأك و الملأكة الرسالة و ألكني إلى فلان أبلغه عني، أصله الئكني، حذفت الهمزة و ألقيت حركتها على ما قبلها، و الملأك الملك، لأنّه يبلغ عن اللّه تعالى و وزنه مفعل و العين محذوفة، و ألزمت التخفيف إلّا شاذا، و هذا لسلامته من القلب سيّما مع شيوع استعماله أجود من الأوّل، و توهم ضعفه مدفوع بثبوت النقل و الاستعمال، مع أنّه المحكي عن ابن الأنباري «3» و ابن

__________________________________________________

(1) ابن السكيت (بكسر السين و تشديد الكاف): أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الاهوازي النحوي اللغوي المقتول بأمر المتوكل سنة (244) ه الكنى و الألقاب: ج 1 ص 314.

(2) الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ من جلّة أصحاب الكسائي توفي سنة (240) ه غاية النهاية: ج 2 ص 34.

(3) هو ابو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار اللغوي النحوي الأديب المستوفى (304) أو 305.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 5، ص: 55

الهيثم «1» و غيرهما، فلا ينبغي التّأمل في ثبوته لعدم نصّ الجوهري «2» و غيره و عن ابن كيسان «3» أنّه من ملك لدوران المادّة مع القوّة و الشدّة يقال: ملكت العجين أي شددت عجنه، و ملّك النبعة، و هي اسم شجرة صلّبها و ذلك إذا يبّسها في الشمس مع قشرها، و ملكت بالطعنة كفى أي شددت، و معنى القوة ظاهر في المالك و الملك و ما تصرّف منهما، و منه ملك الدابة بضمّ الميم و اللام لقوائمها، و ملك الطريق بالتثليث لمعظمه، بل قد يرجح هذا على الأوّلين بأنّ معنى الشدّة و القوّة يعمّ جميع الملائكة، و ناهيك في ذلك قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «4»، و أيّ قوّة أعظم من ذلك و أنّه سبحانه جعلهم وسائط جلّ أو كلّ ما يظهره في هذا العالم ببديع حكمته و باهر قدرته من الفيوض التكوينيّة و الاحكام التشريعية.

و أمّا الرسالة فلقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ «5».

و أمّا قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «6» فمخصص جمعا بل و ضرورة إلّا مع التجوّز في معنى الرسالة، و يشكل حينئذ بجمعه هذا الجمع إلّا باعتبار أصله الذي هو ملأك على أن الهمزة مزيدة فيجمع على ملائك كشمأل و شمائل، و أمّا الحاق التاء فقيل: إنّه لتأكيد تأنيث الجماعة، و أوسط الأقوال أوسطها لسلامته من القلب

__________________________________________________

(1) هو داود بن الهيثم بن إسحاق ابو سعيد التنوخي الأنباري اللغوي النحوي المتوفى (316).

(2) الجوهري: ابو نصر إسماعيل بن حمّاد الفارابي: المتوفى سنة (393) ه على الأشهر.

(3) هو ابو الحسن محمد بن احمد بن ابراهيم بن كيسان البغدادي النحوي

المتوفى (299) ه

(4) الأنبياء: 20.

(5) الحجّ: 75.

(6) فاطر: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 56

و قلّة البناء على فعأل فلا يرتكب مثله إلّا لظهور الاشتقاق كما في شمأل، مضافا إلى ظهور المناسبة، و عدم اطّرادها على فرضه غير قادح.

و المراد بهم هذا الخلق المعروف الذين هم أجسام نورانية على ما تأتي إليها الإشارة، و الجعل إمّا بمعنى الخلق أو بمعنى الصيرورة، فله مفعولان دخل على المبتدأ و الخبر، «في الأرض خليفة» عمل جاعل فيهما لكونه بمعنى الاستقبال معتمدا على المسند اليه، و هو ضمير المتكلم في أنّي، و «الخليفة» فعيلة من استخلف في الأمر مكان من قبله فكانّه خلف غيره و قام مقامه، كما أن الامام مأخوذ من الأمّ الذي هو القصد، أو من الامام لتقدمه فهو المتقدّم الذي يقتدى به، و زيدت الهاء للمبالغة.

و المراد به خصوص آدم لأنه كان خليفة اللّه في أرضه في عمارة الأرض و نشر الشرائع و الأحكام و تكميل الأنام و سياستهم و تنفيذ أمره فيهم.

أو لأنه خليفة من سكن الأرض قبله من الملائكة حيث كانوا يعبدون اللّه في الأرض فلما قال لهم: إنّي جاعل في الأرض خليفة بدلا منكم و رافعكم منها اشتدّ ذلك عليهم لأنّ العبادة عند رجوعهم الى السماء تكون أثقل عليهم، كما في تفسير الإمام عليه السّلام «1».

أو من بني الجان و النسناس و غيرهم ممّن سكن الأرض و اشتغل بالسفك و الإفساد فأكلوا رزقه و عبدوا غيره.

و أنّ المراد به هو الخاتم لاختصاصه بالخلافة الكليّة المحمّدية و لذا نكره تعظيما له و تفخيما لشأنه.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 73 عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5،

ص: 57

أو كلّ نبيّ أو الحجّة بعد الحجّة في كلّ زمان حيث إنّ الأرض لا تخلوا في كلّ زمان من حجة معصوم أو آدم و ذريّته، و ستسمع تفصيل الكلام فيه، و إفراد اللفظ على بعض الوجوه ظاهر للوحدة الشخصيّة أو الوجوديّة في كلّ عصر و على غيره فعلى تأويل من يخلف أو خلقا يخلف، أو للاستغناء بذكر الأب الجسماني أو الروحاني عن ذكر نبيّه، كما استغنى بذكر أبي القبيلة في قولهم: هاشم، و لؤيّ، و مضر، على أنّه قد يقال بمعنى فاعلة اسم يصلح للواحد و الجمع و المذكر و المؤنث.

و قرأ خليقة بالقاف و هو في الأصل مصدر يطلق على الخلائق يقال هم خليقة اللّه و هم خلق اللّه و على الطبيعة لاختصاص هذا النوع بطبيعة لا يشاركه فيها شي ء من الخلق و إن شارك الكلّ في طبائعهم في الجملة، و التّاء ... باعتبار تعدد الموصوف أو تأنيثه، فانّه قد استعمل بمعنى المفعول.

و المراد بالأرض تمام البسيط من البراري و البحار، فانّ للإنسان الخلافة في الجميع هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ «1» و كذا تمام الجهات الأربعة من الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب لظاهر الآية و تحقق الدّحو قبل الخطاب.

و أما ما روي من طرق العامة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: دحيت الأرض من مكّة و كانت الملائكة تطوف بالبيت و هي أوّل من طاف بها، و هي الأرض التي قال اللّه تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2» فضعيف سندا، و لو صحّ فلعلّ تخصيص أرض مكّة بالذكر لتبعيّة غيرها لها خلقا و شرفا، فلعلّه اشارة إلى أن المقصود من

__________________________________________________

(1) يونس: 22.

(2) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 165 رواه عن عبد الرحمن بن سابط، عن النبي و عبد الرحمن توفي سنة (118) فخبره مرسل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 58

تلك الخلافة بل من خلق آدم و غيره هو الخلافة الكليّة الثابتة لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، حيث إنّه بعث في الأمّيّين لينذر أمّ القرى و من حولها، فكما أنّ الأرض دحيت من مكة، فكذلك أعلام العلم و الهداية تشرّف منها، و لعلّ هذا هو السرّ في إعلام الملائكة بخلق آدم الذي هو طليعة ظهور الخاتم الذي هو علّة وجود العالم، لأنّه المخاطب بقوله: «لولاك لما خلقت الأفلاك» «1» ففي الإبشار بوجوده قبل خلقه و استحقاقه الخلافة الالهيّة و جامعيّة المطلقة، سيّما مع إزاحة ما ربما يختلج في صدورهم من الشك في فضله أو التّرديد في سببه إشارات إلى تعظيمه و تكريمه و اظهار لفضله الرّاجح على ما فيه من المفاسد، سيّما مع كونه مستودعا للأنوار الالهيّة و الأشباح القدسيّة التي هي أنوار الأئمة عليهم السّلام.

بقي الكلام في أمور: أحدها أنّه لا خلاف بين الملّيّين القائلين بحدوث العالم في تأخر خلقة آدم عن هذا العالم الجسماني، و اختلفوا في قدر تأخّره، كما أنّهم قد اختلفوا في قدر بقائه فالاحكاميون منهم بنوا ذلك على ما اصطلحوا عليه من حساب الأدوار، و ذلك انّهم أجمعوا على أن الكواكب السّبع السيّارة كانت في بدو خلق العالم مجتمعة مقترنة في أوّل نقطة برج الحمل و انّ أوجاتها و جوزهريّتها كانت مقترنة معها في أوّل دقيقة من الحمل، بل و كذا الثوابت على رأي المتأخرين الذين ذهبوا إلى أنّ لها حركة بطيئة، و تنقسم الأدوار عندهم إلى أدوار الألوف و

أدوار الفصول، و للأول أقسام أربعة: أعظم و اكبر و أوسط و أصغر، و لكلّ منها تيسير و انتهاء، و لهم في ذلك كلام طويل لا طائل تحت التعرض له، و زعموا أن مقدار عمر

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 16 ص 406 عن المناقب لابن شهر آشوب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 59

الدّنيا هو ما بين القران الكلي للسّبع في دقيقة أوّل الحمل إلى قران آخر مثله، فاعتمدوا في معظم الحوادث على القرانات الكليّة، سيّما التي بين العلويين إلى غير ذلك من هذياناتهم التي لا ينبغي الإصغاء إليها، و ذكر بعضهم في تاريخ صنّفه في سنة تسعمائة و احدى و أربعين من الهجرة النّبوية انّه قد انقضى من حركة الأفلاك و الكواكب ثمان مائة و ستّ عشر ألف سنة و ثلاثمائة و اثنان و ثمانون سنة، و من أوّل أيّام العالم الذي هو عبارة عن اجتماع السبع السيّارة في أوّل نقطة من الحمل و هو المسمّى عندهم بالقران السباعي مائة و أربع و ثمانون ألف سنة و ستمائة و اثنان و سبعون سنة، و من خلقة الجنّ و الشياطين ستّ و ستون ألف سنة و تسعمائة و أربع و عشرون سنة، و من كتابة الصخرة أربعون ألف سنة و اربع و ثلاثون سنة، و من بناء هرمان بمصر ثلاثة عشر ألف سنة و ستّمائة و ثلاث و أربعون ألف سنة، و من هبوط آدم على نبيّنا و آله و عليه السلام سبعة آلاف سنة و مائة و اربع سنين، إلى آخر ما ذكره.

و ليت شعري من أين قدّر هذه الأوقات، ثمّ إنّ المشهور أنّ بناء الهرمين كان بعد الهبوط و ان بانيه كان من بني

أبينا آدم أبي البشر، و إن اختلفوا في بانيها على أقوال قال في القاموس: الهرمان بالتحريك بناء آن أوّليان بناهما إدريس عليه السّلام لحفظ العلوم فيهما عن الطّوفان، أو بناء سنان بن المشلشل أو بناء الأوائل لمّا علموا بالطوفان من جهة النجوم، و فيهما كلّ طبّ و طلسم و هنالك أهرام صغار كثيرة انتهى.

و لعلّ توهّم تقدّمه على الهبوط مبنيّ على ما اشتهر في الألسنة أو وجد مكتوبا هناك، أو في موضع آخر من أنّه بنى الهرمين و النّسر طائر في السرطان،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 60

و عدّه في «تحفة العالم» حديثا و هو وهم.

و بالجملة فأقوالهم في ذلك على اختلافها لا عبرة بشي ء منها لفقد الحجّة عليها، و أمّا الأخبار فهي مختلفة أيضا ففي «المشارق» و غيره أنّه سئل مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عن عمر الدنيا فقال عليه السّلام يقال سبعة آلاف ثمّ لا تحديد «1».

و لعلّ المراد أنّ تلك المدّة المذكورة كانت من آدم إلى الخاتم، كما لعلّه يومئ اليه خبر أبي لبيد «2» المتقدّم في تفسير «ألم» و أمّا نفي التحديد فمن مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى قيام السّاعة.

و في «جامع الاخبار» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ موسى عليه السّلام سأل ربّه عز و جل أن يعرفه بدء الدّنيا منذ كم خلقت؟ فأوحى اللّه تعالى إلى موسى تسألني عن غوامض علمي؟

فقال: يا ربّ أحبّ أن أعلم ذلك، فقال: يا موسى خلقت الدّنيا منذ مائة ألف ألف عام عشر مرّات «3»، الخبر على ما مرّ مع اخبار أخر في تفسير قوله رَبِّ الْعالَمِينَ.

و روى العياشي عن عيسى بن أبي حمزة قال: قال رجل لأبي عبد

اللّه عليه السّلام جعلت فداك إنّ الناس يزعمون أنّ الدنيا عمرها عشرة آلاف سنة فقال ليس كما يقولون، إنّ اللّه خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعا قفرا، خاوية عشرة آلاف، ثمّ بدا للّه بداء فخلق فيها خلقا ليس من الجنّ و لا من الملائكة و لا من الانس، و قدّر لهم عشرة آلاف عام فلمّا قربت آجالهم أفسدوا فيها فدمّر اللّه عليهم تدميرا ثمّ تركها

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 127 عن ارشاد القلوب ج 2 ص 186- 187.

(2) البحار ج 52 ص 106 و ابو لبيد هو البحراني الهجري المخزومي من أصحاب الباقر عليه السّلام.

(3) البحار: ج 57 ص 331 عن جامع الاخبار.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 61

خاوية عشرة آلاف عام ثمّ خلق فيها و قدّر لهم عشرة آلاف عام فلمّا قربت أفسدوا فيها و سفكوا الدّماء و هو قول الملائكة: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ كما سفكت بنو الجان، فاهلكهم اللّه تعالى ثمّ بدا للّه فخلق آدم و قدّر له عشرة آلاف، و قد مضى من ذلك سبعة، آلاف عام و مائتان و أنتم في آخر الزمان «1».

و في «الخصال» و «المعاني» عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يخلق السّموات و الأرض و العرش و الكرسي و اللّوح و القلم و الجنّة و النّار و قبل أنّ يخلق آدم و نوحا و ابراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و موسى و عيسى و داود و سليمان و قبل أن يخلق الأنبياء كلّهم باربعمائة ألف سنة و أربع و

عشرين ألف سنة «2».

و في الاختصاص عنهم عليهم السّلام: أنّ اللّه خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا «3»، الخبر.

و في البحار: عن أبي الحسن البكري «4» استاد الشهيد الثاني في كتاب الأنوار عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال كان اللّه و لا شي ء معه، فأوّل ما خلق نور حبيبه محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل خلق الماء و العرش و الكرسي و السماوات و الأرض و اللّوح و القلم و الجنّة و النّار و الملائكة و آدم و حوّاء باربعة و عشرين و اربعمائة ألف عام، فلمّا خلق اللّه تعالى نور نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله بقي ألف عام بين يدي اللّه عزّ و جلّ واقفا يسبّحه و يحمده،

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 31 و عنه تفسير البرهان ج 1 ص 57.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 175.

(3) بحار الأنوار: ج 25 ص 1 ح 2 عن الاختصاص.

(4) هو الشيخ الجليل أحمد بن عبد اللّه بن محمد البكري صاحب كتاب الأنوار في مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و كتب أخر، توفي سنة (953) ه بمصر و دفن جنب قبر الشافعي و بنوا عليه قبّة عظيمة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 62

و الحق تبارك و تعالى ينظر اليه و يقول: يا عبدي أنت المراد و المريد، و أنت خيرتي من خلقي، و عزتي و جلالي لولاك ما خلقت الأفلاك، من أحبّك أحببته و من أبغضك أبغضته، فتلألأ نوره و ارتفع شعاعه فخلق اللّه تعالى منه اثني عشر حجابا أوّلها حجاب القدرة، ثمّ حجاب العظمة، ثمّ حجاب العزّة، ثمّ

حجاب الهيبة، ثمّ حجاب الجبروت، ثمّ حجاب الرّحمة، ثمّ حجاب النبوة، ثمّ حجاب الكبرياء، و في بعض النّسخ الكرامة، ثمّ حجاب المنزلة، ثمّ حجاب الرفعة، ثمّ حجاب السعادة، ثمّ حجاب الشفاعة، ثمّ إنّ اللّه تعالى أمر نور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يدخل في حجاب القدرة فدخل و هو يقول سبحان العليّ الأعلى، و بقي على ذلك اثني عشر ألف عام، ثمّ أمره أن يدخل في حجاب العظمة فدخل و هو يقول: سبحان عالم السرّ و أخفى أحد عشر ألف عام، ثمّ دخل في حجاب العزّة و هو يقول: سبحان الملك المنّان عشرة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الهيبة و هو يقول: سبحان من هو غنيّ لا يفتقر تسعة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الجبروت و هو يقول: سبحان الكريم الأكرم ثمانية آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الرّحمة و هو يقول: سبحان ربّ العرش العظيم سبعة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب النبوّة و هو يقول: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ستة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الكبرياء و هو يقول:

سبحان العظيم الأعظم خمسة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب المنزلة و هو يقول:

سبحان العليم الكريم، أربعة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب الرفعة و هو يقول:

سبحان ذي الملك و الملكوت ثلاثة آلاف عام، ثمّ دخل في حجاب السّعادة و هو يقول: سبحان من يزيل الأشياء و لا يزول ألفي عام، ثمّ دخل في حجاب الشفاعة و هو يقول سبحان اللّه و بحمده سبحان اللّه العظيم ألف عام، قال الامام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: ثمّ انّ اللّه تعالى خلق من نور محمّد صلّى اللّه عليه

و آله عشرين بحرا من نور، في كلّ بحر علوم لا يعلمها إلّا اللّه تعالى، ثمّ قال لنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله: أنزل في بحر العزّ فنزل،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 63

ثمّ في بحر الصبر، ثمّ في بحر الخشوع، ثمّ في بحر التواضع، ثمّ في بحر الرضا، ثمّ في بحر الوفاء، ثمّ في بحر العلم، ثمّ في بحر التّقى، ثمّ في بحر الخشية، ثمّ في بحر الإنابة، ثمّ في بحر العمل، ثمّ في بحر المزيد، ثمّ في بحر الهدى، ثمّ في بحر الصّيانة، ثمّ في بحر الحياء، حتّى تقلب في عشرين بحرا، فلمّا خرج من آخر الأبحر قال اللّه تعالى: يا حبيبي و سيّد رسلي و يا أوّل مخلوقاتي و يا آخر رسلي أنت الشّفيع يوم المحشر، فخرّ النور ساجدا ثمّ قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف و أربعة و عشرين ألف قطرة، فخلق اللّه تعالى من كلّ قطرة من نوره نبيّا من الأنبياء، فلمّا تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما تطوف الحجّاج حول بيت اللّه الحرام، و هم يسبّحون اللّه و يحمدونه و يقولون: سبحان من هو عالم لا يجهل، سبحان من هو حليم لا يعجل، سبحان من هو غنيّ لا يفتقر، فناداهم اللّه تعالى:

تعرفون من أنا؟ فسبق نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل الأنوار و نادى: أنت اللّه لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، ربّ الأرباب و ملك الملوك، فإذا بالنداء من قبل الحق أنت صفيّي و أنت حبيبي و خير خلقي، أمّتك خير أمّة أخرجت للنّاس ثمّ خلق من نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله

جوهرة، و قسّمها قسمين: فنظر الى القسم الأوّل بعين الهيبة فصار ماء عذبا، و نظر إلى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، و خلق من نور الكرسي اللّوح، و خلق من نور اللوح القلم الى آخر الخبر «1».

و بالجملة فالأخبار الدالّة على بدو العالم و مقدار كينونته مختلفة جدّا بحيث لا يمكن الجمع بينها إلّا بالتأويلات البعيدة الّتي لا داعي إلى ارتكابها في المقام، بل الأولى ردّ علمه إلى أهله.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57 ص 198- 200.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 64

ثمّ أنّ لغير الملّيّين أيضا مقالات في ذلك و أكثرهم على القدم بل على إنكار آدم أبي البشر، حيث زعموا أنّه لا أوّل لنوع البشر بل و لا لغيرهم من الأنواع المتوالدة كما هو المحكي عن الفلاسفة، و أمّا الهنود و البراهمة فأكثرهم على نفي الأفلاك و استقلال الكواكب سيّما السيّارة و خصوصا الشمس في الآثار الواقعة و إيجاد الكينونات الحادثة و زعموا أنّه تعالى خلقها و فوّض إليها تدبير العالم و اختفى هو في الملأ الأعلى و ربّما يظهر لبعض المصالح في صور بعض الحيوانات و اكثر ما يظهر في صورة البقر، و لذا يبالغون في تكريمه و إعظامه، و لهم غلوّ في القول بالحلول و التّناسخ و إنكار المعاد، و قالوا: إنّ العالم ليس له أوّل و لا آخر، و لا يزال يدور بين أدوار أربعة فالامتداد للدّور الأوّل ألف ألف سنة و سبعمائة ألف سنة و عشرون ألف سنة، و للدّور الثّاني ألف ألف سنة و مائتا ألف سنة و تسعون ألف سنة، و للدّور الثالث ثمانمائة ألف سنة

و أربعة و ستّون ألف سنة، و للرّابع أربعمائة ألف سنة و اثنان و ثلاثون ألف سنة، و زعموا أنّه قد مضى من الدّورة الرابعة ما يقرب من خمسة آلاف سنة، و انّه إذا انقضت الأدوار فلا بدّ أن ينقلب العالم و يفنى أهله، ثمّ يبتدأ من الدّور الأوّل أيضا من دون فصل، و زعموا أنّه قد كانت الأعمار الطّبيعيّة لنوع البشر في الدّورة الأولى مائة ألف سنة، و في الثانية عشرة آلاف سنة، و في الثالثة ألف سنة، و أنّه كان آدم و نوح في أواخر تلك الدّورة، و في الرابعة مائة و عشرين سنة.

و حكى شيخنا المجلسي عن الهنود: أن من كان منهم على رأي الفلاسفة فهو يوافقهم في القول بالقدم، و من لم يكن منهم على رأي الفلاسفة و قال بحدوث العالم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 65

لم يثبت آدم، و يقول: إنّ اللّه تعالى خلق الأفلاك و خلق فيها طباعا محركة لها بذاتها، فلمّا تحرّكت و حشوها أجسام، لاستحالة الخلأ، و كانت الأجسام على طبيعة واحدة، فاختلفت طبايعها بالحركة الفلكية، و كان القريب من الفلك أسخن و ألطف، و البعيد أبرد و أكثف، ثم اختلطت العناصر و تكوّنت منها المركّبات، و ممّا تكوّن منه نوع البشر، كما يتكوّن الدّود في الفاكهة و اللحم و البق في البطايح و المواضع الغضّة، ثمّ تكوّن البشر بعضه من بعض بالتّوالد، و نسي التخليق الأوّل الذي كان بالتولّد، و من الممكن أن يقول: يتكوّن بعض البشر في بعض الأراضي القاصية بالتولد و انّما انقطع التولّد لأن الطبيعة إذا وجدت للكون طريقا استغنت عن طريق ثان.

قال: و أمّا المجوس فلا يعرفون آدم و لا نوحا

و لا ساما و لا حاما و لا يافث و أوّل متكون من البشر عندهم كيومرث، و لقبه كوهشاه أي ملك الجبل، و قد كان كيومرث في الجبال و منهم من يسمّيه گلشاه أي ملك الطين، لأنّه لم يكن يومئذ بشر يملكهم، و قيل: تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا و قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلّا وله و أغمي عليه، و يزعمون أنّ مبدء تكوّنه و حدوثه أنّ يزدان و هو الصانع الأوّل عندهم فكّر في أمر «أهرمن» و هو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق و رمى به، فصارت منه كيومرث، و لهم خبط عظيم في كيفيّة تكوّن أهرمن عن فكرة يزدان، او من إعجابه بنفسه، أو من توحّشه، ثمّ إنّهم قالوا بعد هذيانات غريبة، أنّه قطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان في جبل باصطخر، ثمّ ظهرت على تينك الرّيباستين الأعضاء البشرية في أوّل الشهر التاسع و تمّت أجزائه فتصوّر منها بشران ذكر و أنثى، و هما ميشا و ميشانه،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 66

و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليّين و يسمّيهما مجوس خوارزم: مرد و مردانه، و زعموا أنّهما مكثوا خمسين سنة مستغنين عن الطّعام و الشراب منعّمين غير متأذّيين بشي ء، حتى ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على تناول فواكه الأشجار و أكل منها و هما يبصرانه شيخا فعاد شابّا، فأكلا منها حينئذ، فوقعا في البلايا و ظهر فيهما الحرص حتّى تزاوجا و ولد لهما ولد، فأكلاه حرصا ثمّ القى اللّه تعالى في قلوبهما رأفة فولد بعد ذلك ستّة أبطن، كلّ بطن ذكر و

أنثى و أسماؤهم في كتاب زردشت معروفة «1».

الى غير ذلك من خرافاتهم التي لا تليق بالذكر، و أمّا اليهود و النصارى فالمحكي عنهم الاتفاق على ما أجمع عليه المسلمون لكن المحكي عن كثير من نصارى الفرانسة و الأرض الجديدة الميل إلى مذاهب الدّهريّة و التناسخ، و انكار المعاد و غير ذلك من الإلحاد.

ثانيها: في الإشارة إلى ما خلقه اللّه تعالى في هذه الأرض من النّسناس و بني الجان و غيرهما.

روى الرّاوندي في «قصصه» في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام قال سئل أمير المؤمنين عليه السّلام هل كان في الأرض خلق من خلق اللّه تعالى يعبدون اللّه قبل آدم عليه السّلام و ذرّيته؟ فقال: نعم قد كان في السموات و الأرض خلق من خلق اللّه تعالى يقدّسون اللّه و يسبّحونه و يعظمّونه بالليل و النّهار لا يفترون فانّ اللّه عزّ و جلّ لمّا خلق الأرضين خلقها قبل السموات، ثمّ خلق الملائكة روحانيّين لهم أجنحة يطيرون بها حيث

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 57 ص 266- 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 67

يشاء اللّه، فأسكنهم فيما بين أطباق السّماوات يقدسونه باللّيل و النّهار و اصطفى منهم اسرافيل و ميكائيل و جبرئيل، ثمّ خلق عزّ و جلّ في الأرض الجنّ روحانيّين لهم أجنحة فخلقهم دون خلق الملائكة، و خفضهم أن يبلغوا مبلغ الملائكة في الطّيران و غير ذلك، فأسكنهم فيما بين أطباق الأرضين السّبع و فوقهنّ يقدّسون اللّه اللّيل و النّهار لا يفترون ثمّ خلق خلقا دونهم لهم أبدان و أرواح بغير أجنحة يأكلون و يشربون، نسناس اشباه خلقهم و ليسوا بإنس، و أسكنهم أوساط الأرض على ظهر الأرض مع الجنّ يقدّسون اللّه اللّيل و النّهار لا

يفترون، قال عليه السّلام و كان الجنّ تطير في السماء فتلقى الملائكة في السماوات فيسلّمون عليهم و يزورونهم و يستريحون إليهم و يتعلّمون منهم الخبر، ثمّ إنّ طائفة من الجنّ و النسناس الذين خلقهم اللّه و أسكنهم أوساط الأرض مع الجنّ تمرّدوا و عتوا عن أمر اللّه تعالى فمرحوا و بغوا في الأرض بغير الحق و علا بعضهم على بعض في العتوّ على اللّه تعالى حتى سفكوا الدماء فيما بينهم، و أظهروا الفساد و جحدوا ربوبيّة اللّه.

قال: و أقامت الطائفة المطيعون من الجنّ على رضوان اللّه و طاعته، و باينوا الطائفتين من الجنّ و النّسناس الذين عتوا عن أمر اللّه تعالى، قال: فحط اللّه تعالى أجنحة طائفة من الجنّ الذين عتوا عن أمر اللّه و تمرّدوا و كانوا لا يقدرون على الطيران إلى السّماء و إلى ملاقاة الملائكة لمّا ارتكبوا من الذّنوب و المعاصي.

قال: و كانت الطائفة المطيعة لأمر اللّه من الجنّ تطير إلى السماء اللّيل و النّهار على ما كانت عليه، و كان إبليس و اسمه الحارث يظهر للملائكة أنّه من الطائفة المطيعة ثمّ خلق اللّه خلقا على خلاف خلق الملائكة، و على خلاف خلق الجنّ،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 68

و على خلاف خلق النّسناس يدبّون كما يدبّ الهوام في الأرض يأكلون و يشربون كما تأكل الأنعام من مراعي الأرض كلّهم ذكران ليس فيهم إناث، لم يجعل اللّه فيهم شهوة النّساء و لا حبّ الأولاد و لا الحرث و لا طول الأمل و لا لذة عيش و لا يلبسهم الليل و لا يغشاهم النّهار ليسوا ببهائم و لا هوام لباسهم ورق الشجر و شربهم من العيون الغزار و الأودية الكبار، ثمّ أراد اللّه

أن يفرقهم فرقتين فجعل فرقة خلف مطلع الشمس من وراء البحر، فكوّن لهم مدينة أنشأها تسمّى «جابلقا» طولها اثنى عشر ألف فرسخ في اثنى عشر ألف فرسخ، و كوّن عليها سورا من حديد يقطع الأرض إلى السّماء ثم أسكنهم فيها، و أسكن الفرقة الاخرى خلف مغرب الشمس من وراء البحر و كوّن لهم مدينة أنشأها تسمّى «جابلقا» طولها اثنى عشر ألف فرسخ في اثنى عشر ألف فرسخ و كوّن لهم سورا من حديد يقطع الى السّماء فاسكن الفرقة الاخرى فيها، لا يعلم أهل جابرسا بموضع أهل جابلقا، و لا يعلم أهل جابلقا بموضع أهل جابرسا، و لا يعلم بهم أهل أوساط الأرض من الجنّ و النّسناس، فكانت الشمس تطلع على أهل اوساط الأرضين من الجنّ و النّسناس فينتفعون بحرّها و يستضيئون بنورها، ثمّ تغرب في عين حمئة فلا يعلم بها أهل جابلقا إذا غربت، و لا يعلم أهل جابرسا إذا طلعت، لأنّها تطلع من دون جابرسا و تغرب من دون جابلقا.

فقيل: يا أمير المؤمنين فكيف يبصرون و يحيون و كيف يأكلون و يشربون و ليس تطلع الشمس عليهم؟ فقال عليه السّلام: إنّهم يستضيئون بنور اللّه فهم في أشدّ ضوء من نور الشمس، و لا يرون أنّ اللّه تعالى خلق شمسا و لا قمرا و لا نجوما و لا كواكب لا يعرفون شيئا غيره، فقيل: يا أمير المؤمنين فأين إبليس عنهم؟ قال لا يعرفون

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 69

إبليس و لا سمعوا بذكره، لا يعرفون إلّا اللّه وحده لا شريك له لم يكتسب احد منهم قطّ خطيئة و لم يقترف إثما، لا يسقمون و لا يهرمون و لا يموتون إلى يوم القيامة يعبدون اللّه

لا يفترون، اللّيل و النّهار عندهم سواء، قال عليه السّلام: ثمّ إنّ اللّه تعالى أحبّ أن يخلق خلقا و ذلك بعد ما مضى للجنّ و النّسناس سبعة آلاف سنة فلمّا كان من شأن اللّه أن يخلق آدم للّذي أراد من التدبير و التقدير فيما هو مكوّنه في السماوات و الأرضين كشط «1» عن أطباق السّماوات ثمّ قال للملائكة: انظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجنّ و النسناس هل ترضون أعمالهم و طاعتهم لي، فلمّا اطّلعوا و رأوا ما يعملون فيها من المعاصي و سفك الدّماء و الفساد في الأرض بغير الحق أعظموا ذلك و غضبوا للّه و أسفوا على أهل الأرض و لم يملكوا غضبهم و قالوا يا ربّنا أنت العزيز الجبار القاهر العظيم الشأن، و هؤلاء كلّهم خلقك الضعيف الذليل في أرضك، كلّهم يتقلّبون في قبضتك و يعيشون برزقك، و يتمتّعون بعافيتك و هم يعصونك بمثل هذه الذّنوب العظام لا تغضب و لا تنتقم منهم لنفسك بما تسمع منهم و ترى، و قد عظم ذلك علينا و أكبرناه فيك، قال: فلمّا سمع اللّه تعالى مقالة الملائكة قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فيكون حجّتي على خلقي في أرضي فقالت الملائكة:

سبحانك ربّنا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ فقال اللّه تعالى: يا ملائكتي إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أنّي أخلق خلقا بيدي و اجعل من ذريّته أنبياء و مرسلين و عبادا صالحين و ائمّة مهتدين، و اجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي ينهونهم عن معصيتي، و ينذرونهم من

__________________________________________________

(1) كشط: أي كشف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 70

عذابي، و يهدونهم إلى طاعتي، و

يسلكون بهم طريق سبيلي، أجعلهم حجّة لي عذرا و نذرا و أنفي الشياطين من أرضي و اطهّرها منهم، فأسكنهم في الهواء و أقطار الأرض و في الفيافي، فلا يراهم خلقي و لا يرون شخصهم، و لا يجالسونهم و لا يخالطونهم و لا يواكلونهم و لا يشاربونهم و انفرّ مردة الجنّ العصاة من نسل بريّتي و خلقي و خيرتي فلا يجاورون خلقي، و اجعل بين خلقي و بين الجان حجابا فلا يرى نسل خلقي شخص الجنّ و لا يجالسونهم و لا يشاربونهم و لا يتهجمون تهجمهم، و من عصاني من نسل خلقي الذي عظّمته و اصطفيته لغيبي أسكنهم مساكن العصاة و أوردهم موردهم و لا أبالي، فقالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

فقال للملائكة: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «1»، قال و كان ذلك من اللّه تقدمة للملائكة قبل أن يخلقه احتجاجا منه عليهم، و ما كان اللّه ليغيّر ما بقوم إلّا بعد الحجّة عذرا أو نذرا فأمر تبارك و تعالى ملكا من الملائكة فاغترف غرفة بيمينه فصلصلها في كفّه فجمدت فقال اللّه عزّ و جلّ منك أخلق «2». الخبر على ما يأتي ان شاء اللّه.

و في «الخصال» و تفسير «العياشي» و غيرهما عن محمّد بن مسلم قال:

سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لقد خلق اللّه عزّ و جلّ في الأرض منذ خلقها سبعة عوالم ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه، ثمّ

__________________________________________________

(1) الحجر: 28- 29.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 322- 325 ح 5 عن

قصص الراوندي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 71

خلق اللّه عزّ و جلّ آدم أبا البشر و خلق ذريّته منه، و لا و اللّه ما خلت الجنّة من أرواح المؤمنين منذ خلقها و لا خلت النّار من أرواح الكفّار و العصاة منذ خلقها عزّ و جلّ، لعلّكم ترون انّه إذا كان يوم القيامة و صيّر اللّه أبدان أهل الجنّة مع أرواحهم في الجنّة و صيّر أبدان أهل النّار مع أرواحهم في النّار انّ اللّه تبارك و تعالى لا يعبد في بلاده و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحّدونه؟ بلى و اللّه ليخلقنّ اللّه خلقا من غير فحولة و أناث يعبدونه و يوحّدونه «1». الخبر و في العلل عن الصّادق عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ اللّه تعالى لمّا أحبّ أن يخلق خلقا بيده، و ذلك بعد ما مضى من الجنّ و النسناس سبعة آلاف سنة ... الى أن قال عليه السّلام: فاغترف تبارك و تعالى غرفة من الماء العذب الفرات، فصلصلها فجمدت، ثم قال لها: منك أخلق النّبيّين و المرسلين و عبادي الصالحين و الأئمّة المهتدين الدّعاة إلى الجنّة و اتباعهم إلى يوم القيامة، و لا أبالي و لا أسأل عمّا أفعل و هم يسألون، يعني بذلك خلقه أنّه سيسألهم، ثمّ اغترف غرفة من الماء المالح الأجاج فصلصلها فجمدت، ثمّ قال لها: منّك أخلق الجبارين و الفراعنة و العتاة اخوان الشّياطين و الدّعاة إلى النّار يوم القيامة و اتباعهم و لا أبالي و لا أسأل عمّا افعل و هم يسألون.

قال: و شرط في ذلك البداء و لم يشترط في أصحاب اليمين البداء ثم خلط المائين فصلصلهما ثمّ ألقاهما قدام عرشه، و هما ثلّة

من طين ثمّ أمر لملائكة الجهات الأربع: الشمال و الدبور و الصبا و الجنوب، أن حوّلوا على هذا السلالة الطين و أبرئوها و أنشئوها ثمّ جزوها و فصلوها و اجروا فيها الطبائع الأربعة الريح و المرة

__________________________________________________

(1) الخصال: ج 2 ص 358- 359.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 72

و الدّم و البلغم قال: فجالت الملائكة عليها و هي الشمال و الصباء و الجنوب و الدبّور فأجروا فيها الطبائع الاربعة قال و الرّيح في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الشمال قال و البلغم في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الصبا قال و المرة في الطبائع في البدن من ناحية الدّبور قال و الدّم في الطبائع الاربعة في البدن من ناحية الجنوب قال فاستقلت النّسمة و كمل البدن قال فلزمه من ناحية الرّيح حبّ الحياة و طول الأمل و الحرص و لزمه من ناحية البلغم حبّ الطعام و الشراب و اللين و الرفق و لزمه من ناحية المرة الغضب و السفه و الشيطنة و التجبر و التمرّد و الفجلة و لزمه من ناحية الدّم حبّ النّساء و اللّذات و ركوب المحارم و الشهوات قال عمرو بن أبي المقدام أخبرني جابر أن أبا جعفر عليه السّلام قال: وجدناه في كتاب من كتب عليّ عليه السّلام «1».

أقول و رواه القمي بأدنى تغيير مع اشتماله على زيادة و نقصان «2» و لعلّنا نورده بعبارته ان شاء في سورة الحجر.

في حقيقة الملائكة

ثالثها: في الإشارة الى حقيقة الملائكة و أصنافها و وجودها في الجملة من ضروريّ الدّين عند جميع المسلمين بل كثير من الملّيّين، فيجب الايمان بها و التّصديق بوجودها.

قال اللّه سبحانه: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ «3»

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 104- 106 و عمرو بن أبي المقدام هو عمرو بن ثابت بن هرمز، يروي الكثير عن الإمامين الهمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام توفي سنة (172) ه

(2) تفسير القمي: ج 1 ص 36.

(3) البقرة: 285.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 73

و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله حين سئل عن الايمان أن تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله «1».

و أمّا البحث عن أنّها روحانيّة محضة أو جسمانيّة محضة، أو مركّبة من القسمين، و بتقدير كونها جسمانيّة فكثيفة أو لطيفة نورانيّة أو هوائيّة أو على الاختلاف كما ذهب إلى كلّ طائفة، فقد يقال: إنّه ليس بواجب لأنّ مدار الإيمان بهم ليس خصوصيّات ذواتهم في أنفسهم، بل هو اضافتهم إليه تعالى من حيث أنّهم عباد مكرمون من شأنهم التّوسط بينه تعالى و بين الرّسل بانزال الكتب و إلقاء الوحي.

و فيه نظر إذ قد علم من الأخبار المتواترة كونها قادرة على التّجسد و التشكل بالاشكال المختلفة و لذا كان جبرئيل قد يرى بصورة دحية الكلبي «2»، بحيث ربما كان يراه بعض النّاس أو كلّ من كان حاضرا عند النّبي صلّى اللّه عليه و آله و قال اللّه سبحانه: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ «3».

و هذا كلّه ينافي كونها روحانيّة محضة من قبيل العقول و النفوس، و لذا ادّعى شيخنا المجلسي طاب ثراه إجماع الاماميّة بل جميع المسلمين على وجودها و أنّهم أجسام لطيفة نورانيّة أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع و أكثر، قادرون على التشكّل بالأشكال المختلفة، و انّه سبحانه يورد عليهم

بقدرته ما شاء من الأشكال و الصّور

__________________________________________________

(1) تاريخ ابن خلدون: ج 1 ص 462، سبل الهدى و الرشاد: ج 11 ص 486.

(2) هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي الصحابي نزل المزّة و مات في خلافة معاوية.

التقريب: ج 1 ص 284.

(3) الانعام: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 74

على حسب الحكم و المصالح، و لهم حركات صعودا و هبوطا و كان يراهم الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام.

قال: و القول بتجرّدهم و تأويلهم بالعقول و النفوس الفلكيّة و القوى و الطبائع، و تأويل الآيات المتظافرة و الأخبار المتواترة، تعويلا على شبهات واهية و استبعادات وهميّة زيغ عن سبيل الهدى و اتباع لأهل الغواية و العمى.

أقول و يمكن أن يقال: إنّ روحانيّتهم لا تنافي تجسّمهم متى شاءوا باذن اللّه سبحانه، إلّا أنّ الظّاهر من الأخبار كونهم أجساما متحيّزة مثل ما ورد عن الصادق عليه السّلام من أنّه ليس في السّماء موضع قدم إلّا و فيها ملك يسبّحه و يقدّسه، و لا في الأرض شجر و لا مدر إلّا و فيها ملك موكّل بها يأتي اللّه كلّ يوم بعملها و اللّه أعلم بها، و ما منهم أحد إلّا و يتقرّب كلّ يوم إلى اللّه تعالى بولايتنا أهل البيت و يستغفر لمحبّينا و يلعن أعدائنا «1».

و في «التوحيد» و «الخصال» أنّه سئل مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عن قدرة اللّه جلّت عظمته فقام خطيبا فحمد اللّه و اثنى عليه ثمّ قال: إنّ للّه تبارك و تعالى ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظم خلقه و كثرة أجنحته و منهم من لو كلّفت الجنّ و الانس أن يصفوه ما وصفوه لبعد

ما بين مفاصله و حسن تركيب صورته و كيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه و شحمة أذنيه، و منهم من يسدّ الأفق بجناح من أجنحته دون عظم يديه، و منهم من السماوات إلى

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات: ص 89 بحار الأنوار: ج 24 ص 210 ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 75

حجزته و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه و منهم من لو ألقى في نقرة إبهامه جميع المياه لوسّعتها، و منهم من لو ألقيت السّفن في دموع عينيه لجرت دهر الدّاهرين، فتبارك اللّه فتبارك اللّه أحسن الخالقين «1».

و في الخطبة الشريفة العلوّية المذكورة في النّهج: ثمّ خلق سبحانه لإسكان سماواته و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته، و ملأ بهم فروج فجاجها، و حشا بهم فتوق أجوائها، و بين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظائر القدس، و سترات الحجب، و سرادقات المجد، و وراء ذلك الرّجيح الذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها، أنشأهم على صور مختلفات، و أقدار متفاوتات ... إلى قوله عليه السّلام: و منهم من هو في خلق الغمام الدّلح، و في عظم الجبال الشّمخ، و في فترة الظلام الأبهم، و منهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى، فهي كرايات بيض، قد نفذت في مخارق الهواء، و تحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية .. إلى أن قال: و ليس في أطباق السّماوات موضع أصاب إلّا و عليه ملك ساجد أو ساع حافد «2».

و في التوحيد عن النّبي صلّى اللّه عليه و

آله: إنّ في السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمائة عام، فيها ملائكة قيام منذ خلقهم اللّه عزّ و جل و الماء إلى ركبهم، ليس منهم ملك إلّا و له ألف و أربعمائة جناح، في كل جناح أربعة وجوه في كلّ وجه

__________________________________________________

(1) الخصال: ص 36 و التوحيد ص 201 و عنهما البحار ج 59 ص 178.

(2) نهج البلاغة شرح ابن أبي الحديد: ج 6 ص 423 خ 90 المعروفة بخطبة الأشباح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 76

أربعة ألسن ليس فيها جناح و لا وجه و لا لسان و لا فم إلّا و هو يسبّح اللّه تعالى تسبيح لا يشبهه نوع منه صاحبه «1».

و في الخرائج و غيره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: نحن الذين تختلف الملائكة إلينا فمنّا من يسمع الصوت و لا يرى الصّورة، و انّ الملائكة لتزاحمنا على تكأتنا و إنّا لنأخذ من زغبهم فنجعله سخبا لأولادنا «2».

و روى القمي عن الصادق عليه السّلام قال: خلق اللّه الملائكة مختلفة و قد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جبرئيل و له ستّمائة جناح على ساقه الدّر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء و الأرض «3».

و قال عليه السّلام: إذا أمر اللّه تعالى ميكائيل بالهبوط إلى الدّنيا صارت رجله اليمنى في السّماء السّابعة و الأخرى في الأرض السّابعة، و أنّ للّه تعالى ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار، يقولون: يا مؤلّفا بين البرد و النّار ثبّت قلوبنا على طاعتك، و انّ اللّه تعالى ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينيه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطّير «4».

و قصّة دردائيل و صورته كغيره من الملائكة

مشهورة «5».

و في النبويّ المشتهر أطت السّماء حقّ لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلّا و فيه

__________________________________________________

(1) البحار: ج 58 ص 182.

(2) البحار: جج 59 ص 185.

(3) البحار: ج 4 ص 43.

(4) البحار ج 59 ص 174.

(5) البحار: ج 59 ص 199.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 77

ملك ساجدا أو راكع «1».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التي يمكن تحصيل القطع منها بأنّها أجسام نورانيّة و ان كانت غير مرئيّة إلّا بأسباب خاصّة و انّ لها أمكنة و أحيازا و أعضاء و جوارح و قوّة و نشاطا و قوتا من التّسبيح و التهليل و حركة و سكونا و اجتماعا و افتراقا و قياما و قعودا و ركوعا و سجودا و أصواتا و كلاما و عظما و أقدارا و غير ذلك من أحكام الأجسام و خواصها.

و حمل ذلك كلّه على الاستعارة و التّشبيه و انّه لو تجسّم بمقدار قوّته لكان كذا و كذا خروج عن الظّواهر المتظافرة التي هي الحجة من غير حجّة، و المؤمن الموحّد لا يتجاسر على أدنى من ذلك، فكيف بما هنالك، و لو ساغ في الشريعة فتح باب أمثال هذه التأويلات و الاحتمالات المشتملة على ما لا يخفى من التكلّف و التحمّل لما اخضرّ للدّين عود، و ما قام للإسلام عمود، لكنّهم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه و لذا تراهم يتلاعبون بأحكام الشريعة و يستخفون باهلها، و يتصرّفون بعقولهم القاصرة و فطرتهم المغيّرة و أحلامهم الناقصة في أحكامها الظّاهرة بلا برهان و لا دليل، فأضلوا كثيرا و ضلّوا عن سواء السبيل.

و بالجملة يجب التصديق و الإذعان بما صحّ عنهم فيما لا تصل إليه

عقولنا، و قد سمعت أنّ الظّاهر من الكتاب و السّنة كونهم أجساما لطيفة نورانيّة كما عليه أكثر المسلمين، نعم لا نأبى من القول بأن يكون هناك أصناف أخر من الملائكة غير جسمانيّة، و لا متعلقة بالأجسام، بل يكون فوق عالم الأجسام كملائكة العالين

__________________________________________________

(1) البحار: ج 59 ص 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 78

و الكروبيّين، و الرّوح الذي هو من أمره سبحانه دون الذي على ملائكة الحجب.

الملائكة عند الفلاسفة

بقي الكلام في سائر الأقوال التي ذكروها في حقيقتها و هي عديدة منها: ما يحكى عن الفلاسفة و هي أنّها جوهرة قائمة بنفسها ليست بمتحيّزة البتّة، و انّها بالمهيّة مخالفة لأنواع النفوس النّاطقة البشريّة، و انّها أكمل قوّة منها و اكثر علما و أنّها للنفوس البشريّة جارية مجرى الشمس بالنّسبة إلى الأضواء، ثمّ أنّ هذه الجواهر على قسمين: منها ما هي بالنّسبة إلى اجرام الأفلاك و الكواكب كالنفوس الناطقة بالنّسبة إلى أبداننا، و منها ما هي أعلا شأنا من تدبير أجرام الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة اللّه مشتغلة بطاعته و هذا القسم هم الملائكة المقرّبون، و نسبتهم إلى الملائكة الّذين يدبّرون السّماوات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة فهذان القسمان قد اتفق الفلاسفة على إثباتها، و منهم من أثبت نوعا آخر من الملائكة و هي الملائكة الأرضية المدبّرة لأحوال هذا العالم السفلي، ثمّ أنّ مدبّرات هذا العالم و إن كان خيّرة فهم الملائكة، و إن كانت شريرة فهم الشياطين، و هذا القول ربما مال إليه بعض الإسلاميّين كالسّيد الدّاماد و الصدر الأجل الشيرازي و غيرهما.

قال السيّد: إنّ القول بتجسم الملائكة إنّما هو ممشى الخارجين عن دائرة التحصيل، و أمّا ما هو صريح الحقّ و عليه

الحكماء الإلهيّون و المحصّلون من أهل الإسلام فهو أنّ الملائكة على قبائل: سفليّة و علويّة أرضية و سماويّة، جسمانيّة و قدسانيّة، و في القبائل شعور و طبقات كالقوى المنطبقة و الطبائع الجوهرية و أرباب

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 79

الأنواع و النفوس المفارقة السماوية، و الجواهر العقليّة القادسة بطبقات أنواعها و أنوارها، و منها روح القدس النّازل بالوحي النّافث في أرواح أولى القوّة القدسيّة باذن اللّه سبحانه.

و قال الصّدر الأجل بعد الإشارة إلى دعاء الصحيفة المشتمل على اصناف الملائكة و قبائلها: إنّ قوله «اللهم و حملة عرشك» إشارة إلى الملائكة المقرّبين و الجواهر المقدّسين الواقعين في سلسلة العقول المفارقة، و قوله: «و الرّوح الذي هو على ملائكة الحجب و الرّوح الّذي هو من أمرك» إشارة إلى الأرواح المهيمنة الذين يستغرقون في شهود جمال الأزلية و ليس لهم رسالة من اللّه إلى خلقه، و لذا سمّاهم بالرّوح و لم يطلق عليهم اسم الملك لأنّه مشتقّ من الألوكة بمعنى الرّسالة و كلّ روح مفارق لا رسالة له فهو ليس بملك و انّما هو روح فقط، و قوله: «على الملائكة الّذين من دونهم» إشارة إلى الملائكة الموكّلين بالاجرام السّماوية و النفوس المدبرة للجواهر الفلكيّة و الكوكبيّة، قوله: «و على الروحانيين من ملائكتك» اشارة إلى الملائكة العقليّة الواسطة في سلسلة اسباب الوجود بينه و بين ملائكة السّماء و لهذا قال في الدّعاء: «و أسكنتهم بطون أطباق سماواتك» فانّ بطون أطباق السماوات هي نفوسها المحركة لها إذ لكلّ نفس فلكي جوهر عقلي مفارق مسكنه قلب ذلك الفلك و نفسه الناطقة كما أنّ قلب المؤمن بيت اللّه اي نفسه الناطقة مكان معرفة اللّه سبحانه و قوله: «و خزّان المطر» آه

إشارة إلى ملائكة الأرضين و هم مبادئ الصّور النّوعيّة للأنواع الطّبيعية العنصريّة، فكلّ ملك من جنس ما يدبّره و يحرّكه باذن اللّه تعالى و أمره: فملك الرّياح من باب الرّياح، و ملك الأمطار من باب الأمطار، و ملك الجبال

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 80

من باب الجبال، و كذا ملك النّار من باب النّار، و ملك الماء و ملك الأرض كلّ هؤلاء من نوع ضمّه و مسمّى باسمه فملك الأرض أرض لعالم الغيب و الملكوت و ملك الماء ماؤه و ملك الهواء هوائه و ملك النّار ناره بل ما من موجود في هذا العالم إلّا و له صورة طبيعيّة محركة و نفس تدركه و عقل يسخّره و اسم إلا هي يبدعه و إذا ترقيت بذهنك إلى عالم الملكوت الأعلى شاهدت الماء هناك و هو حياة كلّ شي ء و الهواء عشق كلّ ذي روح و شوقه و النّار قدر كلّ حي و قهره و الأرض قوّة تمسكه لكلّ جوهر و مديله انتهى.

و أنت ترى أن هذا كلّه رجم بالغيب و ما كلّفنا بالتّصديق بأمثال هذه التخريجات الظّنّيّة و الاعتبارات الوهميّة إن هم إلّا يظنّون و إن هم إلّا يخرصون.

الملائكة عند النصارى و المجوس

و منها ما يحكى عن النصارى و هو أنّ الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة بذاتها المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء و الخيريّة، و ذلك لأنّ هذه النّفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة، و إن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.

و منها: قول معظم المجوس و الثّنوية و هو أنّ هذا العالم مركّب من أصلين أزليّين، و هما النّور و الظلمة، و هما في الحقيقة جوهران شفّافان حسّاسان مختاران قادران، متضادّا النفس و الصورة، مختلفا

الفعل و التدبير، فجوهر النّور فاضل خيّر، تقيّ طيّب الرّيح كريم النفس، يسرّ و لا يضر، و ينفع و لا يمنع، و يحيي و لا يبلي،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 81

و جوهر الظّلمة على ضدّ ذلك، ثمّ إنّ جوهر النور لم يزل يولّد الأولياء و هم الملائكة لا على سبيل التناكح، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم، و الضّوء من المضي ء و جوهر الظّلمة لم يزل يولد الأعداء و هم الشياطين على سبيل تولّد السّفه من السّفيه.

الملائكة عند أرباب الهياكل

و منها: أرباب الهياكل و عبدة الأصنام، فانّهم قالوا: إنّ الملائكة في الحقيقة هي هذه الكواكب المتصرّفة في هذا العالم بصورها و أشكالها و تشكّلاتها و أرواحها المحرّكة لها المدبرة للعالم السفلي، لا على وجه القصد و الالتفات، فانّ العالي لا يلتفت إلى السّافل، بل على وجه الإشراق و التجلّي، و لذا زعموا أنّ لها أرواحا عالية قاهرة قوية، و هي مختلفة بجواهرها و مهيّاتها، و كما أنّ لكلّ روح من الأرواح البشريّة بدنا معيّنا، فكذلك لكلّ روح من الأرواح الفلكيّة بدن و هو ذلك الفلك، و له قلب و هو الكواكب المركوز فيه، فتتعلّق الروح الفلكيّة أوّلا بقلبه، ثمّ ينبعث من جرم الكوكب خطوط شعاعيّة تتّصل بها قوّة ذلك الكوكب و نوره إلى أجزاء العالم، و كما أنّ بواسطة الأرواح الفائضة من القلب و الدّماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كلّ جزء منها قوى مختلفة كالقوى الحيوانيّة من السّامعة و الباصرة و الشّامة و الذائقة و اللامسة، و كالقوى الطبيعيّة، كالجاذبية و الدّافعة و الغاذية و غيرها، فتكون هذه القوى كالنتائج و الأولاد لجوهر النّفس المدبّرة لكلية البدن، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعيّة المنبثة من الكوكب

الواصلة إلى أجزاء هذا العالم يحصل في تلك الأجزاء

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 82

على حسب التأثيرات الجزئيّة و خصوصيّات القوابل و الفواعل نفوس جزئيّة مخصوصة مثلا نفس زيد و نفس عمرو و نحوهما، و هذه النفوس كالنتائج و الأولاد لتلك النفوس الفلكيّة، و لما اختلفت النفوس الفلكيّة اختلافا نوعيّا من حيث جواهرها و مهيّاتها فكذلك النفوس المتولّدة من نفس فلك زحل مثلا صنف من النّاس متجانسة متشاكلة في افرادها و جزئيّاتها، إلّا أنّها متخالفة اختلافا ضيّقا للنّفوس المنتسبة إلى روح المشتري مثلا ثمّ نسبوا إلى كلّ من الكواكب شيئا من أصناف النّاس و سائر الحيوانات و الأقاليم و الأزمنة و السّاعات و الأيّام و اللّيالي و الألوان و الطّعوم و الأثمار و النّباتات و الرّوائح و غير ذلك ممّا ملئت منه كتب الأحكاميّين.

ثمّ أنّهم قالوا إنّ تلك الأرواح الفلكيّة كالأب المشفق و السّلطان المربّي لمواليدها و منسوباتها، و لذا سمّوها بالآباء العلويّة فتعيّن أولادها على صلاحها و نجاحها، و لذا سوّلت لهم نفوسهم أن بنوا لكلّ منها بصورها المتوهّمة لها هياكل و اشكالا و صورا عظّموها و استشفعوا بها و تقرّبوا إليها بالسجود إليها و غيره من أنواع التّعظيم و التكريم، حتّى آل أمرهم إلى عبادتها، و هذا الأصل الّذي سمعت هو الذي بنوا عليه علم أحكام النّجوم، فسحقا لهم بما سوّلت لهم أنفسهم ان سخط اللّه عليهم و في العذاب هم خالدون.

قول المشركين في الملائكة

و منها: ما تقوّله بعض المشركين ككفّار قريش و أحزابهم، حيث قالوا: إنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 83

الملائكة بنات اللّه، و جعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرحمن إناثا، و جعلوا له من عباده جزء فرد اللّه عليهم في محكم

كتابه، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا جدوى للتّعرض لها و لا لإبطالها بعد قيام ضرورة الدّين و اجماع المسلمين على ما سمعت الدّال على وجودهم أيضا في الجملة، و لذا كنّا في غنى عن التكلّف لإثباتها بما تجشّمه بعض النّاس من الأدلّة الاقناعيّة التي استدلّ بها الرازي و غيره من انّه يبعد في العقل أن يحصل الحياة و العقل و النّطق في هذا العالم الكدر الظّلماني و لا يحصل في ذلك العالم الذي هو عالم الأضواء و الأنوار و انّه أشرف أنواع الحي فهو أولى بالوجود من الأوسط الذي هو الحيوان النّاطق و الأحسن الذي هي البهائم و نسى أصحاب المشاهدات و المكاشفات و المجاهدات شاهدوها في مشاهدهم النّورانية و أصحاب الحاجات و الضرورات أثبتوها من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النّادرة الغريبة و الاختراعات البديعة العجيبة و تركيبات المعجونات و استخراج صفة التّرياقات و غيرها من الآثار و الأسرار، لكنّها كما ترى قاصرة عن افادة المطلوب، و انّما المعتمد ما سمعت، و أمّا مواد وجوداتهم و كينوناتهم فالأصل فيها هو الرحمة الكليّة و الكلمة الالهيّة و المراد بها نور نبيّنا محمّد و آله الطاهرين صلّى اللّه عليهم، و لذا ورد في الاخبار الكثيرة التي مرّت إلى جملة منها الإشارة إلى أنّ الملائكة و الأنبياء خلقوا جميعا من أشعّة أنوارهم و من فاضل طينتهم، و انّ الملائكة العالين الذين هم أفضل أصناف الملائكة قوم من شيعتهم من الخلق الأوّل، بل ورد أنّ سبب قربهم سبقهم و مبادرتهم إلى الإقرار بالولاية.

و قال الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه سبحانه و تعالى عرض ولايتنا على الملائكة فمن

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 84

بادر إليها

و عقد قلبه عليها صار من المقرّبين.

و في «مصباح الأنوار» عن النّبي عليه السّلام أنّ العرش خلق من نور النّبي عليه السّلام و انّ الملائكة خلقوا من نور عليّ عليه السّلام.

و عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه خلق اللّه الملائكة و أسكنهم السّماء ثمّ ترائى لهم اللّه تعالى ثمّ أخذ عليهم الميثاق له بالرّبوبيّة و لمحمّد بالنّبوة و لعليّ بالولاية فاضطربت فرائض الملائكة فسخط اللّه عليهم و احتجب عنهم فلاذوا بالعرش سبع سنين يستجيرون اللّه من سخطه و يقرّون بما أخذ عليهم و يسألونه الرضا فرضي عنهم بعد ما أقرّوا بذلك و أسكنهم بذلك الإقرار السّماء و اختصهم لنفسه و اختارهم لعبادته، ثم أمر اللّه تعالى أنوارنا أن تسبّح فسبّحت فسبّحوا بتسبيحنا، و لو لا تسبيح أنوارنا ما دروا كيف يسبّحون اللّه و لا كيف يقدّسونه، الخبر.

ثمّ أنّ هاهنا موادّا أخر لوجودهم و لذا ورد في كثير من الأعمال الحسنة و الطّاعات المقبولة أنّ اللّه تعالى يخلق منها الملائكة فيسبّحون لصاحبها.

ففي خبر وضوء مولانا أمير المؤمنين أنّه قال لمحمّد بن حنفيّة يا محمّد من توضأ مثل وضوئي و قال مثل قولي خلق اللّه له من كلّ قطرة ماء ملكا يقدّسه و يسبّحه و يكبّره فيكتب اللّه له ثواب ذلك إلى يوم القيامة «1».

و في تفسير الامام عليه السّلام أنّ من قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة سبحانك اللّهم و بحمدك ... الدّعاء تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات أوراق الشّجر و خلق اللّه بعدد كلّ قطرت من قطرات وضوئه او غسله ملكا يسبّح اللّه و يقدّسه و يهلّله

__________________________________________________

(1) المحاسن: ص 45- عن البحار ج 80 ص 318.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

85

و يكبّره و يصلّي على محمد و آله الطيّبين و ثواب ذلك لهذا المتوضئ «1».

بل قد روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله على ما رواه في «الأنوار» عن ابن عباس أنّه لما أسري به الى السّماء انتهى به جبرئيل الى نهر يقال له النّور و هو قول اللّه عزّ و جلّ و خلق الظّلمات و النّور فلمّا انتهى به إلى ذلك النهر فقال له جبرئيل اعبر يا محمّد على بركة اللّه فقد نوّر اللّه لك بصرك و مدّ لك ملكك فانّ هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل غير أنّ لي في كلّ يوم اغتماسة فيه ثمّ اخرج منه فانفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلّا خلق اللّه تبارك و تعالى منها ملكا مقرّبا له عشرون ألف وجه و أربعون ألف لسان في كلّ لسان يلفظ بلغة لا يفهمها اللّسان الاخر فعبّر رسول اللّه عليه السّلام حتّى انتهى إلى الحجب و الحجب خمسمائة حجاب من حجاب إلى حجاب مسيرة خمسمائة عام «2»، الخبر بطوله.

و فيه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ في السّماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخل فيه جبرئيل كلّ يوم طلعت فيه الشمس فإذا خرج انتفض انتفاضة جرف عنه سبعون ألف قطرة فيخلق اللّه من كلّ قطرة ملكا فيؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون فيه ثمّ لا يعودون فيه أبدا «3».

و لا يخفى أنّ الملائكة المخلوقة من أفعال العباد و غيرها من الموادّ أيضا مخلوقة من أشعة أنوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين و لو بواسطة أو وسائط بحسب القرب من المبدء و البعد عنه،

و أمّا استقصاء الكلام في ذكر

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام، ص 239 و عنه البحار ج 80 ص 316.

(2) أمالي الصدوق: ص 213- و عنه البحار ج 18 ص 338.

(3) بحار الأنوار: ج 55 ص 55 عن تفسير الطبرسي ج 9 ص 166.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 86

أصناف الملائكة و مراتبهم و أوصافهم و شؤونهم و عصمتهم و غير ذلك من أحوالهم فسيأتي كلّ في موضعه من الآيات المتعلّقة بها.

بقي الكلام في أنّ المراد بالملائكة في الآية هل هو الكل نظرا إلى دلالة الجمع المحلّى على العموم الاستغراقي فيشمل جميع الأفراد أو البعض المطلق لكون اللام اشارة إلى الماهيّة الجنسيّة الصّادقة على الكلّ و البعض، و المراد أنّه خاطب هذا الجنس من أجناس العالم، أو خصوص من حارب منهم بني الجان و أسروا إبليس، فيكون اللّام للعهد بأحد الوجهين و أن لم يجر له ذكر في خصوص ظواهر الآيات وجوه بل أقوال.

و قد مرّ في العلوي المروي عن القصص أنّه سبحانه كشط عن أطباق السماوات ثمّ قال للملائكة أنظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجنّ و النّسناس هل ترضون أعمالهم و طاعتهم لي فلمّا اطلعوا و رأوا ما يعملون فيها من المعاصي و سفك الدّماء و الفساد في الأرض بغير الحقّ أعظموا ذلك و غضبوا للّه «1» إلى آخر ما مرّ الظّاهر في كون الخطاب متوجّها إلى الجميع و العمدة عموم الكتاب الذي لم يظهر له مخصّص مضافا إلى ما ستسمع من كون المأمور بالسجود هو الجميع.

و لا يقدح فيه ما ورد عن أنّ أهل المدينتين اللّتين بالمشرق و المغرب لم يطّلعوا على خلق آدم «2» لاستغراقهم في عبادته سبحانه و لعدم

كونهم من الملائكة.

و كذا لا ينافيه ما روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: مررنا ليلة المعراج بملائكة من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57 ص 324 عن قصص الراوندي.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 329.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 87

ملائكة اللّه عزّ و جلّ خلقهم اللّه تعالى كيف شاء، و وضع وجوههم كيف شاء، و ليس شي ء من أطباق وجوههم إلّا و هو يسبّح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة، أصواتهم مرتفعة بالتسبيح و البكاء من خشية اللّه تعالى، فسألت جبرائيل عنهم فقال:

كما ترى خلقوا أنّ الملائكة منهم إلى جنب صاحبه ما كلمه قطّ، و لا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقهم، و لا خفضوا رؤوسهم إلى ما تحتهم، خوفا من اللّه تعالى و خشوعا، فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برءوسهم و لا ينظرون إليّ من الخشوع، فقال لهم جبرئيل عليه السّلام: هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله اللّه إلى العباد رسولا و نبيّا و هو خاتم الأنبياء و سيّدهم أفلا تكلمونه، قال: فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام و بشّروني و أكرموني بالخير لي و لأمتي «1».

و أمّا ما رواه العامّة عن ابن عباس من أنّه سبحانه إنّما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأنّ اللّه تعالى لمّا أسكن الجنّ الأرض فأفسدوا فيها و سفكوا الدّماء و قتل بعضهم بعضا فبعث اللّه إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض و الحقوهم بجزائر البحر فقال تعالى لهم إنّي جاعل في الأرض خليفة «2».

ففيه أنك ستسمع فيما يأتي أنّ إبليس لم يكن من الملائكة، و أنّه لم يقاتل الجنّ بل قوتل

بالملائكة فقتل حزبه و أسروا نفسه، و أمّا كون المخاطبين خصوص المحاربين فهو غير واضح ايضا، سيّما بعد ما سمعت من الكشط عن أطباق

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 324.

(2) تفسير الفخر الرازي: ج 2 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 88

السّماوات «1» الظّاهر في إرادة الجميع.

نعم في تفسير الامام عليه السّلام أنّه قال ذلك للملائكة الذين كانوا في الأرض مع إبليس و قد طردوا عنها الجنّ بني الجان «2» الخبر على ما يأتي، و في بعض الاخبار الآتية ما يدلّ عليه ايضا، لكنّها لا تقاوم الأخبار الدّالة على العموم المؤيّدة بظاهر الكتاب و بوقوع الاستدلال في كثير من الأخبار على فضل البشر على الملائكة بسجودهم لآدم.

بل في العيون عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين، و الفضل بعدي لك يا عليّ و للأئمّة من بعدك إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: ثمّ أنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم فأودعنا صلبه، و أمر الملائكة بالسّجود له تعظيما لنا و إكراما، و كان سجودهم للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة، لكوننا في صلبه فكيف لا تكون أفضل من الملائكة و قد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون «3».

و هو كما ترى صريح في العموم مع زيادة التأكيد لكن لا دلالة فيه على كون المقول لهم أو القائلين هم جميع المأمورين بالسجود بل في «العلل» عن الصّادق عليه السّلام فيما يأتي في حجج الحشويّة أنّه تعالى لمّا أراد خلق آدم قال للملائكة:

إنّي جاعل في الأرض خليفة فقال ملكان من الملائكة أ تجعل فيها

من يفسد فيها

__________________________________________________

(1) البّحار: ج 57 ص 324.

(2) البحار: ج 11 ص 127 عن تفسير الإمام عليه السّلام

(3) عيون الاخبار: ص 145 و عنه البحار ج 11 ص 140.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 89

و يسفك الدّماء فوقع الحجب بينهما و بين اللّه عزّ و جلّ الخبر «1» على ما يأتي.

رابعها: في الإشارة إلى معاني الخلافة التي تختلف باختلاف مراتب الاستخلاف و هي عديدة منها: مجرّد إذهاب قوم بالإهلاك أو الإجلاء أو غيرهما و اقامة غيرهم مقامهم في مساكنهم و أماكنهم و مكاناتهم كما في قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ «2» عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «3» و الخلافة بهذا المعنى تطلق مع القيام بمقتضاها من الايمان و العبوديّة و عدمه، و لذا أطلق على الكافر في قوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ «4» و قوله: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ «5» وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ «6» إلى غير ذلك من الإطلاقات الكثيرة الواردة في القرآن و غيره و في الدّعاء: «و يهلك ملوكا و يستخلف آخرين»، و بمثل هذه الإطلاقات أطلقت على الخلفاء الثلاثة و خلفاء بني أميّة و بني العبّاس و غيرهم من المنافقين المتخلّفين، و عليه يحمل ما وضعوه و افتروه على النّبي صلّى اللّه عليه و آله من أنّه قال:

الخلافة بعدي ثلاثون سنة، و الّا فهم يزعمون أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يستخلف أحدا بعد وفاته،

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 140 و عنه البحار

ج 11 ص 109 ح 23.

(2) الانعام: 133.

(3) الأعراف: 129.

(4) الانعام: 165.

(5) الأعراف: 69.

(6) الأعراف: 74.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 90

و لذا اعترض عليهم المأمون لعنه اللّه في مجلس عقده للمناظرة معهم بمحضر الرّضا عليه السّلام فقال لهم و هم زهاء أربعين رجلا من علمائهم من أصحاب الحديث و أهل الكلام: أليس قد روت الأمّة بإجماع منها أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار «1» قالوا: بلى قال و رووا عنه عليه السّلام أنّه قال من عصى اللّه بمعصية صغرت أو كبرت ثمّ اتّخذها دينا و مضى مصرّا عليها فهو مخلّد بين أطباق الجحيم، قالوا: بلى: فخبّروني عن رجل تختاره الأمّة فتنصبه خليفة هل يجوز أن يقال له خليفة رسول اللّه عليه السّلام و من قبل اللّه عزّ و جلّ و لم يستخلفه الرّسول؟ فإن قلتم نعم كابرتم، و إن قلتم لا وجب انّ أبا بكر لم يكن خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا كان من قبل اللّه عزّ و جلّ و انكم تكذبون على نبيّ اللّه، و انّكم متعرّضون لأن تكونوا ممّن وسمه النّبي صلّى اللّه عليه و آله بدخول النّار، و خبّروني في أيّ قوليكم صدقتم أفي قولكم مضى عليه السّلام و لم يستخلف أو في قولكم في أبي بكر يا خليفة رسول اللّه، فإن صدقتم في قولين فهذا ممّا لا يمكن كونه إذ كانا متناقضين، و إن صدقتم في أحدهما بطل الآخر.

إلى أن قال: خبّروني عن النّبي عليهما السّلام هل استخلف حين مضى أم لا؟ فقالوا:

لم يستخلف، قال: فتركه ذلك هدى أم ضلال؟

فقالوا هدى، قال: فعلى النّاس أن يتّبعوا الهدى و يتنكبوا الضّلال، قالوا: قد فعلوا ذلك، قال و لم استخلف الناس بعده و قد تركه هو و ترك فعله ضلال و محال أن يكون خلاف الهدى، و إذا كان ترك الاستخلاف هدى فلم استخلف ابو بكر و لم يفعله النّبي صلّى اللّه عليه و آله و لمّا جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه؟ و زعمتم أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله لم يستخلف

__________________________________________________

(1) هذا الحديث مرويّ عن الفريقين في كتبهم منها: كنز العمّال ج 3 ص 355.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 91

و انّ أبا بكر استخلف و عمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النّبي صلّى اللّه عليه و آله بزعمكم و لم يستخلف كما فعل أبو بكر و جاء بمعنى ثالث فخبّروني أيّ ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النّبي صلّى اللّه عليه و آله صوابا فقد خطأتم أبا بكر، و كذلك القول في بقيّة الأقاويل، و خبّروني أيّهما أفضل ما فعله النّبي بزعمكم من ترك الاستخلاف أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟ و خبّروني هل يجوز أن يكون تركه من النّبي صلّى اللّه عليه و آله هدى و فعله من غيره هدى فيكون هدى ضدّ هدى فأين الضلال حينئذ؟ و خبّروني هل وليّ أحد بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله باختيار الصّحابة منذ قبض النّبي صلّى اللّه عليه و آله إلى اليوم فإن قلتم لا فقد أوجبتم أنّ النّاس كلّهم على ضلالة بعد النّبي و إن قلتم نعم كذبتم الامّة و أبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع إلى آخر ما ذكره على ما رواه في العيون

«1».

ثمّ أنّ الخلافة بهذا المعنى ثابتة لنوع البشر لأنّ كلّ قرن منهم خلف أو خلف لسلف، و لآدم و ذرّيته ايضا لأنّ اللّه تعالى قد استخلفهم في الأرض بعد إهلاك النّسناس و بني الجان و غيرهم على ما مضى و يأتي، و هذا المعنى هو الظاهر من بعض اخبار الباب.

و منها: الولاية من اللّه تعالى بلا واسطة أو معها في تبليغ الاحكام و نشر الشرائع و القضاء بين الناس بشرط كون الولاية خاصة ناصّة من اللّه سبحانه و لو بلسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع اقترانها بالعلم و الفضيلة و العصمة فيكون الولي بهذا المعنى حجّة على غيره ممّن استخلف عليه، و هذا المعنى هو الظّاهر من الآية على ما يستفاد من بعض الأخبار كالخبر المرويّ في «الكافي» و «العلل» و «تفسير القمي» و غيرها و فيه: أنّه قال جلّ جلاله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تكون حجّة لي

__________________________________________________

(1) العيون للصدوق: ج 2 ص 197- 198.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 92

في أرضي على خلقي و لذا قالت الملائكة أ تجعل فيها من يفسد فيها كما أفسد هؤلاء المردة من الجنّ و النّسناس الذين كانوا في الأرض و يسفك الدّماء كما فعل هؤلاء و يتحاسدون و يتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منّا فانّا لا نتحاسد و لا نتباغض و لا نسفك الدّماء و نحن نسبّح بحمدك و نقدّس لك قال تبارك و تعالى إنّي أعلم ما لا تعلمون إنّي أريد أن أخلق خلقا بيدي و اجعل في ذريّته الأنبياء و المرسلين و عباد اللّه الصّالحين و أئمّة مهديّين و اجعلهم خلفاء على خلقي في ارضي يهدونهم إلى طاعتي و ينهونهم عن معصيتي

و اجعلهم حجّة لي عليهم عذرا و نذرا الخبر «1» على ما يأتي إن شاء اللّه، حيث أنّ الظاهر منه ارادة الخلافة على الوجه المذكور و هو المراد ايضا في قوله: وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «2»، و قوله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ «3».

و لذا ورد أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام رابع الخلفاء، ففي «العيون» و غيره عن مولانا ابي الحسن الرّضا عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين قال بينا أنا أمشي مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله في بعض طرقات المدينة إذ لقينا شيخ طوال كثّ اللحية طويل ما بين المنكبين فسلّم على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و رحّب به ثمّ التفت إليّ و قال السلام عليك يا رابع الخلفاء و رحمة اللّه و بركاته أ ليس هو كذلك يا رسول اللّه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلى ثمّ مضى فقلت: يا رسول اللّه ما هذا الذي قال لي هذا الشيخ و تصديقك له قال صلّى اللّه عليه و آله:

__________________________________________________

(1) كنز الدقائق: ج 1 ص 330- 331 عن تفسير علي بن ابراهيم.

(2) الأعراف: 142.

(3) ص: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 93

أنت كذلك و الحمد للّه إنّ اللّه عزّ و جلّ قال في كتابه: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» و الخليفة المجعول فيها آدم عليه السّلام و قال عزّ و جلّ يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ «2» فهو الثّاني و قال عزّ و جلّ حكاية عن

موسى قال لهارون اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ «3» فهو هارون إذا استخلفه موسى عليه السّلام في قومه و هو الثّالث و قال عزّ و جلّ: وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ «4» و كنت أنت المبلغ عن اللّه عزّ و جلّ و عن رسوله و أنت وصيّي و وزيري و قاضي ديني و المؤدي عنّي و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي فأنت رابع الخلفاء كما سلّم عليك الشيخ أ و لا تدري من هو؟ قلت: لا قال: هو أخوك الخضر عليه السّلام «5».

و الخلافة بهذا المعنى ثابتة للأئمّة الطاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين سيّما قائمهم و خاتمهم عجّل اللّه فرجه فانّه المضطر الذي يجاب إذا دعى، و يكشف السّوء و يجعله خليفته في أرضه و اليه الإشارة بقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ «6» و هو الموعود بالخلافة و التمكين في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) ص: 26.

(3) الأعراف: 142.

(4) التوبة: 3.

(5) عيون الاخبار: ج 2 ص 9- 10.

(6) النمل: 62.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 94

خَوْفِهِمْ أَمْناً «1»، الآية.

و في الكافي عن ابي الحسن عليه السّلام قال الأئمّة خلفاء عزّ و جلّ في أرضه «2» و فيه عن محمّد بن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام الا تدلّني إلى من آخذ عنه ديني. فقال: هذا ابني عليّ إنّ أبي أخذ

بيدي فادخلني إلى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال يا بنيّ انّ اللّه عزّ و جلّ قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و انّ اللّه عزّ و جلّ إذا قال قولا وفى به «3».

و فيه دلالة على أنّ المراد بالخلافة هي الخلافة المتّصلة في كلّ عصر كما أشير إليها بقوله: وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «4».

و من فروع هذه الخلافة ما ثبت للنّائب العام في زمن غيبة الإمام عليه السّلام في نشر الاحكام و بيان الحلال و الحرام و القضاء بالحقّ بين الأنام و اقامة الحدود و ولاية الأيتام.

و لذا ورد في النبوي على ما رواه في «العيون» و «المعاني» من الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهم ارحم خلفائي ثلاث مرات فقيل: يا رسول اللّه و من خلفاؤك؟ قال: الّذين يأتون من بعدي و يروون عنّي أحاديثي و سنّتي فيعلّمونها النّاس من بعدي، و مثله في «الفقيه» و «المجالس» عن امير المؤمنين عنه صلّى اللّه عليه و آله.

__________________________________________________

(1) النور: 55.

(2) اصول الكافي: ج 1 ص 312 ح 4.

(3) اصول الكافي: ج 1 ص 312 ح 4.

(4) القصص: 51.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 95

و منها الولاية في الأمور التكوينيّة و في شؤون الرّبوبيّة إذ مربوب باذن اللّه سبحانه، و هذه الخلافة ثابتة فيما شاء اللّه سبحانه لمن شاء من عباده كالملائكة الذّاريات و المقسّمات و المعقّبات و النّازعات و الزّاجرات و غيرهم من الملائكة الموكّلين بمصالح العالم و حفظ بني آدم، و هذه الخلافة ثابتة ايضا للنّبي محمّد و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين فيما أشهدهم على خلقه

و اتّخذهم أعضادا على ما يستفاد من فحوى الآية و صريح قول الحجّة عجّل اللّه فرجه في دعاء رجب بأعضاد و أشهاد «1»، و غير ذلك من الأخبار الّتي مرّت إلى جملة منها الإشارة في تفسير الفاتحة.

و أمّا الخلافة الكليّة المحمّدية الثابتة له و لأوصيائه الطيّبين فهي إشارة إلى ذلك مضافا إلى المعنى السّابق من وساطتهم في التّبليغ إلى جميع الأكوان في جميع العوالم و لذا ورد عنهم: انّ للّه تعالى ألف ألف عالم و ألف ألف آدم و نحن الحجج على جميع تلك العوالم و هؤلاء الآدميّين.

و في الكافي: عن أبي جعفر الثّاني: أنّ اللّه لم يزل متفرّدا بوحدانيّته ثمّ خلق محمّدا و عليّا و فاطمة فمكثوا ألف ألف دهر ثمّ خلق جميع الأشياء فاشهدهم خلقها و اجرى طاعتهم عليها و فوّض أمورها إليهم فهم يحلّون ما يشاءون و يحرّمون ما يشاءون و لن يشاءوا إلّا أن يشاء اللّه تبارك و تعالى «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 98 ص 393.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 25 بتفاوت يسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 96

و في «الاختصاص» في خبر المفضّل عن الصادق صلّى اللّه عليه و آله على ما رواه في البحار عنه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تبارك و تعالى توحّد بملكه، فعرّف عباده نفسه، ثمّ فوّض إليهم أمره، و أباح لهم جنّته، فمن أراد اللّه أن يطهّر قلبه من الجنّ و الانس عرّفه ولايتنا، و من أراد اللّه أن يطمس على قلبه أمسك عنه معرفتنا، ثمّ قال يا مفضّل و اللّه ما استوجب أدم أن يخلقه اللّه بيده و ينفخ فيه من روحه إلّا بولاية عليّ عليه السّلام و ما

كلّم اللّه موسى تكليما إلّا بولاية علي عليه السّلام و لا أقام عيسى بن مريم آية للعالمين إلّا بالخضوع لعليّ عليه السّلام، ثمّ قال عليه السّلام: أجمل الأمر ما استأهل خلق من اللّه النّظر إليه إلّا بالعبودية لنا «1».

و هذه الخلافة هي المعبّر عنها بالقيام في سائر العوالم في الأداء مقامه في الخطبة العلوية الغديريّة على ما رواه شيخ الطائفة في «المتهجّد» على ما مرّت لكنّها هو المسك ما كرّرته يتضوّع، و فيها: و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله استخلصه في القدم على سائر الأمم، على علم منه به انفرد عن التّشاكل و التّماثل من أبناء الجنس، و انتجبه «2» آمرا و ناهيا عنه، أقامه في سائر عالمه في الأداء مقامه.

إلى أن قال عليه السّلام: و انّ اللّه تعالى اختصّ لنفسه من بعد نبيّه عليه السّلام من بريّته خاصّة علّاهم بتعليته، و سما بهم إلى رتبته، و جعلهم الدّعاة بالحقّ إليه، و الأدلّاء بالإرشاد عليه، قرن قرن و زمن زمن.

أنشأهم في القدم قبل كلّ مذروء و مبروء أنوارا أنطقها بتحميده، و ألهمها

__________________________________________________

(1) البحار ج 26 ص 294 ح 56 عن الإختصاص ص 250.

(2) في البحار: و ائتمنه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 97

شكره و تمجيده، و جعلها الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيّة و سلطان العبوديّة، و استنطق بها الخرسان بأنواع اللّغات بخوعا له بأنّه فاطر الأرضين و السّماوات، و اشهدهم خلق خلقه، و ولّاهم ما شاء من أمره، و جعلهم تراجم مشيّته، و السن إرادته عبيدا لا يسبقونه بالقول: و هم بامره يعملون «1» آه.

و منها: جامعيته للنشئات الكونيّة و مظهريّته للأسماء الالهيّة و الصّفات الفعليّة على ما تأتي إليه

الإشارة في قوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «2» و إن كان مرجعه إلى سابقه في ركنه الأعظم الّذي هو العمدة في معنى الخلافة قالوا: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ استفهام على وجه الاستعلام عن وجه الحكمة و المصلحة في استخلاف أهل المعصية مكان أهل الطّاعة ليعلموا الحكمة في ذلك مفصّلا بعد ما علموه مجملا من علمه و حكمته، أو تعجّب عن السّر النّاهض و الحكمة التي أوجبت استخلاف من يفسد في الأرض لغرض عمارتها و إصلاحها، مع أنّ الإفساد و السفك على طرف الضّد من المطلوب على أنّ ما هو المقصود الاصلي من الخلق و هو العبادة إنّما يتأتّى منّا لا منهم و لذا قالوا: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ أرادوا أنّهم معصومون عن معصيته، مداومون على طاعته، لا يستكبرون عن عبادته، و لا يستحسرون، يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون، فاستكشفوا عن الحكمة العجيبة التي غلبت تلك المفاسد و الغتها و ترجّحت على مصلحة استخلافهم على ما هم عليه من دوام الطاعة حتى أهملتها، و كان مقصودهم

__________________________________________________

(1) البحار: ج 97 ص 131- 114 ح 8.

(2) البقرة: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 98

في ذلك هو الاستفسار و الاستخبار، لا الافتخار و الاستحقار.

و السفك: الصبّ و الإهراق و انّ اختصّ بحسب الإطلاق في الدّم و الدّمع، فيطلق فيهما كما يطلق السبك في الجواهر المذابة، و السفح في الصبّ من أعلى، و الشنّ في الصبّ من فم القربة، و كذلك السنّ بالمهملة، فالجميع مشترك في جنس و الخصوصيّة مستندة إلى الوضع أو الإطلاق و الآتي منه يسفك بالكسر، و قرئ يسفك بالضّم، و يسفك من أسفك

و يسفّك من سفّك و يسفك على البناء للمفعول، فيكون الراجح إلى من سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا أي يسفك الدّماء فيهم.

و الدّم أصله دمو بالتحريك من دمى يدمى كرضى يرضى، و لذا ابدلوا الواو ياء، و قيل: إنّ أصله الياء و جاء تثنيته على دميان و دموان، و عليهما فجمعه على الدّماء مخالف لنظائره.

و قال سيبويه: أصله دمى بالتّسكين لأنّه يجمع على دماء و دمى مثل ظبى و ظباء و ظبى، و دلو و دلاء و دلى.

و المراد بالإفساد أن كان هيّج الحروب و الفتن حيث انّ فيه فساد حال الإنسان الذي هو أشرف المواليد و يتبعه فساد الآخرين و لذا قال: وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ «1»، فالعطف للبيان أو مطلق إحداث الفساد الذي هو ضد الصلاح فمن تعقيب العام بالخاص الذي هو اظهر افراده، و أشدّها في بابه، و أقبحها فعلا، و أهمّها تركا، و ربما يفسّر بالشرك فيغاير السفك.

__________________________________________________

(1) البقرة: 205.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 99

و التسبيح التنزيه و أصله تبعيد اللّه عن السوء من سبح في الأرض إذا ذهب فيها و ابعد، و منه السباحة للقوم، و فرس سابح كثير الجري، و لذا قيل: إنّ السّبح في الأصل سرعة الذهاب في الماء، ثمّ استعير لجرى النجوم في الفلك، و لجرى الفرس، ثمّ لسرعة التّسبيح و الطّاعة.

و الواو في قوله: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ للحال، و الجملة حالية مقرّرة للاشكال على ما مرّ، و العامل فيها أَ تَجْعَلُ كأنّه قال أ تجعل فيها من يفسد فيها و هذه حالنا و بِحَمْدِكَ في موضع الحال أي متلبّسين بحمدك على ما ألهمتنا من

معرفتك و وفّقتنا لتسبيحك، أو بحمدك بمعنى و الحمد لك، نظير ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» أي و النعمة له، و لعلّ مرجعه إلى الأوّل، و المراد تدارك ما أوهمه اسناد التّسبيح إلى أنفسهم و تنجيز الشكر على التوفيق للعبادة، أو نسبّحه لما هو عليه من المحامد ذاتا و فعلا، و المراد كونه محمودا أو نسبّحه بالتكلّم بالحمد له، فإنّ النّطق بالحمد للّه تسبيح له كما قيل في قوله: وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ و التّسبيحات الأربع يطلق عليها التسبيح، و إن كان بعضها تحميد او تهليلا و تكبيرا و على هذا فيكون بيانا للتّسبيح متعلقا به.

و هذا كلّه مع إرادة التنزيه من التسبيح، و يمكن ان يراد به الصلاة و رفع الصوت و التكلّم كما قيل، اي نصلّي لك كما في قوله: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ «2» أي من المصلّين او نرفع أصواتنا بذكرك، و منه قول جرير «3»:

__________________________________________________

(1) القلم: 2.

(2) الصافات: 143.

(3) جرير بن عطيّة بن حذيفة اليربوعي الشاعر المتوفى (110) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 100

قبح الإله وجوه تغلب كلّما سبح الحجيج و كبّروا إهلالا أو نتكلّم بحمدك و ننطق به لكن في تفسير الامام عليه السّلام: ننزّهك عمّا لا يليق بك من الصّفات و نقدّس لك نطهّر أرضك ممّن يعصيك «1».

و هو من قدس في الأرض إذا ذهب فيها و أبعد، و منه القدس بالسكون و بالضّم للطّهر فإنّ الطّاهر بعيد عن الأقذار، و المطهّر مبعده عنها، و المراد به ما مرّ في كلام الإمام عليه السّلام.

و قيل: ننزّهك عمّا لا يليق بك من صفات النقص و لا نضيف إليك القبائح، فاللام زائدة

اي نقدسك، و قيل: نصلّي لأجلك، و قيل: نطهّر أنفسنا من الخطايا و المعاصي، كأنّهم قابلوا الفساد المفسّر بالشرك على ما مرّ بالتسبيح كما قابلوا سفك الدّماء الذي هو أعظم قبائح الأفعال بتطهير النفس عن الذنوب الذي هو أساس محامد الخصال، أو أنّهم جعلوا سفك الدّماء نهاية الإفساد بمعناه العام و قابلوه بالتقديس الذي قيل إنّه ابلغ في التنزيه من التسبيح، حيث إنّ النظر في التّسبيح إلى أنّ العارف أنّى استطاع في التنزيه على حسب معرفته و في التّقديس إلى أنّ الذّات الكاملة الّتي لا يمكن في الوجود و التّصور ممّا يدانيها في شي ء من الكمال لها الطّهارة عن كلّ سوء أطلق عليه لفظ دالّ أم لم يطلق، فقد لوحظ في الأوّل العارف و في الثّاني المعروف.

و يمكن أن يكون الفعلان اشارة إلى ركني الكمال من صفات الجمال و الجلال فانّ التسبيح بالحمد إشارة إلى تمجيده بمحامده الكثيرة الذّاتية و العقليّة في المراتب

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 73 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 101

الأربع المشار إليها في الدّعاء بقوله: و الحمد للّه كلّما حمد اللّه شي ء و كما يحبّ اللّه أن يحمد، و كما هو أهله، و كما ينبغي لكرم وجهه و عزّ جلاله «1» إلخ على ما مرّت إليه الإشارة في تفسير الحمد، و التقديس اشارة إلى تنزيهه عمّا لا يليق به من صفات الإمكان و الأكوان.

و لا يخفى انّ قضيّة الإطلاق هو الحمل على ما مرّ و غيره يمكن حمل اللّفظ عليه، فلا وجه لتخصيص البعض بالحمل عليه، و في إضافة هذه الأفعال إلى أنفسهم و تمدحهم بها و صدقهم في تنزيهه و تقديسه و

اضافة الإفساد و السفك إلى المجعول فيها على وجه يشعر بالذّم. و الحوالة في الجواب عن مقالهم إجمالا إلى علمه و تفصيلا إلى علم المستخلف دون أن يقول إنّي أفعل ما أشاء لانتفاء الحسن و القبح و انتساب الكلّ إلى وجوه من الدّلالة على ما هو المختار من العدل و الاختيار، و فساد القول بالإجبار و الاضطرار، و المناقضة بمسألة الدّاعي و العلم مدفوعة بما مرّ مرارا، و أمّا إخبار الملائكة عن الإفساد و السفك فلعلّه مستند إلى مطالعة اللّوح المحفوظ أو الألواح الجزئيّة السّماوية حيث إنّه قد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، و ذلك لا يوجب سقوط سؤالهم رأسا مع علمهم بجواز البداء او كون السؤال للاستفسار عن وجه الحكمة على ما مرّ، أو إلى إخبار اللّه سبحانه حيث إنّه أعلمهم أنّه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها و سفكوا الدّماء أو أخبرهم به بالخصوص لما يروى عن ابن مسعود و غيره أنّه تعالى لمّا قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا: ربّنا و يكون الخليفة؟، قالوا تكون له ذرّيّة يفسدون في

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 86 ص 44 ح 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 102

الأرض و يتحاسدون و يقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربّنا أ تجعل فيها، أو أنّهم علموا أنّ العصمة من خواص نوعهم لا نوع آخر و أن اتّصف بها منه أفراد كثيرة أو أنّهم قاسوا أحد الثقلين بالآخر لما رأوا من حال الجن الذين كانوا قبل آدم في الأرض كما يحكى عن ابن عباس و الكليني قيل و يؤيّده ما في تفسير الامام عليه السّلام:

فقالوا ربّنا أ تجعل فيها من يفسد

فيها و يسفك الدّماء كما فعلت الجنّ بنوا الجان الذين قد طردناهم عن هذه الأرض «1» آه و هو كما ترى إذ غايته التنظير و اين هو من القياس الذي لم يجعل طريقا لاحد من الخلق إلى معرفة شي ء سيّما مع ما تضمّن القدح و التّعييب و غيره بل من المشهور المستفيض انّ أوّل من قاس إبليس فكيف استعملته الملائكة قبله.

و أمّا ما يحكى عن تفسير العيّاشي عن الصادق عليه السّلام قال: و ما علم الملائكة بقولهم أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء لو لا أنّهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها و يسفك الدّماء «2» فالظّاهر أنّ المراد أنّهم رأوا ذلك مكتوبا في الألواح السّماوية، أو أنّهم علموا ذلك و لو بطرق أخر من رأى بمعنى علم، أو أنّهم رأوا ذلك رأي العين بناء على تجرّدهم و إحاطتهم بالأزمنة و ما فيها، بلا فرق بين الماضي و الحال و الاستقبال، أو لأنّ معنى الخلافة هو النيابة عن اللّه تعالى في الحكم و القضاء و انّما يكون الاحتياج إليه عند التنازع و التظالم، فالاخبار عن وجود الخليفة كأنّه إخبار عن وقوع الشرّ و الفساد بطريق الالتزام، أو أنّه لمّا خلق اللّه النّار خافت الملائكة

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 73.

(2) البرهان ج 1 ص 74 عن العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 103

خوفا شديدا فقالوا: ربّنا و سيّدنا لمن خلقت هذه النار؟ قال: لمن عصاني من خلقي و لم يكن يومئذ للّه خلق إلّا الملائكة، فلمّا قال: إنّي جاعل في الأرض خليفة عرفوا أنّ المعصية منهم، أو لأنّهم علموا أنّ المجعول خليفة يكون له ثلاث قوى عليها مدار أمره: شهويّة

و غضبيّة تؤديان به إلى الفساد و سفك الدّماء، و عقليّة تدعوه إلى المعرفة و الطاعة و استخدام الأوليين بعد تسخيرهما و تعليمهما ما علّمها اللّه تعالى في مقاصدها، لكن قضيّة التركيب هو التغالب و التقاهر فكلّ منها بين قاهر غالب أو مقهور مغلوب، و لذا نظروا إليها كما هي مردّدة بين الحالين و قالوا: ما الحكمة في استخلافه، و هو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه و امّا باعتبار القوّة العقليّة ففي استخلافنا ما يترتّب عليه تلك المقاصد سليمة عن معارضة تلك المفاسد، و لذا قال اللّه سبحانه في جوابهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» من أنّ الملائكة و ان منحوا بالجنبة الرّوحانيّة و لوازمها من الإشراقات و اللّذات العقليّة إلّا أنّه ليس لهم جنبة جسمانيّة و لا استعدادات كلّية لدرجات متفاضلة، و لا إحاطة فطريّة او كسبيّة لإدراك النشآت المختلفة، و أمّا الإنسان فانّه محيط بجميع المراتب المختلفة محتو على ما في العوالم المترتّبة سائر في الأطوار المتباينة من الجماديّة و النباتيّة و الحيوانيّة و الملكيّة مستفيدا بصورته التركيبيّة التي استعدّت بها للمنح الالهيّة و الفيوض الربانيّة لما تقصر عنه الآحاد كالاحاطة بالجزئيّات و استنباط الصناعات و استخراج منافع الكائنات من القوّة إلى الفعل و قوّة التّصرف فيها بالتّسخير و التّدبير و التدمير و له التّرقي عن جميع تلك المراتب بان

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 104

يتحقّق له في مرتبة الجمعيّة الكليّة و الجامعيّة الربانيّة و الكليّة الالهيّة بحيث لا يشغله شأن عن شأن و لا يحجبه ناسوت عن ملكوت فيتجاوز حينئذ عن أفق الملائكة، فهو النسخة الجامعة لحقائق الملك و الملكوت، و المظهر

الكلّي لحضرة الرحموت، و المعجون المركب من القبضات المأخوذة من عالم الملكوت في صقع النّاسوت.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ اللّه تعالى ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل و ركّب في بني آدم كلتيهما فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة و من غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم» «1».

و في تفسير الإمام عليه السّلام: إنّي أعلم من الصلاح الكائن فيمن أجعله بدلا منكم ما لا تعلمون، و أعلم ايضا أنّ فيكم من هو كافر في باطنه لا تعلمونه و هو إبليس لعنه اللّه «2».

بسط في المقام للاشارة إلى عصمة الملائكة عليهم السّلام دفعا لبعض الأوهام

اعلم أنّ المشهور الذي عليه الجمهور هو عصمة الملائكة من صغائر الذّنوب و كبائرها بلا فرق بين الملائكة الأرضيّة و السّماويّة، بل ادّعى كثير من الفرقة المحقّة عليه الإجماع و وافقهم عليه أكثر المخالفين، و استدلوا عليه بأنّ المعصية في الحقيقة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 60 ص 399- عن علل الشرائع ج 1 ص 5.

(2) تفسير البرهان: ج 1 ص 73 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 105

عبارة عن مخالفة القوّة السافلة للقوّة العالية فيما لها أن يفعل الغرض الأعلى عند تخالف الأغراض و الدّواعي، و مع بساطة القوّة و فقد التركيب من الأجزاء المختلفة لا يتصوّر التّنازع و التّمانع، و بالإجماع القطعي من الفرقة المحقّة عليه و لذا لم ينسبوا الخلاف إلّا إلى الحشوية، و بظاهر الآيات الكثيرة كقوله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «1» بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «2» إلى قوله: وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ «3» يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ

ما يُؤْمَرُونَ «4» لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ «5» يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «6» و غيرها من الآيات التي لا تخفى وجوه الدّلالة فيها بملاحظة الإطلاق و العموم على ما هو المطلوب بل في هذه الآية ايضا دلالة عليه ايضا حيث إنّهم طعنوا باليسير من المعصية و لو كانوا من العصاة لما حس منهم ذلك الطعن، سيّما عند من لا تخفى عليه خافية هذا مضافا إلى جملة من الاخبار الدّالة على عصمتهم و دوام طاعتهم كما في الخطبة العلويّة المرويّة في النّهج و فيها انشائهم على صور مختلفات، و أقدار متفاوتات، جعلهم اللّه فيما هنالك أهل الامانة على وحيه، و حملهم إلى المرسلين ودائع أمره و نهيه، و عصمهم من ريب

__________________________________________________

(1) التحريم: 6.

