تفسير الصراط المستقيم المجلد 4

اشارة

سرشناسه : بروجردی، حسین بن رضا، ق 1276 - 1238

عنوان و نام پديدآور : تفسیر الصراط المستقیم/ تالیف حسین البروجردی؛ صححه و علق علیه غلامرضابن علی اکبر البروجردی

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان، 1416ق. = - 1374.

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عنوان دیگر: صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم

موضوع : تفاسیر (سوره فاتحه)

موضوع : تفاسیر (سوره بقره)

موضوع : تفسیر

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن ق 13

شناسه افزوده : مولانا بروجردی، غلامرضا، مصحح

رده بندی کنگره : BP102/ب 4ت 7

رده بندی دیویی : 297/18

شماره کتابشناسی ملی : م 75-2634

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

تفسير سورة البقرة

وجه التسمية:

سمّيت بها لاشتمالها على قصّة ذبحها الّتي فيها الإشارة إلى ما هي الغاية القصوى و السعادة العظمى أعني تحصيل الحياة الطيّبة الأبديّة، و السعادة الدائمة السرمديّة، بذبح بقرة نفسه الحيوانيّة، و القوى الشهوانيّة بأسياف الرياضة على الاستقامة الّتي هي الموت الأصغر و الجهاد الأكبر إذا صلحت لذلك حيث لا فارِضٌ متهالك، و لا بِكْرٌ غير متمالك، بل عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ- على ما تسمع تمام القصّة هنالك.

و ربما يستكره أن يقال: سورة البقرة، بل قيل: ينبغي أن يقال:

السورة الّتي يذكر فيها البقرة.

و لعلّه لما يوهمه الإضافة، أو للتأسي بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في

قوله: «السورة الّتي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن» «1».

__________________________________________________

(1) رواها شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي المتوفى (509) ه ش في فردوس الأخبار ج 2 ص 344 رقم 3559 قال: عن أبي سعيد عن النبي صلّى اللّه عليه و اله: «السورة الّتي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلّموها فإنّ تعلّمها بركة. و تركها حسرة، و لا يستطيعها البطلة».

و رواها أيضا السيوطي في الجامع الصغير رقم 4841 و شرحها عبد الرءوف المناوي في فيض القدير ج 4 ص 149.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 6

و ضعف الوجهين واضح- سيّما مع ورودها على وجه الإضافة في الأخبار المعتبرة هنا «1» و في النحل، و النمل، و غيرها.

و التوصيف في النبوي تحقيق للتسمية، كما أنّه لعلّه الوجه في العنوان الذي في تفسير الإمام بمثل النبوي- و لذا عبّر عنها فيما رواه من الخبر بطريق الإضافة نعم يستفاد منه اسم آخر للسورة و هو فسطاط القرآن نظرا إلى اشتمالها على معظم أصول الدين و فروعه. و الإرشاد الى كثير من

مصالح العباد ممّا فيه نظام المعاش و نجاة المعاد، بل تسمع في النبوي الآتي أنّها سنام القرآن، و أنّها و آل عمران هما الزّهراوان، واحدتها زهراء (بفتح الزاي) لنورهما و إشراقهما، من الزهرة و هي البياض النيّر المشرق، لا من الزّهراء للبقرة الوحشيّة، و أنّها أوّل المثاني على ما مرّت «2» الى غير ذلك من الألقاب الشريفة الّتي ربما أشير إليها في الأخبار.

فضل السورة

في «ثواب الأعمال» بالإسناد، و في «المجمع» مرسلا عن مولانا الصادق عليه السّلام

__________________________________________________

(1) ستأتي الأخبار في فضلها إنشاء اللّه تعالى.

(2) راجع ج 3 ص 30 من الصراط المستقيم ط قم مؤسّسة المعارف الإسلاميّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 7

قال: «من قرأ سورة البقرة و آل عمران جاءتا يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين، أو مثل الغيّابتين» «1» يعني المظلّتين.

و مثله في تفسير الإمام عليه السّلام، و زاد بعد قوله: (أو غيابتان): أو فرقان «2» من طير صوّاف يحاجّان عن صاحبهما و يحاجّهما ربّ العزّة، و يقولان: يا ربّ الأرباب إنّ عبدك هذا قرأنا، و أظمأنا نهاره، و أسهرنا ليله، و أنصبنا بدنه، فيقول اللّه عزّ و جلّ: يا أيّها القرآن فكيف كان تسليمه لما أمرته (خ ل) (لما أنزلته فيك) من تفضيل علي بن أبي طالب أخي محمد رسول اللّه؟ فيقولان: يا ربّ الأرباب و إله الآلهة والاه، و والى وليّه (أولياءه خ ل) و عادى أعدائه، إذا قدر جهر، و إذا عجز اتقى و استتر، فيقول اللّه عزّ و جلّ: فقد عمل إذا بكما كما أمرته، و عظّم من خطبكما ما أعظمته، يا عليّ أما تسمع شهادة القرآن لوليّك هذا؟ فيقول عليّ: بلى يا ربّ، فيقول اللّه

تعالى: فاقترح له ما تريد، فيقترح له ما يريد على أمانيّ هذا القاري من الأضعاف المضاعفات ما لا يعلمه إلّا اللّه عزّ و جلّ، فيقول اللّه عزّ و جلّ: قد أعطيته ما اقترحت يا عليّ.

ثم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ والدي القارئ ليتوّجان بتاج الكرامة يضي ء نوره من مسيرة عشرة آلاف سنة، و يكسيان حلّة لا يقوّم لأقلّ سلك منها مائة ألف ضعف ما في الدنيا بما يشتمل عليه من خيراتها.

ثمّ يعطى هذا القاري الملك بيمينه في كتاب، و الخلد بشماله في كتاب.

يقرأ من كتابه بيمينه: قد جعلت من أفاضل ملوك الجنان، و من رفقاء محمّد سيّد الأنبياء، و عليّ خير الأوصياء، و الأئمّة بعدهما سادة الأتقياء.

و يقرأ من كتابه بشماله: قد أمنت الزوال و الانتقال عن هذه الملك، و أعذت

__________________________________________________

(1) ثواب الأعمال ص 133- مجمع البيان ج 1 ص 32.

(2) الفرقان (بكسر الفاء): طائفتان، قسمان من كل شي ء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 8

من الموت و الأسقام و كفيت الأمراض و الأعلال، و جنّبت حسد الحاسدين و كيد الكائدين.

ثمّ يقال له: اقرأ و ارق و منزلك عند آخر آية تقرأها.

فإذا نظر والداه إلى حليتهما و تاجيهما قالا:

«ربّنا أنّى لنا هذا الشرف و لم تبلغه أعمالنا؟ فيقال لهما: أكرم اللّه عزّ و جلّ هذا لكما بتعليمكما ولدكما القرآن» «1».

و في النبوي: «اقرأوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان او غيّابتان «2»، أو كأنّهما فرقان من طير صوّاف يحاجّان عن صاحبهما «3»، أي قطعتان من طير باسطات أجنحتها.

و في بعض نسخ الحديث: كأنّهما خرقان

بالخاء المعجمة المفتوحة و الراء المهملة من الخرق،

أو ما انخرق من الشي ء و بان منه، أو بكسر الخاء من الخرقة القطعة من الجراد.

و قيل: الصواب حزقان بالحاء المهملة و الزاي من الحزقة و هي الجماعة من الناس و الطير و غيرهما، كذا في نهاية ابن الأثير.

و كأن الترديد بين الثلاثة وقع منه صلّى اللّه عليه و آله باعتبار المراتب، و لذا قيل: إنّ الأوّل للقارئ، و الثاني للمداوم على القراءة، و الثالث لمن يقرئ مع ذلك، بناء على أنّ الكلام على الترقّي، إذ في الغيابة مزيد اختصاص لكونهما مظلّة الشخص نفسه، و الفرق من الطير فيها مع ذلك زيادة المحاجّة، و يمكن الحمل على التنزل باعتبار

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 7 كتاب العدل و المعاد ص 292 ح 5 عن تفسير الإمام عليه السّلام و ج 92 كتاب القرآن ص 268 ج 16 عن تفسير الامام عليه السّلام 4 ص 28.

(2) الغيّابة: السحابة المفردة.

(3) في سنن الدارمي ج 2 ص 450: تعلّموا سورة البقرة و آل عمران فإنّهما الزهراوان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 9

الشمول و الإحاطة، و ضمير المحاجّة للسورتين.

و عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ أربع آيات من أول البقرة و آية الكرسي و آيتين بعدهما، و ثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه الشيطان و لا ينسى القرآن «1».

و في «المجمع» عن أبيّ بن كعب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأها فصلوات اللّه عليه و رحمته، و أعطي من الأجر كالمرابط في سبيل اللّه سنة لا تسكن روعته» «2».

قال: و قال لي رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله: يا أبيّ مر المسلمين أن يتعلّموا سورة البقرة، فإنّ تعلّمها بركة، و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة، قلت: يا رسول اللّه ما البطلة؟

قال: السحرة «3».

و لعلّ المراد أنّهم لا يوفّقون لقراءتها.

و عن سهل بن سعد، عنه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لكل شي ء سناما، و سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيّام، و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال «4».

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث بعثا، ثم أخذ تتبعهم يستقرأهم، فجاء إنسان منهم، فقال: ماذا معك من القرآن؟ حتّى على أحدثهم سنّا، فقال له: ماذا معك من القرآن؟

قال: كذا و كذا و سورة البقرة، فقال: أخرجوا و هذا عليكم أمير.

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 621 ح 5 و عنه البرهان ج 1 ص 244 ح 1 و تفسير العياشي ج 1 ص 25 ح 3- و ثواب الأعمال ص 130 ح 1 و عنه بحار الأنوار ج 92 ص 265 ح 9.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 32.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 32.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 32 و عنه نور الثقلين ج 1 ص 22 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 10

قالوا: يا رسول اللّه هو أحدثنا سنّا! قال: معه سورة البقرة «1».

و سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أيّ سور القرآن أفضل؟

قال: البقرة، قيل: أيّ آي البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي «2».

و عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أعطيت السورة الّتي يذكر فيها البقرة من الذّكر الأوّل،

و أعطيت طه و الطواسين من ألواح موسى، و أعطيت فواتح القرآن، و خواتيم السّورة الّتي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، و أعطيت المفصّل نافلة «3».

و اعلم أنه

قد ورد في قصّة حنين: أنّه لمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هزيمة أصحابه عنه قال للعبّاس، و كان رجلا جهوريّا صيّتا: ناد بالقوم، و ذكّرهم العهد، فنادى العبّاس بأعلى صوته: يا أهل بيعة الشجرة، و يا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرّون؟ أذكروا العهد الّذي عاهدتم عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «4».

قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه: كأنّه وبّخهم بذلك لقوله تعالى فيها:

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ... «5». أو لاختتامها بقوله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «6». أو لاشتمالها على آيات الجهاد، كقوله:

اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ* «7».

و قوله: وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ* «8»- أو لأن أكثر آيات النفاق ذمّ

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 32 و عنه نور الثقلين ج 1 ص 22 ح 3

(2) مجمع البيان ج 1 ص 32 و عنه نور الثقلين ج 1 ص 22 ح 3

(3) مجمع البيان ج 7 ص 183 و عنه نور الثقلين ج 4 ص 107 ح 4

(4) بحار الأنوار ج 21 ص 156 ح 6 عن الإرشاد ص 72.

(5) سورة البقرة: 246.

(6) سورة البقرة: 286.

(7) سورة البقرة: 190.

(8) سورة البقرة: 192.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 11

المنافقين فيها، أو لأنّها أوّل سورة ذكر فيها قصّة مخالفة بني إسرائيل موسى بعبادة العجل، و ترك دخول حطّة و الجهاد مع العمالقة، أو أراد جماعة حفظوا سورة البقرة، تعريضا بأنّه

لا يناسب حالهم تلك فعلهم ذلك.

أقول: و لعلّ الأولى من الجميع اشتمالها على قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1». و لذا ذكّرهم ببيعة الشجرة، و هي بيعة الرضوان، و أمرهم بعده بذكر العهد الّذي عاهدوا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا ما يحكى عن بعض العامّة حيث

ورد في أخبارهم: هذا مقام الذي أنزل عليه سورة البقرة

، و قالوا: خصّها لأنّ معظم أحكام المناسك فيها سيّما ما يتعلّق بوقت الرمي «2» ففيه ما لا يخفى.

نزول السورة

أمّا نزولها فهي على ما في «المجمع» كلّها مدنيّة إلّا آية واحدة منها و هي قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية «3» فإنّها نزلت في حجّة الوداع بمنى.

لكن فيه عند التعرّض لتفسيرها: أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خرج إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ... «4» فسمّيت آية

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 40.

(2) سورة البقرة: 281.

(3) سورة البقرة: 281.

(4) سورة النساء: 128.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 12

الصيف، ثمّ نزل عليه و هو واقف بعرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... الآية «1» فعاش بعدها أحد و ثمانين يوما، ثمّ نزلت عليه آيات الرّبا، ثمّ نزلت بعدها: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... «2» و هي آخر آية نزلت من السماء.

بل صرّح أيضا في كثير من الآيات بنزولها في غير المدينة، كنزول قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ... الآية «3» حيث قالت كفّار قريش: يا محمّد صف لنا ربّك، و انسب لنا ربك.

و قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ

... «4» في صلح الحديبيّة.

و قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ... «5» بين مكة و المدينة، أو ليلة مبيت أمير المؤمنين عليه السّلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى غير ذلك ممّا تأتي الإشارة في مواضعها إنشاء اللّه تعالى.

و احتمال أن يكون المراد بكونها مدنيّة نزولها بعد الهجرة و إن نزلت في غيرها مدفوع بما في كلامه من استثناء آية واحدة نزلت في حجّة الوداع بمنى.

عدد الآيات

و أمّا عدد آيها ففي «المجمع» مائتان و ستّ و ثمانون آية في العدد الكوفي، و هو العدد المروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، و سبع في العدد البصري، و خمس

__________________________________________________

(1) المائدة: 3.

(2) البقرة: 281.

(3) البقرة: 163.

(4) البقرة: 189.

(5) البقرة: 206.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 13

حجازي، و أربع شامي، خلافها إحدى عشر آية، عدّ الكوفي الم آية، و عدّ البصري إِلَّا خائِفِينَ «1» آية، و قَوْلًا مَعْرُوفاً «2» بصريّ، عَذابٌ أَلِيمٌ «3» شاميّ، مُصْلِحُونَ «4» غيرهم، يا أُولِي الْأَلْبابِ «5» عراقي، و المدني الأخير «6»، مِنْ خَلاقٍ «7» الثاني غير المدني الأخير، يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ «8» مكيّ و المدنيّ الأوّل، تَتَفَكَّرُونَ «9» كوفيّ و شامي و المدني الأخير، الْحَيُّ الْقَيُّومُ «10» مكيّ بصري و المدني الأخير، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «11» المدني الأول، و روي عن أهل مكّة: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ «12» «13».

أقول: و فيه أنّه مخالف من وجوه لما يظهر منه رحمه اللّه عند التعرّض لتفصيل الآيات، حيث إنّ ظاهره كما يأتي أنّه لا خلاف في عدم كون

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 114.

(2) سورة

البقرة: 235.

(3) سورة البقرة: 10.

(4) سورة البقرة: 11.

(5) سورة البقرة: 179- 197.

(6) قال السيوطي في الإتقان ج 1 ص 232: اختلف في عدّ الآي أهل المدينة و مكّة، و الشام، و البصرة و الكوفة، و لأهل المدينة عددان: عدد أوّل و هو عدد أبي جعفر يزيد بن القعقاع، و شيبة بن نصاح، و عدد آخر و هو عدد إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري.

(7) سورة البقرة: 200.

(8) سورة البقرة: 215.

(9) سورة البقرة: 219.

(10) البقرة: 255.

(11) البقرة: 257.

(12) البقرة: 282.

(13) مجمع البيان ج 1 ص 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 14

عَذابٌ أَلِيمٌ «1» آية، و كذا يا أُولِي الْأَلْبابِ «2»، و كذا يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ «3»، و كذا مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «4» و لا في كون مُصْلِحُونَ «5»، و كذا مِنْ خَلاقٍ «6» الثاني، و قال في قوله: تَتَفَكَّرُونَ «7» إلى عَزِيزٌ حَكِيمٌ «8»: آيتان في الكوفي و آية واحدة فيما عداه، عدّ الكوفي تَتَفَكَّرُونَ آية و تركها غيره «9».

و في قوله: قَوْلًا مَعْرُوفاً إلى غَفُورٌ حَلِيمٌ «10»: آية في الكوفي و آيتان في غيرهم يترك قَوْلًا مَعْرُوفاً الكوفي «11».

و في قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ «12» إلى الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ: آيتان بصريّ، و آية واحدة عند غيرهم، عدّ البصري الْحَيُّ الْقَيُّومُ آية «13» و هذا كله مخالف لما صرّح به أوّلا هذا مضافا إلى أنّ المحصّل ممّا صرّح به أوّلا مخالف أيضا للأقوال الأربعة

__________________________________________________

(1) البقرة: 10.

(2) البقرة: 179- 197.

(3) البقرة: 215.

(4) البقرة: 257.

(5) البقرة: 11.

(6) البقرة: 200.

(7) البقرة: 219.

(8) البقرة: 220.

(9) مجمع البيان ج

1 ص 314.

(10) البقرة: 235.

(11) مجمع البيان: ج 1 ص 338.

(12) البقرة: 255.

(13) مجمع البيان ج 1 ص 360.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 15

الّتي نبّه عليها في صدر كلامه كما لا يخفى.

و أما تحقيق الحقّ في أعدادها و اختلافاتها فلا يحضرني شي ء من الكتب المصنّفة في ذلك لأصحابنا و غيرهم، و الخطب سهل في مثله، كسهولته في ضبط كلماتها و حروفها بعد اختلافهم في كيفيّة اعتبارهما حسب ما مرّت الإشارة إليه في الفاتحة.

[سورة البقرة(2): آية 1]

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم الكلام فيها و في غيرها من فواتح السور القرآنيّة الّتي هي المفاتح للغيوب الإمكانيّة، و الحقائق العرفانيّة يستدعي رسم مباحث:

البحث الأول: العوالم الإلهية

اعلم أنّ للّه تعالى في ملكه عوالم كلّية و جزئيّة، ملكيّة و ملكوتيّة، غيبيّة و شهوديّة، و هذه العوالم مترتّبة متناسبة متطابقة صعودا و نزولا، و أمر اللّه المفعولي ينزل في هذه العوالم المتناسبة في السلسلة الطوليّة، كما أشير إليه بقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ «1»، و إن كانت تلك الأوامر كالأوامر الجزئيّة المتنزلة فيها متناسبة أيضا في السلسلة العرضيّة.

عالم الحروف

اشارة

و من جملة تلك العوالم المتنزّلة الى الناسوت عالم الحروف، فإنّها مع

__________________________________________________

(1) سورة السجدة: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 16

انحصارها و تناهيها يشار بها إلى جميع المعارف و الحقائق، بل جميع الماهيّات و الأكوان الكليّة و الجزئيّة.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام: إنّ الكتاب الّذي أنزل على آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام أ ب ت ث ... إلخ.

بل الحروف الحقيقيّة هي الحقائق الكليّة المعبّرة عنها بالخزائن الغيبيّة المشار إليها بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «1» و هذه الخزائن الغيبيّة هي الأصول الكليّة الّتي

أشار إليها مولانا الرضا عليه التحيّة و الثناء في خبر عمران الصابي المرويّ في «العيون» و «الاحتجاج» بقوله:

«و اعلم أنّ الإبداع و المشيّة و الإرادة معناها واحد، و أسماؤها ثلاثة، و كان أول إبداعه و إرادته» الحروف الّتي جعلها أصلا لكل شي ء، و دليلا على كلّ مدرك و فاصلا لكلّ مشكل، و بتلك الحروف تفريق كل شي ء من اسم حقّ و باطل أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، و عليها اجتمعت الأمور كلّها» «2».

و جملة الكلام أنّ للحروف باعتبار درجاتها و تنزّلاتها مراتب:

مراتب الحروف
اشارة

أحدها:

الحروف الأصليّة الأوّلية:

و هي مراتب الفعل المعبّر عنها بالعلم

__________________________________________________

(1) سورة الحجر: 21.

(2) عيون الأخبار ص 87- 100- التوحيد ص 428- 457- الإحتجاج ص 226- 233 و عنها بحار الأنوار ج 10 و هذه القطعة في ص 314.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 17

و المشيّة و الارادة، و الإبداع، و القدر، و القضاء، و الإمضاء، و الأجل، و الكتاب.

و هي الأمور الّتي لا يكون شي ء في الأرض و لا في السماء إلّا بها، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحد منها فقد كفر.

و تمام الكلام في حقائقها يأتي في محلّها ان شاء اللّه تعالى و هذه الحروف يتألّف منها الكلمات التامّات الربانية، و الحقائق القادسة النورانيّة، تجلّى لها ربّها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، ألقى في هويّتها مثاله فأظهر منها أفعاله، و به سبحانه سمّي متكلّما، و كلماته التامّات الّتي تكلّم بها سبحانه بمشيّته و إرادته و ابداعه آل محمّد عليهم السّلام.

كما

في الخبر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى تفرّد في وحدانيته، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثمّ خلق من ذلك النور محمّدا و عليّا و عترته عليهم السلام، ثم تكلّم بكلمة فصارت روحا و أسكنه في ذلك النور و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلمته و بنا احتجب عن خلقه ...

الخبر «1».

و في كثير من أخبارهم وقع التصريح بذلك

كقولهم: «نحن الكلمات الّتي لا تدرك فضائلنا و لا تستقصى» «2».

بل و في الكتاب العزيز إشارات لذلك كقوله تعالى:

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «3».

و قوله تعالى:

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 15 ص 10

عن كنز الفوائد.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 174 ح 1 و ج 50 ص 166 ح 51.

(3) سورة لقمان: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 18

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ... «1».

و قوله تعالى:

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ... «2».

و قوله تعالى:

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ... «3» و قد عبّر اللّه تعالى عن المسيح على نبيّنا و آله و عليه السّلام «بِكَلِمَةٍ مِنْهُ» «4» و ستسمع ان شاء اللّه كثيرا من أخبار الباب في طيّ تلك الآيات و غيرها.

الحروف الحقيقية المعنويّة

ثانيها: الحروف الحقيقية المعنويّة و هي الذّوات المتقرّرة المخلوقة في صقع الإمكان في عالم الأمر، و تنقسم إلى جبروتيّة و ملكوتيّة، و الكلام فيها هو الكلام في حقايق الأشياء.

و قد يعبّر بكلّ من الحروف عن شي ء من مراتب الوجود من الدرّة الى الذرة كما تأتي الإشارة إليه بمشيّة اللّه سبحانه.

الحروف الشبحية الظلّية

ثالثها: الحروف الشبحية الظلّية الفكريّة المتنزّلة الى المعاني العقليّة، أو الرقائق الروحيّة، أو الصور الشخصيّة، و هي صور انتزاعيّة شخصيّة قد تنزّلت من

__________________________________________________

(1) الكهف: 109.

(2) سورة البقرة: 37.

(3) البقرة: 124.

(4) آل عمران: 45

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 19

الملكية على أحد الوجهين اللّذين مرّت إليهما الإشارة في المقدّمة الاولى في تعريف العلم «1».

الحروف المتنزّلة الفكرية

رابعها: الحروف المتنزّلة الفكرية الصورية، و ذلك أنّ المعاني إذا ارتسمت أو خطرت في الذهن فربّما يعبّر الفكر عنها بألفاظ نفسيّة تعبيرية يعبّر عنها بالكلام النفسي على ما مرّ في مسألة حدوث القرآن.

الحروف العدديّة

خامسها: الحروف العدديّة الّتي يراد بها قوى الحروف من الأعداد الّتي هي بمنزلة الأرواح.

و هي إمّا مواهب إلهيّة ذاتيّة غير متخلّفة و لذا استخرجوا منها الروحانيّات و الملائكة العلويّات و الخدّام السلفيّات، و بنوا عليها أنواع التصرّفات و العمليّات.

و إمّا أمور جعليّة اصطلاحيّة موضوعة، و لذا اختلفت باختلاف الاصطلاحات من الأمم في ترتيب الأبجد و غيرها من الدوائر، و إن كان المستفاد من بعض الأخبار أنّ المعتبر المشتهر في زمن الأئمة عليهم السّلام هو الترتيب الأبجدي المعروف من الألف الى الألف الّذي هو الغين.

ففي موثّق سماعة عن الصادق عليه السّلام قال: قلت له: رجل ضرب لغلام «2» ضربة فقطع بعض لسانه، فأفصح ببعض، و لم يفصح ببعض، فقال عليه السّلام: يقرء المعجم فما

__________________________________________________

(1) الصراط المستقيم للمؤلّف ج 1 ص 138- 139 ط قم انصاريان.

(2) في التهذيب ج 10 ص 263 ح 1043: غلامه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 20

أفصح به طرح من الدية، و ما لم يفصح الزم الدية، قال: قلت: كيف هو؟ قال: على حساب الجمل ألف ديته واحد، و الباء ديتها اثنان، و الجيم ثلاثة، و الدال أربعة، و الهاء خمسة، و الواو ستة.

ثمّ ساق الكلام في تفصيل أعداد الحروف إلى قوله: و التاء أربعمائة و كل حرف يزيد بعد هذا فله مائة درهم.

و هذا الخبر و إن دلّ على صحّة الترتيب الأبجدي المشتهر إلّا أنّه مطعون بما ذكره الشيخ و غيره من أنّ تفصيل الدية على

الحروف يجوز أن يكون من كلام بعض الرواة «1»، حيث سمعوا أنّه قال: يفرّق الدية على حروف الجمّل ظنّوا أنّه على ما يتعارفه الحسّاب و لم يكن القصد ذلك، بل القصد أنّها تقسم أجزاء متساوية «2».

أقول: و على فرض كونه من كلام بعض الرّواة أيضا يدلّ على اشتهاره بينهم.

لكنّ الظاهر من خبر أبي لبيد ابتناؤه على حساب المغاربة على ما يأتي.

الحروف اللفظية

سادسها: الحروف اللفظية الّتي هي كغيرها من الممكنات بلا فرق بين الماديّات و المجرّدات زوج تركيبي من مادّة و صورة، و يعبّر عنها بالوجود و الماهيّة.

فمادّتها هي الهواء المستنشق في الرّية و قصبتها الفائدة ترويح الروح و دفع فضلاتها و أبخرتها، و الصوت إنّما يكون بنفس الإنسان، و أصله دويّ في أصل الرية و إنّما يصير صوتا عند طرف القصبة المسمّى برأس المزمار لتضايقه ثمّ اتّساعه عند

__________________________________________________

(1) مراده انّ قوله: ألف ديته واحد ... إلخ من كلام بعض الرواة.

(2) الإستبصار ج 4 ص 293 ح 1108 و قال: لو كان الأمر على ما تضمّنته هذه الرواية لما استكملت الحروف كلّها الدية على الكمال لأنّ ذلك لا يبلغ الدية إن حسبناها على الدراهم و ان حسبناها على الدنانير تضاعفت الدية، و كل ذلك فاسد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 21

الحنجرة فيبتدئ من سعة إلى ضيق، ثمّ إلى فضاء أوسع كما في المزمار، إذ لا بدّ للصوت من ضيق ليحبس الدويّ و يقدّره، و لا بدّ أيضا من الانضمام و الانفتاح ليحصل بهما قرع الصوت.

و صورتها هي الحدود و الأطراف الّتي ينقطع عندها الصوت، مع تكيّفه بالكيفيّة الخاصّة بكلّ حدّ من تلك الحدود الّتي هي المخارج المشهورة المتعدّدة بتعدّد الحروف فإنّ القوّة النطقيّة الإنسانيّة

تنبعث بالإرادة من باطن القلب بواسطة النفس الانساني و الصوت. فيمرّ على المخارج المشهورة و تستعين باللسان في التقطيع بكلّ منها فيصحب ذلك خصوص حكم الإرادة المتعلّقة بإظهار بعض الحروف مفردة و مركّبة ليوصل بعض ما في نفسه الى المخاطب، فحيث انتهى قوة دفع و امتداد من امتدادات نفسه، و ذلك لا يكون إلا عند مخرج من المخارج ظهر للنفس حين الانتهاء تعيّن خاصّ بالصدر الفاصل فينقطع الصوت به منتهيا إليه، متكيّفا بكيفيته، و لذا يسمّى حرفا، اي طرفا مع كونه اسما لا حرفا بمعنى قسيمه، مع أنّ الأخير اصطلاح مستحدث، و الأوّل مبني على أصل اللّغة.

ثم من مننه سبحانه و له الحمد أنّ هذه الحروف المعدودة الميسّرة يعبّر بها عن المعاني الكثيرة الّتي لا تكاد تتناهى، بل عن اللغات الكثيرة المنتشرة بين الأمم من لدن آدم عليه السّلام، و ذلك لاختلاف وجود تأليف الكلمات في أنفسها و مع غيرها، و إن كانت الأعداد الحاصلة بالاعتبار الأوّل ليست بهذه الكثرة.

قال شيخنا البهائي رحمه اللّه: إذا قيل: كم يحصل من تركيب الحروف المعجم كلمة ثنائيّة سواء كانت مهملة أو مستعملة؟

فاضرب ثمانية و عشرين في سبعة و عشرين فالحاصل جواب.

فإن قيل: كم يتركّب منها كلمة ثلاثية بشرط ان لا يجتمع حرفان من جنس واحد؟ فاضرب ثمانية و عشرين في سبعة و عشرين، ثم المبلغ في ستّة و عشرين

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 22

يكن تسعة عشر ألفا و ستّمائة و ستة و خمسين، و إن سئل عن الرباعيّة فاضرب هذا المبلغ في خمسة و عشرين، و القياس فيه مطرد في الخماسي فما فوقه.

الحروف الكتبيّة

سابعها: الحروف الكتبيّة، و تسمّى بالرقمية، و النقشيّة، و الرسميّة و الخطّية، و

هي الحاصلة من انبساط الألف اللينة بأطوار الحدود و القيود من الاستقامة و أنحاء الاعوجاج.

فمادّتها هي المداد الكائن في الدواة أو على القلم الصالح لكتابة كلّ حرف من الحروف به من مستقيم و معوج و طويل و قصير، و غيرها.

و صورتها هي الأطراف و الحدود الّتي ينتهي بها ظهور المداد على اللوح من جميع الوجوه في كلّ الجهات.

ثم اعلم أنّ المداد و نفس الإنسان في الحروف المثاليّة الظلّية بمنزلة مثال لنفس الرّحمن المشار اليه

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أشمّ نفس الرّحمن من قبل يمن» «1» في الحروف الحقيقيّة المعنويّة و هذا النفس هو المعبّر عنه بالمشيّة الكليّة و المحبّة الحقيقية، و الفيض الأوّل، و الوجود المطلق، و اللاتعيّن الأوّل، و القدم المخلوق، و حضرة الفعل، و سرادق الإرادة، الى غير ذلك من الألقاب الشريفة المستفادة من الكتاب و السنّة تصريحا او تلويحا يفهمه من يفهمه، فإذا تقيّد هذا الوجود بلواحق الماهيّات و مقتضاياتها و حدودها حصل الوجودات المقيّدة المسمّاة

__________________________________________________

(1) لم أجده بهذا اللفظ و لكن ورد في عوالي اللئالي: ج 1 ص 51 ح 74، بهذا اللفظ: إني لأجد نفس الرّحمن يأتيني من قبل اليمن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 23

بالحروف العاليات، و هذا مقام المفعول كما أنّ الأوّل رتبة الفعل، و هذه الحروف الحقيقية بحار زخّارة عميقة، بل حقائق كلّية غير متناهية يظهر رشحاتها و آثارها فيما دونها بطريق الإشراق و الانعكاس فيتحصّل باعتبار الحدود و التقيدات و التكثرات عوالم كلّية غير متناهية لا يحيط بها الّا خالقها و من أشهدهم خلقها، و هم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين.

كما

قال مولانا الحجّة

عجّل اللّه فرجه: «أعضاد، و أشهاد، و مناة، و أزواد، و حفظة، و رواد» «1» بل هو المقتبس تلويحا من قوله تعالى في حقّ أعدائهم: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «2».

و قد صرّح به مولانا الباقر عليه السّلام على ما رواه

في «الكافي» عن ابن سنان قال:

كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السّلام فأجريت إختلاف الشيعة فقال: يا محمّد إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يزل متفرّدا بوحدانيّته، ثمّ خلق محمّدا، و عليّا، و فاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، و أجرى طاعتهم عليها و فوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤن و يحرّمون ما يشاؤن، و لن يشاءوا إلّا أن يشاء اللّه تبارك و تعالى.

ثم قال: يا محمد هذه الديانة الّتي من تقدّمها مرق، و من تخلّف عنها محق، و من لزمها لحق، خذها إليك يا محمد «3».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 98 ص 393.

(2) الكهف: 51.

(3) اصول الكافي ج 1 ص 440 و 441 و عنه بحار الأنوار ج 25 ص 340 ح 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 24

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي لا يخفى تواترها على من اطّلع عليها.

[البحث الثاني عدد الحروف العربية

اشارة

قد طال التشاجر بين أهل اللغة في عدد الحروف المستعملة في اللغة العربيّة، فالمشهور بينهم انّها ثمانية و عشرون حرفا بعدّ الهمزة و الألف حرفا واحدا، و لذا قسّموه إلى ليّنة و متحرّكة و ربما يظهر ذلك أيضا من المحكيّ عن الخليل و الجوهري، و غيرهما من أهل اللغة، بل هو المشهور بين الفقهاء أيضا، بل قد استفيض عليه دعوى الإجماع منهم،

و قالوا في القول الآخر الآتي بالطرح و الشذوذ، و هو المصرّح به في كثير من الأخبار،

كخبر السكوني عن الصادق عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أتي برجل ضرب فذهب بعض كلامه، و بقي بعض كلامه، فجعل ديته على حروف المعجم كلها ... إلى أن قال: و المعجم ثمانية و عشرون حرفا «1».

و في «الفقه» المنسوب الى مولانا الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء: «يقرء حروف المعجم، .... الى أن قيل له: كيف ذلك؟ قال: بحساب الجمّل، و هو حروف أبي جاد، من واحد إلى الألف، و عدد حروفه ثمانية و عشرون حرفا «2».

و في خبر عمران الصابي عن الرضا عليه السّلام: أنّها ثمانية و عشرون حرفا تدلّ على لغات العربية «3».

و هو المستفاد من جدول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و جدول إدريس النبي

__________________________________________________

(1) التهذيب ج 2 ص 519 و الاستبصار ج 4 ص 293 ح 5.

(2) بحار الأنوار، ج 104، ص 415، ح 318.

(3) بحار الأنوار ج 10 ص 314.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 25

على نبينا و آله و عليه السّلام المرويّين عنهما في طبائع الحروف.

بل قيل: إنّ هذا العدد هو المشهور المعروف بين أهل الشرع و العرف و الفنّ، و أنّ كلّ أعمالهم ينطبق عليها، و يظهر ذلك أيضا من بعض الأخبار المفسّرة لحرف أبجد.

و في صحيح ابن سنان من طريق الصدوق التصريح بهذا العدد أيضا. لكن فيه من طريق الكليني أنّها تسعة و عشرون حرفا.

و روي عن أبي ذرّ الغفاري أنّه قال: قلت: يا رسول اللّه أيّ كتاب أنزل اللّه على آدم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كتاب المعجم، قلت: أيّ كتاب

المعجم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ا ب ت ث الى آخرها قلت: يا رسول اللّه كم حرف؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تسعة و عشرون، قلت: يا رسول اللّه عددت ثمانية و عشرين حرفا، فغضب رسول اللّه حتى احمرّت عيناه، فقال: يا أبا ذر و الّذي بعثني بالحق نبيّا ما أنزل اللّه على آدم إلّا تسعة و عشرين حرفا، فقلت: يا رسول اللّه أليس فيها لام و ألف؟ فقال: ألف حرف واحد قد أنزل اللّه على آدم في صحيفة واحدة و معه سبعون ألف ملك، من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل اللّه عليّ «1».

و ستسمع في الرضوي الآتي، و الخبر الآخر المتضمّن لسؤال اليهودي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن فائدة حروف الهجاء و تفسيرها عدّ لام ألف أيضا في طيّها و تفسيرها بلا إله إلّا اللّه.

و هذا هو المشهور بين اهل العربيّة على ما يحكى عنهم، و اختاره بعض الفقهاء أيضا كيحيى بن سعيد، و غيره.

بل عن الأردبيلي أنه مقتضى الوجدان. و كأنّه يشير الى مخالفتها للهمزة في

__________________________________________________

(1) ينابيع المودة لذوي القربى ج 3 ص 202.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 26

المخرج، على ما صرح به غير واحد من أصحاب هذا الشأن.

بل عن سيبويه التصريح بأنّ أصل الحروف العربيّة تسعة و عشرون حرفا.

و هي الهمزة، و الألف، و الهاء ... إلخ و عنه و عن الأخفش، و ناظم الشاطبية و شرّاحة أنّ حروف الحلق سبعة بزيادة الألف، و جعلوا مخرجها بعد الهمزة قبل الهاء، أو بعدها. و في «طيبة النشر» للجزري: أنّ للحروف الثلاثة الليّنة و هي الجوفيّة هواء

الفم، و لذا تسمّى هوائيّة أيضا.

الى غير ذلك مما يدلّ على مغايرتها للهمزة، و لذا اضطرب كلمات الفريقين في الجمع بين الدليلين، و تحقيق ما هو الحقّ في البين.

فعن بعضهم القطع بالتغاير مع اختلاف المخرجين، و احتمال الأمرين مع الاتّحاد، و عن صاحب «الكشّاف»، و غيره أنّها تسعة و عشرون حرفا و اسمها ثمانية و عشرون.

و اختار بعض مشايخنا عطّر اللّه مرقده كونها تسعة و عشرين نطقا و ثمانية و عشرين دية، و جمع بذلك بين كلام أهل العربية و الفقهاء.

أقول: أمّا اختلاف المخرجين فلا بدّ من التزامه على فرض القول به في الواو و الياء الليّنتين أيضا كما عن الجزري، إلّا أنّ هذا القول شديد الشذوذ جدّا، فإنّ مخرج كلّ من الواو و الياء على فرض كونها ليّنة و غيرها متّحد عند الجمهور، و مثلها الهمزة و الألف، و لا يخفى أنّ مجرّد الإختلاف في المخرج لا يقضي بالتعدد فإنّ الحروف اللّينة مخارجها مغايرة لأصولها عند الجزري، و لا أراه و لا غيره يلتزم بزيادة عددها على أعداد الحروف، و من هنا يظهر ترجيح القول بكونها ثمانية و عشرين على ما هو المشهور المستفاد من المعتبرة المتقدّمة كما ظهر منه أيضا ضعف الوجوه المتقدّمة المحكيّة عنهم حتى الخبرين المتعارضين بأرجح منهما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 27

سندا و عددا و دلالة، و اعتضادا، على أنّه يمكن الجمع بينهما بما يأتي.

و أمّا الجمع بالفصل على أحد الوجهين المقدّم فضعيف جدّا بعد التأمّل في الأخبار المتقدّمة سيّما قوله: «فجعل ديته على حروف المعجم كلّها»، و غيره ممّا مرّ.

منازل القمر

نعم، ربما يستدلّ لترجيح ما رجّحناه من العدد بمطابقته لمنازل القمر «1».

__________________________________________________

(1) اصطلاح هيوي و نجومي و

هو مسافة يقطعها القمر في مدة «28» يوما تقريبا و اسماء المنازل على ما اصطلحوا هكذا:

1- شرطان (بفتح الشين و الراء) أو بضمّ الشين، هو المنزل الأوّل و علامته نجمان زاهران على قرني الحمل بعد أحدهما عن الآخر ذراع واحد.

2- بطين (بضمّ الباء و فتح الطاء): المنزل الثاني و علامته نجوم ثلاثة.

3- الثريا (بضمّ الثاء و فتح الراء): المنزل الثالث و علامته ستّة نجوم متقاربة على شكل المسدّس.

4- الدبران (بفتح الدال و الباء): المنزل الرابع مشتمل على خمسة كواكب في برج الثور.

5- الهقعة (بفتح الهاء و سكون القاف) المنزل الخامس و علامته ثلاثة كواكب نيّرة فوق منكبي الجوزاء قريب بعضها من بعض كالأثافي 6- الهنعة (بفتح الهاء و سكون النون) المنزل السادس و علامته خمسة أنجم مصطفّة على مؤخّر الجوزاء 7- الذراع (بكسر الذال): المنزل السابع و علامته كوكبان بمنزلة الرأس من التوأمين و كل تلك المنازل السبعة تكون في فصل الربيع.

8- النثر (بفتح النون و سكون الثاء): المنزل الثامن و هو في السرطان و علامته كوكبان بينهما قدر شبر، و فيهما لطخ بياض كأنّه قطعة سحاب.

9- الطرف (بفتح الطاء): لا منزل التاسع للقمر في الصيف.

10- الجبهة: المنزل العاشر علامته أربعة كواكب على جنوب الأسد، و على زعم العرب هذه الكواكب الأربعة على جبهة الأسد.

11- الزبرة (بفتح الزاي): المنزل الحادي عشر في الأسد، علامته كوكبان على مؤخّر صورة الأسد بينهما ذراعان.

12- الصرفة (بفتح الصاد و سكون الراء): المنزل الثاني عشر، و علامته كوكب نيّر بمنزلة ذنب الأسد، أو قضيبه.

13- العراء (بفتح العين): المنزل الثالث عشر كواكبه اثنا و عشرون كوكبا على صورة رجل مدّ يديه.

14- السماك (بكسر السين المهملة): المنزل الرابع عشر في برج السنبلة

علامته كوكبان نيّران يقال لأحدهما: السماك الرامح، و للآخر: السماك الأعزل، و هذه المنازل السبعة تكون في فصل الصيف.

15- الغفر (بفتح الغين و سكون الفاء): المنزل الخامس عشر و علامته ثلاثة أنجم صغار في برج الميزان على خطّ مقوّس.

16- الزبانا (بضمّ الزاي): المنزل السادس عشر و علامته كوكبان على كفّتي الميزان و العرب تقول:

الكوكبان واقعان في زباني العقرب.

17- الإكليل (بكسر الهمزة): المنزل السابع عشر و علامته ثلاثة كواكب على جبهة العقرب.

18- القلب: المنزل الثامن عشر و علامته كوكب أحمر واقع بين كوكبين على خط مقوّس تحت الإكليل و كأنّه واقع في محلّ قلب العقرب.

19- الشولة (بفتح الشين): المنزل التاسع عشر و علامته كوكبان بينهما شبر.

20- النعائم: المنزل العشرون، و علامته ثمانية كواكب في المجرّة و خارجها على صورة النعامة أربعة منها داخلة في مجرّة، و اربعة منها خارجة.

21- بلدة الثعلب: المنزل الواحد و العشرون و هي فضاء واسعة بين النعائم و بين ذابح، و ليس فيها كوكب و هذه المنازل السبعة في فصل الخريف.

22- سعد الذابح: المنزل الثاني و العشرون و علامته كوكبان من كواكب صورة الجدي: الأول و الثالث كأنّهما على قرني الجدي.

23- سعد البلع، أو سعد البالع: المنزل الثالث و العشرون و علامته كوكبان واقعان على يسار صورة ساكب الماء.

24- سعد السعود: المنزل الرابع و العشرون و علامته كوكبان أحدهما في الشمال على المنكب الشمالي لساكب الماء، و الآخر واقع تحت إبطه.

25- سعد الأخبية: المنزل الخامس و العشرون، و علامته أربعة كواكب وقعت على الكفّ اليمنى من ساكب الماء.

26- الفرغ الأول، أو الفرغ المقدّم: المنزل السادس و الشعرون و علامته كوكبان نيّران من كواكب الفرس الأعظم.

27- الفرغ الثاني او الفرغ المؤخّر: المنزل السابع

و العشرون و علامته أيضا كوكبان نيّران من كواكب الفرس الأعظم.

28- بطن الحوت: الثامن و العشرون و علامته كوكب نيّر على رأس المرأة المسلسلة.

و هذه المنازل السبعة منازل القمر في فصل الشتاء.

و من أراد التفصيل فليطلبه في المفصّلات في النجوم و الهيئة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 29

و بأنّ أجزاء السبعة الّتي هي العدد الكامل ثمانية و عشرون، فإنّه الحاصل من جمع الواحد الى السبعة على النظم الطبيعي، و هو مرتبة الكمال للعدد.

و بأنّ مراتب الأعداد الّتي يعبّر عنها بالحروف تسعة للآحاد، و تسعة للعشرات، و تسعة للمئات، و واحد للألف.

و بأنّ الأصل في الموجودات كلّها الطبائع الأربع الّتي ظهرت في الأكوار السبعة، و هي الأيّام الستّة الّتي خلق اللّه فيها السماوات و الأرض، و اليوم السابع الّذي أكملها فيه، فلمّا ظهرت تلك الطبائع في هذه المراتب على حسبها في الشدّة و الضعف صارت لكلّ طبيعة سبع طبقات في قوّتها و ضعفها، فكان تمام الأمر في ثمانية و عشرين، و الحروف اللفظية على طبقها، و لذا قسمت على أربعة أقسام:

نارية، و هوائيّة، و مائية، و ترابيّة، و قسم كلّ منها سبعة أقسام الى آخر ما ذكروه «1».

__________________________________________________

(1) الحروف النارية: ا ه ط م ف ش ذ.

و الحروف الهوائية: ب و ي ن ص ت ض.

و الحروف المائية: ج ز ك س ق ث ظ.

و الحروف الترابية: د ح ل ع ر خ غ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 30

و بأنّ الأصل و العلة في إحداث الموجودات و إبرازها ظهور الإسم الأعظم الظاهر في الأركان الأربعة الّتي حدود بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*، كما

قال مولانا موسى بن جعفر عليهما السّلام: إنّ الإسم الأعظم أربعة أحرف: الحرف

الأوّل لا إله إلّا اللّه، و الحرف الثاني محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الحرف الثالث نحن و الرابع شيعتنا.

و لمّا كانت الأشياء بنيت على الكمال، و حدّ الكمال في الأعداد سبعة فكانت مراتب الأشياء سبعة، و لكلّ من هذه الأربعة يجب أن يكون ظهور في كلّ من هذه السبعة فكان تمام الوجود و كماله بثمانية و عشرين مرتبة، و كل مرتبة حرف من حروف الكلمة التامّة الكونيّة الوجودية الّتي تعلّق بها الكلمة التامّة الفعلية، و الحروف اللّفظية صفة للحروف الكونية المعنويّة، فوجب أن تطابقها و لا تخالفها.

و لا يخفى عليك أنّ هذه الوجوه كلّها استحسانات اعتبارية، و اعتبارات جعليّة لا ينبغي الإصغاء إليها، فضلا عن الاعتماد عليها «1».

نعم قد يقال: إنّ الألف الليّنة هي مادّة الموادّ لجميع الحروف، من حيث إنّه الصوت الممتدّ في الفضاء من غير تقطيع، فبأنواع التقطيع و انحائها يتنوّع منه الحروف، فهو الأصل فيها، و كلّ منها إنّما يتحصّل بظهوره في الصور الكثيرة.

و لعلّه هو المراد بقول مولانا الصادق عليه السّلام فيما رواه الثعلبي عنه على ما يأتي

__________________________________________________

(1) و إلّا فيمكن الاستدلال لمن يقول بأنّها تسع و عشرون بأنّ الألف الليّنة غير المتحركة بدليل اختلاف مخرجهما، و ثانيا يحتمل أنّ كون (الم) في أول سورة البقرة دليلا على أنّ الحروف الّتي تركّب عنها القرآن تكون تسع و عشرين لأنّ: عدد آلاف و اللام و الميم بحساب الأبجد الوضعي يكون تسع و عشرين لأنّ عدد الالف: (12) و عدد اللام: (8) و عدد الميم: (9).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 31

في البحث السابع من عدّ الصفات الستّة للألف

الى أن قال عليه السّلام: و

معناه من الألفة، فكما أنّ اللّه تعالى سبب الفة الخلق فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف و هو سبب ألفتها «1».

كما انّه هو المراد أيضا بقول بعضهم: إنّ الحروف الثمانية و العشرين أولاد تولّدت من أب واحد و امّهات شتّى، فإذا لوحظت الأولاد فهي ثمانية و عشرون، و إذا لوحظ الأب معها كانت تسعة و عشرين، و لذا ورد الخبر بهما معا، و ذلك كما ربّما يعدّ الأئمة الإثنى عشر عليهم السّلام، و قد يعدّ معهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ابنته الصديقة الطاهرة سلام اللّه عليها فيقال: إنّهم أربعة عشر.

و أمّا اختيار خصوص اللام للتوصّل إلى التلفّظ بالألف الّتي لا تقبل الحركة فيمتنع الابتداء بها، فقد يعلّل بأنها الأصل في حروف العلّة، بل العلّة المادية لسائر الحروف فيناسب تركّبها مع الحرف الحاصل لقوى تمام القابليّة و هي ثلاثون، مع أنّها في هذه الرتبة بعد عدّ تسعة و عشرين.

و بأنّ كلّا منهما قلب الآخر.

و بأنّهم عوّضوه من التوصّل باللام الساكنة الّتي للتعريف.

و الأولى من الجميع الاستناد فيها الى ما مرّ من خبر أبي ذر، و ما يأتي من الأخبار المتضمّنة لمعاني الحروف.

و روي في بعض كتب علم الحروف عن مولانا سيد الشهداء عليه السّلام أنّه قال: علم الحروف في لام ألف، و علم لام ألف في الألف، و علم الألف في النقطة، و علم النقطة في المعرفة الأصلية، و علم المعرفة الأصلية في علم الأزل، و علم الأزل في المشيّة

__________________________________________________

(1) مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 169.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 32

أي المعلوم، و علم المشيّة في غيب الهويّة، و هو الّذي دعى اللّه إليه نبيّه قال تعالى:

فَاعْلَمْ أَنَّهُ «1»

... و الهاء راجع الى غيب الهويّة «2».

ثمّ إنّ هذه الحروف هي المستعملة في اللغة العربية الّتي هي الأصل في اللغات و الألسنة و الكتب الإلهية على ما تأتي الإشارة اليه في موضعه، و امّا غيرها من اللغات فربما يستعملون بعضها، و ربما يزيدون عليها كما

قال مولانا الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء: و العبارات كلّها من اللّه عزّ و جلّ علّمها خلقه و هي ثلاثة و ثلاثون حرفا، فمنها ثمانية و عشرون حرفا تدلّ على اللغات العربية، و من الثمانية و العشرين اثنان و عشرون حرفا تدلّ على اللغات السريانية و العبرانيّة، و منها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها، و هي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية و العشرين الحروف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة و ثلاثين حرفا، فأمّا الخمسة المختلفة فبحجج لا يجوز ذكرها اكثر مما ذكرناه «3».

أقول: و هذه الخمسة المتحرّفة هي الپاء «4»، و الچيم «5»، و الژاي «6»، و التاء الهندية. و الگاف «7». و هي الّتي تحرّفت من الثمانية و العشرين في اللغة العجميّة الّتي يراد بها ما سوى العربية مطلقا.

لكنّه قد يقال: إنّ الّذي وجدناه بالتتبّع في الحروف المتحرفة في اللغات

__________________________________________________

(1) سورة محمد (ص): 19.

(2) ينابيع المودة لذوي القربى ج 3 ص 198.

(3) التوحيد ص 318 و العيون ج 1 ص 169 و عنهما البحار ج 57 ص 50.

(4) مثل «پياده» بمعنى الراجل.

(5) نحو «چه ميگويى» أي ماذا تقول.

(6) مثل «ژاله» أي الندى، الطلّ، المطر الضعيف.

(7) مثل «بگو» أي قل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 33

وجدنا اكثر من ذلك.

و أمّا قوله عليه السّلام: (فبحجج) فقد

يقال: إنّ الموجود في النسخ فبحجج: جمع الحجّة أي بعلل و أسباب من انحراف لهجات الخلق، و اختلاف منطقهم.

أو أنّ الأظهر أنّه عليه السّلام ذكر تلك الحروف فاشتبه على الرواة و صحّفوها.

و قد يقال: انّه مضارع ثلاثي من الخجّ (بالخاء المعجمة و الجيم) بمعنى الالتواء و الدفع و النسف في التراب، و يكون حاصل معناه أنّ هذه الخمسة ينبغي أن تدفع و تنسف في التراب لاستهجان التلفظ بها في لغة العرب.

أو انّها من باب التفعيل بالخاء المعجمة أيضا بمعنى الإخفاء في النفس أي هذه الخمسة ينبغي أن تخفى في النفس.

البحث الثالث: انقسام الحروف

ربما تنقسم الحروف باعتبارات شتّى الى اقسام مختلفة:

كانقسامها الى الحروف العليّة و الدنيّة، فالعليّة ما كان قوامها بالألف مع اختتامها مطلقا أو وصلا بالهمزة، و هي أحد عشر حرفا يجمعها: (خطير ثبت حفظه) و الدنيّة ما لم يختتم بالهمزة و هي سبعة عشر حرفا، و منها الزاي لاختتامها بالياء.

و الى القمرية و الشمسية، فالقمرية ما يظهر لام التعريف عندها من دون إدغام، و هي اربعة عشر حرفا يجمعها قولك: (ابغ حجك و خف عقيمه)، و الشمسيّة بخلافها كما في اللفظتين فهو من تسمية الكل باسم الجزء.

و الى ناطقة معجمة، و صامتة عارية عن النقطة، و الصوامت ثلاثة عشر، و إن قلنا بمغايرة الالف للهمزة فأربعة عشر، و على الوجهين فالنواطق أزيد، و لذا سمّي الكلّ بالمعجم تغليبا، أو الإعجام هو الإبهام و الهمزة للسلب، فبالنقطة تزول عجمته.

و تنقسم أيضا الى النورانية و الظلمانية، و الروحيّة و الجسميّة، و الحارة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 34

و الباردة، و الرطبة و اليابسة، و غير ذلك من الأقسام الّتي ينبغي الرجوع فيها الى أرباب تلك الصناعة.

إنّما الكلام في

المقام في انقسامها الى النورانيّة و الظلمانية فالنورانية هي المقطّعات في فواتح السور و هي أربعة عشر حرفا بعد حذف المكرّرات يجمعها قولك: «صراط عليّ حقّ نمسكه»، أو «عليّ صراط حقّ نمسكه».

و تنقسم النورانية أيضا الى عليّ و أعلى، فالعليّ سبعة يجمعها قولك: طريق سمح» و الأعلى أيضا سبعة يجمعها «صانعك له» فالمجموع «صانعك له طريق سمح».

و تسمية تلك الحروف بالنورانيّة في مصطلح القوم إنّما هو لشرف الإختصاص بالافتتاح، و ان كان ذلك لخواصّ واقعيّة، و منح ربانيّة تختصّ بها دون غيرها.

نعم قد ذكر بعضهم أنّها مختصّة بمزايا لا تكاد بجملتها في غيرها، مثل أنّ مجموع الحروف النورانيّة الواقعة في الفواتح على تكرار الحروف ثمانية و سبعون حرفا، و هي مع كونها نصف الحروف كأنّها قائمة مقام جميعها، لأنّ عدد هجاء حروف المعجم التسعة و العشرين مجموعه ثمانية و سبعون.

و أنّه ليس اسم من اسماء اللّه تعالى الا و فيه من هذه الحروف النورانية، و ليس شي ء من الأسماء خلوا منها إلّا اسمه «الودود»، و له سرّ غريب عند أهله.

و أنّ الحروف الظلمانية لا ينتظم منها كلام عربي تامّ و هي: (غ ض ش ج ب ث خ ذ و ز د ف ت ظ) بخلاف الحروف النورانية الّتي يتألّف منها أنواع من الكلم التامة حسبما سمعت.

و أنّك إذا استقريت الكلم و تراكيبها رأيت هذه الحروف اكثر وقوعا و أشيع دورانا في تراكيب الكلم من الحروف الّتي لم يجر لها ذكر في الفواتح.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 35

بل قد يؤيّد ذلك بأنّ الألف و اللام لمّا تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين كما في التسع من البقرة الى الحجر، و في

الروم، و العنكبوت، و لقمان، و السجدة.

و أنّ هذه الحروف الأربعة عشر إذا تأمّل فيها المتأمّل وجدها مشتملة على أنصاف أصناف الحروف.

إمّا تحقيقا كما في الحروف المهموسة الّتي يضعف الاعتماد على مخرجها تجمعها (فحثّه شخص سكت) «1» نصفها: (ح ه ص س ك).

و فيها من المجهورة الّتي هي البواقي نصفها: (ل ن ي ق ط ع ا م ر).

و فيها من الشديدة الّتي ينحصر فيها جري الصوت عند مخرجه و هي الثمانية المجموعة في (أجدت قطبك) نصفها: (ا ق ط ك).

و فيها من ضدّ الشديدة أي الرخوة الّتي هي بواقي الحروف نصفها: (ح م س ع ن ص ل ي ر ه).

و فيها من المطبقة و هي الّتي ينطبق فيها اللسان على الحنك الأعلى فينحصر الصوت حينئذ بين اللسان و ما حاذاه من الحنك الأعلى، و هي: (الصاد، و الضاد، و الطاء، و الظاء) نصفها: (ص ط).

و فيها من البواقي الّتي هي ضدّها المسماة بالمنفتحة نصفها: (ا ل ح ق ن ي م ع س ك ر ه).

و إما تقريبا كما في المستعلية الّتي يتصعّد الصوت بها في الحنك الأعلى و هي سبعة: (ق ص ض ط ظ خ ع) و لا نصف لها تحقيقا، و فيها أربعة منها و هي:

__________________________________________________

(1) و تجمعها أيضا: (ستحثك خصفه) الخصفة اسم امراة و معنى الجملة: ستصرّ خصفه في سؤالها عنك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 36

(ق ص ط ع).

و كما في حروف القلقلة و هي خمسة مجتمعة في (قد طبج) و فيها اثنان منها و هما: (ق ط).

الى غير ذلك من أصناف الحروف على ما حرّره القاضي «1» تبعا للزمخشري «2» و غيره.

و يظهر بالتأمل فيما

مرّ و غيره أنّ تخصيص تلك الحروف مع ما هي عليها من الخواصّ و المزايا سيّما إذا وقع من الأمّي الّذي لم يعهد له دراسة و لا كتابة و لا خلطة مع أرباب تلك الصناعة مشتمل على ضرب من الإعجاز.

البحث الرابع: اشتمال الحروف على علوم جمّة

اشارة

في اشتمال الحروف على العلوم الجمّة، و المقاصد المهمّة.

اعلم أنّ هذه الحروف المثاليّة الكلية هيولا قابلة لصور جميع المعاني الكليّة و الجزئية، و هي مفاتيح الإلهيّة للخزائن الغيبيّة يؤلّفها من ائتمنه اللّه على سرّه، و اطّلعه على غيبه فيفتح بها الأبواب الّتي ينفتح من كلّ منها ألف باب، كما يستفاد ممّا يمرّ عليك من الأخبار.

بل

ورد في تفسير قوله: (الم)* و (عسق). و غيرهما أنّها من حروف اسم اللّه

__________________________________________________

(1) هو ناصر الدين أبو الخير عبد اللّه بن عمر القاضي البيضاوي الشافعي المفسّر المتوفّى (685) ه.

(2) هو ابو القاسم جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي المولود (467) و المتوفّى (538) و ما أشار المصنّف اليه مذكور في الكشاف للزمخشري ج 1 ص 101- 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 37

الأعظم المقطع في القرآن الّذي يؤلّفه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الامام عليه السّلام فإذا دعا به أجيب «1».

و لذا نسبوا علم الحروف و الجفر الى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و الى ذريّته الطيّبين صلوات اللّه عليهم أجمعين، كما نطقت به الأخبار الكثيرة الّتي يضيق عن التعرض لها نطاق الكلام في المقام، بل هو المسلّم عند الخاصّ و العامّ، كما وقع التصريح به كثيرا في كلمات العامّة «2».

و قد مرّت عبارة السيّد الشريف في المقدّمة الاولى من هذا التفسير «3».

و عن الغزالي في «سرّ المصون و الجوهر المكنون»

أنّ كتابه هذا مشتمل على لوح المثلّث و مستخرج مما جمعه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في كتابه المسمّى بجفر جامع الدنيا و الآخرة، و لم يطّلع على كشف خفايا ما فيه من الأسرار النورانيّة و الأنوار الربانيّة الّا سبطه جعفر الصادق عليه السّلام.

و كتب مولانا الرضا عليه السّلام في آخر ما كتبه بعد ما أخذ المأمون له ولاية العهد:

«و الجفر و الجامعة يدلّان على ضدّ ذلك، وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يقضي بالحقّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ، لكنّي امتثلت أمر أمير المؤمنين، و آثرت

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار باب معنى الحروف المقطعة في القرآن ص 23.

(2) قال القندوزي الحنفي في «الينابيع» ص 414 ط اسلامبول: عليّ أوّل من وضع مربّعا في مائة في الإسلام و قد صنّف الجفر الجامع في أسرار الحروف ... إلخ و نقل عن ابن طلحة الشافعي في الدر المنظم أنه قال: جفر الامام علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه و هو ألف و سبعمائة مصدر من مفاتيح العلوم المعروف بالجفر الجامع و قال العلّامة الأمر تسرى في أرجح المطالب ص 163 ط لاهور: علم الجفر و الحساب كان لعليّ عليه السّلام.

(3) ج 1 من الصراط المستقيم ص 35 ط طهران انتشارات الصدر: قال المحقق الشريف في شرح المواقف: الجفر و الجامعة كتابان لعلي عليه السّلام قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث ... الى انقراض العالم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 38

رضاه، و اللّه يعصمني و ايّاه «1» ....

قال الإربلي «2» في «كشف الغمّة»: رأيت خطّه عليه السّلام في واسط سنة سبع و سبعين و ستّمائة (677)

«3».

قيل: و منه استنباط فتح بيت المقدس في شهور سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة (583) من قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ ... إلى قوله تعالى: فِي بِضْعِ سِنِينَ «4»، كما ذكره في الباب الثاني من الفتوحات «5».

__________________________________________________

(1) كشف الغمّة ج 3 ص 179 و عنه البحار ج 49 ص 153.

(2) الإربلي: علي بن عيسى بن ابي الفتح أبو الحسن بهاء الدين الأديب المؤرّخ كان حيّا في سنة (687) و له مصنّفات منها كشف الغمّة في معرفة الأئمة.

(3) كشف الغمّة ج 3 ص 180 و عنه البحار ج 49 ص 154.

(4) سورة الروم: 1- 4.

(5) قال ابن عربي في الفتوحات ج 1 ص 60: إنّ البضع الّذي في سورة الروم ثمانية و خذ عدد (الم) بالجمل الصغير فتكون ثمانية. فتجمعها الى ثمانية البضع فتكون ستّة عشر، فتزيل الواحد الّذي للألف للاسّ فيبقى خمسة عشر، فتمسكها عندك ثم ترجع الى العمل في ذلك بالجمل الكبير فتضرب ثمانية البضع في أحد و سبعين و أجعل ذلك كلّه سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة و ثمانية و ستّون فتضيف إليها الخمسة عشر الّتي أمرتك أن ترفعها فتصير ثلاثة و ثمانين و خمسمائة سنة و هو زمان فتح بيت المقدس على قراءة من قرأ غلبت بفتح الغين و اللام و سيغلبون بضمّ الياء و فتح اللام.

و لا يخفى على المتأمّل ما في كلام صاحب «الفتوحات» حيث أتعب نفسه و تفوّه بكلمات واهية ليثبت أن ما اخبر اللّه سبحانه إشارة الى فتح بيت المقدس في سنة (583) و استدلّ لما رامه بالحروف و أعدادها الصغيرة و الكبيرة، و جمعها و ضربها و حذف واحد منها

بلا دليل، ثم التشبّث بقرائة شاذّة حتى ينطبق مع التاريخ المذكور الّذي فيه فتح اللّه سبحانه بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيّوبي يوسف بن أيّوب بن شادي.

و من نظر في كتب التفاسير للفريقين يعلم أنّ ما استخرجه الرّجل مخالف لمقالات كلّ المفسّرين الخاصّة و العامّة.

نعم أنّه تبع في مقالته أبا الحكم عبد السّلام بن عبد الرّحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي المعروف بابن برّجان المتصوّف المتوفّى (536) ه و له كتاب في تفسير القرآن، أكثر كلامه فيه على طريق الصوفيّة.

قال صاحب الفتوحات في ج 1 ص 59: جملتها: فواتح السور) على تكرارها ثمانية و سبعون حرفا فالثمانية حقيقة البضع، قال عليه السّلام: «الإيمان بضع و سبعون» و هذه الحروف (78) حرفا، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقايق هذه الحروف في سورها.

فإن قلت إنّ البضع مجهول في اللسان فإنّه من واحد الى تسعة، فمن أين قطعت بالثمانية عليه، فإن شئت قلت لك من طريق الكشف وصلت اليه فهو الطريق الّذي عليه أسلك و الركن الّذي اليه أستند في علومى كلّها، و إن شئت أبديت لك طرفا من باب العدد.

و إن كان أبو الحكم عبد السّلام بن برّجان لم يذكره في كتابه من هذا الباب الّذي نذكره، و إنّما ذكره من جهة علم الفلك، و جعله سترا على كشفه حين قطع بفتح بيت المقدّس سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة، فكذلك إن شئنا نحن كشفنا، و إن شئنا جعلنا العدد على ذلك حجابا، فنقول:

إنّ البضع في سورة الروم ثمانية، و خذ عدد (الم) ... إلى آخر ما نقلناه عنه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 39

و عن ابن العبّاس: أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام كان

يستخرج الفتن و الحوادث من (حم عسق).

و عن تفسير الثعلبي، و رسائل القشيري: أنّه لمّا نزلت هذه الآية ظهر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحزن و الكآبة فقيل له في ذلك؟ فقال: نبّئت عن فتن تكون في آخر الزمان من خسف، و قذف، و نار تجمعهم، و ريح تسوقهم، و علامات بعد علامات.

و سئل مولانا أبو عبد اللّه الحسين عليه السّلام عن (كهيعص) فقال عليه السّلام: (لو أخبرتكم به لمشيتم على الماء).

و روي عن الباقر عليه السّلام أنّ كل شي ء في (عسق).

و روى الصفّار بالإسناد عن أبان بن تغلب، و المفيد في الاختصاص عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 40

الحلبي، و الكليني عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليهم السّلام، و اللفظ للأوّل، قال: كان في ذؤابة سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صحيفة صغيرة، و انّ عليّا عليه السّلام دعا ابنه الحسن عليه السّلام فدفعها إليه، و دفع إليه سكّينا و قال له: افتحها فلم يستطع فتحها، ففتحها له، ثمّ قال له: اقرأ، فقرأ الحسن عليه السّلام: الألف، و الباء، و السين، و اللام، و حرفا بعد حرف، ثمّ طواها، فدفعها الى ابنه الحسين عليه السّلام فلم يقدر أن يفتحها، ففتحها له فقال له: اقرأ يا بنيّ فقرأها كما قرأ الحسن عليه السّلام ثمّ طواها فدفعها الى ابنه ابن الحنفيّة فلم يقدر على ان يفتحها ففتحها له، فقال له: اقرأ فلم يستخرج منها شيئا، فأخذها علي عليه السّلام و طواها، ثمّ علّقها من ذؤابة السيف.

قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أيّ شي ء كان في تلك الصحيفة؟ قال: هي الأحرف الّتي يفتح كل

حرف ألف حرف.

قال أبو بصير: قال ابو عبد اللّه عليه السّلام: فما خرج منها إلّا حرفان الى الساعة «1».

أقول: و لعلّ عدم قدرة الحسنين عليهما السّلام على فتحها لعدم انتقال الوصاية الفعليّة إليهما في حياة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و إن كانا ممنوحين حينئذ بالعلم و العصمة، و لذا قدرا على قراءتها.

و أما محمّد بن الحنفيّة فحيث لم يكن له علم الامامة لم يقدر على قراءة شي ء منها، و كأنّه للتنبيه على جهله و عدم استحقاقه للامامة كيلا ينازعهما فيها و لا المعصومين من ذرية الحسين عليهم السّلام.

و أمّا قصّته مع علي بن الحسين عليهما السّلام حتى استشهدا من الحجر الأسود فكأنه إنّما وقع لردع الناس كما ورد في بعض الأخبار «2».

__________________________________________________

(1) بصائر الدرجات ص 307 باب فيه الحروف الّتي علّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام.

(2) إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات ج 3 ص 6- 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 41

الحروف المقطّعة في القرآن

روى العيّاشي في تفسيره عن أبي لبيد المخزومي عن مولانا الباقر عليه السّلام قال:

قال عليه السّلام: «إنّ في حروف القرآن المقطّعة لعلما جمّا إنّ اللّه تعالى أنزل «الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» فقام محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى ظهر نوره، و ثبتت كلمته، و ولد يوم ولد و قد مضى من الألف السابع مائة سنة و ثلاث سنين.

ثم قال عليه السّلام: و تبيانه في كتاب اللّه تعالى في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار، و ليس في الحروف المقطّعة حرف ينقضي الا و قيام قائم من بني هاشم عند انقضائه.

ثم قال عليه السّلام: الألف واحد، و اللام

ثلاثون و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فذلك مائة و إحدى و ستون. ثمّ كان بدو خروج الحسين عليه السّلام الم اللَّهُ، فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عند المص، و يقوم قائمنا عند انقضائها ب الر* فافهم ذلك و عه و اكتمه «1».

أقول: لا يخفى أنّ الألوف الستّة الماضية ليست بالنسبة الى بدو خلق العالم، و لا خلق الأفلاك و الكواكب و لا حركتها لأنّها اكثر من ذلك بكثير، بل من خلق أبينا آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام أو هبوطه، أو إنزال الصحيفة و الشريعة عليه، و ان كان الأوسط أوسط، و يستفاد منه أنّ السنة الأولى من كلّ ألف سنة مبدأ تاريخ، فلمّا كملت ستّة آلاف سنة و انقضت من الدورة السابعة مائة و ثلاث سنين تولّد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي ج 2 ص ح 3 و عنه بحار الأنوار ج 52 ص 106 ح 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 42

و الإمام عليه السّلام بيّن بأنّه يمكن استنباط هذا التاريخ من جميع الحروف المبسوطة في فواتح السور بعد إسقاط الفواتح المكررة، دون الحروف المكررة.

هكذا: ألف لام ميم- ألف لام ميم صاد- ألف لام را- ألف لام ميم را- كاف ها يا عين صاد- طا ها-- طا سين ميم- طا سين- يا سين- صاد- حا ميم- حا ميم عين سين قاف- قاف- نون- فجميع هذه الحروف المستنطقة مائة و ثلاث.

قوله عليه السّلام: «و ليس من حروف مقطعة حرف ينقضي الا و قيام قائم من بنى هاشم عند انقضائه»

المراد بالحرف نوعه الشامل لكل فاتحة من الفواتح و إن كانت مشتملة على حروف فابتداء

دولة بني هاشم من عبد المطلب، و من ظهور دولة عبد المطلب الى دولة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إحدى و سبعون سنة كما ذكره بعض «1» الأعلام في المقام، و هو المشار اليه «ب الم» البقرة.

و أمّا الم آل عمران فإشارة الى خروج الحسين عليه السّلام، إذ من رواج دولة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى وقت خروجه عليه السّلام أحد و سبعون سنة تقريبا، فإنّ بعثته كانت قبل الهجرة نحوا من ثلاث عشرة سنة، و كان شيوع أمره و ظهوره بعد سنتين من البعثة.

و كان خروج الحسين عليه السّلام في أواخر سنة ستّين من الهجرة.

و أمّا المص فهو إشارة الى دولة بني العباس، كما أشار اليه الصادق عليه السّلام فيما

رواه الصدوق في «معاني الأخبار» مسندا عن رحمة بن صدقة قال: أتى رجل من بني اميّة، و كان زنديقا الى جعفر بن محمّد عليهما السّلام فقال له: قول اللّه في كتابه: المص __________________________________________________

(1) هو العلّامة المجلسي قدّس سرّه في بحار الأنوار ج 52 ص 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 43

أيّ شي ء أراد بهذا، و أيّ شي ء فيه من الحلال و الحرام، و أيّ شي ء في ذا ممّا ينتفع به الناس؟ قال فاغتاض لذلك جعفر بن محمّد عليهما السّلام فقال: أمسك ويحك الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد ستّون، كم معك؟ فقال الرّجل: أحد و ثلاثون و مائة، فقال جعفر بن محمد عليهما السّلام: إذا انقضت سنة إحدى و ثلاثين و مائة انقضى ملك أصحابك.

قال: فنظرنا فلمّا انقضت إحدى و ستّون و مائة يوم عاشوراء دخل المسوّدة «1» الكوفة و ذهب ملكهم «2».

أقول:

و لعلّه مبنيّ على حساب المغاربة كما قيل «3»، فإنّ ترتيب أبجد عندهم:

أبجد- هوز- حطي- كلمن- صعفض- قرست- ثخذ- ظعش-.

فالصاد المهملة عندهم ستّون، و حينئذ يستقيم إذا بني على البعثة، أو نزول الآية كما قيل «4».

و أمّا لو بني على ما هو المعروف من ترتيب أبي جاد فلا يستقيم، لأن عدد الحروف حينئذ أحد و ستّون و مائة، و الموجود في اكثر نسخ الكتاب أحد و ثلاثون و مائة، مع أنّه لا يتمّ حينئذ على تاريخ الهجرة، و لا على تاريخ عام الفيل، و لا على مدّة ملكهم لكونه ألف شهر.

و أمّا في ذيل

خبر أبي لبيد: «و يقوم قائمنا عند انقضائها «ب الر*» فقد تكلّم فيه

__________________________________________________

(1) المسوّده (بكسر الواو): لابسوا السواد و المراد أصحاب الدعوة العباسيّة لأنهم يلبسون ثيابا سوداء.

(2) رواه: البحار ج 19 ص 92 ط الكمباني عن العياشي في تفسيره ج 2 ص 1.

(3) احتمله المجلسي في البحار ج 53 ص 108 و ج 19 ص 92 ط الكمباني.

(4) المصدر السابق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 44

بعض «1» الأعلام، و ذكر احتمالات كثيرة في المقام مع انقضاء بعضها الى هذا العام، و عدم ظهور الحجّة عليه الصلاة و السّلام لكن الأولى السكوت عمّا سكت اللّه تعالى و أوليائه عنه، و ترك الفحص عمّا حجّبنا عنه حملة العلم و خزّان الوحي، كيلا يكذّبنا الصادق عليه السّلام

بقوله: كذب الوقّاتون.

فالأولى ترك البحث عنه و عمّا

وجد بخطّ الامام أبي محمد العسكري عليهما السّلام على ما رواه في البحار، من كتاب «المحتضر» للحسن بن سليمان تلميذ الشهيد الثاني، و فيه: «قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوّة و الولاية». الى أن قال:

و

سيسفر، و في بعض النسخ: و سيفجّر لهم، أي لشيعتهم، ينابيع الحيوان بعد لظى النيران لتمام الروطه و طواسين من السنين «2».

لأنّ العلم بمعرفته و استنباطه مختصّ بهم و بمن منحوه علمه من شعيتهم.

مضافا الى احتمال تطرق البداء فيما أريد به من الاحتمالات.

بل

في كتاب الغيبة للشيخ النعماني في الصحيح عن ابي حمزة الثمالي قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ عليا عليه السّلام كان يقول: الى السبعين بلاء، و كان يقول: بعد البلاء رخاء، و قد مضت السبعون و لم نر رخاء.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: يا ثابت إنّ اللّه تعالى كان وقّت هذا الأمر في السبعين، فلمّا قتل الحسين عليه السّلام اشتدّ غضب اللّه تعالى على اهل الأرض فأخّره الى أربعين و مائة سنة فحدّثناكم فأذعتم الحديث، و كشفتم قناع الستر فأخّره اللّه و لم يجعل له بعد ذلك وقتا عندنا، و يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «3» __________________________________________________

(1) هو العلامة المجلسي قدّس سره في البحار ج 52 ص 108- 109.

(2) بحار الأنوار ج 26 ص 265.

(3) الرعد: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 45

قال ابو حمزه: و قلت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال: قد كان ذاك «1».

و لكن نحن نردّ علم هذا الخبر أيضا إليهم عليهم السّلام.

و بالجملة فلا يصلح التعويل على شي ء من محتملات الخبرين رجما بالغيب من دون بيّنة واضحة على ذلك، و لذا أبطل أمير المؤمنين عليه السّلام مقالة اليهود في استنباطهم لمدّة الدّولة النبويّة الخاتميّة من هذه الحروف المقطّعة، كما رواه الإمام عليه السّلام في تفسيره.

و رواه الصدوق في «المعاني»، قال عليه السّلام: ثمّ اليهود يحرّفونه عن جهته، و

يتأولونه على غير وجهه، و يتعاطون التوصّل الى علم ما قد طواه اللّه عنهم من حال أجل هذه الامّة و كم مدّة ملكهم فجاء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم جماعة، فولّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام لمخاطبتهم، فقال قائلهم: إن كان ما يقول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حقا فقد علّمناكم قدر ملك امّته، هو احدى و سبعون سنة: الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون.

فقال علي عليه السّلام: فما تصنعون بالمص و قد أنزلت عليه؟ قالوا: هذه إحدى و ستّون و مائة سنة قال عليه السّلام: فماذا تصنعون «ب الر*»؟ و قد أنزلت عليه، فقالوا: هذه أكثر، هذه مائتان و احدى و ثلاثون سنة، فقال عليّ عليه السّلام: فما تصنعون «ب المر»؟ قالوا: هذه مائتان و إحدى و سبعون سنة.

فقال عليّ عليه السّلام: فواحدة من هذه له، أو جميعها له؟

فاختلط كلامهم، فبعضهم قال: له واحدة منها، و بعضهم قال: بل يجمع له كلّها و ذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون سنة، ثم يرجع الملك إلينا، يعني الى اليهود.

فقال عليّ عليه السّلام: أ كتاب من كتب اللّه نطق بهذا، أم آراؤكم دلّتكم عليه؟ فقال

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 52 ص 105 ح 11 عن كتاب الغيبة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 46

بعضهم كتاب اللّه نطق به، و قال آخرون منهم: بل آراؤنا دلّت عليه.

فقال عليه السّلام فأتوا بالكتاب من عند اللّه ينطق بما تقولون، فعجزوا عن إيراد ذلك، و قال للآخرين: فدلّونا على صواب هذا الرأي، فقالوا: صواب رأينا دليله أنّ هذا حساب الجمّل.

فقال عليه السّلام: كيف

دلّ على ما تقولون و ليس في هذه الحروف ما اقترحتم بلا بيان (و في نسخة: و ليس في هذه الحروف دلالة على ما اقترحتموه)، أ رايتم إن قيل لكم: إنّ هذه الحروف ليست دالّة على هذه المدّة لملك امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لكنها دالّة على أنّ كلّ واحد منكم قد لعن بعدد هذا الحساب، أو أنّ عند كلّ واحد منكم دينا مثل عدد هذا الحساب؟ قالوا: يا أبا الحسن ليس شي ء مما ذكرته منصوصا عليه في الم*، و المص، و الر* و المر.

فقال عليّ عليه السّلام: و لا شي ء مما ذكرتموه منصوص عليه في الم*، و المص، و الر*، و المر، فإن بطل قولنا لما قلتم بطل قولكم لما قلنا «1» ...

الى آخر ما يأتي ان شاء اللّه من تتمة الخبر في تفسير قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 16- 17 عن معاني الاخبار ص 12- 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 47

البحث الخامس دلالة الحروف قبل التركيب

ربما يتوهّم أنّ الحروف المفردة قبل التركيب و الترتيب ليس لها وضع و دلالة على معان أصلا، و أنّ فائدتها منحصرة في تركيب الكلمات منها و طرو الوضع عليها.

و قد يؤيّد ذلك بما

روي في «العيون» و «الاحتجاج» و غيرهما عن مولانا الرضا عليه السّلام في خبر عمران الصابي.

قال الإمام عليه السّلام: و الإبداع سابق للحروف، و الحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون: و كيف لا تدلّ على غير أنفسها قال الرضا عليه السّلام: لأنّ اللّه تبارك و تعالى لا يجمع منها شيئا لغير معنى أبدا، فإذا ألّف منها أحرفا أربعة أو خمسة أو ستة، أو أكثر من ذلك أو

أقلّ لم يؤلّفها لغير معنى، و لم يك إلّا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئا.

قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟ قال الرضا عليه السّلام: أمّا المعرفة فوجه ذلك و بيانه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فردا فقلت: أ ب ت ث ج ح خ ... حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألّفتها و جمعت منها أحرفا و جعلتها اسما و صفة لمعنى ما طلبت و وجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية الى الموصوف بها ...

الخبر «1».

نظرا الى أنّ الدلالة على أنفسها الثابتة قبل التركيب بالفحوى هي تعيين مسمّياتها من النقوش و الألفاظ كما يستفاد ذلك من ملاحظة ذيل الخبر، و لكنّ

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 314- 315 ح 1 عن التوحيد و العيون

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 48

الأظهر أنّه لا دلالة في الخبر على ذلك أصلا بل الظاهر منه أنّ سبيل الألفاظ الموضوعة لتلك الحروف أو الحروف أنفسها سبيل الأعلام الشخصيّة الّتي لا يستفاد منها عند إطلاقها غير أنفسها من دون أن نجعلها موضوعات لشي ء من القضايا، أو نحكم عليها بشي ء من الأحكام كما إذا قلت: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، فإنّ هذه الأسماء الشريفة عند إطلاقها، و عدّها لا تدلّ على غير أنفسها و إن كانت معانيها من أعلى مراتب الوجود مشتملة على شئون لا تحصى و مناقب لا تستقصى.

هذا مضافا إلى الأخبار الكثيرة الدّالة على أنّها من الأسماء الإلهية و النعوت الربانيّة، بل قد ورد الحثّ الأكيد الشديد على معرفة مسمّياتها و معانيها.

ففي المعاني، و الخصال، و الأمالي، و

التوحيد بالإسناد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: سأل عثمان بن عفّان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال يا رسول اللّه ما تفسير أبجد؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعلّموا تفسير أبجد فإنّ فيه الأعاجيب كلّها ويل لعالم جهل تفسيره، فقيل: يا رسول اللّه ما تفسير أبجد؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا الألف فآلاء اللّه، حرف من أسمائه، و أمّا الباء فبهجة اللّه، و أمّا الجيم فجنّة اللّه و جلال اللّه و جماله، و أمّا الدال فدين اللّه.

و أمّا هوّز فالهاء الهاوية فويل لمن هوى في النار، و أمّا الواو فويل لأهل النّار، و أمّا الزاي فزاوية في النار نعوذ باللّه ممّا في الزاوية يعني زوايا جهنّم.

و أمّا حطّي فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر و ما نزل به جبرئيل مع الملائكة الى مطلع الفجر، و أمّا الطاء ف طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ، و هي شجرة غرسها اللّه عزّ و جلّ بيده و نفخ فيها من روحه، و إنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنّة تنبت بالحلي و الحلل و الثمار متدلّية على أفواههم.

و أمّا الياء فيد اللّه فوق خلقه سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ*.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 49

و أمّا كلمن فالكاف كلام اللّه لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ و لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، و أمّا اللام فإلمام أهل الجنّة بينهم في الزيارة و التحيّة و السّلام و تلاوم أهل النّار فيما بينهم، و أمّا الميم فملك اللّه الّذي لا يزول و دوام اللّه الّذي لا يفنى ... و أمّا النون ف ن وَ الْقَلَمِ وَ ما

يَسْطُرُونَ، فالقلم قلم من نور و كتاب من نور فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ... يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ...، وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً*.

و أمّا سعفص فالصاد صاع بصاع، و فصّ بفصّ، يعني الجزاء بالجزاء، و كما تدين تدان، إنّ اللّه لا يريد ظلما بالعباد.

و أمّا قرشت يعني قرشهم فحشرهم و نشرهم إلى يوم القيامة ف قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ «1».

و فيها و في العيون عن مولانا الرضا عليه السّلام قال: إنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ و جلّ ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم ... إلى أن قال: و لقد حدّثني أبي- عن أبيه- عن جدّه، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم أجمعين في (ا ب ت ث) قال: الألف آلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه، و التاء تمام الأمر بقائم آل محمّد، و الثاء ثواب المؤمنين على أعمالهم الصالحة، (ج ح خ) فالجيم جمال اللّه و جلال اللّه، و الحاء حلم اللّه، و الخاء خمول ذكر أهل المعاصي عند اللّه عزّ و جلّ، (د ذ)، فالدال دين اللّه، و الذال من ذي الجلال، (ر، ز)، فالراء من الرءوف الرّحيم، و الزاي زلازل القيامة، (س ش) فالسين سناء اللّه و الشين شاء اللّه ما شاء، و أراد ما أراد، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ*، (ص ض) فالصاد من صادق الوعد في حمل الناس على الصراط، و حبس الظالمين عند المرصاد، و الضاد ضلّ من خالف محمدا و آل محمّد، (ط ظ) فالطاء طوبى المؤمنين وَ حُسْنُ مَآبٍ*، و الظاء ظنّ المؤمنين باللّه خيرا، و ظنّ الكافرين به سوءا (ع غ)، فالعين من

__________________________________________________

(1) الخصال ج 1 باب الستّة ح 30

تفسير الصراط

المستقيم، ج 4، ص: 50

العالم، و الغين من الغيّ، (ف ق) فالفاء فوج من أفواج النار، و القاف قرآن على اللّه جمعه و قرآنه (ك ل) فالكاف من الكافي، و اللام لعن «1» الكافرين في افتراءهم على اللّه الكذب (م ن) فالميم ملك اللّه يوم لا مالك غيره و يقول عزّ و جلّ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، ثم ينطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، فيقول جلّ جلاله:

الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ «2» و النون نوال اللّه للمؤمنين، و نكاله بالكافرين (و ه) فالواو ويل لمن عصى اللّه، و الهاء هان على اللّه من عصاه (لا ي) فلام ألف لا إله إلّا اللّه، و هي كلمة الإخلاص، ما من عبد قالها مخلصا إلّا وجبت له الجنّة، و الياء يد اللّه فوق خلقه باسطة بالرزق سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ*.

ثمّ قال عليه السّلام إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب، ثم قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «3» «4».

و في التوحيد و الأمالي، و المعاني بالإسناد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السّلام قال: لمّا ولد عيسى بن مريم على نبيّنا و آله و عليه السّلام كان ابن يوم كأنه ابن شهرين، فلمّا كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده و جاءت به الى الكتّاب و أقعدته بين يدي المؤدّب، فقال له المؤدّب: قل بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، فقال عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم،

فقال له المؤدّب:

__________________________________________________

(1) في الأصل: لغو الكافرين

(2) غافر: 17.

(3) الإسراء: 88.

(4) بحار الأنوار ج 3 كتاب العلم ص 315- 319 ح 3 عن المعاني و العيون، و الأمالي، و التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 51

قل: أبجد فرفع عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام رأسه، فقال: هل تدري ما أبجد؟

فعلاه بالدّرّة ليضربه، فقال: يا مؤدّب لا تضربني إن كنت تدري، و إلّا فاسئلني حتّى أفسّر ذلك، فقال: فسّر لي، فقال عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام: أمّا الألف فآلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه، و الجيم جمال اللّه، و الدال دين اللّه، (هوّز): الهاء هي هول جهنّم، و الواو: ويل لأهل النار، و الزاي: زفير جهنّم، (حطّي): حطّت الخطايا عن المستغفرين، (كلمن) كلام اللّه لا مبدّل لكلماته، (سعفص): صاع بصاع، و الجزاء بالجزاء، (قرشت): قرشهم «1» فحشرهم.

فقال المؤدّب: أيّتها المرأة خذي بيد ابنك فقد علم، و لا حاجة له في المؤدّب «2».

و في التوحيد و المعاني، عن الكاظم عليه السّلام، عن جدّه الحسين بن علي عليهما السّلام، قال: جاء يهوديّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام فقال له: ما الفائدة في حروف الهجاء؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: أجبه، و قال: اللّهم وفّقه و سدّده فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: ما من حرف إلّا و هو من أسماء اللّه عزّ و جلّ، ثم قال: أمّا الألف فاللّه الّذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ*، و أمّا الباء فباق بعد فناء خلقه، و أمّا

التاء فالتوّاب يقبل التوبة من عباده، و أمّا الثاء فالثابت الكائن، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، و أمّا الجيم فجلّ ثناؤه و تقدست أسماؤه، و أمّا الحاء فحقّ حيّ حليم، و أمّا الخاء فخبير بما يعمل العباد، و أمّا الدال فديّان الدين، و أما الذال ف ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ، و أمّا الراء فرؤف بعباده، و أمّا الزاي فزين المعبودين (و في نسخة:

__________________________________________________

(1) قرشه يقرشه: قطّعه و جمعه من هاهنا و هاهنا و ضمّ الى بعض.

(2) بحار الأنوار ج 2 كتاب العلم ص 316- 317 ح 1 عن المعاني و الأمالي و التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 52

فزين العابدين) و أمّا السين فالسميع البصير، و أمّا الشين فالشاكر لعباده المؤمنين، و أمّا الصاد فصادق في وعده و وعيده، و أمّا الضاد فالضار النافع، و أمّا الطاء فالطاهر المطهّر، و أمّا الظاء فالظاهر المظهر لآياته، و أمّا العين فعالم بعباده، و أمّا الغين فغياث المستغيثين، و أمّا الفاء ف فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى و أمّا القاف فقادر على جميع خلقه و أمّا الكاف فالكافي الّذي لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ و لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، و أمّا اللام ف لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، أمّا الميم فمالك الملك، و أمّا النون ف نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من نور عرشه، و أما الواو فواحد صمد لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، أمّا الهاء فهاد لخلقه، أمّا اللام ألف فلا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أمّا الياء فيد اللّه باسطة على خلقه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

هذا هو القول الّذي رضي اللّه عزّ و جلّ لنفسه من جميع خلقه،

فأسلم اليهودي «1».

و روي عنهم عليهم السّلام في أدعية التعقيب: «اللهمّ بألف الابتداء، و بباء البهاء، بتاء التأليف، بثاء الثناء، بجيم الجلال، بحاء الحمد، بخاء الخفاء، بدال الدوام، بذال الذكر، براء الربوبيّة، بزاي الزيادة، بسين السّلامة، بشين الشكر، بصاد الصبر، بضاد الضوء، بطاء الطهر، بظاء الظلام، بعين العلم، بغين الغفران، بفاء الفردانيّة، بقاف القدرة، بكاف الكلمة التامّة، بلام اللوح، بميم الملك، بنون النور، بواو الوحدانيّة، بهاء الهيبة، بلام ألف لا إله إلّا أنت، بياء يا ذا الجلال و الإكرام و الدعاء.

و هذه الأخبار يستفاد منها و من غيرها ممّا ورد في تفسير البسملة و فواتح السور و غيرها أن كلّ حرف من الحروف اسم من أسماء الالهيّة المفتتحة بتلك الحروف، و لذا وقع الإختلاف في التعبير من تلك الأسماء.

و به قد يفسّر النفس في قوله: «لا تدلّ على غير نفسها» بناء على أنّها هي النفس الّتي من عرفها فقد عرف اللّه، و هو الحقيقة المشار إليها في

حديث كميل

__________________________________________________

(1) البحار ج 2 ص 318 ح 2، عن المعاني و الأمالي و التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 53

بكشف سبحات الجلال من غير إشارة، و بمحو الموهوم و صحو المعلوم «1»، و هو تجلّيه سبحانه بها لها.

بل قيل: إنّ المستفاد من تضاعيف أخبار الباب هو أنّ كلّ اسم و صفة إلهيّة، و كلّ حادثة ربانيّة مبدوئة بهذه الأحرف، أو مناسبة لها بأتمّ المناسبة فهي دالّة عليها و اسم لها، و إن كان من غير أسماء اللّه تعالى، أو منها و من غيرها كما ورد في تفسير (كهيعص) و (حم عسق)، و غيرهما.

و قد أشرنا فيما أسلفنا، في تفسير الفاتحة أنّ لكلّ اسم وجها و

قلبا و ربّما يعبّر بكلّ منهما، فوجه الكلمة حرفها الأوّل، و قلبها حرفها الأوسط، و الحروف الّتي هي وجوه الكلمات و قلوبها دلالات و إشارات الى الحقائق الكليّة، و المعارف الإلهيّة، و مصالح العباد، و جزئيّات المبدء و المعاد، يعرفها من يعرفها، و يستنكرها من يجهلها و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام في جواب أهل فلسطين حيث سأله وفدهم عن تفسير الصَّمَدُ فأجاب عليه السّلام بتفسير حروفه الخمسة الّتي هي وجوه الكلمات إلى أن قال: لو وجدت لعلمي الّذي آتاني اللّه عزّ و جلّ حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الإيمان، و الدين و الشرائع من الصمد، و كيف لي بذلك، و لم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه حتّى كان يتنفّس الصعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني «2».

قال بعض المحققين: إنّ قوله هذا ليس خاصّا بالصمد، بل كلّ كلمات اللّه عزّ و جلّ على هذا النحو،

__________________________________________________

(1) سفينة البحار ج 2 ص 603 و فيه: قال المجلسي: هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة.

(2) بحار الأنوار ج 3 ص 225 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 54

و كما أنّ للوليّ المطلق أن يستخرج من كلمة الصمد كلّما يحتاج إليه الخلق، فكذلك سائر كلمات اللّه تعالى للولي المطلق أن يستخرج من كلّ كلمة منها كلّما يحتاج إليه الخلق، نعم لاستنباطها طرق خاصّة مختصة بهم لا يشاركهم في علمها غيرهم، و لذا قال سبحانه: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1».

البحث السادس دلالة الحروف و الألفاظ على مدلولاتها هل هو بالوضع أو ذاتي

اشارة

قد ظهر ممّا مرّ أنّ للحروف الّتي هي أسماء لمسميّاتها قبل التركيب دلالات على مداليل جزئيّة و كلّية، نوعيّة

أو جنسيّة ناشئة من وضع الواضع الّذي هو اللّه تعالى، كما ذهب اليه جماعة من المحقّقين مستندا إلى ظاهر قوله تعالى: وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ «2» و عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ و عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «3».

سيّما مع ملاحظة ما ورد في تفسيرها من الأخبار حسبما تأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه تعالى.

أو البشر كما هو القول الآخر.

__________________________________________________

(1) سورة النساء: 83.

(2) سورة الروم: 22.

(3) البقرة: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 55

أو من مناسبة ذاتيّة بين الألفاظ و المعاني، كما من أهل التكسير، و بعض الاصوليّين، و اختاره الشيخ الأحسائي و السيّد الرشتي فالدلالة عندهم طبيعيّة غير ناشئة من الوضع، و ستسمع إنشاء اللّه تعالى تفصيل ذلك الكلام في تفسير قوله تعالى وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «1».

فإذا صدر الكلام من الحكيم العالم بأوضاع الحروف البسيطة و المركّبة و دلالتها من حيث الإفراد و التركيب و الترتيب و حقائقها و ذاتياتها و عوارضها و غير ذلك مما يتبعها، فلا ريب أنّ مقتضى الكمال الكلامي هو إرادة جميع تلك الوجوه و مراعاة ما يلحظ في الدّال و اعتبار المداليل، سيّما و أن يكون المتكلّم هو اللّه سبحانه المتعالي عن وصمة النقصان.

و المخاطب أوّل من قرع باب الوجود من سرادق الإمكان.

و الكلام هو القرآن الّذي لكل شي ء فيه تبيان.

و المعلّم هو الرَّحْمنُ الّذي عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ.

و التعليم في سرادق القدس و حضرة الأنس، فوق صاقورة «2» الجنان، فوق احساس الكروبيّين، فوق غمائم النور، و فوق تابوت الشهادة، فوق عمود النار، بلا زمان و لا مكان.

هذا مضافا الى ما مرّ من اشتمال القرآن على الظهور و البطون و الوجوه الّتي لها الإحاطة

التدوينيّة بجميع أحوال الأكوان و الكينونات و الحوادث و التشريعات، و لذا كان للإمام عليه السّلام أن يستنبط جميع ذلك من الحروف الخمسة في الصمد بل و من

__________________________________________________

(1) البقرة: 31.

(2) اشارة الى الحديث المروي عن الإمام العسكري عليه السّلام رواه في البحار ج 26 ص 265 عن كتاب المحتضر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 56

كل آية من آيات القرآن، و كلّ كلمة من كلماته، سيّما هذه الحروف المقطّعة الّتي افتتحت بها طائفة من السور.

تفسير الحروف المقطعة في القرآن

ففي معاني الأخبار عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: الم* هو حرف من حروف اسم اللّه الأعظم المقطّع في القرآن الّذي يؤلفه النبيّ أو الإمام فإذا دعا به أجيب «1».

و ورد مثله في تفسير (حم عسق) و في «المجمع» و غيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لكلّ كتاب صفوة، و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي» «2» و في (كهيعص): إنّه من أنباء الغيب.

و في (عسق): إنّه عدد سني القائم.

الى غير ذلك مما مرّ، و ممّا تأتي الإشارة إليه.

و الحاصل أنّه لا علم لنا إلّا ما تعلّمناه من أنوار آثار ائمّتنا عليهم السّلام الذين هم عيبة علم اللّه، و مهابط وحيه، و حملة كتابه.

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار باب معنى الحروف المقطعة ص 23.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 32- تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 57

الوجوه الستة المستفادة من الأحاديث
اشارة

و قد استفيد ممّا وصل إلينا من أخبارهم في هذه الحروف وجوه نشير إلى جملة منها:

منها: أنّها ظروف الحقائق و مباني المعاني، و هي مفاتيح الغيوب، و رموز بين المحبّ و المحبوب و ينفتح من كل حرف منها ألف باب، و إن اختصّ بعلمه من خوطب به وَ مَنْ عِنْدَهُ «عِلْمُ الْكِتابِ».

و قد مرّ في ذلك مضافا الى ما في المقام خبر ما في ذوابة سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خبر أبي لبيد، و غير ذلك ممّا مرّ.

بل

في بعض حواشي الكشّاف مرويّا عن الإمام الناطق جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام أنّه قال: الم* رمز و إشارة بينه تعالى و بين حبيبه عليه السّلام أراد أن لا يطّلع عليه سواه أخرجه بحروف و

بعّده عن درك الأخبار.

و منها: أنّها من حروف اسم اللّه الأعظم الّذي يؤلّفه العالم من آل محمّد عليهم السّلام فيستجاب له إذا دعى به.

و لذا

ورد في الأدعية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما روته العامّة و الخاصّة: يا كهيعص، يا حم عسق.

و

ورد فيما يدعى عقيب السادسة من ركعات صلاة الليل: اللهمّ إني أسئلك يا قدوس يا قدوس يا قدّوس يا كهيعص ... الدعاء «1».

و في مشارق الأمان: روى في معنى قوله تعالى: الم* أنّها اسم اللّه الأعظم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 87 ص 251 ح 59 عن مصباح المتهجد ص 101.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 58

ظاهرا و باطنا «1».

إلى غير ذلك مما يدلّ على أنّها من الإسم الأعظم و الحجر المكرّم.

بل

عن ابن الجوزي من العامّة: أنّ عليّا رضي اللّه عنه و كرّم وجهه قال: إنّ هذه الحروف اسماء مقطّعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم اللّه الّذي إذا دعي به أجاب.

و منها: أنّ كلا منها إشارة إلى اسم من أسماء اللّه تعالى أو صفة من صفاته المفتتحة بذلك الحروف، أو مطلقا بناء على الاكتفاء ببعض الكلمة عن تمامها كما مرّت الإشارة إليه في الأخبار المتقدمة لتفسير حروف التهجي، و يأتي في تفسير خصوص الفواتح ما يدلّ عليه.

و قد يجعل من ذلك أيضا

قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كفى بالسيف شا» أى شاهدا

، فحذف العين و اللام، و أبقى الفاء، و قد مرّ في تفسير البسملة ما يؤيّد ذلك.

و لذا قيل: إنّ معنى قوله: الم* أنا اللّه أعلم، و المر: أنا اللّه أعلم و أرى، و المص: أنا اللّه أعلم و أفصل.

و قد ورد في الخبر أنّ معنى

كهيعص: أنا الكافي الهادي العليم الصادق.

و في الم في آل عمران: أنا اللّه المجيد، كما في المعاني عن الصادق عليه السّلام.

و في المجمع عن أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا الى علي بن موسى الرضا عليهما السّلام قال: سئل جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام عن قوله تعالى: الم* فقال عليه السّلام:

في الألف ست صفات من صفات اللّه تعالى:

__________________________________________________

(1) في البحار ج 93 ص 224 عن مهج الدعوات عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث: في البقرة، و آل عمران، و طه، قال أبو أمامة راوي الحديث: في البقرة، آية الكرسي و في آل عمران: الم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، و في طه: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 59

الابتداء فإن اللّه ابتدأ جميع الخلق، و الألف ابتداء الحروف.

و الإستواء عادل غير جائر، و الألف مستو في ذاته.

و الانفراد، و اللّه فرد، و الألف فرد.

و اتصال الخلق باللّه، فاللّه لا يتّصل بالخلق، و كلّهم محتاجون الى اللّه و اللّه غنيّ عنهم، فكذلك الألف لا يتّصل بالحروف و الحروف متّصلة به.

و هو منقطع عن غيره، و اللّه تعالى باين بجميع صفاته عن خلقه.

و معناه من الألفة: فكما أنّ اللّه تعالى سبب ألفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف و هو سبب ألفتها «1».

و لا يخفى أنّ

قوله عليه السّلام: «و هو منقطع عن غيره»

لبيان عدم احتياج الألف إلى غيره.

و

قوله عليه السّلام: «و اللّه سبحانه باين بجميع صفاته عن خلقه»

تأكيد لعدم اتصاله بالخلق لكونه قد بعد عن المقام، أو جملة استينافية لرفع توهم أنّ اتّصاف

الألف بتلك الصفات لعلّه من جهة الاشتراك في المعنى و الموافقة فيه، فرفع بها ذلك التوهم، و بيّن أنّه باعتبار الظليّة و المظهريّة لأنّه سبحانه لا يشركه شي ء في شي ء و لا يشبهه شي ء.

و يحتمل أن يكون الانفصال و عدم الاحتياج عبارة عن وجه واحد و هو رابع الوجوه الستّة، و

قوله: «و هو منقطع»

يعني الألف الى

قوله: «من خلقه»

هو الوجه الخامس، لكن غيّر الأسلوب هنا حديث قدّم حكم الألف بخلاف المتقدّم، و لا بأس.

ثم لا يخفي أيضا أنه عليه السّلام ذكر خمسة أوجه فيها لمسمّى الألف و هو ما يعدّ

__________________________________________________

(1) نور الثقلين ج 1 ص 30- 31 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 60

من حروف التهجّي، و ذكر الوجه السادس لمعنى الاسم حيث قال: معناه من الألفة.

سبب ألفة الخلق فكذلك الألف عليه تألّفت الحروف و هو سبب ألفتها «1».

و ذكر بعض المحقّقين أنّ من مداليل كلّ حرف من الحروف جميع الأسماء المفتتحة بذلك من أسماء اللّه الحسنى، و لعلّ في اختلاف الأخبار المفسّرة للحروف بالأسماء إشارة الى ذلك كما نبّهنا عليه، و بنى عليه آخرون التوسّل بتلك الأسماء الّتي لها الإحاطة و التصرف في الكائنات لنيل المطالب، و استجلاب المآرب، بأن يؤخذ لكلّ حرف من حروف اسم الطالب أو المقصد اسما من الأسماء الحسنى، أوّله ذلك الحرف فيذكرها بعدد أعدادها، أو بعدد حروف هجائها.

أو بعدد حروف أعدادها، أو غير ذلك من الوجوه المذكورة في موضعها.

و منها: أنّ فيها تواريخ حوادث العالم، أو خصوص ما يتعلّق بدولة بني هاشم المحقّين منهم، و المبطلين، و ما يتعلّق بقيام القائم عجّل اللّه فوجه حسبما سمعت في خبر أبي لبيد، و وجادة العسكري و تفسير عسق، و

غير ذلك.

و منها: أنّ فيها إفحاما للمشركين المعاندين، و إيقاظا لمن تحدّاهم به منهم، و تنبيها لهم على أنّ المتلوّ عليهم كلام منظوم ممّا ينظمون منه كلامهم و يتحاورونها في خطبهم و أشعارهم، فلو كان من عند غير اللّه تعالى لما عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، سيّما مع تظاهرهم، و توفّر دواعيهم و شدّة حرصهم على ذلك، و هو صلوات اللّه عليه يتلو عليهم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2».

و غير ذلك من الآيات المشتملة على التحدّي.

__________________________________________________

(1) نور الثقلين ج 1 ص 30- 31 ح 9.

(2) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 61

و منها: أنّ فيها إلزاما لليهود، و حجّة عليهم، حيث علموا بأخبار أنبيائهم أنّ الكتاب المنزل على خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتتحة سورها بالحروف المقطّعة.

و الى هذين الوجهين

أشار مولانا العسكري عليه السّلام في تفسيره حيث قال: كذّبت قريش و اليهود بالقرآن و قالوا: سحر مبين تَقَوَّلَهُ، فقال اللّه عزّ و جلّ الم ذلِكَ الْكِتابُ أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة الّتي أ ل م، و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا إن كنتم صادقين، و استعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ ... الآية.

قال اللّه عزّ و جلّ: الم هو القرآن الّذي افتتح بالم هو «ذلِكَ الْكِتابُ» الّذي أخبر به موسى، و من بعده من الأنبياء، و أخبروا بني إسرائيل أنّي سأنزل عليك يا محمد كتابا عربيّا عزيزا لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ... لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ فيه لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم أنّ محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء «1» يقرأه هو و أمّته على سائر أحوالهم «هُدىً» بيان من الضلالة «لِلْمُتَّقِينَ» الذين يتّقون الموبقات، و يتّقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم.

ثمّ قال: و قال الصادق عليه السّلام: ثمّ الألف حرف من حروف قولك: اللّه، دلّ بالألف على قولك: اللّه، و دلّ باللام على قولك: الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين، و دلّ بالميم على أنّه المجيد المحمود في كلّ أفعاله، و جعل هذا القول حجّة على اليهود، و ذلك أنّ اللّه تعالى لما بعث موسى بن عمران، ثم من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل، لم يكن فيهم قوم إلّا أخذوا عليهم العهود و المواثيق ليؤمننّ بمحمّد العربي

__________________________________________________

(1) في نور الثقلين: لا يمحوه الباطل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 62

الأمّي المبعوث بمكّة الّذي يهاجر منها الى المدينة يأتي بكتاب اللّه بالحروف المقطّعة افتتاح بعض سوره، يحفّظه أمّته فيقرءونه قياما و قعودا و مساء و صباحا، و على كل حال، يسهّل اللّه حفظه عليهم، و يقرنون بمحمّد أخاه و وصيّه علي بن أبي طالب الآخذ منه علومه الّتي علّمها، و المتقلّد عنه أماناته الّتي قلّدها، و مذلّل كلّ من عاند محمدا بسيفه الباتر، و مفحم كلّ من جادله و خاصمه بدليله القاهر، يقاتل عباد اللّه على تنزيل كتاب اللّه حتّى يقودهم الى قبوله طائعين و كارهين، حتى إذا صار محمّد الى رضوان اللّه تعالى، و ارتدّ كثير ممّن كان أعطاه

ظاهرا الإيمان، و حرفوا تأويلاته، و غيّروا معانيه و وصفوها «1» على خلاف وجهها. قاتلهم بعد ذلك عليّ على تأويله حتى يكون إبليس الغاوي لهم هو الخاسئ الذليل المطرد المغلول.

قال: فلمّا بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أظهره بمكّة و سيّره منها الى المدينة و أظهره بها، ثمّ أنزل عليه الكتاب و جعل افتتاح سورته الكبرى الم يعني ال م ذلِكَ الْكِتابُ، و هو الكتاب الّذي أخبرت أنبيائي السالفين أنّي سأنزله عليك يا محمّد لا رَيْبَ فِيهِ.

فقد ظهر كما أخبر به أنبيائه، و أنّ محمّدا ينزل عليه كتاب مبارك لا يمحوه الماء يقرئه هو و أمّته على سائر أحوالهم ...

الى آخر ما مرّ «2».

و لعلّ المراد بقوله عليه السّلام «لا يمحوه الماء» أنّه لا ينسخه شي ء إلى يوم القيامة.

و في «النهاية الأثيرية»: في الخبر أنّه قال فيما يحكي عن ربّه: «و انزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما و يقظانا»

أراد أنه لا يمحى أبدا، بل هو محفوظ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ، و كانت الكتب

__________________________________________________

(1) في نور الثقلين: و وضعوها على خلاف وجوهها.

(2) نور الثقلين ج 1 ص 27- 28 ح 7 عن تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 63

المنزّلة لا تجمع حفظا، و إنّما يعتمد في حفظها على الصحف، بخلاف القرآن فإنّ حفّاظه أضعاف مضاعفة لصحفه.

و

قوله: «تقرأه نائما و يقظانا»

أي تجمعه في حالتي النوم و اليقظة، و قيل: أراد تقرأه في يسر و سهولة.

تنبيه

اعلم انّ هذه الوجوه الستّة المتقدمة المستفادة من آثار أهل البيت عليهم السّلام ممّا لا

تنافي بينها أصلا بعد ما سمعت من اشتمال كلمات القرآن و آياته على العلوم الغزيرة و البطون الكثيرة الّتي لا يعلمها إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، و على هذا فيصحّ إرادة الجميع، و إن كان كلّ ذلك بعضا قليلا من أبعاض ما أريد منها ممّا لا نحيط به علما، و لم يبلغنا علمها عن العالم بها، و لذا

قال عليه السّلام: «إنّ فيها لعلما جمّا» «1» ، و لعلّه هو المراد بقول من قال: إنّها من المتشابهات.

بل قد سمعت أنّ بعض الأخبار الواردة في تفسيرها، مثل ما يتعلّق بعدد سني القائم عليه صلوات اللّه و زمان ظهوره أيضا من المتشابهات.

بل في «مجمع البيان»: أختلف العلماء في هذه الحروف: فذهب بعضهم إلى أنّها من المتشابهات الّتي استأثر اللّه بعلمها، و لا يعلم تأويلها إلّا هو، و هذا هو المرويّ عن أئمتنا عليهم السّلام،

و روت العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: إنّ لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.

و عن الشعبي قال: اللّه تعالى في كتاب سرّ، و سرّه في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 52 ص 106.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 64

قال: و فسّرها الآخرون على وجوه، ثمّ ساق الكلام في عدّها «1».

و لعلّه أراد بكونها من المتشابهات عدم استفادة شي ء منها أصلا حتّى الإفحام و الإعجاز و التسكيت و غيرها ممّا عدّها في أقوال الآخرين، و لذا قابله بها فيه و في كثير من كتب التفاسير، و هو و إن لم يكن به بأس في نفسه، و إن لم أعرف قائله بالخصوص، إلّا أنّه لا ينبغي حمل ما روي عن أئمتنا عليهم السّلام،

لورود بعض البيانات عنهم فيها.

فالأولى هو القول بكونها باعتبار تمام ما هو المراد من معانيها و إشارتها و كيفيّات تأليفها و الاستخراج منها من المتشابهات و الأسرار، و إن فزنا ببركة أهل البيت عليهم السّلام برشحة من السحاب الماطر، و قطرة من البحر الزاخر.

و أمّا في تفسير الرازي نقلا عن المتكلّمين من أنّهم أنكروا القول بالمتشابه فيها، بل في القرآن مطلقا، نظرا إلى الآيات الآمرة بالتدبّر و التذكر، أو الدالّة على كون القرآن هدى، و ذكرا، و نورا، و تبيانا، و بيّنا، و بلاغا، و عربيّا، و غير ذلك مما يستفاد منه وضوح معانيه لعامّة العارفين باللّغة.

مضافا إلى أنّه لو ورد شي ء لا سبيل الى العلم به لكانت المخاطبة تجري مجرى مخاطبة العربي باللّغة الزنجيّة.

و إنّ المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا لا يليق بالحكيم.

و أنّ التحدّي وقع بالقرآن، و ما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التعدّي به «2» فضعفه واضح جدّا بعد ما سمعت في المقدّمات من اشتمال القرآن على

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 32.

(2) مفاتيح الغيب للفخر الرازي ج 2 ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 65

المتشابه الّذي لا يعلم تفسيره إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1».

بل بعد دلالة ظاهر الآية بل صريحها عليه، فكان الوجوه المذكورة في الرّد ردا على اللّه سبحانه و تعالى في صريح كلامه.

مضافا الى ما فيها من الضعف و القصور، فإنّ التدبّر و غيره حاصل بالنسبة إلى غير المتشابه مطلقا، و إلى المتشابه بعد ردّه إلى المحكم، و وصول البيان من أهل الذكر، و المخاطبة الكلّيّة إنّما كانت الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم، و لذا

ورد: إنّما يعرف القرآن من خوطب به «2» إشعارا على أنّه لا علم به بتمامه لغيره من علّمه إيّاه.

مع أنّه قد يقال: إنّ من جملة المحكم في إنزال المتشابهات أنّ المبطل لمّا علم اشتمال القرآن عليها يتأمله و يصغى إليه، و يجتهد في التفكر فيه رجاء أنّه ربما وجد بيانه في بقيّة كلامه، أو يجد فيها شيئا يقوّي قوله، و ينصر مذهبه في إبطاله، فيصير ذلك سببا لوقوفه على المحكمات المخلصة له من الضلالات.

و امّا ما ربما يتراءى من كلام المفسّرين في المقام من التنافر بين تلك المعاني بحيث يمنع من الجمع بينها، و لذا حكوا الاختلاف فيها و نسبوا كلا من الأقوال إلى قائل.

بل قال الرازي: إنّ المفسّرين ذكروا وجوها مختلفة، و ليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي، فإمّا أن يحمل على الكلّ و هو متعذّر بالإجماع لأنّ كلّ واحد من المفسّرين إنّما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة، و ليس فيهم من حملها على الكلّ «3».

__________________________________________________

(1) راجع سورة آل عمران: 7.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 139 ط، القديم باب تأويل «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ» (3) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 66

ففيه أنّه لا مانع من الحمل المذكور بعد قيام الدليل عليه من الأخبار المتقدّمة، بل و كذا الحال في كثير من الكلمات و الآيات، بل كلّها بعد ما هو المعلوم من إرادة ظاهرها و باطنها إلى سبعة أبطن أو سبعين بطنا، قد نبّهنا في المقدمات أنّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع كون الجميع حقايق أو

مجازات أو ملفّقا منهما، بل يجوز مع ذلك إرادة الإشارات المدلولة عليها بصور الحروف و ترتيبها و تركيبها و إعدادها و غير ذلك بعد توجيه الخطاب الى العالم بالدلالة و الإرادة.

و أمّا ما ادّعاه من الإجماع فلا ينبغي الإصغاء إليه، سيّما بعد الإطلاع على ما هو الحجّة منه عند الإمامية.

بل قد ظهر مما مرّ جواز حملها مضافا إلى الوجوه المتقدّمة الّتي تضمّنها الروايات على غيرها أيضا من الوجوه.

الوجه السابع أنّها أسماء للسور

بل الأقوال الكثيرة الّتي منها: أنّها أسماء للسور و نسبه الرازي الى أكثر المتكلمين و في موضع آخر الى أكثر المحققين، و حكاه عن الخليل و سيبويه و في الكشّاف و تفسير القاضي أنّ عليه إطباق الأكثر، و في المجمع أنّه أجود الأقوال و عن القفّال: أنّ العرب قد سمّت بهذه الحروف أشياء فسمّوا بلام والد حارثة بن لام الطائي، و قالوا: جبل قاف، و بحر صاد، و سمّوا السحاب عينا، و الحوت نونا، و النحاس صادا، الى غير ذلك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 67

و استدلّ عليه القاضي تبعا للرازي و غيره بأنّها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل، و التكلّم بالزنجي مع العربي، و لم يكن القرآن بأسره بيانا و هدى، و لمّا أمكن التحدّي به، و إن كانت مفهمة فإمّا أن يراد بها السورة الّتي هي مستهلّها على أنّها ألقابها، أو غير ذلك، و الثاني باطل، لأنّه إمّا أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب، و ظاهرا أنّه ليس كذلك، أو غيره و هو باطل، لأنّ القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى:

بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «1»، فلا يحمل على ما ليس في لغتهم.

و لا يخفى ضعفه من وجوه قد مرّ

التنبيه على كثير منها، كما لا يخفى ضعف ما في «مجمع البيان» بعد أن جعله أجود الأقوال قال: لأنّ أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية من أصولها للتفرقة بين المسمّيات، فيكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية، و لهذا في أسماء العرب نظير، نحو أوس بن حارثة بن لام الطائي، و لا خلاف في جواز التسمية بحروف المعجم، كما يجوز أن يسمّى بالجمل، نحو تأبط شرّا، و برق نحره، و كل كلمة لم يكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق إلى آخر ما ذكره «2».

إذ فيه مع كونه أعمّ من المدّعى، أنّه شبه مصادرة، للشكّ في طرفي النقل فضلا عن كون المنقول اليه السور.

نعم يمكن التقريب له بما ورد في الأخبار الدالّة على أنّ من قرأ سورة يس، و صاد، و حم، و نون، و إلى غير ذلك من السور، فإنّ الظاهر منها كونها أسماء لتلك المسمّيات.

__________________________________________________

(1) النحل: 103.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 68

و بقوله: حم* لا ينصرون، بل

عن الفائق أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعله شعارا لقوم يوم الأحزاب

، و معناه على ما قيل: و منزّل حم*، على النصب و الجرّ، بناء على التنوين و الإضافة، و لا ينصرون جواب القسم، أو أنّه مرفوع على الابتدائية أو الخبرية، أي مقولي حم*، أو هو مقولي، و لا ينصرون استيناف، كأنّه قيل: ماذا يكون إذا؟ فقال: لا ينصرون.

و بقول شريح بن أوفى العنسي قاتل محمد بن طلحة، حيث شدّ عليه برمحه، و هو قد شلّ درعه بين رجله و قام عليها، و كلّما حمل عليه رجل قال: نشدتك ب حم* حيث كان

شعار حرب الحق يومئذ حم*، لقوله تعالى فيها: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» و كان محمد المعروف بالسجّاد يظهر بذلك أنّه ليس من حزب المخالفين، فقتله شريح و هو يقول:

و اشعث قوّام بآيات ربّه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم شككت له بالرمح جيب قميصه فخرّ صريعا لليدين و للفم على غير شي ء غير أن ليس تابعا عليّا و من لا يتبع الحقّ يظلم يذكّرني حاميم و الرمح شاجر فهلّا تلى حاميم قبل التقدّم حيث أنه أشار بها إلى السورة المشتملة على الآية.

و المناقشة في الوجوه المذكوره بكفاية أدنى الملابسة في الإضافة مدفوعة بأنّها لا تدفع الظهور المستفاد من الانسباق بمجرّد الإطلاق.

و أمّا ما يقال في ابطال القول بالتسمية: من أنّها لو كانت اسماء السور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر، لأنّها من الأمور العجيبة الّتي تتوفر الدواعي على نقلها.

و أنّ السورة الكثيرة قد اتفقت في الم* ... و الر*، و حم*، فالاشتباه حاصل،

__________________________________________________

(1) الشورى: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 69

و المقصود من التسمية إزالته.

و أن القرآن قد نزل بلغة العرب الذين لم يتجاوزوا في التسمية عن اسم أو اسمين كبعلبك و تأبط شرا، و لم يسمع منهم التسمية بثلاثة أسماء فضلا عن الأربعة و الخمسة، و القول بكونها أسماء للسور خروج عن طريقتهم الّتي يجب التوقف عليها.

و أنّها لو كانت أسماء السور لوجب اشتهارها بها لا بسائر الأسماء، لكنّها قد اشتهرت بسورة البقرة، و آل عمران، و الأعراف، و غيرها ممّا أثبتوها في التراجم، دون تلك الحروف.

و لوجب أيضا أن لا يخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه، مع أنّه ليس كذلك.

و أنّ هذه

الحروف من كل سورة جزئها، و من البيّن أنّ وضع الجزء للكلّ يؤدّي إلى اتحاد الاسم و المسمّى الّذي هو المجموع و لو ضمنا.

و أنّها تستدعي تأخر الجزء عن الكلّ، من حيث إنّ الإسم يتأخّر عن المسمى رتبة.

و انّ جعله جزءا يتوقف على كونه اسما إذ يمتنع من البليغ جعل المهمل جزءا من كلامه، و جعله اسما يتوقف على جعله جزءا، إذ هو اسم للمركّب من حيث هو مركّب.

ففيه: أنّ الجميع مشترك في الضعف، و غير ناهض لإثبات المطلوب، لاندفاع الأوّل بمنع الملازمة، و منع توفّر الدواعي على النقل، و إن توفّرت على الاستعمال، و كم أمر أهم من ذلك لم ينقل لنا النقل فيه و إن ثبت من وجوه أخر، كإثبات الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ العبادات و غيرها.

و الثاني بجواز التميّز ببعض المشخّصات بعد فرض التسمية و حصول

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 70

الاشتراك كغيرها من المشتركات.

و الثالث باختصاص الامتناع بما إذا ركّبت و جعلت اسما واحدا كما في بعلبك لا فيما نثرت نثر أسماء العدد، و لذا سوّى سيبويه بين التسمية بالجملة، و البيت من الشعر و طائفة من أسماء حروف المعجم.

و الرابع بالمنع منه، و أما ترك الإثبات في تراجم المصاحف فلعلّه لضرب من التوقيف الملحوظ فيها، مع أنّ تلك التراجم غير محفوظة عن أصحاب العصمة، و قد ورد كثير من الأخبار التعبير عن السور بتلك الحروف.

و الخامس بمنع الملازمة سيّما مع اقتضاء الحكمة للتسمية في موضع دون موضع.

و السّادس بكفاية المغائرة الاعتبارية، و لذا لم يقدح ذلك في الأسماء المتعارفة كالبقرة، و آل عمران الى آخر سور القرآن و غيرها ممّا هو شايع.

و ممّا ذكرنا و غيره يتّضح الجواب عن

السابع و الثامن ايضا.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ أدلة الفريقين لم تنهض لإثبات شي ء من الأمرين، و قضيّة الأصل العدم و ما ذكرناه، إنّما يثبت به الاستعمال أو غلبته و لو لا اشتمال السورة على الكلمة بعد النزول، و أما نزولها على هذا الوجه فلا، إلّا أن يقال بالاكتفاء بالأوّل و استلزامه للثاني و لو لا الأصل سيّما مع كون الدليل ظهور الأخبار المأثورة عنهم عليهم السّلام.

إلّا أنّه قد يقال: إنّ الإطلاق فيها نظير قول الناس: فلان يروي: «قفا نبك» و «عفت الديار»، و يقول الرجل لصاحبه: ما قرأت: يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ*، و بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ، و يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ، و اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، و ليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد، و هذه السور و الآي، و إنّما يعني رواية القصيدة الّتي ذاك استهلالها، و تلاوة السورة و الآية الّتي تلك فاتحتها، فلمّا جرى الكلام على أسلوب

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 71

من يقصد التسمية، و استفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة.

أقول: و يؤيّده شيوع التعبير بكلمات أوائل السور، و لو مع عدم كونها من المقطّعة، و لا مكتوبة في الترجمة، كسورة سُبْحانَ الَّذِي و سورة أَتى أَمْرُ اللَّهِ، و نحوهما.

ثمّ إنّه على فرض التسمية يكون هذا الوجه سابع الوجوه فلا تغفل.

الوجه الثامن أنّها أسماء القرآن

و منها: انّها من اسماء القرآن كما توهمه جمع من مفسّري العامّة، كقتادة، و مجاهد، و ابن جريح و السدّي و الكلبي، و لا وجه له عدى ما قيل: من أنه أخبر عنها بالكتاب و القرآن، و نحوهما، و هو كما ترى.

و منها: أنّها أبعاض أسماء اللّه تعالى، كما عن

ابن عباس، و سعيد بن جبير، و الحسن البصري، بل حكوا عن الأخير أنّ هذه الحروف المقطّعة في أوائل السور اسماء اللّه تعالى لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم اللّه الأعظم، ألا ترى أنّك تقول:

الر*، و تقول حم*، و تقول: ن، فيكون الرَّحْمنُ، و كذلك سايرها على هذا القول، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها و الجمع بينها.

أقول: و لعلّهم سمعوا الخبر المتقدم «1» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا المعنى، فراموا أن يتكلّموا ما لم يمنحوا علمه، و لم يكونوا من أهله.

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار ص 23 باب معنى الحروف المقطعة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 72

الوجه التاسع أنّها أبعاض أسماء اللّه عزّ و جلّ

و منها: ما يحكى عن ابن عبّاس و غيره من أنّها أقسام أقسم اللّه بها، و على هذا يحتمل كونها من أسماء اللّه أو من أسماء القرآن أو السور، أو من مبادي الأسماء أو أبعاضها.

وجوه آخر

أو أن المراد نفس الحروف المعجمة باعتبار معانيها، أو لشرفها و تركيب الألفاظ منها.

أو لأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، و أصول كلام الأمم كلّها بما يتعارفون و يذكرون اللّه و يوحدونه و يعبدونه مع أنّه ممّا كرّم اللّه به بني آدم.

أو لأنها من جملة خلقه سبحانه، و له الإقسام بكلّ شي ء من خلقه، من خطير أو حقير، كالسماء و الشمس، و القمر، و التين و الزيتون، فإنّ الجميع من مظاهر قدرته و كماله، و آثار صفة جماله، كأنّه سبحانه يقول في كل ذلك و «عزتي و جلالي و ربوبيتي و كبريائي»، و أداة القسم فيها مقدّرة حسبما يأتي في اعرابها.

و هذا الوجه و إن كان جائزا إلّا أنّي لم أجد عليه دليلا.

و منها: أن يكون المراد بها مدّة بقاء هذه الأمّة، حكاه في «المجمع» عن مقاتل بن سليمان، قال: حسبناها فبلغت بعد إسقاط المكرّر: (744) و هي بقيّة مدّة هذه الأمّة.

و هو كما ترى غلط واضح، و مثله ما عن علي بن فضّال المجاشعي النحوي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 73

إلّا أن يكون مراده مجرّد بيان العدد لا تحديد البقاء، و لذا قال: إنّي حسبتها فبلغت (3065) فحذفت المكرّرات فبقي (693) «1».

و أمّا ما

يروى من أنّ اليهود لمّا سمعوا (الم)* قالوا: مدّة ملك محمد قصيرة إنّما تبلغ إحدى و سبعين سنة، فلمّا نزلت الر*، و المر، و المص، و كهيعص، اتّسع عليهم الأمر «2».

و أنّه عليه السّلام لمّا

أتاه اليهود تلى عليهم الم البقرة فحسبوه قالوا: كيف ندخل في دين مدّته احدى و سبعين سنة: فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: و هل غيره؟ فقال:

المص، و الر*، و المر، فقالوا: خلطت علينا و لا ندري بأيّها نأخذ «3» ففيه: أنّه لا دلالة فيهما أصلا على ذلك، و لعلّ الأصل في الخبر ما مرّت حكايته عن تفسير العسكري عليه السّلام، و قد سمعت فيه ما أجابهم به مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و منه يظهر أنّ تبسّمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان تعجبا من جهلهم، لا من اطّلاعهم على هذا الرمز.

و أمّا ما يحكى عن أبي العالية من أنّها إشارة الى مدد أقوام و آجالهم بحساب الجمل فلا بأس به، و لعلّه استفاد ذلك من الأنوار المقتبسة من مهابط الوحي و التنزيل و معادن العلم و التأويل.

و منها غير ذلك من الأقوال الّتي لا شاهد على شي ء منها. مثل أنّ المراد بها الحروف المعجمة، استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها الّتي هي تمام الثمانية و العشرين حرفا، كما يستغنى بذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة،

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 33.

(2) البرهان ج 1 ص 55 عن تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام.

(3) البرهان ج 1 ص 55 عن تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 74

و كما يقال: ا، ب في أبجد «1».

و مثل ما يقال: إنّها تسكيت للكفّار، حيث إنّ المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يسمعوا لهذا القرآن و ان يلغوا فيه، كما أخبر اللّه تعالى عنهم

بقوله:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «2»، فكانوا ربّما صفّروا، و ربّما صفقوا، و ربّما لغطوا ليغلّطوا النبيّ فأنزل اللّه تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه، و تفكروا و اشتغلوا من تغليطه. فيقع القرآن في مسامعهم، و يكون ذلك سببا موصلا لهم الى استماعهم و فهمهم و هدايتهم «3».

و نحو ما قيل: أنّ بعضها يدلّ على اسماء اللّه تعالى، و بعضها على أسماء غيره تعالى، كما قيل في الم*: إنّ الألف من اللّه، و اللام عن جبرئيل، و الميم من محمّد، أي أنزل اللّه تعالى الكتاب على لسان جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و مثل ما قيل: إنّ كلّ واحد منها يدلّ على فعل من الأفعال، فالألف معناه ألف اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعثه نبيّا، و اللام أي لامه الجاحدون، و الميم أي ميم الكافرون، من الموم بمعنى البرسام.

و نحو ما قيل: إنّها في التقدير اسمعوها مقطّعة حتّى إذا أوردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، كما أنّ الصبيان يعلمون هذه الحروف أولا مفردة، ثم يعلمون المركّبات.

و مثل ما يقال: إنّها تدلّ على انقطاع كلام و استيناف كلام آخر، و حكي عن أحمد بن يحيى بن تغلب أنّ العرب إذا استأنف كلاما فمن شأنهم أن يأتوا بشي ء من

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 33

(2) فصّلت: 26.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 75

غير الكلام الّذي يريدون استينافه فيجعلونه تنبيها للمخاطبين على قطع الكلام الأوّل و استيناف الكلام الجديد.

و نحو ما قيل: إنّها ثناء من اللّه

تعالى على نفسه.

و مثل ما قيل: إنّ إخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأسماء الحروف قبل أن يتعلّم من أحد من الآدميين يعلم منه أنّه تعلّم من معلّم آدم الأسماء، فيكون أوّل ما يسمع معجزة دالّة على أنّه من عنده عزّ و جلّ.

و مثل ما قيل: إنّها للردّ على من قال بقدم القرآن، فإنّه لمّا علم اللّه في القدم أنّ قوما سيقولون بقدم القرآن ذكر هذه الحروف تنبيها على أنّ هذا الكلام مؤلّف من الحروف الحادثة فلا يكون قديما.

و مثل ما قيل: إنّ المراد ب الم ألمّ بكم ذلك الكتاب، أي نزل عليكم نزول الزائر، لأنّ الإلمام الزيارة، فإنّ جبرئيل نزل به نزول الزائر.

و مثل ما قيل: إنّ الألف من أقصى الحلق، و هو أوّل المخارج، و اللام من طرف اللّسان و هو وسط المخارج، و الميم من الشفه و هو آخر المخارج، فهذه إشارة الى أنّه لا بدّ أن يكون أوّل ذكر العبد و وسطه و آخره اللّه تعالى.

و مثل ما قيل: إنّ الألف إشارة الى ما لا بد منه من الاستقامة في أوّل الأمر، و هو رعاية الشريعة، كما قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا* «1».

و اللام إشارة إلى الإلجاء الحاصل عند المجاهدات و هو رعاية الطريقة كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «2»، و الميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام العبوديّة كالدائرة الّتي تكون نهايتها عين بدايتها، و بدايتها عين نهايتها،

__________________________________________________

(1) فصّلت: 30، الأحقاف: 13.

(2) العنكبوت: 69.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 76

و ذلك إنّما يكون بالفناء في اللّه بالكلّية و هو مقام الحقيقة، قال اللّه تعالى: قُلِ

اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ «1».

الى غير ذلك من الأقوال و الاحتمالات الّتي لا شاهد على شي ء منها.

البحث السابع احكام الحروف و عوارضها

في مستطرفات من أحكام تلك الحروف و عوارضها و هي أمور:

منها: أنّها و إن اشتهرت بالحروف إلا أنّها أسماء لمسمّياتها الّتي تتركّب منها الكلم لما هو واضح من دخولها تحت حدّ الاسم، و اعتداد ما يختصّ به من التعريف و التنكير، و الجمع، و التصغير و غيرها عليها، فكما أنّ الإنسان موضوع للمهيّة المعيّنة لها أفراد خارجيّة، فكذلك الجيم مثلا اسم لمهيّة الحرف المفرد البسيط المعلوم الصادق على الحرف الأوّل من جعفر، و جاء، و جعل، و نحوها.

و من هنا قيل: إنّها من اسماء الأجناس لا من الأعلام الشخصيّة، و لا أظنّ أحدا ينكر اسميّتها.

و به صرّح الخليل حيث سأل أصحابه: كيف تنطقون بالجيم من جعفر؟ فقالوا:

جيم، فقال: إنّما نطقتم بالاسم و لم تنطقوا بالمسئول عنه، و الجواب (ج)، لأنّه المسمّى.

بل قد يحكى الصريح به عن غير واحد من الأدباء.

و أمّا ما يحكى عن متقدّمي النحاة من تسميتها حروفا فمحمول على ضرب

__________________________________________________

(1) الأنعام: 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 77

من التسامح، و مثله كثير في كلامهم كتسميتهم الباء من حروف الجارّة، فإنّ مدخول اللام اسم قطعا، نعم مصاديقه من الحروف كالباء في مررت بزيد، و كذا اللام، و الواو، و غيرهما من الحروف المفردة الّتي يعبّر عنها بأسمائها.

و أمّا ما ورد في الأخبار الكثيرة في فضل القراءة من أنّ للقارئ بكل حرف خمسين حسنة، أو عشر حسنات، أو غير ذلك، بل

في بعضها: لا أقول بكلّ آية، بل بكل حرف، باء، أو تاء، أو شبههما.

و في خبر آخر أما إنّي لا أقول: الم* عشر، و لكن ألف

عشر، و لام عشر، و ميم عشر

فالمراد بالحرف فيها غير المعنى المصطلح عند النحاة، لأنّه عندهم من المنقولات العرفيّة الخاصّة، و في العرف العام يطلق على ما يعمّ الإسم و غيره، فالمراد به في الخبر هو ما يتركّب منه الكلم سواء لوحظت مفردة أو في ضمن المركّب.

ثمّ إنّهم راعوا في التسمية الدلالة على المسمّيات بصدور الأسماء إعمالا للمناسبة و ترجيحا للخصوصية، و ليكون هو أوّل ما يقرع السمع من الإسم، و هذه المناسبة ملحوظة في الجميع إلّا الألف الساكنة الّتي هي المدّة كوسط حروف (قال) فإنّه لا يمكن الافتتاح بها، لضرورة استحالة الابتداء بالساكن مطلقا، أو في لغة العرب، و لذا اختاروا لها اللام لما مرّ.

و إنّما قيّدنا هنا بالساكنة الّتي هي المدة احترازا عن المتحركة الّتي راعوا فيها المناسبة و أمّا الهمزة فليست من الأسماء الأصيلة للحروف، بل هي اسم محدث كما حكى عليه النّص عن ابن جني و غيره، و لذا قال الفيروزآبادي في ( (القاموس)): الألف ككتف الرجل العزب، و أول الحروف، و بوّب في آخر الكتاب للألف الليّنة بابا، و ذكر فيه أنّ أصول الألفات ثلاثة، و يتبعها الباقيات: أصليّة كألف (أخذ)، و قطعيّة كأحمد و أحسن، و وصليّة كاستخرج و استوفى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 78

ثمّ عدّ من التوابع الألف الفاصلة بعد واو الجمع، و نون الإناث، و ألف الإشباع، و الصلة، و غيرها.

و في: «الصحاح» و «مجمع البحرين»: أنّ الألف على ضربين ليّنة، و متحرّكة، فالليّنة تسمّى ألفا، و المتحرّكة همزة ثمّ ذكر انّ الهمزة على قسمين: ألف وصل، و ألف قطع ... إلخ و منه يظهر أنّ للألف إطلاقين، و الهمزة قسم منه يقابله بمعناه الأخصّ، و

لعلّه إنّما خصّ هذا القسم منه بها لما يظهر عند التلفّظ به من الغمز و العصر و الانضغاط.

و لذا قال في «الصحاح» بعد تفسير الهمز بالغمز و الضغط: و منه الهمز في الكلام، لأنّه يضغط، و قد همزت الحرف فانهمز، و قيل لأعرابي: أ تهمز الفاء؟ فقال:

السنّور يهمزها.

و في «مصباح المنير» و غيره ما يقرب منه.

و منها: أنّه لا ريب في أنّ هذه الأسماء ما لم يتعلّق بها شي ء من العوامل تقدمت عليها أو تأخرت عنها ساكنة الأعجاز، سواء كانت متفاصلة عند النطق بها أو متواصلة، فنقول: ألف- با، جيم، دال، من دون أن يظهر أثر الاعراب، بل شي ء من الحركات في أعجازها.

بل و كذا الأعداد المسرودة، و الأسماء المعدودة، فتقول: واحد، اثنان، ثلاثة، كما تقول: زيد، عمرو، بكر.

و إنّما الكلام في أنّ سكونها هل هو للوقف، أو للبناء، فصريح الزمخشري و تابعيه هو الأوّل، و هو المحكيّ عن جمهور المحقّقين من النحويين، حيث حصروا سبب بناء الأسماء في مناسبته ما لا تمكن له أصلا، و سمّوا الأسماء الخالية منها معربة، و جعلوا سكون أعجازها وقفا و لو مع اتّصال الكلام في الظاهر، إذ ليس في شي ء منها ما يوجب الوصلة، فكان بمنزلة الوقف عليها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 79

و ربّما استدلّوا عليه بأنّ العرب جوّزوا في الأسماء قبل التركيب التقاء الساكنين كما في الوقف فقالوا: زيد، عمرو، بكر، صاد، قاف، و لو كان سكونها بناء لما جمعوا بينهما كما في ساير الأسماء المبنيّة، نحو (كيف) و أخواتها، و لذا تحرّكها إذا أعددتها وصلا، فتقول: كيف، أين، حيث، فلم يجوّزوا في المعدودة منها التقاء الساكنين.

و بأنّهم عرّفوا المعرب بما يختلف آخره باختلاف العوامل في

أوّله، و أرادوا ما يمكنه الإختلاف على قانون اللغة، سواء اتصف به بالفعل، أو كان من شأنه ذلك إمّا قريبا كما وقع في التركيب و لم يعرب أو بعيدا كما في التحديد.

و بأنّ القول ببنائها يؤدّي إلى الفرق بين سببي البناء أعني وجود مانع الإعراب، و هو مشابهة الحرف و فقدان المقتضي كما في هذه الأسماء بتجويز التقاء الساكنين في الثاني دون الأوّل و هو تحكّم.