(2) الأنبياء: 27.

(3) الأنبياء: 28.

(4) النحل: 50.

(5) الأنبياء: 19.

(6) الأنبياء: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 106

الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته «1».

و في تفسير فرات معنعنا عن الحسن بن علي عليهما السّلام في خبر طويل و فيه أنّه سبحانه جعل في كلّ سماء ساكنا من الملائكة خلقهم معصومين من نور من بحور عذبة و هو بحر الرّحمة و جعل طعامهم التّسبيح و التهليل و التّقديس، الخبر «2». و في «العيون» عن الرضا عليه السّلام: إنّ الملائكة معصومون محفوظون من الكفر و القبائح بألطاف اللّه تعالى قال اللّه فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «3» و قال عزّ و جلّ وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ- يعني الملائكة- لا يَسْتَكْبِرُونَ «4» الآية «5» و لا يخفى إنّ استدلاله بظاهر الآيتين ممّا يؤكّد دلالتهما

على ذلك إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة و قال الامام عليه السّلام في تفسيره ردّا على العامة فيما ذكروه من قصّة هاروت و ماروت ما لفظه: معاذ اللّه من ذلك أنّ ملائكة اللّه تعالى معصومون عن الخطأ محفوظون من الكفر و القبائح بألطاف اللّه تعالى فقال اللّه عزّ و جلّ فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ «6»، الآية «7» إلى آخر ما يأتي الإشارة اليه في تلك القصّة و غيرها.

و احتجّت الحشوية مضافا إلى ما يأتي من توهّم أنّ إبليس كان منهم و قد كفر

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: خ 90- المعروفة بخطبة الأشباح.

(2) البحار: ج 57 ص 92 عن تفسير الفرات.

(3) التحريم: 6.

(4) الأنبياء: 19.

(5) البحار: ج 59 ص 272.

(6) التحريم: 6.

(7) بحار الأنوار: ج 59 ص 321.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 107

و من قصّة هاروت و ماروت على ما اشتهر بهذه الآية حيث اشتملت على وجوه من الدّلالة، حتّى أنهاها بعضهم إلى ثمانية عشرة خصلة ذميمة كانت كامنة فيهم، و قد ظهرت بالاختيار الذي هو الاخبار عن خلق الخلفاء و الأخيار و ذلك لا يتمّ اعترضوا على اللّه الحكيم في فعله، و ذلك من أعظم الذنوب، و طعنوا في بني آدم بالإفساد و سفك الدّماء و هي الغيبة الّتي هي من الكبائر، و تمدحوا بخلوّ أنفسهم عنهما، و باشتغالهم بالتحميد و التقديس، بل و بانحصار ذلك بهم، حتّى كانّهم نفوا كون غيرهم كذلك و هو يشبه العجب و الغيبة اللذين هما من المهلكات و الكبائر، مع ما يظهر منه من التزكية و سوء الظّن، و التّفحص عن معائب الغير، و حسدهم على فضيلته و صلاحيّته للخلافة، و حرصهم

عليها، و اضافتهم العبادة إلى أنفسهم لا إلى حول ربّهم و قوّته و توفيقه و عصمته، و اعتمادهم على القياس و الاستنباط، و القول بغير علم سيّما في القدح على الغير، و في الاعتراض على الحكيم و ذلك لأنّ علمهم بذلك لو كان مستندا إلى الوحي لم يكن لإعادة ذلك الكلام فائدة مع انّ قوله:

أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» يدلّ على أنّهم كانوا كاذبين فيما قالوا و أنّ قوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «2» يدلّ على أنّهم ما كانوا عالمين بذلك قبل هذه الواقعة، و أنّهم كانوا شاكين في كونه تعالى عالما بكلّ المعلومات، و إنّ قولهم: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا «3» يشبه الاعتذار و لو لا تقدم الذنب لما اشتغلوا بالعذر، هذا مضافا

__________________________________________________

(1) البقرة: 31.

(2) البقرة: 33.

(3) البقرة: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 108

إلى الاخبار الكثيرة الدّالة على ذلك من طرق الفريقين في تفسير الآية.

ففي العلل عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل عن ابتداء الطّواف فقال: انّ اللّه تبارك و تعالى لمّا أراد خلق آدم قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فقال ملكان من الملائكة: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء فوقعت الحجب فيما بينهما و بين اللّه عزّ و جلّ و كان اللّه تبارك و تعالى نوره ظاهرا للملائكة فلمّا وقعت الحجب بينه و بينهما علما أنّه سخط قولهما فقالا للملائكة: ما حيلتنا و ما وجه توبتنا فقالوا ما نعرف لكما من التوبة إلّا أنّ تلوذا بالعرش قال فلاذا بالعرش حتّى انزل اللّه عزّ و جلّ

توبتهما، و رفعت الحجب فيما بينه و بينهما و أحبّ اللّه تبارك و تعالى أن يعبد بتلك العبادة فخلق اللّه البيت في الأرض و جعل على العباد الطّواف حوله و خلق البيت المعمور في السّماء يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة «1».

و فيه بالإسناد عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام في سبب كون الطّواف سبعة أشواط قال: لأنّ اللّه تبارك و تعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فردوا على اللّه تبارك و تعالى و قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، قال اللّه إنّي أعلم ما لا تعلمون: و كان لا يحجبهم عن نوره فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة فرحمهم و تاب عليهم و جعل لهم البيت المعمور الّذي في السّماء الرابعة فجعله مثابة و أمنا و وضع البيت الحرام تحت البيت المعمور فجعله مثابة للنّاس و أمنا فصار الطّواف سبعة أشواط واجبا على العباد لكلّ ألف سنة شوطا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 110 عن العلل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 109

واحدا «1» فيه، و في العيون في علل محمّد بن سنان قال: كتب الرضا عليه السّلام إليه علّة الطّواف بالبيت أنّ اللّه تبارك و تعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيه و يسفك الدّماء فردّوا على اللّه تبارك و تعالى هذا الجواب فعلموا أنّهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش و استغفروا، الخبر قريبا ممّا مرّ و في «الكافي» عن ابي جعفر عليه السّلام في خبر طويل قال عليه السّلام: أمّا بدء هذا البيت فإنّ اللّه تبارك و تعالى

قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فردّت الملائكة على اللّه تعالى فقالت: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء فاعرض عنها فرأت أنّ ذلك من سخطه فلاذت بعرشه فأمر اللّه تعالى ملكا من الملائكة أن يجعل له بيتا في السّماء السّادسة يسمّى الضّراح بإزاء عرشه «2».

الخبر و فيه عنه عليه السّلام انّهم لمّا ردّوا عليه بقولهم: أ تجعل فيها .. إلخ قال اللّه تبارك و تعالى: انّي أعلم ما لا تعلمون فغضب عليهم ثمّ سألوه التّوبة فأمرهم أن يطوفوا بالضّراح و هو البيت المعمور و مكثوا يطوفون سبع سنين يستغفرون اللّه عزّ و جلّ ممّا قالوا ثمّ تاب اللّه عليهم من بعد ذلك و رضى عنهم، فهذا كان أصل الطواف ثمّ جعل اللّه البيت الحرام حذو الضراح توبة لمن أذنب من بني آدم و طهورا لهم «3».

و في المجمع عن الصادق عليه السّلام: انّ الملائكة سألت اللّه تعالى أن يجعل الخليفة منهم و قالوا نحن نقدّسك و نطيعك و لا نعصيك كغيرنا قال فلمّا أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنّهم تجاوزوا ما لهم فلاذوا بالعرش استغفارا فأمر اللّه تعالى آدم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 110- 111 عن العلل ص 141.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 110 عن العلل و العيون.

(3) البحار: ج 99 ص 205.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 110

بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقرّبون فقال اللّه للملائكة إنّي أعرف بالمصلحة منكم و هو معنى قوله: أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. «1» و روت العامة عن ابن عباس انّه قال سبحانه للملائكة الذين كانوا جندا لإبليس

في محاربة بني الجان إنّي جاعل في الأرض خليفة فقالت الملائكة محبّين له سبحانه: أ تجعل فيها من يفسد فيها ثمّ علموا غضب اللّه عليهم فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا «2».

و في بعض رواياتهم أنّهم لما قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها أرسل اللّه عليهم نارا فأحرقتهم.

بل يمكن الاستدلال أيضا بما في «الإكمال» و غيره عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ للّه تبارك و تعالى ملكا يقال له دردائيل كان له ستّة عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح هواء و الهواء كما بين السّماء و الأرض فجعل يوما يقول في نفسه أفوق ربّنا جلّ جلاله شي ء فعلم اللّه تبارك و تعالى ما قال فزاده اجنحة مثلها فصار له اثنان و ثلاثون ألف جناح ثمّ أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه أن طر فطار مقدار خمسمائة عام فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش فلمّا علم اللّه عزّ و جلّ اتعابه اوحى إليه أيّها الملك عدّ إلى مكانك فانا عظيم فوق كلّ عظيم و ليس فوقي شي ء و لا اوصف بمكان فسلبه اللّه أجنحته و مقامه من صفوف الملائكة فلما ولد الحسين عليه السّلام هبط جبرئيل عليه السّلام في

__________________________________________________

(1) البحار: ج 99 ص 206.

(2) البقرة: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 111

ألف قبيل من الملائكة لتهنئة النّبي صلّى اللّه عليه و آله فمرّ بدردائيل فقال له سل النّبي صلّى اللّه عليه و آله بحقّ مولوده أن يشفع لي عند ربّه فدعا له النّبي صلّى اللّه عليه و آله بحقّ الحسين فاستجاب اللّه دعائه و ردّ عليه أجنحته و ردّه إلى مكانه «1».

و في البصائر عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام: قال إنّ اللّه تعالى عرض ولاية امير المؤمنين عليه السّلام فقبلها الملائكة و اباها ملك يقال له فطرس فكسر اللّه جناحه فلمّا ولد الحسين بن عليّ عليه السّلام بعث اللّه جبرئيل في سبعين ألف ملك إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله يهنّيهم بولادته فمرّ بفطرس فقال له فطرس يا جبرئيل إلى أين تذهب قال بعثني اللّه تعالى الى محمّد صلّى اللّه عليه و آله اهنّيهم بمولود ولد في هذه الليلة فقال له فطرس احملني معك و سل محمّدا يدعو لي فقال له جبرئيل اركب جناحي فركب جناحه فاتى محمّدا فدخل عليه و هنّأه فقال له يا رسول اللّه أن فطرس بيني و بينه أخوة سألني أن أسألك أن تدعو اللّه له أن يرد عليه جناحه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفطرس أتقبل؟ قال نعم فعرض عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام فقبلها فقال رسول اللّه شأنك بالمهد فتمسح به و تمرغ فيه قال فمضى فطرس إلى مهد الحسين بن علي عليهما السّلام و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدعو له قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فنظرت إلى ريشه و أنّه ليطلع و يجري منه الدّم و يطول حتّى لحق جناحه الاخر و عرج مع جبرئيل إلى السّماء و صار إلى موضعه «2».

و الجواب أمّا عن قصّة إبليس و الملائكة فسيأتي، و امّا عن الآية فبالمنع من

__________________________________________________

(1) البحار: ج 43 ص 349.

(2) البحار: ج 26 ص 331.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 112

دلالتها على المقصود بشي ء من الوجوه المتقدّمة، ضرورة انّ سؤالهم لم يكن

للإنكار و لا لتنبيه اللّه عزّ و جلّ على شي ء لا يعلمه و لا للاعتراض عليه في فعله، بل إنّما المقصود من ذلك أمور منها ما مرّت اليه الإشارة من السّؤال عن وجه الحكمة فانّ إبداء الأشكال طلبا للجواب غير محذور فكانّهم قالوا ربّنا أنت الحكيم الذي لا تفعل السفه البتّة و تمكين الظّلم من الظلم و الفساد قبيح من الحكيم فضلا عن خلقه فما الحكمة في ذلك فأجابهم اللّه تعالى بقول: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجلّ الشرور القليلة.

و منها: أنّ ذلك مسألة منهم ان يجعل الأرض أو بعضا لهم ان كان ذلك صلاحا نحو قول موسى: أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا «2» اي لا تهلكنا فأجابهم اللّه عزّ و جلّ بانّي أعلم من صلاحكم و صلاح هؤلاء ما لا تعلمون و انّ الأصلح لكم السّماء و لهم الأرض، و قد مرّ في الأخبار المتقدّمة أنّهم سألوه أن يجعل الخليفة منهم فأجيبوا بذلك «3».

و منها: أنّه تعالى أخبر الملائكة بانّه سيكون من ذريّة هذا الخليفة من يعصي و يسفك الدّماء على ما يحكى عن ابن مسعود و غيره، و الغرض في اعلامه ايّاهم أن يزيدهم ايمانا و يقينا بعلمه بالغيب، أو ليعلموا أنّ آدم انّما خلق للأرض لا للجنّة فقالت الملائكة أ تجعل فيها من يفعل كذا و كذا على وجه التعرف لما فيه من الحكمة و لعلّه يرجع إلى الأوّل إلّا أنّه يقتضي أن يكون حذف في أوّل الكلام و يكون التقدير

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) الأعراف: 155.

(3) البحار ج 99 ص 206.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 113

إنّي جاعل في الأرض

خليفة و إنّي عالم بانّه سيكون في ذرّيّته من يفسد فيها و يسفك الدّماء فحذف اختصارا للقرينة.

و منها ما قيل ايضا في تأويلها و إن لم يخلو من ضعف مثل أنّ سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام اللّه تعالى حيث أنّ العبد المخلص لشدّة حبّه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه و إنّ هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير: «ألستم خير من ركب المطايا» اي أنتم كذلك، و إلّا لم يكن مدحا فكانّهم قالوا: إنّك تفعل ذلك و نحن مع هذا نسبّح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنّك لا تفعل إلّا الحكمة و الصواب فقال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من الاحاطة بظاهرهم و باطنهم و ما يؤول اليه أمرهم و أمّا أنتم فانّما علمتم ظاهرهم و هو الفساد و القتل أو من الاحاطة و العلم بجميع افراد هذا النّوع حيث أنّ فيهم من هو المقصود الأعظم من خلق الملائكة و سائر العالم، و أمّا أنتم فانّما نظرتم إلى بعض الإفراد الموجودة بالتّبعيّة لمصالح أخر، و أمّا القدح فيهم بالغيبة فالامر فيه واضح ضرورة أنّ المقصود صدور الفعل من بعضهم و مثله لا يعدّ غيبة سيّما بالنّسبة إلى من لم يوجد بعد سلمنا لكنّه غيبة للفساق و هي جائزة، هذا مضافا إلى عدم تسليم حرمة ذكر مثله لعلّام الغيوب لا سيّما من الملائكة الذين جملة منهم موكّلون بتفتيش اعمال الخلائق و إثباتها في الصّحف و الشهادة عليها مع أنّ إيراد السؤال يوجب التّعرض لمحلّ الأشكال و أمّا التّمدح فلعلّه لإظهار النّعمة و شكرها و لتتمّة تقرير الشبهة، و أمّا العجب و هو سوء ظن بهم، و أمّا سوء الظّن فقد مرّ

الكلام في مستند أخبارهم، و أمّا التزكية و الفحص و الحسد و الحرص و غير ذلك ممّا مرّ فتطرق المنع إلى استفادتها

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 114

من الآية واضح، و قد مرّ أنّ في قوله نسبّح بحمدك دلالة على تحميدهم له بالتوفيق على ذلك مضافا إلى ما فيه من اظهار الاختيار و تنزيهه عن الإجبار و قوله: «ان كنتم صادقين» أي في زعمكم الأحقيّة بالخلافة و قوله: «أ لم أقل لكم» لظهور فضيلة آدم بعد الإعلام به مجملا، و الاعتذار غير ظاهر و على فرضه فلا يستلزم الذّنب، بل لعلّه اظهار للنّعمة و إقرارا على أنفسهم بالعجز و العبوديّة فان كان و لا بّد فاستناده إلى ترك الأوّلى اولى جمعا بينه و بين ما دلّ على العصمة و ردّا للمتشابه إلى الآيات المحكمة، و أمّا الاخبار ففيها مع التضمّن عن ضعف سند الأكثر انّها قاصرة الدلالة لأنّ اطلاق الاحتجاب و التوبة و الاستغفار لا دلالة في شي ء منها على صدور المعصية و ارتكاب الخطيئة سيّما في شأن المقرّبين الذين يتحرّجون و يردأون على أنفسهم بأقلّ من ذلك، إذ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين مع أنّهم ربما يجبرون بمثل ذلك ما يستشعرون من أنفسهم من القصور دون التّقصير، و سيأتي الإشارة إلى جميع ذلك، على أنّه قد ورد أنّهم ظنّوا الاحتجاب كما في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: انّ اللّه عزّ و جلّ لما قال للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ضجت الملائكة من ذلك و قالوا يا ربّ ان كنت لا بدّ جاعلا في أرضك خليفة فاجعله منّا من يعمل في بطاعتك فردّ عليهم إنّي أعلم ما لا تعلمون فظنّت الملائكة أنّ ذلك سخط

من اللّه عزّ و جلّ عليهم فلاذوا بالعرش يطوفون به فأمر اللّه عزّ و جلّ له ببيت من مرمر سقفه ياقوتة حمراء و أساطينه الزبرجد يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه بعد ذلك إلى يوم الوقت المعلوم «1»، الخبر.

__________________________________________________

(1) البحار: ج 99 ص 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 115

إلّا أنّ ظاهرة صدق ظنهم فلا يبعد حمله على العلم سيّما بعد ملاحظة الاخبار المتقدّمة و عصمتهم عن الخطأ في الاعتقاد لكن الخطب في ذلك كلّه سهل بعد قيام الإجماع لو لم ندّع الضرورة على عصمتهم و تظافر الآيات و الاخبار على ذلك فلا بدّ من تأويل هذه الاخبار على فرض صحّتها و تماميّة دلالتها أو طرحها، كما أنّه المتعيّن ايضا في الاخبار بل الآيات الدّالة على الطّعن في الأنبياء و تخطئتهم و نفي العصمة عنهم سيّما مع مخالفة الاخبار المتقدمة للآيات الدّالة على عصمتهم و براءة ساحتهم عن اقتراف الذّنوب و المعاصي على ما مرّت الإشارة إليها.

و قد استفاض عنهم وجوب العرض على كتاب اللّه سبحانه، فقالوا إنّ ما وافق الكتاب فخذوه و ما خالف الكتاب فذروه فدعوه فاضربوه على الحائط «1».

فان قلت أنّ الاخبار الدّالة على نفي عصمتهم ايضا توافق ظاهر الكتاب كهذه الآية و المتضمّنة لقصّة الملكين و إبليس و غير ذلك، قلت قد سمعت أنّه لا ظهور في الآية أصلا و انّه من الآيات المتشابهة التي يجب ردّها إلى المحكمات و لو بقرينة الإجماع و غيره على عدم ابقائها على ظواهرها.

و من هنا يظهر الجواب عمّا يمكن إيراده في المقام من أن قضيّة تخصيص العام بالخاصّ حمل الآيات الدّالة على العصمة على غير مورد هذه الآية الخاصّة بحسب المورد

و الزّمان و المعصية و غيرها من الخصوصيّات إذ فيه أنّ التخصيص بعد احراز حجّية الخاص و ظهور دلالته و هو في المقام أوّل الكلام.

و توهّم اعتضاد دلالتها بظواهر الاخبار المتقدّمة المتضمّنة لتفسيرها سيّما مع

__________________________________________________

(1) البحار: ج 2 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 116

تكرّرها في أصول الإماميّة و اشتمالها على الإبناء عن بدو بناء البيت حسبما هو المشهور بين الطائفة المحقة، مدفوع بانّ المحكمات حاكمة عليها فلا ينفعها الاعتضاد بالاخبار التي سبيلها سبيل الاخبار الواردة في تفسير الآيات المتضمّنة للخبر و التشبيه و غيرها ممّا يلزم فيه رفع اليد عن الظواهر كما في المقام و لو للإجماع و غيره، فان قلت إنّ الإجماع ممنوع في المقام فانّ المحكي منه غير معلوم الحجّية سيّما في مثل المسألة التي هي من فروع الأصول دون الفروع التي يجري فيها دليل الانسداد و غيره و المحقق منه غير معلوم التحقق لو لم نقل إنّ المحقّق انتفاؤه فانّ هذه الاخبار المتعلّقة بهذه القصّة أو المتضمّنة لتوبة دردائيل و أخويه قد تعرض لنقلها العصابة من دون اشارة إلى ردّها أو طرحها أو التأويل فيها بما لا ينافي العصمة على أنّ الشيخ أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه قد اختار في تبيانه كون إبليس مع تمرّده و عصيانه من جملة الملائكة و استدلّ على ذلك بما يأتي و أيضا يظهر ممّا يحكى عن محمّد بن بحر الشّيباني الدّهني و هو من أجلّة الاماميّة في كلامه المحكي في «العلل» و غيره في تفضيل الأنبياء على الملائكة اتّفاق جميع المفسّرين من الأمّة على كون إبليس و هاروت و ماروت من الملائكة و لم يحك الخلاف في ذلك عن أحد من الاماميّة

بل العامة ايضا إلّا عن الحسن البصري و نسبه إلى الشّذوذ عن أقوال سائر المفسّرين و لعلّه يستفاد من كلامه دعوى الإجماع على نفي العصمة فكيف يمكن دعوى الإجماع عليها قلت لم نرد بالإجماع مجرّد الاتّفاق الذي يقدح فيه أمثال هذه الأقوال الشّاذة بل المراد به ما هو الحجّة عند الامامية لكونه كاشفا عن قول المعصوم و رضاه و هو محقق في المقام بحيث لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 117

يصغى معه إلى أمثال هذه الاخبار و الأقوال الشاذة التي لم تكن معروفة و لا مذكورة عند الاماميّة و لذا ادّعى المفيد الإجماع على عدم كون إبليس من الملائكة، و لعمري أنّه من الوضوح بمكان يمكن دعوى ضرورة المذهب عليه على ما ستعرف بل و لعلّه كذلك بالنّسبة إلى الملكين و لذا قال ايضا الصّدوق بعد حكاية كلام الدّهني في «العلل» ما لفظه إنّما أردت أن تكون هذه الحكاية في هذا الكتاب و ليس قولي في إبليس؛ أنّه كان من الملائكة، بل كان من الجنّ، إلّا أنّه كان يعبد اللّه بين الملائكة و هاروت و ماروت ملكان، و ليس قولي فيهما قول أهل الحشو بل كانا عندي معصومين إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه «1».

عصمة الملائكة و حقيقتها

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في أصل العصمة و عدم صدور المعصية بعد قيام الإجماع و إنّما الكلام في انّهم قادرون على الشرور و المعاصي أولا فالمحكي عن جمهور الفلاسفة و كثير من الجبريّة أنّهم خيرات محض لا قدرة لهم على شي ء من ذلك بل الظاهر منهم أنّ أفعالهم كالأفعال الطّبيعية الصّادرة عن فاعلها من دون كلفة و مشقّة، بل قد يحكى عنهم: أنّهم جعلوها نفس الطّبايع الّتي تصدر عنها

الأفعال من دون شعور و اختيار، و لقد فرغنا عن الكلام في إبطاله على ما مرّ و ظاهر المتكلّمين و الفقهاء بل صريح بعضهم انّهم قادرون على كلّ من الطّاعة و المعصية، إلّا أنّهم باختيارهم و ارادتهم بل و استلذاذهم و ميلهم يختارون الطّاعة على المعصية كما يستفاد من هذه القصّة المتضمّنة لترك الأولى و من قوله: وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 118

إِلهٌ «1»، الظّاهر في قدرتهم على ذلك، بل هو الظّاهر ايضا من التمدّح بالتّسبيح و التقديس في هذه الآية، و من قوله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «2»، و قوله: وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «3»، إلى غير ذلك من الآيات الظّاهرة في ذلك.

بل قد يستدلّ أيضا بانّهم لو لم يكونوا قادرين على ترك الخيرات لما كانوا ممدوحين بفعلها لأنّ الملجأ إلى الشي ء و من لا يقدر على ترك الشي ء لا يكون ممدوحا بفعل الشي ء.

قال الرازي: و لقد استدلّ بهذا بعض المعتزلة فقلت له: أ ليس أنّ الثّواب و العوض واجبان على اللّه تعالى، و معنى كونه واجبا عليه أنّه لو تركه للزم من تركه إمّا الجهل و إمّا الحاجة و هما محالان، و المفضي إلى المحال محال، فيكون ذلك التّرك محالا من اللّه، و حينئذ فيكون الفعل واجبا منه، فكون اللّه تعالى فاعلا للثّواب و العوض واجب و تركه محال مع انّه تعالى ممدوح على فعل ذلك، فثبت أنّ امتناع التّرك لا يقدح في حصول المدح، قال فانقطع و ما قدر على الجواب «4».

و الجواب عنه واضح ضرورة ظهور الفرق بين

كون الترك مستندا إلى الاختيار، بحيث لا يختار الفعل أصلا أبدا و لو للحكمة او العصمة، و كونه مستندا على العجز و انتفاء القدرة و انتفاء المدح إنّما هو في الثاني دون الأوّل الّذي يثبت معه

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 29.

(2) التحريم: 6.

(3) الأنبياء: 29.

(4) تفسير مفاتيح الغيب ج 1 ص 171.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 119

القدرة و الاختيار على مذهب العدليّة، إلا أنّ الرجل ليس منهم بل من الّذين يظنّون باللّه ظنّ السّوء عليهم دائرة السّوء.

تفسير الآية (31)

اشارة

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها شروع في بيان الجواب عن سؤال الملائكة على وجه التّفصيل بعد ما أجمل الجواب عنهم، و تمهيد للاستدلال على أفضليّة آدم عليهم بما خصّه من العلم.

و التعليم فعل يترتّب عليه العلم غالبا، و هو في حقّه تعالى يكون بالتكوين و بالوحي و الإلهام، أو بمطلق الإعلام، و إطلاق المعلّم عليه غير سائغ لتوقيفية الأسماء، و غلبة إطلاقه فيما يكون بأدوات و لهوات، و إن أطلق عليه ما اشتقّ منه كما في المقام، و في قوله: وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ «1»، عَلَّمَ الْقُرْآنَ «2»، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «3».

وجه تسمية آدم

و «آدم» إمّا اسم أعجميّ بل في «الكشّاف»: و ما آدم إلّا اسم أعجمي و اقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر، و عازر، و عابر، و شالخ، و فالغ، و أشباه ذلك.

و إمّا عربي مشتقّ من أديم الأرض، بمعنى وجهها لما روي من أنّه تعالى لما

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 80.

(2) الرحمن: 2.

(3) العلق: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 120

أراد أن يخلقه أمر أن يقبض قبضة من جميع الأرض سهلها و جبلها فخلق منها آدم، فلذلك ياتي بنوه أخيافا اي مختلفين من قولهم: النّاس أخياف، و يقال لإخوة الأمّ أخياف، لاختلافهم في نسب الآباء.

و في خبر ابن سلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه سأله عن آدم لم سمّي آدم؟ قال: لأنّه خلق من طين الأرض و أديمها، قال: فآدم خلق من الطّين كلّه او من طين واحد؟

قال: بل من الطّين كلّه، و لو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضا، و كانوا على صورة واحدة قال: فلهم في الدّنيا مثل؟ قال: التّراب فيه أبيض،

و فيه اخضر، و فيه أشقر و فيه اغبر، و فيه احمر، و فيه أزرق و فيه عذب و فيه ملح و فيه خشن و فيه لين و فيه أصهب فلذلك صار النّاس فيهم ليّن و فيهم خشن، و فيهم أبيض، و فيهم اصفر، و احمر و أصهب و أسود على ألوان التّراب «1».

و في «الاختصاص» عن الصادق عليه السّلام انّه خلق آدم من صفحة الطّين «2».

أو بمعنى باطنها من الأدمة بالتحريك لباطن الجلد، و باطن الأرض كما في «القاموس»، أو خصوص الأرض الرّابعة كما قال الصّدوق في «العلل» بعد قول الّصادق عليه السّلام: إنّما سمّي آدم آدم لأنّه خلق من أديم الأرض: إنّ اسم ارض الرّابعة أديم و خلق آدم منها فلذلك قيل: خلق من أديم الأرض «3».

و ان قيل إنّه لم يوجد له أثر في كتب اللّغة و لعلّه وصل إليه بذلك خبر، لكن في «قصص الأنبياء» بعد نقل خبر يأتي ذكره ما لفظه: و قيل: أديم الأرض أدنى

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 161 و عنه البحار ج 11 ص 101.

(2) البحار ج 11 ص 102 عن الاختصاص.

(3) علل الشرائع ج 1 ص 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 121

الأرض الرّابعة إلى اعتدال، لأنّه خلق وسط بين الملائكة و البهائم، و ستسمع ما فيه من الإشارة.

و في «الاحتجاج» عن أبي بصير قال: سأل طاوس اليماني أبا جعفر عليه السّلام لم سمّي آدم آدم؟ قال: لأنّه رفعت طينته من أديم الأرض السّفلى «1».

و هذا الخبر يحتمل كلّا من الوجوه الثلاثة و غيرها.

أو من الأدمة بمعنى الألفة و الاتّفاق يقال: أدم اللّه بينهما اي أصلح و ألّف و كذلك آدم اللّه بينهما

فعل و أفعل بمعنى، و منه الخبر: فانّه أحرى أن يؤدم بينكما «2» يعني أن يكون بينكما المحبّة و الاتّفاق و لعلّه الأنسب بما في «العلل» قال: اتى أمير المؤمنين عليه السّلام يهوديّ فقال: لم سمّي آدم آدم؟ قال عليه السّلام: لأنّه خلق من أديم الأرض، و ذلك انّ اللّه تبارك و تعالى بعث جبرئيل و أمره أن يأتيه من أديم الأرض أربع طينات: طينة بيضاء، و طينة حمراء، و طينة غبراء، و طينة سوداء، و ذلك من سهلها و حزنها ثمّ أمره أن يأتيه بأربع مياه: ماء عذب، و ماء ملح و ماء قر و ماء منتن، ثمّ أمره أن يفرغ الماء في الطّين و آدمه اللّه بيده فلم يفضل شي ء من الطّين يحتاج إلى الماء و لا من الماء شي ء يحتاج إلى الطّين و جعل الماء العذب في حلقه، و جعل الماء المالح في عينيه، و جعل الماء المرّ في أذنيه، و جعل الماء المنتن في انفه «3». الخبر.

__________________________________________________

(1) الاحتجاج ص 179 و عنه البحار ج 11 ص 100.

(2) في لسان العرب ج 12 ص 8: في الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه (و آله) و سلم أنه قال للمغيرة بن شعبة و خطب امرأة: لو نظرت إليها فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما قال الكسائي: يودم بينكما يعني ان تكون بينهما المحبة و الاتفاق.

(3) علل الشرائع ص 2 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 122

و صدره و ان وافق الأخبار المتقدّمة إلّا أن قوله: ادمه اللّه يومئ إلى ما سمعت، و كذا قوله في الخبر الآتي عن تفسير فرات فخلقه من أديم الأرض لأنّه لمّا عجن بالماء استأدم «1»،

و ان كان محتملا لغيره من الوجوه، بل صدره ظاهر فيما تقدّم، و لعلّ فيه اشارة إلى سببين للتسمية.

و ربما يقال بكونه مشتقّا من الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة و هي القدوة لأنّه يقتدي به ذرّيته أو الملائكة و يعرف به افراد هذا النوع، قال في «القاموس»: و هو آدم اهله و ادمتهم و يحرّك و أدامهم: أسوتهم الّذي به يعرفون، و قد أدمهم كنصر صار كذلك انتهى.

أو من الأدمة بالضّم بمعنى السمرة لأنّه عليه السّلام كان أسمر اللّون على ما قيل، و أورد عليه بأنّه لا يناسب ما ورد من براعة جماله و انّ يوسف عليه السّلام كان جماله على الثلث منه.

و فيه ضعف واضح فإنّ الادمة لا ينافي البراعة في الحسن، أو بمعنى القرابة و الوسيلة يجعلها في ذرّيته بالتّوالد إلى غير ذلك ممّا لا يأبى عنه اللّغة و الاستعمال و ان كان ظاهر النّصوص هو ما سمعت.

و امّا المناقشة في أصل الاشتقاق نظرا إلى اختصاصه بلغات العرب، ثمّ في عربيّته و قد روى من أنّه عليه السّلام كان يتكلّم بالسرّيانيّة مضافا إلى وضوح حدوث اللّغات العربيّة.

__________________________________________________

(1) تفسير فرات: 65 و عنه البحار ج 57 ص 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 123

فمدفوعة بالمنع من الاختصاص و قد روى انّه عليه السّلام كان يتكلّم بكلّ لسان و إن كان الغالب هو البعض، و حدوث اللّغة العربيّة بعد إسماعيل غير مسلّم، و قد روى انّ الكتب السّماوية كلّها باللّغة العربيّة و ان وقعت في الأسماع بلغات أخر، و الظّاهر انّ التّسمية بآدم كانت من اللّه سبحانه.

و بالجملة لا ينبغي التأمّل في عربيّته سيّما بعد ما سمعت من الأخبار و لذا قال الجواليقي «1»: اسماء

الأنبياء كلّها أعجميّة إلّا اربعة: آدم، و صالح، و شعيب، و محمد عليهم السّلام.

بل في الخبر: أوّل من تكلّم بالعربيّة آدم عليه السّلام «2».

و أمّا ما رواه في المعاني و الخصال عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: انّ أربعة من الأنبياء سريانيّون آدم و شيث و إدريس و نوح «3» فمحمول على غلبة تلك اللّغة على لسانه، و الّا فقد ورد انّ اللّه تعالى انزل عليه ألف ألف لسان لا يفهم فيه اهل لسان من أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم «4».

بل في «الاختصاص» مثل ما سمعت عن «المعاني» و «الخصال» ثمّ قال

__________________________________________________

(1) هو ابو محمد إسماعيل بن ابي منصور موهوب بن احمد البغدادي، كان بعد أبيه امام اهل الأدب بالعراق، توفى سنة «539» ه.

(2) قال السيوطي: عن ابن العباس: أوّل من تكلّم بالعربيّة المحضة هو إسماعيل عليه السّلام و أراد به عربيّة قريش التي نزل بها القرآن، و اما عربيّة قحطان و حمير فكانت قبل إسماعيل- المزهر للسيوطي ج 1 ص 27.

(3) الخصال: ج 2 ص 524.

(4) بحار الأنوار ج 11 ص 257 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 124

و كان لسان آدم العربيّة و هو لسان أهل الجنّة فلمّا عصى ربّه أبدله بالجنّة و نعيمها الأرض و الحرث و بلسان العربية السّريانية «1».

إلى غير ذلك ممّا تأتي إلى بعضها الإشارة.

و من جميع ما مرّ قد ظهر ضعف ما ذكره الزّمخشري من القطع بعجمته، و ان استدلّ عليه غيره بما لا يخلو من ضعف واضح، ثمّ إنّهم صرّحوا بانّ أصله بهمزتين، لأنّه أفعل لكنّهم ليّنوا الثانية، و إذا حرّكت جعلت واوا فيجمع على أوادم، لأنّه ليس لها

أصل في الياء معروف فجعلت الغالب عليها.

و في «المجمع» انّه ان أخذ من أديم الأرض صرف بالتنكير، أو من ادمه اللّون و الصّفة فإذا سمّيت به في هذا الوجه ثم نكرته لم تصرف «2» و الوجه واضح.

ثمّ انّه عليه السّلام يكنّى أبا البشر، و روى أبا محمّد ايضا ففي «البحار» عن نوادر الراوندي بالإسناد عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أهل الجنّة ليست لهم كنى إلّا آدم عليه السّلام فانّه يكنّى بأبي محمد توقيرا و تعظيما «3».

و المراد بالاسم ما يدلّ على الشي ء في مرتبة الذّات و الكينونة أو في مرتبة الفعل و الطّبيعة و الخواص، او في مرتبة الألفاظ الموضوعة المؤلّفة من الحروف، و لذا ينقسم إلى اقسام ثلاثة بل اربعة حسبما مرّت إليها الإشارة في تفسير البسملة.

«و الكلّ» لفظ يدلّ على الاستيعاب و الاحاطة بالأجزاء، و يؤكّد به مثل أجمعون إلّا أنّه يبدأ في الذّكر بكلّ كما في قوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ*

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 56 عن الاختصاص.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 76.

(3) بحار الأنوار ج 21 ص 107 عن نوار الراوندي ص 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 125

أَجْمَعُونَ* «1»، لأنّ الكلّ قد يلي العوامل، و أجمعون لا يكون إلّا تابعا و التأكيد بالاستيعاب إمّا باعتبار أنواع الإسم حسبما سمعت، أو افراد كلّ نوع، و الأولى اعتبار العموم من الجهتين، سيّما مع تأكيد الجمع المحلّى، أو أنّ المراد بالأسماء مسمّياتها بتقدير المضاف اليه، فتشمل جميع الأكوان، و أفعالها، و خواصّها و آثارها، و اصول العلوم و الصناعات، و انواع المدركات من المعقولات و المحسوسات،

و غيرها ممّا علّمها اللّه تعالى آدم تعليما إلهاميّا مترتّبا على كمال الاستعداد الحاصل من التعليم التكويني، فانّه جعل وجوده و كينونته نسخة مختصرة مشتملة على كليّات ما في العوالم الملكوتيّة و النّاسوتيّة، و لذا ورد انّه قد أخذ من جميع القبضات المأخوذة من السموات و الأرضين.

ففي «الكافي» عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لما أراد ان يخلق آدم عليه السّلام بعث جبرئيل في أوّل ساعة من يوم الجمعة، فقبض بيمينه قبضة، فبلغت قبضته من السماء السّابعة إلى السّماء الدنيا، و أخذ من كلّ سماء تربة، و قبض قبضة اخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى، فأمر اللّه عزّ و جلّ كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه، و القبضة الاخرى بشماله، ففلق الطّين فلقتين، فذرا من الأرض ذروا و من السموات ذروا، فقال للّذي بيمينه: منك الرّسل و الأنبياء و الأوصياء و الصّديقون و المؤمنون و السعداء و من أريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال، و قال للّذي بشماله: منك الجبّارون و المشركون و الكافرون و الطّواغيت و من أريد هوانه و شقوته، فوجب لهم ما قال كما قال ثمّ انّ الطّينتين خلقتا

__________________________________________________

(1) الحجر: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 126

جميعا «1»، الخبر على ما يأتي.

فانّ المراد بيوم الجمعة يوم اجتمع فيه خلق العالم، و تمّ فيه مراتب الوجود الكليّة من العلويّة و السّفليّة على ما أشير إليه في الأخبار المتضمّنة لبيان خلق السموات و الأرض في ستّة ايّام.

و أمّا ما يقال في بيان تفصيل القبضات الّتي يستفاد من بعض الأخبار كونها عشرا من أنّها في المؤمن قبضة من محدّد الجهات خلق منها قلبه و قبضة من

الكرسي خلق منها صدره، و قبضة من فلك زحل خلق منها عقله، و قبضة من فلك المشتري خلق منها علمه، و قبضة من فلك المريخ خلق منها وهمه، و قبضة من فلك الشمس خلق منها وجوده، الثّاني، و قبضة من فلك الزّهرة خلق منها خياله، و قبضة من فلك عطارد خلق منها فكره، و قبضة من فلك القمر خلق منها حياته، و قبضة من أرض الدّنيا خلق منها جسده، و في الكافر قبضة من الحوت الّذي على البحر تحت الأرضين فخلق منها قلبه، و قبضة من الثور فخلق منها صدره، و قبضة من الأرض السّابعة القصوى أرض الشقاوة فخلق منها دماغه، و قبضة من الأرض السادسة خلق منها علمه، و هي ارض الإلحاد و قبضة من الأرض الخامسة أرض الطغيان خلق منها وهمه، و قبضة من الأرض الرابعة أرض الشهرة خلق منها وجوده الثّاني، و قبضة من الأرض الثالثة أرض الطبع خلق منها خياله، و قبضة من الأرض الثّانية أرض العادة خلق منها فكره، و قبضة من الأرض الاولى أرض النفوس خلق منها جسده، و قبضة من سماء الدنيا خلق منها حياته.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 64 ص 87 عن الكافي ج 2 ص 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 127

فهو مبنيّ على مقدّمات و اصول لا يخلو بعضها عن ضرب من الحدس و التخمين على ما أشرنا إليه سابقا.

لكن القدر المعلوم من ملاحظة أخبار الباب كقول الصادق عليه السّلام: انّ الصّورة الانسانيّة هي مجموع صور العالمين و هي المختصر من العلوم في اللّوح المحفوظ «1» و قول العالم عليه السّلام: خلق اللّه عالمين فعالم علوي و عالم سفلي و ركّب العالمين جميعا في ابن

آدم «2» و الشعر المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام:

أ تزعم انك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر إلى غير ذلك ممّا مرّت إليه الإشارة في تفسير الفاتحة «3».

هو انّ الإنسان جامع بجمعيّته الكونيّة لجميع النشئات الكليّة، محتو على روحانيات العوالم الملكيّة و الملكوتيّة، مطرح لاشعّة نجوم الدّراري العلوية و قوى الأجسام السّفليّة، و لذا استعدّ بكينونتها لإدراك ما فيها و التخلق باخلاقها.

قال مولانا أمير المؤمنين في الخطبة المذكورة في النّهج: ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها، و عذبها و سبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت، و لاطها بالبلّة حتّى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول، و أعضاء و فصول، أجمدها حتّى استمسكت، و أصلدها حتّى صلصلت، لوقت معدود و أجل معلوم، ثمّ نفخ فيها من روحه، فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها، و فكر يتصرّف بها، و جوارح يختدمها، و أدوات يقلّبها، و معرفة يفرق بها بين الحقّ و الباطل، و الأذواق و المشامّ

__________________________________________________

(1) شرح الأسماء الحسنى ج 1 ص 12.

(2) الاختصاص ص 142.

(3) تفسير الصراط المستقيم ج 3 ص 412.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 128

و الألوان و الأجناس، معجونا بطينته الألوان المختلفة، و الأشباه المؤتلفة، و الاضداد المتعادية، و الأخلاط المتباينة، من الحرّ و البرد، و البلة و الجمود، و المسائة و السرور، الخطبة «1».

و في تفسير فرات عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: انّه سبحانه لمّا خلق السموات و الأرض و اللّيل و النّهار و النجوم و الفلك و جعل الأرضين على ظهر حوت أثقلها فاضطربت فأثبتها بالجبال فلمّا استكمل خلق ما في السموات و الأرض يومئذ خالية ليس فيها أحد

قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ، فبعث اللّه جبرئيل عليه السّلام فأخذ من أديم الأرض قبضة، فعجنه بالماء العذب و المالح، و ركّب فيه الطبائع، قبل أن ينفخ فيه الروح، فخلقه من أديم الأرض فلذلك سمّي آدم، لأنّه لما عجن بالماء استأدم فطرحه في الجبل، كالجبل العظيم، و كان إبليس يومئذ خازنا على السّماء الخامسة، يدخل في منخر آدم ثمّ يخرج من دبره، ثمّ يضرب بيده على بطنه فيقول لايّ أمر خلقت؟ لإن جعلت فوقي لا أطعتك، و ان جعلت أسفل منّي لا أعينك، فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح، فخلقه من ماء و طين، و نور و ظلمة، و ريح و نور من نور اللّه تعالى، فامّا النّور فتورثه الإيمان، و امّا الظلمة فتورثه الكفر و الضّلالة، و أمّا الطّين فيورثه الرعدة و الضّعف و الاقشعرار عند اصابة الماء، فينبعث به على اربع

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة الاولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 129

طبائع: على الدّم، و البلغم، و المرار، و الرّيح «1»، الخبر.

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه كونه مخلوقا من الطّبايع السّفلية و الأرواح العلوية الفلكيّة و النّاطقة القدسيّة و الكليّة الالهيّة حسبما تسمع الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي* «2».

الأسماء الّتي علّمها اللّه سبحانه آدم

و هذا التّعليم تعليم تكوينيّ للأسماء الّتي هي كليّات العوالم و جزئيّاتها، و هي مظاهر للأسماء الالهيّة الّتي هي النعوت الكماليّة و الصّفات الجماليّة و الجلاليّة باعتبار غلبة ظهور الصّفة الّتي اشتمل

عليها ذلك الاسم فيه، و هي الّتي تسمّى كليّاتها بالمهيّات و الحقائق، و جزئيّاتها بالهويات عند قوم، و تسمّى عند آخرين بالفيض الّذي ينقسم عندهم إلى الفيض الأقدس و الفيض المقدّس، و بالأوّل يحصل إمكانات الأعيان و استعداداتها بالمشيّة الامكانيّة، و بالثّاني يحصل تلك الأعيان في عالم الأكوان، مع لوازمها و توابعها و آثارها و ارتباطاتها بالمشيّة الكونيّة، و لهذا كلّما كانت أفراد هذا النّوع أكمل كان مظهريّتها للأسماء الالهيّة أظهر، و نبيّنا محمّد و آله الطاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين أفضل الموجودات و أكمل البريّات.

و لذا ورد في الأخبار الكثيرة أنّهم أسماء اللّه الحسنى الّتي لا يقبل اللّه من احد إلّا بولايتهم و معرفتهم و كرامتهم لأنّ اللّه تعالى جعلهم أبوابه و حجّابه و دلائل معرفته

__________________________________________________

(1) تفسير فرات ص 65 و عنه البحار ج 57 ص 94.

(2) الحجر: آيه 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 130

و وسائل فيضه و كرامته، فهم الأعراف الّذين لا يعرف اللّه تعالى إلّا بسبيل معرفتهم، و هم الأسماء الّذين علّمهم اللّه تعالى آدم و شرّفه بهم، و أكرمه بإسجاد الملائكة تعظيما لهؤلاء الأنوار، و تكريما لآدم و عبوديّته للّه سبحانه.

ففي «الإكمال» و غيره عن الصادق عليه السّلام قال اللّه تبارك و تعالى علّم آدم اسماء حجج اللّه كلّها ثمّ عرضهم و هم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين انكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم و تقديسكم من آدم قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال اللّه تبارك و تعالى:

يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وقفوا على عظيم منزلتهم عند اللّه تعالى ذكره، فعلموا أنهم أحقّ

بأن يكونوا خلفاء اللّه في ارضه و حججه على بريّته ثمّ غيّبهم عن أبصارهم و استعبدهم بولايتهم و محبّتهم و قال لهم أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ «1»، الآية.

و في تفسير الامام عليه السّلام: و علّم آدم الأسماء، كلّها أسماء أنبياء اللّه و اسماء محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطّيّبين عن آلهما و اسماء خيار شيعتهم و عتاة أعدائهم «2».

و فيه عن سيّد الشهداء قال: إنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم و سوّاه و علّمه اسماء كلّ شي ء و عرضهم على الملائكة جعل محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 26 ص 283 ح 38 عن إكمال الدين.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 73 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 131

و الحسين عليهم السّلام أشباحا خمسة في ظهر آدم «1»، إلى آخر ما يأتي في الأمر بالسجود له.

و في «المجمع» عن الصّادق عليه السّلام أنّه سأل عن هذه الآية فقال: الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية ثمّ نظر إلى بساط تحته فقال و هذا البساط ممّا علّمه اللّه «2».

و رواه العيّاشي في تفسيره و فيه أنّه سئل الصّادق عليه السّلام عن الأسماء في قوله:

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ما هي؟ فقال عليه السّلام: أسماء الأودية و النبات و الشّجر و الجبال من الأرض «3».

و فيه عن داود بن سرحان العطار قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدعا بالخوان فتغذّينا، ثمّ جاءوا بالطّست و الدست شويه «4» فقلت: جعلت فداك و علم آدم الأسماء كلّها الطست و الدست شويه منه؟ فقال: الفجاج و الأودية و أهوى بيده كذا و كذا «5».

و

في تفسير القمي قال: اسماء الجبال و البحار و الأودية و النّبات و الحيوان.

و قد ظهر لك ممّا لوّحنا إليه الجمع بين اخبار الباب، بل بينها و بين ما قيل:

من أنّ المراد بالأسماء هي الأسماء الالهيّة أو الحقائق الكونيّة الّتي هي لها مظاهر كلّية، و ذلك لأنّه قد تواتر عنهم انّه تعالى خلق أوّل ما خلق أنوار محمد و آل محمّد و أرواحهم عليهم السّلام، ثمّ خلق من أشعّة أنوارهم سائر الحقائق الكليّة من المجرّد و المادّية العلويّة و السّفلية، على حسب درجاتها و مراتبها و قربها من ينبوع الرّحمة الكلّية

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 150 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 76.

(3) البحار ج 11 ص 147 عن تفسير العيّاشي.

(4) الدست شويه: كلمة فارسيّة اي الإناء الذي يغسل فيه الايدي.

(5) البحار ج 11 ص 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 132

و بعدها عنه، كما أشير اليه فيما مرّ نقله من كتاب «الأنوار» و غيره، و قد علّمها اللّه تعالى آدم بأن جعل تكوينه من القبضات المأخوذة من جميع العوالم الكليّة، و جعل طينة مستعدّة لظهور الحجج و الأنبياء سيّما محمّد و آله الطّيبيّن صلوات اللّه عليهم أجمعين. منها في هذه النشأة الدّنيوية، فعلّمه الأسماء الكلّية و الحقائق الكونيّة تعليما تكوينيّا، و جعلها مستعدّة لإدراك كلّ حقيقة من الحقائق بما فيه من القبضة المأخوذة من تلك النشأة و التّجلي الحاصل من ذلك الاسم، فكان أنموذجا و خلاصة مأخوذة من جميع العوالم، فخلق في عالم النّاسوت بعد خلق جميع اجزائه الكونيّة، لأنّ ما هو متقدّم في الخلقة الملكوتيّة متأخّر في الظّهور النّاسوتي فيتعاكس التقدّم الدّهري و الزّماني،

فلمّا دارت الأدوار و تمّت الأكوار ظهر الإنسان، محيطا على جميع الشؤون و النّشآت، مجمعا لجميع الاقتضاءات و الاستعدادات، قابلا للتّرقيّات من جميع الجهات، فهو ثمرة شجرة الوجود، و القابل لإشراق أشعّة أنوار الشّهود، فكما أنّ الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلّها حتّى تظهر على أعلى الشجرة بعد تمامها، كذلك عبّر آدم على جميع أجزاء شجرة الوجود حتّى ظهر في هذه النشأة الدّانية السافلة في كسوة الناسوت.

و أمّا الملائكة فكلّ منهم له مقام معلوم لا يتعدّاه، و لا يدرك ما سواه، و لا يعبد اللّه سبحانه إلّا بلسان واحد، و لا يدعوه إلّا باسم واحد، و أمّا سائر الأسماء الالهيّة فمحجوبة عنهم لا يدركونها أصلا نعم ربما كان الاسم الّذي يدعوه به واحد منهم مغايرا لما يدعوه به الآخر لكنّها متّفقة في نوع الاتّحاد بخلاف الإنسان، فانّه يدعوه بأسمائه الحسنى و أمثاله العليا و نعمه الّتي لا تحصى المفسّرة في الأخبار

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 133

الكثيرة بالنّبي و الأئمّة عليهم الصلاة و السلام.

و من هنا يتّضح تفسير الأسماء بالأنبياء و الحجج و بتلك الحقائق الكلّية و الأعيان الموجودة الخارجيّة الّتي عبّر عنها بالأرضين و الجبال و النّبات و الحيوان و غيرها ممّا هي تعيّنات لتلك الحقائق البسيطة و المركّبة.

و قري ء: و علّم آدم الأسماء على البناء للمفعول.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ عرض هؤلاء الأسماء الفعليّة الذين هم نفس الحقائق الكونيّة المشتملة على ذوات العقول الذين هم الأصول لها و لو باعتبار الشرف و سبق الخلقة و وساطة الفيض تكوينا و تشريعا على النّحو المقرّر، أو مسمّيات الأسماء اللّفظيّة المدلول عليها ضمنا باعتبار حذف المضاف إليه في قوله: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ» لدلالة المضاف عليه، و

تعويض اللام عنه كما في قوله: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1»، فينتظم حينئذ قوله: عَرَضَهُمْ و قوله: بِأَسْماءِ هؤُلاءِ و لم يجعل المحذوف مضافا اي مسمّيات الأسماء لينتظم تعليق الإنباء على الأسماء فيما ذكر بعد التعليم و على الوجهين فالمراد أشباح المخلوقات و حقائقها فردا فردا في عالم الملكوت، فانّ السؤال عن أسماء المعروضات، فلا يكون المعروض نفس الأسماء سواء أريد بها الألفاظ او الآثار و اللّوازم و الفوائد.

و تذكير الضّمير إمّا لأنّ لكلّ منها عقلا و شعورا في عالمه، و لذا نسب إليهم

__________________________________________________

(1) مريم: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 134

التّسبيح و ذكّرهم في قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1»، و إمّا لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء لما مرّ كما في قوله: وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ «2»، و إمّا لكون الضّمير للنّبي و الأئمّة الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

و لذا قال الامام عليه السّلام في تفسيره: عرض محمّدا و عليّا و الأئمّة عليهم السّلام على الملائكة اي عرض أشباحهم و هم أنوار في الأظلّة «3».

و في الخبر المتقدّم: علّم آدم أسماء حجج اللّه كلّها ثمّ عرضهم و هم أرواح على الملائكة «4».

و قراءة أبي «5» «ثمّ عرضها»، و عن ابن مسعود: ثمّ عرضهنّ، و يظهر الوجه فيهما ما مرّ.

و العرض مصدر من قولهم: عرضت المتاع على البيع، و عرضت الجند عليه، و عرضت البعير على الحوض، و إن كان هذا من المقلوب، و أصله في اللّغة النّاحية من نواحي الشي ء، و منه العرض

بالفتح خلاف الطّول، و بالكسر يقابل به المال، فإنّه

__________________________________________________

(1) الإسراء: 44.

(2) النور: 45.

(3) تفسير البرهان ج 1 ص 73 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(4) البحار ج 26 ص 283 عن إكمال الدين.

(5) هو أبيّ بن كعب ابو المنذر الأنصاري سيّد القراء، توفي سنة (19) ه العبر للذهبي ج 1 ص 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 135

ناحيته الّتي يصونها عن المكروه، ثمّ أطلق على الإظهار الّذي يعرف به جهة الشي ء و ناحيته، ثمّ على مجرّد الإظهار.

نعم قد يقال: إنّه يختصّ بالمحسوسات بالعين يقال: عرضت الجند، عرض العين إذا أمررتهم عليك و نظرت ما حالهم، كما عن الجوهري، و هذا ممّا يؤيّد كون المعروض نفس المسمّيات لا الأسماء الّتي هي المسموعات او ما في حكمها، و المعنى أظهرهم على الملائكة بكشف الحجب عن الأرواح و اراءة الأشباح و هم في أصقاع الملكوت و سرادقات الجبروت متوجّهين إلى الحيّ الّذي لا يموت فقال اللّه سبحانه لملائكته تعجيزا و تبكيتا لهم، و تنبيها على قصورهم عن أمر الخلافة او تكليفا مطلقا أو مشروطا:

أَنْبِئُونِي أخبروني على وجه الإحاطة العلميّة الّتي لا تتأتّى إلّا بالاحاطة الكونيّة أو أنّ المراد مجرّد الإخبار، فإنّ الإنباء إخبار فيه إعلام و لذا يجري مجرى كلّ منهما بِأَسْماءِ هؤُلاءِ الحجج الّذين لولاهم لم يخلقكم اللّه تعالى، و لا أرضا و لا سماء، و لا شيئا من الأكوان المجرّدة و المادية، و ذلك لأنّهم هم العلل الغائية و المقاصد الاصليّة من خلق العالم و آدم، و هم المختصون بالخلافة الكليّة و الوسائط الأوّليّة للفيوض الالهيّة أو بأسماء اللّه الّتي بما خلقت هذه الأشباح، فانّها بتمامها كانت محجوبة عن الملائكة إلّا

نوعا واحدا لكلّ صنف منهم او بخواص تلك المسمّيات و آثارها و وجوه استنباط منافعها و افعالها و غير ذلك ممّا يتوقّف عمارة الأرض و الانتفاع بما فيها عليها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنكم أ حقّا بالخلافة من ذرّيّته لعصمتكم أو اشتغالكم بالتّسبيح و التّقديس على ما يستفاد من

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 136

خبر «الإكمال» المتقدّم «1».

أو أنّ جميعكم مطيعون منقادون و ليس فيكم من يعصي اللّه و ان لم يكن منكم لشمول الخطاب للجميع، و لذا قال الامام عليه السّلام في تفسير: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ جميعكم تسبّحون و تقدّسون، و ان ترككم هنا أصلح من إيراد من بعدكم، اي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم فالحريّ أن لا تعرفوا الغيب الّذي لم يكن كما لا تعرفون اسماء أشخاص ترونها.

أو في زعمكم انّه لن يخلق اللّه تعالى خلقا إلّا و أنتم اعلم منه و أفضل في سائر انواع العلوم فقيل: إن كنتم صادقين في هذا الظنّ فأخبروا.

او انّ المراد. إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من اسمائهم فأخبروا بها و معناه هو التّعليق بالعلم على أحد الوجهين اللّذين تأتي إليهما الإشارة.

أو في أنّ خلقهم و استخلافهم مع أنّ من شأنهم الإفساد و القتل لا يليق بالحكيم و على هذا فقولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ و إن كان إنشاء إلّا أنّ التّصديق لم يتعلّق به من هذه الجهة، بل باعتبار ما يلزم مدلوله من الإخبار.

ثمّ الأمر في قوله: أَنْبِئُونِي يحتمل كونه توطينا امتحانيا محضا بمعنى انّه لم يتعلّق الغرض بطلب فعل المأمور به أصلا و لو على وجه الاشتراط، فالأمر و ان كان أمرا في الصّورة إلّا أنّ المراد به

هو البعث على التّصديق و الإذعان بحكمته تعالى و علمه بالغيوب او بفضل آدم عليهم على ما يأتي على حدّ سائر الأوامر الامتحانيّة الّتي ليس هناك في الحقيقة طلب أصلا.

__________________________________________________

(1) تقدّم عن البحار ج 26 ص 283 عن الإكمال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 137

و يقرب من ذلك ما قيل: من كونه للتبكيت تنبيها على عجزهم عن اقامة رسم الخلافة، فإنّ التّصرف و التّدبير و القضاء بالقسط متوقّف على تحقّق المعرفة و الوقوف على مراتب الاستعدادات و قدر الحقوق.

و يحتمل كونه أمرا حقيقيّا مشروطا بصدقهم أي بعلمهم على ما مرّ و يأتي أو بغيره ممّا لم يتحقّق بعد كي يتنجز الأمر بالنّسبة إليهم، او حقيقيّا مطلقا في الحقيقة و إن كان مشروطا في الظّاهر، و ذلك لتّحقق الشّرط الّذي علّق عليه الأمر و هو صدقهم فيما أخبروا عنه من عبادتهم، او كون ذرّيّة آدم ممّن يفسد فيها و يسفك الدّماء، و الامتثال على هذا الوجه و ان لم يكن مقدورا لهم بالذّات لجهلهم بتلك الأسماء إلّا انّهم مقدور لهم بواسطة رجوعهم إلى آدم و تعليمهم منه، و لذا أمر اللّه تعالى آدم بتعليمهم إزاحة للعلّة و تنبيها على فضل آدم عليهم و عدم استغنائهم عنه في عبوديّتهم و طاعتهم للّه سبحانه و هذا الوجه و إن لم أجد من تعرّض له من المفسّرين إلّا أنّه لا بأس به بعد المحافظة على استقامة الكلام و احراز الفائدة.

نعم قال شيخنا الطّبرسي بعد تأويل الاشتراط بالصدق إلى ارادة العلم بالخبر على ما مرّ و الإشارة إلى أنّ معنى الأمر هو التّنبيه او انّه يكون امرا مشروطا ما لفظه: و لا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لأنّه لو

كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم ان آدم يعرف اسماء هذه الأشياء بتعريف اللّه ايّاه و تخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه فلمّا أراد تعريفهم ما خصّ به آدم من ذلك علمنا أنّه ليس بتكليف انتهى «1» كلامه زبد مقامه.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 77.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 138

و فيه انّ ارادة تعريفهم ما خصّ به آدم من ذلك ليس مانعا عن كونه تكليفا لهم، بل لعلّه يؤكّده من حيث إنّهم لما أمروا بالإنباء و لم يقدروا عليه إلّا من جهة التّعلّم من آدم ثمّ أنبأهم آدم بها بامره سبحانه علموا أنّ له الفضل و الشرف بالعلم و زيادة حقّ التعليم لهم فيما توقّف عليه طاعتهم و تقرّبهم إليه سبحانه، فهذا تنبيه على شرفه و فضله عليهم على وجه ابلغ كما لا يخفى.

و ممّا يومئ إلى ما ذكرنا انّ كلّا من الاشتراط و التّوطين خلاف الظّاهر من الأمر، و من البيّن انّ المتعيّن هو الحمل على الظّاهر الّذي هو الإطلاق إلّا أن يمنع عنه مانع، و الأصل بل الظّاهر ايضا عدمه مضافا إلى أنّ اعتذارهم بعدم العلم دليل على عدم فهم الاشتراط من الخطاب بل كانّهم فهموا الطّلب على وجه الإطلاق فاعتذروا بعدم العلم فازاح اللّه عذرهم بانّ امر آدم بتعليمهم و انبائهم.

تفسير الآية (32)

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا تنزيه منهم له سبحانه عن أن يكون فعله على غير وجه الحكمة او أن يعلم الغيب أحد سواه و اعتذار عن الاستفسار مع الإشعار بأنّه لم يكن للاعتذار بل لمجرّد الاستخبار و اعتراف بالعجز و القصور عن الاحاطة بوجوه الحكمة في أفعاله، و انّه قد ظهر له ما خفي عليهم

من علم الإنسان و فضله و الحكمة في خلقه و مراعاة للأدب حيث مجدّوه اوّلا بالتنّزيه الّذي هو ابلغ من اثبات الكمال، إذ ربّما لا يخلو عن شوب التّوهم و التشبيه، و لذا قال سبحانه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 139

يَصِفُونَ «1»، ثمّ نفوا العلم بجنسه المستوعب بجميع أفراده عنهم و نسبوه إليه، ثمّ أظهروا شكر نعمته بما منحهم به منه، و لذا أضافوا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إلى قولهم: لا عِلْمَ لَنا مع الاكتفاء به في الجواب، فانّهم أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له و الاعتراف بانعامه عليهم بالتّعليم و ان جميع ما يعلمونه إنّما يعلمونه من جهته، و انّ هذا ليس من جملة ذلك، ثمّ حقّقوا الاعتراف بعلمه و حكمته و أكّدوه بقولهم: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بكلّ شي ء علما ذاتيّا لم يعرض و لا يزول الْحَكِيمُ المصيب في كلّ فعل من أفعاله، المحكم لمبدعاته على أتمّ الوجوه و أتقنها.

و من هنا يظهر أنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم، فلا تكرار، و انّ في الفعيل من المبالغة ما ليس في الفاعل، و انّ تقديم الأوّل علي الثّاني طبيعيّ.

و (سبحان) مصدر كغفران، أو اسم للتّسبيح يقوم مقامه، و لا يكاد يستعمل إلّا مضافا منصوبا بفعل مضمر كمعاذ اللّه، و هو هنا مضاف إلى المفعول، دون الفاعل، و يضاف إلى الضّمائر الثلاثة و إلى الظّاهر، و يستعمل مقطوعا للتّعجّب، تقول العرب: سبحان من كذا إذا تعجّبوا منه، و منه قول الأعشى «2»:

أقول لمّا جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر قال الجوهري: و انّما لم ينوّن لأنّه معرفة عندهم و فيه شبه التأنيث «3».

و المراد به في المقام الاشعار بتنزيهه

تعالى على ما مرّ أو اظهارهم التّعجب

__________________________________________________

(1) الصافّات: 180.

(2) هو عامر بن الحارث الباهلي، شاعر جاهلي و أشهر شعره «رأيته في رثاء أخيه لأمّه: المنتشر ابن وهب أوردها البغدادي برمّتها في خزانة الأدب ج 1 ص 9.

(3) الصحاح ج 1 ص 372 في سبّح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 140

عن سؤالهم عمّا لا يعلمونه، او معناه السّرعة إليه و الخفة في طاعته على ما صرّح به في «القاموس» أخذا له من السباحة للقوم، و منه السابحات للسفن، أو أرواح المؤمنين أو النجوم.

و «لا» لنفي الجنس تفيد بنفيه نفي جميع الإفراد، و الظّرف بمتعلّقه في موضع الرّفع على الخبريّة، و الموصول بدل من اسم «لا» و العائد محذوف، و «أنت» فصل فلا موضع له من الاعراب، أو مبتدأ خبره «العليم الحكيم» و الجملة خبر إنّ أو تأكيد للكاف كما في قولهم: مررت بك أنت.

تفسير الآية (33)

اشارة

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أخبرهم بالحقائق الكلّية الّتي لم تزل محجوبة عنهم، و المعارف اليقينيّة الّتي لم تنكشف لهم ممّا لديهم من العلوم الخاصّة بهم، و الطرق الموصلة لهم إلى معرفته كي يعرفوا جامعيّتك بين الصفات المختلفة و الأسماء المتباينة و قابليّتك للخلافة الكلّية و الموهبة الرّبّانيّة و ظهور أنوار الأنبياء و الأولياء سيّما نبيّنا خاتم النّبيّين و آله الطيّبين صلّى اللّه عليهم أجمعين من صلبك في هذا العالم الجسماني الّذي هو مجمع التّضاد و مطرح الاشعّة.

و قري ء بقلب الهمزة ياء و بحذفها، و الهاء فيهما مكسورة، و هما من الشواذ، بل و كذا ما يحكى عن ابن عامر «1» من تفرّده بكسر الهاء مع الهمزة كما عن بعض

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن عامر أبو

عمران الدمشقي أحد القرّاء السبعة، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك، مات سنة (118) ه الأعلام ج 4 ص 228.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 141

العرب، و قرأ الباقون بضمّ الماء معها بناء على أنّ الأصل في هاء الضمير أن تكون مضمومة، و انّما تكسر إذا وليها كسرة او ياء نحو بهم، و عليهم، و في خبر أسؤلة عبد اللّه بن سلام «1» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال: يا محمّد أخبرني كم خلق اللّه نبيّا من بني آدم؟ قال: يا بن سلام خلق اللّه مائة ألف نبي و اربعة و عشرين ألف نبيّ، قال:

صدقت يا محمّد أخبرني آدم كان نبيّا مرسلا؟ قال: نعم أ فما قرأت في التوراة قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، الآية قال صدقت يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله «2».

الأقوال في نبوّة آدم حين تعلّم الأسماء

أقول و ظاهر هذا الخبر انّه صلّى اللّه عليه و آله كان يومئذ نبيّا مرسلا، و هو أحد الأقوال في المسألة، و به قالت المعتزلة نظرا إلى أنّ ما ظهر من آدم من علمه معجزة دالّة على نبوّته لكونه خارقا للعادة، و إذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت، و أجيب بانّا لا نسلّم كونه خارقا لأنّ حصول العلم باللّغة لمن علّمه اللّه و عدم حصوله لمن لا يعلّمه اللّه ليس بخارق للعادة و الاولى أن يقال بعد تسليم ذلك انّ اظهار الخارق إنّما يكون دليلا على النبوّة مع اقترانه بالدّعوى و التحدّي و هو غير واضح في المقام.

و ثاني الأقوال كونه مرسلا إلى حوّاء خاصة يومئذ ثمّ على ولده بعد خروجه

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن سلام بن الحارث

الاسرايلي أبو يوسف- صحابي أسلم عند قدوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة و كان اسمه الحصين، فسمّاه النبي صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه مات سنة (43) ه. الأعلام ج 4 ص 223.

(2) البحار ج 57 ص 242.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 142

من الجنّة و تجددهم، و ذلك لكونهم من أفراد نوعه و لأنّهم هم المحتاجون في معاشهم و عبادتهم إلى تبليغه، و امّا اشتراك حواء معه في الخطاب بقوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ «1» حيث يدلّ على تلقّيها الوحي لا بواسطته فلا يقدح في رسالته إليها لأنّ ذلك من قبيل اشتراك النّبي مع المؤمنين في الخطابات العامة كقوله:

أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ*.

و فيه بعد الغضّ عمّا في الجواب من المناقشة انّه يبقى اصل القول دعوى بلا دليل، و النّبوي المتقدّم مع ضعفه معارض بأقوى منه سندا و عددا و دلالة على ما يأتي، و اطلاق ما دلّ على نبوّته عليه السّلام لا ينهض حجّه على إثباتها يومئذ للانصراف.

و ثالثها: القطع بأنّه عليه السّلام لم يكن في ذلك الوقت نبيّا لقوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ «2» الدّال على أنّه تعالى إنّما اجتباه بعد الزّلة فقبل الزّلة لم يكن مجتبى فلم يكن رسولا لأنّ الاجتباء و الرّسالة متلازمان، فإنّ الاجتباء هو التّخصيص بأنواع التشريعات و كلّ من جعله اللّه رسولا فقد خصّه بذلك لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «3» و لأنّه لو كان نبيّا في ذلك الزمان لكانت قد صدرت المعصية بعد النبوة، و ذلك غير جايز فوجب أن لا يكون نبيّا في ذلك الزمان، و الملازمة بيّنة بعد القول بكون تلك الزّلة من الكبائر، و لأنّه لو كان رسولا

لكان إمّا مبعوثا إلى حوّاء و هو باطل، لأنّها عرفت التكليف لا بواسطته أو إلى غيرها من الجنّ و الملائكة، و من البيّن أنّه ما كان في السّماء أحد من الجنّ، و أمّا الملائكة فهم أفضل من البشر و لا

__________________________________________________

(1) البقرة: 35.

(2) طه: 122.

(3) الانعام: 124.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 143

يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف.

و هذه الوجوه بمكان من الضّعف و القصور، و أمّا حكاية الاجتباء فلانّ المراد به على ما ذكره المفسّرون هو الحمل على التّوبة و التّوفيق له، كما في قوله في صاحب الحوت فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ «1» و الاجتباء يكون قبل النبوّة كما في غير الأنبياء و بعدها كما في قوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ «2».

و أمّا الثّاني فهو واضح الفساد بناء على ما أجمعنا عليه من عدم صدور المعصية من الأنبياء قبل النبوة و بعدها.

و امّا الثالث فقد سمعت الجواب عنه مضافا إلى أنّ البشر عندنا أفضل من الملائكة، نعم يمكن الاستدلال لهذا القول بما رواه في «الأمالي» عن الرّضا عليه السّلام حيث سئل عن زلّة آدم و منافاتها لعصمته عليه السّلام فقال عليه السّلام: إنّ اللّه خلق آدم حجّة في ارضه و خليفة في بلاده و لم يخلقه للجنّة و كانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتم مقادير أمر اللّه تعالى فلمّا أهبط إلى الأرض و جعل حجّة و خليفة عصم بقوله عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «3». «4» و في العيون عنه عليه السّلام في خبر يأتي في كيفيّة وسوسة إبليس و صدور

الزّلة منه

__________________________________________________

(1) القلم: 50.

(2) آل عمران: 179.

(3) آل عمران: 33.

(4) بحار الأنوار: ج 11 ص 72.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 144

قال عليه السّلام: و كان ذلك من آدم قبل النبوّة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار و انّما كان من الصغائر الموهوبة الّتي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلمّا اجتباه اللّه و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة قال اللّه عزّ و جلّ: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «1» و قال عزّ و جلّ:

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ الآية «2».

أقول: و يظهر من الخبرين صحّة الاستدلال بالآيتين ايضا إلّا أنّ الظاهر ورودهما مورد التقيّة لاشتمالهما على ما علم فساده من ضرورة مذهب الاماميّة من جواز ارتكاب الذّنب قبل النبوّة، اللّهمّ إلّا أن يؤوّل بترك الأولى، أو يقال: إنّ رفع اليد عن بعض الخبر لتقيّة او غيرها لا يوجب رفع اليد عن غيره، و لذا قال الاصوليون: انّه كالعام المخصّص حجّة فيما بقي منه بعد التخصيص.

و احتمال أنّ المراد بما في الخبرين كونه حجّة في الأرض بعد التوبة فلا ينافي كونه حجّة في السّماء أو على الملائكة قبل الهبوط، مدفوع، لمخالفته لظاهر الخبرين سيّما الثّاني.

و في تفسير الامام عليه السّلام قال اللّه عزّ و جلّ: يا آدم أنبئ هؤلاء الملائكة بأسمائهم اسماء الأنبياء و الأئمّة قال عليه السّلام: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فعرفوها أخذ عليهم لهم العهد و الميثاق بالإيمان بهم و التفضيل لهم على أنفسهم قال اللّه تبارك و تعالى عند ذلك: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، سرّهما وَ

أَعْلَمُ ما

__________________________________________________

(1) طه: 121- 122.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 78 عن العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 145

تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ و ما كان يعتقده إبليس من الإباء على آدم إن أمر بطاعته و إهلاكه إن سلّط عليه، و من اعتقادكم انّه لا احد ياتي بعدكم إلّا و أنتم أفضل منه، بل محمّد و آله الطيّبون أفضل منكم الّذين انبأكم آدم بأسمائهم «1».

و فيه تفصيل و استحضار لقوله: أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ و تنبيه على انّه هو العالم بأسرار الملك و الملكوت ممّا خفي عليهم من غيوب السموات و الأرض او ظهر لهم من أحوالهم الظّاهرة و الباطنة، و قيل: ما تبدون من نسبة الإفساد و السّفك و ما تكتمون من استبطانكم انكم الاحقّاء بالخلافة أو ما تبدون من الطّاعة و ما تكتمون من اسرار إبليس المعصية، و لا يقدح فيه اختصاص الخطاب بالملائكة الّذين ليس منهم إبليس لأنّه لما عمّهم التكليف جاز أن يذكر في جملتهم مع انّه كان يرى للملائكة انّه منهم، و كان ذلك معتقد كثير من الملائكة على ما يأتي.

قال في «المجمع»: و قد رويت روايات تدلّ عليه «2» و الاولى الحمل على العموم الشامل لجميع ما مرّ و غيره حتّى ما قيل: من انّ اللّه تعالى لما خلق أدم مرّت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الرّوح و لم تكن رأت مثله فقالوا لن يخلق اللّه تعالى خلقا إلّا كنّا أكرم منه و أفضل.

و روى العيّاشي عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا أن خلق اللّه آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنّا نظنّ انّ اللّه تعالى خلق خلقا أكرم عليه منّا

فنحن جيرانه، و نحن أقرب خلقه إليه فقال اللّه الم أقل لكم إنّي أعلم ما

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان: ج 1 ص 73.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 146

تبدون و ما تكتمون فيما أبدوا من أمر بني الجان و كتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الّذين قالوا ما قالوا بالعرش «1».

و في خبر آخر عنه عليه السّلام انّ الملائكة منّوا على اللّه بعبادتهم ايّاه فأعرض عنهم و انّهم قالوا في سجودهم في أنفسهم ما كنّا نظنّ أن يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منّا نحن خزّان اللّه و جيرانه و أقرب الخلق إليه فلمّا رفعوا رؤوسهم قال اللّه: و أعلم ما تبدون من ردّكم عليّ و ما كنتم تكتمون من ظنكم انّي لا اخلق خلقا أكرم عليّ منكم فلما علمت الملائكة انّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش و انّما كانت عصابة من الملائكة و لم تكن جميعهم «2».

أسئلة و أجوبة

ثمّ انّه ربما يورد في المقام وجوه من السؤال منها: أنّ آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام انّما علّم الأسماء بتعليم اللّه سبحانه، و الملائكة ايضا كانوا قائلين لذلك، و لذلك أنبأهم آدم بما جهلوه من تلك الأسماء، فهلّا علّمهم اللّه تعالى اوّلا ثمّ أمرهم بتعليم آدم عليه السّلام، و الرّد إلى حكمته البالغة و ان خفيت المصلحة علينا مشترك بينه و بين ما أخبرهم به أولا من خلق آدم و اختصاصه بالخلافة فلم يظهر من هذا التّفصيل مصلحة اخرى غير الرّد إلى الحكمة الّذي يقتضيه الايمان بالغيب.

و توهّم ان الملائكة لم يكونوا مستعدّين لأخذ تلك العلوم بلا واسطة بل إنّما

__________________________________________________

(1) البحار: ج 11 ص 148 عن تفسير العياشي.

(2) بحار الأنوار: ج 99 ص 205 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 147

علموها بواسطة آدم عليه السّلام و هو المراد بالفضيلة مدفوع بأنّ الملائكة هم الرسل إلى الأنبياء و هم الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا فهم الوسائط في العلوم الإلهية الواصلة إلى البشر.

و الجواب انّه قد مرّت الإشارة إلى أنّ هذا التعليم كان تكوينيّا مختصا بآدم دون الملائكة الّذين ليس في طبيعتهم و جبلّتهم خلط و تركيب بل هم وحدانيّة الصّفة فردانيّة القوّة لا يفعل كلّ صنف منهم إلّا فعلا واحدا و ما منهم إلّا لهم مقام معلوم، فإنّى لهم الاحاطة بجميع العوالم و العلوم، فإنّ مثالهم مثال القوى البسيطة كالحواس حيث انّ البصر لا يزاحم السمع في مدركاته و هي الأصوات و لا السمع البصر في المرئيّات و لا هما يزاحمان الشّم و لا الذّوق و لا شي ء منهما يزاحم شيئا من الأوّلين و أمّا آدم فكان صفوة العالم و قد خلقه اللّه تعالى من أجزاء مختلفة و قوى متباينة حتّى استعدّ بذلك لإدراك انواع المدركات من المحسوسات و المعقولات و التمييز بينها و الحكم عليها بما يليق بها و التوسط في الفيوض الواصلة إليها و العبور عنها جميعا إلى مركزه الاصلي و عالمه الكلّي فصلح بذلك لتحمّل أعباء الخلافة في جميع النشآت و العوالم فجعله اللّه مستودعا لأنوار علمه و حكمته و معرفته و أودع فيه أنوار النّبي محمد و اهل بيته الطّاهرين و غيرهم من الأنبياء و المرسلين صلى اللّه عليهم أجمعين، و لذا كان آدم مخصوصا بمعرفة الأسماء كلّها و الملائكة لا علم لهم إلّا بما علّمهم ربّهم من خصوصيّات جهات كينوناتهم، ثمّ ان اللّه سبحانه قد نبّه على

ما أراد التنبيه عليه من شرف آدم و فضله عليهم بان علّمه اوّلا بلا واسطة احد منهم ثمّ أمرهم بالرّجوع إليه في اقتباس العلوم و اقتناص المعارف فله الفضل عليهم من

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 148

حيث التقدّم في المعرفة و تعليمه لهم و كون علمه الّذي هو أشرف الفيوض الالهيّة و المنح الرّبانيّة مفاضا عليهم بلا واسطة أصلا و علومهم متأخّرا مع الواسطة، فنبّه بذلك على عدم تأهّلهم لأخذ تلك العلوم إلّا بواسطته عليه السّلام، ثمّ انّه يمكن أن يكون المراد هو التّنبيه على تفرّده بعلم الغيوب و احاطته بجهات المصالح و الحكم و ذلك انّه أمرهم بالاخبار عن الأسماء الّتي لا يعرفونها كي يعترفوا بالعجز و يقرّوا بقصورهم عن نيل معرفتها فينبّههم على انّهم إذا لم يعرفوا ذلك و لم يعلموا باطن ما شاهدوا فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد، و من أن يحيطوا علما بمصالح جعل الخليقة و اسرار الخليقة أعجز.

و على هذا فمعظم المقصود هو التنبيه على تفرّده بعلم المصالح، و انّه يجب على كافّة العبيد الإذعان و التسليم لأمره، و ان استفيد منه ايضا و لو على جهة الاستتباع شرافة آدم و فضله عليهم.

و منها: انّه تعالى كيف أمر الملائكة أن يخبروا بما لا يعلمون مع انّ من شرايط التكليف القدرة على الامتثال و من البيّن انتفاؤها في المقام.

فان قلت: إنّ الممتنع هو التكليف المنجّز لاستحالة الطلب حينئذ و قبح التكليف بما لا يطاق، و أمّا المشروط فلا بأس به ما لم يتنجّز التكليف، و انّما القدرة شرط التّنجيز، و هو في المقام مشروط بكونهم صادقين فيما ادّعوه، و حيث لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق المشروط.

قلت:

لم يظهر وجه لارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط الّذي هو صدقهم، و ما المراد بهذا الصدق المنتفي في حقّهم؟ و ما الّذي ادّعت الملائكة حتّى خوطبوا بهذا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 149

الخطاب؟

و الجواب انّ الشرط هو علمهم بما سئلوا عنه فالمراد بالصدق صدقهم فيما ادّعوه من العلم بالصّراحة او بالالتزام حسبما مرّ أو صدقهم في الخبر الّذي كلّفوا بالاخبار عنه و ذلك بعلمهم بالصدق، و لا يكون إلّا بالعلم بالمخبر عنه فكأنّه قال لهم: أخبروا بذلك إن علمتموه و متى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا فلا تكليف عليهم، و هذا كما يقول القائل لغيره: أخبرني بذلك ان كنت تعلمه، أو ان كنت تعلم انّك صادق فيما تخبر به عنه، و بالجملة فالامر مشروط بالعلم المنتفي في حقّهم فلا تكليف، و بهذا قد ظهر المراد بالصدق و ارتباط الأمر بالانباء به.

و أمّا فائدة الأمر حينئذ على وجه الاشتراط مع علمه سبحانه بانّهم لا يتمكّنون من ذلك لفقد علمهم به فالوجه فيها هو أن يكشف بإقرارهم على أنفسهم بالجهل و اعترافهم بعدم تمكنهم من الاخبار بالأسماء ما أراد اللّه سبحانه بيانه من استتاره بعلم الغيب و انفراده بالاطّلاع على وجوه المصالح في الدّين.

و قد أجاب السيّد المرتضى رضى اللّه عنه عن اصل الأشكال بوجه أخر و هو انّ الأمر و ان كان أمرا بصورته و ظاهره إلّا أنّه ليس بأمر في الحقيقة بل المراد به التقرير و التنبيه على مكان الحجّة قال: و تلخيصه انّ اللّه تعالى لمّا قال للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ فقال لهم: إِنِّي أَعْلَمُ

ما لا تَعْلَمُونَ أي انّي مطلع من مصالحكم و ما هو انفع لكم في دينكم على ما لا تطّلعون عليه، ثمّ أراد التّنبيه على أنّه لا يمتنع ان يكون غير الملائكة مع انّها تسبّح و تقدّس و تطيع و لا تعصي أولى

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 150

بالاستخلاف في الأرض، و ان كان في ذرّيته من يفسد فيها و يسفك الدّماء، فعلّم آدم عليه السّلام اسماء جميع الأجناس أو أكثرها و قيل: اسماء النّبي محمّد و الأئمّة من ولده صلى اللّه عليهم أجمعين و فيه أحاديث مرويّة، ثمّ قال للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مقرّرا لهم و منبّها على ما ذكرناه و دالا على اختصاص آدم بما لم يخصّوا به، فلمّا أجابوه بالاعتراف و التسليم إليه علم الغيب الّذي لا يعلمونه فقال تعالى لهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ منبّها على أنّه تعالى هو المنفرد بعلم المصالح في الدّين، و انّ الواجب على كلّ مكلّف أن يسلّم لأمره، و يعلم أنّه لا يختار لعباده إلّا ما هو الأصلح لهم في دينهم علموا وجه ذلك أم جهلوه، قال: و على هذا الجواب يكون قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ محمولا على كونهم صادقين في العلم بوجه المصلحة في نصب الخليفة أو في ظنّهم انّهم يقومون بما يقوم به هذا الخليفة و يكلون له فلو لا أنّ الأمر على ما ذكرناه و أن القول لا يقتضي التكليف لم يكن لقوله تعالى بعد اعترافهم و إقرارهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

معنى لأنّ التكليف الأوّل لا يتغيّر عن حاله بان يخبرهم آدم عليه السّلام بالأسماء و لا يكون قوله: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إلى آخر الآية إلّا مطابقا لما ذكرناه من المعنى دون معنى التكليف فكأنّه قال إذا كنتم لا تعلمون هذه الأسماء فأنتم عن علم الغيب أعجز و بأن تسلّموا الأمر لمن يعلمه و يدبّر أمركم بحسبه اولى «1».

__________________________________________________

(1) الأمالى للسيّد المرتضى: ج 2 ص 69- 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 151

أقول: و مرجعه إلى كون الأمر امتحانيا محضا غير مشتمل على التكليف أصلا و لو في صورة الاشتراط، و الفرق واضح بينه و بين الأمر المشروط و لو مع علم الآمر و المأمور بانتفاء الشرط و ذلك لأن مطلوبيّة الفعل و محبوبيّته حاصل في الأمر المشروط على فرض حصول الشرط، و ان كان عالما بانتفائه بخلاف الأمر التوطيني الّذي هو بمجرّد الامتحان او غيره من المصالح الخارجة الّتي لا تعلّق لها بالمأمور به، بل المقصود حاصل بنفس الأمر.

فان قلت: إنّه لا سبيل في المقام إلى شي ء من الوجهين لعلم كلّ من الآمر و المأمور بانتفاء الشرط بالنّسبة إلى جميع المكلّفين في جميع أزمنة الامتثال فيلغوا الاشتراط و ينتفي فائدة الامتحان و الابتلاء على أنّ السيّد رضى اللّه عنه و ان جوّز الوجهين في المقام إلّا أنّ مذهبه في الأصول على خلاف ذلك فانّه قد صرّح بانّ الشروط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب و لا طريق له إلى علمها، فأمّا العالم بالعواقب و بأحوال المكلّف فلا يجوز أن يأمره بشرط إلى أخر ما ذكره رحمه اللّه فكيف التوفيق.

قلت: التّحقيق على ما قرّر في محلّه هو جواز الأمر المشروط مع علم

الآمر و المأمور بانتفاء الشرط إذا كان هناك فائدة للتّعليق، و لا وجه للقول بعدم الجواز حينئذ، إذ قصارى ما يستدلّ به لذلك بعد وضوح عدم كونه تكليفا بالمحال لقضيّة الاشتراط و انتفاء الموضوع أنّ فعله عبث قبيح فيستحيل صدوره من الحكيم، إذ المفروض اتّحاد الأحوال و عدم حصول القدرة على الشرط و علم المأمور بذلك فلا يتأتّى منه التّوطين و العزم على الفعل مضافا إلى أنّ الأمر المشروط لا بدّ فيه من اعتبار الطّلب و تعلّقه بالفعل و لو معلّقا على الشرط و هو محال على الحكيم العالم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 152

بالحال، ضرورة انّ طلب المحال محال و الجواب:

أنّ مدار الجواز على حصول الفائدة الّتي بها يخرج الفعل عن العبث، و من البيّن انّ الفائدة غير منحصرة في التوطين، بل ربما يكون المقصود اقرار المخاطب بالعجز و القصور كما في المقام، و هو غرض صحيح يتعلّق به أمور مقصودة، و من هنا يتّجه ان يقال إنّه و ان نسب إلى أصحابنا القول بعدم جواز التعليق من العالم بالنسبة إلى العالم إلّا أنّ كلامهم مقصور على ما انتفت فيه الفائدة كما ينادى به دليلهم، و امّا مع تحقّقها فمذهبهم فيه هو الجواز، فالنّزاع معهم صغروي في وجود الفائدة و عدمها لا كبروي في الجواز على فرضها، و عليه ينزل كلام السيّد أيضا في المسألة الأصوليّة فيرتفع التنافي بين الكلامين على أنّ كلامه في المقام لبيان الجواب عن الأشكال و لو على مذاق غيره، و قد ظهر ممّا قرّرناه جواز تعلّق الأمر على كلّ من الوجهين بلا فرق بين تعلّق القصد على وجه التّعليق و عدمه، بل قد سمعت فيما مرّ انّه يحتمل

أن يكون الأمر مطلقا بسبب تحقّق الشّرط و هو صدقهم فيما نسبوه إلى ذرّيّة آدم أو أضافوه إلى أنفسهم على ما مرّت الإشارة إليها.

و نزيد في المقام وجها ثالثا و هو: أن يكون الشرط صدقهم في الخبر اي علمهم بما يخبرون عنه على ما حقّقناه سابقا فيكون الحاصل تنجّز التكليف بالاخبار بشرط القدرة الّتي إليها مرجع العلم أيضا، و من البيّن انّه مقدور لهم بواسطة التّعلّم من آدم و الرّجوع إليه، و لذا أمر سبحانه آدم بتعليمهم تحقيقا للاستطاعة و ازاحة للعلّة و ابانة للفضيلة، و هذا جواب أخر عن اصل الأشكال و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 153

و منها ما أورده السيّد رضى اللّه قال: و لم نجد أحدا ممّن تكلّم في تفسير القرآن و لا في متشابهه و مشكله تعرّض له و هو من مهم ما يسأل عنه، و ذلك أن يقال من اين علمت الملائكة لما خبّرها آدم عليه السّلام بتلك الأسماء صحة قوله و مطابقة الأسماء للمسمّيات، و هي لم تكن عالمة بذلك من قبل، إذ لو كانت الملائكة عالمة بالأسماء لأخبرت بالأسماء و لم تعترف بفقد العلم، و الكلام يقتضي انّهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحّتها و مطابقتها للمسمّيات و لو لا ذلك لم يكن لقوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ معنى و لا كانوا مستفيدين بذلك نبوته و تميزه و اختصاصه بما ليس لهم إذ كلّ ذلك إنّما يتمّ مع العلم دون غيره ثمّ أجاب عنه: بأنّه غير ممتنع من أن تكون الملائكة في الأوّل غير عارفين بتلك الأسماء فلمّا أنبأهم آدم عليه السّلام بها فعل اللّه تعالى لهم

في الحال العلم الضّروري بصحّتها و مطابقتها للمسمّيات إمّا عن طريق أو ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك تميزه و اختصاصه و ليس لأحد أن يقول: انّ ذلك يؤدّي إلى أنّهم علموا نبوّته اضطرارا، و في هذا منافاة طريقة التكليف و ذلك انّه ليس في علمهم بصحّة ما أخبر به ضرورة ممّا يقتضي العلم بالنّبوة ضرورة، بل بعده درجات و مراتب لا بّد من الاستدلال عليها، و يجري هذا مجرى ان يخبر أحدنا نبي، بما فعل على سبيل التفصيل على وجه يخرق العادة، و هو و ان كان عالما بصدق خبره ضرورة لا بدّ له من الاستدلال فيما بعد على نبوّته، لأنّ علمه بصدق خبره ليس هو العلم بنبوّته لكنّه طريق يوصل إليها على ترتيب.

و وجه آخر و هو انّه لا يمتنع أن تكون للملائكة لغات مختلفة فكلّ قبيل منهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 154

يعرف اسماء الأجناس في لغة دون لغة غيره، الّا انّه يكون احاطة عالم واحد لأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة، فلمّا أراد اللّه تعالى التنبيه على نبوّة آدم عليه السّلام علّمه جميع تلك الأسماء فلمّا أخبرهم بها علم كلّ فريق مطابقة ما خبر به من الأسماء للغته، و هذا لا يحتاج فيه إلى الرّجوع إلى غيره و علم مطابقة ذلك لباقي اللّغات لخبر كلّ قبيل إذا كانوا كثيرة و خبروا بشي ء يجري هذا المجرى علم بخبرهم، فإذا أخبر كلّ قبيل صاحبه علم من ذلك في لغة غيره ما علمه في لغته.

و هذا الجواب يقتضي أن يكون قوله انبئوني بأسماء هؤلاء اي ليخبرني كلّ قبيل منكم بجميع هذه الأسماء.

و هذان الجوابان جميعا مبنيّان على أنّ آدم عليه السّلام لم يتقدّم

لهم العلم بنبوّته و انّ اخباره بالأسماء كان افتتاح معجزاته، لأنّه لو كان نبيّا قبل ذلك و كانوا قد علموا تقدّم ظهور معجزات على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين لأنّهم يعلمون إذا كانت الحال هذه مطابقة الأسماء للمسمّيات بعد أن يعلموا ذلك بقوله الّذي قد أمنوا به فيه غير الصّدق «1».

أقول و لعلّ الأولى من جميع ذلك هو العلم بصدقه بتصديق اللّه سبحانه له فيما أخبر به حيث قرّر ذلك بقوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.

و منها أنّه ما الفائدة في سبق الأعلام بخلق أدم و تسميته خليفة؟

و الجواب انّه نوع إبتلاء للملائكة و تمهيد لتمييز إبليس من جملتهم، ليتبين

__________________________________________________

(1) أمالي السيّد المرتضى ج 2 ص 75- 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 155

بذلك من يقصد الطاعة كالملائكة ممّن يضمر العداوة له و المخالفة لأمره سبحانه، كإبليس على ما يأتي تمام الكلام فيه نقلا عن الصدوق «1».

مضافا إلى ما فيه من إظهار شرف آدم و التّمهيد لبيان فضله على الملائكة، حيث إنّه تعالى نوّه باسمه و بشّر ملائكته بخلافته قبل أن يخلقه بسبعمائة عام على ما رواه الصّدوق في «الإكمال» و فيه أيضا صيانة للملائكة عن اعتراض الشبهة عليهم في وقت استخلاف آدم و الحجج من ذرّيته عليهم.

و أمّا ما يقال من انّ الغرض تعليم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها فهو بمكان من الوهن و السقوط، و كأنّهم أرادوا أن يستأنسوا بمثله لما وقع من الثّاني من الشورى في أمر الخلافة و هو كما ترى.

بقي الكلام في امور يستفاد من الآيات المتقدّمة ينبغي التنبيه عليها في فصول:

فضل الأنبياء على الملائكة

الفصل الأوّل: يستفاد من هذه الآيات و

غيرها تفضيل الأنبياء على الملائكة و قد طال التشاجر في هذه المسألة بين المسلمين، فالّذي عليه الإماميّة هو أنّ الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام أفضل من جميع الملائكة العلويّة و السّفلية، و وافقهم عليه اكثر الاشاعرة و اصحاب الحديث، و ربما يقال إنّ الخلاف في فضلهم على الملائكة العلويّة، و أمّا السّفلية فالأنبياء أفضل منهم بالاتّفاق كما أنّ عامة البشر من المؤمنين

__________________________________________________

(1) إكمال الدين: ج 1 ص 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 156

أيضا أفضل من عامة الملائكة عندهم، و المحكي عن المعتزلة و الفلاسفة و بعض الاشاعرة تفضيل الملائكة، ثمّ انّهم ربما عنونوا البحث بتفضيل البشر على الملائكة أو العكس، و ليس المراد بتفضيل كلّ فرد من أحدهما على جميع افراد الاخر، و لا التّطبيق بين افراد النوعين بتفضيل كلّ فرد على ما يقابله، بل المراد تفضيل الأنبياء و الأئمّة على الملائكة او تفضيل المعصومين من البشر، فيدخل فاطمة عليها السّلام و سائر الأوصياء أيضا على جميع الملائكة، و ان كانوا كلّهم معصومين من الصّغائر و الكبائر على ما أشرنا إليه، او تفضيل الجنس و لو باعتبار النوع الأشرف على الجنس، فلا ينافي ذلك تفضيل بعض الملائكة او كلّهم على بعض المؤمنين بل على الفسّاق و الكفّار، ثمّ المراد بالأفضل الأكثر ثوابا و الأرفع درجة، و الأقرب إلى اللّه تعالى منزلة الأكمل باعتبار العلم و العمل و سائر الكمالات.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحقّ ما ذهب إليه الاماميّة لوجوه، الأوّل: الإجماع القطعي الكاشف عن قول الإمام عليه السّلام و رضاه حيث انّ الطّائفة المحقّة كانوا قديما و حديثا متّفقين على تفضيل الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام على الملائكة من دون نكير منهم

في ذلك، حتّى انّهم كانوا معروفين بهذا المذهب يعرفه منهم المخالفون لهم في المذهب كما يعرفون منهم القول بحلّية المتعة، و وجوب المسح على الرّجلين و نفي العول و التّعصيب، فلا يبعد دعوى ضرورة المذهب عليه بل هو كذلك.

و لذا قال شيخنا الصدوق في «العقائد»: اعتقادنا في الأنبياء و الحجج و الرّسل عليهم السّلام أنّهم أفضل من الملائكة «1» و قال المفيد: اتّفقت الاماميّة على أنّ أنبياء

__________________________________________________

(1) البحار ج 57 ص 286.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 157

اللّه و رسله من البشر أفضل من الملائكة و وافقهم على ذلك اصحاب الحديث و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، و زعم الجمهور منهم انّ الملائكة أفضل من الأنبياء و الرسل و قال نفر منهم سوى من ذكرناه بالوقف في تفضيل أحد الفريقين على الاخر «1» إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه.

و قال السيّد المرتضى رضى اللّه عنه: المعتمد في القطع على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة على اجماع الشيعة الاماميّة على ذلك لأنّهم لا يختلفون في هذا بل يزيدون عليه و يذهبون إلى أنّ الأئمّة أفضل من الملائكة أجمعين و إجماعهم حجّة لأنّ المعصوم في جملتهم و قد بيّنا في مواضع من كتبنا كيفيّة الاستدلال بهذه الطّريقة و رتّبناه و أجبنا عن كلّ سؤال يسأل عنه فيها و بيّنا كيف الطريق مع غيبة الامام إلى العلم بمذاهبه و أقواله و شرحنا ذلك فلا معنى للتّشاغل به هاهنا «2».

و ممّن ادّعى عليه اتّفاق الاماميّة العلّامة الحليّ في «أنوار الملكوت» «3» و العلامة المجلسي في مواضع من البحار و الرازي «4» و الدّواني و غيرهم من علماء الفريقين فلا ينبغي التّامل في تحقّق الإجماع عليه.

الثّاني: الآيات الكثيرة الدّالة

عليه بظواهرها الّتي هي الحجّة حتّى في غير الفروع العلميّة الّذي لا يجري فيه دليل الانسداد على بعض الوجوه، و ذلك لما حقّقناه في المقدّمات من حجّية ظواهر الكتاب و هي كثيرة.

__________________________________________________

(1) البحار ج 57 ص 285 عن عقائد الصدوق.

(2) البحار: ج 57 ص 287- عن الغرر و الدرر للسيّد المرتضى ج 2 ص 333.

(3) البحار ج 57 ص 286 عن أنوار الملكوت.