و يضعّف الدليل الأوّل بأنّ سكون أعجازها سردا وقفا و وصلا مع التقاء الساكنين و عدمه لعلّه من أثر البناء، فلا يغيّر، كما لا يغيّر الحركة في كيف و أخواتها، و انحصار جواز التقاء الساكنين في صورة الوقف ممنوع، كيف و هو أوّل الكلام.

و الثاني أيضا يضعّف بأنّه تعريف من البعض و ليس حجّة على غيره.

و الثالث أيضا ضعيف بأنّه مجرّد استبعاد، بل قد يستقرب الفرق بأنّ تلك الأسماء قد استمرّ بها السكون قبل التركيب فأشبهت الموقوف فاغتفر فيها ما جاز فيه.

و ذهب ابن الحاجب و بعض المتأخرين إلى أنّها مبنيّة، و قد عدّ غير واحد منهم من مقتضيات البناء الشبه الإهمالي الّذي ضبطوه بمشابهة الإسم الحرف في كونه غير عامل و لا معمول كأسماء الأصوات و الأسماء المسرودة، و الفواتح.

و حكى عن ابن مالك إدخاله في الشبه المعنوي، و عن غيره الشبه الاستعمالي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 80

و لكنّ الخطب فيه هيّن جدّا لعدم ظهور شدة للنزاع سيّما مع الاتفاق على سكونها على القولين إلّا في موضعين: أحدهما (ميم) أوّل العنكبوت على قراءة ورش «1»، و الأخر (ميم) أوّل آل عمران على قراءة جميع القرّاء إلّا أبا بكر بن عيّاش، عن عاصم «2».

إمّا لالتقاء الساكن الثالث الّذي

هو لام التعريف بعد سقوط الهمزة في الدرج في لفظ الجلالة على مذهب سيبويه.

و إما لنقل حركة همزة لفظ الجلالة إلى ميم (الم)* كما عن آخرين.

و على الوجهين فلا دلالة له على أحد القولين، لأنّ المبنيّ ربما يحرّك لضرورة التقاء الساكنين نحو (مِنَ اللَّهِ)*.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما يستدلّ به لكلّ من القولين من فقد المقتضي للآخر، إذ مع إمكان المعارضة ربما يقال: إنّما ضدّان فلا يكونان من قبيل الأعدام و الملكات حتى لا يمكن رفعهما.

بل قد ذكر بعض الأعلام في المقام أقوالا ثلاثة قال: قد اختلف في أنّ الأسماء قبل التركيب معربة، أو مبنيّة، أو لا معربة و لا و مبنيّة و لكن قابلة للإعراب، و ربما يعزى الى البيضاوي.

و أمّا ما في «مجمع البيان» من أنّ هذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجّي لأنّها مبنيّة على السكت، كما أنّ العدد مبنيّ على السكت، يدلّ على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك: لام، ميم، و تقول في العدد: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، فتقطع ألف إثنين مع أنها همزة وصل، و تذكر الهاء في ثلاثة

__________________________________________________

(1) هو عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش ... ولد سنة (110) و مات بمصر سنة (197) ه

(2) هو عاصم بن أبي النجود الكوفي القاري المتوفى (128).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 81

و أربعة و لو لا أنّك تقدّر السكت لقلت: ثلاثة بالتاء و يدلّ عليه قول الشاعر «1».

أقبلت من عند زياد كالخرف تخط رجلاي بخطّ مختلف تكتبان في الطريق لام ألف حيث ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها «2».

فالظاهر أنّ مراده من البناء معناه اللغوي، و أنّ سكونها عنده للوقف لا

البناء المصطلح كما يظهر من تضاعيف أدلّته، مع أنّه ذكر في أوّل سورة الأعراف: انّا قد بيّنا في أوّل سورة البقرة أنّ حروف الهجاء توصل على نيّة الوقف فرقا بينها و بين ما يوصل للمعاني «3».

و منها: أنّه قد يتلفّظ بما آخره ألف من هذه الأسماء مقصورا حالة التهجّي فتقول: با، تا، ثا، حا، خا، بالقصر في الجميع عند التعداد، فإذا ركّبتها و علقت عليها شيئا من العوامل مددتها فتقول: كتبت الباء معرّفا، و كتبت باء منوّنا، و كذا أخواته ممّا آخره ألف، و يلحق بالجميع أحكام الممدود من التثنية، و الجمع و التصغير و النسبة، و غيرها.

نعم ربما يبدل الهمزة أو الألف منها واوا أو ياء في النسبة و غيرها، و لذا قال في القاموس: التاء حرف هجاء، و قصيدة تائيّة، و تاوية، و تيويّة.

و أمّا ما فيه و في الصحاح من جواز المدّ و القصر في الحاء، فلعلّه مبني على الوجهين.

__________________________________________________

(1) هو ابو النجم الراجز الفضل بن قدامة العجلي الشاعر كان يحضر مجالس عبد الملك و هشام، مات سنة (130) ه

(2) مجمع البيان ج 1 ص 34.

(3) مجمع البيان ج 4 ص 394.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 82

ثم إنّه لا ينبغي التأمّل في كونها أسماء على الحالتين حسبما مرّ الكلام فيه.

و ربما يتوهم كونها حروفا مقصورة و أسماء ممدودة حملا على (لا) فإنّ ممدودتها اسم لمقصورتها فتعرب الممدودة بمقتضى الكلام و تدخلها التنوين و الإضافة و غيرهما، كقول حسّان «1» في مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده لولا التشهّد لم يسمع له أذلاء و في قول فرزدق «2» في

مدح مولانا السّجاد عليه صلوات اللّه:

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده لولا التشهّد كانت لاؤه نعم و كقول الآخر:

كأنّك في الكتاب وجدت أذلاء محرّمة عليك فلا تحلّ و فيه المنع من كون (لا) حرفا في البيتين بعد كونه مسندا و لو على وجه الحكاية.

و أمّا تلك الحروف و الظاهر اطباقهم على اسميّتها لما سمعت.

بل عليه يتفرّع الإختلاف في اعرابها و بنائها.

مضافا إلى أنّهم قد صرحوا بأنّ الأسماء لمسمّياتها إنّما هي المقصودة من تلك الكلمات، و أنّها موضوعة على القصر، و أنّها في الأصل أسماء ثنائية إلّا أنّهم إذا أرادوا أن يعربوها بادراجها في الكلام زادوا عليها ألفا و قلبوها همزة حذرا لالتقاء الساكنين.

و إنّما حملهم على تلك الزيادة الحذر من بقاء الإسم على حرف واحد بعد

__________________________________________________

(1) حسّان بن ثابت بن المنذر الانصاري الخزرجي الشاعر عاش (130) سنة و توفي سنة (54) ه.

(2) هو همّام بن غالب الشاعر المعروف بفرزدق توفي سنة (110) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 83

دخول التنوين و سقوط الألف لالتقاء الساكنين، كما نبّه عليه نجم الائمة «1»، و غيره.

قالوا: و أمّا (زاي) فهو على ثلاث أحرف آخرها الياء كالواو، أعربته أو لم تعرب، و فيه لغة أخرى: (زي) نحو كي، فإذا ركّبتها او أعربتها تزيد عليها ياء، فتقول: كتبت زيّا بالتشديد كما يشدّدون في كل كلمة ثنائية ثانيها حرف علّة إذا أعربوها، نحو (لو) و (في) و (هو) و (هي)، فتقول: كتبت لوّا «2»، و هذه فيّ، بالتشديد فيهما.

أقول: و فيه لغات آخر أشار إليها في القاموس، قال: و الزاي إذا مدّ كتب بهمزة بعد الألف، و وهم الجوهري، و فيه لغات: الزاي، و الزاء، و

الزا، و الزيّ كالعليّ، و زي نحو كي، و زا منونة.

و ما اعترض به على الجوهري هو قوله: يمدّ و يقصر، و لا يكتب إلا بياء بعد الألف.

و منها: أنّهم قد قرّروا في أسماء حروف الهجاء أنّها لا تخلو إمّا أن يقصد بها نفس الأسماء، أو مسمّياتها الّتي هي مصاديق أسمائها أو غير ذلك من المعاني الّتي سمّيت بها، كما لو سمّي رجل بشي ء من الحروف المفردة أو المركبة.

فعلى الأوّل يجب الإتيان بالاسم كتبا و لفظا، فيقال: كتبت ألفا، و رأيت جيما.

و على الثاني يؤتى بالحرف المفرد خطّا و لفظا لأنّه المسمى حقيقة، فإذا قيل:

اكتب: جيم، فالمراد أول حرف من حروف جعفر و هو (ج) فإنّه هو المصداق لمفهوم مسمّاه، و كذا عند النطق به و إن وصل به هاء السكت حينئذ حذرا من الوقف على

__________________________________________________

(1) هو رضي الدين محمّد بن الحسن الأسترابادي النحوي المحقّق توفّي سنة (686) ه

(2) نحو قول الشاعر كما في البهجة المرضية للسيوطي:

ألام على لوّ و إن كنت عالما بأذناب (لوّ) لم تفتني أوائله

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 84

المتحرّك، و الابتداء بالساكن بل في الكتابة أيضا، لأنّ الأصل في كلّ كلمة أن تكتب بصورة لفظها بتقدير الابتداء بها و الوقف عليها، و لذا يكتب: ره زيدا، و قه عمروا.

و حكاية سؤال الخليل أصحابه في كيفيّة النطق بالجيم من جعفر مشهورة.

و أمّا على الثالث فاللازم فيه كتابة ألفاظها بحروف هجائها كالأوّل، و ربما يحكى فيه مذاهب أخر فيكون كالثاني، و لعلّه و هم، بل الإطباق حاصل منهم على الأوّل.

نعم قد اتّفقوا في رسم المصحف على كتابة تلك الحروف المقطّعة الواردة في بعض فواتح السور على صورها

الّتي هي مصاديق مسمّياتها سواء قلنا إنّها أسماء للسور أو للقرآن، أو لأشياء أخر، مثل (ق) للجبل و (ص) للنهر، أو أنّها أبعاض من أسماء اللّه تعالى، أو رموز لأمور، أو أسماء لحروف التهجّي تنبيها على أنّ القرآن مركّب من هذه الحروف كألفاظكم الّتي تكلّمون بها فهاتوا بمثلها إن قدرتم على ذلك، الى غير ذلك من الوجوه الّتي مرّت الإشارة إليها، فإنّهم مع اختلافهم في المراد بها، على أقوال كثيرة قد اتفقوا على رسمها بصورها و النطق بها بصورها الهجائية فأعملوا فيها القاعدة الموجبة لتفريع الرسم على المذاهب، و خالفوا بينه و بين النطق بها، و ذلك لمتابعة الرّسم الّذي قيل:

إنّه سنّة متّبعة، و لذا روعي التوقيف في التلاوة و الكتابة.

مضافا إلى ما لعلّه الوجه في ذلك من أنّها لمّا أريد منها معان متعدّدة متخالفة الأحكام حسبما اخترناه سابقا، و كان بعض هذه المعاني مقتضيا لإرادة المصاديق، و بعضها مقتضيا لإرادة نفس الأسماء أو المسمّيات الّتي هي غير المصاديق فراعوا فيها حكم الأوّل رسما، و حكم الأخيرين نطقا كي ينصرف نظر الناظر فيها الى الأمرين و لا يهمل بعض المقصود في البين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 85

و منها: أنّهم عدّوا بعض هذه الفواتح أية دون بعض من دون استناد فيه إلى ما يصلح مرجّحا لذلك، بل لمجرد التوقيف و التوظيف، فعدّوا (الم)* آية حيث وقعت من السور المفتتحة بها، و هي ستّ، و كذلك (المص) آية، و (طسم)* آية في سورتيها و (طه) آية، و (يس) آية، (حم)* آية في سورها كلّها، و (حم عسق) آيتان، و (كهيعص) آية واحدة.

و لكن لم يعدّوا من الآيات (الر)* في سورها الخمس، و (المر)، و (طس) و

(ص)، و (ق)، و (ن).

و هذا البناء على مذهب الكوفيين، و أمّا غيرهم فلم يعدّوا شيئا من الفواتح آية على ما حكاه عنهم الزمخشري في الكّشاف و غيره معتمدين فيها على مجرّد التوقيف.

نعم قال الطبرسي في «المجمع»: إنّما عدّ الكوفيّون (المص) آية و لم يعدّوا (ص) آية لأنّ (المص) بمنزلة الجملة، مع أنّ آخره على ثلاثة أحرف بمنزلة المردف، فلمّا اجتمع هذان السببان و كلّ واحد منهما يقتضي عدّه عدّوه، و لم يعدّوا (المر) لأنّ آخره لا يشبه المردف، و لم يعدّوا (ص) لأنّه بمنزلة اسم مفرد، و كذلك (ق) و (ن) «1».

و قال في (المر): إنّه لم يعدّها أحد آية، و عدّ الكوفي (طه) و (حم) آية لأنّ (طه) مشاكلة لرءوس الآي الّتي بعدها بالألف، مع أنّه لا يشبه الإسم المفرد كما أشبه صاد، و قاف، و نون، لأنّها بمنزلة باب، و نوح «2».

أقول: و لعلّ البناء على مجرّد التوقيف أولى من ذلك كلّه.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 4 سورة الأعراف ص 394.

(2) مجمع البيان ج 6 ص 6 سورة الرعد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 86

سيّما بعد ما هو المشهور من أنّ عدد الكوفي هو المروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

نعم إنّما الكلام في تشخيص الموضوع، إذ قد يحكى عن كتاب المرشد «1».

أنّ الفواتح في السور كلّها آيات عند الكوفيّين من غير تفرقة بينها.

بل قد يناقش أيضا في قولهم: «إنّ (الم)* آية حيث وقعت» بأنّها في سورة آل عمران ليست بآية، و كأنّه إنّما توهم ذلك من جهة الوصل بفتح الميم فيه على ما يأتي ان شاء اللّه تعالى، و لا يخفى ما فيه، نعم الرواية عنهم في ذلك لا تخلو من

تدافع، و الخطب سهل.

و منها: أنّ هذه الفواتح على أربعة أنواع، فإنّها إمّا اسماء مفردة ك ص، و ق، و ن، أو مركّبة مجموعها على زنة مفرد ك حم*، و طس، و يس، فإنّها على زنة هابيل و قابيل، أو ليست على زنة مفرد لكن يمكن اعتبار التركيب فيها، ك طسم*، بفتح النون مضمومة الى الميم كأنّهما جعلا اسما واحدا كالمركّب المزجي نحو بعلبك، أو مركّبة غير القسمين مثل (المر) و (كهيعص).

المتعيّن في النوع الأخير هو الحكاية، و أمّا الثلاثة قبله فيجوز فيها الأمران:

الإعراب، و الحكاية بصورة الوقف كالأعداد قبل التركيب، هذا كلّه على مذهب الزمخشري و أتباعه.

و اعترض عليه نجم الأئمّة رضي اللّه عنه بأنّ المبنيّ إذا سمّي به غير ذلك اللفظ فالواجب فيه الإعراب، و قد سمعت أنّ مذهب الزمخشري في هذه الأسماء الإعراب لكنّها لم تعرب لعدم المقتضي للإعراب، و على هذا فكيف تحكى و لا

__________________________________________________

(1) المرشد الوجيز الى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة عبد الرّحمن بن إسماعيل الدمشقي المتوفى (665) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 87

تعرب مع حصول المقتضي للإعراب إذا سمّيت بها السور.

و أمّا حكاية الحكاية فقد يورد عليها بأنّها إنّما تجري في بعض المركّبات المنقولة الى العلميّة، و في أعلام الألفاظ المحكيّة الملاحظ فيها مسمّى تلك الألفاظ نحو «ضرب فعل ماض» و «كم» للتكثير، لأنّ ضرب علم جنس لنحو ضرب زيد، و ضرب بكر، ففيه مجانسة مع المسمّى و اعتبار له فأوجب الحكاية إشعارا بأنّه ليس منقولا من الأصل من كلّ وجه، أمّا إذا جعل علما لرجل فيتعيّن فيه الإعراب على كلّ حال.

و أجيب عنه بأنّ هذه الأسماء شايع الاستعمال للدلالة على الحروف المبسوطة لمجرّد التعداد،

بل الأغلب عليها ذلك، فلمّا نقلت إلى جعلها أسماء للسور روعي الأصل في حكاية الوقف، و ليس لغيرها من الأسماء هذه الخاصيّة و إلّا لجوّزت حكايتها، على أنّ فيها شمّة من ملاحظة الأصل، لأنّ مدلولاتها مركّبات من تلك الحروف المبسوطة، و الغرض من هذه التسمية الإيقاظ، و قرع العصا.

و فيه: انّ مجرّد شيوع الاستعمال لا يقضي بالإلحاق، سيّما بعد وجود المقتضي للإعراب و ملاحظة الأصل متعينة بعد التسمية.

و لذا أجمعوا على وجوب الإعراب لو سمّيت بها غير تلك السور إنسانا كان المسمّى أو غيره، و كذا لو ركّبت ساير حروف المعجم مع عواملها، فإنّه لا يجوز الحكاية في الموضعين قولا واحدا.

و الفرق بما توهّموه في المقام غير فارق اللهمّ إلّا أن يستندوا فيه كغيره إلى السماع و التوقيف، و لا بأس به على فرض المساعدة.

نعم قسّم بعض المحققين أسماء السور على أقسام:

أحدها: ما فيه أل، و حكمه الصرف، كالأنعام، و الأعراف، و الأنفال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 88

الثاني: العاري منها، فإن لم تضف إليه سورة منع من الصرف، كهذه هود، و قرأت هود، و إن أضيف إليه سورة لفظا أو تقديرا صرف، كقرأت سورة هود، ما لم يكن فيه مانع يمنعه، كقرأت سورة يونس.

الثالث: الجملة نحو «قُلْ أُوحِيَ» و «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» فيحكى فإن كان أوّلها همزة وصل قطعت، لأنّها لا تكون في الأسماء إلّا في ألفاظ معدودة تحفظ و لا يقاس عليها، أو في آخره تاء التأنيث قلبت هاء في الوقف إذ هو شأن التاء الّتي في الأسماء، و تعرب لكونها اسما و لا موجب للبناء و يمنع الصرف للعلميّة و التأنيث، نحو «قرأت اقتربت» بفتح التاء، و في الوقف «اقتربه».

الرابع: حروف الهجاء

كصاد، و قاف، و نون، يجوز فيها الحكاية، لأنّها حرف فتحكى كما هي، و يجوز فيها الإعراب لجعلها أسماء لحروف الهجاء، و على هذا يجوز فيها الصرف و المنع، بناء على تذكير الحرف و تأنيثه، و سواء أضيف إليه سورة أم لا، نحو «قرأت صاد» أو «سورة صاد» بسكون الدال، و مثل «قرأت صاد أو قرأت صادا» و قرأت سورة صاد أو قرأت سورة صاد.

الخامس: في حم*، و طس، و يس اختلفوا، فأوجب ابن عصفور «1» فيها الحكاية، لأنّها حروف مقطّعة، و جوّز الشلوبين «2» فيها الحكاية و الإعراب غير منصرف لموازنتها هابيل و قابيل، و قد قرء ياسين بفتح النون، و سواء في جواز

__________________________________________________

(1) هو علي بن مؤمن بن محمد بن علي أبو الحسن بن عصفور النحوي الحضرمي الإشبيلي حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس ولد سنة (597) ه، و مات سنة (663) أو (669).

بغية الوعاة ص 357

(2) هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد اللّه أبو علي الإشبيلي المعروف بالشلوبين و معناه بلغة الأندلس الأبيض الأشقر، كان من ائمة العربيّة في عصره ولد سنة (562) و مات سنة (645) ه بغية الوعاة ص 364.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 89

الأمرين أضيفت إليها سورة أم لا.

السادس: المركّب نحو طسم* إذا لم تضف إليها سورة ففيها يجوز الوجهان المتقدّمان: الحكاية، و الإعراب، و وجه ثالث أيضا و هو بناء الجزئين على الفتح كخمسة عشر.

و إن أضيف إليها سورة لفظا أو تقديرا ففيه الوجهان، و يجوز على الإعراب فتح النون و اجراء الإعراب على الميم نحو بعلبك، و إجراؤه على النون مضافا الى ما بعده، و على هذا يجوز في (ميم) الصرف و

عدمه على تذكيره و تأنيثه.

و أمّا كهيعص و حم عسق فلا يجوز فيهما إلّا الحكاية سواء أضيف إليها سورة أم لا، و لا يجوز فيهما الإعراب لفقد النظير في الأسماء المعربة، و لا تركيب المزج لأنّه لا يتركّب عن أسماء كثيرة.

و أجاز يونس «1» في كهيعص أن يكون كلّه مفتوحة، و الصاد مضمومة معربة، و وجهه أنّه جعله اسما أعجميا، و أعربه و إن لم يكن له نظير في الأسماء المعربة.

أقول: لكنّ الّذي حكاه عنه نجم الأئمة البناء على أن يكون كاف مركبا مع صاد و الباقي حشو لا يعتد به، و هو كما ترى.

و من جميع ما مرّ يظهر الوجه في قراءة من قرأ صاد، و قاف، و نون، مفتوحات، أو ياسينا منصوبا، أو غير ذلك من القراءات.

و منها: أنّ هذه الفواتح على فرض كونها أسماء اللّه تعالى أو للقرآن، أو للسورة، أو غيرها، لها حظّ من الإعراب.

فيجوز أن يكون محلّها الّرفع على الابتداء، و غيرها، مذكور أو محذوف، أو

__________________________________________________

(1) يونس بن حبيب النحوي المتوفى (182) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 90

على الخبر، و مبتدئها مذكور أو محذوف.

و أن يكون محلّها النصب بتقدير فعل مضمر خبريّ أو إنشائي نحو (أذكر) أمرا، أو (أذكر) مضارعا، أو بتقدير فعل القسم فيما يصلح لذلك بنزع الخافض و إيصال فعل القسم إليها، كما في قولهم: اللّه لأفعلن.

و أمّا ما يقال: من أنّه غير مرضيّ لتخلّفه في (وَ الْقُرْآنِ)* بعد يس، و ص، و ق.

و في «وَ الْقَلَمِ» بعد ن، لورودهما مجرورين، فلا يمكن العطف لتخالف المتعاطفين إعرابا، و لا جعل الواو للقسم لاتحاد المقسم عليه الدالّ على كون الواو للعطف و لذا استكره الخليل و سيبويه

في قوله تعالى: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «1» كون الواوين الأخريين بمنزلة الأولى، بل ذهبا إلى أنّهما للعطف.

ففيه: أنّ الاستكراه لا يدلّ على المنع، و الخلاف في المسألة مشهور بين النحاة و عدم استقامته او صحّته في البعض لا يقتضي إطراحه في الكلّ.

و يجوز أن يكون محلّها الجرّ، إبقاء للخفض بعد إسقاط الخافض فيما يصلح منها للقسم إضمارا للباء القسميّة، كقولهم: اللّه لأفعلن بالجرّ، و قولهم: «لاه أبوك» في التعجب، أصله للّه، أضمرت اللام الأولى فبقي لامان، أولاهما ساكنة و لم يمكن الإدغام لتعذّر الابتداء بالساكن فحذفت الأولى فبقى (لاه).

لكنّها مع الجرّ موقوفة للحكاية، أو مفتوحة لمنع الصرف فيما اجتمع فيه سببان.

و أما من كسر (صاد) فلاجتماع الساكنين، أو لأخذه من المصاداة بمعنى المعارضة على ما يأتى الكلام فيه إن شاء اللّه.

__________________________________________________

(1) الليل: 1- 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 91

ثمّ لا يخفى أنّه لو جعل هذه الحروف اختصارا من كلام، او حروفا مسرودة للإيقاظ، أو التحدّي، أو للإشعار على تاريخ، أو لفائدة التأليف على بعض الوجوه، فلا حظّ لها من الإعراب أصلا و إن أقيمت مقام شي ء من الجمل، أو أفادت فائدتها.

ثمّ إنّ كلّا من هذه الحروف لمّا كان كلمة جاز في الكناية عنها بالضمير أو الإشارة إليها التذكير باعتبار الإسم أو الحرف، و التأنيث باعتبار الكلمة أو السورة باعتبار الوضع لها.

و منها: أنّه يجب المدّ في هذه الفواتح فيما اجتمع فيه حرف المدّ و سببه: و في حرف اللين و الحركة العارضة وجهان بل وجوه، و لا مدّ مع فقد أحد الأمرين.

بيان ذلك أن حروف الفواتح على أربعة أقسام:

أحدها ما هو على

ثلاثة أحرف، و التقى فيه حرف المدّ و الساكن و حركة ما قبل حرف المدّ مجانسة له و هو ممدود بالاتّفاق، و ذلك في سبعة أحرف: للألف أربعة: صاد، قاف، كاف، لام، و للياء اثنان: سين، ميم، و للواو واحد و هو نون، فإن تحرّك الساكن نحو ميم في أوّل أل عمران على قراءة الجميع، و في أوّل العنكبوت على قراءة ورش، و نحو صاد، و قاف على قراءة بعضهم، ففي المدّ وجهان، و الأقيس عندهم المدّ.

و ثانيها مثل الأوّل إلّا أن حركة ما قبل حرف المدّ لا تجانسه و هو حرف واحد، و هو (عين) في كهيعص، و حم عسق، و فيه ثلاثة أقوال: المدّ، و التوسط، و القصر.

الثالث ما لم يلتقي الساكن نحو (حا).

و الرابع ما فقد فيه حرف المدّ نحو الألف، فلا مدّ في شي ء منهما.

[سورة البقرة(2): آية 2]

اشارة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 92

تفسير الآية (2) ذلِكَ الْكِتابُ ذلِكَ إشارة صدرت عن سرادق مجد العزّ، و قدس كبرياء الجبروت إلى الكتاب المنزل في كسوة المعاني و الحروف إلى الأرواح التائهة في فيافي بيداء الملكوت، و الأكوان الغاسغة في ظلمات علائق الناسوت، فإنّك قد سمعت أنّ هذا الكتاب هو النور المبين، و الماء المعين، و الحاكي لمرتبة سيّد المرسلين في صقع التدوين صلّى اللّه عليه و آله أجمعين، و قد تنزّلت تنزّلات كثيرة في عوالم مترتّبة.

و لذا أشير اليه بما يشار إلى البعيد.

أو أنّه إشارة إلى ما كان عليه في رتبته في أوّل الظهور، و فوق سرادق النور.

تنبيها على عظمة المشير، و غاية انحطاط تجلّيات ظهور النور عن الوصول إلى رتبة المنير.

أو على عظمة المشار إليه، سوق الكلام مساق إجرائه على لسان عبيده لانحطاط درجاتهم

عن رتبته.

و منه قولهم:

أقول له و الرّمح يأطر متنه تأمل خفافا إنّني أنا ذلكا «1» أي أنا ذلك الرّجل العظيم الّذي سمعت جلالته.

او إشارة إلى (الم) باعتبار تأويله بالمؤلّف من هذه الحروف.

أو كونه اسما للقرآن أو للسورة حيث إنّه جرى له ذكر و تقضّي جاز.

أن يعتبر متباعدا فيشار إليه بما يشار به إلى البعيد، كما في

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 93

قوله تعالى: لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» و قوله تعالى حكاية عن يوسف: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي «2».

أو إشارة إلى ما نزل بمكّة قبل هذه الّسورة، فإنّها مدنيّة، بناء على اطلاق الكتاب كالقرآن على البعض كالكلّ، و يؤيّده قول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «3» و هم لم يسمعوا إلّا البعض، و تبعيد الإشارة باعتبار بعد الزمان.

أو إلى المجموع من حيث المجموع باعتبار وجوده الجمعي الملكوتي المثبت في اللوح المحفوظ، كما قال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «4»، و قال: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا «5».

أو باعتبار نزوله الجمعي الأولى في السماء الأولى على ما دلّت عليه الأخبار، بل و قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «6».

أو إشارة إلى الكتاب الحاضر حضورا ذكريا أو ذهنيّا، و ذلك بمعنى هذا، كما عن الأخفش، و غيره، بل و لعلّه إليه الإشارة بما

ذكره الإمام عليه السّلام في تفسيره حيث قال: كذّبت قريش و اليهود بالقرآن، و قالوا: سحر مبين تَقَوَّلَهُ، فقال: اللّه عزّ و جلّ: الم ذلِكَ الْكِتابُ أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة «7» ..

من الخبر على ما تقدّم.

__________________________________________________

(1) سورة

البقرة: 68.

(2) سورة يوسف: 37.

(3) سورة الأحقاف: 30.

(4) البروج: 22.

(5) الزخرف: 4.

(6) القدر: 1.

(7) نور الثقلين ج 1 ص 27- 28 ح 7 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 94

أو أنّ اللّه تعالى وعد نبيّه ان ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء و لا يخلق على كثرة الردّ، كذا في بعض الأخبار «1».

أو وعده سبحانه أن يلقي عليه قَوْلًا ثَقِيلًا، كما في الآية «2»، فلمّا أنزل القرآن قال: هذا القرآن ذلك الكتاب الّذي وعدتك.

أو انّ اللّه عزّ و جلّ وعد الأنبياء في الكتب السالفة أن ينزل على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتابا مفتتحة بالحروف المقطّعة، فلمّا بعثه اللّه سبحانه و أنزل عليه الكتاب جعل افتتاح سورته الكبرى ب الم، يعني أنّ هذا هو ذلك الكتاب الّذي أخبرت أنبيائي السالفين، و خصوصا و ساير أنبياء بني إسرائيل أنّي سأنزل عليك يا محمد.

و هذا الوجه هو المستفاد ممّا ذكره الإمام عليه السّلام في تفسيره و قد حكيناه بطوله في البحث السابع «3».

و يؤيّده أيضا ما

رواه في المناقب عن أبي بكر الشيرازي في كتابه، و أبي صالح في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله ذلِكَ الْكِتابُ يعني القرآن و هو الّذي وعد اللّه موسى و عيسى أنّه ينزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر الزمان

، إلى آخر و سيأتي ان شاء اللّه تعالى.

فهذه وجوه تسعة، عاشرها المكمّل لها أن يكون ذلِكَ إشارة إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، و ذلك أنّه هو كتاب اللّه الناطق بأوامره و نواهيه، و لسانه الصادق الّذي لا رَيْبَ فِيهِ.

روى العياشي عن

الصادق عليه السّلام قال: كتاب عليّ لا رَيْبَ فِيهِ «4».

__________________________________________________

(1) الخبر المتقدم ذكره المروي من تفسير الإمام.

(2) المزمّل: 5.

(3) نور الثقلين ج 1 ص 27 ب 28 ح 7 عن تفسير الإمام.

(4) تفسير العياشي ج 1 ص 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 95

ما هو المراد بالكتاب

أقول: و المراد أنّ ذلِكَ إشارة إلى عليّ عليه السّلام، و الْكِتابُ عطف بيان له، و إضافة كتاب إلى علي في الخبر بيانيّة، و المعنى الكتاب الّذي هو عليّ عليه السّلام لا مرية فيه، و في كونه علما هاديا للمتّقين.

و في تفسير القمي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله: «ذلِكَ الْكِتابُ» فقال عليه السّلام:

الكتاب عليّ عليه السّلام لا شكّ فيه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، بيان لشيعتنا «1» ....

و في «مشارق الأمان» أنّه روى في معنى «ذلِكَ الْكِتابُ»: أنّه قال: الكتاب علي عليه السّلام.

و يؤيد ذلك ما

رواه في «الكافي» عن الكاظم عليه السّلام في جواب النصراني الّذي سأل عن تفسير قوله تعالى: حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* «2» في الباطن، فقال عليه السّلام: أمّا حم* فهو محمّد و هو في كتاب هود الّذي أنزل عليه و هو منقوص الحروف، و أمّا الْكِتابِ الْمُبِينِ* فهو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام «3».

أقول: و ذلك لما أشرنا إليه في مفتتح تفسير الفاتحة «4»: من أنّ الكتاب كتابان:

تدويني و تكويني، أحدهما بيان و حكاية للآخر الّذي هو الأصل في الجعل و الإبداع، و هذان الكتابان، أعني القرآن و أمير المؤمنين عليه السّلام هما الثقلان اللذان خلّفهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمّته، و أمرهم بالتمسك بهما، و انّهما لا يفترقان حتّى يردا عليه الحوض، و النسختان متطابقان في

الاشتمال على حقايق المعارف

__________________________________________________

(1) تفسير القمي ص 30.

(2) الدخان: 1- 2.

(3) اصول الكافي ج 1 ص 479 و عنه البحار ج 16 ص 88.

(4) الصراط المستقيم ج 3 ص 14- 15 ط قم المعارف الاسلامية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 96

و مراتب الإيمان، و فيما يجري لهما به الذكر و البيان، إلّا أنّ أحدهما صامت و الآخر ناطق، فللصامت دلالات و بيانات لا يطّلع عليها على ما هي عليها إلّا ذلك الناطق الّذي منحه اللّه تعالى علمه، و أورثه شأنه، و بيانه، و تنزيله و تأويله، و لذا يفسّر به في تفسير الباطن كما أشير إليه في الخبر.

و من هنا يظهر أنّه لا منافاة بين إرادته باعتبار الباطن، و بين إرادة ما هو المنساق من ظاهر اللفظ على ما هو الظّاهر من تفسير الإمام عليه السّلام، و غيره، مع أنّ استعمال الكتاب في الإنسان الكامل سيّما هو و ذريّته المعصومون سلام اللّه عليهم شايع مستفيض.

بل الظاهر من

الشعر المنسوب الى امير المؤمنين عليه السّلام:

دوائك فيك و ما تشعر و دائك منك و ما تبصر

و أنت الكتاب المبين الّذي بأحرفه يظهر المضمر

و من

قول الصادق عليه السّلام: إنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة للّه على خلقه، و هي الكتاب الّذي كتبه بيده «1» ...

الخبر على ما تقدم «2» في تفسير «الْعالَمِينَ» إطلاقه على مطلق الإنسان باعتبار اشتماله على حروف العالم الكبير و بسائطها في صقع الاستعداد و التكوين.

ثمّ إنّ ذلِكَ أصله ذا، و هو الإسم الموضوع للإشارة، و الأصل فيه أن يشار به إلى الحاضر القريب الّذي يصلح أن يقع مخاطبا إلّا أنّه لمّا اتصلت كاف الخطاب

به أخرجته عن هذه الصلاحيّة، إذ لا يخاطب اثنان في كلام واحد إلّا مع العطف الموجب للإضراب، أو اجتماعهما في كلمة الخطاب نحو أنت و أنت فعلتما، أو أنتما

__________________________________________________

(1) شرح الأسماء الحسنى ج 1 ص 12.

(2) الصراط المستقيم ج 3 ص 411 ط مؤسّسة المعارف الاسلامية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 97

فعلتما، فكاف الخطاب توجب كون ما وليته غائبا في التعبير عنه، نحو غلامك قال كذا، و إن كان حينئذ غلامه حاضرا، إلّا أنّه لم يعتبر حضوره.

فهكذا في ذلك عبّروا بالجمع بين ما دلّ على الحضور و ما دلّ على الغيبة عن حال التوسط، ثمّ لمّا أرادوا التنصيص على البعد جاءوا بعلامته و هي اللام، فقالوا: ذلك، و هذه الكاف حرفيّة و إن كانت تتصرّف تصرّف الكاف الاسميّة غالبا ليتبيّن بها أحوال المخاطب من الإفراد و التثنية و الجمع و التذكير و التأنيث، نعم قد يستبان الأخيران بمجرّد الفتح و الكسر.

و ربما حمل عليه قوله تعالى في هذه السورة: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ «1»، و قوله سبحانه: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ «2» في سورة المجادلة.

و إن قيل: إنّ الخطاب فيهما للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ أحد.

الكتاب بحسب اللغة

مصدر سمّي به المفعول للمبالغة، و أصله بمعنى الجمع و منه: تكتّبوا أي تجمّعوا، و الكتيبة: الجيش لانضمام بعضهم إلى بعض.

و قيل: إنّه اسم جامد بني بمعنى المفعول، و على الوجهين إن كان معناه هو المنظوم لفظا أو وجودا فالإطلاق حقيقة، أو خطّا فمن مجاز الأوّل باعتبار ما يكتب، اللهمّ إلّا أن يعتبر إثباته في الألواح السماوية فكالأوّل حقيقة.

و ربما يطلق الكتاب على المكتوب فيه، بل اقتصر عليه في القاموس، و إن ذكر معه

معان أخر و ليس بجيّد، فإنّ إطلاقه عليه باعتبار ما كتب فيه.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 232.

(2) سورة المجادلة: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 98

و تذكير الإشارة مع كون المشار اليه اسم السورة باعتبار اللفظ، أو كونها بعض القرآن أو لمراعاة الخبر على بعض الوجوه.

و أما ما يقال من المنع من كون المشار إليه مؤنثا، لأنّه إمّا المسمّى و هو ذلك البعض أو الإسم و هو الم فكذلك، نعم لذلك المسمّى اسم آخر مؤنث، لكن الإسم المذكور مذكّر.

ففيه أنّهم ربما يعتبرون التأنيث في المسمّى بمجرد اعتبار تأنيث أحد الاسمين، ألا ترى أنّ كلّ حرف من الحروف يجوز تأنيث الضمير الراجع إليه باعتبار كونه كلمة، بل في «المصباح المنير» عن أبي عمرو «1» قال: سمعت أعرابيا يمانيّا يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟

قراءة غريبة

نقل عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قرأ: ألم تنزيل الكتاب «2».

__________________________________________________

(1) هو ابو عمرو إسحاق بن مراد الشيباني الكوفي المعروف بأبي عمرو الأحمر كان لغويا من أهل بغداد مات سنة (205) او (206) او (213) و قد بلغ مائة و عشر سنين- بغية الوعاة ص 193.

(2) نقله الزمخشري في الكشاف ج 1 ص 112.

و لا يخفى أنّ هذه القراءة مردودة لأنّها صريحة في تحريف الكتاب الإلهي الّذي وعد اللّه سبحانه حفظه بقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و أخبر بأنّه ليس فيه اختلاف بقوله سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً و هذه القراءة المنقولة عن ابن مسعود ليس من الاختلافات القرائية الراجعة إلى الهيئات او الموادّ الراجعة الى الهيئات، مثلا إذا قرء لا

ريب فيه برفع الباء فهو من الإختلاف في الهيئة. و إذا اختلف في يَعْلَمُونَ* في مورد مثلا هل هذه الكلمة بالياء أو بالتاء فهو اختلاف في المادة الراجعة الى الهيئة، أمّا تعويض ذلِكَ بكلمة تنزيل فهو من التحريف الّذي لا نعتقده.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 99

تفسير لا رَيْبَ فِيهِ

اشارة

الريب في الأصل مصدر رابني الشي ء إذا حصل فيك الريبة (بكسر الراء) و هي قلق النفس و اضطرابها، و منه

النبوي: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1» فإن الشكّ ريبة، و الصدق طمأنينة.

و من هنا قيل: إنّه الشك كما في الصحاح، و غيره، و قيل: إنّه أسوء الشك، و قيل: شكّ مع تهمة.

و لعلّ الثاني ينزّل على الثالث و إن كان أعمّ بحسب المفهوم، و فرّق بينهما في «فروق اللغات» على الوجه الثالث مستدلا عليه بهذه الآية، نظرا الى أنّ المشركين مع شكهم في القرآن كانوا يتهمون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّه هو الّذي افتراه، و أعانه عليه قوم آخرون.

قال: و أمّا قوله: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «2» فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب أو غيرهم ممّن يعرف النبيّ بالصدق و الأمانة و لا ينسبه الى الكذب و الخيانة.

أقول: و فيهما نظر- أمّا في الأوّل فلأنه أعمّ من المطلوب، كيف و اتّهامهم له في موضع آخر لا يدلّ على دخوله تحت المنفي، و أمّا الثاني فلأنّ الشكّ غير مقيّد بعدم الاتّهام- بل هو أعمّ من الريب مطلقا، كما يظهر من أوّل كلامه، حيث عرّف الشك بتردّد الذهن بين أمرين على حدّ سواء، و الريب بأنّه شكّ مع تهمة.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 259 ح 7 و ص

260 ج 16.

(2) يونس: 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 100

و على هذا فلا حاجة الى ما تكلّفه في المقام، نعم الظاهر أنّ الريب كما يطلق على الشكّ الّذي معه تهمه كذلك يطلق كلّ من القيدين منفردا عن الآخر- و لذا فسّره في «القاموس» بالظنة و التهمة.

و في العلوي: «لا ترتابوا فتشكّوا و لا تشكّوا فتكفروا» «1» و قد فسّر في المقام بمطلق الشكّ في أخبار كثيرة:

ففي تفسير الإمام عليه السّلام: لا رَيْبَ فِيهِ، لا شكّ فيه، لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، يقرأه هو و أمّته على سائر أحوالهم «2».

و في بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه السّلام بعد تفسير الكتاب بأمير المؤمنين عليه السّلام قال:

لا شكّ فيه أنّه إمام و شيعتنا هم المتقون «3».

و في «مشارق الأمان»: لا رَيْبَ فِيهِ قال: لا شكّ فيه.

و مثله ما في المناقب عن ابن عبّاس.

و (لا) موضوعة لنفي الجنس، و يلزمه نفي الإفراد على وجه الاستغراق، إذ ما من فرد إلّا و الجنس حاصل في ضمنه، ركب معهما مدخولها فبنى على الفتح.

و النفي إمّا على حقيقته مع تقييد المتعلّق و المراد أنّ الكتاب لوضوح شأنه و سطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه بعد التأمل الصحيح و النظر البالغ في بلاغته و إيجازه و وجوه إعجازه، فلا ينافيه وقوع الريب فيه كما قال: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «4».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 39 ح 69.

(2) تفسير نور الثقلين ج 1 ص 27- 28 ح 7 عن تفسير

الامام عليه السّلام.

(3) تفسير القمي ج 1 ص 30 و في النسخة المعروفة لا شكّ فيه أنّه إمام هدى.

(4) سورة البقرة: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 101

على أنّ الشرطيّة لا تستلزم صدق المقدّم، و إنّما سبقت التعريف طريق مزيل له على فرض وجوده بأن يجتهدوا غاية جهدهم، و يبذلوا نهاية وسعهم في معارضة أقصر سورة من سوره، حتّى إذا عجزوا عن آخرهم عنها تحقّق لهم أن ليس مجال فيه للشبهة، و لا مدخل للريبة و إن كانوا بعد ذلك قد جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً.

أو أنّ المراد أنّه لا رَيْبَ فِيهِ للمتّقين الذين جانبوا العصبيّة و نظروا بعين البصيرة، فيكون (هُدىً) حالا من الضمير المجرور.

و العامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي أو خبرا عن النافية.

أو على حذف المضاف و المعنى: لا سبب شكّ فيه، إذ الأسباب الّتي توجب الشكّ في الكلام هي التلبيس و التعقيد و اختلال النظم و التناقض و الدعاء، و الدعاوى العارية من البرهان، و الإختلاف، و لذا قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1».

و إمّا بمعنى إنشاء الترك و إن كان لفظه الخبر، و المعنى لا ترتابوا و لا تشكّوا فيه، على حد قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2»، و المراد تحريم تعاطي أسبابه، أو مجرّد إظهاره.

و قد ظهر من جميع ما مرّ ضعف ما يحكى عن بعض الملاحدة من الطعن في الآية بأنّه إن عنى نفي الشكّ فيه عندنا فنحن نشكّ فيه، و إن عنى نفي الشك عنده فلا فائدة فيه.

__________________________________________________

(1) سورة النساء: 82.

(2) سورة البقرة:

197.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 102

قراءة شاذة

عن أبي الشعثاء «1» أنّه قرأ لا ريب بالرّفع على ان تكون (لا) هي المشبهة بليس، و الفرق بينها و بين القراءة المشهورة أنّ المشهورة صريحة في نفي جميع الأفراد و لو من جهة الاستلزام و هذه ظاهرة من جهة وقوع النكرة في سياق النفي، مع احتمال أن يراد به معنى لا يشمل المثنّى و المجموع.

و إنّما أخّر الظرف هنا بخلاف «لا فِيها غَوْلٌ» «2» لأنّهم يقدّمون الأهمّ، و هو في المقام نفي الرّيب بالكليّة من الكتاب، و إثبات أنّه حق و صدق، لا باطل و كذب، و لو قدّم فيه الظرف لأوهم وجود كتاب آخر فيه الرّيب لا في هذا، كما قصد في قوله:

«لا فِيها غَوْلٌ» تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا بفقد الصفة المصرّحة بها.

و هذا الوهم ممّا لم تسق الآية للإشعار بها، مع ما فيه من الإزراء بالمعنى الأوّل الّذي هو المقصود.

الوقف

الوقف على «فِيهِ» هو المشهور، و عن نافع «3»، و عاصم «4»: أنّهما وقفا على «لا رَيْبَ» بناء على حذف الخبر كما هو الشائع في هذا الباب للعلم به، و منه قوله تعالى:

قالُوا لا ضَيْرَ «5» و قولهم: لا بأس، و التقدير: لا ريب فيه، فيه هدى و لا بدّ أن

__________________________________________________

(1) ابو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي الكوفي التابعي قتل يوم الزاوية مع ابن الأشعث في سنة (85)- تهذيب التهذيب ج 4 ص 149.

(2) الصافّات: 47.

(3) نافع بن أبي نعيم المدني من القرّاء السبعة توفي (169) أو (176).

(4) هو عاصم بن أبي النجود بن بهدلة الكوفي القاري المتوفى (127) أو (128).

(5) الشعراء: 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 103

ينويه الواقف عليه، كيلا يكون

الوقف ناقصا.

القراءة

قرأ ابن كثير «1»: فيه هدى بوصل الهاء بياء آخر في اللفظ إشباعا لكسرة الهاء هنا و في كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة إذا لم يلق الهاء ساكن، و إلّا فلا إشباع نحو إِلَيْهِ الْمَصِيرُ* «2» و نحو يَعْلَمْهُ اللَّهُ* «3».

و الباقون من القرّاء متفقون على ترك الإشباع في كلّ ما قبله ساكن.

نعم وافق ابن كثير هشام «4» على صلة (أَرْجِهْ)* «5» بواو، و حفص «6» على صلة فِيهِ مُهاناً «7» بياء.

و الّذي ذكره شيخنا الطبرسي أخذا من كتاب «الحجّة» لأبي علي الفارسي «8» أنّه يجوز في العربيّة في (فيه) أربعة أوجه: «فيهو» و «فيهي» و «فيه» و «فيه».

و صرّح غير واحد منهم بأنّ الضمير المتصّل الغائب منصوبه و مجروره مختصر من الغائب المرفوع المنفصل بحذف حركة واو (هو)، لكنّهم لمّا قصدوا التخفيف في المتّصل لكونه كجزء الكلمة لم يأتوا في الوصل بالواو و الياء الساكنين فيما كان قبل الهاء ساكن نحو (منه)، و عليه فلا يقولون على الأكثر: «منهو»

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن كثير القاري المكّي المتوفى (120).

(2) المائدة: 18.

(3) البقرة: 197.

(4) هو هشام بن عمّار بن نصير بن ميسرة ابو الوليد السلمي الدمشقي المتوفى (245)- غاية النهاية ج 2 ص 354.

(5) الأعراف: 111.

(6) هو حفص بن سليمان الكوفي المتوفى (180) ه

(7) الفرقان: 69.

(8) هو ابو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي المتوفى (377) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 104

و «عليهي» لثقل الواو و الياء، و لكون الهاء لخفائها كالعدم. فكأنّه يلتقي ساكنان.

نعم قد ضمّوا هاء المذكّر إلّا أن يكون قبلها ياء، أو كسرة، فحينئذ أهل الحجاز يبقون ضمّها على ما حكاه

نجم الأئمة، و غيرهم يكسرونها.

و أمّا إن كان الساكن غير الياء فعن قوم من بكر بن وائل كسر الهاء في الواحد و المثنّى و المجموع فيقولون: «منه، منهما، منهم، منهنّ» و الباقون على الضمّ.

و أمّا الإشباع، فإنّ وليت متحركا نحو «به، و له، و ضربه» ففيه لغات، و المشهور الإشباع لا غير، و عن بني عقيل، و كلاب تجويز التخفيف بالحذف مع إبقاء الضمّة و الكسرة، و عن بعضهم التخفيف أيضا بتسكين الهاء اختيارا، و عن غيرهم تجويزهما ضرورة.

و إن وليت ساكنا فالأشهر ترك التوصّل مطلقا، و عن ابن كثير إثباته مطلقا، و فصّل سيبويه بين ما إذا كان الساكن الّذي قبلها حرفا صحيحا فالصلة نحو (منهو) و (أصابتهو)، أو حرف علّة فعدم الصلة نحو (ذوقوه) و (فيه).

و اعترض عليه نجم الأئمّة بأنّه لو عكس لكان أنسب لأنّ التقاء الساكنين إذا كان أوّلهما لينا أهون منه إذا كان أوّلهما صحيحا.

فقد تحصّل من ذلك أنّ المذاهب في نحو (فيه) أربعة: ضمّ الهاء، و كسرها مع الصلة و تركها.

قال نجم الأئمة: و قد قرئ بها كلّها في الكتاب العزيز.

و قد سمعت شهادة الطبرسي و الفارسي بجوازها في العربيّة فلا يبعد جواز القراءة بكلّ منها في القرآن و الصلاة بعد ورود الإذن بالقراءة كما يقرء الناس، و إن كان الحكم بالجواز في بعضها لا يخلو من تأمّل، بل الأحوط الاقتصار على ما هو المشهور.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 105

تفسير فِيهِ هُدىً

اشارة

هُدىً بيان و شفاء لِلْمُتَّقِينَ من شيعة محمد و علي عليهما السّلام الذين اتّقوا أنواع الكفر و تركوها، و اتّقوا أنواع الذنوب الموبقات فرفضوها، و اتّقوا إظهار أسرار اللّه تعالى و أسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمّد صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم فكتموها، و اتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها، و فيهم نشروها.

و قال عليه السّلام أيضا: (هُدىً) بيان من الضلالة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتّقون الموبقات، و يتّقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضاء ربّهم.

أقسام الهداية

و الهدى مصدر على وزن فعل (بضم الفاء و فتح العين) و ان كان هذا الوزن قليلا في المصادر، بل قيل: إنّه يمكن أن يختصّ به المعتلّ نحو (السرى) و (العلى).

و قد مرّ في الفاتحة عدم الفرق بين الهدى و الهداية، خلافا لمن فرّق بينهما باختصاص الأوّل بإراءة طريق الدين خاصّة دون الثاني الّذي يعمّ إرائة كلّ طريق، و نبّهنا هناك أيضا على أنّه لا اختصاص لها و لمشتقّاتها بشي ء من الدّلالة الموصلة أو إرائة الطريق، بل يستعمل في كليهما على وجه الحقيقة.

نعم قد يقال: إنّ (الهدى) الدلالة الموصلة الى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابله، قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «1» و قال سبحانه:

__________________________________________________

(1) البقرة: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 106

لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1»، و لا ريب أنّ عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلالة، فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لما صحّت المقابلة، و لأنّه يقال:

مهديّ في موضع المدح كالمهتدي- بل لا يطلقان إلّا على من وصل الى المطلوب.

و لأنّ اهتدى مطاوع هدى و لا يكون المطاوع في خلاف معنى أصله، لأنّ المطاوع و المطاوع يشتركان في أصل المعنى، و إنّما الإفتراق في التأثير و التأثر، و من البيّن أنّ الوصول معتبر في اهتدى فكذا في أصله، كما يقال: غمّه فاغتمّ، و كسره فانكسر.

و لكن يضعّف الدليل

الأوّل بأنّ عدم الوصول المعتبر في مفهوم الضلال ليس لكونه فقدان المطلوب بل فقدان شرط الإيصال، مع أنّ الهدى في مقابل الإضلال فلمّا قوبل بالضلال أريد به الاهتداء تجوّزا.

و يضعّف الثاني بأنّ التمدّح لعلّه لمكان استعداد الكمال، و التمكن من الوصول إليه.

و دعوى انحصار إطلاقها على خصوص الواصل إلى البغية ممنوعة جدّا، و لذا يقال: هديته فلم يهتد، قال سبحانه: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2».

و من هنا يظهر الجواب عن الثالث أيضا، فإنّ سبيله سبيل قولك: أمرته فلم يأتمر، و زجرته فلم ينزجر.

و أمّا ما يقال: من أنّ معناه وجّهت الأمر إليه فتوجّه، ثم أستعمل في الامتثال مجازا.

__________________________________________________

(1) سبأ: 24.

(2) فصلت: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 107

ففيه أنّه بعد تسليمه جاز في المقام أيضا.

وجه اختصاص الهدى بالمتقين

فإن قلت: لو كان الهدى مطلق الدلالة حصل به الوصول أم لا فما وجه الإختصاص بالمتقين في هذا المقام باللام المقيدة له؟

قلت: إنّ الهدى قد يستعمل مرّة باعتبار أصل معناه الّذي هو الدلالة و الإرائة، و أخرى يستعمل باعتبار حصول الثمرة و وصول النفع، و المقام من الثاني، كما أنّ قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ «1» من الأوّل، و حيث إنّ المتّقين هم المنتفعون المتّعظون بزواجره خصّهم به دون غيرهم- و إن كانت دلالته عامّة تامة لكلّ ناظر من مسلم و كافر، و هذا على حد قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «2» باعتبار انتفاعهم بإنذاره، و إن كان رسولا إلى الناس كَافَّةً* ... بَشِيراً وَ نَذِيراً*.

هذا مع أنّه ربما يقال: إنّه لا يهدي إلّا الموصوفين بالمرتبة الأولى من التقوى و هم الذين تأمّلوا الدلائل و اتّصلوا بالإسلام.

و فيه نظر، لأنّه

هدى للكفّار و المشركين أيضا بالنظر الى وجوه إعجازه و وقوع التحدّي به، و اشتماله على الإخبار من السرائر المكنونة، و الحوادث المستقبلة.

و أمّا كونه هدى للمتّقين مع أنّهم المهتدون الواصلون إلى البغية، فإنّما هو باعتبار مراتب الهداية و درجاتها فإنّ أهل كل درجة يهتدون به إلى الدرجة العالية،

__________________________________________________

(1) البقرة: 185.

(2) النازعات: 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 108

كما قال تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ «1»، و قال تعالى:

لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ «2».

أو باعتبار الثبات و البقاء عليه بعد حصوله على ما مرّ في الفاتحة «3».

أو أنّ المراد بالمتّقين المشارفون للتقوى، فإنّ أثر الهداية ظاهرة فيهم.

أو أنّه لا حاجة إلى ارتكاب التجوّز في شي ء من الطرفين، بل هو على حدّ قولهم: السلاح عصمة للمعتصم، و المال غنى للغنيّ، فإنّه على قصد السببيّة، و إن كان تحقّق الموضوع باعتبار الوصف.

و (هُدىً) ليس بمعنى الفاعل حتى يراد به الحدوث، و على فرضه فقد يراد به اللزوم و الاستمرار.

و المتّقي مفتعل من الوقاية، أصله الموتقى قلبت الواو تاء و أدغمت في تاء الافتعال، و أمّا قلب الواو تاء في التقوى حيث إنّ أصله و قوى فلخصوص المادّة كالتراث، دون الهيئة، بخلاف الأوّل فإنّه مطّرد الجواز في ذلك الباب كالاتّحاد، بل قال الجوهري: إنّه لمّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهّموا أنّ التاء من نفس الحرف فجعلوه (اتقى، يتقي) بفتح التاء فيهما مخفّفة، ثمّ لم يجدوا له مثالا في كلامهم يلحقونه به فقالوا: تقى يتقي مثل قضى يقضي.

و معنى التقوى في الأصل الصيانة و الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بالترس أي جعله حاجزا بينه و بينه.

__________________________________________________

(1) سورة محمد صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم: 17.

(2) سورة الفتح: 4.

(3) تفسير الصراط المستقيم ج 3 ص 562.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 109

قال الشاعر:

فألقت قناعا دونه الشمس و اتّقت بأحسن موصولين كفّ و معصم و غلب شرعا على ما يحجز عن سخط اللّه و عقابه من قول أو فعل أو ترك، فيشمل فعل الطاعات و ترك المعاصي.

ثمّ أن التقوى يطلق مرّة باعتبار نفس تلك الأفعال و التروك، و أخرى على الملكة الباعثة على ملازمة الامتثال و الموافقة في ابتغاء مرضاته و له درجات:

درجات التقوى

أحدها أن يتّقي الكفر و الشرك و المحادة للّه و لرسوله و لأوصياء رسوله الذين أمر اللّه تعالى بطاعتهم و ولايتهم و محبّتهم، و هذا أوّل درجات التقوى، و قبله لا يطلق هذا الإسم كما لا يصدق اسم الإيمان، فالإيمان و التقوى و الهداية متساوقة في هذه الدرجة، و لا يصدق شي ء منها على على أحد من المخالفين فضلا عن الكفّار و المشركين.

و هذا المعنى هو المراد بقوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «1»، حيث فسّرت بكلمة الشهادة، و في بعض الأخبار: أنّه الإيمان «2» و

عنهم عليهم السّلام في أخبار كثيرة: «نحن كلمة التقوى» «3».

__________________________________________________

(1) النسخ: 26.

(2) بحار الأنوار ج 69 ص 200.

(3) بحار الأنوار ج 24 ص 184 و ج 26 ص 244.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 110

و بقوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1»، يعني المقرّين بالولاية للولي.

الدرجة الثانية: أن يتّقي ارتكاب الكبائر، بأن لا يخلّ بالواجبات و لا يقترف شيئا من السيّئات الّتي تعدّ في الكبائر، حتى الإصرار على شي ء من الصغائر، و أما ارتكابها من غير إصرار فلا يخلّ بهذه الدرجة، بناء على

ما هو الحقّ من انقسام المعاصي الى القسمين، و أنّ الصغائر مكفّرة باجتناب الكبائر، كما يأتي إن شاء اللّه مشروحا في تفسير الآية، و هذا المعنى هو المراد بقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً «2»، و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا ... «3».

بل هو المراد بقول الفقهاء في تعريف العدالة: إنّها ملكة نفسانيّة باعثة على ملازمة التقوى و المروءة.

الدرجة الثالثة: أن يتقى ارتكاب الصغائر و الأفعال المباحة، بأن يكون له في كلّ من الأفعال المباحة في ذاتها قصد غاية من الغايات الراجحة حتى تصير بذلك عاداته كلّها عبادات و لعلّه هو المراد بقوله تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى «4» و قوله تعالى: وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ «5».

الدرجة الرابعة: أن يتقي مع كل ذلك ذمائم الأخلاق و رذائل الخصال مالا يحاسب به و لا يعاقب عليه فضلا عمّا فيه الحساب و العقاب، و لعلّه المراد

__________________________________________________

(1) المائدة: 27.

(2) الأحزاب: 70.

(3) الأعراف: 96.

(4) البقرة: 197.

(5) الأعراف: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 111

بقوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «1».

خامسها و هي الدرجة العليا: ان يتّقي مع جميع ذلك الالتفات الى ما سوى اللّه تعالى، و ذلك إنّما يكون بدوام التوجه و الانقطاع إليه سبحانه بهواجس قلبه، و شراشر سرّه.

و إليه الإشارة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «2»، و بقوله تعالى: وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ بعد قوله: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى «3»، و بقوله سبحانه وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ «4»، و

بقوله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «5».

و إن كان الأظهر صلاحيّة كلّ من هذه الآيات للدرجات السابقة، بل و كذا في المقام: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، و ذلك لاختلاف مراتب الهداية، و الإيمان بالغيب المكتنفين بالتقوى في المقام فيؤخذ باعتبار كل درجة منه ما يناسبه من مراتب الطرفين.

و جميع ذلك إنّما هو من شئون الولاية، و مقتضيات الإيمان بالولي، و لذا ورد أنّ المراد بالمتقين شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام،

ففي بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه السّلام قال: الكتاب أمير المؤمنين لا شكّ فيه أنّه إمام، و شيعتنا هم المتّقون «6».

__________________________________________________

(1) الطلاق: 3.

(2) آل عمران: 102.

(3) البقرة: 197.

(4) البقرة: 282.

(5) الأنفال: 29.

(6) تفسير القمي ج 1 ص 30 في بعض نسخه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 112

المتقون شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام

و في المعاني و تفسير العيّاشي عن الصادق عليه السّلام قال: المتّقون شيعتنا «1».

و في مشارق الأمان قال: روى في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: أنّ التقوى ما ينجى به من النار، و لا ينجي من النار إلّا حبّ عليّ عليه السّلام، فلا تقوى على الحقيقة إلّا حبّ علي عليه السّلام.

و في المناقب عن أبي بكر الشيرازي في كتابه و أبي صالح في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ قال: تبيان و نذير للمتقين عليّ بن أبي طالب الّذي لم يشرك باللّه طرفة عين و أخلص للّه العبادة فيدخل الجنّة بغير حساب، و شيعته «2».

و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية، قال: المتّقون شيعة علي عليه السّلام «3».

و التقوى بهذا المعنى هو الّذي ورد الحثّ عليها في الآيات و الأخبار، مثل أنّه خير الزاد و شرط

قبول الأعمال.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: اتّق اللّه و كن حيث شئت، و من أيّ قوم شئت فإنّه لا خلاف لأحد في التقوى، و المتّقي محبوب عند كلّ فريق، و فيه جماع كلّ خير و رشد، و هو ميزان كلّ علم و حكمة، و أساس كل طاعة مقبولة، و التقوى ماء ينفجر من عين المعرفة باللّه، يحتاج إليه كلّ فن من العلم، و هو لا يحتاج إلّا إلى تصحيح المعرفة بالخمود تحت هيبة اللّه و سلطانه. و مزيد التقوى يكون من أصل اطلاع اللّه

__________________________________________________

(1) العياشي ج 1 ص 26 ح 1 و عنه البرهان ج 1 ص 53.

(2) المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 565 و عنه البحار ج 35 ص 397.

(3) البرهان: ج ص 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 113

عزّ و جلّ على سرّ العبد بلطفه، فهذا أصل كل حقّ «1» و قال عليه السّلام: و قد جمع اللّه ما يتواصى به المتواصون من الأوّلين و الآخرين في خصلة واحدة و هي التقوى، قال اللّه جلّ و عزّ: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ «2»، و فيه جماع كلّ عبادة صالحة، و به وصل من وصل الى الدرجات العلى، و الرتبة القصوى، و به عاش من عاش مع اللّه بالحياة الطيّبة و الأنس الدائم، قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3» «4».

و قال عليه السّلام: التقوى على ثلاثة أوجه: تقوى باللّه و في اللّه، و هو ترك الحلال فضلا عن الشبهة، و هو تقوى خاصّ الخاصّ، و تقوى من

خوف النار و العقاب، و هو ترك الحرام و هو تقوى العام، و مثل التقوى كماء يجري في نهر، و مثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر، من كل لون و جنس، و كلّ شجرة منها يستمصّ الماء من ذلك النهر على قدر جوهره و طعمه و لطافته و كثافته، ثمّ منافع الخلق من ذلك الأشجار و الثمار على قدرها و قيمتها، قال اللّه تعالى: صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «5».

فالتقوى في الطاعات كالماء للأشجار، و مثل طبائع الأشجار و الثمار في لونها و طعمها مثل مقادير الإيمان، فمن كان أعلى درجة في الإيمان و أصفى جوهرا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 394 ج 40 عن مصباح الشريعة ص 44.

(2) سورة النساء: 131.

(3) سورة القمر: 54.

(4) بحار الأنوار ج 78 ص 200.

(5) سورة الرعد: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 114

بالروح كان أتقى، و من كان أتقى كانت عبادته أخلص و أطهر، و من كان كذلك كان من اللّه أقرب، و كلّ عبادة غير مؤسّسة على التقوى فهو هباء منثور، قال اللّه عزّ و جلّ أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ «1». الآية و تفسير التقوى ترك ما ليس بأخذه بأس، و هو في الحقيقة طاعة و ذكر بلا نسيان، و علم بلا جهل، مقبول غير مردود «2» أقول: الأخبار في فضل التقوى و شرح مراتبه و درجاته كثيرة جدّا، و ستسمع إن شاء اللّه شطرا منها

مضافا الى ما سمعت في تفسير الآيات المتضمّنة لذكره.

وجوه إعراب الآية

أمّا الم فقد ظهر ممّا تقدّم أنّه يجوز فيه الرفع على الابتداء باعتبار من اسماء القرآن أو السورة، أو بتأويل المؤلّف من الحروف المتداولة، و خبره ذلِكَ الْكِتابُ.

أو على الخبريّة بتقدير مبتدء أي هذا المؤلّف، أو المتلو، أو المقروء، أو المنزل، و نحوها.

أو الفاعليّة لفعل مقدّر بناء على كونها من أسماء اللّه سبحانه، و كونها محذوفة الأعجاز المكتفي عنها بصدورها لو قلنا بجواز الإسناد إليها حينئذ، فكأنّه قال: قال اللّه اللطيف المالك، أو أنزل، و نحوه.

__________________________________________________

(1) سورة التوبة: 109.

(2) بحار الأنوار ج 70 ص 295- 296 ح 41 عن مصباح الشريعة ص 56- 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 115

و يجوز أن يكون محلّها النصب بإضمار فعل «1»، أو بنزع الخافض، و يمكن أن يكون محلها الجرّ مع حذف الجارّ و قد تقدّم فراجع.

و أمّا ذلِكَ فهو مرفوع على الخبريّة لمبتدء مذكور، أو محذوف، أو البدليّة على بعض الوجوه، أو على الابتدائية و خبره الكتاب، أو أنّ الكتاب عطف بيان لذلك، أو صفة له، أو بدل منه و الخبر حينئذ جملة لا رَيْبَ فِيهِ.

و أمّا هذه الجملة يجوز أن تكون خبرا، كما ذكر، و يجوز أن تكون حالا و العامل فيها معنى الإشارة، أو الفعل العامل في الم على تقديره.

و لا فيها لنفي الجنس مبني اسمها على الفتح على المشهور، و على ما مرّ عن أبي الشعثاء بمعنى ليس، و فِيهِ خبره.

و هُدىً مرفوع على الخبريّة، أو أنّه خبر ثان بعد لا ريب فيه، و يمكن أن يكون حالا، و يكون خبر لا محذوفا كما هو الشائع فيه كقولهم: لا بأس، و لا ضير،

و لا صلاة إلا بطهور، و قيل: هُدىً مرفوع على أنّه مبتدأ مؤخّر و فِيهِ خبره قدّم عليه لتنكيره، و التقدير لا ريب فيه فيه هدى، و يؤيّده ما يحكى عن نافع و عاصم أنّهما وقفا على لا رَيْبَ، إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لا خفاء في ضعف أكثرها، و لذا كان الأولى الإعراض عن الاشتغال بها، و الإقبال على دقايق المعاني و دقايق البلاغة.

بأن يقال: إنّها أربع جمل متناسبة تقرّر اللاحقة منها السابقة، و لذا لم يؤت بحرف نسق ينظم بينها فإنّ الجمل متآخية متعانقة بأنفسها من دون أداة، ف الم جملة محذوفة المبتدا أو محذوفة الخبر، و إن قيل: إنّ الأبلغ أن يقدّر هذه الم إشارة إلى أنّه الكلام المنزل المتحدّى به، فإنّ الخبر عن اسم الإشارة بأنّ القرآن يقتضي ذلك،

__________________________________________________

(1) نحو أذكر، أو أذكر (إنشاء، أو إخبارا)

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 116

و هذا هو المستفاد من تفسير الإمام عليه السّلام حيث قال: كذّبت قريش و اليهود بالقرآن و قالوا: سحر مبين تَقَوَّلَهُ، فقال اللّه تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة الّتي منها ألف و لام و ميم، و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين «1» إلخ.

فدلّ على أنّ المتحدّى به هو المؤلّف من جنس ما يركّبون منه كلامهم.

و ذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية مقرّرة لجهة التحدّي بأنّه الكامل الّذي لا يحقّ غيره أن يسمّى كتابا في جنسه أي في باب التحدّي و الهداية إلى صدق من جاء به، و أنّه هو الكتاب المبارك الّذي لا يمحوه الماء المختار من بين الكتب السماوية بإعجاز اللفظ و فخامة المعنى

الّذي أخبرت أنبيائي السالفين أني سأنزله ... الى آخر ما مرّت إليه الإشارة من كلام الإمام عليه السّلام.

و لا رَيْبَ فِيهِ جملة ثالثة نافية لأن يتثبّت به طرف من الريب فكان شهادة و تسجيلا بكماله، إذ لا كمال أكمل ممّا للحق و اليقين كما أنّه لا نقص أنقص ممّا للباطل و الشبهة.

قيل لبعض العلماء: فيم لذّتك؟ قال: في حجّة تتبختر اتّضاحا، و في شبهة تتضائل افتضاحا.

و هُدىً لِلْمُتَّقِينَ بما قدر له مبتدأ جملة رابعة مؤكّدة لكماله بافادة الهداية الّتي هي من شأن الكتب السماويّة.

فدلّت الجمل الأربعة على أنّه هو الحقيق بأن يتحدّى به و يهتدى بنوره الأمّة هو المبشّر به في الكتب السالفة، و لكمال نظمه في باب البلاغة، و كماله في نفسه، و فيما هو المقصود منه.

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 117

و قد يقال: إنّ الارتباط بين الجمل كأنّه من روابط العليّة و المعلوليّة و يقرّر مرّة بأنّ كلّا منها كأنّه مدلول عليه بسابقه مترتّب عليه ترتّب المدلول على الدليل، و ذلك أنّه لمّا نبّه أوّلا على إعجاز المتحدى به من حيث إنّه من جنس كلامهم، و قد عجزوا عن معارضته رتّب عليه أنّه الكتاب البالغ حدّ الكمال المبشّر به في الكتب السالفة، و استلزم ذلك أن لا يحوم حومه شكّ و ريبة، و ما كان كذلك كان لا محالة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.

و أخرى على عكس الأولى حملا على الاستيناف على ما باله صار معجزا؟

فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا و معنا، ثم سئل عن سبب الإختصاص؟

فأجيب بأنّه لا يحوم حوله ريب لكونه من عند اللّه، ثمّ لمّا طولب بالدخول على ذلك استدلّ بكونه هدى للمتقين.

و لا

يخفى أنّ طريقة الاستنتاج غير بعيد عن السياق، و أمّا الاستيناف فغير مستحسن بعد ظهور عدم كون السؤال ظاهر الورود مع أنّ بعض الأجوبة لو لم نقل كلّها على وجه المصادرة مضافا الى أنّ كونه هدى مسبّب عمّا سلف فلا يصحّ دليلا له.

[سورة البقرة(2): آية 3]

اشارة

تفسير الآية (3) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ شروع في بيان صفات المتقين، فبدأ بما هو كالأساس لغيره من صفاتهم الشريفة الّتي تترتّب على ذلك ترتّب الفروع على الأصل و تبتني عليه ابتناء البناء على الأساس و على هذا فالموصول موصول المتّقين.

و محلّه الجرّ على أنه صفة موضحة لحال المتقين، مبيّنة لما هم عليه في عقائدهم و أعمالهم و أموالهم إن فسّر التقوى بما يعمّ فعل الطاعة و ترك المعصية، أو

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 118

بغيره من الدرجات الرفيعة المتقدّمة.

أو مقيّدة لإطلاقه إن فسّر بترك المعاصي أو ما لا ينبغي فعله.

أو محلّه النصب بتقدير أعني، أو أمدح، أو أخصّ، أو الرّفع على أنّه خبر لمحذوف و التقدير هم الذين، أو على الابتداء و خبره (أُولئِكَ) فيكون مفصولا عنه، سواء جعلناه استينافا بيانيّا في جواب يقول: ما بال المتّقين قد خصّوا بهداية الكتاب لهم، أو استينافا نحويا.

و الإيمان إفعال من الأمن، يقال: أمنت و أنا أمن، و أمنت غيري، فالهمزة للتعدية، و يستعمل كثيرا بمعنى التصديق، حتى قال الأزهري: اتّفق العلماء على أنّ الإيمان هو التصديق، و استشهد بقوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «1» أي بمصدّق.

و من هنا قد يتوهّم أنّ التصديق معنى آخر حقيقي له لغوي أو عرفي، و لا بأس به و إن كان في الأصل مأخوذا من الأمن ضد الخوف، و ذلك أنّ آمنه بمعنى صدّقه كان في الأصل

آمنه التكذيب و المخالفة لكنّه قد يعدّى باللام كما في الآية المتقدّمة لإرادة معنى التصديق، و قد يعدّى بالباء لتضمينه معنى الإقرار و الاعتراف.

حقيقة الإيمان

ثمّ إنّ المراد به شرعا أو متشرعا هو التصديق بالعقائد الإسلاميّة من التوحيد، و النبوّة و المعاد، و غيرها، و القول بالأئمّة الإثني عشر صلوات اللّه عليهم أجمعين، مع عدم ما يوجب الخروج من الدين أو المذهب، و على هذا المعنى ينزّل كثير من الآيات و الأخبار، و هذا المعنى هو المراد به عند الإمامية، فلا يتّصف سائر الفرق من

__________________________________________________

(1) يوسف: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 119

الزيديّة، و الفطحيّة، و الإسماعيلية، و غيرهم، فضلا عن المخالفين بالإيمان، و لذا لو وقف على المؤمنين، أو أوصى لهم أو نذر لهم انصرف إلى الإثني عشريّة بلا خلاف فيه بينهم كما صرّحوا في الفقه.

نعم اختلفوا في أنّه هل يعتبر فيه اجتناب الكبائر أولا؟ فعن بعض القدماء كالشيخين، و القاضي و ابن حمزة هو الأوّل، و المشهور عندهم هو الثاني، بل هو المحكي عن الشيخ في التبيان قائلا: إنّه كذلك عندنا مشعرا بدعوى الاتفاق عليه.

و في الرياض، و غيره أنّ عليه كافّة المتأخّرين، و في الجواهر: إنّه استقرّ المذهب الآن على ذلك.

أقول: و الظاهر أنّه كذلك لظهور إجماع الفرقة، و لعطف عمل الصالحات على الإيمان في آيات كثيرة، و لعدم صحّة سلب المؤمن عمّن ارتكب شيئا من الكبائر، و لعدم الدليل على اعتباره فيما استدلّوا به.

نعم يمكن الاعتراض عليه بأنّ هاهنا أحاديث كثيرة تدلّ على اعتبار العمل في إطلاقه، مثل ما

رواه الصدوق في العيون بأسانيد عديدة عن الإمام الرّضا عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم أنّه قال: الإيمان اقرار باللسان و معرفة بالقلب و عمل بالأركان «1».

و في المعاني عن الصادق عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ليس الإيمان بالتحلّي و لا بالتمنّي، و لكن الإيمان ما خلق في القلب و صدّقه الأعمال «2».

و في الأمالي بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

__________________________________________________

(1) الخصال ج 1 ص 84- عيون الأخبار ج 1 ص 227 الأمالي ص 160.

(2) بحار الأنوار ج 69 ص 72.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 120

الإيمان قول مقول، و عمل معمول، و عرفان العقول «1».

و فيه عن الامام الرضا عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الإيمان إقرار باللسان، و معرفة بالقلب و عمل بالجوارح «2».

و في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: من شهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّد رسول اللّه كان مؤمنا؟ قال عليه السّلام: فأين فرائض اللّه تعالى «3».

قال: كان علي عليه السّلام يقول: لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم و لا صلاة، و لا حلال، و لا حرام «4».

قال أبو الصلاح الكناني: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ عندنا قوما يقولون: إذا شهد أن لا إله إلا اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه فهو مؤمن، قال: فلم يضربون الحدود؟ و لم يقطع أيديهم؟ و ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلقا أكرم على اللّه عزّ و جلّ من مؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين، و انّ جوار اللّه للمؤمنين، و انّ الجنّة للمؤمنين، و إنّ الحور للمؤمنين، ثمّ قال: فما بال

من جحد الفرائض كان كافرا «5».

و في كنز الكراجكي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ملعون، ملعون من قال: الإيمان قول بلا عمل «6».

و في «الكافي» عن محمد بن الحكيم، قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال: نعم، و ما دون الكبائر، قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يزني

__________________________________________________

(1) مجالس المفيد ص 169- أمالي الطوسي ج 1 ص 35.

(2) أمالي الطوسي ج 1 ص 379.

(3) الكافي ج 2 ص 33 و عنه البحار ج 69 ص 19.

(4) الكافي ج 2 ص 33 و عنه البحار ج 69 ص 19.

(5) الكافي ج 2 ص 33 و عنه البحار ج 69 ص 19.

(6) كنز الكراجكي و عنه البحار ج 69 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 121

الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السارق و هو مؤمن «1».

و فيه بالإسناد عن عبيد بن زرارة، قال: دخل ابن قيس الماصر، و عمر بن زرّة و أظنّ معهما أبو حنيفة على أبي جعفر عليه السّلام، فتكلم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا و أهل ملّتنا عن الإيمان في المعاصي و الذنوب.

قال: فقال له أبو جعفر عليه السّلام: يا ابن قيس أمّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد قال: لا يزني الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السارق و هو مؤمن فاذهب أنت و أصحابك حيث شئت «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي يستفاد منها اعتبار العمل في حقيقة الإيمان و في صدقه، بل يستفاد من بعضها كالخبر الأخير أنّ المسألة كانت مطرحا للأنظار في

عصر الأئمة الأطهار صلوات اللّه عليهم، و أنّه كان مذهب الإمام عليه السّلام اعتباره في معناه، و لعلّ هذه الأخبار هي الّتي ركن إليها متقدّموا أصحابنا فيما يعزى إليهم.

إطلاقات الايمان

و الّذي يظهر لي من التأمّل في الأخبار و الآيات هو أن له باعتبار مراتبه إطلاقات: أحدها ما مرّت إليه الإشارة من أنّه التصديق بالعقائد الحقّة و الأصول الخمسة، و هذا هو الّذي يترتّب عليه حقن الدماء و الأموال، و صحّة الأعمال و استحقاق الثواب و النجاة من الخلود في النار، و استحقاق العفو و الشفاعة و غيرها

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 284 و عنه البحار ج 69 ص 63.

(2) الكافي ج 2 ص 285 و عنه البحار ج 69 ص 63.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 122

ممّا يعمّ خصوص الفرقة الحقّة دون غيرهم من أرباب المذاهب و الملل، و هذا المعنى هو الّذي يبحث عنه الفقهاء في مسألة شرايط الإمام و مستحقّ الزكاة، و الكفاءة في النكاح و نحوها، و عليه ينزّل كثير من الآيات و الأخبار.

بل

في المعاني عن حفص الكناسي «1» قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا؟ قال: يشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله، و يقرّ بالطاعة، و يعرف إمام زمانه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن «2».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: المؤمن مؤمنان: فمؤمن صدق بعهد اللّه، و وفى بشرطه، و ذلك قوله عزّ و جلّ: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «3»، فذلك الّذي لا تصيبه أهوال الدنيا و لا أهوال الآخرة، و ذلك ممّن يشفّع و لا يشفّع له، و مؤمن كخامة

الزرع تعوج أحيانا و تقوم أحيانا، فذلك ممّن تصيبه اهوال الدنيا و أهوال الآخرة، و ذلك ممّن يشفع له و لا يشفع «4».

أقول: الخامة من الزرع هي الطاقة الليّنة من الزرع، و المراد باعوجاج المؤمن ميله الى الشهوات النفسانيّة و بقيامه استقامته على طريق الحقّ و مخالفته الأهواء الباطلة.

و في الكافي مرفوعا عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه علم أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب، و لو لا ذلك ما أبتلي مؤمن بذنب أبدا «5».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على ابتلاء المؤمنين بالذنوب،

__________________________________________________

(1) في البحار: عن جعفر الكناسي.

(2) معاني الأخبار ص 393 و عنه البحار ج 69 ص 16.

(3) الأحزاب: 23.

(4) الكافي ج 2 ص 248 و عنه البحار ج 67 ص 189 ح 1.

(5) الكافي ج 2 ص 313 و عنه البحار ج 72 ص 306 و فيه: لما أبتلي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 123

و تمحيص ذنوبهم بالبلاء و أنواع المصائب في الدنيا، و بشدّة النزع عند الاحتضار، و ببعض أنواع العذاب في البرزخ، و في المحشر، و أنّ شفاعة و الأئمّة صلّى اللّه عليهم أجمعين مدّخرة لأهل الكبائر من المؤمنين، بل الظاهر تواترها معنى عليه، و لذا ادّعى غير واحد منهم الإجماع على ذلك، و إنّما عدّوا المخالف بعض المخالفين و سائر الفرق.

قال المحقق الطوسي في «قواعد العقائد»: اختلفوا في معنى الإيمان، فقال بعض السلف: إنّه إقرار باللّسان، و تصديق بالقلب، و عمل صالح بالجوارح، و قالت المعتزلة: أصول الإيمان خمسة: التوحيد، و العدل، و الإقرار بالنبوة، و بالوعد و الوعيد و القيام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قال الشيعة: اصول

الإيمان ثلاثة: التصديق بوحدانية اللّه تعالى في ذاته و العدل في أفعاله، و التصديق بنبوّة الأنبياء و بامامة الأئمة المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين، و التصديق بالأحكام الّتي يعلم يقينا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حكم بها، دون ما فيه الخلاف ...

إلى أن قال: و صاحب الكبيرة عند الخوارج كافر، لأنّهم جعلوا العمل الصالح جزء الإيمان، و عند غيرهم فاسق، و المؤمن عند المعتزلة و الوعيديّة لا يكون فاسقا، و جعلوا الفاسق الّذي لا يكون كافرا منزلة بين المنزلتين: الإيمان و الكفر، و هو عندهم يكون في النار خالدا، و عند غيرهم المؤمن قد يكون فاسقا و قد لا يكون، و تكون عاقبة الأمر على التقديرين الخلود في الجنّة.

و يقرب منه ما ذكره في كتاب المسائل.

و قال الخواجة الطوسي (ره) في التجريد: الإيمان التصديق بالقلب و اللسان ...

إلى أن قال: و الفسق الخروج من طاعة اللّه مع الإيمان به.

و قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في شرحه: اختلف الناس في الفاسق، فقالت

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 124

المعتزلة: إنّ الفاسق لا مؤمن و لا كافر، و اثبتوا له منزلة بين المنزلتين، و قال الحسن البصري: إنّه منافق، و قالت الزيديّة: إنّه كافر نعمة، و قالت الخوارج: إنّه كافر، و الحقّ ما ذهب إليه المصنّف، و هو مذهب الإماميّة و المرجئة، و أصحاب الحديث، و جماعة الأشعريّة من أنّه مؤمن «1».

إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة أو الظاهرة في إطباق الإماميّة عليه، بل وافقنا فيه كثير ممن خالفنا مستدلّين بظواهر كثير من الآيات، ملخّصها لعطف عمل الصالح عليه، و اقترانه بالمعاصي في قوله تعالى:

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ

إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «2».

و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «3».

و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ «4»، و غيرها من الآيات الكثيرة.

الإطلاق الثاني للإيمان هو الإقرار بالعقائد الحقّة المتقدّمة مع الإتيان بجملة من الفرائض، أو خصوص ما ثبت وجوبه من القرآن و ترك الكبائر الّتي أوعد اللّه عليها النار.

و على هذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة و الزكاة و الحجّ، إن لم تكن الأخبار محمولة على صورة الاستحلال، و يحمل عليه أيضا ما

ورد من أنّه لا يزني

__________________________________________________

(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 337- 338 ط قم المصطفوي.

(2) الحجرات: 9.

(3) البقرة: 178.

(4) التوبة: 38.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 125

الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السّارق و هو مؤمن «1».

الإطلاق الثالث للايمان الإقرار بالعقائد المذكورة مع فعل جميع الفرائض، و ترك جميع المحرمات.

رابعها: أنّ الإيمان- مضافا- إلى الأمور السابقة:

فعل المندوبات و ترك المكروهات بل المباحات.

و بين كلّ مرتبة و تاليتها مراتب متفاوتة و درجات متفاضلة و لذا

ورد: انّ من الإيمان التامّ الكامل تمامه، و منه الناقص المبيّن نقصانه، و منه الزائد البيّن زيادته «2».

و في «الخصال» عن عبد العزيز، قال: دخلت على ابي عبد اللّه عليه السّلام فذكرت له شيئا من أمر الشيعة و من أقاويلهم، فقال: يا عبد العزيز الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم له عشر مراقي و ترتقي منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شي ء و لا يقولنّ صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست

علي شي ء، حتى انتهى إلى العاشرة، ثم قال: و كان سلمان في العاشرة و أبو ذر في التاسعة، و المقداد في الثامنة فيها، يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، و إذا رأيت الّذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعا رفيعا فافعل، و لا تحملنّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره لأنّك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته «3».

و من هنا يظهر أنّ إختلاف الأخبار محمولة على إختلاف المراتب

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 284 و عنه البحار ج 69 ص 63.

(2) الكافي ج 2 ص 40- 42 ج 6 و عنه البحار ج 69 ص 23.

(3) الكافي ج 2 ص 44 و عنه البحار ج 69 ص 165- 166.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 126

و الدرجات باعتبار ما يختصّ به كلّ منها من الفوائد و الثمرات، و بهذا الإعتبار قد ينفى الإيمان عمّن فقد شيئا من المراتب.

ففي «الكافي» عن علي بن جعفر قال سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: ليس كلّ من يقول بولايتنا مؤمنا و لكن جعلوا انسا للمؤمنين «1».

و ورد في أخبار كثيرة أنّ المؤمن قليل قليل، و أنّه أعزّ من الكبريت الأحمر، و الغراب الأعصم «2».

و يظهر من بعضها أنّ المؤمنين هم الأئمّة المعصومون عليهم صلوات اللّه.

بل قد ورد في وجه تسمية المؤمن مؤمنا ما يدلّ على اختصاصه بمن يسمع شفاعته لغيره في الدنيا و الآخرة.

ففي العلل عن الّصادق عليه السّلام قال: إنّما سمّي المؤمن مؤمنا لأنّه يؤمّن على اللّه فيجيز أمانه «3».

و في المحاسن عن سنان بن طريف عن أبي عبد اللّه عليه السّلام

أنّه قال: لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ فقلت: لا أدري إلّا أنّه أراه يؤمن بما جاء من عند اللّه، فقال:

صدقت، و ليس لذلك سمّي المؤمن مؤمنا، فقلت: لم سمّي المؤمن مؤمنا، قال: إنّه يؤمن على اللّه يوم القيامة فيجيز إيمانه «4».

أقول: و قد تضمّن هذا الخبر وجهين للتسمية، و يظهر من غيرها وجوه أخر، مثل ما

رواه في العلل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا أنبّئكم لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ لإيمانه الناس على أنفسهم و أموالهم، ألا انبّئكم من المسلم؟ من سلم الناس من يده

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 67 ص 165 عن الكافي.

(2) الكافي ج 2 ص 242 و عنه البحار ج 67 ص 159 ح 3.

(3) علل الشرائع ج 2 ص 319 و عنه البحار ج 67 ص 60.

(4) المحاسن ص 229 و عنه البحار ج 67 ص 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 127

و لسانه «1».

و في صفات الشيعة باسناده عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ قال: لأنّه اشتقّ للمؤمن اسما من أسمائه تعالى فسمّاه مؤمنا، و إنّما سمّي المؤمن لأنّه يؤمن من عذاب اللّه و يؤمّن على اللّه يوم القيامة فيجيز له ذلك، و أنّه لو أكل أو شرب أو قام أو قعد، أو نام، أو نكح، أو مرّ بموضع قذر خوّله اللّه تعالى من سبع أرضين طهرا لا يصل إليه من قذرها شي ء «2».

ثمّ إنّه بعد ما علم عدم مدخليّة الأعمال مطلقا أو في الجملة في أدنى الإيمان و مسمّاه فهل المعتبر فيه هو التصديق بالجنان أو الإقرار باللّسان، أو الأمران معا؟

ذهب الى كلّ فريق،

و الأظهر الأشهر هو الأوّل، لأنّه سبحانه قد أضاف الإيمان إلى القلب في قوله: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «3»، و قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ «4»، و قوله تعالى: وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «5»، و قوله تعالى: وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «6»، و قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ «7».

هذا مضافا الى أنّه أقرب الى معناه اللّغوي الّذي قد سمعت أنّه مطلق

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ص 219 و عنه البحار ج 67 ص 60.

(2) مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 203.

(3) المجادلة: 22.

(4) المائدة: 141.

(5) الحجرات: 14.

(6) النحل: 106.

(7) الفتح: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 128

التصديق، فإنّه من أفعال القلوب، و إن اختلفوا في أنّ المعتبر من التصديق هل هو التصديق اليقيني الثابت الجازم الناشئ من الأدلّة، او أنّه يتحقّق مع فقد بعض القيود، أو كلّها، على أقوال لا داعي للتعرض لها في المقام.

و ممّا سمعت و غيره يظهر ضعف القول الثاني المنسوب إلى الكرّاميّة «1»، و إن استدلّوا له

بالنبوي عليه السّلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلّا اللّه «2».

و بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأسامة «3» حين قتل من تكلّم بالشهادتين: هل شققت قلبه «4».

و استدلّوا أيضا بأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الصحابة كانوا يكتفون في الخروج عن الكفر بكلمتي الشهادة.

و لكن ضعف المجموع واضح، فإنّ اعتبار اللسان إنّما هو بالنسبة الى الحكم الظاهري في الكشف عن حقيقة الإيمان، و اين هذا من اعتباره

في نفس الحقيقة.

__________________________________________________

(1) هم أتباع محمّد بن كرّام السجستاني المتكلم المتوفى سنة (244) في بيت المقدس.

(2) بحار الأنوار ج 37 ص 113.

(3) هو اسامة بن زيد بن حارثة الكلبي و امّة أمّ ايمن توفي سنة (54)- العبر في خبر من غبر ج 1 ص 59.

(4) بحار الأنوار ج 21 ص 11 عن تفسير القمي في تفسير «وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ... (سورة النساء: 94).

قال بعث النبي (ص) اسامة بن زيد في خيل الى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم الى الإسلام و كان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك فلمّا أحسّ بالخيل جمع أهله و ماله و صار في ناحية الجبل فأقبل يقول: اشهد ان لا إله إلا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، فمرّ به أسامة فطعنه و قتله، فلمّا رجع الى رسول اللّه (ص) و أخبره بذلك فقال له رسول اللّه (ص): قتلت رجلا شهد ان لا اله إلّا اللّه و انّي رسول اللّه (ص) فقال: يا رسول اللّه إنما قالها تعوّذا من القتل، فقال رسول اللّه (ص): «فلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت و لا ما كان في نفسه علمت ... إلخ تفسير القمي ص 136- 137.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 129

و لعلّ من هذا و غيره يظهر أيضا ضعف القول الثالث، و ان اختاره المحقق الطوسي في التجريد، مستدلّا بأنّه لا يكفي التصديق بالقلب دون اللسان لقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1» حيث أثبت للكفّار الاستيقان النفسي و هو التصديق القلبي، فلو كان الإيمان هو التصديق القلبي فقط

لزم اجتماع الكفر و الإيمان و هو باطل لأنّهما متقابلان، و لقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» حيث أثبت لهم الكفر مع المعرفة القلبيّة، و لا يكفي الإقرار باللسان دون التصديق أيضا ... لقوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «3»، و قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «4» حيث نفي عنهم الايمان مع اعترافهم به باللسان.

إذ فيه أنّ الاستدلال على الثاني و ان كان صحيحا موجّها جدّا، إلّا أن دليله على الأوّل أخصّ من المدّعى فإنّ الآية إنّما دلّت على ثبوت الكفر مع الجحود و الإنكار الّذي هو سبب مستقلّ للحكم بالكفر كإنكار الضروري و غيره، و اين هذا من الحكم بالكفر بمجرد ترك الإقرار باللسان مع التصديق بالجنان، و لعلّه هو السبب لرجوعه عن ذلك في غير التجريد من كتبه كقواعد العقائد، و الفصول على المحكي و ان كان استفادته منهما لا يخلو عن تأمّل.

و لقد أجاد شيخنا الطبرسي حيث ذكر أنّ أصل الإيمان هو المعرفة باللّه تعالى و برسله و بجميع ما جاءت به رسله، و كلّ عارف بشي ء فهو مصدّق به، و استدلّ عليه

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

(2) البقرة: 89.

(3) الحجرات: 14.

(4) البقرة: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 130

بهذه الآية من حيث دلالة عطف إقامة الصلاة و غيرها على المغايرة، و

بالنبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الايمان سرّ و أشار الى صدره، و الإسلام علانية

، قال: و قد يسمّى الإقرار إيمانا كما يسمّى تصديقا، إلّا أنّه متى صدر من شكّ أو

جهل كان إيمانا لفظيّا لا حقيقيا، و قد يسمّى أعمال الجوارح أيضا ايمانا استعارة و تلويحا كما يسمّى تصديقا كذلك، فيقال: فلان يصدّق أفعاله مقاله، و لا خير في قول لا يصدّقه الفعل، و الفعل ليس بتصديق حقيقي باتّفاق أهل اللغة، و إنّما استعير له هذا الإسم على الوجه الّذي ذكرناه، فقد آل الأمر مع صحّة الرضوي الّذي رواه الخاصّ و العامّ من أنّه هو التصديق بالقلب، و الإقرار باللسان، و العمل بالأركان، و أنّه قول مقول، و عمل معمول، و عرفان بالعقول، و إتباع الرسول الى أنّ الإيمان هو المعرفة بالقلب و التصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة، و لا يطلق لفظه إلّا على ذلك، إلّا أنّه يستعمل في الإقرار باللسان او العمل بالأركان مجازا و اتّساعا «1»، انتهى كلامه زيد مقامه.

ثم إنّك بعد الإحاطة بما قرّرناه لا يخفى عليك ضعف سائر الأقوال في المسألة و إن أنهاها بعضهم الى عشرة فصاعدا إلا أنّ الجميع مشترك في الضعف مردود بإجماع الإماميّة على خلافه بعد الكتاب و السنّة و إن ذهب إليها بعض المخالفين و الخوارج و النصّاب.

الإيمان بالغيب

- تبصرة-: انظر كيف بدء اللّه سبحانه في أوّل هذه السورة الّتي هي أساس القرآن، و هو مفتتح كتابه بأنّه هو النور المبين و هو هدى للمتقين، ثمّ سمّاهم

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 38- 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 131

بأحسن أسمائهم، و وصفهم بأشرف صفاتهم و نعّتهم بما هو الأصل و الأساس لساير أسمائهم الحسنى و صفاتهم العليا، و هو إيمانهم بالغيب، حتّى صار ما غاب عنهم لقوة الإيمان بمنزلة العيان، فإنّ الإيمان نور إلهي ينقذف في القلب من التصديق و الإذعان

للّه تعالى و لأنبيائه و أوليائه، و هو يقبل الشدّة و الضعف، و الزيادة و النقصان بحسب الكمّية و الكيفيّة فيزيد شيئا فشيئا بزيادة الإعتبار و الإستبصار، و العلم الموجب لزيادة العمل و حسنه و خلوصه المؤدّي إلى زيادة المعرفة و جلاء البصيرة، فإنّ كلّا من العلم و العمل يدور على الآخر، الى ان ينتهي الى اليقين متدرّجا في مراتبه إلى أن يصل إلى معاينة الحقائق و التحقق بها في جميع المراتب. و هذا كلّه من مراتب الإيمان الّذي تنفتح معه البصيرة الباطنة، و لذا ورد: إنّ المؤمن له أربعة أعين، عينان في ظاهر البدن، و عينان في باطن القلب، و بهما يطّلع على الحقائق، و ينجلي ضياء المعرفة في قلبه، و يترشّح النور من قلبه على ساير جوارحه فلا يصدر شي ء منها من حركة أو سكون أو فعل او انفعال إلّا ما هو مقتضى الإيمان، و رضى الرحمان، و مطردة الشيطان.

و ذلك لأنّه قد استولى و غلب على قلبه التصديق و الإذعان و المعرفة باللّه و بأنبيائه و رسله و حججه، و باليوم الآخر، و وعده، و وعيده، و غير ذلك ممّا رأته القلوب بحقائق الايمان، و شهود الأنوار، و إن لم ترها العيون الّتي في الأبدان بمشاهدة الأبصار، بحيث لم يبق في قلبه متّسع لغير ذلك، فصار إيمانه هو الحاكم المتصرّف في نفسه فضلا عن بدنه على جهة الاستقامة على مقتضى الولاية الّتي هي حقيقة العبوديّة للّه سبحانه طوعا و اختيارا بحيث لا يكاد يميل قلبه إلى غيرها رغبا أو رهبا بعد استقرار السكينة في قلبه.

و الحاصل أنّ للإيمان الكامل آثارا من حيث التخلّق بالأخلاق الفاضلة الروحانية، و الإشتغال بالأعمال الصالحة البدنيّة، و

كلّها ناشية عن كمال الإذعان

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 132

و التصديق بالأصول الحقيقيّة، و العقائد الايمانيّة تفصيلا أو إجمالا و لو على وجه التسليم و ردّ العلم بالتفصيل أو الكيفيّة إلى عالمه.

و لذا ورد في أخبار كثيرة الأمر بالتسليم و ترك الإنكار فيما يعجز عقولنا عن إدراكه و الإحاطة بكيفيّته كمعرفته سبحانه، و كون صفاته عين ذاته بلا مغايرة اعتبارية، إلى غير ذلك من غرائب علم التوحيد، و غرائب أحوال النبيّ و الأئمّة صلّى اللّه عليهم أجمعين من بدء كينونتهم و اتحادهم في عالم الأنوار و احاطتهم الكليّة على ما في صقع عالم الأكوان، و كينونة سائر الأنبياء و الملائكة من فاضل طينتهم، و أنّ قائمهم المهدي عجّل اللّه فرجه الشريف يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا. و غير ذلك من أطوار البرزخ و أحوال القيامة و أهوالها، و الجنة و النار ممّا علم من الدين إجمالا او تفصيلا، فإنّ ذلك كلّه من الإيمان بالغيب الّذي يتبعه العبوديّة و العمل الصالح من حيث الشدّة و الضعف و الزيادة و النقصان.

البداء و دفع الإشكال

لعلّك يختلج في بالك أنّ من الغيب الّذي يلزمنا الإيمان به هو القول بالبداء، فإنّه ما عبد اللّه عزّ و جلّ بشي ء مثل البداء «1»، و ما عظّم سبحانه بمثله «2»، و ما بعث اللّه تعالى نبيّا قطّ حتى يأخذ عليه الإقرار بالعبوديّة و خلع الأنداد، و أنّ اللّه تعالى يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء «3».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 107 ح 19 عن توحيد الصدوق.

(2) البحار ج 4 ص 107 ح 20 عن توحيد الصدوق.

(3) البحار ج 4 ص 108 ح

21 عن توحيد الصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 133

و قد تواترت به الأخبار عن أهل البيت عليه السّلام، بل قد علم ذلك من ضرورة المذهب و إن طعن به علينا بعض الجهلة من المخالفين، حسبما تسمع إن شاء اللّه تمام الكلام في تحقيقه و في رفع شبه المخالفين في تفسير قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ «1».

ثم إنّ مقتضى الإيمان به أنّ له سبحانه محو ما شاء من التكوينيّات و تبديله بغيره ما لم يظهر في الوجود العيني، و من البيّن أنّ ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليه السّلام من ظهور الحجّة، و أحوال الرجعة، و تحقق القيامة، و الحساب، و الصراط، و الميزان، و الجنّة للمطيعين، و النار للعاصين، و غير ذلك من الأمور الكثيرة كلّها من التكوينيّات الّتي يتطرّق إليها احتمال البداء، و يلزمنا الإيمان به و معه كيف يمكن التصديق العلمي و الإعتقاد الجزمي بتلك الأمور من حيث التحقّق و الوقوع سيّما مع وقوعه فيما هو من اصول الاماميّة، كإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق عليه السّلام، و غيره ممّا وقع فيه البداء.

و الجواب أنّ هذه الأمور الّتي قد تواتر الأخبار بها من الأنبياء و الأئمّة عليه السّلام حتى صارت من ضروريات الدين بل من الأصول العلميّة الّتي يجب اعتقادها على جميع المؤمنين ممّا لا يتطرّق إليها احتمال المحو و التغيّر و التبدّل، و لا مجال للقول بالبداء فيها، حتّى أنّ الوعيديّة قالوا: بوجوب العذاب مع كثرة ما ورد من الوعد بالعفو و الصفح، فتلك الأمور و ما ضاهاها من العقائد الإيمانيّة لم نؤمر باعتقاد البداء فيها بل أمرنا فيها بالاعتقاد بالتحقّق

و الوقوع كما هي كذلك في الواقع.

و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام على ما رواه في المحاسن و العيّاشي في تفسيره قال عليه صلوات اللّه: العلم علمان: علم عند اللّه مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه،

__________________________________________________

(1) سورة الرعد: 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 134

و علم علّمه ملائكته و رسله، فأمّا ما علّمه ملائكته و رسله فإنّه سيكون لا يكذّب نفسه و لا ملائكته و لا رسله، و علم عنده مخزون يقدّم فيه ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و يثبت ما يشاء «1».

و روى العيّاشي باسناده عنه عليه السّلام، قال: من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، و من الأمور أمور موقوفة عند اللّه يقدّم منها ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا (يعني الموقوفة) فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه و لا نبيّه و لا ملائكته «2».

و المراد بالاطلاع المنفي هو إطلاع الخلق على وجه التبليغ و إيصال الأنبياء من اللّه سبحانه، و لذا قوبل بقوله: و أمّا ما جاءت به الرسل.

و من هنا يرتفع التنافي أيضا بين ما دلّ منها على عدم وقوعه فيما وصل إليهم علمه و ما دلّ على وقوعه في ذلك مثل ما دلّ على البداء في ظهور الحجّة عجّل اللّه فرجه للتوقيت و الإفشاء «3».

و في دفع ميتة السوء عن اليهودي الّذي سلّم على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالسام ثم أتبعه بالصدقة «4».

و عن المرأة الّتي أخبر بموتها عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام في ليلة زفافها «5» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و أمّا وقوع البداء في

إسماعيل فهو ممنوع بجملة من معانيها الّتي هي البداء

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 113 ح 36 عن المحاسن و العياشي.

(2) البحار ج 4 ص 119 ح 58 عن العيّاشي.

(3) البحار ج 52 ص 117 ح 42.

(4) البحار ج 4 ص 121 ح 67 عن الكافي.

(5) البحار ج 4 ص 94 ح 1 عن امالي الصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 135

في العلم، أو في الإرادة، أو في الأمر، أو في العقل، لذا أنكره المحقّق الطوسي، و غيره، بل من الواضح المتواتر من طرق الامامية و غيرهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضبط أسماء الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و صفاتهم، و أنّها مكتوبة على الألواح السماوية و على العرش، معروضة على الأنبياء عليهم السّلام لا يتطرّق إليهم النقص و التبديل قد اختارهم اللّه تعالى عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ.

و لذا قال شيخنا الصدوق رحمه اللّه في التوحيد: إنّ معنى

قول الصادق عليه السّلام:

ما بدا للّه بداء كما بدا له في إسماعيل ابني

أنّه ما ظهر للّه أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني إذ اخترمه «1» قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي «2».

قال الصدوق بعد الرواية: و قد روي لي من طريق أبي الحسين الأسدي رضوان اللّه عليه في ذلك شي ء غريب، و هو أنّه

روى أنّ الّصادق عليه السّلام قال: ما بدا للّه بداء كما بدا له في إسماعيل أبي، إذ امر أباه بذبحه ثم فداه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.

و في الحديث على الوجهين جميعا عندي نظر «3».

هذا مع أنّه لم يرد النصّ على إسماعيل من أحد من الأئمّة عليهم السّلام فكيف البداء، نعم كان الصادق عليه

السّلام يحبّه حبّا شديدا، و يكرمه إكراما عظيما بحيث يتوهم بعض الناس أنّه الإمام بعده.

و روي أنّه لمّا مات في حياة الإمام عليه السّلام بالعريض قرب المدينة قبل وفاة الإمام بعشرين سنة حمل على أعناق الرّجال و جزع أبو عبد اللّه عليه السّلام عليه جزعا شديدا، و تقدّم سريره بغير حذاء و لا رداء، و أمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه

__________________________________________________

(1) اخترمه: أهلكه.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 109 في ذيل ح 26 عن التوحيد.

(3) البحار ج 4 ص 109 عن توحيد الصدوق.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 136

مرارا، و كان يكشف عن وجهه و ينظر إليه، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانّين خلافته له من بعده و إزالة الشبهة عنهم في حياته.

بل روي أنّه عليه السّلام عقد على وفاته محضرا و أشهد عليه عامل المنصور بالمدينة، و قد ظهر قريبا سرّ الإشهاد على موته و كتابة المحضر عليه، و لم يعهد ميّت سجّل على موته، و ذلك أنّه لمّا رفع الى المنصور أنّ إسماعيل بن جعفر رئي بالبصرة واقفا على رجل مقعد فدعا له، فبرأ باذن اللّه، بعث المنصور الى الصادق عليه السّلام أنّ ابنك إسماعيل في الأحياء، و أنّه رئي بالبصرة، فأنفذ عليه السّلام السجلّ إليه، و عليه شهادة عامله بالمدينة فسكت.

تفسير وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ

اشارة

الإقامة إفعال من القيام بمعنى الانتصاب، أو القوام بفتح القاف بمعنى العدل، و منه: قوله تعالى: وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «1» و الظاهر كونه حقيقة فيه كما هو الصّحاح و القاموس و المحكي عن تغلب و غيره، بل قد يشعر به الخبر المروي في تفسير الآية، و الهمزة للتعدية فمعنى أقام الشي ء على الأوّل

جعله منتصبا، و إذا قوّم العود قيل: أقامه أي سوّاه و أزال اعوجاجه، ثم استعيرت الإقامة من تسوية الأجسام الّتي قيل إنّها حقيقة فيها إلى تسوية المعاني كإقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها.

إلّا أنّ الأظهر كما قيل أنّه لا حاجة إلى التزام التجوّز فإنّها حقيقة في التسوية و التعديل من غير اختصاص بشي ء من الأجسام و المعاني، و التسوية و التعديل في

__________________________________________________

(1) الفرقان: 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 137

الصلاة بحفظ حدودها و احراز قيودها و رفض نواقصها و موانعها.

أو مأخوذة من قامت السوق إذا نفقت و أقامها أي جعلها نافقة غير كاسدة، فكأنّه جعلت المداومة عليها أو حسن المحافظة على حدودها و وظائفها بمنزلة نفاق السوق و عدم كسادها حيث إنّ كلّا من النفاق و المداومة و حسن المحافظة جعل متعلقه مرغوبا فيه متوجّها إليه، و منه قول الشاعر:

أقامت غزالة سوق الضراب لأهل العراقين حولا قميطا أو مأخوذة من قامت الحرب على ساقها، أو قام فلان بالأمر، إذا تجلّد و تشمّر لأدائها من دون توان فيها و لا فتور منها، فإن حقيقة قيام الشخص بالأمر تلبّسه به قائما و يلزمه عرفا اعتنائه بشأن ذلك الأمر و تشمّره له و تجلّده فيه، و لذا يقال في ضدّه: قعد عن الأمر و تقاعد.

أو من القيام الّذي هو من أجزاء الصلاة المتّصف بالوجوب الركني و غيره و بالاستحباب و لذا

قال عليه السّلام: «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له» «1».

قيل: و منه: قد قامت الصلاة، و إنّه إنما ذكر القيام لأنّه أوّل أركانها و أمدّها، مع أنّه ربما يعبّر عنها بغيره من أركانها كالركوع و السجود، بل و من ساير أجزائها كالقنوت و

التسبيح.

أو مأخوذة من القائم للشي ء بمعنى الراتب الدائم، و منه قولهم: فلان يقيم أرزاق الجند، أي يديمها، قال في الصحاح: أقام الشي ء أي أدامه من قوله تعالى: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ.

أو أنّه بمعنى الفعل و الأداء على وجه التجريد، و قد يحمل عليه

قول الصادق عليه السّلام لحمّاد: «ما أقبح بالرجل منكم فأتى عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا

__________________________________________________

(1) الحدائق ج 8 ص 60 عن المحاسن و الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 138

يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة» «1» لكنّه بعيد في الآية، بل في الخبر أيضا.

نعم ربما يرجّح المعنى الأوّل على غيره نظرا إلى أنّه أشهر، و إلى الحقيقة أقرب، و أفيد، لتضمّنه التنبيه على أنّ الحقيق بالمدح من يراعي حدودها الظاهرة من الفرائض و السنن و حقوقها الباطنة من الخشوع و الإقبال بقلبه على اللّه تعالى، لا المصلّون الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ، و لذلك ذكر في سياق المدح «وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» «2» و في معرض الذمّ «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» «3».

أقول: و فيه أنّ دعوى الأشهريّة ممنوعة، بل و كذا الأقربيّة، و لو سلّمنا الأخيرة فهو إنّما يوجب الترجيح على غير الحقيقة، و قد سمعت كونه حقيقة على الوجه الثاني.

و أمّا ما أفاده عن زيادة الفائدة فمن البيّن أنّه لا اختصاص له بالأوّل، بل المداومة و التجلّد و النفاق أوجب لحسّ القبول بسبب الكمال أيضا كذلك و إن كان كلّ منها موجبا للكمال من وجه.

و من هذا من بعد ملاحظة ما مرّت الإشارة إليها غير مرّة يظهر أنّ الأولى الحمل على المستجمع لجميع صفات لكمال من جهة حسن الفعل و تسويته و نفاقه و حسن الاهتمام به و التشمّر لأدائه و المداومة على

فعله بعد اشتماله على الآداب و الوظائف الداخلة و الخارجة.

و لذا

ورد في النبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ تسوية الصفّ من اقامة الصلاة» «4» ، و في

__________________________________________________

(1) الحدائق ج 8 ص 2 عن الوسائل الباب 1 من افعال الصلاة.

(2) النساء: 162.

(3) الماعون: 4.

(4) الحدائق ج 11 ص 168 عن صحاح العامّة مثل سنن ابي داود و صحيح مسلم و صحيح البخاري.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 139

تفسير الإمام عليه السّلام أنّه تعالى قال: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يعني بإتمام ركوعها و سجودها و حفظ مواقيتها و حدودها، و ضيافتها عمّا يصدّها و ينقضها، ثم قال:

و حدّثني أبي، عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان من خيار أصحابه أبو ذرّ الغفاري فجاء ذات يوم، فقال: يا رسول اللّه إنّ لي غنيمات قدر ستّين شاة اكره أن ابدو فيها و أفارق حضرتك و خدمتك، و اكره أن أكلها إلى راع فيظلمها أو يسي ء رعيها فكيف أصنع؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ابدأ فيها، فبدأ فيها، فلمّا كان في اليوم السابع جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذر، قال: لبّيك يا رسول اللّه، قال:

ما فعلت غنيماتك؟ قال: يا رسول اللّه إنّ لها قصّة عجيبة، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما هي؟ قال:

يا رسول اللّه بينا أنا في صلاتي إذ عدا الذئب على غنمي، فقلت: يا ربّ صلاتي و يا ربّ غنمي، فآثرت صلاتي على غنمي، و أخطر الشيطان ببالي:

يا أبا ذر أين أنت إن عدت الذئاب على غنمك و أنت تصلّي فأهلكتها و ما يبقى لك في الدنيا ما تتعيّش به؟

فقلت للشيطان: يبقى لي توحيد اللّه تعالى، و الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و موالاة أخيه سيّد الخلق بعده علي بن أبي طالب عليه السّلام، و موالاة الأئمة الهادين الطاهرين من ولده، و معاداة أعدائهم، و كل ما فات من الدنيا بعد ذلك سهل، فأقبلت على صلاتي، فجاء ذئب فأخذ حملا و ذهب به و أنا أحسّ به إذ أقبل على الذئب أسد فقطّعه نصفين و استنقذ الحمل و ردّه الى القطيع، ثمّ ناداني يا أبا ذرّ أقبل على صلاتك فإنّ اللّه قد وكّلني بغنمك الى أن تصلّي، فأقبلت على صلاتي و قد غشيني من التعجّب ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى حتى فرغت منها فجاءني الأسد و قال لي امض الى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره أنّ اللّه تعالى قد أكرم صاحبك الحافظ لشريعتك، و وكّل أسدا بغنمه يحفظها. فعجب من كان حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صدقت يا أبا ذر، و لقد آمنت به أنا و علي و فاطمة و الحسن و الحسين، فقال بعض

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 140

المنافقين: هذا المواطاة بين محمّد و أبي ذرّ، يريد أن يخدعنا بغروره، و اتفق منهم عشرون رجلا و قالوا: نذهب إلى غنمه و ننظر إليها و ننظر إليه إذا صلّى هل يأتي الأسد فيحفظ غنمه؟ فذهبوا و نظروا و أبو ذر قائم يصلّي، و الأسد يطوف

حول غنمه و يرعاها، و يردّ إلى القطيع ما شذّ عنه منها، حتّى إذا فرغ من صلاته ناداه الأسد:

هاك قطيعك مسلّمة وافرة العدد سالمة، ثم ناداهم الأسد: معاشر المنافقين أنكرتم لولي محمّد و عليّ و آلهما الطيّبين و المتوسّل إلى اللّه بهم أن يسخّرني اللّه ربّي لحفظ غنمه، و الّذي أكرم محمّدا و آله الطيبين الطاهرين لقد جعلني اللّه طوع يد أبي ذرّ حتى لو أمرني بافتراسكم و هلاككم لأهلكتكم، و الّذي لا يحلف بأعظم منه لو سئل اللّه بمحمّد و آله الطّيّبين أن يحوّل البحار دهن زنبق و بان و الجبال مسكا و عنبرا و كافورا، و قضبان الأشجار قضب الزمرّد و الزبرجد لما منعه اللّه ذلك.

فلمّا جاء أبو ذر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذر إنّك أحسنت طاعة اللّه فسخّر اللّه لك من يطيعك في كفّ العوادي «1» عنك، فأنت من أفاضل من مدحه اللّه عزّ و جلّ بأنّه يقيم «2» الصلاة «3».

الصلاة بحسب اللغة

(و الصّلوة) فعله بالتحريك من صلّى كالزكاة من زكى لا من ذوات الواو، و إثباتها فيهما خطّا للتفخيم أي إمالة الالف نحو مخرج الواو، و لا ثالث لهما، و هو

__________________________________________________

(1) العوادي جمع العادية من العدوان، أو من عدا على الشي ء إذا اختلسه.

(2) في نسخة: بأنّهم يقيمون الصلاة.

(3) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام ص 26- 27 و عنه بحار الأنوار ج 22 ص 393- 394 ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 141

اسم يوضع موضع المصدر، يقال: صلّى صلاة، لا تصلية، و هي في الأصل بمعنى الدعاء

و منه قوله تعالى: وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ «1» أي أدع لهم بعد أخذ الصدقة بقبولها.

و الخبر «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب و إن كان صائما فليصلّ» «2» أي فليدع له بالخير و البركة.

و الخبر الآخر: «إذا متنا صلّى لنا عثمان بن مظعون»

اي دعا لنا بالمغفرة.

أو أنّه من صليت العود بالنار إذا ليّنته، لأنّ المصلّي في توجهه الى اللّه تعالى يقوّم ميله الى الباطل و اعوجاجه الحاصل من الالتفات إلى ما عداه و التوجّه الى ما سواه بالحرارة الّتي حصلت له من الحركة الصعودية و التقرّب من شهود الحقيقة المعنويّة.

بل قد يحتمل كون التفعيل للسلب كالإفعال، و إن كان نادرا، فيكون التصلية بمعنى إطفاء الحرارة كما

في النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قوموا إلى نيرانكم الّتي أوقدتموها على ظهوركم فأطفؤها بصلواتكم» «3» أي الأثقال المحمولة عليهما من الذنوب و المعاصي المتوقّدة بنيرانها الباطنة الّتي هي تجوهرها أو جزاؤها.

أو من اللزوم و منه قوله:

«و إنّي لحرّها اليوم صال»

أي ملازم لحرّها، فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الّذي أمر اللّه تعالى به.

أو أنّها في اللّغة بمعنى التعظيم، و لذا قال في النهاية: إنّ قولنا: «اللهم صلّ محمد» معناه عظّمه في الدنيا بإعلاء ذكره و إظهار دعوته و إبقاء شريعته، و في

__________________________________________________

(1) التوبة: 103.

(2) المحلى، ج 9 ص 451.

(3) اقبال الأعمال ج 3 ص 367.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 142

الآخرة بتشفيعه في امّته، و تضعيف أجره. سمّيت بها العبادة الخاصّة لما فيها من التعظيم و العبوديّة له سبحانه.

أو أنّها من الصلى (بفتح الصاد و الألف المقصورة) و التثنية صلوان، و هي على ما في

«القاموس» وسط الظهر منّا و من كلّ ذي أربع، أو ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة و الذنب، أو ما عن يمين الذنب و شماله، فمعنى صلّى حرّك الصلوين، لأنّ أوّل ما يشاهد من احوال الصلاة المميزة لها من غيرها إنّما هو تحريكهما للركوع و السجود، و أمّا القيام فلا يختصّ بها، و منه المصلّي بكسر اللام للفرس الّذي بعد السابق لأن رأسه عند صلّى السابق.

و في الكافي و المناقب عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «1» قال عليه السّلام: عني بها لم نك من أتباع الأئمّة الذين قال اللّه تبارك و تعالى فيهم: «وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» «2»، أما ترى الناس يسمّون الّذي يلي السابق في الحلبة مصلّيا، فذلك الّذي عني حيث قال: «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» «3» أي لم نك من أتباع السابقين «4».

و في خبر بناء الإسلام على الخمسة، انّ الأفضل من ذلك هو الولاية لأنّها مفتاحهنّ، و الوالي هو الدليل عليهنّ، ثمّ الّذي يليها في الفضل الصلاة ...

الخبر «5»، فهي الّتي تلي السابق في حلبة التقرّب إلى اللّه.

و احتمال أخذه من كون المصلّي ثانيا في الرتبة على ما يستفاد من

خبر

__________________________________________________

(1) المدثر: 43.

(2) الواقعة: 10.

(3) المدثر: 43.

(4) الكافي: ج 1 ص 419.

(5) راجع أصول الكافي، ج 2 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 143

«قسّمت الصلاة بيني و بين عبدي ...» «1» سخيف جدّا.

و أمّا ما ذكره الرازي من أنّ هذا الاشتقاق يفضي الى طعن عظيم في حجّية القرآن، لأنّ لفظ الصلاة من أشدّ الألفاظ شهرة و أكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، و اشتقاقه من تحريك

الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل، و لو جوّزنا أن يقال: مسمّى الصلاة ما ذكرتم أنّه خفى و اندرس حتّى صار بحيث لا يعرفه إلّا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ، و لو جوّزنا ذلك لما قطعنا بأنّ مراد اللّه تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا، لاحتمال كونها في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موضوعة لمعان آخر و كان مراد اللّه تلك المعاني إلّا أنّها قد خفيت في زماننا و اندرست كما وقع في هذه اللّفظة، و هو باطل بالإجماع فكذا ذلك.

ففيه أنّ هجر المعنى الأوّل في الألفاظ المنقولة ليس ببدع، و قياس غيرها بها كما ترى، و أصالة عدم النقل بل الهجر محكّمة في الإطلاقات العرفيّة الّتي ينزل عليها الخطابات الشرعية.

و على كلّ حال فقد يقال كما عن الباقلاني و غيره: ببقائها كغيرها من ألفاظ العبادات على المعاني اللغويّة و الأكثر على أنّها منقولة شرعا كما هو الأظهر الأشهر، أو متشرّعا كما عن جماعة إلى ذات الأركان و الكيفيات المخصوصة و إن اختلفت باختلاف أحوال المكلّفين من حيث اعتبار الأجزاء و الشرائط و الكيفيّات و غيرها كلّا أو بعضا، عينا أو بدلا.

و هذا كلّه ممّا يتعلّق بصحّتها و أجزائها، و لها آداب و وظائف تتعلّق بالقبول من الإقبال، و الخشوع، و التوجّه، و غير ذلك ممّا ستسمعها في موضعها إن شاء اللّه

__________________________________________________

(1) رواه في العيون ج 1 ص 234 ح 59 و في الأمالي ص 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 144

تعالى، و لذا لم نتعرّض لها إلّا عدى ما

رواه السيّد «1» بن طاوس طاب ثراه. قال:

جاء الحديث أنّ

رذام مولى خالد بن عبد اللّه، و كان من الأشقياء، سأل الإمام جعفر بن محمّد عليهما السّلام بحضرة أبي جعفر المنصور عن الصلاة و حدودها، فقال عليه السّلام: للصلاة أربعة آلاف حدّ لست تفي بواحد منها، فقال: أخبرني بما لا يحلّ تركه، و لا تتمّ الصلاة إلّا به، فقال عليه السّلام: لا تتمّ الصلاة إلا لذي طهر سابغ، و تمام بالغ غير نازغ و لا زائغ، عرف فاخبت و ثبت و هو واقف بين اليأس و الطمع، و الصبر و الجزع، كأنّ الوعد له صنع و الوعيد به وقع، بذل عرضه، و تمثّل غرضه، و بذل في اللّه المهجة و تنكّب إليه المحجّة، غير مرتغم بارتغام، يقطع علائق الاهتمام بغير من له قصد، و إليه وفد، و منه استرفد، فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة الّتي تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ.

فالتفت المنصور إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: يا أبا عبد اللّه لا نزال من بحرك نغترف، و إليك نزدلف، تبصّر من العمى، و تجلو بنورك الطخياء فنحن نقوم في سبحات قدسك، و طامي بحرك ...

الخبر «2».

و لعلّ

قوله عليه السّلام: و تمام بالغ

، إشارة إلى آيتي تمام النعمة و التبليغ، غير نازغ و لا زائغ كلاهما بالغين و الزاي المعجمتين- أي غير ناصب عداوة لأهل البيت، و لا مائل عنهم، و العرض بالمهملة المتاع، و بالمعجمة الهدف، أي بذل رأس ماله، و جعل نفسه هدفا لما يرمى إليه، و الارتغام اللصوق بالرغام و هو التراب.

__________________________________________________

(1) هو السيّد علي بن موسى بن جعفر الحسني الداودي المعروف بابن طاوس توفّى سنة (664) ه.

(2) مستدرك الوسائل: ج 4 ص 92.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 145

تأويل الصلاة بالولاية

روى الشيخ شرف الدين النجفي «رحمه اللّه» باسناده عن الشيخ أبي جعفر الطوسي «ره» مسندا إلى الفضل بن شاذان، عن داود بن كثير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أنتم الصلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ و أنتم الزكاة، و أنتم الحجّ؟ فقال: يا داود نحن الصلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و نحن الزكاة، و نحن الصيام و نحن الحج، و نحن الشهر الحرام، و نحن البلد الحرام، و نحن كعبة اللّه، و نحن قبلة اللّه، و نحن وجه اللّه، قال اللّه تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1» و نحن الآيات، و نحن البيّنات.

و عدوّنا في كتاب اللّه عزّ و جلّ، الفحشاء و المنكر و البغي، و الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام و الأوثان و الجبت و الطاغوت و الميتة و الدم و لحم الخنزير.

يا داود إنّ اللّه خلقنا فأكرم خلقنا و فضّلنا و جعلنا أمنائه و حفظته و خزّانه على ما في السّماوات و ما في الأرض و جعل لنا أضدادا و أعداء، فسمّانا في كتابه و كنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء و أحبّها إليه، و سمّى أضدادنا و أعدائنا في كتابه و كنّى عن أسمائهم، و ضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه و الى عباده المتّقين «2».

و فيه بالإسناد عنه عليه السّلام أنّه قال: نحن أصل كل خير، و من فروعنا كلّ برّ، و من البرّ التوحيد و الصلاة و الصيام، و كظم الغيظ، و العفو عن المسي ء، و رحمة الفقير، و تعاهد الجار، و الإقرار بالفضل لأهله، و عدوّنا أصل كلّ شرّ، و من فروعهم كلّ قبيح و فاحشة،

فمنهم الكذب، و النميمة، و البخل، و القطيعة، و أكل الربا، و أكل مال

__________________________________________________

(1) البقرة: 115.

(2) بحار الأنوار ج 23 ص 354.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 146

اليتيم بغير حقّه، و تعدّي الحدود الّتي أمر اللّه عزّ و جلّ، و ركوب الفواحش ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ* من الزنا و السرقة، و كلّ ما وافق ذلك من القبح، و كذب من قال: إنّه معنا و هو متعلّق بفرع غيرنا «1».

و في البصائر بالإسناد عن الصادق عليه السّلام فيما كتبه إلى المفضّل في خبر طويل، و فيه: ثمّ إنّي أخبرك أنّ الدّين و أصل الدين هو رجل، و ذلك الرّجل هو اليقين، و هو الإيمان، و هو إمام أمّته. أو أهل زمانه، فمن عرفه عرف اللّه و دينه، و من أنكره أنكر اللّه و دينه، و من جهله جهل اللّه و دينه، و المعرفة على ضربين: معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين اللّه، و يوصل بها الى معرفة اللّه، فهذه المعرفة الباطنة الثابتة، و معرفة في الظاهر، فأهل المعرفة في الظاهر الّذين علموا أمرنا بالحق على غير علم لا يلحقون بأهل المعرفة في الباطن على بصيرتهم، و لا يصلون بتلك المعرفة الى حقّ معرفة اللّه ... الى ان قال عليه السّلام: و أخبرك أنّي لو قلت: إنّ الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الحجّ، و العمرة، و المسجد الحرام، و البيت الحرام، و المشعر الحرام، و الطهور، و الاغتسال من الجنابة، و كل فريضة كان ذلك هو النبي الّذي جاء به من عند ربه لصدقت، لأنّ ذلك كلّه إنّما يعرف بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و

لولا معرفة ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإيمان و التسليم له ما عرف ذلك، فذلك من من اللّه تعالى على من يمنّ عليه ...

الخبر «2».

و في مشارق الأنوار، و غيره على ما رواه جملة من الأصحاب منهم الجليلان المجلسيّان طاب ثراهما في خبر معرفتهم بالنورانيّة، و فيه: يا سلمان، و يا جندب إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة اللّه، و معرفة اللّه معرفتي، و هو الدين الخالص بقول اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار: ج 24، ص 304.

(2) بصائر الدرجات: ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 147

سبحانه: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ «1».

الى قوله: وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ قال: و هي ولايتي، فمن والاني فقد أقام الصلاة، و هو صعب مستصعب ...

الخبر بطوله. و ستسمع ان شاء اللّه تمامه في تفسير قوله تعالى: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ «2» حيث فسّرهما فيه بمحمّد و علي صلّى اللّه عليهما و على آلهما.

و جملة الكلام في المقام أنّه قد تظافرت الأخبار بل تواترت على أنّه لا يقبل اللّه تعالى من شيئا من الطاعات و العبادات إلّا بولايتهم و محبتهم، و أنّها مما بني عليه الإسلام و الإيمان، بل هي أشدّها و أكدها.

ففي الكافي، و الأمالي، و المحاسن، و الخصال و غيرها عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة، و الزكاة، و الصوم، و الحجّ، و الولاية، و لم يناد بشي ء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع، و تركوا هذه «3»، يعني الولاية.

و في خبر آخر: أنّه تعالى رخّص في أربع و لم يرخّص في واحدة «4».

أقول: و الترخيص للضرورة و غيرها من الأعذار، و لا ضرورة في الولاية

الّتي هي من عمل القلب.

و في الكافي، و المحاسن، و تفسير العياشي عنه عليه السّلام: بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة و الزكاة و الصوم، و الحجّ، و الولاية، قال زرارة: فقلت: و أي شي ء من ذلك أفضل، قال عليه السّلام: الولاية أفضل لأنّها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل

__________________________________________________

(1) البيّنة: 5.

(2) البقرة: 45.

(3) بحار الأنوار ج 68 ص 329 من الكافي.

(4) الكافي ج 2 ص 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 148

عليهنّ ... إلى أن قال عليه السّلام: إنّ ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه، و باب الأشياء، و رضى الرّحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «1»، أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره، و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه، و لما كان من أهل الإيمان «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على توقّف صحّة الأعمال و قبولها على معرفتهم و ولايتهم و أنّهم الأعراف الذين لا يعرف اللّه و لا يعبد إلّا بسبيل معرفتهم، و أنّهم أبواب الإيمان و أمناء الرّحمن، و أنّ لهم المودّة الواجبة، و بهم تقبل الطاعة المفترضة، و أنّ من مات و لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهليّة، و أنّ من عرفهم فقد عرف اللّه، و من أنكرهم فقد أنكر اللّه.

و الّذي يستفاد ممّا أشرنا إليه و غيرها أنّ تسميتهم أو تسمية ولايتهم بالصلوة و غيرها من أسماء

العبادات و أفعال الخير يمكن أن يكون لوجوه:

أحدها: أنّ وجوداتهم و كينوناتهم في عالم التكوين هي الأصل و الأساس لساير الطاعات، لأنّها هي الحاصلة من هيأت أفعالهم و أقوالهم و أحوالهم، و لذا

قال في الخبر المتقدّم: نحن أصل كلّ خير، و من فروعنا كلّ برّ «3» الخبر.

و في أخبار خلق الطينة و مزج الطينتين، و رجوع كل عمل الى أهله، و تجسّم الأعمال، و تسمية الشيعة، و غيرها إشارة إلى ذلك أيضا، لدلالتها على أنّ اللّه تعالى

__________________________________________________

(1) النساء: 80.

(2) وسائل الشيعة ج 27 ص 66.

(3) الكافي ج 8 ص 242.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 149

خلق أنوارهم قبل خلق الأشياء كلّها، ثم خلق من أشعّة أنوارهم جميع الخيرات من الذوات و الصفات و الأخلاق و الأفعال الحسنة.

ثانيها: أنّه تعالى عبّر عنهم بهذه الأسماء الشريفة و الألقاب المنيفة، و عن أعدائهم بأضدادها تكنية عن أسمائهم، و حفظا لها عن تحريف المبطلين، و تأويل الجاهلين كما يومئ إليه الخبر الأوّل «1» و قد أشير إليه في العلوي المرويّ في الإحتجاج و غيره جوابا عن الزنديق الّذي سئله عن جملة من المتشابهات، حيث قال بعد تفسير جنب اللّه بأصفيائه و أوليائه ما

لفظه عليه السّلام: و إنّما جعل اللّه في كتابه هذه الرموز الّتي لا يعلمها غيره و غير أنبيائه و حججه في أرضه لعلمه بما يحدثه في كتابه المبطلين و تاويل الجاهلين.

ثالثها: أنّ الصلاة و غيرها من العبادات و الأفعال الحسنة لمّا كانت من شئون ولايتهم و لوازم معرفتهم و الإذعان بمراتبهم فلذا عبّر بها عن الولاية و الولي.

رابعها: أنّ هذه العبادات لمّا كانت مشروطة بالولاية بحيث لا يقبل شي ء منها بدونها كما أشير

اليه في خبر بناء الإسلام و غيره.

خامسها: أنّ هذه الفرائض لمّا علم وجوبها و حسنها و اشتمالها على مصالح الدارين و سعادة النشأتين بتعريفهم و بيانهم و تبليغهم ناسب أن تعبّر فيهم بها، كما يستفاد من خبر البصائر، و إن كان محتملا لبعض الوجوه المتقدّمة أيضا.

سادسها: أنّ هذه التعبيرات مبتنية على بعض القواعد الحسابيّة المصونة المكنونة المقررة في علم الجفر و غيره من العلوم المختصّة بهم و خواصّ شيعتهم، و لعلّ من جملة ذلك ملاحظة أعداد الحروف و قويها و نظائرها من الدوائر السبع أو السبعين و ملاحظة زبر الحروف و بيّناتها و استنطاق قواها، و غير ذلك ممّا لا يخفى

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 195.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 150

على أهله، بل لعلّه إليه الإشارة بقوله عليه السّلام في الخبر: تكنية عن العدد كما هو الموجود في تأويل الآيات للشيخ شرف الدين النجفي، و ان احتمل كونه بالواو، و لذا عدّاه بعن.

و بالجملة فقد ظهر من جميع ما مرّ أنه لا غضاضة في إطلاق تلك الأسماء عليهم و تأويلات الآيات المشتملة عليها بهم عليه السّلام كما دلّت عليه الأخبار المتقدّمة و غيرها ممّا لم نتعرّض لها بكثرتها.

و أمّا ما يستفاد منه المنع من ذلك

كالخبر المروي في رجال الكشي عن الصادق عليه السّلام أنّه كتب الى أبي الخطّاب: بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل، و أنّ الخمر رجل، و أنّ الصلاة رجل، و الصيام رجل، و أنّ الفواحش رجل، و ليس هو كما تقول، إنا أصل الحقّ و فروع الحقّ طاعة اللّه، و عدوّنا أصل الشرّ و فروعهم الفواحش، و كيف يطاع من لا يعرف، و كيف يعرف من لا

يطاع «1».

و فيه عنه عليه السّلام أنّه قيل له: روي أنّ الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجال، فقال: ما كان اللّه عزّ و جلّ ليخاطب خلقه بما لا يعلمون «2».

ففيه مع قصوره عن المعارضة لما سمعت أنّ الظانّ أبّا الخطّاب و أصحابه كانوا يؤوّلون تلك الآيات بالّرجال و يرفضون نفس العبارات و الأعمال و يزعمون أنّه يكفي في الإيمان مجرّد الولاية و البرائة كما يظهر ذلك من بعض الأخبار، و لذا

قال الصادق عليه السّلام لداود بن فرقد على ما رواه في البصائر: لا تقولوا لكلّ آية هذه رجل و هذه رجل، من القران حلال، و منه حرام، و منه نبأ ما قبلكم و حكم ما بينكم،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 299.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 151

و خبر ما بعدكم «1».

و المعنى على ما ذكره شيخنا المجلسي و غيره أي لا تقتصروا على هذا بأنّ تنفوا ظاهرها.

و أمّا ما ذكره السيّد الداماد في شرح الخبر الأوّل المروي في رجال الكشي من أنّ فيه وجهين:

أحدهما أن يكون الطاعة جمع طائع أو طيّع، كما أنّ السادة جمع سيّد، و القادة جمع قائد، و على هذا ففروع الحقّ الشيعة و معنى الكلام انّا أصل الحقّ و فروع الحقّ من شيعتنا إنّما هم المطيعون الطائعون المطيعون للّه عزّ و جلّ.

و الثاني أن تكون هي اسم الجنس فيعني بها جنس الطاعات و الحسنات، أو المصدر أي إطاعة اللّه، و التعبد له فيما أمر به من العبادات، و نهى عنه من المعاصي، و حينئذ يقدّر حذف المضاف الى الضمير في اسم انّ، و التقدير إنّ معرفة حقّنا و الدخول في

ولايتنا أصل الحق و أسّ الدين و فروع الحقّ و متمّمات الدين هي ضروب الطاعات و العبادات، و كذلك الفواحش.

إمّا بمعنى الطواغي جمع الفاحشة و الطاغية بالغاء للمبالغة لا بالتاء للتأنيث، فكلّ فاحش جاوز الحدّ في الفحش و السوء. و طاغ تعدّى الحد في الطغيان و العتوّ فهو فاحشة و طاغية من باب المبالغة، فالمعنى عدوّنا أصل الشرّ و أساس الظلم، و فروعهم الفواحش الطواغي من أصحاب الغواية و الضلالة.

و إمّا بمعنى الفاحشات من الآثام، السيّئات من المعاصي، يعني انّ الدخول في حزب عدوّنا و الانخراط في سلكهم أصل الشر و الضلال في الدين و فروع ذلك فواحش الأعمال و موبقات المعاصي.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 301.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 152

فلا يخفى ما فيه من البعد و التكلّف من وجوه عديدة سيّما بعد ما سمعت من المعاني المستفادة من الأخبار.

تفسير وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ

اشارة

الرزق في اللغة هو الحظّ و النصيب من الخير أو مطلقا، و منه قوله:

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1».

و في الصحاح إنّه ما ينتفع به و مثله في القاموس و غيره، و المصدر بالفتح، قيل: و يكسر أيضا، و خصّص عرفا بتخصيص الشي ء بالحيوان، أو بسوق اللّه الى الحيّ ما يتمكّن من الانتفاع به، لكن الأشهر تفسيره بالمختص و المسوق على أنّه بمعنى المرزوق، نعم خصّه بعضهم بالغذاء أو ما يؤكل، او يؤكل و يستعمل، أو ما يملك، أو ما يقع الانتفاع به.

و في المجمع إنّه العطاء الجاري، و هو نقيض الحرمان، لكنّه لا ينبغي التأمّل في شموله للغذاء و غيره كما يقال: رزقني اللّه ولدا و علما، و المأكول و المبذول لقوله تعالى: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ و للملوك و

غيره كما لو أبيح له الأكل من مال غيره، سواء قلنا بحصول الملك عند النفع او التلف أو لا كما هو الأظهر، و كالمصروف في غذاء البهائم فإنّه أرزاقهم.

و لا ينبغي التأمّل أيضا في اختصاص صفة الرازقيّة باللّه سبحانه، فإنّه تعالى هو الرازق، و لا ينبغي الإصغاء إلى ما يحكى عن بعض المعتزلة من التفصيل في

__________________________________________________

(1) الواقعة: 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 153

ذلك بأنّه إن جعل بكدّ الحيوان و تعبه فهو رازق و لنفسه حقيقة، و اللّه سبحانه غير رازق له، و إن حصل بدون كدّ و تعب فالرازق له هو اللّه سبحانه.

نعم قد يستعمل بمعنى الإطعام و التهليل، و منه قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ «1»، على أنّه قد نصّ في المجمع و غيره على أنّ الرازق هو خالق الرّزق.

الإنفاق لغة و تفسيرا

و الإنفاق إفعال من نفق البيع بفتح الفاء أي راج، أو من نفق الزاد كفرح و نصر بمعنى نفد و فني أو قلّ، و أصله بمعنى الخروج و الذهاب، بل قيل: إنّه الأصل في كلّ ما وافقه في الفاء و العين كنفد، و نفح بالمهملة و المعجمة فيهما، و نفر، و نفض، و نفى، و إن كان لا يخلو عن تكلّف في الكلّ أو البعض.

و الإنفاق يستعمل لازما بمعنى الافتقار، يقال: أنفق الرجل اي افتقر و ذهب ماله، و منه: «إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» «2»، و يستعمل متعديا بنفسه، و بالحروف بمعنى إخراج المال و بذله النفقة.

و هذه صفة ثالثة للمتقين على تقدير الصلة، و الواو تفيد الجمعيّة لاشتراط كلّ من هذه الأعمال على الآخر و احراز الجمع في معنى التقوى.

و حمل

الموصولة على الزكاة المفروضة كما عن بعضهم، أو نفقة الرجل على أهله نظرا إلى نزول الآية قبل وجوب الزكاة كما عن آخر، أو التطوع بالنفقة كما عن ثالث.

__________________________________________________

(1) النساء: 8.

(2) الإسراء: 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 154

تخصيص من غير تخصّص، و مجرّد اقترانه بالصلوة الّتي هي شقيقة الزكاة لا يصلح مخصّصا للموصولة بالزكوة، فضلا عن خصوص المفروضة منها.

و أمّا ما

في المعاني، و المجمع، و العيّاشي عن الصادق عليه السّلام من تفسيره بقوله:

«و ممّا علّمناهم يبثّون»

فهو تنبيه على الفرد الأخفى الّذي ينبغي أن يكون الاهتمام به أشدّ و أولى نظرا إلى أنّ الأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات للحيوان، و باطنة للقلوب و الأذهان كالمعارف و العلوم، و حقايق الإيمان.

فالأولى حملها على ما يشمل المال و الجاه و الخلق و قوى الأبدان، و تعليم العلوم و الهداية الى مراتب الإيمان، و لذا

قال الإمام عليه السّلام في تفسيره: يعني وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال، و القوى في الأبدان و الجاه و المقدار يُنْفِقُونَ، و يؤدّون من الأموال الزكاة و يجودون بالصدقات، و يحتملون الكلّ، و يؤدّون الحقوق اللازمات كالنفقة في الجهاد إذا لزم هو و إذا استحبّ، و كسائر النفقات الواجبات على الأهلين، و ذوي الأرحام القريبات و الآباء و الأمّهات، و كالنفقات المستحبّات على من لم يكن فرضا عليهم النفقة من سائر القرابات، و كالمعروف بالاسعاف و القرض، و الأخذ بيد الضعفاء، و يؤدّون من قوى الأبدان المعونات كالرجل يقود ضريرا، او ينجيه من مهلكة، أو يعين مسافرا، أو غير مسافر على حمل متاع على دابّة قد سقط عنها او كدفع عن مظلوم قصده ظالم بالضرب أو بالأذى، و يؤدّون الحقوق من الجاه

بأن يدفعوا به عن عرض من يظلم بالوقيعة فيه، أو يطلبوا حاجة بجاههم لمن قد عجز عنها بمقداره، فكلّ هذا إنفاق ممّا قد رزقه اللّه تعالى.

ثمّ روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبارا كثيرة في فصل الصلاة و الزكاة و اشتراط قبول كل منها بالآخر، و عقوبة تاركهما، و فضل الجهاد و الصدقة و اشتراط قبول الجميع بالولاية ... الى أن قال عليه السّلام: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ثمّ كلّ معروف بعد ذلك و ما وقيتم به أعراضكم و صنتموها من ألسنة كلاب الناس كالشعراء الواقعين في

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 155

الأعراض تكفّونهم فهو محسوب لكم في الصدقات.

و سئل امير المؤمنين عليه السّلام من النفقة في الجهاد إذا لزم او استحبّ؟ فقال عليه السّلام: أمّا إذا لزم الجهاد فهو بأن لا يكون بإزاء الكافرين من ينوب من ساير المسلمين فالنفقة هناك الدرهم بسبعمائة ألف، فأمّا المستحبّ الّذي هو قصد الرجل و قد ناب عنه من يسعه و استغنى عنه فالدرهم بسبعمائة حسنة كل حسنة خير من الدنيا و ما فيها مائة ألف مرّة، و أمّا القرض فقرض درهم كصدقة درهمين سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: هو الصدقة على الأغنياء «1».

و قال امير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من قاد ضريرا أربعين خطوة على أرض سهلة لا خوف عليه اعطي بكلّ خطوة قصرا في الجنّة مسيرة ألف سنة في ألف سنة لا يفي بقدر إبرة منه طلاع الأرض أي ملؤها ذهبا، فإن كان فيما قاده مهلكة

جوزه وجد ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة أوسع من الدنيا مائة مرّة و رجح بسيئاته كلّها و محقها و أنزله في أعالي الجنان و غرفها.

و ما من رجل رأى ملهوفا في طريق بمركوب له قد سقط و هو يستغيث و لا يغاث فأغاثه و حمله على مركوبه و سوّى له إلّا قال اللّه عزّ و جلّ: كددت نفسك و بذلت جهدك في إغاثة أخيك لأكدّنّ ملائكة هم اكثر عددا من خلائق الإنس كلّهم من أوّل الدهر إلى آخره، و أعظم قوّة، كلّ واحد منهم ممّن يسهل عليه حمل السماوات و الأرضين ليبنوا لك القصور و المساكن، و يرفعوا لك الدرجات فإذا أنت في جناني كأحد ملوكها الفاضلين، و من دفع عن مظلوم قصد بظلم ضررا في ماله أو بدنه خلق اللّه عزّ و جلّ من حروف أقواله و حركات أفعاله و سكونها أملاكا بعدد كلّ حرف منها مائة ألف ملك كلّ ملك منهم يقصدون الشياطين الّذين يأتون لإغوائه فيثخنونهم ضربا

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام العسكري ص 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 156

بالأحجار الدافعة «1»، و أوجب اللّه عزّ و جلّ بكلّ ذرّة ضرر دفع عنه، و بأقلّ قليل جزء ألم الضرر الّذي كفّ عنه مائة ألف من خدّام الجنان و مثلهم من الحور الحسان يدلّونه هناك و يشرّفونه، و يقولون: هذا بدفعك عن فلان ضررا في ماله أو بدنه.

و من حضر مجلسا قد حضره كلب يفترس عرض أخيه أو إخوانه و اتّسع جاهه فاستخفّ به، و ردّ عليه، و ذبّ عن عرض أخيه الغائب قيّض اللّه الملائكة المجتمعين عند البيت المعمور لحجّهم، و هم شطر ملائكة السماوات و ملائكة الكرسي و العرش، و هم

شطر ملائكة الحجب، فأحسن كلّ واحد بين يدي اللّه محضره، يمدحونه و يقرّبونه و يقرّظونه و يسئلون اللّه تعالى له الرفعة و الجلالة، فيقول اللّه تعالى: أمّا أنا فقد أوجبت له بعدد كل واحد من مادحيكم مثل عدد جميعكم من الدرجات و قصور، و جنان، و بساتين و أشجار ممّا شئت ممّا لا يحيط به المخلوقون «2».

ثمّ ساق الكلام في أخبار كثيرة في إنفاق أمير المؤمنين عليه السّلام بماله و بدنه و جاهه في سبيل اللّه ابتغاء مرضاته.

اختصاص الرزق بالحلال

: بقي الكلام في امور: أحدها: أنّه قد طال التشاجر بين المتكلّمين في اختصاص الرّزق بالحلال، أو شموله للحرام أيضا سواء كانت الحرمة عينيّة كالخمر و الخنزير، أو لانتفاء الملك كالغصب، او لشي ء من العوارض كالمريض الّذي يجب عليه الحمية إذا أكل ما يضرّه، فالعدليّة على الأوّل، و الأشاعرة على الثاني، و من هنا

__________________________________________________

(1) في المصدر: فيشجونهم ضربا بالأحجار الدامغة.

(2) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 29- 30 و عنه البحار ج 75 ص 15 و ص 258.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 157

وقع الاختلاف بين الفريقين في تعريف الرزق.

قال المحقّق الطوسي في التجريد: الرزق ما صحّ الانتفاع به و لم يكن لأحد منعه منه.

حقيقة الرزق

و قال العلّامة الحلّي أعلى اللّه مقامه في نهج المسترشدين: الرزق عند العدليّة ما صحّ الانتفاع به و لم يكن لأحد منع المنتفع به منه لأنّه تعالى أمر بالإنفاق و لا يأمر بالحرام، و عند الأشعريّة الرزق ما أكل، فالحرام عندهم رزق.

أقول: و التقييد بقولهم: و لم يكن لأحد منعه لإخراج الطعام المباح للضيف، فإنّه يصحّ الانتفاع به لكنّه لا يسمّى رزقا له حتّى يستهلك، إذ قبله يجوز للمضيف منعه من الأكل، و كذلك البهيمة قبل الأكل لا يسمّى طعامها رزقا لها، إذ لمالكها منعها منه، و الحرام أيضا لا يسمّى رزقا إذ لا يصحّ الانتفاع به شرعا مع أنّ لمالكه منعه منه بل اللّه سبحانه قد منعه منه.

و استدلّوا بهذه الآية و نحوها ممّا وقع فيه المدح على انفاق الرزق او الأمر به الدال على استحقاق الثواب بامتثاله نظرا الى أنّه لو كان الحرام رزقا وجب أن يتحقّق المدح و الامتثال بإنفاقه.

و بقوله تعالى: قُلْ

أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا «1» الدالّ على حلّية الرزق و أنّ تحريمه افتراء على اللّه سبحانه.

و

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما «2».

__________________________________________________

(1) سورة يونس: 59.

(2) الكافي ج 5 ص 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 158

و بأنّه سبحانه هو الرازق و الرزّاق، و قاسم الأرزاق و لا يجعل الشي ء رزقا لمن حرّمه عليه لقبحه و مخالفته للتكليف.

و احتجت الأشاعرة لما ذهبوا إليه بأنّ الرزق في اللّغة الحظّ و النصيب، فمن انتفع بالحرام صار ذلك الحرام حظّا و نصيبا له فوجب أن يكون رزقا له.

و بأنّه تعالى قال: ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «1»، و قد يعيش الرّجل طول عمره لا يأكل إلّا من السرقة و الخيانة و الرشوة و الرباء و غيرها من أنواع الحرام، فوجب أن يقال: إنّه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.

و بما

رووه عن صفوان بن اميّة، قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ جاء عمر بن قرّة، فقال: يا رسول اللّه إنّ اللّه كتب عليّ الشقوة فلا أراني ارزق إلّا من دفّي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة أي عدّو اللّه لقد رزقك اللّه طيّبا فاخترت ما حرّم اللّه عليك من رزقه مكان ما أحل اللّه لك من حلاله، أما إنّك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضربا وجيعا «2».

و من طرقنا عن الصادق عليه السّلام عن

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انّ الروح الأمين جبرئيل أخبرني عن ربّي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللّه و أجملوا في الطلب، و اعلموا أنّ الّرزق رزقان: فرزق تطلبونه و رزق يطلبكم، فاطلبوا أرزاقكم من حلال فإنّكم إن طلبتموها من وجوهها أكلتموها حلالا، و إن طلبتموها من غير وجوهها أكلتموها حراما و هي أرزاقكم لا بدّ لكم من أكلها «3».

__________________________________________________

(1) سورة هود: 6.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 150.

(3) بحار الأنوار ج 100 ص 28.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 159

و التحقيق أن يقال: إنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ هذا النزاع بين الفريقين ليس في مجرّد وضع اللفظ و محض اللغة، كيف و المرجع فيها الى أربابها، مع أنّ الخطب في مثله سهل.

و لا في أنّ كثيرا من النّاس بل أكثرهم ينتفعون بالحرام، بل ربما يعينسون به طول أعمارهم.

و لا في أنّ صفة الحرمة الشرعية ثابتة لكلّ من الأخذ، و الأكل، و القنية إذا لم يكن على الوجه المباح المأذون فيه في الشرع.

إنّما الكلام بين الفريقين في أنّ اللّه تعالى هل جعل أرزاق العباد في الأشياء الطيّبة المباحة و إن اختاروا بسوء اختيارهم غيرها، بل و عاشوا بالأشياء الخبيثة المحرّمة طول عمرهم، أو أنّه جعل أرزاقهم في كلّ ما يعيشون به و ينتفعون منه، فالعدليّة لمّا ذهبوا الى التحسين و التقبيح العقليين و استحالوا القبح على اللّه سبحانه اختاروا الأوّل، و الأشاعرة لمّا لم يقولوا بالعدل ذهبوا الى الثاني.

و من هنا يظهر أنّ الأولى تفريع هذه المسألة على ذلك الأصل، و كأنّهم إنّما استدلّوا ببعض هذه الوجوه في المقام تأييدا و تقريبا للأصل.

أقسام الرزق

و الحقّ

أنّ الرزق ينقسم إلى أقسام ثلاثة: أصلي، و بدلي، و فضليّ.

فالأصليّ ما قدرة اللّه تعالى لعبده إذا استقام على مقتضى العبوديّة، و طلب رزقه من الوجه الّذي شرع له.

و البدلي ما طلبه العبد من غير وجهه و أخذه من غير حلّه، و إليهما الإشارة ما

رواه في الكافي و التهذيب عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 160

حجّة الوداع:

ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتقوا اللّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنّكم استبطاء شي ء من الرزق أن تطلبوه بمعصية اللّه تعالى، فإنّ اللّه تبارك و تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى و صبر أتاه اللّه برزقه من حلّه، و من هتك حجاب الستر و عجّل فأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة «1».

و الفضلي ما كان فاضلا له من قدر الحاجة و الضرورة الّتي يشترك فيها جميع الخلق على أحد الوجهين المتقدّمين، و إليه الإشارة ما

في قرب الإسناد عن جعفر ابن محمد، عن أبيه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر الى كلّ نفس بما قدّر لها و لكن للّه فضول ف سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «2».

و عن ابي جعفر عليه السّلام: ليس من نفس إلّا و قد فرض اللّه لها رزقها حلالا يأتيها في عافية و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإنّ تناولت شيئا من الحرام قاصّها من الحلال

الّذي فرض لها، و عند اللّه سواهما فضل كثير، و هو قوله عزّ و جلّ: وَ سْئَلُوا اللَّهَ ... «3».

و في المقنعة عن الصادق عليه السّلام: الرزق مقسوم على ضربين: أحدهما واصل الى صاحبه و إن لم يطلبه، و الآخر معلّق بطلبه، و الّذي قسم لأحد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له، و الّذي قسم له بالسعي فينبغي أن يلتمسه من وجوهه، و هو ما أحلّه

__________________________________________________

(1) الكافي ج 5 ص 80.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 145.

(3) النساء: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 161

اللّه له دون غيره، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه رزقه و حوسب به «1».

الى غير ذلك من الأخبار.

الانفاق ببعض الرزق

الأمر الثاني: أنّ في إدخال من التبعيضيّة على الموصولة دلالة على أنّ الإنفاق ممّا رزقه اللّه تعالى من مال، أو حال، أو جاه، أو قوة بدنيّة أو غيرها ينبغي أن يكون بعضها لتحرّي الأعدل الأوسط بين طرفي الإفراط و التفريط كما مدحهم اللّه تعالى بقوله: وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «2»،

و في أخبار كثيرة أنّه تعالى عدّ من الأصناف الّذين يدعون اللّه فلا يستجاب لهم من رزقه اللّه مالا كثيرا فأنفقه، ثم أقبل يدعو يا ربّ ارزقني فيقول اللّه عزّ و جلّ: «ألم أرزقك رزقا واسعا فهلّا اقتصدت فيه كما أمرتك» «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الّتي تسمعها ان شاء اللّه تعالى في تفسير الآية المتقدّمة و في تفسير قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «4».

و ورد في أخبار كثيرة عن مولانا الكاظم

و الرّضا و غيرهما عليهم السّلام: لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضرّه عليك أعظم من منفعته لهم «5».

__________________________________________________

(1) الفصول المهمة في أصول الائمة ج 1 ص 273.

(2) الفرقان: 67.

(3) الكافي ج 5 ص 67.

(4) الإسراء: 29.

(5) الكافي ج 4 ص 33 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 162

الأمر الثالث: أنّه قد مرّ في

خبر العيّاشي و غيره عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية بقوله: و ممّا علّمناهم يبثّون «1».

و في بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه السّلام قال: ممّا علّمناهم من القرآن يبثّون، و في بعض النسخ: يتلون «2».

و في مشارق الأنوار مرسلا قال عليه السّلام: ينفقون معرفة آل محمد عليهم السّلام على فقرائهم المؤمنين.

و لا خفاء فيه بناء على ما سمعت من شمول الموصولة على ما هو قضيّة عمومها للنعم الروحانية الّتي بها الحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، و من البيّن أنّ العلوم الحقيقيّة و المعارف الإيمانيّة من جملة هذه النعم، بل هي أصلها و أساسها، نعم في المقام إشارة اخرى في التعبير بالضمير المتكلم مع الغير، و هو مع دلالته على التعظيم و التفخيم يؤيّد ما استفاضت به الأخبار من أنّهم القوّامون بأمر اللّه تعالى العاملون بإرادته، و أنّهم الحجّاب و الأبواب، و محالّ مشيّته، و ألسن إرادته.

فالفيوض الصادرة عنهم في التكوين و التشريع لمّا كانت بأمره و إذنه و إرادته و مشيّته فهو منه سبحانه، و هم عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، فافهم المراد، و لا تظننّ الغلوّ و الإلحاد، و لا الحلول و الاتّحاد و اللّه الهادي إلى سبيل الرشاد.

الأمر الرابع: أنّ حذف متعلّق الفعل دليل على شموله

للإنفاق على نفسه و غيره ممّن تجب نفقته و على سائر الأقارب و الأجانب إذا كان الإنفاق لاستحقاق المنفق عليه، أو لكفّ شرّه و دفع ضرره عن عرضه و ماله أو حريمه أو عن غيره من

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 64 ص 18.

(2) تفسير القمي ج 1 ص 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 163

إخوانه المؤمنين، أو غير ذلك من غرض دينيّ أو دنيوي مندوب إليه على ما يساعده الإطلاق، و يعضده ما مرّ عن تفسير مولانا العسكري عليه السّلام.

و من هنا يظهر أنّه ربما يصير الرزق الجسماني روحانيّا حيث إنّه يكتب في بذله المثوبة الاخرويّة، و أنّه يمكن أن يكون شي ء واحد رزقا لأشخاص متعدّدة من جهات شتّى بملاحظة الاعتبارات.

[سورة البقرة(2): آية 4]

اشارة

تفسير الآية (4) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عطف على «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» فيجري فيه الوجوه الثلاثة المتقدمة موصولا، و محلّه الرّفع مفصولا، أو عطف على المتّقين، و المعطوف على الوجهين إمّا نفس المعطوف عليه أو بعضه، أو غيره.

و الأرجح أنّ الحكم معلّق على المتقين، و أنّ هذه كلّها أوصاف لهم، و إن كان بعضها يدخل في بعض دخول الخاصّ تحت العامّ، فإنّ الايمان بما انزل إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما أنزل من قبله تحت الإيمان بالغيب، بل لعلّك تراهما متكافئين من حيث التصادق و الصدق على الأفراد بعد ملاحظة العموم حكمة و وضعا، و إن كان الثاني بعد الأول لتوقّفه على ركني الإسلام، فالنكتة في التكرير و التفصيل تلقين الدليل، و إهداء السبيل إلى الايمان الاجمالي حيث يتعذّر التفصيل.

و احتمال أنّ الجملة الأولى من صفات المتّقين الذين آمنوا من شرك

أو كفر، و الثانية لأهل الكتاب الذين انتقلوا من ايمان الى إيمان، أو أنّ الاولى في الذين لم يشركوا باللّه طرفة عين، و الثانية فيمن تجدّد ايمانهم.

مدفوع بأنّه تخصيص في كلّ من الجملتين على كلّ من الوجهين من غير

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 164

مخصّص.

و توهّم أنّ إيمان غير أهل الكتاب بالمنزل من قبل في ضمن ايمانهم بما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخلافهم، و إفراد هما بالذكر في الآية دليل على انفرادهم به.

ضعيف بأنّ مجرّد الإفراد لا يدلّ على الانفراد، و لذا أمرنا بالإيمان باللّه وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ «1».

على انّ من أهل الكتاب من لم يؤمن بالجميع قبل إيمانه بنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاليهود لم تؤمن بعيسى عليه السّلام.

و ما ذكرناه هو الأرجح على فرض استيناف الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أيضا، و الأصل في العطف و ان كان هو المغايرة فيما توسط العاطف بين الذاتين أو ما يكنّى به من الّذات، لكنّه كثيرا ما يتوسّط بين الوصفين، كقوله:

إلى الملك القرم و ابن الهمام و ليث الكتيبة في المزدحم و قد يكرّر الموصوف الواحد للتنبيه على خصوص الأوصاف، و قد مرّ في المقدّمات معنى الإنزال و التنزيل و الفرق بينهما، و الإشارة الى قسمي النزول و كيفيّته.

و أصل «إِلَيْكَ» إلى الجارّة وصلت بالضمير لكنّ الألف فيها أبدلت ياء، كما في عليك، و لديك، للفصل بين الألف في الإسم المتمكن و بينها في آخر غير المتمكّن الّذي تلزمها الاضافة أو ما في معناها، بل قيل: شبّهت بها كلا إذا أضيفت إلى المضمر، و هو كما ترى، و

أمّا الكلم الثلاث فقلب الألف فيها ياء مع المضمر المخاطب و غيره هو الغالب.

و عن سيبويه أنّه حكى عن قوم من العرب: (لداك و إلاك و علاك) قال قائلهم:

طاروا علاهنّ فطر علاها، لكنّه شاذّ، و إن ضعف التعليل للانقلاب بما مرّ، و بما قيل

__________________________________________________

(1) اشارة الى آية (136) من سورة البقرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 165

من تشبّه الألف فيها بألف (رمى) إذا اتّصل بالمضمر المرفوع نحو رميت دون المنصوب نحو رماك، نظرا إلى أنّ الجارّ مع الضمير المجرور كالكلمة الواحدة، كالرافع مع الضمير المرفوع، بخلاف الناصب مع المنصوب.

إذ فيه ما لا يخفى، بل العمدة فيه هو السماع.

و إيثار الموصولة على غيرها للتكريم و لتفخيم المنزل و إجمال المفصّل.

و إيثار «يُؤْمِنُونَ» على آمنوا للتنبيه على أنّ إيمانهم لم يكمل بعد عرضا لعدم نزول كثير من الأحكام و الشرائع الّتي أجلّها نصب وصيّه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام الّذي به يكمل الدين و يتمّ النعمة، و طولا لاختلاف مراتب الإيمان و تدرّجه كمالا و شرفا الى أن ينتهي الى أعلى مراتب اليقين.

و قضيّة عموم الموصولة شمولها لجميع ما أنزل إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من القرآن و الشرائع و الأحكام، و التعبير فيه بلفظ الماضي مع ترقّب البعض لنزول الكلّ عليه في عالم آخر سابق على هذا العالم، أو لتغليب المتحقّق على المترقّب، او لتنزيل المتوقع منزلة الواقع على ما هو مقتضى الإيمان كما في قوله:

إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «1» فإنّ الجنّ لم يسمعوا جميعه بل لم ينزل حينئذ كلّه.

و بناء الفعل للمفعول لتعظيم الفاعل، و تكرير الموصولة لاختلاف المنزل إن كان المراد الفروع، و زيادة الاهتمام بالإيمان

به إن أريد الأصول، فإنّ الشرائع كلّها متفقة على الأمر و الإيصاء بها.

و من هنا يظهر أنّ للإيمان بما في الكتب السابقة معنيين: الإيمان بكونه حقّا منزلا من عند اللّه سبحانه، و الإيمان بمقتضياته و ما فيه يكمل بالعمل، لكنّه في المقام

__________________________________________________

(1) الأحقاف: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 166

بمعنى التصديق سيّما مع ما يدّعى من الإجماع على كونه بمعناه إذا عدّي بالباء فيشمل الأمرين وضعا و اقتضاء، و إن كان أهمّها التصديق بما تكرّر الإيصاء به في الكتب السماوية من العقائد الايمانيّة الّتي من جملتها ولاية مولانا أمير المؤمنين و ذرّيته الطيّبين عليه السّلام على ما وقع فيها الإشارة إليها.

بل

قد ورد أن اللّه تعالى قد أخذ ميثاق الأنبياء و أوصيائهم و أممهم عليها، و أنّ من أنكر فضل واحد منهم فضلا عن الجميع فكأنّما أنكر فضل جميع الأنبياء و المرسلين و كذّب بما في الكتب المنزلة على الأنبياء.

و فيه: قال الإمام: ثمّ وصف بعد هؤلاء الذين يُقِيمُونَ الصَّلاةَ فقال: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على الأنبياء الماضين، كالتوراة، و الإنجيل، و الزبور، و صحف ابراهيم، و ساير كتب اللّه تعالى المنزل على أنبيائه بأنّها حقّ و صدق من عند ربّ العالمين العزيز الصادق الحكيم، وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، بالدّار الآخرة بعد هذه الدنيا يوقنون، لا يشكّون فيها أنّها الدار الّتي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوه، و عقاب الأعمال السيّئة بمثل ما كسبوا.

ثم قال عليه السّلام: قال الحسن بن علي عليه السّلام: من دفع فضل مولانا امير المؤمنين عليه السّلام على جميع من بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كذّب

بالتوراة، و الإنجيل، و الزبور، و صحف ابراهيم، و ساير كتب اللّه المنزلة، فإنّه ما نزل شي ء منها إلّا و أهمّ ما فيه بعد الأمر بتوحيد اللّه تعالى و الإقرار بالنبوّة الاعتراف بولاية عليّ عليه السّلام و الطّيّبين من ولده «1».

قال: و قال الحسين بن علي عليه السّلام: إنّ دفع الزاهد العابد لفضل عليّ على الخلق كلّهم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ليصير كشعلة نار في يوم ريح عاصف، و يصير ساير أعمال الدّافع لفضل عليّ عليه السّلام على كلّ الخلفاء و إن امتلأت منه الصحاري اشتعلت فيها تلك

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 68 ص 285، تفسير الامام العسكري: ص 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 167

النار و تغشيها تلك الريح حتى تأتي عليها كلّها فلا تبقي لها باقية.

و لقد حضر رجل عند عليّ بن الحسين عليه السّلام فقال له: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل اللّه تعالى على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما أنزل من قبله، و يؤمن بالآخرة و يصلّي، و يزكّي، و يصل الرّحم، و يعمل الصّالحات، لكنّه مع ذلك يقول: لا أدري الحقّ لعليّ أو لفلان؟

فقال له عليّ بن الحسين عليه السّلام: ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلّها إلّا أنّه يقول: لا أدري أنّ النبيّ محمّد أم مسيلمة، هل ينتفع بشي ء من هذه الأفعال؟

فقال: لا، قال عليه السّلام: و كذلك صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب من لا يدري أ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النبي أم مسيلمة الكذّاب، و كذلك كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب أو منتفعا بها من لا يدري أ

عليّ محقّ أم فلان! «1».

تفسير وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

اشارة

الآخرة مؤنّث الآخر بكسر الخاء فاعل من أخر بمعنى تأخّر و إن لم يستعمل، و هي صفة الدّار لقوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ «2» أو النشأة، لقوله تعالى ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ «3» صفة غالبة، كالدنيا، سمّيت لتأخّرها، كما سمّيت الدنيا لدنوّها أو دنائتها.

__________________________________________________

(1) تفسير الامام العسكري: ص 89، بحار الأنوار ج 68 ص 286.

(2) القصص: 83.

(3) العنكبوت: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 168

في العلل عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في جواب اليهودي: إنّما سمّيت الدنيا دنيا لأنّها أدنى من كل شي ء، و سمّيت الآخرة آخرة لأنّ فيها الجزاء و الثواب «1».

و لعلّه إشارة الى تأخّر الجزاء عن العمل و ترتّبها عليه، كما أنّه أخذ الدنيا من الدنوّ.

و فيه أنّ زيد بن سلام سأل النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدنيا: لم سمّيت الدنيا؟

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأنّ الدنيا دنيّة خلقت من دون الآخرة لم يفق أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة، قال: فأخبرني لم سميت الآخرة آخرة؟ قال: لأنّها متأخّرة تجي ء من بعد الدّنيا، لا توصف سنوها، و لا تحصى أيّامها و لا يموت سكّانها «2».

و يحتمل أن يراد بالدون الخسّة و القلّة أيضا و لذا قيل: إنّ الأدنى و الدنيا يصرفان على وجوه فتارة يعبر بالأدنى عن الأقلّ فيقابل بالأكثر و الأكبر، و تارة اخرى يعبّر به عن الأرذل فيقابل بالأعلى و الأفضل، و ثالثة يعبر به عن الأقرب فيقابل بالأقصى و الأبعد.

ثمّ إنّ الآخرة تطلق على تمام النشأة، و على بعض ما فيها.

معنى اليقين لغة و اصطلاحا

و «اليقين» مصدر ثالث من يقنت الأمر من باب فرح يقنا بسكون القاف و فتحها، و

يقينا، و هو العلم و إزاحة الشكّ بعد الاستدلال و النظر، و لذا لا يوصف به علم البارئ تعالى، و لا العلوم الضروريّة.

__________________________________________________

(1) علل الشرائع ج 1 ص 2، بحار الأنوار ج 10 ص 13.

(2) علل الشرائع ج 2 ص 470، بحار الأنوار ج 9 ص 305.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 169

و قيل: إنّه العلم بالحقّ مع العلم بأنّه لا يكون غيره، و عليه ينزّل ما يحكى عن المحقّق الطوسي من أنّه مركّب من علمين، و هو كما ترى.

و يطلق بمعنى الصدق، و مطلق العلم، و خصوص ما يوجب سكون النفس من القلق و الاضطراب، و يظهر آثاره العمليّة على الجوارح و الأعضاء.

و معناه في المقام: يعلمون علما يزول معه الشكّ بالدار الآخرة، و ما فيها من الوعد، و الوعيد.

ففيه مع إسناد الفعل إلى «هم» تعريض على أهل الكتاب الذين قالوا: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً»، و أنّ الجنّة لن يدخلها إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ، إلى غير ذلك ممّا اعتقدوا فيه الخلاف، او وقع بينهم فيه الاختلاف.

و لا يخفى أنّ اليقين و إن كان مرغوبا إليه في جميع موارد الإيمان إلّا أنّ تخصيص الآخرة بالذكر في المقام لكونه أساسا لغيره من شرايع الإسلام، فإنّ الإيمان اليقيني بالآخرة و أهوالها يؤدّي الى الّزهد الحقيقي في الدنيا، و لذا ورد الحثّ على الإكثار من ذكر الموت و غيره من شدائدها.

ففي الكافي و تفسير القمي و غيرهما عن مولينا الباقر عليه السّلام يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت فإنّه لم يكثر ذكره إنسان إلّا زهد في الدنيا «1».

و عنه، عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الموت،

و لا بدّ من الموت ... إلى أن قال: إذا استحقّت ولاية اللّه و السعادة جاء الأجل بين العينين و ذهب الأمل وراء الظهر، و إذا استحقّت ولاية الشيطان و الشقاوة جاء الأمل بين العينين و ذهب الأجل وراء الظهر «2».

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 131 ح 13، و ج 3 ص 255 ح 18.

(2) أمالي الطوسي ص 258 ح 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 170

و في المجالس عن أبي بصير قال: قال لي الصادق عليه السّلام: أما تحزن، أما تهتمّ، أما تألم؟ قلت: بلى و اللّه، قال عليه السّلام: فإذا كان ذلك منك فاذكر الموت و وحدتك في قبرك، و سيلان عينيك على خدّيك، و تقطّع أوصالك، و أكل الدود من لحمك:

و انقطاعك عن الدنيا، فإنّ ذلك يحثّك على العمل، و يردعك عن كثير من الحرص على الدنيا «1».

ثمّ إنّه قد تظافرت الأخبار بل تواترت على الحثّ و الترغيب على اليقين

ففي الكافي عن جابر الجعفي، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا جعف إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، و إنّ اليقين أفضل من الإيمان، و ما من شي ء أعزّ من اليقين «2».

مقام اليقين

و عن الوشّاء، عن أبي الحسن عليه السّلام، قال: سمعته يقول: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، و التقوى فوق الإيمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و ما قسّم في الناس شي ء أقلّ من اليقين «3».

و في خبر أبي بصير عنه عليه السّلام مثله، و زاد: فما أوتي الناس أقلّ من اليقين، و إنّما تمسّكتم بأدنى الإسلام، فإيّاكم أن ينفلت من أيديكم «4».

و مثله في خبر آخر: قال: قلت: فأيّ شي ء اليقين؟ قال: التوكّل على اللّه

__________________________________________________

(1) أمالي الطوسي ص 426 ح 561.

(2) الكافي ج 2 ص 51 ح 1.

(3) الكافي ج 2 ص 51 ح 2.

(4) الكافي ج 2 ص 52 ح 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 171

و التسليم للّه، و الرضاء بقضاء اللّه، و التفويض الى اللّه تعالى «1».

و عن إسحاق بن عمّار، عنه عليه السّلام قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى بالناس الصبح، فنظر الى شابّ في المسجد، و هو يخفق و يهوي برأسه، مصفرّا لونه، قد نحف جسمه، و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقنا، فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله، و قال:

إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: يقيني يا رسول اللّه هو الّذي أحزنني و أسهر ليلي، و أظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا و ما فيها حتّى كأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ، و كأنّي أنظر إلى أهل النار و هم فيها معذّبون مصطرخون، و كأنّي الآن أسمع زفير النار يدوّي في مسامعي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان، ثمّ قال له:

الزم ما أنت عليه، فقال الشابّ: ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلم يك أن خرج في بعض غزوات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فاستشهد بعد تسعة نفر، و كان هو

العاشر «2».

و في أخبار أخر مثله، و فيها أنّ الشابّ كان حارثة بن مالك بن نعمان الأنصاري «3».

و عنه عليه السّلام: انّ العمل الدائم على اليقين أفضل عند اللّه تعالى من العمل الكثير على غير يقين.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 52 ح 5.

(2) الكافي ج 2 ص 53 ح 2.

(3) الكافي ج 2 ص 54 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 172

لم يكن ليخطئه و أنّ ما أخطئه لم يكن ليصيبه، و انّ الضارّ النافع هو اللّه عزّ و جل «1».

و عن علي بن أسباط قال: سمعت أبا الحسن الّرضا عليه السّلام يقول: كان في الكنز الّذي قال اللّه عزّ و جلّ: وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما «2»:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، و عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن رأى الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يركن إليها «3».

و عن الصادق عليه السّلام أنّ ذلك الكنز لم يكن ذهبا و لا فضّة، و إنّما كان أربع كلمات:

لا إله إلا أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنة، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلّا اللّه «4».

و عن علي بن الحسين عليه السّلام: الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا «5».

و في وصيّة لقمان لابنه: يا بنيّ لا يستطاع العمل إلّا باليقين، و لا يعمل المرء إلّا بقدر يقينه، و لا يقصّر عامل حتى ينقص يقينه

«6».

و في خبر سؤال شمعون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّه سئله عن علامة المؤمن، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ علامة المؤمن ستّة: أيقن أنّ اللّه حقّ فآمن به، و أيقن بأنّ الموت حقّ

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 58 ح 7.

(2) الكهف: 82.

(3) الكافي ج 2 ص 59 ح 9.

(4) الكافي ج 2 ص 58 ح 6.

(5) الدعوات للراوندي: ص 164، الخصال ص 437 ح 26.

(6) الدر المنثور للسيوطي: ج 5 ص 162.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 173

فحذّره، و أيقن بأنّ البعث حقّ فخاف الفضيحة، و أيقن بأنّ الجنّة حقّ فاشتاق إليها، و أيقن بأنّ النّار حقّ فظهر سعيه للنّجاة منها، و أيقن بأنّ الحساب حقّ فحاسب نفسه «1».

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: ما بال أصحاب عيسى على نبيّنا و آله و عليه السّلام كانوا يمشون على الماء؟ فقال عليه السّلام: إنّهم لو زادوا يقينا لمشوا على الهواء «2».

و في النبويّ: من أقلّ ما أوتيتم اليقين و عزيمة الصبر، و من أوتي حظّه منهما لم يبال.

و سئل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن رجل حسن اليقين كثير الذنوب، و رجل مجتهد في العبادة قليل اليقين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما آدميّ إلا و له ذنوب و لكن من كان من غريزته العقل و سجيّته اليقين لم تضرّه الذنوب، لأنّه كلّما أذنب ذنبا تاب فاستغفر و ندم فتكفّر ذنوبه، و يبقى له فضل يدخل به الجنّة

، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اليقين الإيمان كلّه «3».

و روي أنّ

أمير المؤمنين عليه السّلام جلس إلى حائط مائل يقضي بين النّاس، فقال بعضهم: لا تقعد تحت هذا الحائط فإنّه معور فقال عليه السّلام: حرس أمره أجله، فلمّا قام سقط الحائط، قال: و كان أمير المؤمنين عليه السّلام ممّا يفعل هذا و أشباهه، و هذا من اليقين «4».

إيقاظ: لعلّك تظنّ أنّ المراد باليقين ما توهّمه كثير من العوامّ من أنّه التصديق الجزميّ بالشي ء سواء كان مستندا الى الإدراك الحسّي أو البرهان العقلي حتّى أنّهم إذا سمعوا فبفضل اليقين. و أنّه أفضل من الإيمان و التقوى، و انّه ما عبد اللّه بشي ء

__________________________________________________

(1) تحف العقول: ص 20.

(2) الكافي ج 5 ص 71 ح 3.

(3) راجع شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 20 ص 40، ينابيع المودة ج 2 ص 88 ح 179.

(4) الكافي ج 2 ص 58 ح 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 174

أفضل منه، و أنّ من نجى فبفضل اليقين، إلى غير ذلك ربّما غرّتهم أنفسهم بنيل تلك المرتبة، حيث إنّهم يجدون من أنفسهم القطع بالتوحيد و الموت و المعاد الى غير ذلك من العقائد و الحقائق الّتي ساقهم إليها الدليل و ان لم يكن لهم الى سكون القلب سبيل، و لو فهموا معنى اليقين لعلموا أنّهم ما تيقّنوا فإنّ المراد باليقين عند أهل الدين، و في آثار المعصومين عليه السّلام هو استيلاء التصديق بالشي ء و غلبته على القلب بحيث لم يبق فيه متسع لغيره، و صار هو الحاكم المتصرّف في نفسه طوعا و اختيارا، بحيث لا يكاد يميل قلبه الى غيره رغبا أو رهبا، و اليقين بهذا المعنى كثيرا ما يحصل للعوامّ في الأمور الحسيّة المتعلّقة بحياتهم الدنيوية في أبدانهم

و أموالهم و أعراضهم، و غيرها من أغراضهم، فإنّ من رأى السمّ و علم أنّه سمّ مهلك بمجرّد التناول يحصل له اليقين بضرره فلا يتناول منه شيئا قطّ، لأنّه يرى هلاكه في شربه و استولى ذلك على قلبه بحيث لم يبق فيه متّسع لغيره، فصار هو الحاكم عليه.

و بالجملة عقول الناس مفطورة على اليقين بهذا المعنى في امور معاشهم، بل البهائم أيضا مجبولة عليه، فإنّ البهيمة إذا رأت نارا قد أضرمت، أو قبرا قد حفرت فلا تدخلها باختيارها و إن قطعت أعضائها بالضرب، بل إذا رأت شكلا مهيبا بغتة، أو سمعت صوتا مفزعا اضطربت و شردت و نفرت كأنّها يكاد أن يقطع قلبها، و هذا كلّه من آثار اليقين حاصل من توهم الضرر لا القطع به، و أمّا الإنسان العاقل فإنّه إذا راجع وجدانه يجد قلبه مصدّقا بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع قطعه و جزمه بأنّه صادق في وعده و وعيده و أنّ المجازات الموعود بها في كلامه ليست من زخرف القول و أباطيل الكلام و مع ذلك فإنّه يغفل أو يتغافل كأنّه لم يسمع من ذلك شيئا، أو سمعه سماع من علم أنّ هؤلاء الأنبياء السّفراء عليه السّلام كلّهم كذّابون مفترون بحيث لا يحتمل صدقهم، إذ لو احتمل صدقهم لحذر من وعيدهم حذر الخائف المحتاط، ألا ترى أنّ من أخبره الطبيب الّذي رأى منه الخبط و الإصابة معا، بأنّك لو شربت الدواء الفلاني

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 175

لهلكت من فورك أو أخبره المنجّم الّذي استمع منه الصدق و الكذب بأنّك لو خرجت هذا اليوم إلى الصحراء لقتلت بالسيف و لم يحصل له من قولهما قطع

و لا ظنّ، بل حصل مجرّد الاحتمال، فلا ريب في أنّ الخوف يغلب على قلبه و يأخذ في هواجسه فلا يقرب من ذلك الدواء و لا الصحراء، و هذا حال أخبار الكذّابين المشتهرين بالكذب في امور متعلّقة بالمال أو البدن أو الرّوح في هذه النشأة الداثرة الفانية، و لعمري إنّه بينه و بين اخبار اللّه تعالى و أنبيائه بون أبعد من بعد المشرقين، و بافتراقهما في أمرين:

الأمر الأوّل القطع بصدقهم، فإن اللّه تعالى لا يكذب، و كذا رسوله و أمينه «ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1»، «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ...» الآية «2» فإخبارهم بشي ء بمنزلة إحساسه في الوجود العيني، بل هو أقوى منه كثيرا، لأنّ الحسّ قد يغلط، إذ البصر و هو أقوى الحواسّ قد يرى الساكن متحركا، و القريب بعيدا، و الصغير كبيرا، و الواحد متعدّدا، و بالعكس في الجميع أو البعض، إلى غير ذلك ممّا دوّنوه في علم الناظر، و غيره، و اللّه سبحانه بري ء من الكذب و كذلك رسوله.

فكن أيّها المسكين أحد رجلين: إمّا مكذّب باللّه و رسوله، كافر بالدين، جاحد لرسالة سيّد المرسلين، و ولاية امير المؤمنين عليه السّلام، و لعمري إنّه لا ينبغي التعمّي بعد البصر و الإغماض بعد النظر، و الضلالة بعد الهدى، و الانحراف عن الطريقة المثلى.

ثمّ هب إنّك أنكرت فكيف تطيب نفسك و أنت ممن قال اللّه تعالى فيهم:

وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

__________________________________________________

(1) النجم: 4.

(2) الحاقة: 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 176

«1».

أم كيف تجيب ربّك إذا خاطبك بقوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا

الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ «2» بل كيف تجحده و تعانده و ناصيتك في يده و قبضته، تصبح و تمسي في نعمته، و تتقلّب في ملكه و هو مطلع عليك، ناظر إليك، حاضر لديك قال اللّه سبحانه: إِنِّي مَعَكُمْ* «3» وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «4»، وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «5» وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ «6».

فإن استطعت أن تخرج من ملكه، و تبعد من حضوره فاعصه، و إلّا فاستحي من اللّه تعالى، لا أقول: حقّ الحياء، بل بعض الحياء.

و إمّا مصدّق باللّه و برسوله قولا و فعلا و حالا، و خطرة، و خيالا، فقد باشر قلبه روح اليقين، و حينئذ لا يمكن أن يستلذّ بشي ء من معصية اللّه، و كيف يستلذّ بأكل مال اليتيم ظلما و هو يسمع اللّه سبحانه يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «7».

فهل رأيت أحدا يستلذّ بأكل النّار، سيّما مع كونها لا تطفأ أبدا، و كذا غيره من وعده و وعيده.

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

(2) يس: 60.

(3) المائدة: 12.

(4) الحديد: 4.

(5) ق: 16.

(6) الواقعة: 85.

(7) النساء: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 177

الأمر الثاني أنّه لا نسبة بين العقوبات الإلهيّة و المخاوف الدنيويّة كما لا نسبة بين الأمتعة الفانية الداثرة، و بين النعم الباقية الآخرة، و هذا أمر لا يكاد يريب فيه مستريب، لكنّ الغفلة منه عجيب عجيب، فإنّ المخاوف الدنيويّة راجعة إمّا الى خوف سلب المال، أو الجاه، أو الحياة العاجلة، و لا ريب أنّ مطلوبيّة المال و الجاه إنّما هو للعيش الرغيد، و أمّا الحياة العاجلة

فالغرض الاصليّ منها تحصيل الحياة الباقية الدائمة، وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «1»، فمن بذل الحياة الفانية فاز بالنعمة الدائمة، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «2».

و أنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّه يمكن تعلّق اليقين بكلّ شي ء من الأمور الدنيويّة و الاخرويّة من العقائد الدينيّة و غيرها.

و أمّا ما في الخبر المتقدّم أنّه التوكّل على اللّه و التسليم للّه، فهو تعريف باللّازم باعتبار بعض المتعلّقات المهمّة.

و كذا ما في النبويّ من كون علامة المؤمن ستّة «3»، و ذلك لأنّ المقصود تعريف اليقين فيما هو المهمّ من أمر الدين، و لذا قال بعض المحقّقين: اليقين أن يرى الأشياء كلّها من سبب الأسباب و لا يلتفت إلى الوسائط، بل يرى الوسائط كلّها مسخّرة لا حكم لها، ثم الثقة بضمان اللّه سبحانه للرزق، و أنّ ما قدّر له سيساق إليه،

__________________________________________________

(1) العنكبوت: 64.

(2) التوبة: 111.

(3) تحف العقول: ص 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 178

ثمّ أن يغلب على قلبه أنّ من يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ثمّ المعرفة بأنّ اللّه مطّلع عليه في كلّ حال، و شاهد له و أحسن ضميره و خفايا خواطره فيكون متأدّبا في جميع أحواله و أعماله مع اللّه تعالى، فتكون مبالغته في عمارة باطنه و تطهيره و تزيينه لعين اللّه أشدّ من مبالغته في تزيين ظاهره للناس.

و في «مصباح الشريعة»: قال الصادق

عليه السّلام اليقين يوصل العبد إلى كلّ حال سنيّ و مقام عجيب، كذلك أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أنّ أصحاب عيسى بن مريم عليه السّلام كانوا يمشون على الماء، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو زاد يقينهم لمشوا في الهواء.

فالمؤمنون متفاوتون في قوة اليقين و ضعفه، فمن قوّى منهم يقينه فعلامته التبرّي من الحول و القوّة إلّا باللّه و الاستقامة على أمر اللّه و عبادته ظاهرا و باطنا، قد استوت عنده حالتا العدم و الوجود، و الزيادة و النقصان، و المدح و الذم، و العزّ و الذلّ، لأنّه يرى كلّها من عين واحدة.

و من ضعف يقينه تعلّق بالأسباب و رخّص لنفسه بذلك و اتّبع العادات و أقاويل الناس بغير حقيقة، و السعي في أمور الدنيا و جمعها و إمساكها، مقرّا باللسان أنّه لا مانع و لا معطي إلّا اللّه و أنّ العبد لا يصيب الّا ما رزق و قسّم له، و الجهد لا يزيد في الرّزق، و ينكر ذلك بفعله و قلبه، قال اللّه تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ «1».

و إنّما عطف اللّه لعباده حيث أذن لهم في الكسب و الحركات في باب العيش ما لم يتعدّوا حدوده و لا يتركوا من فرائضه و سنن نبيّه في جميع حركاتهم و لا يعدلوا عن محجّة التوكّل و لا يقفوا في ميدان الحرص، و أمّا إذا أبوا ذلك كانوا من الهالكين

__________________________________________________

(1) آل عمران: 167.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 179

الذين ليس لهم إلّا الدعاوى الكاذبة، و كل مكتسب لا يكون متوكلا لا يستجلب

من كسبه الى نفسه إلّا حراما و شبهة.

و أمّا أسباب ضعف اليقين لأكثر الناس بالنسبة الى اكثر الأمور الدينية فتأتي ان شاء اللّه تعالى في تفسير وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1».

ثم انّ المحكيّ عن نافع تخفيف قوله تعالى: بِالْآخِرَةِ بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على اللام فصار «باخرة كما قيل في قوله تعالى: دَابَّةُ الْأَرْضِ «2»: دابّة لرض.

و عن ابي حيّة النميري: «يوقنون» بقلب الواو همزة لضمّ ما قبلها، إجراء لها مجرى المضموم في «وجوه» و «وقّتت» حيث يقال فيهما: أجوه، و أقّتت، فجعل الضمة في الجيم و الواو كأنّها فيه.

و ربما يستشهد بقول جرير على رواية سيبويه

[سورة البقرة(2): آية 5 ]

اشارة

تفسير الآية 5 أُولئِكَ- الموصوفون بالصّفات المتقدّمة، أو بما في الآيتين، أو خصوص الأخيرة، و إن استلزم البعض الكلّ، و المراد المؤمنون على اختلاف درجاتهم و مراتبهم في الإيمان المنطبقة على درجات الهداية و إن اتحدا في الحقيقة- عَلى هُدىً- نور، و رشاد، و دلالة، و بيان،- مِنْ رَبِّهِمْ- أفاضه عليهم، و وهبه إيّاهم، و أوصله إليهم على ما هو مقتضى الربوبيّة المطلقة الكلّية من تربية النفوس بما يقتضي السعادة الأبديّة و الحياة السرمديّة.

و (أولاء) اسم مبهم تعرّفه الإشارة و هو جمع (ذا) من غير لفظه، يمدّ فلا تلحقه اللّام لئلّا يجتمع ثقل الزيادة و ثقل الهمزة، و يقصر فتلحقه، قال الشاعر:

ألا لك قوم لم يكونوا أشابة و هل يعظ الضليل الا لكا __________________________________________________

(1) الحجر: 99.

(2) سبأ: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 180

و نسب الفرّاء في لغات القرآن المدّ إلى الحجازيّين، و عليه نزل الكتاب، لشذوذ القصر في قوله: «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي»، و القصر إلى أهل نجد من بني

تميم، و قيس، و ربيعة، و أسد.

و تبعيد الإشارة في المقام بالمدّ و كاف الخطاب لعظمة المشير، و تكريم المشار إليه، او لبعد الموصوف لفصل الصفات الكثيرة.

و معنى الاستعلاء في «عَلى هُدىً» مثل لتمكّنهم من الهدى و استعدادهم له و إقبالهم إليه، و استقرارهم عليه و تمسّكهم به في جميع أحوالهم و أمورهم على يسر و سهولة، شبّهت حالهم بحال من اعتلى الشي ء و ركبه، و نحوه قوله تعالى: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ* «1»، و قوله تعالى: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ «2».

و للتفتازاني، و المحقّق الشريف و غيرهما كلمات في المقام قد تعرّض لجملة منها صدر المحقّقين في شرح الصمديّة في بحث (على) الجارّة لا طائل تحت التعرض لها.

و نكّر (هُدىً) للتعظيم و التفخيم، فإنّ الهدى هدى اللّه، و هو الصراط المستقيم المفسّر بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام

فإنّ حبّه عليه السّلام حسنة لا تضرّ معها سيّئة، و بغضه سيّئة لا تنفع معها حسنة، كما ورد من طرق الخاصّة و العامّة

، و قد مرّت الأخبار الدالّة على تفسير الهداية بهم عليه السّلام.

و في تفسير الإمام عليه السّلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ بلالا كان يناظر اليوم فلانا فجعل يلحن في كلامه، و فلان يعرب و يضحك من بلال، فقال امير المؤمنين عليه السّلام: يا عبد اللّه إنّما يراد إعراب الكلام و تقويمه

__________________________________________________

(1) محمد: 14.

(2) الدخان: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 181

لتقويم الأعمال، و تهذيبها، ماذا ينفع فلانا إعرابه و تقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن، و ما يضرّ بلال لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله مقوّمة

احسن تقويم، مهذّبة أحسن تهذيب، قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف ذاك؟ قال عليه السّلام:

حسب بلال من التقويم لأفعاله و التهذيب بها أنّه لا يرى نظيرا لمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم لا يرى أحدا بعده نظيرا لعلي بن أبي طالب و يرى أنّ كلّ من عاند عليّا فقد عاند اللّه و رسوله، و من أطاعه فقد أطاع اللّه و رسوله.

و حسب فلان من الاعوجاج و اللحن في أفعاله الّتي لا ينتفع معها بإعرابه لكلامه بالعربيّة و تقويمه للسانه أن يقدّم الأعجاز على الصدور، و الأستاه على الوجوه، و أن يفضّل الخلّ في الحلاوة على العسل، و الحنظل في الطيب و العذوبة على اللّبن، يقدّم على ولي اللّه عدو اللّه الّذي لا يناسبه في شي ء من خصال فضله، هل هو إلّا كمن قدّم مسيلمة على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النبوة و الفضل، ما هو إلّا من الذين قال اللّه تعالى: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «1»، هل هو إلّا من إخوان أهل حرورا «2».

ثم إنّ الجملة في محلّ الرفع على أنّها خبر لقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»، بناء على ما سمعت من احتمال كونها مفصولة من المتقين، و عطف الموصول الثاني عليه، و ذلك لأنّه لمّا قيل: إنّه هدى للمتقين فخصّ المتّقين بأنّ الكتاب هدى لهم، كأنّه قيل: ما بالهم خصّوا بذلك؟ فأجيب بذكر السبب.

أو للموصول الثاني بعد استتباع الأوّل، تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا

__________________________________________________

(1) الكهف: 103.

(2) تفسير الامام العسكري ص 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 182

برسول اللّه ظانّين أنّهم على

الهدى في العاجل طامعين أنّهم ينالون الفلاح في الآجل.

أو أنّها مستأنفة إن لم يكن شي ء من الموصولين مفصولا، بل جعل الأوّل صفة للمتقين، و الثاني معطوفا عليه.

استينافا نحويّا، فكأنّه فذلكة و نتيجة للأحكام و الصفات المتقدّمة، مع ما فيها من البشارة لهم بنيل الفلاح، بل اختصاصهم به من بين الأنام.

أو استينافا بيانيّا بكونه جوابا عن سؤال مسائل، كأنّه قيل: ما بال الموصوفين اختصّوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين بتلك الصفات هم المستحقّون دون غيرهم للاتّصاف بالهداية و نيل الفلاح.

و هاهنا وجه آخر، و هو أن تكون الجملة إشارة الى ما لهم من الجزاء و الثواب، فالهدى هدى إلى الجنّة و الرضوان في الآجل، كما أنّ الكتاب هدى لهم في العاجل، و لذا قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «1»، فختم لهم بالهداية لمّا اختاروها أوّلا.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة إلى ما أشير إليه بالأوّل، و التكرير للتشريف، إذ في اشارة اللّه تعالى إليهم تنويه لقدرهم، و إعلاء لشأنهم.

و في تفسير الإمام عليه السّلام: ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات

__________________________________________________

(1) الأعراف: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 183

الشريفة فقال: «أُولئِكَ» أهل هذه الصفات «عَلى هُدىً» و بيان و صواب «مِنْ رَبِّهِمْ» و علم بما أمرهم به «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الناجون ممّا منه يوجلون الفائزون بما يؤمّلون «1».

و قد عرفت معنى الهداية و اختصاصها بأهل الولاية.

و في بشارة المصطفى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ عليّا و حزبه هُمُ الْمُفْلِحُونَ يوم القيامة «2».

و توسيط العاطف بين الإشارتين للتنبيه على استقلال الجزائين، و إختلاف مفهومي الجملتين في المقام، بخلاف قوله

تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «3»، فإنّ مفهوم التشبيه بالأنعام و إثبات الغفلة و إن اختلفا لغة إلّا أنّ كلّا من الكلامين إنّما يساق عرفا لإثبات الغفلة و فرط الغباوة و هو المفهوم منهما عرفا.

مضافا الى ما قيل: من أنّ مفهوم أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بمعونة المقام هو حصر الفلاح في المتقين، و نفيه عمّن ليس بمتّق، و مفهوم أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ اثبات الهداية لهم، فاختلف المفهومان بخلاف الآية الاخرى، إذ لا يراد من إثبات الغفلة حصرها فيهم، لأنّه لم يتعلّق الغرض بنفيها عن غيرهم، فهو بعينه ما يفهم عرفا من أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ.

و «هُمُ» إمّا فصل فصّل به لفصل الخبر عن الصفة، لأنّه إنّما يتوسّط بين المبتدأ و الخبر لتأكيد النسبة بزيادة الربط، و قصر المسند على المسند إليه.

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 43.

(2) ملحقات احقاق الحقّ ج 7 ص 305.

(3) الأعراف: 179.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 184

و أمّا ما يقال: من أنّ هذا الأخير يخالف لما صرّح به المحقّقون من علماء المعاني من أنّه إنّما يفيد القصر إذا لم يكن الخبر معرّفا بلام الجنس، و إلّا فالقصر من تعريف المسند، و هو لمجرّد التأكيد، إلّا أن يجعل اللام في المفلحون عهديّة لا جنسيّة.

ففيه: إنّه مفيد للقصر على كلّ حال، و إن استفيد ذلك من غيره أيضا في بعض الموارد.

نعم لعلّ الفصل بين القصر و التأكيد إنّما هو لاستفادته في الثاني من المسند الّذي هو أحد ركني الكلام أوّلا باعتبار الرتبة، و ان كان الضمير متقدّما بحسب الذكر، فما أفاده من القصر تأكيدا للحاصل و لذا جرى الاصطلاح على الفصل بينهما، و

هو سهل.

و إمّا مبتدأ و المفلحون خبره، و الجملة خبر أُولئِكَ، و إن جعلنا لضمير الفصل محلا من الاعراب فالاحتمالان واحد.

معنى الفلاح

و الفلاح و الفلح لغة هو الفوز و الظفر بالمقصود، و منه قوله: «و لقد أفلح من كان عقل» أي ظفر بحاجته.

و بمعنى البقاء كقوله: «و لكن ليس للدنيا فلاح» أي بقاء، و قول لبيد «1»:

نحلّ بلادا كلّها حلّ قبلنا و نرجو الفلاح بعد عاد و تبّعا __________________________________________________

(1) هو لبيد بن ربيعة العامري الشاعر المشهور توفي سنة (41) عن مائة و خمسين سنة- العبر ج 1 ص 50.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 185

و بمعنى النجاة، قال في «الصحاح»: حيّ على الفلاح أي أقبل على النجاة، و أصله بالحاء و بالجيم بمعنى الشقّ و القطع، و منه سمّى الأكّاد فلّاحا، و الفلاحة، الحراثة، و في المثل: إنّ الحديد بالحديد يفلح، اي يشقّ و يقطع، و الأفلح: المشقوق الشفة السفلى، و في رجله فلوح أي شقوق، و إطلاقه على السحور في الحديث: حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح «1» لكونه سببا لبقاء الصوم، أو للفوز به.

بل قيل: إنّ ما شاركه في الفاء و العين نحو «فلق» و «فلذ» يدلّ على الشقّ و الفتح، و لكن هذا ليس كليّا، كما لا يخفى على من لا حظ الموادّ الكثيرة المشتملة على الحرفين.

و فلاح المتّقين بالنجاة من النار، و فضيحة العار، و الفوز بلقاء اللّه في دار القرار و جوار الأخيار، و دوام الخلود في الجنّة التي تجري من تحتها الأنهار.

و اللام في «الْمُفْلِحُونَ» للجنس بناء على ارادة حصر الجنس في المسند إليه، كما يقال: زيد هو العالم، كأنّه ليس لغيرهم فلاح، و لا يعتدّ بفلاح غيرهم،

أو دعوى اتحاد طرفي الإسناد، كأنّه قيل: هم هم حقيقة، أو ادّعاء، فلا مصداق، بل لا مفهوم لأحدهما مغايرا للآخر.

أو للعهد إشارة إلى أنّ المتقين هم الذين بلغك أنّهم الفائزون بالبغية في الآخرة المخلّدون في الجنّة، أو أنّهم المخصوصون باللّه، المشرّفون بكراماته، المعروفون بحزب اللّه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2».

ثمّ إنّه ربما يحكى عن الوعيديّة القائلين بخلود أصحاب الكبائر في النار، أو عدم العفو عنهم إن ماتوا بغير توبة كما عن الخوارج و أكثر المعتزلة، الاستدلال بهذه

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة ج 1 ص 421 ح 1327، السنن الكبرى للبيهقي ج 2 ص 494.

(2) المجادلة: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 186

الآية مرّة من جهة الإختصاص المستفاد من الحصر، فوجب نفي الفلاح عمّن أخلّ بشي ء من الصلاة و الزكاة، و اخرى من حيث إشعار ترتّب الحكم على الوصف بالعليّة، فعلّة الفلاح هي مجموع الأمور المتقدّمة الّتي يستلزم انتفاؤها كلّا أو بعضا لانتفاء معلومها ضرورة انتفاء المعلول بانتفاء علّته.

و يضعّف الأوّل بعد الغضّ عن فهم الإختصاص بحيث يكون حجّة بأنّ المختصّ بالمتّقين إنّما هو الفلاح الكامل، و هو لا ينافي حصوله في الجملة لغيرهم على حسب مراتبهم في الإيمان.

و الثاني بعد تسليم فهم العليّة بالمنع من انحصار العلّة فيه، سيّما بعد ما دلّ على العفو و سببيّته للفلاح من الآيات الكثيرة و الأخبار المتواترة حسبما تسمع إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام فيها و في ابطال مذهبهم و ساير أدلّتهم فلي تفسير قوله تعالى: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* «1».

على أنّ فساده لعلّه ضروري من المذهب، و ما يحكى عن الشيخ أبي جعفر الطوسي من الميل إليه لا يخلو من

تأمّل.

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما افتتح كتابه المبين بذكر المتقين و ما يختصّ بهم من الصفات الجميلة، و المثوبات الجزيلة عقّبهم بذكر الكافرين و ما اجترحوه من الخطايا الموجبة لنبو قلوبهم و وقر أسماعهم، تعريفا لأهل السداد، حيث إنّه تعرف الأشياء بأضدادها، و تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خزيا على الكفّار، مع أنّ مدار التبليغ على الوعد و الوعيد فقال عزّ من قائل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كفر جحود مع المعرفة و عدمها بالتوحيد و غيره من اصول الإيمان، فإنّ وجوه الكفر كثيرة على ما

رواه في

__________________________________________________

(1) النساء: 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 187

الكافي «1» عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر اللّه تعالى، و كفر البرائة، و كفر النعم، فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة، و هو قول من يقول: لا ربّ، و لا جنّة، و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة، يقال لهم الدهريّة، و هم الذين يقولون: وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «2» و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم و لا تحقيق لشي ء ممّا يقولون، قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «3».

[سورة البقرة(2): آية 6 ]

اشارة

تفسير الآية 6 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «4» يعني بتوحيد اللّه.

أقسام الكفر في كتاب اللّه

فهذا أحد وجوه الكفر و امّا للوجه الآخر من الجحود فهو الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، و قد قال اللّه عزّ و جلّ: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «5»، و قال اللّه عزّ و جلّ:

__________________________________________________

(1) اصول الكافي ج 2 ص 389 و عنه البحار ج 93 ص 61.

(2) الجاثية: 24.

(3) البقرة: 78.

(4) البقرة: 6.

(5) النمل: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 188

وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1».

فهذا تفسير وجهي الجحود.

و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان:

هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ «2»، و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «3» و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ «4».

و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عزّ و جلّ به، و هو قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما

جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ ... «5».

فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ و جلّ به، و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبل منهم و لم ينفعهم عنده، فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ «6».

__________________________________________________

(1) البقرة: 89.

(2) النمل: 40.

(3) ابراهيم: 7.

(4) البقرة: 152.

(5) البقرة: 84- 85.

(6) البقرة: 85.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 189

و الوجه الخامس من الكفر كفر البرائة، و ذلك قوله عزّ و جلّ يحكي قول ابراهيم على نبيّنا و آله و عليه السّلام: كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» يعني تبرّأنا منكم.

و قال يذكر إبليس و تبرّيه من أوليائه الإنس يوم القيامة: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «2».

و قال: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «3»، يعني تبرّأ بعض من بعض «4».

ثم إنّ الكفر بالضم و يفتح أيضا يقابل به الايمان و الشكر، و هو في الأصل:

التغطية، و الستر، و الجحود، قال لبيد:

«في ليلة كفر النجوم غمامها»

أي سترها، و الكافر: الليل المظلم، لأنّه ستر بظلمته كلّ شي ء، و يقال للزارع، لأنّه يغطّي البذر بالتراب.

و منه قوله تعالى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «5».

و سمّى الكافر كافرا، لأنّه يستر نعم اللّه عليه، أو يستر ما يجب الإقرار به.

و المراد به شرعا من خرج عن الإسلام باديا أو طاريا بالارتداد قولا أو فعلا، حقيقة أو حكما و لو تبعا، كالذراري، و المجانين، و لقيط

دار الحرب، بلا فرق بين أن لا يكون منتحلا للإسلام أصلا، أو انتحله و لكن جحد ما يعلم من الدين

__________________________________________________

(1) الممتحنة: 4.

(2) ابراهيم: 22.

(3) العنكبوت: 25.

(4) اصول الكافي ج 2 ص 389- 391.

(5) الحديد: 20.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 190

ضرورة كالخوارج، و ساير النواصب و الغلاة، بل و كذا من أنكر شيئا من الأحكام الفرعيّة الضروريّة أو الإجماعيّة، أو الأحكام القطعيّة الّتي حصل له القطع بها و ان لم يعلم بها غيره، ضرورة استلزام كلّ منها لإنكار الدين الموجب للكفر قطعا.

مضافا الى الأخبار الكثيرة الدالّة عليه،

ففي مكاتبة عبد الرّحيم القصير للصادق عليه السّلام المرويّ في الكافي أنّه عليه السّلام قال فيها: لا يخرجه- أي المسلم- إلى الكفر إلّا الجحود و الاستحلال أن يقول للحلال: هذا حرام، و للحرام: هذا حلال، و دان بذلك، فعندها يكون خارجا عن الإسلام و الإيمان، داخلا في الكفر «1».

و عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرتكب الكبيرة فيموت هل يخرجه ذلك عن الإسلام، و إن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدّة و انقطاع؟ فقال عليه السّلام: أمّا من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّه حلال أخرجه ذلك من الإسلام، و عذّب أشدّ العذاب، و إن كان معترفا أنّه أذنب و مات عليها أخرجه من الإيمان، و لم يخرجه من الإسلام، و كان عذابه أهون من عذاب الأول «2».

و في بصائر الدرجات، عن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ رأيت من لم يقرّ بما يأتيكم في ليلة القدر كما ذكر و لم يجحده؟ قال: أمّا إذا قامت عليه الحجّة

ممّن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر، و أمّا من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتّى يسمع «3».

و في تحف العقول عن الصادق عليه السّلام في حديث، قال: و يخرج من الإيمان

__________________________________________________

(1) الكافي ج 2 ص 27.

(2) الكافي ج 2 ص 285 ح 23.

(3) بصائر الدرجات ص 224 و منه البحار ج 97 ص 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 191

بخمس جهات من الفعل كلّها متشابهات معروفات: الكفر، و الشرك، و الضلال، و الفسق، و ركوب الكبائر، فمعنى الكفر كلّ معصية عصي اللّه بها بجهة الجحد و الإنكار و الاستخفاف و التهاون في كلّ ما دقّ و جلّ، و فاعله كافر، و معناه معنى الكفر من أيّ ملّة كان و من أيّ فرقة كان بعد أن تكون منه معصية بهذه الصفات فهو كافر ... إلى أن قال: فان كان هو الّذي مال بهواه الى وجه من وجوه المعصية لجهة الجحود و الاستخفاف و التهاون فقد كفر.

و إن هو ما بهواه الى التديّن لجهة التأويل و التقليد و التسليم و الرضا بقول الآباء و الاسلاف فقد أشرك «1».

و في كتاب سليم بن قيس الهلالي و الكافي عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام قال:

أدنى ما يكون به العبد كافرا ان يتديّن بشي ء فيزعم أنّ اللّه تعالى أمره به ممّا نهى اللّه عنه «2».

الى غير ذلك من الأخبار.

نعم قد صرّح غير واحد من الأصحاب بأنّ سببيّة انكار الضروري للحكم بالكفر إنّما هو مع ثبوته يقينا، و لذا لم يفرّقوا بينه و بين سائر القطعيّات من المسائل الاجماعيّة و الحلافيّة لأنّ مآل إنكار الجميع الى انكار الدين و الشريعة و تكذيب

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالمدار على حصول العلم و الإنكار و عدمه، لكنّه لمّا كان غالب الحصول في الضروري أنيط علمه الحكم، و أمّا إذا كان الإنكار لشبهة دخلت عليه، أو لبعد دار أو تجدّد إسلام، أو غير ذلك اعتقد معها خلاف الواقع او احتمله مع

__________________________________________________

(1) تحف العقول ص 244.

(2) الكافي ج 2 ص 415 و فيه: ادنى ما يكون به العبد كافرا من زعم انّ شيئا نهى اللّه عنه أنّ اللّه أمر به و نصّبه دينا يتولى عليه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 192

علمنا باستناد الإنكار إليه او الشك فيه فلا يحكم بكفره لعدم الدليل عليه من اجماع و غيره.

و اطلاق حكمهم بكفر منكر الضروري ظاهر في صورة تحقّق الموضوع عنده في اعتقاده، مع أنّه مقيّد بصورة العلم على ما صرّح به غير واحد منهم، مع سكوت الآخرين عنه.

كما أنّ إطلاق بعض الأخبار مقيّد بالتصريح في كثير منها بكون المعصية و الإنكار على جهة الاستخفاف و الجحود و التهاون مضافا الى ظهور الانصراف في الأخبار المطلقة كما لا يخفى.

و من هنا يظهر ضعف المناقشة في ذلك بأنّه مناف لما يظهر من الأصحاب من إناطة الحكم على إنكار الضروري، حتى نقل عن غير واحد منهم ظهور الإجماع عليه من غير اشارة منهم الى الاستلزام المذكور.

بل اقتصر بعضهم في ضابط الكفر على جحود ما يعلم من الدين ضرورة، و آخرون عطفوه على الخروج من الإسلام، مضافا إلى اطلاق النصوص الكثيرة و ترك الاستفصال في كثير منها.

بل وجّهه شيخنا في «الجواهر» مضافا إلى ذلك كلّه: فإنّ إنكار الضروري ممّن لا ينبغي خفاء الضرورة عليه كالمتولّد في بلاد الإسلام حتى شاب

إنكار للشريعة و الدين.

و احتمال الشبهة في حقّه بل و تحققها بحيث علمنا أنّه لم يكن ذلك منه لإنكار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو الصانع، غير مجد، إذ هو في الحقيقة كمن أظهر انكار النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلسانه عنادا، و كان معتقدا بنبوّته بجنانه لأنّ إنكاره ذلك الضروري بمنزلة قوله: إنّ هذا الدين ليس بحقّ فلا يجدي اعتقاده حقّيته و يؤيّده حكمهم بكفر الخوارج و نحوهم ممّن يلحقه أحكام الكفّار، مع العلم اليقيني بأنّ منهم ان لم يكن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 193

جميعهم من لم يدخله شكّ في ربّه أو نبيّه فضلا عن إنكاره لهما بقلبه.

نعم لو كان المنكر بعيدا من بلاد الإسلام بحيث يمكن في حقّه خفاء الضرورة لم يحكم بكفره بمجرّد ذلك.

و الحاصل أنّه متى كان الحكم المنكر في حدّ ذاته ضروريّا من ضروريّات ثبت الكفر بإنكاره ممّن اطّلع على ضروريته من أهل الدين، سواء كان ذلك الإنكار لسانا خاصّة عنادا، أو لسانا و جنانا.

و منه يظهر الفرق حينئذ بين الضروري و غيره من القطعي كالمجمع عليه و نحوه، فإنّه لا يثبت الكفر بالثاني إلّا مع حصول العلم ثمّ الإنكار، بخلافه في الضروري فيثبت و ان لم يكن إنكاره كذلك «1».

أقول: أما استظهاره من إطلاق الفتاوى و الأخبار فقد سمعت الكلام فيه، و ما ذكروه في الضابط اقتصارا أو عطفا لا شاهد فيه أصلا، مع ظهور الجحود في الإنكار عن علم، سيّما مع تقييد كثير منهم بما سمعت من دون نكير.

ثمّ إنّ تحقيق الشبهة لمنكري الضروري إن كان لشبهة في الدين فالأمر واضح، و إن كان للشكّ في كون الحكم من صاحب

الشريعة، و إن تلقّاه أهل الدين بالقبول و أرسلوه إرسال المسلّمات بل الضروريّة، لكنّه لم يظهر ذلك لصاحب الشبهة و لو من جهة قضاء الضرورة لشبهة عرضت في أصل الاستناد و الصدور، بحيث لو ثبت له بشي ء من الأدلّة كونه من صاحب الدين لأقرّ به و لم يجحده قلبا و لسانا فالحكم بتحقق الكفر بمجرّده مشكل جدّا، و لذا حكم من البعيد الّذي يمكن في حقّه خفاء الضرورة.

و أمّا من اطّلع على ضروريته فلا يتصوّر في حقّه طروّ الشكّ و الشبهة فيه مع

__________________________________________________

(1) الجواهر ج 6 ص 48- 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 194

بقائه على الإقرار بالدين قلبا و لسانا، إلّا أن يكون المراد شيوع القول به بين جملة من أهل الدين يرسلونه عندهم إرسال الضروريات، و إطلاق ضرورة الدين أو اهله على مثله كما ترى.

و من هنا يظهر النظر فيما استحصله في آخر كلامه، و النقض بالخوارج ساقط من أصله، لأنّ الخروج على الامام عليه السّلام بنفسه كفر.

كفر الخوارج و الغلاة

و لذا قال المحقّق الطوسي: و محاربوا عليّ كفرة، و الأخبار كثيرة على

أنّه صلوات اللّه و سلامه عليه قال على ما رواه في «نهج البلاغة» لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه «1».

و لعلّ المراد أنّ هؤلاء الذين قتلتهم من الثاني لعلمهم بضلالتهم و الذين يأتون بعدهم من الأوّل، و لذا نهى عن قتلهم.

أو المراد التعريض بأصحاب معاوية عليه اللعنة، و أنّ تجريد السيف على أهل القبلة ممّا يختصّ به عليه السّلام كما أشار إليه في خبر آخر فتأمّل.

ثم أنّه قد ظهر مما مرّ و ممّا لم نتعرّض له لظهوره الحكم بكفر غير منتحلي الإسلام بلا

فرق بين أهل الكتاب و غيرهم من الوثنيّة و الثنوية و الدهريّة و غيرها.

بقي الكلام في فرق من منتحليه و ربما يقع الإشكال فيهم موضوعا أو حكما، و منهم: الغلاة، و لا ريب في الحكم بكفرهم و نجاستهم، و عليه الإجماع نقلا و تحصيلا.

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 195

بل قال الصدوق في عقائده: اعتقادنا في الغلاة و المفوّضة أنّهم كفّار باللّه جلّ جلاله، و أنّهم شرّ من اليهود، و النصارى، و المجوس، و القدرية، و الحروريّة، و من جميع اهل البدع و الأهواء المضلّة، و أنّه ما صغّر اللّه عزّ و جلّ تصغيرهم شي ء، قال اللّه جلّ جلاله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1».

و قال اللّه عزّ و جلّ: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... «2» الى أخر ما ذكره.

و بالجملة لا اشكال في ذلك، إنّما الكلام في تحقيق الموضوع فالمحكيّ عن كثير من القميّين بل و غيرهم من بعض القدماء أيضا الحكم بالغلوّ و الارتفاع بمجرّد التعدّي عما اعتقدوه في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الائمة عليهم السّلام بحسب اجتهاداتهم فلا يجوّزون التعدّي عنها و يعدّونه غلوّا و يتّهمون به من روى فيهم شيئا من المناقب و خوارق العادات و جهات علومهم، و أحوالهم الغريبة، و جعل الصدوق نقلا عن شيخه ابن الوليد «3» أوّل

درجة الغلوّ نفي السهو عن النبيّ و الأئمّة عليه السّلام.

و قال في العقائد: إنّ علامة المفوّضة و الغلاة و أصنافهم نسبتهم مشايخ قم و علمائهم إلى القول بالتقصير.

لكنّ المتأخّرين رموه بقوس واحدة، و نسبوه كغيره من القميّين الى القصور

__________________________________________________

(1) آل عمران: 79- 80.

(2) النساء: 171.

(3) بحار الأنوار ج 17 ص 103.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 196

و التقصير في حقّهم عليهم السّلام و هجروا قولهم في معنى الغلوّ، و مدحوا من قدحوا به فيه من رجال الأئمّة عليهم السّلام حتى قيل: إنّه لا يكاد يسلم جليل من قدح ابن الغضائري الى غير ذلك مما لا يخفى على من له انس بالرجال.

و إن اعتذر المحقق البهبهاني و غيره من ذلك بأنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة و مخلوطين و مدلّسين أنفسهم عليهم فبأقلّ شبهة كانوا يتّهمون الرجل بالغلوّ و الارتفاع.

و بأنّه ربما كان المنشأ روايتهم المناكير، او وجدان رواية ظاهرة فيه منهم، أو ادّعاء أرباب ذلك القول كونه منهم.

او أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الاصوليّة فربّما كان شي ء عند بعضهم فاسدا، أو كفرا أو غلوّا، و عند آخرين عدمه، بل ممّا يجب الاعتقاد به.

الى غير ذلك من الاعتذارات الّتي لا يهمّنا البحث عنها، إنّما المهمّ تحقيق معنى الغلوّ و التقصير.

قال شيخنا المفيد في شرح ما قدّمناه عن الصدوق: الغلوّ في اللغة هو تجاوز الحدّ، و الخروج عن القصد، قال اللّه تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... الآية «1».

فنهى عن تجاوز الحدّ في المسيح، و حذّر عن الخروج عن القصد في القول و جعل ما ادّعته النصارى فيه غلوّا، لتعدّيه الحدّ على ما

بيّناه، و الغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام الى الإلهيّة و النبوّة، و وضعوهم من الفضل في الدين و الدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ، و خرجوا عن القصد و هم ضلّال كفّار حكم فيهم أمير المؤمنين عليه السّلام بالقتل و التحريق بالنار ... الى

__________________________________________________

(1) النساء: 171.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 197

أن قال: و أمّا نصّه بالغلوّ على من نسب مشايخ القميين و علمائهم الى التقصير فليس نسبة هؤلاء القوم الى التقصير علامة على غلوّ الناس و في جملة المشار إليهم بالشيخوخية و العلم من كان مقصّرا، و إنّما يجب الحكم بالغلوّ على من نسب المحققين الى التقصير سواء كانوا من أهل قم او غيرها من البلاد، و سائر الناس.

و قد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن ابن الوليد «ره» لم نجد لها دافعا في التقصير، و هي ما حكي عنه أنّه قال: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي و الامام عليهم الصلاة و السّلام، فإن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر مع أنّه من علماء القميّين و مشيختهم، و قد وجدنا جماعة وردت إلينا من قم يقصّرون تقصيرا ظاهرا في الدين ينزلون الائمة عليهم السّلام عن مراتبهم، و يزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيرا من الاحكام الدينيّة حتى ينكت في قلوبهم، و رأينا من يقول إنّهم كانوا يلجئون في حكم الشريعة الى الرأي و الظنون، و يدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء.

و هذا هو التقصير الّذي لا شبهة فيه. و يكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الائمة عليهم السّلام سمات الحدوث و حكمه لهم بالإلهيّة و القدم،

أو قالوا ما يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام و اختراع الجواهر، و ما ليس بمقدور العباد من الأعراض.

و قال شيخنا المجلسي «ره» في «البحار»: اعلم أنّ الغلوّ في النبي و الإمام عليهم السّلام إنّما يكون بالقول بالوهيّتهم او بكونهم شركاء للّه تعالى في العبوديّة، أو في الخلق أو في الرزق، او أنّ اللّه تعالى حلّ فيهم او اتّحد بهم، او أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي او إلهام من اللّه تعالى.

او بالقول في الأئمّة عليهم السّلام انّهم كانوا أنبياء او القول بتناسخ أرواح بعضهم الى بعض، او القول بان معرفتهم تغني عن جميع الطاعات و لا تكليف معها بترك المعاصي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 198

و القول بكلّ منها إلحاد و كفر و خروج من الدين كما دلّت علية الأدلّة القطعية و الآيات و الأخبار، و قد ورد أنّ الأئمّة عليهم السّلام تبرأوا منهم، و حكموا بكفرهم، و أمروا بقتلهم.

و إن قرع سمعك شي ء من الأخبار الموهمة لشي ء من ذلك فهي أمّا مؤوّلة.

أو هي من مفتريات الغلاة.

و لكن أفرط بعض المتكلّمين و المحدّثين في الغلوّ لقصورهم عن معرفة الأئمّة عليهم السّلام، و عجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم و عجائب شئونهم فقدحوا في كثير من الرواة الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتى قال بعضهم من الغلوّ نفي السهو عنهم، أو القول بأنّهم يعلمون ما كان و ما يكون، و غير ذلك، مع أنّه

قد ورد في أخبار كثيرة: «لا تقولوا فينا ربّا و قولوا: ما شئتم و لن تبلغوا» «1» و

ورد: انّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب، او نبيّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان» «2».

و

ورد: «لو علم أبو ذر ما

في قلب سلمان لقتله»

، و غير ذلك ممّا مر و سيأتي.

فلا بدّ للمؤمن المتديّن أن لا يبادر بردّ ما ورد من فضائلهم و معجزاتهم و معالي أمورهم إلّا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين، او بالآيات المحكمة، أو بالاخبار المتواترة». انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________________________________________

(1) الكافي ج 1 ص 401.

(2) بحار الأنوار ج 25 ص 346.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 199

الغلوّ الموجب للكفر

و الّذي يستفاد من النقل الصحيح و العقل الصريح في معنى الغلوّ الموجب للكفر هو ما

أشار إليه مولانا الرضا عليه السّلام على ما رواه في العيون حيث قال له المأمون: يا أبا الحسن بلغني أنّ قوما يغلون فيكم و يتجاوزون فيكم الحدّ، فقال عليه السّلام:

حدّثني أبي، عن جدّي، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: لا ترفعوني فوق حدّي فإنّ اللّه تبارك و تعالى اتّخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيّا، و قال علي عليه السّلام: يهلك فيّ اثنان و لا ذنب لي: محبّ مفرط، و مبغض مفرّط، و إنّا لنبرء إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدّنا كبرائة عيسى بن مريم على نبيّنا و آله و عليه السّلام من النصارى ... إلى أن قال عليه السّلام: فمن ادّعى للأنبياء ربوبيّة او ادّعى للائمّة ربوبيّة، او نبوّة، او لغير الأئمّة إمامة فنحن منه براء في الدنيا و الآخره.

الخبر «1».

و الحاصل أنّ لكلّ من الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام، بل و لسائر الناس رتبة رتّبهم اللّه تعالى فيها، فمن زعم انخفاضهم منها فهو مقصّر في حقّهم و من زعم ارتفاعهم عنها فهو غال فيهم، و لا شبهة في ذلك.

و إنما الكلام في الرتبة الّتي

رتّبهم اللّه تعالى فيها و منحهم إيّاها و نحن لا نحيط بها علما تفصيليّا لقصورنا عن ذلك. و لكن نعلم إجمالا أنّ الربوبيّة المطلقة و ما يساوقها من وجوب الوجود، و القدم، و التجرّد المطلق، و اتحاد صفات الكمال للذات، و الإبداع و غيرها من سمات الوجوب الذاتي لا يمكن اتّصاف الممكن بها، و القول بثبوت شي ء منها في النبي و الأئمّة عليهم السّلام غلوّ و الحاد.

و كذا القول باستغنائهم عنه سبحانه في شي ء من الفيوض، و استقلالهم منه في شي ء من الأحوال، او استناد شي ء من الفيوض او العلوم إليهم على وجه

__________________________________________________

(1) عيون الاخبار: 324- 325 و عنه البحار ج 25 ص 272.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 200

الاستقلال و الأصالة، فضلا عن القول باستقلالهم أو شركتهم في الخلق او الرزق و غيرهما من الشئون، هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «1»، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2».

نعم الّذي يستفاد من الآيات و الاخبار أنّه سبحانه و هو الفاعل لما يشاء سبّب الأسباب، و قدّر المقادير، و خلق ببعض مصنوعاته بعضا، و لبعضها بعضا، و من بعضها بعضا، فنسب الحراثة إلينا و إن كان هو الزارع: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «3».

و نسب الخلق و نفخ الروح الى عيسى عليه السّلام في قوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ «4» و ان كان هو الخالق لكل شي ء، و نسب التوفّي و قبض الأرواح الى ملك الموت و الأعوان في جملة من الآيات مع

أنّه قال اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «5» و جعل ميكائيل موكّلا بالأرزاق و هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «6».

و قد ورد في الأخبار أنّ للّه سبحانه ملائكة موكّلة بالرزق، و ملائكة خلّاقين، الى غير ذلك مما تقدم إليه الإشارة في تفسير الفاتحة.

و بالجملة المستفاد من الأخبار أن لهم الدرجة القصوى من عالم الإمكان،

__________________________________________________

(1) لقمان: 11.

(2) الرعد: 16.

(3) الواقعة: 63- 64.

(4) آل عمران: 49.

(5) الزمر: 42.

(6) الذاريات: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 201

و الشؤون المتقدّمة إذا كانت جارية باذن اللّه، واقعة بأمره كلّها شئون امكانيّة كغيرها من الكرامات، و خوارق العادات الصادرة منهم كالتصرّف في الملك و الملكوت، و الاحاطة العلميّة و التدبيريّة باذن اللّه سبحانه، و غير ذلك من غرائب أحوالهم الّتي لا يحيط بها أحد غيرهم فلا بأس بالقول بها بعد دلالة قواطع الأدلّة عليها.

التفويض و معناه الصحيح

و من جميع ما مرّ مضافا الى ما سمعت في تفسير الصراط المستقيم يظهر لك وجه الجمع بين الأخبار المختلفة في التفويض إليهم فإنّ التفويض الاستقلالي سواء كان منهم بالذات أو من اللّه سبحانه على وجه التشريك أو الاستبداد كفر و شرك باللّه العظيم، و أمّا على وجه التوسّط في الفيض و الاستفاضة فهو الّذي دلّت عليه الأخبار بعد مساعدة الاعتبار.

نعم ذكر شيخنا المجلسي للتفويض إليهم في الأمور التكوينيّة معنيين:

أحدهما: أنّهم يخلقون و يرزقون و يميتون و يحيون و أنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم و ارادتهم، و هم الفاعلون حقيقة، قال: فهذا كفر صريح دلّت على استحالته الأدلة العقليّة و النقليّة، و لا يستريب عاقل في كفر من قال به.

و ثانيهما أنّ اللّه تعالى يفعل ذلك مقارنا لإرادتهم، كشقّ القمر، و

إحياء الموتى، و قلب العصا حيّة، و غير ذلك من المعجزات، فإنّ جميع ذلك إنما يحصل بقدرته تعالى مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم، فلا يأبى العقل من أن يكون اللّه تعالى خلقهم و اكملهم و ألهمهم ما يصلح في نظام العالم، ثمّ خلق كل شي ء مقارنا لإرادتهم و مشيّتهم.

قال: و هذا و إن كان العقل لا يعارضه كفاحا، لكن الأخبار السالفة تمنع من

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 202

القول به فيما عدى المعجزات ظاهرا بل صراحا، مع أنّ القول به قول بما لا يعلم، إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما تعلم.

و ما ورد من الأخبار الدالّة على ذلك كخطبة البيان و أمثالها فلم يوجد إلّا في كتب الغلاة، و أشباههم، مع أنه يحتمل ان يكون المراد كونهم علة غائية لإيجاد جميع المكونات، و أنه تعالى جعلهم مطاعين في الأرضين و السماوات، و يطيعهم باذن اللّه كل شي ء حتّى الجمادات، و أنّهم إذا شاءوا امرا لا يردّ اللّه مشيّتهم، و لكنّهم لا يشاءون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ*.

و أمّا ما ورد من الأخبار في نزول الملائكة و الروح لكل أمر إليهم و أنّه لا ينزل ملك من السماء لأمر إلّا بدأ بهم فليس ذلك لمدخليّتهم في ذلك و لا للاستشارة، بل له الخلق و الأمر تعالى شأنه و ليس ذلك إلّا لتشريفهم و إكرامهم و اظهار رفعة مقامهم «1».

التفويض الموجب للكفر

أقول: امّا المعنى الأوّل فهو المتيقّن من التفويض الموجب للكفر لانتهائه الى الغلوّ بل هو الظاهر من اللفظ أيضا كما هو المحكيّ عن المفوّضة على اختلاف أقوالهم في ذلك، فمنهم من قال: إنّ اللّه تعالى خلق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فوّض

إليه خلق الدنيا، فهو الخلّاق لما فيها، و عن أخر أنّه تعالى فوّض ذلك إلى عليّ عليه السّلام، و عن ثالث تفويضه إليهما، و عن رابع و هم المخمّسة أنّ اللّه فوّض الأمر الى سلمان، و ابي ذر، و المقداد، و عمّار، و عمرو بن أميّة الصيمري، فهم المدبّرون للدنيا الى غير ذلك

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 25 ص 326- 348.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 203

من أقوالهم الفاسدة المشتركة في نسبة الأفعال و الحوادث الى غيره تعالى من غير تجدّد فعل أو تأثير أو إفاضة منه سبحانه، و هو الأوفق بالتفويض المقابل للجبر كما يأتي ان شاء اللّه، و عليه يحمل ما

رواه الصدوق في العقائد عن زرارة أنّه قال: قلت للصادق عليه السّلام: إنّ رجلا من ولد عبد اللّه بن سبأ يقول بالتفويض، فقال عليه السّلام: و ما التفويض؟ قلت: يقول: إن اللّه عزّ و جلّ خلق محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّا عليه السّلام ثم فوّض الأمر إليهما، فخلقا، و رزقا، و أحيا و أماتا.

فقال: كذب عدو اللّه، إذا رجعت إليه فاقرء عليه الآية الّتي في سورة الرعد:

أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «1» فانصرفت الى الرّجل فأخبرته بما قال الصادق عليه السّلام، فكأنّما ألقمته حجرا، أو قال: فكأنّما خرس «2».

و عن الرضا عليه السّلام: اللهمّ من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء، و من زعم أنّ إلينا الخلق و علينا الرزق فنحن منه براء كبرائة عيسى بن مريم عليهما السّلام من النصارى «3».

الى غير ذلك مما ينبغي حمله على شي ء من المعاني المتقدّمة جمعا بينها

و بين ما دلّ على ثبوته بالمعنى الّذي أشير اليه في تفسير الفاتحة من التوسط في تلك الفيوض شبيه توسّط المرآة في الشعاع الواقع بتوسطها على الجدار فإنّها تحكي فعل الشمس و تظهره.

و إليه الإشارة بما

في العلوي في جواب الزنديق من أنّ للّه تعالى أولياء تجري أفعالهم و أحكامهم مجرى فعله و هم ولاة الأمر، و هذا الأمر هو الّذي به تنزل

__________________________________________________

(1) الرعد: 16.

(2) الاعتقادات للصدوق ط قم مؤسسة الامام الصادق عليه السّلام ص 100.

(3) بحار الأنوار ج 25 ص 343.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 204

الملائكة في الليلة الّتي فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «1» من خلق، و رزق، و أجل، و عمل، و حيات، و موت، و علم غيب السماوات و الأرض، و المعجزات الّتي لا ينبغي إلّا للّه، و أصفيائه ...

الخبر «2».

و في الخطبة الغديريّة ما مرّ غير مرّة، و في رياض الجنان على ما رواه في البحار عن ابي جعفر عليه السّلام: انّ اللّه لم يزل فردا متفرّدا في الوحدانيّة، ثم خلق محمدا و عليّا و فاطمة عليهم السّلام، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق الأشياء و اشهدهم خلقها، و أجرى عليها طاعتهم، و جعل فيهم ما شاء و فوّض أمر الأشياء إليهم، في الحكم، و التصرف، و الإرشاد، و الأمر و النهي، لأنّهم الولاة فلهم الأمر و الولاية و الهداية، فهم أبوابه و نوّابه و حجّابه، يحلّلون ما شاءوا، و يحرّمون ما شاءوا، و لا يفعلون إلّا ما شاء، عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ... الخبر «3».

و أمّا المعنى الثاني فهو و إن قيل: إنّه بمعزل عن معنى التفويض الظاهر في إنهاء الأمر

و إيصاله إليهم و إذا كان اللّه سبحانه هو الفاعل فأين معنى التفويض.

إلّا أنّه لعل المراد عنه أنّه تعالى جعل إرادتهم بمنزلة إرادته في تحقق المراد معها و عدم تخلّفه منها و تعلّقها على حسب الحكمة و المصلحة، و ذلك لفناء هويّاتهم، و اضمحلال إنّياتهم، فظهرت على قلوبهم ارادة الحقّ سبحانه فهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.

و في الزيارة الجامعة: أنّهم الفاعلون بإرادته.

و في غيبة الشيخ ابي جعفر الطوسي بالإسناد عن الحجّة عجل اللّه تعالى

__________________________________________________

(1) الدخان: 4.

(2) تفسير نور الثقلين ج 4 ص 24.

(3) بحار الأنوار ج 25 ص 339.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 205

فرجه: أنّه قال للكامل بن ابراهيم حيث دخل على أبي محمّد العسكري عليه السّلام للسؤال عن جملة من المسائل ما لفظه عليه السّلام: و جئت تسأله عن مقالة المفوّضة، كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة اللّه، فإذا شاء شئنا، و اللّه يقول: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ* «1» «2».

فنفى عليه ما يفيده ظاهر التفويض من المعنى الأوّل، و أثبت تبعيّة مشيّتهم لمشيّته سبحانه، و لعلّه إليه يرجع المعنى الّذي أشير إليه في ذيل الخبر المرويّ

في الاحتجاج عن ابي الحسن علي بن أحمد الدلّال القمي، قال: اختلف جماعة من الشيعة في اللّه عزّ و جلّ فوّض الى الأئمّة صلوات اللّه عليهم أن يخلقوا و يرزقوا، فقال قوم: هذا محال، لا يجوز على اللّه تعالى، لأنّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير اللّه عزّ و جلّ، و قال آخرون: بل اللّه عزّ و جلّ أقدر الأئمّة على ذلك و فوّض إليهم فخلقوا، و رزقوا، و تنازعوا في ذلك تنازعا شديدا، فقال قائل:

ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحقّ فيه فإنّه الطريق الى صاحب الأمر عليه السّلام؟ فرضيت الجماعة بابي جعفر و سلّمت و أجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة و أنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته: إنّ اللّه تعالى هو الّذي خلق الأجسام، و قسّم الأرزاق، لأنّه ليس بجسم، و لا حالّ في جسم، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فأمّا الأئمّة عليهم السّلام فإنّهم يسألون اللّه تعالى فيخلق، و يسألونه فيرزق إيجابا لمسألتهم و إعظاما لحقّهم «3».

أقول: و هذا السؤال سؤال مستمرّ عامّ، مستجاب لهم فيمن سواهم في جميع

__________________________________________________

(1) الدهر: 30.

(2) غيبة الطوسي ص 159- 160.

(3) الاحتجاج ص 264 و عنه البحار ج 25 ص 329.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 206

الفيوض الدنيوية و الاخرويّة و هو الّذي يعبّر عنه في حقّهم بالشفاعة الكلّية و المقام المحمود، و هذا المعنى و إن تأمل فيه شيخنا المجلسي في المقام إلّا أنّه قد صرّح به في رسالته في اعتقاداته حيث قال بعد التصريح بأنّهم المقصودون في إيجاد عالم الوجود و المخصوصون بالشفاعة الكبرى و المقام المحمود: إنّ معنى الشفاعة أنّهم وسائط فيوض اللّه تعالى في هذه النشأة و النشأة الآخرة، إذ هم القابلون للفيوضات الإلهيّة و الرحمات القدسيّة و بتطفّلهم تفيض الرحمة على ساير الموجودات، إلى أن قال: إنّهم وسائط بين ربّهم و بين ساير الموجودات، فكلّ فيض وجود يبتدأ بهم، ثمّ ينقسم على سائر الخلق، و في الصلاة عليهم استجلاب الرحمة إلى معدنها و الفيوض الى مقسّمها ليقسّم على سائر البرايا.

و قد مرّ أيضا تصريحه في أوّل البحار في شرح أخبار

العقل بأنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم الوسائل بين الخلق و بين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات و العلوم و الكمالات على جميع الخلق.

المعصومون عليهم السّلام وسائط بين الخالق و الخلق

و بالجملة فالمستفاد من الأخبار و شواهد الاعتبار أنّهم الوسائط بين الحق و بين الخلق، و أنّه بسؤالهم و بشفاعتهم و بابيّتهم يصل إلى الخلق ما يصل إليهم من الفيوض و الشؤون.

و لذا قيل: إنّ اللّه سبحانه خلقهم على هيئة مشيّته و صورة ارادته، و أودعهم اسمه الأكبر الّذي هو سرّ سلطنته في بريّته، و أخذ على جميع الأشياء الميثاق

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 207

بطاعتهم

كما أشار الحسين عليه السّلام في الخبر المذكور في ترجمة عبد اللّه بن شدّاد «1» حين عاده، و هو مريض فهربت الحمّى عن عبد اللّه، فقال له: قد رضيت بما أوتيتم حقّا حقّا، و الحمّى لتهرب منكم، فقال: و اللّه ما خلق اللّه شيئا إلّا و قد أمره بالطاعة لنا يا كناسه (يا كباسة)، قال: فإذا نحن نسمع الصوت و لا نرى الشخص يقول:

لبّيك، قال: أ ليس أمير المؤمنين عليه السّلام أمرك ألا تقربي إلّا عدوّا أو مذنبا لكي تكون كفّارة لذنوبه فما بال هذا؟ «2» الخبر.

فإنّه لا مانع من القول به بهذا المعنى، سيما بعد دلالة كثير من الأخبار عليه، بل و ثبوته بالنسبة الى الملائكة الذين هم خدّام اهل البيت المخلوقين من أنوارهم، إذ منهم الموكّل بالسحاب، و بالبحار، و تصريف الرياح، و الخلق، و الرزق، و الإحياء و الاماتة، و منهم المدبّرات، كلّ ذلك على وجه لا يلزم منه الغلوّ و التفويض بالنسبة إليهم و الى الملائكة أيضا، و الحاصل أنّ هذا المعنى لم يتضح الحكم بكفر قائله فإن اتّضح لك

من التأمّل في الآيات و الأخبار صحة القول به فالحقّ أحقّ بالاتّباع، و إلّا فعليك التسليم و ردّ العلم إلى أهله و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، و كذا الكلام في ساير المعاني للتفويض إليهم عليهم السّلام كالتفويض إليهم في امر الدين، لا بمعنى أن يفوّض إليهم عموما أن يحلّوا ما شاءوا، و يحرّموا ما شاءوا من غير وحي و إلهام، أو يغيّروا بآرائهم ما اوحي إليهم، فإنّه باطل قطعا، بل بمعنى أنّه تعالى لمّا أكملهم بحيث كانوا لا يختارون من الأمور شيئا إلّا ما يوافق الحقّ و الصواب، و جعل قلوبهم أوعية لمشيّة في كلّ باب فوّض إليهم تعيين بعض الأمور كالزيادة في الصلاة، و تعيين

__________________________________________________

(1) هو عبد اللّه بن شدّاد بن هاد الليثي الكوفي من اصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام بل عدّ من خواصّ أصحابه كما في معجم رجال الحديث ج 10 ص 217 الرقم 6918.

(2) معجم رجال الحديث ج 10 ص 217 الرقم 6918.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 208

النوافل في الصلاة و التطوع في الصوم، و طعمة الجدّ، و غير ذلك، و هذا لا مانع من القول به بعد دلالة الأخبار عليه كما صرّح به جماعة، و التفويض في سياسة الخلق و تكميلهم و تعليمهم وجوب طاعتهم، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1»، و في تبليغ الأحكام إليهم بحسب الواقع او التقيّة، أو بحسب ما يحتمله عقل كل سائل على ما يريهم اللّه من مقتضيات الأزمان و مصالح الأشخاص، و به أخبار كثيرة، و في القضاء و الحكومة بحسب ظاهر الشريعة، أو على ما هو الواقع

كما دلّت عليه الأخبار، أو في العطاء، فإنّ اللّه خلق لهم الأرض و ما فيها، و جعل لهم الأنفال و الخمس و الصفايا، و غيرها، فلهم أن يعطوا من شاءوا، و يمنعوا من شاءوا، كما في اخبار باب الخمس و غيره.

و في البصاير، و الإختصاص عن أبي جعفر عليه السّلام: أنّ الأئمّة منا مفوّض إليهم، فما أحلّوا فهو حلال، و ما حرّموا فهو حرام «2».

و بالجملة للتفويض معان، بعضها معلوم الفساد، و بعضها مقطوع الصحّة، و بعضها مختلف فيه، فلا ينبغي البدار إلى التكفير أو الإنكار أو ردّ الأخبار إذا وقع في أسانيدها من نسب إليه.

و منهم المجبّرة و المفوّضة الواقعة في الطرفين من الأمر بين الأمرين فعن الشيخ في «المبسوط» و بعض من تأخّر عنه هو الحكم بكفرهم و نجاستهم، و علّل بأنّ القول بهما إنكار لما هو الضروري من الأمر بين الأمرين و باستتباعه لإبطال النبوات و التكاليف رأسا، و إبطال كثير ممّا علم من الدين ضرورة، و لقوله تعالى:

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ

__________________________________________________

(1) الحشر: 7.

(2) وسائل الشيعة ج 12 ص 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 209

شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا «1».

و للأخبار الكثيرة،

ففي الخصال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صنفان من امّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، و القدريّة «2»، و قد فسّرت القدرية بكلّ من الفريقين، و في خبر آخر: الغلاة و القدرية.

و فيه و في «التوحيد»، عن الصادق عليه السّلام: الناس في القدر على ثلاثة أوجه:

رجل زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا

قد ظلم اللّه عزّ و جلّ في حكمه، و هو كافر، و رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهّن اللّه في سلطانه فهو كافر، و رجل يقول: إنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف العباد ما يطيقون، و لم يكلّفهم مالا يطيقون، فإذا أحسن حمد اللّه و إذا أساء استغفر اللّه، فهذا مسلم بالغ «3».

المجبّرة و المفوضة

و في «العيون» عن الرضا عليه السّلام في حديث: «فالقائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك» «4».

و في رسالة عليّ بن محمد العسكري عليه السّلام إلى أهل الأهواز الطويلة، و فيها:

فمن زعم أنّه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على اللّه عزّ و جلّ، و ظلمه في عقوبته له، و من ظلم ربّه فقد كذّب كتابه، و من كذّب كتابه لزمه الكفر «5».

__________________________________________________

(1) الانعام: 148.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 9- 10 ح 14 عن الخصال و التوحيد.

(3) بحار الأنوار ج 5 ص 9- 10 ح 14 عن الخصال و التوحيد.

(4) العيون ص 78 و عنه البحار ج 5 ص 12 ح 18.

(5) الاحتجاج ص 249- 252 و عنه البحار ج 5 ص 20- 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 210

و في العيون و التوحيد عن الرضا عليه السّلام: من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر و مشرك، و نحن منه براء في الدنيا و الآخرة «1».

و في العيون: انّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال للشيخ الّذي أتاه من أهل الشام: مهلا يا شيخ لعلّك تظنّ قضاء حتما، و قدرا لازما، و لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و الأمر و النهي و الزجر، و لسقط معنى الوعد و الوعيد، و لم تكن على

مسي ء لائمة، و لا لمحسن محمدة، و لكان المحسن أولى باللائمة من المذنب، و المذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، و خصماء الرّحمن، و قدرية هذه الامّة و مجوسها، يا شيخ إنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف تخييرا، و نهى تحذيرا، و اعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكرها، و لم يخلق السماوات وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ «2».

الى غير ذلك من الاخبار الّتي يمكن استفادة ذلك منها، مضافا الى منافاته للعدل، بل للتوحيد، و غيره.

إلّا أنّ المسألة بنفسها ليست من الضروريّات الّتي يوجب إنكارها الكفر، كيف و هي من المسائل المعضلة الّتي طال التشاجر فيها بين الحكماء و المتكلّمين و صنّفوا فيها الكتب و الرسائل، و استدلّ كلّ فريق منهم بجملة من الآيات و الأخبار المتعارضة بظاهرها في هذا الباب، و مجرّد استلزام أحد القولين لإنكار بعض الأصول و الضروريات لا يؤثّر شيئا مع عدم التزام قائله بذلك، و من هنا صرّح بعضهم بأنّ المدار على إنكار الضروريّات صريحا لا لازما.

أمّا الآيات و الأخبار فالظاهر تنزيلها على صورة الالتزام بتلك اللوازم، او

__________________________________________________

(1) العيون ص 81- 82 و التوحيد ص 372- 373 و عنهما البحار ج 5 ص 53.

(2) العيون ص 79 و عنه البحار ج 5 ص 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 211

الالتفات و العلم باللزوم، او إنكار مذهب الحقّ عنادا مع العلم بثبوته من صاحب الشريعة، أو غير ذلك ممّا يئول إلى انكار الدين، أو إنكار ما علم منه ضرورة.

على أنّه ربما يقال: إنّ المراد هو الكفر الباطني بالنسبة إلى الأمور الاخرويّة

كما ورد مثله في حقّ المخالفين و فيمن أنكر واحدا من الأئمّة عليه السّلام.

و أمّا مجرّد القول بالجبر و التفويض سيّما على بعض المعاني الّتي لا يتّضح فسادها فالتكفير به مشكل جدّا، و لذا يحكى عن اكثر الأصحاب القول بطهارتهم و إسلامهم.

بل في كشف الغطاء نسبته الى ظاهر الفقهاء، مستدلّين بالأصل و العمومات، و استمرار السيرة المظنون او المعلوم أنّها في زمن المعصوم على عدم اجتناب سؤر كلّ من الفريقين بل و سؤر المخالفين الذين أكثرهم المجبرة.

بل ربما يحكى هذا القول عن بعض أصحابنا مع عدم القدح في عدالته فضلا عن دينه بذلك، فعن النجاشي و العلّامة في الخلاصة أنّ محمد بن جعفر الأسدي ثقة صحيح الحديث الا أنّه روى عن الضعفاء، و كان يقول بالجبر و التشبيه.

و ما يقال: من أنّ النجاشي إنّما حكم بذلك لما توهّم من كتبه و لذا لم يطعن عليه الشيخ به فعلى فرض قبوله لا يدفع موضع الشهادة، إذ المقصود أنّ النجاشي مع توهّمه ذلك حكم عليه بالوثاقة و الصّحة.

المجسّمة و كفرهم

و منهم المجسّمة الذين أطلق أكثر الأصحاب بكفرهم و نجاستهم.

لأنّ القول بالتجسيم إنكار للّه سبحانه.

و صرّح بعضهم بعدم الفرق بين القول بالتجسيم حقيقة أو تسمية بكونه جسما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 212

لا كالأجسام.

و قيّده الشهيدان و بعض من تأخّر عنهما بالأوّل، نظرا إلى أنّهم موافقون لأهل الحقّ في العقيدة و إنّما تجوّزوا في التسمية كإطلاق العين و الجنب فيما ورد به الكتاب و السنّة.

و ربما يؤيّد بما يحكى عن هشام بن الحكم من القول به، و إن قيل: إنّه أورده على سبيل المعارضة للمعتزلة، فقال لهم: إذا قلتم: إنّ القديم شي ء لا كالأشياء فقولوا: إنّه جسم لا كالأجسام.

نعم

بعض المتأخرين منع من كفرهم على الوجهين حتى لو استلزم تلك الدعوى الحدوث في نفس الأمر إذا لم يعترفوا بزعمهم، و اختاره في «الجواهر».

و ربما يحكى عن كثير من الفقهاء أيضا حيث أطلقوا القول بطهارتهم.

لكن الأظهر وفاقا للاكثر أنّه كالقول بالتشبيه على وجه الحقيقة لا مجرّد التسمية يوجب الكفر و الشرك لأنّ معبودهم حينئذ غير اللّه سبحانه.

و للأخبار المستفيضة.

ففي «البحار» عن يونس بن ظبيان، قال: دخلت على الصادق عليه السّلام، فقلت:

يا ابن رسول اللّه إنّي دخلت على مالك و أصحابه فسمعت بعضهم يقول: إنّ للّه وجها كالوجوه، بعضهم يقول: له يدان. و احتجّوا لذلك بقول اللّه تبارك: بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ «1»، و بعضهم يقول: هو كالشابّ من أبناء ثلاثين سنة، فما عندك في هذا يا ابن رسول اللّه؟ قال: و كان متّكأ فاستوى جالسا، و قال: اللهمّ عفوك عفوك ثم قال: يا يونس من زعم أنّ للّه وجها كالوجوه فقد أشرك، و من زعم أنّ للّه جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر باللّه، فلا تقبلوا شهادته، و لا تأكلوا ذبيحته، تعالى اللّه

__________________________________________________

(1) سورة ص: 75.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 213

عمّا يصفه المشبّهون له بصفة المخلوقين، فوجه اللّه أنبيائه و أولياؤه، و قوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ «1» اليد القدرة كقوله: وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ «2» الخبر «3».

و في «التوحيد» و «الأمالي» عن عليّ بن محمّد عليه السّلام: من زعم أنّ اللّه جسم فنحن منه براء في الدنيا و الآخرة يا ابن دلف إنّ الجسم محدث و اللّه محدثه و مجسّمه «4».

و فيه اشارة إلى ظهور استلزام القول بكونه جسما للقول بحدوثه، كما أنّ في الخبر الأوّل اشارة الى الفرق بين التشبيه على وجه الحقيقة أو

التسمية المؤوّلة بما ذكره عليه السّلام.

و في «العيون» عن الرضا عليه السّلام قال: من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك، و من نسب إليه ما نهي عنه فهو كاذب «5».

و قد مرّ منه، و من «التوحيد» من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك «6».

و في «التوحيد» عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من شبّهه بخلقه فهو مشرك، و من وصفه بالمكان فهو كافر، و من نسب إليه ما نهي عنه فهو كاذب «7».

أقول: و فيه اشارة الى فرق بين مطلق التشبيه و خصوص التوصيف بالمكان، و لعلّ الوجه فيه أنّ المشبّه مقرّ باللّه إلّا أنّ منعوته غير اللّه تعالى فقد أشرك به،

__________________________________________________

(1) سورة ص: 75.

(2) سورة الأنفال: 26.

(3) بحار الأنوار ج 3 ص 287.

(4) البحار ج 3 ص 292.

(5) البحار ج 3 ص 299.

(6) البحار ج 3 ص 294 عن التوحيد و العيون.

(7) البحار ج 3 ص 299 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 214

و القائل بكونه محاطا بالمكان لا يقرّ بغيره فهو كافر، فتأمّل.

و في التوحيد أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام: من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة، و لا تصلّوا وراءه «1».

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما أطنب فيه شيخنا النجفي في «الجواهر» حيث اختار القول بالطهارة بلا فرق بين القسمين إذا لم يعترفوا بذلك اللازم لاتّحادهما حينئذ في المقتضي و عدم المانع.

إذ فيه أنّ المانع و هو طروّ الكفر في التجسيم و التشبيه على وجه الحقيقة موجود حسبما سمعت.

التناسخ

و منهم التناسخية بالمعنى الأعمّ الشامل للفسخ بالمعنى الأخص و المسخ و الرسخ، فإنّ القول

بكلّ منها إنكار لضرورة الدين، مع أنّها على بعض الوجوه موجب لإنكار المعاد و حشر الأجساد.

و مثله في سببيّة الكفر إنكار المعاد الجسماني و تأويل الآيات و الأخبار فيه كما ربما يظهر من بعض الحكماء و الفلاسفة، و كذا إنكار شي ء من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، و لو بطريق الاستلزام مع التصريح باللوازم، لا مطلقا.

و الحاصل أنّ للكفر سببين:

أحدهما: ما يوجبه بالذّات كإنكار وجود الصانع، أو وحدته، أو قدمه، او

__________________________________________________

(1) البحار ج 3 ص 303 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 215

إنكار نبيّه، أو المعاد، او الشكّ في شي ء منها، بلا فرق في المنكر باللّسان مع الجنان، او المقرّ بهما مع إظهار العناد، أو المقرّ بأحدهما دون الآخر.

و من هنا يظهر أنّ المعاند المتظاهر بالمشاقّة للّه او لرسوله محكوم عليه بالكفر، و هكذا الهاتك لحرمة الإسلام المستخفّ بالدين و لو بترك المندوب أو فعل المكروه، و يلحق به السابّ للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم او الزهراء او أحد الأئمّة عليه السّلام، بل و كذا السابّ لأحد من الأنبياء السابقين، او الملائكة المقرّبين، فهذا كلّه ممّا يوجب الكفر، و لا يقبل معه العذر.

نعم الأظهر وفاقا للشيخ الأكبر أنّه ربما يعذر الثالث لبعد الدار أو لكونه في محلّ النظر خاليا عن الاستقرار و إن جرى عليهما حكم الكفّار في غير المؤاخذة كالتعذيب بالنار.

ثانيهما: ما يترتب عليه الكفر على وجه الاستلزام مع التصريح باللوازم أو اعتقادها كانكار بعض الضروريات الاسلاميّة و المتواترات عن سيّد البرية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كالقول بالجبر و التفويض، و انكار العدل، و مغايرة الصفات الذاتيّة للذات، و اتحاد الصفات الفعلية لها، و إثبات المعاني

و الأحوال، و الأعيان الثابتة، و التجسيم، و التشبيه بالحقيقة، و وحدة الوجود أو الموجود، و الاتحاد، و ثبوت الزمان و المكان، و الكلام النفسي، و قدم القرآن، و الرؤية البصرية في الدنيا و الآخرة، و انكار الإمامة المستلزم لإنكار النبوة، و البغض لبعض الأئمّة، و إنكار البرزخ و عذابه، و القول بانقطاع عذاب الكفّار، و صيرورة العذاب راحة لهم.

قال في «كشف الغطاء» بعد التصريح ببعض ما سمعت: إنّ هذه إن صرّح فيها باللوازم أو اعتقدها كفر و جرى عليه حكم الارتداد الفطري، و إلّا فإن يكن عن شبهة عرضت له إن احتمل صدقه في دعواها استتيب و قبلت توبته، و لا يجرى عليه حكم الارتداد الفطري، و إن امتنع عزّر ثلاث مرّات، و قتل في الرابعة، و إن لم يمكن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 216

ذلك و ترتبت على وجوده فتنة العباد، و بعثهم على فساد الإعتقاد اخرج من البلاد، و نادى المنادي بالبرائة منه على رؤوس الأشهاد.

ثم لا يخفى أنّ هذه العقائد و نحوها مختلفة في إيجاب الكفر.

فمنها ما يوجبه عدم العلم بها، فضلا عن العلم بعدمها او الشك فيها كوجود الصانع و توحيده، و علمه، و قدرته، و أزليّته و ابديّته، و نبوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ثبوت المعاد الجسماني.

و منها ما يوجبه العلم بعدمها دون عدم العلم بها كنفي التحيّز و الجسميّة، و اثبات ضغطة القبر و حياته، و الوزن في المحشر و الحساب و الصراط و غيرها ممّا يعدّ من فروع الأصول بعد ثبوتها من الدين في الجملة و إن اختلفوا في كيفيّتها.

و منها ما لا يقتضي شيئا منها كالمسائل و المباحث الخلافيّة المتعلّقة

بفروع الأصول و كيفيّاتها.

ثمّ إنّ البحث عن خصوص المسائل و تشخيص الصغريات له عرض عريض، و لا يهمّنا التعرّض له.

و منهم النواصب، و قد استفاضت الأخبار بل تواترت على الحكم بنجاستهم و كفرهم و أنّهم شرّ خلق اللّه، و لا خلاف بين الأصحاب في الحكم بكفرهم، و إن اختلفوا في تشخيص الموضوع هل هو خصوص الخوارج، أو الفرق الثلاثة و هم أصحاب الجمل و النهروان و صفّين، أو كلّ من أظهر العداوة لأهل البيت عليه السّلام، أو أنكر شيئا من فضائلهم، أو أنكر النصّ على امير المؤمنين عليه السّلام، أو كلّ من قدّم الجبت و الطاغوت إلّا المستضعفين منهم.

بقي الكلام في أمور تتعلّق بالمقام: أحدها: أنّ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 217

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «1» و نحوها ممّا تضمّنت الإخبار بصيغة الماضي نحو إِنَّا أُرْسِلْنا* ممّا احتجّت به القائلون بحدوث القرآن كاصحابنا الإماميّة و المعتزلة، نظرا إلى أنه لو كان كلامه قديما لزم الكذب في أمثال تلك الإطلاقات لعدم سبق وقوع النسبة.

و أجيب بأنّ كلامه تعالى غير متصف في الأزل بالمضيّ و آخريه لعدم الزمان، و إنما يتّصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلّقات و حدوث الأزمنة غاية الأمر حدوث المتعلّق لا المتعلّق كما قيل في علمه سبحانه.

و فيه: أنّهم قد صرّحوا بكون الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي و لا يعقل أن يكون مدلول الماضي إلّا ماضيا، و التأويل بالعلم خارج عن محلّ البحث على ما مرّ تمام الكلام فيه في المقدّمات.

الأمر الثاني: أنّ من غرائب الكلام ما ذكره الرازي في المقام، و هو أنّ الجمع المعرّف باللام اي الَّذِينَ كَفَرُوا بظاهره للاستغراق، و

لا نزاع في أنّه ليس المراد منها هذا الظاهر لأنّ كثيرا من الكفّار أسلموا، فعلمنا أنّ اللّه تعالى قد يتكلّم بالعامّ و يكون مراده الخاصّ.

إمّا لأجل أنّ القرينة الدالّة على أنّ المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحسن ذلك لعدم التلبيس و ظهور المقصود ...

و إمّا لأجل أنّ التكلّم بالعامّ لإرادة الخاصّ جائز و ان لم يكن مقرونا بالبيان عند من يجوّز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب.

و إذا ثبت ذلك ظهر أنّه لا يمكن التمسّك بشي ء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أنّ المراد منها هو الخاصّ، و كانت القرينة الدالّة على ذلك

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 218

ظاهرة في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا جرم حسن ذلك، و أقصى ما في الباب أن يقال: لو وجدت هذه القرينة لعرفناها، و حيث لم نعرفها علمنا أنّها ما وجدت، إلا أنّ هذا الكلام ضعيف لأنّ الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الأمارات المفيدة للظنّ فضلا عن القطع «1».

و عقيب كلامه هذا قال: إذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف، و اللّه اعلم. و هو كما ترى.

شأن نزول الآية

الأمر الثالث: اختلف المفسّرون في شأن نزول الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: إنّها نزلت في قوم من أخبار اليهود ممّن كفر بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنادا و كتم أمره حسدا و بغيا.

و قيل: نزلت في أبي جهل و خمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر.

و قيل: نزلت في مشركي العرب أو قريش.

و

قيل: هي عامّة في جميع الكفّار و أخبر اللّه تعالى بأنّ جميعهم لا يؤمنون، فلا ينافيها إيمان بعضهم، فهو كقول القائل: لا يقدم جميع إخوتك اليوم، فلا ينكر إن يقدم بعضهم.

و هذا الوجه ضعيف جدّا، و التخصيص بشي ء من الوجوه المتقدّمة غير ثابت، و قضيّة العموم شمولها تنزيلا لمن كان على هذه الصفة، غاية الأمر أنّ قوله:

__________________________________________________

(1) مفاتيح الغيب لفخر الرازي ج 2 ص 39.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 219

تفسير سَواءٌ عَلَيْهِمْ

سَواءٌ عَلَيْهِمْ قرينة على خروج غير المصرّين على كفرهم، فيعمّ جميع المصرّين ممّن كان أو يكون على شي ء من وجوه الكفر المتقدّمة و غيرها حتّى الكفر بولاية أولياء اللّه و امنائه كلّا او بعضا، و كفر النعم و غيرهما، و يقابله الإيمان بكلّ معانيه، و لكلّ من مراتبه و عقوبة، فتشمل الآية جميع الكفّار و العصاة، و المخالفين و المنحرفين عن الصراط المستقيم.

و لذا

قال الإمام عليه السّلام في تفسيره: أنّه لمّا ذكر اللّه تعالى هؤلاء المؤمنين و مدحهم بتوحيد اللّه تعالى و بنبوة محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وصيّه عليّ ولي اللّه عليه السّلام، ذكر الكافرين المخالفين لهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد اللّه تعالى و بنبوّة محمد رسول اللّه و بوصيّه عليّ ولي اللّه و بالأئمّة الطيبين الطاهرين، خيار عباده الميامين القوّامين بمصالح خلق اللّه تعالى «1».

سَواءٌ عَلَيْهِمْ سواء اسم بمعنى الاستواء و هو الاعتدال، و السواء: العدل، و منه قوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «2» و بمعنى وسط الشي ء كقوله: سَواءِ الْجَحِيمِ* «3» و يوصف به كالمصادر نعتا نحويا، كقوله: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ «4».

__________________________________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام ص

43- 44.

(2) الأنفال: 58.

(3) الصافات: 55.

(4) آل عمران: 64.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 220

و أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً «1» على قراءة الجرّ، أو معنويّا كما في المقام مرفوع.

امّا لكونه خبر إنّ على القول بإعمالها في الجزئين، أو على بقائه على ما كان عليه قبل دخول الحرف على الخلاف في ذلك.

و حيث إنّ سواء اسم للمصدر مؤوّل به بمعنى الفاعل، فقوله: أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع الرفع على الفاعليّة كأنّه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك و عدمه.

و ما يقال: إنّه اسم غير صفة، فالأصل فيه أن لا يعمل، مع أن القصد من الوصف بالمصادر المبالغة في شأن محالّها كأنّها صارت عين ما قام بها فقولك: زيد عدل معناه أنّه عين العدل كأنّه تجسّم منه، و مع التأويل يفوت المقصود، بل و كذا مع الحمل على حذف المضاف.

مدفوع بأنّ الأصل غير دافع للاحتمال، مع إعمال مثله كثيرا، مضافا الى رجحانه على غيره من المحتملات.

و إمّا بأنّه خبر مقدّم، و الفعل مع ما عطف عليه مأوّلين بالمصدر مبتدأ مؤخّر و المعنى إنذارك و عدمه سيّان عليهم، و توحيده حينئذ للمصدريّة كما أنّه على الأوّل لكونه كالفعل المسند إلى فاعله.

نعم قد يورد عليه، بل و على الأول أيضا بأنّ الفعل كيف وقع مسندا إليه فاعلا او مبتدأ، و أنّ تصدير الاستفهام ينافيه، و أنّ الهمزة و أم موضوعتان لأحد الأمرين و ما يسند إليه سواء يجب أن يكون متعدّدا.

و أجيب عن الأوّل بأنّ الفعل إنّما يمتنع الإسناد إليه على جهة الإخبار او الفاعليّة أو الاضافة إذا أريد به تمام ما وضع له من الزمان و الحدث و الانتساب إلى

__________________________________________________

(1) فصّلت:

10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 221

الفاعل، أمّا لو أطلق و أريد به مجرد اللفظ نحو ضرب فعل ماض، و يضرب فعل مضارع، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإخبار عنه، كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، و كقوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ «1»، و قوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا* «2»، أو الإضافة كقوله تعالى: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ «3».

و فيه أنّ ما أريد به مجرّد اللفظ اسم للفعل كما أنّ الأدوات في قولك: الباء للإلصاق، و من للابتداء و في للظرفيّة أسماء للحروف و لذا تدخل اللام على ما بني منها على حرف واحد. و أمّا إرادة المعنى المصدري من الفعل غير سائغ إلّا مع التأويل المغيّر لصيغته و لذا قرأ المشهور تسمع بالمعيدي بفتح العين بتقدير أن الناصبة، و ذكروا في بَدا لَهُمْ: أنّ الفاعل مضمر تفسيره لَيَسْجُنُنَّهُ، و هو بداء، او السجن في الآية الاولى، و كذا القول في الثانية.

فالأولى في المقام إضمار الفاعل بما يفسّره الجملة الفعلية و هو إنذارك و عدمه.

منه يظهر الجواب عن الثاني أيضا، على أنه قد يجاب عنه و عن الثالث بأنّ الهمزة و أم قد انسلخ عنهما في مثل المقام معنى الاستفهام رأسا حتى زال عنهما الدلالة على أحد الأمرين و صارتا لمجرّد معنى الاستواء، فإنّ اللفظ المتضمّن لمعنيين قد يجرّد لأحدهما و يستعمل فيه وحده منسلخا عن الآخر، كما أنّ حرف النداء و إن وضع للاختصاص الندائي إلّا قد يجرّد لمطلق الاختصاص كما نبّه عليه

__________________________________________________

(1) سورة يوسف: 35.

(2) سورة البقرة: 13.

(3) المائدة: 119.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 222

سيبويه

في قولهم: أللهم اغفر لنا ايّتها العصابة، فإذا جرّدتا في مثل المقام لمجرّد الاستواء زالت الصدارة و كونها لأحد الأمرين.

و توهّم من قال: المعنى حينئذ تسوية المستويين، و هو تكرار بلا فائدة، مدفوع بأنّ المراد كون المستويين في صحة الوقوع مستويين في عدم النفع.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما ذكره الطبرسي في «مجمع البيان من إبطال كون سواء خبرا بأنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه، و بأنّ قبل الاستفهام لا يكون في حيّز الاستفهام» «1».

و إمّا بالابتداء و يكون خبره الجملة التالية كما هو المحكي عن أبي علي، و اختاره الطبرسي و جعله أوّل الوجهين، قال: و الجملة في موضع رفع بأنّها خبر إنّ «2»، و لا يخلو من ضعف.

و إمّا بأنّه خبر من مبتداء محذوف تقديره: الأمران سواء، ثمّ بيّن الأمرين بقوله: أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ.

قال نجم الأئمة: و هذا هو الّذي يظهر لي في مثل هذا المقام، و هو وقوع أم بعد همز التسوية الواقعة بعد كلمة سواء، و ما أبالي، و لا أدري، و ليت شعري، و نحوها، كما يقدّر المبتداء في قوله: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ «3» اي الأمران سواء، و سواء لا يثنّى و لا يجمع، فكأنّه في الأصل مصدر.

قال: و حكى أبو حاتم تثنيته و جمعه، و ردّه أبو علي، ثمّ اطنب الكلام في أنّ الفعل بعد تلك الأدوات يتضمن معنى الشرط و الاسميّة السابقة دالّة على جوابه،

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 42.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 42.

(3) سورة الطور: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 223

فقولك: سواء عليّ أقمت أم قعدت معناه ان قمت أو إن قعدت

فالأمران سواء و استشهد له باستهجان الأخفش وقوع الابتدائية بعدهما، و أمّا قوله: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «1».

فلتقدّم الفعليّة، و إلا لم يجز، و باستقباحه وقوع المضارع بعدهما و يدلّ عليه أنّ ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء على مثال الماضي نحو سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «2» و سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «3».

قال: و إنّما أفادت الهمزة فائدة إن الشرطيّة لأنّ إن تستعمل في الأغلب في أمر مفروض مجهول الوقوع و كذلك حرف الاستفهام يستعمل فيما لم يتيقّن حصوله فجاز قيامها مقامها مجردة عن معنى الاستفهام، و كذا أم جرّدت عن معناه و جعلت بمعنى او لأنّها مثلها في إفادة أحد الشيئين او الأشياء، و معنى سواء عليّ أ قمت أم قعدت إن قمت أو قعدت، و الدليل على أنّ سواء سادّ مسدّ جواب الشرط لا خبر مقدّم أنّ معنى سواء عليّ أقمت أم قعدت، و لا أبالي أقمت أم قعدت واحد في الحقيقة، و لا أبالي ليس خبرا للمبتدأ، بل المعنى إن قمت او قعدت فلا أبالي.

و إنّما اختصّ استعمال الهمزة و أم في هذا المعنى بما بعد سواء، و لا أبالي و ما يجري مجراهما لأنّ المراد التسوية في الشرط بين أمرين فاشترط فيما يقع موقع الجزاء أن يشتمل على معنى الاستواء قضاء لحقّ المناسبة، و لهذا وجب تكرير الشرط، و لم يصحّ لا أبالي أقام زيد.

و على هذا فالجملة الشرطيّة خبر إنّ، و المعنى إنّ الذين كفروا إن أنذرتهم أم

__________________________________________________

(1) الأعراف: 193.

(2) ابراهيم: 21.

(3) المنافقون: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 224

لم تنذرهم فهما سواء عليهم.

لا يُؤْمِنُونَ

حال من الضمير المجرور أو المنصوب، مؤكّدة لمضمون الجملة باعتبار كونها في مقام الإخبار عن الكفّار.

أو جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الإستواء.

و يجوز أن يكون بدلا، و أن يكون خبر إنّ.

او جملة معترضة مبيّنة لعلّة الحكم.

الإنذار و حقيقته

و الإنذار هو الإعلام و التخويف، أو لإبلاغ و لا يكون إلّا في التخويف كما في «الصحاح»، أو اكثر ما يستعمل فيه كما في «المصباح» كقوله تعالى: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ «1» أي خوّفهم عذابه، أو الإسلام و التحذير و التخويف في إبلاغه كما في «القاموس»، او إعلام معه تخويف كما في «مجمع البيان»، و لعلّ الاختلاف مبنيّ على المسامحة في التعبير، نعم قد يقال: إنّه تحذير من مخوّف يتّسع زمانه للاحتراز منه، فإن لم يتسع فهو إشعار.

و بالجملة هو إفعال من نذره بالفتح، و نذر به كفرح اي علمه فحذّره و بالهمزة يتعدّى إلى مفعولين كقوله تعالى: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً «2» و قد يتعدّى الى الثاني بالباء، نحو قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ «3».

__________________________________________________

(1) سورة الغافر: 18.

(2) النبأ: 40.

(3) الأنبياء: 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 225

و يظهر من الآيتين و غيرهما جواز اتّصافه تعالى به، و كذا اتصاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به، مضافا الى ما قيل من أنّ الإعلام يجوز و صفه به، و كذا التخويف لقوله تعالى:

ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ «1»، فإذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بما يشتمل عليهما او يتّحد بأحدهما

و في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال: أنا النذير العريان «2».

و هذا المثل كما في «القاموس» قيل لكل منذر محقّ لأنّ الرجل إذا أراد إنذار قومه

تجرّد عن ثيابه و أشار بها.

و لعلّ إطلاقه عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه المنذر بالحق، او أنه المتفرّد بالتجرّد مع الشواغل و العلائق في إعلاء كلمة الإسلام و تبليغ الحلال و الحرام، أو أنّه المتّصف بهذا الوصف في عالم التجرّد و الأنوار قبل خلق الأجسام لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان نبيّا و آدم بين الماء و الطين، و بعثه اللّه تعالى في عالم الأرواح إلى الملائكة و النبيّين، فهو البشير النذير، و السراج المنير، و الاقتصار عليه دون البشارة في المقام لكنه أوقع في القلب و أشدّ تأثيرا في النفس لأنّ دفع الضرر أهم من جلب النفع فحيث لم ينفع الإنذار لم تنفع البشارة بالأولويّة.

و إيثار الفعل على المصدر للدلالة على التجدّد و تكرر الوقوع، و نبو قلوبهم عن الإصغاء إلى ما فيه نجاتهم و حياتهم الأبديّة مع كمال مبالغته فيها و إصراره عليها.

__________________________________________________

(1) الزمر: 16.

(2) و من أمثال العرب في الإنذار: أنا النذير العريان قال ابن منظور في لسان العرب في لفظ نذر:

النذير العريان رجل من خثعم حمل عليه يوم الخلصة عوف بن عامر فقطع يده و يد امرأته ...

إلى ان قال: قال الأزهري: من أمثال العرب في الإنذار: انا النذير العريان، قال ابو طالب: إنّه قالوا له: النذير العريان لأنّ الرجل إذا رأى الغارة قد فجئتهم، و أراد إنذار قومه تجرّد من ثيابه و أشار بها ليعلم أن فجئتهم الغارة، ثم صار مثلا لكل شي ء تخاف مفاجئته.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 226

و حذف المفعول الثاني بواسطة أو بدونها للتنبيه على أنّهم لا يرتدعون عن غيّهم و انهماكهم في الشهوات بالإنذار بشي ء من

العقوبات على شي ء من فعل المعاصي و ترك الطاعات.

و إضافة التسوية إليهم للدالة على أنّها بالنسبة إلى حالهم، و إلّا فهو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حاز فضل الإصرار، فضلا عن الإبلاغ.

و في صلتها بعلي إشعار باشتراكهم في نوع الضرر و إن افترقوا فيه بحسب الإقرار باعتبار الخصوصيّات.

بقي الكلام في أمور: أحدها أنّ في أَ أَنْذَرْتَهُمْ سبع قراءات:

القراءة

1- تحقيق الهمز كما عن عاصم، و حمزة، و الكسائي إذا حقّق لأنّه الأصل في كلّ همزة الاستفهام و الإفعال، إلّا أنّه قيل: إنّ التخفيف عند اجتماعها أفصح و اكثر «1».

2- و تخفيف الثانية بين بين، اي بين الهمزة و الألف في المقام لفتحها تخفيفا لنبرها، و تسهيلا لأدائها، كما هو المحكي عن نافع، و ابن كثير، و أبي عمرو و الكسائي إذا خفّف، و يقال: إنّه القياس.

3- و قلب الثانية ألفا كما في حكاية أهل مصر عن ورش، و قيل: إنّه لغة لبعض العرب إلحاقا للمتحركة بالساكنة، لكن في الكشّاف: أنّ فيه لحنا و خروجا من كلام العرب لوجهين: أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه، إذ

__________________________________________________

(1) الكشاف ج 1 ص 154.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 227

حدّه أن يكون الأول حرف لين و الثاني حرفا مدغما نحو «وَ لَا الضَّالِّينَ» و خويصّة «1»، و الآخر إخطاء طريق التخفيف لان طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين.

و أمّا القلب ألفا فهو تخفيف للساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس «2».

و قد يعتذر من الأوّل بانّ من يقلبها ألفا يشبع الألف إشباعا زائدا لتقوم مقام الحركة كما قري ء في «مَحْيايَ» «3» بإسكان الياء وصلا.

و من الثاني بقراءة منساته «4»

بقلب المتحركة ألفا، مع وقوعه في شعر حسّان «5»: «سالت هذيل رسول اللّه فاحشة» اي عن فاحشة، و مع ذلك كيف فكيف يكون خارجا عن كلام العرب «6».

4- و توسيط ألف بينهما محقّقين كما عن ابن عامر استثقالا لاجتماع المثلين كما فصل بين النونين في نحو اضربنانّ استثقالا لاجتماع النونات، و منه قول ذي الرمة «7»:

فيا ظبية الوعساء بين جلاجل و بين النقاء ءاأنت امّ سالم «8» 5- و توسيطها بينها و الثانية بين بين تخفيفا لها من جهتي الفصل و التليين، لأنّك إذا ليّنتها فقد أمتّها، و صار اللفظ كأنّه لا استفهام فيه، ففي المدّ توكيد الدلالة على

__________________________________________________

(1) خويصّة الإنسان: الّذي يختصّ بخدمته.

(2) الكشاف ج 1 ص 154- 155.

(3) سورة الانعام: الآية 162.

(4) سورة سبأ: 14.

(5) حسّان بن ثابت الانصاري الشاعر توفّي سنة (54) عن مائة و عشرين سنة.

(6) حاشية الكشّاف للسيّد الشريف الجرجاني ج 1 ص 154.

(7) ذو الرمة: غيلان بن عقبة من فحول شعراء العرب مات بأصبهان سنة (117) ه.

(8) مجمع البيان ج 1 ص 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 228

الاستفهام كما في تحقيق «1».

فهذه وجوه خمسة، و أمّا الأخيرتان المشتركتان في الضعف فالاولى:

الاكتفاء بالثانية إطراحا لهمزة الاستفهام كما قال عمر بن «2» أبي ربيعة:

لعمرك ما أدري و إن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان و الاخرى: إلقاء حركة الهمزة المحذوفة على الميم لتليين الاولى و تحقيق الثانية، فإنّ العرب إذا ليّنوا الهمزة المتحركة و قبلها ساكن ألقوا حركتها على ما قبلها و قالوا: من بوك، و من مك، و كم بلك «3».

و عن ابي اسامة في شرح الشاطبيّة

أنه حكى عن حمزة في أَ أَنْذَرْتَهُمْ نقل حركة الاولى و تسهيل الثانية على فرض التحقيق في السابقة، فهي ثامنة.

و منه يتّضح سقوط اعتراض شرّاح الكشّاف على عبارته.

جواز التكليف بالمحال و عدمه

الثاني من الأمور أنّ هذه الآية و نحوها ممّا تضمّنت الإخبار عن عدم إيمان أشخاص بأعيانهم كقوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «4»، ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «5» مما استدلّت بها الأشاعرة على جواز التكليف بالمحال و وقوعه على ما هو المشهور عنهم، بل

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 41.

(2) هو ابو الخطّاب عمر بن عبد اللّه بن ربيعة القرشي الشاعر المشهور توفي سنة (93) ه.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 41.

(4) يس: 7.

(5) المدثر: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 229

و على نفي الاختيار، و اثبات الجبر في الأفعال.

و قرّروه مرّة بأنّه سبحانه أخبر عن قوم بأعيانهم بعدم الإيمان مع الإنذار و عدمه، فلو آمنوا لا نقلب هذا الخبر كذبا، و الكذب محال على اللّه تعالى، و المفضي الى المحال محال فكان صدور الايمان عنهم محالا مع أنّه تعالى كان يأمرهم به فكانوا مكلّفين بالمحال.

و اخرى بأنّه تعالى عالم في الأزل بأنّهم لا يؤمنون، و صدور الإيمان منهم يستلزم انقلاب علمه جهلا، و هو محال و ما يستلزم المحال محال و التكليف متحقق فالأمر بالمحال واقع.

و ثالثة بأنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان، و من جملة ما يؤمن به تصديق اللّه تعالى فيما أخبر عنه بأنّه لا يؤمن فقه صار مكلّفا بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن و هذا تكليف بالجمع بين النقيضين.

و رابعة بأنّ علمه سبحانه بعدم إيمانهم مطابق المعلوم البتة،

و المطابقة إنّما تحصل إذا كان الواقع عدم الإيمان، و ايمانهم يقتضي وجوده فتكليفهم تكليف بالجمع بين وجوده و عدمه.

و خامسة بأنّ القدرة على خلاف ما علمه سبحانه قدرة على قلب علمه جهلا، و هو محال فالقدرة منتفية و الخطاب متعلّق فالتكليف بما لا يطاق ثابت.

و سادسة بأنه تعالى عاب الكفّار على أنهم حاولوا فعل شي ء على خلاف ما أخبر عنه في قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ «1»، و ذلك منهي عنه، و ترك محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر اللّه فيكون الذم حاصلا على الترك و الفعل.

قال الرازي في تفسيره: هذا الكلام هو الهادم لأصول الاعتزال، و لقد كان

__________________________________________________

(1) الفتح: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 230

السلف و الخلف من المحققين معوّلين عليه في دفع اصول المعتزلة و هدم قواعدهم، و لقد قاموا و قعدوا و احتالوا في دفعه فما أتوا بشي ء مقنع «1».

و قال في «اربعينه» بعد التقرير الثاني: لو أنّ جملة العقلاء اجتمعوا و أرادوا أن يوردوا على هذا الكلام حرفا لما قدروا عليه، إلّا أن يلتزموا مذهب هشام بن الحكم «2» و هو أنّه تعالى لم يعلم الأشياء قبل وجودها لا بالوجود و لا بالعدم، إلّا أنّ اكثر المعتزلة يكفّرون من يقول بهذا القول.