(4) مفاتيح الغيب للرازى ج 2 ص 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 158

منها: قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، القصّة بتمامها الدّالة عليه بوجوه من الدّلالة حيث انّه سبحانه جعل آدم خليفة له، و المراد منه خلافة الولاية في التبليغ او في التكوين، او في وجوب الطاعة و الانقياد كما يومي إليه قصّة داود و هارون و غيرهما، و من البيّن أنّ أعظم النّاس منصبا عند الملك من كان قائما مقامه، في كلّ من التبليغ و الولاية و التصرف و وجوب الطّاعة حتّى سمّاه خليفة له، ثمّ انّه تعالى نبّه على فضله و شرفه بتعليمه الأسماء و تخصيصه بعلمها دونهم، و جعله معلّما للملائكة فكان عنده من العلوم الفاضلة ما لم يكن عندهم و قد قال اللّه سبحانه: وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «1»، و هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2»، ثمّ انّه تعالى أمرهم بالسجود لآدم تكريما و تعظيما له، و من البيّن انّ السجود نهاية التّواضع و تكليف الأشرف الأفضل بنهاية التّواضع للأدون مستقبح عقلا.

فان قلت: إنّ قضيّة خلافته كونه أشرف من كلّ من في الأرض، و أين هذا من الّدلالة على فضله على جميع الملائكة حتّى

من في السموات؟

و أمّا علمه بالأسماء فهو و ان كان عالما بها و هم لم يعلموها لكن لعلّهم كانوا عالمين بعلوم اخرى لم يكن آدم عالما بها.

و امّا الأمر بالسجود فلعلّ آدم قبلة لهم في عبادتهم له سبحانه على أنّ الحكمة قد تقتضي تواضع الأشرف للشريف لبعض المصالح الّتي من جملتها

__________________________________________________

(1) المجادلة: 11.

(2) الزمر: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 159

الامتحان و كسر سورة العجب و الأنانيّة، و اظهار نهاية الطّاعة و غيرها.

قلت: قضية عموم الجمع المحلّى شمول الملائكة للجميع و ظاهر اطلاق الخلافة كونها بالنّسبة إليهم جميعا، و لو بمعونة ما مرّت إليه الإشارة و تأتي الأخبار الدّالة عليه من أنّ المقصود من خلق آدم ظهور أنوار محمّد، و آله الطيّبين الّذين لهم الخلافة الكليّة على جميع ملائكة الأرضين و السموات و الحجب و السّرادقات و حملة العرش و غيرهم، و امّا التشكيك في أعلميّته باحتمال انّ لهم علوما آخر فغريب جدّا فكيف يندفع المحقّق بالمحتمل بل لعلّه كالرّد عليه سبحانه حيث انّه سبحانه و تعالى جعل تعليمه لآدم و جعله معلّما لهم في معرفة الأسماء الالهيّة الّتي هي أشرف العلوم دليلا على فضله عليهم، و تنبيها لهم على وجوب رجوعهم إليه، و تحقيقا لحسن ما اختاره من إيثاره عليهم.

و اغرب من الجميع أنّ الرازي بعد ما أجاب عن الحجّة بما سمعت فساده قال: و الّذي يحقّق هذا أنا توافقنا أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أفضل من آدم عليه السّلام مع أنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله لم يكن عالما بهذه اللّغات بأسرها، و أيضا فانّ إبليس كان عالما بان قرب الشجرة ممّا يوجب خروج آدم عن الجنّة و

آدم لم يكن كذلك، و لم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم، و الهدهد قال لسليمان أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ «1»، و لم يلزم ان يكون أفضل من سليمان «2».

و هو على ما ترى من الضعف و القصور، و لكن من لم يجعل اللّه له نورا فماله

__________________________________________________

(1) النمل: 22.

(2) مفاتيح الغيب للرازي: ج 2 ص 235.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 160

من نور، و أمّا احتمال كون السجود له على وجه القبلة و الجهة او مجرّد الامتحان من دون التكريم و التعظيم أصلا فيدفعه انّه لو كان كذلك لم يجز أنفة إبليس من ذلك بل قوله: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ «1» و قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* «2» و غير ذلك من مساق ما ورد في بيان هذه القصّة يدلّ على أنّ امتناع إبليس عن السجود انّما هو لاعتقاد التّفضيل به و التكرمة له، فلو لم يكن الأمر على ذلك لوجب على اللّه إعلامه بانّه ما أمره بالسجود على وجه تعظيمه له و لا تفضيله عليه، بل على الوجه الأخر الّذي لا حظّ للتفضيل فيه، و قضيّة اللّطف عدم جواز إغفاله مع كونه سبب معصية إبليس و ضلالته.

هذا مضافا إلى الاخبار الكثيرة الدّالة على كونه على وجه التعظيم و التكريم لآدم حسبما تأتي إلى جملة منها الإشارة، ثمّ انّه بعد ما ثبت تفضيل آدم على جميع الملائكة بمقتضى ما تضمّنته هذه القصّة يثبت أيضا تفضيل سائر الأنبياء و المرسلين و الأئمّة الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين عليهم أيضا لإطلاق الخليفة عليهم على بعض الوجوه و لأفضليّة بعضهم كاولي العزم و غيرهم ايضا

على آدم، و لعدم القول بالفصل بين آدم و غيره من الأنبياء.

و لذا قال السيّد رضى اللّه عنه في الغرر و الدّرر انّه كلّ من قال إنّ آدم عليه السّلام أفضل من الملائكة ذهب إلى أنّ جميع الأنبياء أفضل من جميع الملائكة و لا أحد من الأمّة فصّل بين الأمرين «3».

__________________________________________________

(1) الإسراء: 62.

(2) الأعراف: 12.

(3) الغرر و الدرر: ج 2 ص 333.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 161

قلت و أمّا الأئمّة عليهم السّلام فاصحابنا مجمعون على تفضيلهم على كثير من الأنبياء، بل الحقّ المستفاد من الاخبار و غيرها انّهم أفضل من جميع الأنبياء سوى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله.

و منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «1»، و المراد بال ابراهيم و آل عمران إمّا الأنبياء منهم او المعصومون أو غيرهم بناء على اجرائه على إطلاقه او عمومه، و الثالث باطل بالإجماع لأنّ فيهم الفسّاق و الكفّار، فيتعيّن أحد الأوّلين و العالم يطلق على ما سوى اللّه تعالى و الجمع المحلى باللام يفيد العموم، فدلّت الآية على أفضليّة هؤلاء المذكورين على جميع العالمين و فيهم الملائكة و غيرهم، و تخصيص العالمين على فرضه في قوله خطابا لبني إسرائيل و انّي فضّلتكم على العالمين مع شموله لنبيّنا و آله و سائر اولي العزم صلى اللّه عليهم أجمعين، و في قوله خطابا لمريم و اصطفاك على نساء العالمين مع شمولها لفاطمة عليها السّلام ليس دليلا على التزامه في المقام أيضا بعد فقد الدّليل عليه مع انّه قد يفسّر العالمين فيهما على عالمي ذلك العصر و الزّمان فيندفع الأشكال عنهما و إن كان هذا

أيضا بنوع من التّخصيص، و امّا آية الاصطفاء فهي على عمومها للأصل، سلّمنا لكنّ الملائكة كانوا موجودين في اعصاره هؤلاء الأنبياء و في زمان نزول الآية.

و منها قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2»، و قضيّة العموم

__________________________________________________

(1) آل عمران: 33.

(2) الأنبياء: 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 162

كونه صلّى اللّه عليه و آله رحمة لجميع ما سوى اللّه من الملائكة، و هو كذلك حسبما دلّت عليه الأخبار الصّحيحة، و قضت به ضرورة المذهب من أنّه صلّى اللّه عليه و آله و أوصياؤه المعصومين هم الوسائط الكليّة لوصول الفيوض الالهيّة إلى أهل العالم، بل كينونات الملائكة إنّما كانت من أشعّة أنوارهم، فوجوده صلّى اللّه عليه و آله مظهر الرّحمة و تمام النعمة و مساق الآية كما ترى على حدّ ما ورد من في القدسيّات: «لولاك لما خلقت الأفلاك» «1». و اما ما يقال من ان كونه رحمة لهم لا يستلزم كونه أفضل منهم كما في قوله: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «2»، و انّه لا يمتنع ان يكون هو صلّى اللّه عليه و اله رحمة لهم من وجه، و هم يكونون رحمة له من وجه.

ففيه انّ ظاهر الآية وساطته للرّحمة الكليّة، بل كونه نفس الرّحمة الالهيّة حسبما قرّرناه في تفسير البسملة و كون الأمطار من آثارها غير قادح بعد ظهور انّ لها مظاهر و آثار، و كونه صلّى اللّه عليه و آله رحمة لهم و لغيرهم معلوم من الآية و غيرها و أمّا عكسه فغير واضح.

و منها قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ إلى قوله: وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «3»، بناء على

كون الظرف صفة للكثير لا صلة له، و لو بمعونة الأخبار المفسّرة لها بأنّ المراد تفضيل بني آدم على سائر الخلق بلا فرق بين تفسير السائر بالباقي او بالجميع.

و منها قوله تعالى: وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 28.

(2) الروم: 50.

(3) الإسراء: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 163

وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ «1».

و التّقريب فيه على ما مرّ، و التّخصيص بعالمي أعصارهم غير قادح في الدّلالة، و دعوى الظّهور أو الانصراف إلى العالمين من نوع البشر دون سائر الأنواع ممنوعة جدّا سيّما في العمومات الّتي من أقواها دلالة الجمع المحلّى.

الثالث: الاخبار الكثيرة الّتي لا يبعد دعوى تواترها الدّالة على المطلوب ففي «العيون» و «العلل» و «الإكمال» عن الرضا عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلقا أفضل منّي و لا أكرم عليه منّي قال عليّ عليه السّلام فقلت يا رسول اللّه فأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله يا عليّ انّ اللّه تبارك و تعالى فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين و الفضل بعدي لك يا عليّ و للائمّة من بعدك، و انّ الملائكة لخدّامنا و خدّام محبّينا الّذين يحملون العرش و من حوله يسبّحون بحمد ربّهم و يستغفرون للّذين أمنوا بولايتنا، يا علي

لو لا نحن ما خلق اللّه آدم و لا حوّاء و لا الجنّة و لا النّار و لا السّماء و لا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سبقناهم إلى معرفة ربّنا و تسبيحه و تهليله و تقديسه لأنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده و تحميده ثمّ خلق الملائكة فلمّا شاهدوا ما أنعم اللّه به علينا و أوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا: الحمد للّه لتعلم الملائكة ما يحق للّه تعالى ذكره علينا من الحمد

__________________________________________________

(1) الانعام: 84- 86.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 164

على نعمه، فقالت الملائكة: الحمد للّه، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد اللّه و تسبيحه و تحميده و تهليله و تمجيده، ثمّ انّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم فأودعنا صلبه و أمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا و إكراما، و كان سجودهم للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة لكوننا في صلبه فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون، و انّه لما عرج بي إلى السّماء أذن جبرئيل مثنى مثنى و اقام مثنى مثنى، ثمّ قال لي: تقدّم يا محمد، فقلت له: يا جبرئيل أتقدّم عليك؟ فقال: نعم لأنّ اللّه تبارك فضّل أنبيائه على ملائكته أجمعين، و فضّلك خاصّة، فتقدّمت و صلّيت بهم و لا فخر «1»، الخبر بطوله.

و في «الإكمال» بالإسناد عن الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انا سيّد من خلق اللّه، و انا خير من جبرئيل و اسرافيل و حملة العرش و جميع الملائكة المقرّبين و أنبياء اللّه المرسلين «2».

و في ارشاد القلوب للدّيلمي عن أبي

ذرّ الغفاري قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول افتخر اسرافيل على جبرائيل فقال انا خير منك لأنّي صاحب الثمانية حملة العرش، و انا صاحب النفخة في الصّور و انا أقرب الملائكة إلى اللّه تعالى، قال جبرئيل: انا خير منك لأنّي أمين اللّه على وحيه و انا رسوله إلى الأنبياء و المرسلين و أنا صاحب الخسوف و القذوف و ما أهلك أمّة من الأمم إلّا على يديّ فاختصما إلى اللّه تعالى فأوحى اللّه إليهما اسكتا فو عزّتي و جلالي لقد خلقت من هو خير منكما

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 139 عن العيون ص 145.

(2) إكمال الدين: ص 151 و عنه البحار ج 26 ص 342.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 165

قالا يا ربّ او تخلق خيرا منّا و نحن خلقنا من نور؟ قال اللّه تعالى: نعم و اوحى إلى حجب القدرة انكشفي فانكشفت فإذا على ساق العرش الأيمن مكتوب لا اله إلا اللّه محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين خير خلق اللّه فقال جبرئيل: يا ربّ فانّي أسألك بحقّهم إلّا جعلتني خادمهم قال اللّه تعالى قد جعلت فجبرائيل من اهل البيت و انّه لخادمنا «1».

و في البصائر و تفسير القمي عن الصّادق عليه السّلام: انّه ما من احد من الملائكة إلّا و يتقرّب كلّ يوم إلى اللّه تعالى بولايتنا أهل البيت «2»، الخبر.

و روى عن الصّفار و الكليني عن ابي جعفر عليه السّلام قال و اللّه انّ في السّماء لسبعين صنفا من الملائكة لو اجتمع أهل الأرض كلّهم على أن يحصوا عدد صنف منهم ما أحصوهم و انّهم ليدينون بولايتنا «3».

و في البحار نقلا عن كتاب

تفضيل أمير المؤمنين عليه السّلام بالإسناد عن ابن عباس قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لمّا أسري بي إلى السّماء ما مررت بملاء من الملائكة الّا سألتني عن عليّ بن ابي طالب حتّى ظننت انّ اسم علي بن ابي طالب في السموات أشهر من اسمي، فلمّا بلغت السّماء الرّابعة و نظرت إلى ملك الموت قال لي: يا محمد ما خلق اللّه خلقا إلّا و انا اقبض روحه إلّا أنت و عليّ، فانّ اللّه جلّ جلاله يقبض أرواحكما بقدرته و جزت تحت العرش فإذا أنا بعليّ بن ابي طالب عليه السّلام واقفا تحت العرش، فقلت: يا عليّ سبقتني؟ فقال جبرئيل: من هذا الّذي تكلّمه يا

__________________________________________________

(1) ارشاد القلوب: ص 214 و عنه البحار ج 26 ص 344.

(2) البصائر: ص 21 و تفسير القمي ص 583.

(3) بصائر الدرجات: ص 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 166

محمّد؟ فقلت هذا عليّ بن ابي طالب عليه السّلام فقال: يا محمّد ليس هذا عليّ بن ابي طالب، و لكنّه ملك من الملائكة خلقه اللّه تعالى على صورة عليّ بن ابي طالب عليه السّلام، فنحن الملائكة المقرّبون كلّما اشتقنا إلى وجه عليّ بن ابي طالب زرنا هذا الملك لكرامة عليّ بن ابي طالب عليه السّلام على اللّه سبحانه «1».

و فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله عليّ أفضل خلق اللّه غيري «2». الخبر.

و فيه انّه نظر النّبي صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ بن ابي طالب عليه السّلام فقال: خير الأوّلين و الآخرين من أهل السّموات و الأرضين هذا سيّد الصّديقين و سيّد الوصيّين «3».

الخبر و في القصص بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و

آله قال: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه التفت آدم يمنة العرش فإذا خمسة أشباح فقال يا ربّ: هل خلقت قبلي من البشر أحدا؟ قال: لا قال: فمن هؤلاء الّذين أرى اسمائهم؟ فقال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك، و لا خلقت الجنّة و لا النّار، و لا العرش و لا الكرسي، و لا السّماء و لا الأرض، و لا الملائكة و لا الجنّ و لا الانس، هؤلاء خمسة من شققت لهم اسما من أسمائي فأنا المحمود و هذا محمّد، و انا الأعلى و هذا عليّ، و انا الفاطر و هذه فاطمة و انا ذو الإحسان، و هذا الحسن، و انا المحسن و هذا الحسين، آليت بعزّتي انّه لا ياتيني أحد و في قلبه مثقال حبّة من خردل من بغض أحدهم إلّا أدخلته ناري، يا آدم هؤلاء صفوتي من خلقي بهم أنجي من أنجي، و بهم أهلك من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 57 ص 303.

(2) البحار ج 57 ص 302.

(3) البحار: ج 57 ص 302.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 167

أهلك «1».

و في البحار نقلا عن كتاب تفضيل الأئمّة على الأنبياء للحسن بن سليمان قال ذكر السيّد حسن بن كبش في كتابه باسناده مرفوعا إلى عدّة من اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منهم جابر بن عبد اللّه الانصاري و أبو سعيد الخدري و عبد الصّمد بن امية و عمرو بن أبي سلمة و غيرهم، قالوا: لما فتح النّبي صلّى اللّه عليه و آله مكّة أرسل رسله إلى كسرى و قيصر، يدعوهما إلى الإسلام أو الجزية و الّا آذنا بالحرب، و كتب ايضا إلى نصارى نجران

بمثل ذلك.

فلمّا أتتهم رسله صلّى اللّه عليه و آله فزعوا إلى بيعتهم «2» العظمى و كان قد حضرهم ابو حارثة أسقفهم الأوّل، و قد بلغ يومئذ مائة و عشرين سنة و كان يؤمن بالنّبي و المسيح عليهما السّلام و يكتم ذلك عن كفرة قومه، فقام على عصاه و خطبهم و وعظهم و الجائهم بعد مشاجرات كثيرة إلى إحضار الجامعة الكبرى الّتي ورثها شيث ففتح طرفها.

إلى أن قال: ثمّ أمرهم أبو حارثة أن يصيروا إلى صحيفة شيث الكبرى الّتي انتهى ميراثها إلى إدريس على نبيّنا و آله السّلام و كان كتابتها بالقلم السّرياني القديم، و هو الّذي كتب به من بعد نوح عليه السّلام ملوك الهياطلة المتماردة فافتضّ القوم الصّحيفة فأفضوا منها إلى هذا الرّسم، قالوا: أجتمع إلى إدريس عليه السّلام قومه و صحابته

__________________________________________________

(1) البحار: ج 27 ص 5 ح 10- عن القصص في ذيل الصفحة: هذا يعارض الروايات التي تدلّ على أنّ اللّه خلق قبل أبينا آدم أيضا آدم، و حمله على أوّل آدم خلق اللّه في الأرض بعيد، و الحديث كما ترى من ضروريات العامّة.

(2) البيعة: معبد النصارى و اليهود.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 168

و هم يومئذ في بيت عبادته من أرض كوفان فخبرهم بما اقتصّ عليهم قال: إنّ بني أبيكم آدم عليه السّلام لصلبه و بني بنيه و ذرّيته اجتمعوا فيما بينهم و قالوا اي الخلق عندكم أكرم على اللّه تعالى و ارفع لديه مكانا و اقرب منه منزلة فقال بعضهم: أبوكم آدم خلقه اللّه عزّ و جلّ بيده و أسجد له ملائكته و جعله الخليفة في ارضه و سخّر له جميع خلقه، و قال آخرون بل الملائكة الّذين

لم يعصوا اللّه عزّ و جل، و قال بعضهم: لا بل الأمين جبرئيل فانطلقوا إلى آدم عليه السّلام، فذكروا الّذي له قالوا و اختلفوا فيه، فقال: يا بنيّ انّي أخبركم بأكرم الخلق عند اللّه عزّ و جلّ جميعا ثمّ قال: إنّه و اللّه ما عدا أن نفخ فيّ الروح حتّى استويت جالسا، فبرق لي العرش العظيم فنظرت فإذا فيه: لا اله إلّا اللّه محمّد خيرة اللّه عزّ و جلّ ثمّ ذكر عدّة اسماء مقرونة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.

قال آدم: ثمّ لم أر في السّماء موضع أديم او قال: صفيح منها إلّا و فيه مكتوب: لا اله إلّا اللّه، و ما من موضع مكتوب فيه لا اله إلّا اللّه إلّا و فيه مكتوب خلقا لا خطا محمّد رسول اللّه، و ما من موضع فيه مكتوب محمّد رسول اللّه إلّا و فيه مكتوب: عليّ خيرة اللّه، الحسن صفوة اللّه، و الحسين أمين اللّه عزّ و جل، و ذكر الأئمّة من اهل بيته عليهم السّلام واحدا بعد واحد إلى القائم بأمر اللّه عجّل اللّه فرجه.

قال آدم: فمحمّد صلّى اللّه عليه و آله من خطّ من أسماء اهل بيته أكرم الخلائق على اللّه قال فلمّا انتهى القوم إلى آخر ما في صحيفة إدريس قرءوا صحيفة ابراهيم عليه السّلام و فيها معنى ما تقدّم بعينه و انفضّوا «1».

و في القصص بالإسناد عن الصادق عليه السّلام قال: اجتمع ولد آدم عليه السّلام في بيت

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 310- 315.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 169

فتشاجروا فقال بعضهم: خير خلق اللّه أبونا آدم فقال بعضهم: الملائكة المقرّبون فقال بعضهم: حملة العرش إذ دخل عليهم هبة اللّه

فقال بعضهم: لقد جاءكم من يفرّج عنكم فسلّم ثمّ جلس فقال: في أيّ شي ء كنتم؟ قالوا كنّا نتفكّر في خير خلق اللّه فأخبروه فقال اصبروا قليلا حتّى ارجع إليكم، فاتى أباه فقال يا أبت إنّي دخلت على اخوتي و هم يتشاجرون في خير خلق اللّه فسألوني فلم يكن عندي ما أخبرهم، فقلت: اصبروا حتّى ارجع إليكم فقال آدم على نبيّنا و آله السّلام: يا بنيّ وقفت بين يدي اللّه عزّ و جلّ فنظرت إلى سطر على وجه العرش مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم محمّد و آل محمّد خير من برأه اللّه «1».

و في جامع الاخبار بالإسناد عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ اللّه خلقني و خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة عليهم السّلام من نور فعصر ذلك النّور عصرة فخرج منه شيعتنا فسبّحنا فسبّحوا، و قدّسنا فقدّسوا، و هللنا فهلّلوا، و مجّدنا فمجّدوا، و وحّدنا فوحّدوا ثم خلق اللّه السموات و الأرضين و خلق الملائكة فمكثت الملائكة مائة عام لا تعرف تسبيحا و لا تقديسا و لا تمجيدا، فسبّحنا و سبّحت شيعتنا فسبّحت الملائكة لتسبيحنا، و قدّسنا فقدّست شيعتنا فقدّست الملائكة لتقديسنا، و مجدّنا فمجّدت شيعتنا فمجّدت الملائكة لتمجيدنا، و وحّدنا فوحّدت شيعتنا فوحّدت الملائكة لتوحيدنا، و كانت الملائكة لا تعرف تسبيحا و لا تقديسا من قبل تسبيحنا و تسبيح شيعتنا، فنحن الموحّدون حين لا موحّد غيرنا و حقيق على اللّه تعالى كما اختصّنا و اختصّ

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 282 ح 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 170

شيعتنا أن ينزلنا أعلى عليين، إنّ اللّه سبحانه و

تعالى اصطفانا و اصطفى شيعتنا من قبل أن تكون أجساما، فدعانا و أجبنا، فغفر لنا و لشيعتنا من قبل أن نستغفر اللّه تعالى «1».

و فيه دلالة على تفضيل شيعتهم على الملائكة من حيث سبق الخلقة و وساطة التعليم، و غير ذلك.

و عن كتاب المحتضر للحسن بن سليمان بالإسناد عن أمير المؤمنين قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي أنا سيّد الأنبياء، و أنت سيّد الأوصياء، و أنا و أنت من شجرة واحدة، و لولانا لم يخلق اللّه الجنّة و لا النّار، و لا الأنبياء و لا الملائكة، قال:

قلت: يا رسول اللّه فنحن أفضل أم الملائكة؟ فقال: يا عليّ نحن أفضل، و نحن خير خليقة اللّه على بسيط الأرض و خيرة اللّه على ملائكته المقرّبين، و كيف لا نكون خيرا منهم و قد سبقناهم إلى معرفة اللّه و توحيده، فبنا عرفوا اللّه، و بنا عبدوا اللّه، و بنا اهتدوا السّبيل إلى معرفة اللّه «2».

و فيه عن المفضّل قال: قلت لمولانا الصادق عليه السّلام ما كنتم قبل أن يخلق اللّه السماوات و الأرض؟ قال: كنّا أنوارا نسبّح اللّه تعالى و نقدّسه حتّى خلق اللّه الملائكة فقال لهم اللّه عزّ و جلّ سبّحوا، فقالت اي ربّنا لا علم لنا، فقال لنا: سبّحوا فسبّحنا، فسبحّت الملائكة بتسبيحنا ألا إنّا خلقنا أنوارا و خلقت شيعتنا من شعاع ذلك النّور، فلذلك سمّيت شيعة، فإذا كان يوم القيمة التحقت السفلى بالعليا، ثمّ

__________________________________________________

(1) جامع الأخبار: ص 9 و عنه البحار ج 26 ص 242- 244.

(2) بحار الأنوار: ج 26 ص 349- 350.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 171

قرّب ما بين إصبعيه «1».

و في الاحتجاج عن موسى بن

جعفر عن آبائه عليهم السّلام انّ يهوديّا سأل أمير المؤمنين عن معجزة النّبي صلّى اللّه عليه و آله في مقابلة معجزات الأنبياء فقال: هذا آدم أسجد اللّه له ملائكته فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال عليّ عليه السّلام لقد كان ذلك، و لكن اسجد اللّه لآدم ملائكته فان سجودهم لم يكن سجود طاعة، انّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة، و رحمة من اللّه له و محمّد عليه السّلام أعطي ما هو أفضل من هذا إنّ اللّه جلّ و علا صلّى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها، و تعبّد المؤمنون بالصلوة عليه، فهذه زيادة له يا يهودي «2».

و في تفسير العيّاشي و غيره عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام قال لمّا أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حضرت الصلاة فاذّن و اقام جبرئيل فقال يا محمّد تقدّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تقدّم يا جبرئيل فقال له إنّا لا نتقدّم الآدميّين مذ أمرنا بالسجود لآدم «3».

و في العلل عن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يقبّل فاطمة، فقالت له: أ تحبها يا رسول اللّه؟ قال: أما و اللّه لو علمت حبّي لها لازددت لها حبّا إنّه لما عرج بي إلى السماء الرابعة أذّن جبرئيل و أقام ميكائيل ثمّ قيل لي: أدن يا محمّد فقلت أتقدّم و أنت بحضرتي يا جبرئيل؟ قال: نعم انّ اللّه عزّ و جلّ فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلك أنت خاصّة، فدنوت فصلّيت بأهل السماء الرابعة ثمّ التفت عن يميني فإذا أنا بإبراهيم عليه السّلام

في روضة من رياض الجنّة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 350.

(2) البحار: ج 10 ص 29.

(3) البحار: ج 18 ص 404 عن تفسير العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 172

و قد اكتنفها جماعة من الملائكة «1»، الخبر.

الرابع: انّ عبادة البشر أشقّ و أصعب فوجب أن يكون أفضل، امّا الصغرى فلانّ للبشر شواغل عن الطاعات العلميّة و العمليّة، من الشهوات النفسانيّة، و الدّواعي الجسمانيّة، و القوى البهيميّة و السبعيّة الدّاعية إلى ثوران الشّهوة و الغضب، و الاشتغال بالأمور الحسيّة و العوارض الجسميّة، و غير ذلك من الحاجات و الخيالات الشّاغلة و الموانع الدّاخلة و الخارجة، سيّما مع تعاضد الهوى و وسوسة الشيطان بجنوده في صدورهم، و خفاء الحقّ و قلّة أهله، و شيوع الباطل و كثرة جنده، مضافا إلى ما يقاسون من الأمراض البدنيّة و الاعراض النفسانيّة و العاهات الجسمانيّة.

و الملائكة ليس لهم شي ء من ذلك فلا يعارض دواعي طاعاتهم شي ء من الإرادات المضادّة و الموانع الطّارية بل عباداتهم كالأقوات الممدّة لأرواحهم يلتذّون بها، و أمّا الكبرى فلانّ إيثار رضا اللّه تعالى مع صعوبته و مشقّته على النفس دليل على كمال العبوديّة و الانقياد أ لا ترى أنّ الشّيخ الّذي له ميل إلى النّساء إذا امتنع عن النساء فليست فضيلة كفضيلة من يمتنع عنهنّ مع شدّة الشبق و الشهوة الهائجة.

هذا مضافا إلى النبوي المشتهر أفضل العبادات أحمزها «2» أي اشقّها على النفس.

و توهّم أنّ للملائكة ايضا شهوة داعية إلى المعصية، و هي حبّ الرّياسة كما

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 72 و عنه البحار ج 18 ص 350 ح 61.

(2) البحار: ج 70 ص 191 و ص 237.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

173

يومئ إليه مقالتهم في أمر الخلافة و امتحانهم بالسجود، بل و قوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «1».

مدفوع بعد الغضّ عمّا فيه بأنّهم إنّما يطلبون الرياسة الحقّة الّتي توجب مزيد القرب، و الكرامة، و أين هذا من طلب الرياسات الباطلة الّتي هي من مقتضيات النفس الأمّارة و جنود الجهل.

و على فرض التسليم فللبشر مضافا إلى ذلك أنواع كثيرة اخرى من الشهوات، و من البيّن أنّ المبتلى بأنواع كثيرة منها تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة.

و امّا ما يقال في دفع هذه الحجّة من أنّ العبادة مع كثرة البواعث و الشواغل إنّما تكون أشقّ و أفضل من الاخرى إذا استويا في المقدار و باقي الصفات، و عبادة الملائكة أكثر و أدوم، فإنّهم يسبّحون اللّيل و النّهار و لا يفترون، و الإخلاص الّذي به القوام و النظام و اليقين الّذي هو الأساس و التّقوى الّذي هو الثمرة فيهم أقوى و أقوم، لأنّ طريقهم العيان لا البيان.

و ايضا ينتقض ذلك بما أنّا نرى الواحد من الصّوفية يتحمّل في طريق المجاهدة من المشاقّ و المتاعب ما نقطع بأنه عليه السّلام لم يتحمّل مثلها، مع أنا نعلم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أفضل من الكلّ، و ما ذاك إلّا أنّ كثرة الثّواب تترتّب على كثرة الإخلاص، فربما يكون الفعل أسهل على فاعله و يكون الثواب اكثر لكثرة إخلاصه.

ففيه أنّ مبنى الاستدلال إنّما هو على التفاضل من حيث تحمّل كثرة المشقّة

__________________________________________________

(1) النساء: 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 174

و الألم في الطّاعة و الانقياد، و قضيّة تفضيل الأنبياء و هو المطلوب، و أمّا معارضة سائر الصّفات الموجبة للتعكيس فلم يظهر

دليل عليها، و مجرّد الجواز لا يدلّ على الوقوع، و دعوى أنّ الإخلاص و اليقين و التقوى فيهم أشدّ و أقوى في حيّز المنع كيف و هو أوّل الكلام، بل التّحقيق أنّ ظهور هذه الصفات في الأنبياء أقوى منه في غيرهم حتّى الملائكة، لأن أخشى الخلق أعلمهم باللّه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» و قد نصّت الآية و غيرها على كون أدم أعلم و انّه هو المستأهل للخلافة العلميّة و منصب التعليم، فإذا اقترنه العمل من جميع الجهات كما هو مقتضى العصمة فقد تمّت له الفضيلة بشطريها، و أذعنت له الرياسة الكبرى بقرنيها، و امّا دوام العبادة و عدم الفتور فلا تظنّن اختصاصه بالملائكة ضرورة انّ أرواح الأنبياء سبقهم في عالم الأنوار و الأرواح بالاجابة، و عبدوه قبل خلقة الملائكة و كانوا مستمرّين على عبادتهم إلى أن أمروا بالظّهور في هذا العالم الجسماني لمصالح قضت بها العناية الكليّة و المصلحة الرّبانيّة، فصحبوا أهل هذا العالم بأبدان أرواحها معلّقة بالملكوت الأعلى فكانّهم و هم في جلابيب من أبدانهم العنصريّة قد نضّوها و تجرّدوا عنها إلى عالم القدس و حضرة الأنس، و أمّا إذا فارقوا هذا العالم فلا تظنّن انّهم إذا ماتوا فاتوا، بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون، باستنشاق نفحات قدسه و استضاءة تجلّيات وجهه.

و بالجملة فالظّاهر سلامة الدّليل المذكور عن وصمة الأشكال سيّما بعد ما أشير اليه في الخبر المروي في «العلل» عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه

__________________________________________________

(1) فاطر: 28.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 175

جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام فقلت، الملائكة أفضل أم بنوا آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه السّلام،

انّ اللّه عزّ و جل ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة، و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل، و ركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، و من غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم «1».

و في المروي في تفسير الامام و الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام في خبر طويل يذكر فيه أمر العقبة انّ المنافقين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أخبرنا عن عليّ اهو أفضل أم ملائكة اللّه المقرّبون؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و هل شرّفت ملائكة اللّه إلّا بحبّها لمحمّد و عليّ، و قبولها لولايتهما أنّه لا أحد من محبّي عليّ عليه السّلام و قد نظف قلبه من قذر الغشّ و الدّغل و الغلّ و نجاسة الذّنوب إلّا لكان أطهر و أفضل من الملائكة، و هل أمر اللّه الملائكة بالسّجود لآدم إلّا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم انّه لا يصير في الدّنيا خلق بعدهم إذا رفعوا عنها إلّا و هم يعنون أنفسهم أفضل منهم في الدّين فضلا، و أعلم باللّه و بدينه علما، فأراد اللّه تعالى أن يعرّفهم انّهم قد أخطئوا في ظنونهم و اعتقاداتهم، فخلق آدم و علّمه الأسماء كلّها ثمّ عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم أن ينبئهم بها و عرّفهم فضله في العلم عليهم.

ثمّ أخرج من صلب آدم ذرّيّة منهم الأنبياء و الرسل و الخيار من عباد اللّه، أفضلهم محمّد ثمّ آل محمّد صلّى اللّه عليهم أجمعين، و من الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمّد و خيار أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و عرّف الملائكة بذلك انّهم أفضل من الملائكة إذا احتملوا

ما حملوه من الأثقال و قاسوا ما هم فيه من تعرّض أعوان

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 60 ص 299 عن العلل ج 1 ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 176

الشياطين و مجاهدة النفوس، و احتمال أذى ثقل العيال و الاجتهاد في طلب الحلال، و معاناة مخاطرة الخوف من الأعداء، من لصوص مخوّفين، و من سلاطين جورة قاهرين، و صعوبة المسالك في المضايق و المخاوف و الاجزاع و الجبال و التّلال لتحصيل أقوات الأنفس و العيال من الطّيب الحلال، عرّفهم اللّه عزّ و جلّ أنّ خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا، و يتخلّصون منها، و يتحاربون الشياطين و يهزمونهم «1» و يجاهدون أنفسهم بدفعها عن شهواتها و يغلبونها مع ما ركّبت فيهم من شهوة الفحولة، و حبّ اللباس و الطعام و العزّ و الرّياسة و الفخر و الخيلاء، و مقاساة العناء و البلاء من إبليس لعنه اللّه و عفاريته و خواطرهم و أعوانهم و استهوائهم و دفع ما يكيدونه من ألم الصّبر على سماع الطّعن من أعداء اللّه و سماع الملاهي و الشّتم لأولياء اللّه، و مع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم، و الهرب من أعداء دينهم، و الطلب لمن يأملون «2» معاملته من مخالفيهم في دينهم.

قال اللّه عزّ و جل: يا ملائكتي: و أنتم من جميع ذلك بمعزل لا شهوات الفحولة تزعجكم، و لا شهوة الطعام تخفركم، و لا الخوف من اعداء دينكم و دنياكم ينخب «3» في قلوبكم، و لا لإبليس في ملكوت سمواتي و ارضي سبيل على إغواء ملائكتي الّذين قد عصمتهم منهم، يا ملائكتي فمن أطاعني منهم و سلم دينه من هذه الآفات

__________________________________________________

(1) في النسخة المخطوطة: و يحزمونهم

(بالحاء المهملة) و لعلّه (لو لم يكن مصّحفا) من حزم الفوس: شدّ حزامه- و الحزام: ما يشدّ به وسط الدابّة.

(2) في البحار: او الطلب لما يألمون معاملته.

(3) النخب: النزع، و رجل نخب (بكسر الخاء): جبان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 177

و النكبات فقد احتمل في جنب محبّتي ما لم تحتملوا و اكتسب من القربات إليّ ما لم تكتسبوا، فلما عرّف اللّه ملائكته فضل خيار أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و شيعة عليّ عليه السّلام، و خلفائه عليهم السّلام عليهم، و احتمالهم في جنب محبّة ربّهم ما لا تحتمله الملائكة أبان انّ بني آدم الخيار المتّقين بالفضل عليهم فلذلك.

ثمّ قال فاسجدوا لآدم لما كان مشتملا على أنوار هذه الخلايق الأفضلين، و لم يكن سجودهم لآدم، إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه للّه عزّ و جل، و كان بذلك معظما له مبجّلا، و لا ينبغي لاحد أن يسجد لأحد من دون اللّه تعالى يخضع له خضوعة للّه و يعظّمه بالسجود له، كتعظيمه للّه، و لو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير اللّه لأمرت ضعفاء شيعتنا و سائر المكلّفين من شيعتنا أن يسجدوا لمن توسط في علوم علي وصّي رسول اللّه و محّض وداد خير خلق اللّه عليّ بعد محمّد رسول اللّه و احتمل المكاره و البلايا في التصريح بإظهار حقوق اللّه فلم ينكر عليّ حقّا ارقبه عليه و قد كان جهله او اغفله «1». الخبر و هو كما ترى صريح في تقرير الحجّة المذكورة بأتمّ بيان و أحسنه، بل فيه دلالة ظاهرة على تفضيل الفاضلين من شيعتهم على الملائكة، و يظهر ذلك أيضا من بعض الاخبار المتقدّمة الدّالة على أنّ الملائكة لخدامهم

و خدّام محبّيهم، و من العلوي المروي عن «العلل» «2» من فضل بني آدم على الملائكة معلّلا بما مرّ.

بل عن صحيفة الرضا بالإسناد عنه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: مثل

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 136- 138 عن تفسير الامام عليه السّلام و الاحتجاج.

(2) البحار: ج 60 ص 299 عن العلل ج 1 ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 178

المؤمن عند اللّه كمثل ملك مقرّب، و إنّ المؤمن عند اللّه عزّ و جلّ أعظم من الملك، و ليس شي ء أحبّ إلى اللّه من مؤمن تائب او مؤمنة تائبة «1».

و عنه بالإسناد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ المؤمن ليعرف في السّماء كما يعرف الرجل أهله و ولده، و انّه أكرم عند اللّه عزّ و جلّ من ملك مقرّب «2». إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه فضل المؤمن على الملائكة، أو الملك المقرّب، و ان لم أجد في ذلك كلاما محرّرا لأحد من الأصحاب، نعم قال المجلسي رحمه اللّه: لا خلاف بين الاماميّة في أنّ الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام أفضل من جميع الملائكة، و الأخبار في ذلك مستفيضة، و امّا سائر المؤمنين ففي فضل كلّهم أو بعضهم على جميع الملائكة او بعضهم فلا يظهر من الآيات و الاخبار ظهورا بيّنا يمكن الحكم بأحد الجانبين، فنحن فيه من المتوقفين «3».

و فيه انّه لا ينبغي التّأمّل في فضل بعض المؤمنين على كثير من الملائكة، لو لم نقل كلّهم بعد دلالة الاخبار المتقدّمة، مع انّه قد روي عن الصادق عليه السّلام انّه قال: إنّ في الملائكة من باقة بقل خير منه

«4»، و لا في فضل بعض الملائكة كحملة العرش و العالين و روح القدس و غيرهم على كثير من المؤمنين لو لم نقطع بفضلهم على غير المعصومين عليهم السّلام و إنّما الكلام في المتوسّطين عن الفريقين، و ردّ العلم في ذلك إلى أهله أوفق بالاحتياط و أقرب إلى النّجاة.

__________________________________________________

(1) صحيفة الامام الرضا عليه السّلام: ح 27 و عنه البحار ج 60 ص 299 ح 6.

(2) الصحيفة: ح 36 و عنه البحار ج 60 ص 299 ح 7.

(3) بحار الأنوار: ج 57 ص 285.

(4) البحار: ج 57 ص 313.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 179

بقي الكلام في انّ المستفاد من الوجه المتقدّم بل و بعض الاخبار المتقدّمة خصوصا المروي عن «1» العسكري عليه السّلام انّه ليس للملائكة شهوة الحيوان، و لا ميل إلى أنواع اللّذات الدّنيوية، و لذا استشكل بعضهم بانّه إذا كان اللّه تعالى قد خلقهم على هذا المنوال فما لهم من الفضل في أنفسهم حتّى يفضّلوا غيرهم من صلحاء المؤمنين، قال في الأنوار النعمانيّة: و هذا المعنى قد أشكل على جماعة من الأصحاب حتّى أنّ شيخنا المعاصر أدام اللّه ايّامه يعني به المجلسي عطر اللّه مرقده ذهب إلى أنّ الملائكة لهم نوع من الميل إلى اللّذات الحسيّة، لكنّهم يجاهدون أنفسهم و يمنعونها عن الإرادات البشريّة، حتّى يكون لهم جزيل من الثواب، و يستحقّوا محامد الثّناء و التّفضيل قال رحمه اللّه: و الجواب التحقيقي عند هذا القاصر غير هذا، و حاصله: أنّ اللّه سبحانه قد أقدر الملائكة على أنواع العبادات كما أقدر البشر عليها، و إن كان قوّة الملائكة على العبادات أشدّ و أكثر، و البشر مع قدرتهم على اكثر أنواع

العبادات من الواجبات و السنن قد فتروا عنها و اقبلوا على تركها، و أمّا الملائكة فقد أقبلوا على فعلها و الإتيان بما وصلت إليه قدرتهم، و مع هذا قد صارت العبادات مستلذّة عندهم، كاستلذاذ الاكل و الشرب عندنا فهم يأتون بكلّ ما يقدرون عليه من أنواع العبادات على وجه الاستلذاذ، و نحن إنّما نأتي ببعض ما نقدر على وجه التكليف و المشقّة و الخوف من العقاب، فهم فضّلونا بإتيانهم بأفعال يمكنهم تركها فلم يتركوها، و من ثمّ قد وقع من بعضهم الترك حتّى عوقب عليه، فاحترقت أجنحته و سقط عن مقامه كما وقع للملك الّذي وقع من السماء في زمن إدريس على

__________________________________________________

(1) البحار ج 11 ص 136 تقدّم ذكره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 180

نبيّنا و آله و عليه السّلام حتّى لجأ إلى إدريس، فدعى له فرجع إلى مقامه و كما وقع للملك الّذي فتر عن العبادة في عصر النّبي صلّى اللّه عليه و آله فسقط أيضا من عالم الملكوت و لجأ إلى الحسين عليه السّلام فتمسّح به و رجع ببركة الحسين عليه السّلام إلى مقامه، و أمّا الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام فهم قد فعلوا أفعال الملائكة مع اتّصافهم بالقوى الحيوانيّة فهم أفضل من الملائكة كما انعقد عليه إجماعنا، و من ثمّ كان العامل منا بما يطيق من انواع العبادات أفضل من الملائكة كما ذهب إليه بعض الأصحاب و دلّت عليه بعض الاخبار «1».

أقول: و هذا الكلام لا بأس به غير انّ نسبة ترك العبادة و استحقاق العقوبة إلى الملائكة الّذين قامت ضرورة المذهب على عصمتهم، ليس ممّا ينبغي، و أمثال تلك الأخبار على فرض صحتها لها وجه آخر سنشير اليه في

قصّة هاروت و ماروت إنشاء اللّه تعالى.

نقض و إبرام على دفع حجج مفضّلي الملائكة على الأنبياء عليهم السّلام

استدلّوا بوجوه من المنقول و المعقول نستقصي الكلام بذكرها و الجواب عنها و ان كنّا في غنية عن ذلك كلّه، بعد دلالة الإجماع بل ضرورة المذهب فضلا عمّا سمعت من الآيات و الأخبار على ما مرّت الإشارة إليه من تفضيل الأنبياء و الائمة عليهم السّلام عليهم.

__________________________________________________

(1) الأنوار النعمانية: ج 1 ص 214- 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 181

أمّا الوجوه النقليّة فمنها قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «1» حيث إنّ ظاهر العطف في أمثال المقام التّرقي من الأدنى إلى الأعلى سيّما مع تخصيص الملائكة بالمقرّبين منهم لكونهم أفضل كما يقال أفضل كما يقال: هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير و لا الملك المقتدر، و هذا الحجر لا يقدر على حمله العشرة و لا المائة أولو القوّة إذ من البيّن انّه لا يقال:

في الأوّل و لا الجندي، و لا في الثاني و لا الواحد، فضلا من أن يوصفا بالحاجة و الضّعف او يوصف بهما الأوّلان.

و الجواب انّ الكلام إنّما سيق لردّ مقالة النصارى في المسيح حيث ادّعوا فيه مع النّبوة البنوة بل الألوهيّة و التّرفع عن العبوديّة، ثمّ استطرد الكلام في ردّ من زعم انّ الملائكة بنات اللّه كما قال: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2» و قال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ «3» و تقديم الأوّل لسبق الخطاب مع أهل الكتاب في أمره في الآيات المتقدّمة.

و قد يجاب أيضا بانّ الواو لمطلق الجمع، فتدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف و الملائكة لا يستنكفون، و امّا الترقّي و التّفضيل فغير مستفاد أصلا كما

في قوله:

وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «4» و قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ

__________________________________________________

(1) النساء: 172.

(2) الزخرف: 19.

(3) الزخرف: 16.

(4) المائدة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 182

بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ «1»، و كذا قولك: ما أعانني على هذا الأمر زيد و لا عمرو، و ما اقترضت من زيد و لا من عمرو.

نعم ربما يستفاد التّرقي إذا علم كون المعطوف أقوى في المعنى المراد، و أمّا إذا لم يعلم ذلك فإثباته بمجرّد العطف لا يخلو عن دور.

و بانّ النّصارى إنّما توهّموا فيه البنوة بل الألوهيّة لكونه روح اللّه ولد من غير أب، و لما ظهر فيه من صفات الرّوحانيّين من إخبار بما يأكلون و ما يدّخرون، و إحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص و الأعمى، و لا يبعد أن يكون الملائكة المقرّبون الموكّلون بتلك الشؤون أرفع في هذا المعنى و أقدر على تلك الشؤون و المعنى لا يترفع عيسى عن العبوديّة و لا من هو فوقه في هذا المعنى، و هم الملائكة الّذين لا أب و لا أمّ و يقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى، و اين هذا من سائر الكمالات العلميّة و العمليّة الموجبة لمزيد القرب و كثرة الثواب.

و بانّه يجوز أن يكون الخطاب متوجّها إلى قوم اعتقدوا أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء فاخرج الكلام على حسب اعتقادهم، كما يقول أحد منّا: لن يستنكف أبي أن يفعل كذا و لا أبوك، و ان كان القائل يعتقد أنّ أباه أفضل، و إنّما أخرج الكلام على حسب إعتقاد المخاطب و هو ضعيف.

و بانّه مع تقارب المراتب و تداني الدّرجات يحسن أن

يؤخّر ذكر الأفضل الّذي ليس بينه و بين غيره فضل تفاوت كما يقال: لن يستنكف من خدمتي هذا الخادم و لا هذا الخادم، و لا ذلك و ان كان بينهم ضرب من التّفاضل من بعض

__________________________________________________

(1) المائدة: 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 183

الجهات الّذي لم يساق الكلام للتنبيه عليها.

و بانّه إنّما اخّر ذكر الملائكة عن ذكر المسيح لأنّ جميع الملائكة اكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا و هذا لا يدلّ على تفضيل كلّ منهم على المسيح، و هو كما ترى.

و أمّا ما يجاب به أيضا من تسليم فضل الملائكة على المسيح و ان كان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله مفضّلا عليهم كلّهم نظرا إلى أنّ المقصود اثبات القضيّة الجزئيّة فضعيف جدّا.

و منها قوله تعالى: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «1» حيث خصّهم بالذكر بعد التّعميم الشامل للأنبياء و غيرهم، و وصفهم بالاستكانة و التّواضع و دوام الامتثال و الخوف و ترك المخالفة على وجه الإطلاق، و فيه اشارة إلى أنّ غيرهم ليس كذلك، و انّ اسباب التكبر و التّعظم حاصلة لهم.

على انّه يستفاد منه الاحتجاج بعدم استكبارهم على أنّ غيرهم وجب أن لا يستكبر، و لو كان البشر أفضل منهم لما تمّ هذا الاحتجاج ألا ترى أنّ السلطان إذا أراد أن يقرّر على رعيّته وجوب طاعتهم له يقول: الملوك لا يستكبرون عن طاعتي و لا يحسن منه ان يحتج عليهم بطاعة الضّعفاء و المساكين له.

و الجواب أنّ الآية إنّما تدلّ على الفضيلة لا الأفضليّة، و فائدة التخصيص بعد التعميم التنبيه

على حالهم تمهيدا لردّ من زعم من مشركي مكّة انّهم بنات اللّه، و لذا

__________________________________________________

(1) النحل: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 184

قال بعد هذه الآية بفصل قليل: وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ «1»، الآيات.

على أنّه قد يقال: لا نزاع في انّ الملائكة أشدّ قوّة و قدرة من البشر، و لو في زعم المخاطبين و اعتقادهم، فكانّه يقول إنّ الملائكة مع شدّة قوّتهم و طول أعمارهم لا يتركون العبوديّة لحظة واحدة فالبشر مع ضعفهم و عروض الفتور و الهرم و المرض بالنّسبة إليهم أولى بأن لا يتركوا العبادة، و هذا القدر كاف في صحّة الاستدلال، و أين هذا من الدّلالة على الأفضليّة بمعنى كثرة الثواب و الاقربيّة؟

ثمّ انّه يحتمل في الآية أن يكون مِنْ دابَّةٍ بيانا للموصولة وَ الْمَلائِكَةُ عطفا عليها لظهور الدّبيب في حركة الأجسام، فيكون المراد استيعاب الماديات و المجرّدات بناء على القول بتجرّد الملائكة و لذا استدلّ بها عليه على ما يأتي.

و منها قوله تعالى: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «2».

و التقريب قريب ممّا مرّ من جهة التخصيص بعد التعميم للتشريف و التكريم و التوصيف بدوام التّسبيح و نفي الاستكبار و الاستحسار و الفتور، على أنّ المراد بالعنديّة عنديّة القرب و الشرف لا عنديّة المكان و الجهة.

و الجواب ظاهر بعد ما سمعت، و العنديّة حاصلة للمؤمنين ايضا: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3»، و في القدسيات: أنا عند المنكسرة قلوبهم «4».

__________________________________________________

(1) النحل: 57.

(2) الأنبياء: 19- 20.

(3) القمر: 55.

(4) في البحار: ج 73 ص 157: قيل

لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اين اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: عند المنكسرة قلوبهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 185

و منها: قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «5»، حيث إنّ ظاهره و لو بمعونة غيره من الآيات و الأخبار كونهم رسلا إلى الأنبياء، و الّرسول أفضل من المرسل إليه، سلّمنا كونهم رسلا إلى الملائكة، لكنّ الرسول الّذي كلّ أمته رسل معصومون أفضل ممّن ليس كذلك، و هو يتمّ على الوجه الاول ايضا.

و الجواب انّ الرسالة قد تكون على وجه الحكومة و الولاية على النفس و المال و غيرهما و هذا يدلّ على الفضيلة، و قد تكون على وجه الإخبار و الإعلام و مجرّد التبليغ، و لا دلالة فيه على الأفضليّة كما يرسل السّلطان إلى وزيره واحدا من غلمانه لإعلامه ببعض مقاصده، و لو مع اطّلاع الوزير قبل ذلك بما أخبره به لإقامة بعض الرسوم و دفع لجاج الخصوم، فمجرّد الوساطة في التبليغ لا يدلّ على الأفضليّة.

و منها قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «6»، فلو لم يكن حال الملائكة أفضل من حال النّبي لم يحسن منه مثل هذا الكلام.

و الجواب أنّ الغرض من سوق الكلام إنّما هو نفي ما لم يكن عليه لا التّفضيل لذلك على ما هو عليه، و لذا عطف عليه في الآية الاخرى وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً «7» و هذه منزلة خسيسة ينبغي تنزيه النّبي

__________________________________________________

(5) فاطر: 1.

(6) الانعام: 50.

(7) هود: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 186

عنها على انّه انّما قال ذلك حين استعجلته قريش العذاب

الّذي أوعدوا به بقوله:

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «1»، و المعنى انّي لست بملك موكّل بالعذاب حتّى أنزله عليكم باذن اللّه كما كان ذلك بجبرئيل و غيره من الملائكة، او انّهم سألوه الأمور العظيمة اقتراحا كصعود السماء و اسقاطها كسفا و تفجير العيون من الأرض و غيرها فأجاب بانّي بشر عليّ إقامة الحجّة و الهداية على الطّريقة السّوية، و لست بملك موكّل بهذه الأمور كما حكى عنهم في قوله:

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «2».

و منها قوله تعالى في بني آدم: وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «3»، بناء على أنّ المكلّفين من مخلوقاته سبحانه أفضل من غيرهم، و جملة المكلّفين اربعة انواع: الملائكة، و بنو آدم، و الجنّ، و الشياطين، و لا ريب انّ بني آدم أفضل من الأخيرين، فلو كانوا أفضل من الاول ايضا لكانوا أفضل من جميع ما خلقه فلا يستقيم التّفضيل على الأكثر المشعر بعدم التفضيل على القليل سيّما في مقام الامتنان بالتّشريف و التكريم.

__________________________________________________

(1) الانعام: 49.

(2) الإسراء: 90- 93.

(3) الإسراء: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 187

و الجواب انّك قد سمعت أنّ الآية دليل لنا لا علينا، و لو بمعونة الأخبار المفسّرة لها حسبما مرّ شطر منها، و لعلّ المعنى على ما قيل إنّا فضّلناهم

على من خلقناه و هم كثير من دون أن يريد التّبعيض فيجري مجرى قوله: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا «1»، اي كلّ ثمن أخذ عنها فهو قليل من دون ان يريد التّخصيص بان يمنع عن الثمن القليل خاصّة و مثله قول الشاعر:

من أناس ليس من أخلاقهم عاجل الفحش و لا سوء الجزع و انّما أراد نفي الفحش و الجزع على إطلاقهما و ان وصفهما على صورة التقييد، مع أنّه يمكن أن يكون المراد هو التّفضيل في وجوه الكرامة المذكورة في الآية من رزق الطّيبات و حملهم في البرّ و البحر و أين هذا من الأفضليّة بالأقربيّة و اكثريّة الثّواب، سلّمنا لكنّه لا حجيّة في دليل الخطاب في مثل المقام على ما قرّر في الأصول من عدم حجيّة مفهوم العدد و اللّقب و نحوهما، سلّمنا لكنّه باعتبار مقابلة المجموع بالمجموع.

و منها قوله تعالى: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ «2»، اي إلّا كراهة أن تكونا ملكين فرغّبهما في التناول من الشجرة في منزلة الملائكة حتّى دلّاهما بغرور، و ذاقا منها فبدت لهما سوءاتهما، و من البيّن أنّ التّغرير إنّما يحصل بالتّرغيب على منزلة هي فوق منزلته حتّى يحمله ذلك

__________________________________________________

(1) المائدة: 44.

(2) الأعراف: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 188

على مخالفة اللّه و معصيته طمعا في الارتقاء إلى منزلة الملائكة، و هو دليل على فضلهم عليهما.

و الجواب انّه من المحتمل قويّا أن يكون المراد اختصاص النّهي بهذين الفريقين اعني الملائكة و الخالدين فكان غرض إبليس إيقاع الشبهة لهما بأنّه إنّما تعلّق النّهي بهما و انّ عدم الاكل مختصّ بمن كان ملكا او مخلّدا فيها،

و هذا كما تقول لواحد من فقراء السادات: ما حرّم اللّه عليك أخذ الخمس إلّا أن تكون غنيّا او من غير بني هاشم اي بكونك كذا و كذا، و هذا كما ترى لا يدلّ على كونهما أفضل منه، سلّمنا أنّ الصّورة الملكيّة و الخلود كانا مرغوبين لهما لكنّه لا يدلّ على زيادة الفضل و كثرة الثواب و القرب بحصول شي ء منهما، و لعلّه إنّما رغّبهما في أن يكونا مساويين لهم في التجرّد و الانسلاخ عن عوارض التركيب و ان اختصا عنهم بمزيد الأجر و الثواب كما أنّه رغّبهما في الخلود الّذي لا يقتضي مزيّة في الثواب، و انّما هو نفع عاجل، بل من البيّن انّ كلّا من الخلود و الملكيّة ينافي زيادة الاستحقاق و رفع الدّرجة.

و امّا ما يجاب عنه ايضا من أنّ هذا قول إبليس فلا يكون حجّة، و آدم و ان اعتقد صحّة ذلك إلّا أنّه لم يكن نبيّا في ذلك الوقت، و ايضا لعلّه كان مخطئا في ذلك الاعتقاد لجواز الزلّة على الأنبياء، سلّمنا كونه حجّة لكن آدم عليه السّلام لم يكن قبل الزّلة نبيّا فلم يلزم من فضل الملك عليه حينئذ فضله عليه بعد نبوّته، فلا يتم شي ء منهما على الأصول المقرّرة عندنا كما لا يخفى، و لعلّه إنّما ذكره من ذكره منّا على وجه الفرض و التّقدير، كما أنّه يمكن أن يقال: سلّمنا دلالتها على فضله على آدم لكنّها لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 189

تدلّ على فضله على أولي العزم الذين هم أفضل من آدم، و ايضا لا تدلّ على فضل الملك على نبيّنا و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين الّذين هم أفضل من جميع الأنبياء و المرسلين.

و

منها قوله تعالى حكاية عن النسوة على وجه التقرير في تفاوت الدّرجة لا النّفي ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «1» بناء على أنّه ليس المراد وقوع التشبيه في الصورة بل في السيرة حيث انّه شبّهه بالملك الكريم، و الملك إنّما يكون كريما بسيرته المرضيّة الّتي هي نفي دواعي البشريّة من الشهوة و الغضب و الحرص على طلب المشتهى و اثبات أضدادها من العصمة و غضّ البصر و قمع موادّ الشهوات و الميل إلى المحرّمات، فدلّ على أنّ جنس الملك أفضل من جنس البشر حتّى بالنّسبة إلى نوع الأنبياء كما هو قضيّة المورد.

و الجواب أنّ هؤلاء النسوة اوّل ما رأين من يوسف إنّما هو حسن الصورة و كمال الجمال بحيث لم يرين مثله أحدا من الرجال و لذا نفين عنه البشريّة و ظهر لهن عذر امرأة العزيز في شدّة عشقها له و عند ذلك قالت فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ «2» و لذا قيل إنّه كالصّريح في أنّ المراد إنّما هو حسن الصّورة لا كمال السّيرة، سلّمنا انّ المراد هو التشبيه في الاعراض عن المشتهيات إلّا أنّه قد ظهر ممّا مرّ انّ قليل الاعراض من البشر يوجب كثير الثواب و كثير الاعراض من الملك يوجب قليل الثواب لمعارضة القوى المتضادّة في البشر دون الملك.

__________________________________________________

(1) يوسف: 31.

(2) يوسف: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 190

و منها قوله تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ «1»، الشامل بعمومه لجميع المكلّفين حتّى الأنبياء و المرسلين فيدلّ على أفضليّة الملائكة لحفظهم و كتابتهم المقصودة للشهادة لهم و عليهم بأعمالهم.

و ضعفه واضح فإنّ شيئا من الحفظ و الشهادة غير مستلزم للافضليّة أو المفضوليّة، و لذا يصحّ استنادهما

إلى اللّه و إلى رسوله و إلى من دون المكلّف من الجمادات و النّباتات و سائر أجزاء العالم، و لذا ورد انّه خير حافظا و انّه تعالى يستشهد على الأمم برسولها و على الرّسل بنبيّنا و آله صلّى اللّه عليهم و انّه يستشهد على ابن آدم بالساعات و الشهور و البقاع و الأرضين و غيرها.

و منها قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ «2»، و قوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ «3»، فانّ أولي العلم في الاولى يشمل الرسل و التقدّم الذكري فيهما سيّما بملاحظة الابتداء به سبحانه و وقوعه في كلام الحكيم على الإطلاق يدلّ على التقدّم بحسب الرتبة و الشرف.

و يضعّف بانّ الواو لمطلق الجمع و استفادة الاشرفيّة من مجرّد التّرتيب ضعيفة جدّا سيّما بعد ما سمعت من الآيات و الصّحاح الصّراح و يؤيّده تقديم الكتب على الرسل في المقام.

و منها قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «4»، فانّه يدلّ على أنّ جبرئيل و هو

__________________________________________________

(1) الانفطار: 11.

(2) آل عمران: 18.

(3) البقرة: 285.

(4) النجم: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 191

واحد من الملائكة علّم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و هو خاتم النّبيين و أفضل المرسلين و لا ريب أنّ المعلّم أفضل من المتعلّم و إذا ثبت فضله عليه ثبت فضله على الجميع، و ايضا وصفه في الآية بشدّة القوى و غيرها من الأوصاف المذكورة في الآيات التّالية.

و قد يقرّر اعلميّة جبرئيل بانّ العلوم قسمان: أحدهما العلم بالمبدإ الحقّ و صفاته و أسمائه و هما مشتركان في معرفته، و الاخر العلم بأفعاله و احوال مخلوقاته من الدّرة إلى

الذّرة، و لا شكّ أنّ جبرئيل عليه السّلام أعرف بها لأنّه أطول عمرا و اكثر مشاهدة لها فكان علمه بها اكثر و اتمّ هذا في العلوم الكونيّة و امّا العلوم الشرعيّة الّتي لا يتوصل إليها إلّا بالوحي فهي لم تحصل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لا لاحد من الأنبياء إلّا بواسطة جبرئيل الّذي هو أمين الوحي و لذا كان واسطة بينه تعالى و بين جميع الأنبياء فكان عالما بجميع الشّرائع و الأحكام مع علمه بشرائع الملائكة ايضا و لم يحصل هذه العلوم لواحد من الأنبياء، و قد قال سبحانه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «1».

و الجواب أنّ الأعلميّة ممنوعة جدّا كيف و قد تواترت الأخبار بأنّ النّبي و الأئمّة صلّى اللّه عليهم كانوا معلّمين لجبرئيل و غيره من الملائكة المقرّبين، و انّ الملائكة لخدّامهم و خدّام محبّيهم، و انّ جبرئيل إذا أتى النّبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتّى يستأذنه و انّه ما شرّفت الملائكة إلّا بحبّها لمحمّد و علي عليهما السّلام و قبولها لولايتهما، و انّ الملائكة إنّما خلقوا بعد شيعيتهم و سبّحوا بعد تسبيحهم معلّما منهم و الا فقد مكثوا مائة عام لا يعرفون تسبيحا و لا تهليلا إلى غير

__________________________________________________

(1) الزمر: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 192

ذلك ممّا مرّت إليه الإشارة في الاخبار المتقدّمة.

و أمّا الآية فالمراد بها التعليم الظّاهري في هذا العالم اقامة لرسم التبليغ و وظيفة الرسالة حسبما نشير اليه في تفسيرها، مع أنّ فيها وجها آخر و هو نسبة التّعليم إليه سبحانه كما يظهر من تفسير القمي و غيره هذا مضافا إلى ما

دلّت عليه الآية من كون آدم معلّما لهم بأمر اللّه تعالى إرشاده و انّه علّمهم الأسماء كلّها بعد ما لم يعلموها، و أمّا التقسيم المقرّر لبيان أعلميّة جبرئيل ففيه وجوه من الاختلال، و ذلك للمنع عن الاشتراك في قدر المعرفة و ان سلّمناه في أصلها، و ذلك لأنّ المعرفة على حسب الاستعداد و الرّتبة و القرب و العبوديّة و قد سمعت تأخّر رتبة جبرئيل عنهم بل عن بعض شيعتهم كالعالين و الكروبيّين و غيرهم، و امّا العلم بالأمور الكونيّة فالاعلم بها من أشهدهم اللّه تعالى و جعلهم الأشهاد و الأعضاد في تكوينها، و امّا الاحكام الشرعيّة فقد ورد في كثير من الاخبار تفويضها إليهم كما أشير إليه في قوله تعالى: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» بحسب التأويل «2» و تّذكر في ذلك كلّه قوله: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «3»، و قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ «4».

و منها ما رواه في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام قال: قال اللّه عزّ و جلّ يا بن آدم اذكرني

__________________________________________________

(1) ص: 39.

(2) راجع تفسير الصافي: ج 4 ص 301 ط دار المرتضى بمشهد.

(3) طه: 114.

(4) القيامة: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 193

في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك «1».

و فيه مرفوعا قال: قال اللّه عزّ و جلّ لعيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، و اذكرني في ملأك أذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميّين «2».

و في بعض الأخبار: بملإ «3» من الملائكة خير من ملأ الآدميّين.

و الجواب ان خيرية ملأ نوع من الملائكة

من ملأ كثير من افراد البشر باعتبار قربهم او ملأ جنس الملائكة من جنس بني آدم باعتبار عصمتهم لا ينافي افضليّة الأنبياء و الأوصياء عليهم، سيّما مع ما قيل من اشتمال ملائهم على أرواح النّبيين و المرسلين.

ثمّ انّه قد يحكى اتّفاق الفلاسفة على انّ الأرواح السّماوية المسماة عندهم بالملائكة أفضل من الأرواح النّاطقة البشريّة و استدلّوا عليه ببساطتها و برائتها من شوب التركيب و لوازم الكثرة الدّاعية إلى الاختلال و الفساد، و أمّا البشر فهو مركّب من النفس و البدن، و النفس مركّبة من القوى الكثيرة و البدن مركّب من العناصر المتضادّة، و من البيّن أنّ البسيط أشرف من المركب، و الملائكة و ان لم نقل ببساطتها المطلقة نظرا إلى أنّ كلّ ممكن زوج تركيبي و انّها مركّبة من وجود و مهيّة لكنّها أبسط بالإضافة إلى الإنسان من وجوه كثيرة أوجبت شرافتها، و لذا كان البسيط على الإطلاق و هو مبدأ الكلّ أعلى من الكلّ.

__________________________________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 498.

(2) الكافي: ج 2 ص 502.

(3) البحار ج 60 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 194

و بانّ الروحانيّات لها كمالات فعليّة حاضرة و لذا قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و قد سئل عن الملأ الأعلى صور عارية عن المواد خالية عن القوّة و الاستعداد تجلّى لها ربّها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، و ألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله و خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، إن زكاها بالعلم و العمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، و إذا اعتدل مزاجها و فارقت الاضداد فقد شارك بها السّبع الشداد «1».

و أمّا البشر فكمالاتهم و استعداداتهم بالقوّة لا بالفعل، و لا يخفى أنّ ما

بالفعل التّام أشرف ممّا بالقوّة مع أنّ في الخبر وجوها أخر من الدّلالة أيضا كالتّجرد و قبول التجلّيات الاوليّة و توسطها بالاشراق على ما دونها و المظهريّة الكلّيّة و كون النفوس الانسانيّة بعد التزكية التامّة مشابهة لها، مع دلالة التّشبيه على قوّة المشبّه به و كون تلك الجواهر هي العلل الاوليّة لها و غير ذلك ممّا يستفاد منه.

و بانّ الروحانيّات أشرف من الجسمانيّات في العلم و العمل فتكون أشرف مطلقا امّا شرفهم في العلم فلإحاطتها على المغيّبات و على الأمور المستقبلة و العلوم الكليّة و الكمالات الفعليّة، و امّا في العمل فلانّهم مواظبون على العبوديّة المحضة لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون، يسبّحون الليل و النهار لا يفترون، لا يلحقهم نوم العيون و لا يليهم سهو العقول، طعامهم التّسبيح، و شرابهم التقديس، متجرّدون عن العلائق البدنيّة غير محجوبين بشي ء من القوى الحيوانيّة، و امّا الثّاني فواضح ضرورة رجوع اسباب الشرف و الفضل إلى أحد الأمرين.

و بانّ الروحانيات نورانيّات علوية لطيفة فعالة منها العقول الكلّية و النفوس

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 40 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 195

الفلكيّة و الجسمانيّات ظلمانيات سفلية كثيفة منفعلة مشتملة على الحجب الظلمانيّة و الغواسق الهيولانيّة.

و بانّ التقسيم العقلي دلّ على ذلك فانّ الموجود الحيّ أشرف من الميّت ثمّ الحيّ امّا خير محض، او شرير محض، او خيّر من وجه شرير من وجه، فالاوّل هو الملك و الثّاني هو الشيطان و الثالث هو الإنسان.

و بانّ النّفوس النّاطقة و قواها و استعدادتها كلّها فائضة من المبادي العالية الّتي هي المتصرفة فيها المفضية عليها.

إلى غير ذلك من الوجوه الضعيفة المبنية على أصولهم الفاسدة المخالفة للشريعة المصطفويّة على صادعها و

آله آلاف الثناء و التحيّة من اثبات العقول المجرّدة و النفوس الفلكيّة و استناد الحوادث إلى التشكلات و الانظار الفلكيّة و غيرها ممّا تقوّله الفلاسفة و ارباب الهياكل و غيرهم.

هذا مضافا إلى انكارهم الأصول الشرعيّة الحقّة المستفادة من الشريعة من تقدّم خلق الأرواح على الأبدان و انّ أرواح النّبي و الأئمّة عليهم السّلام متقدّمة في الخلقة على غيرهم، و انّ جميع من سواهم من المجرّدات و الماديات و العلويّات و السفليّات و أرواح الأنبياء و الملائكة و السماوات و الأرضين و الكواكب و الجنّة و جميع ما في العوالم الكونيّة كلّها مخلوقة من أشعّة أنوارهم كائنة من رشحات قطرات بحارهم، فإذا أحرزت هذه الأصول و أتقنت ما أشرنا إليه في تضاعيف المباحث السابقة ظهر لك الجواب عن هذه الوجوه و غيرها ممّا أوردوه في المقام، فلا داعي إلى اطناب الكلام في الجواب عنها بوجوه النّقض و الإبرام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 196

دلالة الآيات الى المذهب الحق

اعلم أنّ هذه الآيات تدلّ بوجوه من الإشارة على حقّية مذهب الإماميّة القائلين بوجوب النصّ و العصمة و الأعلميّة و عدم خلوّ العصر عن الحجّة و غيرها من الأصول الحقّة، و ذلك من وجوه.

أحدها: انّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة، و ذلك انّه لما تعلّقت المشيّة الالهيّة و الحكمة الربانيّة بعمارة الأرض و إيجاد من يعبده و يوحّده فيها بدأ بالخليفة قبل الخليقة تقديما للأهم على ما هو الأعم، و ذلك لأنّ وجود الخليفة عندنا ليس على وجه التبعية المحضة و الغيريّة الصّرفة كما توهّمه من خالفنا في الإمامة حيث جوّزوا مساواته لسائر افراد الرعيّة في قلّة العلم و الفضيلة، و عدم لزوم العصمة، بل الخليفة عندنا هو المقصود

بالذّات و لا بدّ أن يكون وجوده أشرف من وجود رعيّته و الاهتمام بخلقه اكثر من الاهتمام بخلق غيره فيكون هو الواسطة في إيصال الفيوض الالهيّة إلى رعيّته، لا لقصور في فيضه أو عجز منه في إيصاله إلى خلقه، او لحاجة به إلى من ينوبه عنه فيه، بل لقصور عامّة الخلق عن قبول فيضه و تلقّي امره، فالخليفة في العالم كالقلب في البدن، و كما انّ القلب أوّل الأعضاء خلقة و هو معدن الحرارة الغريزيّة، فيتكوّن فيه الأرواح الحيوانيّة الّتي هي الأصل للأرواح الطبيعيّة و النّاطقة و غيرهما، ثمّ يسري منها إلى الكبد و الدّماغ و سائر الأعضاء و الجوارح بواسطة العروق و الشرائين، كذلك الخليفة اوّل الخلق خلقة في عالم الملكوت او الناسوت، و هو الواسطة في إيصال الفيوض الالهيّة إلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 197

سائر الخليقة بتوسّط نوابهم و أمنائهم و حملة علومهم و أحكامهم.

و لذا قال الصادق عليه السّلام: إنّ الحجّة قبل الخلق و مع الخلق و بعد الخلق «1».

و انّه ما كانت الأرض الّا و للّه منها عالم و انّه لو لم يكن في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة «2» و لو ذهب أحدهما بقي الحجّة، و انّه ما ترك اللّه الأرض منذ قبض اللّه آدم إلّا و فيها امام يهتدى به إلى اللّه و هو حجّة اللّه على عباده «3».

و في العلوي المستفيض: اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحججه امّا ظاهرا مشهورا، او خائفا مغمورا لئلّا تبطل حجج اللّه و بيناته و كم ذا و أين أولئك؟

أولئك و اللّه الأقلّون عددا، و الأعظمون قدرا، بهم يحفظ اللّه حججه و بيّناته، حتّى يودّعوها نظرائهم، و

يزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، و باشروا روح اليقين، و استلانوا ما استوعره المترفون، و انسوا بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، يا كميل أولئك خلفاء اللّه في ارضه، و الدّعاة إلى دينه «4»، آه.

و الاخبار في هذا المعنى كثيرة مذكورة في كتب الفريقين، ثمّ انّه يستفاد منه تعظيم أمر الخلافة حيث نوّه بذكر الخليفة قبل خلقه و أرشد الملائكة إلى كسب العلوم و المعارف منه و أوجب عليهم السجود له، ثمّ لمّا امتنع إبليس عن السجود له أخرجه من فسيح ملكوت قربه، و طرده عن باب رحمته، و أوجب له الذلّ و الصغار

__________________________________________________

(1) الكافي ج 1 ص 177 ح 4 باب الحجة لا تقوم إلا بالإمام.

(2) الكافي: ج 1 ص 180.

(3) الكافي: ج 1 ص 179 ح 8.

(4) البحار: ج 23 ص 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 198

و الخلود في دار البوار، و لعنه في جميع كتبه و على ألسنة جميع أنبيائه و أوليائه، و ذلك لمخالفته في امر الخلافة الّذي هو الكاشف الأخير عن توحيده سبحانه، فانّ انكار خلافة الأنبياء و أوصيائهم بمنزلة جحود ربوبيّته سبحانه في الكفر و الإلحاد على ما تظافرت به الاخبار.

الخلافة من اللّه سبحانه

ثانيها: انّ الخلافة لا بدّ أن تكون بتعيين اللّه سبحانه و نصّه و نصبه، فانّه منصب جليل، و له خطب عظيم، و القلوب مجبولة على حبّ أنفسها، و اختيار الخير لها، و حيث أنّ الخلق لا يحيطون علما على جميع الحكم و المصالح، و لا يطلعون على جميع الأسباب و المقتضيات و الموانع، فلذا جعل تعيين الخليفة إلى نفسه تعالى و قال:

إِنِّي جاعِلٌ فاحتجّ به على عامة خلقه انّه ليس لهم سبيل إلى اختيار الخليفة، كما لم يكن للملائكة إليه سبيل مع عصمتهم و قدمتهم و صفائهم و وفائهم و دوام عبادتهم و خلوّ فطرتهم عن مقتضيات الدّواعي الشهويّة و الغضبيّة و الانحرافات البشريّة، و إذا كان حال الملائكة ذلك على ما يستفاد من الآية فما ظنك بعامّة البشر، الّذين هم معادن القصور و التقصير مع ما ترى فيهم من خفاء الحقّ و غلبة الباطل، و استيلاء الجهّال، و دولة أهل الضّلال، ثمّ لا يخلو أمرهم امّا أن يكونوا مريدين في زعمهم لاختيار الباطل و متابعة الهواء و الايتمام بأئمّة الضلال، فاللّه سبحانه أعزّ و اجلّ من أن يدعهم و أهوائهم و لو اتّبع الحقّ أهوائهم لفسدت السموات و الأرض و من فيهنّ، و إمّا أن يكونوا مريدين لاختيار من يقوم بالحقّ فيهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 199

و يقيم كلمة الصدق فيما بينهم، فإنّي لهم السبيل إلى معرفة من هو كذلك، و كيف اطمأنّوا انّه لم يقع اختيارهم على من هو الأفسد في الدّين و الدّنيا، و إليه أشير بما في «الاحتجاج» عن سعد بن عبد اللّه القمي قال: سألت القائم عليه السّلام في حجر أبيه عليه السّلام فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلّة الّتي تمنع القوم من اختيار امام لأنفسهم قال عليه السّلام:

مصلح او مفسد؟ قلت: مصلح قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح او فساد؟ قلت: بلى قال: فهي العلّة ايّدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك، قلت: نعم قال: أخبرني عن الرّسل الّذين اصطفاهم اللّه و أنزل عليهم الكتب و

ايّدهم بالوحي و العصمة إذ هم أعلام الأمم و أهدى إلى ثبت الاختيار، و منهم موسى و عيسى عليهما السّلام هل يجوز مع وفور عقلهما و كمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق، و هما يظنّان انّه مؤمن قلت: لا قال: فهذا موسى كليم اللّه مع وفور عقله و كمال علمه و نزول الوحي عليه اختار من اعيان قومه و وجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلا ممّن لم يشكّ في ايمانهم و إخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال اللّه عزّ و جلّ: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا «1»، فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه للنبوّة واقعا على الأفسد دون الأصلح و هو يظنّ انّه الأصلح دون الأفسد، علمنا انّه لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور و ما تكنّ الضمائر و تنصرف عليه السرائر، و ان لا خطر لاختيار المهاجرين و الأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما

__________________________________________________

(1) الأعراف: 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 200

أرادوا أهل الصّلاح «1».

أقول و لعلّ اختيار عيسى عليه السّلام اشارة إلى ما اختاره من الحواريّين الاثني عشر حيث ضلّ كثير منهم و اضلّوا قومه حتّى أنّ واحدا منهم و هو يهودا الاسكر يوطى دلّ الكفّار على أخذه و صلبه لجعل يسير و عدوه به على ما وقع التلويح عليه في أخبارنا و التّصريح به في انجيلهم، و يدلّ على ذلك ايضا من طرق العامّة و الخاصة اخبار كثيرة نورد شطرا منها في تفسير قوله تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «2».

ثمّ انّ المدار في التكاليف على الامتحان و الابتلاء بما لا يعرف حقيقته

و يستحقر ظاهره، و لما كان إبليس في الملائكة و لم يكن منهم و كانت الملائكة تظنّ أنّه منهم بل من خيارهم و أراد اللّه تعالى أن يظهر نفاق المنافق و اخلاص المخلص لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «3» فأمرهم بالسجود لآدم فأظهرت الملائكة الانقياد و الطّاعة و اظهر إبليس الاستكبار و المعصية، و لم تزل سنّة اللّه جارية في بني آدم بمثل هذا الامتحان في الايمان ببعث الأنبياء و نصب الأوصياء، ففيهما ضلّ من ضلّ و هلك من هلك، و أمّا الإقرار به سبحانه فلعلك ترى الأمم كلّها متّفقة على ذلك، فالخلافة الّتي هي الولاية العامّة من قبله سبحانه لا بدّ أن تكون جارية مستمرّة في بني آدم بتعيينه سبحانه إلى انقراض العالم، إقامة للنظم الأتمّ و هداية للعباد إلى ما هو احسن و أقوم.

__________________________________________________

(1) الاحتجاج: ص 259 و 260 و عنه البحار ج 23 ص 68- 69.

(2) القصص: 68.

(3) الأنفال: 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 201

ثمّ انك قد سمعت انّ المراد بالجعل في قوله: إِنِّي جاعِلٌ هو الجعل التكويني فينزل هذا الكلام منه سبحانه منزلة قوله: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ «1»، فمن ادّعى انّ له أن يختار الخليفة فكأنّه قد ادّعى انّ له أن يخلق بشرا من طين، و لما بطل أحد المعنيين بطل الأخر، إذ هما في حيّز واحد بل قد يقال إنّه يستفاد من الآية انّ طريق معرفة الخليفة هو السماع بالإشارة و النصّ، و ذلك لأنّ الخلافة الموعودة ان كانت خصوص خلافة آدم فتحقّق النّص و الإشارة واضح بالنّسبة إليه، و ان كانت هي الخلافة الثّابتة لجميع الحجج من

الأنبياء و الأوصياء، فظاهر الآية أنّه عرضها عليهم، و علّمهم أسمائها، فصحّ انّ الطريق هو الإشارة و النّص من جهة السّمع و التّوقيف.

ثمّ إنّه يستفاد من الآية بعد ملاحظة اعتراض الملائكة و الجواب عنهم أنّه لا يصحّ نصب الخليفة و جعلها إلّا لمن كان عالما بغيب السماوات و الأرض، و بما تبديها النفوس و تكتمها، و بأسرار الخليفة و استعداداتهم و ما يؤول اليه أمرهم، و بهذا تمّت حجّته سبحانه على الملائكة، و هي حجّة على غيرهم ايضا إن أرادوا تعيين الخليفة و نصبه من غير دليل و نصّ عليه بالخصوص من اللّه تعالى او حججه الّذين هم خزنة الوحي و التّنزيل.

ثالثها: أنّ الأعلم هو الأحقّ الأليق بالخلافة، و ذلك لأنّ الملائكة قد عرّضوا أنفسهم لهذا المطلب الجليل و استدعوه منه سبحانه، و ظنّوا انّهم أحقّ به من آدم فأبان اللّه سبحانه عن قصورهم و عدم استحقاقهم لهذه الدّرجة و تفضيل آدم عليهم

__________________________________________________

(1) ص: 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 202

بأن علّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضها عليهم، فعجزوا عن أخرهم عن معرفتها، حتّى أنبأهم بها آدم بأمره سبحانه فاستحقّ بذلك الرّياسة العظمى و الخلافة الكبرى، و لو ساغت الخلافة للمفضول مع وجود الأفضل لم تتمّ الحجّة على الملائكة، و لما كان مساغ لقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» و قوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «2» فقد دلّت الآية على أنّه لا يجوز خلافة المفضول مع وجود الأفضل.

و هذه قضيّة كلّية كبرويّة، و أمّا الصغرى الّتي يثبت معها مذهب الاماميّة فهي أنّ عليّا عليه السّلام كان أفضل الصّحابة و أعلمهم، و قد أشار إليه سبحانه في

قوله: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «3»، وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «4»، هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «5»، و غيرها من الآيات المفسّرة بذلك من طرق الفريقين بل الاخبار النبويّة و غيرها به متواترة فمن طريق العامة «6».

عن موفق بن أحمد بالإسناد عن سلمان رضى اللّه عنه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال أعلم أمّتي من بعدي عليّ بن أبي طالب «7».

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) البقرة: 33.

(3) الرعد: 43.

(4) يس: 12.

(5) الزمر: 9.

(6) هو موفّق بن احمد الخوارزمي المعروف بأخطب خوارزم المتوفى (468) ه.

(7) المناقب للخوارزمي: ص 49 ط تبريز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 203

و في خبر آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: أقضى أمّتي عليّ بن أبي طالب «1».

و عن كتاب فضائل الصّحابة للسمعاني «2» بالإسناد عن ابن عباس قال: قال قال رسول اللّه (ص) علي اقضى أمّتي فمن احبني فليحبّه فان العبد لا ينال ولايتي إلّا بحبّ عليّ عليه السّلام «3».

و عنه بالإسناد عن عمر بن الخطّاب انّه قال: عليّ أقضانا «4».

و روى ابن أبي الحديد في «شرح النّهج» عن أبي نعيم الحافظ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أخصمك يا علي بالنّبوة فلا نبوّة بعدي و تخصم بسبع لا يجاحد فيها أحد من قريش أنت أوّلهم ايمانا و أوفاهم بعهد اللّه و أقومهم بأمر اللّه و أقسمهم بالسّوية و أعدلهم في الرعيّة و أبصرهم بالقضيّة و أعظمهم عند اللّه مزيّة «5».

و روى الفقيه ابن المغازلي الشّافعي في مناقبه بالإسناد عن ابن عباس قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل

بدرنوك من الجنّة فجلست عليه، فلمّا صرت بين يدي ربّي كلّمني و ناجاني فما علّمت شيئا إلّا علّمته عليّا فهو باب مدينة علمي، ثمّ دعاه إليه فقال: يا عليّ سلمك سلمي و حربك حربي و أنت العلم فيها بيني و بين أمّتي بعدي «6».

__________________________________________________

(1) المناقب: ص 48 ط تبريز.

(2) هو ابو المظفر منصور بن محمد السمعاني النيسابوري المتوفى (489) ه.

(3) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 336 ط مصر.

(4) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 336 ط مصر.

(5) حلية الأولياء لأبي نعيم: ج 1 ص 65 ط السعادة بمصر.

(6) احقاق الحق: ج 4 ص 258 عن المناقب لابن المغازلي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 204

و عن موفق بن أحمد بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، و إلى نوح في فهمه، و إلى يحيى في زهده، و إلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب «1».

و عنه بالإسناد عن الحارث الأعور صاحب راية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال:

بلغنا انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله كان في جمع من أصحابه فقال صلّى اللّه عليه و آله: أريكم آدم في علمه، و نوحا في فهمه، و إبراهيم في حكمته؟ فلم يكن بأسرع من أن طلع عليّ فقال أبو بكر يا رسول اللّه أقست رجلا بثلاثة من الرّسل بخّ بخّ بهذا الّرجل من هو يا رسول اللّه؟

قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أو لا تعرفه؟ قال: اللّه و رسوله أعلم قال صلّى اللّه عليه و آله: أبو الحسن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال أبو

بكر: بخّ بخّ لك يا أبا الحسن و أين مثلك يا أبا الحسن «2».

و عن عمر أنّه قال: العلم ستّة اسداس لعليّ من ذلك خمسة اسداس و للنّاس سدس و لقد شاركنا في السدس، حتّى لهو أعلم به منّا «3».

و عنه عن ابن المغازلي الشّافعي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال: قسّمت الحكمة على عشرة أجزاء فاعطي عليّ تسعة و الناس جزءا واحدا «4».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق العامة فضلا عن المأثورة من طرق الخاصّة و قد تواتر من طرق الفريقين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها «5».

__________________________________________________

(1) الاحقاق: ج 15 ص 620- عن المناقب للحيدرآبادي ص 49.

(2) أرجح المطالب للأمر تسري: ص 454 ط لاهور.

(3) بحار الأنوار: ج 40 ص 147 عن الأربعين للخطيب.

(4) الاحقاق ج 5 عن المناقب لابن المغازلي ص 517 و حليه الأولياء ج 1 ص 64.

(5) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 2 ص 276.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 205

و في أخبار كثيرة: انا مدينة الحكمة و عليّ بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها «1».

و انّ أقضاكم عليّ «2».

و من البيّن أنّ القضاء يحتاج إلى سائر العلوم.

ثمّ إنّه قد قال عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني، و لم يجسر أحد أن يقول ذلك غيره «3».

روى موفّق بن احمد بالإسناد عن سعيد بن المسيّب قال ما كان في أصحاب النّبي صلّى اللّه عليه و آله أحد يقول: سلوني غير عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «4».

و عنه عن الحمويني العاميين بالإسناد عن ابي سعيد البختري قال: رأيت

عليّا كرم اللّه وجهه و قد صعد المنبر بالكوفة و عليه مدرعة كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متجلّدا «5» بسيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متعمّما بعمامة رسول اللّه و في إصبعه خاتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقعد على المنبر فكشف عن بطنه و قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فانّما بين الجوانح منّي علم جمّ هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول اللّه هذا ما زقّني رسول

__________________________________________________

(1) امالي الطوسي: ص 308.

(2) بحار الأنوار: ج 40 ص 150.

(3) المناقب لأخطب خوارزم: ص 54 ط تبريز.

(4) المناقب لا خطب خوارزم: ص 54 ط تبريز.

(5) في المصدر: متقلّدا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 206

اللّه صلّى اللّه عليه و آله زقّا من غير وحي أوحي إليّ، فو اللّه لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم، و لأهل الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق اللّه التوراة و الإنجيل فيقولان: صدق عليّ قد افتاكم بما انزل فينا و أنتم تتلون الكتاب أ فلا تعقلون «1».

و روى الصدوق في أماليه ما يقرب منه و فيه سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين و الآخرين.

و قال ابن ابي الحديد في شرح النّهج أجمع الناس كلّهم على انّه لم يقل أحد من الصّحابة و لا أحد من العلماء: سلوني غير عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «2».

ثمّ انّه عليه السّلام قد ادّعى على ما تواتر عنه من طرق الفريقين انّه أعلم الأمّة و انّه عالم بجميع ما كان و ما يكون إلى يوم القيمة و انّ في صدره لعلما جمّا لا يصيب حمله و هو عليه السّلام صادق في دعواه.

بل قد تواترت

الاخبار رجوع ابي بكر و عمر و عثمان فضلا عن غيرهم إليه عليه السّلام في العلوم و القضايا و الاحكام بعد ظهور عجزهم و انقطاعهم حتّى قال عمر أزيد من سبعين مرّة لو لا عليّ لهلك عمر «3».

و عن مسند أحمد بن حنبل بالإسناد عن يحيى بن سعيد بن المسيّب كان عمر يتعوّذ باللّه عن معضلة ليس لها أبو الحسن «4».

__________________________________________________

(1) المناقب للخوارزمي: ص 55 ط تبريز و الحمويني في فرائد السمطين.

(2) شرح النهج: ج 2 ص 175 ط مصر.

(3) ملحقات الاحقاق: ج 8 ص 182- 192.

(4) ملحقات الاحقاق: ج 8 ص 193- 200.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 207

و روى موفّق بن أحمد انّ عمر أمر برجم حامل فزجره عليّ عليه السّلام فقال عمر:

عجزت النّساء أن يلدن مثل عليّ بن أبي طالب لو لا عليّ لهلك عمر «1».

و رووا عنه انّه قال: اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها أبو الحسن «2».

و في خبر آخر عليّ بن ابي طالب عليه السّلام و انّه قال: أعوذ باللّه من معضلة لا عليّ لها «3».

روى الحكم بن مروان: انّ عمر نزلت به نازلة فقام لها و قعد ارتجّ و تفطّر فقال لمن عنده معاشر الحاضرين: ما تقولون في هذا الأمر؟ فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع و الأمر بيدك، فغضب و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً «4» ثمّ قال: اما و اللّه إنّي و إيّاكم لنعلم أين نجدها و الخبير بها قالوا: كانّك أردت ابن أبي طالب عليه السّلام؟ قال: و أنّى يعدل به عنه، و هل طفحت حرّة بمثله؟ قالوا:

فلو دعوت به يا أمير المؤمنين قال: هيهات

إنّ هناك شمخا من هاشم و اثرة عن علم، و لحمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يؤتى و لا يأتي فامضوا بنا إليه فاقصدوا نحوه و افضوا إليه، فألفوه في حائط له، عليه تبّان «5» و هو يتركل على مسحاة و يقرأ: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً «6» إلى آخر السّورة، و دموعه تهمى على خدّيه، فادهش

__________________________________________________

(1) المناقب للخوارزمي: ص 48 ط تبريز.

(2) المناقب للخوارزمي: ص 58 ط تبريز.

(3) الفصول المهمّة لابن الصباغ المالكي ص 17.

(4) الأحزاب: 70.

(5) التبّان: سروال قصير الى ما فوق الركبة.

(6) القيامة: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 208

النّاس لبكائه فبكوا ثمّ سكت، فسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها فقال عمر: أما و اللّه لقد أرادك الحقّ و لكن أبى قومك، فقال: يا أبا حفص اخفض عليك من هنا و من هنا إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً «1» فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى و طرق إلى الأرض كانّما ينظر في رماد «2».

و قال ابن أبي الحديد: و أمّا عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه يعني عليّا عليه السّلام في كثير من المسائل الّتي أشكلت عليه و على غيره من الصّحابة، و قوله غير مرّة لو لا عليّ لهلك عمر، و قوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو حسن، و قوله: لا يفتين أحد في المسجد و عليّ حاضر.

إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المتواترة من طرق الفريقين الّتي قد أفردوها بالتّصنيف، بل حكاية أفضليّته عليه السّلام مسلّمة عند كثير من العامّة أيضا و حكاها الرازي في «أربعينه» عن اكثر متأخّري المعتزلة و حكى عن الشيعة الاستدلال

لها بوجوه أنهاها إلى عشرين قال في جملة ما ذكره:

الحجّة الثالثة أنّ عليّا أعلم الصحابة، و الأعلم أفضل، إنّما قلنا: إنّ عليّا أعلم للاجمال و التفصيل، أمّا الإجمال فهو انّه لا نزاع أنّ عليّا كان في اصل الخلقة في غاية الذّكاء و الفطنة و الاستعداد للعلم، و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل الفضلاء و أعلم العلماء، و كان عليّ عليه السّلام في غاية الحرص في طلب العلم، و كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله في غاية الحرص في تربية عليّ عليه السّلام، و إرشاده إلى اكتساب الفضائل، ثمّ انّ عليّا عليه السّلام كان من

__________________________________________________

(1) النبأ: 17.

(2) في البحار: ج 40 ص 122- 143 مع تفاوت يسير في العبارات، و في آخرها: فوضع عمر إحدى يديه على الآخر و خرج مربد اللون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 209

أوّل صغره في حجر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و في كبره صار ختنا له، و يدخل عليه في كلّ الأوقات، و من المعلوم أنّ التّلميذ إذا كان في غاية الذكاء و الحرص على التعلّم، و كان الأستاذ في غاية الفضل و الحرص على التعليم ثمّ اتّفق لمثل هذا التّلميذ أن اتّصل بخدمة هذا الأستاذ في زمان الصّغر كان ذلك الاتّصال بخدمته حاصلا في كلّ الأوقات، فانّه يبلغ ذلك التّلميذ في العلم مبلغا عظيما، و هذا بيان اجمالي في أنّ عليّا كان أعلم الصحابة، أمّا أبو بكر فانّه و إن اتّصل بخدمته صلّى اللّه عليه و آله في زمان الكبر و لكن ما كان يصل إلى خدمته في اليوم و اللّيلة إلّا زمانا يسيرا، أمّا عليّ عليه السّلام فانّه اتّصل بخدمته

عليه السّلام في زمان صغره، و قد قيل: العلم في الصغر كالنّقش في الحجر، و العلم في الكبر كالنقش في المدر، فثبت بما ذكرناه أنّ عليّا كان أعلم من أبي بكر، و يكفي في ذلك قوله: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها» «1» و قال عليّ عليه السّلام: علّمني ألف باب ينفتح من كلّ باب ألف باب «2».

و أمّا التّفصيل فيدلّ عليه وجوه:

الأوّل: اكثر المفسّرين سلّموا انّ قوله تعالى: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «3» نزل في حقّ عليّ عليه السّلام و تخصيصه بزيادة الفهم يدلّ على اختصاصه بمزيد العلم «4».

الثّاني: قوله صلّى اللّه عليه و آله: أقضاكم عليّ عليه السّلام «5» و القضاء يحتاج إلى جميع أنواع

__________________________________________________

(1) شرح النهج: ج 2 ص 276.

(2) بحار الأنوار: ج 40 ص 128.

(3) الحاقة: 12.

(4) بحار الأنوار: ج 35 ص 326.

(5) الإستيعاب ج 3 ص 38 هامش الإصابة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 210

العلوم، فلمّا رجّحه على الكلّ في القضاء لزم أرجحيّته عليهم في كلّ العلوم، و أمّا سائر الصّحابة فقد رجّح كلّ واحد منهم على غيره في علم واحد كقوله صلّى اللّه عليه و آله:

أفرضكم زيد و أقرأكم أبيّ «1».

الثّالث: دعوى انّ عمر أمر برجم امرأة ولدت لستّة أشهر فنبّهه عليّ عليه السّلام بقوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «2» مع قوله: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «3»، على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر فقال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر «4».

و روي أنّ امرأة أقرّت بالزّنا و كانت حاملا فأمر عمر برجمها فقال عليّ عليه السّلام إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها

فترك عمر رجمها فقال: لو لا عليّ لهلك عمر «5».

فان قيل: لعلّ عمر أمر برجمها من غير تفحّص عن حالها فظنّت أنّها ليست بحامل فلمّا نبّهه عليّ عليه السّلام ترك رجمها.

قلت: هذا يقتضي انّ عمر ما كان يحتاط في سفك الدّماء و هذا أشرّ من الأوّل.

و رووا أيضا انّ عمر قال يوما على المنبر ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فمن

__________________________________________________

(1) غاية النهاية: ج 1 ص 31.

(2) الأحقاف: 15.

(3) البقرة: 233.

(4) الاستيعاب المطبوع بذيل الإصابة: ج 3 ص 39 ط مصر.

(5) مطالب السؤل: ص 13 ط طهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 211

غالى في مهر امرأته جعلته في بيت المال فقامت عجوز فقالت يا عمر ا تمنع منّا ما جعل اللّه لنا قال اللّه تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «1»، فقال عمر كلّكم افقه من عمر حتّى المخدّرات في البيوت «2».

فهذه الوقائع وقعت لغير عليّ عليه السّلام و لم يتّفق مثلها لعليّ عليه السّلام.

الرّابع: نقل عن عليّ عليه السّلام انّه قال: و اللّه لو كسرت لي الوسادة ثمّ جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم و بين أهل الزّبور بزبورهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم و اللّه ما من آية نزلت في بحر و لا في برّ و لا في سهل و لا في جبل و لا في سماء و لا في أرض و لا في ليل و لا في نهار إلّا و انا اعلم فيمن نزلت و ايّ شي ء نزلت «3».

طعن أبو هاشم «4» في هذا فقال: التوراة منسوخة فكيف يجوز الحكم

بها؟

و الجواب عن وجوه:

الأوّل: لعلّ المراد شرح كمال علمه بتلك الأحكام المنسوخة على التفصيل بالاحكام النّاسخة لها الواردة في القرآن.

الثّاني: لعلّ المراد لو أنّ قضاة اليهود و النّصارى تمكّنوا من الحكم و القضاء على وفق أديانهم بعد بذل الجهد أو كان المراد انّه لو جاز للمسلم ذلك لكان هو

__________________________________________________

(1) النساء: 20.

(2) تفسير ابن كثير: ج 1 ص 478.

(3) احقاق الحق: ج 7 ص 589- 591، و ج 14 ص 312- 314.

(4) هو ابو هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي المعتزلي المتوفى ببغداد سنة (321) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 212

قادرا عليه.

الثالث: لعلّ المراد أن يستخرج من التوراة و الإنجيل نصوصا دالّة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كان ذلك قويّا في التمسّك بها.

الرابع: من تفحّص عن أحوال العلوم علم أنّ أعظمها علم الأصول و قد جاء في خطب أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام من أسرار التوحيد و العدل و النبوّة و القضاء و القدر و أحوال المعاد ما لم يأت في كلام سائر الصّحابة.

و أيضا فجميع فرق المتكلّمين ينتهي أخر نسبتهم في هذا العلم إليه عليه السّلام، أمّا المعتزلة فانّهم ينسبون أنفسهم اليه، و أمّا الأشعريّة فكلّهم ينسبون إلى الأشعري «1»، و هو كان تلميذا لأبي علي الجبّائي «2» المعتزلي، و هو منتسب إلى عليّ عليه السّلام، و أمّا الشّيعة فانتسابهم إليه ظاهر.