أقول: أمّا استحالة التكليف بما لا يطاق فلعمري إنّه من الضروريّات القطعيّة الّتي قامت عليها دلائل العقل و السمع حسبما حرّره أصحابنا الإماميّة عطّر اللّه مراقدهم في الأصولين، و لعلّك تسمع جملة مقنعة من البحث عنها في تفسير قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «3»، و تشكيك أمثالهم من المشكّكين لا يقدح في العلم بكونها ضرورية بعد بناء أصولهم على إنكار البديهيّات كإنكار

الحسن و القبح و الاختيار، و تجويز الظلم، و القول بالجبر الّذي منشأة هذه الشبهة الى غير ذلك ممّا التزموا به، أو يلزمهم على أصولهم من القول بنفي التكاليف و إنكار النبوّات، و إنكار الثواب و العقاب الى غير ذلك من الفضائح الكثيرة الّتي لا يهمّنا البحث عنها في المقام، بل نقتصر على الجواب من شبهة العلم و الإخبار الّتي بها افتخار الشياطين و تشكيك المشكّكين و ابتغاء الفتنة لهدم أصول الشريعة و قواعد الدين.

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي ج 2 ص 42- 43.

(2) هشام بن الحكم كان من أصحاب الصادق و الكاظم عليه السّلام له أصل و كتب كثيرة و مناظرات مع المخالفين دلّت على جلالته و عظمته و ما نسب إليه الرازي ليس إلا افتراء عليه، كما سيصرّح المصنّف قدّس سرّه بأنه افتراء.

(3) البقرة: 286.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 231

جواب شبهة العلم و الإخبار

فنقول: يمكن الجواب عنها بوجوه:

الأول: معارضتها بالآيات الكثيرة الدالّة على أنّه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1»، و إِلَّا ما آتاها «2»، و أنّه ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3».

و على أنّه لا مانع لأحد من الإيمان، و أنّهم يستحقّون الذمّ و الإنكار بتركه كقوله تعالى: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى «4»، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «5» فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «6»، وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ «7»، ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «8».

فلو كانوا ممنوعين من الإيمان غير قادرين عليه لما استحقّوا الذمّ و العقاب ألبتة، و كيف يجوّز من له حظّ من الشعور أن يأمر المولى عبده بالطيران في الهواء

مع علمه بعجزه عن ذلك، أو يكلّفه بالذهاب الى السوق مع حبسه عنه بحيث لا يقدر عليه، ثم يذمّه و يعاقبه على العصيان و المخالفة.

ألا ترى أنّ العقلاء مطبقون حينئذ على ذمّه و توبيخه و الحكم عليه بارتكاب

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 286.

(2) سورة الطلاق: 7.

(3) سورة الحج: 78.

(4) الإسراء: 94- الكهف: 55.

(5) سورة المدثر: 49.

(6) الانشقاق: 20.

(7) سورة النساء: 39.

(8) سورة الأعراف: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 232

القبيح و الظلم، فهل ترى اللّه سبحانه و هو العليم الحكيم الرءوف الرّحيم أن يرتكب ما ينسب فاعله الى السفاحة و سخافة الرأي و الجهالة و الظلم.

و لقد أجاد فيما أفاد الصاحب بن عبّاد «1» حيث قال: كيف يأمر اللّه الكفار بالإيمان و قد منعهم عنه أو ينهاهم عن الكفر و قد حملهم عليه، و كيف يصرفهم عن الايمان ثم يقول: أَنَّى يُصْرَفُونَ «2» و خلق فيهم الإفك ثمّ قال: أَنَّى يُؤْفَكُونَ* «3»، و جعل فيهم الكفر، ثمّ يقول: كَيْفَ تَكْفُرُونَ* «4»، و جبّلهم على الصد، ثمّ يقول: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «5» و حال بينهم و بين الايمان ثم قال:

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ «6» و ذهب بهم عن الرشد ثم قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ «7» و أضلّهم حتّى أعرضوا عن الدين، ثم قال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «8».

و اعلم أنّ التعبير بالمعارضة إنّما هو مع تسليم ما ذكروه من دلالة الآية على وقوع التكليف بما لا يطاق و لو بمعونة ما ذكروه من المقدّمات، و إلّا فعلى ما هو الحقّ من عدم دلالة الآية أصلا فلا تعارض بينهما على وجه حسبما تسمع.

الجواب الثاني النقض

بعلمه سبحانه بالنسبة إلى أفعاله و تروكه، حيث إنّه يلزم على ما قرّروه أن لا يكون سبحانه قادرا على شي ء من الممكنات الّتي يوجد

__________________________________________________

(1) هو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد الطالقاني المتوفى (385) ه.

(2) المؤمن: 69.

(3) المائدة: 75.

(4) البقرة: 28.

(5) آل عمران: 99.

(6) النساء: 39.

(7) التكوير: 26.

(8) المدثر: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 233

في ظرف الخارج أولا، فإنّ ما علم وقوعه واجب الوقوع، و الّذي علم عدم وقوعه و لو مع إمكانه الذاتي فهو ممتنع الوقوع، كيف و لو وجد هذا، أو لم يوجد الأوّل لا نقلب علمه جهلا حسبما قرّروه، و قضيّة بطلانه سلب القدرة عنه، و هو كفر صريح على اتفاق منهم.

بل و يلزمهم نفي القدرة من العبيد أيضا فيما ينسب إليهم من الأفعال و التروك، لأنّ ما علم اللّه تعالى وقوعه منهم كان واجب الوقوع و الّذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، و لا قدرة على الواقع و لا على الممتنع و الضرورة قاضية بإثبات القدرة بالنسبة الى طرفي الفعل، مضافا الى خصوص ما ذكرناه في غير هذا الموضع من اثبات الاختيار.

الثالث ما ينحلّ به أصل الشبهة، و هو أنّ قضيّة العلم انكشاف، الواقع على ما هو عليه لا التأثير في وقوعه أو تغيّره عمّا هو عليه، و لذا لو فرضنا فاعلا يصدر عنه أفعاله باختياره، و فرضنا أن لا علم لأحد بشي ء من أفعاله بوجه كانت أفعاله جارية على ما هو عليه من الاختيار، فلو فرضنا علم عالم بها قبل وقوعها منه فمن البيّن أنّه لا يتغيّر حال ذلك الفاعل المختار في الواقع من جهة علم العالم بها و لو مع فرض

استحالة عدم مطابقة علم ذلك العالم للواقع، لأنّ مرجعها إلى استحالة انكشاف غير ما يقع من الفاعل باختياره له، لا إلى تأثير علمه في وقوع ما يقع منه.

ألا ترى أنّ علمك بحرارة النار، و إضائة الشمس و طلوعها في غد، و قيام الساعة و نحوها من المعلومات الحالية أو الآتية ممّا تقضي به الضرورة القطعيّة بحيث لا تجد مساغا للشكّ فيها و لا لاحتمال مخالفتها للواقع، و مع ذلك فأنت تعلم علما ضروريّا بأنّه لا تأثير لعلمك في شي ء منها و لا مدخليّة له في وقوعها أصلا، و بالجملة لا فرق بين أن يكون متعلّق العلم من الأفعال الإراديّة أو الطبيعيّة أو الإبداعيّة في عدم التأثير فيها بتغيّرها عمّا هي عليها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 234

و من هنا يتّضح الجواب عن أصل الشبهة بوجوهها المقرّرة.

أمّا على التقرير الأوّل فلأنّه سبحانه إنّما أخبر عنهم بعدم الإيمان لكونه هو الواقع منهم باختيارهم، و لو كانوا يختارون الإيمان فكان سبحانه يخبر عنهم بالإيمان، ألا ترى أنّه لو أخبرك مخبر صادق بأنّ زيدا يعطيك درهما بإرادته و اختياره فلا ريب انّه في حال الإعطاء قادر مختار و قد اختار بإرادته الإعطاء، و لو شاء لم يعطك الدرهم، لكنّه لمّا كان يختار الإعطاء تعلّق به علم العالم و إخباره، و هو واضح جدّا.

و لذا ترى كثيرا من الذاهبين الى مذهب الأشعريّة و المعتقدين بأصولهم قد ضعّفوا الاستدلال بالآية، حتى أنّ القاضي «1» قال: و الحقّ أنّ التكليف بالممتنع لذاته و إن جاز عقلا من حيث إنّ الأحكام لا يستدعى غرضا سيّما الامتثال لكنّه غير واقع للاستقراء، و الإخبار بوقوع الشي ء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه، كإخباره تعالى عما

يفعله هو أو العبد باختياره.

و ممّا ذكرناه يظهر الجواب عن الثاني أيضا.

و عن الثالث أنّ أبا لهب كان مكلّفا بالإيمان و لم يؤمن بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لمّا علم سبحانه أنّه لم يؤمن و لا يؤمن بعد ذلك أخبر عمّا يقع منه و لو كان في الواقع ممّن يؤمن لكان خبر الصادق مطابقا له، فهو مكلّف بتصديق الصادق و صدق كفره إنّما لوقوعه في متن الواقع فكان من مصاديق الصدق و إذا لم يكن منه كفر فلا علم و لا إخبار و لا تكليف بالتصديق بعدم الإيمان و إن كان التكليف بالتصديق مستمرّ.

و منه يظهر الجواب عن الرابع أيضا.

__________________________________________________

(1) هو القاضي الباقلاني ابو بكر محمد بن الطيّب البغدادي ناصر طريقة الاشاعرة توفّي سنة (403) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 235

و عن الخامس أنّه و إن لم يكن للعبد قدرة على قلب علمه تعالى إلّا أنّ ذلك لا ينافي القدرة على خلاف ما اختاره، فإنّ الإيمان من كل أحد ممكن في ذاته و القدرة قائمة بالنسبة إليه وجودا و عدما، و لا بدّ أن يكون علمه بالفعل الاختياري على ما هو عليه من وقوعه من فاعله على وجه الإختيار، و حينئذ فيرجع الحاصل إلى أنّه سبحانه عالم بأنّ الفاعل المختار يفعل كذا مختارا حال قدرته على خلاف ما يفعله.

و أمّا استحالة قلب علمه سبحانه جهلا فمرجعها إلى استحالة علمه تعالى بخلاف ما يقع منك بقدرتك إلى استحالة قدرتك على خلاف ما علمه، فأنت قادر في نفسك على خلاف ما علمه، و إن استحال في حقّه سبحانه أن يعلم خلاف ما تعمله.

و عن السّادس أنّه اجنبيّ عن المقام حسبما تسمعه

في تفسير الآية ان شاء اللّه تعالى.

و أمّا ما يقال في الجواب من أصل الشبهة: من أنّ الإيمان في نفسه ممكن، فلو تعلّق علم الواجب بإيجابه كان جهلا، أو بامكانه فلا يكون واجبا، و لو انقلب بالعلم واجبا لكان العلم مؤثّرا في الانقلاب و هو غير معقول.

فمرجعه الى ما سمعت، و إن كان لا يخلو من تسامح في التعبير.

و كذا ما يحكى عن المحقّق الطوسي: من أنّ العلم تابع للمعلوم فلا يكون مقتضيا للوجوب أو الامتناع.

نعم قد يورد عليه بأنّه إنّما يستقيم في العلم الانفعالي لا الفعلي، و فيه تأمّل يظهر بما ستسمعه في معنى علمه المتعالي عن إحاطة البشر به و بكيفيته، فإنّه عين ذاته بلا مغايرة أصلا، نعم نعلم أنّه لا يخفى عليه شي ء كما علّمنا في كتابه.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما سمعت عن الرازي الناشئ عن فرط

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 236

قصوره، و ضعف شعوره حيث تعامى عن الحق فلم يشعر بحسّه و لمسه، و قاس غيره بنفسه.

و أغرب من ذلك ما افتراه على هشام، مع أنّه من أجلّاء أصحابنا في الكلام، و من خواصّ الإمام عليه الصلاة و السّلام، و له إلزامات و تشنيعات على المخالفين حتى اشتهر بذلك بين الفريقين، و لعلّه مضافا الى عدم فهم مقاصده هو العمدة في نسبة أمثال تلك الافتراءات عليه حتى حكى الرازي في تفسيره عنه أنه قال: إنّ اللّه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، أو أنه يجوز البداء على اللّه تعالى، و أنّه قال:

إنّ قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ ... إنّما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة و يجوز أن يظهر له خلاف ما ذكره. و هو

كما ترى فرية بلا مرية.

إعجاز الآية الكريمة

في هذه الآية معجزة من حيث تضمّنها للإخبار من الغيب الّذي هو عدم إيمان هؤلاء الكفّار فيما بعد بناء على نزولها في حقّ أشخاص بأعيانهم على ما

روي عن مولانا الإمام العسكري عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم المدينة و ظهرت آثار صدقه و آيات حقّه، و بيّنات نبوّته كادته اليهود أشدّ كيد، و قصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها، و حججه ليبطلوها، فكان ممّن قصده بالردّ عليه و تكذيبه مالك بن الصيف، و كعب بن الأشرف، و حييّ بن الأخطب، و أبو ياسر بن الأخطب، و أبو لبابة بن عبد المنذر فقال مالك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمّد تزعم أنّك رسول اللّه؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كذلك قال اللّه خالق الخالق أجمعين، قال: يا محمد لن نؤمن أنّك رسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الّذي تحتنا، و لن نشهد أنّك من اللّه جئتنا حتّى يشهد لك هذا البساط.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 237

و قال أبو لبابة بن عبد المنذر: لن نؤمن لك يا محمّد أنّك رسول اللّه و لا نشهد لك به حتى يؤمن و يشهد لك به هذا السوط الّذي في يدي.

و قال كعب بن الأشرف: لن نؤمن لك أنّك رسول اللّه و لن نصدّق به حتى يؤمن لك هذا الحمار الّذي أركبه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليس للعباد الاقتراح على اللّه تعالى، بل عليهم التسليم للّه، و الانقياد لأمره و الاكتفاء بما جعله كافيا، أما كفاكم أن أنطق

التوراة و الإنجيل و الزبور و صحف ابراهيم بنبوتي، و دلّ على صدقي، و بيّن فيها ذكر أخي و وصيّي، و خليفتي في أمّتي، و خير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب، و أنزل عليّ هذا القرآن الباهر للخلق أجمع، المعجز لهم أن يأتوا بمثله و إن تكلّفوا شبهه، و أمّا هذا الّذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربّي عزّ و جل، بل أقول:

إنّ ما أعطانيه ربّي تعالى من دلالته هو حسبي و حسبكم فإن فعل عزّ و جل ما اقترحتموه فذاك زائد في تطوّله علينا و عليكم، و ان منعنا ذلك فلعلمه بأن الّذي فعله كاف فيما أراده منّا.

قال: فلمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كلامه هذا انطق البساط فقال: أشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا صمدا قيّوما أبدا لم يتّخذ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً و لم يشرك فِي حُكْمِهِ أَحَداً، و أشهد أنّك يا محمّد عبده و رسوله أرسلك بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*، و أشهد أنّ علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك و وصيّك و خليفتك في امّتك و خير من تركته على الخلائق بعدك، و أنّ من والاه فقد والاك، و من عاداه فقد عاداك، و من أطاعه فقد أطاعك، و من عصاه فقد عصاك، و من أطاعك فقد أطاع اللّه و استحق السعادة برضوانه، و أنّ من عصاك فقد عصى اللّه و استحق أليم العذاب.

قال: فعجب القوم، و قال بعضهم لبعض: ما هذا إلّا سحر مبين، فاضطرب

تفسير الصراط

المستقيم، ج 4، ص: 238

البساط و ارتفع و نكّس مالك بن الضيف و أصحابه عنه حتى وقعوا على رؤوسهم و وجوههم، ثمّ أنطق اللّه تعالى البساط ثانيا، فقال: أنا بساط أنطقني اللّه و اكرمني بالنطق بتوحيده و تمجيده و الشهادة لمحمّد نبيّه بأنّه سيّد أنبيائه و رسله الى خلقه، و القائم بين عباد اللّه بحقّه، و بامامة أخيه و وصيّه، و وزيره، و شقيقه و خليله، و قاضي ديونه، و منجر عداته و ناصر أوليائه، و قامع أعدائه، و الانقياد لمن نصبه إماما و وليّا، و البراءة ممّن اتخذ منابذا و عدوّا، فما ينبغي لكافر أن يطئني و لا أن يجلس عليّ، إنّما يجلس عليّ المؤمنون.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسلمان، و مقداد، و أبي ذرّ، و عمّار: قوموا فاجلسوا عليه.

ثم أنطق اللّه سوط أبي لبابة بن عبد المنذر، فقال: أشهد أن لا اله إلّا اللّه، خالق الخلق، و باسط الرزق، و مدبّر الأمر و القادر على كل شي ء، و أشهد أنّك يا محمّد عبده و رسوله و صفيّه و خليله، و حبيبه، و نجيّه، و جعلك السفير بينه و بين عباده لينجي، بك السعداء، و يهلك بك الأشقياء، و أشهد أنّ علي بن أبي طالب المذكور في الملأ الأعلى بأنّه خير الخلق بعدك، و أنّه المقاتل على تنزيل كتابك ليسوق مخالفيه الى قبوله طائعين و كارهين، ثم المقاتل بعدك على تأويله المنحرفين الذين غلبت أهوائهم عقولهم، فحرّفوا تأويل كتاب اللّه و غيّروه، و السابق الى رضوان اللّه أولياء اللّه بفضل عطيّته، و القاذف في نيران اللّه اعداء اللّه بسيف نقمته، و المؤثرين لمعصيته و مخالفته.

قال: ثم انجذب السوط من يد

أبي لبابة و جذب أبا لبابة فخرّ لوجهه، ثم قام بعد فجذبه السوط فخرّ لوجهه ثمّ لم يزل كذلك مرارا حتى قال أبو لبابة: و يلي ما لي؟ فانطق اللّه عزّ و جلّ السوط، فقال: يا أبا لبابة إنّي سوط قد انطقني اللّه بتوحيده، و اكرمني بتحميده، و شرّفني بتصديق نبوّة محمّد سيّد عبيده، و جعلني ممّن يوالي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 239

خير خلق اللّه بعده، و أفضل أولياء اللّه من الخلق أخيه و المخصوص بابنته سيّدة النسوان، و المشرّف ببيتوتته على فراشه أفضل الجهاد، و المذلّ لأعدائه بسيف الانتقام، و المبيّن لأمّته علوم الحلال و الحرام، و الشرائع و الأحكام، ما ينبغي لكافر مجاهر بالخلاف على محمد أن يبتذلني و يستعملني، لا أزال أجذبك حتّى أثخنك ثمّ أقتلك و أزول عن يدك، أو تظهر الايمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال أبو لبابة: فأشهد بجميع ما شهدت به أيّها السوط و اعتقده و أؤمن به، فنطق السوط: ها أنا ذا قد تقرّرت في يدك لإظهارك الإيمان، و اللّه أعلم بسريرتك، و هو الحاكم لك أو عليك في يوم الوقت المعلوم.

قال عليه السّلام: و لم يحسن إسلامه، و كانت منه هنات، و هنات.

فقام القوم من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجعلت اليهود يسرّ بعضها إلى بعض بأنّ محمّدا لمؤتى له، و مبخوت «1» في أمره، و ليس بنبيّ صادق.

و جاء كعب بن الأشرف يركب حماره فشبّ به الحمار و صرعه على رأسه فأوجعه، ثمّ عاد ليركبه فعاد إليه الحمار بمثل صنيعه، ثم عاد ليركبه فعاد عليه الحمار بمثل صنيعه، فلمّا كان في السابعة أو الثامنة أنطق

اللّه تعالى الحمار فقال: يا عبد اللّه بئس العبد أنت، شاهدت آياتي و كفرت بها.

أنا حمار قد اكرمني اللّه بتوحيده، فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، خالق الأنام ذو الجلال و الإكرام، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، سيّد أهل دار السّلام، مبعوث لإسعاد من سبق علم اللّه له بالسعادة، و إشقاء من سبق الكتاب عليه بالشقاوة و اشهد أنّ علي بن أبي طالب وليّه و وصيّ رسوله، يسعد اللّه من يسعده إذا وفّقه اللّه لقبول موعظته، و التأدب بأدبه، و الايتمار بأوامره و الانزجار بزواجره، و أنّ

__________________________________________________

(1) المبخوت: المحظوظ في أمره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 240

اللّه تعالى بسيوف سطوته وصولات نقمته يكبّت و يخزي أعداء محمّد حتى يسوقهم بسيفه الباتر و دليله الواضح الباهر إلى الايمان به، أو يقذفه اللّه في الهاوية إذا أبي إلّا تماديا في غيّه، و امتدادا في طغيانه و عمهه «1».

ما ينبغي الكافر أن يركبني، بل لا يركبني إلّا مؤمن باللّه مصدّق بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أقواله مصوّب له في جميع أفعاله و في فعل أشرف الطاعات في نصبه أخاه عليّا وصيّا و وليّا، و لعلمه وارثا، و بدينه قيّما، و على امّته مهيمنا، و لديونه قاضيا، و لعداته منجزا، و لأوليائه مواليا، و لأعدائه معاديا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا كعب بن الأشرف حمارك خير منك قد أبي أن تركبه، فلن تركبه أبدا، فبعه من بعض إخواننا المؤمنين.

فقال كعب: لا حاجة لي فيه بعد أن ضرب بسحرك، فناداه حمار: يا عدوّ اللّه كفّ عن تجهّم محمّد رسول اللّه،

و اللّه لولا كراهيّة مخالفته لقتلتك و وطأتك بحوافري، و لقطعت رأسك بأسناني، فخزي و سكت، و اشتدّ جزعه ممّا سمع من الحمار، و مع ذلك غلب عليه الشقاء، و اشترى منه الحمار ثابت بن قيس بمائة دينار، و كان يركبه و يجي ء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو تحته هيّن ليّن ذليل كريم يقيه المتالف، و يرفق به في المسالك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا ثابت هذا لك و أنت مؤمن ترتفق بحمار مؤمن.

فلمّا انصرف القوم من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يؤمنوا أنزل اللّه يا محمّد:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ، و وعظتهم و خوّفتهم، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لا يصدّقون بنبوتك، و هم قد شاهدوا هذه الآيات و كفروا فكيف

__________________________________________________

(1) العمه: التحيّر و التردّد في الضلال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 241

يؤمنون بك عند قولك و دعائك «1».

[سورة البقرة(2): آية 7 ]

اشارة

تفسير الآية (7) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ لمّا أخبر سبحانه بأنّهم لا يختارون الإيمان، و أنّ الإنذار و عدمه عليهم سيّان، أشار في هذه الآية إلى ما هو بمنزلة التعليل لا حكمين، مع ما فيها من التنبيه على ترتبه بين المسببين و الإشارة إلى الأمر بين الأمرين.

و الختم نظير الطبع و هو التأثير في الطين و نحوه، يضرب الخاتم عليه (بالفتح) و الختام: الطين، يختم عليه لكتمه، و من هنا قيل: الختم و الكتم أخوان، و ختمت القرآن: بلغت آخره، و ختم له بالخير: انتهى اليه خاتمته و هي عاقبته و آخرته،

معنى الختم و القلب

و ختم على قلبه: جعله لا يفهم شيئا و لا يخرج منه شي ء من الخير، كأنّه وسم بعلامته، او ضرب عليه ما يمنعه من دخول الخير منع الختام الأواني.

و الصلة في مثله بعلي، و في مثل ختم له بالخير باللام، و لم يسمع استعماله من دون صلة، و إن قيل: لا يمتنع فيه ذلك.

__________________________________________________

(1) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 33- 36 و عنه بحار الأنوار ج 17 ص 302- 307 ح 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 242

معنى القلب و أقسامه

و القلب قلبان:

قلب ظاهري، و هو اللحم الصنوبري الّذي له أذنان و تجويفان يتخلص إليه لطائف الكيموس فتستحيل فيه بخارا يتكون منه الروح الحيواني الّذي هو أصل الأرواح و مادّتها و مركبها.

و قلب باطني، و هو لطيفة ربانيّة يعبّر عنها باللبّ، و العقل، و الفؤاد، و الروح، و النفس، و المشار إليه بأنا، و مقرّ اليقين، و مدرك المعاني، و ملك البدن، و غيرها من الألقاب الّتي إذا اجتمعت افترقت، و إذا افترقت اجتمعت، و هو بالمعنيين المضغة الّتي في بدن ابن آدم إذا صلحت صلح البدن كلّه، و إذا فسدت فسد البدن كلّه.

و سمّي ذلك لتقلّبه في معاني مدركاته، و انقلابه بخواطره، و لذا قيل:

ما سمّي القلب إلّا من تقلّبه و الرأي يعزب و الإنسان أطوار أو لأنّ قلب كل شي ء خالصه و لبّه، أو لأنّه الأوسط من قلب النخلة لشحمتها، او أجود خوصها، أو لأنّه تقلب فيه المعاني أي تفرغ.

أو أنّه قالب الخواطر بفتح اللام على الأكثر لانطباعها فيه على حسب هيئته و شكله، فإنّ القلب الصالح يخطر فيه الأفكار الحسنة، و النيّات الصالحة، و ينبعث منه العزم و القوّة

على الطاعات، و القلب الطالح لا يخطر فيه إلّا الشرور و القبائح و الوساوس الشيطانيّة، و الأوهام الرديّة الحيوانيّة، و ينبعث منه الحيل و الانحرافات، و اتّباع الشهوات.

و في الخبر: القلوب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك، و إن أدركه على إيمانه نجى، و قلب منكوس، و هو قلب المشرك، و قلب مطبوع و هو قلب المنافق، و قلب أزهر أجرد، و هو قلب المؤمن، فيه كهيئة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 243

السراج، إن أعطاه اللّه شكر، و إن ابتلاه صبر «1».

و هذا الأخير هو المشار إليه في الآية الكريمة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ «2»، اي حاضر القلب، فإنّ أصحاب القلوب هم العلماء الربّانيون، و أرباب الأسماع هم المتعلّمون على سبيل النجاة، و الفرقة الثالثة همج رعاع، أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح، و هم المشار إليهم بالآيات المشتملة على الختم و الطبع، و نحوهما.

و أمّا ما في «الذهبية» الّتي كتبها مولانا الّرضا عليه التحية و الثناء إلى المأمون

حيث قال: فملك الجسد هو القلب، و العمّال هم العروق و الأوصال و الدماغ، و بيت الملك قلبه، و أرضه الجسد ... الخبر «3».

فالمراد بالقلب الأوّل هو الروح، و بالثاني اللحم الصنوبري، أو الأوّلي النفس، و الثاني الروح البخاري.

و بالجملة للقلب إطلاقات كثيرة في الكتاب و السنّة، و ربما يخصّ كلّ من النفس، و الروح، و الصدر، و القلب، و العقل، و الفؤاد، و سرّ الفؤاد بمعنى من المعاني، أو مرتبة من المراتب، و كأنّه اصطلاح حادث فلا مشاحّة فيه، لكنّه لا يحمل عليها المطلقات من تلك الألفاظ،

فإنّها بالنسبة الى تلك الألفاظ شرع سواء، نعم ربما يستفاد من خصوص المقام إرادة البعض.

و يقال كلّ من السمع و البصر للجارحة، و للقوّة، و لفعلها، و بمعنى المفعول، و لإدراك النفس، و هو من مشاعر القلب الباطنة كما أنّ الحاسّتين من مشاعرها

__________________________________________________

(1) منقول بالمعنى عن البحار ج 67 ص 50 عن معاني الاخبار ص 395.

(2) سورة ق: 37.

(3) بحار الأنوار ج 59 ص 309 ط بيروت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 244

الظاهرة، و يقال: البصيرة في مقابلة البصر، و بصرت (بضم الضاد و كسرها) أي علمت بصرا.

علّة وحدة السمع

و إنّما وحّد السمع لاعتبار الأصل فإنّه في الأصل مصدر، و المصادر لا يثنّى و لا يجمع، كقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «1»، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ «2»، وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ «3».

أو للأمن من اللبس كما في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعيشوا.

يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمنوا كقولك: عبدهم، و دارهم و أنت تريد الجمع رفضوه.

أو على تقدير مضاف مثل و على حواسّ سمعهم، و هو كما ترى، مضافا الى اشتراك الكلّ في إفادة صحّة إفراده لا إيثار إفراده من بين أخويه.

و عن سيبويه: أنّه و إن وحّد لفظه إلّا أنّه ذكر مال قبله و ما بعده بلفظ الجمع.

و عن بعضهم: أنّ النكتة في توحيده أنّ مدركاته نوع واحد و هو الصوت، و مدركاتهما أنواع مختلفة.

و ما قيل: من أنّ دلالة وحدته على وحدة متعلّقه لا تعلم من أيّ الدلالات مدفوع بأنّها من الدلالات الالتزاميّة الّتي يكتفى فيها بأيّ لزوم كان، و لو بحسب الاعتقاد في اعتبارات البلغاء.

__________________________________________________

(1) سورة ص: 21.

(2) سورة

الذاريات: 24.

(3) سورة فصّلت: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 245

و لكن مع ذلك كلّه لا يخفى أنّ كلّها تكلّفات و تخرّصات و المتّجه هو الوجه الأوّل.

و توهّم أنّ القلب و البصر مشتركان معه في النقل من المصدريّة مدفوع بأنّه قد غلب عليهما حكم الإسم دون السمع لبقائه على حكم الأصل و لذا وحّد لفظا و لو في سياق الجمع كما ذكر في القرآن كقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «1»، و أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ «2»، وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ* «3»، وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ «4»، وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً «5».

الآية مع أنّ مرادفه على بعض الوجوه و هو الأذن قد جمعت في مثل هذا السّياق كلّما ذكرت كقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها «6»، أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها «7»، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها «8»، وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ «9».

__________________________________________________

(1) الشعراء: 212.

(2) يونس: 31.

(3) النحل: 78.

(4) المؤمنون: 78.

(5) الأحقاف: 26.

(6) الأعراف: 179.

(7) الحجّ: 46.

(8) الأعراف: 195.

(9) فصّلت: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 246

و من التّأمّل في هذه الآيات و غيرها ممّا مرّ يظهر أنّه لا يجدي جعل السّمع عبارة عن القوّة و الأذن عبارة عن الجارحة او العكس، و لأكون أحدهما من الحواس الظّاهرة و الآخر من

الباطنة، بل الأولى ما سمعت و يؤيّده ما في «القاموس» قال: السّمع حسّ الأذن و الأذن إلى أن قال: و يكون للواحد و الجمع آه.

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه انّ السّمع دلّ على ذلك فلا يقاس عليه غيره حتّى الأذن، نعم إذا كان بمعنى المقابل لما يقال له كان للواحد و الجمع كالسّمع كما أنّه قد دلّ على تأنيث الأذن فلا يقاس عليه السّمع.

و الغشاوة و الغشوة بالتّثليث فيهما هو الغطاء و كذا الغشاء بالكسر.

قال في «المصباح»: هو اسم من غشّيت الشّي ء بالتثقيل إذا غطيته و يقال: إنّ هذا البناء و هو فعالة لما يشتمل على الشي ء كالعصابة و العمامة و القلادة، و كذلك كلّ ما استولى على شي ء فان اسم ما استولى عليه الفعالة كالإمارة و الخلافة إمّا تسمية أسماء الصّناعات بها كالخياطة و النّساجة و القصارة فلما في معنى الصّناعة من الحياطة الحاصلة بالمزاولة و حصول الملكة.

و «عَلى سَمْعِهِمْ» و إن احتمل اتّصاله بما قبله و بما بعده إلّا أنّ الأوّل أولى، فيكون معطوفا على قلوبهم للتخلّص عن مخالفة الأصل من تقديم ما حقّه التّأخير و حذف المبتدا على وجه، و لما يأتي عن الإمام عليه السّلام في تفسيره لمعنى الختم حسبما تسمع، و للوقف عليه اتفاقا على ما قيل، و لقوله: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «1».

و لأنّ القلب و السّمع لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجهات جعل ما يمنعهما من فعلهما الختم المانع من جميع الجهات بخلاف الأبصار الّتي إدراكها

__________________________________________________

(1) الجاثية: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 247

مختص بجهة المقابلة و المحاذات و لذا جعل المانع لها عن فعلها الغطاء المختصّ بتلك

الجهة.

و توهّم أنّ الغشاوة تابع للمغشيّ إدراكا وضعا فإن كان إدراك المغشيّ من جهة واحدة منعتها منها أو من جميع الجهات فمن الجميع.

مدفوع بانّ المتعارف في الغشاوة الّتي هي السّتارة و الغطاء اختصاص منعها بجهة واحدة و إن مرّ التّصريح عنهم بان زنة فعالة للمشتمل على الشي ء فتأمّل.

علّة تكرار حرف الجر

و في تكرير الجار دلالة على شدّة الختم لدلالة زيادة المبني على زيادة المعنى و دلالة الجار على الاحاطة، و لظهور استقلال كلّ من الرّبطين في الحكم، و لم يقصد إفادة هذه الشّدّة في قوله: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ و لذا اخّر فيه القلب الّذي هو الأصل في الختم دون المقام الّذي قصد فيه بيان شدّة إصرارهم على الكفر مع الإنذار و عدمه، و تنكير غشاوة للتّعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم و بصائرهم بالكلّية فلا تنجح في رفعها و الكشف عنها الآيات و النذر أو لإفادة النوعيّة أي نوع من الأغشية غير ما يتعارفه النّاس و هو التّعامي عن آيات اللّه سبحانه و النّظر إلى الدّنيا لا بها و فيها،

فإنّ من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته كما عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام «1». و في كلام آخر له عليه السّلام: و إنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر ممّا ورائها شيئا و البصير ينفذها بصرها و يعلم انّ الدّار ورائها فالبصير منها شاخص و الأعمى

__________________________________________________

(1) في البحار ج 75 ص 23: و من نظر إليها أعمته، و من بصر بها بصّرته.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 248

إليها شاخص و البصير منها متزوّد و الأعمى لها متزوّد «1».

تتمّة في أمور مهمّة

وجوه القراءة في الآية

أحدها: انّ في الآية وجوها من القراءة.

منها ما في «الكشاف» و «تفسير الّرازي» عن ابن أبي عبلة «2» و على أسماعهم و كأنّه للقياس بطرفيه و قد مرّ ما فيه.

و منها: اختلافهم في غشاوة من حيث الإعراب و الهيئة و المادّة فالمشهور فيها كسر الغين المعجمة و الرّفع بالابتداء عند سيبويه، و بالظّرف يعني بالفعل الّذي يتعلّق به ذلك

كما عن الأخفش في نظائر الباب.

و في الشّواذ عن عاصم غشاوة بالنّصب بإضمار فعل اي و جعل على أبصارهم غشاوة و إنّما حذف للعلم به كما في قوله: علّفتها تبنا و ماء باردا اي و سقيتها.

و امّا خصوص الفعل فللاية الاخرى وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «3».

أو بنزع الخافض كانّه قال: و ختم على أبصارهم بغشاوة و ضعّف بأنّه فصل بين حرف العطف و المعطوف به و ذلك إنّما يجوز في الشّعر كما أنّ الأوّل و هو حذف النّاصب لا يوجد أيضا في حال الإختيار و فيه تأمّل و الغشاوة يمكن تعلّقها بالفعل المضاف الى الثلاثة فيندفع المحذور إلّا أنّ قضيّة التّوقيف الحكم بتعين المشهور بلا

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة من الخطبة 133.

(2) هو ابراهيم بن ابي عبلة شمر بن يقظان الدمشقي المقرئ توفّي سنة «152» بدمشق عن سنّ عالية.

(3) الجاثية: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 249

فرق بين كون الشّذوذ قيدا لقراءة عاصم، أو للرّواية عند فكأنّهم رفضوها رأسا، و لذا لم يحكها عنه في «التيسير» و «الشّاطبيّة» و «طيبة النّشر» و غيرها من الكتب المعدّة لبيان الخلافيّات.

كما أنّ من الشواذ أيضا ما حكاه في المجمع عن الحسن البصري بضمّ الغين و رفع الآخر، و ما عن بعضهم من الفتح و النّصب، و غشوة بالكسر و الرّفع، و غشوة بالفتح و الرّفع و النّصب، و غشاوة بالعين المهملة و الرفع و هذه كلّها من الشواذ الّتي لا تجزي القراءة بها شرعا و إن اتّحدت أو تقاربت لغة بحسب المعنى، فإنّ الغشاوة و الغشوة بمعنى مع جواز التثليث فيهما، و بالإهمال من العشا بالفتح و القصر كانّهم لا يرون الآيات النّيرة الواضحة في ظلمات

كفرهم و شركهم و جحودهم لما في أعينهم من العشاءة و لولاها لأبصروها، لأنّها لظهورها لا تمنع الظّلمة من رؤيتها إلّا لمن هو أعشى.

و منها أنّه قرأ أبو عمرو، و الكسائي على أبصارهم بالإمالة و الباقون بالتّفخيم.

أقسام حجب القلب
اشارة

ثانيها: انّ الختم من جملة الحجب القلبية المانعة عن سطوع إشراق أنوار العلم و الهداية و المعرفة على قلب العبد، و ذلك أنّ للقلوب حجبا مختلفة في الرّقة و الغلظة يختلف معها مراتب الإيمان و مراتب الكفر و هي سبعة.

أوّلها و أرقّها هو الغين

لغة في الغيم أو هو السّحاب الرقيق الّذي يكاد يضمحل و يتلاشى لرقّته و لطافة أجزائه

ورد في النّبوي، انّه ليغان على قلبي و انّي

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 250

لأستغفرن في كلّ يوم سبعين مرّة «1».

و في بعض الأخبار: مائة مرّة.

و هو و عفوه في حقّهم عليه السّلام لتحمّلهم ذنوب أوليائهم و شيعتهم و محبّهم، و لذا بناه للمفعول، و وصله بعلي، فيصيبهم من ذنوب أوليائهم ما يصيب أصل الشّجرة إذا رهقت أوراقها الغبرة و ذلك انّهم أصل الشجرة الطيّبة و شيعتهم أوراقها كما في المقبرة «2».

[ثانيها: الصدء]

و في النهاية: «إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»

هو أن يركبها الرين بمباشرة المعاصي و الآثام، فيذهب بجلائه «3».

فإن الصدأ حجاب رقيق ينجلي بالتصفية، و يزول بنور التجلي لبقاء الايمان معه، و لذا

قال الصادق عليه السّلام: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للقلوب صداء كصداء النحاس فاجلوها بالاستغفار «4».

و في معناه النّزع المشار اليه بقوله تعالى: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ* «5» و كذا المسّ في قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ «6».

__________________________________________________

(1) قال الطريحي في مجمع البحرين في كلمة «غين»: في الخبر: إنه ليغان على قلبي ... إلخ قال ابو عبيدة في معنى الحديث: اي يتغشّى قلبي ما يلبسه، و قد بلغنا عن الأصمعي انه سئل عن الحديث فقال: عن قلب من يروى هذا؟ فقال السائل عن قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: لو كان عن غير النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكنت افسّره لك.

(2) بحار الأنوار ج 9

ص 112.

(3) البحار ج 32 ص 349.

(4) البحار ج 77 ص 174.

(5) الأعراف: 200.

(6) الأعراف: 201.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 251

ثالثها: الزّيغ بمعنى الميل عن الحقّ

و لا يكون إلّا بعد الهداية و ارائة النّجدين:

طريق الهداية و الضّلالة، و هذا الميل مقتضى الطبيعة البشريّة و الظّلمة الهيولانيّة و الشرور الامكانيّة و ازدحام القوى المتخالفة في معترك النفس الإنسانيّة، و لا نجاة منها لأحد إلّا من أدركته من صلة رحم آل محمد عليه السّلام رحمة رحيميّة، يعتصم بها بفاضل عصمتهم عليه السّلام، و يتقوّى بها في سلوك نجد الخير كلّما لاح له النّجدان.

و إلى كلّ ذلك و غيره الإشارة بقوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ «1».

و لذا

قال الصادق عليه السّلام: أكثروا و من ان تقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا و لا تؤمنوا الزّيغ «2».

أقول: لأنّه أسرع إلى القلوب من اللّحظة إلى العين و كثيرا ما يخفى في غير القلوب المصفّاة إلى أن يستحكم.

و لذا ورد انّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها «3».

رابعها: الطّبع الّذي هو في الأصل الوسخ الشّديد يغشى السيف

ثمّ استعمل فيما يغشى القلب من ظلمة الآثام و درن الأوزار حتّى يكاد أن تكون طبيعة و سجيّة فيقلّ منه الخير جدّا بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا «4» اي منهم، أو ايمانا قليلا، يعني ببعض ما أنزل اللّه تعالى.

و روى العيّاشي عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يدعو أصحابه فمن أراد اللّه بهم خيرا سمع و عرف ما يدعوه إليه، و من أراد به شرّا طبع على قلبه

__________________________________________________

(1) آل عمران: 8.

(2) تفسير العياشي ج 1 ص 164 و عنه الصافي ج 1 ص 247 و البرهان ج 1 ص 272.

(3) تفسير البرهان ج 1

ص 272 عن الكافي.

(4) النساء: 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 252

فلا يسمع و لا يعقل و هو قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «1» «2».

[خامسها: الختم
الوجوه الّتي قيلت في الختم

خامسها: الختم المشار اليه في هذه الآية المفسّر بشدّة الطبع بحيث لا يوصل إلى الشّي ء المختوم عليه او يوسم القلوب بسمة يعرفها من يعرفها من الملائكة و الأنبياء و الأولياء.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام قال: الختم هو الطّبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم «3».

سادسها: الرين الّذي

فسّره مولانا الباقر عليه السّلام بتغطية النكتة السّوداء البيضاء فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير ابدا

كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «4» «5».

سابعها: الإقفال بالكسر و هو سدّ جميع مسامع القلب و منافذه سدّا بليغا ثمّ إقفالها بتيسير سبل الشرّ خزيا و خذلانا و تخلية بين العبد و نفسه.

قال الصّادق عليه السّلام: إنّ لك قلبا و مسامع، و إنّ اللّه إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه و إذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا، و هو قول اللّه

__________________________________________________

(1) النحل: 108.

(2) تفسير العيّاشي ج 2 ص 273.

(3) عيون الاخبار ج 1 ص 123.

(4) المطففين: 14- 15.

(5) راجع تفسير البرهان ج 4 ص 442.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 253

عزّ و جلّ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» «2».

و هذا مجمل الكلام في الإشارة إلى الحجب القلبيّة على ما يظهر لي من الآيات و الاخبار و المقصود الإشارة إلى نوع الحجب، و إلّا فقد وردت في المقام ألفاظ أخر،

بل المراتب المتقدّمة ربما يطلق على بعضها اسم غيرها، و قد أشرنا إلى الحجب على نمط أخر عند التعرّض لوظائف التّلاوة.

انّ في هذه الآية و الّتي قبلها اشارة لطيفة إلى الأمر بين الأمرين فانّه نسب إليهم الكفر و الإصرار عليه و على ترك الايمان بحيث لا ينجع التّبليغ و الإنذار عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فضلا عن غيره فيهم أصلا و ذمّهم على ذلك حتّى أوعدهم بالعذاب العظيم لكنّه نسب الختم إلى نفسه تعالى تنبيها على أنّ فيضه تعالى غير مقطع عنهم في حال من الأحوال سواء اختاروا الكفر أو الايمان كما قال: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً «3».

فالعطايا الالهيّة و الإمدادات الربّانيّة من القدرة و الاستطاعة و ساير الأدوات و الآلات و غيرها واصلة إلى كلّ أحد في كلّ حال وصولا سيّالا اتّصاليّا بلا فرق بين أن يصرفها في الطّاعة أو في المعصية، فان كان الفعل طاعة فقد أرشده اللّه و أمره و أقدره عليها و أثابه بفعلها، و إن كان معصية فقد بيّن له و نهاه و زجره و اقدره كيلا يكفّ الظّالم من ظلمه قسرا و جبرا.

و إليه

أشار الصّادق عليه السّلام بقوله: شاء اللّه أن أكون مستطيعا لما لم يشأ أن أكون فاعله «4».

__________________________________________________

(1) سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 24.

(2) تفسير البرهان ج 4 ص 186.

(3) الإسراء: 20.

(4) التوحيد ص 353.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 254

و

الرّضا عليه السّلام حيث ذكر عنده الجبر و التفويض فقال لأعطينكم «1» في هذا أصلا لا تختلفون فيه و لا يخاصمكم عليه أحد إلّا

كسرتموه، قلت إن رأيت ذلك، فقال، إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يطع بإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم و القادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه تعالى منها صادا و لا عنها مانعا و إن ائتمرا بمعصيته و شاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و إن لم يحل و فعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه «2»، الخبر.

و منه يظهر جواز استناد الآثار المترتّبة على المعصية من الختم و الزيغ و الرّين و غيرها حسبما سمعت إلى العبد لأنّه الفاعل المختار إلى اللّه تعالى لأنّه الواهب للفيوض و ربما يشعر به قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «3»، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ «4»، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «5».

و من هنا يظهر الوجه في نسبة الختم إليه سبحانه بناء على ما هو المعلوم من قواعد العدليّة.

و ربما يذكر فيه وجوه أخر منها: أنّ المراد بالختم العلامة و إذا انتهى الكافر في كفره إلى حالة يعلم اللّه تعالى أنّه لا يؤمن فإنّه تعالى يعلم على قلبه علامة يعرفه بها الملائكة و الأنبياء كما أنه تعالى جعل للمؤمنين سمة يعرفهم بها من يعرفهم، فيستغفرون له و يحفظون عليهم، قالوا و الفائدة في تلك العلامة إمّا عائدة إلى الملائكة و الأنبياء و الأوصياء لأنّهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافرا ملعونا عند اللّه صار

__________________________________________________

(1) في البحار ج 5 ص 16: ألا أعطيكم.

(2) بحار الأنوار ج 5 ص 16.

(3) الصف: 5.

(4) المنافقون: 3.

(5) النساء: 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 255

ذلك سببا منفّرا

لهم عنه، او إلى المكلّف، فانّه إذا علم أنّه متى آمن أحبّته الملائكة و استغفروا له و انتشر له الذكر الجميل عندهم و صار ذلك باعثا قويّا له في الميل إلى الطّاعات كما انّه إذا علم أنّه مع كفره يتنفّر منه الملائكة و يبغضونه و يتبرّءون منه و يلعنونه صار ذلك زاجرا له عن الكفر، و هذا الوجه هو المستفاد من كلام الامام عليه السّلام حيث

قال في تفسير الآية بعد ذكرها: أي وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظر إليها بأنّهم الّذين لا يؤمنون، و على سمعهم، كذلك بسمات و على أبصارهم غشاوة و ذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن النّظر فيما كلّفوه و قصّروا فيما أريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يتعالى عن العبث و الفساد و عن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبة و لا بالمسير إلى ما قد صدّهم بالعجز منه «1».

أقول: و فيه إبطال لمذهب الأشاعرة القائلين بالجبر، حيث ذهبوا إلى أنّ الختم حتم من اللّه سبحانه بالنسبة إلى الكفّار، و انّه لا صنع للعبد فيه أصلا لا إيجادا و لا إبقاء و لا إزالة، و استراحوا عن الوجوه الّتي ذكرها العدليّة في الآية بحملها على كون الفعل منه سبحانه من دون ان يكون للعبد فيه صنع و اختيارا أصلا.

و قد قرّر في الأصول بل علم من ضرورة مذهب آل الرسول أنّ القول به مخالف لما هو المتواتر القطعي من المنقول كما انّه مخالف لضرورة العقول.

ثمّ اعلم أنّ هذا الختم المضروب على قلوبهم و سمعهم و الحجاب المضروب على أبصارهم

ليس من الأمور الاعتباريّة الغير المتأصّلة بل إنّما هي من الأمور الحقيقة المتقرّرة في الملكوت السّفلى و لذا ينكشف على ما هو عليه لمن أراه اللّه تعالى ملكوت الأشياء و إن كان مستورا على المنغمسين في الغواسق الظّلمانيّة كما

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 33- 36 و عنه البحار ج 9 ص 174.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 256

قال سبحانه: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً* «1».

و في تفسير الامام عن الصّادق عليه السّلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا دعا هؤلاء النفر المعيّنين في الآية المتقدّمة و هي قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «2» و أظهر لهم تلك الآيات فقابلوها بالكفر أخبر اللّه عزّ و جل عنهم بانّه ختم على قلوبهم و على سمعهم ختما يكون علامة للملائكة المقرّبين القرّاء لما في اللّوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم حتّى إذا نظروا إلى أحوالهم و قلوبهم و أسماعهم و شاهدوا هؤلاء المختومين على جوارحهم يجدون على ما قرءوه من اللّوح المحفوظ و شاهدوه في قلوبهم و أسماعهم و أبصارهم ازدادوا بعلم اللّه عزّ و جلّ بالغائبات يقينا فقالوا: يا رسول اللّه فهل في عباد اللّه من يشاهد هذا الختم كما يشاهده الملائكة؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشاهده باشهاد اللّه تعالى له، و يشاهده من امّته أطوعهم للّه عزّ و جل و أشدّهم

جدّا في طاعة اللّه، و أفضلهم في دين اللّه فقالوا: من هو يا رسول اللّه؟ و كلّ منهم يتمنّى أن يكون هو، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعوه يكن ممّن شاء اللّه، فليس الجلالة في المراتب عند اللّه تعالى بالتّمن و لا بالتظنّي و لا بالاقتراح و لكنّه فضل من اللّه عزّ و جلّ على من يشاء يوفّقه للأعمال الصّالحة يكرمه بها فيبلغه أفضل الدّرجات و أشرف «3» المراتب، انّ اللّه تعالى سيكرم بذلك من يريكموه في غد فجدّوا في الأعمال الصّالحة فمن وفّقه اللّه لما يوجب عظيم كرامته فللّه عليه بذلك الفضل العظيم «4».

__________________________________________________

(1) الإسراء: 45- 46.

(2) البقرة: 6.

(3) في البحار: و أفضل المراتب.

(4) بحار الأنوار ج 42 ص 21- 22 عن تفسير الامام عليه السّلام ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 257

ثمّ ساق الكلام في أعمال صالحة لمولانا امير المؤمنين عليه السّلام، كقضاء دين أخيه المؤمن، و قلب الحجر و المدر ذهبا بدعائه عليه السّلام.

و قتله رجلا غضبا للّه و لرسوله.

و سدّه خلّة رجل بقرصين شعيرين له.

و كشفه لملكوت السّموات و الحجب لرجل من المنافقين حتّى صار مؤمنا.

و انّه عليه السّلام وقى نفس رجل مؤمن بنفسه: في كلام طويل يراجعه من اراده «1».

إلى أن قال:

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا الأفضل الأكرم محبّة محبّ اللّه و رسوله، و مبغضه مبغض اللّه و رسوله، هم خيار خلق اللّه تعالى من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: انظر فنظر إلى عبد اللّه بن

أبي و إلى سبعة من اليهود فقال عليه السّلام قد شاهدت خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت يا علي أفضل شهداء اللّه في الأرض بعد محمّد رسول اللّه قال فذلك قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها و يبصرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يبصرها خير خلق اللّه بعده عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «2».

أقول: و يدلّ عليه مضافا إليه الاخبار الكثيرة الدّالة على أنّهم المتوسّمون في كتاب اللّه تعالى، و انّه لا يحجب عنهم شي ء في السموات و الأرض و انّهم يعرفون الرجل إذا رأوه بحقيقة الايمان و بحقيقة الكفر أو النفاق إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الّتي سيمرّ عليك شطر منها في مواضعها.

__________________________________________________

(1) راجع البحار ج 42 ص 23- 27.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 58- 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 258

و منها أنّ الآية من قبيل مجاز الكناية فإسناد الختم إليه سبحانه كناية عن شدّة تمكّن الإعراض عن الحقّ و الإصرار على الكفر جحودا و عنادا فيهم و فرط رسوخه في قلوبهم و أسماعهم بحيث كانّه صار كسائر الجبليّات الطبيعية و الصفات الخلقية الصّادره عن اللّه سبحانه من دون صنع و اختيار للعبد فيها فأراد الانتقال إلى الملزوم الّذي هو المقصود بذكر اللّازم الّذي هو الختم كما يقال: فلان مجبول على الشّر و مفطور على الظّلم، من غير أن يراد تخلّقه عليهما حقيقة بل المراد صدورهما عنه كصدورهما عن المتخلّق المفطور بهما تنبيها على شدّة الّرسوخ و

الثّبات و التمكن، و حيث لم يكن إرادة الحقيقة في اسناد الختم إليه سبحانه فهو مجاز متفرّع عن الكناية.

و منها انّ الجملة كما هي بتمامها استعارة تمثيليّة شبّهت حال قلوبهم في النّبو عن الحق و عدم قبوله بحال قلوب مختوم عليها حقيقة كقلوب البهائم أو تقديرا ثمّ استعير ختم اللّه على القلوب بتمامها مبقاة على ظاهرها، فالختم المسند إليه سبحانه ختم حقيقيّ أو تقديريّ باسناد حقيقي، و قد مثّلت بها حال قلوبهم في التّجافي عن الحقّ و الاعراض عن الايمان و عدم الاتّعاظ و التذكر و ذلك كما يقال: سال به الوادي إذا هلك طارت به العنقاء إذا طالت غيبته، و ليس للوادي و لا للعنقاء عمل في هلاكه و لا في طول غيبته، و إنّما هو تمثيل مثّلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، و في طول غيبته بحال من طارت به العنقاء.

و منها انّ ذلك الختم و إن كان حقيقة فعل الكافر أو مترتّبا على فعله صادرا عنه باختياره و إرادته إلّا أنّ صدوره منه لما كان باقدار اللّه سبحانه ايّاه و ابقائه عليه ما أعطاه من المشاعر و الأعضاء و الأدوات و سائر اسباب التمكن من الفعل و الاستطاعة عليه فلذا أسنده إليه اسناد الفعل إلى المسبّب، و مثله شايع في الإطلاقات كما يقال: بنى الأمير المدينة بل قد يسند الفعل إلى ساير الملابسات

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 259

كالمصدر و الزمان و المكان كقولهم: شعر شاعر، و نهاره صائم، و صلّى المقام إلى غير ذلك و هذا الوجه قريب ممّا ذكرنا.

و منها انّ الختم من اللّه تعالى على قلوبهم هو الشّهادة منه عليهم بانّهم لا يؤمنون، و على

قلوبهم بأنّها لا تقبل الحقّ، و على أسماعهم بأنّها لا تصغي اليه، كما يقول الرجل لصاحبة أراك تختم على ما يقوله فلان، أي تصدّقه و تشهد بانّه حقّ، و قولهم: ختمت دليلك بانك لا تفلح، أي شهدت و هذا الوجه و إن ذكره في «المجمع» و غيره لكنّه ضعيف.

و منها انّ الختم عبارة عن ترك القسر و الإلجاء إلى الايمان فيجوز إسناده إلى اللّه تعالى حقيقة فمعنى ختم اللّه على قلوبهم انّه لم يقسرهم على الايمان، حيث إنّ الختم عليها لا يكون إلّا بترك القسر الّذي ليس مقصودا بنفسه، بل ينتقل منه إلى أنّ مقتضى حالهم الإلجاء لولا ابتناء التكليف على الإختيار، حيث لا تغني عنهم الآيات و النذر، و لا تجدي عليهم الألطاف المحصّلة و لا المقرّبة، و ذلك لانهماكهم في الغيّ و الضّلال و تناهيهم في الإصرار على الكفر و الإنكار.

و منها أن يكون ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه لا بعبارتهم كما حكى عنهم: وَ قالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «1».

و الغرض التّهكم و الاستهزاء بهم و بمعتقدهم في إسناد القبائح إليه سبحانه كما تهكّم بهم في قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ «2» اشارة إلى ما كانوا يقولونه قبل البعثة من أنّا لا ننفكّ عن

__________________________________________________

(1) فصّلت: 5.

(2) البيّنة: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 260

ديننا حتّى يبعث اللّه النّبي الموعود المبشّر به في الكتب السّماوية و هو نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ و لذا تهكّم بهم فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى

الْكافِرِينَ «1».

و منها غير ذلك ممّا يقال في المقام أيضا من أنّ الآية إنّما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل اللّه بهم هذا الختم و الطبع في الدنيا عقوبة عليهم في الأجل كما عجّل لكثير من المشركين عقوبات في الدّنيا فلا غرو أن يسقط عنهم التكليف بذلك كما سقط عمّن مسخه اللّه قردة و خنازير و انّه يجوز أن يجعل اللّه على قلوبهم الختم من غير أن يكون ذلك حائلا بينهم و بين الايمان بل يكون ذلك كالبلادة الّتي يجدها الإنسان في قلبه، و القذى في عينيه، و الطنين في اذنه، فيضيق به صدورهم و يكون ذلك نوع عقوبة على بعض أعمالهم و انّه يجوز أن يفعل بهم هذا الختم في الآخرة كما قال سبحانه: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا «2».

و أنت ترى أنّ أنّ كثيرا من هذه الوجوه لا يخلو عن تكلّف مع بعدها عن مساق الآية، و عدم مساعدة القرينة بل الوجه ما نبّهنا عليه أوّلا و كذا الوجه الأوّل المرويّ عن الامام عليه السّلام، حيث إنّه لا تنافي بينهما كما لا يخفى.

و ممّا مرّ يظهر الوجه في نسبة الطبع و الزيغ و الإضلال و غيرها إليه سبحانه من دون نسبة الظلم إليه سبحانه، و الإنكار لعدله، و لا التزام بالقول بالجبر، و إن اضطرّت إليه الأشاعرة فاخطأ و الصّواب، كما أخطأت القدرية في قولهم بالتفويض.

و ما يقال من أنّ كلا الفريقين لم يطلبا إلّا اثبات جلال اللّه و علوّ كبريائه إلّا أنّ

__________________________________________________

(1) البقرة: 89.

(2) الإسراء: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 261

الأشاعرة عظّموه فنسبوا كلّ شي ء إلى اللّه و قالوا لا مؤثّر

في الوجود إلّا اللّه، و القدريّة نزّهوه عن أفعال العباد، و قالوا: لا يليق بجلال حضرته و علوّ كبريائه هذه القبائح.

ففيه أنّ الإنصاف إصابة كلّ من الفريقين فيما نسب إلى الآخر من الضّلال و الرين، إذ الحقّ المأثور عن الأئمّة المصطفين هو القول بالمنزلة بين المنزلتين، و هو امر أوسع من بين الخافقين، بل هو مقتضى الجمع بين الشّهادتين، و ذلك أنّ إثبات الإله موجب لنسبة الحوادث كلّها إليه، و إثبات الرّسول ملجئ إلى القول بالقدر، إذ لو لم يقدر العبد على الفعل فأيّ فائدة في بعث الرّسل و الوعد و الوعيد و المعاد و غيرها، فالجمع بينهما إنّهما هو بالأمر بين الأمرين حسبما لوّحنا إليه آنفا، و ستسمع إن شاء اللّه تمام الكلام فيه و في الجواب عن شبه الفريقين في موضع أليق.

أفضليّة السمع من البصر

رابعها: قد يستدلّ بهذه الآية و نحوها ممّا قدم فيه السّمع كقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «1» على أفضليّة السّمع من البصر مضافا إلى أنّ السّمع شرط النّبوة دون البصر، و لذا لم يبعث رسولا أصمّ و كان فيهم من ابتلي بالعمى، و انّ به يتوصّل إلى معرفة نتائج العقول و الأفكار، فهو سبب لإدراك المحسوس و المعقول، و لأنّ السّمع يدرك من الجهات كلّها و لو مع الحيلولة، دون البصر الّذي يتوقّف إدراكه على المحاذاة و عدم الحيلولة، و لأنّ النّوم يغلب أوّلا على البصر ثمّ يغلب على السمع و القلب.

و لذا

قال الصّادق عليه السّلام إنّه قد تنام العين و لا ينام القلب و الأذن فإذا نامت العين

__________________________________________________

(1) الإسراء: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 262

و القلب و الأذن وجب الوضوء

«1».

إلى غير ذلك من الوجوه الّتي ربما تعارض بكون آلة القوّة الباصرة أشرف و أجمع لدقائق الحكمة، و أنّ متعلّقها هو النور، و متعلّق القوة السّامعة هو الرّيح، و انّ الآية المتقدّمة من باب التّرقي من الأدنى إلى الأعلى، لتأخّر الفؤاد عنهما فهي حجّة لنا لا علينا، و غير ذلك ممّا لا يخلو كثير منها من قصور، مع أنّ الخطب في البحث عن الأفضليّة هيّن جدّا.

معنى العذاب العظيم

وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ تهديد و وعيد، و العذاب النّكال بناء و معنى من أعذبته عن الأمر إذا منعته عنه كما أنّ النكال اسم لما يصنع به ممّا يحذر و غيره و ينحّيه عمّا قبله.

قال في «الكشاف»: و منه الماء العذب، لأنّه يقمع العطش و يردعه، و يدلّ عليه تسميتهم إيّاه نقّاحا لأنّه ينقّح العطش أي يكسره و فراتا لأنّه يرفته على القلب ثمّ اتّسع فيه فسمّي كلّ الم فادح ثقيل عذابا و ان لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة انتهى.

قوله لأنّه يرفته اي يفتّه كما يفتّ المدر و العظم البالي، و معنى قوله على القلب اي جعل العين موضع الفاء و الفاء موضع العين، فوزن فرات عفال لكنّه لا

__________________________________________________

(1) لم أظفر على مصدره بهذه الألفاظ و لكن معناه يستفاد من حديث مرويّ عن الصادق عليه السّلام في الوسائل ج 1 ح 8 عن الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 263

يخلو عن تأمّل فانّه على ما صرّح به في «القاموس» و غيره مشتقّ من فرت بالفم فروتة بمعنى عذب و الفرات هو الماء العذب و التزام القلب فيه مع مخالفته للأصل و ما فيه في المقام من التّكلف البيّن، لا يقضي به شي ء من

أدلّته، سيّما مع ما صرّحوا به من ندوره جدا في غير المعتلّ و المهموز و انّه اكثر ما يكون في غير الفاء و العين.

و قيل: إنّه استمرار الألم من عذبته تعذيبا و عذابا و منه عذب الماء إذا استمرّ في الحلق و حمار أو فرس عاذب و عذوب إذا استمرّ به العطش فلم يأكل شيئا من شدّة العطش.

و قيل إنّه من التعذيب الّذي هو ازالة العذب كالتقذية لازالة القذى و هو ما يسقط في العين و الشراب، و التّمريض لحسن القيام بما يحتاج إليه المريض فجعل ذلك إزالة للمرض لأنّ له مدخلا تامّا في زواله.

و على كلّ حال فالمراد به حيث يطلق كلّ ألم سواء كان ابتداء أو بعد جناية قصد به الرّدع، أم لا مع الاستحقاق و عدمه فيكون أعمّ مطلقا من النكال و العقاب و القصاص.

و أمّا ما ذكره مميت «1» الدين و خربه من أنّ العذاب نعيم لأهل الشّقاء، و انّهم يستعذبونه و يلتذّون به، فسمّي بذلك لعذوبة طعمه بالنّسبة إليهم، حيث أنّه مشتقّ من العذب حتّى انّه أنشد في ذلك.

فلم يبق إلّا صادق الوعد وحده و ما لوعيد الحقّ عين تعاين فإن دخلوا دار الشّقاء فانّهم على لذّة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالامر واحد و بينهما عند التّجلى تباين __________________________________________________

(1) مراده محمد بن علي بن محمد الطائي المعروف بمحيي الدين المتوفى (638).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 264

يسمّى عذابا من عذوبة طعمه و ذاك له كالقشر و القشر صاين فهو مبنيّ على ما خرج به عن زمرة المسلمين، لإنكاره ما هو ضروريّ من الدّين حيث ذهب إلى القول بانقطاع العقوبة عن الكفّار، و انّهم لا

يتألّمون بالنّار و ما فيها من العذاب و النكال ابتداء أو بعد مدّة و انّهم يتلاعبون بها فيها أو يخرجون منها على حسب اختلافهم في ذلك على ما تسمع تمام الكلام فيها و في تزييفها و تزييف الشبهات الّتي ايّدهم بها أخوهم رئيس المشككين في المقام عند تفسير قوله:

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1».

و العظيم ربما يفسّر بالكبير، بل قد يفسّر كلّ منهما بالآخر، و ربما يقابل بالحقير كما أنّ الكبير يقابل بالصّغير، فإذا قيل هذا كبير دفع بانّه صغير، او قيل إنّه عظيم دفع بانّه حقير و لمّا كان الحقير دون الصّغير كان العظيم فوق الكبير و هذا كما يقابل الأخسّ بالأشرف و الخسيس بالشريف.

فلا ينبغي الإصغاء في مثل المقام إلى ما قيل من لزوم كون نقيض الاخصّ اعمّ في مثل المقام، نعم يمكن التأمّل في تحقيق التقابلين، و في كون الأوّل و مقابله في طرفي الآخرين إذ لا تساعده اللّغة و لا العرف على إطلاقه، و على كلّ حال فيستعمل كلّ منهما في المحسوس و غيره، فيقال هو عظيم الجثّة و عظيم القدر و الشأن، و كذا الكبير، و لا يبعد أن يقال إنّ الحقارة تشعر بالهوان و الذّلّة دون الصّغر و العظم يشعر بانقهار النفس بملاحظة من جهة استعظامه في سنخه دون الكبر.

و توصيف العذاب و تنكيره للتّعظيم أو للتّنويع و لو باعتبار تلفيق النوع من مختلفات الأنواع فلا ينافي ذلك ما في تفسير الإمام عليه السّلام من شمول العذاب لما في الآخرة و في الدّنيا بقسميه قال عليه السّلام بعد قوله: وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: يعني في

__________________________________________________

(1) البقرة: 80.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 265

الآخرة العذاب

المعدّ للكافرين و في الدّنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبّهه لطاعته أو من عذاب الاصطلام ليعيره إلى عدله و حكمته «1».

أقول: عذاب الاستصلاح هو ما يبتلى به العبد ممّا يراد به صلاح حاله و عوده إلى القيام بوظائف العبوديّة أو بما يتعقّبه ذلك كما قال: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ «2» الآية.

و هذا إنّما يكون فيمن يرجى منه الخير ايضا لأنّ الختم ليس من نهايات الحجب كما نبّهنا عليه، و الاصطلام هو الاستيصال بالخسف و المسخ و القتل و ساير اسباب الموت و سائر الابتلاءات الّتي هي العقوبات المعجّلة، و إيثار اللام للتهكّم كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* «3» و لوقوعه موقع النفع الّذي هو ثمرة الأعمال.

[سورة البقرة(2): آية 8 ]

اشارة

تفسير الآية (8) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ شروع في ذكر أحوال المنافقين الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ، وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ بعد الفراغ من شرح أحوال المؤمنين الّذين أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ في آيات إلى أن ختم لهم بالفلاح و الفوز بالنّعيم و عن شرح احوال أضدادهم الّذين هم أهل الكفر و الجحود و العناد في آيتين إلى أن ختم لهم بالعذاب العظيم فثلّثهما بالمذبذبين بينهما

__________________________________________________

(1) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 260 عن الإمام العسكري عليه السّلام.

(2) البقرة: 155.

(3) آل عمران: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 266

تكميلا للتقسيم، و طوّل شرح أحوالهم في ثلاث عشر آية، و بيّن فيها كذبهم في دعوى الإيمان، و نفاقهم و خبثهم و فساد عقائدهم و أعمالهم و سخافة آرائهم و استهزائهم و الاستهزاء بهم و انهماكهم في طغيانهم و عمههم، و ضرب

لهم الأمثال الشنيعة و سجّل عليهم بالرّذائل الفظيعة و ذلك لأنّهم أشدّ الكفّار نكاية على الإسلام و المسلمين و أحرصهم على هدم الشريعة و تخريب الدين و أقواهم على شقّ العصا و إيقاع نائرة الفتنة بين المؤمنين فزادوا إلى رجس كفرهم رجس النّفاق و لم يقصروا في إطفاء نور الهدى كلّما اهتدوا سبيلا إلى إظهار الشقاق، و هؤلاء المنافقون معروفون بأسمائهم و سماتهم، كعبد اللّه بن أبي سلول، و جدّ بن قيس، و معتب بن قشير، و غيرهم من اليهود و مثل أبي الدّواهي و أبي الشّرور، و أبي الملاهي، و أصحاب العقبة، و أصحاب الصحيفة الملعونة و غيرهم من المنافقين الّذين نابذوا أمير المؤمنين و غصبوه حقّه وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ، و لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ.

و الاخبار كثيرة في كون الآية و أمثالها ناعية على هؤلاء و اضرابهم تنزيلا و تأويلا تنبيها على أنّهم أصل الغيّ و الضّلال، و معدن الكفر و النفاق.

روى الامام عليه السّلام في تفسيره عن العالم موسى بن جعفر عليه السّلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أوقف عليّ بن ابي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف ثمّ قال يا عباد اللّه انسبوني فقالوا أنت محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ثمّ قال: ايّها الناس أ لست أولى بكم من أنفسكم بأنفسكم قالوا بلى يا رسول اللّه فنظر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السّماء و قال: اللّهم اشهد بقول هؤلاء و هو يقول و يقولون ذلك ثلاثا،

ثمّ قال: فمن كنت مولاه و اولى به فهذا عليّ مولاه و أولى به، اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، ثمّ قال:

قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين فقام فبايع له، ثمّ قال: قم يا عمر فبايع له بإمرة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 267

المؤمنين فقام فبايع له، ثمّ قال بعد ذلك لتمام التّسعة ثمّ لرؤساء المهاجرين و الأنصار، فبايعوه كلّهم، فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطّاب فقال: بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، ثمّ تفرّقوا عن ذلك، و قد وكدت عليهم العهود و المواثيق، ثمّ إنّ قوما من متمرّديهم و جبابرتهم تواطوا بينهم لئن كانت لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كائنة ليدفعنّ هذا الأمر عن علي و لا يتركونه له، فعرف اللّه ذلك من قبلهم، و كانوا يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون لقد أقمت علينا أحبّ خلق اللّه إلى اللّه و إليك و إلينا فكفيتنا به مؤنة الظّلمة لنا و الجابرين في سياستنا، و علم اللّه من قلوبهم خلاف ذلك من مواطاة بعضهم لبعض أنّهم على العداوة مقيمون و لدفع الأمر عن مستحقّه موثرون، فأخبر اللّه عزّ و جلّ محمّدا عنهم، فقال: يا محمّد وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الّذي أمرك بنصب عليّ عليه السّلام إماما و سائسا لأمّتك و مدبّرا، وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بذلك و لكنّهم يتواطئون على إهلاكك و إهلاكه، و يوطّئون أنفسهم على التمرّد على عليّ عليه السّلام إن كانت بك كائنة «1».

إلى غير ذلك من الأخبار

الكثيرة الّتي يمرّ عليك في تصاعيف هذا التّفسير نقلا من طريق الفريقين.

ثمّ إنّ الآية و إن نزلت فيهم إلّا أنّها جارية في كلّ من تبعهم في النّفاق و الانحراف عن أهل بيت العصمة و الطّهارة إلى يوم القيمة، و لذا

قال مولانا الصّادق عليه السّلام على ما رواه في البصائر و الكافي: انّ الحكم «2» بن عتيبة ممّن قال اللّه تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فليشرّق

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام ص 54 و عنه كنز الدقائق ج 1 ص 160- 162.

(2) الحكم بن عتيبة الكوفي كان من فقهاء العامّة و كان زيديّا مات سنة (115) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 268

الحكم و ليغرّب أما و اللّه لا يصيب العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السّلام «1».

(الناس) و اشتقاقه

و الناس أصله أناس بالضمّ من الأنس، خفّف بترك الهمزة و حذفها مع لام التعريف، و ان كان كاللازم إلّا أنّه ليس عوضا عنها كما صرّح به في «الصّحاح» و إلا لاجتمع مع المعوّض عنه في قوله: إنّ المنايا يطّلعن على الأناس الآمنينا، و هو على ما في القاموس جمع إنس.

و في «المصباح»: اسم وضع للجمع كالقوم و الرّهط، و واحده إنسان من غير لفظه، و علّله البيضاوي و غيره بأنّه لم يثبت فعال بالضمّ في أبنية الجمع، و لذا احتمل بعضهم أن يكون أصله بالكسر على أبنية الجموع، ثمّ ضمّ للدّلالة على زيادة قوّة كما في سكارى و غيارى، نظرا إلى أنّها ليست من الثمان الّتي جاءت أبنيتها على فعال بضم الفاء جمعا، و هي المندرجة في هذه

الأبيات:

ما سمعنا كلما غير ثمان هي جمع و هي في الوزن فعال فتوأم «2»، و رباب «3»، و فرار «4»، و عراق «5» و غرام «6»، و رخال «7»، و ظوار «8» __________________________________________________

(1) الكافي ج 1 ص 399 ح 4.

(2) التوام: جمع التوأم: المولود مع غيره من بطن واحد.

(3) الرباب: جمع الربى و هي الشاة إذا ولدت.

(4) فرار: من أولاد المعز، صغر جسمه قال ابو عبيدة: لم يأت على فعال شي ء من الجمع إلّا أحرف هذا أحدها.

(5) العراق: العظام إذا لم يكن عليها شي ء من اللحم.

(6) العرام: هي العظام أيضا مجرّدة عن اللحم.

(7) الرخال: جمع رخل و هي الأنثى من الضأن.

(8) ظوار: اسم جمع واحده ظئر و هي الّتي تعطف على ولد غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 269

و بساط «1» جمع بسط هكذا فيما يقال.

لكن الحصر لا يخلو عن تأمّل لمجي ء رجال جمع راجل.

و فراد، و ثناء، و براء، و غيرها، بل قيل: إنه منتقض بأناس قطعا، و الفرق بأنّها جموع، و أناس اسم جمع محكّم.

و قد يقال: إنّ في قوله: في الأبيات فيما يقال تعريضا بما فيه من الاعتراض.

ثمّ إنّه كغيره ممّا اشتقّ من مادّته كإنس، و إنسان و اناسي يطلق على الرجل و المرأة من دون عليهما التاء، و قول الشاعر: إنسانة فتّانة شاذّ، و في «القاموس»:

كأنّه مولّد «2».

و هو مأخوذ من أنس لاستيناسهم بأمثالهم، أو من أنس بمعنى أبصر، و منه:

آنَسْتُ ناراً* «3» لأنّهم ظاهرون مبصرون، و لذا سمّوا بشرا، كما أنّ الجنّ سمّوا جنّا لاجتنانهم، و قضيّة الاشتقاق و التبادر، و المقابلة في كثير من الإطلاقات، عدم إطلاقه على الجن الأعلى

وجه التجوّز، و لعلّه المراد بما في «المصباح» أنه يكون من الانس و من الجن لقوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ «4»، و لأنّ العرب تقول: رأيت ناسا من الجنّ.

و لكن لا يثبت بهما إلّا مجرّد الاستعمال.

__________________________________________________

(1) البساط: جمع البسط و هي الناقة المخلّاة على أولادها.

(2) و الشعر كما في القاموس:

لقد كستني في الهوى ملابس الصبّ الغزل

إنسانة فستانة بدر الدجى منها خجل

إذا زنت عيني بها فبالدموع تغتسل

(3) طه: 10.

(4) سورة الناس: 5- 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 270

على أنّ النقل غير ثابت، و الآية غير دالّة.

و أما نويس في تصغيره فقيل:

على خلاف مكسّره مثل أنيسيان و رويجل، و أنّ الألف لمّا كانت باينة زائدة أشبهت ألف فاعل فقلبت واوا.

و قيل: إنّه مشتقّ من النوس، و هو الحركة و التذبذب، لتحرّكهم و تردّدهم في امور معاشهم و معادهم.

و لذا قال في «المصباح»: إنّه مشتقّ من ناس ينوس إذا تدلّى و تحرّك.

قيل: و يؤيّده تصغيره على نويس، و وزنه على هذا فعل و على الأول فعال.

و قيل: إنّه من النّسيان كما أنّ الإنسان مشتقّ منه، و أصله إنسيان لأنّ جماعته أناسي، و تصغيره أنيسيان.

و يدلّ عليه ما

في «العلل» عن الصادق عليه السّلام قال: سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «1».

و قد أنشدوا:

يا اكثر النّاس إحسانا إلى النّاس يا اكثر النّاس إفضالا على الناس نسيت وعدك و النّسيان مغتفر فاغفر فأوّل ناس أوّل النّاس «2» و لام التعريف فيه إمّا للجنس الشّامل للاستغراق أيضا بناء على

اعتبارهم قسما ثالثا مقابلا للقسمين الأوّلين اللّذين أريد فيهما الجنس على وجه، و لذا يعدّ المنافق ثالثا للمؤمن و الكافر.

__________________________________________________

(1) طه: 115.

(2) قاله أبو الفتح البستي علي بن محمد المتوفى ببخارى حدود سنة (400).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 271

المنافقون من الناس

بل

في كتاب المناقب لأحمد بن مردويه بالإسناد عن أبي ذرّ و المقداد و سلمان رضوان اللّه عليهم قالوا كنّا قعودا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما معنا غيره إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريين فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يفترق أمّتي بعدي ثلاث فرق فرقة أهل حقّ لا يشوبونه بباطل مثلهم كمثل الذّهب كلّما فتنته النّار ازداد طيبا و إمامهم هذا لأحد الثلاثة و هو الّذي ذكر اللّه تعالى في كتابه: إِماماً وَ رَحْمَةً*، و فرقة أهل الباطل لا يشوبونه بحقّ مثلهم كمثل خبث الحديد كلّما فتنته النّار ازداد خبثا و نتنا و امامهم هذا لاحد الثلاثة، و فرقة أهل الضّلال مذبذبين لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ امامهم احد الثّلاثة قال فسألته عن أهل الحقّ و امامهم فقال عليّ بن أبي طالب إمام المتّقين و أمسك عن الإثنين «1».

و امّا للعهد اشارة إلى أنّ الكفّار المصرّين الّذين مرّ ذكرهم بناء على اشتراكهم مع هؤلاء في الكفر و جحود الحقّ و الإصرار على الباطل و شدّة العقوبة و الخلود في النّار كما تواترت به الأخبار و إن اختصّوا من بينهم بالنفاق و تمويه الباطل و منع الحقّ عن أهله و إزالة عمود الدّين عن مقرّه.

و (من) في «مِنَ النَّاسِ» على الوجهين للتّبعيض و فتح نونها عند التقاء السّاكنين للخفّة و

استثقال توالي الكسرتين.

و أمّا (من) فعلى الأوّل موصوفة كانّه قيل: و من النّاس ناس يقولون كذا كقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ «2» و على الثّاني، موصولة كقوله:

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 28 ص 10 مع تفاوت يسير.

(2) الأحزاب: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 272

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ «1» كذا في «الكشّاف» و تبعه غيره و علّل بأنّ فيه رعاية للمناسبة و الاستعمال.

أمّا المناسبة فلانّ الجنس مبهم لا توقيت فيه مناسب أن يعبّر عن بعضه بما هو نكرة، و العهود معيّن فناسب أن يعبّر من بعضه بمعرفة.

و أمّا في الاستعمال فكما في الآيتين لمّا أريد بالمؤمنين الجنس عبّر عن بعضهم بالنكرة، و أريد بالضّمير جماعة معيّنة من المنافقين عبّر عن بعضهم بالمعرفة.

و الوجهان كما ترى ضعيفان و ظاهر مساق الآية و ما مرّ من الخبر أنّها نزلت في أقوام بأعيانهم و لذا يحكى عنهم خصوص أقوالهم و أفعالهم، و إن جرى حكمها على غيرهم فمن موصولة على الوجهين.

و توهّم أنّه بناء على الجنسيّة لا فائدة في الإخبار بأنّ من يقول و كذا و كذا من الناس، و على العهديّة يكون قوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بمنزلة التكرير عريا من الفائدة.

مدفوع بأنّ الفائدة في الأوّل التّنبيه على أنّ الصفات المذكورة تنافي الانسانيّة فينبغي التّعجب من الجمع بين اسم الإنسان و سمات الشّيطان من الخدع و النكراء و التلوّن بالألوان.

على أنّه من الممكن بل الظّاهر كون مضمون الجار و المجرور مبتداء على معنى و بعض النّاس من اتّصف بما ذكر، و حينئذ يتمّ الفائدة بالمسند من حيث تقييده بالصّلة و يكون في التّعبير عنهم ببعض الناس تحقير لهم.

و بانّ الظّرف قد يقع موقع المبتدأ بتقدير الموصوف

كقوله:

__________________________________________________

(1) التوبة: 61.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 273

وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ «1» أي جمع منّا، لكنّ المشهور عندهم تقدير الموصوف في الظّرف الثّاني على أنّه مبتداء، و الظّرف الأول خبره، و يشهد لهم أنّ المسموع عنهم قولا واحدا انّ من النّاس رجالا كذا و كذا، و لم يسمع الرفع من واحد، و قد مرّ بعض الكلام في سَواءٌ عَلَيْهِمْ و في الثّاني الاشعار بأنّ هذا القول غير مجد لهم فهم باقون على عدم إيمانهم مع أنّه كالتّمهيد لما يتعقّبه ممّا هو بمنزلة التعليل.

ثمّ إنّ الموصولة تقع للمفرد و المثنّى و المجموع، و المراد بهما في المقام الأخير، و ان كان لفظها لفظ المفرد و لذا أفرد ضميرها في يَقُولُ و جمعه في وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ لجواز مراعاة كلّ من اللّفظ و المعنى في ذلك.

و القول مصدر بمعنى التلفّظ بما يفيد فائدة ما و إن كان مفردا لكنّه قد يستعمل بمعنى المقول و المعنى النفسي، و الراي و الفعل، و مقوله في المقام الجملة الفعليّة بصلتيه و المراد إخبار كلّ منهم عن إيمانه، و يجوز أن تكون الجملة مقولة لكلّ منهم، فيجمع بين دعوى الايمان لنفسه و الشهادة به لغيره ممّن جمعهم النفاق.

و الاقتصار على ذكر الايمان باللّه و اليوم الاخر في كلامه سبحانه أو في قولهم لتخصيص ما هو المقصود الأعظم من الايمان بالذكر، سيّما مع ما سمعت من أنّ المنافقين كانوا من كفّار قريش مولعون بعبادة الأوثان للإشعار بانّ قضيّة صدق الايمان بهما الأخذ بجميع عرى الإسلام و شرائعه من حيث العقائد و الأعمال بملاحظة احتساب الأفعال الصادرة و مراقبة اللّه سبحانه و الاستعداد للقائد بأخذ الزّاد إلى المعاد و للاكتفاء

عن الجميع بالطرفين المكتنفتين به أعني الايمان بالمبدإ و المعاد، و للتنبيه على أنّهم منافقون فيما يدّعون فيه الإخلاص فما ظنّك بما يقصدون به النفاق، فانّ ايمانهم باللّه كان على وجه التشبيه و الحلول و الاتّحاد

__________________________________________________

(1) الجنّ: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 274

و التجسّم و التّعدد و اتّخاذ الولد و غير ذلك و باليوم الاخر على غير ما هو عليه لأنّهم قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» و لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «2».

إلى غير ذلك من عقائدهم الفاسدة، فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق و عقيدتهم عقيدتهم فهو كفر الايمان فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين و استهزاء بهم و تشبّها بهم في الايمان الحقيقي كان كفرا إلى كفر، مع أنّهم قد أظهروا الايمان طمعا في أن يردّوا النّاس على أعقابهم القهقرى بالرجوع عن الإسلام بعد إظهاره، و بإظهار البدع الشّنيعة في الدين و الإزراء على الإسلام و المسلمين كما فعلت اليهود كما قال اللّه: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» و كما فعلت الثلاثة و غيرهم من المنافقين الّذين لم يؤمنوا باللّه طرفة عين ابدا و إنّما أظهروا الايمان خوفا من المسلمين و رغبة في مساهمتهم في المغانم و المناصب، و طمعا في انتهاز الفرصة لإظهار البدع الشّنيعة، و حمل النّاس عليها، و ردّهم على أدبارهم القهقرى، فضلّوا وَ أَضَلُّوا كَثِيراً، وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.

و المراد بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يوم الحساب المقدّر في الآية «4» بخمسين ألف سنة، أو بعده حيث ينقطع الأوقات المحدودة إلى ما لا

ينتهي، و هو يوم الجزاء كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اليوم عمل و لا جزاء و غدا جزاء و لا عمل»

أو ما يشملهما بناء على كون الحاجز هو البرزخ أو ما يشمله أيضا بناء على أنّ الايمان به و بما فيه ممّا جاءت به

__________________________________________________

(1) البقرة: 111.

(2) البقرة: 80.

(3) آل عمران: 72.

(4) سورة العارج: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 275

الشريعة و لو اجمالا من اركان الايمان.

و في تكرير الباء دعوى استقلال الايمان و تأكّده بكلّ منهما، وَ ما هُمْ يعني هؤلاء المنافقين و أتباعهم بِمُؤْمِنِينَ تكذيب لهم و انكار عليهم فيما أخبروا عنه من التّصديق و الإذعان.

و مطابقة الرّد للدّعوى و ان اقتضت أن يقال: و ما آمنوا إلّا أنّه عدل عن ذكر شأن الفعل كما فعلوا إلى ذكر شأن الفاعل لأنّ الركن الأهمّ في الأوّل هو المحكوم به و في الثاني هو المحكوم عليه، فلذا عدل من الفعليّة إلى الاسميّة أيضا و ذلك كقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها «1» مع ما فيه من سلوك طريق الكناية في ردّ دعواهم الباطلة فانّ انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، و انتفاء اللّازم أبلغ في الدّلالة على انتفاء ملزومه.

و أيضا إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي صفة الايمان عنهم سيّما مع دلالة الأوّل على الدّوام المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا و تقيّد الثاني بالزّمان الماضي ثمّ انّه أكّد النّفي بالباء المتمحّضة لذلك و لذا سمّوها زائدة و فيها تأكيد النفي لا النفي كما أنّ النفي في الجملة الاسميّة المفيدة للاستمرار يرجع إلى استمرار النفي لا نفي الاستمرار،

لأنّ الإثبات و النفي هو الحكم و الاستمرار و عدمه من مقتضيات الاسميّة و الفعلية.

و حذف المتعلّق إمّا للاشعار على العموم بناء على أنّهم ليسوا من الايمان في شي ء و لا كرامة، و إمّا لظهور التقييد فالمنفي إيمانهم بالأمرين معا او بكلّ منهما و إن اتّحدا في الحكم و الاسم ضرورة أنّ التّصديق بشي ء من الأصول الايمانيّة لا يستحقّ اسم الايمان و لا حكمه ما لم ينضمّ إليه التصديق بسائرها، و لذا لم نحكم

__________________________________________________

(1) المائدة: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 276

بإيمان أهل الكتاب و إن أقرّوا بالتوحيد بل بالمعاد أيضا، و لا بإيمان المخالفين و ان اعترفوا بما سوى الإمامة من الأصول، فانّ انكار شي ء منها كانكار الجميع حيث إنّ الإقرار بكلّ منها مشروط بالإقرار بغيره من حيث القبول، أو من حيث تحقّق الموضوع، و لذا صرّح في الآية بعدم إيمانهم مع نزولها في طائفة من أهل الكتاب، و في منافقي قريش الّذين كانوا يحضرون الجماعات و الجمعات.

ثم إنّ الآية دالّة على كفر المنافقين و أنه لا يغني عنهم مجرّد الإقرار باللسان مع مخالفة قلوبهم.

قال الرازي: انها تدلّ على أنّ من لا يعرف اللّه تعالى و أقرّ به فإنّه لا يكون مؤمنا لقوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ و قالت الكراميّة: يكون مؤمنا.

و تدلّ أيضا على بطلان قول من قال: إنّ المكلفين عارفون باللّه و من لم يكن عارفا لم يكن مكلّفا.

أمّا الأوّل فلانّ هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين باللّه و قد أقرّوا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيمانا لأنّ من عرف اللّه و أقرّ به لا بدّ أن يكون مؤمنا.

و أمّا الثاني فلانّ غير العارف لو كان معذورا لما ذمّ

اللّه هؤلاء على عدم العرفان.

فبطل قول من قال: إنّ من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذورا.

و اعترضه القاضي بانّها تدلّ على أنّ من ادّعى الايمان و خالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا لا أنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عمّا يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا و الخلاف مع الكراميّة «1» في الثاني فلا ينتهض حجّة عليهم.

أقول: لكنّ الّذي يحكى عنهم في ذلك هو أنّ الايمان مجرّد الإقرار باللّسان

__________________________________________________

(1) هم أتباع محمد بن كرّام بن عواف السجستاني المتوفى (344) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 277

و انّ المنافق مؤمن الظّاهر كافر السّريرة فاخراجهم من عداد المؤمنين دليل على فساده كما نبّه عليه في «المجمع» «1» أيضا و أمّا ما ذكره ثانيا فهو كما ترى.

[سورة البقرة(2): آية 9 ]

اشارة

تفسير الآية (9) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ... يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا «2» تعليل للحكم السابق و تفصيل لفظايع أعمالهم و شنايع أحوالهم، فوصفهم أوّلا بما يكشف عن تمويههم الكفر في إظهار إيمانهم يقال: خدعه كمنعه خدعا بالفتح و الكسر: أوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه على غرّة و غفلة، من قولهم: ضبّ خادع و خدع إذا أمرّ الحارش «3» يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ثمّ خرج من باب آخر، و أصله الإخفاء و منه المخدع بالتثليث للخزانة، و الأخدعان لعرقين خفيّين في موضع الحجامة، و خدعت الضباب استرت و تغيّبت في حجرتها لأنّهم طلبوها و مالوا عليها للجدب الّذي أصابهم، لكنّه غلب عرفا على صفة فعليّة قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدّمات في الّذهن يتوصّل بها توصّلا مستقبحا إلى استجرار منفعة لنفسه، أو إصابة مكروه بغيره مع خفائهما على الموجّه نحوه القصد،

بحيث لا يتأتّى ذلك النّيل أو الإصابة بدونه، و هي من الصفات الذّميمة الّتي تجرّ بصاحبها إلى النّار.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام لولا أنّ المكر و الخديعة في النّار لكنت أمكر النّاس «4».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 46.

(2) البقرة: 9.

(3) الحارش: الصائد.

(4) الكافي ج 2 ص 336 و عنه البحار ج 75 ص 286.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 278

الخدعة و المكر من صفات المنافقين

و عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس منّا من ماكر مسلما «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، و أمّا

النّبوي المشهور: الحرب خدعة «2» فانّه، و ان أريد منه الحثّ على استعمالها في محاربة أعداء الدّين، لا أنّه من الجائز بل الواقع اختلاف الاحكام بحسب اختلاف الوجوه و المصالح بناء على ما هو المقرّر عند العدليّة.

على أنّه قد يقال إنّه في صورة الخداع، لأنّ من كاشفته بالمحاربة فقد جاهرته باصابة المكروه فلو لا طفت معه في تفصيل الإصابة لم يكن خداعا، و لهذا لو أظهرت ما يدلّ على أمان أو لم يتقدم إنذار لم يحمد.

و كما أنّ الخدع ليست من الصفات المحمودة، فكذا الانخداع الدّال على الغفلة و البلاهة، و قلّة الفطنة، و جمود الطبيعة و نقصان الفطرة.

و توهّم كونه من الصّفات المحمودة

للنّبوي: «المؤمن غرّ كريم و الفاجر خبّ لئيم» «3».

و لوقوع المدح بها في قول عدي بن الرّقاع: و استمطروا من قريش كلّ منخدع.

__________________________________________________

(1) ثواب الأعمال ص 242 و عنه البحار ج 75 ص 285.

(2) في البحار ج 20 ص 228 باب غزوة الأحزاب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ ما

كرته؟ قال:

نعم يا رسول اللّه الحرب خديعة.

(3) بحار الأنوار ج 67 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 279

و في قول ذي الرّمة: إنّ الحليم و ذوا الإسلام يختلب.

ضعيف جدّا بعد ما سمعت، و أمّا النّبوي فالمراد به التّخادع لا الانخداع، و المعنى أنّه يتغافل عن بعض الأمور و يترك البحث عنه، و لذا عقّبه بالكرم تنبيها على أنّ ذلك ليس جهلا منه، و لكنّه كرم و حسن خلق، و أمّا قول عدي فما ذكرناه ظاهر منه حيث قال:

لا خير في الخبّ لا يرجى نوافله فاستمطروا من قريش كلّ منخدع تخال فيه إذا خاتلته بلها عن ماله و هو وافي العقل و الورع

المراد بالمخادعة

نعم في بعض النّسخ تمامه: انّ الكريم إذا خادعته انخدعا، و فيه أيضا دلالة لطيفة من حيث التّعليق على الكرم و منه يظهر أيضا سقوط الاخر، و قد ظهر ممّا مرّ انّ المخادعة بظاهرها من حيث المادّة و الهيئة لا يصحّ اضافتها إلى اللّه تعالى فانّ العالم الحكيم لا يخدع و لا يخدع، و لا إلى المؤمنين لأنّهم و إن كانوا يخدعون بمعنى الانخداع أو التّخادع لكنّهم لا يخدعون و لذا ذكروا فيه وجوها: أحدها أنّ المراد مخادعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حذف المضاف، أو لما ثبت له من الخلافة الكبرى و الرياسة العظمى، بحيث كان أمره أمره و نهيه نهيه و طاعته طاعته، و معصيته معصيته.

قال اللّه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» و وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «2»

__________________________________________________

(1) النساء: 80.

(2) الأنفال: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 280

إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ

اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «1».

و الاخبار به كثيرة سنشير إليها في تفسير الآيات المتضمّنة لنسبة الأسف و الرّضا و الغضب إليه سبحانه.

و في تفسير الامام عليه الصّلوة و السّلام عن موسى بن جعفر عليه السّلام بعد ما مرّ عنه عليه السّلام في الآية المتقدّمة قال لمّا اتّصل ذلك من مواطاتهم و قيلهم في عليّ عليه السّلام و سوء تدبيرهم عليه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعاهم و عاتبهم فاجتهدوا في الايمان و قال أوّلهم يا رسول اللّه و اللّه ما اعتددت بشي ء كاعتدادي بهذه البيعة و لقد رجوت ان يفسح اللّه بها لي في قصور الجنان، و يجعلني فيها من أفضل النزال و السّكان، و قال ثانيهم بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما وثقت بدخول الجنّة و النّجاة من النّار إلّا بهذه البيعة و اللّه ما يسرّني أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ما أعطيت و انّ لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لا لي رطبة و جواهر فاخرة و قال ثالثهم يا رسول اللّه لقد صرت من الفرح بهذه البيعة و الفسح من الآمال في رضوان اللّه ما أيقنت انّه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلّها عليّ لمحصت عنّي بهذه البيعة و حلف على ما قال من ذلك و لعّن من بلغ عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلاف ما حلف عليه، ثمّ تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة و المتمرّدين فقال اللّه عزّ و جل لمحمّد:

يُخادِعُونَ اللَّهَ يعني يخادعون رسول اللّه بأيمانهم خلاف ما في جوانحهم وَ الَّذِينَ آمَنُوا

كذلك أيضا الّذين سيّدهم و فاضلهم عليّ بن ابي طالب عليه السّلام «2».

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الوجه غير حاسم لمادّة الاعتراض إلّا بمعونة شي ء ممّا يأتي و إن استقلّ بدفع بعض الغوائل كما لا يخفى.

__________________________________________________

(1) الفتح: 10.

(2) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 281

ثانيها: أنّ المراد تشبيه صورة صنيعهم مع اللّه و عبوديّتهم له من حيث إظهار الإيمان، و استبطان الكفر و السّعي في إيذاء الرسول و الإصرار في دفع الحقّ عن وصيّه، و شقّ عصا المسلمين، و محادّة النّبي و المؤمنين و صنع اللّه بهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، و هم عنده أخبث الكفّار، و أهل الدّرك الأسفل من النّار، و إبقاء ما منحهم من قوّة و نعمة و عافية، و غيرها من الفيوض التكوينيّة و امتثال الرسول و المؤمنين أمر اللّه تعالى في إخفاء حالهم و إجراء حكم الإسلام عليهم، كلّ ذلك استدراجا لهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*، و إملاء لهم لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بصورة صنع المخادعين اللّذين يخفي كلّ منهما لصاحبه المكروه حتّى يوقعه فيه.

و يشير إليه

ما رواه العيّاشي عن الصّادق عليه السّلام انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل فيما النّجاة غدا؟ قال: إنّما النّجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فانّ من يخادع اللّه يخدعه، و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر، قيل له و كيف يخادع اللّه؟ قال: يعمل ما أمره اللّه عزّ و جل ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا الرياء فانّه شرك باللّه تعالى «1».

و في التوحيد و المعاني و العيون و الاحتجاج عن الرّضا عليه السّلام: انّه سئل

عن قول اللّه عزّ و جلّ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ «2» و عن قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3» و عن قوله:

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ «4» و عن قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «5» فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لا يسخر، و لا يستهزئ، و لا يمكر، و لا يخادع، و لكنّه عزّ و جلّ يجازيهم جزاء السّخرية، و جزاء الاستهزاء، و جزاء المكر و الخديعة، تعالى اللّه عمّا

__________________________________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 283 و عنه البحار ج 83 ص 227.

(2) التوبة: 79.

(3) البقرة: 15.

(4) آل عمران: 54.

(5) النساء: 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 282

يقول الظّالمون علوّا كبيرا «1».

ثالثها: أن يكون ذلك مبنيّا على ما يعتقدونه من عدم اتّصافه سبحانه بالصّفات الجماليّة و الجلالية لعدم معرفتهم به و صفاته و بأسمائه الحسنى و صفاته العليا فيزعمون أنّه ممّن يصحّ خداعه و إيصال المكروه إليه من وجه خفيّ لا يعلم به و كانوا إذا تكلّموا فيما بينهم يقولون أسرّوا قولكم لئلّا يسمع اله محمّد فانزل اللّه تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «2» و لذا سيق الكلام على حسب معتقدهم تبكيتا بهم و تهكّما عليهم.

رابعها: انّهم يعملون عمل المخادع الحريص على دفع كيد عدوّه و إيصال الضّرر إليه و المخادعة معه في جلائل الأمور و دقائقها فانّ الزّنة أصلها للمغالبة و المبارات و الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ و احكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب و لا مبار لزيادة قوى الدّاعي إليه و الحرص عليه.

خامسها: انّ فاعل بمعنى فعل كسافرت، و ناولته الشّي ء، و إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ «3» و

عافاه اللّه، و عاقبت اللّصّ، و يؤيّده قراءة من قرأ يخدعون اللّه، و هو أبو حيوة على ما حكاه عنه في «الكشاف» «4» و ان ادّعى في شرح طيبة النّشر و بعض شروح الشّاطبيّة الإجماع على يُخادِعُونَ اللَّهَ، و كانّهم أرادوا اجماع السّبع أو العشر، و على الوجهين فهما بمعنى، و بناء الفعل على المفاعلة و إن دلّ على المبالغة لكنّها لا تبلغ المبالغة في الوجه المتقدّم.

سادسها: أن يكون من قولهم: أعجبني زيد و كرمه، فيكون المعنى: يخادعون

__________________________________________________

(1) العيون ص 71- 72 و عنه البحار ج 6 ص 51.

(2) الملك: 13.

(3) الحج: 38.

(4) الكشاف ج 1 ص 173 ط بيروت دار الفكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 283

الّذين أمنوا باللّه فانّ هذه طريقة يسلكونها إذا أرادوا افادة قوّة الاختصاص، و لما كان المؤمنون الّذين أميرهم أمير المؤمنين بمكان من اللّه تعالى سلك بهم ذلك المسلك كما سلك بنبيّه ذلك في قوله: وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1»، و قوله:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «2».

و السرّ في افادته قوّة الاختصاص انّك في المثال إذا أسندت الإعجاب إلى زيد و المعجب كرمه فقد أوهمت أنّ كرمه شاع فيه بحيث سرى في جميع أعضائه و قواه و صار شخصه معجبا بإعجاب كرمه، و لذا أسند الاعجاب الّذي هو من كرمه إلى ذاته، و مثل هذا العطف يكون جاريا مجرى التفسير و ازالة الإبهام، و كذا يستفاد من الآية انّ المؤمنين الّذين فيهم أهل العصمة و الطّهارة لشدّة اختصاصهم باللّه و انقطاعهم إليه صاروا من حزبه بل هم القوّامون بأمره العاملون بإرادته النّاطقون بمشيّته و لذا جعل خداعهم خداعه و ثنّى

بهم إيضاحا للمرام و افصاحا عمّا لهم من المقام و لذا عرّفهم بالموصول تعظيما و تكريما و أطلق ايمانهم تنبيها على تعلّقه بكلّ ما ينبغي أن يؤمنوا به.

و جملة يُخادِعُونَ في موضع النّصب لكونها حالا عن الضّمير في قوله: مَنْ يَقُولُ أو وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، أو بيان ل يَقُولُ، أو استيناف لذكر ما هو كالتّعليل لعدم ايمانهم و أمّا الّذي كانوا عنه يخادعون فاغراض شتّى لهم كالاعتصام بظلّ الإسلام في حفظ دمائهم و أموالهم و أعراضهم، و الدّخول في حوزة المسلمين و المشاركة معهم في نيل الحظوظ من المغانم و ساير الفوائد، و الاطّلاع على الأسرار الّتي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم، و غير ذلك من المقاصد الّتي كان

__________________________________________________

(1) التوبة: 62.

(2) الأحزاب: 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 284

أعظمها و أهمّها نيل المناصب العظيمة و الرّياسات الجليلة كما أخبرت الكهنة بذلك الجبت و الطاغوت و غيرهما من رؤوس المنافقين الّذين نصبوا شبكة الخداع لأهل الدّين و شنّوا الغارة بعد الغارة على الإسلام و المسلمين و غصبوا حقّ مولانا أمير المؤمنين و ذرّيّته المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

تفسير وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ

وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ و لا يئول ضرر خداعهم إلّا إليهم، لانحيازه إليهم بفروعه و أصله وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» فانّ المنخدع هو الخادع لغرّته عن وخامة أمره، و سوء تدبيره و جنايته على نفسه.

و هذه قراءة المشهور، و عن نافع و ابن كثير و أبي عمرو: و ما يخادعون.

و ربما يستدلّ للأولى بأنّها الأنسب مضافا إلى قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «2».

و للثانية بموافقة الصّدر، مع تنزيل ما يخطر بباله من الخدع بمنزلة أخر

يجازيه ذلك و يعارضه إيّاه، فيكون الفعل كانّه من اثنين كقول الكميت في حمار أراد الورود:

تذكّر من أنّى و من أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل «3» __________________________________________________

(1) فاطر: 43.

(2) النساء: 142.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 285

و أنت ترى قصور مثل هذه الوجوه، سيّما في ما يجب فيه التوقيف.

نعم يصحّ المعنى على الوجهين كما يصحّ على القراءات الاخر الّتي ليست من العثر حكاها في «الكشاف» مجهولة القائل و لذا لا يجوز القراءة بها، و هي: و ما يخدعون، من خدّع بالتّشديد للفاعل، و يخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون، و يخدعون و يخادعون كلاهما على لفظ ما لم يسمّ فاعله، و يكون نصب أَنْفُسَهُمْ حينئذ على حذف الجار، و يجوز أن يكون حرف المجاوزة أو الابتداء.

و أنفس جمع نفس تحقيرا أو تقليلا، بناء على اعتبار الفرق بين القلّة و الكثرة، و هي في الأصل ذات الشّي ء و حقيقته، و هي المشيّة الجزئيّة، و يطلق على الرّوح بأقسامها الأربعة: و

هي النّامية النباتية، و الحسّية الحيوانيّة، و النّاطقة القدسيّة، و الكلّية الالهيّة كما في العلوي المشتهر «1»

، و على ما يقابل العقل بمراتبها السّبعة، و على ما يقابل الغير، و على الرّوح البخاري، و القلب الصّنوبري، و الدّم، و البدن، و الرّاي، و غيرها.

إلّا أنّ المراد بها في المقام هو الأول و يحتمل ارادة غيره من المعاني على تكلّف في بعضها.

و المراد أنّ الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم و لا يتخطّاهم إلى من سواهم، فانّهم قد هلكوا بنفاقهم فضالا عن خداعهم و إيذائهم و إن نالوا من المؤمنين ما نالوا من المال و

الجاه و الرياسات و غيرها، فانّ جميع ذلك مما يستحقر دون يسير مما اعدّ لهم من الخسارة اللّازمة و العقوبة الدائمة، و الإبقاء عليهم إنّما هو على جهة الإمهال و الاستدراج.

__________________________________________________

(1) في البحار ج 61 ص 85: هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الاخبار المعتبرة المتداولة، و هي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 286

قال الإمام عليه السّلام في قوله: «وَ ما يَخْدَعُونَ» ما يضرّون بتلك الخديعة إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فانّ اللّه غني عنهم، و عن نصرتهم، و لولا إمهاله لهم لما قدروا على شي ء من فجورهم و طغيانهم «1».

وَ ما يَشْعُرُونَ أنّ الأمر كذلك، و أنّ اللّه تعالى يطلع نبيّه على نفاقهم و كذبهم و كفرهم، و يأمره بلعنهم في لعنة الظّالمين النّاكثين، و ذلك اللّعن لا يفارقهم في الدّنيا و يلعنهم خيار عباد اللّه، و في الآخرة يبتلون بشدائد عقاب اللّه

، إلى هنا كلام الامام عليه السّلام.

و أصل الشعر بالكسر مصدر شعرت من باب قعد شعرا و شعرة بمعنى فطنت، و هو الإحساس بالشي ء من جهة تدقّ، و منه اشتقاق الشّعر لأنّ الشاعر يفطن لما يدقّ من المعنى و الوزن.

قيل: و لا يوصف اللّه سبحانه بانّه يشعر لما فيه من التلطّف و التخيّل، و لعلّ الأولى التعليل بما فيه من استعمال الحاسّة في الإدراك، فانّ الشعور هو الإحساس، و مشاعر الإنسان حواسّه، و ليس إدراكه بمعونة الآلات و الأدوات.

و انّما لم يشعروا لأنّ حواسّهم و إدراكاتهم مقصورة على إدراك ظاهر الحيوة الدّنيا، وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، و ذلك للختم المضروب على قلوبهم و سمعهم و الغشاوة المغطاة على أبصارهم.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام خطابا للحسنين عليهما

السّلام:

ابنيّ إنّ من الرجال بهيمة في صورة الّرجل السميع المبصر

فطن بكلّ رزيّة في ماله و إذا أصيب بدينه لم يشعر

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 287

[سورة البقرة(2): آية 10 ]

اشارة

تفسير الآية (10) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي قُلُوبِهِمْ الّتي هي محلّ النكراء و الشيطنة و الخيالات النفسانيّة و الأفكار الشيطانيّة، أو في ذواتهم المصوغة بصيغة الجهل و المخالفة و الأدبار المنصبغة بصبغة الشيطان.

مَرَضٌ ايّ مرض، أو نوع منه هو رأس جميع الأمراض القلبيّة فضلا عن الأمراض البدنيّة الّتي لا يبالى بها بالنظر إلى ما يوجب الهلاك الأبدي و الموت السّرمدي، و أصله السّقم في البدن، و يقابله الصّحة تقابل التّضاد، أو العدم و الملكة على ما قرّر في محلّه، و كما أنّ المرض في البدن هيئة بدنيّة لا تكون الأفعال كلّها معها لذاتها سليمة، بل يخرج بعضها أو كلّها عن الاعتدال و السلامة بواسطة عروضه، فكذلك المرض القلبي صفة قلبيّة لا يكون معها الأفعال القلبيّة و الأخلاق النفسيّة و الأعمال البدنيّة جارية على الاعتدال و الاستقامة الّتي هي مقتضى العبوديّة، و هي صبغة الإسلام، و فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.

و قيل: إنّ أصل المرض الفتور، فهو في القلب فتوره عن الحقّ، كما أنّه في البدن فتور الأعضاء.

لكل من الجسم و الروح ستّة أحوال

و في التوحيد عن امير المؤمنين عليه السّلام: إنّ للجسم ستّة احوال: الصّحة، و المرض، و الموت، و الحيوة، و النّوم، و اليقظة، و كذلك للرّوح فحياتها علمها،

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 288

و موتها جهلها، و مرضها شكّها، و صحّتها يقينها، و نومها غفلتها، و يقظتها حفظها «1».

المراد بالمرض في قلوب المنافقين

و بالجملة الأمراض القلبية أصعب الأمراض، و أشدّها نكاية، و أسوأها إهلاكا لأنّها تورث الهلاك الأبدي في الدّنيا و الآخرة، و لذا عبّر عنهم بالأموات في كثير من الآيات، و المرض الراسخ في قلوبهم إنّما هو العناد للحقّ، و الحسد لأهله، و حبّ الرّياسات الباطلة الناشية عن النّفاق و الشكّ.

و في التّعبير بالجملة الظرفيّة دلالة على تمكّنه و استقراره في قلوبهم.

فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً لأنّ اللّه سبحانه لفيضه الشامل وجوده الكامل لا يزال يمدّهم بالفيوض الرّحمانية، و ينزّل عليهم من الخزائن الغيبيّة ما يستمرّ به ذواتهم و صفاتهم و قويهم و وجودهم و مشاعرهم و حواسهم و غير ذلك ممّا يصلح صرفه في الطّاعة و في المعصية، فإن اختاروا صرفها في تحصيل الطّاعة و طلب القرب فقد فازوا بها و ازدادوا ايمانا مع ايمانهم، و إن اختاروا صرفها في تحصيل المعصية و طلب البعد عن ساحة قربه و رضوانه، فما كان اللّه ليجبرهم على الطّاعة، أو يقسرهم عن المعصية، أو يسلب عنهم الإختيار أو يحول بينهم و بين الآلات و الأدوات و سائر الأسباب كي يئول أمرهم إلى الاضطرار لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ «2»، و لذا يكون آلاؤه و نعماؤه أسبابا صالحة لكلّ من الطّاعة و المعصية.

و من هنا يتّضح الوجه في ما ورد من أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام نعمة

اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 61 ص 40 عن التوحيد ص 219.

(2) البقرة: 256.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 289

على الأبرار، و نقمته على الفجّار «1».

و كذا سائر الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

بل و كذا كلّ جزء و جزئيّ، حقير أو جليل من مواهبه سبحانه، من حيث صلوحه و قابليّته لصرفه في كلّ من النّجدين.

و لذا قال سبحانه بعد قوله: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ*، آه فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2».

مع أنّ السورة لم تزده على وجه الحقيقة لكنّهم لمّا ازدادوا رجسا عند نزولها، كما كفروا قبل ذلك، أضافه إليها.

و مثله قوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً* «3».

و قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً «4».

و قوله: حكاية عن نوح على نبيّنا و آله و عليه السّلام رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً «5».

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه جواز استناد الشي ء إلى شي ء من أسبابه.

و ممّا مرّ يظهر النظر فيما يقال من أنّ الزيادة من جنس المزيد عليه فلو كان المراد من المرض هنا الجهل أو الكفر، لكان قوله «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» محمولا على الجهل و الكفر، فيلزم أن يكون اللّه سبحانه فاعلا لهذين تعالى اللّه عنه و عمّا يقول

__________________________________________________

(1) مصباح الزائر ص 77- 78 و فيه: السّلام على نعمة اللّه على الأبرار، و نقمته على الفجّار.

(2) التوبة: 124- 125.

. (3) المائدة: 68.

(4) فاطر: 42.

(5) نوح: 5- 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 290

الظّالمون علوّا كبيرا، و بما

ذكرناه يندفع الأشكال برمّته.

مع أنّ في الآية وجوها أخر منها: أن يحمل المرض على الغمّ و الحزن كما يقال: مرض قلبي في أمر كذا، و المعنى أنّ المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا من ثبات أمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و استعلاء شانه يوما فيوما، و ذلك كان يؤثّر في زوال رئاساتهم.

كما قد روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أردف أسامة على حماره يعود سعد بن عبادة قبل وقعة بدر فمرّا على مجلس فيه عبد اللّه بن أبيّ فقال له نحّ حمارك يا محمّد فقد اذاني ريحه، فلمّا دخل على ابن عبادة فقال: يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد ابن أبيّ فقال يا رسول اللّه اعف عنه و اصفح، فو اللّه لقد أعطاك اللّه الّذي قد اعطاك و لقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصّبوه بالعصابة فلمّا رد اللّه ذلك بالحقّ الّذي أعطاكه شرق بذلك.

و كما قد روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بينما هو جالس إذ أقبل أمير المؤمنين عليه السّلام فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم و لولا أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من المسلمين إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة فغضب الاعرابيّان و المغيرة بن شعبة و عدة من قريش فقالوا: ما رضي أن يضرب لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم فانزل اللّه على نبيّه وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الآيات «1».

قال فغضب حارث بن عمرو الفهري

فقال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قال فلمّا صار الحارث بظهر المدينة أتته جندلة فرضّت هامته فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمن حوله من المنافقين

__________________________________________________

(1) الزخرف: 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 291

انطلقوا الى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به «1»، الى غير ذلك ممّا تسمعها في مواضعه إن شاء اللّه.

و منها أن يحمل المرض على ألم القلب، حيث إنّ الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد و النفاق و نحوهما، و دام به ذلك فربّما صار ذلك سببا لتغيّر مزاج قلبه، و يسري ذلك في بدنه، فإنّ الأبدان سريعة الانفعال من العوارض النفسانيّة، و يكون المراد من قوله تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً سراية المرض من قلوبهم إلى أبدانهم.

أو أنّ المراد به بناء على هذا الوجه و غيره المنع من زيادة الألطاف فيكون بسبب ذلك خاذلا لهم.

و منها أنّ ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «2» فيكون دعاء عليهم بأن يخلّيهم و أنفسهم إملاء و استدراجا كي يزدادوا إثما.

و منها أنّ المراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الضعف و الجبر. حين شاهدوا شوكة المسلمين، و إمداد اللّه تعالى لهم بالملائكة المنزلين و قذف الرعب في قلوب الكافرين، و بزيادة المرض تضعيفه بما زاد لرسوله من النصرة و الغلبة و إعلاء الكلمة.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 4 ص 150- 151 مع تفاوت يسير- و البحار ج 35 ص 324.

(2) التوبة: 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 292

القراءة الشاذّة في مَرَضٌ

و قرأ أبو عمرو «1» في رواية الأصمعي (مرض) و (مرضا) بسكون الراء فيهما، قيل:

و هي ليست من المتواترة.

و عن ابن جني «2»: لا يجوز أن يكون مرض بسكون الراء تخفيف مرض بفتحها، لأنّ المفتوح لا يخفّف إلّا شاذا بخلاف المضموم و المكسور، بل يجب أن يكون لغة اخرى فيه.

و قال الفيومي «3» في «المصباح المنير»: مرض مرضا (بالسكون) لغة، قليل الاستعمال، قال الأصمعي «4»: قرأت على ابي عمرو ابن العلاء: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» فقال لي: «مرض» يا غلام، اي بالسكون، و الفاعل من الأولى مريض، و من الثانية مارض.

و في «القاموس»: مرض كفرح مرضا و مرضا فهو مرض، و مريض، و مارض.

و بالجملة لا ريب في صحّتها لغة، لكن جواز القراءة بها غير ثابت.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم، و هو الموجع الّذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ، فعيل بمعنى مفعل بالكسر، كالبديع بمعنى المبدع في قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ* «5»، و النذير بمعنى المنذر، و السميع بمعنى المسمع في قول عمرو بن

__________________________________________________

(1) هو أبو عمرو بن العلاء المازني المقري البصري المتوفى «154» ه.

(2) هو ابو الفتح عثمان بن جنيّ الموصلي النحوي الأديب المتوفى (392) ه.

(3) هو احمد بن محمّد المصري الأديب اللغوي المقري، المتوفي نحو «770» ه.

(4) الأصمعى عبد الملك بن قريب البصري اللغوي المتوفى (216) ه.

(5) سورة البقرة: 117.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 293

معدي كرب «1»:

أمن ريحانة الداعي السميع يؤرّقني و أصحابي هجوع و قد صرّح به غير واحد من ائمّة اللغة، فلا يصغى إلى إنكار الزمخشري، و غيره مجي ء فعيل بمعنى مفعل بالكسر، و جعل الآية من المجاز في الإسناد كقوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع، بمعنى المرجع بالفتح على ما قيل، و قولهم: جدّ جدّه، و الألم

في الحقيقة للمتألّم، كما أنّ الجدّ للجادّ، لكنّ العذاب وصف به للمبالغة، كأنّ العذاب لشدّته يتألّم من نفسه، و لا بأس به غير أنّ الأوّل أظهر.

بِما كانُوا يَكْذِبُونَ «2» بسبب كذبهم في قولهم: آمَنَّا و لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، و في قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، و اللّه يشهد بكذبهم، و في إقرارهم و تصديقهم بوصيّه الّذي بايعوا معه يوم الغدير، حتى قال له الثاني ما قال، ثم نكثوا بيعته و نقضوا عهده، و نبذوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.

و في إيثار مادّة الكون، و هيئة الجملة الفعليّة دلالة على استمرارهم على الكذب و إصرارهم و تحقّقهم به قولا و فعلا، حتى كأنّه كانت كينونتهم عليه من باب الفطرة الثانية، و الخلقة المغيّرة الشيطانيّة.

القراءة الشاذة في يَكْذِبُونَ

و التخفيف قراءة حمزة، و عاصم، و الكسائي، و قرأ الباقون يَكْذِبُونَ بالتشديد.

و علّل الأوّل بأنّه أشبه بما قبل الكلمة و ما بعدها، لأنّ قولهم: آمنّا باللّه كذب

__________________________________________________

(1) عمرو بن معدي كرب الزبيدي فارس اليمن وفد على المدينة سنة (9) ه و اسلم، و لما توفّي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ارتدّ عمرو، ثمّ تاب، فشهد القادسية، و توفّي قرب الريّ عطشا سنة (21) ه.

(2) البقرة: 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 294

منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم، و ما وصلته بمعنى المصدر، و أيضا قولهم فيما بعد لإخوانهم الشياطين: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «1» يدل عليه.

و أمّا الثاني فعلّل بموافقته لما هو المذكور في آيات كثيرة، كقوله تعالى:

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «2»، و قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ «3»، و غيرهما.

و لكنّ الدليلين كما تراهما بمكان

من القصور، كقصور ما عن بعض من كون الثاني أنسب بالمقام لسببيّته للكفر و شدّة العذاب، و دوامه، و عدم الإيمان، و غير ذلك ممّا يستفاد، دون الأوّل الّذي هو بمجرّده من أسباب الفسق لا الكفر.

إذ مع أنّ الأنسب بحال المنافق هو الذّمّ على الكذب، لا ينبغي تعيين القرآن او ترجيح القراءة بمثل هذه الوجوه، سيّما بعد ترخيص الأخذ بكلّ منهما في زمان الغيبة، كشف اللّه عنّا الحيرة بظهور الحجّة عجّل اللّه فرجه.

ثمّ المشدّد إمّا من كذّبه، لأنّهم كانوا يكذّبون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقلوبهم، وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فيما بلّغهم من الشرائع، سيّما خلافة وصيّه، كما قال: وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ «4» فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «5».

أي في ولاية وليّ الأمر.

و إمّا من كذّب الّذي هو المبالغة في اصل الفعل، أو لتكثير الفاعل أو المفعول،

__________________________________________________

(1) البقرة: 14.

(2) آل عمران: 184.

(3) يونس: 39.

(4) الأنعام: 66.

(5) القلم: 8- 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 295

نحو بيّن الشي ء، و موّتت الآبال، وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ «1»، أو من كذّب عن أمر قد أراده، إذا أحجم و لم يقدم، لأنّهم نكثوا البيعة، و نقضوا الصفقة، أو من كذّب الوحشي إذا جرى شوطا فوقف لينظر ما ورائه، لتردّد المنافقين، و تحيّرهم في أمر الدين و في صرف الولاية عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

تعريف الكذب

اعلم أنّ الكذب هو الإخبار عن الشي ء على خلاف ما هو عليه، و هو من جنود الجهل. كما أنّ الصدق الّذي هو مطابقة الخبر للواقع، أو لاعتقاد المخبر، أولهما، من جنود العقل، و تقابل الكذب له تقابل العدم و الملكة، لأنّه

عدم الصدق عمّا من شأنه الصدق، و الكذب قد يكون صادرا لمصلحة دينية أو دنيوية مجوّزة له شرعا و لا بأس به، بل قد لا يسمّى كذبا.

عن الصادق عليه السّلام: الكلام ثلاثة: صدق، و كذب، و إصلاح بين الناس، قال:

تسمع من الرجل كاملا لو بلغه لضاقت نفسه، فتقول: سمعت من الفلان قال فيك الخير كذا و كذا، خلاف ما سمعت منه «2».

و في خبر آخر عنه عليه السّلام: المصلح ليس بكذّاب «3».

و قد يكون صادرا لغير ضرورة مسوّغة، و هو من اسباب الفسق، و قد يكون صادرا عن الملكة و الانطباع عليه، و إليه الإشارة

بالنبوي: إنّ الكذب يهدي إلى الفجور، و الفجور يهدي إلى النار، و انّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا «4».

__________________________________________________

(1) سورة يوسف: 23.

(2) بحار الأنوار ج 72 ص 251 عن الكافي ج 2 ص 341 بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

(3) البحار ج 25 ص 292.

(4) البحار ج 72 ص 259 عن الأمالى للصدوق ص 252 و فيه: ما يزال أحدكم يكذب حتى لا يبقى في قلبه موضع أبرة صدق فيسمّى عند اللّه كذّابا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 296

و قال عبد الرّحمن بن الحجّاج: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الكذّاب هو الّذي يكذب في الشي ء؟ قال: لا ما من أحد إلّا و يكون ذلك منه، و لكنّ المطبوع على الكذب «1».

و لعلّ هذا هو المراد ممّا

ورد من أنّ المؤمن يزني و لا يكذب «2».

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل للشر أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شر من الشراب «3».

و امّا ما

روته العامّة من أنّ

ابراهيم على نبيّنا و آله و عليه السّلام كذب ثلاث كذبات

فهو مفترى عليه، و سيجي ء الإشارة إليه و الى معنى الخبر على فرضة في تفسير قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «4»، و قوله: إِنِّي سَقِيمٌ «5».

[سورة البقرة(2): آية 11 ]

اشارة

تفسير الآية (11) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ «6» عطف على يَقُولُ آمَنَّا أو على يُخادِعُونَ اللَّهَ أو على يَكْذِبُونَ، و ربّما يرجّح الأخير على الأوّلين بقربه، و بافادته سببيّة الفساد

__________________________________________________

(1) البحار ج 72 ص 250 عن الكافي ج 2 ص 340.

(2) البحار ج 72 ص 263 عن دعوات الراوندي بتفاوت يسير.

(3) البحار ج 72 ص 262 و فيه: و أشرّ من الشراب الكذب.

(4) الأنبياء: 63.

(5) الصافّات: 89.

(6) البقرة: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 297

للعذاب، و لسلامته من تخلّل البيان، أو الاستيناف و ما يتعلّق به بين أجزاء الصلة، و الأقرب الأوّل لظهور كون الآيات حينئذ على نمط واحد من تعداد قبائحهم، و إفادتها اتّصافهم بكلّ تلك الأوصاف استقلالا و قصدا، و دلالتها على أنّ لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الّذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم و نفاقهم فما ظنّك بسائرها.

و ربّما يتوهّم أنّ عطفه على الجملة الاسميّة أعني قوله: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا أو في بتأدية هذه المعاني.

و فيه نظر لعدم دلالة على اندراج هذه الصفة و ما بعدها في قصّتهم، بل تكون قصّة في مقابلة الاولى، فلا يحسن عود الضمائر الّتي فيها إليهم، نعم يمكن الاستيناس له بما يأتي روايته عن سلمان، و ستسمع الجواب عنه.

القراءة في قِيلَ

و في (قِيلَ) و نحوه من الفعل الماضي الّذي لم يسمّ فاعله قرأ الكسائي، و رويس، و هشام بالإشمام، بأن ينحى بكسر أوائلها نحو الضمّة و بالياء بعدها نحو الواو، فهي حركة مركّبة من حركتين، لأنّ أوائلها و إن كانت مكسورة فأصلها الضمّ فاشمّت الضمّ دالّة على أنّه أصل ما تستحقّه.

قالوا:

هو لغة للعرب فاشية، و أبقوا شيئا من الكسر تنبيها على ما استحقّته هذه الأفعال من الاعتدال.

و قرأ الباقون من القرّاء بإخلاص الكسر لأجل الياء الساكنة بعده، نحو ميزان، و ميقات، قالوا: و هو اللغة الفاشية المختارة.

و عن نافع، و ابن ذكوان الجمع بين اللغتين، و فيه لغة ثالثة، و هي (قول) بالواو المضموم ما قبلها، و في جواز القراءة بها إشكال، و الأولى الاقتصار على إخلاص

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 298

الكسر.

و إدغام اللام في اللام من الإدغام الكبير الّذي نبّهنا على عدم جوازه.

و (إِذا) ظرف للزمان، و فيها معنى الشرط أضيفت إلى الجملة الفعليّة، و إنّما يعمل فيها جوابها، و هو (قالُوا).

لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ جملة في موضع الرفع بيان للمقول، و الإفساد إحداث الفساد، و هو خروج الشي ء عن حال استقامته و كونه منتفعا به، و يقابله الصلاح و هو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة.

و الأرض مستقرّ الحيوان، و يقال لقوائم الفرس أيضا لاستقراره عليها، و لكلّ ما سفل، و لعلّ منه إطلاقها على القوائم، و لذا قال في «الصحاح»، و «القاموس»: إنّها أسفلها.

و الأظهر أنّها في الأصل هذه الّتي جعلها اللّه تعالى فراشا، و مهادا، و ان كان ربّما يوسّع في معناها من جهة الاستقرار، أو التسفّل، أو الخضرة و النضرة في قولهم: أرض أريضة، أي زكيّة نضرة معجبة للعين، أو التواضع و البركة في قولهم:

رجل أريض، أي متواضع خليق للخير، أو الثقل في قولهم: تأرّض فلان إذا تثاقل الى الأرض، و غير ذلك ممّا ينزّل معها الجامد منزلة المشتقّ.

معنى الفساد في الأرض

و معنى الفساد في الأرض هيج الحروب و الفتن، لأنّ في ذلك فساد حال الإنسان الّذي هو أشرف المواليد، و

يتبعه فساد سائر الحيوانات و النباتات.

قال اللّه تعالى: وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 299

وَ النَّسْلَ ... «1» نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدّمة، و هم الذين عقدوا فيما بينهم أن يمنعوا أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه، و ينازعوه فيما جعله اللّه تعالى له من الرياسة العامّة و الولاية الكلّية.

و يؤيّده

ما روته الخاصّة و العامّة عن سلمان المحمّدي رضي اللّه عنه أنّ أهل هذه الآية لم يأتوا بعد «2» و حمله الطبرسي و البيضاوي و غيرهما من الفريقين على أنّه أراد به أنّ اهله ليس الذين كانوا فقط، بل سيكون بعد من حاله حالهم، قالوا:

لأنّ الآية متّصلة بما قبلها بالضمير فيها.

أقول: و الأظهر أنّ سلمان إنّما أبهم البيان خوفا و تقيّة، و مراده ما

أشار اليه الصادق عليه السّلام على ما رواه في المناقب أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: بها قوتل أهل البصرة «3».

فقول سلمان: لم يأتوا بعد، معناه لم يأتوا. بإفسادهم، و ان كانوا موجودين بأعيانهم، كطلحة، و الزبير، و غيرهما من المنافقين الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه السّلام، فإنّهم بايعوه أوّلا طائعين طامعين في نيل الأموال و المناصب، فلمّا رأوا أنّه عليه السّلام يعدل بالحقّ، و يقضي بالقسط، و يقسّم بالسويّة، و يعدل بين الرعيّة جاء طلحة و الزبير إليه يستأذنانه للعمرة و قد أرادا الغدرة، فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما تجرّ الأمة عند شرائها و أوقدوا نار الحرب الّتي قتل فيها منهم ما يقرب من عشرين ألفا، و قتل من أصحاب امير المؤمنين عليه السّلام نحو ألف رجل و سبعون

فارسا، إلى أن وضعت الحرب أوزارها.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: 205.

(2) راجع هامش رقم (1) في تفسير الصافي ج 1 ص 96.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 334 و عنه البحار ج 32 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 300

و لا يخفى أنّ نكث هؤلاء بيعتهم الثانية بعد قتل عثمان و إن أوجب الفساد، و سفك الدماء، و تفريق الكلمة، و إثارة فتن الشام و النهروان، إلّا أنّ أساس ذلك كلّه، بل و غيره من الفتن و المفاسد الواقعة بعد رحلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ظهور الحجّة عجل اللّه فرجه إنّما هو نكث البيعة الكبرى الواقعة في يوم الغدير.

و لذا

قال موسى بن جعفر على ما تفسير الامام عليهم السّلام: «إِذا قِيلَ» لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بإظهار نكث البيعة لعباد اللّه المستضعفين فتشوّشون عليهم دينهم، و تحيرونهم في مذاهبهم.

قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ لأنّا لا نعتقد دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا غير دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نحن في الدين متحيّرون، فنحن نرضى في الظاهر محمّدا بإظهار قبول دينه و شريعته، و نقضي في الباطن على شهواتنا فنمتنع و نتركه، و نعتق أنفسنا من رقّ محمّد، و نفكّها من طاعة ابن عمّه عليّ لكي لا نذلّ في الدنيا، كنّا قد توجّهنا، و إن اضمحلّ أمره كنّا قد سلمنا من سبي أعدائه. الخبر «1».

و فيه مبالغة على إنكار الناصح و ردّ قوله، و دعوى تمحّض أفعالهم و أحوالهم عن شرب الفساد، و انحصارها في الصلاح المحض لأنّ كلمة (إنّما) تفيد قصر ما

دخلته على ما بعده، فمعنى إنّما زيد قائم، ما زيد إلّا قائم، و معنى إنّما قائم زيد: ما قائم إلّا زيد، و المراد أنّ ما تسمّونه فسادا هو عندنا صلاح، لما في قلوبهم من الزيغ و المرض، فهم من الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «2»، و ممّن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً «3».

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام ص 57 و عنه البرهان ج 1 ص 61 ج 1.

(2) الكهف: 104.

(3) فاطر: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 301

أو إنكار ما ينسب إليهم من النفاق، و إيلاف الكفّار، و معاندة أهل الحقّ، كما قالوا: آمنّا و لم يؤمنوا.

[سورة البقرة(2): آية 12 ]

تفسير الآية (12) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ أَلا إِنَّهُمْ «1» اعلموا أنّ هؤلاء المنافقين المصرّين على كفرهم الذين يعدّون الفساد صلاحا هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ تكذيب من اللّه لهم و ردّ على ما ادّعوه أبلغ ردّ بحيث لا يرجى نجاتهم، لانهماكهم في غيّهم و ضلالهم و عدم شعورهم بذلك، أو بما يستحقّونه من العذاب الأليم، فإنّهم يحسبونه هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.

و كلمة أَلا حرف استفتاح يبتدأ به الكلام لتوكيد مضمون الجملة، مركّب من همزة الإنكار، و حرف النفي، و الإنكار نفي، و نفي النفي إثبات، ركّبتا لإفادة الإثبات و التحقيق، و نظيره أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «2» إذا لا يجوز للمجيب إلّا الإقرار ببلى، لكنّهما بعد التركيب صارتا كلمة تدخل على ما لا يجوز أن يدخله حرف النفي، كما في الآية، و لا تكاد تذكر إلّا و الجملة بعدها مصدّرة بما يتلقّى

به القسم، كإنّ، و اللام، و حرف النفي.

ففي الآية وجوه من المبالغة كتصدير الجملة بها و بإنّ المقرّرة لمضمونها و الاستيناف، فإنّ العدول اليه من العطف يقصد به تمكّن الحكم في ذهن السامع،

__________________________________________________

(1) البقرة: 12.

(2) سورة القيامة: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 302

و الإستدراك بلا يشعرون الدّال على أنّ كونهم مفسدين، أو استحقاقهم لعظيم العقوبة قد ظهر المحسوس، لكن لا حسّ لهم ليدركوا ذلك، إذ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها.

و تعريف الخبر، و توسيط الفصل على أحد الوجهين يجعل الضمير له و إن قيل: إنّ الأوّل منهما يفيد قصر المسند على المسند إليه، و الثاني يفيد تأكيد هذا الحصر، نحو زيد العالم، إلّا أنّه قد يفيد العكس أيضا بقرينة المقام نحو الكرم التقوى، فيؤكّده الفصل أيضا، مع ما فيه من ردّ قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، تعريضا على المؤمنين.

[سورة البقرة(2): آية 13 ]

اشارة

تفسير الآية (13) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لهؤلاء الناكثين للبيعة، قال لهم خيار المؤمنين كسلمان، و ابي ذرّ، و مقداد: آمِنُوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعلي الّذي أوقفه موقفه، و أقامه مقامه، و أناط مصالح الدين و الدنيا كلّها به، آمنوا بهذا النبي، و سلّموا لهذا الإمام، و سلّموا له في ظاهر الأمر و باطنه.

كَما آمَنَ النَّاسُ المؤمنون كسلمان، و المقداد، و أبي ذرّ، و عمّار، قالُوا في الجواب لمن يفيضون إليهم، لا لهؤلاء المؤمنين، فإنّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، و لكنّهم يذكرون لمن يفيضون إليه من أهليهم الذين يثقون بهم من المنافقين و من المستضعفين او المؤمنين الذين هم

بالستر عليهم واثقون بهم، يقولون لهم: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعنون سلمان و أصحابه لما أعطوا عليّا خالص ودّهم، و محض طاعتهم، و كشفوا رؤسهم بموالاة أوليائه و معاداة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 303

أعدائه.

و ما ذكرناه في تفسير الآية أخذناه عن تفسير الامام عليه السّلام «1»

.

و بناء الفعل في هذه الآية و ما قبلها للمفعول لتعظيم القائل، و الاهتمام بذكر المقول، و أنّ القائل به غير منحصر في واحد، بل هو قول اللّه تعالى، و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المؤمنين، و الملائكة الذين يلهمونهم الرشد على سبيل الخطرة و القذف في القلوب إرشادا لهم، و إتماما للحجّة عليهم بدلالتهم الى ركني الايمان الّذين هما التخلّي عن الرذائل المقصود بقوله: لا تُفْسِدُوا و التحلّي بالفضائل المطلوب بقوله:

آمِنُوا.

و الكاف في كَما آمَنَ النَّاسُ في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف، و (ما) مصدريّة، و المعنى آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس.

أو كافّة مثلها في ربّما، و المعنى حقّقوا إيمانكم كما تحقّق إيمانهم، فالتشبيه على الأوّل بين مفردين، و على الثاني بين مضموني الجملتين، و مجرّد حصول الغرض بالأوّل على فرضه غير دافع الثاني.

و اللام في الناس إمّا للجنس، و المراد به الكاملون في الإنسانيّة، المقيمون على وظائف العبوديّة في جميع شئونهم و أطوارهم و مراتب وجودهم قولا و فعلا و إرادة و اعتقادا في جميع الأحوال.

و هذه مرتبة تساوق العصمة، و لذا فسّر الناس في كثير من الأخبار بالأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين،

قالوا: نحن الناس، و شيعتنا شبه الناس، و سائر الناس نسناس «2».

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 58 و عنه البرهان ج 1 ص

62 ح 1.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 94- 95 عن تفسير الفرات ص 8 و الكافي الروضة ص 244- 245.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 304

و في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام: انّ اللّه خلقنا من نور عظمته، ثم صوّر خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش، فأسكن ذلك النور فيه فكنّا نحن خلقا و بشرا نورا نيّرا، لم يجعل لأحد في مثل الّذي خلقنا منه نصيبا، و خلق أرواح شيعتنا من أبداننا، و أبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة، و لم يجعل اللّه لأحد في مثل ذلك الّذي خلقهم منه نصيبا إلّا الأنبياء و المرسلين، فلذا صرنا نحن و هم الناس، و سائر الناس «1» همجا في النار، و إلى النار «2».

فالأمر في الآية بالتشبّه بهم في الايمان أمر بتشيّعهم و موالاتهم كي يندرج الممتثل في القسم الثاني.

و بعد الغضّ عن هذا المعنى الّذي يستفاد من الأخبار، بل و من قوله تعالى:

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «3» على ما يأتي ان شاء اللّه.

و لا ريب أنّ اسم الجنس يطلق مرّة على مطلق مسمّاه، و اخرى على المستجمع للفضائل المحمودة، و المحامد المقصودة في جنسه، و يجمعهما قوله:

ديار بها كنّا و نحن نحبّها إذا الناس ناس و الزمان زمان و المقصود في الآية هو الثاني، مع دعوى أنّ الفاقد لهذه الدرجة من الإيمان لا ينبغي أن يسمّ باسم الإنسان، و المراد به حينئذ سلمان و حزبه من خواصّ شيعتهم، فإنّهم الكاملون في مقام التصديق بهم.

و إمّا للعهد و المراد به أحد المعنيين أيضا.

و اللام في «السُّفَهاءُ» أيضا يحتمل الجنس ادّعاء منهم أنّهم البالغون في

__________________________________________________

(1) الهمج محرّكة: ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم و البعير.

(2) البصائر ص 7 و عنه البحار ج 25 ص 13- 14.

(3) النساء: 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 305

السفاهة، و العهد.

و دعوى أنّ اللام في الموضعين للعهد لا للجنس ضعيفة.

معنى السفاهة في المنافقين

و السفيه من خفّ عقله و سخف رأيه، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان باليا رقيقا، و إليه يئول ما قيل: إنّه الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواقع المنافع و المضارّ، بل و ما عن قطرب «1» من أنّه العجول الظلوم القائل خلاف الحقّ، فإنّ هذا كلّه من آثار الخفّة و السخافة.

و إنّما سفّهوهم لاسترذالهم و تحقير شأنهم و تضعيف أحلامهم، حيث إنّ اكثر المؤمنين كانوا فقراء منهم أصحاب الصفّة، و منهم موال، و نظيره قوله: وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ «2».

أو لأنّ منهم من ترك الحظوظ العاجلة و المناصب الموطئة، و الرياسات العظيمة، و منهم من هاجر الأوطان، و فارق الأهل و الأولاد و الإخوان، و منهم من بذل نفسه في سبيل اللّه، و كلّ ذلك عند هؤلاء المنافقين كان إيثارا للمضارّ على المنافع العاجلة الّتي طمحت إليها آمالهم، و تاقت إليها نفوسهم، و لذا حملوه على خفّة الأحلام و قلّة المعرفة بمواقع المنافع و المضارّ.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ لا غيرهم، هم المؤثرون للباطل على الحقّ، لأنّ في إقامتهم على غيّهم و ضلالتهم فضلا من شماتتهم بأهل الدين موت قلوبهم، و هلاك نفوسهم، و هدر دمائهم، و نهب أموالهم و سبي ذراريهم، مع ما يستحقّونه من

__________________________________________________

(1) قطرب: ابو علي محمد بن المستنير البصري النحوي اللغوي المتوفى (206) ه.

(2) هود: 27.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 4، ص: 306

الشقوة اللازمة، و العقوبة الدائمة، فأيّ سفاهة أعظم من سفاهتهم؟! وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ حقّ العلم الّذي يقترنه العمل، فإنّ من آثر الباطل على الحقّ و إن كان عالما فإنّه جاهل كما في الخبر و يشهد له قوله: ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ «1»، و قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ «2».

او أنّهم مقصّرون في تحصيل العلم مع تمكّنهم منه و إعراضهم عنه، و لذا حقّت عليهم كلمة العذاب، أو أنّهم لا يعلمون أنّ المدار في النفع و الضرر إنّما هو ملاحظة الأجل لا العاجل، و ذلك لقصور نظرهم على الحظوظ الدنيوية، و لذا حقّروا أهل الحقّ.

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أعظم الكبر غمص الخلق و سفه الحق»، قال الراوي، و هو عبد الأعلى بن أعين: قلت: و ما غمص الخلق و سفه الحق؟ قال: يجهل الحقّ و يطعن على أهله «3» ، و في معناه أخبار أخر.

و في الآية وجوه من المبالغة في الردّ عليهم، و تجهيلهم، و تسفيه آرائهم، و لذا فصّلها بنفي العلم، مع أنّ الوقوف بأمر الدين و البصيرة ممّا يحتاج الى مزيد نظر و تفكّر دون معرفة النفاق و الفساد الحاصلة بأدنى تفطّن، و لذا فصّلت الآية السابقة ب لا يَشْعُرُونَ، و هذه الآية ب لا يَعْلَمُونَ، و هي جارية على كلّ من أنكر شيئا من الحقّ و طعن على أهله، سواء كان متعلقا بأصول العقائد، او بالفروع العملية، و إن اختلفت مراتب السفاهة باختلاف، متعلّق الإنكار، فإنّ اشدّها تعلق الإنكار بشي ء من

__________________________________________________

(1) يوسف: 89.

(2) النساء: 17.

(3) الكافي ج 2 ص 310 و عنه البحار ج 73 ص 218.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 307

الأصول الايمانية الّتي منها ولاية وليّ الأمر بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

بل قد سمعت فيما مرّ نقله ما ظاهره نزول الآية في المنافقين الناكثين لبيعته.

و ربما يقال: إنّ فيها دلالة على أنّ الإقرار إيمان، و إلا لم يفد التقييد بقوله:

«كَما آمَنَ النَّاسُ» للاستغناء عنه بقوله: «آمِنُوا».

و فيه أنّ الإطلاق مبنيّ على الإقرار الظاهر الموجب للحكم به ظاهرا، و أمّا الإيمان الحقيقي فقد مرّ أنّه لا يحصل إلّا بالإخلاص القلبي.

[سورة البقرة(2): آية 14 ]

اشارة

تفسير الآية (14) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَ إِذا لَقُوا يعني هؤلاء المنافقين الجاحدين لنبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم او الناكثين لبيعة وصيّه و خليفته امير المؤمنين عليه السّلام.

الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كأيمانكم بالنبي و الوصيّ، فنحن و أنتم إخوان في الدين أولياء لأمير المؤمنين.

و اللقاء: المصادفة و الاستقبال، تقول: لقيته: إذا صادفته و استقبلته قريبا منه.

و مساق الآية لبيان معاملتهم مع المؤمنين و الكفّار في الظاهر و الباطن.

و أمّا ما صدرت به القصّة فبيان لمذهبهم على ما هم عليه، حيث إنّهم قد ادّعوا حيازة الايمان بقطريه، و ما هم فيه من شي ء، فلا تكرار، مع ما في الثاني من تقييد إطلاق الأول بأنّ تفوههم بالإيمان خداعا إنّما كان عند لقاء المؤمنين الّذي هو مظانّ الحاجة الى التفوّه بالكلمة، و أنّهم ضمّوا الى الخداع الاستهزاء.

بل قد يقال: إنّ الأوّل إخبار عن حدوث نفس الإيمان، و الثاني من حدوث خلوصهم فيه و رسوخه في قلوبهم، و لذا قيل: معنى قالُوا آمَنَّا أخلصنا بقلوبنا.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 308

و في «الحواشي البهائيّة»: لا يبعد أن يحمل قولهم: آمَنَّا في احدى الآيتين على الإنشاء، كما يقول القائل: آمنت باللّه، و في الاخرى على الإخبار، فإن حملت الثانية عليه لم يحتج إلى توجيه إخلائها من التوكيد.

أقول: و لعلّ من فوائد التكرير مضافا الى ما مرّ كونه تمهيدا لما قوبل به ممّا يسجل عليهم نفاقهم و خداعهم و استهزائهم بالمؤمنين.

روى في المناقب عن تفسير الثعلبي، و في كشف الغمّة عن ابن عباس أنّ عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه تمعّكوا مع علي عليه السّلام في الكلام، فقال علي عليه السّلام: يا عبد اللّه اتقّ اللّه و لا تنافق فإنّ المنافق شرّ خلق اللّه، فقال: مهلا يا أبا الحسن و اللّه إنّ أيماننا كايمانكم، ثمّ تفرّقوا، فقال عبد اللّه: كيف رأيتم ما فعلت؟ فأثنوا عليه، فنزلت.

و رواه موفّق بن أحمد، و هو من أكابر العامّة في كتابه، ثمّ قال بعد نقل الخبر:

دلّت الآية على ايمان علي عليه السّلام كرّم اللّه وجهه ظاهرا و باطنا، و على قطعه موالاة المنافقين و إظهار عداوتهم، و المراد بالشياطين رؤساء الكفّار. انتهى «1».

و في تفسير الامام عن الكاظم عليه السّلام أنه قال: وَ إِذا لَقُوا هؤلاء الناكثون البيعة المواطئون على مخالفة علي عليه السّلام و دفع الأمر عنه الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كإيمانكم، إذا لقوا سلمان و المقداد و أبا ذرّ و عمّارا قالوا آمنّا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سلّمنا له بيعة عليّ عليه السّلام و فضله و أنفذنا لأمره كما آمنتم، إنّ أوّلهم و ثانيهم و ثالثهم الى تاسعهم ربما يلاقون في بعض طرقهم مع سلمان و أصحابه، فإذا لقوهم إشمأزّوا منهم و

قالوا: هؤلاء أصحاب الساحر و الأهوج، و هو الّذي يهيج في الحرب، يعنون محمّدا و عليّا، ثم يقول بعضهم: احترزوا منهم لا يقفون من فلتات كلامكم على كفركم فيكون فيه هلاككم، فيقول أوّلهم: انظروا إليّ كيف أسخر منهم و أكفّ عاديتهم عنكم، فإذا التقوا

__________________________________________________

(1) كشف الغمّة ص 89 و عنه البحار ج 36 ص 122.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 309

قال: مرحبا بسلمان ابن الإسلام الّذي قال فيه محمّد سيّد الأنام: لو كان الدين معلّقا بالثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس، و قال فيه: سلمان منّا أهل البيت، ثمّ يقول للمقداد و عمّار و غيرهما ما قاله فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقبل سلمان و أصحابه ظاهرهم كما أمرهم اللّه، و يجوزون عنهم.

فيقول الأوّل لأصحابه: كيف رأيتم سخريتي بهؤلاء و كفّي عاديتهم عنّي و عنكم، فيقولون: لا تزال بخير ما عشت لنا، فيقول لهم: فهكذا فلتكن معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم، فإنّ اللبيب العاقل من تجرّع على الغصّة حتى ينال الفرصة «1».

وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ، الشياطين الذين من حزبهم و خدنهم و سنخهم من مردة الإنس الذين يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، أو سادتهم و كبرائهم الذين أضلّوهم السبيلا، و لذا أضافهم إليها.

و في «المجمع» عن مولانا باقر عليه السّلام: أنّهم كهّانهم «2».

و في التفسير عن الكاظم عليه السّلام: انّهم أخدانهم من المنافقين المتمرّدين المشاركين لهم في تكذيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أتاه إليهم عن اللّه تعالى من ذكر تفضيل امير المؤمنين عليه السّلام، و نصبه إماما على كافّة المكلّفين «3».

و التعبير الأوّل باللقاء، و هنا بالخلاء للتنبيه

على كذبهم و نفاقهم، و أنّه لا حظّ لهم من الايمان إلّا دعواه باللسان، و معتقدهم ما يظهرونه إذا خلوا.

و هي من خلوت به و إليه، و معه خلوّا و خلوة إذ انفردت معه، أو من خلى

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 58- 59.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 51.

(3) التفسير المنسوب الى الامام عليه السّلام ص 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 310

بمعنى مضى و منه: إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» أي مضى، و خلاك ذمّ أي عداك و مضى عنك، أو من خلوت به إذا سخرت منه، من قولهم: خلا فلان بعرض فلان يعيّب به.

و عدّي بإلى لتضمين معنى الإنهاء، لأنّهم أنهوا السخريّة بالمؤمنين إلى شياطينهم و حدّثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلانا، و أذمّه إليك.

قراءة شاذّة في خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ

حكى الطبرسي في المجمع أنّ قراءة أهل الحجاز في (خَلَوْا إِلى و أمثاله بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على الواو قبلها اي (خلولا).

و أما الشيطان فقد مضى معناه تفصيلا في الاستعاذة و المستعاذ منه «2».

قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ في الدين و الاعتقاد و الاعتضاد لا نفارقكم في قول أو فعل، بل نوافقكم على ما واطئتم عليه من دفع علي عليه السّلام عن هذا الأمر إن كانت لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كائنة: فلا يغرنّكم و لا يهولنّكم ما تسمعونه منّا و ترونه من دعوى الايمان و مداراتهم هي مجرّد قول لا حقيقة له.

إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بهم الاستخفاف بدينهم.

و هو استيناف مشتمل على المبالغة من وجوه كترك العاطف، و كون الجملة اسميّة مفتتحة بما يؤكّد مضمونها، و يفيد قصر أحوالهم في الاستهزاء الّذي هو شرّ وجوه الإنكار، فكأنّ

الشياطين قالوا لهم لمّا قالوا إِنَّا مَعَكُمْ: إن صحّ ذلك فما بالكم

__________________________________________________

(1) فاطر: 24.

(2) الصراط المستقيم ج 3 فاتحة الكتاب ص 57- 87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 311

توافقون المؤمنين و تدّعون الإيمان؟ فأجابوا بذلك.

و لظهور المجرى للسؤال في المقام و كون الجملتين على وجه الاستيناف مقصودتين، مع ما فيه من البيان و التقرير كان ذلك أولى من جعل الجملة تأكيدا للسابقة نظرا إلى أنّ قوله: إِنَّا مَعَكُمْ معناه الثبات على الكفر، و هذه ردّ للإسلام و دفع له منهم، لأنّ المستخفّ بالشي ء دافع لكونه معتدّا به، و دفع نقيض الشي ء تأكيد لثباته، أو بدلا منها حيث عظّموا كفرهم بتحقير الإسلام و أهله.

بل أفادوا أمرا زائدا على مجرّد المصاحبة و الموافقة، و هو قيامهم مع المؤمنين مقام المستهزئ المستخفّ بهم و بالدين، تنبيها على أنّهم في غيّهم و ضلالهم أرسخ قدما من شياطينهم، و دفعا لما يوهمه ظاهر إقرارهم.

و لذا خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعليّة الدالّة على دعوى حدوث الإيمان و خاطبوا الشياطين بالجملة الاسميّة المؤكّدة بإنّ، تحقيقا لثباتهم و استقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر و النفاق، فهم في الخطاب الأوّل بصدد الإخبار بحدوث الإيمان منهم، و لا باعث لهم على التأكيد.

معنى الاستهزاء

معنى الاستهزاء

و الاستهزاء: السخرية و الاستخفاف من الهزء بالفتح، و هو القتل السريع، و هزأ يهزأ بالفتح فيهما: مات على المكان، و هزأت و استهزأت بمعنى، و رجل هزأة بسكون الزاي اي يهزء به، و بفتح الزاي اي يهزأ بالناس.

و الأكثر على تحقيق الهمزة في مُسْتَهْزِؤُنَ و عن سيبويه تخفيفها بين بين، و هكذا كل همزة مضمومة إذا كان قبلها كسرة، و عن الأخفش قلب الهمزة ياء في المقام

و نحوه لأجل الكسرة الّتي قبلها، و هنا وجه آخر و هو حذف الهمزة و ضمّ ما قبلها، قرأ بها أبو جعفر وقفا و وصلا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 312

[سورة البقرة(2): آية 15 ]

اشارة

تفسير الآية (15) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ استيناف في غاية الجزالة و الفخامة حيث إنّهم بالغوا في استهزائهم أشنع مبالغة و أعظمها على وجه يحرّك السامع أن يقول: هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم و عاقبة حالهم و كيف صنع اللّه تعالى بهم في مجازاتهم؟

فصدّره باسمه المقدّم الجامع تنبيها على أنّه سبحانه هو الّذي يستهزأ بهم الاستهزاء الأبلغ الّذي لا اعتداد معه باستهزائهم، و ذلك لصدوره عمّن تضمحلّ قدرتهم و علمهم في جنب علمه و قدرته، و إيذانا بأنّه سبحانه يكفي مؤنة عباده المؤمنين و ينتقم لهم من أعدائهم في الدين، و لا يحوجهم الى معارضة المنافقين كيلا يفتروا بمكائدتهم عن عبادته.

معنى الاستهزاء بالنسبة الى اللّه سبحانه

و آثر الفعلية على الاسميّة و إن كان فيها المطابقة تنبيها على أنّ استهزاءه تعالى إنّما يحدث حالا فحالا، و يتجدّد وقتا وقت بعد وقت كما جرت به سنّته في سائر عقوباته في الدنيا كما قال: أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ «1»، و في الآخرة أيضا كما قال سبحانه: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «2».

__________________________________________________

(1) التوبة: 126.

(2) النساء: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 313

ثم إنّ الاستهزاء و إن كان لا يخلو من التلبيس و العبث، بل الجهل.

كما قالوا: أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ «1»، و الكلّ محال عليه سبحانه إلّا أنّه قد شاع تسمية جزاء الشي ء باسمه. كما في قوله تعالى:

وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2».

فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «3»، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً «4»، وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ «5» و

قول النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: اللهمّ إنّ فلانا هجاني اللهمّ فاهجه «6».

و ذلك إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلا له في القدر، او أنّ المراد إرجاع استهزائهم إليهم، و ردّ كيدهم في نحورهم، فإنّهم و إن أصرّوا في استهزاء المؤمنين إلّا أنّه يعود و باله إليهم، فيكونون كالمستهزء بهم، أو لأنّه سبحانه ينزل بهم لوازم الاستهزاء من الحقارة و الذلّة و الهوان و غيرها في الدنيا و الآخرة، تسمية لللازم باسم الملزوم، او أنّه يعاملهم معاملة المستهزئ المستخفّ، حسبما مرّ في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ «7».

روى في العيون، و المعاني، و التوحيد، و الاحتجاج عن مولانا الرضا عليه السّلام انه قال: إنّ اللّه عزّ و جل لا يسخر و لا يستهزئ و لا يمكر و لا يخادع، و لكنّه عزّ و جل يجازيهم

__________________________________________________

(1) البقرة: 67.

(2) الشورى: 40.

(3) البقرة: 194.

(4) الطارق: 15- 16.

(5) آل عمران: 54.

(6) البحار ج 33 ص 229 مع تفاوت.

(7) النساء: 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 314

جزاء السخرية و جزاء المكر و الخديعة، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوّا كبيرا «1».

و في تفسير الإمام عليه السّلام: قال العالم، يعني الكاظم عليه السّلام: فأمّا استهزاء اللّه تعالى بهم في الدنيا فهو إجراؤه إيّاهم على ظاهر أحكام المسلمين لإظهارهم السمع و الطاعة، و أمّا استهزاء بهم في الآخرة فهو أنّ اللّه عزّ و جلّ إذا أقرّهم في دار اللعنة و الهوان و عذّبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب، و أقرّ هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، صفي اللّه الملك الديّان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين بهم

في الدنيا حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن و بدائع النقمات: فيكون لذتهم و سرورهم بشماتتهم كلذّتهم و سرورهم بنعيمهم في جنان ربّهم، فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم و صفاتهم، و الكافرون و المنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمّد و علي و آلهما عليه السّلام يعتقدون، فيرونهم في أنواع الكرامة و النعيم، فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين: يا فلان، و يا فلان، و يا فلان- حتى ينادوهم بأسمائهم، ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟ هلمّوا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم، و تلحقوا بنا، فيقولون: يا ويلنا أنّى لنا هذا؟ فيقول المؤمنون: انظروا إلى هذه الأبواب، فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتّحة، يخيّل إليهم أنّها إلى جهنّم التي فيها يعذّبون و يقدّرون أنّهم يتمكّنون من أن يخلصوا إليها فيأخذون في السباحة في بحار حميمها، و عدو من بين أيدي زبانيتها «2»، و هم يلحقونهم يضربونهم بأعمدتهم، و مرزباتهم «3»، و سياطهم، فلا

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 319 عن التوحيد و المعاني و العيون.

(2) الزبانية عند العرب: الشرط، سمّوا بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها.

(3) المرزبة: عصيّة من حديد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 315

يزالون هكذا يسيرون هناك، و هذه الأصناف من العذاب تمسّهم حتى إذا قدروا أن قد بلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة «1» عنهم و تدهدههم «2» الزبانية بأعمدتها فتنكّسهم إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، و يستلقي أولئك المؤمنون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم، مستهزئين بهم، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ و قوله عزّ و جل: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ «3» «4».

و روى ابن شهراشوب عن الباقر عليه السّلام أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالولاية لأمير المؤمنين عليه السّلام أظهروا الإيمان و الرّضا بذلك، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين عليه السّلام قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «5».

و في المناقب عن تفسير الهذيل و مقاتل عن محمد بن الحنفيّة في خبر طويل إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بعلي بن أبي طالب عليه السّلام و أصحابه، فقال اللّه تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يعني يجازيهم في الآخره جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه السّلام.

قال ابن عبّاس: و ذلك أنّه إذا كان يوم القيامة أمر اللّه الخلق بالجواز على الصراط فيجوز المؤمنون إلى الجنّة و يسقط المنافقون في جهنّم، فيقول اللّه: يا مالك استهزأ بالمنافقين في جهنّم، فيفتح مالك بابا في جهنّم الى الجنّة و يناديهم: معشر المنافقين هاهنا هاهنا فيسبح المنافقون في نار جهنّم سبعين خريفا حتى إذا بلغوا ذلك الباب و همّوا بالخروج أغلقه دونهم و فتح لهم بابا الى الجنّة في موضع آخر

__________________________________________________

(1) المردومة: المسدودة.

(2) دهدهه: دحرجه.

(3) المطفّفين: 34.

(4) البحار ج 6 ص 51- 52 و البرهان ج 1 ص 63- 64.

(5) تفسير البرهان ج 1 ص 64 عن المناقب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 316

و يناديهم مثل الأوّل، و هكذا أبدا الآبدين «1».

وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

المدّ هو الزيادة في الشي ء بما يقيمه و يقوّيه، يقال: مدّ الجيش و أمدّه إذا زاده و ألحق به ما يكثره و يقوّيه، و منه الدواة و الأرض، و المادّة ما يكون مددا لغيره، و مدّ، و أمدّ في الكلّ بمعنى واحد.

و اختصاص (مدّ)

بما يحدث في الشي ء من نفسه، و (أمدّ) بما يحدث فيه من غيره، او من غير سنخه غير ثابت، بل الظاهر لغة و استعمالا خلافه.

و كذا ما قيل من أنّ المدّ في الشرّ كما في الآية: وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «2» و في قوله تعالى: وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «3» و الإمداد في الخبر كما في قوله تعالى: وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ «4» أو الفرق بأنّ المدّ ما كان بطريق الزيادة كقوله تعالى: وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ «5»، و الإمداد ما كان بطريق التقوية و الإعانة، أو أنّ المدّ إعانة القوم بنفسه، و الإمداد إعانتهم بغيره، ... الى غير ذلك من الفروق الّتي لا شاهد لها، و إن استفيد بعضها تصريحا أو تلويحا من بعض ائمّة اللّغة.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 64 عن المناقب.

(2) سورة البقرة: 15.

(3) سورة مريم: 79.

(4) الإسراء: 6.

(5) لقمان: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 317

القراءة في يَمُدُّهُمْ

و أمّا اشتقاقه في المقام من المدّ في العمر بمعنى الإملاء و الإمهال فقد بالغ الزمخشري في الردّ على من ذكره نظرا إلى قراءة ابن كثير و ابن محيصن: «و يمدّهم» بضمّ الياء، و قراءة نافع: و إخوانهم يمدّونهم «1» بضم الياء، و قول الحسن في تفسيره: في ضلالتهم يتمادون و أنّ هؤلاء من أهل الطبع على أنّ الّذي بمعنى أمهله إنّما هو مدّ له مع اللام ك أُمْلِي لَهُمْ*.

ثمّ ذكر أنّه قد استجرّهم الى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى اللّه ما أسند إلى الشياطين «2»، ثمّ طعن فيهم بما ليس عنه ببعيد.

و الحقّ أنّ اصل المعنى هو ما سمعت،

و منه مدّ في العمر، فإنّ قوام الوجود للإنسان بالحياة الّتي تنقضي شيئا فشيئا، فإذا استمرّ وصول مدد البقاء إليه دام وجوده، و إلّا انصرم عمره، و هذا كقولك: مددت السراج إذا أصلحته بالزيت.

و أمّا القراءتان فليست فيهما شهادة لاشتراك الإمداد للمدّ في معنى الإمهال كما صرّح به في القاموس، و غيره.

و تفسير الحسن على فرض اعتباره إنما هو باعتبار ما يئول اليه أمرهم بعد الإملاء و التمادي في الغيّ، و لذا قرنه بكونهم من أهل الطبع، و تعديته باللام ليس على الدوام، مع أنّه قد يقال: أصله يمدّ لهم، على الحذف و الإيصال، و أمّا المحذور فمندفع على الوجهين، و الطغيان بالضم و الكسر مجاوزة الحدّ في الكفر و العلوّ في العتوّ من قولك: طغى الماء يطغى إذا تجاوز الحدّ و البحر هاجت أمواجه.

__________________________________________________

(1) لقمان: 27.

(2) الكشّاف ج 1 ص 188.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 318

و عن زيد بن علي: قراءته بكسر الطاء، و هما لغتان كلقيان و لقيان، و فيه لغة ثالثة بالواو، بل و رابعة و العمه بالفتحتين: التحيّر في الضلال و التردد في منازعة أو طريق، من عمه كمنع و فرح فهو عمه ككتف و عامه، و الجمع عمّه كركّع، كما في قول رؤبة:

و مهمة أطرافه في مهمة أعمى الهدى بالجاهلين العمّه أي الذين لا معرفة لهم بالطرق، و قد يقال: إنّه مثل العمى إلّا أنّ العمى عامّ في البصر و الرأي، و العمى في الرأي خاصّة و حاصل المعنى أنه سبحانه يعطيهم المدد في طغيانهم حال كونهم متحيّرين في ضلالتهم، فالطرف متعلّق بالفعل، و يعمهون حال من الضمير.

و لا محذور في إسناد الإمداد إليه سبحانه بعد

ما سمعت من أنّ الفيوض الإلهية و الإمدادات الرحمانية كلّها بيده و من عنده يمنح به عباده برّهم و فاجرهم و سعيدهم و شقيّهم، و مطيعهم و عاصيّهم أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «1» غير أن السعيد بحسن توفيقات اللّه له و حسن اختياره و قبوله للأمر التشريعي يصرف تلك النعم فيما خلقت لأجله، فيحصل صورة الطاعة و الانقياد و العبودية فيسمّى شاكرا و يشكر ذلك منه، و اللّه شاكر لأعمالهم، يقبله بأحسن القبول، و يجزيهم بأحسن الجزاء، و الشّقي يصرف نعم اللّه سبحانه من القوّة و الاستطاعة و الآلات و الأدوات البدنيّة و الماليّة و غيرها في خلاف رضاه سبحانه، بسوء إختياره، و ما اعتراه من الخذلان الّذي هو التّخلية بينه و بين نفسه، فالإمدادات الواصلة الى العبد في كلّ من الطّاعة و المعصية قائمة به سبحانه قيام صدور بقيّوميّته المطلقة، و هي كلّها من فيوضه و نعمائه، و آثار رحمته الرّحمانيّة، إلّا أنّها تختلف

__________________________________________________

(1) الرعد: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 319

باختلاف المحلّ، فتصير نعمة لقوم بحسن اختيارهم و قبولهم و شكرهم، و نقمة لآخرين بخذلانهم و إنكارهم و كفرهم، فالمادّة واحدة فالصور مختلفة، و ذلك كالمداد الّذي يصلح و هو في الدّواة للكتابة كلّ من الخير و الشرّ، و مادّة الهواء المستنشق الصالحة لجميع الأضداد، و القطر النازل الموجب لنموّ كلّ من السّكر و الحنظل و لنعم ما قيل:

أرى الإحسان عند الحرّ دينا و عند النذل منقصة و ذمّا كقطر الماء في الأصداف درّ و في جوف الأفاعي صار سمّا و حيث إنّ المدد قائم به قياما صدوريّا يصحّ نسبة الفعل اليد سبحانه مع إضافة الطغيان و

العمه إليهم لانهماكهم فيه و عكوفهم عليه بالإرادة و الإختيار، فارتفع الأشكال من البين، و اتّضح الأمر بين الأمرين.

أو أنّه سبحانه يمدّهم في حال طغيانهم استصلاحا لهم، و هم مع ذلك لا يرعوون عن غيّهم، فهم يعمهون في ضلالتهم.

أو أنّه يمدّهم حال كونهم يعمهون في طغيانهم.

[سورة البقرة(2): آية 16 ]

اشارة

تفسير الآية (16) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أو أنّه يمدّ لهم في أعمارهم استدراجا مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* ... لِيَزْدادُوا إِثْماً أو استصلاحا كي يتنبّهوا و يطيعوا، فما زادوا إلّا طغيانا و عمها، و المعاني متقاربة و ان كان الأخير هو الظاهر من

قول الإمام عليه السّلام حيث قال في تفسيره: يمهلهم و يتأنى بهم برفقه، و يدعوهم إلى التّوبة، و يعدهم إذا أنابوا المغفرة، و هم يعمهون لا يرعوون عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 320

قبيح، و لا يتركون أذى لمحمد و عليّ يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلّغوه «1» أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى غيّروا فطرتهم الأصلية الّتي فطرهم اللّه عليها، من التوحيد و الإسلام، و قبول الحق، و الاستقامة في الأفعال و الأقوال و الإرادات و الخطرات إلى الخلقة المغيّرة الشّيطانية التطبّعية الثّانويّة الّتي تدعو إلى الشرك و الكفر و سائر الاعوجاجات و الانحرافات في مراتب الوجود، فأعطوا ما لهم من الهداية الفطريّة و اعتاضوا عنها الضّلالة، أو اختاروا الضّلالة على الهدى، و الهلاك على النّجاة، و اليم العذاب على حسن الثّواب، بعد التمكّن من الأمرين، و الاهتداء إلى النّجدين، من الإطاعة و العصيان، أو ولاية أولياء الحقّ و ولاية الجبت و الطاغوت و سائر الشياطين، و لذا فسّرت الضّلالة بهم، كما فسّر الهدى بمولانا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما مرّ في أوّل السورة.

معنى اشتراء الضلالة

و في تفسير الامام عليه السّلام: باعوا دين اللّه تعالى و اعتاضوا منه الكفر باللّه تعالى «2» و الجملة مقرّرة لقوله: وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أو مستأنفة تعليلا لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ و المدّ في الطغيان.

و اصل الاشتراء قبول انتقال الشي ء من الأعيان إليه بالثّمن المبذول منه،

بلا فرق بين أن يكون أحدهما أو كلاهما من النقود أو لا، فانّ تعيين المشتري إنّما هو بكونه باذلا للثّمن الّذي هو مدخول الباء، أو ما بمنزلته في المعاطاة، ثمّ استعير لاستبدال شي ء بغيره سواء كان أحدهما أو كلاهما من الأعيان أو المعاني، و منه

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 63.

(2) البرهان ج 1 ص 64 عن تفسير الامام عليه السّلام

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 321

قوله: كما اشترى المسلم إذ تنصّرا فيمن استبدال النصرانيّة بالإسلام، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل فيما لم يكن مالكا للعوض واجدا له بالفعل كما في المقام على بعض المعاني بناء على تفسيره بالاختيار و نحوه.

و لذا قيل إنّ العرب تقول لمن تمسّك بشي ء و ترك غيره قد اشتراه و ليس ثمّ شراء و لا بيع.

و في كونه حقيقة فيه أو في الاستبدال مطلقا أو على بعض الوجوه وجوه بل أقوال، و لعلّ الأوسط أوسط، و ما ذكرناه أوّلا مبنيّ على الأخير و لو لكونه حقيقة عرفيّة خاصّة شرعيّة أو متشرعة، و لذا أضفنا إليه الاستعارة و الاتّساع.

و على كلّ حال فقد ظهر اندفاع ما ربما يورد من الإشكال من أنّهم لم يكونوا على هدى فكيف اشتروا الضّلالة به مع أنّه قد يقال إنّ الآية نزلت في قوم استبدلوا الكفر بالإيمان الّذي كانوا عليه قبل البعثة، لأنّهم كانوا يبشّرون بمحمّد و يؤمنون به فلمّا بعث كفروا به، فكأنّهم استبدلوا الكفر بالإيمان على أنّ في الآية وجها آخر و هو أن تكون الباء للبدليّة، و المعنى أنّهم اشتروا الضّلالة بدل الهدى و ذلك أنّ اللّه تعالى و هو المالك لما ملكنا قد أحلنا في سبيل العبور إلى الآخرة الّتي

هي دار الباقية في هذه الدّار الفانية الّتي هي متجر أولياء اللّه و مزرع أحبّائه و سوق التجارة بها قائمة و قد أعطانا رأس المال و هو ما منحنا من العمر و المال و القوّة و غيرها، و دلّنا على تجارة رابحة بقوله تعالى فيما أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 322

وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «1» فحقيقة هذه التّجارة هي بذل النّفس و المال و صرف العمر و القوى في طاعة اللّه و تحصيل رضاه، و به يحصل الهداية إلى الصّراط المستقيم الّذي هو مقتضى القيام بحدود الولاية و حقوقها فإذا بذلوها و صرفوها بمقتضى الأهواء بمقتضى الأهواء المردية في تحصيل المشتهيات النّفسانية، و الحظوظ الحيوانيّة، و الانحرافات الشيطانية، فقد اشتروا الضّلالة بدلا عن الهدى الّذي أمروا بتحصيله و اشترائه، و رأس المال في الجميع هو ما سمعت.

و ذلك كمن يعطي عبده دينارا ليشتري به لنفسه غذاء صالحا فيشتري العبد به سمّا مهلكا و يهلك به نفسه، و لعل ما ذكرناه هو الأوفق بالمقام و بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ «2» و قوله: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» و الواو في اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ

مضمومة وصلا، وفاقا لجميع القرّاء للمجانسة بعد التقاء الساكنين بسقوط ألف الوصل، و الفصل بالضمّ بينها و بين واو (أو) و (لو) و في الشّواذ عن يحيى بن يعمر أنّه كسر الواو في المقام، و مثله تشبيها بواو لو في قوله: «لَوِ اسْتَطَعْنا» «4». كما أنّ المحكي عن يحيى بن وثاب «5» أنّه ضمّ واو (لو) تشبيها بواو الجمع الّذي اتفق الجميع على ضمّه نحو: لَتُبْلَوُنَّ «6» و لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «7».

__________________________________________________

(1) سورة الصف: 10- 13.

(2) البقرة: 175.

(3) آل عمران: 177.

(4) التوبة: 42.

(5) يحيى بن وثّاب المقري الكوفي الاسدي مولاهم توفي سنة 103.

(6) آل عمران: 186.

(7) التكاثر: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 323

فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ: فما ربحوا في تجارتهم لأنّهم اشتروا التطبّع بالخلقة المغيرة الشيطانيّة بتضييع الفطرة الأصليّة الايمانيّة، و استبدلوا الكفر بالإيمان، و صرفوا أعمارهم فيما صرفهم عن نيل المثوبات إلى استحقاق المثلات و العقوبات.

لذا

قال الامام عليه السّلام في تفسيره: أي ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنّهم اشتروا النّار و أصناف عذابها بالجنّة الّتي كانت معدّة لهم لو آمنوا «1».

و التجارة في الأصل مصدر ثان لتجر من باب قتل نقلت إلى معنى الحرفة و الصّناعة، و الرّبح الزّيادة على رأس المال، و اسناده إلى التّجارة و هو لأربابها على التجوّز لتلبّسها بالفاعل، أو لمشابهتها إيّاه من جهة سببيتها للرّبح و الخسران، و شاع في إطلاقهم ضلّ سعيه و خسرت صفقته و ربح بيعه.

و لعلّ النكتة في المقام التّنبيه على أنّ هذه التّجارة بنوعها في نفسها خاسرة لا تفارقها الخسران أبدا، و لذا أضافها إليهم، فانّها نشأت من تطبعهم و تعملهم، بخلاف التّجارة الرابحة الّتي علّمهم اللّه

تعالى.

و ذكر الرّبح و التجارة بعد استعارة الاشتراء للاستبدال او الاختيار ترشيحا للمجاز اتباعا له بما يشاكله تحقيقا لحالهم و تمثيلا لخسارهم، كما يقال جاوزته بحرا يتلاطم أمواجه و له اليد الطّولى قال:

و لمّا رأيت النّسر عن ابن دأية «2» و عشش في و كريه جاشت له صدري فشبه الشيب بالنّسر و الشعر الفاحم بالغراب مرشّحة بذكر العشّ و الوكرين و هما الرّأس و اللّحية و للغراب وكران صيفي و شتوي «3».

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 64 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) ابن داية: الغراب.

(3) راجع الكشاف ج 1 ص 193.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 324

وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحقّ و الصّواب كما في تفسير الامام عليه السّلام «1». فلم ينالوا الهداية و ارتكبوا في تيه الضلالة، أو لطرق التجارة فيكون ترشيحا آخر، فإنّ المقصود منها لمن يتعاطيها أمران: سلامة رأس المال، و حصول الرّبح، و هؤلاء قد ضلّوا الطّلبتين، و أضاعوا الأمرين، فانّ رأس مالهم هو الفطرة السليمة و العقل الّذي به يعبد الرّحمن و يكتسب الجنان، أو ساير ما منحهم من العمر و القوى و الآلات، فلمّا جحدوا الحقّ و عاندوه و أنكروا شيئا من التوحيد و النبوّة و الولاية و غيرها من الأصول الايمانيّة بطل استعدادهم، و تغيّرت فطرتهم، و اختل عقلهم، و تمكّن فيهم النكراء و الشّيطنة و صرفوا أعمارهم فيما لا يزيدهم إلّا طغيانا و خسرانا، فخسروا الأصل و الرّبح معا.

و إنّما نفى عن تجارتهم الرّبح مع أنّ خسران الأصل أولى بالذكر و أليق بشرح حالهم، مضافا إلى كونه أخصّ من الأوّل يستغنى بذكره عنه مع اشتماله على فائدة زائدة لأنّ المقصود الاصلي من

التّجارة هو الاسترباح لا الحفظ، و إن كان هو الأهم في بابه فيسيق الكلام على مساق التجارة ثم حصل الترقي إلى خسران الأصل بقوله: «وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ» أو لأنّه استغنى بذكر لفظ الضلالة عن ذلك، حيث إنّه قد دلّ بالاشتراء على بذل رأس المال الّذي هو الهدى، و لذا دخلته الباء كما تدخل الأثمان فلم يبق في أيديهم عوض عنه غير الضلالة الّتي هي محض الخسران، فرتّب عليه انتفاء الرّبح أيضا عطفا بالفاء.

او للاشعار على ربح المؤمنين على ما هو قضية المقابلة، فذكر أنّ الّذين

__________________________________________________

(1) البرهان: ج 1 ص 64 عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 325

اشتروا الضّلالة بالهدى لم يربحوا كما أنّ الّذين اشتروا الهدى بالضّلالة ربحوا.

و أمّا قوله: وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ فمرجعه إلى الترشيح إشارة إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة، على أنّه ربما يقال: إنّ الأولى عطفه على قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ.

و في تفسير الإمام عليه السّلام أنّه لما أنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية حضر عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم فقالوا يا رسول اللّه سبحان الرّزاق ألم تر أنّ فلانا كان يسيّر البضاعة خفيف ذات اليد خرج مع قوم يخدمهم فدفعوا له حقّ خدمته، و حملوه معهم إلى الصّين و عيّنوا له يسيرا من مالهم قسّطوه على أنفسهم له، و جمعوه فاشتروا له بضاعة من هناك فسلمت فربح الواحدة عشرة فهو اليوم من مياسير أهل المدينة، و قال قوم آخرون بحضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه ألم تر فلانا كانت حسنة حاله و كثيرة أمواله جميلة أسبابه وافرة خيراته مجتمعا شمله أبى إلّا طلب

الأموال الجمّة، فحمله الحرص على أن تهوّر فركب البحر في وقت هيجانه، و السفينة غير وثيقة، و الملّاحون غير فارهين إلى أن توسّط البحر حتّى إذا لعبت بسفينة ريح فأزعجتها إلى الشاطئ و فتّتتها في ليل مظلم، و ذهبت أمواله، و سلّم بحشاشته فقيرا و قتيرا، ينظر إلى الدّنيا حسرة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألا أخبركم بأحسن من الأول حالا و بأسوإ من الثاني حالا؟ قالوا بلى يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أمّا أحسن من الأوّل حالا فرجل اعتقد صدقا لمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدقا في إعظام عليّ أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وليّه، و ثمرة قلبه، و محض طاعته، فشكر له ربّه و نبيّه و وصيّ نبيّه، فجمع اللّه له بذلك خير الدنيا و الآخرة، و رزقه لسانا لآلاء اللّه ذاكرا، و قلبا لنعمائه شاكرا، و بأحكامه راضيا، و على احتمال مكاره أعداء محمّد و آله نفسه موطّنا، لا جرم أنّ اللّه عزّ و جلّ سماه عظيما في ملكوت أرضه و سماواته و حيّاه برضوانه و كراماته، فكانت تجارة هذا أربح،

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 326

و غنيمته أكثر و أعظم.

و أمّا أسوء من الثّاني حالا فرجل أعطى أخا محمّد رسول اللّه بيعته، و أظهر له موافقته، و موالاة أوليائه، و معاداة أعدائه، ثمّ نكث بعد ذلك و خالفه و والى عليه أعدائه، فختم له بسوء أعماله فصار إلى عذاب لا يبيد و لا ينفد، قد خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. ذلك من الدّرجات و المنازل ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و

لا خطر على قلب بشر فيقولون يا ربّنا هل بقي من جنانك شي ء إذا كان هذا كلّه لنا فأين تحلّ ساير عبادك المؤمنين و الأنبياء و الصدّيقين و الشّهداء و الصّالحين و يخيّل إليهم أنّ الجنّة بأسرها قد جعلت لهم فيأتي النّداء من قبل اللّه تعالى يا عباد هذا ثواب نفس من أنفاس عليّ الّذي قد اقترحتموه عليه قد جعله لكم فخذوه و انظروا فيصيرون هم و هذا المؤمن الّذي عوّضهم عليّ عليه السّلام عنه إلى تلك الجنان ثمّ يرون ما يضيفه اللّه تعالى إلى ممالك عليّ في الجنان ما هو أضعاف ما بذله عن وليّه الموالي له ممّا شاء اللّه عزّ و جلّ من الأضعاف الّتي لا يعرفها غيره ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ المعدّة لمخالفي أخي و وصيّي عليّ بن ابي طالب عليه السّلام.

[سورة البقرة(2): آية 17 ]

اشارة

تفسير الآية (17) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً مَثَلُهُمْ قصتهم الغريبة و حالهم العجيبة الّتي لا شأن لا يكاد يقع في الأذهان بمجرّد البيان إلّا بضرب المثل الّذي يرى فيه المتخيّل متحقّقا، و المعقول محسوسا و الغائب حاضرا، فانّ المثل في الأصل بمعنى النّظير يقال: مثل و مثل و مثيل كشبه و شبه و شبيه، و يقال المثال أيضا ثم جعل للقول السّائر الّذي يشبه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 327

مضربه بمورده، و لم يضربوا مثلا إلّا ما فيه غرابة و لو من بعض الوجوه، و من ثمّ يحافظ على لفظه، و لو مع مغايرة المورد كقولهم في الصيف ضيّعت اللّبن، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل في كلّ ما يحكي معنى من المعاني المقصودة المضروبة لها، و ان

لم يحم لفظه عن التّغيير و منه قول كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا و ما مواعيده إلّا الأباطيل ثمّ استعير للحال أو الصّفة أو القصّة إذا كانت فيها غرابة و لها شأن، كما في المقام.

و في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ «1» و قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ* «2» يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ «3».

و يطلق على الحكم و المواعظ الّتي لها شأن كما

في العلوي يا كميل هلك خزّان الأموال و العلماء باقون ما بقي الدّهر، أعيانهم مفقودة، و أمثالهم في القلوب موجودة

، أي حكمهم، و الحقائق المأخوذة عنهم محفوظة عند أهلها يعملون بها و يهتدون بمنارها «4» ثمّ أنّه قد شاع في ألسنة الأمم من بني آدم ضرب الأمثال في خطاباتهم و خصوماتهم و مقاصدهم، لأنّ إبرازها في كسوة الأمثال أعون على فهم الجاهلين، و إرشاد المسترشدين، و قمع حجج المعاندين، سيّما مع غموض المطالب و بعدها عن الفهم أو الأذهان، و لذا أكثر اللّه سبحانه فيما نزّله من كتابه التّدويني الكافل للكون التشريعي من الأمثال الواضحة الّتي يعرفها كلّ أحد ممّا يتعلّق بأمور معاشهم كي يعبروا منها إلى الأمور الحقيقية الشرعيّة عبورا من المحسوس إلى

__________________________________________________

(1) الجمعة: 5.

(2) الرعد: 35.

(3) الحج: 73.

(4) نهج البلاغة ح 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 328

المعقول، و من الظاهر إلى الباطن، و من الملك إلى الملكوت فقال: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «2» بل الآيات التكوينيّة المشار إليها بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي

السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «3» سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ «4».

و غير ذلك كلّها أمثال و دلالات على الأمور الحقيقيّة الثابتة ممّا يتعلّق بالبدء و المعاد و مراتب الايمان و الكفر، و ما يترتّب عليها من الثواب و العقاب، فانّ هذه الأمور كلّها من عالم الغيب و الملكوت، و الناس و هم متغمسون في الشواغل الحسّية و الغواسق البدنيّة محجوبون عن إدراك تلك الحقائق على ما هي عليها في العوالم العالية القادمة أو النّازلة السافلة لأنّهم بعد في نوم الدّنيا كما

قال صلّى اللّه عليه و آله النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «5» فما في هذا العالم كلّها صور و أمثلة لما في عالم الآخرة، فما من صورة و مثال في الدنيا بل في الشّهادة إلّا و له حقيقة في الآخرة بل في الغيب، و ما من معنى حقيقي في الآخرة إلّا و له مثال في الدنيا، فالموجودات الدنيويّة أمثلة لما في الآخرة، كما أنّ المرئيات في النّوم أمثلة لما في هذه الدنيا، فما سيكون في اليقظة يظهر لك في النوم بضرب الأمثال المحوجة إلى التّعبير، و ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبيّن في نوم الدّنيا إلا بكسوة الأمثال لمن أراد أن يعبر منها إلى تلك الحقائق، و لذا ترى القرآن مشحونا بذكر الأمثال، بل قد كثرت أيضا في ألسنة

__________________________________________________

(1) العنكبوت: 43.

(2) الروم: 58.

(3) يوسف: 105.

(4) فصلت: 53.

(5) بحار الأنوار ج 4 ص 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 329

الأنبياء الّذين أمروا أن يكلّموا النّاس على قدر عقولهم، فقدر عقولهم أنّهم في النّوم و النّائم لا يكشف له شي ء إلّا بمثل، فإذا ماتوا

انتبهوا و عرفوا أنّ المثال مطابق للممثل لذا يخاطب الكافر بقوله: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «1».

ثمّ أنّه قد يفرق بين المثل محركة و المثل ساكنة بما لا يرجع إلى محصّل، و ستسمع تمام الكلام في تفسير قوله: وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «2» و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «3» كما أنّه قد يفرق أيضا بين المثل و المثال بأنّ الأوّل المشارك في تمام الحقيقة و لذا نفى عنه تعالى في الآية، و الثّاني المشارك في بعض الأعراض فانّ الإنسان المتنقّش في الجدار مثال للإنسان الطبيعي لمشاركته له في المقدار و الجهة و نحوهما، و ليس مثلا له و هو كما ترى.

مثل المنافقين في أعمالهم

و على كلّ حال فمعنى المثل المضروب للمنافقين في المقام أنّ حالهم و صفتهم الغريبة أو قصّتهم الحاكية عنها كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً الكاف صلة مثلها في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ و ان قيل بالمنع من زيادتها فيه ايضا أو أصليّة، و المراد تشبيه الصّفة أو القصة بمثلها على حدّ قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ «4» على الثّاني و قوله:

__________________________________________________

(1) ق: 22.

(2) النحل: 60.

(3) الشورى: 11.

(4) الجمعة: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 330

يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «1» على الأوّل.

و به يسقط السؤال عن تمثيل الجماعة بالواحد فانّه لم يشبّه ذوات المنافقين بذات المستوقد، بل المضاف إليها من صفة أو قصّة.

و قد يجاب عنه أيضا أنّ المقصود به جنس المستوقد لما في الّذي من معنى الإبهام إذا لم يرد به تعريف واحد بعينه، و بان يقدّر الموصوف لفظا مفردا معناه الجماعة، أي الفوج أو الجمع الّذي

استوقد، و لذا جاز في ضميره متابعة المعنى أيضا بناء على كون الضمير في قوله بِنُورِهِمْ له كما أجيز ذلك في قوله وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «2» و قوله: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «3» و بأنّ الّذي يكون للجمع أيضا في اللّغة الفصيحة كما صرّح به الأخفش و تبعه غيره، و حملوا عليه الآيات بلا فرق بين ما لو قصد به مخصوص أولا، و ان قيّده ابن مالك بالثّاني و لذا حمل على الضرورة- قول أشهب بن زميلة:

و انّ الّذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد و فيه أنّه كان للشاعر فيه المندوحة بأنّ الأولى حانت.

و لذا قال أبو حيّان أنّه لا يعرف أصحابنا هذا التّفصيل بل أنشد و البيت على الجواز في فصيح الكلام لا على الضرورة.

و بأنّ المعنى و مثل كلّ واحد منهم كقوله: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «4» أي يخرج كلّ واحد منكم ذكره الرازي و فيه نظر لأنّ الطفل لكونه مصدرا يستوي فيه الإفراد و الجمع، و الآية على حدّ قوله:

__________________________________________________

(1) محمّد: 20.

(2) التوبة: 69.

(3) الزمر: 33.

(4) غافر: 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 331

أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ «1» و بأنّ الّذي وضع موضع الّذين بطريق الحذف و التّخفيف، و إنّما جاز ذلك فيه و لم يجز وضع الصفات المفردة موضع جموعها بحذف علاماتها كوضع القائم موضع القائمين في نحو: رأيت الرّجال القائمين، و لو مع كون اللام فيها موصولة لأنّه غير مقصود بالوصف، بل الجملة الّتي هي صلة، و انّما هي وصلة إلى وصف المعرفة بها.

و ربّما يعلّل أيضا بكونه مستطالا بصلته فاستحق

التّخفيف، و لذا نهكوه بتخفيفه من وجوه كثيرة، فحذف ياؤه ثمّ كسرته ثمّ اقتصر على اللّام في أسماء الفاعلين و المفعولين، فجرى في جمعه أيضا هذا النّوع من التخفيف و بأنّ الياء و النّون في الّذين ليست كالياء و النون في جموع السلامة في قوّة الدّلالة على الجمعيّة حتى يمتنع حذفها، و لذا لم يختلف في حالات الاعراب، بل إنّما ذاك علامة زيدت للدّلالة على زيادة المعنى مع انّ الّذي حقّه أن لا يجمع كما لم يجمع أخواتها ممّا يستوي فيه الواحد و الجمع كمن و ما وال.

و فيهما نظر أمّا في الأوّل فلانّ كون اللام الّتي تعدّ من الموصلات هي تلك الّتي في الّذي لكونه تخفيفا منه مجرّد دعوى من الزّمخشري، لا شاهد له عليها، و إن تبعه فيها من تبعه، بل قد صرّح المحقّقون منهم بأنّ الأصل في الموصول لذ على وزن عم، و انّ اللّام زائدة، و انّما الزموها لئلا يوهم كونها للتّعريف، و به صرّح في الصّحاح و غيره، مع أنّ تجويز نوع من التخفيف في كلمة ليس دليلا على غيره في غيرها، و منه يظهر ضعف الثاني أيضا.

و ممّا يضعف به أصل طريقة التخفيف في مثل المقام ممّا أفرد فيه الضّمير أنّ اللازم على فرضه أن يجمع حينئذ لأنّه جمع مخفّف، و الجواب بكونه مفردا في

__________________________________________________

(1) النور: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 332

الصورة ضعيف في الغاية لضرورة الفرق بين ما هو جمع لفظا و معنى أو معنى خاصّة، بل لم يجوّز و مررت بالرجال القائم بإرجاع الضمير إلى اللّام الّتي هي في صورة المفرد، نعم ما روعي فيه ذلك احتمل التخفيف كما في كَالَّذِي خاضُوا «1» و

لذا قال في «الصحاح» أنّ في جمع الّذي لغتين الّذين و الّذي بحذف النّون و استشهد بالبيت «2» المتقدم.

و قد يؤيّد أيضا بحذف النون في قوله:

ابني كليب إنّ عمّي اللّذا قتلا الملوك و فكّكا الاغلالا. و من جميع ما مرّ ينقدح الأشكال في احتمال التخفيف في مثل المقام ممّا لم يجمع فيه الصّلة.

و الاستيقاد طلب الوقود و السّعي في تحصيله و هو بالضمّ اشتعال النّار و سطوعها و ارتفاع لهبها، و قيل: أنّه بمعنى الإيقاد كالاستجابة و الإيجاب، و النّار جوهر لطيف مضي ء حارّ محرق، و أصله من نار ينوّر نورا إذا نفر لأنّ فيها حركة و اضطرابا و النور مشتق منها يقال: نار و أنار و استنار بمعنى، فَلَمَّا أَضاءَتْ النّار بالنّور المكتسب الّذي نالته من الانغماس في بحار الرحمة حين أمرت بالكون في هذا العالم لانتفاع النّاس، و استصلاح أمورهم في معايشهم، و إلّا فليس لها في ذاتها نور و ضياء أصلا، و إنّما هي أصل الظّلمة و مظهرها، و الإضائة فرط الإنارة و استدلّ بقوله:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً «3» و بأنّهم قالوا أضوء من الشمس و أنور من البدر، و قيل: إنّهما مترادفان لغة، و قيل: إنّ الضّوء ما كان من ذات الشّي ء

__________________________________________________

(1) التوبة: 69.

(2) لأشهب بن زميلة النهشلي.

(3) يونس: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 333

المضي ء، و النور ما كان مستفادا من غيره نظرا إلى الآية، و قيل غير ذلك، و لكن التّرادف بحسب اللّغة لا ينافي الابلغيّة في غلبة الاستعمال.

و يستعمل لازما و متعدّيا يقال: أضاء الشّي ء بنفسه و أضاءه غيره، و هي في الآية متعدّية بوقوعها على ما حوله أي حول

المستوقد، و يحتمل كون الفعل لازما مسندا الى ما حوله، و التأنيث باعتبار المعنى، أي صارت الأشياء و الأماكن الّتي حوله مضيئة بالنار، و اعتضد بقرائة ابن أبي عبلة «1» (ضاءت) أو إلى ضمير النّار، مع كون كلمة ما مزيدة و حوله ظرفا لغوا لأضاءت، أو موصولة وقعت عبارة عن الأمكنة فتكون مع صلتها مفعولا فيه للفعل.

و توهّم أنّ النّار يلزم أن توجد حينئذ حول المستوقد كي يتصوّر إضاءتها و إشراقها فيه.

مدفوع بانّه جعل إشراق ضوء النّار بمنزلة اشراق النّار نفسها فيه فاسند إليها اسناد الفعل إلى السّبب كما في بني الأمير، و تأليف الحول للدّوران و الإطافة و منه الحول للعلم لأنّه يدور، و أحوال الدّهر لصروفه، و حال الإنسان، و التّحويل و الاستحالة يقال هو حوله و حواليه و حواله و أحواله بفتح اللام في الجميع بمعنى، و لمّا ظرف أو حرف تدلّ على تحقق شي ء لتحقّق غيره، و لذا قيل: أداة وجود لوجود، و وجوب لوجوب، و ان كان الاولى الاقتصار على الأوّل أو على الطّرفين مقلوبا، و معناها التّوقيت أو مجرّد الارتباط و العامل فيه جوابه و هو قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و الضّمير للّذي، و جمعه باعتبار المعنى، كما أنّ توحيده في اسْتَوْقَدَ، و حَوْلَهُ باعتبار اللّفظ، و وجوب سببيّة شرط لمّا لجوابها مطلقا ممنوع، و لذا قد تستعمل لمجرّد الظّرفية كما في قوله:

__________________________________________________

(1) هو ابراهيم بن أبي عبلة أبو إسحاق العقيلي الشامي المتوفى (151 ه) أو بعدها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 334

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلمّا رأوها أقشعت و تجلّت و حمل النّار على نار لا يرضاها اللّه تعالى كي تتمّ السببيّة تكلّف مستغنى عنه،

و إيثار نورهم على نارهم لكونه المراد من إيقادها أو الجواب محذوف و الضمير للمنافقين.

و كان حقّ النظم أن يكون اللّفظ؛ فلمّا أضاءت ما حوله أطفأ اللّه ناره، أو طفئت ناره حين أضاءت، لمشاكلة الجواب للشرط، و لكن لمّا كان إطفاء النّار مثلا لإذهاب نورهم أقيم مقامه و حذف الجواب ايجازا أو اختصارا مع أمن اللّبس، كما حذف في قوله: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ «1» و عليه فالجملة مستأنفة جوابا عمّا ربما يسئل ما بالهم، شبهت حالهم بحال المستوقد انطفت ناره، أو بدل من جملة التمثيل على وجه البيان و الإيضاح لا الاسقاط، و لكنّه قد يرجّح كونها جوابا بأنّ الأفصح الذكر مع عدم استطالة الكلام، و انّ زيادة المبالغة في المشبه به تلزمها المبالغة في المشبه ضمنا، مع أنّ ظهور وجه الشّبه يضعّف الاستيناف، و فوات المعنى الّذي حذف جواب لمّا لأجله يوهن البدليّة، لدلالتها على أنّ المذكور لفظا أوفى بتأدية الغرض ممّا حذف لقصور العبارة عنه.

و هذه الوجوه و إن تطرّق إليها بعض المناقشة إلّا أن مقتضى الأصل و ظاهر السياق مؤيّدا بما سمعت بعد ضعف المناقشة هو الأول، فتكون الجملة من تتمّة المثل مضافا إلى أنّه الظّاهر

من كلام الكاظم على ما في تفسير الامام عليه السّلام قال: مثل هؤلاء المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً كي يبصر بما حوله فلمّا أبصر ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بريح أرسلها عليها فاطفأها أو مطر «2» إلى آخر ما يأتي.

__________________________________________________

(1) يوسف: 15.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 64.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 335

و منه يظهر أيضا أنّ اسناد الفعل إلى اللّه تعالى إنّما هو لحصول الإطفاء بأمر سماوي من ريح أو مطر، كما صرّح بهما أو

غيرهما من الأسباب الجليّة و الخفيّة إن كان ذكرهما على وجه المثال.

و يمكن التّعليل أيضا بكون الكلّ منه على ما مرّ في خَتَمَ اللَّهُ فيتّجه على مذهب العدليّة و غيرهم بناء على الوجهين.

و بانّ الاسناد مجازيّ من قبيل الاسناد إلى المسبّب و فائدته المبالغة في إذهاب النّور.

و بأنّ النّار ممّا لا يرضاها اللّه لمستوقدها و لذا أطفأها، سواء أريد بها نار حقيقيّة أوقدها بعض الغواة ليهتدوا بها إلى طرف الضلالة و يستضيئوا بها في التوصل إلى بعض المعاصي فخيّب اللّه آمالهم بإطفاءها، أو نار مجازيّة كنار الحرب و الفتنة و العداوة للإسلام، و هي الّتي تكفّل اللّه تعالى لأهل هذا الدّين بإطفاءها كما قال نارهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1».

و توصيفها حينئذ بإضائة ما حول المستوقد ترشيح للمجاز، و تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من الدّلالة على الاستصحاب و الاستمساك، فانّ معنى أذهبه ازاله و جعله ذاهبا، و معنى ذهب به استصحبه و مضى معه، قال اللّه تعالى فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ «2» أي مضوا معه، و ذهب السلطان بماله أخذه، و المعنى أخذ اللّه نورهم، و أمسكه وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «3» كذا ذكره الزمخشري و غيره بناء على الفرق بين التّعديتين بما يرجع إلى اعتبار الإمساك و العدم، و ان كان

__________________________________________________

(1) المائدة: 64.

(2) يوسف: 15.

(3) فاطر: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 336

ظاهره كتصريح غيره كون المرجع اعتبار الاستصحاب و العدم، و لذا ذكر ابن هشام انّه مردود بالآية لتعذّر اتّصافه تعالى بالذهاب، اللّهم إلّا أن يقال إنّه على الوجه الأوّل معنى آخر للثاني لا محذور في نسبته إليه سبحانه.

لكنّ الأظهر أنّ

الفرق المذكور في نفسه غير ظاهر إلّا باعتبار كون الباء للإلصاق أو للمصاحبة.

و من الشّواذ قراءة اليماني «1»: أذهب اللّه نورهم و إيثار النور على الضّوء للتّنبيه على إزالة النور عنهم بالكلّية كما هو المقصود، و لو قيل ذهب اللّه بضوئهم لأوهم إذهاب الكمال و بقاء ما يسمّى نورا و هو مبنيّ على الفرق بينهما بالضعف و الغلبة، كما يدّعى عليه الغلبة على ما مرّ لكنّه قد يقال: التحقيق أنّ الضّوء فرع النور، يقع على الشعاع المنبسط، و لذا يطلق النور على الذّوات الجوهريّة بخلاف الضّوء، و الإبصار بالفعل لما كان بمدخليّة الضّوء جاء المبالغة من هذا الوجه، و لهذا كان جعل الشّمس سراجا أبلغ من جعل القمر نورا لأنّ الإبصار من ضوء السّراج أتمّ من ضوء القمر، و على هذا فالنكتة في الإيثار التّنبيه على ذهاب الأصل برمّته فضلا عن الضّياء الّذي هو الشّعاع.

وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ من تتمّة المثل على ما مرّ، و فيه تقرير و تأكيد للجملة السّابقة و إن لم يمحّض لذلك، و لذا آثر العطف على الفصل، فإنّ تركهم في الظّلمات المتراكمة المبهمة العمياء الّتي لا يتراءى فيها شي ء أصلا، سيّما مع تعدّدها و احاطة بعضها ببعض كأنّه أمر مغاير لمجرّد إذهاب النور، و من هنا يظهر أنّه لا داعي إلى التكلّف بجعل الواو للحال بتقدير قد.

و ترك إذا علّق بواحد كان بمعنى طرح و خلّى، و إذا علّق بشيئين كان متضمّنا

__________________________________________________

(1) هو طاوس بن كيسان اليماني التابعي المتوفى (106) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 337

معنى صيّر، فيجري مجرى أفعال القلوب، كما في قول الشاعر «1»:

فتركته جزر السباع ينشنه «2»

و منه ما في المقام،

لأنّه في الأصل هم في ظلمات فعلق بهما ترك مع احتمال تعلّقه بالأوّل على أن يكون بمعنى خلّى و يكون فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالين مترادفين أو متداخلين و أمّا على الأوّل فقوله: لا يُبْصِرُونَ بيان لقوله فِي ظُلُماتٍ و يجوز أن يكون حالا و الظلمة عدم النور و زيادة عمّا في شأنه النور لا يساعدها اللّغة و لا العرف و ان اصطلحوا عليها في عرف خاص و هي مأخوذة من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك و شغلك لأنّها تسدّ البصر، و تمنع الرؤية، أو من ظلمه حقّه إذا نقصه، و منه قوله تعالى: وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص، و قول الشاعر:

و من يشابه أبه فما ظلم

أي ما انقص حق الشبه.

و من الشواذ قراءة الحسن: في ظلمات بسكون اللام، و اليماني في ظلمة على التوحيد، و أمّا جمعها فباعتبار شدّتها و تراكمها كانّها ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، أو باعتبار جمعيّة المفعول لاختلاف مراتبهم في النفاق و الشقوة الموجب لاختلافهم في مقادير الظلمة، أو المراد ظلمة إنكار التوحيد و إنكار النبوة و انكار الولاية، أو ظلمة الضلال، و ظلمة سخط اللّه و ظلمة العقاب السرمد، أو ظلمة الكفر،

__________________________________________________

(1) هو عنترة بن شداد من الشعراء الفرسان في الجاهلية قتل (22) قبل الهجرة.

(2) و آخر البيت: يقضمن حسن بنانه و المعصم.

جزر السباع: اللحم الّذي تأكله، و ينشنه من النوش أي التناول السهل، و القضم: الأكل بمقدّم الأسنان، و المعصم: موضع السوار من الساعد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 338

و ظلمة النفاق، و ظلمة يوم القيامة يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ «1»

أو الظلمات الحاصلة بترك الطّاعات و فعل المعاصي فانّ كل فعل أو ترك منها سبب لظلمة حاصلة في القلب، متجوهرة محيطة به يوم القيامة.

و لذا ورد الظلم ظلمات يوم القيامة «2».

و فسّرها الامام عليه السّلام بظلمات أحكام الآخرة و جعل مرجعه إلى الأخير «3».

ثمّ إنّ هذه الوجوه مختصّة بالممثل و أما الأول فيجري فيه و في المثل، و المفعول الساقط من لا يُبْصِرُونَ متروك مطرّح لم يقصد إلى اخطاره بالبال أصلا فضلا عن تقديره و إضماره، حتّى كان الفعل معه غير متعدّ، و يمكن أن يقدّر منكّرا عاما أي لا يبصرون شيئا، و أن يكون المراد أنّهم لا يفعلون الإبصار إذ فرق بيّن بين فقد الإبصار و فقد البصر أو المبصر.

ثمّ أنّه ربما يتوهّم أنّ الآية مثل ضربه اللّه لمن أتاه ضرب من الهدى فاضاعه و لم يتوصّل إلى نعيم الأبد فبقي متحيّرا و متحسّرا تقريرا و توضيحا لما تضمّنته الآية الاولى، و يدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون و من آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتد عن دينه بعد ما آمن و من صحّ له أحوال الارادة فادّعى أحوال المحبّة فاذهب اللّه عنه ما أشرق عليه من نور الارادة.

و فيه أنّه لا عموم في الآية بل ظاهرها كون المثل للمنافقين الّذين سيقت الآيات المتقدّمة للكشف عن حالهم و شرح غيّهم و ضلالتهم، نعم لا بأس في شمول

__________________________________________________

(1) الحديد: 13.

(2) الكافي ج 2 ص 332.

(3) البرهان ج 1 ص 65.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 339

اسم النفاق أو غيره ممّا جعل موضوعا للآيات للفرق المتقدّمة و غيرها، و أعظمهم في باب النفاق و أشدّهم نكاية على الإسلام و المسلمين،

و أحرصهم على تخريب الدّين هم الّذين نافقوا في ولاية مولانا أمير المؤمنين حيث أظهروا الإسلام و البيعة و ابطنوا النفاق و المخالفة، فلمّا أمكنوا الفرصة رجعوا على أعقابهم القهقرى، و ارتدّوا عن الدّين و صدّوا عن سبيل اللّه الّذي هو أمير المؤمنين عليه السّلام.

ففي الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث إلى أن قال: و قال اللّه عزّ و جل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ «1» قال ألو أنّي أمرت أن أعلمكم الّذي أخفيتم في صدوركم من استعجالكم بموتي لتظلموا أهل بيتي من بعدي، فكان مثلكم كما قال اللّه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ «2» يقول: أضاءت الأرض بنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما تضي ء الشّمس، فضرب اللّه مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله الشمس و مثل الوصي القمر، و هو قوله تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً «3». و قوله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «4» الآية يعني قبض محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فظهرت الظلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته و هو قوله: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ «5» «6».

قال شيخنا المجلسي طاب ثراه في شرح الخبر إنّه عليه السّلام لم يفسّر الجزاء لظهوره أي لقضي الأمر بيني و بينكم لظهور كفركم و نفاقكم و وجوب قتلكم.

__________________________________________________

(1) الانعام: 58.

(2) البقرة: 17.

(3) يونس: 5.

(4) البقرة: 18.

(5) الأعراف: 198 و فيها: إِنْ تَدْعُوهُمْ.

(6) الكافي ج 8 ص 380.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 340

و قوله عليه السّلام: فكان

مثلكم، لبيان ما يترتّب على ذهابه صلّى اللّه عليه و آله من بينهم من ضلالتهم و غوايتهم، و به إشعار الى تأويله لآية أخرى، و تشبيه تام كامل فيها و هي ما ذكره اللّه تعالى في وصف المنافقين حيث قال فمثلكم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ فالمراد استضاءة الأرض بنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله من العلم و الهداية، و استدلّ عليه السّلام على أنّ المراد بالضّوء هاهنا نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله بأنّ اللّه تعالى مثّل في جميع القرآن الرسول بالشمس و نسب إليها الضّياء، و الوصيّ بالقمر و نسب إليه النور، فالضّوء للرّسالة و النور للامامة، و هو قوله عزّ و جل: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً و ربما يستأنس لذلك بما ذكروه، من أنّ الضّياء يطلق على ضوء النيّر بالذات و النور على نور المضي ء بالنيّر، و لذا ينسب النور إلى القمر لأنّه يستفيد النور من الشّمس و لما كان نور الأولياء مقتبسا من نور الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و علمهم عليهم السّلام من علمه عبّر عن علمهم و كمالهم بالنور و عن علم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالضّياء، و أشار به إلى تأويل آية أخرى و هي قوله عزّ و جل: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» فهي إشارة إلى ذهاب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و غروب شمس الرّسالة، فالنّاس مظلمون إلّا أن يستضيئوا بنور القمر و هو الوصي عليه السّلام ثمّ ذكر عليه السّلام تتمّة الآية السّابقة بعد بيان أنّ المراد بالإضائة إضاءة شمس الرّسالة فقال المراد باذهاب اللّه بنورهم هو قبض النّبي صلّى اللّه

عليه و آله فظهرت الظّلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته عليه السّلام.

الى آخر ما ذكره طاب ثراه.

و في تفسير الامام عليه السّلام عن الكاظم بعد ما مرّ عنه آنفا: كذلك مثل هؤلاء المنافقين الناكثين لمّا أخذ اللّه تعالى عليهم من البيعة لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام اعطوا ظاهرا شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ

__________________________________________________

(1) يس: 37.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 341

عليّا وليّه و وصيّه و وارثه و خليفته في أمّته و قاضي ديونه و منجز عداته و القائم بسياسته عباد اللّه مقامه، فورث مواريث المسلمين بها، و نكح في المسلمين بها، و والوه من أجلها و أحسنوا عنه الدّفع بسببها و اتّخذوه أخا يصونونه ممّا يصونون عنه أنفسهم بسماعهم منه لها، فلمّا جاءه الموت وقع في حكم ربّ العالمين العالم بالأسرار الّذي لا تخفى عليه خافية فاخذهم العذاب بباطن كفرهم، فذلك حين ذهب نورهم، و صاروا في ظلمات أحكام الآخرة، و لا يرون منها خروجا و لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً «1».

و ظاهره كما ترى تشبيه الإقرار بظاهر الشهادة بالاستيقاد، و إجراء أحكام الظاهرة من حقن الدّماء و الأموال و مشاركة المسلمين في الاستغنام و غيره من الأحكام بالإضاءة، و الموت بإذهاب النور للردّ إلى أحكام الآخرة، و لذا

عقبه عليه السّلام بقوله: ثمّ قال: صُمٌّ يعني يصمّون في الآخرة في عذابها إلى آخر ما يأتي.

و ربما يقال: إنّ الإذهاب بالنّور مثل لاطّلاع اللّه سبحانه عن حالهم و كشفه عن سريرتهم و افتضاحهم بين المسلمين، و اجراء أحكام الكفر عليهم من القتل و السّبي و سائر العقوبات أو للطّبع الحاصل لقلوبهم

بعد الاستمرار على النفاق.

و الاولى الحمل على العموم، فيعمّ جميع ذلك و غيرها، و اختصاص العذاب الاخروي بالذكر في كلام الامام عليه السّلام لكونه أَشَدُّ وَ أَبْقى و أعمّ و أوفى لجميع الأفراد بخلاف غيره من العقوبات الّتي يختصّ بها في الدّنيا بعضهم دون بعض.

و من جميع ما مر يظهر دفع ما ربما يتوهم من أنّ المنافقين ليس لهم نور فضلا من أن ينتفعوا به فكيف شبّهوا بالمستوقد الّذي انتفع بضوء ناره قليلا، مع أنّه ربما يقال في الآية: وجوه أخر مثل ما قيل: من أنّها نزلت في قوم أسلموا عند

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 63- 65.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 342

وصوله صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، ثمّ أنّهم نافقوا فالتّشبيه حينئذ في محلّه لأنّهم أولا اكتسبوا نورا ثمّ بنفاقهم أبطلوه، فوقعوا في حيرة عظيمة و حسرة دائمة، و أنّها نزلت في اليهود و انتظارهم لخروجه صلّى اللّه عليه و آله و استبشارهم بقرب بعثه و الوصيّة بالإيمان به فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» و ذلك أنّ قريظة و النّضير و بني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوّة من بني إسرائيل و أفضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمّد بالنبوّة و انّ أمته خير الأمم، و كان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد اللّه بن هيبان، قبل أن يوحى إلى النّبي كلّ سنة فيحضّهم على طاعة اللّه تعالى و إقامة التّورية و الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يقول إذا خرج فلا تفرّقوا عليه و انصروه، و قد كنت أطمع أن أدركه، ثمّ مات قبل خروج النّبي صلّى اللّه عليه و

آله فقبلوا منه ثمّ لمّا خرج النّبي صلّى اللّه عليه و آله كفروا به، فضرب اللّه لهم بهذا المثل، و أنّه ليس المراد التّشبيه في تمام المثل كي يستلزم نورا للمنافق بل الوجه في تشبيهه بهذا المستوقد أنّه لما زال النور عنه تحيّر و وقع في ظلمة شديدة لأنّ التحيّر و ظهور الظلمة لمن كان في نور ثمّ زال عنه أشدّ من تحيّر سالك الطريق على ظلمة مستمرّة، فذكر النّور لتصوير هذه الظلمة الشديدة و التّمثيل بها.

و أنت خبير بأنّ شيئا من التنزيلين على فرضه فيها لا يدفع جريانها في النفاق في الإمامة على ما في الخبر، بل و لا في غيرها أيضا، و أمّا جعل التشبيه مفردا فلا داعي إليه بعد الدّلالة على شدّة الظلمة على الوجهين، و تحقّق وجه المشابهة في الجزئين.

و إمّا إسناد الترك في المثل على أحد الوجهين إليه سبحانه مع انتفاء المماثلة من هذه الجهة حيث أنّ ما حصل للمنافق من الحيرة و الخيبة فانّما أتى به من قبل

__________________________________________________

(1) البقرة: 89

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 343

نفسه، فالخطب فيه سهل بعد ما ظهر ممّا مر من الخبر المفسّر للظلمات بالعقوبة الأخروية، مع أنّ الفعل منه سبحانه و ان كان مترتّبا على وجه الجزاء على أعمالهم السّيئة، أو أنّه على منع الألطاف و العنايات و التّخلية بينهم و بين نفوسهم الشريرة.

و لذا

قال مولانا الرّضا عليه السّلام على ما رواه في العيون، أنّ اللّه لا يوصف بالترك كما يوصف به خلقه و لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر و الضّلال منعهم المعاونة و اللّطف و خلّى بينهم و بين اختيارهم «1».

التمثيل في هذه الآية المباركة

ثمّ انّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ

التّمثيل في الآية و الّتي بعدها يحتمل كونها من التّمثيلات المؤلّفة و التشبيهات المركّبة الّتي تشبه فيها كيفيّة حاصلة من ملاحظة مجموع أشياء قد لوحظت بانفرادها قصدا و انضمّ بعضها إلى بعض بحيث وقع على مجموعها ملاحظة واحدة فصارت بذلك شيئا واحدا بكيفيّة أخرى منتزعة من مثلها، و هو فنّ من البيان جزل بليغ قد جرت عليه طريقة أهل اللسان ورد به القرآن و منه قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «2» و قوله:

و قد لاح في الصبح الثّريا لمن يرى كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا «3». كما أنّه يحتمل أيضا كونه من التشبيه المفرد الّذي يؤخذ فيه أشياء فرادى فتشبّه بأمثالها و إن قيل إنّ الأوّل اولى بالمقام لما في ذكر المثل من الإنباء عن التركيب

__________________________________________________

(1) عيون الاخبار ج 1 ص 123.

(2) الجمعة: 5.

(3) العنقود من العنب ما تراكم من حبّه، و ملّاحية: عنب أبيض في حبه طول، و نوّر: تفتّح نوره (بفتح النون) اي الزهر أو الأبيض منه- و البيت لأبي قيس بن الأسلت على قول.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 344

و كونه أقوى في الغرابة و التعجّب و حذرا عن التكلّف الظاهر في تشبيه المفردات و اعتبار التّرتيب لكنّه لا يخلو من نظر، بل الاولى ملاحظة الجهتين الاولى بعد الثّانية فقد شبّه ذوات المنافقين بالمستوقدين و اظهارهم الإيمان باستيقاد النّار، إذ به يستكشف الحقائق و يتعرف طرق الحقّ و الباطل و يتوصل الخلائق إلى معرفة الخالق و نيل مرضاته، كما أنّ النّار بضوئها كذلك بالنّسبة إلى الطّرق المحسوسة و هداية السّابلة و غيرها في ظلمة اللّيل، و لذا وقع كثيرا في

القرآن و غيره تشبيه الإيمان و الكفر و ما ينتمي إليهما بالنّور و الظلمة كقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ «1» و قوله أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ إلى قوله: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «2» و قوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها «3» و في التعبير في المقام بالنّار دون النّور إشارة إلى أنّهم لم يصلوا بعد إلى حقيقة الإيمان، و إنّما أظهروه لحقن دمائهم و سلامة أموالهم و أولادهم، و لذا شبّه ذلك بإضافة النّار ما حول المستوقدين كما شبّه زواله منهم على القرب في حياة النّبي صلّى اللّه عليه و آله أو بعد وفاته بارتدادهم عن الدّين و اتّباع الجبت و الطاغوت، و اظهار ما في قلوبهم من الكفر و النفاق و البغض لأمير المؤمنين و استحقاقهم بذلك الشّقوة الدّائمة و الخسارة اللّازمة بإطفاء نارهم و الذّهاب بنورهم و تركهم فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ.

روى القمي في تفسيره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام بعد

__________________________________________________

(1) البقرة: 257.

(2) النور: 40.

(3) الأنعام: 123.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 345

وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المسجد و الناس مجتمعون بصوت عال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «1» فقال له ابن عباس يا أبا الحسن لم قلت ما قلت؟ قال: قرأت شيئا من القرآن، قال: لقد قلته لأمر قال: نعم إنّ اللّه يقول في كتابه:

ما آتاكُمُ

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» أ فتشهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه استخلف أبا بكر؟ قال ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوصى إلّا إليك قال: فهلّا بايعتني؟ قال: اجتمع الناس على أبي بكر فكنت منهم، فقال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه كما اجتمع أهل العجل على العجل هاهنا فتنتم، و مثلكم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3».

[سورة البقرة(2): آية 18 ]

اشارة

تفسير الآية (18) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ من تمام المثل فالمبتدأ ضمير عائد إلى المستوقدين، و ذلك أنّه لمّا وصفهم بكونهم متروكين فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ أراد أن ينبّه أنّ ذلك ليس لفقد البصر، و لا لمجرد الظلمة الطّارية، بل لمّا أذهب اللّه بنورهم تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ هائلة مدهشة موحشة بحيث اختلّت حواسهم و سلبت قواهم، فاتّصفوا بالصفات الثلاثة على وجه الحقيقة، و انتفت عنهم الإدراكات لفقد الآلة أو بيان لحال

__________________________________________________

(1) سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله: 1.

(2) الحشر: 7.

(3) تفسير القمي ج 2 ص 301 و عنه نور الثقلين ج 5 ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 346

الممثّل له كما هو الأظهر و هو المستفاد من تفسير الإمام عليه السّلام على ما مرّ بل هو المتعيّن على أحد الوجهين من استيناف قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، و المراد ثبوتها لهم في الدنيا حيث سدّوا مسامعهم عن الإصغاء إلى الحقّ، و أبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، و أعرضوا عن النظر في الآيات و التّدبّر فيها و الاتّعاظ بها إلى أن ختم على

قلوبهم و سمعهم و غشّي على أبصارهم، فانتفت عنهم المشاعر الإيمانية، و إن قويت فيهم المشاعر الجسمانيّة كما قال وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2» لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها «3» و في الآخرة حيث يردّون إلى ظلمات أحكام الآخرة على ما في تفسير الامام عليه السّلام.

صمم المنافقين و وجه التشبيه

قال: صُمٌّ يعني يصمّون في الآخرة و في عذابها، بُكْمٌ يبكمون هناك بين أطباق نيرانها، عُمْيٌ يعمون هناك قال: و ذلك نظير قوله عزّ و جل وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً «4».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في رسالته إلى أصحابه الّتي أمرهم بمدارستها و النظر فيها و تعاهدها و العمل بها و فيها: و كفّوا ألسنتكم إلّا من خير، و إيّاكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزّور و البهتان و الإثم و العدوان، فإنّكم إن كففتم ألسنتكم عمّا يكره اللّه ممّا نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربّكم من أن تذلقوا ألسنتكم به فان ذلق اللّسان

__________________________________________________

(1) الأعراف: 198.

(2) الحجّ: 46.

(3) الأعراف: 179.

(4) الإسراء: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 347

فيما يكره اللّه و ما نهى عن مرادة للعبد عند اللّه و مقت من اللّه، و صمم و بكم و عمي يورثه إيّاه يوم القيامة تصيروا كما قال اللّه تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، يعني لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1».

ثمّ أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ إطلاقها في المقام

باعتبار الحواس القلبيّة الايمانية كما هو الظاهر من الخبرين أيضا، و ربما يجعل باعتبار المشاعر الظّاهرة تشبيها لهم بمن ايفت مشاعرهم و انتفت قويهم كقوله:

أصمّ عن الشي ء الّذي لا أريده و أسمع خلق اللّه حين أريد و قوله:

و أصممت عمروا و أعميته عن الجود و الفخر يوم الفخار و قوله:

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به و إن ذكرت بسوء عندهم أذنوا و على هذا فالكلام على طريقة التمثيل لا الاستعارة إذ من شرطها ان يطوى ذكر المستعار له و يجعل الكلام خلوا عنه، صالحا لحمله على المستعار منه لولا فحوى الكلام و قرينة المقام، و لذا يرشّحون الاستعارات كي يضربوا صفحا عن توهّم التشبيه كقول زهير:

لدى أسد شاك السلاح مقذّف له لبد أظفاره لم تقلّم و لأبي تمّام:

و يصعد حتّى لظنّ الجهول بأنّ له حاجة في السّماء و للآخر:

لا تحسبوا أنّ في سرباله رجلا ففيه غيث و ليث مسبل «2» مشبل «3». __________________________________________________

(1) الكافي: ج 8 ص 406.

(2) المسبل: الهطّال.

(3) المشبل: أي و الشبل و هو الولد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 348

و المستعار له في المقام و إن كان محذوفا و هو المبتدأ لكنّه في حكم المنطوق به نظيره قول من يخاطب الحجّاج

أسد عليّ و في الحروب نعامة «1» فتخاء «2» تنفر من صفير الصّافر. و الصّمم أصله السدّ، و منه: صممت القارورة أي سددتها و صمامها سدادها، و قناة صمّاء صلبة مكّنزة الجوف لسدّ جوفها بامتلائها سمّي به فقدان حاسة السّمع لانسداد باطن الصّماخ معه بحيث لا ينفذ إلى الصّماخ شي ء من الهواء المتموّج بالصّوت، و لذا فرقوا بين الطرش و الوقر

و الصّمم بأنّ الأول نقصان السّمع، و الثاني بطلانه، و الثالث فقدان تجويف الصّماخ، و اصل البكم الاعتقال في اللّسان، يقال:

رجل أبكم أي أخرس بيّن البكم من ولد كذلك، كما أنّ الأخرس من ولد على الصّفة، و العمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر.

وجه تقديم الصمّ على البكم و تأخير العمى في الآية

و قدّم الصّمم على البكم لأنّ التكلّم مترتّب على السّماع و لذا يكون الأصم ابكم فروعي هذا التّرتيب في ضدّهما أو لأنّ الشرع يدعوا إلى سماع الحقّ ثمّ التكلّم به، فذكر أنّهم لا يسمعونه ثمّ أنّهم لا يتكلّمون به.

و أمّا تأخير العمى فقد يعلّل بأنّ السّماع أعظم مدخلا في درك الشّرائع من البصر، فتأخّر ضد الأخير عن ضدّ الأوّل و عمّا هو لصيقه و قرينه، و بأنّ العمى شامل لعمى الفؤاد، و هي آفة تمنع من الفهم و لعمى العين، بل قد يقال بكونه حقيقة فيهما

__________________________________________________

(1) النعامة: حيوان له عنق كالجمل و ريش كالطائر و يقال له بالفارسية شتر مرغ.

(2) الفتخاء: أسد عريض الكف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 349

فيفرق بينهما في الاستعمال يقال: ما أعماه من عمى القلب، و لا يقال ذلك في العين و إنّما يقال ما أشدّ عماه، و هو بالمعنى الأوّل معقول صرف فاستحقّ التأخير لذلك، و دعوى الحقيقة فيهما و إن كانت ممنوعة إلّا أنّ الثلاثة تستعمل لفقد كلّ من المشاعر الجسمانيّة و الايمانيّة و ان كانت على الوجهين من قوى النفس، إلّا أنّها على الأوّل للحسية الحيوانية و على الثاني للناطقة القدسية.

ثمّ أن الثلاثة قرأت بالنصب على الحال من مفعول تَرَكَهُمْ ... فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، فان الرجوع إلى الشّي ء هو الانصراف

إليه بعد الذهاب عنه، و عنه هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه، و ذلك في الدّنيا لاستحكام الطبع على قلوبهم، فكأنّهم مسخوا بهائم كما قال: وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ «1» أي لا يستطيعون مضيّا إلى الدّرجات الرفيعة الإيمانية و لا رجوعا إلى فطرتهم الأصلية كي يجدّدوا العمل في مهل الأجل، و في الآخرة بامتناع العود الى الدنيا، و إن التمسه القائل منهم بقوله: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ «2» نعم قد يقال لهم: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «3» سخريّة بهم حيث يقولون لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ «4».

و ربما يحتمل إرادة كونهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يرجعون، و لا يدرون أ يتقدمون أم يتأخرون.

قيل: و هذا يناسب عود الضمير للمستوقدين و العطف بالفاء للاشعار على

__________________________________________________

(1) يس: 68.

(2) مؤمنون: 99- 100.

(3) الحديد: 13.

(4) الحديد: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 350

التّرتّب و السببيّة.

[سورة البقرة(2): آية 19 ]

اشارة

تفسير الآية (19) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «1» تمثيل آخر لزيادة الكشف و الإيضاح عن حالهم و سوء مالهم، و وخامة عاقبتهم، و عدم انتفاعهم بالآيات و النذر.

و تكرير الأمثال سيّما مع تعلّقها بجهات الكشف و وجوه البيان ممّا بالغت فيه البلغاء، خصوصا عند مزيد الاهتمام بالإفهام و غموض المرام عن الأفهام، و إذا اكثر اللّه منه في التنزيل بل نبّه عليه بقوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و قوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا «2».

وجه ذلك التمثيل

و أو لأحد الأمرين مطلقا، و هو الأصل في معناها في موارد إطلاقاتها من الإخبار و الإنشاء، و امّا الشّك و الإبهام و التّخيير و الإباحة و غيرها فليس شي ء منها داخلا في مفهومها لغة، و إنّما تستفاد منها بحسب خصوص الموارد كقصد المتكلّم و حال المخاطب، و امتناع الجمع بين المتعاطفين و غيرها، و ذلك للتبادر و أصالة الحقيقة، و من هنا يضعّف ما قيل: من كونها مجازا في غير ذلك بل و في غير الخبر مطلقا نظرا إلى أنّها في أصلها للتساوي في الشكّ، و لذا اشتهرت أنّها كلمة شك

__________________________________________________

(1) الإسراء: 89.

(2) الإسراء: 41.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 351

فتكون مخصوصة بالخبر ثمّ استعيرت للتّساوي في غير الشك فاستعملت في غير الخبر.

و معناها في المقام أن القصتين سواء في صحّة التمثيل و تشبيه حال المنافقين بهما فإن شئت مثّلت بهما أو بواحد منهما أيّهما شئت، و هذا هو المعبّر عندهم بالإباحة كما في قولهم: جالس الفقهاء أو المحدّثين.

و (الصيّب) المطر الّذي يصوب أي ينزل من عل، و أصله صيوب، من الصوب أيضا، بمعنى

نزول المطر و الإنصباب، و يقال: الصيّب للسحاب ذي الصوب أيضا، بل اقتصر عليه في معناه بعضهم، و انشدوا:

عفا آيه نسج الجنوب مع الصبا و أسحم دان صادق الوعد صيّب «1» و في الآية يحتملهما، و إن كان الأكثر، فسّروه بالأول.

و تنكيره إمّا للتعظيم، تنبيها على بلوغه مبلغا لا يمكن أن يصرف، أو للنوعيّة، لأنّه أريد به نوع من المطر، ممتاز من بين الأنواع في الشدّة و الوحشة هذا مضافا إلى ما فيه من المبالغة من جهة المادّة و الهيئة على ما قيل لتألّفه من الصاد المستعلية، و الياء المشدّدة، و الباء الشديدة، و كونه صفة مشبّهة دالّة على الثبوت، و هو على حذف مضاف تقديره أو كمثل أصحاب صيّب، لقوله: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ مع أنّ عطف غير العاقل على ذوي العقول غير معقول.

و السماء كلّ ما علاك فأظلّك، و منه قيل لسقف البيت سماء، و هي اسم جنس يقع على الواحد و المتعدد، و قيل: جمع سماة- كتمر و تمرة، و الواحدة بالتاء، و شاع إطلاقها على هذا المعروف، و إن كانت تطلق أيضا على السحاب و المطر، و ظهر

__________________________________________________

(1) أي محا آثار المنزل هبوبهما، و أسحم أي سحاب أسود، دان: قريب من الأرض، صادق الوعد غير خلف، و الصيّب: الهطّال.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 352

الفرس، و السقف، و غيرها، فإن فسّر الصيّب بالمطر فالسماء السحاب، أو جهة العلو، أو هذا المعروف، أو بالسحاب فأحد الأخيرين، و على الوجهين ففائدة الوصف بكونه من السماء مع أنهما لا يكونان إلّا منه الإشعار، بذكره على زيادة تصوير المراد لتطبيق أجزاء الممثّل له عليه على ما يأتي، و بتعريفه الإشعار على كون الغمام مطبقا أخذا

بجميع الآفاق مصيبا مطره جميع وجه الأرض ذهابا الى السماء المطلقة المعروفة، و لو نكّرها لكان يذهب الوهم إلى قطعة منها فإنّ بعض السماء قد يسمّى سماء قال:

فأوه بذكراها إذا ما ذكرتها و من بعد أرض بيننا و سماء فإنّ البعد بينهما قطعة من الأرض و ناحية من السماء.

و أمّا ما يقال: من أنّ في التوصيف دلالة على بطلان ما توهّموه من انعقاد المطر و تقاطره من الأبخرة المرتفعة الى الكرة الزمهريريّة المتكاثفة هناك لشدّة البرد ففيه ما لا يخفى بعد ما سمعت من معاني السماء.

فِيهِ ظُلُماتٌ متراكمة بعضها فوق بعض، تعبير عن بلوغ الغاية في الشدّة باجتماع الأمثال لازدحام الأسباب، أو المراد ظلمة تكاثف السحاب و سواده و تتابع القطر المشبّه بظلمة البحر و ظلمة الليل فصحّ الجمع بناء على تفسير المرجح بكل من السحاب و المطر، و احتمل رجوعه إلى السماء أيضا فإنّه قد يذكر، و الجملة في موضع الجرّ بانّها صفة صيّب، و لذا كان ارتفاع ظلمات بالظرف وفاقا، و إن اختلفوا فيما لم يعتمد على موصوف بأنّه على الفاعليّة، كما عن الأخفش، أو على الابتداء كما عن سيبويه لاشتراطه الاعتماد في إعماله.

و القرّاء أجمعوا على ضمّ اللام اتّباعا، و روي في الشواذ عن الحسن و أبي السماك بسكون اللام، و عن بعضهم بفتحها، و علّلوه بكراهة اجتماع الضمتين، فتارة عدلوا الى الفتح و أخرى الى السكون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 353

قال في «المجمع»: و كلا الأمرين حسن في اللغة قلت: لكنّ القراءة مبنيّة على التوقيف.

وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ تأخيرهما لزيادة التهويل مع أنّه روعي في الترتيب الذكري الترتيب الوجودي بينهما على ما هما عليه، و إن لم يساعده حواسّنا

الظاهرة، فإنّ البرق يرى قبل سماع الرعد، و ذلك لأنّ الصوت لا بدّ له من حركة الهواء أو تموّجه، و لا حركة دفعيّة فيحتاج إلى زمان، و لا كذلك في الرؤية على ما قرّر في محلّه، و البرق ما يلمع من السحاب من برقت السماء بروقا إذا لمعت، و للبحث عن حقيقتهما موضع آخر.

و جعل المطر ظرفا لهما على الاتّساع فانّهما في أعلاه و مصبّه، فإنّ الظرفية متعذّرة و التلبّس حاصل في السحاب في المطر الّذي لم ينفصل بعد عنه، بل مطلقا، و قد شاع الاتّساع في الظروف، كقولك: فلان في البلد، و فيه العلم و التقى.

يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ استيناف، لأنّه لمّا ذكر الظلمات و الرعد و البرق على ما يؤذن الشدّة و الهول فكأن قائلا قال له: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، و ذكر الصواعق لا تنافي المطابقة، بل تؤكّد تهويل الوعد المسئول عنه.

و يحتمل كون الجملة حالا من ذوي صيّب، أو نعتا له، و على الأحوال و الضمير لهم مع كون اللفظ محذوفا قائما مقامه، صيّب لبقاء المعنى فيه، كبقائه في قوله: أَوْ هُمْ قائِلُونَ بعد ذكر القرية و إرجاع الضمير إليها حيث قال: «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» «1» و في قول حسّان «2»:

__________________________________________________

(1) الأعراف: 4.

(2) حسّان بن ثابت المنذر الخزرجي الانصاري شاعر النبي صلّى اللّه عليه و آله توفي سنة (54 ه) بالمدينة عن (120) سنة كأبيه و جدّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 354

يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفّق بالرحيق السلسل. حيث ذكر يصفّق إبقاء لمعنى المضاف المحذوف، و المعنى ماء بردى، و

هي بالفتحتين: نهر بدمشق، و البريص شعبة منه.

و الأصابع جمع الإصبع مثلّثة الهمزة و الباء، ففيها تسع لغات عاشرها: أصبوع بالضّم، و أطلقت في الآية على موضع الأنامل اتساعا، مع ما فيه من الاشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فرارا من شدّة الصوت، كما أنّ به الإشعار أيضا في ذكر الإسم العامّ دون السبّابة الّتي تسدّ بها الأذن مع أنّها فعّالة من السبّ، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، و لذا تراهم يكنّون عنها بالمسبّحة و المهلّلة، و السبّاحة، و الدعّاءة، و غيرها من الألقاب الّتي لا يناسب شيئا منها خصوص القصّة.

مِنَ الصَّواعِقِ متعلّق بيجعلون، و (من) في أمثال المقام للابتداء على سبيل العليّة، فيكون ما بعدها أمرا باعثا على الفعل الّذي قبلها، فيقال: قعد من الجبن، و لذا قد يصرّح معها بما يدلّ على التعليل كقولك: ضربه من أجل التأديب.

و الصاعقة في الأصل مصدر كالعافية و الباقية، كما جزم به في «القاموس» و احتمله غيره، أو صفة لقصفة الرعد، أو الصيحة او الرعدة الهائلة، أو الرعد، و التاء للمبالغة كالراوية لكثير الرواية، أو للنقل من الوصفيّة الى الاسميّة كالحقيقة.

من الصعق و هو شدّة الصوت، و منه حمار صعق اي شديد الصوت.

و الغشوة يقال: صعق الرجل صعقة أي غشي عليه، قال اللّه تعالى: وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً «1».

و الموت، و منه قوله تعالى:

__________________________________________________

(1) الأعراف: 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 355

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «1».

و يظهر من الأكثر كونه حقيقة فيه، فإطلاقه على غيره لعلاقة المشابهة و السببية و المشارفة و غيرها.

و تطلق الصاعقة أيضا على صيحة العذاب، و كل عذاب مهلك، و النار الّتي تسقط من السماء في رعد شديد، يقال:

صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت.

و من غرائبها أنّها ربما تصير لطيفة بحيث تنفذ في المتخلخل و لا تحرقه و تذيب المندمج، فتحرق الذهب في الكيس دونه إلا ما احترق من الذائب.

قال صدر المتألّهين: أخبر أهل التواتر بأنّ الصاعقة وقعت في بلدة ولادتنا شيراز على قبّة الشيخ الكبير عبد اللّه بن حفيف فأذاب قنديلا فيها و لم يحرق شيئا منها.

قالوا: و ربّما كان كثيفا غليظا جدّا فيحرق كلّ شي ء أصابه، و كثيرا ما يقع على الجبل فيدكّه دكّا.

و يحكى أنّها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثمّ طفئت.

و قرأ الحسن: من الصواقع، قال في «الكشّاف»: و ليس بقلب للصواعق لأنّ كلا البنائين سواء في التصرّف، و إذا استويا كان كلّ واحد بناء على حياله ألا تراك تقول: صقعه على رأسه و صقع «2» رأسه، و صقع «3» الديك، و خطيب مصقع مجهر و نظيره جبذ في جبذ ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف «4».

__________________________________________________

(1) الزمر: 68.

(2) أي ضرب صوقعته و هو موضع البياض في وسط الرأس.

(3) أي صاح الديك.

(4) الكشّاف ج 1 ص 217- 218.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 356

و عن الراغب «1»: أنّ اللفظين متقاربان في المعنى و هو الهوّة الكبيرة، إلّا أنّ الصقع في الأجسام الأرضية، و الصعق في الأجسام العلويّة.

أقول: لا يخفى أنّ الصقع بمعانيها المعروفة غير شديد المناسبة بالمقام، و لا بعد في القلب في المستعمل منه بمعنى الصعق لا مطلقا كي يردّ بكثرة التصرّف.

و لذا قال الجوهري: و صقعته الصاعقة لغة في صعقته الصاعقة، مع تنبيهه على معاني الصقع الّتي هي أجنبية عن المقام.

حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول على العلّة لقوله تعالى: يَجْعَلُونَ و تعريفه غير

منكر، خلافا لمن أوجب تنكيره، و يردّه الآية، و قول حاتم «2»:

و أغفر عوراء الكريم ادّخاره و أعرض عن شتم اللئيم تكرّما فلا داعي إلى التكلّف بالتأويل في الآية بحاذرين الموت لتكون الإضافة لفظيّة.

و الموت فساد بنية الحيوان، أو مفارقة الروح عن البدن، و الأظهر أنّه أمر وجوديّ يضادّ الحياة، لقوله تعالى: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» «3»، و ما ورد من أنّهما خلقان من خلق اللّه فإذا جاء الموت فدخل في الإنسان لم يدخل في شي ء إلّا و قد خرجت منه الحيوة، و غير ذلك ممّا يأتي في مورده، فإطلاقه إنما هو باعتبار حالة الإفتراق، لا مجرّد عدم التركيب و الاجتماع.

و قرأ ابن ابي ليلى: حذار الموت.

وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ إحاطة بحسب العلم، فيعلم أسرارهم و يعلم نبيّه على ضمائرهم، و القدرة فلا يستطيعون الخروج عن قدرته، و لا يفوتونه كما لا

__________________________________________________

(1) ابو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصبهاني اللغوي الماهر توفّي سنة (565) ه

(2) هو حاتم الطائي عبد اللّه بن سعد القحطاني شاعر جواد فارس مات سنة (46) قبل الهجرة.

(3) الملك: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 357

يفوت المحاط به المحيط، قال الشاعر:

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقّنوا بما قد رأوا مالوا جميعا الى السلم أي قدرنا عليهم. أو أنّ اللّه مهلكهم جزاء بما كسبت أيديهم لا تخلّصهم الخداع و الحيل، من قولك: أحيط بفلان فهو محاط به إذا هلك أو دنى هلاكه، و منه قوله تعالى: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ «1» أي أصابه ما أهلكه، و قوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «2» أي أن تهلكوا جميعا.

أو جامعهم يوم القيامة، يقال: أحاط بكذا، إذا لم يشذ منه شي ء، و منه:

أَحاطَ

بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً «3» أي لا يشذّ عن علمه شي ء و الجملة معترضة للتنبيه على أنّه لا ينفعهم الحذر عن الموت، و ما بعده من العقبات و العقوبات.

و فائدة وضع الكافرين موضع الضمير التنبيه على كفرهم و استحقاقهم شدّة الأمر عليهم كقوله: «أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»، و قد تجعل من أحوال المشبّه فالمراد بهم المنافقون وسّطت تنبيها على فرط الاهتمام بشأن المشبّه و دلالة على شدة الاتصال بينه و بين المشبّه به.

و في إيثار الإسم الجامع المقدّم و الاخبار عنه بالجملة الاسميّة و تنكير المفرد و تعريف الجمع ما لا يخفى من الجزالة و الفخامة.

__________________________________________________

(1) الكهف: 42.

(2) يوسف: 64.

(3) الطلاق: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 358

[سورة البقرة(2): آية 20 ]

اشارة

تفسير الآية (20) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استيناف ثان كأنّه أجيب به عمّا ربما يسئل عنه من حالهم مع ذلك البرق أو تلك الصواعق، و كاد في الأصل فعل من كدت يكاد كيدا و مكادة مثل هبت يهاب، و عن الأصمعي: كودا بالواو، فيكون نحو خفت يخاف خوفا و مخافة، و ربّما يحكى مجي ء يكود كيقول أيضا وضعت كمرادفاتها لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببية الغير التام بفقد شرط أو شطر أو طروّ مانع، و ليست فيها شائبة الإنشاء، و لذا جاءت متصرفة كسائر الأفعال بخلاف عسى الموضوعة لإنشاء الرجاء، و لذا لم تأت إلّا ماضيا و شرط خبرها أن يكون فعلا مضارعا و التجريد عن أن الدالّة على الاستقبال فيها أكثر ليوكّد القرب بالدلالة على الحال.

و الخطف: الأخذ بسرعة، يقال: خطف يخطف من باب سمع و ضرب، و إن كان الأوّل أكثر و أفصح، بل في «المجمع» «1»: أنّ

عليه القراءة، لكن في «الكشّاف» «2» عن مجاهد بكسر الطاء و الفتح افصح و أعلى، و عن ابن مسعود: يختطف، و عن الحسن: يخطف بفتح الياء و الخاء، و أصله يختطف فنقلت فتحة التاء الى الخاء ثمّ أدغمت في الطاء، و عنه أيضا: يخطّف بكسرهما على إتباع الياء الخاء المكسورة لالتقاء الساكنين حيث سكنت الطاء للادغام، و عن زيد بن علي: يخطّف من خطّف، و عن أبيّ: يتخطف من قوله: وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «3».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 58.

(2) الكشاف ج 1: ص 219.

(3) العنكبوت: 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 359

كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ استيناف ثالث أجيب به عمّا ربّما يسئل عنه من حالهم: كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق و خفيته، و كلّما، أصله كلّ أضيف إلى ما و هو في الأصل لجميع أجزاء الشي ء كالبعض لطائفة منه و إن استعمل كلّ في موضع الآخر، و لذا عدّتا من الأضداد و يلزمهما الاضافة لفظا او تقديرا، و لا تدخلهما اللام عند الأصمعي و غيره، بل يعزى الى الأكثر، و لذا نسب أبو حاتم «1» و غيره سيبويه و الأخفش الى قلّة المعرفة حيث استعملاهما بها في كتابيهما، و ذكر أنه قال للأصمعي «2»: رأيت في كلام ابن المقفع «3»: «العلم كثير و لكن أخذ البعض خير من ترك الكلّ» فأنكره أشدّ الإنكار و قال: كلّ و بعض معرفة فلا يدخل عليهما الألف و اللام لأنهما في نيّة الإضافة.

و هو بمعزل عن التحقيق، بل الحقّ أنّهما قد يعرّفان بها.

و لفظ كلّ واحد و معناه جمع و لذا يجوز كلّ القوم حضر- و حضروا.

و في «المصباح» إنّه يفيد

التكرار بدخول ما عليه نحو كلّما أتاك زيد فأكرمه، دون غيره من أدوات الشرط، و هو منصوب على الظرفيّة لقوله: أَضاءَ و محلّه الجزم بالشرط، و مَشَوْا فِيهِ في موضع الجزاء، و المشي جنس الحركة المعهودة، و إن كان أغلب في الأوسط، فإذا اشتدّ فهو سعيّ، فإذا إزداد فعدو، و أَضاءَ يستعمل متعديا و لازما، يقال: أضاء اللّه الصبح فأضاء، و المعنى على الأوّل: كلّما نوّر لهم ممشى و مسلكا مشوا فيه فالمفعول محذوف، و على الثاني: كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره.

__________________________________________________

(1) ابو حاتم السجستاني سهل بن محمد النحوي اللغوي نزيل البصرة توفي سنة (248) ه

(2) الأصمعي: عبد الملك بن قريب البصري اللغوي المتوفى حدود (216) ه

(3) ابن المقفّع: عبد اللّه الفارسي الماهر في صنعة الإنشاء المقتول بأمر المنصور الدوانيقي سنة (143).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 360

و أيّده في «الكشاف» بقراءة ابن أبي عبلة: كلّما أضاء لهم، و الفاعل على الحالين البرق، كما أظلم أيضا يستعمل على الوجهين، و يحتملهما قوله وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا و إن كان الأظهر الأشيع كونه لازما، نعم قد يقال: إنّه جاء متعدّيا منقولا من ظلم الليل مستشهدا له بقراءة يزيد بن قطيب «1»: أظلم على ما لم يسمّ فاعله، و بقول أبي تمّام «2» حبيب بن أويس الموثوق بإنشاده لإتقانه و إن كان من المحدثين «3»:

هما «4» أظلما حاليّ ثمّت أجليا «5» ظلاميهما «6» عن وجه أمرد «7» أشيب «8» يقول الشاعر خطابا لعاذلته:

أ حاولت إرشادي فعقلي مرشدي أم استمت تأديبي فدهري مؤدّبي __________________________________________________

(1) يزيد بن قطيب السكوني الشامي روى القراءة عن أبي بحريّة عبد اللّه بن قيس السكوني

الحمصي المتوفى بعد الثمانين- غاية النهاية ج 2 ص 382.

(2) ابو تمّام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المتوفى (231).

(3) الشعراء على أربع طبقات: الجاهليّون كإمرئ القيس، و طرفة و زهير، و المخضرمون الذين أدركوا الجاهلية و الإسلام، كحسّان و لبيد، و المتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق و جرير و ذي الرّمة و هؤلاء كلهم يستشهد بكلامهم في اللغة، و المحدثون من أهل الإسلام كابي تمام و البحتري و أبي الطيّب لا يستشهدون باشعارهم و لكن يجعلون أقوالهم بمنزلة ما يروون و يحدّثون.

(4) هما راجع الى الفعل و الدهر، و المراد بحاليه ما يتواتر من المتقابلين كالخير و الشرّ و الغنى و الفقر، و الصحّة و المرض، و العسر و اليسر و نحوها.

(5) أجليا: كشفا ظلاميهما.

(6) الظلامة بضم الظاء: ما احتملته من الظلم و ما أخذ منك ظلما.

(7) الأمرد: الشابّ طرّ شاربه و لم تنبت لحيته.

(8) الأشيب: المبيّض الرّأس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 361

أي ما كان ينبغي أن تتجشّمي في الإرشاد و العذل و التأديب فإنّ في العقل و الدهر كفاية فهما شيّباني بعد ما كنت شابا و صيّراني شيخا قبل أوانه.

و اعترض على الأوّل بجواز كونه لازما مسندا الى الظرف، و على الثاني بأنّ عمل الراوي ليس بحجّة في مثله، فإنّ إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية سيّما في الشعر الّذي هو محلّ الضرورات.

و يضعّف الأوّل بأنّ بناء المجهول من المتعدي بنفسه أكثر و أولى، و بأنّ عليهم تقابل لهم كما هو ظاهر المساق فان جعلا مستقرّين لم يصلح لذلك أصلا، أو صلتين لفعلين على تضمين معنى النفع و الضرّ، فكذلك مع وضوح كون الضمير في الفعلين

للبرق.

و الثاني بأنّ إتقان الرواية كان في مثله مع كونه عالما مقدّما في هذه الصناعة، على أنّه لا معنى لإظلام البرق في نفسه على الحقيقة، بل المراد ستره الطريق عليهم، مضافا الى ما عن الأزهري «1»: أنّ أظلم و أضاء يكونان لازمين و متعديين، و ما عن الليث: تقول: أظلم فلان علينا البيت إذا أسمعك ما تكره، لما قيل: من أنّ ثبوته في مجازه يدلّ عليه.

و معنى قامُوا وقفوا من قام الماء جمد، و السوق نفقت، و الدابّة وقفت، و تغيير الأسلوب باللام و على لما فيهما من الدلالة على النفع و الضرّ مع تقديم الأجدر، و بكلّما و إذا للتنبيه على شدّة حرصهم على المشي دوما الى سرعة التخلّص و قلّة التربّص لما هم فيه من الأهوال الفضيعة و الشدائد المدهشة و إيثار المشي على الإسراع و العدو مع ما فيهما من مناسبة أحوالهم و حكاية أهوالهم للاشعار على انتهاك قواهم بحيث لا يقدرون مع ما هم عليه من الشدّة على غير المشي لما فجئهم

__________________________________________________

(1) الأزهري: أبو منصور محمد بن أحمد الهروي الشافعي اللغوي المتوفّى (370) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 362

من الافزاع و ان كانوا هم الحراص عليه.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ عطف على كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ، و ربما يحتمل عطفها على يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ، و هو بعيد، و كونها معترضة، و هو مبنيّ على جواز وقوعها في آخر الكلام.

و لو وضعت في الأصل للدلالة على انتفاء الثاني لانتفاء الأوّل من جهة ترتّبه عليه و ان كان للثاني أسباب آخر، و قد أغرب من عكس نظرا إلى أنّ المسبّب قد يكون أعمّ من السبب.

و أوهن منه الاستدلال بانتفاء

الملزوم عند انتفاء لازمه، فإنّ الظاهر من قولك:

لو جئتني لأكرمتك الإشعار بسببية عدم المجي ء لانتفاء الإكرام و استناده إليه، و لذا ذهب الجمهور الى ما ذكرناه.

نعم قد تجرّد لمجرّد الربط بين الجملتين، و للدلالة على لزوم الجزاء للشرط، فتفيد أنّ العلم بانتفاء الثاني علّة للعلم بانتفاء الأوّل.

و يستعملها ارباب العلوم في استدلالاتهم و لذا يسمّى لو الاستدلاليّة، و إرادتها في المقام بعيدة جدا بل الأولى ارادة الأولى للتنبيه على أنّه لم يبق ممّا له مدخليّة في ذهاب حواسّهم و بطلان قواهم إلّا و قد حصل عدى المشيّة الإلهيّة و ذلك لأنّ مشقّتهم بسبب الرعد و البرق قد وصلت غايتها، أو للاشعار على كمال قدرته و شدّة إحاطته عليهم بحيث إنّه يؤثّر في ذهاب أعزّ ما عندهم من الحواسّ و القوى بمجرّد المشيّة من دون ترقّب شرط أو تزاحم مانع، و لذا عقّبه بما يفصح عن عموم المقدرة.

و لقد شاع حذف المفعول في شاء و أراد، و ما يتصرّف منهما إذا وقعت في حيّز الشرط لدلالة الجواب عليه معنى و وقوعه في محلّه لفظا مع أنّ فيه ضربا من التفسير بعد الإبهام.

نعم ربما لا يكتفون بها في الشي ء المستغرب اعتناء بتعينه و دفعا لذهاب

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 363

الوهم الى غيره كقوله:

و لو شئت أن أبكي دما لبكيته عليه و لكن ساحة الصبر أوسع و قوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا «1» و لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «2».

و المعنى و لو شاء اللّه أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد و أبصارهم بوميض البرق لذهب بهما، و يحتمل كونه و عيدا لهم بعد إتمام المثل، أي و لو شاء اللّه

لدمّر على المنافقين و اذهبهما منهم عقوبة على نفاقهم كما ختم مثله في الآية الاولى.

بل ربما يؤيّده ما في تفسير الامام عليه السّلام على ما يأتي، حيث قال: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت و أصحابك المؤمنون، و توجب قتلهم.

و الباء للتعدية و فيها معنى الاستمساك و المصاحبة على ما مرّت اليه الإشارة من الفرق بين التعديتين في قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و في قراءة ابن أبي عبلة:

لأذهب بأسماعهم، فتكون زائدة بناء على عدم الجمع بين أداتي تعدية و اختصاص الزيادة بالباء حينئذ لسبق الهمزة و شيوع التعدية بها، مع احتمال عدم الزيادة للمنع من عدم الجمع مع أن للهمزة معان أخر.

التشاجر في (القدير)

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إشارة إلى عموم قدرته و نفوذ أمره التكويني في كل شي ء بما شاء متى شاء و كيف شاء، و الشي ء في الأصل بمعنى أراد مصدر

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 17.

(2) الزمر: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 364

بمعنى الفاعل أو المفعول غلب على كلّ ما يصحّ أن يعلم و يخبر عنه، و لذا قيل: إنّه أوّل الأسماء و أعمّها و أبهمها و قد طال التشاجر في اختصاصه بالقديم أو بالحادث أو بغير المعدوم أو بالجسم، فذهب إلى اختصاصه بكلّ فريق.

و يضعّف الأوّلان بقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «1» و قول لبيد:

ألا كل شي ء ما خلا اللّه باطل

و الأخير بقوله تعالى: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً «2».

و أمّا ما يحكى عن جهم «3» من الاستدلال بهذه الآية على انّه تعالى ليس بشي ء نظرا إلى أنّها تدل على

أنّ كلّ شي ء مقدور للّه و هو تعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئا فهو ضعيف جدا.

و أضعف منه الاستدلال بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، حيث أنّه تعالى لو كان شيئا و هو مثل نفسه لم يصحّ قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ فوجب أن لا يكون شيئا و هو كما ترى «4».

و أما اختصاصه بالوجود فقد يستدلّ له بأنّه قد يطلق تارة بمعنى الفاعل فيتناول الباري تعالى كما في الآية الأولى، و اخرى بمعنى المفعول أي مشيي وجوده و ما شاء اللّه وجوده فهو موجود في الجملة، و عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ «5» خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ* «6»، فهما على عمومهما بلا استثناء.

__________________________________________________

(1) الانعام: 19.

(2) الكهف: 23.

(3) هو جهم بن صفوان السمرقندي رأس الجهميّة المقتول بمرو سنة (128) ه

(4) حكاه عن الجهم في «مفاتيح الغيب» ج 1 ص 81.

(5) البقرة: 20.

(6) غافر: 62.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 365

و لا يخفى ضعفه لأنّ المفهوم منه عرفا معنى عام شامل للواجب و الممكن من دون أن يكون واسطة الانتقال إليه كون شائيا أو مشيئا مع أنّه بالمعنى الأوّل لا يشمل الجمادات و الأعراض و نحوها ممّا لا يتّصف بالإرادة و المشيّة و بالمعنى الثّاني لا يشمل الواجب، و قضيته تبادر الجميع منه بالطلاق واحد فسادهما معا.

مضافا الى أنّه لا يصحّ سلبه عن شي ء من الموجودات، و مثله في الضّعف ما ربما يستدل به لما يعزى إلى المحقّقين من المتكلّمين بل قد يحكى عن تصريح بعض اللّغويين كسيبويه و غيره من إطلاقه على الموجود و المعدوم من أنّه تعالى أثبت القدرة على الشي ء في هذه الآية

و الموجود لا قدرة عليه لإستحالة إيجاد الموجود، فالّذي عليه القدرة معدوم، و هو شي ء فالمعدوم شي ء.

لأنّه لو صحّ هذا الكلام لزم أن لا يكون ما لا يقدر اللّه عليه شيئا، فالموجود حيث لا يقدر عليه لا يكون شيئا، و للمنع من أنّ الموجود لا قدرة عليه فانّه مقدور عليه و لو بالتغيير او الإعدام، و المنفي إنّما هو القدرة على إيجاده ثانيا عن عدم أصلي كالاوّل، لفوات المحلّ، و هو أخصّ مما ادّعوه، و لأنّ إثبات القدرة على الشي ء أعمّ من نفيها عن غيره.

و من هنا يظهر ضعف ما ذكره شيخنا الطبرسي بعد اختيار القول المتقدم بل قال إنّ على هذه المسألة يدور أكثر مسائل التّوحيد «1».

و الحقّ وفاقا لأكثر المحقّقين أنّ الشّيئيّة تساوق الوجود، نعم الوجود يكون كونيّا و إمكانيّا، و الأوّل يشمل جميع المجرّدات و الماديّات من الجواهر و الاعراض، و الثاني يشمل كلّ ما دخل في صقع الإمكان و ان لم يوجد بعد أو لن يوجد أبدا وجودا عينيّا، فيشمل جميع الحقائق و المفاهيم و المدركات الكليّة و الجزئيّة.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 366

و من هنا يظهر أنه يمكن إرجاع النّزاع في إطلاق الشي ء على المعدوم و عدمه إلى القول بثبوت الأعيان أو جعلها في الإمكان و عدمه، فليس البحث لغويّا محضا فيه، و لا في جواز إطلاقه عليه سبحانه، فانّ قوما لم يجوّزوا إطلاق الشي ء عليه ذهابا إلى مجرّد التعطيل نظرا إلى أنّه تعالى لو كان شيئا لشارك الأشياء في مفهوم الشيئيّة، و لذا منعوا أيضا من إطلاق الوجود و الموجود و ذي الحقيقة و الهويّة و نحوها في حقّه سبحانه.

و فيه

أنّ هذه من المفاهيم العامة الّتي لا عين لها في الخارج، و لذا ترى أنّ الموجود في الأعيان لا يكون إلّا امرا مخصوصا كالإنسان و الشّجر و الحجر، فيمتنع أن يوجد ما هو شي ء فقط.

بل قد يقال: إنّه لو وجد معنى الشّيئيّة في الخارج للزم من وجود الشّي ء وجود أشياء غير متناهية إذ كلّ ما يتحقّق في الخارج فهو شي ء، و له شيئيّة، و لشيئيّته أيضا شيئيّة أخرى، و هكذا إلى ما لا يتناهى.

و فيه نظر واضح فانّه نظير الشّبهة المعروفة في اتّصاف الوجود بالموجوديّة، و الّذي ينبغي أن يقال إنك قد سمعت أنّ الشيئيّة تساوق الوجود، فكما أنّه سبحانه موجود بحقيقة الوجود الّذي لا يمكن كونه عن عدم و لا طروّ العدم عليه، و غيره من الموجودات كلّها مفاضة منه منتسبة إليه، من دون أن يجمعهما حقيقة واحدة كذلك يتّصف هو سبحانه بأنّه شي ء بحقيقة الشّيئيّة و شي ء لا كالأشياء، كما ورد التّصريح بهما في الأخبار.

ففي خبر هشام عن الصادق عليه السّلام في جواب الزّنديق حين سئله ما هو فقال عليه السّلام هو شي ء بخلاف الأشياء ارجع بقولي إلى إثبات معنى و أنّه شي ء بحقيقة الشّيئيّة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 367

غير انّه لا جسم و لا صورة و لا يحسّ و لا يمسّ «1» و لا يدرك بالحواسّ الخمس «2».

و عن ابن سعيد قال سئل أبو جعفر الثّاني عليه السّلام يجوز أن يقال اللّه تعالى شي ء قال نعم تخرجه عن الحدّين حدّ التعطيل و حدّ التّشبيه «3».

أقول و معنى إخراجه عن حدّ التعطيل أنّه لو لم يكن اللّه شيئا لكان لا شيئا محضا و هو يوجب التعطيل عن الدّعاء و العبادة و التوسّل

و عن حد التشبيه أنّه لا يقاس بشي ء من مخلوقه بل لا يحدّ و لا يعدّ و لا يخطر ببال أحد.

و القدير فعيل بمعنى القادر و هو الّذي إن شاء فعل و إن شاء لم يفعل، أو أنّه الفعّال لما يشاء كيف يشاء، و لذا قلّ ما يتّصف به غيره سبحانه، مشتق من القدر بالتحريك بمعنى الحكم، و مبلغ الشي ء، أو بالسكون بمعنى القوّة كالقدرة و المقدرة بتثليث الدّال، ثمّ إنّ للقدرة عندهم تعريفين مشهورين، ففسّرها المتكلمون بصحّة الفعل و الترك، و الفلاسفة بكون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل، و الظّاهر تلازم المعنيين بحسب المفهوم و التّحقق و ان من أثبت المعنى الثّاني يلزمه إثبات الأوّل قطعا، و ذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل كان لا محالة من حيث ذاته مع عزل النظر عن المشيّة و اللّامشيّة يصحّ منه الفعل و الترك، و ان كان يجب منه الفعل إذا وجدت المشيّة و الترك إذا وجدت اللّامشيّة فدوام الفعل و وجوبه من جهة دوام المشيّة و وجوبها لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللّامشية.

و من هنا يظهر ضعف ما قيل: من أنّ هذا التعريف هو منشأ الخلاف بين

__________________________________________________

(1) في البحار: لا يجسّ بالجيم.

(2) بحار الأنوار ج 3 ص 258 ح 2 عن الاحتجاج و ص 26 عن التوحيد و معاني الاخبار.

(3) البحار ج 3 ص 260.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 368

الفريقين حيث إن المتكلّمين يجوّزون عدم صدور العالم عنه تعالى و إفنائه بعد وجوده بالكليّة و يمنعه الحكماء.

هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الفعل

و أمّا ما ذكره

الدّوّاني «1» من أنّ التعريف ليس مثار الخلاف، بل مثاره قول الحكماء بوجوب تحقّق مقدم الشرطيّة الأولى و امتناع مقدم الشرطيّة الثّانية، و قول المتكلمين بامكانهما، و ذلك ليس خلافا في معنى القدرة و الإختيار فإنّ الفريقين بعد أن يتّفقا على أحد التعريفين يمكنهم هذا الخلاف، ففيه أنّهما متّفقان أيضا في الوجوب الغيري و الإمكان الذّاتي للعالم، فالمراد بالوجوب و الامتناع في المقدّمتين من قول الحكماء هو الوجوب و الامتناع الغيريان، و لا ينافيه الإمكان الذاتي الّذي يقول به المتكلّمون، و أمّا الوجوب و الامتناع الذّاتيان فلا أعرف أحدا من الفريقين يقول بثبوتهما.

و أمّا ما يقال من أنّ عدم العالم ممكن بالنظر الى ذاته لامتناع زوال الإمكان الذّاتي عنه لكن عدم مشيّته تعالى له ممتنع بالذّات عندهم، و لا منافاة بين إمكانه الذّاتي و امتناع عدم صدوره عنه بالنظر إلى مشيّته، فعدمه ممكن بالذّات لكن عدم مشيّته تعالى له ممتنع بالذّات، فصحّ أنّ عدم صدوره عنه ممتنع بالذات و إن كان هو في نفسه ممكن العدم، و المتكلّمون ينكرون ذلك و يقولون بجواز عدم مشيّته تعالى له، ففيه أنّ ظاهر التعريفين غير مساعد عليه، و لعلّ قولهم بامتناع عدم مشيّته تعالى

__________________________________________________

(1) هو جلال الدين محمد بن سعد الدواني المنتهي نسبه الى محمد بن ابي بكر الحكيم الفاضل الشاعر المتوفى حدود سنة (907) أو بعدها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 369

على فرض صدق النّسبة إليهم مبنيّ على توهم كون الإرادة و المشيّة من صفات الذات و كون القدرة مغايرة للذّات الأحديّة إلّا أنّ هذا كلّه بمعزل عمّا هو التحقيق بل المعلوم من مذهب أهل البيت عليه السّلام هو كون الإرادة و المشيّة من صفات

الفعل، و إنّهما على فرض التّعدد أو الاتّحاد حادثتان بحدوث الفعل، و انّ القدرة و العلم من الصّفات الذاتيّة الّتي لا تغاير الذّات الحقّة البسيطة بوجه من الوجوه، بل ذاته قدرته، و قدرته ذاته، بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة أو مفهوميّة أو مصداقيّة، و لذا ورد الأمر بتنزيهه عن الصفات الزائدة و ان كمال التوحيد نفي الصفات، و أنّ من وصف اللّه فقد عدّه، و من عدّه فقد حدّه «1».

و ذلك انّ القائلين بالصّفات الزائدة إن قالوا بقدمها لزمهم القول بتعدّد القدماء و إن قالوا بحدوثها لزم النقص عليه في أزله، و لذا التجأ الاشاعرة إلى القول بإثبات قدماء ثمانية مع المبدء الاول تعالى اللّه عمّا يقولون علوّا كبيرا.

نعم يستفاد من تعريف الحكماء أنّ القدرة من الصّفات الذاتيّة و إنما اشتهر عنهم القول بالإيجاب و الفاعليّة بالعليّة و نفي الاختيار و غيرها ممّا دلّت القواطع من العقل و النقل على فساده، و تمام الكلام في مقام آخر.

ثمّ إنّ هذا التّمثيل كالأول على ما مرّ يحتمل كونه من التشبيه المركّب و المفرد، فالفرض على الاول تشبيه حال عامّة المنافقين و لا سيّما الّذين تعاقدوا و تحالفوا على صرف الولاية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فيما لهم أو ينالهم من الحيرة أو مقاساة الشدّة و الشّقوة اللّازمة و الخسارة الدّائمة بما يكابد من أخذته السّماء و أحاطت عليه بالسّحاب و المطر في ليلة متكاسفة الأنوار متراكمة الظّلمات فيها رعد قاصف، و برق خاطف، و خوف من الصواعق، و الاقتحام من المزالق

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة الاولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 370

و المزاهق، و على الثّاني تشبيه أنفسهم باصحاب الصّيب و ايمانهم الظاهري اللساني المخالط

للكفر و النّفاق و الشرك الباطني يصيب فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ من حيث أنّه و ان كان نافعا في نفسه لكنّه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرّا و خيره شرّا و إبطانهم الكفر و خبث السريرة حذرا من نكايات المؤمنين و ما يتطرّقون به من سواهم من عبدة الأوثان و جحدة الإسلام و الإيمان من القتل و النّهب و الأسر بجعل الأصابع في الآذان مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ من حيث إنّه لا يدفع عنهم شيئا من المضارّ بل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ* و لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ، و ما هم فيه من الوحشة و الحيرة و جهلهم بأمور الدّين و احكام المسلمين و عجزهم عن جواب السائلين مع مسارعتهم إلى التقدّم في الرياسات و أخذ الغنائم و غصب المناصب بأنّهم كلّما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف شديد من افتضاحهم بالكشف عن خبث سرائرهم و فساد نيّاتهم و بظهور جهل رؤسائهم بالاحكام كما روي أنّه قال قائل منهم: أيّ سماء تظلّني و أيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب اللّه بما لا أعلم «1».

و كان يقول: أقيلوني و لست بخيركم و عليّ فيكم «2».

فوا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطرا ضرعيها «3».

و كان الثّاني منهم يقرّ بعجزه و ضعفه كلّما ارتطم و اقتحم حتّى قال أزيد من سبعين مرّة لو لا عليّ لهلك عمر «4».

__________________________________________________

(1) تفسير القرطبي ج 1 ص 29- الكشّاف للزمخشري ج 3 ص 253.

(2) دلائل الصدق ج 1 ص 25.

(3) نهج البلاغة خ 3 المشهورة بالخطبة الشقشقية.

(4) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص

442- ربيع الأبرار للزمخشري.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 371

و كان يقول شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي «1» و حيث منع عن المغالات في الأمهار اعترضته امرأة فقال: كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في الحجال «2» إلى غير ذلك ممّا شاع نقله في كتب الفريقين.

قال الإمام عليه السّلام في تفسير الآية: ثمّ ضرب اللّه مثلا آخر للمنافقين فقال مثل ما خوطبوا به من هذا القرآن الّذي أنزلنا عليك يا محمّد مشتملا على بيان توحيدي و إيضاح حجّة نبوّتك و الدليل الباهر على استحقاق أخيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام للموقف الّذي وقفته و المحلّ الّذي أحللته و الرتبة الّتي رفعته إليها و السّياسة الّتي قلّدته إيّاها فهي كصيّب فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ.

قال: يا محمّد كما انّ في هذا المطر هذه الأشياء و من ابتلي به خاف فكذلك هؤلاء في ردّهم لبيعة عليّ عليه السّلام، و خوفهم أن تعثر أنت يا محمّد على نفاقهم كمن هو في مثل هذا المطر و الرعد و البرق يخاف أن يخلع الرّعد فؤاده أو ينزل البرق و الصاعقة عليه، فكذلك هؤلاء يخافون أن تعثر على كفرهم فتوجب قتلهم و استيصالهم يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يخلع قلوبهم مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ كما يجعل هؤلاء المبتلون بهذا الرعد أصابعهم في آذانهم إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة و وعيدك لهم إذا علمت أحوالهم يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ لئلّا يسمعوا لعنك و وعيدك فتغيّر ألوانهم و يستدلّ أصحابك أنّهم هم المعنيون باللّعن و الوعيد لما قد ظهر من التغيّر و الاضطراب عليهم فتقوى التّهمة عليهم فلا يأمنون هلاكهم بذلك على

يدك و في حكمك ثمّ قال وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم و أبدى لك أسرارهم و أمرك

__________________________________________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 493 و عنه البحار ج 40 ص 227- 228.

(2) الغدير ج 6 ص 97- 99 و عن أربعين الرازي ص 467 و فيه: حتّى المخدرات في البيوت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 372

بقتلهم.

ثمّ قال يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، و هذا مثل قوم ابتلوا ببرق فلم يغضّوا عنه أبصارهم و لم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلؤلؤه و لا ينظرون إلى الطّريق الّذي يريدون أنّ يتخلّصوا فيه بضوء البرق، و لكنهم نظروا إلى نفس البرق يكاد يخطف أبصارهم فكذلك هؤلاء المنافقون يكاد ما يشاهدونه في القرآن من الآيات المحكمة الدّالة على نبوّتك الموضحة عن صدقك في نصب أخيك عليّ إماما، و يكاد ما يشاهدونه منك يا محمّد و من أخيك عليّ من المعجزات الدّالات على أنّ أمرك و أمره هو الحقّ الّذي لا ريب فيه، ثمّ هم مع ذلك لا ينظرون في دلائل ما يشاهدونه من آيات القران و آياتك و آيات أخيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يكاد ذهابهم عن الحقّ في حججك يبطل عليهم ساير ما قد عملوه من الأشياء الّتي يعرفونها لأنّ من جحد حقّا واحدا ادّاه ذلك الجحود إلى أن يجحد كلّ حقّ فصار جاحده في بطلان ساير الحقوق عليه كالنّاظر الى جرم الشّمس في ذهاب نور بصره.

ثمّ قال: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ إذا ظهر ما قد اعتقدوا أنّه هو الحجّة مشوا فيه ثبتوا عليه و هؤلاء إذا نتجت خيولهم الإناث و نساؤهم الذكور، و

حملت نخيلهم و ذكت زروعهم و ربحت تجاراتهم و كثرت الألبان في ضروعهم قالوا يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعليّ عليه السّلام انّه مبخوت «1» مدال «2» فبذلك ينبغي أن نعطيه ظاهر الطاعة لنعيش في دولته وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي إذا نتجت خيولهم الذكور و نساؤهم الإناث و لم يربحوا في تجاراتهم و لا حملت نخيلهم و لا ذكت

__________________________________________________

(1) المبخوت: صاحب بخت.

(2) المدال (بكسر الميم و الدال المهملة): الرجل الحفي و بالفتح: الخسيس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 373

زروعهم وقفوا و قالوا هذا بشوم هذه البيعة الّتي بايعناها عليّا و التصديق الّذي صدّقنا محمّدا و هو نظير ما قال اللّه تعالى يا محمّد إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قال اللّه تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» بحكمه النّافذ و قضائه ليس ذلك لشؤم و لا ليمن.

ثمّ قال اللّه عزّ و جل وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ حتّى لا يتهيّأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت و أصحابك المؤمنون و توجب قتلهم.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و لا يعجزه شي ء «2».

و في المجمع، عن ابن مسعود «3» و جماعة من الصّحابة إنّ رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأصابهم المطر الّذي ذكره اللّه تعالى فيه رعد شديد و صواعق و برق فكلّما أضاء لهم الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه و إذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان ليتنا

قد أصبحنا فنأتي محمّدا فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه و أسلما و حسن إسلامهما فضرب اللّه شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة و انّهم إذا حضروا النّبي صلّى اللّه عليه و آله جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النّبي صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل فيهم شي ء كما كان ذلك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يعني إذا كثرت أموالهم و أصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه و قالوا دين محمّد صحيح، وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعني إذا هلكت أموالهم و أصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله فارتدّوا كما قام

__________________________________________________

(1) النساء: 78.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 66 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(3) هو عبد اللّه بن مسعود الهذلي المتوفى (32) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 374

ذلك الرّجلان إذا اظلم البرق عليهما «1».

ثمّ أنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ الثاني من التمثيلين أبلغ لأنّه أدلّ على فرط الحيرة و شدّة الأمر و لذا استحقّ التأخير، فانّهم يتدرّجون في مثل ذلك من الأهون إلى الأغلظ، بلا فرق بين أن يكون المثلان للصّنفين من المنافقين بان يشبّه بعضهم بأصحاب النار و بعضهم باصحاب المطر على حدّ أو في قوله: قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «2» أو لحالتي الضعف و الشدّة لكلّ منهم، و للترقّي من الأضعف إلى الأشدّ على أن يكون أو بمعنى بل كقوله: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «3» أو لمجرّد التسمية على ما مرّت إليه الإشارة.

[سورة البقرة(2): آية 21 ]

اشارة

تفسير الآية (21) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ افتتاح لتوجيه الخطاب على

وجه الالتفات إلى عامّة المكلّفين سعيدهم و شقيّهم، بعد عدّ أصنافهم و تقسيمهم الى اهل الإيمان و الكفر و النّفاق و الكشف عن حقيقة أحوالهم و مراتبهم و درجاتهم و ما يئول إليه أمرهم.

و ذلك للاهتمام بأمر العبادة و سببيّتها لنيل السّعادة، و فخامة شأنها و علوّ قدرها.

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 57- 58.

(2) البقرة: 135.

(3) الصافات: 147.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 375

مع أنّ في هذا الضرب من الالتفات تنشيطا للسّامع، و هزّا له إلى الاستماع، و استدعاء منه زيادة الإصغاء و الإقبال و جبرا لكلفة العبادة بلذّة المخاطبة.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه شيخنا الطبرسي عند آية الصّيام لذّة ما في النّداء أزال تعب العبادة و العناء «1».

فالآيات المتقدّمة لمّا كانت حكاية أحوال لم تحتج الى مزيد عناية.

و أمّا هذه الآية فلما فيها من التكليف المشتمل على الكلفة و المشقة روعي فهيا الانتقال من الغيبة إلى الحضور، على جهة الخطاب المشتمل على صنوف من الألطاف المقرّبة للعباد الموجبة للزلفى لديه في المبدء و المعاد.

و (يا) حرف تدل على النداء طبعا في أصله على ما قيل من أنّه في أصله كان صوتا تصدر عنهم طبعا إلى القصد إلى النّداء كلفظة آخ عند التّوجّع، و وضعا مترتّبا على ذلك للأعمّ من القريب و البعيد على ما هو الأظهر لأصالة الحقيقة، و عدم تبادر الخصوصيّة مع شيوع الاستعمال فيما يعمّهما.

و قيل: إنّه لنداء البعيد حقيقة أو حكما بتنزيل القريب منزلته، إمّا لعظمة المنادى و علوّه او مع استقصار الدّاعي لنفسه و استبعاده لها عن التأهّل لمقام المخاطبة كقوله: يا اللّه يا رحمن يا رحيم و غيرها من الأسماء الحسنى،

مع أنّه أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ و هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ، و إمّا لسوء فهم المخاطب و بعده عن إدراك المطلب، أو لغفلته و اشتغال قلبه بغير ذلك، أو لزيادة الاعتناء بالمدعوّ له و كثرة الاهتمام بالحثّ عليه، و الفرق بينه و بين السابق واضح حيث انّه لحالة راجعة إلى المخاطب، و هنا لمجرّد التنبيه على غموض المطلب.

و (أي) اسم مبهم توصّلوا به إلى نداء المعرّف باللام، لاستكراههم دخول (يا)

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 271.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 376

عليه حذرا من اجتماع حرفي التّعريف، فتوصّلوا إليه باسم مبهم يحتاج الى ما يزيل إبهامه، فجعلوه منادى في الصورة، و أجروا عليه وضعا موضحا له ما هو المقصود بالنّداء أعني المعرّف باللّام الّذي يزيل إبهامه، و يمتاز به ذات المنادى، و التزموا رفعه، مع جواز كون الصّفة المفردة تابعة للفظ المبني، و محلّه للتنبيه على أنّه المقصود بالنّداء، بل قد التزموا رفع، توابع المعرّف مفردة كانت أو مضافة لوجوب رفع متبوعه، و لان المعتبر في المعرب تبعيّة اللّفظ، و أقحمت بين الصّفة و موصوفها كلمة التنبيه، تأكيدا لما في حرف النّداء من الإيقاظ للمنادى، و الإعلام بأنّه هو المدعوّ فيقويه حرف التنبيه، و يعضده فضل اعتضاد، و تعويضا بها عمّا يستحقّه أي من المضاف إليه أو التنوين الّذي يقوم مقامه في الدّلالة عليه و للقصد إلى الإبهام لا مجال لشي ء منهما في المقام، و في لزوم تقديم حرف التنبيه دلالة أخرى على أنّ المعرّف هو المقصود بالنداء، و إن تضمّن تأخيره، في المقام وجوها من التأكيد المستفاد من تكرار الذكر و التدرّج من الإبهام إلى التّوضيح.

و اختيار لفظ البعيد على وجه

و تأكيد معناه بحرف التنبيه الّذي فيه إيقاظ بعد ايقاظ، بل في هذا الخطاب اشارة، أيضا إلى تكريم المخاطب و تشريفه كما يستفاد من يا أَيُّهَا النَّبِيُّ*، و يا أَيُّهَا الرَّسُولُ* و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* بل يا أَيُّهَا النَّاسُ، و إن اختلفت مراتب التشريف و درجات التكريم فيها باختلاف الوصف المعرّف كما هو واضح في النبوّة و الرّسالة و الايمان و أمّا الانسانيّة في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ فلدلالتها على التشريف الفطري و التكريم الجبلّي المشار اليه بقوله: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «1» الآية حيث إنّهم لو بقوا على مقتضى فطرتهم الأصليّة الّتي هي التّوحيد و الاستقامة في طريق العبوديّة لنالوا كلّ شرف و كرامة.

__________________________________________________

(1) الإسراء: 70.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 377

و لعلّ في تخصيص النّاس المشتقّ من النّسيان على ما في الخبر «1»، بالخطاب تذكيرا لهم بما نسوه في العهد المأخوذ عليهم في الميثاق فكأنّه قال: يا أيّها الناسون لعهود ربّكم تذكّروا و أرقدوا من نومة الغفلة، و أوفوا له بتلك العهود الّتي منها العبادة و التّقوى، أو أنّها هي بناء على اشتمالها على سائره.

و إن أخذت الناس من الأنس فالمراد المستأنسون بعبادة ربّهم بحسب الفطرة الاصليّة، فيعمّ، أو بحسب الفعليّة العمليّة فيخصّ الّذين أنسوا بعبادة ربّهم فباشروا روح اليقين، و استلانوا ما استوعره المترفون، و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، و قد مرّ أنّ القرآن له وجوه و ظهور و بطون لا تمانع بينها في الإرادة، و لما سمعت من اشتمال مثل هذا الخطاب مع بلاغته على وجوه التنبيه و التأكيد و التكريم كثر النّداء في الكتاب العزيز به ما لم

يكثر في غيره و بغيره، فانّ ما نادى اللّه سبحانه به عباده من حيث انّها أمور عظام ينبغي للمكلّفين أن يصغوا لها و يقبلوا بقلوبهم عليها حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ كي يفيد مزيد التّرغيب و الحثّ على الطّاعة و لذا قال تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ* «2» أيّ في القلوب و الأبدان، بل فيه خطاب لجميع مراتب وجود الإنسان كما

روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام على ما رواه المحقّق الدّواني و غيره أنّه قال يا نداء للرّوح و أيّ نداء للقلب و هاء نداء للنفس

، و هو محمول إمّا على ما سمعت، من أنّه حيث يعتنى بكمال توجّه المخاطب بيا أيّها المشتملة على وجوه المبالغة طلبا لإقباله بكلّية قلبه و قالبه و ظاهره و باطنه و إمّا على ظاهره من حيث

__________________________________________________

(1) في العلل عن الصادق عليه السّلام: سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى قال اللّه: لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ تفسير الصافي في ذيل آية (115) من سورة طه.