و أمّا الخوارج فهم مع غاية بعدهم عنه كلّهم ينتسبون إلى أكابرهم، و أولئك الأكابر كانوا كلّهم تلامذة عليّ عليه السّلام.

فثبت أنّ جمهور المتكلّمين من فرق الإسلام كلّهم تلامذة عليّ عليه السّلام، و أفضل فرق الأمّة الأصوليون، و كان هذا منصبا عظيما في الفضل.

و منها

علم التفسير و ابن عباس رئيس المفسّرين و هو كان تلميذ عليّ عليه السّلام.

و منها علم الفقه و كان فيه في الدّرجة العالية، و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله: أقضاكم عليّ «3».

__________________________________________________

(1) هو ابو الحسن علي بن إسماعيل الاشعري المتوفى «324» ه.

(2) هو ابو على محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المتوفى «303» ه.

(3) الاستيعاب هامش الإصابة ج 3 ص 38 و شرح النهج ج 2 ص 235.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 213

و قال عليه السّلام: لو كسرت لي الوسادة و جلست عليها لحكمت بين أهل التّوراة بتوراتهم «1»، الخبر.

و منها علم الفصاحة و معلوم أن أحدا من الفصحاء الّذين بعده لم يدركوا درجته و لا القليل من درجته.

و منها علم النّحو و معلوم انّه انّما ظهر منه و هو الّذي ارشد أبا الأسود «2» الدّؤلي إليه.

و منها علم تصفية الباطن و معلوم انّ نسب جميع الصوفيّة ينتهي إليه كما ذكر أنّ رئيسهم أبا يزيد «3» البسطامي كان سقّاء بباب جعفر الصّادق عليه السّلام، و انّ معروف «4» الكرخي الّذي هو أحد رؤسائهم كان بوّاب عليّ بن موسى عليها السّلام.

و منها علم الشجاعة و ممارسة المصلحة و معلوم انّ نسبة هذا العلم ينتهي إليه، فثبت بما ذكرناه انّه عليه السّلام كان أستاذ العالمين بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله في جميع الخصال المرضيّة و المقامات الشريفة، و إذا ثبت انّه كان أعلم الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجب أن يكون أفضل لقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «5»، و قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «6».

__________________________________________________

(1) ينابيع المودة: ص 70 و ص 220 ط اسلامبول.

(2) جواهر الفقه للقاضي ابن البراج ص 11، شرح أصول الكافي للمازندراني ج 2 ص 298.

(3) هو ابو يزيد طيفور بن عيسى الصوفي البسطامي المتوفى سنة «261» ه.

(4) هو ابو محفوظ المعروف بمعروف الكرخي توفي ببغداد سنة «200» ه.

(5) الزمر: 9.

(6) المجادلة: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 214

و بالجملة معلوم بالعقل و النقل كتابا و سنّة و اجماعا عدم مساواة العالم و غيره، و انّ العالم يقدّم في كلّ شي ء، و يدلّ عليه تفضيل آدم على الملائكة بعلم أسماء الأشياء، و ترجيح ملكيّة طالوت على غيره ممّن له شرف و فخر بأنّه من أولاد النّبي و أولاد الملوك، مع أنّه كان دبّاغا فانّ اللّه تعالى اخبر بأنّه الأحقّ لأنّه زاده بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ «1» اي القوّة و الشّجاعة ثمّ ساق الكلام في الوجوه الدّالة على أفضليّة مولانا أمير المؤمنين و أنهاها إلى عشرين ثمّ ساق الكلام في الجواب عنها بزعمه و زعم أصحابه إلى أن قال:

و أمّا الحجّة الثالثة و هي أنّ عليّا عليه السّلام كان أعلم، قلنا لم لا يجوز أن حصلت هذه الكثرة بعد ابي بكر و ذلك لأنّه عاش بعده زمانا طويلا فلعلّه حصّلها في هذه المدّة فلم قلتم انّه في زمان حياة ابي بكر كان أعلم منه هذا كلامه.

و هذا الجواب كما ترى بمكان من الضّعف و القصور، و ذلك لأنّه مقتضى ما ذكره من الأدلّة فضلا عمّا لم يذكره أنّه عليه السّلام كان أعلم الصحابة بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله، بل و في زمان حياته ايضا، كما يدلّ

عليه ما ذكره من الدّليل الاجمالي بل و كثير من ادلّته التفصليّة كنزول قوله: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «2» في حقّه، و النّبوي: أقضاكم عليّ «3»، و الآخر: انا مدينة العلم و عليّ بابها «4»، و ما رواه عنه عليه السّلام من قوله: علّمني رسول اللّه ألف باب «5»، آه و غير ذلك ممّا ينادي بأفضليّته على كلّ الأمّة و لو في

__________________________________________________

(1) البقرة: 247.

(2) الحاقة: 12.

(3) الاستيعاب: ج 3 ص 38.

(4) الجامع الصغير للسيوطي: ج 1 ص 374.

(5) البحار: ج 40 باب 93.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 215

زمان النّبي.

ثمّ على فرض تسليم تحصيل تلك العلوم بعد أبي بكر فلا شكّ انّه عليه السّلام كان في زمن عمر و عثمان أفضل منهما كما يومئ إليه ما حكاه من وقائع عمر و خطائه و إقراره على نفسه بالجهل و قوله: لو لا عليّ لهلك عمر «1» في مواقع كثيرة فكيف يقدّمان عليه باعتقاده، و لعمري إنّ صدور مثل هذا الجواب بعد ما مرّ عنه من بيان الأعلميّة من أطرف الغرائب، و لو لا أنّه كان معلوما منه بقاؤه على عماه و انحرافه عن الحقّ و إيمانه بالجبت و الطاغوت لكان يقوي الظّن بأنّ مثل هذا الكلام لا يصدر إلّا عن محقّ تلبّس بلباس أهل الباطل خوفا و تقيّة، ثمّ قرّر الحقّ على وجهه من غير أن يأتي عنه بجواب مشبع تشييدا للحن و اهله و تزييفا للباطل و حزبه، و لكنّهم جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «2» و هو أنّه سبحانه قد أجرى الحقّ على ألسنتهم و أقلامهم حجّة عليهم و ردعا لغيرهم من متابعتهم بعد أن

هداهم اللّه سبحانه فاستحبّوا العمى على الهدى، فجرت على منهاجهم اتباعهم أولئك الّذين لعنهم اللّه فأضلّهم و أعمى أبصارهم.

رابعها: انّه لا بدّ من عصمة الخليفة و طهارته عن لوث المعاصي و براءته عن اقتراف الذّنوب لما قيل: من أنّه يستدلّ بالخليفة على المستخلف كما جرت به العادة في العامّة و الخاصة لقضاء العرف بأنّه متى استخلف ملك خليفة فان كان

__________________________________________________

(1) مطالب السؤل: ص 13 ط طهران.

(2) النمل: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 216

الخليفة ظالما استدلّ بظلمه على ظلم مستخلفه، و إذا كان عادلا استدلّ بعدله على عدل مستخلفه، سيّما مع علم المستخلف و اطّلاعه بما يصدر عن خليفته من الأفعال و الآثار و علمه بعواقب أموره و قدرته عليه في جميع الأحوال.

و من هنا يظهر انّ خلافة اللّه سبحانه توجب العصمة فلا يكون الخليفة إلّا معصوما سيّما مع جعله علما بين الناس و أمرهم بالاقتداء و التأسّي به في جميع الأفعال و الأقوال، فإذا صدر عنه بعض المعاصي و لو خطأ فإمّا أن تكون الخلافة الكلّيّة الّتي جعلها اللّه له باقية بالنّسبة إلى تلك المعصية ايضا أو لا، فعلى الأوّل يلزم الأمر بالمنكر و نقض الغرض و الإغراء على المعاصي، و غير ذلك من المفاسد المخالفة للطفه سبحانه، و على الثّاني يلزم انتفاء الخلافة له بالنسبة إلى ذلك من دون إعلام و بيان من الآمر الحكيم و فيه مع مخالفته للّلطف انّه إغراء بالجهل و تأخير للبيان عن وقت الحاجة مع طريان الاحتمال في كلّ واحد من الأقوال و الأفعال الموجب للقدح في اطلاق وجوب الطّاعة فيكون إطلاق الأمر باطاعته جاريا مجرى العمومات المخصّصة بالمجملات في عدم الحجيّة رأسا.

ثمّ انّ هذا

الوجه و ان لم يستفد من الآية على وجه الإلزام و الحجّيّة إلّا أنّه يستفاد منها على وجه الإشارة على بعض الوجوه المقرّرة في الآية باعتبار معنى الخلافة و غيرها لكنّه لا بأس به بعد استفادته من تسميته هدى في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «1» على أحد الوجوه، و من قوله: لا يَنالُ عَهْدِي

__________________________________________________

(1) البقرة: 38.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 217

الظَّالِمِينَ «1» على ما يأتي، و من القواطع العقليّة الّتي ستسمع الكلام في بعضها إنشاء اللّه.

خامسها: ما ذكره الصّدوق بعد الإشارة إلى بعض ما مرّ من أنّ في قوله عزّ و جلّ: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2» حجّة قوية على غيبة الامام عليه السّلام، و ذلك أنّه عزّ و جلّ لما قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أوجب بهذا اللفظ معنى، و هو أن يعتقدوا طاعته، فاعتقد عدو اللّه إبليس بهذه الكلمة نفاقا و أضمره حتّى صار به منافقا، و ذلك انّه أضمر أن يخالفه متى أستعبد بالطاعة له، فكان نفاقه أنكر النّفاق، لأنّه نفاق بظهر الغيب، و لهذا صار أخزى المنافقين كلّهم، و لمّا عرّف اللّه عزّ و جلّ لملائكته ذلك أضمروا الطاعة له، و اشتاقوا إليه، و أضمروا نقيض ما أضمره الشيطان، فصار لهم من الرتبة عشرة أضعاف ما استحقّ عدوّ اللّه من الخزي و الخسارة، و الطاعة و الموالاة بظهر الغيب ابلغ في الثواب و المدح لأنّه أبعد من الشبهة و المغالطة.

و لذا روي عن الصادق عليه السّلام: من دعا لأخيه بظهر الغيب و كلّ اللّه به ملكا يقول:

و لك مثلاه «3».

و انّ اللّه تبارك و تعالى أكّد دينه بالإيمان بالغيب، فقال:

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «4» الآية، فالإيمان بالغيب أعظم مثوبة لصاحبه، لأنّه خلو من كلّ

__________________________________________________

(1) البقرة: 124.

(2) البقرة: 30.

(3) الاختصاص: ص 84.

(4) البقرة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 218

عيب و ريب، لأنّ بيعة الخليفة وقت المشاهدة قد يتوهّم على المبايع أنّه انّما يطيع رغبة في خير أو مال أو رهبة من قتل او غير ذلك، ممّا هو عادات أبناء الدنيا في طاعة ملوكهم، و ايمان الغيب مأمون من ذلك كلّه، و محروس من معايبه بأصله.

و يدلّ على ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1»، فلما حصل للتعبّد ما حصل من الايمان لم يحرم اللّه عزّ و جلّ ذلك لملائكته، فقد جاء في الخبر انّ اللّه سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام، و كان يحصل في هذه المدّة الطاعة لملائكة اللّه على قدرها.

و لو أنكر منكر هذا الخبر و الوقت و الأعوام لم يجد بدّا من القول بالغيبة و لو ساعة واحدة، و الساعة الواحدة لا تتعرّى من حكمة مّا، و ما حصل من الحكمة في الساعة حصل في الساعتين حكمتان، و في الساعات حكم و ما زاد في الوقت إلّا زاد في المثوبة، و ما زاد في المثوبة إلّا كشف اللّه عن الرحمة، و دل على الجلالة فصح الخبر ان فيه تأييد الحكمة و تبليغ الحجّة.

ثمّ انّ الغيبة قبل الوجود أبلغ الغيبات كلّها، و ذلك انّ الملائكة ما شهدوا قبل ذلك خليفة قطّ، و امّا نحن فقد شاهدنا خلفاء كثيرين غير واحد، و قد

نطق به القرآن، و تواترت به الأخبار حتّى صارت كالمشاهدة، و الملائكة لم يعهدوا واحدا منهم فكانت تلك الغيبة ابلغ، و ايضا انّها كانت غيبة من اللّه عزّ و جلّ لملائكته، و هذه الغيبة الّتي للإمام عليه السّلام هي من اعداء اللّه، فإذا كان في الغيبة الّتي هي من اللّه عزّ و جلّ عبادة

__________________________________________________

(1) المؤمن: 84.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 219

لملائكته، فما الظّن بالغيبة الّتي هي من أعداء اللّه، و في غيبة الامام صلوات اللّه عليه عبادة ملخصة لم تكن في تلك الغيبة، و ذلك أنّ الامام الغائب صلوات اللّه عليه مقموع مقهور مزاحم في حقّه قد غلب قهرا و جرى على شيعته قسرا من أعداء اللّه ما جرى من سفك الدّماء و نهب الأموال، و إبطال الاحكام، و الجور على الأيتام، و تبديل الصّدقات، و غير ذلك ممّا لا خفاء به، و من اعتقد موالاته شاركه في اجره و جهاده، و تبرّأ من أعدائه و كان له في براءة مواليه من أعدائه اجر، و في ولاية أوليائه اجر يربو على أجر ملائكة اللّه عزّ و جلّ على الايمان بالإمام المغيب في العدم، و إنّما قصّ اللّه نبأه قبل وجوده (توقيرا) و تعظيما ليستعدّ له الملائكة و يتشمّروا لطاعته.

و إنّما مثال ذلك تقديم الملك فيما بيننا بكتاب أو رسول إلى أوليائه أنّه قادم عليهم حتّى يتهيّئوا لاستقباله و ارتياد الهدايا له ما يقطع به، و معه عذرهم في تقصير إن قصّروا في خدمته، كذلك بدأ اللّه عزّ و جلّ بذكر نبأه إبانة عن جلالته و رتبته، و كذلك قضيته في السلف و الخلف ما قبض اللّه خليفة إلّا عرّف خلقه الخليفة الّذي يتلوه،

و تصديق ذلك قوله عزّ و جل أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ «1» الآية، فالّذي على بيّنة من ربّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الشاهد الّذي يتلوه عليّ بن ابي طالب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، و يدلّ عليه قوله عزّ و جلّ: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً* «2»، و الكلمة من كتاب موسى المحاذية لهذا المعنى حدو النعل بالنعل

__________________________________________________

(1) هود: 17.

(2) هود: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 220

و القذّة بالقذّة قوله: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «1»، و استعبد اللّه عزّ و جلّ الملائكة بالسجود لآدم تعظيما له لما غيّبه عن أبصارهم، و ذلك انّه عزّ و جلّ إنّما أمرهم بالسجود لآدم لما أودع صلبه من أرواح حجج اللّه تعالى ذكره، فكان ذلك السجود للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم طاعة، و لما في صلبه تعظيما، فأبى إبليس أن يسجد لآدم حسدا له، إذ جعل صلبه مستودع أرواح حجج اللّه دون صلبه، فكفر بحسده و تأبّيه، و فسق عن امر ربّه، و طرد عن جواره، و لعن و سمّي رجيما لأجل إنكاره للغيبة لأنّه احتجّ في امتناعه من السجود لآدم بان قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* «2» فجحد ما غيّب عن بصره، و لم يوقع التصديق به، و احتجّ بالظاهر الّذي شاهده و هو جسد آدم عليه السّلام، و أنكر أن يكون يعلم لما في صلبه وجودا، و لم

يؤمن بان آدم عليه السّلام إنّما جعل قبلة للملائكة و أمر بالسجود له لتعظيم ما في صلبه.

فمثل من آمن بالقائم صلوات اللّه عليه في غيبته مثل الملائكة الّذين اطاعوا اللّه عزّ و جلّ في السجود لآدم و مثل من أنكر القائم صلوات اللّه عليه في غيبته مثل إبليس في امتناعه عن السجود لآدم كذلك.

روى عن الصادق جعفر بن محمّد صلوات اللّه عليهما.

و عنه عليه السّلام قال: انّ اللّه تبارك و تعالى علّم آدم عليه السّلام، اسماء حجج اللّه كلّها ثمّ

__________________________________________________

(1) الأعراف: 142.

(2) الأعراف: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 221

عرضهم- و هم أرواح- على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم و تقديسكم من آدم عليه السّلام قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال اللّه تبارك و تعالى يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وقفوا على عظيم منزلتهم عند اللّه تعالى ذكره فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء اللّه في ارضه و حججه على بريّته، ثمّ غيّبهم عن أبصارهم و استعبدهم بولايتهم و محبّتهم و قال لهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «1».

و هذا استعباد اللّه عزّ و جلّ للملائكة بالغيبة، و الآية أوّلها في قصّة الخليفة، و إذا كان اخرها مثلها كان للكلام و في النظم حجّة، و منه يوجد وجه الإجماع لأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أوّلهم و آخرهم، و ذلك انّه سبحانه إذا علّم آدم الأسماء كلّها على ما قاله المخالفون، فلا محالة انّ اسماء الأئمّة صلوات اللّه عليهم داخلة

في تلك الجملة، فصار ما قلناه في ذلك بإجماع الأمّة، و من أصحّ الدّليل عليه انّه لا محالة لمّا دلّ الملائكة على السجود لآدم فانّه حصل لهم عبادة، و لمّا حصل لهم عبادة أوجب باب الحكمة ان يحصل لهم ما هو في حيّزه، سواء كان في وقت او في غير وقت، فانّ الأوقات ما تغيّر الحكمة و لا تبدل الحجّة، اوّلها كآخرها و اخرها كأوّلها، لا يجوز في حكمة اللّه ان يحرمهم معنى من معاني المثوبة، و لا أن يبخل بفضل من فضائل الأئمّة لأنّهم كلّهم شرع واحد، دليل ذلك أنّ الرسل متى آمن مؤمن بواحد منهم او بجماعة و أنكر واحدا منهم لم يقبل منه إيمانه، كذلك القضيّة في الأئمّة صلوات اللّه عليهم اوّلهم

__________________________________________________

(1) كمال الدين: ص 9- 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 222

و آخرهم واحد.

قال الصادق عليه السّلام: المنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، و قد قال صلوات اللّه عليه:

من أنكر واحدا من الأحياء فقد أنكر الأموات «1».

فصحّ أن قوله عزّ و جلّ: عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أراد به اسماء الأئمّة صلوات اللّه عليهم و للأسماء معان كثيرة ليس أحد معانيها بأولى من الآخر، و الأسماء أوصاف، و ليس أحد الأوصاف بأولى من الاخر، فمعنى الأسماء انّه سبحانه علّم آدم عليه السّلام أوصاف الأئمّة كلّها أوّلها و أخرها، و من اوصافهم العلم و الحلم و التقوى و الفتوة و الشجاعة و العصمة و السخاء و الوفاء، و قد نطق بمثله كتاب اللّه عزّ و جلّ في أسماء الأنبياء عليهم السّلام كقوله عزّ و جلّ: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا «2»، و اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ

الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا «3»، وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «4»، وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا «5»، الآيات فوصف الرسل عليهم السّلام، و حمدهم بما كان فيهم من الشيم المرضيّة و الأخلاق الزكية، و كان ذلك اوصافهم و أسماؤهم كذلك علّم اللّه عزّ و جلّ آدم الأسماء كلّها.

__________________________________________________

(1) كمال الدين: ج 2 ص 228.

(2) مريم: 41.

(3) مريم: 54- 55.

(4) مريم: 56- 57.

(5) مريم: 51.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 223

و الحكمة في ذلك أنّه لا وصول إلى الأسماء و وجوه الاستعبادات الّا من طريق السماع، و العقل غير متوجّه إلى ذلك، لأنّه لو أبصر عاقل شخصا من بعيد او قريب لما توصّل إلى استخراج اسمه، و لا سبيل إليه إلّا من طريق السّماع، فجعل اللّه عزّ و جلّ العمدة في باب الخليفة السّماع، و لمّا كان كذلك أبطل به باب الاختيار، إذ الاختيار من طريق الآراء، و قضية الخليفة موضوعة على الأسماء و الأسماء موضوعة على السّماع، فصحّ به، و معه مذهبنا من أنّ الامامة لا تكون إلّا بالنّص و الإشارة، فأمّا باب الإشارة فمضمر في قوله عزّ و جلّ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فباب العرض مبنيّ على الشخص و الإشارة، و باب الاسم مبنيّ على السمع، فصح معنى الإشارة و النصّ جميعا، و للعرض الذي قال اللّه تعالى ثمّ عرضهم على الملائكة معنيان: أحدهما عرض اشخاصهم و هيئاتهم كما روينا في أخبار أخذ الميثاق و الذّر، و الوجه الاخر أن يكون

عزّ و جلّ عرضهم على الملائكة من طريق الصفة و النّسبة، كما يقوله قوم من مخالفينا فمن كلا المعنيين يحصل استعباد اللّه عزّ و جلّ الملائكة بالإيمان بالغيبة «1» انتهى كلامه زيد مقامه.

الثالث: انّه يستفاد من قوله سبحانه: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها انّ واضع اللّغات هو اللّه سبحانه كما استدلّ به عليه و ذلك لأنّ المراد بالأسماء امّا بالألفاظ الدّالة على المسمّيات، أو الأشياء الّدالة مطلقا أو البعض من أحدهما او كليهما، و الأخيران مدفوعان بظهور الجمع المحلّى في العموم، سيّما مع تأكيده بلفظ الكلّ الصّريح في افادة العموم، مضافا إلى عدم القول بالفصل بين البعض و الكلّ، و على

__________________________________________________

(1) كمال الدين: ج 1 ص 11- 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 224

الأولين يثبت المطلوب، و المراد بتعليمها على ما هو ظاهر اللفظ إلقاؤها على المتعلّم مبيّنا له معانيها، كما هو ظاهر تعليم الاسم على صفة الاسميّة، و لا يصدق ذلك إلّا مع سبق وضعها لمعانيها، فإمّا أن يكون صادرا منه سبحانه و هو المطلوب، او من الخلق الّذين كانوا قبل آدم، و هو منفي بالأصل.

و توهّم أنّ المراد بالأسماء ما يقابل الأفعال و الحروف مدفوع، مع الغضّ عن عدم القول بالفصل كما صرّح به جماعة، و عن توقّف الإفادة و الاستفادة منها على معرفة معانيها ايضا على ما قيل: بانّه اصطلاح خاصّ حادث لا يحمل عموم الخطابات الشرعيّة عليه، بل المراد به إمّا المعنى اللغوي، و هو مطلق العلامة الشامل للافعال و الحروف ايضا لكونها علامات على معانيها، او المعنى العرفي العام و هو مطلق اللفظ الموضوع على ما قيل.

فان قلت: إنّ المراد بالأسماء الصفات و العلامات، مثل كون الفرس صالحا

للرّكوب، و الثور للحرث و الجمل للحمل، إذ كلّ ما يميز الشي ء فهو اسم، و حينئذ يمكن أن يكون تعريفها بخلق علم ضروري من غير توسّط الألفاظ، و أمّا تخصيص الاسم بخصوص الألفاظ فإنّما هو اصطلاح طار، سلّمنا لكنّ المراد بالتعليم الإلهام و بعث العزم و الإقدار على الوضع بخلق الأدوات و المشاعر و الإرادات و العلوم المحتاج إليها، و انّما نسب التعليم إليه سبحانه لأنّه الهادي إليه، فهو تعليم تكويني الهامي كما في قوله: وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ «1» اي الهمناه.

قلت: تخصيصه بالصفات ممّا لا وجه له بعد دلالة اللفظ على العموم و فقد

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 225

المخصّص، مع أنّ الصفات متشابهة، و لا يكاد يحصل التّمييز التّام بمجرّدها، مع أنّ التعبير عنها أيضا لا يكون إلّا بالأسماء اللفظيّة.

و احتمال كون تعريفها بخلق علم ضروري مع مخالفته للظّاهر مدفوع بأنّ المعلوم حينئذ إمّا الذّوات أو ما يدلّ عليها من صور الصفات او الألفاظ او كلّ منها و الأوّل مدفوع بظاهر قوله: بأسماء هؤلاء و قوله: بأسمائهم و الثاني تخصيص من غير مخصّص، و الأخيران يثبت معهما المطلوب و ارتسام صور الألفاظ عن الذّهن و ان لم يتوقّف على الألفاظ الفعلية المسموعيّة لكنّه دليل على سبق الوضع.

و امّا حمل التعليم على بعث العزم و الإقدار على التعليم فمخالف للظاهر الذي هو الحجّة، مضافا إلى مخالفته للاخبار المفسّرة للآية على ما مرّ كما أنّ الظاهر أيضا هو الدّافع لاحتمال ما يقال من أنّه كشف عليه ما يحدثه ذرّيته من اللّغات المختلفة و الأوضاع الطارية من دون أن يكون هناك لفظ أو صوت أو وضع سابق.

و امّا ما يقال من أنّ

الآية لا تشمل اللّغة العربيّة لما اشتهر من انتسابها إلى يعرب بن قحطان و لذا قيل: إنّه اوّل من تكلّم بالعربيّة «1» أو إلى إسماعيل الذّبيح على نبيّنا و آله و عليه السّلام «2» و لذا قيل: إنّ العرب من ولده.

ففيه أنّه مع فرض تحقّق الشهرة على أحد الوجهين لا عبرة بها أصلا، بل هو من المشهور الّذي لا أصل له، و لذا قيل إنّ الحميريين و العمالقة و جرهم و قوم ثمود و عاد كلّهم كانوا من العرب، و قد كانوا قبل إسماعيل بمدّة متطاوله.

__________________________________________________

(1) البحار: ج 51 ص 290.

(2) المزهّر للسيوطي: ص 28- و مجمع البيان ج 1 ص 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 226

و روى شيخنا الطبرسي في المجمع عن الصادق عليه السّلام قال: كان هود و صالح و شعيب و إسماعيل و نبيّنا يتكلّمون بالعربيّة «1».

بل قد ورد في الأخبار أيضا انّ اوّل من تكلّم بالعربيّة آدم عليه السّلام.

و في العلل عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: ما أنزل اللّه تبارك و تعالى كتابا و لا وحيا إلّا بالعربيّة، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم، و كان يقع في مسامع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله بالعربيّة، فإذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامعهم بلسانهم، و كان أحد لا يخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايّ لسان خاطبه إلّا وقع في مسامعه بالعربيّة، كلّ ذلك يترجم جبرئيل عنه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و فيه دلالة واضحة على سبق الوضع بل و كونه منه تعالى و في «العيون» و «الاحتجاج» عن الّرضا عليه السّلام في خبر عمران الصّابي انّه قال:

و اعلم أنّ الإبداع و المشيّة و الارادة معناها واحد و اسماؤها ثلاثة، و كان أوّل ابداعه و ارادته و مشيّته الحروف الّتي جعلها أصلا لكلّ شي ء، و دليلا على كلّ مدرك، و فاصلا لكلّ مشكل، و بتلك الحروف تفريق كلّ شي ء من اسم حق أو باطل، او فعل أو مفعول، او معنى او غير معنى، و عليها اجتمعت الأمور كلّها، و لم يجعل للحروف في ابداعه لها معنى غير أنفسها يتناها، و النّور في هذا الموضع اوّل فعل اللّه تعالى الّذي هو نور السموات و الأرض، و الحروف هو المفعول بذلك الفعل، و هو الحروف الّتي عليها الكلام، و العبارات كلّها من اللّه عزّ و جلّ علّمها خلقه، و هي ثلاثة و ثلاثون حرفا، فمنها ثمانية

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10 ص 80 و ج 11 ص 36.

(2) علل الشرائع: ص 53 و عنه البحار ج 16 ص 134.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 227

و عشرون حرفا تدلّ على لغات العربيّة، و من الثمانية و عشرين اثنان و عشرون تدلّ على لغات العبرانيّة و السّريانيّة «1»، الخبر بطوله.

فصرّح أوّلا بأنّ الحروف كلّها من إبداعه، بل ذكر انّه أوّل ابداعه، ثمّ قال: إنّ العبارات كلّها من اللّه عزّ و جلّ علّمها خلقه، و هو ظاهر في المطلوب، بناء على أنّ المقصود منها هي الكلمات المؤلّفة من الحروف المعبّرة بها عن المقاصد، و لذا عبّر عنها بالعبارات، هذا مضافا إلى الأخبار الكثيرة المتقدّمة في تفسير الآية الدّالة على أنّ المراد بالأسماء اسماء الجبال و البحار و الأودية و النبات و الحيوان و البساط و غيرها بل في بعضها انّه علّمه اسماء كلّ شي ء.

و في حديث

الشفاعة: فيأتون آدم عليه السّلام فيقولون أنت أب الناس، خلقك اللّه بيده و أسجد لك ملائكته و علّمك أسماء كلّ شي ء «2».

و في القصص عن أبي جعفر عليه السّلام: انّ آدم لما هبط عليه ملك الموت قال: قال أشهد أن لا اله إلّا اللّه إلى قوله: و اسجد لي ملائكته، و علّمني الأسماء كلّها. «3» الخبر قيل و يشهد له ما اشتهر من أنّ اللّه تعالى أنزل على آدم عليه السّلام حروف المعجم في احدى و عشرين صحيفة و هو اوّل كتاب انزل إلى الدّنيا و فيه ألف لغة و انّه تعالى علّمه جميع تلك اللّغات «4».

و ما ذكره المفسّرون من أنّه علّمه اسم كلّ شي ء حتّى القصعة و القصيعة بجميع

__________________________________________________

(1) عيون الأخبار: ص 87- 100 و عنه البحار ج 10 ص 314.

(2) بحار الأنوار: ج 8 ص 45.

(3) البحار: ج 11 ص 265.

(4) سيأتي عن سعد السعود ص 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 228

اللّغات الّتي تكلّم بها ولده.

و لعلّ السبب في اختلاف ذريّته فيها بعد علمه عليه السّلام باللّغات كلّها انّه عليه السّلام علّم كلّ واحد من ولده لغة واحدة ثمّ بقيت تلك اللّغة في أعقابه او انّه علّم ولده باللّغات فكانوا يتكلّمون بها مدّة حياته حين كانوا مجتمعين فلمّا قبض تفرّقوا في نواحي الأرض و تكلّم كلّ منهم بلغة اختارها من بين اللّغات على حسب الطبع و الميل و الإقليم كما لا يخفى المناسبة بين اللّغات و أهلها، على أنّ التكلّم بلغة واحدة أسهل من التكلّم بلغات مختلفة، فغلبت على أولاده تلك اللّغة حتّى إذا انقرض القرن الأوّل منهم نسوا سائر اللغات، فصار كلّ فريق منهم يتكلّم

باللسان الغالب على أبيه.

و عن السيّد في سعد السعود قال: وجدت في صحف إدريس النّبي عليه السّلام عند ذكر احوال آدم ما هذا لفظه: حتّى إذا كان الثلث الأخير من اللّيل ليلة الجمعة لسبع و عشرين خلت من شهر رمضان انزل اللّه عليه كتابا بالسّريانيّة و قطع الحروف في احدى و عشرين ورقة و هو أوّل كتاب أنزل اللّه في الدّنيا أنزل اللّه عليه الألسن كلّها فكان فيه ألف ألف لسان لا يفهم فيه أهل لسان عن أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم فيه دلائل اللّه و فروضه و أحكامه و شرايعه و سننه و حدوده «1».

و في محاضرة الأوائل عن مزهّر اللّغة للسيوطي: انّ اللسان الأوّل الّذي نزل به آدم من الجنّة عربي إلى أن بعد و طال العهد حرّف و صار سريانيّا، و هو منسوب إلى أرض سورى «2» و هي ارض الجزيرة كان بها نوح عليه السّلام و قومه قبل الغرق، و كان

__________________________________________________

(1) سعد السعود للسيد ابن طاوس ص 37.

(2) سورى كطوبى: موضع بالعراق و هو من بلد السريانيّين كما في القاموس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 229

يشاكل اللسان العربي، إلّا أنّه محرّف، و كان لسان جميع من في سفينة نوح عليه السّلام، إلّا رجلا واحدا يقال له جرهم، فكان لسانه لسان العربي الأوّل، فلمّا خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته فمنهم انتشر اللسان العربي الاول في ولده:

عوص أبي عاد، و عبيل و جائر أبي ثمود و جديس و سمّيت عاد باسم جرهم لأنه كان جدهم من الأم، و بقي اللّسان السّرياني في ولد ارفخشذ بن سام، إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذرّيّته،

و كان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منهم بنو قحطان اللسان العربي.

و قال ابن دحية: العرب اقسام الأول عاربة و عرباء، و هم الخلّص من العرب و هم تسع قبائل، من ولد إرم بن سام بن نوح عليه السّلام، و هي عاد و ثمود و عميم و عبيل، و طسيم، و جديس، و عمليق و وبار، و جرهم الّتي نشأ إسماعيل فيهم و تزوج منهم حين نزلوا عليه بمكّة شرفها اللّه تعالى ظاعنين من اليمن إلى الشام.

و القسم الثّاني من العرب المتعرّبة و هم الّذين ليسوا بخلّص و هم بنو قحطان.

و القسم الثالث المستعربة و هم الّذين ليسوا بخلّص أيضا، و هم بنو إسماعيل، و هم ولد معدّ بن عدنان بن أدد.

ثمّ حكى عن ابن دريد «1» في «الجمهرة»: انّ العرب العاربة سبع قبائل: عاد، و ثمود، و عمليق، و طسيم، و جديس، و أميم و جاسم، و قد انقرض أكثرهم إلّا بقايا متفرّقين في القبائل «2».

__________________________________________________

(1) ابن دريد: محمد بن الحسن البصري الأديب اللغوي المتوفى (321) ه.

(2) المزهر: ج 1 ص 30- 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 230

و عن السيوطي: انّه لا خلاف بين الأمّة انّ لسان عاد و ثمود و نوح و صالح و شعيب و مدين عربي.

ثمّ انّه قد يستدلّ على ذلك ايضا بقوله تعالى: وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ «1»، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «2»، و عَلَّمَهُ الْبَيانَ «3»، و إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ «4»، و ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «5»، تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «6».

و بعدم إمكان ذلك للقوى البشريّة فانّ هذا الإبداع البديع الغير المسبوق إلى مثال مع غاية

الإتقان و الإحكام، و عدم اشتماله على تناقض و نقصان، و احاطته على جميع المعاني و البيانات على أحسن وجه و ابلغ نظام و على فنون لا تحصى عجائبها و لا يحيطها علم أحد و لو بمرور الدّهور و الأعوام، خارج عن طور أفعال البشر بحيث يقطع المتأمّل فيها و في وضعها بحيث تصلح لبيانات المقاصد الغير المتناهية و العلوم الّتي لم يحط الأفكار، و لم يصل إليها الأنظار، إنّ اللّه سبحانه هو الّذي وضعها و رتّبها و بيّنها، و علّمها خلقه، و منّ بها عليهم كما يستفاد من الأخبار

__________________________________________________

(1) الروم: 22.

(2) العلق: 5.

(3) الرحمن: 4.

(4) النجم: 23.

(5) الانعام: 38.

(6) النحل: 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 231

المفسّرة للآيات المتقدّمة بل و منها أيضا.

و بأنّها لو لم تكن توقيفيّة لكانت اصطلاحيّا و التّالي باطل لافتقار تعريف الاصطلاح إلى مثله فامّا أن يرجع في تعريف كلّ منها إلى الاخر لزم الدور أولا فالتّسلسل.

و بأنّها لو كانت اصطلاحيّة لجاز تغيير ذلك الاصطلاح الأوّل و تبديله، فيجوز أن يراد بالصّلاة و غيرها من الموضوعات المستنبطة في هذا الزمان غير ما يراد منها في الزمن الشارع فيرتفع الوثوق عن الاخبار الشرعيّة و يسقط الاستدلال بها رأسا.

و بقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ «1»، و غيرها من الآيات المتناولة بعمومها ما نحن فيه، خرج منه ما علم بالدّليل استناده إلى العباد من أفعالهم و صنايعهم و أعمالهم بحمل الخلق فيها على خلق الأسباب و الآلات الظّاهرة و القوى الباطنة و الإلهامات و الارشادات و أمثال ذلك ممّا قام الدّليل الشّرعي و العقلي و الوجداني على إخراجه من ظاهر ذلك العموم، و بقي الباقي

مقهورا تحت سلطنة الواحد القهّار.

و في الكلّ نظر لضعف الاستدلال بالآيات بما ستسمعها عند التّعرض لتفسيرها تقريبا و ردّا، و ضعف الثاني بأنّه يمكن أن يكون البشر قد وضعوها و عيّنوها بقوّة إلهيّة و الهامات ربّانيّة بعد تعليمه سبحانه أصول الكلمات، و هي الحروف الّتي عليها المدار في جميع اللّغات.

كما روى أبو ذر عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله إنّ الكتاب الّذي انزل اللّه على آدم هو كتاب

__________________________________________________

(1) الرعد: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 232

المعجم و هو ا ب ث، الخبر على ما مرّ في تفسير آلم.

و ليس ذلك ببدع منهم بعد تلقين العلوم و إفاضة القوى كما أنّهم قد استنبطوا فنون العلوم و خواص الأجسام و الصنائع الغريبة و الآثار العجيبة بافكارهم و قواهم المفاضة لهم من اللّه سبحانه بعد إعطاء الأصول و افاضة القوى و التمكين من الأسباب.

و الثالث: بجواز أن يكون الإفهام في بدو الاصطلاح بالإشارة و الترديد بالقرائن و غيرهما كما يتعلّم الأطفال اللّغات في مبادي شعورهم و ادراكاتهم بالنظر إلى استعمال المستعملين.

و توهّم الفرق بأنّ الأطفال إنّما يتعلّمون اللّغات لكون التخاطب بلغة مستقرّة معروفة بينهم فيتجاوبون فيما بينهم بما يعرفون و الاستعمالات المتكررة موجبة لحصول العلم للأطفال، و امّا صاحب الاصطلاح فلا يعرف غيره خطابه و لا جوابه و لا مراده و ليس معه إلّا الإشارة و هي لا تنهض باسرار العبادة اللّهم إلّا أن يكون ذلك من القادر على خلق علم ضروري فيمن يخاطبه بحيث يعرف به معنى خطابه من عبادته و هو المطلوب.

مدفوع بأن إمكان التفهيم و لو بالإشارة في المدد الطويلة حاصل بعد إعطاء الأصول و افاضة الفهم و الشعور فكيف يحصل القطع

بالعدم و مجرّد الاستبعاد غير مثبت للمراد.

و الرّابع: بانّ الجواز ليس دليلا على الوقوع و مع الشك يحكم باتّحاد العرف عرفا و شرعا و لو لاعتبار الأصول العلمية مضافا إلى مسيس الحاجة و توفّر

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 233

الدّواعي إلى حفظ اللّغات و المعاني العرفيّة سيّما ما له ارتباط باستنباط الاحكام الشرعيّة.

و امّا ما يقال من أنّ المراد الجواز العقلي ثمّ بعد وقوع اصطلاح أخر إمّا ان يراعى الشرع الاول خاصّة و هو مع كونه ترجيح من غير مرجّح تضييع للآخرين او الثاني فيلزم تضييع الأوّلين مع عدم كونه مرسلا بلسان قومه او كليهما و يرتفع الامان و يختلّ الاحكام، فضعيف جدّا.

و الخامس: بأنّ المراد بالخلق هو التقدير أو جعل الإمكان فالعموم بحاله و لو في افعال العباد لأنّها مخلوقة له خلق تقدير لا تكوين كما في الخبر، و كذا لو أريد به خلق الأسباب و الآلات و المقتضيات و لعلّ هو الأظهر من ملاحظة مساق الآية سيّما مع سلامتها عن التّخصيص و امّا ارادة الخلق التكويني الفعلى فبعيدة عن السياق و الأصل عدم التخصيص و دعوى كونه حقيقة في هذا خاصّة دون ما مرّ غير مسموعة و عموم الاشتراك اولى من المجاز سلمنا الحمل على الأخير لكن القطع حاصل بخروج افعال العباد الّتي يمكن كون الوضع منها فيكون كالمخصّص بالمجمل للشكّ في مصاديقها و التمسك بالأصل في مثله لا يخلو من تأمّل فتأمل جيّدا. فانّه يمكن دعوى صحّة الدّلالة بظهور المعنى الأخير الموجب للحمل عليه و لو للانصراف او لكونه من جملة المدلول ثمّ البناء في تخصيص مثله بالحكم على خروج ما يقطع بخروجه، و امّا المشكوك فالبناء على دخوله تحت حكم العام

للقطع بالشمول و الشك في الإخراج و ليس هناك لفظ مجمل كي يلحق بالمخصّص بالمجمل و دعوى انصراف مثل هذا العموم الشمولي من الأوضاع الشّخصيّة غير

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 234

مسموعة فيتمّ الاستدلال بها كالآية المتقدّمة الّتي قد سمعت التقريب فيها و لو بمعونة الاخبار المتقدّمة الظاهرة في استناد الوضع إليه سبحانه فلا يرد ان غاية ما تدلّ عليه بعد تسليم دلالتها انّ الوضع غير ناش من ذرّية أبينا آدم.

و امّا استناده اليه سبحانه او الى خلق آخر كبني الجان و غيرهم فغير واضح سيّما بعد ما ورد في الاخبار من انّه كان في الأرض خلق أخر قبل أبينا آدم.

بل في الخبر: انّ اللّه تعالى خلق ألف ألف عالم و ألف ألف آدم و أنتم في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميّين «1».

إذ فيه ان الظّاهر منها و لو بمعونة الاخبار المتقدّمة و ملاحظة شرافة علم الأسماء حتّى فضّل اللّه به آدم على غيره من الملائكة إنّما هو استناده إليه سبحانه مضافا إلى أنّه لو كان متداولا بين خلق سابق على آدم في الأرض أو في السّماء لتسامع بها بعض الملائكة ان لم يعرفها كلّهم مع أنّ قضيّة الأصل هو تأخّر الحادث الّذي هو الوضع من زمن وجود الخلق السابق إلّا أنّه حينئذ بالنّسبة إلى تعيين الواضع مثبت فلا تغفل.

نعم يمكن أن يقال إنّ الفريقين مجمعون على عدم استناده إلى خلق آخر بل هم بين من يقول باستناده إلى اللّه تعالى و من يقول باستناده إلى أبي البشر و ذرّيته فالقول باستناده إلى خلق آخر من بني الجان او غيرهم خرق لهذا الإجماع. و لا بأس به على فرض تحقّقه.

ثمّ انّ في المسألة اقوالا

أخر كالقول باصطلاحيّة جميع اللّغات و انّ الواضع

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54 ص 321.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 235

فيها هو البشر كما عن جماعة من المتكلّمين و التفصيل بان ما يحتاج إليه في التفهيم و التّفهم بان هذا موضوع لذلك يكون بتوقيف اللّه سبحانه و الباقي من البشر باصطلاح منهم و توقف العلامة و بعض الأصوليّين و تمام الكلام في ادلّة الأقوال موكول إلى الأصول، و كذا الكلام في أنّه ليس للنّزاع ثمرة علميّة و انّ محلّه هو الحقيقة اللغوية الاصليّة لا مطلق الحقيقة ضرورة انّ الواضع في الأعلام الشخصيّة و الحقائق العرفيّة العامة و الخاصة منقولة كانت او مرتجلة هو البشر، و لذا قيل إنّه يلزم من ذلك تخصيص العموم في قوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، بالحقائق اللّغوية او بالحقائق المبتدئة فانّ تعليم الأسماء لا يستلزم تعليم جميع معانيها بل يصدق بتعليم البعض ايضا.

بقي الكلام في أنّ الاختلاف في المقام مبني على ما هو المشهور بين العلماء الأعلام من أنّ دلالة اللّفظ على المعنى بواسطة الوضع له، و امّا على القول الاخر المحكي عن عباد «1» بن سليمان الصّيمري و جمع من المعتزلة و اهل التكسير من أنّ دلالته طبيعيّة ناشية عن ذات اللّفظ من دون توسّط الوضع و النزاع ساقط من أصله، إلّا أنّ هذا القول في أصله بمحلّ من السقوط ضرورة انّه لو كانت الدّلالة ذاتيّة لامتنع اختلافها باختلاف الأمم و الأصقاع و الأزمان، مع انا نرى اللفظ الواحد حقيقة في معنى عند قوم او في زمان و في معنى آخر عند غيرهم، او في زمان أخر بسبب طروّ الوضع و غلبة الاستعمال و ايضا كان يلزم ان

يحصل العلم بالمعاني بملاحظة الألفاظ في جميع اللّغات و لم يعهد حصوله لاحد و لو ممّن يدّعي ذلك

__________________________________________________

(1) هو ابو سهل عباد بن سلمان البصري المعتزلي. سير اعلام النبلاء ج 10 ص 552.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 236

فضلا عن العامة و ايضا نرى الأعلام الشّخصيّة و الحقائق العرفيّة الّتي نعلم بالضرورة استناد الدّلالة فيها إلى الوضع غير دالّة على تلك المعاني قبل حدوث الوضع و لو كانت ذاتيّة لم يؤثر الوضع فيها شيئا و لم ينفك عنها الأثر الطبيعي هذا مضافا إلى دوران الدلالة مع الاعتقاد بالوضع عدما و وجودا علما و ظنّا و وهما و شكّا و ضرورة الوضع للنقيضين و الضدين و غير ذلك ممّا لا داعي للتعرض له بعد ظهور التوقيف في جميع الأعصار و الأمصار بالنسبة إلى جميع اللغات على طرق اثبات الوضع سيّما مع ضعف تمسّك المدّعين للدّلالة الذاتيّة من انّها لو انتفت لزم الترجيح او التّرجح من غير مرجّح و فيه ما لا يخفى.

التناسب بين اللفظ و المعنى

و لذا قيل: إنّ مراد القائلين بها دعوى التناسب الذّاتي بين اللفظ و المعنى، و إنّ ذلك التناسب هو علّة الوضع، أو المرجّح لخصوص الطرفين باعتبار ملاحظة الصفات الّتي للحروف من الهمس و الجهر و الشدّة و الرخاوة و غيرها من الصفات الّتي عنت بضبطها أئمّة الاشتقاق و التصريف، مضافا إلى ما لها من المنسوبات و الطبائع الّتي ذكرها علماء الجفر و الأعداد و الحروف و الأوفاق من إثبات الطبائع و الخواص الغريبة للحروف باعتبار تمزيجاتها و تركيباتها و نسبتها إلى خصوص الكواكب و الأزمنة و العناصر و المواليد و الجهات و الأفعال و الأخلاق و غيرها، و لذا قالوا: إنّ قضيّة

تلك الخواصّ أن العالم بها إذا أراد تعيين شي ء مركّب منها لمعنى أن لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحقّ الحكمة فوضع الفصم بالفاء للكسر بسهولة لما

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 237

بين الفاء الّتي هي حرف مهموس رخو و بينه من المناسبة، و القصم بالقاف للكسر بشدّة لمناسبة للقاف الّتي هي حرف جهر و شدّة و قلقلة، و وضع الفعلان بالتحريك لما يقتضي التقلّب و الحركة كالطيران و الجولان و الغليان، و هو ايضا كما ترى لانتفاء المناسبة الجزئيّة في كثير من المقامات، و لذا وضعوا للضّدين و المتخالفين و نحوهما.

نعم ذكر الشيخ أحمد الأحسائي: أنّ هذا الحمل صلح منهم بغير رضى الخصمين، ثمّ ذكر انّ الأصحّ ما ذهب إليه أهل المناسبة لما قرّره هو في معنى دلالة اللفظ حيث قال: كلّ اسم فله مادّة مخصوصة بينها و بين ما تراد له مناسبة نوعيّة بينه و بين ما تراد له مناسبة شخصيّة، فإذا أراد وضع لفظ بإزاء معنى أخذ له من الحروف ما يناسبه و جعلها مادّة لاسم ذلك المعنى و ركّب تلك الحروف على هيئة من التركيب في الحركات و السكنات و التقديم و التأخير تناسب ذلك المعنى كذلك، و تلك الهيئة هي صورة ذلك الاسم فوضعه بإزاء ذلك المعنى فكان الاسم بتلك المادّة المخصوصة و الهيئة المخصوصة دالّا للسامع العالم بالوضع على مسمّاه كما انك إذا اومأت إلى زيد بأن يأتي إليك أومأت اليه بهيئة الإقبال بأن تقبض أصابعك في الجملة مشيرا بها إليك فيضمّ بالمادة و هي حركة اليد و الصورة و هي الإشارة له بيدك إليك كالجاذب له إرادة الإقبال، و لو أردت انصرافه أومأت بيدك إليه بهيئة الدفع فيفهم بالحركة

و الهيئة إرادة الانصراف، لأنّ هذه الهيئة في المادّة المخصوصة تدلّ المشار اليه على ما يراد منه، فكذلك الإسم بالمادة و الهيئة المخصوصتين يدلّ السّامع على معناه، فحقيقة الدّلالة إرشاد اللفظ بمناسبة مادّته و صورته لفهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 238

المخاطب إلى المعنى الموضوع له كما مثّلنا في الإشارة.

ثمّ قال: فان قلت: لو كان ذلك كذلك لم يجهل أحد شيئا من المعاني و الواقع خلافه.

قلت: انّما احتيج للعلم بالوضع هنا لشدّة خفاء المناسبة لأنّها مناسبات حرفية من عالم الغيب على ما حقّق في محلّه.

فان قلت: إذا كانت مناسبات حرفيّة من عالم الغيب فما الفائدة في ملاحظتها و اعتبارها إذا لم يطلع عليها جميع المخاطبين؟

قلت: الفائدة شيئان: أحدهما اقتضاء حكمة الحكيم ان لا يخصّص شيئا بشي ء بغير مناسبة يقتضي التخصيص مع قدرته على ذلك، و ثانيهما: أنّ ذلك أسكن لقلب المخاطب لو تنبّه في بعض الأحوال لبعض المناسبات، كما ذكر في الفرق بين الفصم و القصم، و في زنة فعلان محركا و في دلالة الوضع للأصوات بما يناسبها كما قيل في صوت الغراب غاق، و في صوت شفتي الناقة عند شربها شبب، إذ لو وضع غاق لصوت شفتي الناقة عند الشرب و شبب لصوت الغراب ثمّ تنبه المخاطب للمناسبة لنفرت نفسه من ذلك لما بين اللفظ و بين معناه من المنافرة.

و ذكر في موضع أخر: أنّ المناسبة لا يزيد منها خصوص المناسبة الشخصيّة، بل قد تكون مناسبة نوعيّة كمناسبة الإنسان لزيد و عمرو، أو جنسيّة كمناسبة الحيوان لزيد و الفرس، بل لا نريد منها إلّا مطلق الصلوح الذّاتي للمسمّى في المادة و الهيئة، إلّا أنّه يعبّر في صلوح هيئة اللفظ لهيئة المعنى مشخصيّة الارتباط

بينهما.

ثمّ أطنب الكلام في بيان المناسبة بين موادّ الحروف و هيئات الترتيب

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 239

و الإعراب و بين الأجسام و الأشكال الخارجة، و في دعوى المناسبة حتّى في الأعلام الشخصيّة و في الألفاظ المشتركة حتّى الموضوعة للضّدين و النقيضين كالقرء و الجون، و عسعس، و في دعوى المناسبة بين الألفاظ و الأزمنة و بين الأعلام المشتركة و معانيها إلى غير ذلك ممّا لا يعود إلى حاصل و لعلك، لو تدبّرت كلامه بتمامه عرفت انّه كان قد دعاه إلى ذلك ملاحظة بعض المناسبات الجزئيّة الّتي هي كالنكات الاتّفاقية بعد الوقوع بالنسبة إلى بعض الألفاظ، مع التخلف في الأكثر.

و من الغريب استدلاله في مواضع من كلامه بأسماء الأصوات الّتي ذكروا انّها حكاية صوت مسموع من الحيوان و غيره كغاق، فانّه حكاية صوت الغراب، و طق حكاية صوت وقع الحجارة بعضها على بعض، او انّها ممّا يخاطب به ما لا يعقل كقولهم في دعاء الضأن: حاحا و في دعاء المعز: عاعا غير مهموزين، فانّ القسم الاول من هذه الأسماء مجرّد حكاية صوت شبيه بالواقع و الثاني بمنزلة النعيق، و لذا استشكلوا صدق حدّ الكلمة عليها، و ان لم يكن الأشكال في محلّه.

و بالجملة إبداء أمثال تلك المناسبات الجزئيّة بين بعض الألفاظ و معانيها لا موقع لها بالنسبة إلى تلك اللغات المتّسعة الكثيرة في الألسنة المختلفة المنتشرة بين أهل العالم لإفهام المعاني الدّقيقة و النكات الخفيّة، مع انّه يستفاد من تضاعيف كلامه الطويل الّذي لم نتعرّض لحكايته أنّ مراده مجرّد إعمال المناسبات في الوضع لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 240

انكار أصله، و يؤيّده تصريحه في موضع آخر بأنّ الواضع هو اللّه سبحانه و ان

كان ينافيه ما ذكره اوّلا من ردّ كلام المؤوّلين، و تصحيح مقال اصحاب المناسبة، و ما ذكره من تعريف الدلالة لكنّه رحمه اللّه أدرى بفحوى ما أفاد و إنّي مقرّ على نفسي بالقصور عن نيل المراد و اللّه يهدي من يشاء إلى سبيل الرّشاد.

تفسير الآية (34)

اشارة

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ تذكير لنعمة رابعة عامّة عليهم لما فيها من تشريف أبيهم و تكريمه بجعله مسجودا للملائكة النورانيّين الّذين هم عباد مكرمون كما أنّ قوله:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، تذكيره لنعمة ثالثة حسب ما مرّ، و إن توهّم بعضهم أنّ هذه رابعة للثلاثة الّتي تضمّنتها هي من تخصيص آدم بالخلافة ثمّ بالعلم ثمّ بلوغه فيه إلى أن عجزت الملائكة عن نيله، فانّه لا يخلو عن تكلّف، و لكن الخطب سهل.

و الوجوه المتقدّمة في متعلّق الظرف جارية في المقام، و لكن في «تفسير الامام عليه السّلام»: قال اللّه تعالى: كأنّ خلق اللّه لكم ما في الأرض جميعا إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أي في ذلك الوقت خلق لكم «1».

و قد بيّنا سابقا أنّ الظرف هو الزمان الممتدّ قبل خلق آدم و إن كان كلّ من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 149 عن التفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 241

خلق ما في الأرض و القول في طرف منه، فإنّ الأمر بالسجود كان قبل خلقه على وجه التعليق كما يستفاد من قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* «1».

و قوله: لهم إمّا بالإلهام إلى كلّ منهم، أو بالخطاب العامّ الشامل لجميعهم و لو بخلق الأصوات، أو بالتبليغ إليهم بتوسّط بعضهم، او بواسطة أنوار محمّد و آله الطّيبين صلّى اللّه

عليهم أجمعين كما وقع التلويح إليه في بعض الأخبار.

وقت الأمر بالسجود

و الآية و ان كانت ظاهرة في كون الأمر بالسجود بعد وجود آدم و نفخ الرّوح فيه سيّما بملاحظة فسجدوا الظاهر في اتّصال الفعل بالأمر إلّا أنّ المستفاد من قوله تعالى في سورة الحجر: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «2»، وقوع الأمر مقترنا بالبشارة بالخلق و قد مرّ مرسلا في عبارة الصدوق: انّ اللّه سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام «3».

و في تفسير القمي و غيره في تفسير قوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ انّه كان ذلك

__________________________________________________

(1) الحجر: 29.

(2) الحجر: 29.

(3) كمال الدين: ج 1 ص 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 242

تقدّمه من اللّه في آدم قبل أن يخلقه و احتجاجا منه عليهم «1».

لكنّه لا منافاة بينهما لاحتمال التعدّد تنبيها على مزيد الاهتمام و التأكيد، بل كانّه المتعيّن و به يجمع بين ما مرّ و بين ما في الأعراف: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ «2»، نعم سيأتي في تفسير قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «3»، عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله من طرق العامة: أنّه لما اقترف الخطيئة و نظر الى أشباح النبي و الأئمّة حول العرش و أخبره اللّه تعالى انّهم من ذرّيته، قال صلّى اللّه عليه و آله: فسجد آدم شكرا للّه أن جعل ذلك في ذريّته، فعوضه اللّه عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته.

و ظاهره كما ترى كون الإسجاد بعد الاقتراف، و لعلّه مخالف لظاهر الكتاب و صريح الاخبار.

في معنى السجود

و السجود في اللّغة هو الخضوع و التذلّل، و كلّ

شي ء ذلّ فقد سجد، و سجد البعير خفض رأسه عند ركوبه، و منه قوله: «و قلن له أسجد لليلى فأسجدا»، يعني البعير أي طأطأ لها لتركبه من قولهم: أسجد الرجل إذا طأطأ رأسه و انحنى، قال حميد بن ثور يصف نساء.

فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها __________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 104 عن تفسير علي بن ابراهيم.

(2) الأعراف: 11.

(3) البقرة: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 243

يقول: لمّا ارتحلن و لوين فضول أزمّة أجمالهنّ على معاصمهنّ أسجدت لهنّ.

و بالجملة فالظاهر إطلاقه لغة على كلّ من الخضوع و الانحناء و تطأطأ الّرأس، و أصل الأصل في معناه هو الأوّل، و إطلاقه على الأخيرين باعتبار تحقّقه فيهما كما يطلق على غيرهما من الأفعال الصّادرة عن خضوع، او الموضوعة لها بحسب العادة، و منها وضع الجبهة على الأرض أو ما أنبت ممّا لا يؤكل و لا يلبس، فانّ الظاهر عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة فيه بل هو باق على معناه اللغوي و إن اعتبر للشارع في صحّته جزء للصّلاة أمورا خارجة عن مسمّاها لغة كما أشار إليه بعض مشايخنا معترضا به على من قبله، لكنّه لا يخلو عن تأمّل نظرا إلى تبادر الهيئة الخاصّة منه عرفا بحيث لا ينبغي معه التّامل في صيرورته حقيقة فيها عند الشارع او المتشرعة، و تمام الكلام في مقام آخر.

و ممّا مرّ يظهر النظر فيما قوله الرازي: من أنّ السجود في عرف المتشرّعة عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في اصل اللغة كذلك لأنّ الأصل عدم التغيير «1».

إذ فيه انّ اللغة ثابتة لتنصيص و غيره، و أمّا ما يأتي في خبر «القصص» فعلى فرض

صحّته محمول على بيان النوع و الكيفيّة فتأمّل.

و اللام في قوله: «لآدم» متعلّق باسجدوا أي اخضعوا له طاعة للّه سبحانه، أو انّه بمعنى «إلى» و المتعلّق محذوف اي اسجدوا مقبلين إلى آدم على حدّ قول

__________________________________________________

(1) مفاتيح الغيب للرازي: ج 2 ص 213.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 244

حسّان «1»:

ما كنت احسب هذا الأمر منصرفا من هاشم ثمّ منها عن أبي الحسن أ ليس اوّل من صلّى لقبلتكم و أعرف النّاس بالقرآن و السنن لكنّه بعيد لتظافر الأخبار على كون السجود لآدم تكريما له و ان كان ربما يتحقّق معه ايضا، و أبعد منه ما قيل من احتمال كونه للتّوقيت أو بمعنى بعد كما احتمل الوجهان في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ «2»، بل ينبغي القطع بعدمه، فانّ تعلّق السجود بآدم ليس على وجه مجرّد التّوقيت بخلقه و التوجه إليه، بل كان تكريما له و تعظيما للأنوار المستودعة في صلبه المخصوصة بمقام الخلافة الكلّيّة و الفيوض الربانيّة، و لذا كان تعظيمهم تعظيم اللّه تعالى شأنه كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «3».

فلسفة سجود الملائكة لآدم

و روى الصدوق و غيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: انّ اللّه فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين و فضّلني على جميع النبيّين و المرسلين و الفضل بعدي لك يا علي و للائمّة من بعدك، و ساق الخبر على ما مرّ إلى أن قال: ثمّ إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم فأودعنا صلبه و أمر الملائكة

__________________________________________________

(1) حسّان بن ثابت الانصاري الشاعر توفّي سنة (54) ه عن مائة و عشرين سنة مناصفة

في الجاهلية و الإسلام- شذرات الذهب ج 1 ص 60.

(2) الإسراء: 78.

(3) الفتح: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 245

بالسجود له تعظيما لنا و إكراما و كان السجود للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة لكوننا في صلبه «1».

و في «القصص» بالإسناد عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام سجدت الملائكة لآدم و وضعوا جباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من اللّه سبحانه «2».

و في «الاحتجاج» في جواب مسائل الزنديق عن الصادق عليه السّلام انّه سئل:

أ يصلح السجود لغير اللّه تعالى؟ قال: لا، قال: فكيف أمر اللّه بالسجود لآدم؟ فقال:

إنّ من سجد بأمر اللّه فقد سجد للّه فكان سجوده للّه إذ كان عن أمر اللّه «3».

و عن «الاحتجاج» و التفسير في خبر مرّ صدره إلى أن قال عليه السّلام: فلذلك قال اللّه: فاسجدوا لآدم لمّا كان مشتملا على أنوار هذه الخلايق الأفضلين و لم يكن سجودهم لآدم انّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه للّه عزّ و جلّ و كان بذلك معظما له مبجلا «4».

و في «تحف العقول» عن أبي الحسن الثالث عليه السّلام قال: إنّ السجود من الملائكة لآدم لم يكن لآدم و انّما كان ذلك طاعة للّه و محبّة منهم لآدم «5».

و في «الاحتجاج» عن الكاظم عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: انّ يهوديّا سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن معجزة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مقابلة معجزات الأنبياء عليهم السّلام فقال: هذا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 139- 140 عن العيون ص 145.

(2) البحار: ج 11 ص 139.

(3) الاحتجاج: ص 31.

(4) البحار: ج 11 ص 138

عن تفسير الإمام عليه السّلام.

(5) تحف العقول: ص 478.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 246

آدم عليه السّلام أسجد اللّه له ملائكته فهل فعل بمحمّد شيئا من هذا؟ فقال عليّ عليه السّلام: لقد كان ذلك، و لكن اسجد اللّه لآدم ملائكته، و سجودهم لم يكن سجود طاعة و أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من اللّه له، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أعطي ما هو أفضل من هذا انّ اللّه جلّ و علا صلّى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها «1»، الخبر.

و في تفسير الامام عليه السّلام قال: و لمّا امتحن الحسين عليه السّلام و من معه بالعسكر الّذي قتلوه و حملوا رأسه، قال لعسكره: أنتم في حلّ من بيعتي فالحقوا بعشائركم و مواليكم، و قال لأهل بيته: قد جعلتكم في حلّ من مفارقتي فإنكم لا تطيقونهم لتضاعف أعدادهم و قواهم، و ما المقصود غيري فدعوني و القوم فانّ اللّه عزّ و جلّ يعينني و لا يخلّيني من حسن نظره كعاداته في أسلافنا الطيّبين، فامّا عسكره ففارقوه، و امّا أهله الأدنون من أقربائه فأبوا و قالوا: لا نفارقك و يحزننا ما يحزنك، و يصيبنا ما يصيبك، و إنّا أقرب ما نكون إلى اللّه إذا كنّا معك، فقال لهم: فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطّنت نفسي عليه، فاعلموا أنّ اللّه إنّما يهب المنازل الشريفة لعباده باحتمال المكاره، و انّ اللّه و ان كان خصّني مع من مضى من اهلي الّذين أنا آخرهم بقاء في الدنيا من الكرامات بما يسهل عليّ معها احتمال المكروهات، فانّ لكم شطر ذلك من كرامات اللّه تعالى، و اعلموا

أنّ الدنيا حلوها و مرّها حلم، و الانتباه في الآخرة، و الفائز من فاز فيها، و الشقي من شقي فيها، أولا أحدّثكم باوّل أمرنا و أمركم معاشر أوليائنا و محبّينا و المتعصّبين لنا ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له

__________________________________________________

(1) الاحتجاج: ص 111.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 247

مقرون معرّضون؟ قالوا: بلى يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم و سوّاه و علّمه أسماء كلّ شي ء، و عرضهم على الملائكة جعل محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام أشباحا خمسة في ظهر آدم، و كانت أنوارهم تضي ء في الآفاق من السموات و الحجب و الجنان و الكرسي و العرش، فأمر اللّه الملائكة بالسّجدة لآدم تعظيما له، إنّه قد فضّله بأن جعله وعاء لتلك الأشباح الّتي قد عمّ أنوارها في الآفاق، فسجدوا إلّا إبليس أبى أن يتواضع لجلال عظمة اللّه، و أن يتواضع لأنوارنا أهل البيت عليهم السّلام و قد تواضعت لها الملائكة كلّها، فاستكبر و ترفّع و كان بإبائه ذلك و تكبّره من الكافرين.

ثمّ قال: قال عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما: حدّثني أبي عن أبيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال: يا عباد اللّه إنّ آدم لمّا رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان اللّه قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره، رأى النّور و لم يتبين الأشباح، فقال يا ربّ ما هذه الأنوار؟ قال اللّه عزّ و جلّ: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، و لذا أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح فقال يا ربّ لو

بيّنتها لي؟ فقال اللّه تعالى: أنظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم عليه السّلام و وقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصّافية، فرأى أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح يا ربّ؟

فقال اللّه: يا آدم هذه الأشباح أفضل خلائقي و بريّاتي: هذا محمّد و أنا الحميد المحمود في أفعالي، شققت له اسما من اسمي، و هذا عليّ و أنا العليّ العظيم شققت له اسما من اسمي، و هذه فاطمة و أنا فاطر السموات و الأرضين، فاطم أعدائي عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 248

رحمتي يوم فصل قضائي، و فاطم أوليائي عمّا يعتريهم و يشينهم، فشققت لها اسما من اسمي، و هذا الحسن و هذا الحسين، و انا المحسن المجمل شققت لهما اسما من اسمي، هؤلاء خيار خليقتي و كرام بريّتي، بهم آخذ، و بهم أعطي، و بهم أعاقب و بهم أثيب فتوسّل إليّ بهم يا آدم، و إذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعائك، فانّي آليت على نفسي قسما حتما «1» لا أخيّب بهم آملا و لا أردّ بهم سائلا، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة و دعا اللّه عزّ و جلّ بهم فتاب عليه و غفر له «2».

و قد ظهر من جميع ما مرّ ان سجود آدم كان تكريما له و تعظيما للأنوار المستودعة في صلبه، و عبوديّة له سبحانه حيث كان ذلك امتثالا لأمره، و لو لم يكن هناك أمر لم يكن لاحد من الملائكة و لا غيرهم احياء و أمواتا إلّا بصدور الأمر الخاص بالنسبة إليه.

و يدلّ عليه مضافا إلى ما مرّ ما رواه الصفار في البصائر بالإسناد عن الصّادق

عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما قاعدا في أصحابه إذ مرّ به بعير فجاء حتّى ضرب بجرانه «3» الأرض و رغا «4» فقال رجل: يا رسول اللّه أسجد لك هذا البعير فنحن احقّ أن نفعل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا بل اسجدوا اللّه ثمّ قال: لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها «5».

__________________________________________________

(1) في البحار: حقا.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 149- 151 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(3) الجران بكسر الجيم و تخفيف الرّاء: مقدّم عنق البعير أو الفرس.

(4) رغا: أي صوّت.

(5) البحار: ج 27 ص 265 عن البصائر ص 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 249

و في خبر آخر بعد قوله: بل اسجدوا للّه قال صلّى اللّه عليه و آله انّ هذا الجمل يشكو أربابه ثمّ ذكر قصّة الجمل الخبر.

و في الخرائج: إنّ اعرابيّا جاء إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله فقال هل من آية فيما تدعوا إليه؟ فقال: نعم ايت هذه الشجرة فقل لها: يدعوك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: فمالت عن يمينها و شمالها و بين يديها فقطعت عروقها، ثمّ جاءت تخدّ الأرض حتّى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: فمرها فلترجع إلى منبتها، فقال الأعرابي: ائذن لي أن أسجد لك، فقال عليه السّلام: لو أمرت أحدا أن يسجد لاحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، قال: فائذن لي أن أقبّل بين يديك فأذن له «1».

و فيه و في «المناقب» عن انس أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله دخل حائطا للأنصار و

فيه غنم فسجدت له، فقال أبو بكر: نحن أحقّ لك بالسجود من هذا الغنم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: انّه لا ينبغي أن يسجد أحد لاحد، و لو جاز ذلك لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها «2».

و قد مرّ في خبر العسكري انّه لا ينبغي لاحد أن يسجد لاحد من دون اللّه يخضع له كخضوعه للّه و يعظمه بالسجود كتعظيمه للّه تعالى و لو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير اللّه لأمرت ضعفاء شيعتنا و سائر المكلفين من متبعينا أن يسجدوا لمن توسط في علوم عليّ وصيّ رسول اللّه و محض وداد خير خلق اللّه عليّ بعد محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «3».

و في «الاحتجاج» عن تفسير الامام عليه السّلام في خبر احتجاج النّبي صلّى اللّه عليه و آله على أهل

__________________________________________________

(1) الخرائج: ص 185 و عنه البحار ج 17 ص 377.

(2) مناقب آل ابي طالب: ج 1 ص 86.

(3) تفسير البرهان: ج 1 ص 81 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 250

الأديان قال: ثمّ أقبل يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على مشركي العرب و قال: و أنتم فلم عبدتم الأصنام من دون اللّه؟ فقالوا: نتقرّب بذلك إلى اللّه تعالى فقال لهم: أهي سامعة مطيعة لربّها عابدة له حتّى تتقرّبوا بتعظيمها إلى اللّه تعالى؟ قالوا: لا قال:

فأنتم الذي نحتّموها بأيديكم؟ قالوا: نعم، قال: فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم و عواقبكم و الحكيم فيها يكلفّكم، قال: فلما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا اختلفوا،

فقال بعضهم: انّ اللّه قد حلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصّورة فصورّنا هذه الصور نعظّمها لتعظيمنا تلك الصّور الّتي حلّ فيها ربنا.

و قال آخرون منهم: إنّ هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين للّه قبلنا فمثّلنا صورهم و عبدناهم تعظيما للّه.

و قال آخرون: إنّ اللّه لما خلق آدم و أمر الملائكة بالسجود للّه كنا نحن أحقّ بالسجود لآدم من الملائكة ففاتنا ذلك، فصورّنا صورته فسجدنا لها تقرّبا إلى اللّه كما تقرّبت الملائكة بالسجود لآدم إلى اللّه، و كما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكّة ففعلتم ثمّ نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها و قصدتم الكعبة لا محاريبكم، و قصدكم في الكعبة إلى اللّه تعالى لا إليها.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أخطأتم الطريق و ضللتم امّا أنتم- و هو صلّى اللّه عليه و آله يخاطب الّذين قالوا: إنّ اللّه يحلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصور الّتي حل فيها ربنا- فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات! أو يحلّ ربكم في شي ء حتّى يحيط به ذلك الشي ء؟ فايّ فرق بينه و بين سائر ما يحلّ فيه من لونه و طعمه و رائحته و لينه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 251

و خشونته و ثقله و خفته، و لم صار هذا المحلول فيه محدثا و ذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا و هذا قديما؟! و كيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال، و هو عزّ و جلّ كان لم يزل، و إذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال.

إلى أن قال: ثمّ اقبل صلّى اللّه عليه و آله على الفريق الثّاني فقال: أخبرونا عنكم إذا

عبدتم صور من كان يعبد اللّه فسجدتم لها و صلّيتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الّذي أبقيتم لربّ العالمين؟! أما علمتم أنّ من حقّ من يجب تعظيمه و عبادته أن لا يساوي به عبده؟

أ رايتم ملكا عظيما إذا سوّيتموه بعبده في التعظيم و الخشوع و الخضوع أ فيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا: نعم.

قال: أ فلا تعلمون أنكم من حيث تعظّمون اللّه بتعظيم صور عباده المطيعين تزرون على ربّ العالمين؟! قال: فسكت القوم بعد أن قالوا: سننظر في أمرنا.

ثمّ قال رسول اللّه للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلا و شبّهتمونا بأنفسكم و لا سواء، ذلك أنّا عباد اللّه مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا، و ننزجر فيما زجرنا، و نعبده من حيث يريد منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه، و لم نتعدّ إلى غيره ممّا لم يأمرنا و لم يأذن لنا، لأنّا لا ندري لعلّه أراد منا الأوّل فهو يكره الثاني، و قد نهانا أن نتقدّم بين يديه فلمّا أمرنا بالتّوجه إلى الكعبة أطعناه ثمّ أمرنا بعبادته بالتّوجه نحوها في سائر البلدان الّتي نكون بها فأطعناه، فلم نخرج في شي ء من ذلك من اتّباع أمره، و اللّه عزّ و جلّ حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته الّتي

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 252

هي غيره فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه لأنكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثمّ قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أ رأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه الكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير امره، او لكم أن تدخلوا

دارا أخرى مثلها بغير امره؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه او عبدا من عبيده او دابّة من دوابه الكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فإن لم تأخذوه أ لكم أخذ آخر مثله؟ قالوا لا لأنّه لم يأذن لنا في الثاني كما اذن في الأوّل، قال صلّى اللّه عليه و آله: فاخبروني آللّه تعالى اولى بان لا يتقدّم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا بل اللّه أولى بان لا يتصرّف في ملكه بغير اذنه، قال: فلم فعلتم و متى أمركم أن تسجدوا لهذه الصّور؟ قال: فقال القوم سننظر في أمرنا ثمّ سكتوا «1»، الخبر.

الوجوه المحتملة في «خلق اللّه آدم على صورته»

أقول: و لعلّ من مثل هذه الأوهام الّتي سمعتها من المشركين سرى الوهم و الزيغ إلى قلوب المشبّهين فأوّلوا النبوي المشهور بين الفريقين «انّ اللّه تعالى خلق آدم على صورته» «2».

على ما يوافق مرامهم و يطابق كلامهم، بل قد تمسّك بظاهره فرق من أصحاب الأخدود كالحلوليّة و الاتّحادية و القائلين بوحدة الوجود مع انّ المروي من

__________________________________________________

(1) الاحتجاج: ص 26- 28.

(2) عوالي اللئالي: ج 1 ص 53 رقم الحديث 78.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 253

طرق الفريقين في تتمّة الخبر ما يسقط معه الاستدلال على مثل هذه الأوهام.

ففي «التوحيد» و «الاحتجاج» و «العيون» عن الحسين بن خالد قال: قلت:

للرّضا عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه انّ النّاس يروون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه خلق آدم على صورته فقال: قاتلهم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبح اللّه وجهك و وجه من شبيهك فقال عليه السّلام:

يا

عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك، فانّ اللّه عزّ و جل خلق آدم على صورته «1».

و روته العامّة عن الزهري عن الحسن «2»، مع انّه قد يقال إنّ في الخبر وجوها أخر أيضا مثل ما قيل: من انّ الضمير راجع إلى آدم عليه السّلام دون اللّه تعالى فيكون المعنى انّه خلقه على الصورة الّتي قبض عليها، فانّ حاله لم يتغيّر في الصورة بلا زيادة و لا نقصان، او إلى اللّه سبحانه و يكون المعنى انّه خلقه على الصورة الّتي اختارها و اجتباها، لأنّ الشي ء قد يضاف على هذا الوجه إلى مختاره و مصطفاه أو انّ المراد بالصورة الصفة من كونه سميعا بصيرا متكلّما قابلا للاتّصاف بصفاته الجماليّة و الجلاليّة، او انّ المعنى أنّه سبحانه أنشأه على هذه الصورة الّتي شوهد عليها على سبيل الابتداع و الاختراع و انّه لم ينقل إليها من صورة اخرى كما جرت العادة في البشر من كونه نطفة و علقة و مضغة و غيرها من الأطوار الطّارئة عليه خلقا من بعد خلق، او انّه خلق آدم و خلق صورته لينتفي بذلك الشك في أنّ تأليفه من فعل غيره لأنّ التأليف من جنس مقدور البشر و انّ خلق الجواهر هو الذي ينفرد

__________________________________________________

(1) الاحتجاج ص 410.

(2) البحار ج 4 ص 14 عن تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 254

القديم تعالى بالقدرة عليه فكأنّه عليه السّلام اخبر عن هذه الفائدة الجليلة و هو ان جوهر آدم و تأليفه كلّها من فعله سبحانه، إلى غير ذلك من الوجوه الّتي لا ينبغي حمل الخبر عليها بعد استفاضة الاخبار من طرق الفريقين على خروجه على سبب خاص مذكور كما سمعت.

نعم قد روى

الصدوق رحمه اللّه بالإسناد إلى محمّد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عمّا يروون انّ اللّه تعالى خلق آدم على صورته فقال عليه السّلام: هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه و اختارها على سائر الصفة المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه و قال: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «1»، و فيه دلالة على تشريف هذه الصورة «2».

و ربما يقال: إنّه قد روى إنّ ملائكة التصوير إذا أرادوا تصوير النطفة ذكرا او أنثى فيقولون: يا ربّ على أيّ صورة نصوّره، فان كان ذكرا قال سبحانه: أحضروا صور آبائه إلى آدم و صوّروه مثل واحدة منها، و إن كان أنثى قال أحضروا صور أمّهاتها إلى حوّاء و صوّروها على مثل صورة واحدة منها، و من ثمّ قال عليه السّلام: لا ينبغي لاحد أن يطعن في نسب ولده لأجل انّه لا يشبهه في الصورة فلعلّه إنّما صوّر مثل واحد من آبائه و هذا في غير أبينا آدم، و امّا هو فليس فيه آباء و لا أمّهات حتّى يصوّر مثل واحدة منها بل خلق على تلك الصورة الّتي خلق عليها، فقد تحصّل من جميع ما مرّ وجوه ثمانية في الخبر.

__________________________________________________

(1) الحجر: 29 و ص: 72.

(2) بحار الأنوار: ج 4 ص 13 ح 15 عن التوحيد للصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 255

و اعلم أنّه قد استفيد من تضاعيف الأخبار المتقدّمة و غيرها أنّ السجود من العبادات المختصة به سبحانه لا ينبغي إشراك غيره معه فيه، فما يفعله بعض الزائرين للنّبي صلّى اللّه عليه و آله او الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ينبغي منعهم و الإنكار عليهم، لأنّ اللّه تعالى يحبّ أن

يعبد من حيث شاء و أراد و أمر، و لم يرد الأمر بهذا النحو من التعظيم لغيره سبحانه و لو للأنبياء و الأولياء.

و اما ما يتخيّل من انّ السجود لهم عليهم السّلام على أبوابهم و أعقابهم زيادة في تعظيم اللّه و عبادته، باعتبار انّ وقوعه منه إليه إنّما هو لقدره و شرفه و رتبته عند اللّه تعالى، فالسجود له حينئذ زيادة في تعظيم اللّه و تعظيم شعائره ففيه أنّه استحسان وهمي لا ينبغي الاعتماد عليه في الأمور التوقيفيّة الشرعيّة، و قد استدلّ بمثله المشركون و أجاب عنهم النّبي صلّى اللّه عليه و آله بما لا مزيد عليه في خبر الاحتجاج و التفسير مضافا إلى ورود النّهي عنه في غير واحد من الأخبار الّتي مرّ شطر منها بل و عليه يحمل النهى في الصحيح المروي في العلل عن ابي جعفر عليه السّلام قال صلّ بين خلال القبور، و لا تتّخذ شيئا منها قبلة فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك و قال: لا تتخذوا قبري قبلة و لا مسجدا فانّ اللّه عزّ و جلّ لعن الّذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد «1».

ثمّ انّ ظاهر الجمع المحلى في المقام كون المأمورين جميع الملائكة العلويّة و السفليّة حتّى جبرئيل و ميكائيل و غيرهما من المقرّبين، و يؤيّده قوله في موضع آخر فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «2» بل في فضائل الشيعة للصّدوق عن

__________________________________________________

(1) الفقيه: ج 1 ص 124.

(2) سورة ص: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 256

النّبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ «1» انا و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين كنّا في سرادق العرش

نسبّح اللّه و تسبّح الملائكة بتسبيحنا قبل أن خلق اللّه آدم بألفي عام، فلمّا خلق اللّه عزّ و جلّ آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، و لم يأمرنا بالسجود، فسجدت الملائكة كلّهم إلّا إبليس فانّه أبى أن يسجد، فقال اللّه تبارك و تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ اي من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش «2».

فان فيه زيادة تأكيد في ارادة جميع الإفراد و في خبر المعراج المرويّ في التفسير و الاحتجاج: انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل: تقدّم يا جبرئيل فقال له: إنّا لا نتقدّم على الأدميّين منذ أمرنا بالسجود لآدم عليه السّلام «3».

إلى غير ذلك من ظواهر الاخبار الكثيرة الّتي هي الحجّة، و مع ذلك كلّه فلا ينبغي الإصغاء إلى ما ينسب إلى الحكماء من حمل الملائكة في الآية على القوى الجسمانيّة البشريّة المطيعة للنفس الناطقة نظرا إلى أنّه يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة، إذ هو كما ترى مبنيّ على ما استحسنوه بالأوهام الضعيفة و الخيالات الواهية.

ثمّ انّ المشهور كسر التّاء في قوله لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا، و عن أبي جعفر «4»

__________________________________________________

(1) ص: 75.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 142 ح 9 عن فضائل الشيعة.

(3) علل الشرائع: ص 14 و عنه البحار ج 26 ص 338 ح 3.

(4) المراد به ابو جعفر القاري يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة كان من التابعين و إمام اهل المدينة في القراءة توفي سنة (132) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 257

وحده ضمّها حيث وقع، إمّا لاتباع ضمّة الجيم، أو لنقل ضمّة الهمزة إليها كانّها لم تسقط، و هما ضعيفان كأصل القراءة فَسَجَدُوا جميعا لآدم انقيادا لأمره

سبحانه بمطلق الخضوع و التذلّل، أو بالانحناء و وضع الجبهة كما ربما يظهر من بعض الأخبار المتقدّمة، سيّما خبر «القصص» او على اختلاف أنحاء تذلّلاتهم الّتي لا يمثل واحد منها بالآخر لاختلاف درجاتهم و طبقاتهم و لذا قالوا: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1»، و كان سجودهم في الأرض على ظهر الكوفة كما في تفسير العياشي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: اوّل بقعة عبد اللّه عليها ظهر الكوفة لما أمر اللّه الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة «2».

إِلَّا إِبْلِيسَ المبلس اي الآيس من رحمته سبحانه، و لذا سمّي به، و الّا فكان مسمّى بالحارث و يكنّى أبا مرّة كما في المعتبرة ففي «المعاني» عن الرضا عليه السّلام:

كان اسمه الحارث سمّي إبليس لأنّه ابلس من رحمة اللّه «3».

و في «البحار» عن كتاب «غور الأمور» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّ اسمه الحارث و كنيته أبو مرّة، و انّما سمّاه اللّه إبليس لأنّه ابلس من الخير كلّه يوم آدم عليه السّلام «4».

و في «العيون» و «العلل» بالإسناد انّه سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن اسم إبليس ما كان في السّماء؟ فقال: كان اسمه الحارث «5».

__________________________________________________

(1) الصافات: 164.

(2) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 34 و عنه البحار ج 5 ص 40.

(3) معاني الاخبار: ص 137.

(4) بحار الأنوار: ج 60 ص 226.

(5) العيون: ص 134 و العلل ج 2 ص 281.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 258

و عن ابن عباس كان اسم إبليس حين كان مع الملائكة عزازيل ثمّ صار إبليس «1»، و يقال: إنّ اسمه كان نابل فلمّا سخط اللّه عليه سمّي شيطانا، و

عن بعضهم انّه كان كنية إبليس أبا كدوس.

ثمّ انّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ إبليس عربي مشتق من الإبلاس، قال في الصحاح:

أبلس من رحمة اللّه أي يئس، و منه سمّي إبليس، و كان اسمه عزازيل، و الإبلاس ايضا الانكسار و الحزن يقال: أبلس فلان إذا سكت غمّا.

قال الراجز «2»:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه و أبلسا و جعله الفيروزآبادي و الراغب و غيرهما أحد الوجهين، و الوجه الآخر الّذي قد يقال بتعيّنه كونه أعجميّا سبيله سبيل إنجيل في كونه معرّبا غير مشتق، و استدلّوا بأنّه لا ينصرف في المعرفة للتعريف و العجمة.

و أجيب بأنّه إنّما لم يصرف استثقالا له من حيث انّه اسم لا نظير له في اسماء العرب فشبّهته العرب بأسماء العجم الّتي لا تنصرف كإسحاق و أيّوب و إدريس، و نحوها ممّا لا تنصرف مع اشتقاقها من أسحقه اللّه إسحاقا و آب و يؤوب، و من الدّرس.

قال شيخنا الطبرسي و غلطوا في جميع ذلك لأنّ هذه الألفاظ معربة وافقت الألفاظ العربيّة، و كان أبو بكر السراج «3» يمثّل ذلك على وجه التبعيد بمن زعم أنّ

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 83.

(2) هو العجّاج عبد اللّه بن رؤبة الشاعر المتوفي سنة (90).

(3) هو محمد بن جعفر بن احمد بن الحسين ابو بكر السراج المتوفى سنة (500).

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 259

الطير ولد الحوت.

قال رحمه اللّه: و غلطوا أيضا في أنّه لا نظير له في اسماء العرب لأنّهم يقولون: إزميل للشفرة، و إعزيض للطّلع، و إحريض لصبغ احمر، و يقال هو العصفر، و سيف إصليت ما من كثير الماء، و ثوب إضريح مشبع الصبغ، و قالوا:

هو من الصفرة خاصّة، و مثل هذا كثير «1».

و في المصباح: انّه لو كان عربيّا لانصرف كما تنصرف نظائره نحو: إجفيل و إخريط.

أقول: و لو تمّ ما ذكروه لتعيّن حمل الأخبار على الاشتقاق المعنوي، و الخطب سهل بعد القطع بعدم انصرافه، و استفادة الإبلاس من لفظه.

ثمّ إنّ الاستثناء منقطع لما ستعرف من عدم كونه من الملائكة، أو متّصل باعتبار كونه جنيّا واحدا في ألوف من الملائكة مغمورا بهم معدودا في عدادهم، حتّى ظنّ بعض الملائكة انّه منهم فغلّبوا عليه في الخطاب حين خوطبوا و في حكاية القصّة لنا او في الثاني خاصّة، و امّا الخطاب التكليفي فلعلّه قد وقع على نحو آخر من دون لفظ و أصوات و لا عبارات و كلمات و انّما ألهمهم ذلك بإلهامات غيبيّة و طرق قطعيّة.

ثمّ انّ ظاهر الآية بل الآيات و الاخبار المشتملة لذكر القصّة كون المتمرّد العاصي هو إبليس خاصّة لكن في النهج في خطبة يذكر فيها خلقة آدم عليه السّلام إلى أن قال: فسجدوا إلّا إبليس و قبيله اعترتهم الحميّة، و غلبت عليهم الشقوة، و تعزّزوا

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 81.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 260

بخلقة النّار، و استوهنوا خلق الصلصال فأعطاه اللّه النظرة استحقاقا للسخطة و استتماما للبلية و انجازا للعدة فقال: انك من المنظرين «1» الخطبة.

حيث انّ الظاهر منها تعدّد المتمرّدين فانّ القبيل في الأصل الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتّى، فان كانوا من أب واحد فقبيله، و لعلّ المراد بقبيله و ذرّيته الّذين رضوا بفعله، و لذا قال عليه السّلام: إنّما يجمع الناس السخط و الّرضا «2».

و يؤيّده قوله بعد صيغ الجمع فأعطاه اللّه النظرة، و ربما يحتمل ايضا

أن يكون المراد به أشباهه من الجنّ في الأرض بأن يكونوا مأمورين بالسجود ايضا و عدم ذكرهم في الآية و الاخبار للاكتفاء بذكر رئيسهم، أو المراد به طائفة خلقها اللّه في السماء غير الملائكة، و فيهما تكلّف، و الأوّل أولى و قال تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ «3» فتأمّل.

أَبى امتنع أن يتواضع لجلال عظمة اللّه و أن يتواضع لأنوار أهل البيت و قد تواضعت له الملائكة كلّها.

وَ اسْتَكْبَرَ و ترفّع استنكافا عن عبوديّته سبحانه و استصغارا لمن رفعه اللّه و شرّفه و خصّه دونهم بالعلم و الخلافة، فلم يخضع له و لم يتخذه وسيلة إلى التقرّب إليه سبحانه، و الإباء ترك الطاعة باختيار، قيل: و ليس الإباء بمعنى الكراهة لأنّ العرب تتمدح بانّها تأبى الضيم و لا مدح في كراهة الضّيم و انّما المدح في الامتناع

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 1 ص 97 ط مصر.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 379 و فيه: إنّما يجمع الناس الرضى و السخط.

(3) الأعراف: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 261

عنه كقوله: وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ «1».

و الاستكبار طلب الكبر كالتكبر، و هو أن يرى نفسه اكبر من غيره، و يترفّع إلى منزلة لا يستحقّها.

القمي عن الصادق عليه السّلام: الاستكبار هو اوّل معصية عصي اللّه بها قال عليه السّلام فقال إبليس: يا ربّ اعفني من السجود لآدم و انا أعبدك عبادة لا يعبدكها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل فقال جلّ جلاله لا حاجة لي إلى عبادتك إنّما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد «2».

وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ اي صار منهم كما في «القاموس» و غيره،

و صرّح به بعض المفسّرين كما في قوله: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ «3» و يؤيّده ما في تفسير الإمام عليه السّلام و كان بإبائه ذلك و تكبّره من الكافرين، و لعلّه المستفاد من بعض ظواهر الاخبار ايضا.

و روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام: قال: إنّ أوّل كفر كفر باللّه حيث خلق اللّه آدم كفر إبليس حيث ردّ على اللّه أمره «4».

و يظهر منه و من غيره من الأخبار بل و من الآيات انّه لم يكن سبب كفره مجرّد المخالفة بل الرّد عليه سبحانه في أمره و تجهيل الحكيم في حكمته على ما يستفاد من قياسه الفاسد و الاستخفاف بنبيّ اللّه آدم عليه السّلام، على أنّ مرجع استكباره

__________________________________________________

(1) التوبة: 32.

(2) بحار الأنوار: ج 11 ص 141 عن تفسير القمي ص 34- 35.

(3) هود: 43.

(4) تفسير العياشي عنه البحار: ج 11 ص 149.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 262

إنّما هو الاستكبار من عبوديته سبحانه، و كفى به كفرا و إلحادا.

او كان كافرا في علمه سبحانه قبل ذلك حيث أضمر في قلبه ترك السجود لآدم و الرّد عليه سبحانه لو أمره بذلك، او كان كذلك في أصل الكينونة و بدو الخلقة، و إن اظهر العبادة مدّة مديدة.

ففي «الخصال» و «تفسير الفرات» بالإسناد عن الحسن عليه السّلام فيما سأله كعب الأحبار عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: لما أراد اللّه خلق آدم بعث جبرئيل فأخذ من أديم الأرض قبضة فعجنه بالماء العذب و المالح، و ركّب فيه الطبائع قبل أن ينفخ فيه الّروح، فخلقه من أديم الأرض، فطرحه كالجبل العظيم، و كان إبليس يومئذ خازنا على السماء الخامسة، يدخل في منخر آدم ثمّ

يخرج من دبره ثمّ يضرب بيده على بطنه فيقول: لأيّ امر خلقت؟ لإن جعلت فوقي لا أطعتك، و لئن جعلت أسفل منّي لا أعينك، فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح «1».

و في «تفسير القمي»: خلق اللّه آدم فبقى أربعين سنة مصوّرا و كان يمرّ به إبليس اللعين فيقول لأمر ما خلقت؟ قال العالم عليه السّلام فقال إبليس لئن أمرني اللّه بالسجود لهذا لعصيته «2».

و في «الاحتجاج» في أسئولة الزنديق المدعيّ للتناقض عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: الايمان بالقلب هو التسليم للرب، و من سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن امره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، و استكبر اكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54 ص 94 عن تفسير الفرات ص 65.

(2) تفسير القمي: ص 24 و عنه البحار ج 11 ص 141.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 263

فلم ينفعهم التّوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل فانّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام، لم يرد بها غير زخرف الدّنيا و التمكين من النظرة «1». الخبر.

و في الخطبة القاصعة العلويّة المذكورة في النهج: الحمد للّه الّذي لبس العزّ و الكبرياء و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمّ اختبر بذلك ملائكة المقرّبين، ليميّز المتواضعين منهم عن المستكبرين، فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب، و محجوبات الغيوب: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ، اعترضته، الحميّة، فافتخر على آدم بخلقه، و

تعصّب عليه لأصله، فعدو اللّه امام المتعصّبين، و سلف المستكبرين الّذي وضع أساس العصبيّة، و نازع اللّه رداء الجبريّة، و أدرع لباس التّعزز، و خلع قناع التذلّل، إلى قوله عليه السّلام: فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، و جهده الجهيد، و كان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدّينا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه تعالى بمثل معصية؟ كلّا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إنّ حكمه في أهل السّماء و اهل الأرض لواحد، و ما بين اللّه و بين أحد من خلقه هوادة في اباحة حمى حرّمه على العالمين «2»، الخطبة.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 27 ص 175 عن الاحتجاج ص 130.

(2) الخطبة: 192 من نهج البلاغة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 264

إبليس كان من الجنّ

ثمّ انّ ظاهر قوله: أخرج به منها ملكا بل لعلّ صريحه كون إبليس ملكا من الملائكة بل ظاهر قوله في صدر الخطبة: ثمّ اختبر بذلك الملائكة المقرّبين كونه من مقرّبيهم، سيّما مع ظهور تقسيمهم إلى المتواضعين و المستكبرين في ذلك، و هذا المذهب هو المحكيّ عن بعض المتكلّمين و اكثر فقهاء العامّة، و حكاه في «المجمع» عن ابن عباس و ابن مسعود و قتادة، و اختاره من أصحابنا شيخ الطائفة في «التبيان» قال: و هو المروي عن أبي عبد اللّه و الظاهر في تفاسيرنا، ثمّ حكى عن القائلين بأنّه كان منهم فقيل: إنّه كان خازنا على الجنان، و قيل كان له سلطان سماء الدنيا و سلطان الأرض، و قيل: إنّه كان يسوس ما بين السّماء و

الأرض «1».

و غاية ما يستدلّ لهم على ذلك وجوه.

أحدها: أنّه لو لم يكن منهم لما تناوله الخطاب المتوجّه إلى الملائكة في صريح الآية، و حينئذ فلم يكن مأمورا بالسجود فلا تكليف فلا مخالفة، فيجب أن لا ينسب إليه الإباء و الاستكبار و لا يستحقّ الذّم و العقاب.

ثانيها: انّ الاستثناء ظاهر او حقيقة في المتّصل، و قضيّة دخول المستثنى في المستثنى منه لأنّه إخراج ما لولاه لدخل في الحكم لدخوله في الموضوع، فيجب أن يكون داخلا في عداد الملائكة لأنّ اللّه تعالى قد استثناه منهم في آيات كثيرة.

ثالثها: الخطبة المتقدّمة حسبما سمعت من التقريب مضافا إلى ما أرسله في

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 265

«التبيان» من انّه المرويّ عن الصادق عليه السّلام معتضدا بما ادّعاه الشيخ من استظهاره في تفاسيرنا.

و الجواب عن هذه الوجوه أنّها مع تسليم دلالتها و الغضّ عمّا فيها على ما تسمع كلّها ظواهر يجب الخروج عنها بمقتضى ما دلّ على عدم كونه من الملائكة من الأدلّة القطعيّة الّتي منها الإجماع القطعي الدّال على عصمتهم عن الصغائر و الكبائر، مضافا إلى الآيات و الاخبار الدّالّة عليها حسبما مرّت إليه الإشارة، و منها الإجماع المنعقد في خصوص المقام ايضا، فانا لا نعرف أحدا من الاماميّة ذهب إلى كونه من الملائكة عدى الشيخ الذي لا يقدح خروجه في انعقاده لكونه معلوم النسب، و لكون قوله هذا مخالفا لما هو المقطوع من مذهب الإماميّة من ذهابهم إلى عصمة جميع الملائكة فكان قوله هذا مع شذوذه و انفراده به و مخالفته لما استقرّ عليه مذهب الاماميّة و تواترت به اخبارهم على ما تسمع مسبوقا بالإجماع على خلافه ملحوقا

به و احتمال نسبته إلى مفسّرينا كما استظهره منهم في تبيانه موهون جدّا سيّما مع عدم الحكاية من غيره رأسا في كتب التفسير و غيرها، بل المحكي عن شيخه و هو المفيد رحمه اللّه في كتاب «المقالات» انّه قال: إنّ إبليس من الجنّ خاصة، و انّه ليس من الملائكة و لا كان منها قال اللّه تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ «1»، و جاءت الاخبار متواترة عن ائمّة الهدى من آل محمّد عليهم السّلام بذلك و هو مذهب الاماميّة «2» كلّها و كثير من المعتزلة و اصحاب الحديث، و منها الاخبار الكثيرة

__________________________________________________

(1) الكهف: 50.

(2) مجمع البيان: ج 1 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 266

الّتي لا يبعد دعوى تواترها بل هي متواترة معنى كما صرّح به المفيد و غيره فلا علينا أن نتعرّض لشطر منها في المقام و ان طال بها زمام الكلام.

ففي «تفسير القمي» في الصحيح عن جميل بن درّاج قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عما ندب اللّه الخلق إليه أدخل فيه الضلال قال: نعم و الكافرون دخلوا فيه، لأنّ اللّه تبارك و تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم فدخل في أمره الملائكة و إبليس، و انّ إبليس كان مع الملائكة في السّماء يعبد اللّه، و كانت الملائكة تظنّ أنّه منهم و لم يكن منهم، فلمّا أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة عند ذلك أنّ إبليس لم يكن منهم، فقيل له عليه السّلام:

فكيف وقع الأمر على إبليس و إنّما أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم فقال: فكان إبليس منهم بالولاء و لم يكن من جنس الملائكة، و ذلك انّ اللّه تعالى خلق

خلقا قبل آدم، و كان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا و أفسدوا و سفكوا الدّماء فبعث اللّه الملائكة فقتلوهم و أسروا إبليس و رفعوه إلى السماء فكان مع الملائكة يعبد اللّه إلى أن خلق اللّه تبارك و تعالى آدم «1» آه.

أقول: قوله في صدر الخبر: انّه كان مع الملائكة اي بالولاء كما بيّنه في ذيله، و فيه وجوه من الدّلالة على أنّه لم يكن من جنسهم، بل و يدلّ أيضا على عصمة الملائكة و لو من الحسد.

في تفسير العياشي عن جميل بن درّاج عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من امر السّماء و كان من الجنّ؟

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار، ج 60، ص 273، رقم 160 عن تفسير القمي ص 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 267

فقال عليه السّلام: كان مع الملائكة و كانت الملائكة ترى انّه منها و كان اللّه يعلم انّه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الّذي كان «1».