(2) البقرة: 66.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 378

الدّلالة المأخوذة في البطون على الوجه المقرّر في محلّه، فالخطاب النازل من سرادق قدس العظمة و الرّبوبيّة يتوجّه أوّلا إلى ما هو الألطف الأشرف الأصفى الأعلى من مراتب الوجود لبطلان الطّفرة و تبعيّة الأسفل للأعلى على وجه المظهريّة ثمّ المراد بالرّوح هو مقام الفؤاد المعبّر عنه بالخطاب الفهواني و رتبة المكافحة و حضرت المشيّة الجزئيّة و النهر المنشعب من البحر الأبيض، و اختصاصه باداة النداء لقيامه به قياما وجوديّا في الخطاب التكويني كما أنّ اختصاص القلب بأيّ لسرعة انقلابه الّذي ناسب الإبهام الكلّي، و النفس بحرف التنبيه المجانس لضمير الغائب لكمال

بعدها عن ساحة القرب و الحضور و دنوّها من عالم الغفلة و الغرور.

و النّاس من أسماء الجموع المحلّاة باللّام الشاملة بعمومها لمن دخل تحت هذا النّوع بلا فرق بين الذكر و الأنثى و الحرّ و العبد و الصّغير و الكبير و العاقل و المجنون و السعيد و الشقي، إلا أنّه قد خرج عن شموله من ارتفع عنه التكليف بالدّليل العقلي و السمعي فيبقى الباقي بلا فرق بين المؤمن و الكافر.

و أمّا

ما تظافر نقله عن ابن عباس و الحسن «1» و علقمة «2»

من أنّ ما في القرآن من يا أَيُّهَا النَّاسُ فانّه نزل بمكّة و ما فيه من يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* فانّه نزل بالمدينة

فلم يثبت عندنا فيه شي ء، و على فرضه فلا دلالة فيه على اختصاص الخطاب على الأوّل بمشركي مكّة، و على الثاني بالمؤمنين لأنّه تخصيص من غير دليل مضافا إلى كثرة المسلمين بمكّة و الكفّار بالمدينة، على أنّهم قد صرّحوا بأنّ كثيرا من السور المشتملة على الخطاب الأوّل مدنيّة كسورة البقرة و النّساء و الحجرات و غيرها و كذا العكس، و التكلّف بكون المراد بالمكّي في هذا المحكي ما كان خطابا لمشركي مكّة

__________________________________________________

(1) هو الحسن بن يسار البصري التابعي المتوفى بالبصرة سنة (110) ه

(2) هو علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي المتوفى (120) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 379

و ان نزل بالمدينة لا المشهور و هو ما نزل قبل مهاجرته صلّى اللّه عليه و آله من مكّة، أو بالتفكيك بين الآية و السّورة بأنّ كون إحداهما مكيّة لا ينافي كون الأخرى مدنيّة ممّا لا داعي إلى التزام بشي ء منهما.

و كأنّ الّذي دعاهم إلى ذلك ما قيل من توهّم أنّ هذا

الخطاب لا يجوز أن يتوجّه إلى المؤمنين بالانفراد أو بمشاركة الكفّار و ذلك لأنّ أمرهم حينئذ بالعبادة يكون طلبا لتحصيل الحاصل و هو محال، و ضعفه واضح لصحة طلبها منهم باعتبار الأنواع و الأفراد المتكثرة المتجدّدة و تحصيل الزيادة و الثبات و المواظبة و التوجّه إليها بالكليّة و هذه المعاني مشتركة في صدق العبادة عليها حقيقة.

و دعوى كونها مجازا في بعضها غير مسموعة بعد التبادر و عدم صحّة السلب و غيرها من أمارات الحقيقة، بل الأظهر عدم اختصاصها بأفعال الجوارح فتشمل العبادات القلبيّة من الإيمان و المعرفة و مجاهدة النفس لتحصيل الأخلاق الفاضلة.

و من هنا يضعف ما ربّما يقال من أنّ القول بشمول الخطاب الكفّار و غيرهم يقتضي استعمال لفظ العبادة في حقيقتها و مجازها إذ المراد بالنّسبة إلى الكفّار إحداثها و الشروع فيها و إلى المسلمين الزيادة و المواظبة عليها.

و أضعف من ذلك ما قيل من امتناع طلبها من الكفّار الفاقدين لما هو شرط في صحّتها قطعا و هو الإيمان فطلبها منهم حال انتفاء شرطها تكليف بالمستحيل، و هو ممتنع عقلا و شرعا.

إذ فيه بعد وضوح مقدورية الشّرط أنّ التكليف انّما هو حال انتفاء الشرط لا بشرط انتفائه، و بين المعنيين فرق بيّن ألا ترى أنّ الصلاة المشروطة بالطّهارة مقدورة للمكلّف فيصحّ تعلّق التكليف بها حال عدم الطّهارة لا بشرط العدم.

و كأنّ هذه الشبهة و نحوها من الأوهام هي الّتي ألجأت أبا حنيفة إلى القول بعدم كون الكفّار مكلّفين بالفروع، بل ربما سرى الوهم في ذلك إلى بعض المحدّثين

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 380

من أصحابنا المتأخرين كالمحدّث الكاشاني «1» و الشيخ يوسف البحراني «2» بل قد يستظهر القول به من المحدّث الأمين

«3» الأسترابادي حيث ذكر في موضع كتابه «الفوائد المدنيّة» أنّ حكمته اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالنّاس على التّدريج بأن يكلّفوا أوّلا بالإقرار بالشهادتين، ثمّ بعد صدور الإقرار منهم مكلّفون بسائر ما جاء به النّبي صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال بعد ذكر جملة من الأخبار الآتية و اخبار الميثاق و الفطرة أنّه يستفاد منها أن ما زعمه الأشاعرة من أنّ مجرد تصوّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهاميّة بخالق العالم، و انّ له رضى و سخطا، و انّه لا بدّ من معلم من جهته تعالى ليعلّم الناس ما يصلحهم و ما يفسدهم كاف في تعلّق التكليف بهم، ليس بصحيح.

و على كلّ حال فقد استدلّ البحراني و غيره على ذلك بأصالة البرائة بعد انتفاء الدّليل الّذي هو دليل العدم، و بأنّ التكليف بالأحكام موقوف على معرفة المكلف بها و المبلّغ لها و التّصديق بهما إذ متى كان جاهلا بهما و لم يعرفهما و لم يصدّق بهما كيف يجب عليه العمل بشي ء لا يعرف الآمر به و لا المبلّغ له، و بتطابق العقل و النقل على معذورية الجاهل بالحكم الشرعي جهلا ساذجا و من البيّن أنّ الكفّار جاهلون به، نعم هم مكلّفون بالبحث و النظر كغيرهم من سائر الجهّال إذا علموا وجوبهما بالعقل و الشرع.

و بجملة من الأخبار

كصحيح زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام، أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق فقال إنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إلى النّاس أجمعين رسولا و حجّة للّه على خلقه في أرضه فمن أمن باللّه و بمحمّد رسول

__________________________________________________

(1) الشيخ الأجلّ المحدث العارف المفسّر محمد بن المرتضى الكاشاني المتوفى (1091)

ه

(2) هو الشيخ يوسف بن احمد بن ابراهيم البحراني صاحب الحدائق المتوفى (1186).

(3) هو محمد أمين بن محمد شريف الأخباري الاسترابادي المتوفى بمكة المكرّمة سنة (1033).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 381

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اتبعه و صدّقه فانّ معرفة الامام منّا واجبة عليه، و من لم يؤمن باللّه و رسوله و لم يتبصّر لم يصدّقه و لم يعرف حقّهما فكيف يجب عليه معرفة الامام و هو لا يؤمن باللّه و رسوله و لم يعرف حقّهما «1» ، الخبر.

و التقريب أنّه متى لم تجب معرفة الامام الّذي يؤخذ منه الاحكام فكذا معرفة سائر الفروع بالفحوى و الأولويّة القطعيّة.

و ما رواه القمي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ «2» قال: يا أبان أ ترى أنّ اللّه تعالى طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به، حيث يقول: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الآية. قال أبان: قلت له: كيف ذلك جعلت فداك فسّره لي فقال: ويل للمشركين الذين بالإمام الأوّل، يا أبان إنما دعى اللّه العباد للايمان به فإذا آمنوا باللّه و رسوله افترض عليهم الفرض «3».

و ما رواه شيخنا الطبرسي في الاحتجاج في حديث الزنديق الّذي جاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام مستدلا بآي من القرآن على تناقضه و اختلافه حيث قال عليه السّلام فكان أوّل ما قيدهم به: الإقرار بالوحدانيّة و الربوبيّة و الشهادة بأن لا اله إلّا اللّه فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنبوّة و الشهادة بالرسالة فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ

،

الخبر «4».

__________________________________________________

(1) اصول الكافي ج 1 ص 180- 181 ح 3 كتاب الحجّة.

(2) فصلت: 6- 7.

(3) تفسير القمي ج 2 ص 262.

(4) الإحتجاج ج 1 ص 379.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 382

هذا مضافا إلى الأخبار الدّالة على وجوب طلب العلم «1» على المسلم، حيث علق الحكم عليه دون مطلق المكلّف أو البالغ العاقل، مع أنّه لم يعهد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه أمر واحدا ممّن دخل في الإسلام في زمانه بالغسل من الجنابة مع أنّه قلّ ما ينفكّ أحدهم في تلك الازمنة المتطاولة منها، و لو أنّه أمر واحدا فضلا عن عامّة المكلّفين بذلك لشاع و ذاع، و أمّا ما

رواه العلّامة في «المنتهى» عن قيس «2» بن عاصم و أسيد «3» بن حضير ممّا يدلّ على أمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله بالغسل لمن أراد أن يدخل في الإسلام

فليس في كتب أخبارنا، و الظاهر أنّه عامي فلا ينهض حجّة، و يدلّ عليه أيضا اختصاص الآيات القرآنيّة ب الَّذِينَ آمَنُوا*.

و أمّا ما ورد من قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ* فهو مع قلّته محمول على المؤمنين حمل المطلق على المقيّد، و العام على الخاص، كما هو القاعدة المتّفق عليها بينهم هذا غاية ما استدلّوا به في المقام.

و الجواب عن الأوّل أنّ الأصل منقطع بالأدلّة الدّالة على عموم التكليف في زمن الخطاب كما في الآية و في قوله: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «4»، و قوله:

أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ «5» بل و قوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ* «6» و نحوها تدلّ.

على اشتراك الجميع في التكليف، فإنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة،

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج

1 ص 171 ج 24 عن أمالي الشيخ.

(2) قيس بن عاصم بن سنان المنقري التميمي المتوفى نحو سنة (20) ه

(3) أسيد بن حضير بن سماك الانصاري المتوفى سنة (20) او بعدها.

(4) آل عمران: 97.

(5) الحج: 27.

(6) البقرة: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 383

و حرامه حرام إلى يوم القيامة و غير ذلك من أدلة الاشتراك.

و عن الثّاني أنّه لا دليل على توقّف التكليف على معرفة الأمر أو المبلّغ و قضيّة الأصل عدمه، مع أنّ المعرفة غير التصديق، فربّما يعرف اللّه و النّبي و لا يصدق بهما كما هو المعلوم من حال كثير ممّن أصرّوا على تكذيب النّبي صلّى اللّه عليه و آله وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1»، و أمّا من حيث الأوّل إلى الجهل بوجوب الطّاعة الموجب للجهل بالحكم فهو على فرضه مانع آخر غير الكفر.

و منه يظهر الجواب عن الثّالث أيضا فانّ الجهل الساذج غير ملازم للكفر وجودا و عدما، بل كلّ منهما أعمّ من الاخر من وجه، فمانعيّة أحدهما لا يستلزم مانعيّة الآخر.

و أمّا الأخبار فدلالتها ضعيفة، أمّا صحيح زرارة فلانّ القدر المعلوم منه عدم وجوب معرفة الإمام على وجه الانفراد و إن وجبت بعد معرفة التوحيد و النبوّة نظير ما ورد من الأخبار من وجوب الظهرين في الوقت المشترك إلّا أنّ هذه قبل هذه، فالمعارف الثلاثة مشتركة في الوجوب على المكلّفين إلّا أنّ بعضها أقدم من حيث النقدين، و توقّف اللّاحق على السابق إنّما هو من حيث الوجود و الصحّة لا من حيث الوجوب و التكليف.

و منه يظهر الجواب عن خبر القمي أيضا و يؤيّده كون جملة «و هم يشركون به» حالية

في الخبر كجملة «و هو لا يؤمن باللّه و رسوله» في الخبر السّابق.

و أمّا خبر الإحتجاج فالاحتجاج به أجنبيّ عن المقام لوضوح أنّ المقصود الإشارة إلى ترتيب النزول و التبليغ في بدو الشريعة، حيث إنّ المصلحة قد اقتضت

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 384

التدرّج في تبليغ الأحكام و إعلام المكلّفين بها، و أين هذا ممّا هو المقصود بالبحث في المقام.

و أمّا وجوب طلب العلم على المسلم فلا يقضي بعدم وجوبه على غيره إلّا باعتبار مفهوم اللقب أو الوصف الّذي لا عبرة به في المقام، بعد ظهور أنّ فائدة التّعليق كون الطّلب من لوازم الإسلام، مع أنّ معرفة التوحيد و النبوة من أعظم العلوم قدرا و أسناها رتبة، و وجوبها على الكفّار بديهيّ جدّا.

و امّا عدم وجوب الغسل على من أسلم فغير واضح، و لعلّ المعلوم في تلك الأزمنة خلافه و يعضد العامّي المتقدّم بل الإجماع بقسميه على وجوبه على الكافر إذا أسلم، لأنّه من قبيل الأسباب الثّابتة في غير المكلّفين ايضا كالصّبي و المجنون، نعم وقع الإشكال في صحّته من المخالف مطلقا أو بشرط تعقّب الإستبصار أو موافقته لمعتقده أو للمذهب الحقّ أيضا و هو مقام آخر، و على فرض التّسليم فهو من الأحكام الوضعيّة المرتفعة بالإسلام، فانّه يجبّ ما قبله، و لذا لا يجب عليه بعده شي ء من العبادات المفترضة مع قيام الإجماع على استقرارها عليه قبل ذلك، بل في تلك الاخبار الدّالة على الجبّ دلالة واضحة على المطلوب أيضا فلا تغفل.

و أمّا ما ذكره من حمل المطلق على المقيّد أو المقام على الخاصّ في قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ»* و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»* فغريب جدّا، و كانّه أجنبيّ من

العلم رأسا كما لا يخفى على المطلع بمورد القاعدة حسبما قرّرت في الأصول.

و بالجملة فقضية القواعد المقرّرة و أدلّة الاشتراك المذكورة في محلّها، و عموم الخطابات من الآيات و الأخبار إنّما هو عموم التكليف مضافا إلى قوله وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1» الآية حيث دلّت على الذّم و استحقاق العقاب

__________________________________________________

(1) فصّلت: 6- 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 385

بترك الزكاة و قوله: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «1» و قوله: فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى «2» و قوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «3» فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «4»، الآيتين إلى غير ذلك من العمومات و الإطلاقات.

بل من البيّن أنّه لو لم يكونوا مكلّفين بالفروع للزم اتصاف مثل الزنا و اللّواط و شرب الخمر و سفك الدّماء و قتل الأنبياء و نهب الأموال و غيرها من المحارم في حقّهم بالإباحة فلا يجوز الاعتراض عليهم في شي ء من ذلك و هذا كما ترى ممّا يستنكف من الالتزام به الملاحدة و الزنادقة و الدّهريّة فضلا عن الموحّدين و ارباب الشرائع.

و ايضا لو كان حصول الشرط الشرعي شرط التكليف لم تجب الصلاة على المحدث و لا شي ء من الأمور المرتبة قبل سابقه حتّى أكبر قبل اللّه و اللّام قبل الهمزة، و ذلك معلوم البطلان بالإجماع، على ما ادعى عليه الفاضل «5» و غيره، بل ذكر أنّه يلزم أن لا يعصي أحد، و لا يفسق، لأنّ التكليف، مشروط بالإرادة، و الفاسق و العاصي لا يريدان الطاعة، و لا يكونان مكلّفين بها، فينتفي الفسق و العصيان و هو باطل بالإجماع.

بل لا ريب في انعقاد الإجماع في أصل المسألة أيضا حسبما ادعاه غير واحد من الأجلّة من دون أن يقدح

فيه ما سمعت.

__________________________________________________

(1) المدثر: 43.

(2) القيامة: 31.

(3) المطففين: 1.

(4) الزلزال: 7- 8.

(5) هو العلامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر المولود (648) و المتوفى (726) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 386

و أما ما ذكره الفضل بن روزبهان «1» من أنّ المراد من تكليف الكفار بالفروع أنّهم يعذّبون في الآخرة بترك فروع الأعمال كما انّهم يعذّبون بترك أصولها لا أنّ الشّارع يدعوهم إلى الشرائع و يأمرهم بالفروع قبل أن يصدر منهم الإيمان، فانّ ذلك يؤدّي إلى التكليف بتحصيل الشروط قبل حصول الشّرط و هو باطل.

ففيه أنّه و هم واضح و غفلة بيّنة فإنّ قضيّة ما سمعت إثبات التكليف لا مجرّد التّعذيب بل هو المصرّح به في كلمات الفريقين عند تحرير محلّ النزاع و بيان الأدلة مع اشتمال قوله فانّ ذلك على مغالطة بيّنة فانّ قوله قبل حصول الشرط إن كان ظرفا للتّكليف فلا بأس به و نمنع بطلانه، أو للتّحصيل فنمنع الملازمة كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ شموله عموم النّاس لعامّة المكلّفين، و أمّا شموله لغير بني آدم من الملائكة و الجنّ و ساير الحيوانات و النباتات و غيرها من الماديّات و المجرّدات فلا ينبغي القول به و لا الإصغاء إلى قائله، و ان قلنا بكون الجميع مكلّفين مشتغلين بالعبادة و التّسبيح و غيره، حسبما يستفاد من الآيات الكثيرة و الأخبار المتواترة، لأنّ اللّفظ بحسب الوضع اللّغوي و العرفي موضوع للنوع الخاص فلا يعمّ غيره و ان صحّ اتّصافه بالطاعة و العبادة، و إنّما المقصود في المقام الإشارة إلى أنّ الكفار كلهم منقادون مطيعون في مقام امتثال الأمر التكوينيّ و ان كانوا عاصين باعتبار الأمر التّشريعي و

لعلّ الآية يشملهما ظهرا و بطنا و تعليقها على اسم الرّب دون غيره من أسمائه الحسنى للتنبيه على أنّ العبادة التكوينيّة من تجلّيات تربيته التّامة العامة في أصل الخلقة و الإيصال إلى الكمال الوجودي بمقتضى الرحمة الرّحمانيّة المتّحدة بالنّسبة إلى السعداء و الأشقياء و انّ العبادة

__________________________________________________

(1) هو فضل بن روزبهان الخنجي الشيرازي الاصفهاني ثم القاساني الشافعي كان حيّا في سنة (909).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 387

التشريعيّة واجبة عليكم بما منّ عليكم من فضله الجميل و إحسانه الجزيل و رحمته الواسعة و نعمته الجامعة شكرا للمنعم الوهّاب، و عبوديّة لربّ الأرباب.

ففي تعليق الحكم على الرّب و إضافته إلى ضمير الخطاب وجوه من اللّطف و التقريب و الدّعاء إلى رضوانه، و ازاحة العلّة في عبادته و الإشارة إلى كونها جزءا لنعمته.

و في تفسير الامام عليه السّلام قال قال عليّ بن الحسين عليهم السّلام في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني سائر الناس المكلّفين من ولد آدم اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أي أطيعوا ربّكم من حيث أمركم من أن تعتقدوا أن لا إله إلّا هو وحده لا شريك له و لا شبيه و لا مثل، عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل حكيم لا يخطل، و أنّ محمّدا عبده و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و انّ آل محمّد أفضل آل النبيّين و انّ عليّا أفضل آل محمّد و انّ أصحاب محمّد المؤمنين منهم أفضل صحابة المرسلين و انّ أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل أمم المرسلين «1» الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة للربّ جرت عليه للتّعظيم و التنبيه على الاستحقاق من الطرفين، و التعليل للأمر بذكر الصغرى للكبرى المقرّرة في العقول من وجوب شكر

المنعم، و هو شروع في الاستدلال على الرّبوبيّة المطلقة الجامعة بين التوحيد و الصّانعيّة، و وجوب العبادة بذكر الآيات الدّالة عليها كما قال سبحانه:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «2» فقدّم الأنفسية على الآفاقية و المتعلّقة بأصل الخلقة لكلّ أحد على خلقة غيره لمراعاة الترتيب في كل ذلك.

و احتمال اختصاص الخطاب بالمشركين المعتقدين أو المظهرين لربوبيّتين

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 66.

(2) فصّلت: 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 388

ربوبيّة اللّه و ربوبيّة آلهتهم، فيكون المراد بالربّ اسما يشترك فيه ربّ السموات و الأرض و الآلهة الّتي كانوا يسمّونها أربابا، و تكون الصّفة حينئذ موضحة مميّزة بعيد جدّا إذ مع أنّه تخصيص في الخطاب من دون مخصّص، لا ينبغي حمل الربّ مطلقا و مضافا على آلهتهم سيّما في مثل المقام، و قد أنشد بعضهم طعنا على بعض ما سمّوه أربابا.

أ ربّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب و الخلق في الأصل التقدير يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرت له و خلق النعل إذا قدّرها و سوّاها بالمقياس و خلقت الأديم إذا قدّرته قبل القطع، و منه ما قيل:

ما خلقت إلّا فريت و لا وعدت إلّا وفيت، و المراد به إيجاد الشي ء على تقدير و استواء.

قال الأزهري «1»: لا يجوز اطلاق هذه الصّفة بالألف و اللّام لغير اللّه سبحانه، و الخلق إذا اطلق مصدرا أو فعلا يعمّ المشيّة، و الإرادة، و القدر، و القضاء، و الإمضاء، و غيرها و هي الأمور الخمسة أو السّتة أو السّبعة الّتي لا يكون شي ء في الأرض و لا في السّماء إلّا بها كما في الأخبار المعتبرة «2»

و كلّها من مراتب المشيّة، و يراد بالخلق عند الإطلاق جميعها و لذا

قال الامام عليه السّلام في تفسيره: أ عبدوه بتعظيم محمّد و عليّ ابن ابي طالب الَّذِي خَلَقَكُمْ نسما و سوّاكم من بعد ذلك و صوّركم أحسن صورة «3».

و إذا قوبل بالأمر فالمراد به عالم المعقول الّذي هو الوجود المقيّد و بالأمر الفعل الّذي هو الوجود المطلق، أو هو الماديات و الأمر المجرّدات، أو هو إيجاد

__________________________________________________

(1) الازهري: ابو منصور و محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي الشافعي المتوفى (370).

(2) اصول الكافي ج 1 كتاب التوحيد ص 149 ج 1.

(3) تفسير البرهان ج 1 ص 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 389

العين و الأمر إيجاد الكون على ما تسمع تمام الكلام في تفسير قوله لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ «1» و قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «2».

و إذا قوبل بالتقدير و التّصوير و نحوهما فالمراد به بعض مراتب المشيّة كما في قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «3»، و قوله: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «4»، و إطلاقه في المقام باعتبار شموله لاختراع الكون و ابتداع العين بجميع مراتبها المفصّلة المتعلّقة بالرّوح و العقل و النّفس و الطبيعة و المزاج و المثال و الجسم الفلكي و العنصري و غيرها من متعلّقاتها و أجزائها المؤتلفة في الوجود الانساني المسمّى بهيكل التوحيد في جميع مراتبه الكونيّة و العينيّة و من هنا يصحّ بناء على التأويل توجيه الخطاب الجمعي إلى جميع الذرّات الوجوديّة الشاعرة المدركة المجتمعة في هويّة كلّ فرد من افراد هذا النوع لتعلّق الخلق و التّربية بكلّ ذرّة منها فضلا من تعلّقاتها و اضافاتها و ارتباطاتها و ايتلافها و نسبها

و غير ذلك من متعلّقاتها.

وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، معطوف على الضمير المنصوب في خلقكم، و المراد بالموصولة الدّالة على العموم جميع ما خلقه اللّه تعالى قبل المخاطبين أو قبل كلّ مخاطب من المجرّدات و الماديات الفلكيّة و العنصريّة و المواليد الّتي منها الحيوانات و بنو آدم، و فائدة العطف التّنبيه على العظمة و عموم القدرة و سعة الرّحمة و غيرها ممّا يدلّ على استحقاقه للعبادة بمعنى المفعول، و استحقاقهم لها بمعنى الفاعل، مع ما تقدّم في خلق الّذين من قبلهم من إتمام النّعمة عليهم نظرا إلى الارتباطات المرعية

__________________________________________________

(1) الأعراف: 54.

(2) الإسراء: 85.

(3) الحشر: 24.

(4) الأعلى: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 390

بين أجزاء العالم و اشخاص بني آدم بحيث يرتبط وجود كلّ جزء أو شخص منها بسائر الاجزاء و الأشخاص على ما يستفاد من بعض الأخبار شواهد الاعتبار، و الجملتان صلتان للموصولتين، و اعتبار تقرّرها في ذهن المخاطب كالصفة غير واضح مع أنّ الخطاب للكافة فيسوّغه التغليب للأشرف، و لذا أخرجتا مخرج المقرّر عندهم أو للتنبيه على وضوحهما بالنظر الى الاعتبارات العقليّة و الآيات الآفاقيّة و الأنفسية الّتي منها ما تعرض لها في الآية و الّتي تليها لمجرّد التذكار او لاعتراف الكافة بهما اعترافا فطريّا جبلّيا كما قال: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* «2» أو لتمكّنهم من العلم بهما بأدنى نظر.

و قرأ ابن السّميفع «3»: و خلق من قبلكم.

و قرأ زيد بن علي «4»: و الّذين من قبلكم بالموصولتين، و استشكل بأنّ الموصول الثّاني مع صلته مفرد، فلا يصلح أن يكون صلة للأوّل، و الحمل على التأكيد متعذّر،

لوجوب كونه بإعادة اللّفظ الأوّل في اللفظي و بألفاظ مخصوصة في المعنوي، و غاية ما يتكلّف له أنّه تأكيد لفظي إلّا أنّه قد يعدل فيه عن اللّفظ الاول إلى ما هو بمعناه استبشاعا للتكرار كما هو مذهب الأخفش «5» فيما إن زيد قائم، و أحد

__________________________________________________

(1) الزخرف: 87.

(2) لقمان: 25.

(3) هو محمد بن عبد الرّحمن بن السّميفع بفتح السين ابو عبد اللّه اليماني قرأ على ابن كثير المتوفى (120) ه

(4) زيد بن علي بن الحسين عليهم السّلام الشهيد بالكوفة سنة (121) ه

(5) هو ابو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط البصري المتوفى (215) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 391

الوجهين في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «1» و قوله: فصيّروا مثل كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، و إن كان المشهور في أمثال ذلك الحكم بالزّيادة دون التأكيد، و من ثمّ قيل: الأولى أن يجعل كلمة من زائدة على مذهب الكسائي على ما يحكى عنه، أو موصوفة فالظّرف فيه خبر المبتدأ محذوف هو صدر الصّلة أيّ و الّذين هم الناس أتوا قبلكم، و فيه تأكيد و إبهام و تنبيه على أنّ خلق من قبلهم أدخل في القدرة لما فيه من تفحيمهم أو موصولة و حذف صدر الصلة كثير الدّور في كلامهم أي و الّذين هم الّذين من قبلكم، و على كلّ حال فالخطب فيه سهل بعد عدم ثبوت صحّة النقل، و عدم حجيّة قول المنقول عنه، و عدم كونها من السّبع أو العشر، و عدم شموله قوله عليه السّلام «اقرأ كما يقرأ الناس» «2» لمثله بعد ظهور شذوذه نقلا و عملا.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: قال الامام عليه السّلام لها و جهان أحدهما خلقكم و خلق الّذين من

قبلكم لعلكم كلّكم تتّقون، أيّ لتتّقوا كما قال اللّه تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «3» و الوجه الآخر اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أي اعبدوه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النّار «و لعلّ» من اللّه واجب لأنّه أكرم من أن يعنّي عبده بلا منفعة و يطعمه من فضله ثمّ يخيّبه، ألا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل اخدمني لعلّك تنتفع بي و بخدمتي و لعليّ أنفعك بها فيخدمه ثم يخيّبه و لا ينفعه فاللّه عزّ و جل أكرم في أفعاله و أبعد من القبيح في أعماله من عباده «4».

أقول الوجهان مبنيّان على كون «لعل» للتّعليل، و هو و إن أنكره جماعة من

__________________________________________________

(1) الشورى: 11.

(2) الكافي ج 2 ص 633 ح 23.

(3) الذاريات: 56.

(4) تفسير البرهان: ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 392

أهل العربيّة نظرا إلى أنّه لم يثبت في اللّغة إلّا أنّ المحققين منهم كالكسائي «1» و الأخفش و ابن الأنباري «2» و غيرهم على إثباته، و عن قطرب «3» و أبي علي «4»: أنّ لعلّ الواقعة في كلامه تعالى محمولة عليه، و ذلك كما يقول القائل اقبل قولي لعلك ترشد، و ليس من ذلك على شكّ بل إنّما أراد اقبل قولي كي ترشد، و انّما سلك هذا الأسلوب ترقيقا للفظه و تقريبا له من قلب من ينصح له و مثله قوله:

و قلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا نكفّ و وثّقتم لنا كلّ موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمح سراب في الملا متألّق فانّ المعنى كفّوا لنكفّ، و لو كان شاكّا لما قال:

و وثّقتم لنا كلّ موثق.

و بالجملة فالشواهد على كونها للتعليل كثيرة، بل المنكرون له كالزمخشري «5» و غيره ربما أثبتوه في كثير من الموارد كقوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «6»، و قوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «7» و قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* «8»، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* «9» و غير ذلك، و التعليل بالحكم و المصالح و وجوه محاسن الفعل غير عزيز في الشرعيّات، و نفي الغرض إنّما هو فيما يوجب الاستكمال بالأفعال فيكون التّقوى الّذي هو

__________________________________________________

(1) ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي المقرئ النحوي المتوفى (189) ه

(2) ابن الأنباري: محمد بن القاسم البغدادي المتوفى (328) ه

(3) قطرب ابو علي محمد بن المستنير اللغوي النحوي المتوفى (206) ه

(4) هو أبو علي الحسن بن أحمد الفسوي اللغوي المتوفى (377) ه

(5) ابو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري المعتزلي المتوفى (538) ه

(6) طه: 44.

(7) السجدة: 21.

(8) البقرة: 189.

(9) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 393

الغاية بمعنى العبادة، و قد شاع منهم التّعليل بالغاية، أو انّ المراد به أعزّ أفرادها و أقصى مراتبها و يكون المراد التنبيه على أنّ المقصود الغائي هو ذلك، فإن لم يتيسر منكم و لو بتقصير أو تفريط أفسدتم به استعدادكم الذّاتي و غيّرتم به فطرتكم الأصليّة فلا أقل من التوسّل و التّعبد بسائر العبادات.

هذا كلّه بناء على الوجه الأوّل، و أمّا على الثّاني فلا بدّ من اعتبار التّغاير كما أشير إليه في الوجه الثّاني من الأوّل إن أريد به نيل درجة التقوى، و أمّا إن أريد به النّجاة من النّار كما في الخبر «1» فالخطب سهل،

و يحتمل كون لعلّ بمعناه الحقيقي الّذي هو إنشاء توقّع مرجوّ أو مخوف راجع إلى المتكلّم أو المخاطب أو غيرهما.

و على هذا تكون الجملة حالا من الضّمير في «اعْبُدُوا» كأنّه قال: اعبدوا ربّكم راجين أن تفوزوا بالتقوى الّذي هو أقصى درجات السالكين، و قرّة عيون المهتدين، أو مشفقين من عذابه سبحانه، فانّ الرّجاء و الخوف، جناحان للطالب السالك يصل بهما إلى ما ساعدته العناية الربّانيّة و الهداية الامتنانيّة السبحانيّة.

و فيه على أحد الوجهين دلالة على جواز كون المقصود من العبادة الفوز بالثواب أو النّجاة من العقاب كما هو المذهب المشهور المنصور المستفاد من الآيات كقوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً «2»، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً «3» يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ «4» أو من مفعول خلقكم و المعطوف عليه و إن غلب المخاطبين على الغائبين أو على ذوي العقول منهم، و المعنى انّه خلقكم و من

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 67.

(2) السجدة: 16.

(3) الأعراف: 55.

(4) الإسراء: 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 394

قبلكم في صورة من يرجى منه الفوز بالتقوى لتردّد أمرهم باختيارهم بين الهدى و الضّلالة بعد أن نصب لهم و راعى التّقوى و الألطاف المقتضية للطّاعة من الأمر و النّهي و الوعد و الوعيد مضافا إلى الآيات الدّالة على التّوحيد، بحيث لم يبق للمكلّف عذر و صار حاله في رجحان اختياره للطّاعة مع تمكّنه من المعصية كحال المرتجى منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه مع تمكنه من خلافه، و لذا استعيرت كلمة الترجّي للدّلالة على الحالة المخصوصة، و أمّا الترجّي بالمعنى الحقيقي فلا يليق بالعالم بالعواقب، نعم ربما جاءت لعلّ على سبيل الإطماع في مواضع

من القرآن تنزيلا لإطماعه و هو المبتدئ بالنّعم قبل استحقاقها منزلة وعده المحتوم و فاؤه به تنبيها على أنّه الجواد الّذي يعطي لا لغرض و لا عوض، بل لمجرد الاستعداد و قابليّة المحلّ، فكيف مع سبق الاطّلاع و تعلّق الرّجاء، و اشعارا على عظمة جلاله و كبريائه، حيث أنّ من ديدن الملوك و العظماء أن يقتصروا في مواعيدهم الّتي يوطّنون أنفسهم على إنجازها أن يقولوا عسى و لعلّ و غيرهما من الكلمات المشعرة بالنّجاح، فإذا ظفر الطّالب بشي ء منها فقد تحقّق عنده الفوز بالمطلوب و هذا المعنى من الإطماع هو الّذي عناه الإمام عليه السّلام

بقوله: «و لعلّ» من اللّه واجب

، لأنّه أكرم من أن يعنّي عبدا بلا منفعة، و يطمعه من فضله، ثمّ يخيّبه إلى آخر ما مرّ «1».

و هذا بناء على أنّ المراد بالتقوى الحذر من النّار على ما فسّره به، و أمّا إن أريد به نيل الدّرجة فهو غير مناسب للمقام لكون التّقوى من فعل العبيد إلّا باعتبار توفيقه سبحانه، نعم يناسبه الإطماع بمعنى آخر و هو ما يقابل التحقيق حذرا عن

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 395

إتّكال العبد على علمه و الأمن من يأسه سبحانه كما في قوله تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «1» و ذلك للاشارة إلى شرف مقام التقوى، و انّ العبد لا يناله بمجرّد العبادة، بل لا بدّ أن يكون مع اجتهاده فيها و المداومة، عليها واجبا لنيل البغية على وجل من أن يجيبه بالخيبة.

يستدل بهذه الآية على أمور مهمّة

ثمّ أنّه ربما يستدلّ بالآية على أمور:

منها ما مرّت الإشارة إليه من دخول الكفّار

تحت عموم التكاليف كالمؤمنين.

و منها أنّ الطّريق اللّائق بأحوال عامّة المكلّفين إلى معرفة اللّه سبحانه و العلم بوحدانيّته و ربوبيته و استحقاقه للعبادة هو النّظر في صنعه و الاستدلال بأفعاله المحكمة و آياته العجيبة في الأنفس و الآفاق.

و منها أنّه لو ثبت مطلوبيّة شي ء في الشّريعة و كونه عبادة مقرّبا إلى اللّه سبحانه إلّا أنّه قد شكّ في وجوبه و استحبابه فمن البيّن أنّ المقرّر عندهم هو الحكم بالاستحباب لأصالة عدم التكليف و عدم المنع من الترك، و ظواهر أدلّة البرائة و غيرها ممّا لا يهمّنا البحث عنه في المقام، إنّما الكلام في أنّه هل يمكن الحكم بوجوبه بمجرّد ذلك لظاهر الآية فيكون دليلا حاكما على الأصل المتقدّم؟ و جهان من أنّ الأمر ظاهر أو حقيقة في الوجوب، و قضيّة صدق العبادة على فعل اتّصافه بالوجب إلّا ما خرج بدليل.

مضافا إلى ما قيل: من أنّ الأمر بالعبادة لا بدّ أن يكون لأجل كونها عبادة، لأنّ ترتّب الحكم على الوصف مشعر بعلّية الوصف، سيّما إذا كان الوصف مناسبا

__________________________________________________

(1) التحريم: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 396

للحكم كما في المقام الّذي يناسب العبادة، و هي الخضوع و الانقياد و شكر المنعم لإيجابها و الأمر بها، و إذا ثبت أنّ كونه عبادة علّة للأمر بها وجب في كلّ عبادة أن يكون مأمورا بها، لدوران حصول الحكم مدار تحقّق العلّة.

و من أنّ ظاهر الخطاب أنّ المقصود من الأمر وجوب إدخال هذه الماهيّة في الوجود، فلا عبرة بالإطلاق بعد ظهور وروده لبيان حكم آخر، مضافا إلى أنّ الظّاهر من العبادة و الإطاعة و الامتثال و نحوها هو الإتيان بالمأمور به على وجه الأمر إن واجبا فعلى وجه الوجوب أو

مندوبا فكذلك، و لذا فسر السجّاد عليه السّلام فيما حكاه الإمام في تفسيره العبادة بالاطاعة من حيث أمرهم «1» سيّما مع تفسيره بالأصول و فروع الأصول، و أين هذا من وجوب كلّ عبادة على كلّ احد، و من هنا يظهر أن الثّاني أظهر فالأصل الأوّل بحاله.

و منها: انّ الاشاعرة استدلّوا بها على أنّ العبد لا يستحقّ بفعله الثّواب لدلالتها على أنّ سبب وجوب العبادة ما بيّنه من خلقه لنا و الإنعام علينا، فحينئذ يكون الاشتغال بالعبادة أداء لحقّه الواجب، و الإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئا فوجب أن لا يستحقّ العبد على العبادة ثوبا على اللّه تعالى «2».

و ضعفه واضح إذ لعلّ السّبب هو المصلحة المقتضية، و فائدة التعليق الحثّ على الامتثال، سلّمنا لكنّ الوجوب لا ينفي الاستحقاق ضرورة عدم التّنافي بينهما عقلا و شرعا، بل المعلوم من الشرع خلافه كما نطقت به الآيات و الأخبار.

__________________________________________________

(1) البرهان ج 1 ص 66.

(2) تفسير الفخر الرازي ج 2 ص 87.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 397

[سورة البقرة(2): آية 22 ]

اشارة

تفسير الآية (22) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً لمّا أمر اللّه سبحانه كافّة النّاس بالعبادة، و أمرهم بالطّاعة، و كان فيهم المقرّ المعتقد، و الجاحد المعاند، قرن أمره بجملة من الدّلائل الأنفسيّة و الآفاقيّة إتماما للحجّة، و ازاحة للعلّة، و لطفا عليهم بما يضطرّهم النظر فيها إلى الإذعان و إن أصرّ الكافر على جحوده لمجرّد العدوان، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، فعدّد في المقام عليهم خمسة دلائل: إثنين من الأنفس، و هما خلقهم و خلق أصولهم، و ثلاثة من الآفاق، و هي جعل الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً، و خلق الأمور الحاصلة من

مجموعها الّتي هي بمنزلة النتاج و المواعيد من الفواعل الفلكيّة و القوابل العنصريّة، كلّ ذلك بمشيّته سبحانه.

و السبب في هذا التّرتيب واضح فإنّ أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، ثمّ ما منه أصله و منشأه من الأصلاب و الأرحام المستودعة لنطفته المعدّة لإتمام خلقته، ثمّ الأرض الّتي هي مكانه و مستقره يقعدون عليها و يتقلّبون فيها كما يتقلّب أحدكم على فراشه، ثمّ السّماء الّتي هي كالقبّة المضروبة و الخيمة المبنية على هذا القرار ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلّة و المظلة من إنزال الماء الّذي منه مواد الثمرات و أصول النطف و إخراج الحيوانات و النّباتات و الثّمرات رزقا للعباد، و بلغة لمصالحهم في أمر المعاش و المعاد.

هذا مضافا إلى توقّف الانتفاع بالأرض و السّماء على حصول الخلق و الحياة و القدرة و الشهوة و العقل و كلّها موجودة في الإنسان، مع أنّ فيه ما فيهما و زيادة ممّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 398

ذكر، و لذا ربما يعبّر عنه بالكون الكبير.

و الغرض من ذكر الآيات أن يعتبروا و يتفكّروا في خلق أنفسهم و فيما فوقهم و ما تحتهم و في جميع جهاتهم من الأرض و السّماء، و يعلموا أنّ شيئا منها لا يقدر على خلق شي ء بل كلّها مسخّرات بأمر الخالق القادر الّذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ.

و الموصول وصلته في محلّ النّصب على أن يكون صفة ثانية للرّبّ، أو مقطوعا على المدح بتقدير أعني و أمدح و أخصّ و نحوها، أو على أنّه مفعول لقوله تَتَّقُونَ أو في محلّ الرفع على انّه خبر لمحذوف بناء على قطع الصّفة، فتبقى دالة على المدح، أو على الابتداء و خبره قوله فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً و لو

بالتأويل على معنى المقول فيه على ما يأتي، و دخول الفاء على الخبر لتوهّم الشّرط و أمّا الإخبار عنه بقوله: رِزْقاً لَكُمْ على تقدير الفعل فبعيد في الغاية، و تكرير الموصول للفصل بين نوعي الآية و حصول الفاصل بذكر الغاية، و قضيّة وصف المعارف بالجمل على ما مرّ علمهم بوجود شي ء يستند إليه تلك الآثار، بل يحصل منه الاضطرار إلى الإقرار بالواحد القهّار.

و جعل يستعمل بمعنى طفق للدّلالة على الشروع، فتكون لازمة كقوله:

و قد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فانهض نهض الشارب الثمل. و بمعنى أوجد فيتعدّى لواحد كقوله:

وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ «1» و الغالب استعماله حينئذ في إيجاد خصوص الآثار و لذا قابله بالخلق في الآية، و إن كان قد يستعمل بمعناه بل ربما لا يفرق بينهما أصلا و بمعنى التّصيير و التّغيير، فيتعدّى إلى مفعولين سواء كان في الذّات أو

__________________________________________________

(1) الانعام: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 399

في الصّفات أو في اللوازم و الآثار و سواء كان فعلا أو قولا أو اعتقادا، نعم الغالب استعماله في الصفات و الآثار كقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً «1» بناء على أنّ صنع الشّي ء في نفسه غير مستلزم لصنع لوازمه و آثاره و لذا

قال الحجّة عجّل اللّه فرجه في دعاء السمات: و خلقت بها الظّلمة و جعلتها ليلا و جعلت اللّيل سكنا و خلقت بها النّور و جعلته نهارا و جعلت النّهار نشورا مبصرا و خلقت بها الكواكب و جعلتها نجوما و بروجا و مصابيح و زينة و رجوما «2».

و أمّا ما يحكى عن شيخ الإشراق «3» من أنّه سئل عن مثل تلك المسألة و كان بين يديه مشمش

فقال: إنّ اللّه سبحانه ما جعل المشمش مشمشا و إنّما جعل المشمش فله وجهان: أحدهما أنّ الجعل إنّما تعلّق بالذّرات الّتي من مقتضياتها الذّاتيّة تلك الآثار من غير حاجة إلى تعلّق الجعل بها، و الآخر انّه ليس المراد به الجعل بمعنى التّصيير بل بمعنى الخلق و لذا عدّاه إلى مفعول واحد و هذا وجه، صحيح و أمّا الأوّل ففاسد على ما تقرّر في محلّه من ابطال القول بالأعيان و اللوازم الذّاتيّة الغير المخلوقة.

و الفراش اسم لما يفرش كالبساط لما يبسط، و تقديم الظرف على المفعول لإفادة الحصر، مضافا إلى الاختصاص، و معنى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ما

رواه الامام عليه السّلام في تفسيره عن الحسن بن علي عليهم السّلام قال جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم لم يجعلها شديدة الحرّ و الحرارة لتحرقكم، و لا شديدة البرد و البرودة فتجمدكم، و لا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم، و لا شديدة النتن فتعطبكم و لا

__________________________________________________

(1) يونس: 5.

(2) دعاء السمات.

(3) شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي المقتول بحلب سنة (587) و عمره نحو (36) سنة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 400

شديدة اللين كالماء فتغرقكم، و لا شديدة الصّلابة فتمنع عليكم في حروثكم و أبنيتكم و دفن موتاكم، و لكنّه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به و تتماسكون و يتماسك عليها أبدانكم و بنيانكم، و جعل فيها من اللّين ما تنقاد به لحروثكم و قبوركم و كثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم «1» و رواه في الاحتجاج و غيره مثله.

و في خبر توحيد المفضّل عن الصّادق عليه السّلام فكّر يا مفضّل فيما خلق اللّه عزّ و جل عليه هذه الجواهر الأربعة ليتّسع ما يحتاج إليه

منها فمن ذلك سعة هذه الأرض و امتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتّسع لمساكن النّاس و مزارعهم و مراعيهم و منابت أخشابهم و أحطابهم، و العقاقير العظيمة و المعادن الجسيمة غناؤها، و لعلّ من ينكر منه الفلوات الخالية «2» و القفار الموحشة يقول: ما المنفعة فيها، فهي مأوى هذه الوحوش و محالّها و مرعاها ثمّ فيها بعد متنفس و مضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم و كم بيداء و كم فدفد «3» حالت قصورا و جنانا بانتقال النّاس إليها و حلولهم فيها، و لو لا سعة الأرض و فسحتها لكان النّاس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا حزنه أمر يضطرّ إلى الانتقال عنه، ثمّ فكّر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون وطنا مستقرّا للأشياء، فيتمكّن النّاس من السّعي عليها في مآربهم، و الجلوس عليها لراحتهم و النوم لهدوءهم، و الإتقان لاعمالهم، فانّها لو كانت رجراجة «4» متكفّئة «5» لم يكونوا

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) في البحار: الخاوية.

(3) الفدفد (بفتح الفائين): الفلاة.

(4) رجراجة: متزلزلة.

(5) المتكفّئة: المنقلبة و المتمايلة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 401

يستطيعون أن يتقنوا البناء و التّجارة و الصّناعة و ما أشبه ذلك، بل كانوا لا يتهنّئون بالعيش و الأرض ترتجّ من تحتهم، و اعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلّة مكثها حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم و الهرب عنها «1».

ثمّ ذكر العلّة في الزلزلة و غيرها على ما يأتي في محلّه، قال بعض المحقّقين ممّا منّ اللّه تعالى على عباده في الأرض أن لم تجعل

في غاية الصّلابة كالحجر، و لا في غاية البرد و الانغمار كالماء ليسهل النّوم و المشي عليها و أمكنت الزّراعة و اتّخاذ الأبنية منها و يتأتى حفر الآبار و اجراء الأنهار.

و منها أن لم تخلق في غاية اللّطافة و الشّفيف لتستقرّ الأنوار عليها و تتّسخن منها فيمكن جوارها و المعاش فيها، و منها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أنّ طبعها الغوص فيه لتصلح التّعيش الحيوانات البرّية عليها و سبب انكشاف ما برز منها و هو قريب من ربعها ان لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي و الماء بمنزلة كرة واحدة، يدل على ذلك فيما بين الخافقين تقدم طلوع الكواكب و غروبها للمشرقين على طلوعها و غروبها للمغربين، و فيما بين الشمال و الجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظّاهر، و انحطاط الخفيّ للواغلين في الشمال و بالعكس للواغلين في الجنوب و تركب- الاختلافين لمن يسير على سمت بين السّمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البرّ و راكب البحر، و هذه الجبال و ان شمخت لا تخرجها عن أصل الاستدارة لأنّها بمنزلة الخشونة القادحة في ملامسة الكرة لا في استدارتها.

و منها الأشياء المتولّدة فيها من المعادن و النّباتات و الحيوانات و الآثار العلويّة و السّفليّة و لا يعلم تفاصيلها إلّا موجدها، و منها إختلاف بقاعها في الرّخاوة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 121.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 402

و الصّلابة و الدّماثة و الوعورة بحسب اختلاف الحاجات و الأغراض وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ «1».

و منها: اختلاف ألوانها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ «2».

و منها: انصداعها بالنباتات وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ

«3».

و منها: جذبها للماء المنزل من السّماء وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ «4».

و منها: العيون و الأنهار العظام الّتي فيها وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ «5».

و منها: امتدادها طولا و عرضا بحيث تسع النّاس على كثرتهم وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها* «6».

و منها: انّ لها طبع الكرم و السّماحة تأخذ واحدة و ترد سبعمائة كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «7».

و منها: حياتها و موتها وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها «8».

و منها: الدّواب المختلفة وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ* «9».

__________________________________________________

(1) الرعد: 4.

(2) فاطر: 27

(3) الطارق: 12.

(4) المؤمنون: 18.

(5) يس: 34.

(6) الحجر: 19.

(7) البقرة: 261.

(8) يس: 33.

(9) البقرة: 164.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 403

و منها: النّباتات المتنوّعة وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «1»، فاختلاف ألوانها دلالة و اختلاف طعومها دلالة و اختلاف روائحها دلالة.

فمنها قوت البشر و منها قوت البهائم كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ «2».

و منها: الطعام، و منها الإدام، و منها الدّواء، و منها الفواكه، و منها كسوة البشر نباتيّة كالقطن و الكتان و حيوانيّة كالشعر و الصّوف و الإبريسم و الجلود.

و منها الأحجار المختلفة بعضها للزّينة و بعضها للأبنية فانظر إلى الحجر الّذي تستخرج منه النّار مع كثرته، و انظر إلى الياقوت الأحمر مع عزّته، و انظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير و قلّة النفع بهذا الخطير.

و منها: ما أودع اللّه تعالى فيها من المعادن الشّريفة كالذّهب و الفضّة.

ثمّ تأمّل أنّ البشر استنبطوا الحرف الدّقيقة و الصّنائع الجليلة و استخرجوا الدّرّ من قعر البحر.

و استنزلوا الطير من أوج الهواء، و عجزوا من اتّخاذ الذّهب

و الفضّة و السّبب فيه ان معظم فائدتهما ترجع إلى الثمينة و هذه الفائدة لا تحصل إلّا عند العزّة و القدرة على اتّخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب اللّه دونهما بابا مسدودا و من هاهنا اشتهر في الألسنة من طلب المال بالكيمياء أفلس.

و منها: ما يوجد على الجبال و الأراضي من الأشجار الصّالحة للبناء و السّقف و الحطب و ما اشتدّ إليه الحاجة في الخبز و الطّبخ، و لعلّ ما تركناه من المنافع أكثر مما عددناه فإذا تأمّل العاقل في هذه الغرائب و العجائب اعترف بمدبّر حكيم و خالق عليم ان كان ممّا يسمع و يبصر و يعتبر.

__________________________________________________

(1) ق: 7.

(2) طه: 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 404

الاستدلال بالآية على تسطّح الأرض و سكونها ليس صحيحا

ربما يستدلّ بهذه الآية مرّة على أنّ الأرض ليست كرة بل هي مسطّحة إذ الظاهر من كونها فراشا انبساطها و أما الجسم الكروي فليس له هذا الإنبساط لعدم استواء سطحه، و اخرى على كونها ساكنة إذ لو كانت متحرّكة لم تكن فراشا و قرارا و مهادا قال اللّه سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً «1»، أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً «2».

و الحقّ أنّه لا دلالة فيها على أحد الأمرين إذ لا خلاف في أنّ الأرض ليست كرة حقيقيّة، و انّما البحث في الكروية الحسيّة و من البين أنّ كرويّة الأرض بجملتها لا ينافي امتنانه سبحانه بجعلها فراشا للنّاس و مهادا لهم فانّها لعظم سطحها و اتّساع محيطها لا يكاد يظهر أثر الاحديداب على سطحها، و لذا ربما ينكر كرويّتها في بادي النظر و التأمل أكثر العوام، بل و بعض الخواص بل قد يقال: إنّ القول بكرويتها منسوب إلى المنجّمين و لا

يوافقهم عليه الفقهاء و ساير أهل الشرع بل ينكرونها، و انّ ما ذكروه في إثبات كرويتها لا يثمر ظنّا بذلك نقلا عن القطع، إلّا أن الاعتبار القبيح قاض بعدم التامّل في كرويتها لما استدلّوا به من طلوع الكواكب و غروبها في البلاد الشرقيّة قبل طلوعها و غروبها في الغربيّة بقدر ما تقتضيه أبعاد تلك البقاع من الجهتين على ما علم من أرصاد كسوفات و خسوفات بعينها في بقاع مختلفة الأطوال متّفقة العروض، فانّ ذلك ليس في ساعات متساوية البعد من نصف النّهار،

__________________________________________________

(1) النمل: 61.

(2) النبأ: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 405

و كون الإختلاف متقدّرا بقدر الابعاد دليل، على الاستدارة المتشابهة الحسيّة لها فيما بين الخافقين، و لو كانت مستوية لكان الطلوع على الجميع أو الغروب عنهم دفعة واحدة كما أنّ ازدياد ارتفاع القطب الشمالي و الكواكب الشّماليّة للراغبين في الجنوب و ازدياد انحطاط القطب الجنوبي و الكواكب الجنوبية للواغلين في الشّمال بحيث يزداد درجات الارتفاع و الانحطاط بازدياد درجات الوغول بحسب الدّرجات الأرضيّة دليل على استدارة الأرض في العرض.

و تركّب الاختلافين للسائرين على سمت بين السّمتين من السموات الأربعة الحاصلة من امتداد الخافقين و الجنوبين دليل على الاستدارة في جميع الامتدادات، و يدلّ عليه أيضا استدارة ظلّ الأرض الواقع على وجه القمر في الخسوفات المتكرّرة الّتي شوهد فيها استدارة أطراف ظلّها.

و هذان الوجهان يدلّان أيضا على صيرورتها مع الماء ككرة واحدة مضافا إلى ظهور الجبال الشّامخة أعمدة على الأفق في البراري و البحار شيئا فشيئا بالتّدريج للمتقارب إليها و استتار أسافلها أولا بسطوح الأراضي و المياه الحاجبة لها فيظهر من أعاليها شيئا فشيئا هذا مضافا إلى أنّ طائفة من الأندلس و غيرهم

من السيّاحين قد قطعوا الدّوائر الارضية الموازية لخطّ الاستواء و غيره في مرّات كثيرة بحيث قد رجعوا إلى الموضع الّذي فارقوه أولا و استعملوا قدر العظيمة الأرضيّة بالآلات الصناعيّة الّتي يقدّر بها الأميال و الفراسخ في البراري و البحار و بالجملة فكروية الأرض بحسب التقريب الّذي لا يقدح فيه الجبال و الوهاد الّتي هي كالتضاريس عن الأمور المعلومة و عليها شواهد قطعيّة رياضيّة، و لذا اتفق عليه الرياضيّون و الطّبيعيون بل صرّح به كثير من الفقهاء أيضا.

قال الشيخ المفيد طاب ثراه في كتاب المقالات: إنّ المتحرّك من الفلك انّما يتحرّك حركة دوريّة كما يتحرّك الدّائر على الكرة، قال: و هذا مذهب ابي القاسم

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 406

عبد اللّه أحمد بن محمود البلخي «1» و جماعة من أهل التوحيد، و الأرض على هيئة الكرة في وسط الفلك، و هي ساكنة لا تتحرّك و علّة سكونها أنّها في المركز و هو مذهب ابي القاسم و اكثر القدماء و المنجّمين، و قد خالف فيه الجبائي «2» و ابنه «3» و جماعة غيرهما من أهل الآراء و المذاهب من المقلّدة و المتكلمين.

أقول و لعلّهم إنّما خالفوا في سكونها فكونها على هيئة الكرة في الوسط إجماع من الجميع أو في ذلك لكنّه نسبه إلى اكثر القدماء، و هو الظّاهر من السيّد المرتضى رضى اللّه عنه، أيضا حيث أبطل استدلال الجبائي بهذه الآية على عدم الكروية، فقال: إنّه يكفي في النّعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط و مواضع مفروشة و مسطوحة يمكن التصرف عليها، و ليس يجب أن يكون جميعها كذلك و معلوم ضرورة أنّ جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا و ان كان مواضع التصرّف فيها بهذه

الصّفة و المنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرّف فيها و يستقرّ عليها، و انّما يذهبون إلى أنّ جملتها كريّة الشكل، قال: و ليس له أن يقول قوله: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، يقتضي الإشارة إلى جميع الأرض و جملتها لا إلى مواضع منها لأنّ ذلك يدفعه الضّرورة من حيث أنّا نعلم بالمشاهدة أنّ فيها ما ليس ببسائط و لا فراش إلى آخر ما ذكره «4» طاب ثراه.

بل يظهر أيضا من الشيخ أبي جعفر الطوسي في «المبسوط» حيث قال في مسألة رؤية الهلال في بعض البلاد: إنّ البلاد إن كانت متقاربة لا تختلف في المطالع كبغداد و البصرة كان حكمها واحدا و إن تباعدت كبغداد و مصر كان لكلّ بلد حكم نفسه «5».

__________________________________________________

(1) البلخي ابو القاسم كان من متكلمي المعتزلة توفي ببلخ سنة (319) ه

(2) الجبائي ابو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي توفي سنة (303) ه

(3) ابو هاشم بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتوفى سنة (321) ه

(4) الأمالي للسيد المرتضى ج 4 ص 96- 97.

(5) المبسوط ج 1 ص 268 كتاب الصوم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 407

الأدلّة على كروية الأرض

و الفرق على ما صرّح به غير واحد منهم مبنيّ على القول بكروية الأرض و من هنا يصحّ نسبته إلى كلّ من قال بالتفصيل و هم المعظم لو لم نقل إنّ عليه الإجماع، و قال العلّامة في «التذكرة» إنّ الأرض كرة فجاز أن يظهر الهلال في بلد و لا يظهر في آخر لأنّ حدبة الأرض مانعة لرؤيته، و قد رصد ذلك أهل المعرفة و شوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب الغربيّة لمن جدّ في السّير نحو المشرق و بالعكس.

و قال

ولده فخر المحقّقين في الإيضاح مبنى هذه المسألة على أنّ الأرض هل هي كرويّة أو مسطّحه و الأقرب الأوّل ثمّ استدلّ بدلالة إرصاد الكسوفات على الإختلاف في الطلوع و الغروب باختلاف الأبعاد و غير ذلك «1» على ما مرّ.

و تبعهم على ذلك اكثر المتأخّرين و لذا فصّلوا في المسألة المتقدّمة بين البلاد المتقاربة و غيرها بل جلّ القائلين بنفي الفصل أو كلّهم قائلون بالكرويّة ايضا، و انّما لم يقولوا بالتفصيل لما أشار اليه العلّامة في «المنتهى» و تبعه غيره من أنّ المعمور من الأرض قدر يسير و هو الربع و لا امتداد به عند السّماء.

و من الغريب بعد ذلك كلّه ما في الحدائق حيث أنكر الكروية قال: و ممّا يبطل القول بها أنّهم جعلوا من فروع ذلك أن يكون يوم واحد خميسا عند قوم و جمعة عند آخرين و سبتا عند قوم، و هكذا ممّا تردّه الاخبار المستفيضة.

__________________________________________________

(1) إيضاح الفوائد ج 1 ص 254.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 408

في جملة من المواضع، فإنّ المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب و الشك أن كلّ يوم من أيّام الأسبوع و كلّ شهر من شهور السّنة أزمنة معيّنة معلومة نفس أمرية كالأخبار الدّالة على فضل يوم الجمعة و ما يعمل فيه و احترامه و أنّه سيّد الأيّام و سيّد الأعياد، و انّ من مات فيه كان شهيدا و نحو ذلك «1»، ما ورد في أيام الأعياد من الأعمال و الفضل، و ما ورد في يوم الغدير و نحوه من الأيّام الشّريفة، و ما ورد في شهر رمضان من الفضل و الأعمال و الاحترام «2»، فإنّ ذلك كلّه ظاهر في كونها عبارة عن أزمان معيّنة في

الواقع و اللازم على ما ادّعوه من الكرويّة إنّها اعتباريّة باعتبار قوم دون آخرين، و مثل الأخبار الواردة في زوال الشّمس و ما يعمل بالشمس في وصولها إلى دائرة نصف النّهار، و ما ورد في ذلك من الأعمال «3» فانّه بمقتضى الكروية يكون ذلك من طلوع الشّمس إلى غروبها من دون اختصاص له بزمان معيّن، لأنّ دائرة نصف النّهار بالنّسبة إلى كلّ قوم غيرها بالنّسبة إلى آخرين، ثمّ قال و بالجملة فبطلان هذا القول بالنّظر إلى الأدلة السمعيّة و الاخبار النبويّة أظهر من أن يخفى و عسى ساعد التوفيق أن أكتب رسالة شافية مشتملة على الأخبار الصّحيحة الصّريحة في دفع هذا القول إن شاء اللّه «4».

__________________________________________________

(1) الوسائل الباب 6 الى 16 من الأغسال المسنونة و الباب: 30 الى 57 من صلاة الجمعة و آدابها.

(2) تجد كل ذلك في الوسائل في أبواب الأغسال المسنونة و أبواب نافلة شهر رمضان.

(3) الوسائل الباب 12 من مواقيت الصلاة.

(4) الحدائق ج 13 ص 266- 267 و لا يخفى أن كرويّة الأرض أصبحت في عصرنا هذا من الأمور الواضحة و ليس في الآيات و الأخبار ما ينافيها بل فيها ما يدلّ على ذلك راجع البيان ج 1 لآية اللّه الخوئي قدس سره ص 55.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 409

أقول أمّا ما نسب إليهم من تفريع كون يوم واحد خميسا عند قوم و جمعة عند آخرين و سبتا عند ثالث فلم يذكر ذلك بإطلاقه أحد منهم، و ليس يلزمهم ذلك أيضا من جهة مجرّد الكروية بل من جهة قطع محيط الكرة في جهتين مختلفتين، بيان ذلك أنّه إذا تفرق ثلاثة أشخاص في موضع فسار أحدهم نحو المغرب

و الثّاني نحو المشرق و أقام الثالث حتّى دار السّائران دورا تامّا و رجع السائر إلى الغرب إليه من المشرق و إلى الشرق إليه من الغرب فمن البيّن أنّ المقيم كغيره من أهل الآفاق في عدد الأيّام لكنّه ينقص للمغربي يوم واحد و يزيد للمشرقي يوم واحد فلو كانت الأيام للمقيم عشرة كانت للمغربي تسعة و للمشرقي أحد عشر و ذلك لأنّ المغربي سيره موافق لحركة الشّمس فيزيد ساعات أيّامه و لياليه من أربعة و عشرين ساعة بساعتين و نصف تقريبا كما أنّ المشرقي سيره موافق لحركتها فينقص ساعات أيّامه و لياليه بهذا القدر و يتلفّق من كل ذلك يوم ينقص عن ايّام الأوّل و يزيد على أيّام الثّاني كما هو واضح فالسّبب المؤثّر في الاختلافات حقيقة هو السّير الموافق أو المخالف لحركة الشمس في تمام الدّورة، و هذا لا ينافي كون أيّام الأسابيع أسماء لمعانيها الواقعيّة الّتي هي أزمنة معيّنة.

فان قلت إنّه على القول بالكروية يختلف الطلوع و الغروب و زوال النّهار و نصف اللّيل و الفجر و غيرها بحسب إختلاف الآفاق و ذلك لاختلاف أزمنة المحاذاة و غيرها من الأوضاع.

قلت: مع الغضّ عن لزوم ذلك على فرض كونها مسطّحة ايضا لا بأس بالتزام ذلك بل هو المتعيّن ضرورة اختلاف المحاذاة باختلاف الأمكنة فيتبعه اختلاف الازمنة ايضا و هو واضح يقتضي به الوجدان بعد التأمّل الصّحيح، و يشهد له ما مرّ من مشاهدة الخسوفات القمريّة الجزئيّة في أزمنة مختلفة اضافيّة فيشاهده أهل

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 410

الأوساط مثلا عند انتصاف اللّيل و أهل المشرق بعده و أهل المغرب قبله.

و أمّا الاخبار المتضمّنة لخصوص الأزمنة و ما فيها من الأعمال فلا بدّ من

اعتبارها بحسب الآفاق و الأمكنة فكلّ دورة تامّة للشّمس فهي يوم من الأيّام بليلة في جميع الآفاق غاية الأمر أنّ الشّمس في كلّ جزء من الدّورة تكون مسامتة لجزء من الأرض مقاطرة لما يقابله مشرّقة و مغرّبة لمنتصف الجزئين من الطّرفين فيتحقّق في كلّ آن من الآنات الزوال و نصف اللّيل و الطلوع و الغروب و كذا ما بينها من الأحوال و الأوضاع و ان كان أكثر تلك الأماكن غير عامرة بل غامرة.

و بالجملة لا ريب في كون الأوضاع المذكورة إضافيّة مختلفة باختلاف الآفاق لا حقيقيّة محضة، و لذا أوردوا على أخبار ركود الشمس عند الزّوال في غير يوم الجمعة بأنّها في كلّ آن في نصف النّهار لقوم فيلزم سكون الشمس دائما ثمّ لم يجيبوا عنه بالمنع من ذلك بل أجاب المجلسي و غيره من ذلك باحتمال أن يكون المراد نصف نهار موضع خاصّ كمكة أو المدينة أو قبّة الأرض.

و بالجملة فكروية الأرض عند أهل الصّناعة بيّنة واضحة، و الشواهد الرياضيّة الحسيّة عليها متكاثرة متظافرة، و منشأ الإشكال فيها إنّما هو الجهل بها أو الغفلة عنها هذا هو الكلام في استدارتها.

سكون الأرض و حركتها

و أمّا سكونها في الوسط فالاستدلال عليه بالآية و إن كان ضعيفا في الغاية على ما مرّت إليه الإشارة إلّا أنّ الأدلّة السمعية بل الرياضيّة عليه كثيرة و كانّ عليه إطباق الأمم إلّا أنّه قد حدث بين حكماء الأندلس و غيرهم من أهل الإفرنج القول بحركتها و سكون السّموات بل نفيها و سكون الأجرام المنيرة من الشمس و القمر و غيرهما من السيّارات و الثوابت إمّا بالنّسبة إلى الحركة الدّورية الأرضيّة كما في

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 411

الجميع أو مطلقا كما في

الشمس و لنا معهم مباحثات و مناظرات في ذلك و سنقصّها عليك عند تفسير قوله تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً، و السَّماءَ بِناءً «1» هو في الأصل مصدر سمّي به المبنيّ من حجر أو مدر أو شعر أو وبر، أو أديم أو غيرها و إن خصّ كلّ منها باسم كالبيت و القبة و الخباء و الطّراف و نحوها.

و عن الزجّاج «2»: كلّ ما علا الأرض فهو بناء، و أبنية العرب أخبيتهم، و منه:

بنى على امرأته، لأنّهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا، و لذا يعدّى «بعلى»، و قد يضمّن معنى أعرس فيعدّى بالباء.

قال ابن دريد «3» و غيره: بنى عليها و بنى بها، و الأوّل أفصح.

و المعنى على ما في تفسير الامام عليه السّلام أنّه جعلها سقفا محفوظا يدير فيها شمسها و قمرها و كواكبها مسخّرة لمنافعكم «4».

المراد بالسماء و منافعها للإنسان

و يظهر منه مضافا إلى ما يقتضيه مساق الآية من الامتنان و إقامة للبرهان إرادتها بجملتها من الأفلاك الكلّية و الجزئيّة من الحوامل و خوارج المراكز و المديرات و غيرها على فرض إثباتها مع ما فيها من السيّارات و الثوابت الّتي لا يعلم أحصائها فضلا عن منافعها و خواصّها و مجاريها و مقادير أجرامها و حركاتها إلّا مبدعها و باريها و من أشهدهم خلقها و أحصى فيهم علمها، فانّ فيه آيات كثيرة

__________________________________________________

(1) النمل: 61.

(2) الزّجاج: ابو إسحاق ابراهيم بن محمّد النحوي الحنبلي المتوفى (310) ه

(3) ابن دريد: محمد بن الحسن بن دريد البصري الأديب اللغوي المتوفى (321).

(4) تفسير البرهان ج 1 ص 67 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 412

و منافع للنّاس غير يسيرة تعجز العقول عن الإحاطة

بها حيث جعلها اللّه تعالى سقفا محفوظا كما قال: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً «1»، و قبّة مضروبة كما ورد: إنّ هذه قبّة أبينا آدم و للّه قباب كثيرة «2».

و زيّنها بمصابيح نجوما و رجوما، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «3» وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً «4» وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «5» و ذكر أنّ خلقتها مشتملة على حكم بليغة و غايات صحيحة كما قال: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا «6»، وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «7».

و جعلها مصعد الأعمال و مهبط الأنوار و قبلة الدّعاء فالأيدي ترفع إليها، و الوجوه تتوجّه نحوها، و هي محل الضّياء و الصّفاء و جعل لونها الزّرقة، و هي اشدّ الألوان موافقة للبصر، و تقوية له حتّى أنّ الأطبّاء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزّرقة، و هي الحافظة للقوّة الباصرة و لذا جعل اللّه سبحانه أديم السّماء ملونا بهذا اللون الأزرق لينتفع بها الأبصار الناظرة إليها فجعل سبحانه لونها أنفع الألوان و هو المستنير و شكلها أفضل الأشكال و هو المستدير.

و لذا قال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 32.

(2) بحار الأنوار: ج 57 ص 335 ح 21- 22.

(3) الصافات: 6- 7.

(4) النبأ: 12.

(5) نوح: 16.

(6) آل عمران: 191.

(7) ص: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 413

«1»، وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ «2» فانّ أوسع الأشكال هو الشكل المستدير، و جعل فيها النجوم و الأنوار

ليهتدى بها في البراري و البحار وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ «3» و جعل شمسها كشمتة القلادة في وسط السيّارة متحركة بحركة أبسط من حركات الباقية مرتبطة حركات غيرها بحركتها كمقارنة العلوية في الذرى و مقابلتها في الحضيضات الدّالة على انّ حركتي التّدوير و الخارج في كلّ منها مثل وسط الشّمس و مقارنة السّفليين في الذّروة و الحضيض الدّال على كون وسطها كوسطها، و جعل لها حركتين حركة يوميّة بها طلوعها ليسهل معه التقلّب لقضاء الأوطار في الأقطار طول النّهار، و غروبها ليصلح معه الهدء و القرار في الأكناف لتحصيل الرّاحة و انبعاث القوّة الهاضمة، و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء.

و ايضا لولا الطلوع لانجمدت المياه و غلبت البرودة و الكثافة و أفضت إلى خمود الحرارة من العالم، و جمود الرّطوبات في النباتات و الحيوانات فضلا عن بني آدم، بل يستولي الانجماد على البحار كما هو المشاهد في البحر المنجمد و غيره ممّا يقرب من عرض تسعين و لولا الغروب لحميت الأرض حتّى يحترق كلّ من عليها من حيوان و نبات فهي بمنزلة السراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم، ثمّ يرفع عنهم ليستقرّوا و يستريحوا، فصار النور و الظلمة مع تضادّهما متناوبين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و معاش بني آدم.

و حركة أخرى في دورة البروج يكون بها ارتفاعها و انحطاطها في الآفاق

__________________________________________________

(1) ق: 6.

(2) الذاريات: 47.

(3) الانعام: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 414

لإقامة الفصول الأربعة في الآفاق الحمائليّة المائلة و الثمانية في أفق الاستواء، ففي الشتاء تفور الحرارة في الشجر و النبات، فيتولّد منها مواد الثّمار و يستكثف الهواء فيكثر السّحاب

و المطر و تقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزيّة في البواطن، و تأخذ الأرض مادّتها من الرّطوبات الّتي تستمدّ منها العيون و الآبار و عروة الأشجار، و في الرّبيع تتحرّك الطبائع، و تظهر المواد المتولّدة في الشّتاء، و يثور الشّجر و يهيج الحيوان للسفاد، و يظهر حمل الثّمار في الأشجار فتكثر فيها الأنوار و الأزهار و في الصّيف تحتدم «1» الهواء فتنضج الثمار، و تتحلّل فضول الأبدان، و يجفّ وجه الأرض، و يتهيّأ للعمارة و الزّراعة، و في الخريف يظهر البرد و اليبس فتدرك الثمار و تستعدّ الأبدان قليلا قليلا للشّتاء، فانّه ان وقع الانتقال دفعة واحدة لهلكت الأبدان و فسدت.

منافع حركة الشمس

ثمّ تأمل في منافع حركتها فانّها لو كانت واقفة على موضع واحد لاشتدّت السّخونة في ذلك الموضع و اشتدّ البرد في سائر المواضع لكنّها تطلع في أوّل النّهار من المشرق فيقع شعاعها على ما يحاذيها من جهة المغرب ثمّ لا تزال تدور حتّى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقيّة فلا يبقى موضع مكشوف إلّا و يأخذ خطا من شعاعها.

ثمّ انظر إلى ما يعرض لها من الميل الشّمالي و الجنوبي حيث إنّها لو لم يكن لها ميل لكان التأثير مخصوصا في بقعة واحدة و لكانت الأحوال فيها متشابهة و لكان تغلب الجمود على بعض البلاد و الاحتراق على بعضها و لخلت عامّة البلاد

__________________________________________________

(1) تحتدم الهواء: تشتد حرارتها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 415

عمّا أشرنا إليه من فوائد الفصول، و لذا جعل لها ميلا شماليّا يكون معه صيف الشّماليّين و شتاء الجنوبيّين، و جنوبيّا يكون معه صيف الجنوبيّين و شتاء الشّماليّين إلى غير ذلك من المنافع العجيبة و الآثار الغريبة الّتي سطروا فيها

الأساطير و ملئوا منها الطّوامير و مع ذلك فلم يطلعوا إلّا على قليل من كثير و اللّه هو العليم الخبير.

منافع القمر

و أمّا القمر ففيه آيات و منافع للنّاس في تشكّلاته البدرية و الهلاليّة و زيادته و نقصانه و محاقه و اختلاف مقاديره و مواقيت طلوعه و غروبه و له تأثير غريب في تربية النامية و في ازدياد الرطوبات في أبدان الحيوانات و في النباتات، و به يعلم عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ* و الآجال و المواقيت العرفيّة و الشرعيّة.

و كان من دعاء السجّاد عليه السّلام إذا نظر الى الهلال: أيّها الخلق المطيع الدّائب السّريع المتردّد في منازل التقدير، المتصرّف في فلك التّدبير، آمنت بمن نوّر بك الظّلم، و أوضح بك البهم، و جعلك آية من آيات ملكه، و علامة من علامات سلطانه، و امتهنك بالزّيادة و النقصان، و الطلوع و الأفول، و الإنارة و الكسوف، في كلّ ذلك أنت له مطيع، و إلى ارادته سريع، سبحانه ما أعجب ما دبّر في أمرك، و ألطف ما صنع في شأنك، جعلك مفتاح شهر حادث لأمر حادث «1» الدّعاء.

و أمّا غيرهما من السيّارة و الثّوابت فخالقها هو الّذي يحصي منافعها و أعدادها و أقدارها و قد ذكر المحصّلون من أرباب الارصاد جملة ممّا استنبطوه من مقادير أجرامها و ابعادها عن مركز العالم و حركاتها طولا و عرضا إلى غير ذلك ممّا أفردوه بالتّصنيف.

__________________________________________________

(1) الصحيفة السجادية الدعاء: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 416

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً عطف على جَعَلَ، و هي إشارة إلى نعمة خامسة، و المراد بالسّماء السحاب أو جهة العلو أو الفلك.

و الماء أصله موه، و همزته منقلبة عن هاء، و يقال: الماء و المائة، و

سمع اسقني ما بالقصر، و الدليل على الأصل قولهم: أمواه، و مياه، في الجمع، و مويه، و مويهة في التصغير و الفعل ماهت الركية تماه و تموه و تميه، و من ابتدائية أمّا على الوجهين الأوّلين في السّماء فواضح و أمّا على الثالث فلأنّ المطر يبتدأ من سماء إلى سماء ثمّ إلى السّحاب، و منه إلى الأرض أو من اسباب سماويّة و أقدار إلهيّة، حيث سخّر الشمس لتصعيد الأبخرة الأرضيّة المتكوّنة بامره التسخيري التكويني في ظاهر الأرض و باطنها و سطوح البحار و أعماقها، فإذا تصاعدت بحرارة لطيفة عرضية و أجزاء مائيّة رتبيّة حتّى وصلت الكرة الزمهريريّة تكاثفت أحيانا و انعقدت سحابا و تقاطر منه المطر النّازل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز كلّ ذلك بمشيته و إرادته و حسن قضائه و إمضائه و هندسته لمقادير ذرات الأعيان و الأكوان في أرضه و سمائه قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «1».

اشكال و دفع

و أمّا ما يقال: من أنّ هذه طريقة الفلاسفة الدّهرية المنكرين للصّانع أو القدرة و الاختيار و إنّما التجائوا إلى اختيار هذا القول لاعتقادهم قدم الأجسام الفلكيّة و العنصريّة و إذا كان الأمر كذلك على معتقدهم امتنع دخول الزّيادة و النّقصان فيها

__________________________________________________

(1) الروم: 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 417

و حينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلّا اتّصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى، فلهذا السّبب احتالوا في تكوين كلّ شي ء من مادّة معيّنة، و أمّا المسلمون فلمّا اعتقدوا أنّ الأجسام محدثة، و انّ خالق العالم

فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء واراد، فعند هذا لا حاجة لهم إلى استخراج هذه التكلّفات بعد دلالة ظاهر القرآن على أنّ الماء إنّما ينزل من السّماء كما في هذه الآية و في آيات كثيرة.

مضافا إلى أنّه قد يستدلّ على فساد تلك الطّريقة بانّ البخارات دائمة الارتفاع و التصاعد فلو كان تولّد المطر من صعودها لوجب استدامة نزولها و تقاطرها، و بانّها إذا ارتفعت و تفرّقت فكيف تتولّد منها قطرات الماء مع أنّها رشحات منبثّة قد تفرقت و بان البرد قد يوجب في وقت الحرّ في صميم الصّيف مع أنّ تولّده لا يكون على ما ذكروه إلّا من برودة قوية، و كذا نجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد، و ذلك يبطل قولهم.

ففيه أنّ القول بالقادر المختار لا يوجب رفض الأسباب الّتي قدّرها الواحد القهّار، مع أنّه جعل لكلّ شي ء سببا و ابى اللّه أن يجري الأمور إلّا بأسبابها، و الأسباب لا بدّ من اتّصالها بمسبّباتها، و لعمري هل ينكر أحد منهم استحالة الماء أبخرة متصاعدة باستيلاء الحرارة، أو اجتماع القطرات و نزولها من تلك الأبخرة في سقوف الحمامات و أدمغة الإنسان بل في الآلة المسمّاة بالقرع و الأنبيق و نحوها ممّا أعدّ للتّصعيد و استخراج الأجزاء اللّطيفة.

و أمّا دلالة ظاهر القران، فممنوعة جدّا بعد ما سمعت من الوجوه المذكورة في معنى السّماء فضلا عن ابتداء نزول الماء منها، بل يستفاد ذلك أيضا من ظاهر

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 418

قوله تعالى: يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً «1» الآية و قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ «2».

و لذا

قال علي بن

ابراهيم «3» القمّي في تفسير قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً: أي يثيره من الأرض ثمّ يؤلّف بينه فإذا غلظ بعث اللّه رياحا فتعصره فينزل منه الماء و هو قوله: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ* أي المطر «4».

و هو ظاهر بل صريح فيما ذكرناه و كيف يمكن إنكار ذلك مع أنّه مشاهد محسوس فإنّ الإنسان ربما يكون واقفا على قلّة جبل عال و يرى الغيم أسفل فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطرا عليهم.

و أمّا الوجوه الثلاثة فضعيفة في الغاية و ان اعتمد عليها الجبائي و الرّازي و غيرهما، لأنّ تلك البخارات قد تتحلّل و قد تتفرّق قبل الاجتماع و التكاثف ثمّ إنّ الرشحات تتلاحق و تتلاصق فتنزل قطرات ثمّ للحرارة و البرودة العارضة للجوّ و خصوصا للكرة الزمهريريّة أسبابا لا يحصيها غير خالقها و منشيها.

الحديث الدال على نزول الماء من الفلك

نعم ربما يستدلّ على نزوله من السّماء بمعنى الفلك بجملة من الأخبار منها

المروي في الكافي و تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة و في «العلل» و «قرب الاسناد» عن هارون بن مسلم عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال كان عليّ عليه السّلام يقوم في المطر

__________________________________________________

(1) الروم: 48.

(2) النور: 43.

(3) علي بن ابراهيم بن هاشم القمي كان حيّا في سنة (307) و ثقه النجاشي.

(4) تفسير القمي ج 2 ص 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 419

أوّل ما يمطر حتّى يبتّل رأسه و لحيته و ثيابه، فقيل له يا أمير المؤمنين الكنّ الكنّ، فقال عليه السّلام: إنّ هذا ماء قريب العهد بالعرش.

ثمّ أنشأ يحدث فقال: إنّ تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت أرزاق الحيوانات، فإذا أراد اللّه عزّ ذكره أن ينبت به

ما يشاء لهم رحمة منه لهم أوحى اللّه إليه فمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصير إلى سماء الدّنيا فيما أظنّ فيلقيه إلى السّحاب، و السحاب بمنزلة الغربال، ثم يوحي اللّه عزّ و جل إلى الرّيح أن اطحنيه و أذيبيه ذوبان الماء ثمّ انطلقي به إلى موضع كذا و كذا فأمطري عليهم فيكون كذا و كذا عبابا أو غير عباب فتقطر عليهم على النّحو الّذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر إلّا و معها ملك حتّى تضعها موضعها و لم ينزل من السّماء قطرة من مطر إلّا بعدد معدود و وزن معلوم إلّا ما كان من يوم الطوفان على عهد نوح على نبيّنا و آله و عليه السّلام فانّه نزل من ماء منهمر بلا وزن و لا عدد «1».

و فيه مع احتمال كون المراد أمر اللّه الفعلي الجزئي النّازل من عرش عظمة فعل اللّه الإمكاني و التكويني تنزّلا على التدريج من علوّ إلى سفل و من عالم الأمر إلى عالم الخلق إلى أن يتعلّق أمره التسخيري بالسحاب، أنّه لا بدّ من طرحه أو حمله على القضيّة الجزئيّة أو تأويله بما لا يخالف الحسّ و غيره على ما سمعت.

بل

في «الخصال» عن أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما أنزلت السّماء قطرة من ماء منذ حبسه اللّه تعالى، و لو قد قام قائمنا أنزلت السّماء قطرها و لأخرجت من الأرض نباتها «2».

و لعلّ المراد بالماء المحبوس اثر من اثار رحمته الرحيميّة الّذي يحيي اللّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 56 ط بيروت ص 372 ح 2 عن العلل ج 2 ص 141.

(2)

بحار الأنوار ج 10 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 420

تعالى به ميت البلاد، و يصلح به أحوال العباد في الدّولة الحقّة الولويّة و الدّورة المستقيمة الكبروية عند قيام قائمنا عجّل اللّه فرجه.

و

في الكافي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن السّحاب أين تكون، قال تكون على شجر كثيب على شاطئ البحر يأوي اليه فإذا أراد اللّه عزّ و جل أن يرسله أرسل ريحا فأثارته، و وكّل به ملائكة يضربونه بالمخاريق و هو البرق فيرتفع ثمّ قرأ هذه الآية، وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً «1»، الآية «2».

قال المجلسي رحمه اللّه قوله على شجر يحتمل أن يكون نوع من السّحاب كذلك أو يكون كناية عن انبعاثه عن البحر و ما قرب منه، و قيل على شجر أي على انواع منها ما يكون على الكثيب و هو اسم موضع على ساحل بحر اليمن يأتي السّحاب إلى مكّة منها «3».

بل في بعض الأخبار و تقييد المطر الّذي ينزل من السّماء بالّذي منه الأرزاق كما

في «نوادر الرّاوندي» عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال قال علي عليه السّلام المطر الّذي منه أرزاق الحيوان من بحر تحت العرش، فمن ثمّ كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يستمطر أول مطر، و يقوم حتّى يبتلّ رأسه و لحيته، ثمّ يقول: إنّ هذا قريب عهد بالعرش و إذا أراد اللّه تعالى أن يمطر أنزله من ذلك إلى سماء بعد سماء حتّى يقع على الأرض، و يقال: المزن ذلك البحر، و تهبّ ريح من تحت ساق عرش اللّه تعالى تلقح السّحاب،

__________________________________________________

(1) فاطر: 9.

(2) البحار ج 56 ص 382 عن روضة الكافي ص 218.

(3) البحار ج 56 ص 383.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 421

ثمّ ينزل من المزن الماء و مع كلّ قطرة ملك حتّى تقع على الأرض في موضعها «1».

و لذا قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه انّ ما يشاهد من انعقاد السحب في قلل الجبال و تقاطرها مع أنّ الواقف على قلّة الجبل لا يرى سحابا و لا مطرا و لا ماء و الّذين تحت السّحاب ينزل عليهم المطر لا ينافي الظواهر الدّالة على أنّ المطر من السّماء بوجهين: أحدهما أنّه يمكن أن ينزل المطر من السّماء إلى السّحاب رشحا ضعيفا لا يحسّ به أو قبل انعقاد السحاب على الموضع الّذي يرتفع منه، و ثانيهما أن نقول بحصول الوجهين معا و انقسام المطر إلى القسمين فمنه ما ينزل من السّماء و منه ما يرتفع من بخار البحار و الأراضي النديّة و يؤيّده ما

رواه شيخنا البهائي رحمه اللّه في «مفتاح الفلاح» حيث قال نقل الخاص و العام انّ المأمون ركب يوما للصيد فمرّ ببعض أزقة بغداد على جماعة من الأطفال فخافوا و هربوا و تفرّقوا و بقي واحد منهم في مكانه فتقدّم إليه المأمون فقال له كيف لم تهرب كما هرب أصحابك، فقال لأنّ الطّريق ليس ضيّقا فيتّسع بذهابي و لا بي عندك ذنب فاخافك لأجله، فلأي شي ء أهرب؟ فأعجب كلامه المأمون فلمّا خرج إلى خارج بغداد أرسل صقره فارتفع في الهواء و لم يسقط على وجه الأرض حتّى رجع و في منقاره سمكة صغيرة فتعجّب المأمون من ذلك فلمّا رجع تفرّق الأطفال و هربوا إلّا ذلك الطّفل، فانّه بقي في مكانه كما في المرّة الاولى فتقدّم إليه المأمون و ضام كفّه على السّمكة و قال له قل

أيّ شي ء في يدي فقال عليه السّلام انّ الغيم حين أخذ من ماء البحر تداخله سمك صغار

__________________________________________________

(1) مستدرك سفينة البحار ج 9 ص 382.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 422

فتسقط منه فيصطادها الملوك فيمتحنون بها سلالة النّبوة فأدهش ذلك المأمون فقال له من أنت قال أنا محمّد بن عليّ الرضا عليهما السّلام، و كان ذلك بعد واقعة الرّضا عليه السّلام و كان عمره عليه السّلام في ذلك الوقت احدى عشر سنة و قيل: عشرا فنزل المأمون عن فرسه و قبّل رأسه و تذلل له ثمّ زوّجه ابنته «1».

السماء جهة العلو

أقول و هذا الخبر كما ترى صريح فيما ذكرناه، سيّما مع شهادة المشاهدة به حسبما سمعت، و لذا صرّح كثير من المحقّقين بأنّ المراد بالسّماء في مثل المقام هو جهة العلوّ و فسّرها شيخنا الطبرسي و غيره في المقام بالسحاب و قال عند قوله:

وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ* «2» أي من نحو السّماء عند جميع المفسّرين و فسّرها في كثير من المواضع بالسّحاب قال لأنّ كلّ ما علا مطبقا فهو سماء.

بل و هو الظّاهر من كلام الامام عليه السّلام في تفسير الآية قال وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم و تلالكم و هضابكم «3» و أوهادكم ثمّ فرّقه رذاذا «4» و هطلا و طلّا لتسقي أرضكم، و لم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضكم و أشجاركم و زروعكم و ثماركم «5».

و في «المتهجّد» في دعاء للحاجة: و أسألك باسمك الّذي خلقت به في الهواء

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 56 ص 397- 398.

(2) الجاثية: 5.

(3) الهضاب: جمع الهضب و هو الجبل المنبسط على وجه

الأرض.

(4) الرذاذ: المطر الضعيف، و الوابل: المطر الشديد- و الهطل: تتابع المطر

(5) تفسير البرهان ج 1 ص 67.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 423

بحرا معلّقا ثجّاجا مغطمطا «1» فحبسته في الهواء على صميم تيّار اليمّ الزّاخر في مستفحلات عظيم تيّار أمواجه على ضحضاح «2» صفاء الماء فعزلج «3» الموج فسبّح ما فيه لعظمتك فلا اله إلّا أنت «4».

ثمّ انّ ما ذكره المجلسي رحمه اللّه في الوجه الأوّل يمكن أن يراد به أنّ هذا الماء النّازل بجوهره و صورته النوعيّة قد نزل من السّماء و إن لم يكن أوّلا على سبيل التقاطر بل الرشح و الاجزاء المتصغّرة إلّا أنّها تجتمع و تتركّب منها القطرات إذا وصلت إلى السّحاب، أو إذا حملها السّحاب و لو بعد انبثاثها في رطوبات العالم و تفرّقها في الأجزاء الهوائيّة الجوّية، و أن يراد به أنّه قد يكون للشّي ء الواحد أكوان مختلفة و نشاءات متعدّدة بعضها أعلى و أرفع عن بعض فمنشأ إنشاء السّحاب و تكوين الأمطار إنّما هو من عالم السّماء بأمر اللّه و حكمته بتسخير الملائكة العلويّة السّماويّة و السّفليّة الأرضيّة من المدبّرات و السّابقات و الزّاجرات الّتي لا يعلم تفاصيلها إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

ثمّ انّه لا ينبغي الإصغاء إلى ما ربما يتوهّم من أنّ السّمك و ان كانت صغارا إلّا أنّها أجسام ثقيلة فكيف تتصاعد مع الأبخرة و تداخل الماء المأخوذ من البحر، إذ فيه بعد تسليم الأصول الظاهرة و الطبائع المقرّرة بحكمته و مشيّته سبحانه أنه يمكن أن يكون ذلك بنوع من القسر و ان لم يحط علومنا بوجوهه و أسبابه و مقتضياته على التفصيل.

__________________________________________________

(1) المغطمط: المضطرب.

(2) الضحضاح: ما رق من الماء،

أو الكثير.

(3) عزلج: التطم.

(4) بحار الأنوار ج 87 ص 45.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 424

نعم صرّح غير واحد ممّن صنّف في غرائب البحر و سمعت ذلك ايضا ممّن ركبه أنّه شاهد غير مرّة أنّه قد يتصاعد من موضع من البحر أبخرة قويّة مجتمعة متراكمة متّصلة بحيث يحصل من مشاهدة اتّصال تصاعدها شبه العمود القائم على سطح الماء و قد يكون قطره نحو ميل متواصل إلى عمق الماء بحيث قد انفلق البحر بقوّة خروج الأجزاء البخاريّة المتكوّنة في عمقه بأسباب لا تحصى، و ذكروا أنّه ربما تقع فيها السّفن فتغرق، و لذا توصل أرباب السّفن و جهابذة البحر في إزالتها عن طرق السّفن بحيل لا يقتضي المقام ايرادها، و بالجملة يمكن أن يتعرض لذلك البخار شي ء من السّمك الصّغار فترتفع معها بقوّتها الصّعوديّة الخارقة للماء حتّى إذا أزالت عنها الحركة العرضيّة و القسريّة سقطت و لعلّه هو المراد

بقوله عليه السّلام: إنّ الغيم حين أخذ من ماء البحر تداخله سمك صغار فتسقط منه

فلا تغفل.

الجمع بين قول الطبيعيين و الأخبار

ثمّ أنّه قد سئل الشّيخ الأحسائي رحمه اللّه عن التوفيق بين قول الطّبيعيين حسبما مرّ و بين ما ذكره الإمام عليه السّلام في الخبر المتقدّم فأجاب بانّ البخار المتصاعد من البحار و الأنهار و الاراضي الرّطبة بحرارة أشعّة الشمس تتصاعد بجذب الأشعة متفرّقة فقبل أن تصل إلى الطبقة الزمهريريّة و هي البحر المكفوف بين السّماء و الأرض و بحكمة الحكيم تتكوّن فيه حيتان صغار بمقتضى قابليّة الماء المجتمع بتقدير العزيز العليم و السّحاب يغترف الماء تارة من هذا البحر البخاري و تارة من البحر الأجاج الّذي على وجه الأرض المعلوم، فالمطر الّذي من البحر المكفوف بين السّماء و الأرض

يكون ملقحا ينبت به النّبات و الكماة و المعادن و اللؤلؤ و الصّدف

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 425

و ما أشبه ذلك و المطر الّذي من البحر المالح عقيم لا ينبت به شي ء فالتوفيق بنحو ما سمعت هذه عبارته رحمه اللّه.

و قد ظهر منه وجه آخر في تنويع المطر الّا أنّ ما ذكره من تكوّن الحيتان الصّغار في كرة البخار لا يخلو من تأمّل، و ليس في الخبر دلالة عليه أصلا بل هو كالصّريح في خلافه فلاحظ، و ينبغي التأمل أيضا فيما ذكره من نسبة التلقيح إلى الأول و العقم إلى الثاني.

الثمرات من الماء

فَأَخْرَجَ بِهِ بالماء النازل بأمره التكويني و ان كان ذلك شرعة له في تسبيحه و عبادته مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ استنتاج لما سخّر له القوى الفاعليّة العلويّة و المواد القابلة السّفليّة إتماما لنعمته و نشرا لآثار رحمته، و لذا عطف الجملة بالفاء الدّالة على الترتيب الاتصالي مع ما فيها من الإشعار على أنّه ليس لترتب الآثار على ما جعلها أسبابا تامّة حالة منتظرة و خروج الثّمار و ان كان بقدرته و مشيّته سبحانه إلّا أنّه تعالى جعل لكلّ شي ء سببا أبى اللّه أن يجري الأمور إلّا بأسبابها و الأسباب لا بدّ من اتّصالها بمسبّباتها فجعل فيما سخّره لمصالح عباده من السموات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و غيرها قوى فاعلة و قابلة يتولّد من اجتماعهما و نزول الماء الّذي هو كالنطفة للحيوان أو كالغذاء للبذور الملقاة في أرض القابليّة أنواع الثّمار في جميع الأقطار من النجوم و الأشجار يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، و يفضّل بعضها على بعض في الاكل لاختلاف قابليّاتها و استعداداتها المجعولة و مقادير قواها و المشخّصات المنضمّة

إليها بما أودع اللّه فيها من الطبائع و المنافع و غير ذلك من الودائع و ان كان سبحانه قادرا على أن يوجد الأشياء كلّها بلا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 426

أسباب و مواد و لا سبق قابليّة و استعداد، كما أفاض على الأصول الاوليّة من المجرّدات و الماديات بابداعها و خلقها لا من شي ء إذ كان اللّه و لم يكن معه شي ء، لكنّ الحكيم قد قضت حكمته بإبداع الأكوان و إنشاء الأعيان من الأشرف فالأشرف فأبدع أوّلا أنوارا قدسيّة و أرواحا مطهّرة إنسيّة تجلّى لها ربّها فأشرقت و طالعها فتلألأت و ألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله فخلق من اشراق أشعّة تلك الأنوار جميع الملائكة و الروحانيّين و الأنبياء و المرسلين و السّموات و الأرضين و ساير الخلق أجمعين و أخذ عليهم الميثاق و رتّبهم في مراتبهم من الخلاف و الوفاق، و أعطى كلّ شي ء خلقه، و ساق إلى كلّ مخلوق رزقه، و سخّرهم بما أعطاهم من القابليّات و أفاض عليهم بما منحهم من العطيّات، و جعل فواعلها مختلفة في الحركات و قوابلها مختلفة في قبول أضواء النيّرات المعدّة لنشوء الكائنات فأدار البعض على البعض و استبحّ عنها المواليد في سلسلتي الطول و العرض.

أنظر الى العرش على مائه سفينة تجري بأسمائه و اعجب له من مركب دائر قد أودع الخلق بأحشائه يسبح في لجّ بلا ساحل، في جندل الغيب و ظلمائه و موجه احوال عشّاقه و ريحه أنفاس أحبابه و لو تراه بالورى سائرا من ألف الخطّ إلى بائه و يرجع العود على بدئه و لا نهايات لإبدائه يكوّر الصبح على ليله و صبحه يغني بإمسائه لا يدري أحد من أين إلى أين

إلّا مدبّرها و محصيها بعلمه و قدرته، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 427

ردّ قول الأشاعرة

و أمّا ما ذكره بعض المفرّطين في جنب اللّه المحجوبين عن مشاهدة أنوار قدرته و حكمته من أنّه سبحانه أجرى عادته بإفاضة صور الثمرات و كيفيّاتها على المادّة الممتزجة من الماء و التّراب من غير أن يكون قد أودع في شي ء من ذلك قوّة التأثير و التأثّر كما هو مذهب الاشاعرة القائلين بشنائع لم يلتزم بها أحد من الملاحدة فناش عن الضّلالة و فساد الطّريقة و انهماكهم في التّقصير و القصور، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.

و قد ظهر ممّا مرّ أنّ «الباء» سببيّة و ان كانت جعليّة «و من» إمّا للتّبعيض أو للتّبيين، و قد يعتضد الأوّل بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «1» أي بعض كلّها و قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ «2» لتبادر التبعيض من التنكير سيّما في جموع القلّة، و بأنّ المنكّرين أعني ماء و رزقا يكنّفانها و قد قصد بتنكيرهما معنى البعضيّة كانّه قيل: و أنزلنا من السّماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، و بأنّ هذا هو المطابق لصحة المعنى في الواقع لأنّه لم ينزل من السّماء الماء كلّه، و لا أخرج بالمطر جميع الثمرات، و لا جعل الرّزق كلّه في الثمرات.

و عندي في الكلّ نظر فالتّبيين أظهر بناء على كون التنوين في المكتنفين للتفخيم و التعظيم بل و كذا في الآية الثانية و هو أنسب بمقام الامتنان حيث جعل رزق الإنسان مصاصة لطائف الفلكيات و العنصريات، و خلاصة نتائج الازدواجات، فيكون كقولك: أنفقت من الدّراهم ألفا أي أنفقت

ألفا هو الدّراهم، و ان احتمل التبعيض في المثال أيضا، نعم قد يقال: إذا قلت أكلت من هذا الخبز كان للتّبعيض لا

__________________________________________________

(1) الأعراف: 57.

(2) فاطر: 27.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 428

غير، و إذا قلت أكلت من هذا الخبز الجيّد المطبوخ كان من بيانيّا و الجيّد المطبوخ مفعولا.

ثمّ ان كانت «مِنَ» للبيان فالرزق بمعنى المرزوق على أنّه مفعول لأخرج، و «لَكُمُ» في موضع الصّفة و مِنَ الثَّمَراتِ حال عنه مقدّم عليه، و يحتمل بعيدا جدّا كون المفعول الضمير المجرور بالباء على أن تكون للتعدية لا السببيّة، و من الثمرات حالا عن الضمير و رزقا مفعولا لأجله، لكنّه ضعيف لفظا و معنى من وجوه لا تخفى، و ان كانت للتبعيض فرزقا منصوب على التعليل، أي لان يرزقكم أو على المصدر بتقدير الفعل، و يحتمل الحال بناء على كونه بمعنى المفعول، و على كلّ حال فقوله مِنَ الثَّمَراتِ في موضع المفعول به، اي بعض الثمرات و أمّا ما توهّمه الطيبي «1» و السيوطي من أنّه إذا قدرت من مفعولا كانت اسما ففساده واضح جدّا، فانّ المراد كون الجار و المجرور في موضع المفعول بالواسطة.

الثمرة و إطلاقاتها

و الثمرات جمع ثمرة بالتّاء، قال الفيّومي «2»: الثمر بفتحتين و الثمرة مثله فالأوّل مذكر و يجمع على ثمار مثل جبل و جبال، ثمّ يجمع الثمار على ثمر مثل كتاب و كتب، ثمّ يجمع الثمر على أثمار مثل عنق و أعناق، و الثّاني مؤنث و الجمع ثمرات، مثل قصبة و قصبات، و الثمر هو الحمل الّذي تخرجه الشّجرة سواء أكل أم لا.

__________________________________________________

(1) الطيبي: الحسن بن محمد بن عبد اللّه المفسّر له شرح على كتاب «الكشاف»، توفّي سنة (743).

(2) الفيّومي:

ابو العباس احمد بن محمد بن أبي الحسن اللغوي المقرئ صاحب مصباح المنير توفي بعد سنة (770) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 429

أقول: و يطلق على الشجرة و كلّ ما تنبته الأرض و الذّهب و الفضّة و أنواع المال و النسل و الولد كما في «القاموس» و غيره و لعلّ الاولى الحمل على الجميع و لو بعموم المجاز أو غلبته فيما له نفع، و منه قولهم فيما لا نفع له: ليس له ثمر كما في «المصباح» و غيره و قضيّة اللّام الاستغراق و على هذا فيسقط السّؤال عن إيثار الثمرات على الثّمار مع كون الأولى للقلّة و الأولى بالمقام الكثرة فإنّ المعرّف بلام الاستغراق يفيد العموم الجمعي، مع أنّ كثيرا من علماء الأدب و المعتنين بحفظ لغات العرب قد أنكروا القاعدة على أنّ بين الفارقين في خصوص الجمع بالألف و التّاء اختلافات كثيرة و الجمهور على الاشتراك و على الوجهين ورد في القرآن ففي آية الصّيام أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ* «1» و في غيرها وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ «2» مع أنّه قد يجاب أيضا بأنّ المراد بها جماعة الثمرة الّتي في قولك: فلان أدركت ثمرة بستانه تريد ثماره، و يعضده قراءة محمد بن السّميفع من الثمرة على التوحيد، و بأن الجموع تتعاود بعضها موقع بعض لالتقائهما في الجمعيّة كما وقعت القلّة موضع الكثرة في قوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ «3» و الكثرة موضع القلّة في قوله:

ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «4»، و بأنّ المقصود التنبيه على قلّة ثمار الدّنيا اشعارا بتعظيم أمر الآخرة.

فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً متعلّق بقوله: اعْبُدُوا بان يكون نهيا متفرّعا على

__________________________________________________

(1) البقرة: 184.

(2) البقرة: 203.

(3) الدخان: 25.

(4) البقرة: 228.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 430

مضمون ذلك الأمر كانّه قيل إذا كنتم عبدا له و استحقّ ربّكم الّذي خلقكم و خلق أصولكم و أرزاقكم منكم العبادة و كنتم مأمورين بها فلا تشركوا أحدا في الطّاعة و العبادة كما أنّه ليس له شريك في الخلق و الإفاضة فكونوا مخلصين في عبادته متوجّهين إليه في مقاصدكم غير مشركين به في شي ء من مراتب التوحيد الأربعة:

أعني توحيد الذّات و الصفات و الأفعال و العبادة، و قيل هي نهي معطوف على الأمر، و ردّ بأنّ الأولى حينئذ العطف بالواو كقوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «1».

و التّحقيق انّ قضيّة العطف بالفاء هو التّرتب على السابق فيرجع هذا الوجه إلى الأوّل، و من هنا يظهر سقوط الإيراد و قد يجعل نفيا منصوبا بإضمار أن على جواب الأمر كما في زرني فأكرمك، و ردّ بأنّ الشرط في ذلك كون الأول سببا للثّاني و العبادة لا تكون سببا للتوحيد الّذي هو مبناها مع انّ الأوّل أقرب لفظا لعدم الإضمار و معنى لأنّ التصريح بالنّهي أبلغ و اردع مع وحدة المستفاد على الأحوال أو بقوله: لَعَلَّكُمْ فنصب الفعل نصب فاطلع في قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ «2»، و قوله: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى «3»، أمّا على تشبيه «لعل» بليت و لو لكونهم في صورة المرجوّ منهم مع التنبيه على تقصيرهم، و الإشعار بأنّ المراد الراجح صار مستبعدا منهم كالمتمنّي فالمعنى خلقكم في صورة من يرجى منه الاتقاء أي الخوف من العقاب ليتسبب عن ذلك أن

__________________________________________________

(1) النساء: 36.

(2) غافر: 36- 37.

(3) عبس: 3- 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 431

لا تشركوا، فلا

يرد أنّ ذلك إنّما يجوز إذا كان في الترجّي شائبة من التمنّي أبعد المرجوّ من الوقوع مع أنّ لعلّ مستعارة للإرادة الّتي فيها ترجيح طرف الوجود، و ذلك لما سمعت و نظيره في اعتبار الصورة و رعاية التّنبيه قولك لمن همّك همّه:

ليتك تحدّثني تتفرج عنّي بالنّصب فانّه ليس تمنيا حقيقة لكن أجري عليه حكمه و نبّه به على تقصيره في التّحديث، و أمّا على اشتراك «لعلّ» مع أشياء السّتة في كونها غير مثبّتة حيث إنّ المطلوب بها غير موجود عند ذكرها ففيها حظر الوجود و العدم فأشبهت الشرط و لذا استحقّت الفاء و يحمل التقوى حينئذ على الاتقاء عن العذاب كيلا يأبى جعل عدم الأنداد نتيجة لها محصولة قبلها مع أنّه يمكن ارادة نفي الأنداد في الطاعة أو بقوله الّذي جعل باعتبار الابتداء بالموصولة و اخبر عنه بالنّهي على تأويل مقول فيه لا تجعلوا، و أدخلت الفاء على الجملة لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط كقولك الّذي ياتيني فله درهم، و لعلّ الأولى على فرض تعلّقها بالموصول رفعه مدحا على أنّه خبر لمحذوف على ما مرّ، فيكون نهيا مترتّبا على ما تضمّنته تلك الجملة و المعنى هو الّذي خلقكم و خلق أصولكم و أرزاقكم فلا تعبدوا غيره و لا تشركوا به شيئا.

في تفسير كلمة الأنداد

و الندّ المثل و العدل قال حسّان «1»:

أ تهجوه و لست له بندّ فشرّكما لخيركما الفداء __________________________________________________

(1) حسّان بن ثابت الشاعر المتوفى سنة (54) عن مائة و عشرين سنة كأبيه و جدّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 432

و قال جرير «1»:

أ تيما تجعلون إليّ ندّا و ما تيم لذي حسب نديد من ندّ يندّ ندّا و ندودا و ندادا بمعنى شرد و

نفر و منه التّناد بمعنى التفرّق و التخالف، و ناددته خالفته كأنّ كلّا من الندّين ينادّ الآخر أي يقابله و يخالفه، و من هنا يقال: إنّه بمعنى الضدّ أو أنّه لا يقال إلّا للمثل المخالف المعادي بل هو المراد بما في «المصباح» بعد تفسيره بالمثل، و لا يكون الندّ إلّا الضدّ.

و عن الهمداني في «كتاب الألفاظ» الأنداد و الأضداد و الأكفاء و النظراء و الأشباه و الأقران و الأمثال و الأشكال نظائر.

و الحقّ أنّها متقاربة تفترق إذا اجتمعت، و تجتمع إذا افترقت و في «مجمع البحرين» و غيره عن الرّاغب في الفرق بينها: أنّ الندّ يقال فيما يشارك في الجوهريّة فقط، و الشكل يقال فيما يشارك في القدر و المسافة، و الشبه يقال فيما يشارك في الكيفيّة فقط، و المساوي فيما يشارك في الكميّة فقط، و المثل عامّ في الألفاظ كلّها.

ثمّ انّه سبحانه و إن لم يكن له ضدّ و لا ندّ لصمدانيّته و فردانيّته و وحدته الحقّة المطلقة، إلّا أنّ المشركين لمّا اتّخذوا من دونه آلهة سمّوها شركاء له أو شفعاء لهم ليقرّبوهم إليه زلفى، و إن لم يعتقدوا مساواتها له في الذّات و الصفات، و لا مخالفتها له في الأفعال، و لم يأمرهم اللّه سبحانه بعبادتها و لا التقرّب بها، و لم يأتوا البيوت من أبوابها شابهت حالهم حال من جعلها شركاء له في الذّات و الصّفات و وجوب الطّاعة و العبادة و صدور الأفعال و الشؤون الالهيّة مع أنّها مخلوقة مربوبة فانية داثرة مفتقرة

__________________________________________________

(1) هو جرير بن عطيّة بن حذيفة اليربوعي الشاعر توفي سنة (110) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 433

إليه سبحانه في وجودها و بقائها و سائر شؤونها و

صفاتها.

بل في الآية وجوه من التشنيع و التهكّم عليهم حيث عبّر بالجعل الدّال على الاختلاق و الافتراء كقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1».

و آثر من بين أسمائه سبحانه الإسم المقدّم الجامع الدّال على الذّات المستجمع لجميع صفات الجلال و الجمال الّتي من جملتها نفي الأضداد و الأنداد لغاية الكمال و عبّر عمّا اختلفوه إفكا بصيغة الجمع الدّال على أنّ التّعدد دليل الحدوث و الفناء بل عجز كلّ منها عن دفع غيره مع ضرورة الاختلاف و التفرق كما أشار إليه العبد الصّالح يوسف بن يعقوب على نبيّنا و آله و عليه السّلام: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2» و قال موحّد الجاهلية زيد بن عمر بن نفيل «3»:

أ ربّا واحدا أم ألف ربّ أدين إذا تقسّمت الأمور تركت اللّات و العزّى جميعا كذلك يفعل الرّجل البصير ففي قوله أَنْداداً استفظاع لشأنهم مرّة من جهة المادّة، و أخرى من حيث إنّهم جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصحّ أن يكون له ندّ قط، مع ما في إيثار الجمع من الإشارة أيضا إلى أنّ هؤلاء الشفعاء لو استحقّوا العبادة لاستحقتها غيرها ممّا لا تحصى لاشتراك الجميع في العجز و نفي الاستحقاق.

__________________________________________________

(1) الزخرف: 19.

(2) يوسف: 39.

(3) زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى القرشي العدوي أحد الحكماء و نصير المرأة في الجاهلية مات قبل الهجرة سنة (17).

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 434

و قرأ محمّد بن السّميفع «1» فلا تجعلوا للّه ندّا.

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حاليّة من ضمير لا تجعلوا، و فائدتها زيادة التّوبيخ و التثريب على شركهم لا تقييد الحكم و قصره، لوضوح أنّ

العالم و الجاهل المتمكّن من العلم سواء في التكليف و استحقاق العقاب بالمخالفة، و المعنى أنّ حالكم و صفتكم أنّكم من أهل العلم و النّظر و إصابة الرّأي و صحّة المعرفة و التّمييز بين الصّحيح و الفاسد، و الحقّ و الباطل، لا يكاد يشتبه عليكم شي ء من خفيّات الأمور و غوامض الأحوال، فكيف بهذا الأمر الواضح الجليّ الّذي هو التّوحيد و خلع الأنداد، حيث إنّه قد ملأ الأنفس و الآفاق من الآيات البيّنات و الحجج الباهرات فلو تأمّلتم أدنى تأمّل لاضطرّت عقولكم إلى اثبات موجد للممكنات متفرّد بوجوب الذّات، متعال عن مشابهة المخلوقات.

و على هذا فمفعول تَعْلَمُونَ متروك، نزّل منزلة اللازم، قصدا إلى اثبات حقيقة للفاعل في مقام المبالغة، و يجوز أن يقدّر بناء على وجود القرائن المقالية أو الحاليّة، و المعنى أنّكم تعلمون أنّ الأصنام الّتي تعبدونها من دون اللّه لم تنعم عليكم بهذه النّعم الجليلة الّتي عدّدناها، و لا بشي ء منها أو من أمثالها كقوله تعالى هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «2» أو أنّ هذه النّعم كلّها من اللّه سبحانه و انّ تلك الأصنام لا تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع كقوله هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ «3» و يؤيّده ما ذكره الإمام عليه السّلام قال:

__________________________________________________

(1) هو محمد بن عبد الرّحمن بن السميفع (بفتح السين) أبو عبد اللّه اليماني له اختيار في القراءة ينسب إليه شذّ فيه، قرأ على طاوس بن كيسان اليماني المتوفى سنة (106)- له ترجمة في غاية النهاية ج 2 ص 161- 162.

(2) سورة الروم: 40.

(3) الشعراء: 72- 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 435

فَلا تَجْعَلُوا

لِلَّهِ أَنْداداً، و أشباها و أمثالا من الأصنام الّتي لا تعقل و لا تسمع و لا تبصر و لا تقدّر على شي ء وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّها لا تقدر على شي ء من هذه النعم الجليلة الّتي أنعمها عليكم ربّكم «1».

أو أنكم تعلمون أنّ اللّه هو الحقّ المبين، و انّه لا ضدّ له و لا ندّ، و ان أصررتم على جحودكم و إنكاركم باللّسان كقوله: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «2».

و قد ظهر ممّا مرّ انّه لا تنافي بين وصفهم بالعلم في هذه الآية و بالجهل في قوله: قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ «3» لاختلاف المتعلّق فيهما.

و عن بعض المفسّرين أنّ الخطاب لأهل الكتاب كما قال الطبرسي في المجمع عن مجاهد و غيره، و المراد أنّكم تعلمون ذلك على ما قرأتم في الكتاب كقوله: وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «4» و هؤلاء و إن لم يتّخذوا أصناما آلهة من دون اللّه إلّا أنّهم لمّا اتبعوا أهوائهم في مشاقة الحقّ و منادّة الرسول و كتمان ما أوتوا من العلم و المعرفة عوتبوا عتاب المشركين، مع أنّهم منهم في الحقيقة لقوله: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ و قوله «أبغض إله عبد على وجه الأرض الهوى» و أمّا إيمانهم باللّه فلا ينفعهم شيئا إذ مع الغضّ عن قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «5» و إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «6» و غيره من مقالاتهم الفاسدة،

__________________________________________________

(1) تفسير الامام عليه السّلام ص 143 و عنه البحار ج 3 ص 35 ح 10.

(2) النمل: 14.

(3) الزمر: 64.

(4) البقرة: 42.

(5) التوبة: 30.

(6) المائدة: 73.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 4، ص: 436

لم يكن ذلك على وجهه و من بابه الّذي هو تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و من هنا يظهر أنّ الآية ناعية على أهل السّنة أيضا حيث لم يكن إيمانهم على الوجه الّذي أمروا به من ولاية أولياء الأمر الّذين جعلهم اللّه أبوابه و حجّابه، بل هم الأعراف الّذين لا يعرف اللّه تعالى إلّا بسبيل محبّتهم و ولايتهم و طاعتهم كما في الأخبار الكثيرة المتواترة من الطّريقين، فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ في علي أمير المؤمنين ثمّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ من ولايته و خلافته و وصايته وَ يُسَلِّمُوا له الأمر تَسْلِيماً «1» «2».

و لعل في الآية إشارة إلى ذلك، فانّه سبحانه جعل أرض العبادات البدنيّة و ظاهر الطّاعات القلبيّة و القالبيّة فراشا للمؤمنين يتقلبون فيها و يستقرّون في إقامة مراسم دينهم عليها، و جعل سماء الإعتقادات الحقّة الأصوليّة من التوحيد و النّبوة و ما جاء به النّبي صلّى اللّه عليه و آله قبّة مضروبة عليهم و هي قبّة الإسلام و فسطاط الإيمان و أنزل من سماء الايمان و التّصديق باللّه و رسوله ماء الرّحمة الرّحيميّة و معين الولاية العلويّة، فانّ شيعتهم خلقوا من فاضل طينتهم و عجنوا بماء ولايتهم، وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ طريقة ولاية أمير المؤمنين و ذرّيّته المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «3»، و هو ما أشرنا إليه من أنّه من آثار رحمة اللّه الرّحيميّة يحيي به أراضي النفوس، فضلا عن شؤونها من الطّاعات و العبادات بعد موتها، فأخرج به من ثمرات الطاعات و العبادات الصالحة المقبولة و العلوم و المعارف الحقيقية النّورانيّة رزقا لهم

يعيشون بها في الدّنيا و الآخرة.

__________________________________________________

(1) النساء: 65.

(2) مرآة العقول ج 4 ص 283 في شرح ح (7) من الكافي ج 1 ص 391.

(3) سورة الجنّ: 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 437

و لذا أمرهم بأن لا يجعلوا له أندادا في العبادة و في الطاعة بموالاة الجبت و الطاغوت و سائر الشياطين الغاصبين لحقوق محمّد و آله الطّاهرين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

ثمّ أنّه سبحانه جعل لنا أرض النفوس الإنسانية المتعلّقة بالأبدان العنصريّة فراشا نتقلّب فيها و نستقرّ عليها في هذا العالم، و إلّا فلا هبوط لورقاء الروح و عنقاء الفؤاد في هذه النشأة الجسمانيّة لولا النفوس الإنسانيّة المتصرّفة في الأبدان العنصريّة، و جعل سماء العقل الانساني و النّور الشعشعاني سمكا مرفوعا عليكم و أنزل من سماء العقل إلى أرض النفس ماء العلوم الحقيقيّة و المعارف الايمانيّة، فأخرج به بواسطة استعمال العقل و استخدامه للقوى النّفسية من الشهويّة و الغضبيّة و غيرها بعد تعليمها ما علّمه اللّه و تأديبه بآداب المطيعين و صيرورتها آمنة مطمئنة أو راضية مرضيّة من ثمرات العقائد الحقّة و الأخلاق الفاضلة و المحاسن الكاملة و الأعمال الصّالحة المرضيّة على حدود التعبّد و شروط الانقياد رزقا لكم تعيشون به من حيث إنكم إنسان لا من حيث إنكم حيوان، فتنخرطون بها في سلك المتّقين و أوليائه المقرّبين.

و تلك العلوم و المعارف هي المشار إليها بالحبّ و العنب و غيرهما في قوله:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ «1» و لذا فسّر الامام عليه السّلام

الطعام بالعلم «2»، و ستسمع تمام الكلام في موضعه إنشاء اللّه، و قد

__________________________________________________

(1) عبس: 24- 32.

(2) الاختصاص للمفيد ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 438

فسرت الأرض في قوله: أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها* «1» بنفوس العلماء «2».

و لذا رتّب بعض المحقّقين الأرض على درجات، و مراتب أعلاها النفوس الانسانية، ثمّ أنّه سبحانه جعل لإيجادكم و إيجاد معايشكم و مصالحكم أرض الإمكان و القابليّة بإنشاء المشيّة الإمكانية، و جعل سماء المشيّة التكوينيّة مبنيّة عليها مفاضة منه بنفسها لنفسها، و أنزل منها إلى أرض الإمكان ماء الوجود العيني و التّعين الكوني فاخرج به من ثمرات عالم الإمكان أنواعا من الرّزق تستمدّ منها عقولكم و أفئدتكم و أرواحكم و نفوسكم و مثلكم و أبدانكم في كينوناتها و بقائها.

[سورة البقرة(2): آية 23 ]

اشارة

تفسير الآية (23) وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا لما كان المقصود الأعظم من خلق بني آدم هو العبوديّة لخالق العالم كما أشير إليه فيما تقدّم، و كانت العبادة متوقّفة على المعرفة، بل هي ركنها الأقوى و غايتها القصوى، و كانت المعرفة تدور على الأركان الثلاثة الّتي هي التّصديق بالتّوحيد و بنبوّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ولاية أوصيائه الطّيبين صلّى اللّه عليهم أجمعين، و قد قرّر الأوّل في الآيتين المتقدّمتين، و بيّن الطّرق الموصلة إلى تحصيل العلم و التّصديق به عقّبه بذكر ما يدل على الثّاني و هو الإتيان بالمعجزة الباقية على مرّ الدّهور الدّال على الثالث أيضا من جهة ورود النّص قبله، و دلالة الآيات الّتي تحدّى بها عليه أيضا.

__________________________________________________

(1) الرعد: 41.

(2) الكافي ج 1 ص 38 كتاب فضل العلم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص:

439

و لذا

ورد عن الصادق عليه السّلام على ما رواه في كتاب الكافي و الفضائل قال: نزل جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية هكذا: و إن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا في عليّ «1» انتهى.

و في تفسير الإمام عليه السّلام قال لمّا ضرب اللّه الأمثال للكافرين المجاهرين الدّافعين لنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الناصبين المنافقين لرسول اللّه الدّافعين ما قاله محمّد صلّى اللّه عليه و آله في أخيه عليّ عليه السّلام و الدّافعين أن يكون ما قاله من اللّه تعالى و هي آيات محمّد صلّى اللّه عليه و آله و معجزاته مضافا إلى آياته الّتي بيّنها لعليّ عليه السّلام بمكّة و المدينة و لم يزدادوا إلّا عتوّا و طغيانا قال اللّه تعالى لمردة أهل مكّة و عتاة أهل المدينة: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا حتّى تجحدوا أن يكون محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أن يكون هذا المنزل عليه كلامي مع اظهاري عليه بمكّة الباهرات من الآيات كالغمامة الّتي كانت تظلّه بها في أسفاره، و الجمادات الّتي كانت تسلّم عليه من الجبال و الصخور و الأحجار، و كدفاعه قاصديه بالقتل عنه و قتله إيّاهم، و كالشجرتين المتباعدتين اللّتين تلاصقتا فقعد خلفهما لحاجة ثمّ تراجعتا إلى مكانهما كما كانتا، و كدعائه الشّجرة فجاءته خاضعة ذليلة، ثمّ أمره لها بالرّجوع فرجعت سامعة مطيعة، فاتوا يا معشر قريش و اليهود، و يا معشر النواصب المنتحلين بالإسلام الّذين هم منه براء و يا معشر العرب الفصحاء البلغاء ذوي الألسن بسورة من مثله، من مثل محمّد، من مثل رجل منكم لا يقرأ و لا يكتب و لم يدرس كتابا و

لا اختلف إلى عالم و لا تعلّم من أحد، و أنتم تعرفونه في أسفاره و حضره، بقي كذلك أربعين سنة، ثمّ أوتي جوامع العلم حتى علم علم الأوّلين و الآخرين، فإن كنتم في ريب من هذه الآيات فأتوا من

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 70 عن الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 440

مثل هذا الرّجل بمثل هذا الكلام، ليبين أنّه كاذب كما تزعمون، لأنّ كلّ ما كان من عند غيره سبحانه فسيوجد له نظير في ساير خلق اللّه، و ان كنتم معاشر قرّاء الكتب من اليهود و النصارى في شكّ ممّا جاءكم به محمّد صلّى اللّه عليه و آله من شرايعه و من نصبه أخاه سيّد الوصيّين وصيّا بعد أن أظهركم معجزاته الّتي منها أن كلّمته الذراع المسمومة، و ناطقه ذئب، و حنّ إليه العود و هو على المنبر، و دفع اللّه عنه السّم الّذي دسّته اليهوديّة في طعامهم، و غلب عليهم البلاء و أهلكهم به، و كثّر القليل من الطعام فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعني من مثل القرآن من التّوراة و الإنجيل و الزّبور و صحف ابراهيم و الكتب المائة و الأربعة «1» عشر فإنكم لا تجدون في سائر كتب اللّه سورة كسورة من هذا القرآن

انتهى «2» على ما يأتي.

و فيه دلالة على تعميم الخطاب بالنّسبة إلى الكفار و المشركين و المنافقين، و إن كان بعضهم منكرين للنبوّة و آخرون للولاية بناء على أنّ انكار شي ء ممّا تضمّنته الآيات و لو من الاحكام الفرعيّة فضلا عن الأصلية على وجه العناد و المشاقّة إنكار للآيات و لنبوّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله بل جحود للرّبوبيّة أيضا، و لذا ترى الفقهاء يحكمون

بارتداد كلّ من أنكر حكما معلوما من الدّين إذا عاد إلى انكار صاحب الدّين.

و في الآية وجه آخر و هو مبنيّ على اعتبار قوله في الآية المتقدّمة وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ على وجه التّقييد و المعنى انكم إن كنتم عالمين بربوبيّته سبحانه

__________________________________________________

(1) في البحار ج 11 ص 32 ج 24: المائة و الأربعة عشر و لعله تصحيف لان الصدوق قدّس سره روى الحديث باسناده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و فيه: انزل اللّه تعالى مائة كتاب و أربعة كتب.

(2) بحار الأنوار ج 9 ص 175- 176 عن تفسير الإمام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 441

و وحدانيّته فلا ينبغي لكم أن تشركوا به شيئا في العبادة و الطاعة، و إلّا يكن لكم به علم بل كنتم في ريب و شبهة ممّا أنزلنا على عبدنا من الأمر بالتوحيد و خلع الأنداد و إخلاص العبادة و ملازمة الانقياد و الطاعة حتّى في سائر الاحكام فانظروا في دلائل النبوّة من اعجاز القرآن و غيره كي يظهر لكم صحّة قوله و لزوم طاعته و يضطرّ عقولكم إلى وجوب تصديقه فيما أتاه من التوحيد و غيره، فانّه كان مبعوثا ليخرج الناس من ظلمات الكفر و الشرك و الفسق إلى نور الإيمان و العبادة و الطاعة، و لذا كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه «1».

ثمّ المراد بالريب الشك مع تهمة، و إنّما أضافه إلى التّنزيل دون الإنزال، إذ كان من أسباب ارتيابهم و طعنهم فيه نزوله منجّما مفرّقا مدرّجا على قانون الخطابة و الشعر من وجود ما يوجد منها شيئا فشيئا حينا فحينا بحسب ظهور

المقتضيات المتجدّدة و عروض الحاجات المختلفة إذ كانوا يقولون إنّه لو كان من عند اللّه سبحانه لأنزله جملة واحدة لعدم الحاجة حينئذ إلى سبق التروّي و انتظار المصالح و تتبع المقتضيات، و لذا حكى اللّه تعالى عنهم وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «2» فقيل لهم، إن ارتبتم في هذا الّذي نزل تدريجا كما يعطيه التكثير المستفاد من التفضيل فهاتوا أنتم بنجم من نجومه و سورة من سوره فانّه أيسر عليكم من أن ينزل الجملة دفعة واحدة يتحدّى بمجموعه فقد جعل ما اتّخذوه رتبة قادحة في اعجازه وسيلة إلى كونه حقا لا يحوم حوله شك و ريبة تقوية للتحدّي و دفعا لما في صدورهم من الشبهة، و هذه غاية الإلزام و التبكيت.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 37 ص 113 عن تفسير القمي.

(2) الفرقان: 32.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 442

و أضاف العبد إلى نفسه تكريما و تشريفا له و تنويها بذكره، و تنبيها على شدّة اختصاصه صلّى اللّه عليه و آله به سبحانه، و إن ما ظهر منه من الدّعوة و الرّسالة و سائر الشؤون فإنّما هو بأمره و إيجابه فمن أطاعه فقد أطاع اللّه، و من عصاه فقد عصى اللّه.

و قرء عبادنا يريد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و اوصيائه المعصومين الّذين هم مهابط الوحي، و خزّان العلم، و حملة الكتاب، و هم المخصوصون بعلمه و معرفة ظاهره و باطنه، و تنزيله و تأويله، و حقائقه و أسراره.

و لذا أضيف إليهم مع ما قرّر في محلّه من اتّحادهم له صلّى اللّه عليه و آله في عالم الأنوار قبل النّشأة البشريّة و الكسوة العنصريّة إلّا أنّه صاحب التّنزيل

و عليّ صاحب التأويل.

و أمّا ما يقال «1»: من أنّه أراد محمّدا و أمّته فإنّما هو ناش من العمى و القصور فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ... وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «2».

العبد و شرافته

و أمّا حقيقة العبوديّة فقد مرّ الكلام فيها في تفسير الفاتحة، و هذا الإسم من أشرف أسمائه الشريفة، و أخصّ ألقابه المنيفة، و لذا قدّمه في تشهد الصلاة على الرّسالة.

و يضاف في إطلاقه عليه مرّة إلى الاسم المقدّم الجامع و هو اللّه كقوله:

__________________________________________________

(1) الكشّاف للزمخشري ج 1 ص 97.

(2) سورة النور: 40.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 443

وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «1» و أخرى الى ضمير المتكلّم و الغائب كما في المقام، و خبر المعراج، و التشهّد، و ذلك لعبوديّته المطلقة و وساطته الكليّة التّامّة العامّة في جميع الشؤون الالهيّة و الفيوض الرّبانيّة من التكوينيّة و التشريعيّة، بحيث قد ألقى في هويّته مثاله فأظهر عنه أفعاله كما في العلوي «2».

و لذا قال الصادق عليه السّلام على ما في مصباح الشريعة: العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة فما فقد من العبوديّة وجد في الربوبيّة و ما خفي عن الربوبيّة أصيب في العبودية

قال اللّه عزّ و جل سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ «3» أي موجود في غيبتك و في حضرتك و تفسير العبوديّة بذل الكليّة، و سبب ذلك منع النفس عمّا تهوى، و حملها على ما تكره، و مفتاح ذلك ترك الرّاحة و حبّ العزلة، و طريقة الافتقار إلى اللّه عزّ و

جل،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أعبد اللّه كانّك تراه، فان لم تكن تراه فانّه يراك.

و حروف العبد ثلاثة: (ع ب د) فالعين علمه باللّه تعالى، و الباء بونه عمّن سواه، و الدّال دنوّه من اللّه تعالى بلا كيف و لا حجاب.

ثمّ قال عليه السّلام: و أصول المعاملات تنقسم على أربعة أوجه: معاملة اللّه، و معاملة النفس، و معاملة الخلق، و معاملة الدنيا، و كلّ وجه منها ينقسم إلى سبعة أركان أمّا أصول معاملة اللّه فسبعة أشياء: أداء حقّه، و حفظ حدّه، و شكر عطائه، و الرضاء بقضائه، و الصبر على بلائه، و تعظيم حرمته، و الشّوق إليه، و أصول معاملة النّفس سبعة، الخوف، و الجهد، و حمل الأذى، و الرياضة، و طلب الصدق، و الإخلاص،

__________________________________________________

(1) الجنّ: 19.

(2) بحار الأنوار ج 40 ص 165.

(3) فصّلت: 53.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 444

و إخراجها عن محبوبها، و ربطها في الفقر، و أصول معاملة الخلق سبعة، الحلم، و العفو، و التّواضع، و السّخاء، و الشّفقة، و النّصح، و العدل و الإنصاف، و أصول معاملة الدنيا سبعة: الرّضا بالدّون، و الإيثار بالموجود، و ترك طلب المفقود، و بغض الكثرة، و اختيار الزّهد، و معرفة آفاتها، و رفض شهواتها مع رفض الرياسة، فإذا حصل هذه الخصال بحقها في النفس فهو من خاصّة اللّه و عباده المقرّبين و أوليائه «1».

و في البحار قال وجدت بخطّ شيخنا البهائي قدّس اللّه روحه ما هذا لفظه قال الشيخ شمس الدّين محمّد بن مكّي نقلت من خطّ الشيخ أحمد الفراهاني رحمه اللّه عن عنوان البصري، و كان شيخا كبيرا قد أتى عليه أربع و تسعون سنة قال: كنت أختلف

إلى مالك بن أنس سنين، فلمّا قدم جعفر الصادق عليه السّلام المدينة اختلفت إليه و أحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك فقال لي يوما إنّي رجل مطلوب، و مع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء اللّيل و النّهار فلا تشغلني عن ذكري، و خذ من مالك و اختلف إليه كما كنت تختلف إليه، فاغتممت من ذلك و خرجت من عنده، و قلت في نفسي لو تفرّس فيّ خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه و الأخذ عنه، فدخلت مسجد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّمت عليه ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة، و صلّيت فيها ركعتين، و قلت أسألك يا اللّه يا اللّه أن تعطف عليّ قلب جعفر و ترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم، و رجعت إلى داري مغتمّا، و لم اختلف إلى مالك ابن أنس لما شرب قلبي من حبّ جعفر، فما خرجت من داري إلّا إلى الصّلوة المكتوبة حتّى عيل صبري، فلمّا ضاق صدري تنعّلت و تردّيت و قصدت جعفرا، و كان بعد ما صلّيت العصر، فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال حاجتك؟ فقلت: السّلام على الشريف، فقال: هو قائم في مصلّاه، فجلست

__________________________________________________

(1) مصباح الشريعة الباب 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 445

بحذاء بابه، فما لبثت إلّا يسيرا إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة اللّه، فدخلت و سلّمت عليه فردّ السّلام و قال: اجلس غفر اللّه لك، فجلست فأطرق مليّا ثمّ رفع رأسه و قال: أبو من؟ قلت: أبو عبد اللّه قال: ثبّت اللّه كنيتك و وفّقك يا أبا عبد اللّه ما مسألتك؟ فقلت: سألت اللّه أن

يعطف قلبك عليّ و يرزقني من علمك و أرجو أنّ اللّه تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد اللّه ليس العلم بالتّعلم إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة و اطلب العلم باستعماله و استفهم اللّه يفهمك، قلت: يا شريف فقال: قل: يا أبا عبد اللّه فقلت: يا أبا عبد اللّه ما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه تعالى ملكا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال اللّه، يضعونه حيث أمرهم اللّه تعالى به، و لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا، و جملة اشتغاله فيما أمره اللّه تعالى به و نهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله اللّه تعالى ملكا هان عليه الانفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه، و إذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هان عليه الدّنيا و إبليس و الخلق، و لا يطلب الدّنيا تكاثرا و تفاخرا، و لا يطلب ما عند النّاس عزّا و علوّا، و لا يدع أيّامه باطلا، فهذا أوّل درجة التّقى، قال اللّه تبارك و تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «1» قلت: يا أبا عبد اللّه أوصني، قال:

أوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى اللّه تعالى و اللّه أسأل أن يوفقك لاستعماله: ثلاثة منها في رياضة النفس، و ثلاثة منها في الحلم، و ثلاثة منها في العلم، فاحفظها و إيّاك و التّهاون بها قال عنوان: ففرغت قلبي له، فقال: أمّا اللّواتي في الرياضة فإياك

أن تأكل ما لا تشتهيه، فانّه يورث الحماقة و البله، و لا تأكل إلّا

__________________________________________________

(1) القصص: 83.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 446

عند الجوع، و إذا أكلت فكل حلالا و سمّ اللّه، و اذكر حديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله: ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطنه، فإن كان و لا بدّ فثلث لطعامه، و ثلث لشرابه، و ثلث لنفسه، و أمّا اللّواتي في الحلم فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشرا فقل: إن قلت عشرا لم تسمع واحدة، و من شتمك فقل له: إن كنت صادقا فيما تقول فاسأل اللّه أن يغفر لي، و إن كنت كاذبا فيما تقول فاللّه أسأل أن يغفر لك، و من وعدك بالخناء فعده، بالنصيحة و الدّعاء، و أمّا اللّواتي في العلم فاسأل العلماء ما جهلت و إيّاك أن تسألهم تعنّتا و تجربة، و إيّاك أن تعمل برأيك شيئا، و خذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، و لا تجعل رقبتك للنّاس جسرا، قم عنّي يا أبا عبد اللّه فقد نصحت لك و لا تفسد عليّ وردي، فإنّي امرء ضنين بنفسي وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «1».

قوله: إيّاك أن تأكل ما تشتهيه في بعض النّسخ: ما لا تشتهيه و لكلّ وجه، و قد تقدّم شطر من الخبر عند تفسير قوله: إيّاك نعبد مع بعض الكلام في شرحه و في هذين الخبرين الشّريفين كفاية و بلاغ لِقَوْمٍ عابِدِينَ.

تفسير فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

أمر للتعجيز يظهر به عجزهم عن آخرهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه، مع شدّة حرصهم و غاية أنفتهم و حميّتهم، و توفّر دواعيهم على المعارضة و المناقضة، و هم العرب

الغرباء و مصاقع الخطباء، فأفحموا حتّى كأنّهم أبكموا، و قد سمعت في المقدّمة العاشرة تمام البيان في وجوه إعجاز القرآن كما أنّه قد مرّ في غيرها الكلام في اشتقاق السّورة و معناها.

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 1 ص 224- 226.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 447

وقوع التحدّي بكلّ سورة منه دليل على إعجاز كلّ منها و لذا نكّرها.

و مِنْ مِثْلِهِ إمّا متعلّق بمحذوف على أن يكون صفة للسورة أي بسورة كائنة من مثله، و الضمير لما نزلنا أو لعبدنا، فعلى الأوّل يحتمل أن يكون من بيانيّة على معنى تعلّق الأمر التعجيزي بسورة هي مثل المنزل في حسن النظم و غرابة البيان فالمماثلة حينئذ في خصوص الكيفيّة، و ان تكون تبعيضيّة أي بسورة هي بعض مثل المنزل.

و ربّما يقال: إنّ الأوّل أبلغ لإبهام الثاني بانّ للمنزل مثلا محقّقا عجزوا عن الإتيان ببعضه، مع أنّ المماثلة المصرّح بها ليست من تتمّة المعجوز عنه حتّى يفهم أنّها منشأ العجز.

و فيه نظر لوقوع التحدّي حينئذ ببعض المماثل لإظهار عجزهم عنه فضلا عن الكلّ مع حمل الموصولة على ما هي ظاهرة فيه من العموم، و من هنا يظهر أنّ الثّاني أبلغ و أنسب، و أن تكون زائدة كما عن الأخفش أي بسورة مماثلة له و يؤيّده قوله في موضع آخر فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «1» و على الثّاني «2» تكون ابتدائيّة لأنّ السّورة تكون مبتدئة ناشئة من مثل العبد.

و أمّا متعلّق بقوله: فَأْتُوا فالضّمير للعبد، و يجوز أن يكون للمنزل على ما يأتي بيانه، لكنّه في «الكشّاف» «3» قد اقتصر على الأوّل عاطفا له على الأولين، و لذا استشكلوا فيه حتّى صار معركة للآراء و مطرحا لأنظار الفضلاء، سيّما بعد ما

استعمله العضدي عن علماء عصره بطريق الاستفتاء و هذه عبارته: يا أدلاء الهدى

__________________________________________________

(1) يونس: 38.

(2) تفسير البيضاوي ج 1 ص 35.