و رواه شيخنا الصدوق في كتاب النبوّة بالإسناد عنه عليه السّلام و فيه عنه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن إبليس أ كان من الملائكة او كان يلي شيئا من امر السماء؟

فقال عليه السّلام لم يكن من الملائكة و كانت الملائكة ترى انّه منها و كان اللّه يعلم انّه ليس منها و لم يكن يلي شيئا من أمر السّماء و لا كرامة قال جميل: فأتيت الطّيار فأخبرته بما سمعت فأنكر و قال: كيف لا يكون من الملائكة و اللّه يقول للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ: فدخل عليه الطيار «2» فسأله و انا عنده فقال له: جعلت فداك

قول اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أ يدخل في هذه المنافقون؟ قال: نعم يدخل في هذه المنافقون و الضّلال و كلّ من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة «3».

و في تفسير الامام عليه السّلام انّه قيل له عليه السّلام فعلى هذا لم يكن إبليس ايضا ملكا فقال لا بل كان من الجنّ أما تسمعون اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ «4» و هو الّذي قال اللّه عزّ و جلّ: وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ «5»، إلى آخر ما يأتي في قصّة هاروت و ماروت ممّا يدلّ على

__________________________________________________

(1) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 34 ح 16.

(2) المشهور بهذا اللقب محمد بن عبد اللّه الكوفي من اصحاب الصادق عليه السّلام.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 148 عن العياشي.

(4) الكهف: 50.

(5) الحجر: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 268

عصمة الملائكة و عظم شأنهم.

و روى الصدوق في «العلل» و «المجالس» عن سلمان الفارسي قال: مر إبليس بنفر يتناولون أمير المؤمنين عليه السّلام، فوقف أمامهم، فقال القوم: من الّذي وقف أمامنا؟ فقال: أنا أبو مرّة؟ فقال: يا أبا مرّة أما تسمع كلامنا؟ فقال سوأة لكم تسبّون مولاكم عليّ بن ابي طالب؟ قالوا له: من أين علمت أنّه مولانا؟ قال: من قول:

نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، فقالوا له: فأنت من مواليه و شيعته؟ فقال: ما أنا من مواليه و لا من شيعته، و

لكنّي أحبّه و ما يبغضه احد إلّا شاركته في المال و الولد، فقالوا له: يا أبا مرّة فتقول في عليّ شيئا؟ فقال لهم: اسمعوا منّي معاشر الناكثين و القاسطين و المارقين عبدت اللّه عزّ و جلّ في الجانّ اثنى عشر ألف سنة، فلمّا أهلك اللّه الجان شكوت إلى اللّه عزّ و جلّ الوحدة فعرج بي إلى السّماء الدّنيا، فعبدت اللّه تعالى في السّماء الدّنيا اثنى عشر ألف سنة اخرى في جملة الملائكة فبينا نحن كذلك نسبّح اللّه عزّ و جلّ و نقدّسه إذ مرّ بنا نور شعشعاني، فخرّت الملائكة لذلك النور سجّدا فقالوا:

سبّوح قدّوس هذا نور ملك مقرّب او نبيّ مرسل، فإذا بالنّداء من قبل اللّه عزّ و جلّ ما هذا نور ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، هذا نور طينة عليّ بن ابي طالب «1». إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الّتي يظهر منها استقرار مذهب الأئمّة عليهم السّلام على عدم كونه من الملائكة، و ان كان قد سرى الوهم إلى الطيّار و غيره من ظاهر الخطاب، و لذا أجاب الإمام عليه السّلام بما حاصله أنّ الخطاب يتعلّق بمن أقرّ بالدّعوة الظاهرة و إن لم

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 143- 144 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 269

يشاركهم في الحقيقة و في الايمان الحقيقي.

و بالتأمّل في فحاويها يظهر الجواب عن الأدلّة المتقدّمة لضعف الأوّل بأنّه لمّا نشأ معهم و طالت خلطته بهم تناوله الخطاب المتوجه إليهم مضافا إلى ما مرّت الإشارة إليه من كون التغليب في الحكاية لا الخطاب، و انّما كان الافهام بالإلهام او بخصوص خلق الكلام و يؤيّده قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «1».

و الثّاني: بكون الاستثناء منقطعا

او مبنيّا على التغليب في المستثنى منه و لو بمعونة الأخبار المتقدّمة و غيرها ممّا يفيد القطع بالمطلوب فلا يقدح مخالفتهما للظّاهر سيّما مع اقترانه بقوله كانَ مِنَ الْجِنِّ الّذي هو كالقرنية المتّصلة على ما ستسمع.

الثالث: بانّ اطلاق الملك عليه في الخطبة مبنيّ على كونه معهم في العبادة و منهم بحسب الولاء و في زعمهم على ما أشير اليه في الاخبار المتقدّمة، و أمّا ما أرسله في «التبيان» فلم نجد منه أثرا في الأخبار، و على فرضه يجب تأويله كما يؤوّل الضعيف العامي المرويّ في البحار عن كتاب «غور الأمور» للترمذي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله في خبر ظهور إبليس ليحيى النبي على نبيّنا و آله و عليه السّلام و فيه انّه قال له يحيى عليه السّلام ما بال خلقك و صورتك على ما ارى من القبح و التقليب و الإنكار؟ قال: يا نبيّ اللّه هذا بسبب أبيك آدم إنّي كنت من الملائكة المكرمين و انّي لم ارفع رأسي من سجدة واحدة اربعمائة ألف سنة و عصيت ربّي في امر سجودي لآدم أبيك فغضب اللّه عليّ و لعنني، فحوّلت من صورة الملائكة إلى صورة الشياطين و لم يكن في

__________________________________________________

(1) الأعراف: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 270

الملائكة أحسن صورة منّي فصرت ممسوخا منكوسا مقبوحا هائلا كريها كما ترى «1». الخبر بكونه في جملتهم بحسب الظاهر في أجمل زيّ و أحسن صورة حتّى ظهرت منه المخالفة الكامنة ما تقلّبت صورته إلى ما اقتضته سيرته، مع أنّه لا عبرة بقوله المحكي عنه، و على كلّ حال فيتعيّن تأويل أمثال هذه الاخبار أو طرحها بعد استقرار المذهب على عدم كونه منهم، بل و دلالة

قواطع الأدلّة عليه حسبما سمعت، بل قد يستدلّ عليه ايضا بقوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «2»، فانّ المراد به حيث يطلق الجنس المعروف الّذي يقابل بالإنس.

و توهّم أن «كان» بمعنى صار كما في قوله: وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ سيّما مع نصّ الأخفش و غيره عليه، مدفوع بانّه خلاف الظّاهر فلا يصار عليه إلّا بدليل فضلا عن قيامه، على خلافه.

و أمّا ما يقال من أنّ الجنّ مشتقّ من الاجتنان و هو السّر و منه الجنين و الجنّة و الجنون، و الملائكة لمّا كانوا مستترين عن العيون صحّ إطلاق الجنّ «3» سلّمنا لكنّ المراد به طائفة من الملائكة معروفون بهذا الإسم كما روته العامّة عن بعض اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رواه بعضهم عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السموم من بين الملائكة و كان خازنا من خزّان الجنّة، قال: و خلقت الملائكة كلّهم من نور غير هذا الحيّ قال و خلقت

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 63 ص 229.

(2) الكهف: 50.

(3) مفاتيح الغيب للرازي: ج 2 ص 213.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 271

الجنّ الّذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، و هو لسان النّار الّذي يكون في طرفها إذا لهبت «1» و خلق الإنسان من طين فأوّل من سكن الأرض الجنّ فأفسدوا فيها و سفكوا الدّماء و قتلوا بعضهم بعضا فبعث اللّه إبليس في جند من الملائكة و هم هذا الحيّ الّذي يقال لهم الجنّ فقتلهم إبليس و من معه حتّى الحقوهم بجزائر البحور و أطراف الجبال فلمّا فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه

و قال قد صنعت شيئا لم يصنع احد قال فاطلع اللّه على ذلك من قلبه و لم يطلع عليه الملائكة الّذين كانوا معه.

و في رواية اخرى عنه: انّ من الملائكة قبيلة يسمّون الجنّ و كان إبليس منها و كان يسوس ما بين السّماء و الأرض «2».

بل قد يؤيّد ايضا بقوله تعالى: وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «3» حيث أن قريشا قالت الملائكة بنات اللّه.

ففيه انّ هذا كلّه مخالف للظّاهر الّذي هو الحجّة بل كانّه ردّ على النصوص المتقدّمة المصرّحة بأنّه كان من الجنّ لا من الملائكة و انّه كان معهم و الملائكة كانوا يحسبون انّه منهم و لم يكن منهم إلى أن كان منه الّذي كان و انّه كان من بني الجان، و قد سمعت انّه قد وقع السؤال في كثير منها من اشتمال الخطاب له مع عدم كونه منهم، و احتمال معارضة مثل هذه النصوص المأثورة عن أئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين بالمرويّ عن ابن عباس و غيره من طرق العامة ممّا لا ينبغي الإصغاء اليه على أنّ ظاهر الآية تعليل تركه السجود بأنّه كان من الجنّ، و لذا فرع

__________________________________________________

(1) جامع البيان للطبري ج 1 ص 178.

(2) جامع البيان للطبري: ج 1 ص 178.

(3) الصافات: 158.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 272

عليه بالفاء قوله: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «1» و من البيّن انّه لا يصحّ تعليل ترك السجود باختفائه عن العيون و لا بكونه خازنا عن الجنة و لا تفريع التمرّد و العصيان على شي ء منهما، و لفظ الجنّ و إن جاز إطلاقه على الملك بحسب اللّغة على ما قيل، إلّا انّه صار بحسب العرف مختصّا بالجنس

المقابل للانس و الملك، فلا يحمل على المعنى اللّغوي الّذي هو مجاز عرفي إلّا لدليل، و لذا قوبل به في قوله وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ «2».

نعم روي في «تفسير الفرات» عن محمّد بن علي عن آبائه عليهم السّلام قال: هبط جبرئيل عليه السّلام على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو في منزل امّ سلمة، فقال يا محمّد انّ ملأ من ملائكة السّماء الرابعة يجادلون في شي ء، حتّى كثر بينهم الجدال فيهم، و هم من الجنّ من قوم إبليس الّذين قال اللّه في كتابه: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «3» فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة قد كثر جدالكم فتراضوا بحكم من الآدميّين يحكم بينكم، قالوا: قد تراضينا بحكم من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فأوحى اللّه إليهم بمن ترضون من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله؟ قالوا: رضينا بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام فأهبط اللّه ملكا من ملائكة السّماء الدنيا ببساط و أريكتين فهبط إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بالّذي جاء فيه، فدعا النّبي صلّى اللّه عليه و آله بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام و أقعده على البساط و وسّده بالأريكتين، ثمّ تفل في فيه، ثمّ قال يا علي ثبّت اللّه قلبك و نوّر حجّتك بين عينيك، ثمّ عرج به

__________________________________________________

(1) الكهف: 50.

(2) سبأ: 41.

(3) الكهف: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 273

إلى السّماء فلمّا نزل قال: يا محمّد إنّ اللّه يقرؤك السلام و يقول لك: نرفع درجات

من نشاء، و فوق كلّ ذي علم عليم «1».

لكنّه قاصر عن معارضة ما سمعت بعد ظهور ضعف سنده و دلالته.

و أمّا الاستدلال للمختار بأنّ إبليس له نسل و ذريّة لقوله: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ «2».

و الملائكة لا ذرّيّة لهم، لأنّه ليس فيهم أنثى لقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «3» و الذّرية انّما تحصل بالذكر و الأنثى، و انّ الملائكة رسل اللّه لقوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «4»، و رسل اللّه معصومون لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «5»، و أنّ الملائكة روحانيّون مخلوقون من الأنوار، و الجانّ مخلوق من مارج من نار، و أنّ الملائكة لا يطعمون و لا يشربون، بل طعامهم التّسبيح و شرابهم التّهليل، و أمّا الجنّ فقد ورد في الأخبار: النّهي عن التمسّح بالعظم و الّروث معلّلا بكونهما طعاما لهم «6» فلا بأس بها تأييدا لما سمعت، و إن كان بعضها لا يخلو عن قصور، و لعلّ من أمعن النظر في أخبار الباب و الأصول المقرّرة بين الأصحاب يقطع بأنّ مذهب اهل البيت عليهم السّلام هو ما سمعت من غير ارتياب.

__________________________________________________

(1) تفسير فرات: ص 70- 71 و عنه البحار ج 39 ص 161.

(2) الكهف: 50.

(3) الزخرف: 19.

(4) فاطر: 1.

(5) الأنعام: 124.

(6) بحار الأنوار: ج 63 ص 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 274

ثمّ إنّ من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما قد يقال دلالة الآية على كون إبليس من الملائكة، و انّ من الملائكة من ليس بمعصوم، كما لا يخفى ضعف دلالتها على حصول الكفر بأفعال الجوارح مجرّدة عن الأمور القلبية على ما قيل، لما ستعرف

من أنّ سبب كفره هو الاستخفاف بأمر اللّه و الرّد عليه.

ما يستفاد من الآية الكريمة

نعم تدلّ على تفضيل آدم على كلّ الملائكة، لتعلّق الخطاب عليهم جميعا على ما مرّ، و على حرمة الاستكبار، و أنّه قد يفضي بصاحبه إلى أن يعدّ من الكفّار و يستحقّ النّار، و على الحثّ على الايتمار لأمر اللّه تعالى و ترك الخوض في سرّه، و على بطلان القول بالجبر لنسبة السجود إلى الملائكة، و الإباء و الاستكبار و الكفر إلى إبليس، و لو لم يكن لهم قدرة و اختيار لما صحّ شي ء من ذلك و على كون صفة افعل للوجوب، و إن كان ذلك لا يخلو عن خفاء، لا لاحتمال القرينة في الخطابات الشفاهيّة، و الأصل و إن كان دافعا للمقالية إلّا أنّه لا يدفع الحاليّة إذ الشك في الحادث لا الحدوث، و لا لوروده عقيب الحظر أو توهّمه لحرمة السجود لغيره سبحانه فأفاد الإباحة و فهم الوجوب لقرينة فلا دلالة، و لا لاحتمال الاختلاف بين عرفنا و عرف الملائكة و التزام اتّحاد الوضع و اللغة منظور فيه و ظهور الحكاية في الموافقة ممنوع بعد إفهام المرام، و ذلك لأنّه يمكن دفع ذلك كلّه بالأصل، و الظهور الّذي هو الحجّة مضافا إلى تطرّق وجوه المناقشة إليها كما يمكن دفع كثير من الاعتراضات الّتي ربما يورد عليها، بل لأنّ الذّم و التكفير على الاستكبار الّذي

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 275

لا ريب في حرمته سواء كان استكباره على آدم أو على اللّه سبحانه في امتثال أوامره الواجبة أو المندوبة، فإنّ ترك المندوب عتوّا و علوّا و استكبارا عليه سبحانه حرام قطعا، بل هو من أسباب الارتداد و الكفر، و الّا فالذمّ و الإنكار

في هذه الآية و غيرها من الآيات المشتملة على هذه القصّة غير مترتّب على مجرّد ترك الامتثال الّذي لم يعلم كونه سببا للكفر، و لو في حقّ إبليس أو جنود الملائكة المقرّبين.

و من هنا يتّجه أن يقال إنّ هاهنا أمورا ثلاثة: إباء للسجود، و استكبار على آدم، و إنكار لرجحان السجود المأمور به من اللّه تعالى، بل دعوى قبحه لاشتماله على تفضيل المفضول، و لا ريب في سببيّته للكفر لكونه تسفيها للحكيم و تجهيلا للخالق العليم، و إلى هذه الأمور الثلاثة المترتّبة أشير بقوله أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ يعني باعتراضه عليه سبحانه بقوله: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ «1» و قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* «2».

ثمّ انّه ربّما يستدلّ بالآية ايضا على صحّة القول بالموافاة، و المراد به أنّ الّذي علم اللّه من حاله انّه يتوفّى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم، و ان كان بحكم الحال مؤمنا كما يحكى عن أبي الأشعري، و بناه في «المجمع» على أحد الوجوه «لكان» قال: و امّا قوله: كانَ مِنَ الْكافِرِينَ قيل:

معناه كان كافرا في الأصل، و هذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة، و قيل: أراد كان في علم اللّه من الكافرين «3» إلى آخر ما ذكره.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 62.

(2) ص: 76.

(3) مجمع البيان: ج 1 ص 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 276

و المحكيّ عن «الملل و النحل» تفسير الموافاة بانّ الايمان هو الّذي يوافي الموت فمن أطاع اللّه جميع عمره، و قد علم اللّه انّه يأتي بما يحبط عمله، و لو بكبيرة لم يكن مستحقّا للوعد، و لا مؤمنا و كذلك

على العكس، و قد يقرّر بأنّ الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم، و الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، و الجمع بين الاستحقاقين محال، فإذا صدر الايمان من المكلّف ثمّ صدر عنه و العياذ باللّه بعد ذلك كفر، فإمّا أن يبقى له الاستحقاقان معا و هو محال، او يكون الطّاري مزيلا للسابق و هو ايضا محال، لأنّ القول بالإحباط باطل فلم يبق إلّا أن يقال إنّ هذا الفرض محال، و شرط حصول الايمان في وقت أن لا يصدر الكفر عنه قطّ، فإذا كان الخاتمة على الكفر علمنا أنّ الّذي صدر عنه اوّلا ما كان ايمانا، و حيث انّه كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنّه ما كان مؤمنا قطّ.

أقول: امّا إبليس فالظّاهر من كثير من الأخبار انّه لم يرد بعبادته التقرب إلى اللّه سبحانه و نيل ما لديه من المثوبة الاخرويّة و الزلفى و الكرامة و إنّما كان مقصوده نيل الحظوظ العاجلة و الرّياسة الباطلة، و امّا الآية فقد سمعت أنّ فيها وجوها كثيرة، و من البيّن انّه يضعف دلالتها على المذهب المتقدّم، بناء على اكثر الوجوه فيها بل جميعها بعد ملاحظة أنّ ايمان إبليس كان من اوّل الأمر كلا إيمان، حسبما سمعت على أنّ القول بالموافاة بمعنى المتقدّم مخالف لما دلّت عليه ظواهر الأدلّة من الكتاب و السنّة، فان صحّة الإيمان في زمان غير مشروطة بعدم طروّ الكفر عليه، و لو بعد سنين من الأزمنة بعد كونه عند تحقّقه مستجمعا للتّصديق بالجنان و العمل بالأركان و الإقرار باللّسان، فانّ هذه الثلاثة و هي أركان الايمان بحيث إذا تحقّقت

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 277

تحقّق قطعا، و ان كان ربما يصدق بتحقّق البعض ايضا، نعم لو

كان التّصديق اللّساني مقترنا بالعزم القلبي على إنشاء الكفر و إظهاره فيما بعد لم يبعد القول بعدم تحقّق الإيمان رأسا، و لعلّ الأولى تنزيل القول بالموافاة على ذلك، سيّما ما نسبه في «المجمع» إلى مذهبنا الظّاهر في نسبته إلى الاماميّة المشعرة بدعوى الإجماع عليه، إلا أنّ مساق كلماتهم يأبى عن ذلك، بل الظاهر منها أنّه مع خلوص إيمانه و اقترانه بكلّ ما يعتبر اقترانه به لو اتّفق منه الكفر في آخر عمره بحيث قد مات عليه فلا يعد إيمانه ايمانا أصلا، لظهور الكاشف عن عدم كونه إيمانا في الحقيقة، و هو كما ترى مخالف لظواهر الأدلّة، بل ربما يمكن تحصيل القطع على خلافه و أين هذا مما أدعى الإجماع على صحته و يمكن أن يكون المراد أنّ من ختم له بالكفر فحكمه في الخلود و سائر الأحكام حكم الكفّار، و إن كان في اكثر عمره مقيما على وظائف الإيمان، كما أنّ من ختم له بالإيمان فهو محشور في زمرة المؤمنين مبشّر بخلود الجنان، و ان انقضى عمره في الكفر و الطّغيان، و هذا ايضا لا بأس به، بل هو المستفاد من ظاهر الآيات و الاخبار، كما أنّ المستفاد منها كونه في حال الايمان مؤمنا على الحقيقة، و في حال الكفر كافرا على الحقيقة، نعم الختم بالكفر يوجب حبط الأعمال الصالحة و بطلانها، أو كون المجازات بها في هذه الدّار الفانية، و لذا يخاطبون في الآخرة بقوله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ «1»، كما أنّ الختم بالإيمان يوجب تكفير السّيئات، فإنّ الإسلام يجبّ ما

__________________________________________________

(1) الأحقاف: 20.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 5، ص: 278

قبله، و التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له، و الحبط و التكفير بهذا المعنى ممّا يدلّ عليه المنقول، و لم يقم على فساده شي ء من أدلّة العقول، بل هو المختار عند الإماميّة على ما صرّح به بعض الفحول، و أمّا الحبط و التكفير بالمعنى الّذي قال به بعض المعتزلة، و قام النّص و الإجماع على بطلانه عند الاماميّة فهو إذهاب كلّ من الحسنة و السيّئة على قدر ما لها من المرتبة ضعفا و قوّة للأخرى مع ذهابها على قدر إذهابها، و اين هذا ممّا أشرنا اليه من المعنى المتقدّم، و من هنا يظهر ضعف ما ربما يستدلّ به للقول بالموافاة بالمعنى المتقدّم من انّ الايمان يوجب استحقاق الثواب الدّائم إلى آخر ما مرّ تقريره.

تفسير الآية (35)

اشارة

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ لما أنعم اللّه تعالى على أدم على نبيّنا و آله و عليه السلام بصنوف الأنعام و اختصّه من العلوم و المعارف و تعليم الملائكة بما أوجب له به مزيد الإعظام، و أسجد له الملائكة الكرام خاطبه خاطبا فهوانيّا بلا وسط على وجه الإلهام، او خلق الكلام، أو معه على وجه الإيصال و الإعلام بألسنة تراجمة الوحي عليهم الصلاة و السلام، كما يومئ إليه بعض الأخبار.

فالنون في قوله: «و قلنا» نون الكبرياء و العظمة، او نون الوساطة و الكرامة، و ناداه باسمه تكريما و تقريبا و إن آثر كلمة «يا» من بين حروف النّداء تنبيها على صدور الخطاب عن سرادق العظمة و الجلال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 279

و قوله: «اسكن» أمر من السكنى بمعنى اتّخاذ المسكن، لا من السكون بمعنى ترك الحركة، و منه السكن بالفتح للمنزل،

و بالسكون لأهله، و أصل السكنى أن يعدّى بفي كما يقال: قرّ فيه، و لبث فيه، إلّا أنّهم لمّا نقلوه إلى سكون خاص تصرّفوا فيه، فقالوا: سكن الدار.

و «أنت» تأكيد للمستكن في اسكن ليصحّ العطف عليه، و لم يقدروا و لتسكن زوجك للتنبيه على أنّه هو المقصود بالحكم، و المعطوف عليه تبع له، و لولاه لم تكن مأمورة به، بل لم تكن أصلا بخلاف ما لو قيل: اسكنا، و الرجل زوج المرأة، و هي زوجه، و زوجته، و الجمع فيهما أزواج، و حكى في «المصباح المنير» أنّ أهل نجد يقولون في المرأة زوجة بالهاء، و أهل الحرم يتكلّمون بها مجازا، و عكّس ابن السكّيت فقال: و اهل الحجاز يقولون للمرأة زوج بغير هاء و سائر العرب زوجة بالهاء و جمعها زوجات، قال: و الفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها للإيضاح و خوف لبس الذكر بالأنثى، إذ لو قيل: تركة فيها زوج و ابن لم يعلم ذكر او أنثى.

أقول و الأشهر الأوفق للعرف و اللّغة ما ذكرناه أوّلا، و المراد بها حواء خلقها اللّه تعالى من فاضل طينة آدم ليسكن إليها حين استوحش من الانفراد كما قال:

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً «1».

قيل إنّه لما أخرج إبليس من الجنّة و لعن، و بقي آدم وحده استوحش إذ ليس معه من يسكن إليه، فخلقت حوّاء ليسكن إليها.

__________________________________________________

(1) الروم: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 280

و في المجمع مرسلا أنّ اللّه تعالى ألقى على آدم النوم، و أخذ منه ضلعا فخلق منه حوّاء فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فسألها من أنت؟ قالت امرأة، قال لم خلقت؟

قالت لتسكن إليّ، فقالت الملائكة: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء، قالت و لم سمّيت حوّاء؟ قال: لأنّها خلقت من حيّ، فعندها قال اللّه تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ «1».

و ستسمع ان شاء اللّه تعالى الكلام في وجه تسميتها و معنى كونها مخلوقة من ضلع آدم الأيسر في أوّل سورة النّساء.

و حيث إنّ نعمة السكنى لا تتمّ بدون التسكّن لأنّه مسكّن القلب، و هي مسكن البدن قدّمه عليها في هذه الآية تقديم الرفيق على الطريق و الجار على الدّار.

و الأقوال كظواهر الأخبار مختلفة في كون حوّاء مخلوقة في الجنّة أو قبل دخولها، فربّما يستفاد منها الأوّل و قيل: إنّها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنّة، ثمّ ادخلا معا الجنّة، و هو الظّاهر من تفسير الامام عليه السّلام على ما يأتي «2».

و الأمر بسكنى الجنّة للإباحة لا التّعبد، إذ لا تكليف في السكنى في المواضع النزهة الطّيبة، كما أنّ الأمر في «كلا» للإباحة، و احتمال أن يكون مأمورا بالكون فيها باعتبار ترك أكل الشجرة مبنيّ على كون النّهي للتّحريم، و ضرورة المذهب تنفيه، على ما تسمع، و قد مرّ الكلام في اشتقاق الجنّة.

نعم قد اختلفوا في أنّ الجنّة الّتي أسكنها اللّه تعالى آدم هل هي من جنان

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 85 رواها مرسلا عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

(2) تفسير الامام العسكري (ع): ص 221.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 281

الآخرة أو من جنان الدنيا؟

و على الأوّل هل هي جنّة الخلد او جنّة المأوى أو شي ء من الجنان الثمانية المعدّة لثواب الآخرة؟

و على الثاني هل هي في السماء أو في الأرض عند صخرة بيت المقدس، او بأرض فلسطين، او على

ظهر الكوفة او بين فارس و كرمان؟ على اقوال.

و احتجّ الأوّلون بأنّ ظاهر الالف و اللام للعهد و المعهود المعلوم بين المسلمين هي جنّات الآخرة المعدّة للثواب و بأنّها هي المتبادر منها حتّى صار الإسم كالعلم لها فوجب الحمل عليها.

و الآخرون بأنّ دار الخلد لا يفنى نعيمها و لا يدخلها الشيطان بعد طرده و لعنه، و بانّها لو كانت دار الخلد لما خرج آدم منها كما يقتضيه التّسمية و لقوله:

وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «1»، و بانّ الشيطان وسوس لآدم عليه السّلام بقوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى «2»، و معلوم انّها لو كانت جنّة الخلد لما تمكّن من وسوسة بذلك.

ثمّ منهم من حمل الإهباط على كونه من السماء إلى الأرض كانّه الظاهر، و لقوله: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ «3»، الظّاهر في كون الهبوط من غيرها، و لما روي عن أمير المؤمنين حيث سئل عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال عليه السّلام: واد

__________________________________________________

(1) الحجر: 48.

(2) طه: 120.

(3) البقرة: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 282

يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء «1».

و منهم من حمله على مجرّد الانتقال من أرض إلى أرض سيّما مع انحطاط الرتبة كما في قوله: اهْبِطُوا مِصْراً «2».

على أنّ ذكر الهبوط لا يدلّ على كون النّزول من السماء قال اللّه تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ «3» و انّما كان في السفينة حين استقرّت على الجودي و قال: إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «4»، قالوا و لا مانع بل هو الواقع انّ الجنّة الّتي أسكنها آدم كانت مرتفعة على سائر بقاع الأرض ذات أشجار و ثمار

و ظلال و نعيم و نضرة و سرور كما قال اللّه سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى «5» اي لا يذل باطنك بالجوع و لا ظاهرك بالعرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «6» اي لا يمس باطنك حرّ الظمأ و لا ظاهرك حرّ الشمس، هذا مع أنّ آدم خلق من الأرض، و لم ينقل انّه رفع إلى السّماء، بل خلق ليكون في الأرض، و بهذا أعلم اللّه سبحانه الملائكة حيث قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «7».

و الّذي يستفاد من اخبار أهل البيت عليهم السّلام انّها لم تكن جنّة الخلد و لا من جنان الآخرة و لا كانت في السّماء بل كانت من جنان الدّنيا.

__________________________________________________

(1) عيون الأخبار: ج 1 ص 244.

(2) البقرة: 61.

(3) هود: 48.

(4) البقرة: 74.

(5) طه: 118.

(6) طه: 119.

(7) البقرة: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 283

ففي العلل في الموثّق عن الحسن بن بشار عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن جنّة آدم؟ فقال: جنّة من جنان الدّنيا يطلع عليها الشمس و القمر و لو كانت من جنان الخلد ما خرج منها ابدا «1»، و في بعض النسخ: يطلع فيها الشمس و القمر و رواه في «الكافي» بالإسناد عنه عليه السّلام.

و في «تفسير القمي» مرفوعا قال سئل الصّادق عليه السّلام عن جنّة آدم أمن جنان الدّنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها ابدا «2». الخبر.

نعم ربما يستظهر من بعض الأخبار ما يخالف ذلك كما رواه العياشي عن عبد اللّه بن

سنان قال: سئل ابو عبد اللّه عليه السّلام و انا حاضركم لبث آدم و زوجه في الجنّة حتّى أخرجهما منها خطيئتهما؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثمّ برأ زوجته من أسفل أضلاعه، ثمّ أسجد له ملائكة و اسكنه جنّته من يومه ذلك فو اللّه ما استقرّ فيها إلّا ستّ ساعات في يومه ذلك حتّى عصى اللّه فأخرجهما اللّه منها بعد غروب الشمس، و ما باتا فيها و صيّرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا فبدت لهما سوءاتهما و ناداهما ربّهما الم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحيا آدم من ربّه و خضع و قال ربّنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا قال اللّه لهما: اهبطا من سماواتي إلى الأرض فانّه لا يجاورني في جنتي عاص و لا في سماواتي «3».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 600 ح 55.

(2) تفسير القمي: ص 35 و عنه البحار ج 11 ص 161 ح 5.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 188- 189 عن تفسير العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 284

و في «العلل» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّ آدم لمّا عصى ربّه عزّ و جلّ ناداه مناد من لدن العرش يا آدم اخرج من جواري فانّه لا يجاورني احد عصاني فبكى و بكت الملائكة فبعث اللّه عزّ و جلّ اليه جبرئيل فاهبطه إلى الأرض مسودّا «1» آه.

و في «المعاني» و «العيون» و «القصص» عن الرّضا عليه السّلام في الخبر الآتي في شجر الجنّة انّها تحمل أنواعا فكانت شجرة الحنطة و فيها عنب، و ليست كشجر الدنيا، و انّ آدم لمّا أكرمه اللّه تعالى باسجاد ملائكة له

و بإدخاله الجنة ... إلى أن قال:

فأخرجهما اللّه تعالى عن جنّته و أهبطهما عن جواره إلى الأرض «2».

و في النّهج عن بعض خطب امير المؤمنين عليه السّلام ثمّ اسكن سبحانه آدم دارا ارغد فيها عيشته، و آمن فيها محلّته، و حذّره إبليس و عداوته، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكّه و العزيمة بوهنه و استبدل بالجذل، و جلا، و بالاغترار ندما، ثمّ بسط اللّه سبحانه له في توبته، و لقّاه كلمة رحمته، و وعده المردّ إلى جنّته، فأهبطه إلى دار البليّة و تناسل الذّرية، الخطبة «3».

فانّ الظاهر من دار المقام انّها دار الخلد، سيّما مع ما سبقه من الأوصاف و ما لحقه من قوله: و وعده المردّ إلى جنّته.

و مثله ما في «المعاني» عن الصادق عليه السّلام في خبر قال: و لقد قام آدم على باب الكعبة ثيابه جلود الإبل و البقر فقال: اللّهم أقلني عثرتي و اغفر لي ذنبي و اعدني إلى الدّار الّتي اخرجتني منها فقال اللّه عزّ و جلّ: قد أقلتك عثرتك، و غفرت لك ذنبك،

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 133 و عنه البحار ج 11 ص 171.

(2) معاني الأخبار: ص 42 و العيون ص 170 و عنهما البحار ج 11 ص 165.

(3) نهج البلاغة الخطبة الأولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 285

و سأعيدك إلى الدّار الّتي أخرجتك منها «1».

و ما في القصص من انّ آدم لما كثر ولده و ولد ولده كانوا يتحدّثون عنده و هو ساكت فقالوا يا ابه ما لك لا تتكلّم فقال يا بنيّ إنّ اللّه جلّ جلاله لما أخرجني من جواره عهد إليّ و قال اقلّ كلامك ترجع إلى

جواري «2».

بل و هو الظّاهر ايضا ممّا رواه العياشي عن الصادق عليه السّلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ موسى سأل ربّه أن يجمع بينه و بين أبيه آدم حيث عرج إلى السّماء في امر الصّلاة، ففعل فقال له موسى: يا آدم أنت الّذي خلقك اللّه بيده، و نفخ فيك من روحه، و اسجد لك ملائكته، و أباح لك جنّته، و أسكنك جواره، و كلّمك قبلا، ثم نهاك عن شجرة واحدة فلم تصبر عنها، حتّى أهبطت إلى الأرض بسببها، فلم تستطع أن تضبط نفسك عنها حتّى أغراك إبليس فأطعته، فأنت الّذي أخرجتنا من الجنّة بمعصيتك.

فقال له آدم: ارفق بأبيك أي بنيّ فيما لقي من امر هذه الشّجرة، يا بنيّ انّ عدوّي أتاني من وجه المكر و الخديعة فحلف باللّه أنّه في مشورته عليّ لمن النّاصحين، و ذلك انّه قال لي منتصحا: إنّي لشأنك يا آدم لمغموم، قلت: و كيف؟

قال: قد كنت انست بك و بقربك منّي و أنت تخرج ممّا أنت فيه إلى ما ستكرهه، فقلت له: و ما الحيلة؟ فقال: إنّ الحيلة هو ذا هو معك، أفلا أدلّك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى؟ فكلا منها أنت و زوجك فتصيرا معي في الجنّة ابدا من الخالدين،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 176 عن معاني الأخبار.

(2) البحار: ج 11 ص 180 عن القصص.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 286

و حلف لي باللّه كاذبا إنّه لمن النّاصحين «1» الخبر.

و ممّا رواه في «المعاني» في خبر المفضّل عن الصادق عليه السّلام: انّه لمّا أسكن اللّه آدم و زوجته الجنّة، نظرا إلى منزلة محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و

الأئمّة بعدهم، فوجداها أشرف منازل أهل الجنّة، فقالا: يا ربّنا لمن هذه المنزلة؟ قال اللّه جلّ جلاله: ارفعا رؤسكما إلى ساق عرشي، فرفعا رؤسهما فوجدا أسماء محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة صلوات اللّه عليهم مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبّار جلّ جلاله، فقالا: يا ربّنا ما أكرم أهل هذه المنزلة عليك! و ما أحبّهم إليك! و ما أشرفهم لديك؟! فقال اللّه جلّ جلاله: لولاهم ما خلقتكما «2». الخبر بطوله على ما يأتي في سورة الأعراف إنشاء اللّه.

و هو الظاهر ايضا ممّا ذكره الامام عليه السّلام في تفسيره «3»، و بالجملة فالأخبار لا تخلو عن إختلاف ما في بادئ الأمر و لعلّه لذا قال المجلسي رحمه اللّه في البحار:

انّ الجزم بأحد المذاهب لا يخلو من اشكال كما انّ شيخنا الطبرسي و غيره لم يرجّحوا شيئا من الأقوال و الذي يخطر بالبال وفاقا لبعض المحقّقين و نبّه عليه المجلسي أيضا في موضعين من البحار و به يجمع بين ما سمعت من الأخبار أنّ الجنّة كانت من جنان الدنيا الّتي تأوي إليها أرواح المؤمنين في عالم البرزخ بعد خروجها عن أبدانهم كما ورد في تفسير قوله تعالى: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 188 عن تفسير العياشي.

(2) معاني الاخبار: ص 108 و عنه البحار ج 11 ص 183.

(3) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 90- 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 287

وَ عَشِيًّا «1»، انّ البكرة و العشيّ لا تكونان في الآخرة في جنان الخلد، و إنّما يكون الغدوّ و العشيّ في جنان الدّنيا الّتي تنقل إليها أرواح المؤمنين و تطلع

فيها الشمس و القمر.

و في «الكافي» في الصحيح عن ضريس الكناسي قال سألت أبا جعفر عليه السّلام:

انّ النّاس يذكرون انّ فراتنا يخرج من الجنّة، فكيف هو و هو يقبل من المغرب، و تصبّ فيه العيون و الأودية؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ للّه جنّة خلقها في المغرب، و ماء فراتكم هذه يخرج منها، و إليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كلّ مساء، فتسقط على ثمارها و تأكل منها، و تتنعّم فيها و تتلاقى و تتعارف، فإذا طلع الفجر هاجت من الجنّة، فكانت في الهواء فيما بين السماء و الأرض ... ثمّ ذكر انّ للّه تعالى نارا في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفّار، إلى أن قال في المسلمين الّذين ليسوا من أهل المعرفة و لا من أهل العناد: إنّه من كان منهم له عمل صالح و لم تظهر منه عداوة فانّه يخدّ له خدّا إلى الجنّة الّتي خلقها اللّه في المغرب، فيدخل عليه منها الروح في حفرته إلى يوم القيمة. «2» الخبر.

و الاخبار في هذا المعنى كثيرة جدّا و بالتأمّل فيها يمكن التوفيق بين الأخبار المتقدّمة لكونها حينئذ من جنان الدنيا تطلع فيها الشّمس و القمر، و امّا اطلاق الهبوط او الهبوط من السموات أو عن جواره سبحانه او غير ذلك مما ذكر في الأخبار المتقدّمة و غيرها، فلانّ هذه الجنان و إن كانت في المغرب إلّا أنّ أسفلها

__________________________________________________

(1) مريم: 62.

(2) الكافي: ج 1 ص 68 و عنه البحار ج 6 ص 290.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 288

بحسب المرتبة فوق محدّب محدد الجهات، و قد يعبّر عنها بعالم المثال و الخيال المنفصل، و الهور قليا و الإقليم الثامن، و قد

قيل: إنّ الأنهار الأربعة و هي الفرات و النيل و سيحان و جيحان تنزل من ذلك العالم إلى فلك المحدّد الجهات، ثمّ إلى الملائكة، ثمّ إلى السحاب، ثمّ إلى الأنهار الأربعة ماء كلّ نهر من نظيرة هناك، و في بعض الأخبار تلويح إليه.

و امّا اشتمالها على وعد عوده إليها مطلقا أو بالشرط ممّا يؤكّد ما سمعت لتحقّق ذلك في عالم البرزخ قبل يوم القيمة و كان ما ذكرناه هو الّذي أشار إليه الملّا صدرا في رسالته «العرشيّة» بقوله: يجب أن نعلم أنّ الجنّة الّتي خرج عنها أبونا آدم و زوجته عليهما السّلام لأجل خطيئتهما غير الجنّة الّتي وعد المتّقون لأنّ هذه لا تكون الّا بعد خراب الدّنيا و بوار السموات و الأرض و انتهاء مدّة عالم الحركات و ان كانتا متّفقتين في الحقيقة و الرتبة و الشرف لكونهما جميعا دار الحياة الذّاتية، و دار البقاء غير متجدّدة و لا متبدّلة، و لا داثرة و لا فانية و لا زائلة، و بيان ذلك أنّ الغايات كالمبادئ متحاذية متقابلة، و انّ الموت الطبيعي ابتداء حركة الرجوع إلى اللّه كما أنّ الحياة الطبيعيّة ابتداء حركة النزول من عنده فكلّ درجة من درجات القوس الصعوديّة بإزاء مقابلتها من درجات القوس النزوليّة، و قد شبّهت الحكماء و العرفاء هاتين السّلسلتين بالقوسين من الدّائرتين إشعارا بانّ الحركة الثانية الرجوعيّة انعطافيّة لا استقامية.

أقول: و لعلّ قوله: لأنّ هذه لا تكون، معناه لا يكون ظهورها و دخول المؤمنين فيها، و إلّا فقد سمعت انّ ضرورة المذهب قاضية بوجودها الآن و هو قد

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 289

صرّح بذلك في مواضع من كتبه، و من هنا يسقط ما اعترضه به الشّيخ الأجل الأمجد

في شرحه، نعم ذكر بعد ذلك أنّ الّذي ثبت عندي ما فهمته من الكتاب و السنّة على سبيل القطع بحيث لا أرتاب فيه و لا مرية عندي تعتريه انّ الجنّة الآخرة خلقت قبل سائر الخلق و أنّ المؤمنين خلقوا منها و إليها يعودون و انّ جنّة الدنيا خلقت بعد خلق الأجسام خلقت من تنزل جنّة الآخرة كما خلقت الأجسام من تنزل النفوس و الأرواح و العقول، و انّ الجنّة الدّنيا هي بعينها بعد التصفية جنّة الآخرة كما أنّ أجسام النّاس الآن هي بعينها أجسام الدنيا و هي بعينها بعد تصفيتها أجسام الآخرة، و القرآن ناطق بذلك لمن كان له قلب قال سبحانه في حقّ الجنّة: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً* جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا* لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا* تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا فقوله: و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيّا يعني جنّة الدّنيا لأنّ الآخرة ليس فيها بكرة و عشيّ و قوله:

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «1» يعني جنّة الآخرة، و هذا صريح في أنّ جنّة الدنيا هي بعينها جنّة الآخرة و قال سبحانه، في شأن النّار:

وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ «2» فقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا يعني نار الدّنيا لأنّ الآخرة ليس فيها غدوّ و عشيّ، و قوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعني بالنّار

__________________________________________________

(1) مريم: 60- 63.

(2) غافر: 45- 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 290

المعروض عليها يوم تقوم الساعة نار الآخرة،

و قد اتّفق القرّاء على الوقف على تقوم الساعة، و يلزم منه اتّحاد النّار المعروض عليها، و هذا ظاهر فانّ جنّة الدنيا تنزّل جنّة الآخرة، و نار الدّنيا تنزل نار الآخرة كما أنّ أجسام الدّنيا تنزّل أجسام الآخرة فتصفى أجسام الدّنيا و تكون بعينها أجسام الآخرة كذلك تصفى جنة الدنيا و تكون بعينها جنّة الآخرة و تصفى نار الدنيا الّتي عند مطلع الشّمس و تكون بعينها نار الآخرة لأنّ اللّه سبحانه قد تبيّن لنا آية ذلك، بل آية كلّ شي ء في أنفسنا فقال:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «1» و ايضا قال اللّه تعالى: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «2»، إلى قوله: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «3»، و المعنى و من دون جنّتي الآخرة أي من قبلهما و من دونهما اي من أنزل منهما جنّتان في الدنيا إذا ماتوا تأوي إليهما أرواحهم و هما الآن في المغرب في الإقليم الثّامن، و الفرات و النيل و سيحان و جيحان تجرى من الجنتين اللّتين في المغرب و هما المدهامّتان.

و في حديث أمير المؤمنين عليه السّلام ما يدلّ على أنّهما في الدّنيا و هو قوله عليه السّلام في الرجعة: و عند ذلك تظهر الجنّتان المدهامّتان عند مسجد الكوفة و ما وراء ذلك بما شاء اللّه تعالى «4».

و الرجعة من الدّنيا و ظهورهما في الدنيا دليل على انّهما اي المدهامّتان من

__________________________________________________

(1) فصّلت: 53.

(2) الرحمن: 46.

(3) الرحمن: 62- 63.

(4) بحار الأنوار: ج 53 ص 43 ح 12 عن الاختصاص.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 291

جنان الدنيا و جنّة آدم عليه السّلام هي من جنان الدنيا فيها البكرة و

العشيّ، و هي المدهامّتان، فقد ظهر لمن نظر أنّ جنّة آدم الّتي أخرج منها هو و زوجته حواء هي من جنان الدنيا و هي الجنتان المدهامّتان، و انّها موجودة الآن، و انّها هي بعينها جنّة الآخرة إلّا أنّها تصفّى بمعنى انّها تطهر من أعراض البرزخيّة سبعين مرّة فتكون هي بعد التّطهير جنّة الخلد، كما أنّ أجساد المؤمنين تطهر في الدّنيا للبرزخ، و في البرزخ للاخرة، لأنّها تطهر من أعراض الدّنيا سبعين مرّة فتكون أخرويّة، فما بين الدنيا و الآخرة في كلّ ما في الدنيا من الأحوال و النعيم و العذاب أربعة آلاف رتبة و تسعمائة رتبة إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه.

و هو و إن أجاد فيما أفاد إلّا أنّه يتوجّه على كلامه وجوه من الإيراد: مثل ما ذكره من أنّ جنّة الدّنيا خلقت بعد خلق الأجسام فإنّ مقتضى قواعدهم بل فحاوي بعض الأخبار ايضا كونها مخلوقة قبل خلق الأجسام، و أنّ جنّة الدنيا هي بعينها جنّة الآخرة بل صرّح فيما بعد بانّ جنّة الدّنيا أعني جنّة آدم عليه السّلام لا يبقى إلى يوم القيمة بل تفنى عند نفخة الصور، و فيه أنّ الدليل عليه غير واضح، بل قضيّة ترتّب العوالم و كون النقلة منها و إليها بقاؤها على ما عليها سيّما بعد ملاحظة ما ورد من أنّه تعالى ينشئ خلقا آخر بعد فناء هذا الخلق، و انّه تعالى قد خلق ألف ألف آدم و نحن في أواخرهم، و الاستدلال بالآية الأولى لا بأس به على بعض الوجوه، و امّا الاستدلال بالثانية فغريب جدّا، و أغرب منه دعوى الاتفاق على الوقف على «تقوم الساعة»، فانّ ظاهر المفسّرين بل صريح بعضهم أنّ قوله: «يوم تقوم» ظرف

للفعل المتأخر، و هو «ادخلوا» و لذا فسّره في «الكشاف» بقوله: فإذا قامت الساعة قيل

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 292

لهم: أدخلوا آل فرعون اشدّ عذاب جهنّم، أو يقال لخزنة جهنّم أدخلوهم، بناء على الإختلاف في كون الهمزة للوصل أو للقطع، بل ذلك هو المستفاد ايضا من الأخبار الكثيرة المفسّرة للآية مثل قول الصادق عليه السّلام على ما رواه القمي و غيره انّما هذا يعني عرض النّار غدوّا و عشيّا في الدّنيا، فانّ ما في نار الخلد فهو قوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «1». «2» و ظاهره كما ترى كونه ظرفا للفعل المتأخّر، لا عطفا على الظرف المتقدّم، و امّا الجنّتان المدهامّتان فالأخبار فيهما مختلفة ففي العلوي المتقدّم ما سمعت «3» و في «الاختصاص» عن الباقر عليه السّلام انّهما لأصحاب اليمين كما أنّ المذكورتين في قوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «4» للسابقين المقرّبين «5».

و ظاهر الخبر بل صريحه على ما يأتي كون الأربع دار الجزاء للفريقين، و في كتاب الحسين بن سعيد ما يدلّ على كونهما من الخطاء و يمكن الجمع باعتبار الاتحاد و الاضافة و ان لا يخلو عن بعد و بالحمل على البطون، و لعلّه الأقرب، و تمام الكلام عند تفسير الآية ان شاء اللّه و ما رواه عن امير المؤمنين الظّاهر انّه هو المرويّ في الاختصاص عن الصادق عليه السّلام في ذكر رجعة امير المؤمنين قال: و يملك امير المؤمنين عليه السّلام أربعا و أربعين ألف سنة حتّى يلد الرجل من شيعة عليّ عليه السّلام ألف ولد

__________________________________________________

(1) غافر: 45- 46.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 258.

(3) البحار: ج 53 ص 43.

(4) الرحمن: 46.

(5) الاختصاص: ص 356.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 293

من صلبه ذكرا في كلّ سنة ذكرا و عند ذلك تظهر الجنّتان المدهامتان عند مسجد الكوفة و ما حوله بما شاء اللّه تعالى «1».

وَ كُلا مِنْها رَغَداً منصوب على انّه صفة لمصدر محذوف، أي اكلا رغدا يعني واسعا رافها، أي مصدر وضع موضع الحال، اي متنعّمين متوسعين في العيش من قولهم: عيشة رغد و رغد بالسكون و الفتح اي واسعة طيّبة ليس فيها عناء و لا تعب و لا نصب، و منه قوله «2»:

بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد ربما يقال تضعيفا للأوّل بأنّ مذهب سيبويه و المحقّقين خلاف ذلك و انّ المنصوب في المقام و في قوله: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً «3»، حال من ضمير مصدر الفعل، و الأصل فكلا الأكل و اذكر الذكر، قالوا: و دليل ذلك قولهم: سير عليه طويلا، و لا يقولون طويل، و لو كان نعتا للمصدر جاز، و لأنّه لا يحذف الموصوف إلا و الصفة خاصة بجنسه، تقول رأيت كاتبا و لا تقول رأيت طويلا لأنّ الكتابة خاصّة لجنس الإنسان بخلاف الطول.

و أجيب عن الأوّل بجواز أن يكون المانع كراهة اجتماع مجازين: حذف الموصوف، و تصيير الصّفة مفعولا على الصفة، و لذا يقولون: دخلت الدّار بحذف في توسّعا، و منعوا دخلت الأمر، لأنّ تعليق الدّخول بالمعاني مجاز و إسقاط الخافض

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 53 ص 43 ح 12 عن الاختصاص.

(2) القائل: امرئ القيس.

(3) آل عمران: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 294

مجاز، و يوضحه أنّهم يفعلون ذلك في صفة الأحيان فيقولون سير عليه زمن طويل، فإذا حذفوا الزمان قالوا

طويلا لما مرّ.

و عن الثّاني بأنّ حذف الموصوف إنّما يتوقّف على وجدان الدّليل لا على الإختصاص لقوله: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ «1» اي دروعا سابغات، ثمّ إنّ العاطف للفعليّة على الفعليّة في المقام هو الواو، و في الأعراف هو الفاء.

قال الّرازي: و الحكمة فيه أنّ كلّ فعل عطف عليه شي ء و كان الفعل بمنزلة الشرط، و ذلك الشي ء بمنزلة الجزء، عطف الثّاني على الأوّل بالفاء كقوله: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً «2»، حيث إنّه كان وجود الأكل متعلّقا بدخولها فكانّه قال: إن دخلتموها أكلتم منها.

ثمّ إنّ اسْكُنْ يقال لمن دخل مكانا فيقال الزم المكان الّذي دخلته و لا تنتقل منه، و يقال أيضا لمن لم يدخله اسكن هذا البيت يعني ادخله و اسكنه، ففي هذه السورة إنّما ورد الأمر بعد أن كان آدم في الجنّة، فكان المراد منه اللّبث و الاستقرار، و الأكل لا يختصّ وجوده بوجوده، لأنّ من يدخل بستانا قد يأكل منه و ان كان مجتازا، و لذا ورد بلفظ الواو و في الأعراف ورد هذا الأمر إنّما ورد قبل أن يدخل الجنّة، فكان المراد منه دخول الجنّة فالدّخول موصل إلى الأكل و الأكل متعلّق وجوده بوجوده.

أقول: و هو بطوله لا يرجع إلى طائل، و ليس في الآيتين دلالة على تعدّد الخطابين فضلا عن تأخّر الأوّل و تقدّم الثاني، بل التأمّل في مساق الآيتين في

__________________________________________________

(1) سبأ: 11.

(2) البقرة: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 295

السورتين لعلّه يقضي بالعكس، فلا تغفل و يؤيّده ما يأتي عن الامام العسكري عليه السّلام في تفسيره فلاحظ.

حَيْثُ شِئْتُما متعلّق بكلا، لا باسكن، لأنّه أقرب لفظا و أنسب معنى من حيث

تعلّق السعة بثمارها و ألوان نعمها، توطئة للنّهي الّذي هو في معنى الاستثناء تنبيها على ازاحة العلّة و قطع المعذرة في التناول عن الشّجرة المنهي عنها من بين أشجارها الّتي لا تكاد تحصى فضلا عن غيرها من النعم، و يحتمل الثّاني نظرا إلى وضع الكلمة الدّالة على المكان سيّما مع تعلّق النّهي بالقرب من الشجرة و لو على وجه المبالغة إلّا انّه يتمّ ذلك على الأوّل أيضا.

وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ نهي للإرشاد، أو التّنزيه لا التحريم على ما يأتي، و المعنى لا تقرباها بالأكل او لا تأكلا كما أرسله في المجمع عن الباقر عليه السّلام قال و يدلّ عليه انّ المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنوّ منها و لذا قال فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما «1».

و ضمير التثنية لآدم و حوّاء و لم يخصّ آدم بالخطاب كما خصّه في قوله: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ للتنبيه على مزيد الاعتناء و الاهتمام في امتثال النهي و استقلال الطلب من كلّ منهما.

و انّما علّق النهي بالقرب الّذي هو من مقدّمات الغير السببيّة للتناول مبالغة في النهي عن الاكل، و تنبيها على أنّ القرب من الشّي ء ربما يورث داعية و ميلا يأخذ بمجامع القلب، و يوقعه فيما وطّن نفسه على اجتنابه.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 85.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 296

و فيه اشارة إلى أنّ المطيع ينبغي أن لا يحوم حول ما حرّم عليه، و لذا قيل من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

و فيه مع ما مرّ من تعميم الخطاب و تخصيص النهي عنه بالإشارة الحاسمة لاحتمال التشكيك و الإجمال و تعقيب النهي بالفاء المفيدة لسببيّة

مخالفته لانخراطهما في سلك الظالمين وجوه من المبالغة.

و مدخول الفاء إمّا مجزوم عطفا على النهي، فيكون من عطف الجملة على الجملة، أو منصوب جوابا للنّهي بإضمار أن المؤول مع فعله بالمصدر عطفا على مصدر الفعل المتقدّم، و على الوجهين يستفاد منه سببيّة الثّاني للاوّل كما مرّ.

في معنى الشجر لغة

و الشّجرة في الأصل ما قام على ساق، و لذا قوبل بها النّجم في قوله:

وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ «1»، مأخوذ من تشاجر القوم إذا اختلفوا، و ذلك لاشتباك أغصانه و تداخلها، و يطلق على غير ذلك ايضا كقوله: وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ.

و عن المبرّد انّه قال: احسب ان كلّما تفرّعت له اغصان و ميدان فالعرب تسميه شجرة في وقت تشعبه، و لعلّ معناه الحقيقي هو الأوّل و لذا قال في «المصباح» و غيره: الشجر ما له ساق صلب، بل في قول المبرّد دلالة عليه ايضا، و امّا الثّانية فلعلّ إطلاقها للتنبيه على ارتفاع أوراقها عن وجه الأرض كي يسهل

__________________________________________________

(1) الرحمن: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 297

الاستظلال بظلّها على ما يأتي إنشاء اللّه.

القراءة

و قرأ الشجرة بكسر الشين و الشيرة بتبديل الجيم ياء، و عن أبي عمرو انّه كرهها و قال: يقرأ بها برابر مكة و سودانها، و لعلّهما لغتان فيها، و لذا قال في القاموس: الشّجر و الشجر و الشجراء كجبل و عنب و صحراء و شير بالياء كعنب من النبات: ما قام على ساق أو ما سما بنفسه، دقّ أو جلّ قاوم الشتاء أو عجز عنه، الواحدة بهاء و بالجملة فالقراءتان شاذتان كقراءة تقربا بكسر التّاء و هذي بالياء.

المراد بالشجرة المنهيّة

و هل المراد بها شجرة الحنطة، او خصوص السنبلة، او الكرمة، او التينة، او شجرة الكافور، او شجرة الحسد، أو العلم علم الخير و الشرّ، او شجرة الخلد الّتي كانت الملائكة تأكل منها، او شجرة من أكل منها أحدث، او شجرة علم محمّد و آل محمّد، أو غير ذلك فيه أقوال معروفة و الاخبار ايضا مختلفة ففي «المجمع» مرسلا عن امير المؤمنين عليه السّلام: انّها شجرة الكافور «1»، و في كثير من الاخبار انّها السنبلة، بل في أسؤلة ابن سلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله كم أكل آدم من حبّات الشجرة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: حبّتين، قال: و كم أكلت حواء؟ قال: حبّتين، قال: كم للشجرة من غصن و كم طول السنبلة؟

قال: يا بن سلام كان لها ثلاثة أغصان، و كان طول كلّ سنبلة ثلاثة أشبار، قال فكم

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 85.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 298

سنبلة فرك منها آدم؟ قال: سنبلة واحدة، قال: فكم كان في السنبلة من حبّة؟ قال:

كان فيها خمس حبّات، و كانت الحبّة بمنزلة البيض الكبار، فأكلا أربع حبّات، و بقيت حبّة واحدة أنزلت

معه من الجنّة، فزرع آدم تلك الحبة فتناسل منها الحبّ في الأرض و بورك فيها «1».

و في «العلل» بالإسناد عن الصادق عليه السّلام: إنّ الحبّات الّتي أكلها آدم و حوّاء في الجنّة كانت ثمانية عشر، أكل آدم منها اثني عشر حبّة، و أكلت حواء ستّا، فلذلك صار الميراث للذكر مثل حظّ الأنثيين «2».

و فيه و في «العيون» سأل الشّامي امير المؤمنين عليه السّلام لم صار الميراث للذكر مثل حظّ الأنثيين؟ قال عليه السّلام: من قبل السنبلة، كان عليها ثلاث حبات فبادرت إليها حوّاء فأكلت منها حبّة، و أطعمت آدم حبّتين، فمن أجل ذلك ورث الذكر مثل حظّ الأنثيين «3».

أقول و ربما يدفع المنافاة بين الخبرين الأخيرين بحمل الأوّل على أوّل سنبلة أخذاه، ثمّ أخذا كذلك حتّى صارت ثمانية عشر، او انّها كانت على كلّ شعبة منها ثلاث حبّات، و كانت الشعب ستّة و لعلّ جوابه عن ابن سلام مبنيّ على ما هو المشهور بين اهل الكتاب كما يظهر ذلك من التأمّل في خبره الطويل المشتمل على السؤال عن امور كثيرة.

و في تفسير العيّاشي عن الهادي عليه السّلام: انّ الشجرة الّتي نهى اللّه تعالى عنها آدم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 60 ص 245.

(2) علل الشرائع ج 2 ص 571.

(3) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 219، علل الشرائع ج 2 ص 571.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 299

و زوجته ان يأكلا منها شجرة الحسد و عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضّله اللّه تعالى على خلقه بعين الحسد فنسي و نظر بعين الحسد و لم يجد له عزما.

و المراد بالحسد هو الغبطة و تمنّي المنزلة، كما انّه هو المراد ايضا منه في

الخبر المروي في «المعاني» و «العيون» بالإسناد عن الهروي قال: قلت للرّضا عليه السّلام يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرني عن الشجرة الّتي أكل منها آدم و حوّاء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي انّها الحنطة، و منهم من يروى انّها العنب، و منهم من يروى انّها شجرة الحسد، فقال عليه السّلام: كلّ ذلك حقّ، قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال عليه السّلام: يا أبا الصلت إنّ شجر الجنّة تحمل أنواعا فكانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا، و انّ آدم عليه السّلام لما أكرمه اللّه تعالى بإسجاد ملائكته له، و بإدخال الجنّة قال في نفسه هل خلق اللّه بشرا أفضل منّي فعلم اللّه عزّ و جلّ ما وقع في نفسه، فناداه ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا اله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، فقال آدم عليه السّلام: يا ربّ من هؤلاء؟ فقال عزّ و جلّ: من ذرّيتك، و هم خير منك و من جميع خلقي، و لو لا هم ما خلقتك و لا خلقت الجنّة و النّار و لا السماء و الأرض، فايّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد و تمنّي منزلتهم، فتسلّط الشيطان عليه حتّى أكل من الشجرة الّتي نهي عنها و تسلّط على حوّاء فنظرت إلى فاطمة عليها السّلام بعين الحسد حتّى أكلت من الشجرة كما

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

300

أكل آدم فأخرجهما اللّه عزّ و جلّ عن جنّته و أهبطهما عن جواره إلى الأرض «1».

و في تفسير الامام عليه السّلام انّ اللّه عزّ و جلّ لما لعن إبليس بإبائه، و أكرم الملائكة بسجودها لآدم و طاعتهم للّه عزّ و جلّ أمر بآدم و حواء إلى الجنّة، و قال يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنّة و كلا من الجنّة رغدا واسعا بلا تعب حيث شئتما، و لا تقربا هذه الشجرة شجرة العلم شجرة علم محمّد و آل محمّد الّذين أثرهم اللّه تعالى به دون سائر خلقه، فقال اللّه: و لا تقربا هذه الشجرة شجرة العلم فانّها لمحمّد و آله خاصّة دون غيرهم، لا يتناول منها بأمر اللّه إلّا هم، و منها ما كان يتناوله النّبي صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين بعد إطعامهم المسكين و اليتيم و الأسير حتّى لم يحسّوا بعد بجوع و لا عطش و لا تعب و لا نصب، و هي شجرة تميّزت من بين أشجار الجنّة، إنّ سائر أشجار الجنّة كان كلّ نوع منها يحمل نوعا من الثمار و المأكول و كانت هذه الشجرة و جنسها تحمل البرّ و العنب و التين و العنّاب و سائر انواع الثمار و الفواكه و الأطعمة، فلذلك اختلف الحاكون بذكر الشجرة فقال بعضهم: هي برّة، و قال آخرون: هي عنبة، و قال آخرون: هي تينه، و قال آخرون:

هي عنابة و قال اللّه: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ تلتمسان بذلك درجة محمّد و آل محمّد في فضلهم فانّ اللّه عزّ و جلّ خصّهم بهذه الدرجة دون غيرهم، و هي الشجرة الّتي من تناول منها

باذن اللّه ألهم علم الأولين و الآخرين من غير تعلّم، و من تناول منها بغير إذن اللّه خاب من مراده و عصى ربّه فتكونا من الظالمين بمعصيتكما أو

__________________________________________________

(1) معاني الاخبار: ص 124 و عيون الاخبار ج 1 ص 306 ح 67 و عنهما البحار ج 11 ص 164.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 301

التماسكما درجة قد أوثر بها غيركما إذا رمتما تغيّر حكم اللّه إلى آخر ما يأتي «1».

و في الأنوار النعمانيّة انّه قد ورد في حديث معتبر: انّ هذه الشجرة شجرة غرسها اللّه تعالى بيد قدرته لما خلق الجنّة و جعلها لعليّ بن أبي طالب و شيعته بأن لا يأكل احد قبله منها «2».

تفسير الآية (36)

اشارة

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها حملهما على الزلّة بسبب وسوسته في الأكل من الشجرة بناء على كون الضمير لهما و «عن» للسببيّة نظير قوله: وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي و يحتمل أن يكون الضمير للجنّة، بل لعلّه المتعيّن، حذرا من صرف الظرف عن ظاهره.

و توهّم انّه يكون الإخراج حينئذ قبل الإزلال أو معه فلا يصحّ العطف بالفاء، مدفوع بأنّ المراد التنبيه على جملة ما فات عنهما من النعمة و الكرامة المقصودة بالموصولة بسبب زلّتهما بالخطيئة من الجنّة على وجه الترتيب، و ان لم يلحظ فيه الترتيب، مع انّه هو المصرّح به في تفسير الامام عليه السّلام حيث قال: فازلّهما الشيطان عنها عن الجنّة بوسوسته و خديعته و إيهامه و غروره بأن بدء بآدم فقال: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلّا أن تكونا ملكين، إن تناولتما منها تعلمان الغيب، و تقدران على ما يقدر عليه من خصّه اللّه تعالى بالقدرة، او تكونا من الخالدين لا

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام عليه

السّلام ص 221- 222.

(2) الأنوار النعمانية: ج 1 ص 242.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 302

تموتان ابدا، و وَ قاسَمَهُما «1» حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «2» و كان إبليس بين لحيي الحيّة، أدخلته الجنّة و كان آدم يظنّ انّ الحيّة هي الّتي تخاطبه، و لم يعلم أنّ إبليس قد اختبأ بين لحييها، فردّ آدم على الحيّة، ايّتها الحيّة: هذا من غرور إبليس كيف يخوننا ربّنا أم كيف تعظمين اللّه بالقسم به و أنت تنسبينه إلى الخيانة و سوء النظر و هو أكرم الأكرمين؟ أم كيف أروم التوصل إلى ما منعني منه ربّي و أتعاطاه بغير حكمه؟ فلمّا ايس إبليس من قبول آدم منه عاد ثانية بين لحيي الحيّة، فخاطب حواء من حيث يوهمها انّ الحيّة هي الّتي تخاطبها، و قال: يا حواء أ رأيت هذه الشجرة الّتي كان اللّه عزّ و جلّ حرّمها عليكما، قد احلّهما لكما بعد تحريمها لما عرف من حسن طاعتكما له و توقيركما ايّاه، و ذلك انّ الملائكة الموكّلين بالشجرة الّتي معها الحراب يدفعون عنها سائر حيوانات الجنّة لا يدفعوك عنها ان رمتها فاعلمي بذلك انّه قد احلّ لك، و ابشري بانك ان تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه الآمرة النّاهية فوقه، فقالت حوّاء سوف أجرّب هذا، فرامت الشجرة فأرادت الملائكة أن يدفعوها عنها بحرابها، فأوحى اللّه إليها انّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له بزجره، و امّا من جعلته ممكنا مميّزا مختارا فكلوه إلى عقله الّذي جعلته حجّة عليه، فإن أطاع استحقّ ثوابي و ان عصى و خالف أمري استحقّ عقابي و جزائي، فتركوها و لم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم، فظنّت أنّ اللّه

نهاهم عن منعها لأنّه قد احلّها بعد ما حرّمها، فقالت صدقت الحيّة، و ظنّت انّ المخاطب لها

__________________________________________________

(1) الكهف: 82.

(2) الأعراف: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 303

هي الحيّة فتناولت منها و لم تنكر من نفسها شيئا، فقالت لآدم: الم تعلم أنّ الشجرة المحرّمة علينا قد ابيحت لنا؟ تناولت منها فلم تمنعني أملاكها و لم انكّر شيئا من حالي، فلذلك اغترّ آدم و غلط فتناول، فأصابهما ما قال اللّه تعالى في كتابه:

«فازلّهما الشيطان عنها فأخرجهما بوسوسته و غروره» «1».

و فيه دلالة على ترجيح قراءة المشهور و ردّ قراءة حمزة حيث قرأ فأزالهما نظرا إلى أنّ قوله: اسكن أنت و زوجك الجنّة معناه أثبتا فثبتا فأزلّهما الشيطان فقابل الثبات بالزوال الّذي هو خلافه.

و فيه ان البناء في مثله ليس على التعليل بل على الترخيص الّذي ورد معه الإذن بالقراءة كما يقرءون.

كيفيّة دخول إبليس الجنّة

و امّا كيفيّة دخول إبليس الجنّة بعد لعنه و طرده و خروجه منها فاختلفوا فيها و في كيفيّة وصوله إليهما و وسوسته لهما، فقيل إنّ آدم كان يخرج إلى باب الجنّة و إبليس لم يكن ممنوعا من الدنوّ و كان يكلمه، و كان هذا قبل أن يهبط إلى الأرض و بعد أن اخرج من الجنّة، و قيل: إنّه كان يحرم عليه دخول الجنّة بارزا و امّا مختفيا و لو في فم الحيّة فلا كما يومئ كلام الامام عليه السّلام، و قيل: إنّه منع من الدّخول على وجه التكرمة كما كان يدخل قبل ذلك مع الملائكة، و امّا الدخول للوسوسة و ابتلاء آدم و حواء فلم يمنع منه، و امّا الدّخول في فم الحيّة فانّما كان لاشتداد البليّة و التمكّن

__________________________________________________

(1) تفسير الامام

العسكري: ج 4 ص 223- 224.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 304

من الوسوسة لا للتوصل إلى الدخول، و قيل: تمثل بصورة دابّة اخرى غير الحيّة و لم تعرفه الخزنة، و قيل: إنّه وسوسهما لا على وجه المشافهة بل في صدورهما، و قيل:

إنّه كلّمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه، و قيل: إنّه راسلهما بالخطاب.

و ظاهر الخبر المتقدّم انّ وسوسته كانت على وجه المشافهة كما هو المستفاد من ظواهر الآيات ايضا، و انّ دخوله كان بواسطة الحيّة.

و في «الأنوار النعمانيّة» انّ ذلك كان بأسباب إلاهية كما في بعض الروايات قال و ذلك انّ الشيطان لما أخرج من الجنّة لم يقدر على الدّخول إليها فاتى إلى جدار الجنّة، و رأى الحيّة على أعلى الجدار، فقال لها: أدخلني الجنّة و أعلّمك الاسم الأعظم فقالت له: انّ الملائكة تحرس الجنّة فيرونك، فقال لها أدخل في فمك و اطبقي عليّ حتّى ادخل ففعلت، و من ثمّ صار السمّ في أنيابها و فمها لما كان جلوس الشيطان فيه، فلمّا أدخلته قالت له اين الإسم الأعظم؟ فقال لها لو كنت اعلمه لما احتجت إليك في دخولي فاتى إلى آدم عليه السّلام فوسوس له فاقسم له بالنّصيحة فلم يطعه، فاتى إلى حوّاء فقال هذه شجرة الخلد و اقسم لها و لم يعهد قبل أن أحدا يقدر على أن يقسم باللّه كاذبا فأتت حواء إلى آدم فصارت عونا للشيطان عليه فقام آدم معها إلى الاكل من الشجرة فكانت اوّل قدم مشت إلى الخطيئة فلمّا مدّا يديهما إليها تطاير ما عليهما من الحلي و الحلل و بقيا عريانين فأخذا من ورق التّين فوضعاه على عورتيهما فتطاير الورق فوضع آدم عليه السّلام يده على عورته

و الاخر على رأسه كما هو شأن العراة و من ثمّ امر بالوضوء على هذه الهيئة «1».

__________________________________________________

(1) الأنوار النعمانية: ج 1 ص 245.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 305

و روى الصدوق طاب ثراه: انّه جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل فكان فيما سألوه أخبرنا يا محمّد لايّ علّة توضئ هذه الجوارح الأربع و هي أنظف الجوارح في الجسد فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: لمّا أن وسوس الشيطان إلى آدم عليه السّلام و دنى آدم من الشجرة فنظر إليها فذهب ماء وجهه، ثمّ قام و مشى إليها، و هي اوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ما عليها فأكل، فطار الحلي و الحلل عن جسده، فوضع آدم يده على أمّ رأسه، و بكى فلمّا تاب اللّه عزّ و جلّ عليه فرض عليه و على ذرّيته تطهير هذه الجوارح الأربع، فأمر اللّه عزّ و جلّ بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة، و أمره بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول بهما، و أمره بمسح الّرأس لما وضع يده على امّ رأسه، و أمره بمسح القدمين لما مشى بهما إلى الخطيئة «1» آه.

أقول: و في تفسير العياشي عن الصّادق عليه السّلام: إنّ آدم لمّا أكل من الشجرة ذكر ما نهاه اللّه عنها فندم فذهب ليتنحى من الشجرة فأخذت الشجرة برأسه فجرته إليها و قالت له أ فلا كان فرارك من قبل أن تأكل منّي «2».

و في تفسير القمي عن الصادق عليه السّلام قال لما اخرج آدم نزل جبرئيل عليه، فقال: يا آدم أ ليس اللّه خلقك بيده، و نفح فيك من روحه، و أسجد لك

ملائكته، و زوّجك حواء أمته، و أسكنك الجنّة و أباحها لك، و نهاك مشافهة ان لا تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها، و عصيت اللّه؟ فقال آدم عليه السّلام: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي باللّه أنّه لي ناصح فما ظننت أنّ أحدا من خلق اللّه يحلف باللّه كاذبا «3».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 280 ح 1.

(2) تفسير العياشي: ج 2 ص 10 ح 11.

(3) تفسير القمي: ج 1 ص 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 306

أقول: و سيأتي تفسير قوله: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «1».

عن «مصباح الشريعة»، و غيرها ما يدلّ عليه، و بيان السرّ في ذلك.

و روت العامّة أنّ إبليس أراد ان يدخل عليهما الجنّة فمنعته الخزنة فأتى الحيّة و هي دابّة لها أربع قوائم كأنّها البعير، و هي كأحسن الدوابّ فكلّمها أن يدخل في فيها حتى يدخل الى آدم فأدخلته في فمها فمرّت الحيّة على الخزنة فدخلت و هم لا يعلمون لما أراد اللّه من الأمر: فكلّمه من فمها.

و في خبر آخر: انّ عدو اللّه إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض انّها تحمله و تدخل به الجنّة حتّى يكلّم آدم و زوجته، فكل الدوابّ أبى ذلك عليه حتّى كلّم الحيّة، فقال لها: انا أمنعك من بني آدم فأنت في ذمّتي إذا ادخلتني الجنّة، فجعلته بين نابين من أنيابها ثمّ دخلت به، فكلّمهما من فيها، و كانت كاسية تمشي على اربع قوائم، فأعراها اللّه تعالى و جعلها تمشي على بطنها «2».

و روي أنّ أول ما ابتداهما به من كيده ايّاهما انّه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفترقان، أو قال:

فتفارق ما

أنتما عليه من النّعمة و الكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما ثمّ أتاهما فوسوس إليهما فقال: يا آدم هل ادلّك على شجرة الخلد «3» فَأَخْرَجَهُما بوسوسته و غروره ممّا مِمَّا كانا فِيهِ من النعمة و الدّعة و ممّا كانا قد خوطبا قبل ذلك بقوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا

__________________________________________________

(1) الأعراف: 21.

(2) جامع البيان للطبري ج 1 ص 188.

(3) جامع البيان ج 1 ص 188.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 307

فِيها وَ لا تَضْحى «1» او من الجنّة حتّى أهبطا، او من عظم القرب و المنزلة و الطّاعة إلى ما قد سماه اللّه سبحانه معصيته.

و إضافة الإخراج إليه على حدّ اضافة الإذلال باعتبار السببيّة.

وَ قُلْنَا اهْبِطُوا خطاب لآدم و حوّاء لقوله: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً «2» إطلاقا للجمع على الإثنين حقيقة او مجازا كقوله: وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «3»، فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «4»، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ «5» أو لهما و لذّريتهما و لو على التّغليب ليصحّ تعلّقه بالمعدوم، أو توجيه الخطاب إلى الأرواح الّتي دلّت القواطع على تقدّم خلقها على الأبدان، أو لهما و لإبليس، و إن كان قد أخرج قبل ذلك، بدليل قوله في الحجر فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ «6» إلى قوله: و يا آدم اسكن إلّا انّه جمعه معهما لدخوله ثانيا على وجه الاختفاء و المسارقة للوسوسة، او لقربه من باب الجنّة، أو لاجتماعهم حينئذ في الهبوط، و ان كانت أوقاتهم متفرقة فيه، أو لهما و للحيّة و استبعده في «المجمع» «7» بانّ خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن، و بانّه لم يتقدّم للحيّة ذكر، و الكناية عن غير

مذكور لا تحسن، إلّا مع الأمن من اللّبس.

و يضعف الأوّل بالمنع عن عدم فهمه الخطاب سيّما مع ما قرّر في محلّه من

__________________________________________________

(1) طه: 117- 118- 119.

(2) طه: 123.

(3) الأنبياء: 78.

(4) النساء: 11.

(5) الشعراء: 15.

(6) الحجر: 34 و ص: 77.

(7) مجمع البيان: ج 1 ص 78.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 308

مساوقة الشعور للوجود، و انّ الجماد فضلا عن الحيوان يشارك الإنسان في الإدراك و الشّعور و العبوديّة، و صحّة تعلّق الخطاب و ان اختلفت في مراتب الجمود و السيلان، سيّما بعد ما سمعت عن الأنوار النعمانيّة من مكالمتها مع الشيطان، و الثّاني بانّ الخطب في مثله سهل بعد ملاحظة وجوه دلالات القرآن و محامله، و أولى من الجميع ما في «تفسير الامام» من الجمع بين الأربعة حيث قال: و قلنا يا آدم و يا حوّاء و يا ايّتها الحيّة و يا إبليس اهبطوا.

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ آدم و حوّاء و ولدهما عدوّ للحيّة، و إبليس و الحيّة و أولادهما أعداؤكم «1».

و على الأولين فالمعاداة بين الذّريّة و لو باعتبار التجوّز، أو تقدير المضاف في الأوّل، و الجملة حالية استغنى فيها عن الواو بالضّمير، و المعنى متعادين يبغي بعضكم على بعض بإضلاله و تغريره، و ليس من متعلّق الأمر، و يحتمل أن يكون استينافا للّه سبحانه فائدته التحذير عن الاغترار بوساوس هذا العدوّ كما في قوله: لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ «2» و قوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «3».

و عداوة إبليس لآدم و حوّاء ظاهرة حتّى قد روي انّه أغرى عليهما السّباع بعد هبوطهما كما في «العلل»

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: انّه سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله ممّا خلق اللّه عزّ و جلّ الكلب؟ قال: خلقه من بزاق إبليس، قال: و كيف ذلك يا رسول اللّه قال: لمّا

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام: ص 224 و عنه البحار ج 11 ص 190.

(2) الأعراف: 27.

(3) فاطر: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 309

أهبط اللّه آدم و حوّاء إلى الأرض أهبطهما كالفرخين المرتعشين، فعدا إبليس الملعون إلى السباع، و كانوا قبل آدم في الأرض، فقال لهم: إنّ طيرين قد وقعا من السّماء لم ير الرّاؤون أعظم منهما تعالوا فكلوهما، فتعاوت السباع معه و جعل إبليس يحثّهم و يصيح و يعدهم بقرب المسافة، فوقع من فيه من عجلة كلامه بزاق فخلق اللّه عزّ و جلّ من ذلك البزاق كلبين أحدهما ذكر و الآخر أنثى، فقاما حول آدم و حوّاء، الكلبة بجدّة، و الكلب بالهند، فلم يتركوا السباع أن يقربوهما، و من ذلك اليوم الكلب عدوّ السّبع، و السّبع عدوّ الكلب «1».

و فيه عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ حين أمر آدم أن يهبط هبط آدم و زوجته، و هبط إبليس و لا زوجة له، و هبطت الحيّة و لا زوج لها فكان أوّل من يلوط بنفسه إبليس، فكانت ذرّيّته من نفسه، و كذلك الحيّة و كانت ذرّية آدم من زوجته فأخبرهما انّهما عدّوان لهما «2».

وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ منزل و مقرّ للمعاش بأن جعلها قرارا و معاشا لكم، و يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار، و أن يكون اسم مفعول و هو ما استقرّ منكم عليه،

و جاز تصرّفكم فيه.

وَ مَتاعٌ استمتاع و انتفاع إِلى حِينٍ حين الموت كما في «تفسير الامام عليه السّلام» أو إلى يوم القيمة كما في رواية «القمي» و جمع بينهما بانّ الموت هو القيمة الصغرى للأكثرين و الكبرى للآخرين و لذا ورد «من مات فقد قامت قيامته».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 496 ح 1 و عنه البحار ج 11 ص 207 ح 10.

(2) علل الشرائع: ص 547 ح 2 و عنه البحار ج 11 ص 237 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 310

أقول: و هو مبنيّ على كون الغاية هو الموت بناء على انتقال الرّوح بعدها إلى جنان الدّنيا أو نيرانها، فانّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار، و قد سمعت كون الهبوط من جنان الدّنيا لا من جنّة الخلد، و من هنا يبعد الحمل على القيامة الكبرى و ان كان في القبر ايضا تمتّع و استقرار.

و لا ينافي شيئا من الوجهين قوله في سورة الأعراف بعد مثل هذه الآية قال:

فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ «1» إذ يمكن أن يكون تفصيلا لوجوه الاستقرار، و أن يكون زيادة عليه، و الظّرف غاية للأمرين، و تنكير الثلاثة للتّحقير، فانّ الآخرة هي دار القرار، و إن طلب الناس القرار في الدّنيا، و لذا آثر المستقر على المقرّ، و ليس في الدنيا إلّا عيش يسير و متاع قليل، و لذا قال سبحانه: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ «2» و وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ* «3».

مدّة مكث آدم في الجنة

ثمّ انّهم قد اختلفوا في مدّة مكثه عليه السّلام في الجنّة و زمان هبوطه و مكانه على أقوال لا طائل

تحت التّعرض لها، لاستناد جملة منها إلى بعض الاعتبارات و إلى اقوال اهل الكتاب.

نعم روى الصدوق في «العلل» و «الأمالي» عن الحسن بن عليّ بن ابي طالب عليهما السّلام قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل، فكان

__________________________________________________

(1) الأعراف: 25.

(2) الرعد: 26.

(3) آل عمران: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 311

فيما سألوه أخبرني عن اللّه لأيّ شي ء وقّت هذه الصلوات الخمس في خمس مواقيت على أمّتك في ساعات اللّيل و النّهار؟ فأجاب صلّى اللّه عليه و آله إلى أن قال: و امّا صلاة العصر فهي الساعة الّتي أكل فيها آدم من الشّجرة فأخرجه اللّه عن الجنّة، فأمر اللّه ذرّيته بهذه الصلاة إلى يوم القيامة، و اختارها لأمّتي فهي من أحبّ الصلاة إلى اللّه تعالى عزّ و جلّ، و أوصاني ان احفظها من بين الصّلوات، و امّا صلاة المغرب فهي الساعة الّتي تاب اللّه فيها على آدم، و كان بين ما أكل من الشجرة و بين ما تاب اللّه عليه ثلاثمائة سنة من ايّام الدّنيا، و في ايّام الآخرة يوم كألف سنة من وقت صلاة العصر إلى العشاء: فصلّى آدم ثلاث ركعات: ركعة لخطيئته، و ركعة لخطيئة حوّاء، و ركعة لتوبته، فافترض اللّه عزّ و جلّ هذه الركعات الثلاث على أمّتي «1».

و في «الخصال» بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّما كان لبث آدم و حواء في الجنّة حتّى أخرجا منها سبع ساعات من أيّام الدّنيا حتّى أهبطهما اللّه تعالى من يومهما ذلك «2».

أقول: و لعلّ المعنى من أيّام جنان الدنيا، على تقدير المضاف، فينطبق على الخبر الأوّل.

تعدّد الأيّام و تغايرها

روى السيّد في

«الدروع الواقية» عن الصادق عليه السّلام: أن اليوم الأوّل من الشهر

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 337 و الأمالي ص 159 و عنهما البحار ج 11 ص 160.

(2) الخصال: ج 2 ص 397 ح 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 312

خلق فيه آدم و هو يوم مبارك لطلب الحوائج، و في اليوم الثاني خلقت حوّاء من آدم، يصلح للتزويج و بناء المنازل، و اليوم الثالث يوم نحس مستمرّ، نزع عن آدم و حواء لباسهما و أخرجا من الجنّة «1».

و هي تدلّ على تعدّد الأيّام و تغايرها، و قضيّة بعض الأخبار المتقدّمة وقوع تلك الشؤون جميعا في ساعات من يوم واحد، و يمكن الجمع بحمل تلك الأخبار على الأيّام الدّهرية الملكوتيّة، و هذه على الزّمانية النّاسوتية، و يدلّ عليه ما مرّ عن «العلل» و «الأمالي» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: و امّا صلاة المغرب «2»، آه.

مكان هبوط آدم و حوّاء

و أمّا مهبطهما فظاهر كثير من الأخبار أنّه الصّفا و المروة ففي «تفسير القمي» و غيره عن الصادق عليه السّلام قال: فهبط آدم على الصّفا، و إنّما سمّيت الصّفاء لأنّ صفوة اللّه نزل عليها و نزلت حوّاء على المروة، و إنّما سمّيت المروة لأنّ المرأة نزلت عليها فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال يا آدم ألم يخلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و اسجد لك ملائكته؟ قال: بلى قال:

و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي باللّه انّه لي ناصح و ما ظننت انّ خلقا يحلف باللّه كاذبا «3».

و في «تفسير العيّاشي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انّما كان

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 59 ص 56- 57- 58 عن الدروع الواقية.

(2) علل الشرائع: ص 337.

(3) تفسير القمي: ج 1 ص 44 و عنه البحار ج 11 ص 163 ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 313

لبث آدم و حوّاء في الجنّة حتّى خرجا عنها سبع ساعات من ايّام الدّنيا حتّى اكلا من الشجرة فأهبطهما اللّه إلى الأرض من يومهما ذلك، قال فحاجّ آدم ربّه فقال يا ربّ أ رايتك قبل أن تخلقني كنت قدّرت عليّ هذا الذّنب و كل ما صرت و انا صائر إليه، أو هذا شي ء فعلته انا من قبل نفسي لم تقدّره عليّ غلبت عليّ شقوتي، فكان ذلك منّي و فعلي لا منك و لا من فعلك؟ قال له: يا آدم أنا خلقتك و علّمتك أنّي أسكنك و زوجتك الجنّة، و بنعمتي، و ما جعلت فيك من قوّتي قويت بجوارحك على معصيتي، و لم تغب عن عيني، و لم يخل علمي من فعلك، و لا ممّا أنت فاعله.

قال آدم: يا ربّ الحجّة لك عليّ يا ربّ، فحين خلقتني و صوّرتني و نفخت فيّ من روحك، قال: يا آدم أسجدت لك ملائكتي و نوّهت باسمك في سماواتي، و ابتدأتك بكرامتي، و أسكنتك جنّتي، و لم أفعل ذلك إلّا بنعمة منّي عليك، أبلوك بذلك من غير أن تكون عملت لي عملا تستوجب به عندي ما فعلت بك.

قال آدم: يا ربّ الخير منك و الشرّ منّي، قال اللّه: يا آدم انا اللّه الكريم، خلقت الخير قبل الشرّ، و خلقت رحمتي قبل غضبي، و قدّمت بكرامتي قبل هواني، و قدّمت باحتجاجي قبل

عذابي.

يا آدم ألم أنهك عن الشجرة و أخبرتك انّ الشيطان عدوّ لك و لزوجك؟

و أحذركما قبل أن تصيرا إلى الجنّة؟ و أعلمكما أنّكما إن أكلتما من الشجرة كنتما ظالمين لأنفسكما عاصين لي؟ يا آدم لا يجاورني في جنّتي ظالم عاص بي قال:

فقال: بلى يا ربّ الحجّة لك علينا؟ ظلمنا أنفسنا و عصينا و إلّا تغفر لنا و ترحمنا نكن من الخاسرين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 314

قال فلما أقرّا لربّهما بذنبهما و أنّ الحجّة من اللّه لهما تداركهما رحمة الرحمن الرحيم، فتاب عليهما ربّهما إنّه هو التّواب الرحيم، قال اللّه: يا آدم اهبط أنت و زوجك إلى الأرض، فإذا أصلحتما أصلحتكما و إن عملتما لي قويتكما، و إن تعرّضتما لرضاي تسارعت إلى رضاكما، و إن خفتما منّي آمنتكما من سخطي.

قال: فبكيا عند ذلك و قالا: ربّنا فأعنّا على صلاح أنفسنا و على العمل لما يرضيك عنّا، قال اللّه لهما: إذا عملتما سوء فتوبا إلى اللّه أتب عليكما، و أنا اللّه التّواب الرحيم.

قالا: فأهبطنا برحمتك إلى أحبّ البقاع إليك، قال: فأوحى اللّه إلى جبرئيل ان أهبطهما إلى البلدة المباركة مكّة، قال: فهبط بهما جبرئيل فألقى آدم على الصّفا، و ألقى حوّاء على المروة، قال: فلما ألقيا قاما على أرجلهما و رفعا رؤسهما إلى السّماء و ضجّا بأصواتهما بالبكاء إلى اللّه تعالى و خضعا بأعناقهما، قال: فهتف اللّه تعالى بهما ما يبكيكما بعد رضاي عنكما؟ قال: فقالا: ربّنا أبكتنا خطيئتنا و هي أخرجتنا من جوار ربّنا، و قد خفي عنّا تقديس ملائكتك لك ربّنا و بدت لنا عوراتنا، و اضطرنا ذنبنا إلى حرث الدنيا و مطعمها و مشربها، و دخلتنا وحشة شديدة لتفريقك بيننا قال: فرحمهما الرحمن

الرحيم عند ذلك، و أوحى إلى جبرئيل: أنا اللّه الرحمن الرحيم، و أنّي قد رحمت آدم و حوّاء لمّا شكيا إليّ، فأهبط إليهما بخيمة من خيام الجنّة، و عزّهما عنّي بفراق الجنّة، و اجمع بينهما في الخيمة فانّي قد رحمتهما لبكائهما و وحشتهما و وحدتهما، و انصب لهما الخيمة على الترعة الّتي بين جبال مكّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 315

و قال: و الترعة مكان البيت و قواعده التي رفعتها الملائكة قبل ذلك فنصبها.

قال: و انزل جبرئيل آدم من الصّفا، و انزل حوّاء من المروة، و جمع بينهما في الخيمة.

قال: و كان عمود الخيمة قضيب ياقوت أحمر، فأضاء نوره و ضوئه جبال مكّة و ما حولها.

قال: و امتدّ ضوء العمود فجعله اللّه حرما لحرمة الخيمة و العمود لأنّهما من الجنّة، قال: و لذلك جعل اللّه الحسنات في الحرم مضاعفة و السّيئات فيه مضاعفة.

قال: و مدّت أطناب الخيمة حولها لمنتهى أوتادها ما حول المسجد الحرام.

قال: و كانت أوتادها من غصون الجنّة و أطنابها من ظفائر الأرجوان «1».

قال: فأوحى اللّه إلى جبرئيل عليه السّلام: أهبط على الخيمة سبعين ألف ملك يحرسونها من مردة الجنّ و يونسون آدم و حوّاء، و يطوفون حول الخيمة تعظيما للبيت و الخيمة، قال: فهبطت الملائكة فكانوا بحضرة الخيمة يحرسونها من مردة الشياطين و العتاة، و يطوفون حول أركان البيت و الخيمة كلّ يوم و ليلة، كما كانوا يطوفون في السّماء حول البيت المعمور.

قال: و أركان البيت الحرام في الأرض حيال البيت المعمور الّذي في السماء.

قال: ثمّ إنّ اللّه تعالى أوحى إلى جبرئيل بعد ذلك: أن اهبط إلى آدم و حوّاء فنحّهما عن مواضع قواعد بيتي فانّي أريد أن اهبط «2» في ظلال

من ملائكتي إلى

__________________________________________________

(1) الأرجوان: شجر من الفصيلة القرنية له زهر شديد الحمرة، حسن المنظر، و ليست له رائحة.

(2) قال المجلسي قدس سرّه في بيانه: هبوطه تعالى كناية عن توجّه أمره بصدور ذلك الأمر كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ (البقرة: 210).

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 316

ارضي، فارفع أركان بيتي لملائكتي و لخلقي من ولد آدم.

قال: فهبط جبرئيل على آدم و حوّاء فأخرجهما من الخيمة و نحاّهما عن ترعة البيت الحرام، و نحّى الخيمة عن موضع الترعة.

قال: و وضع آدم على الصفاء و وضع حوّاء على المروة، و رفع الخيمة إلى السّماء، فقال آدم و حوّاء: أ بسخط من اللّه حوّلتنا و فرّقت بيننا أم برضا تقديرا من اللّه علينا؟ فقال لهما: لم يكن ذلك سخطا من اللّه عليكما، و لكنّ اللّه لا يسأل عمّا يفعل، يا آدم إنّ سبعين ألف ملك الّذين أنزلهم اللّه إلى الأرض ليؤنسوك و يطوفون حول أركان البيت و الخيمة سألوا اللّه أن يبني لهم مكان الخيمة بيتا على موضع الترعة المباركة حيال البيت المعمور، فيطوفون حوله كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور، فأوحى اللّه إليّ أن أنحّيك و حوّاء، و ارفع الخيمة إلى السّماء، فقال آدم عليه السّلام: رضينا بتقدير اللّه و نافذ أمره فينا، فكان آدم على الصفا و حوّاء على المروة.

قال: فدخل آدم لفراق حوّاء وحشة شديدة و حزن، قال: فهبط من الصفا يريد المروة شوقا إلى حوّاء، و ليسلّم عليها و كان فيما بين الصفا و المروة واد، و كان آدم يرى المروة من فوق الصّفا فلمّا انتهى إلى موضع الوادي، غابت

عنه المروة فسعى في الوادي حذرا لما لم ير المروة مخافة أن يكون قد ضلّ عن طريقه فلمّا أن جاز الوادي و ارتفع عنه نظر إلى المروة، فمشى حتّى انتهى إلى المروة فصعد عليها فسلّم على حوّاء، ثمّ أقبلا بوجههما نحو موضع التّرعة ينظران هل رفع قواعد البيت و يسألان اللّه أن يردّهما إلى مكانهما حتّى هبط من المروة فرجع إلى الصّفا فقام

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 317

عليه، و أقبل بوجهه نحو موضع التّرعة، فدعا اللّه ثمّ إنّه اشتاق إلى حوّاء فهبط من الصّفا يريد المروة، ففعل مثل ما فعله في المرّة الاولى، ثمّ إنّه رجع إلى الصّفا ففعل عليه مثل ما فعل في المرّة الاولى، ثمّ انّه هبط من الصفاء إلى المروة ففعل مثل ما فعل في المرّتين الأوليين، ثمّ رجع إلى الصفا فقام عليه و دعا اللّه أن يجمع بينه و بين زوجته حوّاء.

قال: فكان ذهاب آدم من الصفاء إلى المروة ثلاث مرّات و رجوعه ثلث مرّات فذلك ستّة أشواط فلمّا أن دعيا اللّه و بكيا إليه و سألاه أن يجمع بينهما استجاب اللّه لهما من ساعتهما من يومهما ذلك مع زوال الشّمس، فأتاه جبرئيل و هو على الصّفا واقف يدعوا اللّه مقبلا بوجهه نحو التّرعة فقال له جبرئيل: انزل يا آدم من الصفا فالحق بحوّاء، فنزل آدم من الصفاء إلى المروة ففعل مثل ما فعل في الثلاث المرّات حتّى انتهى إلى المروة، فصعد عليها و أخبر حوّاء بما أخبره جبرئيل، ففرحا بذلك فرحا شديدا، و حمد اللّه و شكراه، فلذلك جرت السّنة بالسعي بين الصفا و المروة و لذلك قال اللّه تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ

حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «1».

قال: ثمّ إنّ جبرئيل أتاهما فأنزلهما من المروة، و أخبرهما أنّ الجبّار تبارك و تعالى قد هبط إلى الأرض فرفع قواعد البيت الحرام بحجر من الصّفا و حجر من المروة و حجر من طور سيناء و حجر من جبل السلم و هو ظهر الكوفة، فأوحى اللّه إلى جبرئيل أن ابنه و أتمّه قال: فاقتلع جبرئيل الأحجار الأربعة بأمر اللّه من

__________________________________________________

(1) البقرة: 158.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 318

مواضعهنّ بجناحيه فوضعها حيث أمره اللّه في أركان البيت على قواعده الّتي قدّرها الجبّار، و نصب أعلامها، ثمّ أوحى اللّه إلى جبرئيل ان ابنه و أتممه بحجارة من أبي قبيس، و اجعل له بابين باب شرقيّ و باب غربي قال: فأتمّه جبرئيل فلمّا أن فرغ منه طافت الملائكة حوله.

فلمّا نظر آدم و حوّاء إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا بالبيت سبعة أشواط ثمّ خرجا يطلبان ما يأكلان و ذلك من يومهما الّذي هبط بهما فيه «1».

أقول و هذا الخبر كما ترى سقط شي ء من اوائله، و كانّه سقط ذلك من أوائل لاتّفاق النّسخ الموجودة، بل قد نبّه المجلسي على ذلك أيضا.

و في بعض الأخبار أنّ مهبطه كان بالهند، ففي «القصص» بالإسناد عن ابي جعفر عليه السّلام قال: انّ آدم عليه السّلام نزل بالهند، فبنى اللّه تعالى له البيت، و أمره أن يأتيه فيطوف به أسبوعا، فيأتي منى و عرفات و يقضي مناسكه، كما امر اللّه، ثمّ خطا «2» من الهند فكان موضع قدميه حيث خطا عمران، و ما بين القدم و القدم صحارى ليس فيها شي ء، ثمّ جاء إلى البيت فطاف به اسبوعا و قضى

مناسكه فقضاها كما أمره اللّه، فقبل اللّه منه توبته و غفر له، فقال آدم صلوات اللّه يا ربّ و لذريتي من بعدي، فقال نعم من آمن بي و برسلي «3».

و عن السيّد في كتاب «سعد السعود»: انّه رأى في صحف إدريس عليه السّلام أمر اللّه

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1 ص 121- 127 ط قم مؤسّسة الاسلاميّة و عنه البحار ج 11 ص 182- 189.

(2) خطا يخطو خطوا: فتح ما بين قدميه و مشى.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 180 عن القصص.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 319

الملائكة فحملت آدم و زوجته حوّاء على كرسيّ من نور، و أدخلوهما الجنّة فوضعا في وسط الفردوس من ناحية المشرق ثمّ ذكر حديث إقامة آدم عليه السّلام خمس ساعات من نهار ذلك اليوم في الجنّة و اكله من الشجرة و ذكر حديث إخراجه من الجنّة و هبوطه بأرض الهند على جبل اسمه باسم، على واد اسمه نهيل بين الدّهنج و المندل بلدي الهند، و هبطت حوّاء بجدة إلى آخر ما ذكره «1».

و فيه انّه كان شهر نيسان المبارك فأمره اللّه تعالى بصوم ثلاثة ايّام منه «2».

و سيأتي عن «تفسير القمي»: انّه كان اوّل يوم من ذي القعدة «3».

و في «الخصال» انّه: اهبط اللّه تعالى آدم يوم الجمعة «4».

و فيه و في «العيون»: سأل الشّامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال له: واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السّماء «5».

و في «القصص» بالإسناد إلى وهب قال: كان مهبط آدم عليه السّلام على جبل في شرقي أرض الهند يقال له باسم: ثمّ أمره أن يسير إلى مكّة، فطوى له الأرض

فصار على كل مفازة يمرّ به خطوة، و لم يضع قدمه في شي ء من الأرض إلّا صار عمرانا، و بكى على الجنّة مأتي سنة، فعزاه اللّه بخيمة من خيام الجنّة، فوضعها له بمكّة في موضع الكعبة «6».

__________________________________________________

(1) البحار: ج 11 ص 196 عن سعد السعود.

(2) البحار: ج 11 ص 196.

(3) تفسير القمي: ج 1 ص 44.

(4) الخصال: ص 316 و عنه البحار ج 11 ص 204.

(5) العلل: ص 595 و العيون ج 1 ص 244.

(6) قصص الأنبياء: ص 70 و عنه البحار ج 11 ص 211.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 320

و فيه عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ آدم لما هبط هبط بالهند، ثمّ رمي اليه بالحجر الأسود، و كان ياقوتة حمراء بفناء العرش، فلما رأى عرفه فاكبّ عليه و قبّله، ثمّ أقبل به فحمله إلى مكّة، فربما أعيى عن ثقله فحمله جبرئيل عنه، و كان إذا لم يأته جبرئيل عليه السّلام اغتمّ و حزن، فشكى ذلك إلى جبرئيل فقال: إذا وجدت شيئا من الحزن فقل لا حول و لا قوّة إلّا باللّه «1».

و هذه الأخبار و ان كانت ظاهرة في كون أوّل هبوطه بالهند أو في خصوص سرانديب أو جبل باسم، لكنّها محمولة على التقيّة لمخالفتها للأخبار الكثيرة الدّالة على كون مهبطهما مكّة.

بل في «العلل» و «العيون» عن البزنطي عن الرّضا عليه السّلام قال: قلت: كيف كان أوّل الطيب؟ فقال لي: ما يقول من قبلكم فيه؟ قلت: يقولون إنّ آدم لما هبط بأرض الهند فبكى على الجنّة سالت دموعه فصارت عروقا في الأرض، فصارت طيبا، فقال عليه السّلام: ليس كما يقولون، آه «2».

و فيهما بالإسناد عن صفوان

قال: سئل ابو الحسن عليه السّلام عن الحرم و أعلامه؟

فقال إنّ آدم لمّا هبط من الجنّة هبط على أبي قبيس و الناس يقولون بالهند فشكى إلى ربّه عزّ و جلّ الوحشة و انّه لا يسمع ما كان يسمع في الجنّة، فاهبط اللّه عزّ و جلّ عليه ياقوتة حمراء فوضعت في موضع البيت فكان يطوف بها آدم و كان يبلغ ضوؤها

__________________________________________________

(1) قصص الأنبياء: ص 49 ح 18 و عنه البحار ج 11 ص 210.

(2) علل الشرائع: ص 492 ح 2، و العيون ج 1 ص 287 ح 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 321

الأعلام فعلمت الأعلام على ضوئها فجعله اللّه عزّ و جلّ حرما «1».

و يمكن ايضا أن يكون أوّل هبوطه بمكة ثمّ بالهند أو بالعكس كقوله: اهْبِطُوا مِصْراً «2»، لكن ما ذكرناه أظهر، و يؤيّده ما ذكره الرازي من انّه روى في الأخبار أنّ آدم عليه السّلام أهبط بالهند، و حوّاء بجدّة و إبليس بموضع من البصرة على أميال، و الحية بإصفهان «3».

حيث إنّ ظاهر اقتصاره عليه انّ اخبارهم تدلّ على هبوطه بالهند، و هذا ممّا يؤيّد الحمل على التقيّة، و لا ينافيه ما ورد من أنّ رائحة ما كان معهما من الورقة او المشط عبقت بالهند، إذ قد يكون ذلك بواسطة عصف الّرياح.

و لعلّه يومئ اليه ما ورد في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا أهبط آدم عليه السّلام طفق يخصف من ورق الجنّة، و طار عنه لباسه الّذي كان عليه من حلل الجنّة، فالتقط ورقة فستر بها عورته، فلما هبط عبقت رائحة تلك الورقة بالهند بالنبت فصار في الأرض من سبب تلك الورقة الّتي عبقت

بها رائحة الجنّة، فمن هناك الطيب بالهند لأنّ الورقة هبّت عليها ريح الجنوب فأدّت رائحتها إلى المغرب، لأنّها احتملت رائحة الورقة في الجو، فلمّا ركدت الرّيح بالهند علق.

و في بعض النسخ: عبق بأشجارهم و نبتهم، فكان اوّل بهيمة ارتعت من تلك

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 422 ح 4 و العيون ج 1 ص 85.

(2) البقرة: 61.

(3) تفسير الرازي: ج 3 ص 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 322

الورقة ظبي المسك، فمن هناك صار المسك في سرّة الظبي، لأنّه جرى رائحة النبت في جسده و في دمه حتّى اجتمعت في سرّة الظّبي «1».

بل في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: أهبط آدم من الجنّة عن الصّفا، و حوّاء على المروة، و قد كانت امتشطت في الجنّة، فلمّا صارت في الأرض قالت: ما أرجو من المشط و انا مسخوط عليّ فحلّت مشطتها، فانتشر عن مشطتها العطر الّذي كانت امتشطت به في الجنّة، فطارت به الرّيح، فألقت اثره في الهند فلذلك صار العطر بالهند.

قال: و في حديث آخر انها حلّت عقيصتها فأرسل اللّه عزّ و جلّ على ما كان فيها من ذلك الطّيب ريحا فهبت به في المشرق و المغرب «2».

و ممّا ذكرناه يظهر الوجه أيضا فيما رواه في كتاب أخبار الملاحم و الفتن عن الصّادق عليه السّلام قال: لمّا خلق اللّه آدم و أخرجه من الفردوس كتب له عنده في العلم السابق ألف سنة فلمّا هبط من السّماء و أخرج من الفردوس، هبط على جبل بأرض الهند كان أعلاه قريبا من السّماء، و كان آدم عليه السّلام يسمع كلام ملائكة سماء الدنيا، و يجد ريح الفردوس فلبث بذلك حينا، فاشتدّ جوعه فشكى إلى الأرض،

فقال يا أرض اطعميني فانا آدم صفيّ اللّه، فأوحى اللّه تبارك و تعالى إلى الأرض:

اجيبي عبدي.

فقالت: يا آدم لسنا نطعم اليوم من عصى اللّه، فبكى آدم عليه السّلام أربعين صباحا على ساحل البحر، تقطر دموعه في البحر، فيزعمون انّ الصدفة كانت ترتفع فوق

__________________________________________________

(1) فروع الكافي: ج 6 ص 514 ح 3.

(2) علل الشرائع: ص 491 و 492 ح 1 و عنه البحار ج 11 ص 207.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 323

الماء، فإذا قطرت دموع آدم في الصدفة اغتمس في الماء فيقولون: انّ الدّر من دموع آدم، و نبت الزعفران من دموع آدم، و نبت اللبان من دموع داود عليه السّلام.

فلما اشتدّ جوعه رفع رأسه إلى السّماء، فقال يا سماء أطعميني فأنا آدم صفيّ اللّه، فأوحى اللّه تعالى إلى السماء: أن اجيبي عبدي، فقالت: يا آدم لسنا نطعم اليوم من عصى اللّه تبارك و تعالى، فبكى آدم أربعين صباحا، فلمّا اشتدّ جوعه رفع رأسه إلى السّماء فقال أسألك يا ربّ بحقّ النّبي الأميّ الّذي تريد أن تخرجه من صلبي الّا تبت عليّ و اطعمتني، فأوحى اللّه إليه: يا آدم و من أين عرفت النّبي الأميّ و لم أخلقه بعد؟

فقال آدم: إنّي رأيت على الفردوس مكتوب: لا اله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، فعلمت أنّ ذلك من صلبي، فبحقّ ذلك النّبي إلّا اطعمتني، فأوحى اللّه تبارك و تعالى إلى جبرئيل: اهبط إلى عبدي، فهبط عليه جبرئيل، و معه تسع حبّات من حنطة، فوضعها على يدي آدم.

قال: فكان وزن الحبة منها الفا و ثمان مائة درهم.

قال آدم: يا جبرئيل ما هذا؟ فقال جبرئيل: يا آدم هذا أخرجك من الجنّة.

قال: فما أصنع به؟ قال ابذره

في الأرض، ففعل، فأنبته اللّه من ساعته، فحدثت سنّة في ولده البذر في الأرض.

ثمّ أمره بحصاده، فجعل يأخذ القبضة بعد القبضة.

ثمّ أمره بجمعه و فركه بيده، فلذلك ولده يفركون بأيديهم.

ثمّ أمره بتذريته في الرّيح، فلذلك صارت الحنطة تذرّى في الرّيح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 324

ثمّ امره بحجرين فوضع أحدهما على الآخر فدقّه، فلذلك وضعت الرحا اليوم.

ثمّ أمره بعجنه فلذلك صار ولده يعجنون الدقيق اليوم.

ثمّ أمره أن يختبزه ملّة «1».

فجمع له جبرئيل الحجر و الحديد، فقدحه فخرجت النار، فلذلك ولده يقدحون النّار اليوم، فهم أوّل من اختبز الملّة.

ثمّ أمره أن يأكله، فعند ذلك قال لجبرئيل: لا أريد! فقال له جبرئيل عليه السّلام:

شكوت إلى ربّك الجوع، فلمّا أطعمك قلت: لا أريد؟ قال: لأنّي قد أعييت ممّا عالجت.

فقال له جبرئيل: هذا عملك و عمل ذرّيّتك إلى أن تقوم السّاعة.

فبكى آدم أربعين صباحا حتّى نبتت لحيته من الغمّ و الحزن على الجنّة.

فلمّا أكل وجد في بطنه ثقلا و وجعا، و لم يكن قبل ذلك له مخاط و لا بزاق، فشكى إلى جبرئيل.

فقال جبرئيل: تنحّ فتنحّى، فبعّر مثل بعر الشّاة، وجد له ريحا شديدا، فشكى ذلك إلى جبرئيل.

فقال له جبرئيل: أ تدري ما ذلك؟ قال: لا فقال له جبرئيل عليه السّلام: انّ اللّه تبارك و تعالى حين خلقك من طين أجوف، فجاء إبليس فضرب على بطنك، فسمع له

__________________________________________________

(1) الملّة: الرماد و الجمر، يقال: مللت الخبزة في الملّة و أمللتها إذا عملتها في الملة- لسان العرب ج 13 ص 187.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 325

دويّا كدويّ الخابية، فقال للملائكة لا يهمنّكم إن كان ملكا فهو منكم، و ان يكن من غيركم فأنا أكفيكموه، و ذلك قول اللّه

عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1» فكان ممّن اتّبعه هاروت و ماروت.

ثمّ دخل في جوفك فخرج من دبرك، فكلّما أصاب الطعام من نتن فهو من ذلك، لأنّ ممرّ إبليس لعنه اللّه كان بطنك فيعز من ذلك، و لم يكن آدم يعرف قبل ذلك بزاقا، و لا مخاطا، و لا شيئا من الأذى حتّى أكل الطعام.

فلمّا لبث آدم عليه السّلام في الأرض مأتي سنة ولد عوج بن عنق من بنت آدم، و هو الّذي كان ولد في دار آدم، و قتله موسى من بعد آدم، فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة.

فلمّا استكمل ايّامه أوحى اللّه إليه أن يا آدم قد استكملت أيّامك، فانظر الاسم الأكبر و ميراث علم النبوّة فادفعه إلى ابنك شيث، فانّي لم أكن اترك الأرض الّا و فيها عالم يدلّ على طاعتي و ينهى عن معصيتي.

فدفع آدم الوصيّة إلى ابنه شيث «2».

أقول: و هذا الخبر و ان كان من طرق المخالفين إلّا أنّه لما كان مرويّا عنه عليه السّلام مشتملا على كثير ممّا في أخبارنا و على اتّصال الوصيّة و عدم خلوّ الأرض عن الحجّة أوردناه في المقام، و أمّا ما فيه من الاشتكاء إلى الأرض و السّماء فلعلّه كناية عن جوعه و حاجته و انسداد أبواب الرزق عليه من السّماء و الأرض، و امّا ما فيه من

__________________________________________________

(1) سبأ: 20.

(2) الملاحم: ص 34 الى ص 38 و هو تأليف الحافظ احمد بن جعفر بن محمد المعروف بابن المنادي المتوفى (336).

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 326

متابعة هاروت و ماروت فمن مزخرفات العامّة.

و في كتاب محاضرة الأوائل «1»: إنّ اوّل موضع أهبط

اللّه فيه آدم جبل يسمّى الراهون في جزيرة من جزائر الهند في مملكة سرانديب بمكان يقال الدّهنا و عليه اثر قدمه عليه السّلام و على القدم نور لمّاع يخطف البصر لا يمكن لأحد أن ينظر إليه طول قدمه في الصّخر سبعون شبرا و على الجبل ضوء كالبرق و لا بدّ لكلّ يوم فيه من المطر فيغسل أثر قدمه و ان آدم خطأ من هذا الجبل إلى ساحل البحر خطوة واحدة و هو مسيرة يومين فلما أهبط خرّ ساجدا على صخرة بيت المقدّس و كان يمسح رأسه الشريف السّماء و كان يشرب من السّحاب و كان طوله خمسمائة ذراع و اللّه أعلم بايّ ذراع ثمّ تضلع ستّين ذراعا.

أقول: و ستسمع الكلام في الاخبار الدالّة على طول قامته عليه السّلام فيما يأتي.

و في «العلل» و «العيون» و «الخصال»: انّه سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن اوّل من قال الشعر فقال: آدم عليه السّلام قال: و ما كان شعره؟ قال لما أنزل إلى الأرض من السماء فرأى تربتها وسعتها و هواها و قتل قابيل هابيل فقال آدم:

تغيّرت البلاد و من عليها فوجه الأرض مغبّر قبيح تغيّر كلّ ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه المليح و زاد في «مروج الّذهب» «2» و غيره:

و بدّل أهلها أثلا و خمطا بجنّات من الفردوس فيح __________________________________________________

(1) قال حاجي خليفة في كشف الظنون ج 2 ص 1610: محاضرة الأوائل: مختصر للشيخ علي دده ... فرغ منه في شهر رجب سنة (998) ه.

(2) مروج الذهب: ج 1 ص 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 327

و جاورنا عدوّا ليس ينسى لعين ما يموت فنستريح و يقتل قاين

هابيل ظلما فوا أسفا على الوجه المليح فمالي لا أجود بسكب دمعي و هابيل تضمّنه الضريح ارى طول الحياة عليّ غمّا و ما انا من حياتي مستريح فأجابه إبليس لعنه اللّه

تنحّ عن البلاد و ساكنيها ففي الفردوس ضاق بك الفسيح و كنت بها و زوجك في قرار و قلبك من أذى الدنيا مريح فلم تنفكّ من كيدي و مكري إلى أن فاتك الثّمن الربيح فلو لا رحمة الجبّار أضحت بكفّك من جنان الخلد ريح «1» قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه قوله: قيح إمّا بالقاف جمع القاحة بمعنى الساحة أو بالفاء من الفيح بمعنى السّعة، و قاين بالياء: أحد ما قيل في اسم الولد القاتل، قال: و في اكثر نسخ التفاسير و التّواريخ بالباء الموحّدة «2».

و في مروج الذّهب بالمثنّاة من تحت و قيل قابين بالموحّدة ثمّ المثناة و المشهور قابيل باللام.

و في «الفقيه» و «العلل» و «المحاسن» عن الصّادق عليه السّلام قال لمّا هبط آدم من الجنّة ظهرت به شامة «3» سوداء من قرنه إلى قدمه، فطال حزنه و بكاؤه على ما ظهر

__________________________________________________

(1) البحار ج 11 ص 233- 234 عن العلل ص 594 و عن العيون ج 1 ص 242 و الخصال ص 209.

(2) البحار: ج 11 ص 234.

(3) الشامة: الخال اي بثرة سوداء و في البدن حولها شعر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 328

به، فأتاه جبرئيل عليه السّلام فقال ما يبكيك يا آدم؟ فقال: من هذه الشامة الّتي ظهرت بي، قال: قم يا آدم فصلّ فهذا وقت الصلاة الاولى فقام و صلّى، فانحطت الشامة إلى عنقه، فجاءه في الصّلاة الثانية، فقال: قم فصلّ يا آدم فهذا وقت الصلاة الثانية،

فقام و صلّى فانحطت الشامة إلى سرّته، فجاءه في الصلاة الثالثة، فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الثالثة، فقام فصلّى فانحطت الشامة إلى ركبتيه، فجاءه في الصلاة الرابعة، فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الرابعة، فقام فصلّى فانحطت الشامة إلى قدميه فجاءه في الصلاة الخامسة، فقال: قم يا آدم فصلّ فهذا وقت الصلاة الخامسة، فقام صلّى فخرج منها، فحمد اللّه و اثنى عليه، فقال جبرئيل: يا آدم مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشّامة، من صلّى من ولدك في كلّ يوم و ليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشّامة «1».

و في تفسير القمّي قال: فلمّا اسكنه اللّه الجنّة و اتى جهالة إلى الشجرة لأنّه خلق خلقة لا تبقى إلّا بالأمر و النّهي و الغذاء و اللّباس و الإكنان و النكاح و لا تدرك ما ينفعه ممّا يضرّه إلّا بالأمر و النّهي و التّوفيق، فجاءه إبليس و قال إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة الّتي نهاكما اللّه عنها صرتما ملكين و بقيتما في الجنّة أبدا و ان لم تأكلا منها أخرجكما اللّه من الجنّة، و حلف لهما أنّه لهما ناصح، كما قال اللّه تعالى حكاية عنه: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ «2» وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «3» فقبل آدم قوله، فأكلا من

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ص 338 ح 2 و عنه البحار ج 11 ص 166.

(2) الأعراف: 20.

(3) الأعراف: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 329

الشجرة فكان كما حكى اللّه بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما* «1» و سقط عنهما ما ألبسهما اللّه تعالى من

لباس الجنّة، و أقبلا يستتران بورق الجنّة وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ «2» فقالا كما حكى اللّه عنهما: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» فقال اللّه لهما اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ «4»، قال: إلى يوم القيمة قال: فأهبط آدم على الصّفا، و إنّما سمّيت الصّفا لأنّ صفوة اللّه نزل عليها، و نزلت حوّاء على المروة، و انّما سمّيت المروة لأنّ المرأة نزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا يبكي على الجنّة، فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا آدم ألم يخلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و اسجد لك ملائكته؟ قال:

بلى قال: و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي باللّه أنّه لي ناصح و ما ظننت ان خلقا يخلقه اللّه أن يحلف باللّه كاذبا «5».

تفسير الآية (37)

توبة آدم بواسطة الكلمات

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ استقبلها بالتوصل و الاستشفاع و قبول الولاية

__________________________________________________

(1) الأعراف: 22.

(2) الأعراف: 22.

(3) الأعراف: 23.

(4) الأعراف: 24.

(5) تفسير القمي: ج 1 ص 43 و عنه البحار ج 11 ص 162.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 330

و بالأخذ و القبول و العمل بناء على ما هو الأظهر من شمول الكلمات للكونيّة الحقيقيّة و اللّفظيّة، و هو مأخوذ من قولهم: تلقّيت منه اي أخذت و قبلت، و يقال:

تلقّيت الرجل و تلقّاني أي استقبلته و استقبلني، و منه تلقّي الركبان، و هو في الأصل التّعرض للقاء، أطلق على القبول و الاستقبال، لأنّه من التعرّض، و ربما

يحتمل أن يكون أصله التلقّن كالتظنّي في التظنن و هو ضعيف.

القراءة

و اكثر القرّاء على رفع آدم و نصب كلمات، و عن ابن كثير العكس، و استدلّ له بأنّه في المعنى كالقراءة الأخرى، فانّ الأفعال المتعدّية على ثلاثة أضرب: ما يجوز ان يكون الفاعل له مفعولا به و العكس، نحو: ضرب زيد عمروا و ما لا يجوز ذلك فيه نحو: أكلت الخبز، و ما يكون إسناده إلى الفاعل في معنى اسناده إلى المفعول به، نحو: نلت و أصبت و تلقيت تقول: نالني خير، و نلت خيرا، و اصابني شي ء، و أصبت شيئا، و تلقّاني زيد و تلقّيته، و مثله في جواز الوجهين بل و قراءة قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «1» على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى، و هو كما ترى توجيه للمعنى لا تصحيح للقراءة، بل هو من وجه آخر على ما مرّ على أنّ المعنى على الأوّل ما سمعت، و على الثّاني انّ الكلمات تداركته بالنّجاة و ستسمع في الأخبار المرويّة عن «الخصال» و «المعاني» و «الفضائل» و غيرها ما يدلّ على الأوّل.

و «من» للابتداء، و إضافة الكلمات إلى اسم الرّب مضافا إلى ضميره، مع انّه

__________________________________________________

(1) البقرة: 124.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 331

ربّ كلّ شي ء، للإشعار على كون التّلقي و التوسل من وظائف عبوديّة آدم، و قبوله من شؤون ربوبيّته المطلقة، مضافا إلى كونه من متمّمات تربيته و مكمّلات وجوده.

الكلمات و إطلاقاتها

و «كلمات» جمع كلمة، و فيها لغات، و الحقّ أنّها اسم جنس يطلق على القليل و الكثير فيقال للكلام و البيت و الخطبة و القصيدة كما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها «1»، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: أصدق كلمة قالتها العرب كلمة لبيد «2»:

الا كلّ شي ء ما خلا اللّه باطل و كلّ نعيم لا محالة زائل «3» و قولهم: قال قسّ في كلمته، يعنون في خطبته، و قال إمرؤا القيس في كلمته، يعنون في قصيدته.

ثمّ انّ هذه الإطلاقات كلّها إنّما هي باعتبار الكلمة التّدوينيّة، و امّا الكلمة التكوينيّة فالمراد بها الوجودات الجامعة المشتملة على الحروف الكونيّة و لذا يطلق على الأنبياء و الحجج عليهم السّلام و كذا أطلقت على عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ «4» و أطلقت الكلمات او الموصوفة بالتّامات على النّبي و الأئمّة عليهم السّلام كما في هذه الآية

__________________________________________________

(1) المؤمنون: 100.

(2) لبيد بن ربيعة العامري كان من أشراف شعراء المخضرمين و الفرسان المعمّرين عمّر (140) سنة او أزيد و أدرك الإسلام و أسلم مات في أواخر خلافة معاوية.

(3) سفينة البحار: ج 2 ص 503.

(4) النساء: 171.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 332

و في قوله: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ «1»، و قوله: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «2»، و قوله: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «3»، وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ* «4»، وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً «5»، حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ «6»، وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «7» و غيرها من الآيات الكثيرة على ما تسمع إنشاء اللّه تعالى.

و المراد بها في المقام ما يشمل الأمرين أعني التّوسل بذواتهم الشريفة الّذين هم الأسماء الحسنى، و الأمثال العليا، و أسماؤهم الّتي هي أسماء الأسماء إمّا باعتبار عموم الاشتراك، أو المجاز، او على ما قرّر في محلّه من جواز استعمال اللّفظ المشترك في المعنيين و المتّحد

المعنى في المعنى الحقيقي و المجازي، مع أنّ التلقي هو التوسّل التّام الّذي لا يتم إلّا بالأمرين معا و لذا ترى أخبار الباب المرويّة من طرق الفريقين مشتملة على الأمرين.

ففي «تفسير العياشي» عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه قال: يا ربّ اسألك بحقّ محمّد لمّا تبت عليّ، قال: و ما علمك بمحمّد؟

قال: رأيته في سرادقك الأعظم مكتوبا و انا في الجنّة «8».

__________________________________________________

(1) البقرة: 134.

(2) الكهف: 109.

(3) لقمان: 27.

(4) الانعام: 115.

(5) الزخرف: 28.

(6) يونس: 96.

(7) الفتح: 26.

(8) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 41 ح 8 و عنه البحار ج 11 ص 186 ح 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 333

و فيه عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى عرض على آدم في الميثاق ذريّته، فمرّ به النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو متكئ على عليّ و فاطمة صلوات اللّه عليهما تتلوهما، و الحسن و الحسين عليهما السّلام يتلوان فاطمة، فقال اللّه: يا آدم إياك أن تنظر إليهم بحسد أهبطك من جواري، فلمّا أسكنه اللّه الجنّة مثّل له النّبي و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم، فنظر إليهم بحسد، ثمّ عرضت عليه الولاية:

فأنكرها فرمته الجنّة بأوراقها، فلمّا تاب إلى اللّه من حسده و أقرّ بالولاية و دعا اللّه بحقّ الخمسة محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلّى اللّه عليهم غفر اللّه له و ذلك قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «1».

و في «تفسير القمي» عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ آدم بقي على الصفا أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة و

على خروجه من جوار اللّه عزّ و جلّ، فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا آدم مالك تبكي؟ قال: يا جبرئيل مالي لا ابكي و قد أخرجني اللّه من جواره، و أهبطني إلى الدّنيا، قال: يا آدم تب إليه، قال: و كيف أتوب؟ فانزل اللّه عليه قبّة من نور في موضع البيت، فسطع نورها في جبال مكّة فهو الحرم، فأمر اللّه جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، قال: قم يا آدم فخرج به يوم التّروية، و امره أن يغتسل و يحرم و أخرج من الجنّة اوّل يوم من ذي القعدة، فلمّا كان يوم الثامن من ذي الحجّة أخرجه جبرئيل إلى منى، فبات فيها فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات، و قد كان علّمه حين أخرجه من مكّة الإحرام و أمره بالتلبية، فلمّا زالت الشمس يوم عرفه قطع التّلبية، و أمره أن يغتسل، فلمّا صلّى العصر وقّفه. بعرفات، و علّمه

__________________________________________________

(1) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 41 ح 27 و عنه البحار ج 11 ص 187.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 334

الكلمات الّتي تلقّى بها ربّه، و هو «سبحانك اللّهم و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي، و اعترفت بذنبي، فاغفر لي إنك الغفور الرحيم» هكذا ثلاث مرّات إلّا أنّه في الثانية انّك أنت خير الغافرين و في الثالثة: انك أنت التّواب الرحيم، فبقى إلى أن غابت الشمس رافعا يديه إلى السماء يتضرّع و يبكي إلى اللّه، فلمّا غابت الشمس ردّه إلى المشعر، فبات بها فلمّا أصبح قام على المشعر الحرام، فدعا اللّه تعالى بكلمات و تاب عليه «1». الخبر أقول: و لعلّ المراد بهذه الكلمات الأخيرة ما مرّت الإشارة إليها في ما

مرّ من الأخبار من التوسل بالنّبي و الأئمّة عليهم السّلام، و امّا مع الحمل على الدّعاء المذكور في هذا الخبر فلا ينافي ذلك لأنّه من مقتضيات ولايتهم و من آثارها.

و عليه يحمل أيضا ما رواه العيّاشي في تفسيره عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

الكلمات الّتي تلقّاهنّ آدم من ربّه فتاب عليه و هدى قال: سبحانك اللّهم و بحمدك، إلى آخر ما مرّ «2».

قال و قال الحسن بن راشد: إذا استيقظت من منامك فقل الكلمات الّتي تلقّى بها آدم من ربّه: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الروح، سبقت رحمتك غضبك، لا اله إلّا أنت انّي ظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني، انك أنت التّواب الرحيم «3».

و في «كشف اليقين» عن مجاهد عن ابن عباس قال: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه عطس فألهمه اللّه: الحمد للّه ربّ العالمين، فقال له ربّه: يرحمك ربّك،

__________________________________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 44- 45 و عنه البحار ج 11 ص 178- 179.

(2) تفسير العياشي: ج 1 ص 41 ح 25.

(3) تفسير العيّاشي: ج 1 ص 41 ح 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 335

فلمّا أسجد له الملائكة تداخله العجب، فقال: يا ربّ خلقت خلقا أحبّ إليك منّي؟

فلم يجب ثمّ قال الثانية فلم يجب، ثمّ قال الثالثة فلم يجب، ثمّ قال اللّه عزّ و جلّ له: نعم و لولاهم ما خلقتك، فقال يا ربّ فأرنيهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى ملائكة الحجب: أن ارفعوا الحجب، فلما رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدام العرش، فقال: يا ربّ من هؤلاء؟ قال: يا آدم هذا محمّد نبيي، و هذا عليّ أمير المؤمنين ابن عمّ نبيي و وصيّه،

و هذه فاطمة ابنة نبيي، و هذان الحسن و الحسين ابنا عليّ و ولدا نبيي، ثمّ قال: يا آدم هم ولدك ففرح بذلك، فلمّا اقترف الخطيئة قال: يا ربّ أسألك بمحمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين لمّا غفرت لي، فغفر اللّه له بهذا فهذا الّذي قال اللّه عزّ و جلّ:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ «1»، فلمّا هبط إلى الأرض صاغ خاتما فنقش عليه: «محمّد رسول اللّه و عليّ أمير المؤمنين» و يكنّى آدم بابي محمّد عليه السّلام «2».

و في «المعاني» فيما رواه المفضّل عن الصادق عليه السّلام بطوله إلى أن قال عليه السّلام: فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يتوب عليهما جاءهما جبرئيل فقال لهما: إنكما إنّما ظلمتما أنفسكما بتمنّي منزلة من فضّل عليكما فجزاؤكما ما قد عوقبتما به من الهبوط من جوار اللّه عزّ و جلّ إلى أرضه، فاسألا ربّكما بحقّ الأسماء الّتي رأيتموها على ساق العرش حتّى يتوب عليكما، فقالا: اللّهم إنّا نسألك بحقّ الأكرمين عليك: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة عليهم السّلام إلّا تبت علينا و رحمتنا، فتاب اللّه عليهما انّه هو التّواب الرحيم، فلم تزل أنبياء اللّه بعد ذلك يحفظون هذه الأمانة، و يخبرون

__________________________________________________

(1) البقرة: 37.

(2) اليقين في إمرة امير المؤمنين عليه السّلام ص 30- 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 336

بها أوصيائهم و المخلصين من أممهم، فيأبون حملها و يشفقون من ادّعائها و حملها الإنسان الّذي قد عرف، فأصل كلّ ظلم منه إلى يوم القيامة، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1»، الآية «2».

الكلمات التي تلقّيها آدم (ع)

و في «الأمالي»

و «الاحتجاج» و «جامع الاخبار» عن الصادق عليه السّلام قال: أتى يهوديّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا يهودي ما حاجتك؟

قال: أنت أفضل أم موسى ابن عمران الّذي كلّمه اللّه، و أنزل عليه التوراة و العصا، و فلق له البحر و اظلّه بالغمام؟ فقال له النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّه يكره للعبد أن يزكّي نفسه و لكنّي أقول: إنّ آدم لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال اللّهم إنّي اسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا غفرت لي فغفرها اللّه له، و انّ نوحا لمّا ركب السفينة و خاف الغرق قال: اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا نجّيتني و أهلي من الغرق، فنجّاه اللّه تعالى و من معه في السفينة من الغرق، و إنّ ابراهيم لمّا ألقي في النّار قال:

اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا أنجيتني منها، فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما، و إنّ موسى لمّا ألقى عصاه و أوجس في نفسه خيفة قال: اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لما آمنتني، فقال اللّه جلّ جلاله: لا تخف إنك أنت الأعلى، يا يهودي إنّ موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي و بنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئا

__________________________________________________

(1) الأحزاب: 72.

(2) معاني الاخبار: ص 108 و عنه البحار ج 11 ص 174 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 337

و لا نفعته النبوّة «1».

و في «المعاني» عن الصّادق عليه السّلام في قوله: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ «2»، ما هذه الكلمات؟ قال: هي الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب

عليه، و هو انّه قال: أسألك بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلّا تبت عليّ فتاب اللّه عليه انّه هو التّوّاب الرحيم. «3» الخبر و في «الكافي» عن أحدهما عليهما السّلام: إنّ الكلمات لا اله إلّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فتب عليّ و اغفر لي و أنت خير الغافرين، لا اله إلّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك عملت، سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني انك، أنت ارحم الراحمين، لا اله الا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فتب عليّ انك أنت التوّاب الرحيم.

و في رواية: بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين.

و في رواية اخرى: بحقّ محمّد و آل محمّد عليهم السّلام صلّى اللّه عليهم أجمعين «4».

«الخصال» و «المعاني» و «الفضائل» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: سأله بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلّا تبت عليّ فتاب اللّه عليه.

و في «فضائل الأئمّة» عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خلق اللّه

__________________________________________________

(1) جامع الاخبار: ص 8- 9 و الأمالي ص 131- 132، و عنهما البحار ج 16 ص 366.

(2) البقرة: 124.

(3) معاني الاخبار ص 42 و عنه البحار ج 11 ص 177 ح 24.

(4) معاني الاخبار ص 42 و الخصال ج 1 ص 146 و عنهما البحار ج 11 ص 176.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 338

آدم فسأل ربّه أن يريه ذريّته

من الأنبياء و الأوصياء المقرّبين إلى اللّه عزّ و جلّ فأنزل اللّه عليه صحيفة فقرأها كما علّمه اللّه تعالى إلى أن انتهى إلى محمّد النّبي العربيّ عليه أفضل الصّلاة و السلام فوجد عند اسمه اسم عليّ بن ابي طالب عليه السّلام فقال آدم هذا نبي بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فهتف به هاتف يسمع صوته و لا يرى شخصه يقول هذا وارث علمه و زوج ابنته و ابو ذرّيته عليه السّلام فلمّا وقع آدم في الخطيئة جعل يتوسّل إلى اللّه تعالى بهم عليهم السّلام فتاب اللّه عليهم «1».

و في تفسير فرات بن ابراهيم بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: لمّا نزلت الخطيئة بآدم و اخرج من الجنّة أتاه جبرئيل عليه السّلام فقال يا آدم أدع ربّك قال يا حبيبي جبرئيل ما أدعو؟ قال: قل: يا ربّ اسألك بحقّ الخمسة الّذين تخرجهم من صلبي آخر الزّمان ألّا تبت عليّ و رحمتني فقال له آدم يا جبرئيل سمّهم لي قال: اللّهم بحقّ محمّد نبيّك، و بحقّ عليّ وصي نبيّك، و بحقّ فاطمة بنت نبيّك، و بحقّ الحسن و الحسين سبطي نبيّك إلّا تبت عليّ و رحمتني، فدعا بهنّ آدم فتاب اللّه عليه، و ذلك قول اللّه تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ، و ما من عبد مكروب يخلّص النيّة و يدعو بهنّ إلّا استجاب اللّه له «2».

و في «الفضائل» بالإسناد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أبي آدم لمّا رأى اسمي و اسم عليّ و ابنتي فاطمة و الحسن و الحسين و اسماء أولادهم مكتوبة على ساق العرش بالنّور، قال: الهي و سيّدي هل خلقت خلقا هو أكرم عليك

منّي؟ فقال اللّه: يا آدم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 331 ح 13 عن الفضائل.

(2) تفسير فرات: ص 13 و عنه البحار ج 26 ص 333 ح 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 339

لو لا هذه الأسماء لما خلقت سماء مبنيّة و لا أرضا مدحيّة و لا ملكا مقرّبا و لا نبيّا مرسلا، و لا خلقتك يا آدم قال: فلمّا عصى آدم ربّه سأله بحقّنا أن يقبل توبته و يغفر خطيئته فأجابه، و كنّا الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه عزّ و جلّ فتاب عليه و غفر له، فقال له: يا آدم ابشر فانّ هذه الأسماء من ذرّيتك و ولدك، فحمد آدم ربّه عزّ و جلّ و افتخر على الملائكة بنا و انّ هذا من فضلنا و فضل اللّه علينا «1».

و في كتاب المحتضر للحسن بن سليمان عن الباقر عليه السّلام قال: نحن الأسماء الحسنى الّتي لا يقبل اللّه عن العباد عملا إلّا بمعرفتنا و نحن و اللّه الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه «2».

و في تفسير الامام عليه السّلام قال: فلمّا زلّت من آدم الخطيئة و اعتذر إلى ربّه عزّ و جلّ قال: يا ربّ تب عليّ، و اقبل معذرتي، و أعدني إلى مرتبتي، و ارفع لديك درجتي، فلقد تبيّن نقص الخطيئة و ذلّها بأعضائي و سائر بدني، قال اللّه تعالى يا آدم: أما تذكر أمري ايّاك بأن تدعوني بمحمّد و آله الطّيبين عند شدائدك و دواهيك و في النوازل الّتي تبهظك «3» قال آدم: يا ربّ بلى قال اللّه عزّ و جلّ له: فتوسل بمحمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم خصوصا فادعني

أجبك إلى ملتمسك و أزدك فوق مرادك، فقال آدم: يا ربّ و قد بلغ عندك من محلّهم إنّك بالتّوسل بهم تقبل توبتي و تغفر خطيئتي، و انا الّذي أسجدت له ملائكتك و الجنّة جنّتك و زوّجته حوّاء أمتك، و أخدمته كرام ملائكتك؟

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 35 ص 23 ح 15 عن الفضائل.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 5 ح 7.

(3) تبهظك: تثقلك و تعجزك، مشتق من بهظ بمعنى أثقل و أعجز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 340

قال اللّه تبارك و تعالى: يا آدم إنّما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود إذ كنت وعاء لهذه الأنوار، و لو كنت سألتني بهم قبل خطيئك أن أعصمك منها، و ان أفطنك لدواعي عدوّك إبليس حتّى تحترز منه لكنت قد جعلت ذلك، و لكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي، فالآن فبهم فادعني لأجيبك.

فعند ذلك قال آدم: اللّهمّ بجاه محمّد و آله الطّيبين، بجاه محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطّيبين من آلهم لمّا تفضّلت بقبول توبتي، و غفران زلّتي، و إعادتي من كراماتك إلى مرتبتي.

فقال اللّه عزّ و جلّ قد قبلت توبتك و أقبلت برضواني عليك، و صرفت آلائي و نعمائي إليك، و أعدتك إلى مرتبتك من كراماتي، و وفّرت نصيبك من رحماتي، فذلك قوله عزّ و جلّ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «1».

ثمّ قال عزّ و جلّ للّذين أهبطهم من آدم و حوّاء و إبليس و الحيّة: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ فيها تعيشون، و تحثّكم لياليها و أيّامها إلى السعي للاخرة، فطوبى لمن تزوّد منها لدار البقاء وَ مَتاعٌ إِلى

حِينٍ لكم في الأرض منفعة إلى حين موتكم، لأنّ اللّه منها يحرج زروعكم و ثماركم، و بها ينزلكم «2»، و ينعمكم، و فيها ايضا بالبلاء يمتحنكم، و يلذّذكم بنعيم الدنيا تارة لتذكروا نعيم الآخرة الخالص ممّا ينقّص نعيم الدّنيا و يبطله، و يزهّد فيه و يصغّره و يحقّره، و يمتحنكم تارة ببلايا الدّنيا الّتي تكون في خلالها الزّحمات و في تضاعيفها النقمات

__________________________________________________

(1) البقرة: 37.

(2) في البحار: ينزهّكم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 341

المجحفة، يدفع عن المبتلى بها مكاره ليحذّركم بذلك عذاب الأبد الّذي لا تشوبه عافية، و لا تقع في تضاعيفها راحة و لا رحمة «1».

و في موضع آخر من التفسير قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لليهود معاشر اليهود تعاندون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تأبون الاعتراف بأنّكم كنتم بذنوبكم من الجاهلين بانّ اللّه لا يعذّب بها اي بالتوبة و الاعتراف أحدا، و لا يزيل عن فاعل العناد عذابه ابدا إنّ آدم عليه السّلام لم يقترح على ربّه المغفرة لذنبه إلّا بالتّوبة، فكيف تقترحونها أنتم مع عنادكم؟ قيل: و كيف كان ذلك يا رسول اللّه؟ صلّى اللّه عليه و آله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا وقعت الخطيئة من آدم عليه السّلام و خرج من الجنّة و عوتب و وبّخ قال: يا ربّ إن تبت و أصلحت أ تردّني إلى الجنّة؟ قال: بلى قال آدم: فكيف اصنع يا ربّ حتّى أكون تائبا تقبّل توبتي؟ فقال اللّه تعالى: تسبحني بما أنا أهله، و تعترف بخطيئتك كما أنت أهله، و تتوسّل إليّ بالفاضلين الّذين علّمتك أسماءهم، و فضّلتك بهم على ملائكتي، و هم محمّد

و آله الطّيبون و أصحابه الخيّرون.

فوفقه اللّه تعالى، فقال: يا ربّ لا إله إلّا أنت سبحانك اللّهم و بحمدك، عملت سوء، و ظلمت نفسي، فارحمني إنك أنت ارحم الرّاحمين بحقّ محمّد و آله الطّيبين، و خيار أصحابه المنتجبين، سبحانك و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي، فتب عليّ انك أنت التّواب الرحيم، بحقّ محمد و آله الطّيبين و خيار أصحابه المنتجبين.

فقال اللّه تعالى: لقد قبلت توبتك و آية ذلك أن أنقّي بشرتك فقد تغيّرت، و كان

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب إلى الامام عليه السّلام: ص 90- 91 و عنه البحار ج 11 ص 192- 193.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 342

ذلك لثلاث عشر من شهر رمضان فصم هذه الثلاثة الأيّام الّتي تستقبلك، فهي ايّام البيض ينقّي اللّه في كلّ يوم بعض بشرتك، فصامها فنقي في كلّ يوم منها ثلث بشرته، فعند ذلك قال آدم: يا ربّ ما أعظم شأن محمّد و آله و خيار أصحابه؟

فأوحى اللّه إليه: يا آدم انّك لو عرفت كنه جلال محمّد عبدي و آله و خيار أصحابه لأحببته حبّا يكون أفضل أعمالك، قال: يا ربّ عرّفني لأعرف، قال اللّه تعالى: يا آدم إنّ محمّدا لو وزن به جميع الخلق من النبيّين و المرسلين و الملائكة المقرّبين، و سائر عبادي الصّالحين، من أوّل الدّهر إلى آخره، و من الثرى إلى العرش لرجّح بهم، و انّ رجلا من خيار آل محمّد لو وزن به جميع آل النبيّين لرجّح بهم، و انّ رجلا من خيار أصحاب محمّد لو وزن به جميع أصحاب المرسلين لرجّح بهم، يا آدم لو أحبّ رجل من الكفّار أو جميعهم رجلا من آل محمد و أصحابه

الخيّرين لكافاه اللّه عن ذلك بان يختم له بالتّوبة و الايمان، ثمّ يدخله اللّه الجنّة إنّ اللّه ليفيض على كلّ واحد من محبّي محمد و آل محمد و أصحابه من الرّحمة ما لو قسمت على عدد كعدد ما خلق اللّه تعالى من أوّل الدّهر إلى آخره، و كانوا كفّارا لكفاهم، و لأدّاهم إلى عاقبة محمودة و هو الايمان باللّه حتّى يستحقوا به الجنّة، و لو أنّ رجلا كان ممّن يبغض آل محمّد و أصحابه الخيّرين أو واحدا منهم لعذّبه اللّه عذابا لو قسّم على عدد ما خلق اللّه لأهلكهم اللّه أجمعين «1».

و في كتاب المحتضر للحسن بن سليمان ممّا رواه من كتاب منهج التّحقيق

__________________________________________________

(1) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 157 و عنه البحار ج 26 ص 330- 331 ح 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 343

عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ اللّه تعالى خلق أربعة عشر نورا من نور عظمته قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا فقيل له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نورا؟ فقال: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و تسعة من ولد الحسين، و تاسعهم قائمهم ثمّ عدّهم بأسمائهم ثمّ قال: و اللّه نحن الأوصياء الخلفاء من بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نحن المثاني الّذي أعطاها اللّه نبيّنا، و نحن شجرة النّبوّة، و منبت الرّحمة، و معدن الحكمة، و مصابيح العلم، و موضع الرّسالة، و مختلف الملائكة، و موضع سرّ اللّه، و وديعة اللّه جلّ اسمه في عباده، و حرم اللّه الأكبر و عهده

المسؤول عنه، فمن و في بعهدنا فقد و في بعهد اللّه و من خفره «1» فقد خفر ذمّة اللّه و عهده، عرفنا من عرفنا و جهلنا من نحن الأسماء الحسنى الّتي لا يقبل اللّه من العباد عملا إلّا بمعرفتنا، و نحن و اللّه الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، انّ اللّه تعالى خلقنا فأحسن خلقنا، و صوّرنا فأحسن صورنا، و جعلنا عينه على عباده، و لسانه النّاطق في خلقه، و يده المبسوطة عليهم بالرّأفة و الرّحمة، و وجهه الّذي يؤتى منه، و بابه الّذي يدلّ عليه، و خزّان علمه، و تراجمة وحيه، و أعلام دينه، و العروة الوثقى و الدّليل الواضح لمن اهتدى، و بنا أثمرت الأشجار، و أينعت الثّمار، و جرت الأنهار، و نزلت الغيث من السّماء، و نبت عشب الأرض، و بعبادتنا عبد اللّه، و لولانا ما عرف اللّه، و أيم اللّه لو لا وصيّة سبقت و عهد أخذ علينا لقلت قولا يعجب منه أو يذهل عنه الأوّلون و الآخرون «2».

__________________________________________________

(1) اي و من نقض عهدنا فقد نقض عهد اللّه.

(2) المحتضر: ص 129 و عنه البحار ج 25 ص 4- 5 ح 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 344

و عن كتاب الآل لابن خالويه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: لمّا خلق اللّه آدم و حوّاء عليهما السّلام تبخترا في الجنّة فقال آدم لحوّاء: ما خلق اللّه خلقا هو أحسن منّا، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى جبرئيل ان ائتني بعبدتي الّتي في جنّة الفردوس الأعلى فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك «1» من درانيك الجنّة على رأسها تاج من نور، و في أذنيها قرطان

من نور، قد أشرقت الجنان من حسن وجهها، قال آدم: حبيبي جبرئيل من هذه الجارية الّتي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله نبيّ من ولدك يكون في آخر الزمان، قال: فما هذا التّاج الذي على رأسها؟ قال: بعلها علي بن ابي طالب قال: فما القرطان اللذان في أذنيها؟

قال: ولداها الحسن و الحسين، قال: حبيبي جبرئيل أخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض علم اللّه قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة «2».

و في تفسير القمي عن الصادق عليه السّلام قال: إن آدم عليه السّلام بقي على الصفاء أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة و على خروجه من الجنّة من جوارح اللّه عزّ و جلّ، فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا آدم ما لك تبكي؟ فقال: يا جبرئيل ما لي لا ابكي و قد أخرجني اللّه من جواره و أهبطني إلى الدّنيا، قال: يا آدم تب إليه، قال: و كيف أتوب؟ فانزل اللّه عليه قبّة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكّة، فهو الحرم و أمر اللّه جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، ثمّ قال: قم يا آدم فخرج به يوم التّروية و امره أن يغتسل و يحرم، و أخرج من الجنّة أوّل يوم من ذي القعدة فلمّا كان

__________________________________________________

(1) الدرنوك بضم الدال نوع من البسط له خمل.

(2) المحتضر: 131- 132 و عنه البحار ج 25 ص 5- 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 345

يوم الثّامن من ذي الحجّة أخرجه جبرئيل الى منى فبات بها فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات، و قد كان علّمه حين أخرجه من مكّة الإحرام، و علّمه التّلبية،

فلمّا زالت الشمس يوم عرفة قطع التلبية، و أمره أن يغتسل، فلمّا صلّى العصر أوقفه بعرفات، و علّمه الكلمات الّتي تلقّى بها ربّه، و هي سبحانك اللّهم و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي انك أنت خير الغافرين، سبحانك اللّهم و بحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء و ظلمت نفسي و اعترفت بذنبي فاغفر لي انك أنت التّواب الرحيم، فبقي إلى غروب الشمس رافعا يديه إلى السّماء يتضرّع و يبكي فلمّا غربت الشّمس ردّه إلى المشعر، فبات بها فلمّا أصبح قام على المشعر الحرام فدعى اللّه تعالى بكلمات و تاب عليه، ثمّ أفاض إلى منى و أمره جبرئيل أن يحلق الشعر الّذي عليه، فحلقه، ثمّ ردّه إلى مكّة فاتى به عند الجمرة الأولى، فعرض إبليس عندها فقال: يا آدم اين تريد؟ فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصاة، و أن يكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة ففعل، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثانية، فأمره أن يرميه سبع حصاة فرمى و كبّر مع كلّ حصاة تكبيرة، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثالثة فأمره أن يرميه بسبع حصاة و يكبّر عند كلّ حصاة ففعل، فذهب إبليس لعنه اللّه و قال له جبرئيل: إنك لن تراه بعد هذا اليوم ابدا فانطلق به إلى البيت الحرام و أمره أن يطوف به سبع مرّات، ففعل، فقال له: إنّ اللّه قد قبل توبتك و حلّت لك زوجتك، قال: فلما قضى آدم حجّه لقيته الملائكة بالأبطح فقالوا: يا آدم برّ حجّك أما إنّا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام «1».

__________________________________________________

(1) تفسير القمي ص 37- 38 و عنه البحار

ج 11 ص 178- 179.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 346

و في البحار عن بعض كتب المناقب: انّ آدم لما هبط إلى الأرض لم ير حوّاء فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلا فاغتمّ و ضاق صدره من غير سبب، و عثر في الموضع الّذي قتل فيه الحسين، حتّى سال الدّم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء و قال: الهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به، فإني طفت جميع الأرض و ما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض؟

فأوحى اللّه تعالى إليه، يا آدم ما حدث منك ذنب، و لكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلما فسال دمك موافقة لدمه، فقال آدم: يا ربّ أ يكون الحسين نبيّا؟ قال: لا و لكنّه سبط النّبي محمد صلّى اللّه عليه و آله فقال: و من القاتل له؟ قال: قاتله يزيد لعين أهل السموات و الأرض فقال آدم: فايّ شي ء أصنع يا جبرئيل قال: العن قاتلة يا آدم، فلعنه أربع مرّات، و مشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوّاء هناك «1».

و في تفسير العيّاشي عن ابي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه حين أهبط آدم إلى الأرض أمره ان يحرث بيده فيأكل من كده بعد الجنّة و نعيمها، فلبث يجأر و يبكي على الجنّة مائتي سنة، ثمّ انّه سجد للّه سجدة فلم يرفع رأسه ثلاثة ايّام و لياليها، ثمّ قال: اي ربّ الم تخلقني؟ فقال اللّه: قد فعلت، فقال: ا لم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: قد فعلت، قال: الم تسكني جنّتك؟ قال: قد فعلت، قال: ألم تسبق لي رحمتك غضبك؟ قال اللّه: قد فعلت، فهل صبرت

او شكرت؟ قال: آدم: لا اله إلّا أنت سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي انك أنت الغفور الرحيم، فرحمه اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 44 ص 242- 243 ح 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 347

بذلك و تاب عليه إنّه هو التّواب الرحيم «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة من طرق الاماميّة، بل قد روي مثل ذلك أيضا من طرق المخالفين.

فعن ابن المغازلي الشّافعي في كتاب «المناقب» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه فقال صلّى اللّه عليه و آله: سأله بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام الّا تبت عليّ فتاب عليه «2».

و عن النّطنزي في «الخصائص» انّه قال ابن عباس: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه عطس، فقال: الحمد للّه، فقال له ربّه: يرحمك ربّك، فلمّا أسجد له الملائكة تداخله العجب فقال: يا ربّ خلقت خلقا هو أحبّ إليك منّي؟ قال: نعم و لولاهم ما خلقتك، قال: يا ربّ فأرنيهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى ملائكة الحجب: أن ارفعوا الحجب، فلمّا رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدّام العرش، قال: يا ربّ من هؤلاء قال: يا آدم هذا محمّد نبيي، و هذا عليّ أمير المؤمنين ابن عمّ نبيي و وصيّه، و هذه فاطمة بنت نبيي، و هذان الحسن و الحسين ابنا عليّ و ولدا نبيّي، ثمّ قال: يا آدم هم ولداك، ففرح بذلك، فلمّا اقترف الخطيئة، قال: يا رب اسألك بمحمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين لمّا غفرت لي، فغفر اللّه له فهذا الّذي قال اللّه تعالى:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ

رَبِّهِ كَلِماتٍ، إنّ الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه، اللّهم بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلّا تبت علي فتاب اللّه عليه «3».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار عن تفسير العياشي ج 11 ص 212 ح 19.

(2) المناقب لابن المغازلي ص 63 ح 89.

(3) تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن النطنزي ج 1 ص 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 348

أقول: و هذا الخبر قريب ممّا حكيناه عن: «كشف اليقين» إلّا أنّ فيه بعض الاختلاف و لذا حكيناه بلفظه.

و روى القاضي أبو عمرو عثمان بن أحمد أحد شيوخ السّنة يرفعه إلى ابن عباس عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: لمّا شملت آدم الخطيئة نظر إلى أشباح تضي ء حول العرش فقال: يا ربّ إنّي أرى أشباحا تشبه خلقي فما هي؟ قال: هذه الأنوار أشباح اثنين من ولدك اسم أحدهما محمّد، أبدأ النّبوة بك و أختمها به، و الآخر أخوه و ابن اخي أبيه اسمه عليّ أيّدت محمّدا به، و انصره على يده، و الأنوار الّتي حولهما أنوار ذرّية هذا النّبي من أخيه هذا يزوّجه ابنته تكون له زوجة يتّصل بها اوّل الخلق ايمانا به و تصديقا له، أجعلها سيّدة النّسوان و أفطمها و ذرّيتها من النّيران، تنقطع الأسباب و الأنساب يوم القيمة إلّا سببه و نسبه، فسجد آدم شكرا للّه أن جعل ذلك في ذرّيته فعوّضه اللّه عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته «1».

ثمّ إن آدم عليه السّلام لمّا تاب بالتوسّل بمحمّد و آله الطّيبين و تجديد العهد بولايتهم و الاستشفاع بأنوارهم فَتابَ اللّه عَلَيْهِ بقبول توبته و الرّجوع عليه بالاشفاق و الرّحمة و النّعمة، و يمكن أن

يكون المراد الرّجوع عليه بتوفيقه للتّوبة، و إلهامه لها أوّلا قبل توبته كما في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «2» و منه قوله في الدّعاء:

«اللّهم تب عليّ حتّى لا أعصيك»، فإنّ التّوبة يتّصف بها العبد و الربّ، و للعبد توبة، و للربّ توبتان: يوفق العبد و يلهمه التّوبة أوّلا، ثمّ يتوب العبد و يرجع من البعد إلى

__________________________________________________

(1) البرهان: ج 1 ص 89 ح 16.

(2) التوبة: 118.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 349

القرب و من المعصية إلي الانقياد و الطاعة، ثمّ يقبل اللّه توبته، فتوبة العبد تتعدّى بإلى و إذا نسبت إليه سبحانه تعدّت بعلى لتضمينه معنى الإشفاق و العطف.

و إنّما رتّبه بالفاء لأنّه كالتّفصيل لما أجمله اوّلا، لتضمّن التلقّي لتوبته لما مرّ.

و اكتفى بذكر آدم في كلّ من التلقّي و التّوبة مع سبق التشريك في الزلّة للإيجاز و التغليب له في الأفعال كالاحكام و للتنبيه بالتشريك و التفكيك على كون ابتداء الزلة منهما و التّلقي منه.

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرجّاع على عباده بالتوفيق و الدّعاء إلى التوبة و قبول الرّحمة، أو بالصّفح و المغفرة مرّة بعد اخرى، او بقبولها في الذّنوب العظام، فيحتمل كلّ من المادّة و الهيئة وجهين و الحاصل أربعة و الأولى الحمل على الجميع.

الرَّحِيمُ المبالغ في إفاضة الرحمة المكتوبة الايمانيّة الّتي خصّ بها المؤمنين، و في الجمع بين الوصفين وعد للتائب بالإحسان مع الغفران.

تفسير الآية (38)

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرّره للتأكيد، أو لاختلاف ما هو المقصود بالخطاب، فانّ مساق الأوّل كون هبوطهم للزلّة و الثاني أنّ المقصود الابتلاء بالتكليف، أو لأنّ المقصود بالخطاب الأوّل هو آدم و حوّاء و ذرّيتهما تابعة، و في الثاني بالعكس، و لذا فرّع على الأوّل

حديث التلقّي و قبول التّوبة، و على الثّاني تقسيم النّاس إلى صنفين: ناج متبع لهداه و كافر تابع لهواه، و ليس من خطاب المعدوم من شي ء على فرض استحالته، و لو

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 350

باعتبار التغليب لسبق خلق الأرواح الّتي ركّب فيها العقل و الإدراك او غير ذلك ممّا مرّ في المقدّمات، و يؤيّده قول الإمام عليه السّلام في تفسير قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، يأتيكم و أولادكم من بعدكم منّي هدى يا آدم و يا إبليس «1».

أو لأنّهما لما أتيا بالزّلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط، و وقع في قلبهما أنّ الأمر بالهبوط لمّا كان بسبب الزّلة فبعد التوبة ينبغي أن لا يبقي الأمر بالهبوط فأعاده اللّه ليعلما انّه ما كان جزاء على ارتكاب الزّلة يزول بزوالها بل انّما هو تحقيق بالوعد المتقدّم من جعله خليفة في الأرض «2».

و هذا الوجه ضعيف، و إن قوّاه الرازي، أو لأنّ الهبوط الاول من الجنّة إلى السّماء و هذا الهبوط من السماء إلى الأرض «3».

و ردّ بانه قد جعل الاستقرار في الأرض و التّمتع فيها حالا من الأوّل و ان كانت حالا مقدّرة.

و فيه نظر لجواز كونه حالا باعتبار ما يؤول إليه حالهم بعد الهبوط، و إلّا فلا استقرار و لا تمتّع حال الهبوط بل بعده، أو لاختلاف الحالين فقد بيّن في الأوّل أنّ الإهباط كان في حال عداوة بعضهم لبعض، و في الثّاني انّه كان للابتلاء و التكليف كما يقال: اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا، و ان كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين، و هو قريب من الثّاني، او لأنّه من تعقيب المطلق بالمقيّد حيث قيّد الثاني بالاجتماع، و اليه الإشارة بما في تفسير

الامام عليه السّلام حيث قال: كان أمر في الاول أن

__________________________________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام: ص 90 و عنه البحار ج 11 ص 191.

(2) تفسير الفخر الرازي: ج 3 ص 26.

(3) نقله الرازي عن الجباعي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 351

يهبطا «1» و في الثّاني أمرهم أن يهبطوا جميعا لا يتقدّم أحدهم الاخر، و الهبوط إنّما كان هبوط آدم و حوّاء من الجنّة، و هبوط الحيّة ايضا منها، فانّها كانت من أحسن دوابّها، و هبوط إبليس من حواليها فإنّه كان محرّما عليه دخول الجنّة «2».

و امّا ما يقال: من أنّ جميعا حال في اللفظ تأكيد في المعنى فكانّه قيل:

اهبطوا أنتم أجمعون، و لذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك: جاءوا جميعا.

ففيه أنّه كما يتعذّر كونه تأكيدا في اللّفظ فكذلك لا يتعيّن ذلك معنى، بل قضية الحاليّة بظاهرها اجتماعهم على الهبوط سلّمنا، لكنّه لا اقلّ من استفادة اجتماعهم بعده و هذا مع سبق العداوة الظّاهرة ممّا يصلح لتمهيد الابتلاء و الامتحان و لذا عدل عن التأكيد إلى الحالية أي اهبطوا مجتمعين.

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «إمّا» أصله إن الشرطيّة زيدت عليها «ما» ليصحّ دخول نون التأكيد في الفعل، إيماء إلى رجحان جانب الوقوع بعد دلالة حرف الشرط على الشك، فاكّدوا الفعل بالنون و الأداة بما، و قد يقال: إنّ الأداة إذا أكّدت بما وجب تأكيد شرطها فلا ينحطّ المقصود عن رتبة الاداة، و بالجملة الأمر و النهي و الاستفهام تدخل فيها النّون و ان لم يكن معها ما، لاشتداد الحاجة إلى التّوكيد في الأوّلين، و الثالث في معنى أخبروني، و امّا الخبر فلا يدخله إلّا في القسم و ما أشبه القسم

في التوكيد لقولك زيد ليأتينّك و بجهد ما تبلغنّ، و قد يقال في المقام: إنّ ما

__________________________________________________

(1) في نسخة: أن يهبطوا.

(2) تفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام ص 90- 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 352

لتأكيد الفعل اوّله كما انّ النون تأكيد له اخره كنظيره في لام القسم و النون في نحو:

و اللّه لأقومنّ، و أمّا فتح ما قبل النون فقد يقال: إنّه لالتقاء سكون الياء و النّون الاولى، و الصحيح انّه للبناء و الّا لما حرّك على الفتح في الصحيح.

و المراد بالهدى البيان و الدّلالة بالعقل و الشرع، و لذا ورد انّ للّه على النّاس حجّتين حجّة ظاهرة و هم الأنبياء و الرسل و حجّة باطنة و هي العقول «1».

و عن الكاظم عليه السّلام في خبر هشام انّ اللّه عزّ و جلّ أكمل للنّاس الحجج بالعقول و أفضى إليهم بالبيان، و دلّهم على ربوبيّته بالأدلة فقال: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «2». «3» الآيتين.

و في تفسير فرات عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية: انّ الهدى هو عليّ بن ابي طالب عليه السّلام «4».

و المراد كونه عليه السّلام حجّة في عصره بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه وجه آخر إنّما أتى فيه بالحرف الدّال في أصله على الشكّ، لأنّ اقترانه بما الزائدة و التأكيد بالنون الثقيلة قد أخرجه عن معنى الشك رأسا فدلّ على تيقّن الوقوع و تحقّقه من دون تقيّد بزمان للشرط و لا للجزاء المترتّب عليه، بل قضيّة اطلاق الفعل من حيث الأزمان عدم خلوّ الزّمان عن الحجّة الّذي هو الهدى

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1 ص 137.

(2) الزمر: 18.

(3) البحار: ج 1 ص 132 ح 30.

(4) تفسير فرات الكوفي ص 58 ح 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 353

المنصوب منه لا منّا، و لذا أضافه إلى نفسه في موضعين من هذه الآية.

و امّا ما يقال: من أنّ الوجه في ذلك أنّ الإتيان محتمل في نفسه غير واجب عقلا، فهو مردود بما هو المقرّر في محلّه من عدم خلوّ العصر عن الحجّة، بل لا ريب في شمول الهدى للحجّة الباطنة الّتي هي العقول، بل ما ذكره مبنيّ على قواعد الاشاعرة المنكرين للتحسين و التقبيح العقليين النافين لعدله سبحانه عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

و مثله في الضّعف ايضا ما قيل: من أنّ ذلك للإيذان بأنّ الإيمان باللّه و التوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل و إنزال الكتب، و انّه إن لم يبعث رسولا و لم ينزل كتابا كان الايمان به و توحيده واجبا لما ركب فيهم من العقول و نصب لهم من الأدلة و مكّنهم من النظر و الاستدلال.

بل و ما قيل أيضا: من أنّ فيه اشارة إلى وجه آخر غير ما ذكرناه و هو انّ إتيان الهدى بطريق الرسول و الكتاب ليس بواجب فالإيمان به و بتوحيده و صفاته و أفعاله واجب عليهم على كلّ حال سواء يأتيهم الكتاب و الرسول أو لم يأتهم، و ذلك لإفاضة نور العقل و نصب الأدلة و لو لم يكن طريق العقل كافيا لوجب عليه إرسال الرسل فلم يصحّ الإتيان بكلمة الشك، فلمّا أتى بها آذن انّه ليس بواجب فتعيّن الوجوب بطريق العقل.

فانّ الكلّ ضعيف لمخالفته للأصل المقرّر عندنا من وجوب الحجّة في كلّ عصر، و لظاهر الآية من حيث اقتران الشرط بحرفي التأكيد المخرجين. له عن الشك إلى رجحان الوقوع الموجب لتعيّنه في حقّه

سبحانه على ما قضت به

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 354

حكمته، و جرت عليه أفعاله من إرادة الأصلح و ترجيح الراجح على المرجوح و من هنا مع كون الخطاب شاملا لذّريّته عليه السّلام و لو باعتبار التغليب او غيره و ظهور الآيتين في تصنيف النّاس إلى صنفين مع التّعريض بهما على هذه الأمّة الّتي هي في آخر الأمم إشارة إلى ما استقرّ عليه المذهب من عدم خلوّ الزمان عن الحجّة بل قد ورد في اخبار كثيرة: «أن علم آدم لم يرفع بل قد ورثه حجّة بعد حجّة.

ففي «البصائر» عن الفضيل قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ العلم الّذي هبط مع آدم لم يرفع و انّ العلم ليتوارث و ما يموت منّا عالم حتّى يخلفه من اهله من يعلم علمه او ما شاء اللّه «1».

و عن الحارث بن المغيرة عنه عليه السّلام: انّ العلم الّذي نزل مع آدم لم يرفع، و ما مات عالم الّا و قد ورث عالم علمه، انّ الأرض لا تبقي بغير عالم «2».

و عن فضيل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كانت في عليّ عليه السّلام سنّة ألف نبيّ، و قال:

إنّ العلم الّذي نزل مع آدم لم يرفع، و ما مات عالم فذهب علمه، و انّ العلم ليتوارث و انّ الأرض لا تبقى بغير عالم «3».

و في «العلل» عنه عليه السّلام قال: و اللّه ما ترك اللّه الأرض منذ قبض اللّه آدم إلّا و فيها امام يهتدى به الى اللّه و هو حجّة اللّه على عباده «4».

و فيه و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام قال: و اللّه ما ترك اللّه الأرض منذ قبض

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات:

ص 32 و عنه البحار ج 26 ص 169.

(2) البصائر: ص 32 و عنه البحار ج 26 ص 168.

(3) البصائر: ص 32 و عنه البحار ج 26 ص 169 ح 31.

(4) علل الشرائع: 76 و عنه البحار ج 23 ص 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 355

آدم إلّا و فيها إمام يهتدى به إلى اللّه عزّ و جلّ، و هو حجّة اللّه عزّ و جلّ على العباد، من تركه هلك، و من لزمه نجى حقّا على اللّه عزّ و جلّ «1».

ثمّ انّ العقول و ان استقلّت بإدراك بعض الحقائق كالتوحيد و غيره بل بإدراك بعض الاحكام او المصالح المقتضية لها كحسن الصدق النّافع و قبح الكذب الضّار، إلا أنّها قاصرة عن الإحاطة بتفاصيل الأحكام فمتابعتها بهذا الاعتبار لا توجب الهدى التّام الّذي يوجب متابعته نفي الخوف و الحزن رأسا، و مخالفته الكفر الموجب للخلود في النّار، و أمّا الكتب السّماويّة فانّها و ان وجد فيها ما هو مشتمل على جميع الحقائق و الاحكام كالقرآن إلّا انّه باعتبار بطونه الّتي لا يعلمها إلّا اللّه سبحانه أو من علّمه اللّه و لو بوسط.

بل نحن نرى النّاس مختلفين في فهم ظواهرها، و لذا ترى كلّ ذي شرعة أو بدعة يتشبّث بشي ء من ظواهرها في أصولهم و فروعهم، و كلّ فرقة من فرق أمّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله قد استدلّوا لمذاهبهم المختلفة المنحرفة عن طريق الحقّ بظواهر القرآن، فليس فيه ايضا بنفسه البيان الواضح و الهدى التّام بل إنّما يتحقّق ذلك في الأنبياء و الأوصياء المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين الّذين عندهم علم الكتاب، و هم فصل الخطاب، و العقل من حيث دلالته على

الحجّة، و كشفه عن صحّة دعواه فيه الهدى التّام، و كذلك الكتاب من حيث اقترانه ببيان الحجّة و تفسيره و تأويله فيه الهدى التّام، و الحجّة هو الكتاب النّاطق الّذي ينطق بالحقّ و يقضي بالقسط و يبطل تأويل المؤولين و يدحض انتحال المبطلين و هو الهدى التّام الّذي علّق عليه الوعد

__________________________________________________

(1) العلل: ص 76 و إكمال الدين ص 133.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 356

و الوعيد في الآيتين.

و انّما اضافه إلى نفسه للتّنبيه على وجوب كونه منصوبا من قبله سبحانه لاشتراطه بالعصمة الّتي ليس للنّاس سبيل إلى معرفتها إلّا من طريق الاعجاز أو النّص و لغير ذلك على ما قرّر في محلّه.

فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «من» شرطيّة عند الأكثر، و يحتمل أن تكون موصولة، بل وجّهه أبو حيّان و غيره لقوله في قسيمه وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا حيث أتى به موصولا مع عدم دخول الفاء في خبره، و يؤيّده ضمائر الجمع الغائب، و الجملة شرطيّة كانت او خبريّة جواب للشرط المتقدّم.

و الاتّباع هو الاقتداء و الاحتذاء، و أصله من تبعت القوم إذا مشيت خلفهم، و المراد به في المقام الموافقة في الأفعال و الأقوال و الأحوال و العقائد و النيّات، فانّه هو الاتّباع التّام، و ان كان له عرض عريض كمّا و كيفا، و هو المعبّر عنه بالإيمان و التّصديق، و لذا قابله بالكفر و التكذيب.

و انّما كرّر لفظ الهدى لإظهار شأنه و فخامته سيّما مع إضافته إليه، تنبيها على قطع طمع الخائنين عن أن يكون لهم سبيل إلى نصب الحجّة، و توهّم كون الثّاني أعمّ من الأوّل بناء على شموله لما اقتضاه العقل، مضافا إلى ما

أتى به الرسل، و اختصاص الأوّل بالثّاني غير واضح بعد ظهور شمول الأوّل للأوّل أيضا، سيّما مع كونه نكرة في سياق الشرط او ما بمعناه.

و المراد بالخوف هو التألّم الحاصل من توقّع الوعيد، و نقيضه الأمن، كما أنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 357

نقيض الحزن السرور، و أصله غلظ الهمّ من الحزن و هو ما غلظ من الأرض، و الخوف إنّما يحصل من حلول المكروه المتوقّع، و الحزن عن فوات المحبوب الواقع، و امّا قوله تعالى: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ «1»، فقد أجاب عنه شيخنا البهائي قدّس سرّه في كشكوله بانّ المراد انّه يحزنني قصد ذهابكم به، قال: و بهذا يندفع احتراز ابن مالك على النّحاة بالآية الكريمة في قولهم: إنّ لام الابتداء تخلّص المضارع للحال.

أقول و الأولى أن يقال: إنّه ايضا بالنسبة إلى الواقع بعد تحقّق الذّهاب لاستناد الفعل إليه، فلا عبرة بحال التكلّم، و امّا اندفاع الاحتراز به بالنسبة إلى اللام فقد سبقه فيه غيره كابن هشام، و ستسمع في موضعه تمام الكلام، و ان كنّا قد لوّحنا إليه في المقام أيضا، فانّ تقدير الآية بعد التأويل بالمصدر انّه ليحزنني إذهابكم إيّاه، و من البيّن أنّ الإذهاب موجب للحزن في حاله، و إن كانا مستقبلين بالنّسبة إلى حال التكلّم، و بالجملة ففي المقام نفي عنهم خوف وقوع المكروه فضلا عن الخوف الواقع، و هو ابلغ بيان في نفي العذاب الروحاني و الجسماني و اثبات الثواب على الوجهين.

و قرئ (هديّ) كقصّي على لغة هذيل، حيث انّهم يقلبون ألف المقصورة إذا أضيف إلى ياء المتكلّم، ياء لمناسبتها كسرة المضاف و يدغمونها، و ذلك لأنّ شأن ياء الإضافة أن

يكسر ما قبلها، فجعل قلب الالف ياء بدل كسرها، إذ الالف لا تتحرّك، فهو مثل عليّ و لديّ، و قرأ يعقوب فلا خوف بفتح الفاء، على أنّ لا لنفي

__________________________________________________

(1) سورة يوسف: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 358

الجنس، و هذه قراءته في جميع القرآن، و الباقون بالرّفع و التنوين على إعمال لا عمل ليس.

و امّا ما يستدلّ به للأوّل من أنّ «لا» التبرئة اشدّ نفيا من «ليس» و ان قوله تعالى: فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ «1» لا خلاف في نصبه، و إن كان ما بعده معطوفا عليه موضعه رفع، فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، سيّما فيما هو مبنيّ على التّوقيف.

و امّا ما يحكى عن الأعرج «2» من قراءة هداي بالألف و سكون الياء، فكأنّه نوى الوقف و إلّا فهو غلط.

تفسير الآية (39)

اشارة

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

قسيم للجملة المتقدّمة، صلة كانت او شرطا، و بها ينقسم كلّ من بلغته الدّعوة، و قامت عليه الحجّة إلى صنفين: متّبع مهتد آمن متنعّم بالنعيم الأبدي، و كافر مكذّب مخلّد في العذاب السرّمدي.

و تقديم الكفر على التكذيب من باب تقديم المسبّب على السّبب، أو من تقديم الملزوم على اللازم، و المراد من السّبب سببية في الحكم، و لو من جهة الكشف عن الموضوع، كما في دلالة بعض أعمال الجوارح كسجود الشمس و غيره

__________________________________________________

(1) يس: 43.

(2) هو عبد الرحمن بن هرمز ابو داود الأعرج المدني التابعي المقري مات بالاسكندريّة سنة (117)- غاية النهاية ج 1 ص 381.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 359

على الكفر.

و الظّرف إمّا متعلّق بالثّاني، و المراد كفرهم باللّه و تكذيبهم بآياته و أنّ

الفعلين متوجّهان إليه على جهة التنازع فيعمل أحدهما فيه و الآخر في ضميره، و موضع اسم الإشارة الرفع إمّا على أنّه مبتدأ خبره أصحاب النّار و هم فيها خبر بعد خبر على جهة الاستقلال، أو انّهما بمنزلة خبر واحد، و على الوجهين فهو بخبره خبر للموصولة، و إمّا على أنّه بدل من الموصولة أو عطف بيان لها و أصحاب النّار بيان له جرى مجرى الوصف، و جملة «هم فيها» هي الخبر، و لم تدخل الفاء هنا مع دخولها في مثل قوله: فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «1» لما قيل: من أنّ ما دخل فيه الفاء من خبر الّذي و أخواته مشبّه بالجزاء، و ما لم يكن فيه فاء فهو على أصل الخبر.

و قد مرّ اشتقاق (الآية) في المقدمات، و انّ المراد بها العلامة الظّاهرة و أنّها تطلق إطلاقا شائعا على الأنبياء و الحجج، و على طائفة من كلمات القرآن، و على المصنوعات من حيث دلالتها على الصّانع و صفاته الكماليّة و نعوته الجلاليّة، و على ما يدلّ على صدق الأنبياء من المعجزات الباهرات الصّادرة منهم و من أوصيائهم، بل الأوصياء أنفسهم من آيات اللّه سبحانه على صدق أنبيائه، و لذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: ما للّه أية أعظم منّي «2».

و في تفسير القمّي في غير هذا الموضع الآيات امير المؤمنين و الائمة عليهم السّلام، بل قد يستفاد ذلك ايضا من وضع الآيات موضع الهدى المفسّر به عليه السّلام، و لا تظننّ

__________________________________________________

(1) الحج: 57.

(2) بحار الأنوار ج 53 ص 54 ح 31 عن تفسير القمي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 360

انّهم عليهم السّلام حججه سبحانه بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه

و آله، مع أنّ الآية عامّة حاكمة على جميع ذرّية آدم، فانّ الإقرار بولايتهم مأخوذة على جميع الأمم في جميع الأعصار، بل متابعة حججه سبحانه في كلّ عصر و زمان إنّما هي من مقتضيات ولايتهم، حسبما قرّر في موضع آخر.

و لذا قال الامام عليه السّلام في تفسيره للآية: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدّالات على صدق محمّد على ما جاء به من اخبار القرون السالفة، و على ما ادّاه إلى عباد اللّه من ذكر تفضيله لعليّ و آله الطّيبين خير الفاضلين و الفاضلات بعد محمّد سيّد البريّات، أولئك الدّافعون لصدق محمّد في أنبائه، و المكذّبون له في نصب أوليائه عليّا سيّد الأوصياء و المنتجبين من ذرّيته الطّيبين الطّاهرين «1».

أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و الآية ناعية على أهل السنّة و غيرهم ممّن أنكر الحجج المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين قاضية عليهم بالكفر الصريح، و لذا قرنه بالتكذيب بهم بل قدّمه عليه لما مرّت الإشارة إليه.

بسط في المقام للتنبيه على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام

اعلم: أنّ هذه القصّة و هي قصّة أبينا آدم عليه السّلام و ما ضاهاها من قصص الأنبياء و الأوصياء عليهم الصلاة و السّلام، ممّا قد استدلّت بها الحشوية «2» و غيرهم ممّن لا

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 89- 90 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) الحشويّة: طائفة تمسكوا بالظواهر و ذهبوا الى التجسّم، و غيره سمّوا بالحشوية لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصري المتوفى (110)، فوجدهم يتكلمون كلاما فقال: ردّوا هؤلاء الى حشاء الحلقه. و قيل غير هذا الوجه أيضا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 361

خلاق لهم في الدّين و لا ينبغي لهم عدّهم في زمرة المسلمين على تخطئة الأنبياء و تفسيقهم و تجهيلهم و تضليلهم،

بل يعزى إلى بعضهم جواز الكفر عليهم.

و جملة الكلام أنّ الاختلاف الواقع في باب العصمة يرجع إلى أربعة اقسام:

أحدها: ما يقع في باب العقائد، ثانيها: ما يقع في التبليغ، ثالثها: ما يقع في الفتيا و الاحكام، رابعها: ما يقع في أفعالهم و سيرهم عليهم السّلام أمّا الكفر و الضّلال في الاعتقاد فقد أجمع المسلمون على عصمتهم عنهما قبل النّبوة و بعدها، و قد ادّعى الإجماع عليه غير واحد من الفريقين، نعم قد حكي في الملل و النحل و غيره من الأزارقة و هم أصحاب أبي راشد نافع «1» بن الأزرق من الخوارج انّهم جوّزوا عليهم الذّنب، و كلّ ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر عليهم، بل قد يحكى عنهم: أنّهم قالوا:

يجوز أن يبعث اللّه نبيّا علم أنّه يكفر بعد نبوّته، إلّا انّه لا ينبغي عدّ قول الخوارج في عداد أقوال المسلمين و لا عدّهم في زمرة أهل الإسلام، بل و كذا من قال بمقالهم كابن «2» فورك من الأشاعرة حيث جوّز بعثة من كان كافرا، و امّا ما حكاه شارح التجريد و الفضل بن روزبهان عن الشيعة الإماميّة عن انّهم جوّزوا للأنبياء اظهار الكفر تقيّة و احترازا عن إلقاء النفس في التهلكة فهو ناش عن الجهل بمذهبهم، او

__________________________________________________

(1) نافع بن الأزرق الحنفي من بني حنيف رئيس الفرقة الازارقة، ادّعى الخلافة في البصرة و الأهواز و لقّب نفسه بأمير المؤمنين، و هجم على المدينة و أغار أموال الناس و قتل كثيرا حتى قتل قرب الأهواز في سنة (65) ه بواسطة جيش ابن الزبير.

(2) ابن فورك: ابو بكر محمد بن الحسن بن فورك الاشعري الأصبهاني له مصنفات كثيره، مات مسموما بأمر السلطان محمود سنة (404)

ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 362

العناد لهم و الافتراء عليهم كيف و من المعلوم المشتهر بين الفريقين انّ مذهب الإماميّة هو العصمة المطلقة من الكبائر عمدا و سهوا قبل النّبوّة و بعدها و انّه لا يجوز على الأنبياء شي ء من التقيّة، و إن جاز لغيرهم في محلّها، و هذا المذهب ممّا يعرفه منهم الموافق و المخالف، امّا جواز التقيّة عليهم و لو في اظهار الكفر فلم يقل به أحد منهم، و لم ينقل عن واحد منهم، و هذه أصولهم و مصنّفاتهم يدّعون فيها العصمة المطلقة مطلقا، و ليس فيها أثر ممّا افتراه عليهم قوم آخرون حكاية بل صريح كلام مخالفيهم نسبة القول بثبوت العصمة المطلقة إليهم.

قال العضدي في «شرح المختصر»: الأكثر من المحقّقين على أنّه لا يمتنع عقلا على الأنبياء قبل الرسالة ذنب من كبيرة أو صغيرة، و خالفت الّروافض في ذلك فمنعوا جواز الذّنب مطلقا.

و عن البدخشي في «شرح منهاج الأصول»: الأكثر من المحقّقين على أنّه لا يمتنع عقلا قبل النبوّة ذنب من كبيرة أو صغيرة خلافا للروافض مطلقا، و للمعتزلة في الكبائر و لا خلاف لاحد في امتناع الكفر عليهم إلا الفضلية من الخوارج بناء على أصلهم من أنّ كلّ معصية كفر و قد قال اللّه تعالى: وَ عَصى آدَمُ «1»، و جوّز البعض عليهم عند خوف تلف المهجة إظهار الكفر إلى آخر ما ذكره.

و ظاهره انّ من جوّز على الأنبياء الكفر خوفا جماعة غير الشّيعة لأنّه ذكر أن الشيعة مانعون مطلقا، و بالجملة الإماميّة معروفون بإثبات العصمة المطلقة، كما يظهر من كتب الفريقين المصنّفة في اصول الكلام و اصول الفقه، و قد تظافرت في

__________________________________________________

(1) طه: 121.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 363

كلامهم حكاية الإجماع على ذلك، و هذا المذهب مأخوذ من ائمّتهم عليهم السّلام، و من نقل منهم خلافه فهو مفتر مباهت، مع أنّ ذلك القول فاسد في نفسه، فانّه لو جاز إظهار الكفر تقيّة لكان أولى الأوقات به وقت ظهور الدّعوة لأنّ النّاس في ذلك الوقت متّفقون على التكذيب و الإنكار، فكان لا يجوز اظهار الدّعوة لأحد من الأنبياء فيؤدّي إلى إخفاء الدّين بالكليّة، و لعلّه من حكى ذلك عنهم رأى في كلامهم ما يدلّ على جواز التّقيّة للأمّة و للأوصياء في ايّام خلافتهم مع اشتراكهم للأنبياء في العصمة و القدوة، فظنّوا انّهم يجوّزونها للأنبياء أيضا، و هو كما ترى.

هذا كلّه في اعتقاد الكفر و الشرك و ما بمنزلتهما، و امّا الاعتقاد الخطأ الّذي لا يبلغ الكفر كاعتقاد عدم بقاء الأعراض فمذهب الإماميّة عدم جوازه ايضا عليهم لتنزّههم و براءتهم عن الخطأ في الاعتقاد و لو فيما لا يتعلّق بالأمور الشرعيّة و لا يدخل تحت التبليغ لما سيأتي، و أمّا الجمهور فقد حكى العلّامة أعلى اللّه مقامه في «نهاية الأصول» عنهم فيه قولين: أحدهما المنع لكونه منفّرا و الآخر الجواز هذا هو الكلام في القسم الأوّل.

و امّا القسم الثّاني: و هو ما يتعلّق بالتبليغ فقد اتّفقت الأمّة بل جميع أرباب الشرائع و الملل على وجوب عصمتهم عن الكذب و الافتراء و التحريف فيما يتعلّق بالتّبليغ عمدا و سهوا، نعم قد يحكى عن القاضي «1» أبي بكر انّه جوّز من ذلك ما كان على سبيل النّسيان و فلتات اللّسان.

__________________________________________________

(1) هو القاضي ابو بكر الباقلاني محمد بن الطيّب البصري البغدادي الاشعري كان مشهورا بالمناظرة و سرعة الجواب، توفى ببغداد سنة (403) ه الكنى و

الألقاب ج 2 ص 63.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 364

و أمّا القسم الثالث: و هو ما يتعلّق بالفتيا فاجمعوا على امتناع الخطأ فيه عمدا و سهوا و الّا لارتفع الوثوق عن أقوالهم، و ربما يحكى عن بعض العامّة جوازه على جهة السّهو لا العمد.

و امّا القسم الرابع: و هو ما يتعلّق بأفعالهم فاختلفوا فيه على ثمانية أقوال:

أحدها مذهب أصحابنا الإماميّة و هو انّه لا يصدر عنهم الذّنب لا صغيرة و لا كبيرة و لا عمدا و لا نسيانا و لا لخطأ في التأويل و لا للإسهاء من اللّه سبحانه و لا لغير ذلك من الأسباب و لم يخالف فيه إلّا الصدوق، و شيخه محمّد «1» بن الحسن بن الوليد رحمهما اللّه فانّهما جوّزا الإسهاء لا السهو الّذي يكون من الشيطان، و كذا القول في الأئمّة الطّاهرين، بل قال الصدوق في «الفقيه»: إنّ الغلاة و المفوضّة لعنهم اللّه ينكرون سهو النّبي عليه و آله في الصلاة و يقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة جاز أن يسهو في التبليغ لأنّ الصلاة عليه فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة «2».

ثمّ فرّق بينهما بما لا يخفى ضعفه إلى أن قال: و كان شيخنا محمد بن الحسن ابن أحمد بن الوليد رحمه اللّه يقول أوّل درجة الغلوّ نفي السّهو عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله «3».

أقول و سيمرّ عليك في تفسير بعض الآيات المتعلّقة بذلك حكاية تمام ما ذكره في المقام مع إيراد ما يرد عليه و على شيخه من وجوه النقض و الإبرام.

ثانيها: ما ذهب إليه اكثر المعتزلة و هو انّه لا يجوز عليهم الكبائر و يجوز

__________________________________________________

(1) ابن الوليد: محمد بن الحسن بن احمد بن

الوليد شيخ القميين و وجههم ثقة ثقة عين مسكون إليه، كتب في التفسير و غيره توفي سنة (343) ه- الكنى و الألقاب ج 1 ص 446.

(2) من لا يحضره الفقيه ص 27.

(3) من لا يحضره الفقيه ص 98.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 365

عليهم الصغائر إلّا الصغائر الخسيسة المنفّرة كسرقة حبّة او لقمة و كلّ ما ينسب فاعله إلى الدناءة و الضعة كالكذب و التّطفيف و نحوهما ممّا ينفّر، و امّا غيره من الصغائر فقد وقعت منهم عمدا و خطأ و سهوا.

ثالثها: انّه يجوز وقوع الكبائر منهم عقلا و ان لم تقع منهم سمعا و هو المحكي عن القاضي «1».

رابعها: تجويز الكفر عليهم فضلا عن الكبائر عقلا و ان لم تقع و هو المحكي عن الغزالي «2» في كتابه «المنخول» في الأصول حيث قال: و المختار ما ذكره القاضي و هو انّه لا يجب عقلا عصمتهم إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل و لا بنظره و ليس هو مناقضا لمدلول المعجزة، فانّ مدلوله صدق اللهجة فيما يخبر عن اللّه تعالى لا عمدا و لا سهوا، و معنى التنفير باطل فانا نجوّز ان ينبئ اللّه تعالى كافرا يؤيّده بالمعجزة انتهى قوله لا عمدا و لا سهوا أي انّ ما سوى الاخبار عن اللّه تعالى يجوز منه كلّ شي ء من الذّنوب و المعاصي عهدا و سهوا.

خامسها: انّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة و لا كبيرة على وجه العمد لكن يجوز على جهة التأويل أو السهو، و هو المحكي عن أبي علي الجبائي «3» و مراده بالتأويل

__________________________________________________

(1) هو القاضي ابو بكر الباقلاني المتقدم ذكره.

(2) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد

بن أحمد الملقّب حجة الإسلام الطوسي الفقيه الشافعي و له مصنفات كثيرة في التصوف و الأخلاق و غيرهما، توفي في 14 ج 2 سنة (505) ه- الكنى و الألقاب ج 2 ص 494.

(3) ابو علي محمد بن عبد الوهّاب بن سلام المعتزلي، كان من رؤوس المعتزلة توفي سنة (303) ه- الكنى و الألقاب ج 2 ص 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 366

ما لم يرجع إلى الغلط و الاشتباه مثل ما يعزى إليه من انّ آدم كان منهيّا عن جنس الشجرة فتأوّل و ظنّ انّ النّهي متعلّق بشجرة بعينها، و لذا اعترض عليه علم الهدى «1» بانّه نزّهه عن معصية، و أضاف إليه معصيتين لأنّه مخطئ على مذهبه في ترك النظر في متعلّق النّهي و في التّناول من الشجرة.

سادسها: انّه لا يقع ذلك منهم عمدا و لا من جهة التأويل لكن على سبيل السهو، و هم مأخوذون بما يقع منهم على وجه السّهو، و ان كان ذلك موضوعا عن امّتهم لقوّة معرفتهم و علوّ رتبتهم و كثرة دلائلهم و انّهم يقدرون من التّحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم و هو قول النّظام و جعفر بن مبشر و من تبعهما.

سابعها: انّه لم يقع منهم ذنب كبير و لا صغير عمدا و امّا سهوا فقد يقع لكن بشرط أن يتذكروه في الحال و يعرفوا غيرهم انّه سهو.

ثامنها: انّهم كغيرهم من النّاس يجوز عليهم الكبائر و الصغائر عمدا و سهوا و خطأ و هو قول الحشويّة و كثير من أصحاب الحديث من اهل السنّة.

ثمّ انّهم قد اختلفوا في وقت العصمة على أقوال ثلاثة: الأول: انّه من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا اللّه سبحانه و هو مذهب

أصحابنا الاماميّة.

الثّاني: انّه من حين بلوغهم و لا يجوز عليهم الكفر و الكبيرة قبل النّبوة و هو مذهب كثير من المعتزلة.

الثّالث: انّه وقت النّبوة و امّا قبله فيجوز صدور المعصية عنهم، و هو قول اكثر

__________________________________________________

(1) هو سيّد علماء الأمّة، و محيى آثار الأئمّة ذو المجدين ابو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن الامام موسى الكاظم عليه السّلام و له سنة (355) ه، و توفّي لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة (436)- الكنى و الألقاب ج 2 ص 483.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 367

الأشاعرة و منهم الّرازي، و به قال أبو هذيل و ابو علي الجبائي من المعتزلة.

هذا مجمل الكلام في الأقوال و قد سمعت أنّ مذهب الاماميّة كافة هو القول بعصمة النّبي و الامام تمام العمر فلنشر إلى معنى العصمة و الدّليل على إثباتها و دفع حجج منكريها في مباحث:

الأوّل: في معنى العصمة و هي في اللّغة المنع، و منه قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» أي يمنعك و قوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ «2» قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «3»، و وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ «4» أي امتنعوا به، و المراد بها عند العدليّة هو اللّطف المانع للمكلّف من ترك الواجبات و فعل المحرّمات يفعله اللّه تعالى به غير سالب للقدرة على خلاف مقتضى اللّطف، و الّا فمع انتفاء القدرة ينتفي التكليف، فلا يستحقّ مدحا و لا ثوابا، و هذا هو الّذي يقتضيه الأصول المقرّرة عند العدليّة على ما هو المذكور في الكتب الكلاميّة.

و إليه يرجع ما قيل ايضا: من انّها ملكة ربانيّة تمنع من فعل المعصية و

الميل إليها مع القدرة عليها.

و ما استقرّ به العلّامة أعلى اللّه مقامه في «أنوار الملكوت» حاكيا له عن بعض العامّة: من انّها عبارة عن لطف يفعله اللّه بالمكلّف لا يكون معه داع إلى المعصية و إلى ترك الطاعة مع قدرته عليهما.

__________________________________________________

(1) المائدة: 67.

(2) هود: 43.

(3) هود: 43.

(4) آل عمران: 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 368

و لعلّه إليه يرجع ايضا ما هو المحكيّ عن الحكماء في تعريفها من انّها ملكة تمنع الفجور ناشئة من العلم بمثالب المعاصي و مناقب الطّاعات و تتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر الدّاعية إلى ما ينبغي و النواهي الزاجرة عمّا لا ينبغي.

و ربما يزاد فيه بعد قوله: تمنع الفجور منعا غير سالب للقدرة، بل قد يورد عليه بانّ قولهم ناشئة من العلم ليس بشي ء لأنّ العلم لا يثمر تلك الملكة إلّا أن يراد به العلم الحقيقي و هو المقترن بالعمل بحيث لا يتخلّف عنه في حال، فحينئذ يكون صورة للعصمة، و مادّتها طلب اللّه سبحانه من المكلّف و هدايته، و روحها ذلك اللّطف.

و على هذا يكون هذا التعريف مع اعتبار القيد أقرب لاشتماله على جنس القريب، إلّا انّه لا يخفى أنّ أمثال هذه التعاريف إنّما هو الكشف عن نوع المعنى، و الإشارة إلى ما ينتقل منه إليه، و ان لم يشتمل على الاجزاء الحقيقيّة من الجنس و الفصول المميّزة، بل و لم يسلم طردا و عكسا على حدّ سائر التّعاريف العرفيّة و البيانات اللّغويّة، بل و كثير من البيانات الشرعيّة أيضا.

مثل ما رواه في «المعاني» بالإسناد عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن الحسين عليهم السّلام قال: الامام منّا لا يكون

إلّا معصوما و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها فلذلك لا يكون إلّا منصوصا فقيل له يا ابن رسول اللّه فما معنى المعصوم؟ فقال عليه السّلام: هو المعتصم بحبل اللّه، و حبل اللّه هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة، و الامام يهدي إلى القرآن، و القرآن يهدي إلى الامام، و ذلك قول اللّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 369

عزّ و جل: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1». «2» و فيه بالإسناد عن الحسين الأشقر قال: قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم: إنّ الامام لا يكون إلّا معصوما؟ قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك فقال عليه السّلام: المعصوم هو الممتنع باللّه من جميع محارم اللّه قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3». «4» و في «العلل» و «المعاني» و «الأمالي» بالإسناد عن ابن أبي عمير قال: ما سمعت و لا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي ايّاه شيئا أحسن من هذا الكلام في عصمة الامام عليه السّلام فانّي سألته يوما عن الإمام أهو معصوم؟ قال: نعم، قلت له: فما صفة العصمة فيه؟ و بأيّ شي ء تعرف؟ قال: إنّ جميع الذّنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص و الحسد و الغضب و الشهوة، فهذه منتفية عنه.

لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدّنيا و هي تحت خاتمه، لأنّه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص؟

و لا يجوز أن يكون حسودا لأنّ الإنسان إنّما يحسد من هو فوقه و ليس فوقه أحد فكيف يحسد من هو دونه.

و لا يجوز أن يغضب لشي ء من أمور الدنيا إلّا أن يكون غضبه للّه عزّ و

جلّ فانّ اللّه عزّ و جلّ قد فرض عليه إقامة الحدود، و ان لا تأخذه في اللّه لومة لائم، و لا رأفة في دينه

__________________________________________________

(1) الإسراء: 9.

(2) بحار الأنوار ج 25 ص 194 عن المعاني ص 44.

(3) آل عمران: 101.

(4) البحار ج 25 ص 194 ص 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 370

حتّى يقيم حدود اللّه عزّ و جل.

و لا يجوز أن يتبع الشهوات و يؤثر الدّنيا على الآخرة لأنّ اللّه عزّ و جل حبّب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدّنيا فهو ينظر إلى الآخرة كما ينظر إلى الدّنيا فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح و طعاما طيّبا لطعام مرّ و ثوبا لطيفا لثوب خشن، و نعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟ «1» ففي هذه الاخبار الإشارات إلى ما مرّ من معنى العصمة امّا الخبر الأوّل فلاشتماله على الاعتصام بحبل اللّه الّذي هو القرآن، و قضيّة الاعتصام به موافقة أفعاله و أقواله و أحواله و خيالاته و إرادته لحكم القرآن المشتمل بظهوره و بطونه لكلّ شي ء، إذ فيه تفصيل كلّ شي ء.

و امّا الثّاني: فلانّ الامتناع باللّه هو الالتجاء إليه بجميع مراتب الوجود، و في كلّ حال من الأحوال، و قضيّة ذلك أن لا يكون للشيطان عليه سلطان، فلا يفوته شي ء من الخيرات، و لا ترهقه قترة السّيئات.

و امّا الثالث: فلاشتماله على أصول المعاصي و شعبها، و لميّة تنزّهه عن اقتراف شي ء منها، لأنّه ببصيرته النافذة يرى الدّنيا و الآخرة بحقيقتهما، و يرى كلّا من الطّاعات و المعاصي على ما هي عليه في ذاتها، و لذا لا يختار المعصية على الطّاعة، و لا البعد على القرب و لا يستبدلون الّذي

هو ادنى بالّذي هو خير، كما أشير إليه في ذيل الخبر، مع ما فيه من الإشارة إلى بقاء القدرة و لميّة حسن الاختيار من دون إلجاء و اضطرار.

__________________________________________________

(1) الخصال ص 101 و 102 و عنه البحار ج 25 ص 192.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 371

و فيه ابطال لمذهب الأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنّ المعصوم هو الّذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي بان يكون مختصّا بكيفيّة بدنيّة او قائمة ببدنه او نفسانيه او قائمة بنفسه يقتضي امتناع الاقدام على المعصية، أو انه الّذي يكون قادرا على الطّاعة لا غير، أو يكون غير قادر على المعصية.

و هذه الأقوال الثلاثة على اختلافها في الجملة مشتركة في نفي القدرة حكاها عنهم في «أنوار الملكوت» و الكلّ مخالف لأصول المذهب كما لا يخفى، بل قد سمعت أنّ الاماميّة قد اعتبروا في تحقّق العصمة مضافا إلى ترك المعاصي مطلقا عن اختيار و قدرة نفي السّهو و الغفلة ايضا.

و لذا كان الأولى في تعريفها أن يقال: إنّها ملكة ربانيّة تنبعث على ترك المعاصي مع بقاء القدرة و على نفي الخطأ و الزّلة حتّى السهو و الغفلة، و لذا ورد في أخبار كثيرة أنّ الإمام لا يسهو «1» و لا يغفل معلّلا بكونه معصوما على ما يأتي تمام الكلام فيه في تفسير قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «2»، و قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ «3».

و في الزيارة الجامعة: عصمكم اللّه من الّزلل و آمنكم من الفتن، و طهّركم من الدّنس، و أذهب عنكم الرّجس «4».

و في الّزيارة المرويّة في مزار البحار عن الشيخ المفيد، و ابن طاوس،

__________________________________________________

(1) البحار ج 93 ص 64 و ج 25 ص 164.

(2) البقرة: 124.

(3) الأحزاب: 33.

(4) بحار الأنوار ج 101 ص 371.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 372

و الشيخ محمّد بن المشهدي في الثّناء على أهل البيت و فيها: «انّ لكم القلوب الّتي تولّى اللّه رياضتها بالخوف و الّرجاء، و جعلها أوعية للشكر و الثّناء و آمنها من عوارض الغفلة، و صفّاها من شواغل الفترة، الزيارة «1».

ثمّ انّ السّبب في تحقّق العصمة لأهلها ما قيل من أنّ اللّه تعالى خلق الأشياء، بفعله على حسب قوابلها لفعله، بمعنى أنّه أحدث موادّها لا من شي ء، و صوّرها كما قبلت، فمن لطفت مادّته و رقّت لشدّة نوريتها و قربها من المبدأ الفيّاض الّذي هو مشيّة اللّه و فعله، تلاشت انّيتها و ضعفت بحيث لا تكاد تنافي هيئة فعله، فلا تبدو عنها هيئة تخالف هيئة فعله، فلا يقع لها متعلّق اقتضاء غير ما اقتضته هيئة مشيّة، فلا يريد ذلك المخلوق غير ما يريد خالقه كما قال تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ* «2»، و هو معنى قول عليّ عليه السّلام: «فجعلهم ألسن إرادته» «3» يعني أن ارادته تعالى تنطق بهم، فقولهم قوله تعالى، و فعلهم فعله عزّ و جلّ، و هو معنى قولهم عليهم السّلام: نحن محالّ مشيّة اللّه «4».