(3) الكشّاف ج 1 ص 98.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 448

و مصابيح الدّجى حيّاكم اللّه و بيّاكم و ألهمنا بتحقيقه و إياكم ها أنا من نوركم مقتبس و بضوء ناركم ملتبس، ممتهن بالقصور لا ممتحن ذا غرور ينشد بأطلق لسان و أرقّ جنان:

ألا قل لسكّان وادي الحمى هنيئا لكم في الجنان الخلود أفيضوا علينا من الماء فيضا فنحن عطاش و أنتم ورود قد استبهم صاحب الكشّاف مِنْ مِثْلِهِ متعلّق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله و الضّمير لما نزّلنا أو لعبدنا، و يجوز أن يتعلّق بقوله: فَأْتُوا و الضّمير للعبد حيث جوّز في الوجه الأوّل كون الضّمير لما نزّلنا تصريحا و حصره في الوجه الثّاني تلويحا فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزّلنا، و فأتوا من مثل ما نزّلنا بسورة، و هل ثمّة حكمة خفيّة أو نكتة معنويّة أو هو تحكّم بحت، بل هذا مستبعد من مثله، فإنّ رأيتم- كشف الرّيبة و إماطة الشبهة و الإنعام بالجواب أثبتم أجزل الأجر و الثواب، فأجاب عنه غير واحد ممّن عاصره أو تأخّر عنه كلّ منهم بشي ء لا يخلو من شي ء.

منها ما ذكره شيخنا البهائي طاب ثراه في رسالة صنّفها في هذا الباب و هو أنّ الآية الكريمة ما نزلت إلّا للتّحدي الّذي هو طلب المثل عمّن لا يقدر على الإتيان به، فإذا قال المتحدّي فأتوا بسورة بدون قوله من مثله، يفهم منه كلّ أحد أنّه يطلب سورة من مثل القرآن، و إذا قال فاتوا

من مثله، فالظّاهر منه أنّه يطلب ما يصدق عليه أنّه مثل القرآن أيّ قدر كان سورة أو أقلّ منها أو أكثر، و إذا أراد المتحدّي الجمع بين قوله بِسُورَةٍ و بين قوله مِنْ مِثْلِهِ فحقّ الكلام أن يقدّم من مثله و يؤخّر بسورة، و يقول: فأتوا من مثله بسورة حتّى يتعلّق الأمر بالإتيان من المثل أوّلا بطريق العموم، و كان بحيث لو اكتفى به لكان المقصود حاصلا و الكلام مفيدا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 449

لكن تبرّع ببيان القدر المأتي به فقال بسورة فيكون من قبيل التّخصيص بعد التعميم في الكلام و التّعيين بعد الإبهام و هذا الأسلوب ممّا يعتني به البلغاء.

و أمّا إذا قال فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، على أن يكون من مثله متعلّقا بفأتوا يكون في الكلام حشوا، و ذلك لأنّه لما قال: بسورة عرف أنّ المثل هو المأتي منه فذكر من مثله على أن يكون متعلّقا بفأتوا يكون في الكلام حشوا، و كلام اللّه تعالى منزّه عن هذا، فلهذا حكم بأنّه وصف للسورة قال: و تلخيص الكلام أنّ التّحدي بمثل هذه العبارة يقع على أربعة أساليب: الأوّل تعيين المأتي فقط، الثّاني تعيين المأتي منه، الثالث الجمع بينهما على أن يكون المأتي منه مقدّما و المأتي به مؤخّرا، و الرّابع العكس، و لا يخفى أنّ أساليب الثلاث الأوّل مقبولة عند البلغاء و الأخير مردود.

أقول: و فيه أنّ اعجاز القرآن لمّا كان من جهة بلاغته الغريبة الّتي فاق بها على كلّ كلام كان التّصريح على المثلية بعد ذكر السورة لزيادة التّنبيه على بلاغته و ايقاظ المخاطب لزيادة التّامّل في وجوه إعجازه، و هذه فائدة بليغة في المقام و أين هذا من الحشو في الكلام

سيّما في مقام التّحدي و زيادة الاهتمام في رعاية المماثلة الّتي هي باعتبار الكيفيّة فلا يستغنى عنه بذكر السورة المنساقة للتنبيه على الكمّية، هذا مضافا إلى ورود النقض عليه على فرض جعله وصفا للسورة، و هو رحمه اللّه قد تنبّه لذلك في أثناء كلامه ثمّ ذكر أنّ له فائدة جليلة و هي التّصريح بمنشإ التّعجيز فإنّه ليس إلّا وصف المماثلة و عند ملاحظة منشأ التّعجيز أعني مثليته يحصل الانتقال إلى أنّ القرآن معجز و أنت خبير بحصول الفائدة على فرض التعلّق بفأتوا أيضا بناء على كون من مثله في موضع المفعول و بصورة بدلا عنه حسبما يأتي بيانه.

و منها ما ذكره التفتازاني و هو أنّ هذا أمر تعجيز باعتبار المأتي به، و الذّوق شاهد بأنّ تعلّق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل و رجوع العجز إلى أن يؤتى

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 450

منه بشي ء و مثل النّبي صلّى اللّه عليه و آله في البشرية و العربية موجود بخلاف مثل القرآن في البلاغة و الفصاحة و أمّا إذا كان صفة السّورة فالمعجوز عنه هو الإتيان بالسورة الموصوفة و لا يقتضي وجود المثل بل ربما يقتضي انتفاؤه حيث يتعلّق به أمر التّعجيز، و حاصله أنّ قولنا آت من مثل الحماسة ببيت يقتضي وجود المثل بخلاف آت ببيت من مثل الحماسة.

و ردّه شيخنا البهائي رحمه اللّه بأنّه مبنيّ على كون القرآن كلّا له أجزاء و كون التّعجيز راجعا إلى الإتيان بجزء منه، و امّا إذا جعلناه كليّا يصدق على كلّه و بعضه، و على كلّ كلام يكون في لطيفة البلاغة القرآنيّة فلا نسلّم أنّ الذّوق يشهد بوجود المثل و رجوع العجز إلى أن يؤتى بشي ء منه،

بل الذّوق يقتضي أن لا يكون لهذا الكلّي فرد يتحقّق و الأمر راجع إلى الإتيان بفرد من هذا الكلّي على سبيل التّعجيز.

و في كلّ من الجواب و الرّد نظر أما في الأوّل فلانّ دلالته على تحقّق ثبوت المثل غير واضحة بل هو ظاهر الدّلالة على فقده و تعذّره بعد حصول العجز عن الإتيان من مثله بسورة حيث أنّ من الواضح كون العجز ناشيا عن إيجاد المثل و اختلاقه لا عن مجرّد الإتيان به مع تسليم الحمل على ظاهره و أمّا في الحقيقة فالإتيان بمثله ليس إلّا على وجه الرّسالة و نزول الوحي، و من البيّن أنّه متعذّر بالنّسبة إليهم و حيث إنّهم عاجزون عن الإتيان فالتّعجيز حاصل بالأمر بالإتيان، و ليس المراد أنّ المماثلة لا تتحقّق إلّا بصفة كونه و حيا بل الإتيان بمثل هذا الكلام لا يمكن إلّا بالوحي.

و أمّا في الثّاني فلانّ القرآن على فرض كونه كلّيا يصدق على الكلّ و على البعض الّذي يحصل به الاعجاز لكنّه لا يصدق على كلّ كلام يكون طبقة البلاغة القرآنية كما توهّمه على أنّه غير مذكور في الآية رأسا بل الضمير للموصولة الظاهرة بعمومه في الجميع و كونها كناية عن هذا المنزل الّذي له أسماء باعتبارات شتّى لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 451

يوجب اعتباره من حيث كونه مسمّى للقرآن كما هو ظاهر.

و منها ما ذكره صاحب الكشف «1» في حاشية الكشّاف قال: إذا تعلّق بسورة صفة له فالضمير للمنزل أو العبد و من بيانيّة أو تبعيضيّة على الأول لأنّ السورة المفروضة مثل المنزل على معنى سورة هي مثل المنزل في حسن النظم أو لأنّ السورة المفروضة بعض المثل المفروض و الأوّل أبلغ و لا يحمل

على الابتداء على غير البعضيّة أو البيان فإنّهما أيضا يرجعان إليه على ما اختاره الرّازي و ابتدائية على الثّاني، و أمّا إذا تعلّق بالأمر فهي ابتدائية و الضمير للعبد إلّا أنّه لا يبين إذ لا مبهم قبله و تقديره رجوع إلى الأوّل و لأنّ البيانيّة أبدا مستقرّ فلا يمكن تعلّقها بالأمر و لا تبعيض إذ الفعل حينئذ يكون واقعا عليه كما في قولك: أخذت من المال و إتيان البعض لا معنى له بل الإتيان بالبعض فتعيّن الابتداء و مثل السورة و السورة نفسها ان جعل مقحما لا يصلحان مبدأ للإتيان بوجه فتعين أن يرجع الضّمير إلى العبد و ذلك لأنّ المعتبر في مبدئية الفعل المبدء الفاعلي أو المادي أو الغائي أو جهة يتلبّس بها و لا يصحّ واحد منها انتهى.

و حاصله أنّه بطريق السبر و التقّسيم حكم بتعيين كون من للابتداء ثمّ بيّن أنّ مبدئية الفعل لا يصلح إلّا للعبد فتعيّن أن يكون الضّمير راجعا إليه و اعترضه شيخنا البهائي رحمه اللّه باحتمال كونه للتّبعيض إذ وقوع الفعل عليه لا يلزم أن يكون بطريق الأصالة بل يجوز أن يكون بطريق التبعيّة مثل أن يكون بدلا فكما يجوز أن يكون من الدّراهم مفعولا صريحا في المعنى على معنى بعض الدّراهم فكذا يجوز أن يكون بدلا عن المفعول فكأنّه قال بسورة بعض ما نزّلنا فتكون بِسُورَةٍ مفعولا

__________________________________________________

(1) الكشف عن مشكلات الكشّاف لعمر بن عبد الرّحمن الفارسي القزويني المتوفى سنة (745) ه- كشف الظنون ج 2 ص 1480.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 452

بواسطة الباء و تكون البعضيّة المستفادة من من ملحوظة على وجه البدليّة و يكون الفعل واقعا عليه بالتّبع فيكون في حيّز الباء و إن

لم يكن تقدير الباء عليه إذ قد يحتمل في التّابعيّة ما لا يحتمل في المتبوعيّة كما في قولهم ربّ شاة و سخلتها، هذا مضافا إلى جواز كونها للابتداء أيضا بناء على كون القرآن مبدأ ماديّا للسورة من جهة التّلبس و لا بأس به على ما نبّه عليه في كلامه فانّ جهات التّلبس أكثر من أن تحصى من جهة الكميّة و لا تنتهي إلى حدّ من الحدود من جهة الكيفيّة و كون مثل هذا القرآن مبدأ مادّيا للسّورة من حيث التّلبس أمر يقبله الذّهن السّليم و الطّبع المستقيم، على أنك لو حقّقت معنى الابتدائيّة يظهر لك أن ليس معناه إلّا أن يتعلّق به على وجه اعتبار المبدئيّة الأمر الّذي اعتبر له ابتداء حقيقة أو توهّما بل عن التفتازاني أنّ كون مثل القرآن مبدأ مادّيا للإتيان بالسورة ليس أبعد من كون مثل العبد مبدأ فاعليّا و إن قيل إنّه أبعد منه بكثير فانّ الأوّل على وجه المجاز من جهة التّلبس و الثّاني على وجه الحقيقة إذ لو فرض وقوعه لا يكون العبد إلّا مؤلفا لتلك السّورة مخترعا لها فيكون مبدأ فاعليّا لها حقيقة و أين هذا من مجرّد التّلبس المصحّح للسببيّة لكنّ الخطب سهل بعد اشتراكهما في صحّة الإطلاق.

و منها ما هو المحكي عن حواشي الكشاف للقطب «1» رحمه اللّه من أنّه إذا تعلّق بقوله فَأْتُوا فالضمير للعبد لأنّ من لا يجوز أن يكون للتبيين، لأنّ من البيانيّة تستدعي مبهما تبيّنه فتكون صفة له فتكون ظرفا مستقرّا أو لغوا و أنّه محال، و لا يجوز أن تكون للتّبعيض و إلّا لكان مفعول فَأْتُوا لكن مفعول فَأْتُوا لا يكون إلّا بالباء، فلو كان مثل مفعول فأتوا الزم دخول

الباء في من و هو غير جائز فتعيّن أن تكون من للابتداء فيكون الضّمير راجعا إلى العبد لأنّ مثل العبد هو مبدأ الإتيان لا

__________________________________________________

(1) هو قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي المتوفى سنة (710) ه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 453

مثل القرآن و هو قريب ممّا ذكره صاحب «الكشف» و قد سمعت الجواب عنه كما أنّه قد ظهر لك من تضاعيف ما مرّ فساد ما ربما يذكر في المقام أيضا من الوجوه الّتي لا طائل تحت الاطناب بذكرها في المقام سيّما بعد ما ظهر لك صحّة كون الضّمير للمنزل مع فرض التعلّق بالفعل كما لعلّه ظاهر القول المحكي في «المجمع» و هو و إن لم يكن على حدّ غيره من الوجوه الثلاثة المتقدّمة في الظّهور إلّا أن ذلك لا يقضي عليه بالفساد و لا يوجب ترك التّعرض لذكره في عداد المحتملات و لذا ترى صاحب الكشّاف و غيره يتصدّون لذكر الوجوه و المحتملات في الآيات من دون اقتصار منهم على خصوص الرّاجح منها في كلّ مقام، و من هنا يظهر أنّه لا وجه لترك التّعرض لما مرّ من الاحتمال و إنّ شيئا ممّا سمعت لا يصلح عذرا لذلك.

نعم قد يقال إنّ ردّ الضمير إلى المنزل أوجه، و ذلك لأوجه:

أحدها: المطابقة مع نظائره كقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «1» و قوله فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ «2» و قوله: عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «3».

ثانيها: أن البحث إنّما وقع في المنزّل لأنّه قال: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا فوجب صرف الضّمير إليه فيفهم منه ضمنا إثبات نبوّة المنزل عليه، و لو سيق الكلام للعكس لكان الأولى بالنظم أن يقال: و إن

كنتم في ريب في أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله.

ثالثها: أن الضّمير لو كان عايدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو تفرّدوا و سواء كانوا أمّيين أو كانوا عالمين محصّلين

__________________________________________________

(1) يونس: 38.

(2) هود: 13.

(3) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 454

أمّا لو كان عايدا إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فذلك لا يقتضي إلّا كون آحادهم من الأمّيين عاجزين عنه لأنّه لا يكون مثل محمد صلّى اللّه عليه و آله عندهم و في أنظارهم إلّا الشّخص الواحد الامي فلو اجتمعوا و كان كلهم أو بعضهم قارئين لم يكونوا مثله إذ الجماعة لا تماثل الواحد و القاري لا يكون مثل الامي و من البيّن أن التحدي على الوجه الأوّل أقوى.

رابعها: أنّه مع عوده الى العبد لا دلالة فيه على كون السورة ينبغي أن يكون مثل ما أتى به محمد صلّى اللّه عليه و آله في البلاغة و الفخامة و حسن النظم و الأسلوب و قضيّة التحدّي التّنبيه عليه.

خامسها: إنّ عوده إلى العبد يوهم إمكان صدوره ممّن لم يكن على صفته بأن كان ممارسا لدراسة العلوم و تتبّع الكتب.

سادسها: أن عوده إلى المنزّل هو الملائم لقوله: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ و حرّره بعضهم بأنّ المعنى في قوله: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ إن كان، و ادعوا من حضركم إلّا اللّه فلا معنى للاستعانة بالكلّ على تقدير رجوعه إلى المنزل عليه، لأنّ المراد فأتوا بسورة من واحد أخر عربي مثله في الفصاحة و تركيب الكلام، و هذا ممّا لا حاجة فيه إلى الاستعانة سيّما بجميع من سوى اللّه و ان كان المعنى و

ادعوا الهتكم و استظهروا بهم في المعارضة فلا يبقى للتّهكم معنى لأنّ التّهكم نشأ من طلب الأصنام للإتيان بمثل المنزل و إذا كان من يطلب منه المثل واحدا عربيّا و لا ندخل لغيره في الإتيان به فلا يكون في دعوة الأصنام تهكّم بل لا يكون لدعوتها للمعارضة معنى مناسب فيتنافر النظم أيضا و ان كان المعنى و ادعوا زعمائكم الّذين هم أمراء الكلام ليشهدوا انكم أتيتم بالمثل ففيه إيهام أنّ المأمور بالإتيان واحد من غيرهم فلا يتم الاعجاز بخلاف عوده إلى المنزل لعموم الخطاب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 455

هذا غاية ما وجّه به الترجيح و كثير منه لا يخلو عن تكلّف ثمّ أنّه على فرضه لا يأبى عن الحمل على الوجه الاخر ايضا و لو على وجه التأويل بعد وروده في تفسير الامام عليه السّلام فانّه قد فسّره على الوجهين معا على ما مرّت عبارته عليه السّلام.

و قال عليه السّلام مضافا إلى ما مرّ و إن كنتم يا أيّها المشركون و اليهود و ساير النواصب المكذّبين لمحمّد في القرآن و في تفضيله أخاه عليّا المبرّز على الفاضلين الفاضل على المجاهدين الّذي لا نظير له في نصرة المتقين و قمع الفاسقين و إهلاك الكافرين و بثّه دين اللّه في العالمين، إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا في ابطال عبادة الأوثان من دون اللّه و في النهي من موالاة اعداء اللّه و معادات أولياء اللّه، و في الحثّ على الانقياد لأخي رسول اللّه و اتّخاذه إماما و اعتقاده، فاضلا راجحا لا يقبل اللّه ايمانا و لا طاعة إلّا بموالاة و تظنّون أنّ محمّدا تقوّله من عنده و ينسبه إلى ربّه، فان كان كما تظنّون

فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله أمّي لم يختلف قطّ إلى أصحاب كتب و علم و لا تلمذ لأحد و لا تعلّم منه، و هو من قد عرفتموه في حضره و سفره، لم يفارقكم قطّ إلى بلد ليس معه منكم جماعة يراعون أحواله و يعرفون أخباره، ثمّ جاءكم بهذا الكتاب المشتمل على هذه العجائب، فان كان متقوّلا كما تظنّون فأنتم الفصحاء و البلغاء و الشعراء و الأدباء الّذين لا نظير لكم في سائر الأديان و من سائر الأمم، فان كان كاذبا فاللّغة لغتكم و جنسه جنسكم، و طبعه طبعكم، و سيتفق لجماعتكم أو لبعضكم معارضة كلامه هذا بأفضل منه أو مثله، لأنّ ما كان من قبل البشر لا عن اللّه فلا يجوز أن لا يكون في البشر من يمكن من مثله، فأتوا بذلك لتعرضوه و سائر النظّار إليكم في أحوالكم انّه مبطل كاذب على اللّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 456

تفسير وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ

يشهدون بزعمكم أنكم محقون، و أنّ ما تجيئون به نظير لما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و شهداءكم الّذين تزعمون أنّهم شهداؤكم عند ربّ العالمين لعبادتكم لها و تشفع لكم إليه، انتهت عبارته عليه السّلام في هذا المقام «1».

و قال عليه السّلام متّصلا بما مرّت حكايته آنفا ما عبارته: ثمّ قال لجماعتهم وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ أدعوا أصنامكم الّتي تعبدونها يا أيّها المشركون، و ادعوا شياطينكم يا أيّها النصارى و اليهود، و ادعوا قرناءكم من الملحدين يا منافقي المسلمين من النصّاب لآل محمّد و سائر أعوانكم على ارادتكم إن كنتم صادقين بأنّ محمّدا تقوّل هذا القرآن من تلقاء نفسه لم ينزله اللّه عزّ و جل

عليه، و إنّ ما ذكره من فضل عليّ عليه السّلام على جميع أمّته و قلّده سياستهم ليس بأمر أحكم الحاكمين «2» و الشهداء جمع شهيد، و يكسر شينه على ما في القاموس، و يطلق بمعنى الحاضر، و القائم بالشهادة، و الأمين في شهادة، و الّذي لا يغيب عن علمه شي ء، و القتيل في سبيل اللّه، لأنّ ملائكة الرحمة تشهده، أو لأنّ اللّه تعالى و ملائكته شهود له بالجنّة، أو لأنّه ممّن يستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية، أو لسقوطه على الشاهدة و هي الأرض، أو لأنّه حيّ عند ربّه حاضر، أو لأنّه يشهد ملكوت اللّه تعالى و ملكه على ما أشار إليها في «القاموس» و المعاني بجملتها كما ترى تدور على معنى الحضور، قال اللّه تعالى:

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ «3»

و في الخبر فليبلغ الشاهد الغائب.

و معنى دون أدنى مكان من الشي ء و أصله التّفاوت في الأمكنة، يقال لمن هو

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام عليه السّلام ص 200- 201.

(2) تفسير الإمام عليه السّلام ص 154.

(3) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 457

أنزل مكانا من الأخر: هو دون ذلك، فهو ظرف مكان مثل «عند» إلّا أنّه ينبئ عن دنوّ أكثر و انحطاط قليل، و منه تدوين الكتب لجمعه، فانّه إدناء البعض إلى البعض، و الشّي ء الدّون للدّني الحقير، و دونك هذا أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك، و يقال: هذا دون ذاك إذا كان أحطّ منه قليلا حطّا محسوسا ثمّ استعير للتفاوت في الأحوال و الرّتب حتّى صار استعماله فيه أكثر من الأصل فيقال: زيد دون عمرو في الشرف و العلم، و منه قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام حيث أثنى عليه

بعض المنافقين: أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك «1».

ثمّ اتّسع في هذا المستعار فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ و إن لم يكن بينهما تفاوت قريب، و هو بهذا المعنى قريب معناه من معنى الغير، بل قيل: إنّه بمعناه و لذا فسّره به شيخنا الطبرسي في المقام «2» و في «القاموس» دون بالضمّ نقيض فوق، و يكون ظرفا و بمعنى أمام و وراء و فوق ضدّ، و بمعنى غير قيل: و منه ليس فيما دون خمس أواق صدقة «3» أي في غير خمس أواق، و بمعنى سوى قيل، و منه الحديث:

أجاز الخلع دون عقاص رأسها أي بما سوى عقاص رأسها «4»، و معنى الشريف و الخسيس ضد، و بمعنى الأمر و الوعيد.

ثمّ أنّه في الآية يمكن أن يكون بمعنى التّجاوز و هو الّذي يقال إنّها أداة

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 17 ص 46 طبع مصر سنة 1378.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 136.

(3) في لسان العرب: في حديث مرفوع: ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة. قال أبو منصور: خمس أواق: مأتا درهم.

(4) في لسان العرب: الخلع تطليقة بائنة و هو ما دون عقاص الرأس يريد أنّ المختلعة إذا افتدت نفسها من زوجها بجميع ما تملكه كان له أن يأخذ ما دون شعرها من جميع ملكها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 458

استثناء، و يكون بمعنى غير كما في قوله:

يا نفس ما لك دون اللّه من واق و ما للسع بنات الدّهر من راق «1». و على هذا فالشهيد بمعنى القائم بالشهادة، فان كان الظرف مستقرا على أن يكون حالا و أريد بالشهداء

الأصنام فالمعنى أدعوا من اتّخذتموهم آلهة متجاوزين المعبود الحقّ في دعواكم ألوهيّتها و زعمكم أنّها شهداؤكم و شفعاؤكم يوم القيامة، كأنّه قيل أدعوهم ليعينوكم في معارضة القرآن المعجز.

و فيه تهكّم بهم من جهة الاستظهار بالجماد، و تنبيه لهم بأنّها من اللّه بمكان، و مبالغة في التهكّم من حيث إنّهم يدّعون أنّهم شهداء عند اللّه ثمّ يجعلونه شركاءه، و ترشيح له للدّلاله على انّهم معروفون بنصرتهم و شهادتهم، و لذا أمرهم بالاستظهار بهم.

و ان أريد به الشهود على الحقيقة فالمعنى أدعوا أشرافكم و رؤسائكم الّذين هم أمراء الكلام و فرسان المقاولة ليشهدوا أنّكم أتيتم بمثل القرآن متجاوزين اولياء اللّه الذين لا شهادة عندهم بذلك، يعني أنّ اشرافكم أيضا لا يشهدون بذلك حيث تأبى عليهم الطباع و تجمح بهم الأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحّة الفاسد البيّن عندهم فساده، فالكلام على إضمار مضاف أي من دون اولياء اللّه، فانّ شهداءهم أولياءهم، و على هذا فالدّعاء لإقامة الشهادة بانّ ما أتوا به مثل، و فيه دلالة على أنّ عجزهم بمكان و أنّ أولياءهم و هم أصحاب المعارضة بالحقيقة معترفون بأنّه لا مثل

__________________________________________________

(1) أميّة بن أبي الصلت الشاعر الجاهلي الحكيم لم يوفق للإسلام و مات سنة (5) ه و المراد ببنات الدهر: الحوادث استعارة، و كلمة (من) في الموضعين زائدة لتوكيد الاستغراق، أي لا حافظا لك إلّا اللّه، و لا جابر لك إلّا هو.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 459

له، و إنّما سمّاهم شهداء لأنّهم القائمون لهم بالشهادة، أو لأنّهم يشاهدونهم عند المعاونة، و الشهيد بمعنى المشاهد كالجليس و الأكيل، و يمكن أن يكون الدّعاء للاستظهار و الاستعانة، و للأعم من أمرين بناء على عموم المجاز في

الشهادة أيضا، أو على أن يكون صفة لكنّه على ما قيل حكاية لمعتقدهم الباطل لزيادة التّهكم لا ابتداء خطاب منه تعالى، فانّ الدّعاء غير متعلّق حينئذ بقوله من دون اللّه أصلا، مع أنّ الشرط في إطلاق «دون» التقابل أو التداخل، و من البيّن أنّ قيام الأصنام بالشّهادة أنّهم يشهدون لهم يوم القيامة و القيام بالشهادة في حقّه تعالى أن يقولوا اللّه شاهد على ما نقول، و لا تقابل بينهما حتّى يمنع أحدهما و يثبت الاخر بل الجمع بينهما أظهر بالنّسبة إلى مقاصدهم و لا إخراج إذ لا دخول، لكنّه قد يمنع الشرط المذكور و كذا معنى القيام بها في حقّه، و ان كان الظرف لغوا متعلّقا بأدعوا فالمعنى أدعوا أوليائكم و لا تدعوا أولياءه، بناء على ما سمعت من الإظمار، و يرجّحه أصل التّعلق بالفعل و صراحة إخراجهم من تعلّق الدّعاء بهم، و هو لإقامة الشهادة فيفيد التهكم، و لو قيل لا تستظهروا باللّه فانّه القادر عليه لفات معنى التهكم إلى الأمر بالامتحان لتبيّن العجز مع أنّه لا يصحّ استثناء الباري حينئذ لعدم دخوله في الشهيد بالمعنى المتقدّم، أو أنّ المعنى أدعوا شهداء من البشر، و لا تستشهدوا باللّه و لا تقولوا اللّه يشهد أنّ ما ندّعيه حقّ كما يقوله المبهوت العاجز عن اقامة الحجّة على صحّة دعواه، و فيه تعجيز و تبكيت لهم و بيان لدحوض حجّتهم و انقطاع كلمتهم، و أنّه لم يبق لهم متشبّث غير قولهم: اللّه يشهد إنّا صادقون، و إن كان الشهيد بمعنى الحاضر فالظّرف إمّا متعلّق بالفعل و المعنى أدعوا من يحضركم من دون اللّه أي إلّا اللّه فإنّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 460

أيضا حاضر، و الحاصل

استعينوا بغير اللّه و لا تستعينوا به، و انّا متعلّق بشهدائكم أي حاضرين كائنين من دون اللّه، و يمكن أن يكون دون بمعنى قدّام حيث انّها جهة دانية من الشي ء كما في قول الأعشى «1»:

تريك القذى من دونها و هي دونه

أي تريك القذى قدّامها و هي قدّام القذى.

فالشهيد بالمعنى الأوّل و دون ظرف له لغو، و المعنى: أدعوا الّذين يشهدون لكم بين يدي اللّه للاستظهار بهم في المعارضة لا في أداء الشهادة بين يدي اللّه تعالى، و فيه تهكّم و ترشيح، و من محمولة على التبعيض، لأنّ الشهادة كالجلوس و نحوه يقع في بعض تلك الجملة، أو لأنّ صاحبها في بعضها.

و هذه الوجوه العشرة و إن ذكرت على وجه الاحتمال إلّا أنّ بعضها بمكان من الضّعف و لعلّه لا مانع من الحمل على الجلّ بل الكل بناء على عموم المجاز أو جواز الاستعمال في الجميع مطلقا على ما مرّ غير مرّة أو في خصوص الآيات القرآنية.

تفسير إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

و قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، و المعنى إن كنتم صادقين، أنّه من كلام البشر و أنّ محمّدا تقوّله من تلقاء نفسه إلى آخر ما مرّ عن التفسير أو أنّكم مرتابون في التنزيل أو في المنزل فأتوا بسورة.

و «إن» دخلت هاهنا لغير شك لأنّ اللّه تعالى علم أنّهم مرتابون، و لكنّ اللّه خاطبهم على عادتهم في الخطاب فيستعمل مع العلم بكلّ من الطرفين كما في

__________________________________________________

(1) الأعشى: عامر بن الحارث بن رباح الباهلي شاعر جاهلي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 461

طرفي الآية.

و كما

في قول الصادق عليه السّلام لابن أبي العوجاء: إن كان الأمر كما تقول و هو كما نقول نجونا

و هلكتم و إن كان الأمر كما تقولون و هو ليس كما تقولون كنّا و إيّاكم شرعا سواء و لا يضرّنا ما صلينا و صمنا و زكّينا و أقررنا «1».

و الصدق هو الإخبار المطابق، و قيل: منع اعتقاد المخبر أنّه كذلك، و ستسمع إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في سورة المنافقين.

و الآية دليل على صحة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و انّ اللّه تعالى تحدّى بالقرآن و ببعضه على ما مرّ التقريب في المقدّمات في باب وجوه اعجاز القرآن.

[سورة البقرة(2): آية 24 ]

اشارة

تفسير الآية (24) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ تقريع و تبكيت و تهكّم و تعجيز و عظة و وعيد و إعجاز بعد إعجاز بوجوه من الإيجاز و ذلك انّه سبحانه لما أرشدهم إلى ما هو قضيّة عقولهم من الجهة الّتي يتعرّفون بها أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به حتّى يعثروا على حقيّته و صدقه و يضطرّهم عقولهم إلى تصديقه بعد النّظر في معجزته و عجزهم من الإتيان بمثلها و لو مع الاستظهار بمن شاء من الانس و الجنّ قال لهم، فإذا لم تعارضوه و ظهر عجزكم جميعا عن الإتيان بشي ء ممّا يساويه أو يدانيه فقد صرّح لكم الحق عن محضه و استدار الصّدق على قطبه و اضطرّكم عقولكم إلى وجوب التصديق به، فاتركوا العصبيّة و جانبوا الحميّة الجاهليّة و آمنوا به و خافوا العذاب المعدّ لمن كذّب فكانّه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ص 35 عن الاحتجاج.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 462

سبحانه مرتّب على ذلك الإرشاد تكميلا له شرطيّنين: أحدهما محذوفة الجزاء و الاخرى محذوفة الشرط، و المعنى فإذا لم تعارضوه فقد ظهر

لكم صدقه، و إذا ظهر لكم صدقه فآمنوا به و اتّقوا النّار حيث إنّ الايمان به حينئذ واجب يعاقب تاركه و يثاب فاعله.

لكنّ الأظهر كما قيل إنّ هذا باعتبار تقرير المعنى و بيان الملازمة من دون أن يكون هناك شرط محذوف و ذلك لأنّ كون سبب السبب سببا يكفي في ارتباط المسبّب به بكلمة الشرط من غير إضمار أو حذف، و ليس كلّما كانت الملازمة محتاجة إلى وسط يقدر هنالك حذف، و لذا لم يلتزموا به في قولك كلّما كانت الشّمس طالعة كانت الأرض مستضيئة، بل و كذا لو لم يكن اللازم بيّن التفرع بل كان محتاجا إلى البيان كقولك كلّما كان محدّد الجهات موجودا لزم أن يكون كرويّا.

و عبّر عن الإتيان و ما يتعلّق به بالفعل الّذي ينزل في الأفعال منزلة الضمير في الأسماء إذ مبنى كلّ منهما على الاختصار و دفع التكرار، و هذا فنّ من البلاغة يسمّونه إيجاز القصر حيث وقع الفعل وحده موقع الإتيان بسورة من مثله مع الاستعانة بمن شاءوا و هو أبلغ من حذف متعلّق الإتيان، و أمّا جعله مطلقا كناية عنه مقيّد بما تعلّق به فلا يدفع عنه و صمة التكرار.

ثمّ انّ الفعل لا يقدّر له مفعول أصلا لجعله كناية و عموم معناه لسائر الأفعال و كونه من باب يعطى و يمنع حيث إنّ المراد بهما الغرائز أو مجرّد صدور الفعل كما أنّه قد سيق الخطاب في المقام للاخبار عن نفي القدر و صدّر الشرطيّة «بان» الّذي للشك دون «إذا» الّذي للوجوب مع أنّ المقام يقتضيه نظرا إلى أنّه سبحانه لم يكن شاكّا في عجزهم و لذا اعترض بين الشرط و الجزاء بما يدلّ على تأبيد نفي إتيانهم

بمثله لسوق الكلام معهم على حسب حسبانهم حيث قالوا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا فكانوا على طمعهم في التمكّن من المعارضة متّكئين على ما كانوا عليه من

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 463

الفصاحة و اقتدارهم على أفانين الكلام، و ذلك قبل التأمّل منهم من دون أن ينقطع عن قلوبهم عرق العصبيّة أو تنقشع عن أبصارهم عشوة الجهالة، و للتهكم بهم كما يقول الموثوق بالقوّة الواثق من نفسه بالغلبة إن غلبتك لم أبق عليك، و هو يعلم أنّه غالبه تهكّما به.

و «تَفْعَلُوا» مجزوم بلم لأنّها واجبة الإعمال مختصّة بالمضارع متّصلة بالمعمول، دون حرف الشّرط و لأنّها لمّا دخلت على المضارع صيّرته ماضيا منفيّا فصارت كالجزء منه، و مدخول الشرط هو المنفيّ المعمول فكأنّه قال فان تركتهم الفعل، و لذا ساغ اجتماعهما.

و «لا» و «لن» أختان في نفي المستقبل إلّا أنّ «لن» أبلغ و أدلّ على تأبيد النفي و تأكيده توكيده، و الأقرب أنّه حرف مقتضب للدّلالة على النّفي و الاستقبال، و زعم الفرّاء «1» أن أصله و أصل لم لا فأبدلت الألف ميما في أحدهما و نونا في الأخر، و الخليل «2» في إحدى الروايتين و الكسائي «3» أن أصله لا أن فحذفت الهمزة تخفيفا و الألف للسكون، و للفريقين وجوه ضعيفة، و الأظهر الأشهر ما مرّ، نعم قد أنكر نجم الأئمّة «4» و ابن هشام «5» و صاحب «القاموس» كونه للتّأبيد و التأكيد لفقد الدّليل و لأنّه لو كان للتأبيد لم يقيّد منفيه باليوم في قوله:

__________________________________________________

(1) الفرّاء: يحيى بن زياد بن عبد اللّه بن منظور الديلمي ابو زكرياء النحوي الكوفي ولد سنة (144) ه و مات سنة (207) ه

(2) خليل بن أحمد

الفراهيدي الأديب اللغوي المولود (100) و المتوفى (170).

(3) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد اللّه الكوفي المقرء النحوي اللغوي المتوفي (189) ه

(4) نجم الأئمة محمد بن الحسن الاسترابادي المعروف بالشارح الرضي المتوفى (686) ه

(5) ابن هشام: عبد اللّه بن يوسف المصري النحوي المتوفى (761) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 464

فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا «1»، و لكان ذكر الأبد في قوله وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً «2» تكرارا و الأصل عدمه.

و في الكلّ نظر أما فقد الدّليل فلتصريح جملة من اللّغويين و كثير من المفسّرين كشيخنا الطبرسي في مواضع من مجمعه، و الزمخشري، و الرازي، و البيضاوي، و غيرهم ممّن يعتبر قولهم في تعيين الأوضاع على ذلك و شهادة الإثبات مقدّمة، و لعلّ في التبادر شهادة أخرى أيضا و يدلّ عليه أيضا ما في تفسير الامام عليه السّلام حيث صرّح بالتّأبيد في تفسيره على ما يأتي «3».

و أمّا الآية الأولى فاليوم قرينة على نفي التأبيد، و ان أفاد التأكيد أيضا، و نظيره في الإثبات زيد قائم و انّ زيدا قائم.

و أمّا الثانية فمن البيّن أنّه ليس تكرارا بلفظه و لا بمرادفه بل دلّ بالمطابقة على ما يفهم بغيرها دفعا لاستبعاد نفي تمنّي الموت على جهة التأبيد.

فان قلت: إنّ حاصل الشرطيّة تعليق الأمر بالاتّقاء و إيجابه على العجز عن الفعل الّذي هو الإتيان بسورة من مثله فيما مضى و فيما يأتي و انّى لهم العلم بذلك حتّى يتنجّز عليهم وجوب الإيمان بل لا يكفي مجرّد العلم لمغايرته لأبديّة نفي الفعل الّذي هو الشرط.

قلت من البيّن أنّ قوله: لَنْ تَفْعَلُوا معترضة بين الشرط و الجزاء فالجملة الأولى هي الشرط، و هو كاف في الحجّة عليهم

مضافا إلى ما ظهر عنهم من أنّه ليس في قوّة البشر الإتيان بشي ء من مثله أبد الدّهر، فكانت الجملة الثانية تعبير عن

__________________________________________________

(1) مريم: 26.

(2) البقرة: 95.

(3) تفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السّلام ص 154.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 465

انتفاء القدرة الّتي هي الأصل في الفعليّة، و لذا كان يتحداهم بقوله: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1».

و وضع الأمر بالاتقاء موضع الأمر بالإيمان و ترك العناد بعد ما صحّ عندهم صدق النّبي صلّى اللّه عليه و آله يتبيّن عجزهم عن المعارضة ايجازا و تهويلا لشأن العناد و تصريحا بالوعيد الّذي هو أنسب بالمقام و انجازا له حيث طوى ذكر الوسائط بين ترك الفعل و اتّقاء العذاب تنبيها على أنّهم من أهله و مستحقّوه.

و تعريف النّار للاشارة إلى الحقيقة الّتي تجمع الأوصاف المعهودة المعلومة فضلا عن المذكورة في المقام.

و أمّا ما يقال: من أنّه نزلت بمكة الآية الّتي في سورة التحريم و فيها ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ «2» فعرفوا فيها نارا موصوفة بهذه الصفة ثمّ نزلت هذه بالمدينة مشارا بها إلى ما عرفوه أولا «3».

ففيه مع الغضّ من كون ما في التحريم خطابا للمؤمنين و هذه للكفّار أنّ سورة التحريم مدنيّة اتفاقا، و خروج الآية عنها بعيد جدّا، و ما صحّحوه عن ابن عباس و غيره يقتضي عكس ما ذكروه في المقام.

قال الإمام عليه السّلام في تفسير الآية فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هذا الّذي تحدّيتكم به وَ لَنْ تَفْعَلُوا أي و لا يكون ذلك منكم و لا تقدرون عليه، فاعلموا أنّكم مبطلون، و أنّ محمّدا صلّى اللّه

عليه و آله الصّادق الأمين المخصوص برسالة ربّ العالمين، المؤيّد بالروح

__________________________________________________

(1) الإسراء: 88.

(2) التحريم: 6.

(3) قاله الزمخشري في الكشّاف ج 1 ص 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 466

الأمين، و بأخيه أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين، فصدّقوه فيما يخبركم به عن اللّه تعالى من أوامره و نواهيه و فيما يذكره من فضل عليّ عليه السّلام وصيّه و أخيه فَاتَّقُوا بذلك عذاب النّار الَّتِي وَقُودُهَا و حطبها النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ حجارة الكبريت أشدّ الأشياء حرّا أُعِدَّتْ تلك النّار «لِلْكافِرِينَ» بمحمّد و الشاكّين في نبوّته و الدّافعين لحقّ أخيه عليّ و الجاحدين لإمامته «1».

و توصيف النّار بأنّ وقودها الناس و الحجارة للمبالغة في الزّجر و التخويف بتهويل صفتها و تفظيع أمرها و تفاقم لهبها.

و قال عليه السّلام في موضع آخر فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي إن لم تأتوا يا أيّها المقرّعون بحجّة ربّ العالمين وَ لَنْ تَفْعَلُوا أي و لا يكون ذلك منكم أبدا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ توقد فتكون عذابا على أهلها أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ المكذّبين بكلامه و بنبيّه، النّاصبين العداوة لوليّه و وصيّه، قال فاعلموا بعجزكم عن ذلك أنّه من قبل اللّه و لو كان من قبل خلق اللّه لقدرتم على معارضته فلمّا عجزوا بعد التّقريع و التحدّي قال اللّه قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2» «3».

و ما يقال من أنّ صلة الموصول أو خصوص الّذي و الّتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب، و هؤلاء المكذّبون للنّبي بل المنكرون للمعاد كيف علموا أنّ نار الآخرة توقد بالنّاس و الحجارة.

ففيه أنّه قد مرّ المنع

عن ذلك مع أنّهم كانوا ممّن تمّت عليهم الحجّة و حقّت

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام عليه السّلام ص 201- 202.

(2) الإسراء: 88.

(3) تفسير الامام عليه السّلام ص 154 و عنه البحار ج 8 ص 299 ح 54.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 467

عليهم الكلمة وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1» فإذا سمعوا بمثل هذه الآية تتلى عليهم حصل لهم العلم بما تضمّنته من الوعيد الشّديد و التهويل الفظيع مثل ما يحصل من تذكار من كان له علم سابق بذلك بل و أعظم و أفظع.

مضافا إلى ما قد يجاب من أنّه لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب أو سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو سمعوا قبل هذه الآية قوله في سورة التّحريم ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ «2» و الوقود بالفتح ما يوقد به النّار من حطب و غيره كالوضوء بالفتح لما يتوضأ به، و قد يجي ء مصدرا لكن الأغلب فيه على ما صرح به سيبويه و غيره الضم و قرأ به عيسى بن عمر الهمداني «3» على ما في «الكشاف» «4»، و غيره بل في «القاموس» بعد تفسير الوقد محرّكة و ساكنة و الوقود بالضم و الفتح بالنار و اتقادها: أنّ الوقود كصبور: الحطب كالوقاد و الوقيد و قرء بهنّ.

لكنه لا يخفى أن الثلاثة من الشواذ مضافا الى ضعف الراوي و المروي عنه، و عموم قوله عليه السّلام «اقرءوا كما يقرأ الناس» «5» منصرف عن مثله، فلا حاجة إلى التكلّف لتصحيحه باستعماله بمعنى المفعول مجازا لغويّا بأن يراد به ما يتوقد به كما يراد بفخر قومه ما يفتخرون به، و بزين

بلده ما يتزيّن به بلده، أو بالتزام التجوّز في الإسناد كما في قولك: حياة المصباح السليط، أي الزيت الجيّد، أو بحذف مضاف

__________________________________________________

(1) النمل: 14.

(2) التحريم: 6.

(3) هو عيسى بن عمر ابو عمر الهمداني الكوفي القارئ الأعمى المتوفى (156)- غاية النهاية ج 1 ص 612.

(4) الكشاف ج 1 ص 250 قال: و قرأ عيسى بن عمر الهمداني بالضم (أي بضم الواو) تسمية بالمصدر كما يقال: فلان فخر قومه و زين بلده.

(5) وسائل الشيعة ج 6 ص 163 ح 7630 و فيه: «اقرأ كما يقرأها الناس حتى يقوم القائم».

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 468

أي وقودها احتراق الناس و الحجارة.

نعم على القراءة المشهورة يحتمل المصدريّة على أحد الوجهين لكنّه مدفوع بالمرجوحيّة و بنص الإمام عليه السّلام في تفسيره على ما مرّ «1».

و الحجارة جمع حجر، و هي الصخرة و الذهب، و الفضة، و الرمل، و تجمع على أحجار، و أحجر، و حجارة، و حجار، و لعلّ هذه المادة مأخوذ فيها الامتناع و التصلب، فالحجر بالكسر، العقل المانع عن ارتكاب القبائح، و المحجور عليه هو الممنوع عن التصرف، و هو في حجره: في كنفه و حمايته و منعته، بل المناسبة أيضا ظاهرة في اطلاق الحجر على القرابة، و الحرام، و الحجرة على البيت، و الحجر على الصخرة و استحجار الطين على تصلّبه.

و المراد بها في المقام على ما مرّ في كلام الإمام عليه السّلام «2» حجارة الكبريت.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام لقد مررنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بجبل و إذا الدّموع تسيل من بعضه، فقال له ما يبكيك يا جبل فقال يا رسول اللّه كان

المسيح مرّ بي و هو يخوّف الناس بنار وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ فأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة قال صلّى اللّه عليه و آله لا تخف تلك حجارة الكبريت فقرّ الجبل و سكن و هدأ «3».

و في «البصائر» بالإسناد عن ابراهيم بن عبد الكريم الانصاري «4»

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل هو و سهل بن حنيف و خالد بن أيّوب الانصاري حائطا من حيطان

__________________________________________________

(1) تفسير الإمام عن علي بن الحسين عليه السّلام ص 202.

(2) تفسير الإمام عليه السّلام ص 202.

(3) البحار ج 10 ص 40 عن الاحتجاج ص 111- 120.

(4) في البحار: عبد الأكرم الانصاري.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 469

بني النّجار، فلمّا دخل ناداه حجر على رأس بئر لهم عليها السواني «1» يصيح عليك السّلام يا محمّد اشفع إلى ربّك أن لا يجعلني من حجارة جهنّم الّتي يعذّب بها الكفرة، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و رفع يديه: اللّهم لا تجعل هذا الحجر من أحجار جهنّم ثمّ ناداه الرمل، السّلام عليك يا محمّد و رحمة اللّه و بركاته، أدع اللّه ربّك أن لا يجعلني من كبريت جهنّم فرفع النّبي صلّى اللّه عليه و آله يده و قال اللّهم لا تجعل هذا الرّمل من كبريت جهنم «2» الخبر.

و في الخرائج من معجزاته صلّى اللّه عليه و آله أنّه لمّا غزا تبوك كان معه من المسلمين خمسة و عشرون ألفا سوى خدمهم فمرّ صلّى اللّه عليه و آله في مسيره بجبل يرشح من أعلاه إلى أسفله من غير سيلان قالوا ما أعجب رشح هذا الجبل فقال صلّى اللّه عليه و آله أنّه يبكي قالوا

و الجبل يبكي؟ قال صلّى اللّه عليه و آله أ تحبون أن تعلموا ذلك؟ قالوا: نعم، قال عليها السّلام: أيّها الجبل ممّ بكاؤك فأجابه الجبل و قد سمعه الجماعة بلسان فصيح يا رسول اللّه مرّ بي عيسى بن مريم و هو يتلو نار وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ، فانّي أبكي منذ ذلك اليوم خوفا من أن أكون من تلك الحجارة، فقال صلّى اللّه عليه و آله اسكن مكانك فلست منها، إنّما تلك الحجارة في حجارة الكبريت فجفّ ذلك الرّشح من الجبل في الوقت حتّى لم ير شي ء من ذلك الرّشح و من تلك الرّطوبة الّتي كانت «3».

و هذا التفسير حكاه شيخنا الطبرسي عن ابن مسعود و ابن عباس «4» و أمّا ما ذكره الزمخشري و تبعه الرّازي و القاضي من أنّه تخصيص بغير دليل و ذهاب عمّا هو

__________________________________________________

(1) السواني جمع السانية: الساقية أو الناعورة.

(2) بحار الأنوار ج 17 ص 374 عن البصائر ص 148.

(3) البحار ج 8 ص 297 ح 5 عن الخرائج ص 16.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 470

المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل «1» بل علّل الأخير كونه إبطالا للمقصود بأنّ الغرض تهويل شأنها و تفاقم لهبها بحيث تتّقد بما لا يتّقد به غيرها، و الكبريت تتّقد به كلّ نار و إن ضعفت فإن صحّ هذا عن ابن عباس فلعلّه عنى به أنّ الأحجار كلّها لتلك النّار كحجارة الكبريت لسائر النّيران «2».

ففيه أنّ ضعف الوجهين واضح، أمّا الأوّل فلصحّة النقل من طرقنا بل و من طريق من خالفنا فإنّهم حكوه في تفسير الآية عن ابن مسعود كما رواه عنه الطبراني و الحاكم

و البيهقي و غيرهم و عن ابن عباس كما رواه ابن جرير «3» و غيره.

و أمّا الثاني فلأنّ حجارة الكبريت أشدّ حرّا و ضرّا و أسرع وقودا و أبطأ خمودا و أكثر التهابا و أفظع ايلاما، و تزيد على غيرها من الأحجار بشدّة نتن الرّيح و السيلان على الأبدان و الالتصاق بها و الإحاطة عليها بحرارتها المنضمّة إلى حرارة النّار فهي نار جامدة إذا مسّتها النّار ذابت نارا، ألا ترى أنّ الرّيح إذا هبّت على بعض الجبال الكبريتيّة عادت سموما كالحميم، ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ «4».

على أنّ ما استفادوه من الحصر و الاختصاص ممنوع بل هو على فرضه ملحوظ باعتبار آخر، و هو صيرورة الأحجار كبريتا في جهنّم كما يومئ إليه «خبر البصائر» في دعائه صلّى اللّه عليه و آله للرّمل أن لا يجعله اللّه من كبريت جهنم «5»، و لذا نقول إنّها تشمل الأصنام المتّخذة من الحجارة، بل المتّخذ من المعادن و الفلزات و غيرها بناء

__________________________________________________

(1) الكشاف ج 1 ص 252.

(2) تفسير البيضاوي ج 1 ص 58.

(3) تفسير الطبري ج 1 ص 193- 194.

(4) الذاريات: 42.

(5) البصائر: 148.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 471

على أنّها لا تسمع و لا تبصر و لا تنفع و لا تضرّ فهي كالأحجار.

و إنّما قرن الناس بالحجارة و معهم وقودا لأنّهم قرنوا بها أنفسهم في الدّنيا حيث نحتوها أصناما و جعلوها للّه أندادا، و عبدوها من دونه، و جعلوها شفعاء له و شهداء عليهم، استجلبوا بها المسار، و استدفعوا بها المضار فقرنها اللّه معهم في عذاب النّار كما قال: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1»

فكان هذه الآية مفسّرة لما نحن فيه على بعض الوجوه فقوله: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في معنى الناس و الحجارة و حَصَبُ جَهَنَّمَ في معنى وقودها فعذّبوا بما هو منشأ جرمهم إبلاغا في إيلامهم و إغراقا في تحسيرهم حيث عاد نفعها عليهم ضرّا و خيرها عليهم شرّا كما عذّب الكافرون بما كنزوه من الذّهب و الفضّة الّتي شحّوا بها، و منعوها عن حقوقها و جعلوها عدّة و ذخيرة ليوم فاقتهم، فعادت عليهم، و بالا و نكالا يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «2».

و من هنا يظهر الوجه فيما يقال من تفسير الحجارة في المقام بالجوهرين اللذين قد سمعت اطلاق الحجر عليهما كما صرّح به في «القاموس» و غيره.

فهذه أقوال ثلاثة لا تمانع من إرادتها جميعا.

و أمّا ما يقال من أنّ المراد أنّ أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة الّتي توقد بها النّار بتبقية اللّه إيّاها، و ربّما يؤيّد بقوله: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «3» الآية،

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 98.

(2) التوبة:، 35.

(3) النساء: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 472

أو أنّهم يعذّبون بالحجارة المحماة بالنّار، أو أنّ المراد بذكر الحجارة الإشعار على عظم تلك النّار، لأنّها لا تأكل الحجارة إلّا و هي في غاية الفظاعة و الهول، أو أنّ المراد بالنّاس حدود الإنسانيّة و بالحجارة حدود الجسمانيّة، فالمعنى أنّ ما بين الحدّين داخل في وقودها، لانحطاطهم عمّا خلقوا لأجله، و تردّدهم بين الحدّين، فالخطب فيها هيّن بعد رجوع بعضها إلى ما مرّ و مخالفة غيره لظاهر القرآن و الخبر، نعم يمكن أن يقال بعد النّظر إلى ما مرّ

من الكلام في مادّة الحجر أنّ المراد بالحجارة في تفسير الباطن هي القلوب القاسية الّتي هي للمنافقين و الكفار و المشركين فإنّ قلوبهم في الحقيقة حجارة جامدة من نار تصلّبت بطبخ حرارة النّار، و رطوبة الحميم في جحيم العناد و العصيان، و إليه الإشارة بقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «1» و لذا قيل إنّ المشبّه عين المشبّه به في القرآن على ما ستسمع عليه البرهان في موضع آخر، فمعنى الآية فهي الحجارة بل أشدّ قسوة منها،

و قد روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان قاعدا مع أصحابه في المسجد فسمعوا هدّة عظيمة فارتاعوا فقال صلّى اللّه عليه و آله أ تعرفون ما هذه الهدّة؟ قالوا اللّه و رسوله أعلم قال صلّى اللّه عليه و آله: حجر ألقي في أعلى جهنّم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها، و سقوطه فيها هذه الهدّة، فما فرغ من كلامه إلّا و الصّراخ في دار منافق من المنافقين قد مات و كان عمره سبعين سنة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اللّه اكبر، فعلمت الصّحابة أنّ هذا الحجر هو ذلك و أنّه منذ خلقه اللّه تعالى يهوي في جهنّم فلمّا مات حصل في قعرها قال اللّه تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «2».

و روي أيضا ما معناه أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله كان يرعى الغنم قبل النّبوة فسمع هدّة

__________________________________________________

(1) البقرة: 74.

(2) النساء: 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 473

عظيمة و جفلت الغنم، و لمّا نزل عليه جبرئيل عليه السّلام بعد النبوة سأله عن تلك الهدّة فقال: هذه صوت وقع صخرة ألقيتها

في جهنّم منذ سبعين سنة، و الآن وصلت إلى قعر جهنّم و أخبر عليه السّلام أنّه يهوديّ مات و عمره سبعون سنة «1».

و في «العيون» في حديث المعراج انّه صلّى اللّه عليه و آله قال ثمّ سمعت صوتا أفزعني فقال لي جبرئيل أ تسمع يا محمّد؟ قلت نعم: قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنّم منذ سبعين عاما، فهذا حين استقرّت، قالوا: فما ضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى قبض «2».

قال بعض المحقّقين: إنّما كان لسقوط ذلك المنافق تلك الهدّة لسرعة ذلك الهويّ بسبب قوّة ميل إنيّته و طبيعته إلى معاصي اللّه الكبائر الّتي هي ثمرات النّار و سخط الجبّار بما هي عليه من العذاب، و إنّما كان سريع الهويّ لثقل إنيّته، و إنّما ثقلت إنيّته لخلوصها في إرادة المعاصي و تبذخه بها و عدم التفات نفسه إلى اللّه و إلى جهة طاعته فلهذا كان بغفلته و انهما كه في معاصيه حجرا ثقيلا لاجتماع مشاعره في جهات المعاصي، فيميل بماله من درجات الثّقل التّطبعي الى مركزه من السّجين ثمّ قال اشارة إلى الأخبار الثلاثة المتقدّمة، فهذه ثلاثة أحاديث وردت في ثلاثة أوقات متباينة ظاهرا و في نفس الأمر كلّها حكاية عن واقعة واحدة سمعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وقت واحد قبل البعثة و بعد البعثة و في ليلة المعراج قبل أن يصل السّماء الدّنيا، فانظر إلى هذا الفعل الرّبوبي كيف شهد كلّ شي ء ممّا كان و ممّا يكون منذ خلق اللّه القلم الّذي هو عقل الكلّ إلى ما لا نهاية له فيما يكون كلّ شي ء في وقته بل و ما قبل العقل بما لا يكاد يتناهى لأنّه حين

كان في مقام قاب قوسين في عروجه أشهده

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 291 عن تفسير القمي ص 369.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 291 عن تفسير القمي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 474

العقل حين خلقه اللّه و انهى إليه علمه ثمّ كان حين كان في مقام أو أدنى أي بل أدنى أشهده خلق نفسه و عرّفه إيّاها فهنالك عرف ربّه و بالجملة أشهده تعالى ليلة المعراج كلّ شي ء في أوّل وقت كونه إلى آخر انتهائه و انهى إليه علمه من جميع ما كانت و ما يكون ممّا هو محتوم الكون من الدّنيا و الآخرة إلّا أنّه في جريتين كما أشار صلّى اللّه عليه و آله في حديث العيون المذكور في المعراج قال في شأن البراق حين سار عليها ليلة المعراج فلو أن اللّه تعالى اذن لها لجالت الدّنيا و الآخرة في جرية واحدة فلمّا لم يأذن لها إلّا في جريتين جالت الدنيا في جرية و الآخرة في جرية فافهم الإشارة.

و قوله: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ صلة بعد صلة بلا عاطف على قياس ما يقع في الأخبار و الصّفات، و فيه تسجيل على كفرهم، و تنبيه على أنّ النّار الممتازة عن غيرها بأنّها تتّقد و تشتدّ لهبها بالنّاس و الحجارة معدّة لهم، فانّها جعلت عدّة لعذابهم.

أو استيناف و لو بمعونة أن عطف عليه (و بشّر) مبنيّا للمفعول على قراءة زيد، أو حال لازمة بإضمار (قد) من النّار، لا من ضمير وَقُودُهَا، و لو على المصدريّة لحصول الفصل بين الحال و صاحبها بالأجنبي، الّذي هو الخبر، بخلاف الفاصل بينهما على الأوّل لأنّه صفة لصاحب الحال، و الأجود الأوّل.

و قرئ أعتدت بالبناء للمفعول من العتاد بمعنى

العدّة قال «في القاموس» العتيد الحاضر المهيّأ، و المعتد كمكرم المعدّ و قد عتد ككرم عتادة و عتادا.

في أنّ نار جهنّم مخلوقة

و في الآية دلالة على أنّ النّار مخلوقة معدّة لهم حين نزول القرآن كما عليه جمهور المسلمين إلّا شرذمة من المعتزلة فانّهم يقولون سيخلقان في القيامة، و لا

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 475

ينبغي الالتفات إليه بعد ظهور إجماع الاماميّة على ما سمعت، بل لا يبعد دعوى كونه ضروريّا عندهم و نسبة الخلاف إلى السيّد الرّضي رضى اللّه عنه غير ثابتة مضافا إلى ظواهر الآيات الكثيرة كقوله في حقّ الجنّة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ «1» أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ «2» وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «3» وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* «4» و في حق النار أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «5» وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ «6».

و حملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحقّقه مثل وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ «7» وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «8» خلاف الظاهر الّذي هو الحجّة حتى في فروع الأصول، فلا يصار إليه إلّا بالقرينة.

و أمّا قصة آدم و حوّاء و إسكانهما الجنّة ثمّ إخراجهما عنها بأكل الشجرة و كونهما يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ* على ما نطق به الكتاب و السّنة فلا دلالة فيها عليه بعد استفاضة الاخبار بأنّ تلك الجنة كانت من جنان الدّنيا و أنّها من الجنّتين المدهامّتين، و أنّ من دخل جنّة الخلد لا يخرج منها أبدا، و لذا وسوس إليه

__________________________________________________

(1) آل عمران: 133.

(2) الحديد: 21.

(3) النجم: 13.

(4) الشعراء: 90.

(5) البقرة: 24 و آل عمران: 131.

(6) الشعراء: 91.

(7) يس: 51.

(8) الأعراف: 44.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 476

الشيطان بقوله: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى «1» نعم قد تكاثرت الأخبار بل تواترت على ما ذكرناه من سبق خلقهما

كالأخبار الكثيرة الدالّة على أنّه لمّا أسري به إلى السّماء دخل الجنة فرأى كذا و كذا من الحور و القصور و الولدان و الغلمان و انّه رأى على بابها مكتوبا بالذّهب: لا إلّا اللّه، محمّد حبيب اللّه، عليّ وليّ اللّه فاطمة أمة اللّه، الحسن و الحسين صفوة اللّه، على مبغضيهم لعنة اللّه «2».

و في تفسير النعماني و القمّي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: و أمّا الرّد على من أنكر خلق الجنّة و النّار فقوله تعالى: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «3» أي عند سدرة المنتهى «4» و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخلت الجنّة فرأيت فيها قصرا من ياقوت أحمر يرى داخله من خارجه و خارجه من داخله من نوره فقلت يا جبرئيل لمن هذا القصر قال لمن أطاب الكلام و ادام القيام و أطعم الصّيام، و تهجّد باللّيل و الناس نيام «5».

و قال لمّا أسري بي إلى السّماء دخلت الجنّة فرأيت فيها قيعانا «6» و رأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب و لبنة من فضة، و ربما أمسكوا، فقلت لهم: ما بالكم قد أمسكتم، فقالوا: حتى تجيئنا النفقة فقلت: و ما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن: سبحان

__________________________________________________

(1) طه: 120.

(2) الخصال ج 1 ص 157 و عنه البحار ج 8 ص 191 ح 167.

(3) النجم: 15.

(4) تفسير القمي ص 652 و عنه البحار ج 8 ص 133.

(5) امالي الطوسي ص 293 مع تفاوت يسير

و عنه البحار ج 8 ص 190 ح 164 ح و عن تفسير النعماني في ص 176 ح 129.

(6) القيعان: جمع القاع: أرض سهلة مطمئنّة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 477

اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإذا أمسك أمسكنا «1».

و قال صلّى اللّه عليه و آله لمّا أسرى بي ربي إلى سبع سماواته أخذ جبرئيل بيدي و أدخلني الجنّة و اجلسني على درنوك من درانيك الجنّة و ناولني سفر جلة، فانفلقت نصفين و خرجت منها حوراء فقامت بين يديّ و قالت: السّلام عليك يا أحمد السّلام عليك يا رسول اللّه فقلت: و عليك السّلام من أنت فقالت: أنا الرّاضية المرضيّة خلقني الجبار من ثلاثة أنواع: أعلاي من الكافور، و وسطي من العنبر، و اسفلي من المسك، و عجنت بماء الحيوان، قال لي ربّي: كوني فكنت لأخيك و وصيّك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ثمّ قال عليه السّلام و هذا و مثله دليل على خلق الجنّة و بالعكس من ذلك الكلام في النّار «2».

و في «التوحيد» و «الأمالي» و «العيون» عن الهروي قال: قلت للرّضا عليه السّلام:

أخبرني عن الجنّة و النّار أ هما اليوم مخلوقتان، فقال: نعم، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد دخل الجنّة و رأى النّار لمّا عرج به إلى السّماء، قال: فقلت له: فإنّ قوما يقولون:

إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السّلام: ما أولئك منّا «3» و لا نحن منهم، من أنكر خلق الجنّة و النّار فقد كذّب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و كذّبنا، و ليس من ولايتنا على شي ء و خلّد في نار جهنّم، قال اللّه عزّ

و جل: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «4» «5».

أقول و الأخبار بمثله كثيرة جدّا، و في أخبار كثيرة أنّه صلّى اللّه عليه و آله رأى ليلة أسري به

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 177 عن تفسير النعماني.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 177 و فيه: قالت: السّلام عليك يا محمّد، السّلام عليك يا أحمد، السّلام عليك يا رسول اللّه.

(3) لا هم منّا.

(4) الرّحمن: 43- 44.

(5) بحار الأنوار ج 8 ص 119 عن التوحيد و الأمالي و العيون.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 478

إلى السّماء نساء معذّبات في النّار من شأنهنّ كذا و كذا «1».

و حملها على ارتفاع الزمان عنده لدخوله حينئذ في صقع الملكوت، فكان الزمان بطرفيه من الماضي و المستقبل حالا بالنّسبة إليه، و لذا ورد أنّه رأى كذا و كذا و إن لم يقع إلّا بعد انقضاء الزّمان و حشر الأبدان، مخالف لصريح ما يستفاد من تلك الأخبار بل هو جرأة على ردّ النصوص و الإنكار على أهل الخصوص، و ما المانع عن التّصديق به بعد دلالة قواطع الأدلّة عليه.

بل

قد ورد أنّ هذه النّار الدّنيويّة من نار جهنّم، و ذلك أنّ آدم على نبيّنا و آله و عليه السّلام لمّا هبط من الجنّة إلى الأرض هو و حوّاء احتاجا الى نار لينتفعا بها في عمل طعامهم و غيره فنزل جبرئيل و أخذ من نار جهنّم جذوة فغسلها في نهر الكوثر سبعين مرّة. و في رواية وضعها في الكوثر سبعين سنة و لو لا ذلك لأحرقت الأرض و من عليها.

و لذا قال الصادق عليه السّلام فيما رواه القمي و غيره

أنّ ناركم هذه جزء من نار جهنّم و قد اطفأت سبعين مرّة بالماء ثمّ التهبت و لو لا ذلك ما استطاع آدميّ أن يطفأها و أنّها ليؤتى بها يوم القيامة حتى توضع في النّار فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل إلا جثى على ركبتيه فزعا من صرختها «2».

ثمّ أعلم أنّ التحدّي بالقرآن قد جاء فيه على وجوه متدرّجة إلى الأدنى كقوله: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى «3» و قوله: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «4» و قوله:

__________________________________________________

(1) راجع البحار ج 8 ص 309 فيه حديث مفصّل عن العيون ص 184- 185.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 288 عن تفسير القمي.

(3) القصص: 49.

(4) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 479

قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «1»، و قوله: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «2».

و نظير هذا من يتحدّى صاحبه بتصنيفه فيقول: ائتني بخير منه، ائتني بمثله، أو بعشرة، أو بمسألة منه، و هذا هو الغاية في التحدّي و ازاحة العلّة، سواء كان ذلك من جهة الفصاحة أو الصّرفة أو الأعم من الوجهين، أو غيرهما من الوجوه الّتي مرّت إليها الإشارة في المقدّمات.

دليل اعجاز القرآن

ثمّ أنّه قد يقرّر الدّلالة في هاتين الآيتين على الإعجاز من وجوه:- أحدها: أن العرب مع ما كانوا عليه من الحميّة و الانفة و العداوة الشديدة لرسول صلّى اللّه عليه و آله و الجهد الأكيد و الحرص الشّديد في إبطال أمره و اطفاء نوره قد حداهم بالتّقريع و التّهديد و تعليق الوعيد على العجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، فعجزوا عن آخرهم مع كثرتهم

و فصاحتهم عن الإتيان به حتى التجأوا إلى مفارقة الأوطان و بذل المهج و سبي الذراري و النّساء و لم يأتوا بشي ء من مثله.

ثانيها: أنّه يتضمّن الأخبار عن الغيب على ما هو به فانّهم لو عارضوه بشي ء في عصر من الأعصار لامتنع خفاؤها عادة مع توفّر الدّواعي و اجتماع الهمم و تصلّب أهل الباطل في النّقض عليه في كلّ عصر.

ثالثها: أنّه عليه السّلام لو لم يكن قاطعا بصحّة نبوّته لما قطع في الإخبار بأنّهم لا يأتون بمثله مخافة أن يعارض و لو في عصر من الأعصار المتأخّرة فتصبح حجّته

__________________________________________________

(1) هود: 13.

(2) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 480

داحضة.

رابعها: أنه صلّى اللّه عليه و آله و إن كان متّهما عندهم فيما يتعلّق بالنّبوة فلقد كان معروفا عندهم بالأمانة و حصافة العقل و سداد الرأي و حسن النظر في العواقب فلو تطرقت التّهمة إلى ما ادّعاه من النّبوة لمّا استجاز أن يتحداهم و يبلغ في التحدّي إلى نهايته، بل كان خائفا و جلا من و خامة العاقبة فيظهر منه أنّه كان عالما بعجزهم عن ذلك إلى غابر الدّهر و لذا حملهم على المعارضة بأبلغ الطّرق و الأخيران كما ترى ثمّ أنّه قد يستدلّ بهذه الآية و نحوها على بطلان القول بالجبر و فساده في نفسه أظهر من أن يستدلّ عليه بالظّواهر.

[سورة البقرة(2): آية 25 ]

اشارة

تفسير الآية (25) وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جرت عادته سبحانه و هو اللّطيف الرّحيم في كتابه الكريم أن يلطف بعباده و يدعوهم الى ما يقربهم إليه و الناس و إن كانوا في ايمانهم على درجات شتى و مراتب لا تحصى، فمنهم من يعبده حياء أو شكرا أو تأهّلا أو

ترقّيا أو استلذاذا أو غير ذلك إلّا أنّ العامة لو لم نقل الكافّة يجمعهم الخوف و الرّجاء، و لذا تراه سبحانه شفّع التّرهيب بالتّرغيب و ذكر الإنذار مع الإبشار، و لمّا ساق الكلام في التّهديد و الوعيد على تاركي العبادة و منكري التّوحيد و النبوّة و الولاية و أنذرهم بالعقوبة الفظيعة على الأعمال الشّنيعة عقّبه ببشارة من كان من أهل البشرى، و هم الّذين يتقرّبون إليه زلفى، بالعلم النّافع و العمل الصّالح كما قال: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1» و المأمور بقوله: بشّر هو النّبي صلّى اللّه عليه و آله فإنّه هو

__________________________________________________

(1) الزمر: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 481

المتحمل لأعباء الرسالة المخاطب بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً «1» ثمّ أوصياؤه المعصومون الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا فإنّهم الدعاة إلى اللّه، و الأدلّاء على مرضاة اللّه و المظهرين لأمر اللّه و نهيه، و عباده المكرمين الّذين لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، ثمّ خلفاؤهم و نوّابهم الذين هم مستودع علمهم و مشكاة أنوارهم في سائر القرون و الأعصار و هم القرى الظّاهرة الذين جعلهم اللّه تعالى وسائط بين الناس و بين القرى المباركة صلوات اللّه عليهم أجمعين ثمّ سائر المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

و شمول الخطاب للجميع باعتبار الأصالة و التبعيّة لظهور عموم نبوته، و توقّف التبليغ إلى الكلّ على تلك الوسائط و غيرها، فهو المبلّغ في الحقيقة و المبشّر المنذر بجميع الخليفة فإذا قال أحد لغيره: بشّر المشّائين إلى المساجد في ظلم اللّيالي بالنّور الساطع

يوم القيامة فكأنّه هو المبشّر لكلّ من بلغه هذا الخطاب كما أنّه هو المبلغ لسائر الأحكام بعد قوله: فليبلغ الشاهد الغائب.

و أمّا ما يقال من أنّ توجيه الخطاب إلى كلّ أحد أحسن و أجزل لأنّه يؤذن بأنّ الأمر لعظمه و فخامة شأنه محقوق بأن يبشّر به كلّ من قدر على البشارة به «2».

ففيه أنّه يكفي في فخامة الأمر كونه ممّا صدع لتبليغه خاتم النّبيين و سيّد المرسلين من وحي ربّ العالمين.

و لعلّ النكتة في توجيه الخطاب بالإبشار إليه دون الإنذار المتقدّم مع أنّه البشير النّذير أنّ هؤلاء إنّما بشّروا بما بشّروا به لإيمانهم بالنّبي صلّى اللّه عليه و آله و تصديقهم له

__________________________________________________

(1) سبأ: 28.

(2) قال الزمخشري في الكشّاف ج 1 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 482

في نبوّته و فيما جاء به من اللّه سبحانه، فلمّا جعلوه واسطة في إيصال الفيوض الإلهيّة و تبليغ الشّرائع الدّينيّة بشّروا من جهة توسّلهم به و انقطاعهم إلى تصديقه، و أمّا من لم يصدّقه في حياطته و وساطته فالأنسب بحاله أن يجاهر بالتوبيخ و التّهديد و الوعيد الشّديد من دون أن يجعل ذلك من جهة وساطته، و لذا عطف القصّة على القصّة من جهة تناسبها في جهة الإبشار و الإنذار المتعلّقين بطرفي مطلوب واحد من دون اعتبار آحاد الجمل الواقعة فيها إذ المعتبر في عطف الجمل المسوقة لغرض على الجمل المسوقة لأخر إنّما هو التناسب بين القصّتين لا بين جمل القصّتين، و ذلك نظير ما يقال في عطف المفرد في مثل قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ «1» أنّ الواو الوسطى، لعطف مجموع الصّفتين الأخريين على مجموع الأولين، فلو اعتبرت عطف كلّ

مفرد بالاستقلال لانتفى التناسب بينهما.

و من هنا يظهر أنّه ليس عطفا على خصوص قوله «فَاتَّقُوا» حتّى يقال، إنّه جواب للشرط فمع العطف يكون التّقدير فإن لم تفعلوا فبشّر الذين آمنوا و لا ارتباط بينهما، و إن عطف الأمر لمخاطب على الأمر لمخاطب آخر انّما يحسن إذا صرح بالنداء و أما بدون التصريح به فقد منعه النحاة نعم قد يقال: الربط حاصل و المخاطب متّحد، و ذلك لأنّ المعنى فاتّقوا النّار و اتّقوا ما يغيظكم من غبطة أعدائكم و هم المؤمنون، فأقيم وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «2» ليدلّ على أنّه مقصود لذاته أيضا لا لمجرّد غيظهم.

و فيه أنّ المنساق من الآية مقابلة الإنذار بالإبشار لا الإشعار على ما يغيظ

__________________________________________________

(1) الحديد: 3.

(2) الحديد: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 483

الكفّار، بل لعلّ الاولى ما سمعت أنّه من عطف القصّة على الأخرى، فلا داعي أيضا إلى التكلّف بتضمين الخبر معنى الإنشاء أو العكس، أو تقدير «قل» قبل «يا أَيُّهَا النَّاسُ» أي قل كذا و كذا و بشّر المؤمنين على ما هو المحكي عن صاحب «المفتاح» «1» أو تقدير جملة بعد «أُعِدَّتْ» أي فأنذر الّذين كفروا بتلك النّار، «وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا» و هو المحكي عن «صاحب الإيضاح» «2» و استحسنه صاحب «الكشف» «3» قال و هو نظير ما اختاره الزمخشري في قوله: وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا «4» و في قراءة زيد بن علي عليه السّلام و بشّر على لفظ المبني للمفعول عطفا على أُعِدَّتْ بناء على احتمال كونه استينافا فيكون استينافا إذ لا يستقيم على غيره من الوجوه.

و البشارة الخبر السارّ لما يظهر من أثر السرور على البشرة الّتي هي ظاهر جلد الإنسان، و أصل المادّة للظّهور،

و منه البشر في مقابل الجنّ المستتر، و بشرة الأرض ما ظهر من نباتها، و تباشير الصّبح ما ظهر من أوائل ضوئه إلّا أنّه غلبت البشارة بالكسر و الضمّ على الإخبار الاول بالشي ء السار، و لذا ذكر الفقهاء أنّه لو حلف ليعطينّ من بشّره بكذا فهو لمن يخبره به أوّلا به، إلّا أن يكون المخبر متعدّدا بأن نطقوا جميعا دفعة واحدة فيشتركون فيه، بخلاف ما لو قال: من أخبرني فانّ الثاني مخبر كالأوّل.

و أمّا إطلاقه على غير السّار كقوله:

__________________________________________________

(1) هو أبو يعقوب السكاكي المتوفى (636) ه حكي تقدير (قل) قبل يا أَيُّهَا النَّاسُ عن السكاكي في الإيضاح ج 1 ص 262.

(2) هو الخطيب القزويني المتوفى (739) ه

(3) هو ابو زرعة احمد بن الحافظ عبد الرّحيم العراقي المتوفى (826) ه و الكشف حاشيته على الكشاف.

(4) سورة مريم: 46.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 484

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» فعلى عموم المجاز، أو استعارة أحد الضّدّين للآخر تهكّما و استهزاء للقصد إلى زيادة غيظ المستهزء به و تألّم قلبه، و على طريقة قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع، من حيث أنّه غير سارّ و ان لم يكن فيه تهكم.

و كنّى عن المبشّرين بالرسول تكريما لهم و تنويها بذكرهم و تفخيما لشأنهم، و للاشارة إلى السبب الّذي استحقوا به تلك البشارة و هو جمعهم بين الايمان الّذي هو التصديق القلبي و العمل الصّالح الّذي هو من فعل الجوارح مع مراعاة التّرتيب بينهما على ما هو عليه.

و الصالحات جمع صالحة و هي من الصفات الغالبة تجري مجرى الأسماء حيث تستعمل بلا قصد إلى موصوف كالحسنة و السيئة.

و هي من الأعمال ما حسّنه الشرع و أمر به سواء

كان ذلك بلسان العقل الّذي هو الحجّة الباطنة أو بلسان الشرع الظّاهر الّذي صدع به الأنبياء و الأوصياء و نوّابهم الخاصّة و العامة، و تأنيثها بتأويل الفعلة أو الخصلة أو الخلّة أو ما ضاهاها، و ليست اللام فيها لاستغراق الأفراد أو الجمع أو المجموع و إن قلنا بظهور الجمع المحلّى فيه، و لا للعهد، بل لجنس الجمع لأنّ البشارة ليست مقصورة على ما حازها بأجمعها بحيث لا يشذّ عند شي ء منها، بل يشترك فيها كلّ من آمن بالأصول المقرّرة الّتي هي التوحيد و النبوّة و الإمامة و المعاد إذا قرن الايمان بفعل جملة من الطاعات، نعم للجزاء المبشّر به مراتب و درجات كثيرة منطبقة على مراتب الإيمان و الأعمال الصّالحة، فأعلاها و أرفعها لمن فاز بالإيمان الكامل و وفّق للإتيان بجميع الأعمال الحسنة بحيث لا يشذّ عنه شي ء منها، حسبما يقتضيه وضع الجمع المحلّى أو ظاهره، فالمثوبة العظمى و الجزاء الأوفى مختصّة بهم، لأنّهم الذين تسنّموا الذّروة

__________________________________________________

(1) آل عمران ك 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 485

العلياء من الإيمان و فازوا منه بأوفر النّصيب من المعلى و الرّقيب، و أمّا من دونه من أصحاب الدرجات النازلة فإنّما ينالون من تلك البشارة و المثوبة على قدر مراقبهم في الايمان.

و لذا

ورد أنّه ما ورد آية في حق المؤمنين إلّا و عليّ أميرها و شريفها و سابقها و رأسها «1» لأنّه أوّل المؤمنين ايمانا و أسبقهم تصديقا و أعظمهم يقينا و أعملهم بأنواع الطاعات و القربات، و لذا سمّي أمير المؤمنين، و إنّما ينال من ينال شيئا منها بوساطتهم و شفاعتهم، بل قد ورد أنّ نزول هذه الآية أيضا فيهم و في شيعتهم.

ففي تفسير فرات عن الباقر

عليه السّلام في قوله: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال عليه السّلام: هو عليّ بن أبي طالب و الأوصياء من بعده و شيعتهم «2».

و فيه عن ابن عباس في هذه الآية قال: نزلت في عليّ و حمزة و جعفر و عبيدة بن الحرث.

و روى الجبري و هو من أعيان علماء العامّة عن ابن عباس قال فيما نزل في القرآن من خاصة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و أهل بيته دون الناس من سورة البقرة:

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا الآية نزلت في عليّ و حمزة و جعفر و عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب «3».

و في تفسير الامام عليه السّلام: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و صدّقوك في نبوّتك فاتّخذوك نبيّا و صدّقوك في أقوالك و صوّبوك في أفعالك و اتخذوا أخاك عليّا بعدك و لك وصيا مرضيّا و انقادوا لما يأمرهم به و صاروا إلى ما أصارهم إليه، و رأوا له ما يرون لك إلّا النّبوة الّتي أفردت بها و أنّ الجنان لا تصير لهم إلّا بموالاته و موالاة من

__________________________________________________

(1) تفسير فرات ص 3 و 4 و عنه البحار ج 36 ص 128- 129.

(2) تفسير فرات ص 4- 5 و عنه البحار ج 36 ص 149.

(3) رواه تفسير الكنز ج 1 ص 283 عن تفسير الفرات ص 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 486

ينصّ لهم عليه من ذرّيّته و موالاة سائر أهل ولايته و معاداة أهل مخالفته و عداوته، و أنّ النيران لا تهدأ عنهم و لا تعدل بهم عن عذابها إلّا بتنكّبهم عن موالاة مخالفيهم و موازرة شانئيهم وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من أداء الفرائض و

اجتناب المحارم و لم يكونوا كهؤلاء الكافرين بك أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت أشجارها و مساكنها «1».

و أَنَّ لَهُمْ منصوب المحلّ بنزع الخافض، و إفضاء الفعل إليه كما هو مذهب الخليل و غيره، أو مجرور بتقدير الجار كما قوّاه سيبويه قال: و له نظائر نحو لاه أبوك اللّه لأفعلنّ.

الجنّات و نعيمها

و الجنّات جمع الجنّة و هي البستان من النّخل و الشجر الملتفّ المظلّل بالتفاف أغصانه من جنّه إذا ستره، و مدار التركيب و الترتيب على الستر، و منه الجنّ لتستّرها عن عيون الناس، و الجنون لأنّه يستر العقل، و الجنّة لأنّه يستر البدن، و الجنين لتستره بالرّحم، و جننت الميّت، و أجننته و أريته، و أجننت الشي ء في صدري أكننته، و الجنن بالفتح القبر لأنّه يستر، و الجنان بالفتح القلب لأنّ الصدر يستره، و هيئة الجنّة المرّة من الستر، كأنّها سترة واحدة لفرط التفافها.

و في «الصحاح» أنّ العرب تسمي النّخيل جنّة، و في «المصباح» انّها الحديقة ذات الشجر و قيل ذات النخل، و في «القاموس»: انّها الحديقة ذات النخل و الشّجر و الجمع ككتاب، ثمّ انّها غلبت على دار كرامة اللّه و محلّ رضوانه و مقرّ أوليائه بما فيها من الحور و القصور و الولدان و الغلمان و الأشجار و الأنهار فإنّها مستورة عن عقول أهل الدّنيا و ادراكاتهم

__________________________________________________

(1) كنز الدقائق ج 1 ص 281- 283 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 487

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1».

و في القدسيّات: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر

«2».

و في «العلل» سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله لم سمّيت الجنّة جنّة، قال: لأنّها جنينة خيّرة نقيّة و عند اللّه تعالى ذكره مرضيّة «3».

أبواب الجنّة

و تنكيرها لتفخيم شأنها و تعظيم أمرها، و جمعها باعتبار تعدّدها في نفسها فإنّها ثمانية على ما ذكره بعض المحقّقين الأولى: جنّة الفردوس، الثانية الجنّة العالية، الثالثة جنّة النّعيم، الرّابعة جنّة عدن، الخامسة جنّة دار السّلام، السادسة جنّة دار الخلد، السابعة جنّة المأوى، الثامنة جنّة دار المقام.

قال و جنان الحظائر سبع كلّ حظيرة ظلّ لجنّة من جنان الأصل و أمّا جنّة عدن فلا ظلّ لها ففي الآخرة خمسة عشر جنّة ثمان هي الأصول المعروفة كلّ سماء فوقها جنّة و الثامنة فوق الكرسي و سبع جنان الحظائر و هي تحت الثّمان و أقل منها.

و في الحديث: أنّ جنان الحظائر يسكنها ثلاث طوائف من الخلائق مؤمنوا الجنّ، و أولاد الزّنا من المؤمنين، و أولاد أولادهم إلى سبعة أبطن و المجانين الذين لم يجر عليهم التكليف الظاهر و لم يكن لهم من أقربائهم شفعاء ليلحقوا بهم و أسماء جنان الحظائر أسماء الأصل مثل الشّمس الّتي في السّماء الرابعة فان اسمها الشّمس

__________________________________________________

(1) السجدة: 17.

(2) الخصال ج 1 ص 79 و عنه البحار ج 8 ص 191 ح 167.

(3) علل الشرائع ص 161 و عنه البحار ج 8 ص 188 ح 157.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 488

و إشراقها في الأرض اسمه الشّمس.

أقول أمّا الأسماء المذكورة فلم أظفر بها في شي ء من الأخبار على ما مرّ من التّفصيل و التّرتيب و نسبه في موضع أخر إلى القيل ثمّ قال في الجنّة الرّابعة و هي الّتي لا حظيرة على ما يومي

إليه إشارات بعض الأخبار.

نعم

في «الخصال» عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشّهداء و الصّالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا فلا أزال واقفا على الصّراط أدعو و أقول: ربّ سلم شيعتي و محبّي و أنصاري و أوليائي و من تولاني في دار الدّنيا: فإذا النّداء من بطنان العرش: قد أجيب دعوتك و شفّعت في شيعتك و يشفع كلّ رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا اللّه و لم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت «1».

و فيه عن الباقر عليه السّلام: أحسنوا الظّن باللّه و اعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب عرض كلّ باب منها مسيرة أربعين سنة «2».

و في «الفضائل» و «الروضة» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال لمّا أسرى بي قال لي جبرئيل قد أمرت الجنّة و النّار أن تعرض عليك قال صلّى اللّه عليه و آله فرأيت الجنة فيها ثمانية أبواب «3» ، الخبر على ما يأتي ان شاء اللّه في تفسير قوله: وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها «4».

و في «الأمالي» في خبر عثمان بن مظعون عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ للجنّة ثمانية

__________________________________________________

(1) الخصال ج 2 ص 407- 408 ح 6.

(2) الخصال ج 2 ص 408 ح 7.

(3) بحار الأنوار ج 8 ص 144 عن الفضائل.

(4) الزمر: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص:

489

أبواب و للنّار سبعة أبواب «1» إلى غير ذلك ممّا يدل على جملة العدد.

و الظاهر أنّ المراد بالأبواب في هذه الأخبار ما يعبّر عنه بالجنان، فما

روته العامّة عن ابن عباس من أنّها سبع جنّة الفردوس و جنّة عدن و جنّة نعيم و دار الخلد و جنّة المأوى و دار السّلام «2» و عليّون

ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، نعم ربّما يستفاد من بعض الأخبار زيادة الأبواب على ذلك.

ففي الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: أمّا الجنان المذكورة في القرآن فانّهنّ جنّة عدن، و جنّة الفردوس، و جنّة النّعيم و جنّة المأوى قال: و إنّ للّه عزّ و جل جنانا محفوفة بهذه الجنان، و انّ المؤمن ليكون له من الجنان ما أحبّ و اشتهى يتنعّم فيهنّ كيف شاء «3».

و في المناقب عن أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ للجنّة إحدى و سبعين بابا يدخل من سبعين منها شيعتي و أهل بيتي، و من باب واحد سائر النّاس «4».

و في بعض الأخبار أنّ للجنّة بابا يقال له الرّيان لا تفتح إلّا يوم القيامة للصّائمين و الصائمات و انّ من الجنان جنّة الجلال «5».

و في الإكمال عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في أجوبته عن مسائل اليهودي:

أنّ منزل محمّد صلّى اللّه عليه و آله من الجنّة في جنّة عدن، و هي وسط الجنان و أقربها من عرش الرّحمن جلّ جلاله، و الّذين يسكنون معه في الجنّة هؤلاء الاثني عشر صلّى اللّه عليه و آله «6».

__________________________________________________

(1) الأمالي ص 40 و عنه البحار ج 8 ص 170 ح 112.

(2) تاج العروس ج 9 ص 166.

(3) الكافي الروضة ص 100 و عنه البحار ج 8 ص 161 ج 98.

(4) بحار الأنوار ج 8 ص 139 ح 55 عن المناقب.

(5) معاني الأخبار ص 116 و عنه البحار ج 8 ص 194 ح 175.

(6) إكمال الدين ص 172- 173 و عنه البحار ج 8 ص 189 ح 161.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 490

و لعلّ كون هذه الجنّة وسطا باعتبار كونها خيرا من الكلّ كقوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» مع كونها مركز الجميع بمعنى كونها مقدّما على الجميع في الخلقة و منشأ لتعلّق الفيوضات و الأنوار منها إلى الجميع كما أنّ محمّدا و آل محمّد صلّى اللّه عليهم أجمعين أوّل المخلوقات و أفضل الموجودات و كلّ ما في الكون يستمدّون منهم في التكوين و التشريع، فإنّ عالم الكون قد خلق من فاضل أشعة أنوار وجودهم حتّى السّموات و الأرض و العرش و الكرسي و الجنّة و غيرها كما استفاضت به الأخبار.

ففي كتاب «الأنوار» لأبي الحسن البكري استاد الشهيد الثّاني عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّه قال: كان اللّه و لا شي ء معه فأوّل ما خلق نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبل خلق الماء و العرش و الكرسي و السماوات و الأرض و اللّوح و القلم و الجنّة و النّار و الملائكة و آدم و حوّاء باربعة و عشرين و أربعمائة ألف عام (ثمّ ساق الخبر بطوله الى أن قال): ثمّ خلق اللّه من نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله الجنّة و زيّنها بأربعة أشياء: التعظيم و الجلالة و السخاء و الأمانة: و جعلها لأوليائه و أهل طاعته «2» : الخبر.

و في مصباح الأنوار «3» للشيخ الطوسي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه خلقني و

خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين قبل أن يخلق آدم حين لا سماء مبنيّة و لا أرض مدحيّة و لا ظلمة و لا نور و لا شمس و لا قمر و لا جنّة و لا نار فقال العبّاس:

__________________________________________________

(1) البقرة: 143.

(2) بحار الأنوار ج 15 ص 27- 30 ح 48 عن ابن الحسن البكري و لا يخفى أن نسبة كتاب الأنوار الى ابي الحسن البكري أستاذ الشهيد الثاني لا تصحّ راجع في ذيل البحار ج 15 ص 26.

(3) نسبته في الكتاب الى الشيخ الطوسي أيضا لا تصح بل هو للشيخ هاشم بن محمد- راجع البحار ج 15 هامش ص 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 491

فكيف كان بدو خلقكم يا رسول اللّه فقال يا عمّ لما أراد اللّه أن يخلقنا تكلّم بكلمة خلق منها نورا ثمّ تكلّم بكلمة أخرى فخلق منها روحا ثمّ خلط «1» النور بالروح، فخلقني و خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين، فكنّا نسبّحه حين لا تسبيح، و نقدّسه حين لا تقديس، فلمّا أراد اللّه أن ينشأ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش فالعرش من نوري، و نوري من نور اللّه، و نوري أفضل من العرش، ثمّ فتق نور أخي عليّ فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور عليّ، و نور عليّ من نور اللّه، و عليّ أفضل من الملائكة، ثمّ فتق نور ابنتي فخلق منه السماوات و الأرض، فالسماوات و الأرض من نور ابنتي فاطمة، و نور ابنتي فاطمة من نور اللّه، و ابنتي فاطمة أفضل من السماوات و الأرض، ثمّ فتق نور ولدي الحسن و خلق منه الشمس و القمر، فالشمس و القمر من نور

ولدي الحسن، و نور الحسن من نور اللّه، و الحسن أفضل من الشّمس و القمر، ثمّ فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنّة و الحور العين، فالجنّة و الحور العين من نور ولدي الحسين، و نور ولدي الحسين من نور اللّه، و ولدي الحسين أفضل من الجنّة و الحور العين «2» الخبر.

فانظر كيف جعل الجنّة في الخبر الأوّل من نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله و في الثّاني من نور الحسين صلّى اللّه عليه و آله تنبيها على أنّها في الأصل واحد و إن كان هذا من ذاك، ثمّ كيف عبّر في كلّ موضع من الخبر بمن الّتي للابتداء لا التّبعيض للاشعار على أنّه لا يساوق أصله في السنخ و الجوهريّة بل إنّما نشأ منه بطريق الشّعاع و الفرعيّة، ثمّ كيف صرّح في كلّ منها بالوسائط من حيث كونها وسائط مع حفظ حدود التوحيد و اظهار المراتب.

و أمّا اختلاف الاخبار المتقدّمة في عدد الأبواب فلعلّ المراد أنّ الثّمانية عدد

__________________________________________________

(1) في البحار: ثم مزج النور.

(2) تأويل الآيات ج 1 ص 138.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 492

الأبواب الجنان الكلّية الّتي نتميّز حقائقها لأربابها بالنوع، و أمّا غيرها من الأعداد فهو باعتبار البساتين و الجنان الجزئيّة الّتي يمكن تعددها لمؤمن واحد كما مرّت الإشارة إليه في الاخبار المتقدّمة.

و قوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في موضع النصب صلة للجنّات، و المعنى من تحت أشجارها و مساكنها كما مرّ في عبارة الامام عليه السّلام، و النّهر بالفتحتين و سكون الهاء لغتان، و الأوّل أفصح على الأصحّ، و لذا قيل: إنّه قد كثر استعماله في كلام البلغاء، و قال الزمخشري: إنّه اللغة العالية، و هو المجرى الواسع

فوق الجدول و دون البحر، يقال للنيل نهر مصر، و للفرات نهر الكوفة، من النهر محركة بمعنى السّعة و منه نهر نهر ككتف أي واسع، أو من نهر الماء إذا جرى في الأرض، و لذا قال في «الصّحاح»: إنّ كل كثير جرى فقد نهر و استنهر، و منه النّاهور للسحاب، و الأنهران للهواء و السماك لكثرة مائها و انتهار البطن لاستطلاقه، و التّسمية على الأوّل باعتبار المحلّ و على الثّاني باعتبار الحال، و نسبة الجريان إليها على وجه الإضمار أي ماؤها أو المجاز اللّغوي تسمية للماء باسم مجراه، أو العقلي بارادة المجاري أنفسها، و اللام للاشارة إلى الجنس من دون النظر إلى استغراقه و عدمه كما في قولهم: أهلك النّاس الدّرهم و الدّينار: أي هذان الحجران أو إلى ما عرف عظم خطره أي الأنهار الّتي عرفت أنّها النّعمة العظمى و اللّذة الكبرى، أو إلى العهد الخارجي و المعهود هو المعلوم من أخبار النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو من قوله: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «1» الآية على تقدير سبق نزولها و الجموع الثلاثة و هي أمنوا و جنّات و الأنهار لم يلحظ فيها الطباق المطلق بل الأعم من ذلك و من مجرّد الاشتراك، و من انفراد كلّ مفرد من السابق بافراد من اللاحق على ما هو الظّاهر من الوضع الهيئي للجملة.

__________________________________________________

(1) محمّد: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 493

و أمّا ما يقال من أنّ العرب إذا قابلت جمعا بجمع حملت كلّ مفرد من هذا على مفرد من ذاك كما في قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «1»، وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ «2» و لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ «3»،

ففيه أنّه إنّما يكون كذلك مع قيام القرينة الخارجة و لو من جهة اتّحاد المتعلّق و أمّا بمجرد المقابلة فلا، و لذا لا يستفاد ذلك من قوله: لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ «4»، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «5».

و قوله: قلّموا أظافركم، أدّبوا أولادكم إلى غير ذلك، و من هنا يجوز أن يكون أنهار كثيرة في جنّة و جنان كثيرة لمؤمن.

بل

ورد عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه ليس من مؤمن في الجنّة إلّا و له جنان كثيرة مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ و أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ و أنهار من ماء وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ و أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ «6».

و هذا بناء على ارادة الجنان الجزئيّة و أمّا مع الحمل على الكليّة فالأمر واضح، و يحتمل أن يكون الضمير في تحتها في الآية للمفرد المدخول عليه بالجمع، و إنّما خصّ الأنهار بالذكر من بين جميع ما في الجنان من النعم العظيمة و اللذائذ الجسمية لأنّها كالأصل لجميع ذلك، و القطب الّذي يدور عليه ما هنالك، فانّ الماء مظهر الرحمة الكليّة و العناية الربانيّة و أصل الأشياء وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ

__________________________________________________

(1) المائدة: 6.

(2) النساء: 22.

(3) النساء: 102.

(4) النور: 33.

(5) النور: 58.

(6) بحار الأنوار ج 8 ص 160 ح 98 عن روضة الكافي ص 95- 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 494

«1» و هو مادّة البقاء و طعمه طعم الحياة، و كما الأعمال الصّالحة الصادرة من المؤمنين كانت مقترنة بصدق النية و حسن الإعتقاد و خلوص السر و صفاء الضمير و كانت صحة تلك الأعمال الظاهرة من الصلاة و الصوم و الحج و غيرها مشروطة بالنيّة

الّتي هي روح العبادة و حياتها و هم قد جمعوا في عبادتهم بين قوالب تلك العبادات الّتي هي كالاجساد و بين أرواحها و هي النية المقترنة بها فكذلك يجمع اللّه سبحانه في جزائهم بين الجنّات المشتملة على الأشجار و الرياحين و الفواكه و غيرها و بين الأنهار الّتي هي كالأصل المقوّم لها و بها حياتها.

ثمّ إنّ انهار الجنّة ليست على حدّ غيرها من أنهار الدّنيا

ففي «الاختصاص» عن الباقر عليه السّلام.

قال: إنّ أنهار الجنّة تجري في غير أخدود أشدّ بياضا من الثّلج، و أحلى من العسل، و ألين من الزّبد، طين النهر مسك أذفر، و حصباه الدّر و الياقوت، تجري في عيونه و أنهاره حيث يشتهي و يريد في جنانه وليّ اللّه، فلو أضاف من في الدّنيا من الجنّ و الانس لأوسعهم طعاما و شرابا و حللا و حليّا لا ينقصه من ذلك شي ء «2».

و في جامع الأخبار سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله عن أنهار الجنّة كم عرض كل نهر منها فقال عليه السّلام عرض كل نهر مسيرة مائة عام «3» يدور تحت القصور و الحجب تتغنى أمواجه و تسيح و تطرب في الجنّة كما يطرب الناس في الدنيا «4».

رزقنا اللّه تعالى من هذا الماء المعين و حشرنا مع نبيّه محمّد و آله الطّيبين الطاهرين.

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 30.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 219 ح 211 عن الاختصاص.

(3) في المصدر: خمسمائة عام- و في البحار: خمسين مائة عام.

(4) جامع الأخبار ص 126 و عنه البحار ج 8 ص 146 ج 71.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 495

كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ «1».

استيناف حيث إنّه

لما وقع الإبشار بالجنّات و الأنهار، و كان الغرض المهم منها الأخبار فلربما يقع في خلد السّامع أنّ ثمارها هل تشابه أو تشاكل ثمار جنّات الدّنيا أو لا تجانسها، فيكون وعدا بغير معلوم و لا معهود فقيل إنّ ثمارها تشابه أو تشاكل ثمار جنّات الدّنيا و تجانسها و ان تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلّا خالقها.

أو صفة بعد صفة الجنّات فمحل الجملة على الأوّل الرفع، و على الثاني النصب.

و كُلَّما منصوب على الظرفية للفعل الّذي بعده، و قد سمعت أن ضمّ كل إلى ما الجزاء يجعله من أدوات التكرار.

و أمّا احتمال كونه خبرا عن محذوف بتقدير شأنها كلّما رزقوا فمع ما فيه من التكلف في جعل ظرف الزمان خبرا عن جنة مدفوع، بعود الكلام حينئذ في تلك الجملة على أحد الوجهين بعد الالتزام بحذف أقوى ركني الكلام.

و لم يبن الفعل للفاعل اتكالا على وضوح أنّ الرّزاق في الحقيقة هو اللّه سبحانه، أو لأنّ الجملة إنّما سيقت لإفادة وصول الرزق إليهم من دون قصد إلى تعيين من هو منه، أو لأنّ الوسائط لا يعرفها بأعدادها و مراتبها فضلا عن أشخاصها أحد إلّا هو أو لأنّهم يرون أثمارها متدلية دانية منهم بحيث إنّهم إذا اشتهوا شيئا وجدوه حاضرا عندهم فأخذوه بأيديهم و أفراحهم من دون طلب منهم و لا انتظار أصلا.

ثمّ أنّهم ذكروا في بيان معنى حرفي الجر و تعيين متعلقهما وجوها:

__________________________________________________

(1) البقرة: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 496

منها: أنّهما لابتداء الغاية و الظرفان إمّا لغوان متعلّقان برزقوا على وجه إبدال الثاني عن الأول و تعلق الحرفين بمعنى واحد بفعل واحد سائغ على قصد التبعية، و يمكن اعتبار الاختلاف في المتعلق بالفتح أيضا بأن تكون

من الاولى متعلقة بالرزق مطلقا، و الثانية متعلقة به مقيدا بكونه من الجنّات، فيجعل الفعل المطلق و هو رُزِقُوا مبتدأ من الجنات و بعد تقييده بالابتداء منها جعل مبتدأ من الثمرة، هذا فيجوز كونهما لغوين لا على البدليّة، و ان كان الأوّل أظهر.

و أمّا مستقرّان واقعان موقع الحال، و صاحب الحال الأولى رزقا و صاحب الحال الثانية ضميره المستكن فيما تعلق به الظرف، و يكون التقييد بحاله من دون تجوّز أو الأوّل لغو و الثاني حال أو الأوّل حال و الثاني بدل.

ثمّ أنّ يمكن أن يكون رِزْقاً مفعولا ثانيا ل رُزِقُوا على أن يكون بمعنى المرزوق، و يجوز أن يكون بمعنى الحدث فينصب على أنّه مفعول مطلق.

فهذه وجوه عشرة أضعفها الأخير و أوجهها الأوّل، و الحرفان على الوجوه للابتداء، فلا يجوز أن يراد بالثمرة الواحدة من أفراد نوع نوع لأنّها نفس المرزوق حينئذ فالرزق لم يبتدأ منهما، بل إنّما هو هي ألا ترى أنك إذا قلت أكلت من هذا الطعام و أشرت إلى شخص تعين من للتبعيض كقولك: أخذت من الدراهم و إذا أشرت إلى جنسه كان صالحا له و للابتداء و منها أن يكون مِنْ ثَمَرَةٍ بيانا من باب التّجريد على حدّ قولك رأيت منك أسدا أي أنت أسد بأن ينتزع من ذي صفة أخر مثله إيهاما لكمالها فيه كأنك جردت من المخاطب شيئا يشبه الأسد و هو نفسه و كذا هنا جرّد من ثمرة رزق و هو هي، فيكون رزقا أخصّ من ثمرة باعتبار انتزاع وصف المرزوقيّة منها بكمال هذا المعنى فيه، فعلى الأوّل يكون الرّزق عاما خصّص بالجنّات ثمّ بالثّمرة و على الثاني الثمرة عام خصص الرزق بها بانتزاعه منها، و على

هذا يصح أن يراد بالثمرة النّوع

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 497

و الفرد، فالرزق حينئذ بمعنى المرزوق، و مِنْ ثَمَرَةٍ حال مقدم و مِنْها ظرف لغو، ثمّ أن ذلك مبني على كون من التجريدية للتبيين، و الأشبه وفاقا لبعض المحققين كونها للابتداء ففي قولهم: رأيت منك أسدا كأنّه قيل: رأيت أسدا كائنا منك تصويرا لشجاعته بصورة أسد منتزع منه فقد انتزعت من صفته ذاتا و صفة، و فيه من المبالغة ما لا يخفى بخلاف الأوّل الّذي قيل إنّه ليس بأبلغ من نحو أنت أسد، نظرا إلى أنّ الإجمال و التفسير لا مدخل له في المبالغة و التشبيه.

ثمّ انّه قد يحتمل أن يكون من الثانية للتبعيض، لأنّ الرزق بعض الثمرة أي نوعها و هم يرزقون بعضها في كلّ وقت، و أن يكون مزيدة كما هو ظاهر شيخنا الطبرسي رحمه اللّه، و قوله مِنْ قَبْلُ مبني منصوب المحلّ على الظرفية للفعل الّذي وليه، أي من قبل هذا في الدنيا كما صرّح به الإمام عليه السّلام في تفسيره.

قال عليه السّلام كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من تلك الجنان مِنْ ثَمَرَةٍ من ثمارها رِزْقاً و طعاما يؤتون به قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدّنيا فأسماؤه كأسماء ما في الدّنيا من تفاح و سفرجل و رمان، و كذا و كذا، و إن كان ما هناك مخالفا لما في الدّنيا، فإنّه في غاية الطيب، و أنه لا يستحيل إلى ما يستحيل اليه ثمار الدنيا من عذرة و سائر المكروهات من صفراء و سوداء و دم و بلغم، بل لا يتولد من مأكولهم إلّا العرق الّذي يجري من اعراضهم أطيب من رائحة المسك «1».

و يظهر منه أنّ المشابهة و الاتحاد إنّما

هو من جهة الشكل و المثال و مجرّد التعبير بالاسم لتميل النفوس إليها أوّل ما رأتها لأنسها بالمألوف و ليظهر لها بالنظر إلى ما في الدنيا قدر النّعمة و كمال المزيّة لا أنّها باعتبار شي ء من مراتب الكمال فضلا من أن يكون من جميع الجهات.

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 69.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 498

و أمّا ما يقال من احتمال أن يكون المراد من قبل في الجنّة حيث إنّ ثمارها إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الّذي رزقنا من قبل هذا و انّ المعنى كالذي رزقنا و هم يعلمون أنّه غيره، و لكنهم شبهوه به في طعمه و لونه و ريحه و طيبه و جودته.

فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه بعد ما سمعت من تصريح من هو من خزنة العلم و أهل بيت الوحي، سيّما مع رجحان الأوّل عليهما لسلامته عن التخصيص في كُلَّما رُزِقُوا بغير المرة الأولى فإنّه يدلّ على ترديدهم كلّ مرة رزقوا حتى الاولى و لبقاء مِنْ قَبْلُ على إطلاقه، و للزوم قبليات متحددة متجددة على الأخيرين مع عدم إشعار اللّفظ بها ظاهرا، و أمّا قبليّة الدنيا فقبلية واحدة مطلقة، و لأنّه يتعيّن على الأخيرين أن لا يكون استينافا لعدم سبق الدّاعي إلى السؤال عليهما دون الأوّل المتضمن لفرائد الاستيناف، مع ما فيه من فخامة المعنى من حيث ارادة الغبطة العظيمة و الابتهاج البالغ و ان التشابه في الحقائق و الاختلاف بالصّفات أتمّ في باب التشابه و أدعى للتّعجب و القرآن يحمل على أحسن الوجوه و ان كان ذلولا ذا وجوه وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً استيناف أخر كأنّه قيل: إنّ ثمار الدّنيا مشتملة على الجيّد

و الرّدي مختلفة في صفات الكمال جدّا فهل ثمار الآخرة أيضا كذلك؟ كما يوهمه الحمل المتقدم فأجيبوا بذلك و على هذا فالضمير للرزق.

و لذا قال الإمام عليه السّلام: و أتوا به بذلك الرّزق من الثّمار من تلك البساتين متشابها يشبه بعضها بعضا بأنّها كلّها خيار لا رذل فيها، و بأنّ كل صنف منها في غاية الطيب و اللذة ليس كثمار الدنيا بعضها نيّئ «1» و بعضها متجاوز لحدّ النضج و الإدراك إلى حد الفساد من حموضة و مرارة، و سائر ضروب المكاره، و متشابها أيضا متفقات الألوان

__________________________________________________

(1) الني ء (بكسر النون) ما لم ينضج من اللحم و غيره و بالفارسية: خام و نارس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 499

مختلفات الطعوم «1».

و على هذا فالتشابه في الآخرة بين ضروب الثمرات و أنواعها أو أفراد النوع الواحد في صفات الكمال و اللّذة و الجودة من حيث مرافقتها للدار الآخرة.

و قد سأل مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه في الاحتجاج من أين قالوا إنّ أهل الجنّة يأتي الرجل منهم الى ثمرة يتناولها فإذا أكلها عادت كهيئتها فقال عليه السّلام:

نعم ذلك على قياس السّراج يأتي القابس فيقتبس منه فلا ينقص من ضوئه شيئا و قد امتلأت الدنيا منه سرجا «2».

و ربما يحتمل كون الضّمير للجنس المرزوق في الدّنيا و الآخرة جميعا كأنّه قيل أتوا به متشابها نوعاه، أي النوع الّذي في الآخرة و النوع الّذي في الدنيا، و ذلك لأنّ قوله: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ «3» أي مثله يدلّ على المشترك بين المثلين، و اعترض بأنّ المرزوق فيها جميعا غير المأتي به في الآخرة و أجيب بأن المراد بقوله الى المرزوق في الدنيا و الآخرة جميعا

إلى الجنس الصالح لتناول كلّ منهما لا المقيّد بهما، فانّه حينئذ يكون أخصّ من كلّ منهما، و لا يدفع سؤال التشابه و الإتيان بالجنس حاصل في ضمن الإتيان بأيّ نوع كل الاستحالة انفكاك النوع من الجنس.

و لا يخفى عليك ما فيه من التكلّف على أنّه يكون حينئذ تقريرا و تأكيدا للجملة السابقة، هذا مضافا إلى أن التشابه هو التماثل في الصفة و هو مفقود بين ثمرات الدنيا و الآخرة و لذا قيل ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلّا الأسماء و تنزيله على مجرّد التماثل في الهيئة و اللون على فرضه ليس بذلك، نعم يحتمل على وجه

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1، ص 69 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 136 ح 48 عن الاحتجاج ص 192.

(3) البقرة: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 500

التأويل مضافا إلى ما مرّ من التنزيل أن يراد التماثل بين ثمار الجنّة محسوسها و معقولها و بين ما منحوه في الدنيا من العلوم و المعارف و الفضائل النفسانية و الأخلاق الروحانية و الملكات القدسيّة و العبادات القلبية و الأعمال الصالحة البدنية سيّما على ما ذهب إليه جمع من المحققين من القول بتجسم الأعمال في القيامة و يشهد له جملة من الاخبار فالمعنى كلّما رزقوا من ثمرات الجنة رزقا من المطاعم و الملابس و رفع الدرجات و ظهور التجليات قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا فان الدنيا مزرعة الآخرة و الأعمال الدنيوية بذر للمثوبة الاخرويّة و أعطوا رزقهم في الجنّة متشابها لما وفقوا له في الدنيا من الايمان و الأعمال الصالحة.

بسط في المقال لتحقيق مسألة تجسّم الأعمال

اشارة

و فيه بحثان:

الأوّل اعلم أنّ المتشبّثين بذيل الإسلام قد اختلفوا في أنّ النعيم و الجحيم الموعودين في الدار الآخرة هل هما جسمانيان أو روحانيان أو هما معا

لكلّ أحد كل على حسب درجته و رتبته في الوجود الشّرعي أو الأوّل للبعض و الاخر للآخرين على أقوال لا جدوى للتّعرض لها و لا للقائلين بها في المقام لكن الّذي ينبغي القطع به بل لا ريب في قيام ضرورة المذهب بل الدّين عليه ثبوت الجسمانيين في الجملة الى ما ورد التّصريح به في الآيات الكثيرة و الاخبار المتواترة و أمّا ما اشتهر نقله عن بعض الحكماء من انكار الجنّة و النّار المحسوستين نظرا إلى إنكار المعاد الجسماني و أنّ العالم عالمان عالم الأجسام المادّية و عالم العقول المجردة و أنّ النفوس الناقصة الهيولانيّة منفسخة بعد الموت و نفوس الصلحاء و الزهاد تتعلق بجرم بخاري أو سماوي لتحصل لهم فيها سعادة وهميّة كما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 501

تحصل لنفوس الأشقياء عقوبات خياليّة من نيران و حيّات تلسع و عقارب تلدغ إلى غير ذلك من المزخرفات فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه و لا يعد قائله من زمرة المسلمين بعد قيام ضرورة الدين على ثبوت المعاد الجسماني و الجنّة و النّار الجسمانيّتين.

و أمّا ما ذكره الصدوق في اعتقاداته حيث قال طاب ثراه اعتقادنا في الجنّة و النار أنها دار البقاء و دار السلامة لا موت فيها و لا هرم و لا سقم و لا مرض و لا آفة و لا زمانة و لا غمّ و لا هم و لا حاجة و لا فقر و أنّها دار الغناء و السعادة و دار المقامة و الكرامة لا يمسّ أهلها فيها نصب و لا لغوب لهم فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين و هم فيها خالدون و أنّها دار أهلها جيران اللّه و أولياءه و

أحباؤه و أهل كرامته و هم أنواع على مراتب منهم المتنعّمون بتقديس اللّه و تسبيحه و تكبيره في جملة ملائكته و منهم المتنعمون بأنواع المآكل و المشارب و الفواكه و الأرائك و حور العين و استخدام الولدان و الجلوس على النّمارق و الزرابي و لباس السندس و الحرير كلّ منهم إنّما يتلذّذ بما يشتهي و يريد حسبما تعلّقت عليه همته و يعطي ما عبد اللّه من أجله.

و قال الصادق عليه السّلام: أنّ النّاس يعبدون اللّه على ثلاثة أصناف صنف منهم يعبدونه رجاء ثوابه فتلك عبادة الأجراء، و صنف منهم يعبدونه خوفا من عقابه فتلك عبادة الخدّام، و صنف منهم يعبدونه حبّا له فتلك عبادة الكرام

انتهى «1» فلا دلالة فيه على إنكار الجنة المحسوسة و لو للمتنعّمين بالتقديس و التسبيح، بل ظاهره إثبات الجنّة المحسوسة المشتملة على أنواع النعم للجميع.

و لذا قال بعد ما سمعت حكايته، و اعتقادنا في الجنّة و النار أنهما مخلوقتان

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 200 عن عقائد الصدوق ص 89- 92.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 502

و انّه لا يخرج أحد من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنّة أو من النار «1».

و بالجملة ثبوت الجنّة أو النار المحسوستين لكل أحد من الضروريات الّتي لا ينبغي إنكاره، نعم منهم المشاركون للملائكة في التنعم بالتقديس و التسبيح و إن كان لهم الجنّة المحسوسة إلّا أنّه لا التفاف لهم إلى التنعّم بها بل عمدة تنعّمهم و قرّة أعينهم هو السّرور و الابتهاج بمناجاته و عبادته و الاستشمام من نسائم رياض أنسه و محبّته.

كما يستفاد ذلك من

حديث الإسراء: يا أحمد أن في الجنّة قصرا من لؤلؤة فوق لؤلؤة و درّة، ليس

فيها قصم و لا فصل، فيها الخواص، أنظر إليهم في كلّ يوم سبعين مرة، و أكلّمهم كلما نظرت إليهم ازداد ملكهم سبعين ضعفا، و إذا تلذذ أهل الجنة بالطعام و الشراب تلذذوا أولئك بذكري و بكلامي و حديثي «2».

و في كتاب الاختصاص في خبر طويل عن الصّادق عليه السّلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و فيه بعد ذكر كثير من مطاعم أهل الجنّة و مشاربهم و مناكحهم و تنعّمهم بها أنّه.

قال: فبينا هم كذلك إذ يسمعون صوتا من تحت العرش: يا أهل الجنّة كيف ترون منقلبكم فيقولون: خير المنقلب منقلبنا و خير الثّواب ثوابنا، قد سمعنا الصوت و اشتهينا النظر إلى أنوار جلالك و هو أعظم ثوابنا و قد وعدته و لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ، فيأمر اللّه الحجب فيقوم سبعون ألف حجاب فيركبون على النّوق و البراذين و عليهم الحلّي و الحلل فيسيرون في ظلّ الشجر، حتى ينتهي إلى دار السّلام و هي دار اللّه دار البهاء و النّور و السرور و الكرامة، فيسمعون الصوت فيقولون: يا سيّدنا سمعنا لذاذة منطقك فأرنا نور وجهك فيتجلّى لهم سبحانه و تعالى حتّى ينظرون إلى نور وجهه

__________________________________________________

(1) البحار ج 8 ص 200 عن عقائد الصدوق ص 89- 92.

(2) بحار الأنوار ج 77 ص 23 ح 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 503

تبارك و تعالى المكنون من عين كلّ ناظر، فلا يتمالكون حتى يخروا على وجوههم سجّدا فيقولون: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك يا عظيم.

قال: فيقول: عبادي ارفعوا رؤسكم ليست هذا بدار عمل إنّما هي دار كرامة و مسألة و نعيم، قد ذهبت عنكم اللغوب و النصب، فإذا رفعوها و قد أشرقت وجوههم من نور

وجهه سبعين ضعفا، ثمّ يقول تبارك و تعالى: يا ملائكتي أطعموهم و اسقوهم فيأتون بأنواع الأطعمة إلى أن قال عليه السّلام: فيقولون يا سيّدنا حسبنا لذاذة منطقك و النظر إلى نور وجهك لا نريد به بدلا و لا نبتغي عنه حولا «1» الخبر.

و المراد حصول غاية المعرفة المعبر عنها بالرؤية كما في العلوي المشهور، أو مشاهدة أنوار النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين المعبّر عنهم بالمثل الأعلى و وجه اللّه تبارك و تعالى على ما يستفاد من الآيات و الاخبار، أو نور من أنوار شيعتهم من الكروبيّين و الملائكة العالين و غيرهم كما يستفاد من الخبر المتضمن لتجليهم لموسى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نبيّنا و آله و عليه السّلام.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال اللّه تبارك و تعالى يا عبادي الصديقين تنعّموا بعبادتي في الدّنيا فإنكم تتنعمون بها في الآخرة «2».

أي بنفس العبادة لا على وجه الكلفة و المشقّة بل على وجه التنعّم و اللذّة إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة و من هنا يظهر أنّه لا يرد على الصّدوق ما أورده عليه المفيد في شرح الكلام المتقدّم حيث قال و ثواب أهل الجنّة الابتذال بالمآكل و المشارب و المناظر و المناكح و ما تدركه حواسهم ممّا يطبعون على الميل إليه و يدركون مرادهم بالظّفر به و ليس في الجنّة من البشر من يلتذّ بالتّسبيح و التقديس

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 215 ح 205 عن الاختصاص.

(2) الكافي ج 2 ص 83 و عنه البحار ج 70 ص 253 ح 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 504

من دون الاكل و

الشّرب و القول بذلك شاذّ عن دين الإسلام و هو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أنّ المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون و لا يشربون و لا ينكحون و قد أكذب اللّه تعالى هذا القول في كتابه بما رغب العالمين فيه من الاكل و الشرب و النكاح فقال تعالى: أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا «1» و قال تعالى أيضا: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «2» الآية و قال:

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ «3» قال: وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ* «4»، و قال: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ «5» و قال: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «6».

فكيف استجاز من أثبت في الجنّة طائفة من البشر لا يأكلون و لا يشربون و يتنعّمون ممّا به الخلق من الأعمال و يتألمون، و كتاب اللّه شاهد بضدّ ذلك، و الإجماع على خلافه لو لا أن قلّد في ذلك من لا يجوز تقليده، أو عمل على حديث موضوع «7» انتهى.

إذ بما سمعت يرتفع التنافي بين الكلامين، و الحاصل انّه لا نزاع بين المسلمين في ثبوت الجنّة المحسوسة لكلّ واحد من المؤمنين، بل لكل فرد من أفراد البشر و إن ورثها غيره مع عدم قابليته لها، و عبارة الصدوق ظاهرة في ذلك أيضا بل صريحة على ما سمعت، و استدلاله بالخبر المتضمن لأصناف العباد لا دلالة فيه

__________________________________________________

(1) الرعد: 35.

(2) محمد: 15.

(3) الرّحمن: 72.

(4) الدخان: 54.

(5) يس: 55- 56.

(6) البقرة: 25.

(7) بحار الأنوار ج 8 ص 201- 202 عن مقالات المفيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 505

على

عدم التذاذ المحبين بنعيم الآخرة و لذّاتها الحسّية.

و توهّم أنّ الاكل و الشّرب و اللبس و غيرها من المشتهيات النفسانيّة و النعم الجسمانية كلها دفع الألم فانّ الأكل مثلا إنّما هو لسدّ الجوع و بعده لا لذة فيه أصلا، و كذا البواقي و حيث إنّه لا شي ء من الآلام في الجنّة فلا يمكن التنعّم بتلك النّعم.

مدفوع بعد الغضّ عمّا فيه بأنّه لا يقاس النّعم الاخرويّة بشي ء من النّعم الدّنيويّة الّتي يراد أكلها و شربها لدفع ألم الجوع و العطش و لباسها للتوقي عن الحر و البرد و نكاحها للتوالد و حفظ النوع، و ذلك لأنّ بينهما بونا بيّنا فانّ للنعم الأخروية من النّور و السّرور و الصفاء و البهاء ما لا يدركه عقول أهل الدنيا بل لا شركة بينهما إلّا في الاسم على وجه الاستعارة و التمثيل لا الحقيقة، على أنّ ذلك يفضي إلى سدّ باب الجنّة الحسيّة مطلقا و لا ينبغي لمن آمن باللّه و برسوله و باليوم الآخر أن يسدّها على نفسه، هذا مضافا إلى أن الجنّة المعقولة كما تتصور في ثمرات العلوم و المعارف و الابتهاج بالأنوار القدسيّة و غيرها من النّعم الروحانيّة الّتي لوّح عليها بقوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1»، و

بقوله في الوحي القديم أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر «2» كذلك يمكن حصولها في ضمن التنعم بالمستلذات الجسمانية سيّما مع ما هو المعلوم من قوّة مشاعرهم و زيادة قواهم و صفاء حواسهم بحيث لا يكاد يشغلهم تنعم عن تنعم و لا توجه عن توجه و لا ادراك عن ادراك على ما هو المقرّر

في محل آخر.

و لذا قال شيخنا المجلسي رحمه اللّه أن للتّلذذ بالمستلذات الجسمانية أيضا مراتب و درجات بحسب اختلاف أحوال أهل الجنّة، فمنهم من يتلذذ بها كالبهائم يرتعون في رياضها و يتمتعون بنعيمها كما كانوا في الدّنيا من غير استلذاذ بقرب

__________________________________________________

(1) السجدة: 17.

(2) بحار الأنوار: ج 8 ص 191 ج 168.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 506

و وصال أو ادراك لمحبة و كمال، و منهم من يتمتع بنعيمها من حيث إنّها دار كرامة اللّه الّتي اختارها لأوليائه و أكرمهم بها و انّها محلّ رضوان اللّه تعالى و قربه، فمن كلّ ريحانة يستنشقون نسيم لطفه، و من كلّ فاكهة يذوقون طعم رحمته، و لا يستلذون بالحور إلّا لأنّه أكرمهم بها الرب الغفور، و لا يسكنون في القصور إلا لأنّه رضيها لهم المالك الشكور، فالجنّة جنتان، روحانية و جسمانية، و الجنّة الجسمانية قالب للجنة الروحانية، فمن كان في الدنيا يقنع من العبادات و الطاعات بجسد بلا روح و لا يعطيها حقها من المحبّة و الإخلاص و سائر مكملات الأعمال ففي الآخرة أيضا لا ينتفع إلا بالجنّة الجسمانيّة، و من فهم في الدّنيا روح العبادة و آنس بها و استلذ منها و أعطاها حقها فهو في الجنّة الجسمانية لا يستلذ إلّا بالنعم الروحانية، و لنضرب لك في ذلك مثلا لمزيد الإيضاح فنقول: ربّما يجلس بعض سلاطين الزمان على سريره، و يطلب عامّة رعاياه و وزرائه و أمرائه و مقربي حضرته، و يعطيهم شيئا من الحلاوات فكل صنف من أصناف الخلق ينتفع بما يأخذه من ذلك نوعا من الانتفاع و يلتذ نوعا من الالتذاذ على حسب معرفة لعظمة السلطان و رتبة انعامه، فمنهم جاهل لا ينتفع

بذلك.

إلّا لأنّه حلو ترغب الذائقة فيه فلا فرق في ذلك عنده بين أن يأخذه من بايعه في السّوق أو من يد السلطان، و منهم من يعرف شيئا من عظمة السلطان و يريد بذلك الفخر على بعض أمثاله أو من هو تحت يده أن السلطان أكرمني بذلك، و هكذا حتى ينتهي الأمر إلى من هو مقرّبي حضرة السلطان و من طالبي لطفه و إكرامه فهو لا يلتذ بذلك إلا لأنّه خرج من يد السلطان، و انّه علامة لطفه و إكرامه، فهو يضنّ بذلك و يخفيه، و يفتخر بذلك و يبديه، مع أنّ في بيته أضعاف مبذولة لخدمه و عبيده، فهو لا يجد من حلاوته إلّا طعم القرب و الإكرام، و لو جعل السلطان علامة إكرامه في بذل أمرّ الأشياء و أبشعها لكان عنده أحلى من جميع الحلاوات، و لذا ترى في عشق

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 507

المجاز إذا ضرب المعشوق محبّه ضربا وجيعا على جهة الإكرام فهو أشهى عنده من كلّ ما يستلذ منه سائر الأنام، فإذا كان مثل ذلك في المجاز ففي الحقيقة أولى و أحرى، فإذا فهمت ذلك عرفت أن أولياء اللّه تعالى في الدنيا أيضا في الجنّة و النعيم إذ هم في عبادة ربّهم متلذّذون بقربه و وصاله، و في التنعّم بنعيم الدّنيا إنّما يتلذّذون لكونه ممّا خلقه لهم و بهم و محبوبهم و حباهم بذلك و رزقهم و أعطاهم، و في البلايا و المصائب أيضا يلتذون بمثل ذلك لأنّهم يعلمون أنّ محبّهم و محبوبهم اختار لهم ذلك و علم فيه صلاحهم، فبذلك امتحنهم فهم بذلك راضون شاكرون، فتنعمهم بالبلايا كتنعمهم بالنعم و الهدايا إذ جهة الاستلذاذ فيهما واحدة عندهم، فهم

في الدنيا و الآخرة بلطفه و قربه و حبّه يتنعمون، و فيهما لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ، فإذا فازوا بهذه الدّرجة القصوى و وصلوا إلى تلك المرتبة الفضلى لا يعبدونه تعالى خوفا من ناره و انّها محرقة بل لأنّها دار الخذلان و الحرمان، و محل أهل الكفر و العصيان و من سخط عليه الرحمان، و لا طمعا في جنّته من حيث كونها محل المشتهيات النفسانيّة و الملاذ الجسمانية، بل من حيث إنّها محل رضوان اللّه و أهل كرامته و قربه و لطفه، فلو كانت النّار محلّ أهل كرامة اللّه لاختاروها كما اختاروا في الدنيا محنها و مشاقها لعلمهم بأنّ رضى اللّه فيها، و لو كانت الجنّة محلّ من غضب اللّه عليه لتركوها و فرّوا منها كما تركوا ملاذ الدّنيا لما علموا أنّ محبوبهم لا يرتضيها، و إذا دريت ذلك حقّ درايته سهل عليك الجمع بين ما ورد من عدم كون العبادة للجنّة و النّار و المبالغة في طلب الجنّة و الاستعاذة من النّار و ما ورد في بعض الروايات و الدعوات من التصريح بكون العبادة لابتغاء الدار الآخرة فانّ من طلب الآخرة لقربه و وصاله لم يطلب إلّا وجهه، و من طلبها لاستلذاذه و تمتعه الجسماني لم يعبد

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 508

إلّا نفسه «1».

أقول و هو جيّد وجيه غير أنّ هناك جنان أخرى معقولة نسبتها إليه كنسبة المعقول الى المحسوس، و قد مرّ التلويح إليه في الاخبار المتقدّمة و نظيره في هذا العالم اللّذة الحاصلة للعارف الموحّد من النظر في العلوم الحقيقية و المعارف الإلهية و المكاشفات الواقعية و المشاهدات اليقينيّة و التجليات الجلالية و الجمالية و غيرها ممّا لم يخطر

على قلب بشر فانّ اللذات الحسية و لو على الوجه الّذي بسط في شرحها ليس لها قدر بالنسبة إلى هذه الأمور فضلا عن غيرها ممّا لم تصل إليه عقولنا و

ممّا اشتهر نقله عن مولانا أمير المؤمنين و رواه الشيخ ابن جمهور الاحسائي في «المحلى» عنه عليه السّلام أنّه قال: إنّ للّه تعالى شرابا لأوليائه إذا شربوا سكروا و إذا سكروا طربوا و إذا طربوا طابوا و إذا طابوا ذابوا و إذا ذابوا خلصوا و إذا خلصوا طلبوا و إذا طلبوا وجدوا و إذا وجدوا وصلوا و إذا وصلوا اتّصلوا و إذا اتّصلوا لا فرق بينهم و بين حبيبهم «2».

و لعلّ هذا الشراب هو المشار إليه بقوله: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «3».

و ما ذكرناه من التجليات و غيرها هو المعبّر عنه بالرؤية من المعتبرة على وجه لا تأبى عنه ضرورة المذهب.

ففي «التوحيد» للصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له:

أخبرنى عن اللّه عزّ و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة، قال: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 202- 205.

(2) عدّ من الاخبار الضعيفة الّتي تمسك بها الصوفية كما في كتاب الخبراتيّة في إبطال طريقتهم ج 2 ص 335.

(3) الإنسان: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 509

فقلت: متى قال حين قال لهم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1»، ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: و إنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة الست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فأحدّث بهذا عنك؟ قال: لا فإنك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدر أنّ

ذلك تشبيه و كفر و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون و الملحدون «2».

البحث الثاني أنّ القائلين بالجنّة و النّار المحسوستين و لو في الجملة

اختلفوا في أنّ الثّواب و العقاب هل هما جزاءان على الأعمال مغايران لها أم هما الأعمال الحسنة و السّيئة قد ظهرتا بصورة أخرى مناسبة للدّار الآخرة باعتبار مجرّد إختلاف أحكام الدّار و سنخ العالم كظهور شي ء واحد في عوالم مختلفة بصور متخالفة كما أنك ترى زيدا مرّة بصورته الحسيّة بالبصر و أخرى بصورته الملكوتيّة بتصوره إذا غاب عنك أو باعتبار عروض طوارئ النّمو و التّربية عليها كظهور النّواة شجرة ذات أوراق و أغصان و اثمار بعد سنين و ظهور النطفة إنسانا عالما آمرا ناهيا بعد حين.

فذهب كثير من المسلمين إلى الأوّل نظرا إلى أنّ الأعمال أعراض قائمة بمحالها، فهي فانية بانقضاء أزمنتها و محالّها من غير أن يكون لها بقاء أو عود أصلا مضافا إلى الآيات و الأخبار الدّالة بظواهرها على كون الثواب و العقاب جزاء على الأعمال و مقابلة لها بمثلها، مع ما دلّ على أنّ الجنّة و النار بما فيهما ممّا يثاب به أو يعاقب كانت مخلوقة قبل خلق بني آدم، و لو كانت مخلوقة من أعمالهم لتأخر خلقها عن خلقهم المتدرج إلى يوم القيامة، إلى غير ذلك ممّا يدل عليه من ظواهر

__________________________________________________

(1) الأعراف: 172.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 44 ح 24 عن التوحيد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 510

الآيات و الأخبار و غيرها، حتى أنّه ذهب المفيد «1» و جماعة إلى إنكار وزن الأعمال بظاهره نظرا إلى أنّها أعراض و معاني لا يتعقّل تجسّمها و لا وزنها، بل المراد من الميزان التعديل بين الأعمال و الجزاء عليها لا على وجه الإحباط

على ما يأتي، و إلّا فلا وزن و لا ميزان على الحقيقة و قال الآخرون منهم أن الميزان بظاهرة حق إلّا أنّ اللّه تعالى يخلق بإزاء الأعمال و مناسباتها صورا حسنة أو قبيحة و تكون هي الموزونة في الميزان الحقيقي.

و ذهب ثالث إلى أنّ الموزون صحايف الأعمال لا نفسها لظواهر بعض الاخبار الّتي ستسمعها عند التّعرض للمسألة في تفسير الآيات المتعلّقة بها إنشاء اللّه تعالى.

و ذهب جمع من المحققين إلى الثاني و هم بين من أثبت تجسّم الأعمال و تجوهر الأعراض على وجه القضيّة الجزئية، بمعنى إثباتها للبعض أو للكلّ، و الكل بعض ما في الجنّات من الحور و القصور و غيرها، و بين من أثبته على الكليّة، فليس عندهم لها وجود و لا ظهور إلّا بموادّ الأعمال و صورها، قال الملا صدرا «2» بعد كلام طويناه، فتحقّق و تبيّن أنّ الجنّة الجسمانيّة عبارة عن الصور الإدراكية القائمة

__________________________________________________

(1) ابو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السّلام البغدادي شيخ المشايخ الجلّة و رئيس رؤساء الملّة و محيي الشريعة توفي ليلة الثالث من شهر رمضان سنة (413) ه قال السيّد الجليل السيد حسين البروجردي في نخبة المقال:

و شيخنا المفيد بن محمّد عدل له التوقيع هاد مهتد

استاذه صدوق السعيد و بعد عزّ (77) رحم المفيد (413)- هدية الأحباب ص 244-

(2) هو صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي الحكيم المتأله فارس حكماء فارس، صاحب الأسفار و شرح أصول الكافي توفي بالبصرة حال توجهه الى الحج سنة (1050) ه و قد أشار اليه السيّد المؤلف البروجردي في نخبة المقال بقوله:

«ثم ابن ابراهيم صدر الأجلّ في سفر الحج (مريض 1050) ارتحل

قدوة

أهل العلم و الصفاء و يروي عن الداماد و البهائي

. تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 511

بالنفس الخيالية مما تشتهيها النفس و تستلذّها و لا مادة و لا مظهر لها إلّا النفس، فكذا فاعلها و موجدها القريب و هو هي لا غيره و انّ النفس الواحدة من النفوس الانسانية مع ما تتصور و تدركه من الصور بمنزلة عالم عظيم نفساني أعظم من هذا العالم الجسماني بما فيه، و ان كلّ ما يوجد فيها من الأشجار و الأنهار و الأبنية و الغرفات كلّها حيّة بحياة ذاتية، و حياتها كلها حياة واحدة، و هي حياة النفس الّتي تدركها و توجدها و انّ ادراكها للصور هو بعينه إيجادها لها، لا أنّها أدركتها فاوجدتها أو أوجدتها فادركتها كما في أفعال المختارين منّا في هذا العالم، حيث إنّا نتخيّل شيئا ملائما كالحركة أو الكتابة أوّلا فنفعله ثانيا ثمّ نتخيّله بعد ما فعلناه، بل أدركتها موجودة و أوجدتها مدركة بلا تقدّم و تأخر و لا مغايرة إذ الفعل و الإدراك هنا شي ء واحد «1».

أقول و التحقيق أنّ إنكار الجنّة و النّار الاخرويّتين الموجودتين في نفسهما مع قطع النظر عن طاعة المطيعين و معصية العاصين ممّا يخالف ما هو المعلوم بالضرورة من الدّين، و تأويل الآيات و الأخبار بتنزيلها على الصور النفسانية أو الحاصلة منها أو من النفس الإنسانية ملعبة بشريعة سيّد المرسلين، و الّذي يستفاد من الاخبار الكثيرة أنّهما خلقتا قبل خلق آدم و حوّاء على نبيّنا و آله و عليهما السّلام، و انّ الجنّة مظهر الرحمة الكليّة و الولاية الحقيقية خلقت من أشعّة أنوارهم عليه السّلام، و انّ طينة المؤمنين مأخوذة من الجنّة، و أنّ فيها شجرة تسمّى المزن

فإذا أراد اللّه أن يخلق مؤمنا قطر منها قطرة فلا تصيب بقلة و لا ثمرة أكلها مؤمن أو كافر إلّا أخرج اللّه تعالى من صلبه مؤمنا، إلى غير ذلك ممّا يدل على سبقها على أهلها خلقا و انّها

__________________________________________________

(1) الاسفار ج 9 ص 342 ط بيروت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 512

أعدّت لهم و أنّهم وعدوها و يجزون بها، و أنه كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» و أنّهم يدخلونها و يخلدون فيها، و انّ التفضل بها على الكلّ أو الجل ليس بالاستحقاق و مقابلة العمل فضلا عن تكوّنها منه بل مجرد الفضل و الرحمة كما يستفاد من قوله: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ «2» وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «3» إلى غير ذلك ممّا يغنى ضرورة المذهب بل الدّين عن الإطناب فيه، نعم ربما يستفاد ذلك بالنّسبة إلى بعض الأعمال الدنيوية أو بعض المثوبات و العقوبات الاخروية من ظواهر بعض الآيات كقوله: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* «4» يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «5» يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ «6» كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ «7»، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «8»، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً «9»، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها

__________________________________________________

(1) السجدة: 17.

(2) الانعام: 16.

(3) النور: 21.

(4)

التحريم: 7.

(5) العنكبوت: 54.

(6) الانفطار: 15- 16.

(7) التكاثر: 5- 7.

(8) الزلزال: 6- 8.

(9) آل عمران: 30.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 513

«1»، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ «2»، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3»، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً «4»، وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ «5»، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ «6»، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً «7»، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* «8».

بل يستفاد من كثير من الأخبار أيضا

فعن عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال قلت: يا أمير المؤمنين أخبرني عن حوض النّبي صلّى اللّه عليه و آله في الدّنيا أم في الآخرة قال:

بل في الدنيا قلت فمن الذّائد عنه؟ قال: انا بيدي و لأوردنّه أوليائي و لأصرفنّ عنه أعدائي «9».

و في النّبوي: إنّ الّذي يشرب في آنية الذهب إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم «10».

و روى القميّ في تفسيره عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لما أسري بي إلى السّماء دخلت الجنّة فرأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب و لبنة من فضة،

__________________________________________________

(1) الكهف: 29.

(2) القمر: 47.

(3) القمر: 54.

(4) النساء: 10.

(5) الحجرات: 12.

(6) الدخان: 51- 52.

(7) الإنسان: 6.

(8) الانفطار: 13.

(9) مختصر بصائر الدرجات ص: 40، بحار الأنوار ج 53 ص 68 ح 66.

(10) في البحار ج 66 ص 531 عن المجازات النبوية: للشارب في آنية الذهب و الفضة.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 514

و ربما أمسكوا فقلت لهم، ما بالكم ربما بنيتم و ربما أمسكتم؟ فقالوا: حتى تجيئنا النّفقة؟ فقلت لهم و ما نفقتكم؟ فقالوا: قول المؤمن في الدّنيا: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإذا قال بنينا و إذا أمسك أمسكنا «1».

و قد روي في النبوي أيضا أنّ في الجنّة قيعانا و انّ غراسها قول سبحان اللّه و الحمد للّه «2».

و عن أبي أيّوب الانصاري عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمّا أسرى بي مرّ بي ابراهيم عليه السّلام فقال مر أمّتك أن يكثروا من غرس الجنّة فانّ أرضها واسعة و تربتها طيبة قلت و ما غرس الجنّة قال: لا حول و لا قوّة إلّا باللّه «3».

و في تفسير الامام عليه السّلام أنّ اللّه عزّ و جل إذا كان أوّل يوم من شعبان أمر بأبواب الجنّة فتفتح، و يأمر شجرة طوبى فتطلع أغصانها على هذه الدّنيا ثمّ ينادي منادي ربّنا عزّ و جل:

يا عباد اللّه هذه أغصان شجرة طوبى فتعلّقوا بها تؤديكم الى الجنان، و هذه أغصان شجرة الزقوم فإيّاكم و ايّاها لا تؤديكم إلى الجحيم، ثمّ قال: فو الّذي بعثني بالحق نبيّا أنّ من تعاطى بابا من الخير في هذا اليوم فقد تعلّق بغصن من أغصان شجرة طوبى فهو مؤديه إلى الجنان.

ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن تطوّع للّه بصلاة في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن، و من تصدق في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن ثم ذكر انواع كثيرة من أنواع المعروف و ان فعلها هو التعلق بغصن من أغصانها و انّ من تعاطى بابا من أبواب الشّر فقد

تعلّق بغصن من أغصان الزقوم «4».

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 18 ص 419 ج 120 عن تفسير القمي ص 20.

(2) في البحار ج 7 ص 229: و إنّ غراسها: سبحان اللّه و بحمده.