و في زيارة الحجّة عجّل اللّه فرجه الّتي رواها أبو جعفر محمّد بن عثمان العمري: مجاهدتك في اللّه ذات مشيّة اللّه، و مقارعتك في اللّه ذات انتقام اللّه، و صبرك في اللّه ذو أناة اللّه، و شكرك للّه ذو مزيد اللّه و رحمته، إلى أن قال: و القضاء؟؟؟ ما

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 102 ص 164.

(2) سورة الإنسان: 30.

(3) بحار الأنوار ج 97 ص 114.

(4) لم اظفر على مصدره و لكن بمضمونه رواية اخرى في البحار ج 25 ص 337 و هي: «قلوبنا أوعية لمشيّة اللّه ...»

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 373

استأثرت به مشيّتكم، و الممحوّ ما لا استأثرت به سنّتكم به «1».

فكان بعناية اللّه تعالى و لطفه عن قابليّته سابقا لكلّ من لم يكن كذلك، و كانت فطرته على هيئة فعله تعالى و محبّته، فحين توجّه إليه أمر ربّه كان ميل فطرته و دواعي صورته الغيبيّة مطابقا لمحبّة اللّه و ارادته و امره، مع دوام الرياضة و التربية حقيقة ما هو اهله بالتّوفيق و التّسديد و عدم التّخلية مع مطابقة تلك الفطرة لفعل اللّه و محبّته و ارادته.

و امّا عدم غفلته و سهوه و نسيانه فلدوام تيقظه و تنبّهه و توقّد نورية قلبه و دوام توجّهه إلى ربّه، و سلامة قلبه عن استيلاء حزب الشياطين و وساوسهم و نزعاتهم، و ذلك لما قرّر في محلّه من أنّ سبب الغفلة و النّسيان هو البعد عن ساحة القرب الموجب لاستيلاء الشيطان، و لذا قال مولانا الحسن المجتبى عليه السّلام في جواب من سأله عن جملة من المسائل على ما رواه في «العلل» و «العيون» إلى أن قال: و أمّا ما ذكرت من أمر الذكر و النّسيان فإنّ قلب الرّجل في حقّ و على الحق طبق فإن صلّى الرجل عند ذلك على محمّد و آل محمّد صلاة تامّة انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحقّ فأضاء القلب، و ذكر الرّجل ما كان نسي، و إن هو لم يصلّ على محمّد و آل محمّد، أو نقص من الصلاة عليهم انطبق ذلك الطبق على ذلك الحقّ فأظلم القلب و نسي الّرجل ما كان

ذكره. «2» الخبر.

فانّ الصّلوة مشتقّة من الصّلة و الوصل و الاتّصال، فإذا اتّصل العبد بالأنوار

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 94 ص 39.

(2) بحار الأنوار ج 36 ص 425- عن كمال الدين و العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 374

القادسيّة الالهيّة، و ارتفع عن وجه قلبه الحجب الظّلمانية أشرقت تلك الأنوار على مرآة قلبه الصّقيلة و انتقش فيها صور الأشياء على ما هي عليها من دون أن يقربه سهو أو نسيان أو غفلة، و هذا هو المقصود بالصّلوة التّامّة عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله و الّا فمن البيّن أنّ مجرّد اجراء تلك اللفظة على اللّسان مع غفلة القلوب و احتجابها بالحجب الظلمانيّة عن الاستضاءة بالأنوار القدسيّة ليست صلاة تامّة.

الثّاني: في إقامة الحجّة على عصمة الأنبياء و أوصيائهم عليهم الصّلوة و السّلام، و العمدة في ذلك إجماع أصحابنا الإماميّة المعلوم لنا تحقيقا و نقلا مستفيضا بل الحقّ على ما صرّح به غير واحد من الأصحاب انّه صار من ضروريّات مذهب الاماميّة، بحيث يعرفه منهم كلّ من دخل في هذا المذهب، بل يعرفه منهم المخالفون لهم ايضا حيث نسبوا في كتبهم الكلاميّة و غيرها إلى الاماميّة القول بلزوم العصمة من جميع الذّنوب صغائرها و كبائرها و من السهو و النسيان و الخطأ من أوّل العمر إلى آخره، قبل النّبوة و بعدها، و لذا رمت الاماميّة قول الصّدوق و شيخه ابن الوليد في جواز السّهو او الإسهاء عليهم بقوس واحدة بل تبرّأوا من هذا القول و هجروه و نسبوه إلى الشّذوذ و الوهن النّاشي عن الاختلاط بالقميين الّذين يبالغون في نفي الغلوّ و الارتفاع في حقّ الحجج عليهم السّلام، حتّى أنّهم إذا رأوا واحدا من

الّرواة يروون بعض مناقب الأئمّة و فضائلهم و غرائب معجزاتهم هجروه و تركوا حديثه و نسبوه إلى الغلوّ و الارتفاع، و هذا هو السبب الأقوى في تضعيف ابن الغضائري كثيرا من الثقات بل ربما يسري الوهم إلى غيره، و لذا ضعّفوا محمّد بن سنان، و المعلّى بن خنيس، و المفضّل بن عمر الجعفي، و نصر بن الصباح،

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 375

و غيرهم من المشايخ الثقات الّذين كانوا من أبواب الأئمّة عليهم السّلام.

و بالجملة لا ريب في قيام الضرورة من المذهب في هذه الأعصار على عصمة الحجج كلّها من الأنبياء و الأوصياء و هي الحجّة القطعيّة، مضافا إلى الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدّالة على ذلك حسبما تسمع شطرا منها في تفسير الآيات الآتية المتعلّقة بعصمة الأنبياء و الحجج.

نعم قد تصدّى جملة من أصحابنا شكر اللّه مساعيهم لإثبات ذلك بإقامة الحجّة عليه من طريق العقل، فلا بأس بالتّعرض لجملة من حججهم، و ان كان في بعضها بعض القصور عن إفادة تمام المطلوب، إلّا أنّه لا بأس به بعد ما سمعت أنّ عمدة الدّليل هو الضرورة و الإجماع، فمنها دليل التنفير على ما أشار اليه غير واحد من الأصحاب.

قال السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في كتاب «تنزيه الأنبياء»: اعلم أنّ جميع ما ننزّه الأنبياء عليهم السّلام عنه و نمنع من وقوعه منهم يستند إلى دلالة العلم المعجز إمّا بنفسه او بواسطة، و ذلك أنّ العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدّعي النّبوة و الرّسالة و جاريا مجرى قوله تعالى له صدقت في انك رسولي و مؤدّ عني، فلا بدّ أن يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على اللّه تعالى فيما يؤدّيه، لأنّه تعالى لا يجوز

أن يصدّق الكذّاب، لأنّ تصديق الكذّاب قبيح كما أنّ الكذب قبيح، و أمّا الكذب في غير ما يؤدّيه و سائر الكبائر فانّما دلّ المعجز على نفيها من حيث كان داّلا على وجوب إتباع الرّسول و تصديقه فيما يؤدّيه و قبوله منه، لأنّ الغرض في بعثة الأنبياء و تصديقهم بالأعلام المعجزة هو أن يمتثل ما يأتون به، فما قدح في الامتثال

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 376

و القبول و اثّر فيهما يجب أن يمنع المعجز منه، فلهذا قلنا: انّه يدلّ على نفي الكذب و الكبائر عنهم في غير ما يؤدّونه بواسطة، و في الأوّل يدلّ بنفسه، و أمّا إنّ تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول و الامتثال فلأنّه لا شبهة في أنّ من نجوّز عليه كبائر المعاصي و لا نأمن منه الإقدام على الذّنوب لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله و استماع وعظه سكونها إلى من لا نجوّز عليه شيئا من ذلك، و هذا هو معنى قولنا: انّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول، و المرجع فيما ينفرّ و ما لا ينفرّ إلى العادة و اعتبار ما يقتضيه، و ليس ذلك ممّا يستخرج بالأدلّة و المقاييس، و من رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، و انّه من أقوى ما ينفرّ عن قبول القول و ان حظّ الكبائر في هذا الباب ان لم يزد عن حظّ السخف «1» و المجون «2» و الخلاعة «3» لم ينقص منه.

فان قيل: أليس قد جوّز كثير من النّاس على الأنبياء الكبائر، مع انّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم و العمل بما شرّعوه من الشرائع، و هذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا هذا سؤال من لم يفهم ما

أوردناه، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق و أن لا يقع امتثال الأمر جملة، و انّما أردنا ما فسّرناه من أن سكون النفس إلى قبول قول من يجوّز ذلك عليه لا يكون على حدّ سكونها إلى من لا نجوّز ذلك عليه، و إنّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، و قد يقرب من الشي ء ما لا يحصل الشي ء عنده، كما يبعد عنه ما

__________________________________________________

(1) السخف: رقّة العقل و نقصانه.

(2) المجون: المزاح و قلة الحياء و صلابة الوجه.

(3) الخلاعة: الانقياد للهوى و التهتك و الاستخفاف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 377

لا يرتفع عنده، أ لا ترى أن عبوس الدّاعي للناس إلى طعامه و تضّجره و تبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته و تناول طعامه، و قد يقع مع ما ذكرناه الحضور و التناول و لا يخرجه من أن يكون منفّرا، و كذلك طلاقة وجهه و استبشاره و تبسّمه يقرّب من حضور دعوته و تناول طعامه، و قد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه و لا يخرجه من أن يكون مقرّبا، فدلّ على أنّ المعتبر في باب المنفّر و المقرّب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفّر عنه او ارتفاعه.

فان قيل: فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النّبوّة فمن أين انّها لا تقع منهم قبل النبوّة و قد زال حكمها بالنبوّة المسقطة للعقاب و الذّم و لم يبق وجه يقتضي التنفير؟

قلنا الطريقة في الأمرين واحدة لأنّا نعلم أن من يجوّز عليه الكفر و الكبائر في حال من الأحوال و ان تاب منه و خرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى

قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا نجوّز ذلك عليه في حال من الأحوال و على وجه من الوجوه، و لهذا لا يكون حال الواعظ لنا الدّاعي إلى اللّه تعالى و نحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذّنوب و ان كان قد فارق جميع ذلك و تاب منه عندنا و في نفوسنا كحال من لم يعهد منه إلّا النزاهة و الطّهارة، و معلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون و النّفور، و لهذا كثيرا ما يعيّر النّاس من يعهدون منه القبائح المتقدّمة بها و ان وقعت التّوبة منها، و يجعلون ذلك عيبا و نقصا و قادحا و مؤثرا، و ليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النّبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوّة و ناقصا عن رتبته في باب التنفير وجب أن لا يكون فيه شي ء من التنفير، لأنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 378

الشيئين قد يشتركان في التنفير و ان كان أحدهما أقوى من صاحبه، ألا ترى انّ كثيرا من السخف و المجون و الاستمرار عليه و الانهماك فيه منفر لا محالة، و انّ القليل من السخف الّذي لا يقع إلّا في الأحيان و الأوقات المتباعدة منفّر أيضا، و ان فارق الأوّل في قوّة التّنفير و لم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل عن أن يكون منفرا في نفسه.

فان قيل: فمن أين انّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء في حال النّبوة و قبلها؟

قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالين: هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالين عند التأمّل لأنا كما نعلم انّ من نجوّز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها و اقلع عنها و لم يبق معه شي ء من استحقاق

عقابها و ذمّها لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا نجوّز ذلك عليه فكذلك نعلم أنّ من نجوّز عليه من الأنبياء عليهم السّلام أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوّته أو قبلها و ان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كلّ القبائح و لا نجوّز عليه فعل شي ء منها «1» انتهى كلامه زيد مقامه «2».

و مرجع هذا الدّليل إلى ما قرّر في أصول الإماميّة من وجوب اللّطف عليه سبحانه، فاللّطف الّذي حسّن التكليف و أوجب البعثة هو الّذي أوجب العصمة فيمن هو الحجّة ليتوفّر معها دواعي المكلّفين على الإقبال عليه و التوجّه إليه، و حسن الظنّ به، ضرورة انّه يرتسم في قلب كلّ عارف باتّصافه بصفة العصمة اشتماله على

__________________________________________________

(1) تنزيه الأنبياء ص 4- 6.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 91- 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 379

غاية الكمال و نهاية الجمال الموجب لتعظيمهم و اعتقاد نورانيّتهم الّتي من شأنها ان تجذب النفوس إليها جذب لطف و تسخير و تربية و تجذب النفوس إليها انجذاب استكمال و محبّة و عشق و نسبة طبيعيّة فطريّة جبلّية كانجذاب الحديد إلى المغناطيس، و ذلك لأنّه قد تقرّر في الحكمة انّ النفوس بطباعها منجذبة إلى الأنوار فكلّما كانت النورانيّة أتمّ و أكمل كان انجذابها إليها أشدّ و أقوى، هذا مضافا إلى إتمام الحجّة عليهم و قطع المعذرة عنهم بحسب الظّاهر لئلّا يقول أحد لو لا أرسلت إلينا رسولا هاديا معصوما عن الخطايا و المعاصي و سائر الأمور المنفرة فنتّبع من آياتك من قبل أن نذلّ و نخزى، و أنت ترى أنّ واحدا من رؤساء الدّين في بلد او

قرية لو اقترف شيئا من المعاصي و الذّنوب الصغيرة أو الكبيرة سقطت هيبته من عيون النّاس، و لم ينجع موعظته فيهم بالنسبة إلى هذه المعصية الّتي اقترفها و غيرها و ان داوم على الموعظة و النصيحة في كلّ صباح و مساء.

و من هنا يظهر انّه لا فرق في باب التنفير بين الكبائر و الصغائر. سيّما مع ما قيل من أنّ الكبائر عندهم على ما رووه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله سبع، و رووا عن ابن عمر انّه زاد فيهما اثنتين، و عن ابن مسعود انّه زاد على قول ابن عمر ثلاثة، و لا شكّ انّ كثيرا من عظائم الذّنوب الّتي عدّوها من الصّغائر ليست من الأمور الخسيسة الّتي استثنوها كالتّطفيف بحبّة و سرقة درهم، فيلزمهم تجويز ما لم يكن من الصّنفين المذكورين كالاشتغال بأنواع المعارف و الملاهي، و ترك الصلاة، و اصناف المعاصي الّتي تقارفها ملوك الجور في الخلوات بل على رءوس الأشهاد.

و لذا قيل: انّ هؤلاء ايضا مخطئون للأنبياء، و لكن في لباس التنزيه، و لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 380

يرتاب عاقل في انّ من هذا شأنه لا يصلح لرئاسة الدّين و الدّنيا و انّ النفوس تتنفّر عنه، بل لا يجوّز أحد أن يكون مثله صالحا لأن يكون واعظا و هاديا للخلق في أدنى قرية، فكيف، يجوّز أن يكون ممّن قال اللّه تعالى فيهم: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ «1». «2» و امّا تنزيههم عن المعاصي قبل النبوّة و عن السّهو و الخطأ مطلقا فيمكن الاستدلال له بما تقدّم من التنفير و التّقريب على ما مرّ، مضافا إلى الإجماع فيهما ايضا بسيطا و مركّبا تحقيقا و نقلا حسبما

سمعت.

و منها جملة من الآيات الدّالة عليها كقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «3»، بناء على أنّ المراد بهذا العهد إمّا عهد النبوّة أو عهد الامامة الّتي هي وجوب الاقتداء و هو على المعنيين ثابت للنّبي صلّى اللّه عليه و آله فلو كان عاصيا لكان من الظالمين (هف) و من (لهذا خلف).

و قوله حكاية عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «4».

فلو عصى نبيّ لكان قد أغواه الشيطان و لم يكن من المخلصين، و هما فاسدان بالإجماع.

و لقوله تعالى: في ابراهيم و اسحق و يعقوب إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى

__________________________________________________

(1) الحجّ: 75.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 94.

(3) البقرة: 124.

(4) ص: 82- 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 381

الدَّارِ «1»، و في يوسف: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ «2»، و بضميمة عدم القول بالفرق يتمّ المطلوب.

و قوله: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3»، و الأنبياء من ذلك الفريق بالاتفاق، و غير ذلك من الآيات الّتي ستسمع تقريب الاستدلال بها عند التعرض لها.

و منها: انه لو صدر عنه الذنب للزم اجتماع الضدّين و هما وجوب متابعته و مخالفته.

أمّا الأوّل: فللإجماع على وجوب متابعة النّبي صلّى اللّه عليه و آله، و لقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «4»، و قوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «5»، و غيره ممّا يدلّ على وجوب التّأسي و المتابعة، بل و ما دلّ على حجّية قوله و فعله و تقريره.

و أمّا الثّاني: فلضرورة حرمة متابعة المذنب، و اعتبار قيد الحيثيّة ينفيه إطلاق ما تقدّم من الأدلّة حيث يستفاد منها نصب الحجّة بحيث لا يحتاج مع

متابعته إلى الفحص و التّبين أصلا.

و منها: انّه لو صدر عنه الذّنب لوجب منعه و زجره و الإنكار عليه، لعموم أدلّة

__________________________________________________

(1) ص: 45.

(2) يوسف: 24.

(3) سبأ: 20.

(4) آل عمران: 31.

(5) الأحزاب: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 382

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لكنّه حرام لاستلزامه إيذائه المحرّم بالإجماع و بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ «1».

و منها: انّه لو أقدم على الفسق لزم أن يكون مردود الشهادة إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع، و لقوله: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «2»، مع انّ من لا يقبل شهادته في الشّي ء اليسير من متاع الدّنيا فكيف تسمع شهادته في الأمور الدّينيّة و الاخبار السّماوية، مع أنّه تعالى جعل الأنبياء شهداء على الأمم كما أشير اليه في قوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «3».

و منها: أنّه يلزم أن يكونوا من حزب الشيطان و قال اللّه تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ «4» فانّ اللازم قطعيّ البطلان و ان لا يكونوا مسارعين إلى الخيرات مع أنّه قال في حقّهم أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ «5»، و ان يستحقّوا العذاب و اللّعن لقوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «6»، وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «7»، و ان يستحقّوا الذّم و العقاب الّذي تضمّنه قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ «8»، أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ

__________________________________________________

(1) الأحزاب: 57.

(2) الحجرات: 6.

(3) النساء: 41.

(4) المجادلة: 19.

(5) المؤمنون: 61.

(6) هود: 18.

(7) الجنّ: 23.

(8) الصف:

2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 383

أَنْفُسَكُمْ «1».

ثمّ انّه لا يخفى انّ هذه الوجوه و إن تطرّق إليها بعض المناقشات، إلّا أنّ العمدة ما سمعت من قيام الإجماع بل الضرورة من مذهب الاماميّة على اشتراط العصمة في الأنبياء و الأوصياء و حجّيتهما على غيرهما موقوفة على ثبوت العصمة كما قرّر في محلّه فلا دور.

الثّالث: في دفع شبه المخطئة الّذين اجترءوا على أنبياء اللّه و أوليائهم فنسبوهم إلى الخطأ و الجهالة و الضلالة و وجوه من الفسق و المخالفة قبل النبوة و بعدها و لهم في تخطئة الأنبياء و الأوصياء و تفسيقهم شبهات و أوهام لم نقصد التّعرض لها في هذا المقام، بل فرقناها على الآيات المتعلّقة بها.

فان منها ما تمسّكوا بها في باب الاعتقاد كقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها «2»، الآية و قوله: حكاية عن ابراهيم:

هذا رَبِّي* «3»، و رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «4» و قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «5»، الآية.

و منها: ما تمسّكوا به في باب التبليغ كقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ «6»، الآية سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «7»، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا «8»،

__________________________________________________

(1) البقرة: 44.

(2) الأعراف: 189.

(3) الانعام: 77.

(4) البقرة: 260.

(5) يونس: 94.

(6) الحج: 52.

(7) الأعلى: 6.

(8) الجنّ: 28.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 384

الآية.

و منها: ما تمسّكوا بها في باب الفتيا كقوله: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ «1» و قوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى «2»، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «3» و غيرها

ممّا يأتي.

و منها: ما تمسّكوا به في باب الأفعال و هي و ان كانت كثيرة جدّا إلّا أنّ المقصود في المقام دفع ما قيل من انّه أعظم شبهاتهم و هو التمسّك بقصّة آدم على نبيّنا و آله عليه السّلام فاستدلّوا بما ورد فيها من وجوه:

الأوّل: انّه عليه السّلام كان عاصيا لقوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «4»، و العاصي مذنب بل هو اسم ذمّ لا يتناول إلّا صاحب الكبيرة لقوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «5».

الثاني: انّه سمّاه غاويا في قوله: فَغَوى «6»، و الغيّ خلاف الرّشد للآية قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ «7».

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 78.

(2) الأنفال: 67.

(3) التوبة: 43.

(4) طه: 141.

(5) الجنّ: 23.

(6) طه: 121.

(7) البقرة: 256.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 385

و للخبر: أمر بيّن رشده فيتّبع و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و الغواية إنّما تكون بارتكاب الذّنب بل خصوص الكبيرة سيّما إذا ترتبت على العصيان بل في الخبر اشارة إلى ذلك لقوله عليه السّلام بعد ما مرّ و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات «1».

الثالث: انّه تعالى سمّاه ظالما في قوله: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* «2»، و هو ايضا قد أقرّ على نفسه ذلك في قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «3»، و الظالم ملعون لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «4»، و من استحقّ اللّعن هو صاحب الكبيرة.

الّرابع: انّه ارتكب المنهيّ عنه في قوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ* «5»، و لذا قال تعالى: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ «6»، و ارتكاب المنهيّ عنه معصية بل كبيرة، و لذا عوتب على المخالفة.

الخامس: انّه تائب و

التّائب مذنب أمّا أنّه تائب فلقوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ «7»، و امّا انّ التّائب مذنب فلانّ التّائب هو النادم على فعل الذّنب و النادم على فعل الذّنب مخبر عن كونه فاعلا للذّنب فان صدق فهو المطلوب

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 221.

(2) البقرة: 35، و الأعراف: 19.

(3) الأعراف: 23.

(4) هود: 18.

(5) البقرة: 35، و الأعراف: 19.

(6) الأعراف: 22.

(7) البقرة: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 386

و الّا فهو مذنب بالكذب.

السادس: انّه اخرج من الجنّة بسبب وسوسة الشيطان و إضلاله جزاء و عقوبة على ما أقدم عليه من المخالفة، و ذلك يدلّ على كونه فاعلا للكبيرة و لذا قال تعالى:

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ «1».

السابع: اعترافه بأنّه خاسر لو لا مغفرة اللّه له بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «2» و ذلك يقتضي كونه ذا كبيرة.

الثامن: انّه نسب إليه الهداية بعد التوبة في قوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «3» و ظاهره انّه كان قبل التوبة على الضّلالة.

التّاسع: انّه عرضه النسيان لقوله: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «4»، و هو ينافي العصمة على مذهب الإماميّة كما مرّ.

العاشر: ما يدلّ عليه الأخبار المأثورة من طرق الفريقين من انّه ارتكب الخطيئة و اقترف الذّنب و طلب التّوبة و انّه بكى على ذنبه كذا و كذا سنة و انّه تعالى قد حرّم عليهما أكل الشجرة و انّهما ظنّا انّه قد أحلّها لهما بعد تحريمها و انّه تعالى قال لهما اهبطا من سمواتي إلى الأرض فانّه لا

يجاورني في جنّتي و لا في سمواتي عاص ظالم و انّهما نظرا إلى منازل محمّد و آل محمّد عليهم السّلام بعين الحسد إلى غير ذلك ممّا أشير اليه في الأخبار المتقدّمة و غيرها.

__________________________________________________

(1) الأعراف: 27.

(2) الأعراف: 24.

(3) طه: 122.

(4) طه: 115.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 387

و الجواب عن هذه الوجوه من وجهين: الإجمال و التفصيل، أمّا الإجمال:

فهو أنّ هذه الوجوه ظواهر مستفادة من الأدلّة اللفظيّة بعد فرض دلالتها و سلامتها عن المناقشات و ما ذكرناه من الإجماع و الضرورة دليل العقل على لزوم العصمة ادلّة قطعيّة لا تحتمل الرّد و التّخصيص فيجب التّصرف في الظّواهر بصرفها عن ظاهرها و حملها على ما لا ينافي تلك الأدلّة كما هو القانون في تعارض الظنّي و القطعي، و هذا الجواب الإجمالي جار في غير المقام ايضا من الموارد الّتي استدلّوا فيها ببعض الظّواهر على نفي عصمتهم.

و أمّا التّفصيل: فقد أجيب عن الأوّل بوجوه: أحدها: ما يظهر من فحاوي بعض الأخبار من انّ الأمر لم يكن على وجه الوجوب و لا النّدب بل كان امرا إرشاديّا و ذلك انّه سبحانه كان خلقه لعمارة الأرض و خلافتها كما أخبر به ملائكته قبل خلقه بقوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» فلمّا خلقه اللّه سبحانه بيده و فسح له في جنّته و نعمته أعلمه انّه ان كان يريد البقاء في الجنّة و دوام الّراحة فلا بدّ أن لا يقرب الشجرة و لذا خاطبه بقوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «2» و بيّن له انّه مع اكله من الشجرة لا بدّ

أن يخرج منها إلى الدّنيا و يجعل له و لذّريته الأرض بساطا و معاشا مع ابتلائهم فيها بأنواع المحن و المشاق و البليّات و شرط لهم العدو إلى تلك الجنّة ثمّ إلى جنّة الخلد مع الانقياد و الطّاعة و امتثال التكاليف في الدّنيا و لذّاتها و النهي عن

__________________________________________________

(1) البقرة: 30.

(2) طه: 117- 118- 119.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 388

قرب الشجرة على وجه الإرشاد إلى ما فيه الرّاحة العاجلة و ان كان في خروجه منها و الابتلاء بمحن هذه الدّار الفوز بالكرامة العظيمة الاجلة الّتي أوجبت خلقه أوّلا لذلك لا للكون في الجنّة الّتي كان فيها أوّلا فانّها نازلة الرتبة يسيرة الخطب بالنسبة إلى جنّة الخلد فأطلق العصيان باعتبار مخالفة ما أرشده إليه ممّا فيه الخلاص عن المشاقّ الدّنيوية.

و عندي أنّ هذا الوجه أظهر الوجوه و ان لم يحضرني من صرّح به من الأصحاب و غيرهم، نعم قد يستفاد من فحاوي بعض الأخبار الدالّة على أنّ المقصود من خلقه تعمير الأرض و إسكانه فيها كما هو الظاهر من الآية ايضا، ففي «تفسير العياشي» و «القصص» عن أبي جعفر عليه السّلام انّ آدم لمّا هبط عليه ملك الموت قال: اشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد انّي عبد اللّه و خليفته في ارضه ابتداني بإحسانه و أسجد لي ملائكته و علّمني الأسماء كلّها ثمّ أسكنني جنّته و لم يكن جعلها دار قرار و لا منزل استيطان، و انّما خلقني لأسكن «1» الأرض للّذي أراد من التقدير و التّدبير.

و زاد في تفسير العيّاشي: و قدّر ذلك كلّه قبل أن يخلقني، فمضيت في قدرته و قضائه و نافذ أمره، ثمّ

نهاني أن آكل من الشجرة، فعصيته و أكلت منها فأقالني عثرتي و صفح لي عن جرمي، فله الحمد على جميع نعمه عندي حمدا يكمل به رضاه عنّي «2».

__________________________________________________

(1) في البحار: ليسكنني.

(2) البحار ج 23 ص 61.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 389

و في «العلل» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ما يستطيع اهل القدر أن يقولوا: و اللّه لقد خلق اللّه آدم للدّنيا و أسكنه الجنّة ليعصيه فيردّه إلى ما خلقه له فقوله ليعصيه أي عالما بأنّه يخلّيه مع اختياره بعد ما أرشده إلى ما فيه النفع العاجل، من دون أن يكون هناك طلب على وجه الإيجاب او الاستحباب، فاختار آدم ما فيه الخير الكثير الآجل كما خلقه اللّه تعالى لذلك.

و لعلّه ينزّل عليه ما أجاب به آدم موسى عليهما السّلام على ما هو المروي في تفسير القمي و غيره عن الصادق عليه السّلام قال: انّ موسى عليه السّلام سأل ربّه أن يجمع بينه و بين آدم عليه السّلام فجمع اللّه بينهما فقال له موسى: يا أبه ألم يخلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التوراة؟ قال: بثلاثين سنة قال: فهو ذلك، قال: فحّج «1» آدم موسى عليهما السّلام.

بناء على أنّ المراد أنّه سبحانه كتب في التوراة انّه تعالى قدّر على آدم عمارة الأرض و قدّر عليه أنّه و كلّه إلى اختياره، حتّى فعل ما فعل لمصلحة إهباطه إلى الأرض، و انّ ذلك التقدير كان قبل خلق آدم بثلاثين سنة فالمعنى بكم وجدت تقدير خطيئتي قبل خلقي؟

و من هنا

يظهر انّه لا داعي إلى التكلّف لكونه قبل خلقه بانّ التوراة كتب في الألواح السماوية في ذلك الوقت و ان وجده موسى عليه السّلام بعد بعثته، أو أنّ المراد اطلاع روح موسى على ذلك قبل خلق جسد آدم، كما لا وجه لحمله على التقيّة لمجرّد

__________________________________________________

(1) فحجّ آدم موسى: اي غلب آدم موسى بالحجّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 390

وروده في كتبهم بطرق كثيرة و عن السيّد في «الطرائف» ردّه، لكنّه ليس في محلّه بعد موافقة مضمونه لما يستفاد من غيره.

بل لعلّه هو المراد ايضا بما في التّوحيد للصّدوق (رحمه اللّه) في خبر الفتح ابن يزيد عن أبي الحسن عليه السّلام: إن للّه تعالى إرادتين و مشيّتين: ارادة حتم و ارادة عزم، ينهى و هو يشاء، و يأمر و هو لا يشاء، او ما رأيت انّ اللّه تعالى نهى آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و هو شاء ذلك؟ و لو لم يشاء لم يأكلا، و لو اكلا لغلبت مشيّتهما مشيّة اللّه تعالى، و أمر ابراهيم بذبح ابنه عليهما السّلام و شاء أن لا يذبحه، و لو لم يشاء أن لا يذبحه لغلبت مشيّة ابراهيم مشيّة اللّه عزّ و جلّ «1».

بناء على أنّ المراد انّه نهي إرشاد، و شاء أن يأكل من الشجرة لما فيه من المصلحة الكلّية، فالنّهي فيه ليس على حقيقته، كما ان أمر ابراهيم بذبح ابنه ليس على حقيقته بل لمجرّد التّوطين و الامتحان، إلّا أنّ الظّاهر من مساق الخبر حملهما على الإرادة التكوينيّة و التشريعيّة على ما فصّلناه في موضع آخر، و يؤيّده انّه عليه السّلام إنما ذكر ذلك جوابا عن الّراوى، حيث سأله انّ عيسى خلق من الطّين طيرا

دليلا على نبوّته، و السّامري خلق عجلا جسدا لنقض نبوّة موسى عليه السّلام، و شاء اللّه أن يكون ذلك كذلك إنّ هذا لهو العجب! فقال عليه السّلام: ويحك يا فتح انّ للّه إرادتين، آه.

و إلى هذا يرجع ما ذكره الصدوق (رحمه اللّه) بعد إيراد الخبر انّ اللّه تعالى نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة، و قد علم انّهما يأكلان منها لكنّه شاء أن لا يحوم بينهما و بين الأكل منها بالجبر و القدرة كما منعهما من الأكل منها بالنهي

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 5 ص 101.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 391

و الزّجر، فهذا معنى مشيّته فيهما، و لو شاء عزّ و جلّ منعهما من الاكل بالجبر ثمّ اكلا منها لكان مشيّتهما قد غلبت مشيّة اللّه تعالى كما قال العالم عليه السّلام: تعالى اللّه تعالى عن العجز علوّا كبيرا.

ثمّ انّه قد ظهر ممّا ذكرناه في معنى ترك الأولى الفرق بينه و بين ترك المندوب فضلا عن ارتكاب المكروه، فانّ الأمر و النهي في الأخيرين طلبي و مخالفة الطلب لازم فيهما على كلّ حال بخلاف الأوّل الّذي لم يقصد فيه إلّا مجرّد الإرشاد إلى ما فيه المصلحة العاجلة في المقام حسبما سمعت.

و أمّا ما ذكره صاحب «الفصول» حيث قال في جملة كلام له: انّ المعتبر في الكراهة ليس مجرّد المرجوحيّة، و الّا لكان تارك كلّ مندوب فاعلا لمكروه و هو تركه، و لا خفاء في فساده بل المرجوحيّة الموجبة لمنقصة دينيّة في فاعلها غير محرّمة، و لا ريب انّ مجرّد تفويت الثواب او ترك الرّاجح لا يوجب ذلك، و بهذا يظهر الفرق بين الترك المكروه و خلاف الأولى انتهى.

فهو و إن كان

لا بأس به فيما ذكره من الفرق بين ترك المندوب و فعل المكروه، و كذا بين الترك المكروه و خلاف الأولى إلّا أنّ ظاهره كون خلاف الأولى شاملا لكلّ من تفويت الثواب و ترك الراجح و هو في الأخير ليس على ما ينبغي، و أمّا الأوّل فلا بأس به مع فرض المقام مجرّدا عن الطّلب رأسا و تفسير الثواب بما يعمّ كلّ شي ء من المصالح و المقاصد الدّنيويّة و الأخرويّة و الّا فللنظر فيه ايضا مجال.

ثانيها: ما ذكره السيّد المرتضى رضي اللّه عنه و هو أنّ المعصية مخالفة الأمر

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 392

و الأمر من اللّه سبحانه يكون مرّة على وجه الوجوب، و اخرى على النّدب، قال: فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه السّلام مندوبا إلى ترك التّناول من الشجرة، و يكون بمواقعتها تاركا نفلا و فضلا، و غير فاعل لقبيح، و ليس يمتنع أن يسمّى تارك النفل عاصيا، كما سمّي بذلك تارك الواجب، فانّ تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنّه عاص ظاهرة، و لهذا يقولون: أمرت فلانا بكذا و كذا من الخير فعصاني و خالفني، و ان لم يكن ما أمر به واجبا.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه كيف يجوز أن يكون ترك النّدب معصية أو ليس هذا يوجب أن يوصف الأنبياء عليهم السّلام بأنّهم عصاة في كلّ حال، و انّهم لا ينفكّون عن المعصية لأنّهم لا يكادون ينفكّون من ترك النّدب، و أجاب عنه: بأنّ وصف تارك الثواب النّدب بالعصيان توسّع و تجوّز، و المجاز لا يقاس عليه و لا يعدّى به موضعه، و لو قيل: انّه حقيقة في فاعل القبيح و تارك الأولى

و الأفضل لم يجز إطلاقه ايضا في الأنبياء عليهم السّلام إلّا مع التّقييد، لأنّ استعماله قد كثر في القبائح فإطلاقه بغير تقييد موهم لكنّا نقول: ان أردت بوصفهم بانّهم عصاة انّهم فعلوا القبائح فلا يجوز ذلك، و ان أردت بأنّهم عصاة انّهم تركوا ما لو فعلوه لاستحقّوا الثّواب و كان اولى فهم كذلك.

أقول: قد صرّح بعض المحققين بانّ استعمال العصيان في ترك المندوب حقيقة و يؤيّده ما في «الصّحاح» و «القاموس» من أنّه خلاف الطّاعة إذ من البيّن انّ الطّاعة تطلق على فعل كلّ من الواجب و النّدب على احتمال أن يكون تفسيرا بالأعمّ كما هو الشائع في كلامهم، نعم قد شاع إطلاقه في ترك الواجب و لذا صحّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 393

الإطلاق في قوله: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ* «1»، الآية و قد استدلّ الأصوليّون على كون الأمر للوجوب بقوله: أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي «2» حيث عبّر عن مخالفة الأمر بالعصيان.

و على كلّ حال فلا بدّ من حمله في المقام على ترك الأولى، لأنّه اللائق بعصمة الأنبياء عليهم السّلام المعلومة من العقل و الإجماع بل ضرورة المذهب.

و من هنا يظهر ضعف ما قد يقال في المعارضة: من انّه الأليق برحمة أكرم الأكرمين و كرم أرحم الراحمين أن لا يؤاخذ على تركه الأولى نسيانا بمعاتبته بقوله: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ و وَ أَقُلْ لَكُما «3». الآية، و بالفضيحة حيث بدت سوءاتهما، و بإخراجه من جواره، و بالتفريق بينه و بين حوّاء مائة سنة أو مأتين، و بإلقاء العداوة و البغضاء بينهم، و بالنّداء عليهم باسم العصيان و الغواية، و بتسليط العدوّ على أولاده، بقوله: وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ «4» و

بجعل الدّنيا سجنا له و لأولاده و بالتّعب و الشقاء في قوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «5». إلى غير ذلك ممّا يختصّ بالنّساء من الحيض، و ثقل الحمل و الطلق و نحوها كما ورد في الأخبار.

إذ فيه مع ان كثيرا ممّا عدّه في المقام من لوازم هذه الدّار و مقتضيات الكون بها و الابتلاء فيها انّ جلالة قدر الأنبياء و عظم قدرهم و كبر شأنهم يقتضي تعظيم ما

__________________________________________________

(1) الجنّ: 23.

(2) طه: 93.

(3) الأعراف: 22.

(4) الإسراء: 64.

(5) طه: 117.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 394

يصدر عنهم أحيانا من ترك الأولى لعلوّ قدرهم و كثرة معرفتهم و لذا ورد: «انّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» «1» بل ربما يستقلّون ما يصدر عنهم من الطّاعات و يستحقرونه في جنب عظمة اللّه سبحانه، و لذا كان يصدر عنهم من التضرّع و البكاء و الأنين ما لم يلحقهم فيها أحد من العالمين، فانّ أعلم الخلق باللّه اخشاهم منه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» و قد روي عن الصّادق عليه السّلام انّه قال: لنا مع اللّه حالات نحن فيها هو و هو نحن، و هو هو و نحن نحن «3».

و هذا هو الّذي أشار إليه الحجّة عجّل اللّه فرجه في دعاء شهر رجب:

فجعلتهم معادن لكلماتك و أركانا لتوحيدك و آياتك و مقاماتك الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك و بينها إلّا أنّهم عبادك و خلقك «4» آه.

و هذه مقامهم في قربهم و مثالهم في هذه الحال بالنّسبة إلى فعل اللّه و مشيئته مثل الحديدة المحماة بالنّار، فانّه يصدر عنها ما يصدر عن النّار من الإضاءة و

الإحراق لا فرق بينها و بينها إلّا أنّ الحديدة حينئذ محل فعل النّار و مظهر شؤونها كما أنّهم عليهم السّلام محال مشيئة اللّه سبحانه المظهرون لأمره العاملون بإرادته، و لهم أيضا مقامات أخر باعتبار كونهم التشريعي التبليغي النّاسوتي من أكلهم و شربهم و نكاحهم و تبليغهم الشرائع و الاحكام إلى كافة الأنام و غيرها ممّا لا ريب في انّهم مأمورون بها إقامة لمنصب النبوّة و الولاية و رسم التبليغ و التجانس إلّا انّها بالنّسبة إلى الحالة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ص 205.

(2) فاطر: 28.

(3) لم اظفر على مصدره.

(4) بحار الأنوار ج 98 ص 393.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 395

الأولى سيّئات و معاصي يستغفرون اللّه منها و يتوبون اللّه على ما يأتي، فإذا كان هذه حالهم في عباداتهم الظاهرة و معاشراتهم مع النّاس فما ظنك بما يصدر عنهم أحيانا من ترك الأولى الّذي دعاهم إليه على جهة النّدب و الاستحباب.

ثالثها: ما أجاب به بعض من جوّز عليه الذّنب في الجملة و هو انّ آدم عليه السّلام لم يكن حين صدر عنه الذّنب نبيّا بناء على أنّ المعلوم من لزوم العصمة إنّما هو بعد النّبوّة، و ربّما يؤيّد ايضا بما رواه في «الأمالي» و «العيون» بالإسناد عن الّرضا عليه السّلام حيث سأله عليّ بن محمّد بن الجهم فقال له يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تعمل في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1»، إلى أن قال عليه السّلام: ويحك يا علي اتّق اللّه و لا تسب إلى أنبياء اللّه الفواحش و لا تتأوّل كتاب اللّه عزّ و جلّ برأيك

فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «2»، أمّا قوله عزّ و جلّ في آدم: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فانّ اللّه عزّ و جلّ خلق آدم حجّة في أرضه و خليفته في بلاده لم يخلقه للجنّة و كانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتمّ مقادير أمر اللّه عزّ و جلّ فلمّا أهبط إلى الأرض و جعل حجّة و خليفة عصم بقوله عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «3». «4» أقول: أمّا جواز صدور الذنب قبل البعثة فقد عرفت أنّه مخالف لما هو

__________________________________________________

(1) طه: 121.

(2) آل عمران: 7.

(3) آل عمران: 33.

(4) بحار الأنوار ج 11 ص 72 ح 1 عن الأمالي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 396

المعلوم من مذهب الإماميّة من وجوب عصمتهم في جميع الأحوال، و أمّا الخبر فمحمول على نوع من التقيّة مماشاة معهم في أقوالهم، أو أنّ المراد بالخطيئة ارتكاب خلاف الأولى على ما عرفت، و يكونون بعد البعثة معصومين عن جميع الذّنوب ايضا، و يكون ذكر الجنّة لبيان كون النّهي ارشاديّا لا طلبيّا حيث انّ الجنّة ليست بدار تكليف حتى يتصوّر فيها النهي التحريمي و التنزيهي ايضا، و ربما يحمل على وجه التنزل و الاستظهار ردّا على من جوّز الذنب مطلقا عليهم صلوات اللّه.

رابعها: انّ المعصية كانت من آدم في الجنّة لا في الأرض الّتي هي دار التكليف فلا يلزم صدور المعصية عنه عليه السّلام قبل النّبوة و لا بعدها في دار التكليف و لعلّ في قول الرضا عليه السّلام في الخبر المتقدّم اشارة إليه،

لكنّه كما سمعت مناف لما هو المعلوم من المذهب، بل قيل إنّ هذا الوجه لا ينطبق على شي ء من المذاهب.

خامسها: ما أجاب به اكثر المعتزلة من أنّ معصيته عليه السّلام كانت من الصّغائر المكفّرة دون الكبائر الّتي تنافي العصمة، و ان كان يشملهما معا اسم المعصية.

و فيه: انّه مناف ايضا لضرورة المذهب، و قد سمعت فيما مرّ من كلام السيّد في باب التنفير انّ الطريقة في نفي الصّغائر قبل البعثة و بعدها هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالين.

و امّا ما رواه في «العيون» و «الاحتجاج» عن الرضا عليه السّلام من انّه كان ذلك يعني الاكل من الشجرة من آدم قبل النّبوة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار و انّما كان من الصغائر الموهوبة الّتي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلمّا اجتباه اللّه و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة قال اللّه عزّ و جلّ:

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 397

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «1» و قال عزّ و جلّ:

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «2»، الخبر فلعلّه محمول على التقيّة، او على التنزيل، او لجواز ارتكابه لترك الأولى قبل البعثة، و أمّا بعدها فعلوّ قدرهم يمنع من ارتكابهم له أيضا و ان لم يكن ذنبا و معصية.

سادسها: ما قيل: من أنّه عليه السّلام لمّا نهي عن الاكل من الشجرة ظن أنّ النّهي عن عين الشجرة لا عن نوعها، و كان اللّه سبحانه أراد نهيه عن نوعها، و لكنّه لم يقل لهما:

لا تقربا نوع هذه الشجرة و لا من

جنسها.

و اللفظة قد يراد بها النوع كما روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله انّه أشار إلى حرير و ذهب و قال: هذان حرامان على رجال من امّتي و انّه عليه السّلام قال هذا وضوء لا يقبل اللّه الصّلوة إلّا به.

و كان ظنّه ذلك لأنّ إبليس حلف لهما باللّه كاذبا انّه لهما لمن النّاصحين، و لم يكن شاهد قبل ذلك من يحلف باللّه كذلك فأكل من شجرة أخرى من نوعها، و كان ذلك من قبيل الخطأ في الاجتهاد و ليس من كبائر الذّنوب الّتي يستحقّ بها دخول النّار «3».

و قد يؤيّد بما رواه في «العيون» و «الاحتجاج» عن عليّ بن محمّد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون و عنده عليّ بن موسى عليهما السّلام فقال له المأمون يا بن رسول اللّه أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى قال: فما معنى قول اللّه

__________________________________________________

(1) طه: 121.

(2) آل عمران: 33.

(3) بحار الأنوار ج 11 ص 198- 199.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 398

عزّ و جلّ: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1»، فقال عليه السّلام إنّ اللّه تبارك و تعالى قال لآدم اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ «2» و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ و لم يقل لهما لا تأكلا من هذه الشجرة، و لا ممّا كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة، و إنّما اكلا من غيرها لمّا أن وسوس الشيطان إليهما و قال: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ «3» و إنّما نهيكما أن تقربا غيرها، و لم ينهكما عن الأكل منها إلّا أن تكونا ملكين

او تكونا من الخالدين وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «4» و لم يكن آدم و حوّاء شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ «5» فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه و كان ذلك من آدم قبل النّبوة «6».

إلى آخر ما تقدّم في الوجه السّابق، و يؤيّده أيضا ما مرّ عن تفسير الامام عليه السّلام مفصّلا «7».

و هو بظاهره لا يتمّ على أصولنا إذ فيه أوّلا أنّ اسم الإشارة موضوع للإشارة إلى الأشخاص، و الإشارة به إلى النوع لا تصحّ إلّا مع القرينة الدّالة عليه، فإذا حمله على حقيقته فأيّ خطأ يلحقه فيه.

__________________________________________________

(1) طه: 121.

(2) البقرة: 35.

(3) الأعراف: 20.

(4) الأعراف: 21.

(5) الأعراف: 22.

(6) عيون الاخبار ص 195- 196.

(7) تفسير الامام عليه السّلام ص 90- 91 و عنه البحار ج 11 ص 189- 193.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 399

و توهّم انّه قد قرنه بما يدلّ على أنّ المراد به النّوع مدفوع بأنّ القرينة لا بدّ أن تكون مفهمة و معها يتمّ المحذور، و إلّا فلا إفهام فلا تكليف، و لذا قيل: إنّه لو كلّفه على الوجه المذكور من دون قرينة تدلّ على المراد لزم التكليف بما لا يطاق و مع القرينة يلزم الإخلال بالنظر و التقصير في المعرفة «1».

و أمّا ما يقال من أنّه تعالى عرّفه القرينة وقت الخطاب ثمّ غفل عنها و نسيها لطول المدّة أو غيره.

ففيه أنّه مبنيّ على جواز النسيان على الأنبياء و فيه ما لا يخفى.

و ثانيا: انّ الأنبياء لا يجوز عليهم الاجتهاد و العمل بالظّن أو اعتقاد خلاف الواقع و لو على طريق غير الجزم.

و عدم كونه وقت الخطاب نبيّا كما تضمّنه

الخبر غير حاسم لمادّة الأشكال على أصولنا، كما أنّه لا يحسمها القول بارتكابه على جهة التأويل كما هو المحكيّ عن أبي علي «2» و غيره، و لذا أورد عليهم المرتضى رضي اللّه عنه بأنّه و ان نزّهه عن تعمّد معصية، إلّا أنّ أضاف إليه معصيتين: ترك التأمّل في متعلّق النّهي انّه هل هو الجنس أو العين، و التّناول من الشّجرة و لو مع اعتقاد الحلّية للخطأ في الاجتهاد و الاعتقاد و توهّم انّ النظر فيما كلّفه من الامتناع من الجنس او النّوع لم يكن واجبا عليه مدفوع بأنّه ان لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلّفا «3».

نعم ربما يقال: انّه توجيه متّجه و لو بمعونة الرضوي و العسكري المتقدمين،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 199.

(2) هو ابو عليّ الجبائي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي: المتوفى (303) ه.

(3) تنزيه الأنبياء ص 7- 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 400

و يرجع إلى ترك الأولى، و هو ليس بذنب في الحقيقة و لا بأس به، إلّا أنّ مرجعه إلى أحد الأولين.

و امّا ما يقال ايضا في بيان الخطأ في الاجتهاد: من انّه قال: و لا تقربا فظن آدم انّه نهي لهما على الجمع، فيجوز لكلّ منهما الأكل منفردا، إذ لا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد «1».

فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه و ان ذكره الرّازي و غيره.

سابعها: انّ نسبة العصيان إلى آدم مبنيّة على تقدير مضاف و المراد و عصى أولاد آدم كما في قوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ «2»، بل قد يؤيّد بقوله في قصّة آدم و حوّاء: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما «3»، و من المعلوم انّهما

لم يشركا و إنّما أشرك أولادهما.

و ردّ بانّه و ان كان احتمالا يصحّح اللّفظ، لكنّه مخالف لما في الواقع، فإنّ أولاد آدم لم يقع منهم الاكل من الشجرة شجرة الخلد و لم يكونوا منهيّين عن ذلك ايضا، و لم يكن ذلك إلّا من آدم و حوّاء.

نعم ربّما تؤول الشّجرة في الآية بحبّ الدنيا و رئاستها و زينتها و خصوص علم الإكسير و هو على فرضه لا يمنع من ارادة الظّاهر بل لا يتمّ إلّا معها.

ثامنها: أنّ النهي و ان كان ظاهرا في التحريم لكنّه ليس نصّا فيه، و انّما صرفه عن الظاهر لدليل ظنّه قرينة عليه.

__________________________________________________

(1) تفسير الفخر الرازي ج 3 ص 15.

(2) يوسف: 83.

(3) الأعراف: 190.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 401

و ضعفه واضح جدّا بل لم أعرف به قائلا و ان حكاه شارح الطّوالع عن بعضهم.

تاسعها: انّ الّذي صدر منه عليه السّلام كان عن نسيان بنصّ القرآن لقوله:

فَنَسِيَ «1» فهو ليس بذنب، و المؤاخذة إنّما كانت على ترك التّحفظ و التقصير الّذي نشأ منه النسيان، و هو ترك أولى، و سمّي ذنبا لأنّهم مؤاخذون به، كما ورد أنّ الأنبياء لمؤاخذون بمثاقيل الذّر، و سمّي معصية و غواية تحذيرا للأنبياء، و لطفا لأممهم، و للّه تعالى من تسمية ذلك معصية و غواية ما ليس لغيره، فليس لأحد أن يتجاسر على نسبة العصيان إليه.

و فيه انّ الالتزام بعروض النسيان ممّا ينفيه المذهب، ثمّ التّحفظ على عدمه إن كان واجبا فتركه التزام بالعصيان مضافا إلى النسيان، أولى فلا جدوى للالتزام بالنسيان.

عاشرها: الحمل على النسيان بمعنى أخر لا ينفيه المذهب و يساعده بعض الاخبار على ما يأتي ان شاء اللّه.

و أجيب عن الثّاني أوّلا

بانّ الغواية هي الخيبة على ما صرّح به الجوهري و الجزري يقال: غوى إذا خاب، و أغواه اي خيّبه، فمعنى غوي أنّه خاب عن بغيته، لأنّا نعلم أنّه لو فعل ما أرشده إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحقّ الثّواب العظيم، فإذا خالف الأمر الإرشادي او النّدبي و لم يصر إلى ما أرشده إليه فقد خاب لا محالة من حيث إنّه لم ينل ما طلب و لم يصر الى الثّواب الّذي كان يستحقّ

__________________________________________________

(1) طه: 115.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 402

بالامتناع و استعماله في هذا المعنى حقيقة على ما هو الظّاهر من أئمّة اللّغة قال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما و لذا قيل: إنّ الظاهر من قوله: عصى فغوى انّ الذي دخلته الفاء جزاء على المعصية و انّه كلّ الجزاء المستحقّ بالمعصية إذ الظاهر من قول القائل: سرق فقطع و قذف فجلد ثمانين انّ ذلك جميع الجزاء لا بعضه و كذلك إذا قال القائل من دخل داري فله درهم فانّ معناه انّ الدّرهم جميع جزائه و لا يستحقّ بالدّخول سواه و من لم يفعل الواجب استحقّ الذّم و العقاب و حرمان الثواب و امّا من لم يفعل ما أرشده إليه و ندبه فلا يستحقّ إلّا حرمان الثّواب فقط، و حيث انّ مدخول الفاء تمام الجزاء و قد سمعت انّه الخيبة و عدم نيل المطلوب فلا بدّ أن يكون العصيان بترك الأولى حسبما سمعت «1».

ثانيا: سلّمنا أن يكون المراد بالغيّ هو الضّلال كما صرّح به الجوهري بكونه من معانيه إلّا أنّ الضّلال هو البعد عن المطلوب بارتكاب ما يبعده عنه كما أنّ الرشاد هو

التّوسل بشي ء إلى شي ء و سلوك طريقة موصلة إلى المطلوب، و حيث انّه قد بعد بمخالفة النّهي التنزيهي او الارشادي عن نيل الثواب الّذي هو المقصود جاز اطلاق كونه ضالًّا غاويا عن نيل مقصوده «2».

و عن الثّالث: بانّ الظّلم في أصله موضوع لوضع الشي ء في غير موضعه كما

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 200 عن السيّد المرتضى في جواب المسائل التي وردت عليه من الري.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 200 مع تفاوت في العبارات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 403

نصّ عليه الجوهري و الفيروزآبادي و الفيّومي و غيرهم ممّن صنّف في اللّغة و استشهد عليه في الصّحاح و غيره بقوله تعالى: وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً «1» و قول الشّاعر: و من يشابه أباه فما ظلم.

و بالمثل: من استرعي الذّئب فقد ظلم، و يقال: إنّ أصله انتقاص الحقّ و به فسّر الآية في «القاموس» و عن الجزري انّه قال في حديث ابن زمّل: لزموا الطريق فلم يظلموه، اي لم يعدلوا عنه يقال أخذ في طريق فما ظلم يمينا و شمالا «2».

و بالجملة فمرجع معنى الظّلم لغة و عرفا إلى شي ء من الثلاثة، و من البيّن انّ الوصف به لا يستلزم ما ادّعاه المستدلّ على جميع الوجوه، و ذلك لأنّ مخالفة ما هو الأولى أو المندوب إليه وضع للشي ء في غير موضعه، و موجب لنقص الثّواب، و عدول عن الطّريق المؤدّي له إلى المراد.

و أمّا ما استدلّ به على أنّ الظالم ملعون، ففيه انّ الحكم معلّق على الموضوع المقيّد بالصّدّ عن سبيل اللّه و الكفر بالاخرة، و لذا قال في الأعراف و في هود أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ

اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ «3»، و أين هذا من دلالته على لعن مطلق الظّالمين او خصوص صاحب الكبيرة من المسلمين، بل قيل: إن اللّعن ايضا لا يدلّ على كون المعصية كبيرة، لورود الأخبار بلعن صاحب الصغيرة، بل من ارتكب النّهي التنزيهي ايضا، لأنّ معنى اللّعن هو الطّرد و الابعاد عن الرّحمة، و يحصل البعد عنها بفعل المكروه

__________________________________________________

(1) الكهف: 33.

(2) النهاية لابن الأثير الجزري المتوفى (606) ه ج 3 ص 161 في «ظلم».

(3) هود: 18- 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 404

و ترك المندوب ايضا.

نعم قد يقال: إنّه لما غلب استعماله في المشركين و الكفّار لا يجوز استعماله في صلحاء المؤمنين قطعا و في فسّاقهم اشكال و الأولى التّرك.

و عن الّرابع: واضح بعد ما مرّ من كون النّهي ارشاديّا او تنزيهيّا و دعوى كون مخالفة المنهيّ عنه مطلقا معصية واضح الفساد فضلا عن كونها كبيرة.

و عن الخامس: أنّ التوبة أعمّ من فعل الذّنب بالمعنى الأخصّ، فلا توجب إسقاط العقاب المترتّب على استحقاقه و يشهد له كثير من الأدعية المأثورة عن النّبي و الأئمّة المتضمّنة لاجتهادهم في التوبة و الانابة و الاستغفار.

و عن السادس: أنّ الإخراج من الجنّة لعلّه كان على وجه المصلحة المقتضية لإخراجه منها إذا تناول من الشجرة، على ما أشرنا إليه في الجواب الثّاني عن الوجه الأوّل.

و عن السّابع: انّ المراد بالخسران قلّة الثّواب او الخيبة عن النفع العاجل و ان ترتّب عليه الثواب الجزيل الآجل.

و عن الثّامن: واضح ممّا مرّ.

و عن التاسع: انّ المراد بالنسيان هو الترك كما يشهد به اللغة و يعضده الاخبار و صحيح الاعتبار و لو بمعونة ما دلّ على العصمة

و فيه وجه آخر سنشير إليه في تفسير الآية المتضمّنة للنسيان إنشاء اللّه كما أنّه قد ظهر من جمع ذلك الجواب عن العاشر أيضا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 405

مستطرف من الكلام في طرف من احوال آدم (عليه السلام)

روى العيّاشي في تفسيره عن جابر عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: كان إبليس اوّل من ناح، و أوّل من تغنّى، و اوّل من حدا قال صلّى اللّه عليه و آله: لمّا أكل آدم من الشجرة تغنّى فلما أهبط حدا به، فلما استقرّ على الأرض ناح فأذكره ما في الجنة، فقال آدم: ربّ هذا الّذي جعلت بيني و بينه العداوة لم أقو عليه و انا في الجنة و إن لم تعنّي عليه لم أقو عليه، فقال اللّه تعالى: السّيئة بالسّيئة و الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، قال: ربّ زدني، قال: لا يولد لك ولد إلا جعلت معه ملكا او ملكين يحفظانه، قال: ربّ زدني قال: التوبة مفروضة في الجسد ما دام فيها الروح، قال: زدني قال: أغفر الذّنوب و لا أبالي، قال: حسبي.

قال: فقال إبليس: ربّ هذا الّذي كرّمت عليّ و فضّلته و ان لم تفضّل عليّ لم أقو عليه، قال: لا يولد له ولد إلّا ولد لك ولدان، قال: ربّ زدني قال: تجري منه مجرى الدّم في العروق، قال: ربّ زدني قال: تتّخذ أنت و ذرّيتك في صدورهم مساكن، قال: ربّ زدني قال تعدهم و تمنّيهم و ما يعدهم الشيطان إلّا غرورا «1».

و فيه عن الصّادق عليه السّلام قال: ما بكى أحد بكاء ثلاثة: آدم، و يوسف، و داود فقلت: ما بلغ من بكائهم؟ فقال: أمّا آدم عليه السّلام فبكى حين أخرج من الجنة، و كان رأسه في باب من أبواب السّماء،

فبكى حتّى تأذّى به اهل السّماء فشكوا ذلك إلى اللّه فحطّ من قامته. الخبر «2».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 212 ح 20 عن العياشي.

(2) البحار ج 11 ص 213 ح 21 عن العياشي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 406

و في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: البكّاؤن خمسة: آدم، و يعقوب، و يوسف، و فاطمة بنت محمّد، و عليّ بن الحسين عليهما السّلام فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خديه أمثال الأودية «1».

و في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام قال: كان مع عيسى بن مريم عليهما السّلام حرفان يعمل بهما. و كان مع موسى عليه السّلام أربعة أحرف، و كان مع ابراهيم ستّة أحرف، و كان مع آدم خمسة و عشرون حرفا، و كان مع نوح ثمانية و جمع ذلك كله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إن اسم اللّه ثلاثة و سبعون حرفا «2».

و في معناه أخبار أخر، و روى الصّدوق في خبر طويل يتضمن سؤال ملك الروم عن الحسن بن علي عليهما السّلام و فيه انّه دعى الملك بالأصنام فأوّل صنم عرض عليه في صفة القمر فقال الحسن عليه السّلام فهذه صفة آدم عليه السّلام أبو البشر ثمّ عرض عليه أخر في صفة الشمس فقال الحسن عليه السّلام: هذه صفة حوّاء امّ البشر ثم عرض عليه أخر في صفة حسنة فقال: هذه صفة شيث بن آدم و كان أوّل من بعث و بلغ عمره في الدنيا ألف سنة و أربعين يوما «3». الخبر.

قوله: و كان أوّل من بعث اي من أولاد آدم، او بعد تناسل الذّريّة، او مقيّدا ببلوغ عمره ألف سنة، و ان كان و الأوّل

اظهر.

و في «العلل» عن زرّ بن حبيش، قال: سألت ابن مسعود، عن أيّام البيض ما سببها، و كيف سمعت؟ قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ آدم لمّا عصى ربّه

__________________________________________________

(1) البحار ج 11 ص 204 عن العلل.

(2) بصائر الدرجات ص 65 و عنه البحار ج 11 ص 68.

(3) بحار الأنوار ج 11 ص 261 عن تفسير القمي ص 597.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 407

عزّ و جلّ ناداه مناد من لدن العرش: يا آدم أخرج من جواري فإنّه لا يجاورني أحد عصاني، فبكى و بكت الملائكة، فبعث اللّه عزّ و جلّ اليه جبرئيل فأهبطه الى الأرض مسوّدا، فلمّا رأته الملائكة ضجّت و بكت و انتحبت و قالت: يا ربّ خلقا خلقته، و نفخت فيه من روحك، و أسجدت له ملائكتك بذنب واحد حوّلت بياضه سوادا؟! فنادى مناد من السماء صم لربك اليوم، فصام فوافق يوم الثالث عشر من الشهر فذهب ثلث السواد، ثمّ نودي في يوم الرابع عشر بالصّيام، فصام فذهب ثلثا السواد ثمّ نودي في يوم خمسة عشر بالصّيام فصام و قد ذهب السواد كلّه، فسمّيت ايّام البيض الّذي ردّ اللّه عزّ و جل فيه على آدم من بياضه، ثمّ نادى مناد من السّماء يا آدم هذه الثلاثة الأيّام جعلتها لك و لولدك من صامها في كلّ شهر فإنّما صام الدّهر.

و زاد الحميدي في الحديث: فجلس آدم عليه السّلام جلسة القرفصاء «1»، و رأسه بين ركبته كئيبا حزينا، فبعث اللّه تبارك و تعالى إليه جبرئيل فقال: يا آدم مالي أراك كئيبا حزينا؟ فقال: لا أزال كئيبا حزينا حتّى يأتي أمر اللّه، قال: فانّي رسول اللّه إليك و

هو يقرئك السّلام و يقول: يا آدم حيّاك اللّه و بيّاك، قال امّا حيّاك اللّه فأعرفه، فما بيّاك؟ قال: أضحكك، قال: فسجد آدم فرفع رأسه إلى السّماء و قال: يا ربّ زدني جمالا فأصبح و له لحية سوداء كالحمم، فضرب بيده إليها فقال يا ربّ ما هذه؟ فقال: هذه اللّحية زيّنتك بها أنت و ذكور ولدك إلى يوم القيمة «2».

__________________________________________________

(1) قال الجوهري: القرفصاء: ضرب من القعود، يمدّ و يقصّر و هو أن يجلس على ركبته منكبّا و يلصق بطنه فخذيه و يتأبط كفيه.

في «المنجد»: ترفصه: جمعه و شدّ يديه تحت رجليه.

(2) بحار الأنوار ج 11 ص 171- 172 عن العلل ص 133.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 408

و في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى آدم عليه السّلام إنّي سأجمع لك الخير كلّه في اربع كلمات: واحدة منهنّ لي، و واحدة لك، و واحدة فيما بيني و بينك، و واحدة فيما بينك و بين النّاس، فامّا الّتي لي فتعبدني و لا تشرك بي شيئا، و أمّا الّتي لك فاجازيك بعملك أحوج، ما تكون إليه، و أمّا الّتي بيني و بينك فعليك الدّعاء و عليّ الإجابة، و امّا الّتي فيما بينك و بين الناس فترضى للنّاس ما ترضى لنفسك و تكره لهم ما تكره لنفسك «1».

و في «المحاسن» عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ آدم عليه السّلام شكا إلى جبرئيل عليه السّلام حديث النفس فقال: اكثر من قول لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.

و في «المجالس» و «الأمالي» و «الإكمال» عن الصادق عليه السّلام قال: أنا سيّد النّبيّين و وصيّي سيّد الوصيّين و اوصيائي سادات

الأوصياء، إن آدم عليه السّلام سأل اللّه عزّ و جلّ أن يجعل له وصيّا صالحا فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه انّي أكرمت الأنبياء بالنّبوة ثمّ اخترت خلقي و جعلت خيارهم الأوصياء ثمّ أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه يا آدم أوص إلى شيث فاوصى آدم إلى شيث و هو هبة بن آدم ثمّ ذكر اتّصال الوصيّة منه عليه السّلام إلى نبيّنا و الأئمّة المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين «2».

و في «تفسير العياشي» عن أبي جعفر عليه السّلام بعد ذكر قصّة قابيل قال: فلمّا علم آدم بقتل هابيل جزع عليه جزعا شديدا، و دخله حزن شديد، قال فشكى إلى اللّه ذلك، فأوحى اللّه إليه إني واهب لك ذكرا يكون خلفا لك من هابيل، قال: فولدت

__________________________________________________

(1) الخصال ج 1 ص 116 و عنه البحار ج 11 ص 257.

(2) البحار ج 17 ص 148 و ج 23 ص 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 409

حوّاء غلاما زكيّا مباركا، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه آدم شيث فأوحى اللّه إلى آدم إنّما هذا الغلام هبة منّي لك فسمّه هبة اللّه، قال فسمّاه هبة اللّه، قال فلمّا دنى أجل آدم أوحى اللّه إليه، أن يا آدم انّي متوفّيك و رافع روحك إلىّ يوم كذا و كذا، فأوص الى خير ولدك و هو هبتي الذي وهبته لك فأوص إليه و سلّم إليه ما علّمناك من الأسماء و الاسم الأعظم، فاجعل ذلك في تابوت فانّي احبّ ان لا يخلو أرضي من عالم يعلم علمي و يقضي بحكمي، اجعله حجّة على خلقي.

قال: فجمع آدم عليه السّلام جميع ولده من الرّجال و النّساء، فقال لهم: يا ولدي انّ اللّه اوحى إليّ

انّه رافع إليه روحي، و أمرني أن أوصي إلى خير ولدي، و انّه هبة اللّه و انّه اختاره لي و لكم من بعدي، أسمعوا له و أطيعوا أمره، فانّه وصيّي و خليفتي عليكم فقالوا جميعا: نسمع له و نطيع أمره و لا نخالفه، قال: فأمر بالتابوت فعمل ثمّ جعل فيه علمه و الأسماء و الوصيّة، ثمّ دفعه إلى هبة اللّه، و تقدّم إليه في ذلك و قال له: انظر يا هبة اللّه إذا أنا متّ فاغسلني و كفّني و صلّ عليّ و أدخلني في حفرتي فإذا مضى بعد وفاتي أربعون يوما فاخرج عظامي كلّها من حفرتي بأجمعها جميعا، ثمّ اجعلها في التّابوت و احتفظ به و لا تأمننّ عليه أحدا غيرك فإذا حضرت وفاتك و أحسست بذلك من نفسك فالتمس خير ولدك و ألزمهم لك صحبته و أفضلهم عندك قبل ذلك فأوص اليه بمثل ما أوصيت به إليك، و لا تدعنّ الأرض بغير عالم منّا اهل البيت، يا بنيّ إنّ اللّه تبارك و تعالى أهبطني إلى الأرض و جعلني خليفته فيها حجّة له على خلقه، فقد أوصيت لك بأمر اللّه و جعلتك حجّة اللّه على خلقه في أرضه بعدي فلا تخرج من الدّنيا حتّى تدع للّه حجّة و وصيّا و تسلّم إليه التّابوت و ما فيه، كما سلّمته

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 410

إليك و أعلمه انّه سيكون من ذريتي رجل اسمه نوح يكون في نبوّته الطّوفان و الغرق، فمن ركب في فلكه نجى، و من تخلّف عن فلكه غرق، و أوص وصيّك أن يحفظ بالتّابوت و بما فيه فإذا حضرت وفاته أن يوصي إلى خير ولده، و ألزمهم له و أفضلهم عنده و

يسلّم إليه التّابوت و ما فيه، و ليضع كلّ وصيّ وصيّته في التّابوت و ليوص بذلك بعضهم إلى بعض فمن أدرك نبوّة نوح فليركب معه، و ليحمل التّابوت و جميع ما فيه في فلكه، و لا يتخلّف عنه أحد، و احذر يا هبة اللّه و أنتم يا ولدي الملعون قابيل و ولده، فقد رأيتم ما فعل بأخيكم هابيل، فاحذروه و ولده و لا تناكحوهم و لا تخالطوهم، و كن أنت يا هبة اللّه و إخوتك و أخواتك في أعلا الجبل و اعزله و ولده ودع الملعون قابيل و ولده في أسفل الجبل.

قال: فلما كان اليوم الّذي اخبر اللّه تعالى انّه متوفيه فيه تهيّأ آدم للموت و أذعن به، قال: و هبط عليه ملك الموت فقال آدم: دعني يا ملك الموت حتّى أتشهّد و أثني على ربّي بما صنع عندي من قبل أن تقبض روحي، فقال آدم: اشهد أن لا إله الّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أني عبد اللّه و خليفته في ارضه، ابتداني بإحسانه و خلقني بيده، لم يخلق خلقا بيده سواي، و نفخ فيّ من روحه، ثمّ أجمل صورتي و لم يخلق على خلقي أحدا قبلي ثمّ أسجد لي ملائكته، و علّمني الأسماء كلّها، و لم يعلّمها ملائكته، ثمّ أسكنني جنّته، و لم يكن جعلها دار قرار، و لا منزل استيطان، و انّما خلقني ليسكنني الأرض للذي أراد من التّقدير و التّدبير، و قدّر ذلك كلّه قبل أن يخلقني، فمضيت في قدرته و قضائه و نافذ أمره، ثمّ نهاني أن آكل من الشّجرة فعصيته و أكلت منها، فاقالني عثرتي و صفح لي عن جرمي، فله الحمد على

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 411

جميع نعمه عندي حمدا يكمل به رضاه عنّي.

قال: فقبض ملك الموت روحه صلوات اللّه عليه فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ جبرئيل نزل بكفن آدم و بحنوطه و بالمسحاة معه، قال: و نزل مع جبرئيل سبعون ألف ملك ليحضروا جنازة آدم عليه السّلام قال: فغسّله هبة اللّه و جبرئيل و كفّنه و حنّطه ثم قال: يا هبة اللّه تقدّم فصلّ على أبيك و كبّر عليه خمسا و عشرين تكبيرة، فوضع سرير آدم، ثمّ قدم هبة اللّه و قام جبرئيل عليه السّلام عن يمينه و الملائكة خلفهما، فصلّى عليه و كبّر عليه خمسا و عشرين تكبيرة، و انصرف جبرئيل و الملائكة فحفروا له بالمسحاة ثمّ أدخلوه في حفرته، ثمّ قال جبرئيل يا هبة اللّه هكذا فافعلوا بموتاكم، و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: فقام هبة اللّه في ولد أبيه بطاعة اللّه و بما أوصى أبوه فاعتزل ولد الملعون قابيل، فلما حضرت وفاة هبة اللّه أوصى إلى ابنة قينان، و سلّم إليه التّابوت و ما فيه و عظام آدم، و قال له: ان أنت أدركت نبوّة نوح فاتّبعه و احمل التّابوت معك في فلكه، و لا تخلفنّ عنه فانّ في نبوّته يكون الطوفان و الغرق، فمن ركب في فلكه نجى، و من تخلّف عنه غرق.

قال: فقام قينان بوصيّة هبة اللّه في اخوته و ولد أبيه و أمرهم بطاعة اللّه قال:

فلمّا حضرت قينان الوفاة أوصى إلى مهلائيل و سلّم إليه التّابوت و ما فيه، و الوصيّة، فقام مهلائيل بوصيّة قينان و سار بسيرته فلمّا حضرت مهلائيل الوفاة أوصى إلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 412

ابنه «1»

برد، فسلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة، فتقدّم إليه في نبوّة نوح فلمّا حضرت وفاة برد اوصى به إلى ابنه أخنوخ و هو إدريس، فسلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة، فقام أخنوخ بوصيّة برد، فلمّا قرب اجله أوحى اللّه تعالى إليه إنّي رافعك إلى السّماء و قابض روحك في السّماء فأوص إلى ابنك حرقاسيل بوصيّة أخنوخ، فلمّا حضرته الوفاة اوصى إلى ابنه نوح و سلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة، قال: فلم يزل التّابوت عند نوح حتّى حمله معه في فلكه فلمّا حضرت نوح الوفاة اوصى إلى ابنه سام و سلّم إليه التّابوت و جميع ما فيه و الوصيّة.

قال حبيب السجستاني: ثمّ انقطع حديث ابي جعفر عليه السّلام عندها «2».

و في «القصص» عن الصادق عليه السّلام في خبر طويل إلى أن قال: فلم يلبث آدم عليه السّلام بعد ذلك إلّا يسيرا حتّى مرض و دعا شيئا و قال: يا بني انّ اجلي قد حضر و انا مريض و انّ ربّي قد انزل من سلطانه ما قد ترى، و قد عهد إليّ فيما قد عهد أن أجعلك وصيّي، و خازن ما استودعني، و هذا كتاب الوصيّة تحت رأسي، و فيه أثر العلم و اسم اللّه الأكبر، فإذا أنا متّ فخذ الصّحيفة و إيّاك أن يطّلع عليها احد، و أن تنظر فيها إلى قابل في مثل هذا اليوم الّذي يصير إليك فيه و فيها جميع ما تحتاج إليه في امور دينك و دنياك و كان آدم صلوات اللّه عليه نزل بالصحيفة التي فيها الوصية من الجنة.

ثمّ قال آدم لشيث صلوات اللّه عليهما: يا بنيّ انّي قد اشتهيت ثمرة

من ثمار

__________________________________________________

(1) في المصدر و قصص الأنبياء: يرد بالياء.

(2) تفسير العياشي ج 1 ص 306- 309.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 413

الجنّة فاصعد إلى جبل الحديد فانظر من لقيته من الملائكة فاقرأه منّي السّلام و قل له: إن أبي مريض و هو يستهديكم من ثمار الجنّة، قال: فمضى حتى صعد الى الجبل فإذا هو بجبرئيل في قبائل من الملائكة، فبدأه جبرئيل السّلام ثم قال: إلى أين يا شيث فقال له شيث: و من أنت يا عبد اللّه؟ قال: انا الرّوح الأمين جبرئيل فقال إنّ ابي مريض و قد أرسلني إليكم و هو يقرئكم السّلام و يستهديكم من ثمار الجنة، فقال له جبرئيل عليه السّلام: و على أبيك السّلام يا شيث، اما انّه قد قبض، و انّما نزلت لشأنه فعظّم اللّه على مصيبتك فيه أجرك، و أحسن على العزاء منه صبرك، و آنس منك عظيم وحشتك، ارجع فرجع معهم، و معهم كلّ ما يصلح به آدم صلوات اللّه عليه، قد جاءوا به من الجنّة فلمّا صاروا إلى آدم كان أوّل ما صنع شيث أن أخذ صحيفة الوصيّة من تحت رأس آدم صلوات اللّه عليه فشدّها على بطنه، فقال جبرئيل عليه السّلام: من مثلك يا شيث قد أعطاك اللّه سرور كرامته و ألبسك لباس عافيته فلعمري لقد خصّك اللّه منه بأمر جليل، ثمّ إنّ جبرئيل عليه السّلام و شيثا أخذا في غسله، و أراه جبرئيل كيف يغسله حتّى فرغ، ثمّ أراه كيف يكفّنه و يحنّطه حتّى فرغ ثمّ أراه كيف يحفر له، ثمّ إنّ جبرئيل عليه السّلام أخذ بيد شيث فأقامه للصّلاة عليه كما نقوم اليوم نحن، ثمّ قال كبّر على أبيك سبعين تكبيرة و

علّمه كيف يصنع ثمّ انّ جبرئيل عليه السّلام أمر الملائكة ان يصطفّوا قياما خلف شيث كما يصطفّ اليوم خلف المصلّي على الميّت، فقال شيث: يا جبرئيل و يستقيم هذا لي و أنت بالمكان من اللّه الّذي أنت و معك عظماء الملائكة؟ فقال جبرئيل: يا شيث ألم تعلم أنّ اللّه تعالى لمّا خلق أباك آدم أوقفه بين الملائكة و أمرنا بالسجود له فكان إمامنا ليكون ذلك سنة في ذرّيته، و قد

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 414

قبضه اليوم و أنت وصيّه و وارث علمه، و أنت تقوم مقامه، فكيف نتقدّمك و أنت إمامنا؟ فصلّى بهم عليه كما أمره، ثمّ أراه كيف يدفنه، فلمّا فرغ من دفنه و ذهب جبرئيل و من معه ليصعدوا من حيث جاءوا بكى شيث و نادى: يا وحشتاه فقال له جبرئيل: لا وحشة عليك مع اللّه تعالى يا شيث، بل نحن نازلون عليك بأمر ربّك و هو يونسك فلا تحزن و أحسن ظنّك بربّك فإنّه بك لطيف و عليك شفيق، ثمّ صعد جبرئيل و من معه، و هبط قابيل من الجبل، و كان على الجبل هاربا من أبيه آدم عليه السّلام ايّام حياته لا يقدر أن ينظر إليه فلقي شيثا فقال: يا شيث إنّي إنّما قتلت هابيل أخي لأنّ قربانه قد تقبل و قد خفت أن يصير بالمكان الّذي قد صرت أنت اليوم فيه، و قد صرت بحيث اكره، و ان تكلّمت بشي ء ممّا عهد إليك أبي لأقتلنّك كما قتلت هابيل.

قال زرارة: ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام بيده إلى فمه فامسكه يعلمنا اي هكذا انا ساكت «فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» معشر شيعتنا فتمكنوا عدوّكم من رقابكم فتكونوا عبيدا لهم

بعد إذ أنتم أربابهم و ساداتهم. الخبر «1».

و في خبر آخر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أرسل آدم ابنه إلى جبرئيل فقال: قل له: يقول لك أبي: أطعمني من زيت الزّيتون الّتي في موضع كذا و كذا من الجنّة، فلقاه جبرئيل فقال له إرجع إلى أبيك فقد قبضه اللّه و أمرنا بإجهازه و الصلاة عليه، قال: فلمّا جهّزوه قال جبرئيل: تقدّم يا هبة اللّه فصلّ على أبيك فتقدم و كبّر عليه خمسا و سبعين تكبيرة سبعين تفضيلا لآدم و خمسا للسّنة قال: و آدم عليه السّلام لم يزل

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 11 ص 262- 264.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 415

يعبد اللّه بمكّة حتّى إذا أراد أن يقبضه بعث إليه الملائكة معهم سرير و حنوط و كفن من الجنّة فلمّا رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل بينه و بينهم، فقال لها آدم: خلّي بيني و بين رسل ربّي، فقبض فغسّلوه بالسّدر و الماء ثمّ لحدوا قبره، و قال: هذا سنّة ولده من بعده فكان عمره منذ خلقه اللّه إلى أن قبضه تسعمائة و ستّا و ثلاثين سنة و دفن بمكّة و كان بين آدم و نوح صلوات اللّه عليهما ألف و خمسمائة سنة «1».

و في «كمال الدين» عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن النّبي عليه السّلام قال: عاش آدم ابو البشر تسعمائة و ثلاثين سنة «2».

و عن المسعودي في المروج توفّي يوم الجمعة لستّ خلون من نيسان في الساعة الّتي كان فيها خلقه و كان عمره تسعمائة و ثلاثين سنة «3».

و عن السيّد في سعد السعود نقلا من صحف إدريس عليه السّلام: إنّ مرضه عشرة ايّام بالحمّى، و وفاته يوم الجمعة لإحدى

عشر يوما خلت من المحرّم، و دفنه في غار في جبل أبي قبيس و وجهه إلى الكعبة، و انّ عمره في وقت نفخ فيه الروح إلى وفاته ألف سنة و ثلاثين و ان حوّاء ما بقيت بعده إلّا سنة ثم مرضت خمسة عشر يوما ثم توفّيت و دفنت إلى جنب آدم عليهما السّلام، ثمّ قال و نبأ اللّه شيثا، و أنزل عليه خمسين صحيفة فيها دلائل اللّه و فرائضه و أحكامه و سننه و شرائعه و حدوده، فأقام بمكّة يتلو تلك الصحف على بني آدم و يعلّمها و يعبد اللّه، و يعمر الكعبة فيعتمر في

__________________________________________________

(1) قصص الأنبياء ص 64 ح 44 و عنه البحار ج 11 ص 366 ح 15.

(2) كمال الدين ص 523 ح 3.

(3) مروج الذهب ج 1 ص 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 416

كلّ شهر، و يحجّ في أوان الحجّ حتّى تمّ له تسعمائة سنة و اثني عشر سنة، فمرض فدعا ابنه أيوس «1» فأوصى به اليه و أمره بتقوى اللّه ثمّ توفّي فغسله أيوس ابنه و قينان بن أيوس و مهلائيل بن قينان فتقدّم أيوس فصلّى عليه و دفنوه عن يمين آدم عليه السّلام في غار أبي قبيس «2».

ثمّ قال السيّد رضى اللّه عنه على ما حكى عنه المجلسي طاب ثراه: وجدت في السفر الثالث من التوراة: أنّ حياة آدم كانت تسعمائة و ثلاثين سنة.

و قال محمّد بن خالد البرقي (ره): إنّ عمر آدم كان تسعمائة و ستّا و ثلاثين سنة «3».

و في تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و كان عمر آدم من يوم خلقه اللّه تعالى إلى يوم قبضه تسعمائة و ثلاثين

سنة و دفن بمكّة و نفخ فيه يوم الجمعة بعد الزوال، ثمّ برأ زوجته من أسفل أضلاعه و اسكنه جنّته من يومه ذلك فما استقرّ فيها إلّا ستّ ساعات من يومه ذلك حتّى عصى اللّه تعالى و أخرجهما من الجنّة بعد غروب الشمس و ما بات فيها «4».

و عن ابن الأثير في الكامل قيل: إنّ شيث كان لم يزل مقيما بمكّة يحجّ و يعتمر إلى أن مات و انّه كان قد جمع ما أنزل عليه و على أبيه آدم من الصحف

__________________________________________________

(1) هكذا في النسخ و الصحيح: انوش كما في المصدر.

(2) سعد السعود ص 37- 38.

(3) سعد السعود ص 40 و فيه تسعمائة و ست و ثلاثون.

(4) تفسير القمي ج 1 ص 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 417

و عمل بما فيها و انّه بنى الكعبة بالحجارة و الطّين.

و قيل: إنّه لما مرض أوصى إلى ابنه انوش و مات و دفن مع أبويه بغار أبي قبيس و كان مولده لمضي مائتي سنة و خمس و ثلاثين سنة من عمر آدم و قيل غير ذلك و كانت وفاته و قد أتت له تسعمائة سنة و اثنتا عشر سنة «1».

و في «المعاني» و «الخصال» في خبر أبي ذرّ عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: انّ أربعة من الأنبياء سريانيون آدم، و شيث، و إدريس، و نوح و انّ اللّه تعالى انزل على شيث خمسين صحيفة «2».

و روت العامّة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: انّ آدم كان كتب له ألف سنة فوهب لداود ستّين سنة ثمّ رجع «3».

و رووا عن ابن عباس انّه وهب من الألف أربعين فجحد فأكمل اللّه لآدم

ألف سنة و لداود مائة سنة و سيأتي في تفسير آية المداينة في أخر السورة عن الصادق عليه السّلام: انّه وهبه من عمره ستّين سنة.

و عن أبي جعفر: انّه وهبه ثلاثين سنة و انّه لمّا هبط عليه ملك الموت لقبض روحه قال له آدم يا ملك الموت انّه قد بقي من عمري ثلاثون سنة فقال له ملك الموت: يا آدم الم تجعلها لابنك داود النّبي و طرحتها من عمرك حين عرضت عليك اسماء الأنبياء من ذرّيتك و عرضت عليك أعمارهم و أنت يومئذ بوادي الدّخياء؟

__________________________________________________

(1) الكامل ج 1 ص 54 و عنه البحار ج 11 ص 262.

(2) معاني الاخبار ص 333- و الخصال 524.

(3) البحار ج 11 ص 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 418

قال: فقال آدم: ما اذكر هذا فقال له ملك الموت: يا آدم لا تجحد ا لم تسأل اللّه عزّ و جلّ أن يثبتها لداود و يمحوها من عمرك فأثبتها لداود في الزّبور و محاها من عمرك في الذكر؟ قال آدم: حتّى اعلم ذلك.

قال أبو جعفر عليه السّلام و كان آدم عليه السّلام صادقا لم يذكر و لم يجحد فمن ذلك اليوم أمر اللّه تبارك و تعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا و تعاملوا إلى أجل مسمّى لنسيان آدم و جحوده ما جعل على نفسه «1».

أقول: لكنّه كما ترى بظاهره مخالف لما أجمعت عليه الطّائفة المحقّة على ما مرّت إليه الإشارة من نفي السهو و الإسهاء عن الأنبياء عليهم السّلام و لو في غير ما يتعلّق بالتبليغ و لذا كان الاولى حمله على التقيّة، و الّا فليحمل على ضرب من التّأويل و لعلّ الأوّل أقرب سيّما مع اشتهار

القصّة بين العامّة و روايتهم لها بطرق متعدّدة.

تبصرة: روى الشيخ الجليل جعفر بن محمد بن قولويه في كامل الزيارات بالإسناد عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أوحى إلى نوح و هو في السّفينة أن يطوف بالبيت اسبوعا فطاف بالبيت اسبوعا كما أوحى اللّه تعالى إليه ثمّ نزل في الماء و الماء إلى ركبتيه، فاستخرج تابوتا فيه عظام آدم عليه السّلام فحمل التابوت في جوف السفينة حتّى طاف بالبيت ما شاء اللّه أن يطوف ثمّ ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها ففيها قال اللّه تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ فبلعت مائها من مسجد

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 553 و عنه البحار ج 11 ص 259.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 419

الكوفة كما بدأ الماء من مسجدها و تفرّق الجمع الّذين كانوا مع نوح في السفينة فأخذ نوح التّابوت فدفنه في الغري «1».

و في القصص بالإسناد إلى الصدوق باسناده إلى وهب قال: لمّا حضر آدم الوفاة أوصى إلى شيث و حفر لآدم في غار في أبي قبيس يقال له غار الكنز فلم يزل آدم في ذلك الغار حتّى كان زمن الغرق استخرجه نوح في تابوت و جعله معه في السفينة «2».

و قد مرّ في خبر العيّاشي الطويل المتقدّم انّ آدم عليه السّلام أوصى إلى هبة اللّه عليه السّلام و قال له: أنظر يا هبة اللّه إذا أنا متّ فاغسلني و كفّني و صلّ عليّ و أدخلني في حفرتي فإذا مضى بعد وفاتي أربعون يوما فاخرج عظامي كلّها من حفرتي بأجمعها جميعا ثم اجعلها في التّابوت احتفظ به و لا تأمننّ عليه أحدا غيرك «3». الخبر على ما مرّ.

ثمّ انّه قد يستشكل في

هذه الأخبار فيما ورد عن الصادق عليه السّلام من أنّ اللّه تبارك و تعالى أوصى إلى موسى بن عمران أن اخرج عظام يوسف من مصر و وعده طلوع القمر إلى أن قال عليه السّلام: فاستخرجه من شاطئ النّيل في صندوق مرمر، فلمّا أخرجه طلع القمر فحمله إلى الشّام «4».

من وجوه: أحدها: انّها بظاهرها تدلّ على جواز نقل الموتى بعد الدفن إلى

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات ص 38- 39 و عنه البحار ج 11 ص 268.

(2) قصص الأنبياء ص 72 ح 55.

(3) تفسير العياشي ج 1 ص 306- 309.

(4) البحار ج 13 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 420

المواضع الشريفة أو مطلقا و ظاهر الأصحاب تحريم ذلك حتى قال ابن إدريس: انّه بدعة في شريعة الإسلام سواء كان النقل إلى مشهد او غيره مضافا إلى ظهور اتّفاقهم على حرمة النبش بعد الدفن.

و ثانيها: انّه قد ورد في جملة من الأخبار أن الأنبياء و الأوصياء صلّى اللّه عليه و آله يرفعون بعد الدفن بأبدانهم من الأرض.

ففي «الكافي» و «الفقيه» و «التهذيب» و غيرها عن زياد بن أبي الحلال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من نبيّ او وصيّ «1» نبيّ يبقى في الأرض اكثر من ثلاثة ايّام حتّى يرفع بروحه و لحمه و عظامه «2» إلى السّماء و إنّما يؤتى موضع آثارهم و يبلّغونهم عن بعيد السّلام و يسمعونهم في مواضع آثارهم عن قريب «3».

و في «التهذيب» عن عطيّة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تمكث جثّة نبيّ و لا وصيّ نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوما «4».

الى غير ذلك ممّا يدلّ على انّهم يرفعون بأبدانهم العنصريّة

من الأرض إلى السّماء بعد ثلاثة ايّام أو أربعين يوما او غيرها مع أنّ الظّاهر من الأخبار المتقدّمة بقاؤهم فيها إلى أن نقلوا من مدفنهم إلى غيره بعد سنين عديدة.

ثالثها: انّ ظاهر الاخبار المتقدّمة أنّ الأرض تأكل من أبدانهم و تفرّق بين

__________________________________________________

(1) في نسخة: و لا وصى نبيّ.

(2) في البحار: و عظمه.

(3) بصائر الدرجات ص 445 ح 9.

(4) بحار الأنوار ج 100 ص 130.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 421

لحومهم و عظامهم حيث خصّ النقل فيها بالعظام، بل في خبر العيّاشي إخراج عظامه عليه السّلام بعد أربعين يوما مع أنّه قد روى في أخبار كثيرة انّ لحومهم محرّمة على الأرض و على الدّود.

ففي «الفقيه» عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ حرّم لحومنا على الأرض و حرّم لحومنا على الدود ان تطعم منها سيئا.

و فيه عنه عليه السّلام: أنّ اللّه تبارك و تعالى حرّم لحومنا على الأرض أن تطعم منها شيئا «1».

و الجواب عن الأوّل: أنّه بعد ثبوت جواز النبش و النقل على فرضه لا بدّ من حمل هذه الأخبار على كونها قضايا في وقائع خاصّة فلا يتعدّى الحكم إلى غيرها على أنّ عدم جواز النقل ليس مقطوعا به في كلامهم و ان كان القول به مشهورا عندهم بل هي مسألة خلافيّة، و ربما استدلّ للقول بالجواز بالاخبار المتقدّمة بناء على قضاء الاستصحاب ببقاء الأحكام الثابتة في الشرائع السّابقة و بالأصل السالم عن معارضة الدليل، سيّما مع انتفاع الميت بشرافة الأرض و جوار من شرّفت به، و لعلّ جوازه كان معلوما بين الشيعة في الأعصار المتقدّمة القريبة من عصر الامام عليه السّلام بحيث ربما يظهر منه تقريره

له و رضاه به لذا نقل عن جملة من علمائنا أنّهم دفنوا ثمّ نقلوا كالمفيد من داره بعد مدّة إلى جوار الكاظمين عليهما السّلام، و المرتضى من داره الى جوار الحسين عليه السّلام. و الشيخ البهائي من أصبهان الى المشهد الرضوي

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات ص 443 و عنه البحار ج 22 ص 550.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 422

على مشرفه السّلام، و لذا أفتى كثير من الأصحاب بجواز النبش للنقل إلى تلك المشاهد و غيرها بل عدّ في «كشف الغطاء» ممّا استثناه من حرمة النبش ان يكون ذلك لايصاله الى محل يرجى فوزه بالثواب أو نجاته من العقاب. كالنقل الى المشاهد المشرّفة، بل مقابر مطلق الأولياء و الشهداء و العلماء و الصلحاء، ثم قال:

و ربما كان هذا القسم أولى من غيره فيخرجه كلّا او بعضا عظما أو لحما او مجتمعا و لو لا قيام الإجماع و السيرة على عدم وجوبه لقلنا بالوجوب في بعض المحال بل قد يحكى عنه أنّه قال: لو توقّف نقله على تقطيعه إربا إربا جاز و لا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان النفع له و دفع الضرر عنه كما يصنع مثله في الحيّ و تمام الكلام في الفقه.

و عن الثّاني: انّه و ان كان بين الخبرين منافاة بحسب الظّاهر الّا انّ لأصحابنا في الجمع بينهما طرقا منها: انّهم يرفعون بعد الثلاثة ثمّ يرجعون إلى قبورهم و يؤيّده ما قيل: إنّه ورد في بعض الاخبار: انّ كلّ وصيّ يموت يلحق بنبيّه ثمّ يرجع إلى مكانه.

و هذا الوجه و إن احتمله شيخنا المجلسي إلّا أنّه بعيد جدّا من سياق الأخبار المتقدّمة و غيرها ممّا يدلّ عليه بل مخالف لبعض الأخبار.

مثل ما

رواه في كامل الزيارات عن عبد اللّه بن بكر قال: حججت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام إلى أن قال: يا ابن رسول اللّه لو نبش قبر الحسين بن عليّ هل كان يصاب في قبره شي ء؟ فقال: يا ابن بكر ما أعظم مسائلك إنّ الحسين بن عليّ مع أبيه و أمّه و أخيه في منزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه يرزقون و يحبرون، و انّه لعن يمين العرش

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 423

متعلّق به يقول: يا ربّ أنجز لي ما وعدتني «1»، الخبر.

و منها: أنّ أخبار الرفع صدرت لنوع مصلحة تورية لقطع طمع الخوارج و النّواصب الّذين كانوا يريدون نبش قبورهم و إخراجهم منها و قد عزموا على ذلك مرارا فلم يتيسّر لهم، و ربّما يؤيّد ذلك بما في بعض الأخبار من أنّهم نبشوا قبر الحسين عليه السّلام فوجدوه في قبره و انّهم حفروا في الرصافة قبرا فوجدوا فيها شعيب بن صالح، و هذا الوجه ضعيف جدّا بل هو طرح للأخبار المذكورة من دون شاهد رجما بالغيب مع أنّ اللّه سبحانه قد منع أعدائه من أن ينالوا قبور أوليائه بوجوه من المنع من دون أن يلجئهم إلى مثل هذا الكذب الّذي يسرع ظهوره بالنّبش فإنّ المعاندين قد بالغوا في إمحاء قبورهم و آثارهم و إطفاء أنوارهم فأبى اللّه إلا أن يتمّ نوره و لو كره المشركون.

و منها: ما احتمله شيخنا المجلسي أيضا من حمل أخبار نقل العظام على أنّ المراد نقل الصندوق المتشرف بعظامهم و جسدهم في ثلاثة ايّام او أربعين يوما و هو بعيد جدّا.

و منها: ما احتمله أيضا من ردّهم بعد الّرفع إلى الأرض لترتّب تلك المصلحة

المقتضية للرفع.

و منها ما ذكره المحدّث الفيض أفاض اللّه عليه من رحمته بعد نقل الخبر الدّال على الّرفع حيث قال: حمل هذا الحديث على ظاهره غير مستبعد في عالم

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات ص 230.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 424

القدرة و في خوارق عاداتهم عليهم السّلام، مع أنّه يحتمل أن يكون المراد باللّحم و العظم المرفوعين المثاليّين منهما أعني البرزخيّين، و ذلك لعدم تعلّقهم بهذه الأجساد العنصرية فكانّهم و هم بعد في جلابيب من أبدانهم قد نفضوها و تجرّدوا عنها فضلا عمّا بعد وفاتهم.

و الدّليل على ذلك من الحديث قوله عليه السّلام: إنّ اللّه خلق أرواح شيعتنا ممّا خلق منه أبداننا «1».

فأبدانهم ليس إلّا تلك الأجساد اللّطيفة المثاليّة، و أمّا العنصرية فكأنّها أبدان الأبدان.

و يدلّ على ذلك ما ورد: إنّ اللّه أوحى إلى نوح أن يستخرج من الماء تابوتا فيه عظام آدم عليه السّلام فيدفنه في الغريّ ففعل «2».

و ما ورد: انّ اللّه سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران ان أخرج عظام يوسف ابن يعقوب من مصر فاستخرجها من شاطئ النيل في صندوق مرمر «3».

فلو لا أنّ الأجساد العنصريّة منهم تبقى في الأرض لما كان لاستخراج العظام و نقلها من موضع إلى موضع آخر بعد سنين عديدة معنى.

و اعترضه المحدّث البحراني بأنّه مبنيّ على ثبوت الأجساد المثاليّة في النشأة الدّنيويّة بحيث يكون للرّوح فيها جسدان مثالي و عنصري، و هذا ممّا لم يقم

__________________________________________________

(1) البصائر ص 7 و فيه: و خلق أرواح شيعتنا من أبداننا.

(2) كامل الزيارات ص 38- 39 و عنه البحار ج 11 ص 268.

(3) بحار الأنوار ج 13 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 425

عليه دليل، و

غاية ما يستفاد من الأخبار: انّ المؤمن إذا مات جعل اللّه روحه في النشأة البرزخيّة في قالب كقالبه في الدّنيا بحيث لو رأيته لقلت: فلان ثمّ ينقل إلى وادي السّلام و انّهم يجلسون حلقا حلقا يتحدّثون و يتنعّمون، و ايضا فتصريح الخبر برفع اللحم و العظم لا ينطبق إلّا على الجسد العنصري، لأنّ إثبات ذلك للجسد الثاني لا يخلو عن تمحل و تعسّف لدلالة الخبرين على الرّفع بالأبدان العنصريّة كما يدلّ عليه أيضا.

ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن سعد الإسكاف قال: حدّثني أبو عبد اللّه عليه السّلام قال: انّه لما أصيب أمير المؤمنين عليه السّلام قال للحسن و الحسين عليهما السّلام: غسّلاني و كفّناني و حنّطاني و احملاني على سرير و احملا مؤخّره تكفيان مقدّمه، فإنكما تنتهيان إلى قبر محفور و لحد ملحود و لبن موضوع فالحداني، و اشرجا اللبن عليّ و ارفعا لبنة ممّا يلي رأسي فانظرا ما تسمعان، فأخذ اللّبنة من عند رأسه فإذا ليس في القبر شي ء، و إذا هاتف يهتف:

أمير المؤمنين كان عبدا صالحا للّه فألحقه اللّه بنبيّه، و كذلك يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء حتّى لو أنّ نبيّا مات في المشرق و مات وصيّه في المغرب لألحق الوصيّ بالنبيّ «1».

أقول: و فيه انّ الأجسام المثاليّة في هذا العالم ممّا لا مساغ لأحد إلى إنكارها بعد ما دلّت الآيات الآفاقيّة و الأنفسية على ثبوتها فانّ النّائم يرى فيما يراه انّه قد

__________________________________________________

(1) فرحة الغري ص 2 و ص 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 426

ضرب في الأرض و دخل البلاد و تكلّم مع كثير من الأشخاص و شاهدهم و سمع منهم مع أنّ بدنه العنصري متدثّر بدثار النوم في بيته، و ربما

يكون كثيرا ممّا رآه موافقا لما في الواقع إمّا تطبيقا او تأويلا و تحويلا، بل ربما يرى الأشخاص الكثيرة من الأحياء و الأموات، و يتكلّم معهم و يستفيد ممّا عندهم مع أن الأبدان العنصريّة لتلك الأشخاص غير مشاهد له قطعا و لعلّها صارت عظاما و رفاتا، و هو يراهم في صورة الأحياء الّذين يشافههم و يناظرهم، و حمل الّرؤيا على مجرّد الخيال من خيالات الفلاسفة، إذ الظّاهر من الشرع و اهله كونها بالأبدان المثاليّة للرّائي و المرئي على ما تأتي إليه الإشارة.