(3) مسند أحمد ج 5 ص 418، مجمع الزوائد ج 10 ص 97، البحار ج 18 ص 353 ح 36

(4) بحار الأنوار ج 8 ص 166- 167 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 515

و في الأمالي عن الصّادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قال سبحان اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة و من قال الحمد للّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة، و من قال لا إله إلّا اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة، و من قال اللّه أكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة، فقال رجل من قريش: يا رسول اللّه إنّ شجرنا في الجنّة لكثير قال: نعم و لكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، و ذلك لأنّ اللّه عزّ و جل يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ «1» «2».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام انّ اللّه تعالى يقول ما من شي ء إلّا وقد وكّلت به من يقبضه غيره إلّا الصدقة، فإنّي أتلقفها بيدي تلقفا حتى أن الرجل ليتصدق أو المرأة لتتصدق بالتمرة أو بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل فلوه و فصيله يتأتى يوم القيامة و هو مثل أحد و أعظم من أحد «3».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في خبر طويل قال: إذا بعث اللّه المؤمن من قبره

خرج معه مثال يقدمه أمامه، كلّما رأى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع و لا تحزن و أبشر بالسرور و الكرامة من اللّه عزّ و جل، حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جل، فيحاسبه حِساباً يَسِيراً و يأمر به إلى الجنّة، و المثال أمامه فيقول له المؤمن:

يرحمك اللّه نعم الخارج خرجت معي من قبري، و ما زلت تبشّرني بالسرور و الكرامة من اللّه عزّ و جل حتى رأيت ذلك، فمن أنت فيقول أنا السرور الّذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدّنيا خلقني اللّه عزّ و جل منه «4».

و فيه عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: انّ ابن أدم إذا كان في آخر يوم من أيّام

__________________________________________________

(1) محمد: 33.

(2) الأمالي للصدوق ص 362 و عنه البحار ج 8 ص 186- 187 ح 154.

(3) الكافي ج 4 ص 47 ح 6.

(4) الكافي ج 2 ص 190 و عنه البحار ج 74 ص 290- 291.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 516

الدّنيا إلى- أن قال- فان كان وليّا للّه أتاه أطيب النّاس ريحا و أحبّهم منظرا و أحسنهم رياشا فقال أبشر بروح و ريحان و جنّة نعيم و مقدمك خير مقدم فيقول له أنا عملك الصالح «1».

و في خبر آخر عن الصادق عليه السّلام فيقول أنا رأيك الحسن الّذي كنت عليه و عملك الصّالح الّذي كنت تعمله «2» الخبر.

و هو كما ترى صريح في تجسّم كلّ من الأعمال و الاعتقادات، و تحقيق ذلك أنّ الحقائق و الماهيّات لها تقرّر في نفس الأمر و لها وجود في إدراك العقل، و في المشاعر الباطنة و الظاهرة المتنزلة عن الإدراك العقلي

المغاير لوجودها بحسب الواقع، و الحاصل أنّها تنصبغ بأحكام العوالم الّتي هي مظاهر الوجود و محال الظهور، و لذا ترى الحقيقة الانسانية مثلا تظهر في البصر بالصورة المعينة المكتنفة بالعوارض الماديّة ملازمة لوضع معين من قرب و بعد و غير ذلك، و هي بعينها تظهر في الحس المشترك بصورة تشابهها من غير تلك الشرائط و هي في الحالين تقبل التكثر بحسب الأشخاص كصورة زيد و بكر، ثمّ تظهر تلك الحقيقة في العقل بحيث لا تقبل الكثرة و تصير الإفراد المتكثرة في الصورة المبصرة و المتخيّلة متّحدة في الصورة العقلية، فظهر من ذلك أن الحقيقة الواحدة مع وحدتها الذاتية قد تظهر في صور كثيرة متخالفة الحكم في نفسها مع مغايرتها للجميع، و من هذا الكلام ينفتح لك باب تعبير المنام فإن الأشياء قد يظهر لك في الرؤيا بصورة جوهرية مع كونها أعراضا في الخارج كظهور العلم فيها بصورة اللبن، و تعليم الحكمة غير أهلها بتعليق الدّر في أعناق الخنازير، و أذان المؤذن في شهر رمضان قبل الفجر بالختم على أفواه الرجال

__________________________________________________

(1) البحار ج 6 ص 225 عن تفسير القمي.

(2) البحار ج 6 ص 267 ح 114 عن الكافي ج 1 ص 66.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 517

و فروج النساء، و يظهر فيها العدو بصورة الكلب و الحية و نحوهما، و السرور، بصورة الماء الصافي و الحمى بصورة الحمام، و الغم و الحزن بصورة شي ء من الحلويات و غير ذلك مما لا يحصى، فإذا ألقي الى المعبر تصرف فيها من جهة المناسبة المعتبرة بينهما فيخبر بالشي ء قبل وقوعه.

و من هنا

قد ورد أنّ الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «1».

ففي هذا العالم ينظرون إلى الأشياء

و لا يعرفونها بحقائقها الّتي هي عليها و انّما يتوهمون في الطاعات و التقيد بحدود الشرعة مرارة و كلفة و ثقلا و مشية، و في مخالفة الأوامر و غصب الأموال و أكلها بالباطل و هتك الحرمات حلاوة و سرورا و نشاطا، و لا يعلمون أنّ حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، و مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، و الأنبياء و الأوصياء و خلفاؤهم هم المعبرون من الحق بالحق لرؤيا الخلق، و إن اتفقت كلمة الطغاة لجفاة العصاة على تكذيبهم و الرد عليهم و لم يصدقهم إلّا أقل قليل، إمّا لمشاهدة الحقائق على ما هي عليها كما يرون الدّنيا جيفة و طالبها كلابا، و إمّا لتصديق- الرسل و الأنبياء إيمانا بالغيب أو لغير ذلك، بخلاف غيرهم ممّن هو من شقوة لازمة و غفلة دائمة فلا يتنبهون إلّا بنفخة الصور فإذا انتقلوا عن هذه الدار و استيقظوا من رقدتهم و تنبهوا من غفلتهم فيقال للكافر الجاحد: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «2»، فيظهر سوء الخلق بصورة ضغطة القبر كما

قال صلّى اللّه عليه و آله في سعد بن معاذ «3» أنّه قد أصابته ضمّة إنّه كان في خلقه

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 4 ص 4 و ج 6 ص 277.

(2) ق: 22.

(3) هو سعد بن معاذ بن النعمان الانصاري الاشهلي سيد الأوس الشهيد في غزوة الأحزاب سنة (5) ه- التقريب ج 1 ص 346 و العبر ج 1 ص 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 518

مع أهله سوء «1» و يحشر المتكبّر على صور الذّر تطأهم أقدام الناس في المحشر، و تحشر من النساء من تؤذي زوجها معلقة بلسانها، و من

كانت تخرج من بيتها بغير اذن زوجها معلقة برجليها و من كانت لا تغطي شعرها من الرجال معلقة بشعرها، و من كانت تزين بدنها للناس تضرب فتأكل لحم جسدها، إلى غير ذلك ممّا استفاضت به الاخبار و قد مر شطر منها و من الآيات الظاهرة في ظهور الأعمال و تجسمها بالصورة المناسبة لعالم الآخرة ككون أكل مال اليتيم ظلما أكلا للنّار ملأ بطنه، و المغتاب آكلا للحم أخيه ميتا، و عود التمرة الّتي تصدق بها صاحبه بعد تربيته سبحانه كجبل أحد و أعظم، و تجسّم الخلق الحسن و الأعمال الصالحة بالصور الحسنة المليحة و غير ذلك ممّا مرّ.

و قد ظهر من جميع ذلك أنّه لا مانع من التّجسم عقلا باعتبار تربية نفس هذه الأعمال في صقع الملكوت بإيصال الإمدادات و الفيوض الغيبية على ما هو مقتضى التربية الإلهية، كما أنّه لا شبهة في وقوعه و صحته في الجملة حسبما هو المقطوع به من الأدلة المتقدمة.

و امّا أنّ حقيقة الجنّة و النّار لكلّ أحد هو ما كان عليه من الإيمان و الكفر و جميع ما فيهما من أنواع النعيم و ألوان العذاب هو نفس الأعمال و العقائد فلم يظهر عليه دليل من العقل و النقل، و ظواهر الكتاب و السنة كون ذلك على وجه الجزاء و المقابلة و التفضل، بل التأمل في الكتاب و السنة يقضي على ذلك القول بنفي الكليّة، و ان ظهر منهما صحته في الجملة و لو من جهة الاتحاد في الحقيقة أو اعتبار المماثلة في الجزاء كما قال سبحانه وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2»، و نحن إنّما كلّفنا

__________________________________________________

(1) سفينة البحار ج 1 ص 424.

(2) الشورى: 40.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 519

بالإيمان بالغيب لا الرّجم بالغيب، و اللّه العالم بالحقائق، و حججه هداة الخلائق.

وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ «1» الأزواج جمع زوج، و هو يقع على الرجل و المرأة، و إن أطلقت عليها الزوجة أيضا و زوج كل شي ء شكله و نظيره و ضده من سنخه، كالرطب و اليابس و الحلو و المرّ، و لذا قال تعالى: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «2»، و قال: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «3»، أي ضدّين متوافقين في السنخ،

و قال عليه السّلام: «بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له» «4» ، و قالوا: كل ممكن زوج تركيبي أي مركب من الوجود و الماهيّة، و الطهارة هي النظافة و النزاهة من الأقذار و الأدناس و يقال: النساء فعلت و النساء فعلن، و هنّ فاعلة و فواعل، و هما لغتان فصيحتان، و المفرد بتأويل الجماعة في الإسناد و التوصيف و غيرهما، فالمعنى في المقام جماعة أزواج مطهّرة، و قرأ زيد بن عليّ مطهرات و عبيد بن عمير «5» مطهرة بالتشديدين، بمعنى متطهرة لكن في صيغة التفعيل من المبالغة في توصيفهنّ و الفخامة لصفتهن ما ليس في غيرها.

و في تقديم المسند على المسند اليه و على الظرف مع اللام المفيدة للاختصاص و التشريف، و تنكير المسند إليه على صيغة الجمع وجوه من الجزالة و الفخامة و التخصيص بالكرامة، سيّما مع التوصيف بالتطهير الدّال على الكينونة لا التصيير كما في آية التطهير، و المراد طهارتهنّ ممّا يختص بالنساء من الحيض

__________________________________________________

(1) البقرة: 25.

(2) النجم: 45.

(3) الذاريات: 49.

(4) الأمالي للسيد المرتضى ج 1 ص 103، الاحتجاج ج 1 ص 298.

(5) هو عبيد بن عمير بن

قتادة ابو عاصم الليثي المكي، ولد في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و توفي سنة (74) ه. و له ترجمة في غاية النهاية للجزري ج 1 ص 496 رقم 3064.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 520

و النفاس و الاستحاضة و الولادة و ممّا لا يختص بهنّ من دنس الطباع و سوء الأخلاق و إضمار الشقاق و النفاق و غير ذلك من أعراض هذه الدّار و مكارهها لأنّها على

ما رواه في «الإحتجاج» عن الصّادق عليه السّلام: خلقت من الطيب لا تعتريها عاهة، و لا تخالط جسمها آفة، و لا يجري في ثقبها شي ء، و لا يدنّسها حيض و الرحم ملتزقة و كلما أتاها زوجها وجدها عذراء و هي تلبس سبعين حلّة، و يرى زوجها مخّ ساقها من وراء حللها و بدنها كما يرى أحدكم الدراهم إذا ألقيت في ماء صاف قدره قيد رمح «1».

و في البحار عن كتاب الحسين بن سعيد «2» بالإسناد عن النّبي عليه السّلام: أن أدنى أهل الجنّة منزلة من الشهداء من له اثنى عشر ألف زوجة من الحور العين، و أربعة آلاف بكر، و اثنى عشر ألف ثيّب تخدم كل زوجة منهن سبعون ألف خادم، غير أن الحور العين يضعف لهنّ يطوف على جماعتهن في كل أسبوع، فإذا جاء يوم إحداهن أو ساعتها اجتمعن إليها يصوتن بأصوات لا أصوات أحلى منها و لا أحسن، حتى ما يبقى شي ء إلّا اهتز لحسن أصواتهن يقلن:

ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ، و نحن النّاعمات فلا نبؤس أبدا

. و في الكافي عنه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لكلّ مؤمن سبعين زوجة حوراء و أربع نسوة من الآدميين، و المؤمن

ساعة مع الحوراء، و ساعة مع الآدمية، و ساعة يخلو بنفسه على الأراك متكئا ينظر بعض المؤمنين إلى بعض، و انّ المؤمن ليغشاه شعاع نور و هو على أريكته فيقول لخدّامه، ما هذا الشعاع اللامع لعل الجبار لحظني؟ فيقول له

__________________________________________________

(1) البحار ج 8 ص 136 ح 48 عن الاحتجاج ص 192.

(2) هو الحسين بن سعيد بن حماد بن سعيد بن مهران الكوفي الاهوازي توفي بقم و له ثلاثون كتابا و هو ثقة جليل القدر، روى عن ابي الحسن الرضا و أبي جعفر الجواد و ابي الحسن الثالث عليهم السّلام- سفينة البحار ج 1 ص 273.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 521

خدّامه قدوس قدوس جل جلاله، بل هذه حوراء من نساءك، فمن لم تدخل بها بعد أشرفت عليك من خيمتها شوقا إليك، و قد تعرضت لك و أحبّت لقائك، فلما أن رأتك متكئا على سريرك تبسّمت نحوك شوقا إليك، و الشعاع الّذي رأيت و النور الّذي غشيك هو من بياض ثغرها و صفائه و نقائه و رقته، فيقول ولي اللّه: ائذنوا لها فتنزل إلي فيبتدر إليها ألف وصيف و ألف وصيفة يبشرونها بذلك، فتنزل إليه من خيمتها و عليها سبعون حلّة منسوجة بالذهب و الفضة مكلّلة بالدّر و الياقوت و الزبرجد صبغهنّ المسك و العنبر بألوان مختلفة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة طولها سبعون ذراعا و عرض ما بين منكبيها عشرة أذرع، فإذا دنت من وليّ اللّه أقبل الخدّام بصحاف الذهب و الفضة فيها الدر و الياقوت و الزبرجد، فينشرونها عليها ثم يعانقها و تعانقه فلا تمل و لا يمل «1».

و في تفسير الامام عليه السّلام: وَ لَهُمْ فِيها في تلك

الجنان أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من أنواع الأقذار و المكاره، و مطهرات من الحيض و النفاس، لا ولّاجات و لا خرّاجات و لا دخالات و لا ختّالات و لا متغايرات، و لا لأزواجهن فركات و لا صخّابات، و لا عيّابات، و لا فحاشات، و من كل المكاره و العيوب بريّات، وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون في تلك البساتين و الجنّات «2».

أقول الولّاجة الخراجة هي الكثيرة الدخول و الخروج و في القاموس رجل خراج ولّاج كثير الظرف و الاحتيال و الدّخالات الغاشات المفسدات أو كثيرة الدخول في الأمور الّتي لا ينبغي لها الدخول فيها و ربما يضبط الولاجات بالحاء المهملة مفسّرة بالحمّالة زوجها بما لا يطيق، و على هذا فتكون الخراجة الدّخالة بمعنى كثيرة الخروج و الدخول و الختّالات الخدّاعات و المتغايرات من الغيرة على

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 160 ح 98 عن الكافي الروضة ص 95- 100.

(2) بحار الأنوار ج 8 ص 140 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 522

أزواجهن و فركات مبغضات و الصّخابات بالصاد المهملة ثمّ الخاء المعجمة كثيرة الصياح و الكلام و في بعض النسخ بدلها و لا متخابات و هي المتخادعات و العيابات من العيب و في بعض النّسخ العتابات من العتب و الفحّاشات من الفحش و في الصافي بدلها النّخاسات و فسّرها بالدّافعات و لم أجدها في شي ء من النّسخ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون في النعمة و السرور و الحبور، لا ينغص عيشهم بخوف الزوال، و لا يتطرق إليهم خوف الفناء و الانتقال، بل هم متنعمون فيما أعدّ لهم من النّعم فيما لا يزال فان الخلود دوام البقاء من وقت مبتدأ على ما

صرّح به في «مجمع البيان» و «الصحاح» و «القاموس» و غيرها و في «الكشاف» أنّه الثبات الدائم و البقاء اللازم الّذي لا ينقطع قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1».

و في الصحيفة السجادية: اللهم يا ذا الملك المتأبد بالخلود «2».

و قال امرئ القيس:

ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي و هل ينعمن من كان في العصر الخالي و هل ينعمنّ إلّا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال «3». و من هنا يظهر أنّ ما ربّما يحكى في بعض الحواشي عن الزمخشري من أن الخلد من الأسماء الغالبة للمعنى كالدابة للعين فانّه في الأصل في الدّوام الّذي ينقطع ثمّ غلب استعماله في الدّوام الّذي لا ينقطع ممّا لا أصل له كما نبّه عليه في الكشف و غيره.

و أمّا ما ذكره القاضي تبعا للرازي ناسبا له إلى أصحابه و هم الأشاعرة من أنّ

__________________________________________________

(1) الأنبياء: 34.

(2) الدعاء: 32.

(3) الكشّاف ج 1 ص 262 ط بيروت دار الفكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 523

الخلد و الخلود في الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم، و لذلك قيل للأثافي و الأحجار خوالد، و للجزء الّذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيّا خلد، و لو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله: خالِدِينَ فِيها أَبَداً* «1» لغوا و استعماله حيث لا دوام كقولهم، وقف مخلد يوجب اشتراكا أو مجازا و الأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للاعمّ منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار كاطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ «2»، الآية.

ففيه أنّ الثابت من التبادر و غيره

من أمارات الوضع بل و من تصريح أئمة اللغة و غيرهم وضعه لدوام البقاء لا من حيث كونه فردا للثبات المديد بل من حيث الخصوصيّة فيكون مجازا في غيره حتّى في الجامع، مع أنّ اطلاق الآية دليل على كونه حقيقة فيما ذكرناه، كيف و قد اتفق من البشر من كان طوال الأعمار كخضر و الياس بل و كذا مثل نوح و غيره.

و أمّا اطلاق الخوالد على الأثافي و الصّخور فبالاضافة على ضرب من المجاز.

و لذا قال في «الصحاح» إنّه قيل لأثافي الصخور خوالد لبقائها بعد دروس الاطلال.

و امّا ما يقال من أنّه لو كان التأبيد داخلا في مفهوم الخلد لكان ذلك تكرارا ففيه أنّه تأكيد لجزء معناه لا أنّه تكرار لتمامه كما ننبّه عليه في موضعه إن شاء اللّه.

و انّما قيّدناه بوقت مبتدأ لعدم إطلاقه على من لم يزل و لا يزال، و لذا لا يوصف اللّه سبحانه بأنّه خالد.

__________________________________________________

(1) الأحزاب: 65.

(2) الأنبياء: 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 524

ثمّ انّ مذهب الاماميّة خلود أهل الجنّة فيها دائما أبدا و وافقهم فيه أكثر المخالفين كالمعتزلة و بعض الاشاعرة بل ادّعى كثير من المحققين عليه إجماع المسلمين، و ربما يعزى إلى بعضهم للقول بالانقطاع، و الظاهر أنّ هذا القول كان منسوبا إليهم أيضا في عصر الأئمة عليه السّلام.

روى الكشي في رجاله عن يحيى بن أبي بكر قال: قال النظّام «1» لهشام بن الحكم «2» أن أهل الجنّة لا يبقون في الجنّة بقاء الأبد فكيف يكون بقاؤهم كبقاء اللّه و محال يبقون كذلك فقال هشام إنّ أهل الجنّة يبقون بمبق لهم و اللّه يبقى و ليس هو كذلك فقال: محال أن يبقوا للأبد، قال: فالى

ما يصيرون؟ قال يدركهم الخمود، قال: فبلغك أن في الجنة ما تشتهي الأنفس؟ قال: نعم، قال: فان اشتهوا و سألوا ربّهم بقاء الأبد؟ قال: إنّ اللّه تعالى لا يلهمهم ذلك، قال فلو أنّ رجلا من أهل الجنّة نظر إلى ثمرة على شجرة فمد يده ليأخذها فتدلت إليه الشجرة و الثمار، ثم كانت منه بغتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها فمدّ يده اليسرى ليأخذها فأدركه الخمود و يداه متعلقتان بشجرتين فارتفعت الأشجار و بقي هو مصلوبا فبلغك أنّ في الجنّة مصلوبين، قال: هذا محال، قال فالذي أتيت به أمحل منه، أن يكون قوم قد خلقوا و عاشوا فأدخلوا الجنان يموتهم فيها يا جاهل «3».

و بالجملة دوام البقاء و التّنعم ممّا يدل عليه صراح الآيات و صحاح الروايات المتضمنة للخلود و للدوام و لذبح الموت بين الجنة و النار.

__________________________________________________

(1) هو ابراهيم بن سيّار بن هاني البصري المتكلم المعتزلي مات سنة (231) ه، سير أعلام النبلاء ج 7 ص 259.

(2) هشام بن الحكم أبو محمد الكوفي المناظر المتكلّم الجليل توفي نحو سنة (190) ه

(3) رجال الكشي ص 274 رقم 493.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 525

فعن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا أدخل اللّه أهل الجنّة الجنّة و أهل النّار النّار جي ء بالموت في صورة كبش حتّى يوقف بين الجنّة و النّار، قال: ثمّ ينادي مناد يسمع أهل الدارين جميعا: يا أهل الجنة يا أهل النّار، فإذا سمعوا الصوت أقبلوا فيقال لهم:

أ تدرون ما هذا؟ هذا هو الموت الّذي كنتم تخافون منه في الدّنيا، قال: فيقول أهل الجنّة اللهم لا تدخل الموت علينا، قال: و يقول أهل النّار: اللّهم أدخل الموت علينا قال: ثمّ

يذبح كما تذبح الشّاة قال: ثمّ ينادي مناد: لا موت أبدا أيقنوا بالخلود، قال:

فيفرح أهل الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ يموت من فرح لماتوا، و يشهق أهل الجنّة شهقة لو كان أحد يموت من شهيق لماتوا «1».

و من هنا يظهر أنّ العلم ببقائهم و تنعّمهم سرمد الأبد بموت الموت و حياة الحياة من أعظم النعم عليهم، فختم به الآية لانتهائه الى اللانهاية.

و أمّا الإتيان بالموت في صورة الكبش أو خصوص الأملح فللتنبيه على نهاية ذلّته و حقارته في عبوديته و أطاعته، و قد يعلل كونه أملح بأنّ هذا اللّون مركّب من بياض و سواد ممتزجين فهو في حقّ المؤمن نور، و في حقّ المنافق ظلمة، و لما كان ذلك كذلك و لم يكن في احدى جهتيه مستمرّا اقتضى امتزاج طبعية اختلاط لونيه فكان أملح.

و في كلام بعض المحققين كون الذبح بشفرة يحيى على نبيّنا و آله و عليه السّلام و هو صورة الحياة و لعله أخذ من المروي من طرق العامة أن يحيى عليه السّلام هو الّذي يضجعه و يذبحه بشفرة تكون في يده و النّاس ينظرون إليه.

و الخطب سهل فيه و فيما سمعت من دوام النّعيم على ما دلّ عليه النقل بل ربّما يؤيد ذلك أو يستدلّ عليه بأنّ دوام الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 8 ص 345 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 526

يبعث على فعل الطاعة و ترك المعصية فيكون لطفا واجبا عليه سبحانه و بأنّ المدح على فعل الطّاعة و الذّم على المعصية دائمان إذ لا وقت إلّا و يحسن فيه مدح المطيع و ذم العاصي و هما معلولا الطاعة و المعصية فيجب

دوام الثواب و العقاب لقضية العليّة، و بأنّ الثواب لو كان منقطعا يحصل لصاحبه الألم و العقاب و العقاب لو كان منقطعا يحصل لصاحبه السرور بالانقطاع فيكون نقضا للغرض.

و ستسمع ان شاء اللّه تمام الكلام فيها و في دفع شبهات المنكرين و بيان سبب الخلود من النيّة و غيرها عند التعرّض لخلود أصحاب النّار فيها نستجير باللّه تعالى منها.

[سورة البقرة(2): آية 26 ]

اشارة

تفسير الآية (26) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً لما افتتح بذكر الكتاب و أصناف النّاس في الانتفاع به و عدمه، و أردفه بما عليه أساس الكتاب بالإرشاد إلى دلائل التوحيد و اثبات حقيقة الكتاب و نبوّة من أتى به لئلا يكون الكلام خطابيّا مجرّدا، و رتّب عليه وعيد المنكر و وعد المقر، أشار إلى الجواب عن بعض شبه المنكرين من الجهلة و السفهاء و المعاندين من أهل المراء و مقلدة الأهواء، و ساقه مساق أمر واضح البطلان غير خاف فساده على من لاحظ العيان و راجع الوجدان تنبيها على أنّ الشقوة لازمة بهم و حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، مع ما فيه من التنبيه على أنّه لم تبق لهم شبهة فضلا عن حجّة حتّى تعلّقوا بما هو واضح الفساد و الإشارة إلى تقرير ما قدّمه من اختصاص المتقين بكونه هدى لهم دون غيرهم.

و منه يظهر أنّ هذا الكلام حقيق بالذكر في المقام سيّما مع ما فيه من إزاحة

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 527

الشّبهة عن ضرب الأمثال الّذي فيه معظم الانتفاع بالكتاب مضافا إلى ما قيل في سبب النزول أن اللّه لما ضرب المثلين للمنافقين قبل هذه الآية في قوله:

مَثَلُهُمْ «1» قال المنافقون: اللّه أعلى و أجلّ من أن يضرب هذه الأمثال فنزلت،

أو أنّه لمّا ضرب المثل بالذّباب و العنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين و عابوا ذكره فنزلت.

بل قد روى سببيتهما معا لذلك كما

في تفسير الإمام عليه السّلام عن الباقر عليه السّلام قال لمّا قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ و ذكر الذباب في قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً «2»، و لما قال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «3»، و ضرب المثل في هذه السورة بالذي اسْتَوْقَدَ ناراً و بالصيب مِنَ السَّماءِ قالت الكفار و النواصب: ما هذا من الأمثال فتضرب و يريدون به الطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال اللّه: يا محمّد إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي لا يترك حياء أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا للحق و يوضحه به عند عباده المؤمنين ما بَعُوضَةً أي ما هو بعوضة المثل إذا علم أنّ فيه صلاح عباده و نفعهم «4».

و ذلك أنّ الناس لفي غفلة و غمرة عن إدراك المعقولات لتوغلهم و استغراقهم في الإقبال على المحسوسات فاستعين على تقريب المعاني الى الأذهان و رفع الحجاب عنها بابرازها في كسوة المحسوس المأنوس كي يساعد فيها الوهم العقل

__________________________________________________

(1) البقرة: 17.

(2) الحج: 73.

(3) العنكبوت: 41.

(4) تفسير البرهان ج 1 ص 70 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 528

و لا ينازعه فيما لا يستقل بادراكه، و يكون ادراك المحسوس لسهولته عليهم نحو السلم للارتقاء إلى فهم المعاني المقصودة، و الوسيلة لنيل المقاصد المفقودة، و لذا اشاعت الأمثال في الكتب الإلهية و الحكم النبوية، و استعانت بها الحكماء في

إشاراتهم و البلغاء في عباراتهم، و استعملته جميع الأمم من أهل العالم على اختلاف ألسنتهم و أديانهم و أفهامهم و لم تزل الطريقة فاشية فيهم في جميع الأعصار، باقية على مرّ الدّهور و الأدوار فالشبهة الناشئة لهم و ان أمكن تقريرها على وجوه ثلاثة:

أحدها أن التمثيل بالأمور المحسوسة لا ينبغي كونه وحيا من اللّه سبحانه فانّها مبتذلة عند العامة و الوحي ينبغي أن يكون من المعاني البديعة و احكام الشريعة، ثانيها أنّه قد جاء في القرآن ذكر النحل و النمل و الذباب و العنكبوت و نحوها من الأشياء الحقيرة الّتي لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن اعجازه، ثالثها أن هذه الأمثال ليس من الأمثال السائرة الدائرة الّتي ربما يستعين بها الحكماء أو يستعملها البلغاء بل لم يشتمل على شي ء من أمثال العرب المعروفة فالشبهة الاولى مطويّة للاستغناء عن جوابها بالجواب عن الثانية الظاهرة و الثالثة مستفادة من قوله عليه السّلام في الخبر المتقدم و ما هذا من الأمثال فتضرب آه إلا أنّها بوجوهها واضحة الاندفاع.

أمّا الاولى فلما سمعت من الحكمة المقتضية لكونه لطفا يتمّ به التبليغ و الإرشاد و يستعد به القلوب القاسية الجافية لفهم المقاصد المتعلّقة بالمبدأ و المعاد و ذلك لأنّ الأمثال بمنزلة القشور و الأبدان و المعاني المقصودة بمنزلة اللبوب و الأرواح و إنّما جعلت الأمثال المشيرة إلى تلك المقاصد جسرا للعبور إليها على الوجه الموافق الملائم للعامة حسبما سمعت.

و أمّا الثانية فلان هذه الأشياء المستحقرة كلها مظاهر للقدرة الإلهية مجال

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 529

لغرائب صنع الربوبيّة إذ لا فرق في ذلك بين البعوضة و الفيلة بل بينها و بين السموات و

الأرضين، لأنّ الصنع الظاهر في كلّ منهما متساوقان بل هما كفرسي رهان و رضيعي لبان في الدلالة على الصانع الحكيم المبدع للوجود و الأعيان.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له رواها في نهج البلاغة: و لو فكروا في عظيم القدرة و جسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكن القلوب عليلة، و الأبصار «1» مدخولة أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه و أتقن تركيبه و فلق له السمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر، انظروا إلى النّملة في صغر جثتها و لطافة هيئتها لا تكاد، تنال بلحظ البصر، و لا مستدرك الفكر كيف دبّت على أرضها، و ضنّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها و تعدّها في مستقرها، تجمع في حرّها لبردها و في ورودها «2» لصدرها، مكفولة برزقها، مزروعة برفقها، لا يغطها المنان، و لا يحرمها الديان و لو في الصفا اليابس و الحجر الجامس، و لو فكّرت في مجاري أكلها و في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها، و ما في الرأس من عينها و اذنها لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا فتعالى الّذي أقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها لم يشرك في فطرتها فاطر، و لم يعنه في خلقها قادر، و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلّتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شي ء، و غامض إختلاف كل حي، و ما الجليل و اللطيف و الثقيل و الخفيف و القوي و الضعيف في خلقه إلّا سواء، و كذلك السماء و الهواء، و الرياح و الماء،

فانظر إلى الشمس و القمر، و النبات و الشجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا الليل و النهار، و تفجر هذه الأنهار، و كثرة

__________________________________________________

(1) في نسخة: و البصائر.

(2) في نسخة: و في وردها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 530

هذه الجبال و طول هذه القلال، و تفرق هذه اللغات و الألسن المختلفات

الخطبة بطولها «1».

هذا مع أن التمثيل بالأشياء الحقيرة شايع جدّا عند العرب و غيرهم فقالوا في التمثيل: أضعف من بعوضة، و أعزّ، من مخ البعوضة فيما لا يوجد أصلا و كلفني مخ البعوضة في التكليف بما لا يطاق، و ألح من الذباب، و أطيش من الذباب، و أشبه بالذباب من الذباب، و أضعف من فراشة، و أجهل من فراشة، و أطير من جرادة، و أعظم من جرادة، و أفسد من جرادة و أسمع من قراد إلى غير ذلك ممّا لا تحصى.

و في الإنجيل: لا تشرّدوا الزنابير فتلدغكم، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم.

و فيه: لا تكونوا كالنخل يخرج منه الدقيق الطيب و يمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم و تبقون الغلّ في صدوركم.

و فيه: قلوبكم كالحصاة الّتي لا تنضجها النّار و لا يلينها الماء و لا ينسفها الرياح

، و غير ذلك من الأمثال الكثيرة مع أنّه لا يخفى أنّ المقصود من التمثيل زيادة الإيضاح و البيان للمعنى الممثّل له فهو تابع له في العظم و الصغر و الشرف و الخسّة دون الممثل بالكسر فربما تقتضي الحال التمثيل بالأضعف الأعجز تنبيها على نهاية ضعف آلهتهم و عجزها كما في قوله: وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ «2».

فالذباب الّذي هو من أضعف الحيوانات يزاحمهم و لا يقدرون على دفعه

إلى غير ذلك من الدّواعي الجزئيّة و الموارد الخاصة.

و أمّا الثالثة فواضحة الدّفع و الاستحياء استفعال من الحياء ممدودا، و هو

__________________________________________________

(1) الخطبة 185 من نهج البلاغة.

(2) الحج: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 531

الانقباض عن الشي ء و الامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، و هو الوسط بين الوقاحة الّتي هي الجرأة على القبائح و عدم المبالاة بها، و الخجل الّذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا فهو العدل المحمود بين طرفي الإفراط و التفريط يقال حيي الرجل منه من باب علم و استحيى منه، و عنه و استحياه يتعدّى بنفسه و بكلّ من الحرفين.

قال في «الكشاف»: و في اشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقال نسي و خشي و شطي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه من الانكسار و التغير منتكس القوّة منتقص الحياة كما قالوا فلان هلك حياء من كذا و مات حياء و رأيت الهلاك في وجهه من شدّة الحياء، و ذاب حياء «1» أقول و كان الاستحياء استبقاء الحياة الانسانية المقتضية لجملة من الأفعال و التروك بترك ما يوجب فتورا و انكسارا فيهما، و لذا فسّر في «الصحاح» و «القاموس» لا يستحي في الآية أي لا يستبقي نظير قوله: وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ* «2» و ان اختلفا في اعتبار المادّة فإن أحدهما باعتبار الحياة الإنسانية و الآخر باعتبار الروح الحيواني.

و قرأ عبد اللّه بن كثير يستحي بياء واحدة، و علل حذف الأولى بالتقاء الساكنين بعد حذف حركتها استثقالا للكسرة عليها، و عن الأخفش: استحيا بياء واحدة لغة تميم و بيائين لغة أهل الحجاز، قال: و هو الأصل لأنّ ما كان موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه ألا

ترى أنّهم قالوا أحييت و حويت و يقولون قلت و بعث فيعلّون العين حيث لم تعتل اللام، بل إنّما حذفوا الياء لكثرة استعمالهم لهذه الكلمة كما

__________________________________________________

(1) الكشاف ج 1 ص 263.

(2) البقرة: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 532

قالوا: لا أدر في لا أدري، و حيث قد سمعت أنّ الحياء من الأعراض القائمة بالنفس و لذا لا يصحّ اتصافه تعالى به اثباتا و نفيا فلا بد من تأويله في حقّه بالحمل على نهايات الأعراض لا بدايات الاعراض، فالمبدأ و هو التغيّر النفساني و الجسماني و ان لم يكن ثابتا في حقّه إلّا أنّه يفعل فعل المستحي و يترك تركه كما هو الحال فيما يتّصف به من الغضب و المكر و النسيان و غيرها حسبما مرت الإشارة إليه، و إلى وجوه أخر عند التعرض لنسبة المخادعة و الاستهزاء إليه سبحانه، نعم قد يحتمل في المقام وجوه أخر مثل أن تكون هذه العبارة قد وقعت في كلام الكفرة فقالوا ما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذّباب و العنكبوت فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال، أو أن المعنى أنّه تعالى لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها، أو أنّه لا يمتنع منه حيث أنّ أحدنا إذا استحيى عن شي ء تركه و امتنع منه بناء على نوع من التجريد فيهما، أو أنّ المراد أنّ الّذي يستحيي منه هو ما يكون قبيحا في نفسه و يكون لفاعله عيب في فعله، فأخبر اللّه سبحانه أنّ ضرب المثل ليس بقبيح و لا عيب فيه حتى يستحي منه، أو أنّه تعالى لا يعرضه الحياء و غيره من العوارض النّفسانيّة و

لذا نفاه عنه كما نفى عنه الولد و النوم و غيرهما في قوله: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ «1»، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ «2»، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ «3».

و هو كما ترى فإنّ مساق هذه الآيات و نحوها بيان استحالة الاتصاف لا الإخبار عن انتفاء الأوصاف و ظاهر الآية أنّه ليس بمقام الاستحياء لا أنّه يستحيل اتّصافه بالحياء، و ضرب المثل اعتماله و اعتماده من ضرب اللبن و الخاتم، و أصله الاعتماد المولم أو وقع شي ء على آخر يقال ضربته مثلا فيتعدّى لمفعولين، و يدخل

__________________________________________________

(1) التوحيد: 3.

(2) البقرة: 255.

(3) المؤمنون: 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 533

على المبتدأ و الخبر لما فيه من معنى الجعل كما يقال جعلته مثلا و منه قوله:

وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ «1»، و ربما يحتمل أخذه من ضربك أي مثلك على معنى أن يمثل لهم مثلا و قد يرجح الاول لما فيه من الإشارة إلى اتّحاد المضرب و المورد، و انّه ضربه ابتداء لا أنّه شبّه المضرب بالمورد و إنّ بصلتها مخفوض المحل بإضمار من كما هو المطرّد أو منصوب بافضاء الفعل إليه بعد حذف الجار، أو بافضائه إليه بنفسه لما سمعت من أن يستحي يتعدّى بنفسه.

وَ ما هذِهِ إمّا إبهاميّة تقترن بالنكرة فتزيدها إبهاما و شياعا و عموما كقوله: أَيًّا ما تَدْعُوا «2»، و أَيْنَما تَكُونُوا «3»، بل قد تفيد مضافا إلى الإبهام الحقارة كما في المقام فتكون صفة لمثلا أو بدلا منه و بَعُوضَةً عطف بيان علي ما و أمّا مزيدة للتوكيد كما في قوله: فَبِما رَحْمَةٍ «4»، فَبِما نَقْضِهِمْ* «5» و ربما يؤيّد بسقوطها

في قراءة ابن مسعود، و الجملة الّتي تؤكدها إمّا ضرب المثل فمعناه أنّه يضرب المثل حقّا أو نفي الاستحياء و المراد أنّه لا يستحيي البتّة.

و أمّا ما يحكى عن أبي مسلم «6»: معاذ اللّه أن يكون في القرآن زيادة و لغو و تبعه الرازي معللا بأنّ اللّه تعالى وصف القرآن بكونه هدى و بيانا و اشتماله لغوا ينافي ذلك، و وافقهما بعض السادة من مشايخنا المعاصرين.

مدفوع بأنّ المقصود من زيادتها أن لا يراد منها معنى خاصّ بل إنّما تذكّر مع

__________________________________________________

(1) الزخرف: 59.

(2) الإسراء: 110.

(3) النساء: 78.

(4) آل عمران: 159.

(5) النساء: 155.

(6) هو ابو مسلم الكاتب محمد بن احمد بن علي البغدادي نزيل مصر ولد سنة (305) ه و روى القراءات عن جمع من المقرئين مثل ابن الجارود، و ابن بزيع و روى عنه القراءة الحافظ ابو عمرو الداني، توفي سنة (399) ه- غاية النهاية ج 2 ص 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 534

غيرها لإفادة الوثاقة و التوكيد في المعنى المقصود، و أين هذا من اللّغو الضائع الّذي لا يترتّب عليه شي ء من الفوائد: كيف و زيادة الحروف و لو لفائدة لفظيّة أو معنويّة كثيرة في كلمات الفصحاء، شائعة في خطب مصاقع البلغاء، و قد ورد بها التّنزيل، و من تكلّف فيما ورد منها بالحمل على غيرهما فقد ركب صعبا و رام شططا.

و فيها وجه ثالث محكي عن الفرّاء و الكسائي و قد يعزى إلى الكوفيين أيضا و هو أنّ المعنى ما بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقال: مطرنا ما زبالة إلى الثعلبية، و له عشرون ما ناقة فجملا، و هو أحسن النّاس ما قرنا فقد ما

يعنون ما بين في جميع ذلك على إسقاط الجار.

و بَعُوضَةً إمّا عطف بيان للمثل، و ضعّف بالمنع منه في النكرات، أو بدل أو صفة ل ما إذا جعلناها بدلا من مَثَلًا، أو مفعول يَضْرِبَ و مَثَلًا حال منها تقدّمت لأنها نكرة، أو هما مفعولاه الأوّل الأوّل و الثاني الثاني، أو العكس لما مر من تضمّن الضرب لمعنى الجعل، و المنع عن تعدّيه إليهما غير مسموع، و لذا أجيز في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً «1» انتصابها به و يؤيّده أيضا قوله: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ «2» بناء على أنّه بمنزلة قولك: ظننت زيدا كعمرو بدليل قوله: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ «3»، و تنكيرهما في المقام غير قادح، لأنّ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها مأوّل إلى صغير أو أصغر، أو صغيرا أو كبيرا على ما يأتي، و من الشواذ قراءة رؤبة بن العجاج «4» بالرّفع على أنّ يكون خبرا لما على أن تكون استفهامية، و إن قيل: إنّ فيه غرابة و بعدا عن معنى الاستفهام، أو لمحذوف هو هو، فتكون ما زائدة أو موصولة حذف صدر صلتها مع عدم طولها كما في قوله:

__________________________________________________

(1) ابراهيم: 24.

(2) الكهف: 45.

(3) يونس: 24.

(4) رؤبة بن العجاج التميمي السعدي توفي سنة (145) ه

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 535

على الّذي أحسن «1» على قراءة الرفع.

على أنّه قد يقال: إنّ فَما فَوْقَها حينئذ من جملة الصلة: فلا شذوذ مطلقا، و ان كان لا يخلو عن نظر، بل قد يفرق في جوازه بين ما و الّذي، أو موصوفة بجملة حذف صدرها على ما مرّ، و عليهما محلّها النّصب على البدليّة، أو نكرة مبهمة و الجملة وقعت

جوابا كأنّه ممّا قيل: إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب مثلا ما قيل: ما هو؟ فقيل: هو بعوضة كما تقول مررت برجل زيد أي هو زيد.

ثمّ انّه قد مرّ

عن تفسير الإمام عليه السّلام في قوله: ما بَعُوضَةً قال: أي ما هو بعوضة المثل «2» ، لكن في «الصافي» حكاه على غير وجهه ففسّر «ما» بقوله: ما هو المثل، ثمّ قال: يعني أيّ مثل كان فإنّ «ما» لزيادة الإبهام و الشيوع في النّكرة.

و هو كما ترى مخالف للموجود في النسخ الصحيحة بل و لما حكاه شيخنا المجلسي طاب ثراه في «البحار» الموافق لما مرّ آنفا، و هو غير ظاهر في كون ما إبهاميّة و لذا قال المجلسي رحمه اللّه بعد نقل الخبر: ظاهر أنّه عليه السّلام قرأ بالرفع كما قرئ به في الشواذ فكلمة «ما» إمّا موصولة حذفت صدر صلتها، أو موصوفة كذلك و محلّها النّصب بالبدليّة أو استفهاميّة هي المبتدأ قال: و الأظهر في الخبر هو الوجهان الأوّلان.

أقول و لعلّ الظاهر منه هو الثالث على أن يكون ما هو مبتدأ و خبرا في معرض السؤال و بعوضة المثل مبتدأ و خبرا في معرض الجواب، و يحتمل على بعد أن يكون المثل خبرا عن ما و اعترض بينهما بقوله هو بعوضة و أن يكون قوله المثل على أحد الأولين بيانا للموصولة أو الموصوفة فيتم الكلام بدونه من دون حاجة إلى التقدير إلّا بالنسبة إلى الضّمير، و هذا و ان أوجب توجيههما على الآخرين إلّا

__________________________________________________

(1) الانعام: 154.

(2) تفسير البرهان ج 1 ص 70 عن تفسير الامام عليه السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 536

أنّه مخالف لظاهر الخبر، بل الأوفق به هو الأوّل و إن خالف

ظاهر الآية لكثرة الحذف، و من هنا ينقدح تقريب ما استحسنه الزمخشري بناء على الرفع و هو أن تكون «ما» استفهاميّة و حيث إنّهم استنكفوا من تمثيل اللّه لأصنامهم بالمحقّرات قال: إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقّرة مثلا بله البعوضة فما فوقها كما يقال: فلان ما يبالي بما وهب ما دينار و ديناران إلى أن قال:

و هذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج «1» و هو أمضغ العرب للشيح و القيصوم المشهود له بالفصاحة و ما أظنّه ذهب في هذه القراءة الّا إلى هذا الوجه و هو المطابق لفصاحته «2».

و البعوضة واحدة البعوض و هو صغار البق فعول من البعض، كأنه بعض البق قطع منه، فان التركيب و لو على الترتيب للقطع كالبضع و العضب، و قد شاع التمثيل بها و بأبعاضها في القلّة و الحقارة.

ففي النبوي لو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء «3».

و في اخبار البكاء على مولانا سيّد الشهداء عليه السّلام من ذرفت عيناه على مصاب الحسين عليه السّلام و لو كان مثل جناح البعوضة غفر اللّه له ذنوبه و لو كانت مثل زبد البحر «4».

و في أخبار كثيرة مثل جناح البق

قال أمير المؤمنين عليه السّلام أيّها الناس إنّ

__________________________________________________

(1) هو رؤبة بن عبد اللّه العجاج بن رؤبة التميمي من مشاهير الفصحاء مات في البادية سنة (145) الأعلام ج 3 ص 34.

(2) الكشّاف: ج 1 ص 264.

(3) بحار الأنوار ج 9 ص 172 و فيه: لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء

(4) البحار ج 44 ص 293 ح 38 و فيه: و لو مثل جناح

البعوضة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 537

الأشعث لا يزن عند اللّه جناح بعوضة و إنّه أقلّ في دين اللّه من عفطة عنز «1» ، عفطة عنز ضرطته.

و أنشد بعضهم:

لا تحقرن صغيرا في عداوته إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد و يحكى أن الزّمخشري أوصى أن يكتب هذه الأبيات على قبره:

يا من يرى مدّ البعوض جناحه في ظلمة الليل البهيم الأليل و يرى نياط عروقها في نحرها و المخّ في تلك العظام النّحل امنن عليّ بتوبة أمحو بها ما كان منّي في الزمان الأوّل «2». و في «مجمع البيان» عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: إنّما ضرب اللّه المثل بالبعوضة لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق اللّه فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره و زيادة عضوين آخرين فأراد اللّه تعالى أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلفه و عجيب صنعه «3».

و يقال «4»: إنّه تعالى إنّما ضرب بها المثل لأنّها تحيي ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك من ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريّا أخذهم اللّه تعالى

__________________________________________________

(1) سفينة البحار ج 4 ص 443 و الأشعث هو ابن قيس الكندي هو الّذي ارتد عن الدين و أسر و عفى عنه ابو بكر و زوّجه أخته.

(2) الكنى و الألقاب ج 3 ص 269، و فيه كما في الكشاف: اغفر لعبد تاب من فرطاته، و في الكشاف أيضا: و أنشدت بعضهم يا من يرى ... إلخ.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 67.

(4) القائل به: هو الربيع أنس كما في المجمع- قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الربيع بن أنس بن زياد البكري الخراساني المروزي بصريّ، كان عالم مرو

في زمانه توفي سنة (139) ه سير الأعلام ج 6 ص 169- 170.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 538

عند ذلك كما قال سبحانه: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «1».

قال الدّميري «2» في «حياة الحيوان» البعوض دويبة قال الجوهري: إنّه البقّ، الواحدة بعوضة و هو وهم و الحق أنّه صنفان صنف كالقراء لكن له أرجل خفيفة و رطوبة طاهرة يسمّى بالعراق و الشّام الجرجس قال الجوهري، و هو لغة في القرقس و هو البعوض الصغار، ثمّ قال: و البعوض على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء منه فانّ للفيل أربعة أرجل و خرطوما و ذنبا و للبعوض مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان و أربعة أجنحة و خرطوم الفيل مصمت، و خرطومه مجوّف نافذ الجوف فإذا طعن به جسد الإنسان استقى الدّم و قذف به إلى جوفه، فهو له كالبلعوم و الحلقوم فلذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ، و ممّا ألهمه اللّه تعالى انّه إذا جلس على عضو من الأعضاء. لا يزال يتوخّى بخرطومه المسام الّتي يخرج منها العرق لأنّها أرق بشرة من جلد الإنسان فإذا وجدها وضع خرطومه فيها، و فيه من الشره انّه يمصّ الدم إلى أن ينشق و يموت أو إلى أن يعجز من الطيران فيكون ذلك سبب هلاكه و من ظريف أمره أنّه ربّما قتل البعير و غيره من ذوات الأربع فيبقى طريحا في الصحراء فيجتمع حوله السباع و الطير الّتي تأكل الجيف فمن أكل منها شيئا مات لوقته، و كان بعض الجبابرة من الملوك بالعراق يعذّب بالبعوض فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجردا إلى بعض الآجام الّتي بالبطائح و يتركه فيها مكتوفا فيقتل في أسرع وقت «3».

و

روي أنّه أرسل اللّه البعوض على نمرود و اجتمع منه في عسكره مالا

__________________________________________________

(1) الانعام: 44.

(2) الدميري محمد بن موسى المصري الشافعي المتوفى (808).

(3) حياة الحيوان ج 1 ص 179- 180.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 539

يحصى عددا، فلمّا عاين نمرود ذلك انفرد من جيشه و دخل بيته و اغلق الباب و ارخى الستور و نام على قفاه مفكّرا فدخلت البعوضة في أنفه فصعدت إلى دماغه، فتعذّب بها أربعين يوما إلى أن كان يضرب برأسه الأرض، و كان أعزّ الناس عنده من يضرب رأسه ثمّ سقط منه كالفرخ و هو يقول كذلك يسلط اللّه رسله على من يشاء من عباده ثم هلك «1».

ثمّ أنّ البعوضة على صغر جرمها قد أودع اللّه تعالى في دماغه قوّة الخيال و الفكر و الحفظ و الذكر و لعلّها موزّعة فيها كغيرها على أجزاء دماغه الثلاثة المقدّم و المؤخّر و الوسط و خلق لها حاسّة البصر و السّمع و اللمس و الشّم و خلق لها منفذا للغذاء و مخرجا للفضلة و خلق لها جوفا و معاء و عروقا و عظاما فسبحان من قَدَّرَ فَهَدى و لم يترك شيئا من المخلوقات سدى «2».

فَما فَوْقَها ما موصولة، أو موصوفة و معطوفة على ما الاولى إن كانت اسما و الّا فعلى بعوضة و إن رفع بعوضة فالأولى موصولة و الثانية معطوفة عليها، و ان كانت الاولى استفهامية فالثانية كذلك، و تكون من عطف الجمل، و المراد ما زاد عليها في الجثة كالذباب و العنكبوت لما قيل من أنّه لما ذكرهما اللّه في كتابه و ضرب بهما المثل ضحكت اليهود و قالوا ما يشبه هذا كلام اللّه فنزلت ردّا عليهم في استنكارهم

و المعنى انّه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلا عمّا هو أكبر منه أو ما نقص عنه في الجثّة لأنّ فيه زيادة في المعنى الّذي جعلت فيه مثلا و هو الصغر و الحقارة، حيث أن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان كلما كان المشبّه به أشدّ حقارة كان المقصود اكثر حصولا فالمراد بالموصولة ما هو الأصغر منها كجناحها و سائر اجزائها

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان: ج 1 ص 152.

(2) نفس المصدر: ج 1 ص 182.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 540

و كالجرجس و الولع.

ففي الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: ما خلق اللّه عزّ و جل خلقا أصغر من البعوض و الجرجس أصغر من البعوض و الّذي نسمّيه نحن الولع أصغر من الجرجس و ما في الفيل شي ء إلّا و فيه مثله و فضل على الفيل بالجناحين

، قال في «الصّحاح» الجرجس لغة في القرقس و هو البعوض الصغار، و في القاموس انّه بالكسر البعوض الصغار و لعله نوع منه أصغر من سائر أنواعه و الحصر في الأول اضافي أو يعمّ الاسم كلّ ما كان أصغر منه، و قد مرّ في تفسير «1» الامام عليه السّلام، و يأتي ما يدلّ على الأوّل من الاحتمالين في فوقها حيث فسّره بالذّباب و لا بأس بارادة الثّاني أيضا لما سمعت مع كون الأصغر أوّل على كمال القدرة و ظهور العظمة، قال في القاموس، و بَعُوضَةً فَما فَوْقَها اي في الصغر، و قيل: في الكبر، و يقال: إنّ في خلقه سبحانه، دويبة لا يكاد يجلّيها للبصر الحاد الا تحرّكها فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها و تجنّبت مضرّتها.

قلت: و أصغر منها دويبات لا تدرك بحركة

و لا سكون أصلا إلّا بواسطة بعض الآلات الصناعية كمرآة الذرة الّتي يقال لها بالفارسية ذره بين و نحوها و مثلها يرى كثيرا في الماء الصافي الّذي لا يكاد يدرك فيه البصر غير الصفاء و لكلّ منها مدخل و مخرج و غذاء و نمو و قلب و قالب و أخلاط و عروق و أعضاء و حواس و قوى و إرادة و حياة و روح و نفس سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ «2».

و في تفسير الامام عليه السّلام انّه قيل للباقر عليه السّلام: إنّ بعض من ينتحل موالاتكم يزعم

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ص 70 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) يس: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 541

أنّ البعوضة عليّ و أنّ ما فوقها و هو الذباب محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال الباقر عليه السّلام سمع هؤلاء شيئا لم يضعوه على وجهه إنّما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قاعدا ذات يوم هو و عليّ عليه السّلام إذ سمع قائلا يقول ما شاء اللّه و شاء محمّد و سمع آخر يقول ما شاء اللّه و شاء عليّ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تقرنوا محمّدا و عليّا باللّه عزّ و جل و لكن قولوا ما شاء محمّد ما شاء اللّه ثمّ شاء عليّ على أنّ مشيّة اللّه هي القاهرة الّتي لا تساوى و لا تكافى و لا تدانى و ما محمّد رسول اللّه في اللّه و في قدرته إلا كذبابة تطير في هذه الممالك «1» الواسعة و عليّ في اللّه و في قدرته إلّا كبعوضة في

جملة هذه الممالك «2» مع أنّ فضل اللّه على محمّد و عليّ هو الفضل الّذي لا يفي ء به فضله على جميع خلقه من أوّل الدهر الى آخره هذا ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذكر الذباب و البعوضة في هذا المكان فلا يدخل في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ «3» انتهى.

و في تفسير القمي بالإسناد عن الصّادق عليه السّلام إنّ هذا المثل ضربه اللّه تعالى لأمير المؤمنين عليه السّلام و ما فوقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال و الدليل على ذلك قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ يعني أمير المؤمنين عليه السّلام كما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم له «4».

إلى آخر ما يأتي من كون الميثاق في حقّه و كون الوصل بصلته أقول و النّهي من الاقتران في خبر الإمام عليه السّلام لما يوهمه من المقابلة و التغاير و الاستقلال المستفاد من العطف و لذا أمرهم عليه السّلام أن يقولوا ما شاء محمّد ما شاء اللّه أي المشيّة الالهيّة هي الّتي تعلّقت به مشيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّ قلبه وعاء لمشيته سبحانه و نبّه على ذلك

__________________________________________________

(1) في البرهان: المسالك.

(2) في البرهان: المسالك.

(3) تفسير البرهان ج 1 ص 71- 72 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(4) تفسير القمي ج 1 ص 34- 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 542

بالحمل الظاهر فيه و أمّا المنافاة بين الخبرين على فرض صحّتهما فلعلّ الأوّل باعتبار التّنزيل و الاخر باعتبار التأويل.

و ذكر شيخنا المجلسي طاب ثراه أنّه يحتمل أن يكون إشارة إلى ما مثل اللّه بهم

لذاته تعالى من قوله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1»، و أمثاله لئلّا يتوهم متوهم أنّ لهم عليه السّلام في جنب عظمته تعالى قدرا أولهم مشاركة له تعالى في كنه ذاته و صفاته، أو الحلول أو الاتّحاد، تعالى اللّه عن جميع ذلك، فنبّه اللّه تعالى بذلك على أنّهم و إن كانوا أعظم المخلوقات و أشرفها فهم في جنب عظمته تعالى كالبعوضة و أشباهها، و اللّه تعالى يعلم حقايق كلامه و حججه عليه السّلام، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ «2»، لكنّه لم يرد بها التنزيل وضعت للدلالة على التفصيل لمجمل مذكور كقولك: أكرم العلماء أمّا الفقهاء فكذا، و أمّا الحكماء فكذا، و إن كان قد لا يذكر معه قسيمه اكتفاء بما يقوم مقامه و اشعارا بزيادة الاهتمام بالتّنبيه على حكم ما سيق له الكلام كما في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ «3» حسبما تسمع، أو لمتعدد في الذهن مع سبق ما يدلّ عليه في الجملة كما في المقام، حيث استفيد من قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي تصنيف الناس إلى من يداخله شبهه أولا، أو عدم سبقه في الذكر كقوله: أمّا بعد في صدور الكتب و الرسائل و على التوكيد المستفاد من اختيار التفصيل بعد الإجمال المطوي أو المنوي، و لذا قال سيبويه، إنّ معنى أمّا زيد فذاهب: مهما يكن من شي ء فزيد ذاهب، أي إنّه ذاهب لا محالة و انّه منه عزيمة و على الشرط المدلول عليه بلزوم الفاء بعدها كما في الآية و غيرها و لذا

__________________________________________________

(1) النور: 35.

(2) البقرة: 26.

(3) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 543

قيل: إنّ الأصل أمّا زيد فمنطلق إن أردت معرفة حال

زيد فزيد منطلق، فأقيم أمّا مقام الأداة و فعل الشرط بعد حذفهما، و قضيّة دخول الفاء على الجملة الجزائية، إلّا أنّهم قدموا جزءا ممّا في حيّز تعويضا عن المحذوف و فرارا من توهم معطوف بلا بالمعطوف عليه و تنبيها على أنّه النوع تفضيل جنسه لكنّهم وسعوا في المقتطع منها بالنّسبة إلى الموضوع كما في المقام أو غيره كما في غيره، فالموصولة مبتدأ خبرها مدخول الفاء، و كذا في الجملة التالية.

في تصديرها بالدّال على الأمور الثلاثة تكريم المؤمنين و تنويه لقدرهم و تحسين لصنعهم و اعتداد بعلمهم سيّما مع الإسناد إلى الموصولة، و تعريفهم بأحسن سماتهم، و اضافة العلم الحقيقي بثبوت ذلك إليهم و انّه مبتدأ من عند ربّهم الّذي يربيهم به على حسب ما يرى فيه صلاحهم كما هو المحقق عندهم، بخلاف الجملة التالية فانّها ناعية على الكافرين لعنادهم و تكذيبهم للحقّ و إصرارهم على الباطل بما يستفاد من التّصدير و التكفير و العدول عن الرّب، و رميهم بالكلمة الحمقاء، و الضّمير للضرب أو للمثل.

و الحقّ هو الثّابت الّذي لا يسوغ إنكاره من حق الأمر يحق بالكسر إذا ثبت و وجب، يقال أحققت الشي ء أي أوجبته، و تحقّق عندنا الخبر أي صحّ، و حققت قوله و ظنّه تحقيقا أي صدقت، فيعم مصاديق الصدق و غيره و لذا يطلق في الأعيان الثابتة و الأفعال الصائبة و الأقوال الصادقة.

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا عدل عن نفي العلم أو اثبات الجهل الّذي يقضي به المطابقة و المقابلة إلى حكاية القول المترتب عليه ليكون كالبرهان على ذلك لما فيه من الدلالة على كمال جهلهم و غوايتهم و نبوا أفهامهم عن إدراك الحق و

وقر أسماعهم عن الإصغاء إليه، و للتنبيه على شمول الكفر

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 544

للناشي عن مجرد الجحود و العناد، و إن اقترنه مطابقة الإعتقاد كما قال: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1»، و ما ذا كلمتان ف «ما» استفهامية مرفوع المحل بالابتداء، و «ذا» بمعنى الّذي و ما بعده صلته، و موضعه الرفع على أنّه خبر المبتدأ أو كلمة واحدة بمعنى أيّ شي ء منصوب المحل بأنّه مفعول «أَرادَ»* فهي في حكم ما وحده، و الصّواب في الجواب الرفع على الأوّل كما في قوله: ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «2» و النصب على الثاني كما في قوله: ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً «3» لمطابقة الجواب للسؤال فيهما، و قد يحتمل عكس ذاك و ان لم يكن الأصوب كما تقول في جواب من قال: ماذا رأيت: خيّر أي المرئي خير، و في جواب ماذا الّذي رأيت؟: خيرا أي رأيت خيرا، و لذا قرأ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «4» بالرفع و النصب على التقديرين و مَثَلًا منصوب على الحال كقوله:

هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً* «5» أو على التمييز كقولك لمن يطلب تجارة خاسرة: كيف تنتفع بها تجارة أو على القطع بتقدير أعني و نحوه، و المراد بالاستفهام في المقام ليس على حقيقته، بل إنّما قصدوا الاسترذال و الاستحقار.

حقيقة الإرادة و الكراهة

و الارادة ضد الكراهة، و هي فينا كيفيّة نفسانية تحدث عقيب تصوّر الشي ء

__________________________________________________

(1) النحل: 14.

(2) النحل: 24.

(3) النحل: 30.

(4) البقرة: 219.

(5) الأعراف: 73.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 545

الملائم يعبر عنه بنزوع النفس و ميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه سواء كان مع شوق

حيواني كالشهوة و الغضب أم لا، و يطلق أيضا على القوة الّتي هي مبدأه.

و أمّا ارادته سبحانه فقد طال التشاجر بينهم في معناها، فقيل: إنّها قديمة عين الذات، و قيل: قائمة به، و قيل: نفس العلم، و قيل: إنّ له إرادتين، قديمة هي عين ذاته، و حادثة هي متجدّدة متكثرة واردة على ذاته، و على الوجهين صفة زائدة على العلم، أو متّحدة معها إلى غير ذلك من الأقوال السخيفة الناشئة عن اختلال التوحيد، بل أنكرها بعضهم مطلقا كأوساخ الدهرية و الطباعية و كبعض الحكماء القائلين بالاتّفاق.

و ذكر العلامة الحلي رحمه اللّه في «أنوار الملكوت» أنّ ارادته سبحانه صفة حادثة موجودة بإيجاده لا في محلّ قال: و هو مذهب السيد المرتضى و أكثر أصحابنا.

أقول و الّذي استقرّ عليه المذهب و استفاض به الخبر أن ارادته سبحانه حادثة بإحداثه، و هي من صفات الفعل.

ففي «الكافي» و «التوحيد» عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام:

أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق «1» فقال عليه السّلام: الارادة من الخلق «2» الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يروّي «3» و لا يهمّ و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون، بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّه و لا تفكر،

__________________________________________________

(1) في نسخة: و من المخلوق.

(2) في البحار: من المخلوق.

(3) روّى يروّي: نظر و فكر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 546

و لا كيف لذلك كما لا كيف «1» له «2».

و عن عاصم بن حميد

عن الصادق عليه السّلام قال قلت له: لم يزل اللّه مريدا؟ قال:

إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه بل لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد «3».

و في التوحيد عن الرّضا عليه السّلام قال المشيّة من صفات الأفعال فمن زعم أن اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد «4».

و سأله بكير بن أعين علم اللّه و مشيّته هما مختلفان أم متفقان، فقال: العلم ليس هو المشيّة ألا ترى أنك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك إن شاء اللّه دليل على أنّه لم يشأ فإذا شاء كان الّذي شاء كما شاء، و علم اللّه سابق للمشية «5».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدّالة على مغايرة إرادته لعلمه و ساير صفاته الكمالية و نعوته الجمالية و الجلالية.

و أمّا ما يظهر من بعض الأذكياء كالسّيد الداماد و الصدر الأجل الشيرازي و غيرهما من الفضلاء من أنّ ارادته تعالى قديمة و أنّها كون ذاته بحيث تصدر عنه الأشياء و أنّها راجعة إلى علمه بالنّظام الأتم الأصلح التابع لعلمه بذاته فإرادته الأشياء علمه بها لا غير و انّ علمه بغيره التابع لعلمه بذاته سبب تام لوجود الأشياء في الخارج لأجل ذاته لأنّها من توابع ذاته لا لغرض زائد و جلب منفعة و طلب محمدة و التخلّص من مذمّة و غير ذلك من الغايات.

__________________________________________________

(1) في البحار: كما أنّه بلا كيف.

(2) البحار ج 4 ص 137 عن التوحيد و العيون.

(3) البحار ج 4 ص 144 ح 16 عن التوحيد.

(4) البحار ج 4 ص 145 ح 18.

(5) بحار الأنوار ج 4 ص 144 ح 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4،

ص: 547

ففيه أنّه ردّ لتلك النصوص و جرأة على أهل الخصوص الذين هم خزنة الوحي و معادن العلم و هم أعلم الخلق باللّه تعالى و صفاته الذّاتية و الفعليّة و قد صرّحوا في أخبار لا يبعد تواترها على كون الإرادة من الصفات الفعلية و مغايرتها للعلم و للذات.

و أمّا ما ذكره الثاني تبعا للاوّل من أنّه لما كان فهم الجمهور لا يصل إلى الإرادة بالمعنى الرّاجع إلى علمه بذاته المقتضي لوجود الأشياء بنفسه بل إلى النحو الّذي في الحيوان و ضدّه الكراهة فتكون حادثة عند حدوث المراد فلذا جعلها عليه السّلام من صفات الأفعال و من الصفات الاضافية المتجدّدة كخالقيته و رازقيته حذرا عن كونه تعالى محلّا للحوادث لو كان الارادة الحادثة من صفات الذات فهي كالعلم الحادث الّذي هو إضافة عالميّته تعالى بالحوادث الكونيّة و هي أخيرة مراتب علمه تعالى فلإرادته أيضا مراتب أخيرتها ما في الخبر و أولها نفس علمه بذاته.

ففيه أنّ سبيلها حينئذ سبيل العلم الّذي هو عين الذّات و أمّا الارادة فقد أطبقوا على حدوثها و أنّها من صفات الفعل و انّ اللّه تعالى خلق الخلق لا بارادة قديمة بل بارادة حادثة بنفسها و لذا قالوا خلق اللّه المشيّة بنفسها و خلق الأشياء بالمشيّة، و كان فيه اشارة إلى الجواب عمّا استدلّوا به على قدمها من أنّها لو كانت حادثة لكانت محدثة بارادة غيرها و تلك الارادة إن كانت حادثة افتقرت إلى ارادة اخرى إلى أن يتسلسل و الّا ثبت المطلوب فأجاب عليه السّلام بأنّه سبحانه خلقها و أبدعها بنفسها لا بإرادة غيرها و أنشأ بها الأشياء كما تشاهد مثل ذلك في إرادة نفسك و نيّتك فإنك تنشأها بنفسها و تنشئ

بها غيرها من الأفعال.

و أمّا ما يقال: من أنّ الإرادة صفة و الصّفة لا تقوم بنفسها و لا بغير موصوفها فلو كانت حادثة لكان سبحانه محلّا للحوادث فتجب أن تكون قديمة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 548

ففيه مع الغضّ عن النقض بالصّفات الفعليّة أنّه مبني على قياس إرادته بارادتنا في كونها من الكيفيّات النفسانية القائمة بنا و قد مرّ

في الخبر أن الإرادة فينا هو الضّمير و فيه إحداثه لا غير «1».

و إرجاعها إلى العلم أو غيره تصرّف في معاني صفاته بما لم يرد الإذن به عنهم عليهم السّلام بل في خبر احتجاج الرّضا عليه السّلام «2» على سليمان المروزي بطوله ما يدلّ على الإنكار الصّريح على كونها صفة قديمة، و أنّها مغايرة للعلم و القدرة و انّها ليست مثلهما و لا مثل السمع و البصر في اتصاف الذات بها، و انّها ليست نفس الأشياء كما توهّمه ضرار و أصحابه من أن كلّ ما خلق اللّه تعالى في سماء أو أرض أو برّ أو بحر او غير ذلك كلّها ارادة بل الارادة صفة محدثة و هي فعله سبحانه لا غير بل في الخبر إلزامات شنيعة و حجج قويّة أوردها عليه السّلام على سليمان لم نذكره لطوله فارجع إليه إن شئت و هو مذكور في العيون و الاحتجاج «3» و البحار و غيرها

و في آخر الخبر فلم يزل سليمان يردّد المسألة ينقطع فيها و يستأنف و ينكر ما كان أقرّ به و يقرّ بما أنكر، و ينتقل من شي ء إلى شي ء و الرضا عليه السّلام ينقض عليه ذلك حتّى طال الكلام بينهما و ظهر لكلّ أحد انقطاعه مرّات كثيرة فآل الأمر إلى أن قال سليمان إنّ الإرادة

هي القدرة قال عليه السّلام: و هو عزّ و جل يقدر على أن لا يريد أبدا، لا بدّ من ذلك لأنّه قال: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «4» فلو كانت الإرادة هي القدرة لكان قد أراد أن يذهب به لقدرته فقطع سليمان.

__________________________________________________

(1) البحار ج 4 ص 144.

(2) التوحيد ص 457- 470 عيون الاخبار ص 100- 106 و عنهما البحار ج 10 ص 329- 338 ح 2.

(3) الاحتجاج ص 218- 220.

(4) الإسراء: 86.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 549

ثمّ إنّ الأخبار المتقدمة قد اشتملت على الاستدلال بحدوث الإرادة و عدم قدمها مرّة بأنّها لو كانت قديمة لكان المراد معها، و يلزم من ذلك قدم الأشياء كلها فتتعدد القدماء و هو هدم للتوحيد، و لذا قال: من زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريدا شأنيّا فليس بموحّد و قال إنّ المريد لا يكون إلّا و المراد معه.

و توهّم أنّه تعالى كان في الأزل مريدا للأشياء في أزمنة حدوثها فلا يلزم قدمها مدفوع بأنّ الزمان أيضا من جملة الحوادث فيلزم قدمه، مع أنّ أزمنة حدوثها حادثة بإرادته فإمّا أن تكون تلك الارادة المتعلقة بإيجادها قديمة لزم قدمها أو حادثة فهو المطلوب، و أخرى بأنّه يصحّ التعليق بمشيّة اللّه تعالى دون علمه فتقول:

أفعل كذا ان شاء اللّه و أراد، و لا تقول أن علم اللّه فاتّضح به المغايرة بينهما، بل قد يلوح من كلامه عليه السّلام وجه آخر و هو انّه تعالى يعلم كلّ شي ء و لا يريد كلّ شي ء إذ لا يريد كفرا و ظلما و لا شيئا من القبائح وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ «1» يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ

لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2»، فعلمه متعلّق بكلّ شي ء أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ*، و لا كذلك إرادته، فعلمه غير ارادته، و علمه عين ذاته تعالى، فإرادته صفة زائدة على ذاته.

و من الغريب بعد ذلك كله أن الملا صدرا قد شمّر عن ساق الجد للجواب عنهما و عن غيرهما ممّا يستدلّ به على حدوث الإرادة حتّى أنّه قد عقد لذلك فصلا في كتابه المسمّى بالمبدأ و المعاد فأجاب عن الأوّل بأنّه تعالى أراد بإرادته القديمة إيجاد نفس الوقت المعين بعد العدم لا أنّه أراد بإيجاده في وقت معيّن حتّى يلزم التسلسل، و بالجملة أنّه تعالى أراد بالإرادة القديمة إيجاد كلّ العالم و اجزائه

__________________________________________________

(1) غافر: 31.

(2) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 550

و جزئيات اجزائه في أماكنها و أوقاتها المخصوصة و أراد إيجاد الأوقات بهويّاتها المخصوصة لا في أوقات اخرى و كذا أراد إيجاد الأماكن بهويّاتها المخصوصة لا في اماكن اخرى، و ذلك لأنّ تخصيص الحادث بوقت خاص يفتقر إلى ذلك الوقت و لا يفتقر ذلك الوقت في تخصيصه الى شي ء آخر غير الارادة القديمة لأنّ التخصص الحدوثي فيه عين ذاته و هويّته و الذّاتي للشي ء غير معلّل بأمر و لا يفتقر إلى الجاعل له جعلا بسيطا و هكذا حكم الأمكنة في تخصصاتها المكانيّة، و عن الثاني بأنّ فيضه تعالى يتعلّق بكلّ ما يعلمه خيرا في نظام الوجود فليس في العالم الامكاني شي ء مناف لذاته و لا لعلمه الّذي هو عين ذاته و لا أمر غير مرضي به فذاته بذاته كما أنّه علم تامّ بكلّ خير موجود فهو أيضا إرادة و رضا لكلّ خير إلّا أن أصناف الخيرات متفاوتة و جميعها مرادة

له تعالى مرضيّ بها له فضرب منها خيرات محضة لا يشوبها شرّيّة واقعيّة إلّا ما بحسب إمكاناتها الاعتباريّة المختفية تحت سطوع النّور الإلهي الوجوبي على تفاوت مراتبها في شدّة النوريّة الوجوديّة و ضعفها، و ضرب منها خيرات يلزمها شرّية واقعية لكن الخير فيها غالب مستول و الشرّ مغلوب مقهور، و هذا القسم أيضا مراد لا محالة واجب الصدور عن الجواد المحض و المختار لكل ما هو خير لأنّ في تركه شرّا كثيرا، و الحكيم لا يترك الخير الكثير لأجل الشّر القليل، و أمّا الشّر المحض و الشّر المستولي و الشّر المكافئ للخير فلا حصول لأحد من هذه الثلاثة في هذا العالم فلم يرد اللّه شيئا منها: و لم يأذن له في قول كن للدّخول في حرم الكون و الوجود، فالخيرات كلّها مرادة بالذّات، و الشرور القليلة اللازمة للخيرات الكثيرة أيضا إنّما يريدها لا بما هي شرور فالشّرور اللّطيفة النادرة داخلة في قضاء اللّه تعالى بالعرض و هي مرضي بها كذلك

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 551

فقوله تعالى: وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «1»، و لا يجري مجراه من الآيات معناها أنّ الكفر و غيره من القبائح غير مرضي بها له تعالى في أنفسها و بما هي شرور، و لا تنافي في ذلك كونها مرضيّا بها بالتعبيّة و الاستجرار، أو نقول: من سبيل آخر: إنّ وزان الإرادة بالقياس إلى العلم و زان السمع و البصر بالقياس إليه، و كوزان الكلام بالنسبة إلى القدرة فالعلم المتعلّق بالخيرات إرادة كما أنّ المتعلق منه بالمسموعات سمع، و بالمبصرات بصر، و كما أنّ القدرة المتعلّقة بالأصوات و الحروف على وجه تكلّم، و هذا لا ينافي كون الإرادة عين العالم

فذاته تعالى علمه بكلّ شي ء ممكن، و ارادة لكلّ خير ممكن كما انّه سمع لكلّ مسموع و بصر بالنسبة إلى كل مبصر.

أقول لا يخفى عليك ما فيه من الضعف و القصور أمّا أوّلا فلانّ إبداء هذه الوجوه السّخيفة في مقابلة النصوص المتقدّمة مجاهرة بالردّ على الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، بل كأنّه استخفاف و ملعبة بشريعة سيّد المرسلين بعد ما نطق به الكتاب و السّنة من حدوث الإرادة و مغايرتها للذات و للصفات الذّاتيّة الّتي منها العلم و لذا قال في شرحه «للكافي» في ذيل خبر عاصم بن حميد هذا الحديث يدل بظاهره على أن أرادته تعالى حادثة كما رآه قوم الى أن قال: و التحقيق أنّ الإرادة تطلق بالاشتراك الصّناعي على معنيين:

أحدهما: ما يفهمه الجمهور و هو الّذي ضدّه الكراهة و لا يجوز على اللّه بل ارادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الخير، و كراهته عدم صدور الفعل و القبيح عنه لعلمه بقبحه.

و ثانيهما: كون ذاته بحيث تصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها

__________________________________________________

(1) الزمر: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 552

التّابع لعلمه بذاته «1».

و فيه: أنّ اتصافه بالإرادة بالمعنى الاول قد سمعناه و فهمناه و قرّره لنا أئمّتنا الهداة المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين و أمّا بالمعنى الثّاني الرّاجع إلى العلم الّذي هو عين ذاته فلم نجد في شي ء من الكتاب و السنّة إطلاقه عليه و لا ارادته منها بل أنكروه على قائله اشدّ الإنكار و قابلوه بنفي التوحيد عنه، فأين الاشتراك، و من الواضع، و متى كان هذا الوضع؟ و كيف لم يسوّغ معه الإطلاق؟ نعم هذا القول هو المعروف بين الفلاسفة الذين لم يعرفوا

اللّه بتعريف ولاة أمره وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ*.

و أمّا ثانيا فلانّ ما ذكره من أنّه تعالى أراد بإرادته القديمة آه.

فيه أنّ الارادة إذا كانت قديمة فكيف تتعلّق بإيجاد الشي ء بعد العدم إلا على جهة الإخطار بالبال.

و العلم الرّاجع إليه، و إلّا فالارادة بما هي إرادة لا يمكن تحققها إلّا و المراد معها، نعم لو كان هناك عجز حاضر و لو لشرط فاقد لم تكن الإرادة حينئذ على حقيقتها، و بالجملة علمه بالنظام الأصلح الّذي هو نفس الارادة القديمة عنده و عند الفلاسفة إن كان سببا تامّا لوجود العالم لزم قدمه و امتنع عدمه.

و توهّم أنّه سبب لوجوده و وجود أجزائه و جزئيّات أجزائه في أماكنها و أوقاتها المخصوصة مدفوع بأنّه لم يكن في القدم تعيّن و تخصّص لشي ء من الأزمنة و الأمكنة و المفروض أنّ السبب التّام لم يزل متحققا بوجود الذّات لا على وجه الترتب كي يثبت به الحدوث الذّاتي بل على وجه العينيّة و الاتحاد، فيلزم منه القول بقدم العالم الّذي برى ء منه المنتحلون من الأمم، مع أنّه حينئذ يكون فاعليته

__________________________________________________

(1) شرح اصول الكافي ص 278 ط طهران مكتبة المحمودي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 553

بالعناية المفسّرة عندهم يكون فعله تابعا لعلمه بوجه الخير بذلك الفعل في نفس الأمر فيفعل عن ذلك العلم من غير قصد زائد عليه، و حينئذ يلزمه القول بالعليّة و الإيجاب و نفي الاختيار لأنّ الموجب هو الّذي لا يتخلّف عنه مفعوله، فإذا كان العلم الّذي هو الذات هو العلة التّامة لا غيره لم يكن فاعلا بالاختيار بل بسببيّة الذات، و ان كان علمه بذلك سببا ناقصا لوجود العالم فالجزء المتمم له ان كان قديما

عاد المحذور فيه أو حادثا و هو المطلوب، و السؤال عن سبب تخصيص الحوادث بخصوص الأوقات منقطع على القول بكونه فاعلا مختارا لأنّه حينئذ يَفْعَلُ ما يَشاءُ* و يَحْكُمُ ما يُرِيدُ و انّما يفعل بإرادته الحادثة بعد العدم إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1».

و أمّا ثالثا فلأنّ ما أجاب به عن الثّاني تقرير لما مهّدوه في موضع آخر من عدم دخول الشّر في القضاء الالهي و إنّ كلّ ما دخل في صقع الوجود فهو إمّا خير محض أو خير غالب مشوب بشرّ مغلوب و هذه المسألة إذا تأمّلها المتأمّل في كلامهم يجدها غريبة مبنيّة على القول بنفي الاختيار في حقّه و في حقّ عباده، بل كانّها مخالفة لما تقضي به الضرورة القطعيّة من شيوع الكفر و الظلم و الفساد بين أغلب العباد في أكثر البلاد حتّى سفكوا الدماء و قتلوا الأنبياء و غصبوا حقوق الأوصياء و قهروا الأولياء و سبوا النّساء و اختفى الحقّ ببهجته و استدار رحى الباطل على قطبه إلى غير ذلك من الشّرور الغالبة في الأمور التّشريعيّة، مضافا إلى ما وقع منها في التكوينيّات من نقصان الاستعدادات و بطلان القابليّات و طروّا الطّواري من الآلام و الأسقام و الأمراض و الأعراض و الفقر و سائر الشّدائد و المحن و قد قال اللّه تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً «2» و كأنّ المسألة كانت في الأصل مذكورة في

__________________________________________________

(1) يس: 82.

(2) الأنبياء: 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 554

كلام القائلين بقدم العالم و فاعليّته بالإيجاب، و ثبوت الرّبط بين الحادث و القديم فتبعهم غيرهم على غرة و غفلة على أنّه قد يشمّ منها أيضا رائحة

القول بالإجبار و نفي الاختيار، فانّهم لو نسبوا أفعال العبيد إليهم لم يبق مجال لما يوجب الاعتذار، هذا مضافا إلى أنّ هذا الجواب على فرض تسليمه لا يدفع السّؤال الوارد من حيث التفصيل بين الإرادة و المشيّة و بين العلم بجواز التعليق بالشرط في الأوّلين دون الثالث حسبما استدلّ به الامام عليه السّلام.

و أمّا رابعا فلانّ ما ذكره في قوله: أو نقول من سبيل اخرى ضعيف جدّا لا يساعده شي ء من العرف و الشرع و اللغة و كأنّه اصطلاح عنه خاص في الإطلاق هذا مضافا إلى ما فيه من إرجاع الكلام إلى القدرة و الالتزام بكونه من الصّفات الذاتية، و بكونه غير الخيرات المحضة مجرّدة عن إرادته سبحانه.

يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً متّصل بسابقه المحكي عن الكفار و اطلاق الضّلال و الهداية إمّا على وجه التهكّم أو التعكيس أو مجرّد المقابلة على فرض الموافقة، سيّما مع كون القائل من المنافقين الذين أظهروا الايمان و أبطنوا الكفر، و الجملة حال من اللّه فيكون قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ منقطعا عن سابقه، او ابتداء كلام منه سبحانه فتكون جواب ماذا أي إضلال كثير و إهداء كثير، على النّصب أو الرّفع، و العدول من المصدر إلى الفعل لقصد الإشعار بالتّجدد و الحدوث أو جار مجرى الاعتراض تفسيرا و بيانا للجملتين المصدّرتين «بأمّا» تنبيها على أنّ العلم بوجه المثل و كونه حقّا أو التّصديق به إجمالا هدى و بيان، و انّ الجهل بوجه إيراده و التّعامي عن حسن وروده ضلال و فسوق، و ظاهر العلوي المروي عن تفسير النعماني على ما يأتي «1» و كذا ظاهر تفسير الامام عليه السّلام بل صريحهما هو الأوّل

__________________________________________________

(1) عن البحار ج 93 ص 13- 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 555

قال عليه السّلام: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا اللّه و بولاية محمّد و عليّ و آلهما الطيّبين و سلّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و للأئمّة عليه السّلام أحكامهم و أخبارهم و أحوالهم، و لم يقابلهم في أمورهم و لم يتعاط الدّخول في أسرارهم، و لم يفش شيئا ممّا يقف عليه منها إلّا باذنهم فَيَعْلَمُونَ: يعلم هؤلاء المؤمنون الّذين هذه صفتهم أَنَّهُ أي المثل المضروب الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أراد به الحقّ و إبانته و الكشف عنه و إيضاحه وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بمحمّد بمعارضتهم في عليّ عليه السّلام بكمّ و كيف و تركهم الانقياد له في سائر ما أمر به فَيَقُولُونَ: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً أي يقول الذين كفروا إنّ اللّه يضلّ بهذا المثل كثيرا و يهدي به كثيرا، فلا معنى للمثل لأنّه و إن نفع به من يهديه فهو يضرّ به من يضلّه به، فردّ اللّه تعالى عليهم قيلهم فقال وَ ما يُضِلُّ بِهِ يعني ما يضلّ اللّه بالمثل إِلَّا الْفاسِقِينَ الجانين على أنفسهم بترك تأمّله و بوصفه على خلاف ما أمر اللّه تعالى بوصفه «1» عليه.

و كثرة كلّ من الفريقين إمّا بالنظر إلى أنفسهم من دون إضافة إلى الآخر، و إن كان المهتدون قليلين بالإضافة كما قال: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ «2» و قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «3».

و في أخبار كثيرة، أنّ المؤمن قليل «4» و قال أمير المؤمنين: أيّها النّاس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله «5» ، و إمّا بالاعتبارين فإنّ كثرة الظّالمين الفسّاق من حيث العدد كما

قال: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ «6»، و في آيات

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان ج 1 ص 70- 71 عن تفسير الامام عليه السّلام.

(2) ص: 24.

(3) سبأ: 13.

(4) راجع البحار ج 67 ص 157.

(5) نهج البلاغة: الخطبة (201).

(6) المائدة: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 556

كثيرة: أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* «1» و لا يَشْكُرُونَ* «2» و لا يَعْقِلُونَ* «3» و كثرة المهتدين باعتبار الفضل و الشّرف و قوّة العزيمة في الدّين و كثرة البركة كما قيل: قليل إذا عدوّا كثير إذا شدّوا، و قيل أيضا: إنّ الكرام كثير في البلاد و إنّ قلّوا كما غيرهم قلّ و ان كثروا.

و قرأ زيد بن عليّ عليه السّلام يضلّ به كثيرا و ما يضلّ بالبناء للمفعول في الفعلين و الفاسقون بالرفع.

و الفاسق هو الخارج عن بعض حدود الايمان أو جميعها، و منه قوله تعالى في حق إبليس: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «4» و قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «5»: و أصله الخروج عن القصد أو عن الطّاعة من قولهم:

فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، و الفويسقة الفارة لخروجها من جحرها أو لخبثها و أذاها

حقّرها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سمّاها بها و قال: إنّها توهي السّقاء و تضرم البيت على أهله و هي من الخمس الفواسق الّتي يقتلن في الحلّ و الحرم «6».

و الفاسق و إن لم يسمع قطّ في كلام الجاهليّة و لا في شعرهم على ما شهد به ابن الاعرابي «7» إلّا أنّه عربيّ على ما صرّح به هو و غيره قالوا و هذا عجيب، و حيث قد سمعت فيما مرّ أنّ الايمان له

حدود و درجات و مراتب فبالخروج من كلّ منها

__________________________________________________

(1) الأعراف: 187.

(2) غافر: 61.

(3) الحجرات: 4.

(4) الكهف: 50.

(5) التوبة: 67.

(6) حياة الحيوان للدميري ج 2 ص 37- 38.

(7) ابن الاعرابي محمد بن زياد الكوفي اللغوي توفّي سنة (331).

الكنى و الألقاب ج 1 ص 215.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 557

يحصل الفسق بلا فرق بين كونه من الأصول الاعتقادية أو النوع العمليّة بترك الطّاعة أو فعل المعصية كما يشهد بجميع ذلك الإطلاقات الواردة في الكتاب و السّنة إلّا أنّه قد غلب إطلاقه عند الفقهاء في مقابلة العدالة فيحصل بفعل شي ء من الكبائر أو الإصرار على الصغائر، و إن بقي معه اسم الايمان حسبما هو المقرّر عندنا خلافا للخوارج حيث قالوا إنّ أصحاب الكبائر من أهل القبلة كفّار مشركون، و للمعتزلة القائلين بأنّهم في منزلة بين الإيمان و الكفر لا يستحقون اسم الايمان و لا الكفر، و به سمّيت المعتزلة لاعتزالهم فئتي الضلالة عندهم أهل السّنة القائلين بايمانهم، و الخوارج القائلين بكفرهم، أو سماهم به الحسن البصري «1» لمّا اعتزله واصل بن عطاء «2» و كان من تلامذته و اجتمع هو و أصحابه إلى اسطوانة من أسطوانات المسجد و شرع يقرّر للقول بالمنزلة بين المنزلتين و انّ صاحب الكبيرة لا مؤمن و لا كافر بل بين المنزلتين فقال الحسن اعتزل عنّا واصل، و لأنّ عمرو بن عبيد كان من أصحاب الحسن و تلاميذه، فجمع الحسن بينه و بين واصل ليناظره في ذلك فلمّا ناظره و غلب عليه واصل قال له عمرو بن عبيد «3» ما بين و بين الحق عداوة و القول قولك فليشهد عليّ من حضرني أنّي قد اعتزلت مذهب

الحسن في هذا الباب قائل بقول واصل.

و كيفيّة مناظرتهما مذكورة في «الغرر و الدرر» «4» للسيّد المرتضى رضى اللّه عنه و للسيّد

__________________________________________________

(1) الحسن بن ابي الحسن البصري أبو سعيد توفي سنة (110) ه- العبر ج 1 ص 136.

(2) واصل بن عطاء المبلغ الأفوه ابو حذيفة المخزومي البصري توفي سنة (131) ه و كان رأسا للمعتزلة.

سير أعلام النبلاء ج 5 ص 464.

(3) عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي توفي سنة (143) ه أو قبلها.

التقريب ج 1 ص 740.

(4) الغرر و الدرر المشهور بالأمالي ج 1 ص 113 المجلس 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 558

اعتراض عليه في حجّته فليراجع من أراد، و قد مرّ بعض الكلام في ذلك عند تفسير قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «1».

معنى الإظلال المنسوب إلى اللّه سبحانه

ثمّ أنّ الإضلال المنسوب إليه سبحانه ليس بمعنى دعائه إلى ترك الدّين كما هو المضاف إلى الشيطان و فرعون و السامريّ و أئمّة الضلالة في قوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً «2» و أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ «3» و أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «4» و لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي «5».

و ذلك لما قضت به ضرورة المذهب بل الدّين من أنّه تعالى لا يدعو النّاس من الهدى إلى الضلالة و من العلم إلى الجهالة و انّه لا يجوز عليه الظلم و الإيقاع في الفساد و الإجبار على المعاصي و تشكيك الناس و صرفهم عن الحقّ الى الباطل، و من هنا يظهر فساد ما حملها عليه أهل الجبر من أنّه تعالى خلق فيهم الضّلال و الكفر و صدّهم عن الايمان و حال بينهم و بينه، بل ربما استدلّ بعضهم عليه بهذه الآية و نحوها ممّا

هو كثير في القرآن نظرا إلى الإضلال عبارة عن جعل الشي ء ضالا و إيجاد الضّلالة فيه، و ضعفه واضح بعد ما هو المقرّر في أصل المذهب او الدّين من عدله سبحانه و نفي القول بالجبر بقواطع العقل و النّقل، و أمّا أمثال هذه

__________________________________________________

(1) البقرة: 3.

(2) يس: 62.

(3) طه: 79.

(4) طه: 85.

(5) الفرقان: 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 559

الآيات فعلى فرض تشابهها يجب حملها على ما يساعد عليه الأصول المقرّرة فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه، و لذا يجب الرجوع فيها إلى أهل البيت الذين هم حملة الوحي و خزنة تأويله و تنزيله فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ «1».

مع أنّ لها وجوها أخر منطبقة على المذهب حسبما أشير إليها في الاخبار المأثورة منهم عليه السّلام.

ففي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: الضّلال على وجوه فمنه ما هو محمود، و منه ما هو مذموم، و منه ما ليس بمحمود و لا مذموم، و منه ضلال النّسيان فامّا الضلال المحمود فهو المنسوب إلى اللّه كقوله يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ «2» و هو ضلالهم عن طريق الجنّة بفعلهم، و المذموم هو قوله تعالى: وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «3» وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى «4» و مثل ذلك كثير.

و أمّا الضّلال المنسوب إلى الأصنام فقوله تعالى في قصّة ابراهيم: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ و الأصنام لا يضللن أحدا على الحقيقة انّما ضلّ النّاس بها و كفروا حين عبدوها من دون اللّه عزّ و جل و أمّا الضلال الّذي هو

النّسيان فهو قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى و قد ذكر اللّه تعالى الضّلال في مواضع من كتابه فمنه ما نسبه إلى نبيّه على

__________________________________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) المدثر: 31.

(3) طه: 85.

(4) طه: 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 560

ظاهر اللّفظ كقوله سبحانه: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» معناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوّتك فهديناهم بك، و أمّا الضلال المنسوب إلى اللّه تعالى الّذي هو ضد الهدى و الهدى هو البيان و هو معنى قوله سبحانه: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ «2» معناه أو لم أبيّن لهم مثل قوله سبحانه: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «3» أي بيّنا لهم وجه آخر و هو قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ «4».

و أمّا معنى الهدى فقوله عزّ و جلّ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «5» و معنى الهادي المبيّن لما جاء به المنذر عند اللّه، و قد احتجّ قوم من المنافقين على اللّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها و ذلك أنّ اللّه تعالى لما أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «6» قال طائفة من المنافقين: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً؟ فأجابهم اللّه تعالى بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها- الى قوله- يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ: فهذا معنى الضّلال المنسوب إليه تعالى، لأنّه أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به المنذر، فخالفوه و صرفوا عنه، بعد أن

أقرّوا بفرض طاعته، و لمّا بيّن لهم ما يأخذون و ما يذرون، فخالفوه ضلّوا، هذا مع علمهم بما قاله النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو قوله: لا تصلّوا عليّ صلاة مبتورة إذا صلّيتم عليّ بل صلوا على أهل بيتي و لا

__________________________________________________

(1) الضحى: 7.

(2) السجدة: 26.

(3) فصلت: 17.

(4) التوبة: 115.

(5) الرعد: 7.

(6) الرعد: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 561

تقطعوهم مني، فإنّ كلّ نسب و سبب منقطع يوم القيامة إلّا سببي و نسبي، و لمّا خالفوا اللّه تعالى ضلّوا و أضلّوا فحذّر اللّه تعالى الأمة من اتّباعهم فقال سبحانه: وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «1»، و السّبيل هنا الوصي، و قال سبحانه: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ «2» الآية فخالفوا ما وصاهم اللّه تعالى به، وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ* فحرّفوا دين اللّه جلّت عظمته و شرائعه و بدّلوا فرائضه و أحكامه و جميع ما أمروا به كما عدلوا عمّن أمروا بطاعته و أخذ عليهم العهد بموالاته، و اضطرّهم ذلك إلى استعمال الرأي و القياس فزادهم ذلك حيرة و التباسا و أمّا قوله سبحانه وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ «3» فكان تركهم اتّباع الدّليل الّذي أقام لهم ضلالة لهم، فصار ذلك كأنه منسوب إليه تعالى لمّا خالفوا أمره في اتّباع الإمام ثمّ افترقوا و اختلفوا، و لعن بعضهم بعضا و استحلّ بعضهم دماء بعض فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ «4» «5».

«تحف العقول» و «الاحتجاج»

عن ابي الحسن علي بن محمد العسكري عليهما السّلام في رسالته الطويلة إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض قال عليه السّلام في آخر الرسالة: فان قالوا ما الحجّة في قول اللّه تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ* «6» و ما أشبه ذلك؟ قلنا فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين أحدهما: أنّه

__________________________________________________

(1) المائدة: 77.

(2) الانعام: 153.

(3) المدثر: 31.

(4) يونس: 32.

(5) بحار الأنوار ج 93 ص 13- 15 من تفسير النعماني.

(6) النحل: 93.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 562

اخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء و ضلالة من يشاء و لو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب و لا عليهم عقاب على ما شرحناه و المعنى الآخر أنّ الهداية منه التعريف كقوله: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1» و ليس كلّ آية مشبهة في القرآن كانت حجّة على محكم الآيات الّتي أمر بالأخذ بها و تقليدها و هي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ «2»، الآية و قال: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ «3» «4».

و في «التوحيد» و «المعاني» بالإسناد عن الهاشمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جل مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً «5» فقال: إنّ اللّه تعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته و يهدي أهل الايمان

و العمل الصّالح إلى جنّته كما قال عزّ و جلّ: وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ «6» «7».

__________________________________________________

(1) حم- السجدة: 17.

(2) آل عمران: 7.

(3) الزمر: 18.

(4) الاحتجاج ج 2 ص 257.

(5) الكهف: 17.

(6) ابراهيم: 27.

(7) معاني الاخبار ص 21 باب الهدى و الضلال ج 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 563

إلى غير ذلك من الاخبار الّتي يظهر من التأمّل فيها و في مجاري إطلاقات لفظ الإضلال في العرب و اللغة وجوه من المعاني أحدها أن يكون المراد الإضلال عن طريق الجنّة و عن القرب و الكرامة و الثواب على وجه العقوبة و هذا في الحقيقة ليس بمجاز بل هو بيان لمتعلّق المعنى الحقيقي بعد الحمل عليه و دلالة حذف المتعلّق على العموم إنّما هي على فرضها فيما لم يكن هناك ظهور في شي ء منها و يؤيّده ما سمعت من الخبر المرويّ في تفسير النّعماني و التوحيد و المعاني، مضافا إلى أنّه قد يستظهر من قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ «1» و لو بقرينة مقابلة الهداية و من قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ في خصوص المقام نظرا إلى أنّه لو أراد به التّخيير و التشكيك فقد ذكر أنّه لا يفعل ذلك إلّا بالمتحيّر الشاك الفاسق فيجب أن لا يكون الضلالة الحاصلة بالفسق الّتي صاروا بها فسّاقا من فعله إلّا إذا وجدت قبلها أيضا ضلالة فلا بدّ أن تترتب هناك ضلالات غير متناهية أو ينتهي إلى ضلالة لبست من إضلال و لا مسبوقا به و هو المطلوب.

و أمّا ما يقال في تضعيفه من أنّه تعالى قال:

يُضِلُّ بِهِ أي بسبب استماع هذه الآيات و الإضلال عن طريق الجنّة ليس بسبب سماع هذه الآيات بل بسبب اقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه.

ففيه أنّ السماع لمّا كان هو السبب الأوّل لهداية قوم و ضلالة آخرين صحّ استنادهما إليه و إن كانت الواسطة في كلّ منهما غير الواسطة في الاخر ضرورة أنّه

__________________________________________________

(1) الحج: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 564

لا يمكن سببيّة لهما معا من جهة واحدة.

و توهّم أنّه بعد حصول التولي و الفسق يجوز اسناد الإضلال إليه تعالى على وجه الحقيقية باعتبار ترتّب فعله تعالى على حصول مسمّى الأمرين من العبد فلا ضرورة إلى الحمل على الإضلال عن طريق الجنّة، مدفوع بمخالفته الظاهر و لو بمعونة الاخبار المتقدّمة مع وضوح دلالة الآيتين على صدور التولي و الفسق قبل إضلاله تعالى و هو دليل على كون الفعل من العبد و ترتّب إضلاله تعالى عليه بالنّسبة إليه.

ثانيها: أنّه تعالى بيّن الحقائق و أرشد الأنام و ضرب الأمثال و نبّه على الآيات و النّذر للتّمحيص و التخليص و الامتحان فنجى بها قوم و هلك بها آخرون وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ «1»، و كثيرا ما يقال للشي ء أنّه أضلّ الرجل و ان ضلّ باختياره لمجرّد حصول الضلالة له عند حضوره كما أشير إليه في الخبر المتقدم مستشهدا له بقوله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «2» أي ضلّوا بهنّ و منه قوله: وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً

«3» أي ضلّ كثير من النّاس بهم و قوله:

وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ...

__________________________________________________

(1) التوبة: 124- 125.

(2) ابراهيم: 36.

(3) نوح: 23- 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 565

وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» فانّها دلّت على أنّ ذكره تعالى لعدة خزنة النّار امتحان منه لعباده ليتميّز به المخلص من المرتاب فآل الأمر إلى أن صلح به قوم و فسد آخرون ثمّ أشار أخيرا إلى أنّه بمثل ذلك يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «2» يعني أن ذلك هو المراد من إضلاله و هدايته، و ذلك أنّ هذه كلّها محن و فتن لاختبار العباد و ابتلائهم فيقال لمن ضلّ عند الفتنة: أضلّته الفتنة و أضلّه اللّه بها كما يقال للفضّة إذا أدخلتها النّار فظهر فسادها: أفسدتها و أفسدتها النّار، و الحال أنك لم تجعل فيها الفساد و لم تشعر النار بفسادها و يقال لمن اعطى غيره مالا جزيلا فظهر فيه الغرور و الطغيان: إنك أطغيت فلانا بالمال و أطغاه المال، و مثل هذا الإطلاق كثير جدّا في العرف و اللغة لاكتفائهم في باب الاضافة و النّسبة بأدنى الملابسة.

و أمّا ما ذكره بعض المشككين تضعيفا لهذا المعنى و ذهابا إلى مذهب المجبرة من أنّ إنزال هذه المتشابهات إن لم يكن له أثر في اقدامهم على ترجيح جانب الضّلالة على جانب الاهتداء كانت نسبتها إلى ضلالتهم كنسبة صرير الباب و نعيق الغراب فكما أنّ ضلالهم لا ينسب إلى شي ء من هذه الأمور الاجنبيّة

فكذلك يجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما و إن كان له اثر في تحريك الدّواعي إلى الضلالة وجب أن يوجبه لما قرّر في محلّه من أنّه متى حصل الرّجحان فلا بدّ أن يحصل الوجوب لنفي الواسطة بين الاستواء و بين الوجوب المانع من النقيض فإذا أثر في ترجيح الضلالة فقد أوجبها و هو الجبر المطلوب سلّمنا أنّه لا ينتهى إلى حدّ

__________________________________________________

(1) المدثر: 30.

(2) المدثر: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 566

الوجوب إلّا أن لهذه المتشابهات أثرا في ترجيح جانب الضلالة بحيث يصير عذرا للمكلّف في ترك الاقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من اللّه تعالى.

ففيه أنّه قد قرّر في محلّه أنّ الغرض من جعل الاحكام و تكليف الأنام بل المقصود الأصلي من الخلقة الناسوتيّة و النشأة العنصريّة الّتي هي عالم القضاء و مزدحم اسباب الفتن و الفساد إنّما هو الامتحان و الاختبار مضافا إلى ارشاد العباد إلى ما هو الأصلح لهم في المعاش و المعاد و لذا قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1»، وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ «2»، و الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3» وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً «4» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، و حينئذ فان أريد بالآثار ما يعمّ الاختيار عند الاختبار مع فرض كمال الاقتدار من دون أن يكون هناك شوب من الإجبار فالمختار إثبات الآثار، و لا ضير فيه بعد وضوح عدم منافاته للقول بالاختيار، لأنّ السبب في الحقيقة هو اختيار المكلّف، و إن تجدّد الدّاعي إليه عند عروض الفعل له أو عرض شي ء له، و إن أريد بها

السببيّة المحضة و العليّة التّامة و لو من جهة المقتضي فتطرق المنع إليه واضح جليّ.

ثالثها: أن يحمل الإضلال على الإهلاك و الابطال كقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «5» أي أهلكها و أبطلها مأخوذ من قولهم:

__________________________________________________

(1) الذاريات: 56.

(2) آل عمران: 141.

(3) الملك: 2.

(4) الأنبياء: 35.

(5) محمّد: 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 567

ضلّ الماء في اللبن إذا صار مستهلكا فيه و أضللته فيه إذا فعلت ذلك و صيّرته كالمعدوم و يقال أضلّ القوم ميّتهم إذا واروه في القبر و قالوا أَ إِذا ضَلَلْنا «1» أي هلكنا وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ «2» أي لن يبطل، فيكون المعنى على هذا يهلك اللّه تعالى به كثيرا و يعذّبهم به حيث انّهم استحقّوا النكال بالإعراض عن آياته و الاستخفاف بها.

و أمّا ما يقال: من أنّه غير مناسب للمقام سيّما بقرينة مقابلة الهداية ففيه ضعف واضح.

رابعها: أن يكون المراد بالإضلال هو التخلية و ترك المنع بالقهر و الجبر إذا كان على وجه العقوبة و المنع عن الألطاف الفاضلة الّتي تفعل بالمؤمنين كما يقال:

فلان أفسد ابنه و لم يعلّمه و لم يؤدّبه، و يقال لمن ترك سيفه في الأرض حتى فسد و صدأ أفسدت سيفك و اصدأته فعلى هذا الوجه يصحّ أيضا إطلاق الإضلال.

نعم قد يقال إنّه انّما يصحّ لو كان الأولى و الأحسن المنع و ترك التخلية لرجاء النفع و ترتب الثمرة و أمّا مع اليأس إلّا على وجه القهر و الإجبار فلا.

و فيه نظير سيّما إذا كان المقصود مجرّد مقابلة الهداية كما في المقام،

و قد ورد في القدسيّات أنّه تعالى قال: يا عبادي كلّكم ضالّ

إلّا من هديته، و كلكم فقير إلّا من أغنيته، و كلّكم مذنب إلّا من عصمته «3».

خامسها: أن يكون المراد بالإضلال الانتساب أو الضلال و الحكم به فيقال أضلّه إذا نسبه إلى الضلال، و أكفره إذا نسبه إلى الكفر و سمّاه باسم الكافر قال

__________________________________________________

(1) السجدة: 10.

(2) محمّد: 4.

(3) بحار الأنوار ج 5 ص 198 ح 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 568

الكميت «1»:

فطائفة قد أكفروني بحبّكم و طائفة قالوا مسي ء و مذنب و قال طرفة «2»:

و ما زال شربي الراح حتّى أضلني صديقي و حتى ساء في بعض ذلكا و توهّم أنّ الأنسب حينئذ صيغة التفضيل فيقال: ضلّلته كما يقال: فسّقته و فجّرته إذا سمّيته ضالا فاسقا فاجرا مدفوع بنصّ قطرب «3» و غيره على جوازه مع أنّه قد يقال: إنّه متى صيّره في نفسه ضالا لزمه أن يصير محكوما عليه بالضلال:

فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير فإذا قال الرجل لغيره: فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالا و يكون المعنى لم سمّيته بذلك و لم حكمت به عليه.

فان قلت: إنّه و ان كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باق لأنّه يقال إذا سمّاه اللّه بذلك و حكم عليه بأنّه لو لم يأت المكلّف بما يوجب الضلال لانقلب خبر اللّه الصدق كذبا و علمه جهلا و كل ذلك محال فكذلك المفضى إليه فيكون عدم إتيان المكلّف به محللا و إتيانه به واجبا، فيلزمكم الجبر أيضا.

قلت قد تقرّر في موضعه عدم سببيّة العلم القديم لشي ء من الأفعال و الحوادث و تعلّقه على فرضه إنّما هو على الكشف و الحكاية لا السببيّة و العليّة فإذا

__________________________________________________

(1) كميت بن زيد

بن خنيس الأسدي شاعر الهاشميين كان من أهل الكوفة و كان عالما بآداب العرب، و لغاتها و اخبارها و أنسابها توفي سنة (126) ه

(2) هو طرفة بن العبد بن سفيان الوائلي بن عمر جاهلي من الطبقة الأولى مات سنة (60) قبل الهجرة.

(3) قطرب ابو علي محمد بن المستنير البصري النحوي صاحب سيبويه توفي سنة (206) العبر: ج 1 ص 350.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 569

تغيّرت الحال انكشف تعلّق العلم بالمتغيّر أيضا و أين هذا من تغيّر العلم مع أنّ من هذه الشبهة المشهورة الّتي هي افتخار الشياطين أجوبة أخرى مذكورة في محلها و قد مرّت الإشارة إلى شي ء منها.

سادسها: أن يراد من الضلال و الإضلال العذاب و التّعذيب لقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ «1» أي في عذاب و توقّد نار على ما فسّر به فيه و في قوله: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ- إلى قوله- كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ «2» و إن كان لا يخلو عن تأمّل لعدم تعيّن إرادته فيهما نعم قال المفيد رحمه اللّه في شرح العقائد إنّ الضلال في الآية الاولى هو الضلال لا غير و صرّح به غيره أيضا.

سابعها: أن المراد على ما مرّ في خبر «تحف العقول» «3» و الاحتجاج أنّه إخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء و ضلالة من يشاء و لو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب و لا عليهم عقاب «4».

و لعله عليه السّلام إنّما ذكره مع بعده و مخالفته للظاهر باعتبار أنّه إن كان و لا بد من حمله على ما ادّعت المجبرة أنّه الظاهر فلا بد من سوقه

على الفرض و التقدير لا الفعلية.

ثامنها: أنّ الهمزة ليست للتعدي بل لمجرد الوجدان كما يقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة، و عن عمرو بن معديكرب أنّه قال لبني سليم

__________________________________________________

(1) القمر: 47.

(2) غافر: 71- 74.

(3) عن ابي الحسن علي بن محمّد العسكري عليهما السّلام في رسالته الطويلة الى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض.

(4) تحف العقول: ص 355.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 570

قاتلناكم فما اجبنّاكم و هاجيناكم، فما أفحمناكم، و سالناكم فما أبخلناكم، أي ما وجدتكم جبنا و لا مفحمين و لا بخلاء و قال:

تمنّى حصين أن تسود خزاعة فأمسى حصين أن أذلّ و أقهرا أي وجد ذليلا مقهورا فالمعنى في المقام أنّه يجد الفريقين على الوصفين.

و إنكار هذا المعنى للهمزة رأسا ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه و تأويل الإطلاقات المتقدمة تكلف بحت، و دعوى ظهورها في غيره بعد تسليمها مدفوعة بأنّه يجب المصير إليه بعد قيام قواطع الأدلّة على وجوب الحمل عليه أو على شي ء من الوجوه المتقدّمة و لو على فرض مخالفتها للظاهر مع أنك قد سمعت ظهور البعض جدا.

تاسعها: أنّ قوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً من تمام قول الكفّار فكأنّهم قالوا: ماذا أراد اللّه بهذا المثل الّذي لا يظهر وجه الفائدة فيه، ثمّ قالوا على وجه التّهكم: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً فأجابهم اللّه تعالى بقوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ على ما مرّ «1» عن الامام الصادق عليه السّلام مقتصرا عليه في تفسير الآية لكن يعود الكلام في قوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ «2» إلّا أنّ يقال إنّه أيضا من تتمّة كلامهم على

وجه التهكّم مع دلالته على نسبة الفسق إليهم، فيظهر منه فساد قول المجبرة على ما سمعت.

عاشرها: انّ المراد حجج اللّه و خيرته و الدّعاة إليه من صفوته حيث يدعون الناس إليه سبحانه فيسعد بهم قوم و يشقى بهم آخرون، و هذا المعمى و إن كان

__________________________________________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم القمي ج 1 ص 34.

(2) البقرة: 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 571

راجحا إلى بعض الوجوه المتقدّمة إلّا أنا قد نبّهنا عليه بالخصوص لما ورد في تفسيره من الخبر الّذي رواه

في البحار عن تفسير فرات عن الباقر عليه السّلام في قوله:

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» قال: هو علي بن أبي طالب و الأوصياء من بعده و شيعتهم، و أمّا قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً قال: هو أمير المؤمنين «2» يضلّ به من عاداه و يهدي به من والاه وَ ما يُضِلُّ بِهِ يعني عليّا إِلَّا الْفاسِقِينَ يعني من خرج من ولايته فهو فاسق «3».

في الهداية و أقسامها

بقي الكلام في المراد بالهداية في أمثال المقام و ان مرّ فيها فيما تقدّم بعض الكلام و قد استعمل على وجوه:

منها الدلالة و البيان و الإرشاد إلى الخير كقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ «4» إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً «5» وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «6»، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الظّاهرة في ارادة مجرّد البيان و اراءة الطريق منها أخذ بها أم لا.

و منها: الدّعاء إلى الخير أو مطلقا كقوله:

__________________________________________________

(1) البقرة: 25.

(2) في البحار: قال: فهو علي بن أبي طالب عليه السّلام

(3) بحار الأنوار ج 36 ص

129- 130.

(4) البقرة: 38.

(5) الإنسان: 3.

(6) فصلت: 17.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 572

وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1»، وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «2».

و يفترق عن الأوّل بانّ الدّعاء صفة زائدة على الإراءة المحضة و إن قيل باتّحادهما لاشتمال الأوّل عليه ايضا و لو ببعض وجوه الدلالة.

و منها: الهداية إلى طريق الجنّة كما في قوله: وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ «3»، و من البيّن أنّ الهداية بعد القتل لا تكون إلّا إلى الجنّة و منه أيضا قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ «4»، و قد مرّ في بعض الاخبار المتقدّمة تفسير الآية في خصوص المقام بها، و منها: الدّعاء إلى الخير و النّجاة إذا اقترن بالقبول و الانتفاع بها كما مرّ في خبر النّعماني تفسير الآية بها.

و منها: زيادة الألطاف المشروطة بالإيمان كقوله: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «5»، كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ «6»، وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ «7»، و منها: الحكم بالهداية عليه و تسميته مهتديا كقوله:

__________________________________________________

(1) الشورى: 52.

(2) الرعد: 7.

(3) محمّد: 5.

(4) يونس: 9.

(5) محمد: 17.

(6) آل عمران: 86.

(7) التغابن: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 573

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ «1».

و هذه الوجوه و غيرها ممّا يقرب منها لا بأس بإرادتها في المقام، و أمّا خلق الهداية في قلوبهم من غير صنع لهم و اختيار منهم فلا يجوز ارادته في المقام بعد دلالة

قواطع الأدلّة على نفي الجبر الّذي في القول به هدم الدّين و تخريب شريعة سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله أجمعين.

[سورة البقرة(2): آية 27 ]

تفسير الآية (27) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ توصيف للفاسقين بما هو الأعظم من أسباب فسقهم و خروجهم عن الطّاعة فهو في موضع النّصب على الوصف أو القطع بتقدير أعني و أدمّ، أو الرّفع بناء عليه بتقدير المبتدأ أو على الابتداء، و خبره أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تعريضا عليهم بأنّهم الجامعون بين تلك الصّفات و تنبيها على أنّ إضلاله إيّاهم ليس بقهرهم و إجبارهم بل هو ناش عن سوء اختيارهم و إنّ خروجهم عن طاعته عاد و بالا عليهم و خسارا في تجارتهم و النقض نقيض الإبرام و أصله الفسخ و فكّ التركيب و منه قوله: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً «2» و النقاضة ما نقض من حبل الشعر و استعمل في ابطال العهد لتسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين و لذا قد يطلق مع لفظ الحبل ترشيحا للمجاز و منه قول ابن التّيهان «3» في بيعة العقبة يا رسول اللّه انّ بيننا و بين القوم حبالا و نحن

__________________________________________________

(1) الإسراء: 97.

(2) النحل: 92.

(3) هو مالك بن التيهان ابو الهيثم الانصاري الصحابي توفي سنة (20) ه.

سير أعلام النبلاء ج 1 ص 189- 190.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 574

ناقضوها و في بعض النسخ قاطعوها فنخشى إن اللّه أعزّك و أظهرك أن ترجع إلى قومك «1» و العهد الموثق الّذي من شأنه أن يراعى و يتعهد و يتعدّى بإلى للوصية يقال:

عهدت إليه في كذا أي أوصيته و منه:

أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ «2» و اشتقوا منه العهد الّذي يكتب للولاة، و لعلّ الأوّل هو الأصل في معانيه، و إليه يرجع غيره كالوصيّة، و الأمان، و الحفاظ، و رعاية الحرمة، و اليمين، و النقّاء، و المعرفة، و الضمان، و الوفاء، و التوحيد، و غيرها ممّا استعمل فيه أو أريد منه في خصوص الموارد و لو بمعونة القرائن و الضمائم، و من لابتداء الغاية فان ابتداء النقض بعد الميثاق، و قيل مزيدة تفيد التوكيد، و فيه ضعف، و الميثاق مصدر بمعنى الوثاقة كالميعاد و الميلاد بمعنى الوعد و الولادة، أو اسم لما وقع التوثيق به كالميقات لما وقع التّوقيت به و في «الصحاح» و «المصباح» و «القاموس» و غيرها أنّ الميثاق هو العهد من وثق وثيقا إذا ثبت و استحكم و منه قوله: وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ «3» أي عهده الّذي عاهدكم، و الأظهر ما ذكرناه فلا يكون تكريرا بل تأكيدا للوثاقة المأخوذة في العهد، و الضمير له أو للّه، فالاضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول و عهده المأخوذ على عباده ايمانا أو عيانا هو ما عاهدهم عليه حين فطرهم و أنشأهم و فتق بهم رتق العدم فدعاهم بالخطاب الفهواني الكفاحي ايتوني عبيدا طائعين أو كارهين فقالوا أتينا طائعين عبيدا أذلاء منقادين و ما عاهدهم عليه في الذّرّ الأوّل حيث خلقهم اللّه تعالى على صورة الذّر و ركب فيهم العقول فكلّفهم و خاطبهم بألسنة مشيّته و أخذ عليهم العهد و الميثاق بربوبيّته و بنبوّة محمّد و ولاية عليّ و الأئمّة الطاهرين صلّى اللّه عليهم

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 26.

(2) يس: 60.

(3) المائدة: 7.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 4، ص: 575

أجمعين فأخذوا يدبون يمينا و شمالا إلى الجنّة و إلى النّار.

و تضعيفه بأنّه لا يجوز أن يحتجّ على عباده بعهد لا يذكرونه و لا يعرفونه و لا يكون عليه دليل «1».

ضعيف جدّا بعد شهادة اللّه تعالى و نبيّه و حججه المعصومين على ذلك، و أضعف منه إنكاره من أصله لمجرّد الاستبعاد من أنّ اللّه تعالى كيف يكلّم الذّر مع أنّه لو كان هذا المشهد متحققا لكنا متذكرين بوقوعه، و ستسمع الجواب عن الجميع و أنّه لا مجال للشّبهة فيه بعد دلالة قواطع النقل و شواهد العقل عليه فالإيمان بوقوعه من جملة الايمان بالغيب الّذي فاز به المتّقون و ما ركب اللّه في عقولهم من أدلّة التوحيد و العدل و سائر الصفات الجمالية و الجلالية و النعوت الكمالية و تصديق الرسل و الحجج المعصومين و ما احتجّ به لهم من المعجزات و الكرامات و النصوص الدّالة على صدقهم و ما عهده إلى خلقه بألسنة أنبيائه و حججه من الالتزام بطاعته و الاجتناب عن معصيته و التدين بشرائع أحكامه و تخليص العبادة له دون غيره كما أشير إليه و إلى بعض ما تقدّم في قوله: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ «2»، و ما أخذه عليهم في الكتب السّماوية و الزّبر الالهيّة من تعريف محمّد و أوصيائه عليهم السّلام و لزوم متابعتهم و التصديق لأقوالهم و التسليم لأفعالهم و شؤونهم و مراتبهم، فإنّ الأنبياء قد عهدوا إلى أممهم في جميع ذلك على ما يستفاد من أخبار كثيرة مرويّة من طرق الفريقين.

ففي البصائر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: ولاية عليّ

مكتوبة في جميع صحف

__________________________________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 70.

(2) يس: 60.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 576

الأنبياء و لن يبعث اللّه نبيّا إلّا بنبوّة محمّد و ولاية وصيّه عليّ عليهما السّلام «1».

و في أمالي الشيخ بالإسناد عن الصادق عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره اللّه أن يوصي لأفضل عشيرته من عصبته و أمرني أن أوصي فقلت إلى من يا ربّ فقال أوصي يا محمّد إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة و كتبت فيها أنّه وصيّك و على ذلك أخذت ميثاق الخلائق و مواثيق أنبيائي و رسلي أخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة و لك يا محمّد بالنّبوة و لعليّ بن أبي طالب بالولاية «2».

و من طريق العامّة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لما عرج بي إلى السّماء انتهى بي المسير مع جبرائيل إلى السّماء الرابعة فرأيت بيتا من ياقوت أحمر، فقال لي جبرائيل يا محمّد هذا البيت المعمور خلقه اللّه تعالى قبل خلق السموات و الأرض بخمسين ألف عام قم يا محمّد فصلّ إليه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و جمع اللّه النبيين فصفهم جبرائيل ورائي صفا فصلّيت بهم فلمّا سلمت أتاني آت من عند ربي فقال لي يا محمّد ربك يقرؤك السّلام و يقول لك سال الرّسل على ماذا أرسلتم من قبلي فقلت معاشر الرسل على ماذا بعثكم ربي قبلي فقالت الرسل على ولايتك و ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام «3».

ثم أنّ المراد بنقض العهد إبطاله و فسخه في كلّ مرتبة

من المراتب و اضافة العهد إليه للتّشريف و للتنبيه على أنّه ممّا لا ينبغي نقضه بل يلزم مراعاته و حفظه و الوفاء به، مع انتهاء جميع تلك العهود إليه حقيقة و إن كان تبليغها و أخذها بتوسّط

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار ج 26 ص 280 ح 24 عن بصائر الدرجات ص 21.

(2) بحار الأنوار ج 15 ص 18 ح 27 عن أمالي ابن الشيخ ص 63- 64.

(3) بحار الأنوار ج 26 ص 307 ح 69 عن إيضاح دفائن النواصب ص 29.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 577

رسله و حججه و السنة صدقه، و المصدر المضاف يفيد العموم فيشمل الجميع و إن كان البعض مأخوذا على البعض كقوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1» وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ- إلى قوله- مِيثاقاً غَلِيظاً «2»، وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ «3» و الآيات مشتملة على وجوه التوثيق و التوكيد في عهده عليهم مع ما عاضده به من آياته التّدوينيّة و التكوينيّة في خلق الأنفس و الأفاق.

وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ صفة ثانية للذم عطفا على ما تقدّم، و الموصول بعمومه يشمل في المقام كلّ قطيعة لا يرضاها اللّه سبحانه كتكذيب الأنبياء و التفريق بينهم أو بين كتبهم في التّصديق، و ترك ولاية من أمر اللّه بولايته و محبته و طاعته، و ترك القيام بمقتضى الحقوق الاماميّة للمؤمنين، و ترك صلة

الأرحام و القرابات، و غير ذلك ممّا يساعد عليه عموم اللّفظ فالتخصيص بالبعض تخصيص من غير مخصّص و قطعها بجميع معانيها من الكبائر الموبقة سمّاها النّبي حالقة الدّين.

و في الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث: ألا إنّ في التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشّعر و لكن حالقة الدّين «4».

__________________________________________________

(1) آل عمران: 81.

(2) الأحزاب: 7.

(3) آل عمران: 187.

(4) البحار ج 74 ص 132 ح 101 عن الكافي ج 2 ص 346.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 578

و عن الصّادق عليه السّلام: اتّقوا الحالقة فانّها تميت الرّجال قيل: و ما الحالقة، قال:

قطيعة الرحم «1».

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: في كتاب عليّ عليه السّلام ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبدا حتّى يرى وبالهنّ البغي، و قطيعة الرّحم، و اليمين الكاذبة يبارز اللّه بها و إنّ أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرّحم، و إنّ القوم ليكونون فجّارا فيتواصلون فتنمى أموالهم و يثرون، و إنّ اليمين الكاذبة و قطيعة الرّحم لتذران الدّيار بلاقع من أهلها، و تنقل الرحم و إن نقل الرحم انقطاع النّسل «2».

و في العلوي: إنّ القطيعة من الذّنوب الّتي تعجّل الفناء، إنّ أهل البيت ليجتمعون و يتواسون و هم فجرة فيرزقهم اللّه، و إنّ أهل البيت ليتفرقون و يقطع بعضهم بعضا فيحرمهم اللّه تعالى و هم أتقياء «3».

و عنه عليه السّلام: إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار «4».

و عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: قال عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين: يا بنيّ أنظر خمسة فلا تصاحبهم و لا تحادثهم و لا ترافقهم في طريق فقلت

يا أبت من هم عرّفنيهم؟ قال: إيّاك و مصاحبة الكذّاب، فإنّه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد و يبعّد لك القريب، و إيّاك و مصاحبة الفاسق، فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك، و إيّاك و مصاحبة البخيل، فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، و إيّاك و مصاحبة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، و إيّاك و مصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب اللّه عزّ و جلّ في ثلاثة مواضع قال اللّه عزّ و جل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ __________________________________________________

(1) البحار ج 74 ص 133 ح 102 عن الكافي ج 2 ص 346.

(2) البحار ج 74 ص 134 ح 104 عن الكافي ج 2 ص 347.

(3) دعوات الراوندي ص 61 و عنه البحار ج 73 ص 376- 377 مع تفاوت يسير.

(4) البحار ج 73 ص 372 عن أمالي الصدوق ص 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 579

«1» و قال عزّ و جل: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «2» و قال في البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «3» «4».

و الأمر يطلق على القول المخصوص الدّال على طلب الفعل من العالي أو المستعلي، أو أنّه الطلب المخصوص بأيّ لفظ في أيّ لغة.

و الحقّ أنّه بمادّته و هيئته حقيقة في الطلب الإيجابي و إن لم يترتّب

عليه الوجوب فيمن لا تجب طاعته، حسبما حرّرناه مع ما يتعلّق به من المباحث في أصول الفقه.

و على الفعل العجيب كقوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا* «5»، و الشي ء كما تقول رأيت اليوم أمرا عجيبا، و الحادثة كما في «القاموس» و غيره، و الشأن كما تقول: أمر فلان مستقيم، و الغرض كما تقول: جاء فلان لأمر.

لكن الظاهر كما ترى رجوع بعض تلك المعاني إلى بعض، بل قد يقال برجوع غير الأول إلى الشأن، و ذكر بعض المحقّقين أنّه أيضا راجع إلى الأوّل، نظرا إلى تشبيه الدّاعي الّذي يدعو إليه من يتولّاه بأمر يأمره به فقيل له أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كانّه مأمور به، كما يطلق عليه الشأن الّذي هو الطلب و القصد من قولك: شأنت شأنه إذا قصدت قصده.

و أَنْ يُوصَلَ بتأويل المصدر بدل من الضّمير المجرور أي ما أمر اللّه

__________________________________________________

(1) محمّد: 22.

(2) الرعد: 25.

(3) البقرة: 27.

(4) الكافي ج 2 ص 376 و عنه البحار ج 74 ص 208 ح 44.

(5) هود: 66 و 82.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 580

بوصله، فهو في موضع الخفض، و يحتمل النّصب على أنّه بدل من «ما» و هو ضعيف.

وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالصّدّ عن الإيمان باللّه و طاعة الرسول و موالاة أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين صلّى اللّه عليهم أجمعين، و بالدّعاء إلى ولاية الجبت و الطاغوت و سائر الشياطين و حزبهم الظالمين لآل محمّد، و باشاعة الظلم و الجور و غصب الحقوق و سفك الدّماء و نهب الأموال.

أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسرت صفقتهم و هلكت أنفسهم باستبدال الكفر بالإيمان، و الضّلالة بالهداية، و ولاية الشياطين بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و

النقض بالوفاء، و القطع بالصّلة، و الفساد بالصلاح، و السّيئة بالحسنة، و النّار بالجنّة.

و الآية بعمومها لعموم الموضوع فيها و ان كانت عامّة شاملة لكلّ من نقض عهدا، أو قطع صلة أو فعل فسادا إلّا أنّ زيادة الخسران و شدّة العقوبة فيها تتفاوت فيها بتفاوت المراتب و ملاحظة العقوق و درجات الحقوق، و هي ناعية على الذين ظلموا آل محمد حقوقهم، و ارتدّوا عن الإسلام على أدبارهم و نقضوا بيعة النّبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيّه و خليفته و نبذوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ، و ذلك بأنّهم نقضوا البيعة و ركبوا الشنعة، و قطعوا رحم آل محمّد، و خرجوا عن ولاية اللّه إلى ولاية الجبت و الطاغوت، و أفسدوا في الأرض بالبغي و الظّلم و العدوان على آل محمّد عليهم السّلام، فلم يمتثلوا أمر الرّسول في الهادين بعد الهادين، و الأطيبين بعد الأطيبين، و الأمّة مصرّة على مقته، مجتمعة على قطيعة رحمه، و إقصاء ولده إلّا القليل ممّن وفى لرعاية الحقّ فيهم، فقتل من قتل و سبي من سبي، و أقصي من أقصي، و جرى القضاء لهم بما يرجى به حسن المثوبة، إذ كانت الأرض لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «1»، نسأل اللّه تعجيل الفرج و سهولة المخرج.

__________________________________________________

(1) دعاء الندبة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 581

و في تفسير الإمام عليه السّلام بعد ذكر ما مرّ عنه في الآية المتقدّمة، ثمّ وصف هؤلاء الفاسقين الخارجين عن دين اللّه و طاعته منهم فقال عزّ و جل: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ المأخوذ عليهم للّه بالربوبيّة و لمحمّد بالنبوّة و لعليّ بالإمامة و لشيعتهما بالجنّة و

الكراهة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ و إحكامه و تغليظه وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام و القرابات أن يتعاهدوهم و يقضوا حقوقهم و أفضل رحم و أوجبه حقا رحم محمّد فإنّ حقهم بمحمد كما أن حقّ قرابات الإنسان بأبيه و أمّه و محمّد أعظم حقّا من أبويه و كذلك حقّ رحمه أعظم و قطيعته أفظع و أفضح وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالبراءة ممّن فرض اللّه إمامته و اعتقاد امامة من قد فرض اللّه مخالفته أُولئِكَ أهل هذه الصفة هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا أنفسهم لما صاروا إلى النيران و حرموا الجنان، فيا لها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد و حرمتهم نعيم الأبد.

و قال الباقر عليه السّلام: ألا و من سلّم لنا ما لا يدريه ثقة بأنّا محقون عالمون لا نقف به إلّا على أوضح المحجّات سلّم اللّه إليه من قصور الجنّة أيضا ما لا يقادر هو و لا يقادر قدرها إلّا خالقها و واهبها، ألا و من ترك المراء و الجدال و اقتصر على التّسليم لنا و ترك الأذى حبسه اللّه على الصراط فجاءته الملائكة تجادله على أعماله و تواقفه على ذنوبه، فإذا النّداء من قبل اللّه عزّ و جل يا ملائكتي عبدي هذا لم يجادل و سلّم الأمر لأئمّته فلا تجادلوه و سلّموه في جنانه إلى أئمّته يكون متبجحا فيها بقربهم كما كان مسلّما في الدّنيا لهم، و أما من عارض بلم و كيف، و نقض الجملة بالتفصيل قالت الملائكة على الصراط: واقفنا يا عبد اللّه و جادلنا على أعمالك كما جادلت أنت في الدنيا الحاكين لك عن أئمتك فيأتيهم النداء صدقتم بما عامل فعاملوه ألا فواقفوه، فيواقف فيطول حسابه و يشتدّ في

ذلك الحساب عذابه فما أعظم هناك ندامته و اشدّ حسراته لا ينجيه هناك إلّا رحمة اللّه إن لم يكن فارق في الدّنيا حملة دينه و إلّا فهو في النّار أبد الآباد قال عليه السّلام: و يقال للموفي بعهوده في الدّنيا في نذوره و إيمانه و مواعيده، يا أيتها الملائكة وفى هذا العبد في الدّنيا بعهوده فأوفوا له هناك بما

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 582

و عدنا و سامحوه و لا تناقشوه فحينئذ تصيّره الملائكة إلى الجنان، و أمّا من قطع رحمه فإن كان وصل رحم محمّد و قد قطع رحم نفسه شفّع أرحام محمّد إلى رحمه و قالوا لك من حسناتنا و طاعاتنا ما شئت فاعف عنه، فيعطونه منها ما يشاء فيعفوا عنه و يعوض اللّه المعطين و لا ينقصهم، و إن كان وصل أرحام نفسه و قطع أرحام محمّد بأن جحد حقوقهم و دفعهم عن واجبهم، و سمّى غيرهم بأسمائهم، و لقّب غيرهم بألقابهم، و نبذ بالألقاب القبيحة مخالفيه من أهل ولايتهم، قيل له: يا عبد اللّه اكتسبت عداوة آل محمّد لصداقة هؤلاء فاستعن بهم الآن ليعينوك، فلا يجد معينا و لا مغيثا و يصير إلى العذاب الأليم المهين قال عليه السّلام: و من سمّانا بأسمائنا و لقّبنا بألقابنا و لم يسمّ أضدادنا بأسمائنا و لم يلقبهم بألقابنا إلّا عند الضّرورة الّتي عند مثلها نسمّي نحن و نلقب أعداءنا بأسمائنا و ألقابنا فانّ اللّه عزّ و جل يقول لنا يوم القيامة اقترحوا لأوليائكم هؤلاء ما تعينونهم به فنقترح لهم على اللّه عزّ و جل ما يكون قدر الدّنيا كلّها فيه إلّا كقدر خردلة في السّموات و الأرض فيعطيهم اللّه إيّاه و يضاعف لهم أضعافا

مضاعفات «1».

تم و بحمد اللّه الجزء الرابع من تفسير الصراط المستقيم و سيأتي بعون اللّه الجزء الخامس منه طبع على نفقة السيّدة الحاجة المحسنة مريم بنت الحاج علي اللاري

__________________________________________________

(1) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام ص 206- 209.

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 583

فهرس الموضوعات

وجه التسمية 5 فضل السورة 6 نزول السورة 11 عدد الآيات 12 البحث الأول: العوالم الإلهية 15 عالم الحروف 15 مراتب الحروف 16 الحروف الأصليّة 16 الحروف الحقيقية المعنويّة 18 الحروف الشبحية الظلّية 18 الحروف المتنزّلة الفكرية 19 الحروف العدديّة 19

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 584

الحروف اللفظية 20 الحروف الكتبيّة 22 عدد الحروف العربية 24 منازل القمر 27 البحث الثالث: انقسام الحروف 33 الحروف العليّة 33 الحروف القمرية و الشمسية 33 الحروف الناطقة و الصامتة 33 الحروف النورانية و الظلمانية 33 البحث الرابع: اشتمال الحروف على علوم جمّة 36 الحروف المقطّعة في القرآن 41 البحث الخامس 47 دلالة الحروف قبل التركيب 47 البحث السادس 54 دلالة الحروف و الألفاظ على مدلولاتها هل هو بالوضع أو ذاتي 54 تفسير الحروف المقطعة في القرآن 56 الوجوه الستة المستفادة من الأحاديث 57

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 585

الوجه السابع أنّها أسماء للسور 66 الوجه الثامن أنّها أسماء القرآن 71 الوجه التاسع أنّها أبعاض أسماء اللّه عزّ و جل 72 وجوه آخر 72 البحث السابع: احكام الحروف و عوارضها 76 تفسير الآية (2) 92 ما هو المراد بالكتاب 95 الكتاب بحسب اللغة 97 تفسير لا رَيْبَ فِيهِ 99 تفسير فِيهِ هُدىً 105 أقسام الهداية 105 وجه اختصاص الهدى بالمتقين 107 درجات التقوى 109 المتقون شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام 112 وجوه

إعراب الآية 114 تفسير الآية (3) 117 حقيقة الايمان 118

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 586

إطلاقات الايمان 121 الإيمان بالغيب 130 البداء و دفع الإشكال 132 تفسير وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ 136 الصلاة بحسب اللغة 140 تأويل الصلاة بالولاية 145 تفسير وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ 152 الإنفاق لغة و تفسيرا 153 حقيقة الرزق 157 أقسام الرزق 159 الانفاق ببعض الرزق 161 تفسير الآية (4) 163 تفسير وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 167 معنى اليقين لغة و اصطلاحا 168 مقام اليقين 170 تفسير الآية (5) 182 معنى الفلاح 184

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 587

تفسير الآية (6) 187 أقسام الكفر في كتاب اللّه 187 كفر الخوارج و الغلاة 194 الغلوّ الموجب للكفر 199 التفويض و معناه الصحيح 201 التفويض الموجب للكفر 202 المعصومون عليهم السّلام: وسائط بين الخالق و الخلق 206 المجبّرة و المفوضة 209 المجسّمة و كفرهم 211 التناسخ 214 شأن نزول الآية 218 تفسير سَواءٌ عَلَيْهِمْ 219 الإنذار و حقيقته 224 القراءة 226 جواز التكليف بالمحال و عدمه 228 جواب شبهة العلم و الإخبار 231 إعجاز الآية الكريمة 236

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 588

تفسير الآية (7) 241 معنى الختم و القلب 241 معنى القلب و أقسامه 242 علّة وحدة السمع 244 علّة تكرار حرف الجر 247 تتمّة في أمور مهمّة 248 وجوه القراءة في الآية 248 اقسام حجب القلب 249 الوجوه الّتي قيلت في الختم 252 أفضليّة السمع من البصر 261 معنى العذاب العظيم 262 تفسير الآية (8) 265 (الناس) و اشتقاقه 268 المنافقون من الناس 271 تفسير الآية (9) 277 الخدعة و المكر من صفات المنافقين 278 المراد بالمخادعة 279

تفسير الصراط المستقيم، ج 4،

ص: 589

تفسير وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ 284 تفسير الآية (10) 287 لكل من الجسم و الروح ستّة أحوال 287 المراد بالمرض في قلوب المنافقين 288 القراءة الشاذّة في مَرَضٌ 292 القراءة الشاذة في يَكْذِبُونَ 293 تعريف الكذب 295 تفسير الآية (11) 296 القراءة في قِيلَ 297 معنى الفساد في الأرض 298 تفسير الآية (12) 301 تفسير الآية (13) 302 معنى السفاهة في المنافقين 305 تفسير الآية (14) 307 قراءة شاذّة في خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ 310 معنى الاستهزاء 311 تفسير الآية (15) 312

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 590

معنى الاستهزاء بالنسبة الى اللّه سبحانه 312 القراءة في يَمُدُّهُمْ 317 تفسير الآية (16) 319 معنى اشتراء الضلالة 320 تفسير الآية (17) 326 مثل المنافقين في أعمالهم 329 التمثيل في هذه الآية المباركة 343 تفسير الآية (18) 345 صمم المنافقين و وجه التشبيه 346 وجه تقديم الصمّ على البكم و تأخير العمى في الآية 348 تفسير الآية (19) 350 وجه ذلك التمثيل 350 تفسير الآية (20) 358 التشاجر في (القدير) 363 هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الفعل 368 تفسير الآية (21) 374 يستدلّ بهذه الآية على أمور مهمّة 395

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 591

تفسير الآية (22) 397 الاستدلال بالآية على تسطّح الأرض و سكونها ليس صحيحا 404 الأدلّة على كروية الأرض 407 سكون الأرض و حركتها 410 المراد بالسماء و منافعها للإنسان 411 منافع حركة الشمس 414 منافع القمر 415 اشكال و دفع 416 الحديث الدال على نزول الماء من الفلك 418 السماء جهة العلو 422 الجمع بين قول الطبيعيين و الأخبار 424 الثمرات من الماء 425 ردّ قول الأشاعرة 427 الثمرة و

إطلاقاتها 428 في تفسير كلمة الأنداد 431 تفسير الآية (23) 438 العبد و شرافته 442

تفسير الصراط المستقيم، ج 4، ص: 592

تفسير فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ 446 تفسير وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ 456 تفسير إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 460 تفسير الآية (24) 461 في أنّ نار جهنّم مخلوقة 474 دليل اعجاز القرآن 479 تفسير الآية (25) 480 الجنّات و نعيمها 486 أبواب الجنّة 487 بسط في المقال لتحقيق مسألة تجسّم الأعمال 500 البحث الثاني 509 تفسير الآية (26) 526 حقيقة الإرادة و الكراهة 544 معنى الإظلال المنسوب إلى اللّه سبحانه 558 في الهداية و أقسامها 571 تفسير الآية (27) 573

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.