بل ربما يدلّ عليه النبوي المستفيض من طريق الفريقين: من رآني فقد رآني فانّ الشيطان لا يتشبّه بي.

و في خبر آخر: لا يتمثّل بي. و في ثالث: من رآني في النّوم فقد رآني فانّه لا ينبغي للشيطان أن يتمثّل في صورتي.

و في رابع: من رآني فقد رأى الحقّ فإنّ الشيطان لا يتراءى بي.

و في خامس: رواه الرضا عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله: من رآني في منامه فقد رآني لأنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي و لا في صورة أحد من اوصيائي و لا في صورة احد من شيعتهم «1».

فانّ الظّاهر منه باختلاف ألفاظه انّها إنّما تكون بالتمثل و التشبّه و معناه تعلّق

__________________________________________________

(1) امالي الصدوق ص 64 و عنه البحار ج 49 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 427

الرؤيا حال الرّؤيا بالصورة و المثال من جهة المرئي.

و أما كونه من جهة الرّائي من جهة المثال فواضح، هذا مضافا إلى الشّواهد الكثيرة الدّالّة على ثبوتها من الأخبار و الاعتبار على ما نشير إليها في تفسير الآيات المتعلّقة بأحوال البرزخ و المعاد و لذا يعزى القول بها إلى كثير من المسلمين.

قال

شيخنا المجلسي (رحمه اللّه) في جملة كلام له: انّ الرّوح يتعلّق في البرزخ بالأجساد المثاليّة اللطيفة الشبيهة بأجسام الجنّ و الملائكة المضاهية في الصّورة للأبدان الأصليّة ثمّ قال: إنّه و إن كان يمكن تصحيح بعض الأخبار بالقول بتجسّم الروح ايضا بدون الأجسام المثالية، لكن مع ورود الأجساد المثالية في الأخبار المعتبرة المؤيّدة بالأخبار المستفيضة لا محيص عن القول بها إلى أن قال:

و قد قال به كثير من المسلمين كشيخنا المفيد قدّس اللّه روحه و غيره من علمائنا المتكلّمين و المحدّثين، بل لا يبعد القول بتعلّق الرّوح بالأجساد المثاليّة عند النّوم ايضا كما يشهد به ما يرى في المنام، و قد وقع في الاخبار تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرّؤيا و ما يشاهد فيها، بل يمكن أن يكون للنفوس القويّة العالية أجساد مثاليّة كثيرة كأئمّتنا صلوات اللّه عليهم حتّى لا نحتاج إلى بعض التأويلات و التّوجيهات في حضورهم عند كلّ ميّت و سائر غرائب أحوالهم من عروجهم إلى السموات كلّ ليلة جمعة و غير ذلك «1».

ثمّ انّ من جميع ذلك و غيره يظهر لك ضعف ما ذكره المحدّث المذكور في

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 6 ص 269.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 428

جملة كلام له لم نتعرّض لحكايته: من أنّا لم نقف في الأخبار على ما يدلّ على ثبوت الأجساد المثاليّة للأنبياء و الأئمّة صلوات اللّه عليهم بعد الموت فضلا عمّا ادّعاه المحدّث الفيض من الوجود في الدنيا.

إذ فيه أنّ الأخبار على ذلك كثيرة جدّا مثل ما ورد من أنّ الملائكة اشتاقت إلى رؤية عليّ بن ابي طالب فخلق اللّه تعالى صورته في السموات.

و انّ لكلّ مؤمن مثالا في السّماء يفعل كفعله

في الدّنيا، على ما مرّت الإشارة إليها و إلى غيرها فيما تقدم.

و امّا ما ذكره الفيض من رفع المثالي و بقاء العنصري فهو بعيد جدّا، بل لعلّه مقطوع العدم عن مساق أخبار الباب بكثرتها و اشتهارها بين العصابة، مع أنّ جميع المؤمنين مشتركون معهم في نقل أبدانهم المثاليّة عن قبورهم إلى جنان البرزخ، فلا اختصاص لهم بذلك، مع أنّ ظاهر الأخبار هو الإختصاص، و لذا قال المفيد في شرح العقائد: إنّه قد جاء في الحديث: انّ الأنبياء خاصّة و الأئمّة عليهم السّلام من بعدهم ينقلون بأجسادهم و أرواحهم من الأرض إلى السّماء فينعّمون في أجسادهم الّتي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا، و هذا خاصّ بحجج اللّه دون من سواهم من النّاس.

فرفع أبدانهم العنصريّة ممّا لا ريب فيه، نعم من المحتمل قريبا أن يبقى في قبورهم بعد رفعهم بدن من أبدانهم المثاليّة لما يقصدونهم النّاس، و هو الّذي يرى في قبورهم عند النّبش أزمنة طويلة، و إنّما جعل اللّه هذا المثال لبركات العباد و توجّهاتهم و ضراعاتهم كما جعل في ايّام حياتهم و بقائهم بأبدانهم العنصريّة في الدّنيا مثالهم في السموات ليكون مثابة و أمنا و مطافا للملائكة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 429

و منها: ما ذكره المحدّث البحراني بعد تمهيد مقدّمة هي: أنّ المستفاد من جملة من الأخبار انّ دفن الميّت إنّما يقع في موقع تربته الّتي خلق منها كما في «الكافي» في الصّحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: من خلق من تربة دفن فيها «1».

و فيه عن الصّادق عليه السّلام: إنّ النّطفة إذا وقعت في الرّحم بعث اللّه ملكا فأخذ من التّربة الّتي يدفن فيها فمائها في النّطفة فلا

يزال قلبه يحنّ إليها حتّى يدفن فيها.

الى غير ذلك من الأخبار الدّالة عليه و حينئذ فنقول: ما ورد من الأخبار دالّا على رفعهم عليهم السّلام من الأرض بالأبدان العنصريّة يجب تقييده بما دلّت عليه هذه الاخبار من الدّفن في الموضع الاصلي و المقرّ الحقيقي الّذي أخذت منه الطينة و يجب حمل خبري عظام آدم و يوسف عليهما السّلام على الدّفن في غير الموضع المشار اليه فكانّه إنّما وقع على وجه الإيداع في هذا المكان لمصلحة لا نعلمها و المقرّ الحقيقي إنّما هو الموضع الّذي أمر اللّه سبحانه بالنقل اليه و بعد فيصير الدّفن في ذلك الموضع من قبيل ما لو بقي على وجه الأرض من غير دفن في وجوب بقاء الجسد العنصري و إن جاز انتقال كلّ منهما عليهما السّلام إلى بدن مثالي في ذلك العالم لعدم إمكان نقل البدن العنصري حيث إنّه مأمور بنقله إلى ذلك المكان الأخر بعد الإيداع في هذا المكان مدّة، فمن أجل ذلك لم يرفعا به، و أمّا وجه الحكم في الدّفن أوّلا في مكان مع عدم كون المكان الأصلي و التربة الحقيقيّة، فلا يجب علينا أن نطلب وجهه، و إنما علينا

__________________________________________________

(1) الكافي: ج 3 ص 202 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 430

الإيمان به.

قال: و هذا وجه وجيه تلتئم عليه الأخبار من غير تأويل و لا خروج عن ظواهر ألفاظها.

و أمّا الجمع بين خبري الثلاثة و الأربعين فيمكن حمل الأوّل على اقل المدّة، و الثاني على أكثرها، و لعلّ ذلك بتفاوت مراتبهم عنده سبحانه.

أقول: و هذا الوجه لا بأس به، و ان كان فيه خروج عن ظاهر لفظ الخبر، و غيره من الأخبار الدالّة على دفن آدم،

و انّه لا يمكث جثّة من نبيّ و لا وصيّ نبيّ في الأرض اكثر من كذا و كذا.

و منه يظهر ضعف ما ادّعاه من قيام الأخبار عليه من غير تأويل و لا خروج عن ظواهرها.

و عن الثّالث: أنّ المراد بالعظام في الخبرين تمام البدن باجزائه تسمية للكلّ باسم الجزء الّذي به قوامه كاطلاق الرّقبة على الإنسان فإنّ العظام دعامة البدن و أشرف ما فيه من وجه حتّى أنّ جميعها يقوم مقام الجسد في الاحكام من وجوب الصّلوة على جميع عظام الميّت إذا وجدت و كون الإطلاق مجازيّا لا بأس به بعد دلالة الأخبار المستفيضة على أنّ الأرض لا تأخذ من جسدهم بل و لا من جسد شيعتهم بل هو المشاهد أيضا في كثير من الأزمنة حيث نبشوا قبور بعض المؤمنين فوجدوه غضّا طريّا بعد أن مضى من وفاتهم أعصار طويلة فمن ذلك ما يحكى عن روضة العارفين نقلا عن بعض الثقات المعاصرين له انّ بعض حكّام بغداد رأى بناء قبر شيخنا أبي جعفر الكليني عطّر اللّه مرقده فسأل عنه فقيل: إنّه قبر بعض الشيعة

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 431

فأمر بهدمه فحفر القبر فرآه بكفنه لم يتغيّر و مدفون معه أخر صغير بكفنه ايضا فأمر بدفنه و بنى عليه قبّة، و يقال: إنّ بعض حكّام بغداد أراد نبش قبر سيّدنا ابي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام و قال: إنّ الرافضة يدّعون في أئمّتهم انّهم لا تبلى أجسادهم بعد موتهم و أريد أن أكذّبهم فقال له وزيره: إنّهم يدّعون في علمائهم ايضا ما يدّعونه في أئمتهم و هنا قبر محمد بن يعقوب الكليني من علمائهم فأمر بحفره فإن كان على ما يدّعونه عرفنا صدق مقالهم

في أئمّتهم و إلّا تبيّن كذبهم، فلما حفروا قبره وجدوه بكفنه كما مرّ، بل قد وقع مرّات كثيرة بالنّسبة إلى الشهداء و العلماء و سائر المؤمنين و قد اتّفق في عصرنا أن انهدم قبر الشيخ الصّدوق محمد بن عليّ بن بابويه بالري فرأوه بكفنه لم يتغيّر أصلا، و رآه خلق كثير من أهل طهران و من الزّوار و القوافل إلى أن أمر السلطان محمّد شاه غفر اللّه له بتعمير قبّته على ما هو عليه الآن، و قد حدّثني جمع كثير من الثقات أنّهم رأوا بدنه الشريف.

و أمّا ما يقال: من أنّ هذا كلّه معارض بما روي من انّه كان رجل ذميّ في زمن الامام العسكري عليه السّلام و انّه كان يمدّ يده إلى السّماء فيقع المطر حتّى اضطرب بعض المسلمين فأرسل المتوكّل لعنه اللّه إلى العسكري عليه السّلام ان أدرك دين جدّك فلمّا حضر عليه السّلام قال للرّجل أدع فلمّا مدّ يده قبض عليها الامام عليه السّلام و أخذ منها عظما فقال له أدع ان كنت صادقا فلمّا دعا لم ينزل المطر، فقال عليه السّلام: إنّ هذا عظم نبيّ من أنبياء اللّه و ما كشف عظم نبيّ تحت السّماء إلّا وقع المطر «1».

__________________________________________________

(1) منقول المعنى و مصدره مناقب إلى أبي طالب ج 4 ص 425 و مختار الخرائج ص 214 و عنهما البحار ج 50 ص 270 ح 37 و أخرجه في كشف الغمّة ج 3 ص 311.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 432

ففيه انّه غير صالح لمعارضة ما سمعت من الأخبار المشتملة على الصّحاح و غيرها بعد شهرتها بين الطائفة بل بين مخالفينا ايضا كما مرّ مضافا إلى شهادة العيان بصدقها سيّما مع

ضعف الخبر المذكور سندا.

و ربما أجاب عنه الشيخ الأمجد الاحسائي مرّة بأنه يحتمل أن يكون ذلك الخبيث قطعه من جسد ذلك النّبي عليه السّلام و كشط ما به من اللّحم، و اخرى بأن يكون معنى قوله في تلك الاخبار ان جسده لا يبلى و لا تأكله الأرض أي لا تفني منه شيئا و ان تفكّك و اختلّت بنيّته فهذه باقية إذ لا عرض فيها لأنّه عليه السّلام صفاها في الدّنيا كمال التّصفية فجسده كالذّهب الصّافي و ان تفرّق بالتقطيع و المبرد لا يفنى منه شي ء بل إذا جمعته و أذبته رجع بكماله.

أقول و فيهما نظر امّا الأوّل فلانّ جسد نبيّ من الأنبياء لم يبق في الأرض في زمان العسكري حتّى يقطعه الخبيث و يكشط ما به اللّحم إلّا أن يبنى على شي ء من الوجوه المتقدّمة من تأخير الرّفع او تعقيبه بالنزول او غيرهما و هو غير واضح.

و امّا الثّاني: فلأنّه لا وجه لصرف تلك الأخبار عن ظاهرها و ارتكاب التّأويل فيها و مجرّد صفاء أبدانهم من الكدورات و العوارض الدّنيويّة لا يقضي بارتكاب التّأويل فيها بل هو ممّا يقتضي حملها على ظواهرها فانّ التفكيك و اختلال البنية لا يمكن تطرقه إلى شي ء من الأبدان إلّا باستيلاء المؤثرات الخارجة عليها و انفعال تلك الأبدان منها و المؤثّر الخارجي في المقام إنّما هي الأرض الّتي تبلي الأبدان و تعيدها رفاتا و فتاتا، و بالجملة فلا وجه لردّ تلك الاخبار، بل في ردّها ردّ أخبار الرّفع ايضا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 433

تفسير الآية (40)

اشارة

يا بَنِي كلمة «يا» حرف نداء للبعيد. أو كالبعيد كما قال ابن مالك «1» في ألفيته:

و للمنادى الناء أو كالناء يا و أي و

أ، كذا أيا ثمّ هيا و زعم بعضهم أنّ «يا» اسم فعل معناها انادي، و لكنّ الفخر الرازي «2» ردّ عليه و قال:

أمّا الّذين فسّروا قولنا: «يا زيد» بأنادي زيدا، أو أخاطب زيدا فهو خطأ من وجوه:

أحدها: أنّ قولنا: أنادي زيدا خبر يحتمل التصديق و التكذيب، و قولنا: يا زيد لا يحتملهما.

و ثانيها: أنّ قولنا: يا زيد يقتضي صيرورة زيد منادى في الحال، و قولنا: أنادي زيدا لا يقتضي تلك.

و ثالثها: أنّ قولنا: يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا بهذا الخطاب، و قولنا:

أنادي زيدا لا يقتضي ذلك. لأنّه يمتنع أن يخبر إنسانا آخر بأنّي أنادي زيدا.

و رابعها: أنّ قولنا: أنادي زيدا إخبار عن النداء، و الإخبار عن النداء غير النداء، و النداء هو قولنا يا زيد، فإذن قولنا أنادي زيدا غير قولنا يا زيد. «3» و ليعلم أنّ «يا» كما تقدّم حرف وضع في أصله لنداء البعيد و لكن قد يستعمل في مناداة من سهى و غفل و إن كان قريبا من المنادي، تنزيلا منزلة البعيد.

__________________________________________________

(1) هو محمد بن عبد اللّه الاندلسيّ الشافعيّ النحوي اللغوي المقرئ الأديب المتوفى سنة (672) ه.

(2) هو محمد بن عمر بن الحسين الطبري الأصل الرازي المولد الاشعري الأصول الشافعي الفروع المعروف بالفخر الرازي و الملقب بابن الخطيب توفي سنة (606) ه

(3) التفسير الكبير للرازي: ج 2 ص 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 434

فإن قيل: فلما ذا يقول الداعي: يا ربّ يا اللّه؟ مع أنّه تعالى أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قيل في الجواب: هو استبعاد لنفس الداعي من مظانّ الزلفى هضما لنفسه، و إقرارا عليها بالتنصيص كما عن زين العابدين و سيّد الساجدين عليه صلوات اللّه

في دعائه المشهور المروية عن أبي حمزة الثمالي «1» أنه قال مناجيا لربّه سبحانه: «و أن الراحل إليك قريب المسافة و انّك لا تحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال دونك.

و قيل بالفارسية:

دوست نزديك تر أز من به من است اين عجب تر كه من أز وي دورم چكنم با كه توان گفت كه دوست در كنار من و من مهجورم بَنِي منادى مضاف، و علامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم و قد تغيّر بناء مفردة، و حذفت منه النون للإضافة. و واحده ابن شبيه بجمع التكسير، و لذلك قالوا في جمعه: أبناء، و في جمع سلامته قالوا: بنون، و هو جمع شاذّ، و عاملت العرب في هذا الجمع معاملة جمع التكسير فألحقت التاء في فعله كما ألحقت في فعل جمع التكسير قال النابغة «2»:

__________________________________________________

(1) هو ثابت بن دينار المعروف بأبي حمزة الثمالي، كان لقمان زمانه جليل القدر و كان من مشايخ أهل الكوفة و زهّادهم توفي سنة (150) ه

(2) هو قيس بن عبد اللّه الجعدي العامري، صحابي من المعمّرين، جاوز المائة، و كان ممّن هجر الأوثان قبل ظهور الإسلام و وفد على النبي صلّى اللّه عليه و آله فأسلم و أدرك صفّين فشهدها مع علي عليه السّلام، ثم سكن الكوفة، فسيّره معاوية الى أصبهان مع أحد ولاتها فمات فيها نحو سنة (50) ه الأعلام ج 6 ص 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 435

قالت بنو عامر خالو بني أسد يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام قد سمع الجمع بالواو و النون فيه مصغّرا، قال يسدد:

أبينوها الأصاغر خلّتي ... و هو شاذّ أيضا. «1» و هو مختص بالأولاد الذكور، و

إذا أضيف عمّ في العرف الذكور و الإناث فيكون بمعنى الأولاد- و هو المراد هنا-.

و هو محذوف اللام، و في كونها ياء أو واوا خلاف فذهب الى الأول ابن درستويه «2» و جعله مشتقا من البناء و هو وضع الشي ء على الشي ء، لأنّ الابن فرع الأب و مبني عليه، و لهذا ينسب المصنوع الى صانعه، فيقال للقصيدة بنت الفكر، و قد أطلق في الشرائع المنسوخة على بعض المخلوقين أبناء اللّه تعالى- بهذا المعنى، لكن لمّا تصوّر من هذا الجهلة الأغبياء- معنى الولادة- حظر ذلك حتّى صار التفوّه به كفرا.

و ذهب الى الثاني الأخفش و أيّده بأنّهم قالوا: البنوّة، و بأنّ حذف الواو أكثر، و قد حذفت في- أب و أخ- و به قال الجوهري «3»، و لكن لا دلالة في قولهم: البنوّة، لأنهم قالوا أيضا: الفتوة، و لا خلاف في أنها من ذوات الياء، و أمر الأكثرية سهل.

و قال الطبرسي في «مجمع البيان»: الإبن و الولد و النسل و الذريّة متقاربة المعاني إلّا أنّ الابن للذكر، و الولد يقع على الأنثى و الذكر، و النسل و الذريّة يقع على جميع ذلك و أصله من البناء و هو وضع الشي ء على الشي ء. فالابن مبنيّ على الأب لأن الأب أصل و الابن فرع، و البنوّة مصدر الابن و ان كان من الياء كالفتوة مصدر

__________________________________________________

(1) تفسير البحر المحيط: ج 1 ص 171.

(2) هو عبد اللّه بن جعفر بن درستويه الفارسي النحوي أبو محمد توفي ببغداد سنة (347) ه و له (89) سنة، العبر: ج 2 ص 282.

(3) الجوهري: أبو نصر إسماعيل بن حمّاد الفارابي صاحب «صحاح اللغة» توفي سنة (393) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5،

ص: 436

الفتى، و تثنيته فتيان. «1» إِسْرائِيلَ مضاف إليه مجرور و علامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.

و فيه ثمان لغات: إِسْرائِيلَ و هي لغة القرآن في «43» آية أولاها هذه الآية، و هي القراءة المشهورة مهموز ممدود مشبع، و «إسراييل» بيائين بعد الألف، و هي قراءة أبي جعفر «2»، و الأعمش «3»، و عيسى بن عمر «4» و «إسرائل» بهمزة و لام، و هو مرويّ عن ورش «5» و عن الأخفش، و «إسرال» من غير همز و لا ياء حكى عن قطرب «6» كما في «مجمع البيان» «7».

و «إسرئل» بهمزة مكسورة بعد الراء، و «إسرائل» بهمزة مفتوحة بعد الراء

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 92.

(2) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي المدني أحد القرّاء العشرة، تابعي مشهور، مات بالمدينة سنة (130) ه، غاية النهاية: ج 2 ص 382 رقم 3882.

(3) هو سليمان بن مهران الأعمش أبو محمد الاسدي الكوفي ولد سنة (60) و أخذ القراءة عن جماعة منهم عاصم بن أبي النجود و رواها عنه جماعة منهم حمزة الزيّات توفي سنة (148) ه، غاية النهاية: ج 1 ص 315.

(4) هو عيسى بن عمر أبو عمر الهمداني الكوفي القارئ الأعمى. مقرئ الكوفة بعد حمزة الزيات، مات سنة (156) ه، غاية النهاية ج 1 ص 612.

(5) هو عثمان بن سعيد بن عبد اللّه بن عمر المصري الملقب بورش شيخ القرّاء في زمانه ولد سنة (110) بمصر و رحل الى نافع و عرض عليه القران عدّة ختمات في سنة (155) مات بمصر سنة (197) ه، غاية النهاية: ج 1 ص 502.

(6) قطرب: أبو علي

محمد بن المستنير البصري اللغوي النحوي الأديب البارع مات سنة (206) ه، هدية الأحباب: ص 220.

(7) مجمع البيان: ج 1 ص 92.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 437

كما في تفسير القرطبي «1»، و «إسرائين» بالنون حكى عن تميم كما في جامع القرطبي قال الشاعر:

يقول أهل السوء لمّا جنيا هذا و ربّ البيت اسرائينا و «إسرال» بألف ممالة بعدها لام خفيفة أو غير ممالة، قال أميّة:

لا أرى من يعيشني في حياتي غير نفسي إلّا بني إسرالا «2»

إسرائيل في اللغة

هذه الكلمة مركبة من كلمتين: إسرا، و إيل، و «إسرا» في اللغة العبرانيّة بمعنى العبد كما حكي عن ابن عبّاس، و «ايل» في هذه اللغة هو اللّه سبحانه فمعنى إسرائيل: عبد اللّه، فيكون مثل جبرائيل، و ميكائيل، و اسرافيل، و عزرائيل.

و قيل: «إسرا» بمعنى الصفوة، و «إيل» هو اللّه تعالى. فمعناه: صفوة اللّه، روى ذلك أيضا عن ابن عباس.

و قيل: «إسرا» مشتق من الأسر، و هو الشدّ فكأن إسرائيل الّذي شدّه اللّه و أتقن خلقه ذكره القرطبي و أبو حيّان «3».

__________________________________________________

(1) القرطبي: أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الانصاري الخزرجي الأندلسي المفسّر توفي في التاسع من شوال سنة (671) ه.

(2) البحر المحيط في التفسير لأبي حيان الأندلسي: ج 1 ص 171- 172.

(3) أبو حيان محمد بن يوسف بن علي الاندلسي الجيّاني النحوي الأديب توفي سنة (745) ه و من مصنّفاته: البحر المحيط في التفسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 438

و قيل: أسرى يعقوب ذات ليلة مهاجرا الى اللّه تعالى فسمّي إسرائيل حكاه القرطبي عن السهيلي «1».

و قيل: أسرّ يعقوب جنّيا كان يطفئ سرج بيت المقدس و كان اسم الجنّي «ايل» و كان

يخدم بيت المقدس و كان أوّل من يدخل و أخر من يخرج، ذكره أبو حيّان عن كعب «2».

و قيل: أسرى بالليل هاربا من أخيه «عيمو» الى خاله في حكاية طويلة ذكروها، فأطلق ذلك عليه و هذه أقاويل ضعاف «3». و فيها تصرّفات لا يعتمد عليها.

«إسرائيل» هو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم السّلام.

قال القرطبي: قال ابو الفرج الجوزي «4»: ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلّا نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ له أسماء كثيرة، ذكره في كتاب «فهوم الآثار».

قلت: و قد قيل في المسيح: إنّه اسم علم لعيسى عليه السّلام غير مشتق، و قد سمّاه اللّه روحا و كلمة، و كانوا يسمّونه أبيل الأبيلين، ذكره الجوهري في «الصحاح».

__________________________________________________

(1) السهيلي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد اللّه بن احمد الاندلسي النحوي اللغوي المفسّر توفي سنة (681) ه بمراكش.

(2) كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق، تابعي، كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، و أسلم في زمن أبي بكر، و قدم المدينة في دولة عمر، فأخذوا عنه كثيرا من أخبار الأمم الغابرة. خرج الى الشام فسكن حمص و مات فيها سنة (32) ه عن (104) سنين، و في البحار ج 57 ص 90: كان عند عمر فاعترف بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أعلم الناس بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله فغضب عمر، و قال ابن أبي الحديد كما في البحار ج 34 ص 289: كان كعب الأحبار منحرفا عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

(3) تفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 171.

(4) أبو الفرج عبد الرحمن علي الحنبلي المفسّر الواعظ صاحب تصانيف

معروفة، توفي سنة (597) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 439

و ذكر البيهقي «1» في دلائل النبوة عن الخليل بن أحمد «2»: خمسة من الأنبياء ذو اسمين: محمد و أحمد نبينا صلّى اللّه عليه و آله، و عيسى و المسيح، و إسرائيل و يعقوب، و يونس و ذو النون، و إلياس و ذو الكفل صلى اللّه عليهم و سلم. «3» و في «عيون الأخبار» باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام حديث طويل و فيه:

سأله عن ستّة من الأنبياء لهم اسمان؟ فقال عليه السّلام: يوشع بن نون، و هو ذو الكفل، و يعقوب و هو إسرائيل، و الخضر و هو حلقيا، و يونس و هو ذو النون، و عيسى و هو المسيح، و محمد و أحمد صلّى اللّه عليه و آله. «4» يا بَنِي إِسْرائِيلَ اتّفق المفسّرون على أنّ إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم، و في أحاديث أهل البيت عليهم السّلام تصريح بذلك، منها ما رواه ابن بابويه رضى اللّه عنه «5» في «علل الشرائع» باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان يعقوب و عيص توأمين، فولد عيص، ثم ولد يعقوب فسمّي يعقوب لأنه خرج بعقب أخيه عيص، و يعقوب هو إسرائيل، و معنى إسرائيل عبد اللّه، لأنّ اسرا هو عبد، و إيل هو اللّه عزّ و جلّ «6»

__________________________________________________

(1) خليل بن أحمد الازدي البصري صاحب العربية و العروض و صاحب كتاب العين في اللغة توفي سنة (175) ه على أحد الأقوال، العبر ج 1 ص 268.

(2) البيهقي: أحمد بن الحسين بن علي الشافعي الخسروجردي الحافظ الفقيه، توفي بنيسابور سنة 458) ه.

(3) تفسير القرطبي: ج 1 ص 330.

(4) عيون

الأخبار: ج 1 ص 245 ب 24 ح 1.

(5) هو ابو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي شيخ الحفظة و وجه الطائفة رئيس المحدثين و الصدوق فيما يرويه عن الأئمة الطاهرين عليهم السّلام توفي سنة (381) ه و دفن بالري قرب عبد العظيم الحسني قدس اللّه روحه، هدية الأحباب: ص 49.

(6) علل الشرائع: ج 1 ص 43 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 440

و روي في خبر آخر: أن اسرا هو القوّة، و إيل هو اللّه عزّ و جلّ فمعنى إسرائيل: قوّة اللّه عزّ و جلّ. «1» يا بني إسرائيل خطاب لأولاد يعقوب نسبهم الى الأب الأعلى و لم يقل: يا بني يعقوب، لما في لفظ إسرائيل كما تقدم أنّ معناه عبد اللّه أو قوة اللّه أو صفوة اللّه فهزّهم بالإضافة إليه فكأنه قيل: يا بني عبد اللّه أو يا بني صفوة اللّه، فكأن في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في العبودية للّه و الاصطفاء، كما تقول: يا ابن الرجل الصالح أطع اللّه فتضيفه الى ما يحركه لطاعة اللّه، لأنّ الإنسان يحبّ أن يقتفي أثار آباءه و إن لم يكن بذلك محمودا فكيف إذا كان محمودا.

قال شيخ الطائفة «2» في «التبيان»: قال أكثر المفسرين: إن المعنى بهذا الخطاب أحبار اليهود الّذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو المحكي عن ابن عباس.

و قال الجبائي «3»: المعنيّ به بنو إسرائيل من اليهود و النصارى و نسبهم الى الأب الأعلى، كما قال: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «4». «5» قال أبو حيان: المراد بقوله: «يا بني إسرائيل» من كان بحضرة رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله

__________________________________________________

(1) علل الشرائع: ج 1 ص 43 ح 2.

(2) هو ابو جعفر الطوسي محمد بن الحسن شيخ الطائفة المحقة توفي في 22 محرم سنة (460) ه قال صاحب تحفة المقال السيد حسين البروجردي صاحب تفسير الصراط المستقيم هذا الكتاب في منظومته:

محمد بن الحسن الطوسي أبو جعفر الشيخ الجليل الأنجب

جل الكمالات اليه ينتسب تنجّز القبض (460) و عمره (75) عجب

(3) هو أبو علي الجبّائي محمد بن عبد الوهاب البصري شيخ المعتزلة، و ابو شيخ المعتزلة أبي هاشم، توفي سنة (303) ه، العبر ج 2 ص 131.

(4) الأعراف: 31.

(5) التبيان: ج 1 ص 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 441

بالمدينة و ما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود و آمن بالنبي صلّى اللّه عليه و آله أو أسلاف بني إسرائيل، أقوال ثلاثة و الأقرب الأول، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ «1» إلّا على ضرب من التأويل، و من آمن منهم لا يقال له: أمنوا ... إلّا بمجاز بعيد «2» و تخصيص هذه الطائفة بالذكر و التذكير و التذكير لما أنهم أوفر الناس نعمة و أكثرهم كفرا بها.

اذْكُرُوا فعل أمر مبنيّ على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، و الواو فاعل، و هو مشتق من الذكر- بكسر الذال و ضمها- بمعنى واحد، و يكونان باللسان و الجنان.

قال الكسائي «3»: هو بالكسر للسان، و بالضم للقلب. و ضدّ الأول الصمت، و ضدّ الثاني النسيان.

و على الأول يكون المعنى أمرّوا النعم على السنتكم و لا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على

اللسان و مدارستها سبب لأن لا تنسى.

و على الثاني يكون المعنى تنبّهوا للنعم و لا تغفلوا عن شكرها.

نِعْمَتِيَ هي مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم و الياء مضاف إليه.

__________________________________________________

(1) البقرة: 41.

(2) تفسير البحر المحيط: ج 1 ص 174.

(3) هو ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي الكسائي، أحد القرّاء السبعة و مؤدب هارون و الأمين، و كان من تلامذة الخليل.

قال الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال علي الكسائي مات سنة (189) ه، العبر ح 1 ص 302.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 442

«حدّ النعمة» قال الراغب «1» في «المفردات»: النعمة: (بالكسر) الحالة الحسنة، و بناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة و الركبة، و النعمة (بفتح النون): التنعم و بناؤها المرّة من الفعل، كالضربة و الشتمة، و النعمة، و النعمة (بالكسر) للجنس تقال للقليل و الكثير، قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2»، اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ «3».

و قال الرازي في «مفاتيح الغيب»: النعمة هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان الى الغير، و قولنا: المفعولة على جهة الإحسان لأنها لو كانت منفعة و قصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به أو قصد الإضرار به لم يكن ذلك نعمة.

إذا عرفت النعمة فلنذكر مطلبين: الأول: أن كلّ ما يصل إلينا أناء الليل و النهار في الدنيا و الآخرة من النفع و دفع الضرر فهو من اللّه تعالى على ما قال تعالى: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «4».

ثمّ إنّ النعمة على ثلاثة أوجه:

أحدها: نعمة تفرد بها اللّه تعالى نحو الخلق، و الرزق.

و ثانيها: نعمة وصلت إلينا من جهة غيره، بأن

خلقها و خلق المنعم، و مكّنه من الإنعام، و خلق فيه داعيته و وفقه عليه و هداه إليه، فهذه النعمة في الحقيقة أيضا من اللّه عزّ و جلّ، إلّا أنه تعالى لمّا أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكورا، و لكن

__________________________________________________

(1) الراغب الاصفهاني: أبو القاسم حسين بن محمد المفضل الشافعي صاحب اللغة و العربية و الحديث و الشعر و الأدب توفي سنة (502) ه.

(2) النحل: 18.

(3) البقرة: 40.

(4) النحل: 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 443

المشكور في الحقيقة هو اللّه عز و جل، و لهذا قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ «1» فبدأ بنفسه.

و ثالثها: نعمة وصلت إلينا من اللّه تعالى بواسطة طاعاتنا و هي أيضا من اللّه تعالى، لأنه لو لا أنه سبحانه و تعالى وفقنا على الطاعات و أعاننا عليها و هدانا إليها و أزاح الاعذار لما وصلنا الى شي ء منها. فظهر بهذا التقرير أنّ جميع النعم من اللّه تعالى.

المطلب الثاني: أنّ نعم اللّه تعالى على عبيده ممّا لا يمكن عدّها و حصرها على ما قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2» لأنّ المنفعة هي اللذة، أو ما يكون وسيلة الى اللذة، و جميع ما خلق اللّه تعالى كذلك، لأنّ كلّ ما يلتذّ به و هو وسيلة الى دفع الضرر فهو كذلك، و الذي لا يكون جالبا للنفع الحاضر و لا دافعا للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدلّ به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة الى معرفته و طاعته و هما وسيلتان الى اللذات الأبديّة، فثبت أنّ جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد، و العقول قاصرة عن عدّها.

فأن قيل: فإذا كانت النعم غير متناهية، و

ما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكّرها في قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ؟

الجواب أنها غير متناهية بحسب الأشخاص و الأنواع، إلّا أنّها متناهية بحسب الأجناس، و ذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم «3».

__________________________________________________

(1) لقمان: 14.

(2) النحل: 18.

(3) مفاتيح الغيب: ج 3 ص 30- 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 444

مضافا إلى أنّ المراد بالنعم في الآية، النعم المخصوصة ببني إسرائيل بقرينة «أنعمت عليكم» و النعم المخصوصة بهم متناهية بكثرتها منها: استنقذهم ممّا كانوا فيه من البلاء من فرعون و قومه، و أبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض و تخليصهم من العبوديّة كما قال تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «1».

و منها: جعلهم أنبياء و ملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط، فأهلك أعدائهم و أورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم كما قال تعالى: كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «2».

و منها: أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمّة سواهم كما قال عزّ من قائل: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «3».

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: من نعمة اللّه على بني إسرائيل أن نجّاهم من آل فرعون، و ظلل عليهم الغمام، و أنزل عليهم المنّ و السلوى في التيه، و أعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوا، فإذا

استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم، و أعطاهم عمودا من النور ليضي ء لهم بالليل، و كان رؤوسهم لا تنشعث و ثيابهم لا تبلى.

__________________________________________________

(1) القصص: 6.

(2) الشعراء: 59.

(3) المائدة: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 445

و اعلم أنه سبحانه ذكّرهم بهذه النعم لوجوه:

أحدها: أنّ في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلّى اللّه عليه و آله، و هو التوراة و الإنجيل و الزبور.

و ثانيها: أنّ كثرة النعم توجب عظم المعصية، فذكّرهم تلك النعم لكي يحذروا فخالفه ما دعوا إليه من الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن.

و ثالثها: أنّ تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة.

و رابعها: أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أنّ المنعم خصّهم من بين سائر الناس بها، و من خصّ أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية، و ذلك الطمع مانع من اظهار المخالفة و العصيان.

فإن قيل: هذه النعم ما كانت للمخاطبين بهذه الآية، بل كانت لآبائهم فكيف تكون سببا لعظم معصيتهم؟

قيل في الجواب وجوه:

أحدها: لو لا هذه النعم على آبائهم لما بقوا و ما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنّها تعمّ على الأبناء و ثانيها: ان الانتساب الى الآباء و قد خصّهم اللّه تعالى بنعم الدين و الدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد.

و ثالثها: الأولاد متى سمعوا أنّ اللّه تعالى خصّ آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم و إعراضهم عن الكفر و الجحود رغب الولد في هذه الطريقة، لأنّ الولد مجبول على التشبّه بالأب في أفعال الخير، فيصير هذا التذكير داعيا إلى الاشتغال

تفسير الصراط المستقيم،

ج 5، ص: 446

بالخيرات و الاعراض عن الشرور.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ.

للمفسرين في هذا «العهد» أقوال:

أحدها: جميع ما أمر اللّه به من غير تخصيص ببعض التكاليف.

الثاني: ما حكي عن الحسن البصري «1» أنه قال: المراد منه العهد الذي أخذه اللّه على بني إسرائيل في قوله تعالى: وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «2» و قال تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ الى قوله تعالى: وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «3» فمن وفّى للّه بعهده، وفّى اللّه له بعهده.

ثالثها: أنّ المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات و نهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم، أي أرضى عنكم و أدخلكم الجنة، و هو الذي حكاه الضحّاك «4» عن ابن عباس، و تحقيقه ما جاء في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إلى قوله تعالى: وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ «5».

__________________________________________________

(1) الحسن بن يسار أبو سعيد البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر و مات سنة (110) ه، العبر ج 1 ص 136.

(2) المائدة: 12.

(3) المائدة: 12.

(4) هو الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير، كان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي، و كان يركب حمارا و يدور عليهم إذا عيى، مات بخراسان سنة (102) ه، العبر: ج 1 ص 124.

(5) التوبة: 111.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 447

رابعها: أنّ المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد صلّى اللّه عليه و آله، و أنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «1» الى

قوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «2».

قال الطبرسي في «مجمع البيان»: إن هذا العهد هو أن اللّه تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيّا يقال له: محمد. فمن تبعه كان له أجران اثنان: أجر باتّباعه موسى و إيمانه بالتوراة، و أجر باتباعه محمدا و إيمانه بالقرآن. و من كفر به تكاملت أوزاره و كانت النار جزاءه، فقال: أَوْفُوا بِعَهْدِي في محمد أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أدخلكم الجنة، عن ابن عبّاس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق، و قيل: إنّما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين، كما قال سبحانه: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ «3» و هذا القول أقوى لأنّ عليه أكثر المفسرين و به يشهد القرآن. «4» وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الوفاء ضدّ الغدر و هو الحفظ و الإتمام و عدم النقض.

قال الراغب: و في بعهده يفي وفاء، و أوفى إذا تمّم العهد و لم ينقض حفظه،

__________________________________________________

(1) آل عمران: 187.

(2) آل عمران: 195.

(3) آل عمران: 187.

(4) مجمع البيان: ج 1 ص 93- 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 448

و اشتقاق ضدّه و هو الغدر و يدلّ على ذلك و هو الترك.

و كثيرا ما يستعمل في القرآن متعديا من باب الإفعال كما في المقام. و قوله تعالى: وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا «1» و يستعمل من باب التفعيل أيضا كما قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «2».

و العهد: حفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال و الاهتمام به، و هو من الصفات الاضافية له تعلّق بالعاهد، و المعهود إليه و المعهود به إلّا

أنّ في الأول يكون من الإضافة الى الفاعل، و في الثاني كذلك إذا كان مع العوض، كما يكون من الاضافة الى المفعول أيضا.

قال الراغب في «المفردات» قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ «3» عهد اللّه تارة يكون بما ركزه في عقولنا، و تارة يكون بما أمرنا به بالكتاب و سنة رسله، و تارة بما نلتزمه كالنذور و ما يجري مجراها و على هذا قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ «4».

و الفرق بين الميثاق و العهد أنّ الميثاق أخصّ من العهد لأنّه العهد المؤكد بانحاء التأكيدات و التوثيقات، سواء أ كان بين اللّه تعالى و بين خلقه، أم بين خلقه بعضهم مع بعض و مادّة «و ث ق» تدلّ على كمال التثبت.

__________________________________________________

(1) البقرة: 177.

(2) النجم: 37.

(3) يس: 60.

(4) التوبة: 75.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 449

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي المعنى: أوفوا بعهدي الذي أبلغته إليكم بواسطة الأنبياء و الرسل من المواثيق و الطاعات و العبادات، و هي كثيرة يأتي في الآيات التالية تعداد أصولها، و منها ما عهد إليهم الإيمان بشريعة خاتم المرسلين كما يستفاد من قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ «1».

و الوفاء بالعهد سواء أ كان من الناس أم من اللّه تعالى يرجع الى مصلحة الناس أنفسهم، و إنما سمّى سبحانه ذلك عهدا و أوجب وفاءه على نفسه تحنّنا منه و ترغيبا لعباده الى الطاعة حيث يكون لهم حق مطالبة الجزاء مع الشرط، فيصير المقام نظير آية الاشتراء: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «2»، مع أن السلعة و المشترى و قدرته و إرادته من اللّه تعالى.

أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فعل

مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب من باب الإفعال و قرأ الزهري «3»: «أوفّ» بالتشديد من باب التفعيل، يمكن أن يكونا بمعنى، و لا فرق بينهما، و يمكن أن يراد به الكثير، و هو إشارة الى عظيم كرمه و إحسانه و مزيد امتنانه، حيث أخبر و هو الصادق أنه يعطي الكثير في مقابل القليل، و هو صرّح بذلك في قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «4».

عن تفسير الإمام عليه السّلام: قال اللّه عزّ و جلّ: «يا بني إسرائيل ولد يعقوب إسرائيل اللّه

__________________________________________________

(1) البقرة: 41.

(2) التوبة: 111.

(3) الزهري: محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن شهاب المدني أحد العلماء الكبار، ولد سنة (50) ه و مات سنة (124) ه، غاية النهاية: ج 2 ص 262.

(4) الانعام: 160.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 450

«اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم» لمّا بعثت محمدا و أقررته في مدينتكم، و لم أجشّمكم الحطّ و الترحال اليه، و أوضحت علاماته و دلائل صدقه لئلّا يشتبه عليكم حاله. وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي أخذته على أسلافكم و أنبيائكم، و أمروا أن يؤدوا الى أخلافهم ليؤمننّ بمحمد العربي القرشي الهاشمي المبان بالآيات، و المؤيد بالمعجزات التي منها أن كلّمته ذراع مسمومة و ناطقه ذئب، و حنّ إليه عود المنبر، و كثّر اللّه له القليل من الطعام، و ألان له الصلب من الأحجار، و صلبت لديه المياه السائلة، و لم يؤيد نبيا من أنبيائه بدلالة إلّا و جعل له مثلها أو أفضل منها، و الذي جعل من أكبر آياته علي بن أبي طالب عليه السّلام شقيقه و رفيقه، عقله من عقله، و علمه من علمه، و

حلمه من حلمه، مؤيد دينه بسيفه الباتر، بعد أن قطع معاذير المعاندين بدليله القاهر، و علمه الفاصل، و فضله الكامل أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الذي أوجبت به لكم نعيم الأبد في دار الكرامة و مستقر الرحمة، وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ في مخالفة محمد، فإنّي القادر على صرف بلاء من يعاديكم على مرافقتي، و هم لا يقدرون على صرف انتقامي عنكم إذا آثرتم مخالفتي. «1» و في تفسير علي بن ابراهيم: حدّثني أبي، عن محمد بن أبي عمير «2»، عن جميل «3»، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال له رجل: جعلت فداك! إنّ اللّه يقول: ادْعُونِي

__________________________________________________

(1) تفسير الامام: ص 76، و عنه البحار: ج 9 ص 178 ح 6 و ج 26 ص 287، و تفسير البرهان: ج 1 ص 90 ح 1.

(2) هو محمد بن زياد بن عيسى المعروف بابن أبي عمير أوثق الناس عند الخاصة و العامة و من أصحاب الإجماع توفي سنة (217) ه.

(3) هو جميل بن دراج بن أبي الصبيح هو أيضا من أصحاب الإجماع توفي أيام الرضا عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 451

أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» و إنّا ندعوا فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم لا توفون للّه بعهده، و أن اللّه يقول: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ و اللّه لو وفيتم للّه لوفى اللّه لكم. «2» و في «أصول الكافي» عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله اللّه عزّ و جلّ أَوْفُوا بِعَهْدِي قال: بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أوف لكم بالجنّة. «3» و فيه: عن أحمد بن محمد، عن محمد الحسين، عن عبد

اللّه بن محمد، عن الخشّاب، قال: حدّثنا بعض أصحابنا، عن خيثمة، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا خيثمة نحن شجرة النبوة، و بيت الرحمة، و مفاتيح الحكمة، و معدن العلم و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و موضع سرّ اللّه، و نحن وديعة اللّه في عباده، و نحن حرم اللّه الأكبر، و نحن ذمّة اللّه، و نحن عهد اللّه. فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد اللّه، و من أخفرهما «4» فقد خفر ذمّة اللّه و عهده. «5» و في «تفسير الفرات» «6» عن جعفر بن محمد الفزاري «7»، عن محمد بن

__________________________________________________

(1) غافر: 60.

(2) تفسير القمي: ج 1 ص 46.

(3) الكافي: ج 1 ص 431 ح 89.

(4) الخفر: الوفاء بالعهد، و الإخفار: نقض العهد، و الهمزة فيه للإزالة و السلب.

(5) الكافي: ج 1 ص 221، مرآة العقول: ج 3 ص 10.

(6) هو أبو القاسم فرات بن ابراهيم بن فرات الكوفي من أعلام الشيعة و من معاصري الكليني، و ربما كان من الناحية الفكرية زيديا و لعلّ السبب في عدم ذكره في الكتب الرجالية هو أنه لم يكن إماميا حتى تهتم الامامية به، و لم يكن سنيّا حتى تهتم السنة به- راجع مقدمة التفسير ص 10- 11- بتحقيق محمد كاظم.

(7) هو جعفر بن محمد بن مالك الفزاري أبو عبد اللّه الكوفي وثقه الشيخ الطوسي و قال: يضعّفه قوم، روى الفرات عنه في أكثر من مائة مورد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 452

الحسين الصائغ «1»، عن موسى بن القاسم «2»، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: وَ أَوْفُوا

بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال: أوفوا بولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام فرض من اللّه أوف لكم الجنة. «3» و في «معاني الأخبار» باسناده الى ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا أنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ و اللّه لقد خرج آدم من الدنيا و قد عاهد قومه على الوفاء لولده شيث، فما وفى له، و لقد خرج نوح من الدنيا و عاهد قومه على الوفاء لوصيّه إسماعيل، فما وفت أمته، و لقد خرج ابراهيم من الدنيا و عاهد قومه على الوفاء لوصيّه إسماعيل، فما وفت أمته، و لقد خرج موسى من الدنيا و عاهد قومه على الوفاء لوصيّه يوشع بن نون، فما وفت أمّته، و لقد رفع عيسى بن مريم الى السماء، و قد عاهد قومه على الوفاء لوصيّه شمعون بن حمون الصفا، فما وفت أمته، و إني مفارقكم عن قريب، و خارج من بين أظهركم، و لقد عهدت إلى أمتي في عهد علي بن أبي طالب، و إنها لراكبة سنن من قبلها من الأمم في مخالفة وصيي و عصيانه، ألا و أني مجدّد عليكم عهدي في عليّ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، و من أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجرا عظيما.

أيها النّاس إنّ عليا إمامكم، و خليفتي من بعدي عليكم، و هو وصيي و وزيري و أخي و ناصري و زوج ابنتي، و أبو ولدي و صاحب شفاعتي و حوضي و لوائي من

__________________________________________________

(1) محمد بن الحسين أبو جعفر الصائغ توفي سنة (269) ه.

(2) موسى بن القاسم بن معاوية البجلي قال النجاشي: ثقة ثقة جليل حسن الطريقة له كتب،

و وثّقه الشيخ و قال: له ثلاثون كتابا.

(3) تفسير الفرات: ص 58 ح 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 453

أنكره فقد أنكرني، و من أنكرني فقد أنكر اللّه تعالى و من أقرّ بإمامته فقد أقر بنبوّتي، و من أقرّ بنبوّتي فقد أقرّ بوحدانية اللّه عزّ و جلّ.

يا أيها الناس من عصى عليّا فقد عصاني، و من عصاني فقد عصى اللّه، و من أطاع عليّا فقد أطاعني، و من أطاعني فقد أطاع اللّه عزّ و جلّ.

يا أيها الناس من ردّ على علي في قول أو فعل فقد ردّ علي و من ردّ عليّ فقد ردّ اللّه فوق عرشه.

يا أيها النّاس من اختار منكم على عليّ إماما فقد اختار عليّ نبيّا، و من اختار عليّ نبيّا فقد اختار على اللّه عزّ و جلّ ربّا.

يا أيها الناس إنّ عليّا سيّد الوصيّين و قائد الغرّ المحجّلين، و مولى المؤمنين، و وليّه وليّي، و وليّ وليّ اللّه، و عدوّه عدوّي و عدوّي عدو اللّه عزّ و جلّ.

أيّها النّاس أوفوا بعهد اللّه في علي يوف لكم بالجنة يوم القيامة. «1» وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ إياي ضمير منفصل منصوب بفعل مقدّر بعده يفسّره الفعل المذكور أي إياي ارهبوا، و لا يجوز أن يكون منصوبا بقوله: «فارهبون» لأنه مشغول كما لا يجوز في قولك: «زيدا فأكرمه» أن يكون منصوبا بقولك «فأكرمه» و عدم ظهور الفعل الناصب لاستغنائه عنه بما يفسّره.

فَارْهَبُونِ الرهبة، و الخشية، و المخافة نظائر.

و قال الراغب في «المفردات»: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرّز و اضطراب، «و إياي فارهبون» أي فخافون. «2»

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار: ص 372- 383 ح 1، و عنه تفسير البرهان: ج 1 ص 90 ح 5.

(2)

المفردات كتاب الراء: ص 204.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 454

و قال الشيخ في «التبيان»: الفرق بين الخوف و الرهبة أنّ الخوف هو شكّ في أنّ الضرر يقع أم لا. و الرهبة معها العلم بأنّ الضرر واقع عند شرط، فإن لم يحصل ذلك الشرط لم يقع. «1» و قال الرازي في «مفاتيح الغيب»: اعلم أنّ الرهبة هي الخوف، قال المتكلّمون: الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه، و قد يقال في المكلّف: إنه خائف على وجهين: أحدهما مع العلم، و الاخر مع الظنّ، أمّا مع العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكلّ ما أمر به، و احترز عن كلّ ما نهي عنه، فانّ خوفه إنما يكون عن المستقبل، و على هذا نصف الملائكة و الأنبياء عليهم السّلام بالخوف و الرهبة، قال تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ «2» و أما الظنّ فإذا لم يقطع بأنّه فعل المأمورات و احترز عن المنهيّات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب.

و اعلم أنّ كلّ من كان خوفه في الدنيا أشدّ كان أمنه يوم القيامة أكثر، و بالعكس.

روي: أنّه ينادي مناد يوم القيامة: و عزّتي و جلالي إنّي لا أجمع على عبدي خوفين و لا أمنين، و من أمنني في الدنيا خوّفته يوم القيامة، و من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة. «3»

__________________________________________________

(1) التبيان: ج 1 ص 184.

(2) النحل: 50.

(3) مفاتيح الغيب: ج 3 ص 39- 40، الخصال: ج 1 ص 39، و فيه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال: قال اللّه تبارك و تعالى: و عزّتي و جلالي لا أجمع على بعدي خوفين و لا أجعل له أمنين، فإذا أمنني

في الدنيا أخفته يوم القيامة، و إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 455

اعلم أنّ الفاء في فَارْهَبُونِ و أمثاله المكررة في القرآن كثيرا فيها قولان:

أحدهما: أنها فاء الجواب المقدر، تقديره: تنبّهوا، كقولك، «الكتاب فخذ» أي تنبّه فخذ الكتاب، ثمّ قدّم المفعول اصطلاحا للّفظ لئلّا تقع الفاء صدرا، و القول الثاني: أنها زائدة.

و النون في «فارهبون» ليس نون الجمع لأنها مكسورة و نون الجمع محذوفة جزما، بل هي نون الوحدة و الوقاية تدلّ بكسرها على ياء محذوفة.

و قرأ ابن أبي إسحاق: «فارهبوني» بالياء على الأصل. «1» قال الطبرسي في «المجمع»: حذف الياء لأنه رأس آية و رؤوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوي فيها الوقف، كما يفعل ذلك في القوافي، و أجمعوا على إسقاط الياء من قوله: «فارهبون» إلّا ابن كثير «2»، فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف، و الوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء، و في كسر النون دلالة على ذهاب الياء. «3» و يستفاد من جملة وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ حصر الرهبة في اللّه تعالى، كما في إِيَّاكَ نَعْبُدُ، بل قال الزمخشري: «و هو أوكد في افادة الاختصاص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ. «4»

__________________________________________________

(1) البحر المحيط لأبي حيّان: ج 1 ص 176.

(2) هو عبد اللّه بن كثير بن عمرو أبو معبد المكي القارئ المقري في مكة المكرّمة ولد بها سنة (45) ه و مات سنة (120) ه، غاية النهاية: ج 1 ص 443- 444.

(3) مجمع البيان: ج 1 ص 92.

(4) الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 131.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 456

قال المجلسي قدس سره في البحار: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ قيل: الرهبة خوف معه تحرّز،

و يدلّ على أنّ المؤمن ينبغي ألّا يخاف أحدا إلّا اللّه وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ «1»، أي بالإيمان و اتباع الحق و الإعراض عن الدنيا، و قيل: الرهبة مقدّمة التقوى. «2» و في «الخصال»: أنواع الخوف خمسة: خوف، و خشية، و وجل، و رهبة، و هيبة، فالخوف للعاصين، و الخشية للعالمين، و الوجل للمخبتين، و الرهبة للعابدين، و الهيبة للعارفين.

أما الخوف فلأجل الذنوب، قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «3»، و الخشية لأجل رؤية التقصير، قال اللّه عزّ و جلّ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «4».

و أما الوجل فلأجل ترك الخدمة قال اللّه عزّ و جلّ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ* «5». و الرهبة لرؤية التقصير قال اللّه تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ* «6» يشير الى هذا المعنى. «7»

__________________________________________________

(1) البقرة: 41.

(2) بحار الأنوار: ج 70 ص 331- 332.

(3) الرحمن: 46.

(4) فاطر: 28.

(5) حج: 35.

(6) آل عمران: 29 و 30.

(7) الخصال: 281.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 457

وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي لا بدّ أن يكون الخوف من اللّه تعالى الذي هو على كل شي ء قدير، و المطّلع على الضمائر و الظواهر، فإنّ الرهبة إن كانت لأجل عظمة الموهب منه و جلاله فلا نهاية لهما فيه عزّ و جلّ، و إن كانت لأجل علمه بموجبات السخط و العقاب فلا يعزب عن علمه شي ء في السماوات و الأرض، و إن كانت لأجل قهّاريته التامّة فهي من أخصّ صفاته، و عهوده هبات منه عزّ و جلّ فيكون نقضها عظيما.

تفسير الآية (41)

اشارة

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي

ثَمَناً قَلِيلًا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ عطف على ما تقدّم، و تفصيل بعد إجمال، فإنّ قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي «1» يشمل الإيمان بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، إلّا أنّه تعالى ذكره بالخصوص تنبيها لهم، و تعظيما لأمره، و هذه الآية المباركة تدل بالدلالة الالتزامية العادية على اخبار موسى عليه السّلام بشريعة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله لأنّ كلّ شريعة سابقة لا بدّ أن تخبر بالشريعة اللاحقة، كما أخبر تعالى عن الشرائع السابقة في القرآن.

و قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يدل على تصديق هذه الشريعة لما تقدم من الشرائع.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 458

وَ آمِنُوا المخاطبون به هم بنو إسرائيل بدليلين: الأوّل: أنّه معطوف على قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ «1» و الثاني: قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.

و قيل: نزلت في كعب بن الأشرف «2» و أصحابه علماء اليهود و رؤسائهم فهو أمر لهم، و أفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في أَوْفُوا بِعَهْدِي بمجموع الأمر به و الحثّ عليه المستفاد من قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ للاشارة إلى أنّه المقصود للوفاء بالعهود.

و الظاهر أنّ المخاطبين بهذه الآيات جميع بني إسرائيل كما تقدم و يندرج فيه كعب و من معه.

بِما أَنْزَلْتُ، (ما) موصولة و أَنْزَلْتُ صلته و العائد محذوف، أي أنزلته.

و قيل: (ما) مصدرية، قال أبو حيّان الاندلسي: و ابعد من جعل ما مصدريّة

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 40.

(2) كعب بن الأشرف الطائي من بني نبهان: شاعر جاهلي كانت أمّه من بني النضير فدان باليهودية. يقيم في حصن له قريب من المدينة يبيع فيه التمر و الطعام، أدرك الإسلام و لم يسلم.

و أكثر من

هجو النبيّ و أصحابه و تحريض القبائل عليهم. و التشبيب بنسائهم، و خرج الى مكة بعد وقعة بدر فندب قتلى قريش فيها و حضّ على الأخذ بثارهم، و عاد الى المدينة، و أمر النبي بقتله فانطلق اليه خمسة من الأنصار و قتلوه سنة (3) ه، الأعلام: ج 6 ص 79- 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 459

و أنّ التقدير- و آمنوا بانزالي لما معكم من التوراة- فتكون اللام في لِما من تمام المصدر لا من تمام مُصَدِّقاً، و على القول الأوّل يكون لِما مَعَكُمْ من تمام مُصَدِّقاً، و اللام على كلا التقديرين في لِما مقوّية للتعدية كاللام في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* «1».

و المراد بما أنزل اللّه تعالى هو القرآن، و الذي معهم هو التوراة و الإنجيل.

و قال قتادة «2»: المراد بما أنزلت من كتاب و رسول يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل «3».

و إذا تدبّرنا الكتاب الكريم و تعقّلنا معنى النزول و الإنزال من اللّه تعالى علمنا أنّ النزول و الإنزال لم يكونا من السماء المحسوسة بالبصر، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى منزّه عن المكان بل المراد النزول و الإنزال عن مقام أسمى من التصور.

فكما أنّ القرآن نازل إلى أراضي القلوب من سماء الربوبيّة كذلك الرسول نازل برسالته و وحيه- و تتحمّل الآية الكريمين كليهما- و صرّح سبحانه بأنّه تعالى أنزل كتابه و أنزل رسوله- قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ

__________________________________________________

(1) البروج: 16.

(2) هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز ابو الخطاب السدوسي البصري- مفسّر حافظ ضرير أكمه- كان أحفظ أهل البصرة- ولد سنة (61) ه و مات بواسط سنة (118) ه، الأعلام: ج 6

ص 27.

(3) البحر المحيط لأبي حيّان الاندلسي محمد بن يوسف المتوفى (754): ج 1 ص 176- 177.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 460

وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً «1».

و قال تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً- رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «2».

و كما أنّ القرآن يصدّق كتبهم المنزلة من اللّه تعالى و أنبيائهم كذلك الرسول صلّى اللّه عليه و آله يصدّق كتبهم و أنبيائهم.

قال صدر المتألهين «3» في تفسير في ذيل الآية الكريمة: أمرهم بالإيمان بعد ما أمرهم بايفاء عهد اللّه تنبيها على أنّه العمدة في ذلك، بل لأحد أن يقول: إنّ الإيمان بما أنزل اللّه هو عين الإيفاء بعهد اللّه، على التأويل الذي سبق ذكره «4» في معنى العهد، و هو النور الذي يتنوّر به القلوب- و يسلك به سبيل الآخرة، و ينكشف به حقائق الأمور، و يطّلع به الإنسان على الحضرة الإلهية و أفعاله و آثاره و لطفه، و حكمته في الدنيا و الآخرة، قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ «5» فالنور هو جنس معاني القرآن و الكتاب آيات ألفاظه و هو آي القرآن منزل

__________________________________________________

(1) الكهف: 1.

(2) الطلاق: 10- 11.

(3) هو محمد بن ابراهيم صدر الدين الشيرازي الحكيم المتأله كان عالم أهل زمانه في الحكمة صاحب الأسفار الاربعة- توفي بالبصرة و هو متوجه الى الحج سنة (1050) ه يروي عن المحقق الداماد و الشيخ البهائي- قال صاحب تفسير الصراط المستقيم في منظومته الرجالية:

ثمّ ابن ابراهيم صدر الأجل في سفر الحج (مريض) ارتحل

قدوة أهل العلم و الصفاء يروي عن الداماد و البهائي

(4) تفسير الصدر: ج 3 ص 191.

(5) المائدة: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 461

من اللّه تعالى الى قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله أمرهم بالتصديق بهذا القرآن المنزل، و أخبرهم أنّ في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة و الإنجيل لأنّ الذي في القرآن مصداق لهما و مؤكد للايمان بهما. من حيث إنّه مطابق لهما في القصص، و المواعيد، و الدعاء الى التوحيد و الأمر بالعبادة، و العدل بين الناس، و النهي عن المعاصي و الفواحش.

و ما يخالفها من الأحكام الجزئية إنّما هو بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إنّ كل واحدة منها حقّ بالإضافة إلى زمانه، مراعى فيها صلاح الأنام، و من خوطب بالكلام من اللّه، حتى لو نزّل المتقدّم من الأحكام في الأيّام المتأخر منهما لكان على وفقه بأبلغ وجه، و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله: «لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي». «1» و قيل: معنى مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أنّه تصديق بالتوراة و الإنجيل لأنّ فيهما الدلالة على أنّه حقّ، و أنّه من عند اللّه، و فيهما البشارة ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بيان نعوته و صفاته، فكان الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن تصديقا للتوراة و الإنجيل، و تكذيبه تكذيبا لهما.

و التفسير الثاني أولى لأن يكون حجة عليهم إذ على التفسير الأوّل لقائل أن يقول: التوافق في بعض المعاني لا يوجب أن يكون القرآن من عند اللّه فلا يلزم عليهم وجوب الايمان به.

و أمّا على الثاني فيلزم عليهم الإيمان بحقيّة القرآن و تصديق الرسول صلّى اللّه عليه و آله إذا

__________________________________________________

(1) البحار: ج 16 ص 366.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 5، ص: 462

اشتمل الكتابان على كون محمّد صلّى اللّه عليه و آله صادقا، فالإيمان بهما يوجب الايمان بما يقوله صلّى اللّه عليه و آله.

و بالجملة فالدالّ على اثبات نبوّته هاهنا وجهان: أحدهما: شهادة كتب الأنبياء عليها و هي لا تكون إلّا حقّا، و الثاني: إخباره عمّا في كتبهم و لم يكن له معرفة بما فيها إلّا من قبل الوحي. «1» مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ الظاهر أنّ مُصَدِّقاً حال من الضمير المحذوف العائد على الموصول، و هي حال مؤكّدة، و العامل فيها «أنزلت» و اللام في «لما» مقوّية، و «ما» اسم موصول في محلّ جرّ باللام، و الجارّ و المجرور متعلّقان بمصدّقا، و «معكم» ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محلّ له من الاعراب لأنّه صلة الموصول.

سؤال، و جواب، هل القرآن يصدّق كلّ ما مع اليهود، أي يصدّق العهد العتيق بأجمعه أي التوراة التي بأيديهم الآن، أم لا يصدّق كلّه بل بعضه و ماذا هو البعض؟

هناك آيات تصرّح بأنّ اليهود و النصارى حرّفوا أقساما من آيات الوحي، قال تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «2».

و قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ «3».

__________________________________________________

(1) تفسير صدر المتألهين: ج 3 ص 213- 214.

(2) البقرة: 75.

(3) البقرة: 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 463

فلا يعقل أن يصدّق القرآن الأكاذيب التي أدخلوها في التوراة إذا فليس المراد تصديق كلّ ما معهم، بل المصدّق بعض ما معهم، و ما هو إلّا البشارات الموجودة في التوراة،

كما قال تعالى: وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1».

و قال تعالى في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ «2».

و قد يشير إلى ما معهم: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «3».

وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ لا تسارعوا الى الكفر به من بين أهل الكتاب أو من بني إسرائيل، فإنّ وظيفتكم أن تكونوا أول المؤمنين به لأنّكم تعرفون حقيّته، و قد كنتم من قبل تقولون: إنّا نكون أول تابع له.

و لا يكون المراد بالأوّل مطلقا، فإنّ كفّار مكّة كانوا قد سبقوهم الى الكفر به.

و نقل عن أبي العالية «4» أنه قال: معناه «لا تكونوا السابقين الى الكفر به، أي

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 89.

(2) سورة النساء: 47.

(3) سورة البقرة: 146.

(4) هو رفيع بن مهران ابو العالية الرياحي البصري أدرك الجاهلية و أسلم بعد ارتحال النبي صلّى اللّه عليه و آله بسنتين، و روى عن جماعة من الصحابة، و روى عنه جماعة، كان عالما بالقرآن، و قال ابو بكر بن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، و بعده سعيد بن جبير، مات يوم الثالث من شوال سنة (90) ه تهذيب الكمال: ج 6 ص 220.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 464

لا تكونوا أئمة في الكفر به» «1» و لا يبعد هذا الوجه فإنّ النّاس في المذاهب و الملل يتّبعون أهل الكتاب و أهل العلم في أكثر الأزمنة، و

معلوم أنّ الخطاب في الآية مع ائمة أهل الضلال و علمائهم الذين شأنهم كتمان الحق الذي في الكتب، و تلبيسه بالباطل، و تحريف الكلم عن مواضعه كما هو عادة علماء السوء.

و عظم أول الكفر لأنّهم إذا كانوا أئمّة لهم و قدوتهم في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم و كفرهم أشدّ، إذ كما أنّ السابقين من الإيمان أعظم قدرا في الثواب و اشدّ قربا من اللّه تعالى لقوله: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «2» كذلك السابقون الى الكفر كانوا أعظم ذنبا ممّن بعدهم و اشدّ ضلالا و اكثر بعدا عن الحقّ.

و لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها الى يوم القيامة، و من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة» «3».

و عن ابن جريح «4»: أنّ المعنى: لا تكونوا أوّل جاحد جحد صفة النبي صلّى اللّه عليه و آله في

__________________________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 94.

(2) الواقعة: 10.

(3) كنز العمال: ج 15 ص 180، بحار الأنوار: ج 71 ص 257.

(4) هو أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح الرومي المكّي قيل: إنّه كان أوّل من صفّ- الكتب بالحجاز. توفي سنة (150) ه، العبر: ج 1 ص 213.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 465

كتابكم- فعلى هذا تعود الهاء في «به» الى النبي صلّى اللّه عليه و آله.

قال الطبرسي في «المجمع»: و ليس في نهيه عن أن يكونوا أوّل كافر به دلالة على أنّه يجوز أن يكونوا آخر كافر، لأنّ المقصود النهي عن الكفر على كلّ حال، و خصّ أوّلا

بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه كما قال الشاعر «1»:

من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش و لا سوء الجزع و ليس يريد أنّ فيهم فحشا آجلا «2».

وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قال الرازي: فيه سؤالان: أحدهما: كيف جعلوا أوّل من كفر به و قد سبقهم الى الكفر به مشركوا العرب؟

و الجواب من وجوه:

أحدها: أنّ هذا تعريض بأنّه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به و بصفته، و لأنّهم كانوا هم المبشّرون بزمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المستفتحون على الذين كفروا به فلمّا بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «3».

ثانيها: يجوز أن يراد و لا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكّة، أي و لا تكونوا و أنتم تعرفونه مذكورا في التوراة و الإنجيل مثل من لم يعرفه

__________________________________________________

(1) هو سويد بن ابي كاهل شبيب بن حارثة بن حسل بن مالك أبو سعد شاعر متقدم من مخضرمي الجاهلية و الإسلام و كان من المعمّرين مات بعد سنة (60) ه، خزانة البغدادي: ج 2 ص 547.

(2) مجمع البيان: ج 1 ص 95.

(3) سورة البقرة: 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 466

و هو مشرك لا كتاب له.

ثالثها: و لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، لأنّ هؤلاء كانوا أوّل من كفر بالقرآن من بني إسرائيل و ان كانت قريش كفروا به قبل ذلك.

و رابعها: و لا تكونوا أوّل من كفر بكتابكم، يقول ذلك لعلمائهم، أي و لا تكونوا أوّل من كذّب كتابكم من أمّتكم، لأنّ تكذيبكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله يوجب تكذيبكم

بكتابكم.

خامسها: أنّ المراد منه بيان تغليظ كفرهم، و ذلك لأنّهم لمّا شاهدوا المعجزات الدالّة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة و الإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشدّ من كفر من لم يعرف إلّا نوعا واحدا من الدليل.

سادسها: و لا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة، لأنّ كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة.

سابعها: و لا تكونوا أوّل كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبّتوا و راجعوا عقولكم فيه.

السؤال الثاني: أنّه كان يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّلا، و الجواب من وجوه:

أحدها: أنّه ليس في ذكر تلك الجملة دلالة على أنّ ما عداها بخلافها.

ثانيها: أنّ في قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ دلالة على أن كفرهم أوّلا و آخرا محظور.

و ثالثها: أنّ قوله تعالى: وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ* «1» لا يدل على وقوع قتل

__________________________________________________

(1) آل عمران: 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 467

الأنبياء بحقّ، و قوله تعالى عقيب هذه الآية: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لا يدلّ على إباحة ذلك بالثمن الكثير، فكذا هاهنا، بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد و الإنكار ممّن قرأ في الكتب نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصفته.

رابعها: قال المبرّد «1»: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم، فقيل لهم: لا تكفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّه سيكون بعدكم الكفّار فلا تكونوا أنتم أوّل الكفار، لأنّ هذه الأوّليّة موجبة لمزيد الإثم، و ذلك لأنّهم إذا سبقوا الى الكفر أولا، فإنّ اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر و وزر كلّ من كفر إلى يوم القيامة، و إن لم يقتد بهم غيرهم

اجتمع عليهم أمران: أحدهما: السبق إلى الكفر، و الثاني: التفرّد به و لا شك أنّه منقصة عظيمة. «2» و قال أبو حيان في «البحر المحيط»: النهي في قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ لا يدل على اباحة الكفر لهم ثانيا أو أخيرا لأنّ الصفة لا مفهوم لها هنا.

و لما أشكلت الأوليّة هنا زعم بعضهم أنّ (أوّل) صلة يعني زائدة، و التقدير:

و لا تكونوا كافرين به، و هذا ضعيف جدا.

و زعم بعضهم أنّ ثمّ محذوفا معطوفا تقديره: و لا تكونوا أوّل كافر به و لا آخر كافر، و جعل ذلك ممّا حذف المعطوف لدلالة المعنى عليه.

__________________________________________________

(1) هو أبو العباس المبرّد محمد بن يزيد الازدي البصري إمام أهل النحو في زمانه، و صاحب التصانيف، أخذ عن أبي عثمان المازني، و أبي حاتم السجستاني و تصدّر ببغداد، من مصنفاته «الكامل» و «المقتضب» و «طبقات النحاة البصريين»، و «معاني القرآن»، توفي ببغداد سنة (285) ه، العبر ج 2 ص 80، هدية الأحباب: ص 229.

(2) التفسير الكبير للرازي: ج 3 ص 41- 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 468

و تأوله بعضهم على حذف مضاف، أي و لا تكونوا مثل أول كافر به، أي و لا تكونوا و أنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا، مثل من لم يعرفه و هو مشرك لا كتاب له.

و بعضهم على صفة محذوفة، أي أوّل كافر به من أهل الكتاب «1»

بحث صرفي لغوي نحوي

قوله تعالى: أَوَّلَ كافِرٍ قال القيسي «2» في «مشكل اعراب القرآن»: «أوّل» اسم لم ينطق منه بفعل عند سيبويه «3»، و وزنه (أفعل) فاؤه واو، و عينه واو و لذلك لم يستعمل منه فعل لاجتماع الواوات.

و قال الكوفيون: هو أفعل من

(وأل) إذا لجأ، فأصله (أوأل) ثمّ خفّفت الهمزة الثانية بأن أبدل منها واوا و أدغمت الاولى فيها كما قالوا في تخفيف «مقروءة»:

«مقروّة».

و كان الأحسن- لو خفّف على القياس- أن يقال: (أوّل) يلقى حركة الهمزة

__________________________________________________

(1) البحر المحيط: ج 1 ص 177.

(2) القيسي هو أبو محمّد مكّي بن أبي طالب حمّوش بن محمد بن مختار القيرواني، ولد سنة (355) و سكن قرطبة، ثم هاجر الى مكة المكرّمة و مصر و حضر عند أساتذة الأدب و القرآن و الحديث و صنّف مصنفات قيّمة إلى أن توفي سنة (437) ه، بغية الوعاة: ص 396- 397.

(3) هو أبو الحسن عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي البيضاوي العراقي البصري النحوي، كان من تلامذة الخليل، صنّف في النحو «الكتاب» و مات على الصحيح سنة (180) ه العبر: ج 1 ص 278- هدية الأحباب: ص 153.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 469

على الواو.

و قيل: إنّ «أوّل» أفعل من «آل يؤول» فأصله «أءول» ثم قلب، فردّت الفاء في موضع العين، فصار «أوأل» فصنع به من التخفيف و البدل و الإدغام ما صنع في القول الأوّل، فوزنه بعد القلب «أفعل» «1» قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ يتخيّل هنا مشكلة و هي أنّه لما ذا قال تعالى: كافِرٍ و لم يقل: «الكافرين»؟

و أجيبت بأنّ «كافر» وصف لموصوف محذوف و هو مفرد لفظا و جمع معنا، و تقديره: «أول فريق كافر» و هذا من تأويل المفضّل عليه.

و يمكن تأويل المفضّل، أي لا يكن كلّ واحد منكم كافرا و المراد عموم السلب كما في قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «2».

و بعض الناس لا يوجب في مثل هذا المطابقة بين

النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل و بين ما جرى هو عليه، بل يقول: يجوز الوجهان، و استدلّ بقول الشاعر:

و إذا هم طعموا فألأم طاعم و إذا هم جاعوا فشرّ جياع و حكى سيبويه: هو أظرف الفتيان و أجمله.

__________________________________________________

(1) مشكل اعراب القرآن: ج 1 ص 42.

(2) سورة القلم: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 470

و زعم الأخفش «1» و الفرّاء «2»: أنّه محمول على معنى الفعل، لأنّ المعنى أوّل من كفر به «3».

و هنا مشكلة أخرى: و هي عدم تطابق الخبر و المبتدأ في الجمع و الإفراد في جملة: «و لا تكونوا أوّل» و أجيبت بأنّ أفعل التفضيل إذا جرّد من «أل» و من الإضافة- أو أضيف إلى نكرة يجب ان يكون مفردا و مذكرا يقول ابن مالك في الفيّته:

و أفعل التفضيل صله أبدا ب «من» إن جرّدا و إنّ لمنكور يضف أو جرّدا ألزم تذكيرا و أن يوحّدا

تفسير الآية و باطنها و تأويلها

و في تفسير العيّاشي عن جابر الجعفي «4»، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن تفسير هذه الآية في باطن القرآن: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا

__________________________________________________

(1) هو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء البلخي، ثم البصري ابو الحسن، نحوي عالم باللغة و الأدب، و أخذ العربيّة عن سيبويه و صنف كتبا منها «معاني القرآن» مات سنة (215) ه، الأعلام: ج 3 ص 154.

(2) الفراء: يحيى بن زياد الديلمي ابو زكريا النحوي اللغوي كان اعلم الكوفيّين في النحو، مات سنة (207) ه هديّة الأحباب: ص 210.

(3) الجامع للقرطبي: ج 1 ص 333.

(4) هو جابر بن يزيد الجعفي أبو عبد اللّه رحمه اللّه

لقي أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السّلام، وثقه النجاشي و غيره توفي سنة (128) ه، و قال يحيى بن معين: مات سنة (132). جامع الرواة: ج 1 ص 144.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 471

أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ يعني فلانا و صاحبه و من تبعهم و دان بدينهم قال اللّه يعنيهم و لا تكونوا أوّل كافر به يعني عليّا عليه السّلام «1».

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان، إمّا باستعمال المقيّد في المطلق كالمرسن في الأنف، أو تشبيه الاستبدال المذكور بالاشتراء الحقيقي في كونه مرغوبا فيه.

و المعنى و اللّه أعلم: و لا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة، و لو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس المعنى إذ كان يصير المعنة أنّهم بذلوا ثمنا قليلا و أخذوا الآيات.

قال الشيخ الطوسي قدّس سرّه في «التبيان»: قوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا فأدخل الباء في الآيات دون الثمن و في سورة يوسف في الثمن في قوله:

وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ «2» قال الفرّاء: إنّما كان كذلك، لأنّ العوض كلّها أنت مخيّر فيها في إدخال الباء، إن شئت قلت: اشتريت الثوب بكساء، و إن شئت قلت اشتريت بالثوب كساء، أيّهما جعلته ثمنا لصاحبه جاز، فإذا جئت إلى الدراهم و الدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله: «بثمن بخس» لأنّ الدراهم ثمن أبدا. «3» و قال أبو حيّان في «المحيط»: نفس الآيات لا يشترى بها فاحتيج إلى حذف مضاف، فقيل: تقديره بتعليم آياتي، قاله أبو العالية، و قيل: بتغيير آياتي، قاله

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1 ص 42 ح 31 و عنه البرهان: ج 1 ص 91 و إثبات الهداة: ج

3 ص 540.

(2) سورة يوسف: 20.

(3) التبيان: ج 1 ص 188.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 472

الحسن «1»، و قيل: بكتمان آياتي، قاله السدّي «2»، و قيل: لا يحتاج إلى حذف مضاف، بل كنّي بالآيات عن الأوامر و النواهي.

و على الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ما أنزل من الكتب أو القرآن، أو ما أوضح من الحجج و البراهين، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة و الإنجيل المتضمّنة الأمر بالإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

و على الأقاويل في ذلك المضاف و المقدّر، و القول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله تعالى: ثَمَناً قَلِيلًا.

فمن قال: هو التعليم قال: الثمن القليل هو الاجرة على التعليم، و كان ذلك ممنوعا في شريعتهم، أو الراتب المرصد لهم على التعليم فنهوا عنه.

و من قال: هو التغيير قال: الثمن القليل هو الرئاسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

و من جعل الآيات كناية عن الأوامر و النواهي جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمر اللّه به و اجتناب ما نهى عنه.

و وصف الثمن القليل لأنّ ما حصل عوضا عن آيات اللّه كائنا ما كان لا يكون

__________________________________________________

(1) المراد به الحسن بن ابي الحسن يسار ابو سعيد البصري التابعي المولود بالمدينة سنة (21) ه و المتوفى سنة (110) ه.

(2) هو إسماعيل بن عبد الرحمن ابو محمد المعروف بالسدّي كان ممّن يفسّرون القرآن بآرائهم نظير مجاهد، و قتادة، و الشعبي، و الحسن، و مقاتل و كان كوفيّا توفي سنة (128) ه، هدية الأحباب:

ص 148.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 473

إلّا قليلا و إن بلغ ما بلغ، كما قال تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1». «2» و قال الشيخ في «التبيان» و تقييده ب لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا لا يدل على أنّه إذا كان كثيرا يجوز مشترى به، لأنّ المقصود من الكلام أنّ أي شي ء باعوا به آيات اللّه كان قليلا، و أنّه لا يجوز أن يكون له ثمن يساويه، كقوله تعالى: وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ «3».

إنّما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال، و أنّه لا يجوز أن يكون له برهان، و مثله قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ «4»، و إنّما أراد أنّ قتلهم لا يكون الّا بغير حقّ، نظائر ذلك كثيرة. «5» و قال الطبرسي في «المجمع» روي عن أبي جعفر عليه السّلام في هذه الآية قال: كان حييّ بن أخطب «6»، و كعب بن الأشرف «7» و آخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كلّ سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله، فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته و ذكره صلّى اللّه عليه و آله فذلك الثمن الذي أريد في الآية. «8»

__________________________________________________

(1) سورة النساء: 77.

(2) البحر المحيط ج 1 ص 178- 179.

(3) المؤمنون: 117.

(4) آل عمران: 21.

(5) التبيان ج 1 ص 189.

(6) حييّ بن أخطب النضري: جاهلي من الأشدّاء العتاة أسر يوم قريضة ثم قتلوه سنة (5) ه

(7) كعب بن الأشرف الطائي من بني تيهان: شاعر جاهلي كانت أمه من بني نضير فدان باليهودية و أدرك الإسلام و

لم يسلم قتل في ظاهر حصنه سنة (3) ه، الأعلام: ج 6 ص 79.

(8) مجمع البيان: ج 1 ص 95 و عنه كنز الدقائق: ج 1 ص 399.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 474

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا روي عن ابن عباس أنّه قال: إنّ رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف و حييّ ابن أخطب و أمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا، و علموا أنّهم لو اتّبعوا محمدا صلّى اللّه عليه و آله لانقطعت تلك الهدايا فأصرّوا على الكفر لئلّا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقّر.

قال الرازي بعد ذكر هذا الكلام عن ابن عبّاس: و ذلك لأنّ الدّنيا كلها بالنسبة الى الدين قليلة جدّا، فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلّة بالنسبة الى الدنيا، فالقليل جدّا من القليل جدّا أيّ نسبة له الى الكثير الذي لا يتناهى؟ «1»

مسألة فقهية

استدل بعضهم بقوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا على حرمة أخذ الأجرة على كتاب اللّه تعالى، بل و العلم أيضا.

قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن»: قد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن و العلم لهذه الآية و ما في معناها، فمنع ذلك الزهري، و اصحاب الرأي و قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأنّ تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها الى نيّة التقرّب و الإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة

__________________________________________________

(1) مفاتيح الغيب للرازي: ج 3 ص 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 475

كالصلاة و الصيام، و قد قال تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.

و روى ابن عباس: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «معلموا صبيانكم شراركم

أقلّهم رحمة باليتيم و أغلظهم على المسكين».

و روى أبو هريرة، قال: قلت: يا رسول اللّه ما تقول في المعلّمين؟

قال: «درهمهم حرام، و ثوبهم سحت، و كلامهم رياء».

و روى عبادة بن الصامت «1» قال: علّمت ناسا من أهل الصفة القرآن و الكتابة، فأهدى إليّ رجل منهم قوسا، فقلت: ليست بمال و أرمي عنها في سبيل اللّه، فسألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إن سرّك أن تطوّق بها طوقا من نار فاقبلها.

و أجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك، و الشافعي، و أحمد «2»، و أبو ثور «3» و اكثر العلماء لقوله عليه السّلام في حديث ابن عبّاس- حديث الرقيّة-: إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللّه، أخرجه البخاري و هو نصّ يرفع الخلاف، فينبغي أن يعوّل عليه.

و أمّا ما احتجّ به المخالف من القياس على الصلاة و الصوم ففاسد، لأنّه في

__________________________________________________

(1) عبادة بن الصامت بن قيس الانصاري الخزرجي أبو الوليد صحابي شهد العقبة، و كان أحد النقباء، و بدرا، و سائر المشاهد مات بالرملة، أو بيت المقدس سنة (34) ه، الأعلام: ج 4 ص 30

(2) هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروني الأصل المولود سنة (164) و المتوفى سنة (241) ببغداد.

(3) هو ابو ثور ابراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الفقيه أحد الأعلام، تفقّه بالشافعي، و سمع من ابن عيينة و غيره توفي سنة (240) ه، العبر: ج 1 ص 431- الأعلام: ج 1 ص 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 476

مقابلة النصّ، ثمّ إنّ بينهما فرقا، و هو أنّ الصلاة و الصوم عبادات مختصة بالفاعل، و تعليم القرآن عبادة متعدّية لغير المعلم، فتجوز الأجرة على محاولته

النقل كتعليم كتاب القرآن.

قال ابن منذر «1»، و ابو حنفية: يكره تعليم القرآن بأجرة.

ثم قال القرطبي: أمّا الجواب عن الآية فالمراد بها بنو إسرائيل.

و شرع من قبلنا هل هو شرع لنا فيه خلاف، و هو لا يقول به؟

جواب ثان، و هو أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا، فأمّا إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنّة في ذلك، و قد يتعيّن عليه إلّا ليس عنده ما ينفقه على نفسه و لا على عياله فلا يجب عليه التعليم، و له أن يقبل على صنعته و حرفته، و يجب على الامام أن يعين لإعانة الدين إعانته، و الّا فعلى المسلمين ...

و أما الجواب عن الأحاديث المتقدمة فليس شي ء منها على ساق، و لا يصحّ منها شي ء عند أهل العلم بالنقل، أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة «2» عنه و سعيد متروك.

__________________________________________________

(1) هو محمد بن ابراهيم بن المنذر النيسابوري فقيه من الحفّاظ، كان شيخ الحرم بمكّة المكرّمة له مصنّفات في الفقه و التفسير ولد سنة (242) ه، و توفي بمكّة سنة (319) ه، طبقات الشافعية:

ج 2 ص 126.

(2) هو عكرمة بن عبد اللّه البربري مولى ابن عباس مات سنة (107) ترجمه غير واحد من اصحاب التراجم منهم ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب: ج 7 ص 228 الى ص 234 و فيه: عن مصعب الزبيري قال: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، و كذّبه سعيد بن جبير، و قال مالك بن انس في عكرمة: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه، و قال أبو الأسود: كان عكرمة قليل العقل خفيفا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 477

و أما

حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم «1»، عن حمّاد بن سلمة «2»، عن أبي جرهم، عنه، و أبو جرهم مجهول لا يعرف، و لم يرو حماد بن مسلمة عن أحد يقال له أبو جرهم، و إنّما رواه عن أبي المهزّم، و هو متروك الحديث أيضا فهو حديث لا أصل له.

و أما حديث عبادة بن الصامت رواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي «3»، عن عبادة بن حسيّ، عن الأسود بن ثعلبة، عنه، و المغيرة معروف عند أهل العلم، و لكنّه له مناكير، هذا منها، قاله أبو عمر ثم قال: و أمّا حديث القوس فمعروف عند أهل العلم ... الى أن قال: و ليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل، و حديث عبادة يحتمل التأويل، لأنّه جائز أن يكون علّمه للّه، ثم أخذ عليه أجرا.

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «خير الناس من يمشي على جديد الأرض المعلّمون كلّما خلق الدين جدّدوه، أعطوهم و لا تستأجروهم فتحرجوهم فإنّ المعلّم إذا قال للصبي: قل بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال الصبي: بسم اللّه الرحمن الرحيم كتب اللّه براءة للصبيّ و براءة للمعلّم، و براءة لأبويه من النار» «4».

__________________________________________________

(1) علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التيمي مولاهم، قال ابن حجر: صدوق يخطئ و يصرّ، و رمي بالتشيّع، مات سنة (201) ه، تقريب التهذيب: ج 1 ص 697.

(2) حمّاد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة قال ابن حجر: تغيّر حفظه بآخره، من كبار الثامنة، مات سنة (157) ه، التقريب: ج 1 ص 238.

(3) المغيرة بن زياد البجلي، أبو هشام أو هاشم الموصلي، قال

ابن حجر: له أوهام مات سنة (152) ه، التقريب: ج 1 ص 206.

(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 1 ص 335- 336.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 478

فما قاله أصحاب الرأي و أبو حنيفة من حرمة الاجرة على تعليم القرآن أو كراهته خلاف الحق و لا وجه له حتى عند أهل السنّة كما عرفت نعم يستفاد الكراهة من الأحاديث الواردة إذا اشترط الأجرة و أمّا في أخبارنا عن أهل البيت عليهم السّلام المذكورة في الوسائل و غيره و هي بين الناهية عن كسب التعليم بالاجرة و بين ما يدلّ على خلافها بل يدلّ على نهاية المطلوبية، مثل ما رواه الفضل بن أبي قرّة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: هؤلاء يقولون إنّ كسب المعلم سحت، فقال عليه السّلام:

كذب أعداء اللّه، إنّما أرادوا أن لا يعلّموا أولادهم القرآن، لو أنّ المعلّم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلّم مباحا «1».

فمقتضى الجمع مع ذهاب أهل الآراء و المخالفين الى الحرمة أو الكراهة حمل النواهي في أخبارنا على التقيّة.

وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ الكلام فيه كالكلام على قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «2» و يقرب معنى التقوى معنى الرهبة، قال صاحب «المنتخب» «3» و الفرق أنّ الرهبة عن الخوف، و أما الاتّقاء فإنّه يحتاج إليه عند المجزم بحصول ما يتّقي منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أنّ جواز العقاب قائم، ثمّ أمرهم بالتقوى لأنّ تعيّن العقاب قائم، انتهى كلامه. و معنى جواز العقاب هناك و تعيّنه هنا أن ترك ذكر

__________________________________________________

(1) الوسائل ج 12 ص 113 ح 2.

(2) سورة البقرة: 40.

(3) المنتخب لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجزري المتوفى (597) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص:

479

النعمة و الإيفاء بالعهد ظاهره أنّه من المعاصي التي تجوّز العقاب، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، و أمّا ترك الإيمان بما أنزل اللّه تعالى، و شراء الثمن اليسير بآيات اللّه من المعاصي التي تحتّم العقاب و تعيّنه، و لذلك قيل هناك: «فارهبون» و في هنا:

«فاتقون». «1»

__________________________________________________

(1) البحر المحيط: ج 1 ص 179.

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 480

قد وقع الفراغ من تسويده على يد مؤلّفه العبد الواثق بربّه الغني الحسين بن رضا الحسيني الفاطمي العلوي البروجردي في السّاعة الثالثة من اللّيلة الثالثة من العشر الثالث من الشهر الثالث من السنة الثامنة من العشر الثامن من المائة الثالثة من الألف الثاني من الهجرة النبويّة المصطفويّة على صادعها ألف ألف ألف صلاة و سلام و تحيّة و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على نبيّنا محمّد و آله الطّيبين الطّاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين ابد الآبدين و دهر الدّاهرين و قد اتّفق الفراغ من تسويده في السّاعة الرابعة من اليوم الخامس من العشر الأوّل من الشهر الرابع من السنة الثامنة من الشهر الثامن من المائة الثالثة من الالف الثاني من الهجرة النبويّة المصطفوية عليه آلاف التّحيّة.

تمّ و بحمد اللّه الجزء الخامس من تفسير الصراط المستقيم و سيأتي بعون اللّه و مشيّته الجزء السادس منه طبع على نفقة السيّدة المؤمنة الحاجة المحسنة مريم بنت الحاج علي اللاري

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 481

فهرس الموضوعات

تفسير الآية (28) ... 5 تفسير الآية (29) ... 15 تفسير الآية (30) ... 50 في حقيقة الملائكة ... 72 الملائكة عند الفلاسفة ... 78 الملائكة عند النصارى و المجوس ... 80 الملائكة عند أرباب الهياكل ...

81 قول المشركين في الملائكة ... 82 بسط في المقام للاشارة الى عصمة الملائكة عليهم السّلام دفعا لبعض الأوهام ... 104 عصمة الملائكة و حقيقتها ... 117 وجه تسمية آدم ... 119 تفسير الآية (31) ... 119 الأسماء الّتي علّمها اللّه سبحانه آدم ... 129 تفسير الآية (32) ... 138 تفسير الآية (33) ... 140 الأقوال في نبوّة آدم حين تعلّم الأسماء ... 141 أسئلة و أجوبة ... 146 فضل الأنبياء على الملائكة ... 155 نقض و إبرام على دفع حجج مفضلي الملائكة على الأنبياء عليهم السّلام ... 180 دلالة الآيات الى المذهب الحق ... 196 الخلافة من اللّه سبحانه ... 198 التناسب بين اللفظ و المعنى ... 236 تفسير الآية (34) ... 240

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 482

وقت الأمر بالسجود ... 241 في معنى السجود ... 242 فلسفة سجود الملائكة لآدم ... 244 الوجوه المحتملة في «خلق اللّه آدم على صورته» ... 252 إبليس كان من الجنّ ... 264 ما يستفاد من الآية الكريمة ... 274 تفسير الآية (35) ... 278 في معنى الشجر لغة ... 296 المراد بالشجرة ... 297 القراءة ... 297 تفسير الآية (36) ... 301 كيفيّة دخول إبليس الجنّة ... 303 مدّة مكث آدم في الجنة ... 310 تعدّد الأيام و تغايرها ... 311 مكان هبوط آدم و حوّاء ... 312 تفسير الآية (37) ... 329 توبة آدم بواسطة الكلمات ... 329 الكلمات و إطلاقاتها ... 331 الكلمات التي تلقّيها آدم (ع) ... 336 تفسير الآية (38) ... 349 تفسير الآية (39) ... 358 بسط في المقام للتنبيه على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ... 360 مستطرف من

الكلام في طرف من احوال آدم (عليه السلام) ... 405 تفسير الآية (40) ... 433 إسرائيل في اللغة ... 437 تفسير الآية (41) ... 457

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 483

بحث صرفي لغوي نحوي ... 468 تفسير الآية (41) و باطنها و تأويلها ... 470 تفسير الآية (41)/ مسألة فقهية ... 474

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 484

فهرس الأعلام

1 ابن الأنباري محمد بن القاسم النحوي: 54 ابن ابي عمير: محمد: 450 ابن بابويه: 439 ابن الجريج الرومي: 464 ابن حنبل: احمد بن حنبل: 475 ابن درستويه النحوي: 435 ابن دريد البصري: 229 ابن السكيت: 54 ابن عامر القاري: 140 ابن كثير القاري: 455 ابن كيسان محمد بن أحمد النحوي: 55 ابن المنادى: 325 ابن المنذر: 476 ابن الوليد محمد بن الحسين: 364 ابن الهيثم داود النحوي الأنباري: 55 ابو ثور الكلبي: 475 2 ابو جعفر الطوسي: 440 ابو جعفر القاري: 256، 436.

أبو حامد الغزالي: 365.

ابو الحسن الأشعري: 212.

ابو حمزة الثمالي ثابت بن دينار:

434.

ابو حيان الاندلسي: 437 ابو مسهل البصري: 235 ابو العالية رفيع بن مهران: 463 ابو العبّاس المبرد: 467 ابو علي الجبائي: 212، 365.

أبو عمرو القاري البصري: 49.

ابو الفرج ابن الجوزي: 478 ابو هاشم الجبائي: 211 ابو يزيد البسطامي: 214 ابيّ بن كعب: 134

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 485

1 اخطب خوارزم موفّق بن أحمد: 202 الأخفش الأوسط: 470 الأعرج عبد الرحمن: 358 الأعمش سليمان: 436 الأعشى الشاعر عامر بن حارث: 129 الباقلاني القاضي: 362 البكري أحمد بن عبد اللّه: 61 البيضاوي: 53 البيهقي: 439 ثعلب النحوي أحمد بن يحيى: 23 جابر الجعفي: 470 جرير بن عطية الشاعر: 99 جعفر النجفي: 43 جميل بن

درّاج: 450 الجواليقي إسماعيل: 123 الجوهري ابو نصر: 55 حسان بن ثابت الشاعر: 244 الحسن البصري: 446 حماد بن سلمة: 477 حييّ بن أخطب: 473 2 الخليل بن أحمد العروضي: 439 دحية الكلبي: 23.

الراجز العجاج بن رؤبة: 258 الراغب الأصبهاني: 432 الزهري محمد بن مسلم: 449 سلار أبو يعلى الديلمي: 47 السمعاني النيسابوري: 203 سويد الشاعر: 465 السيّد الرضي: 451 السيّد المرتضى: 47 الشيخ الانصاري: 44 الشيخ جعفر النجفي: 43 صدر الشيرازي: 460 ضحّاك بن مزاحم: 475 عبادة الصامت: 475 عبد الرحمن بن سابط: 57 عبد اللّه بن سلام: 141 عكرمة البربري: 476 العلامة الحلي: 44 علي بن عاصم: 477

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 486

1 عمرو بن ابي المقدام: 72 الفخر الرازي: 433 الفرّاء النحوي: 470 الفيض الكاشاني: 46 قالون القاري: 49 قتادة بن دعامة: 459 القرطبي الأنصاري: 437 قطرب: 436 القيسي القيرواني: 468 الكسائي النحوي القاري: 49 كعب الأحبار: 438 كعب بن الأشرف: 458 لبيد بن ربيعة: 331 الليث بن خالد: 54 معمر بن المثنّى: 52 المغيرة بن زياد البجلي: 477 موسى بن القاسم: 452 نابغة الجعدي: 434 نافع بن الأزرق: 361 نافع القاري المدني: 49 ورش القاري: 436 يعقوب بن إسحاق البصري: 8

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 487

فهرس مصادر التحقيق

القرآن الكريم الاحتجاج للطبرسي احقاق الحق للتستري إرشاد القلوب للديلمي الاستيعاب الأمالي للسيّد المرتضى الأمالي للصدوق الأنوار النعمانية البحر المحيط لأبي حيّان الاندلسي بصائر الدرجات للصفّار التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السّلام تفسير البرهان للبحراني تفسير التبيان للطوسي تفسير جامع البيان للطبري تفسير الفخر الرازي تفسير فرات بن ابراهيم تفسير القرطبي تفسير القمي تفسير الكشاف للزمخشري تفسير كنز الدقائق تفسير مجمع البيان للطبرسي

التوحيد للصدوق جامع البيان للطبري جامع الصغير للسيوطي جواهر الكلام في الفقه الخصال للصدوق الدر المنثور للسيوطي سعد السعود لابن طاوس شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد صحيفة الرضا عليه السّلام علل الشرائع للصدوق عوالي اللئالي

تفسير الصراط المستقيم، ج 5، ص: 488

عيون الأخبار للصدوق فرحة الغري لابن طاوس الكافي للكليني كامل الزيارات لابن قولويه الكشاف للزمخشري كشف الظنون كنز الدقائق للمشهدي كنز العمال للمتقي الهندي لسان العرب لابن منظور مجمع البيان للطبرسي المحاسن للبرقي مرآة العقول للمجلسي المزهّر للسيوطي مشكل اعراب القرآن مطالب السؤل لابن طلحة معاني الاخبار للصدوق ملحقات احقاق الحق المفردات للراغب الأصبهاني الملاحم لابن المنادى المناقب للخوارزمي المناقب لابن شهراشوب المناقب لابن المغازلي المنتخب لابن الجزري النهاية للجزري نهج البلاغة للسيد الرضيّ الوافي لفيض الكاشاني الوسائل للشيخ الحرّ العاملي ينابيع المودة للنقشبندي الحنفي

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.