تفسير الصراط المستقيم المجلد 2

اشارة

سرشناسه : بروجردی، حسین بن رضا، ق 1276 - 1238

عنوان و نام پديدآور : تفسیر الصراط المستقیم/ تالیف حسین البروجردی؛ صححه و علق علیه غلامرضابن علی اکبر البروجردی

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان، 1416ق. = - 1374.

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عنوان دیگر: صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم.

عنوان دیگر : صراط المستقیم فی تفسیر القرآن الکریم

موضوع : تفاسیر (سوره فاتحه)

موضوع : تفاسیر (سوره بقره)

موضوع : تفسیر

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن ق 13

شناسه افزوده : مولانا بروجردی، غلامرضا، مصحح

رده بندی کنگره : BP102/ب 4ت 7

رده بندی دیویی : 297/18

شماره کتابشناسی ملی : م 75-2634

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على سيّد المرسلين محمد و آله الطيبين الطاهرين.

و بعد، هذا هو الجزء الثاني من مقدّمة الكتاب القيّم «الصراط المستقيم» تأليف العلامة النحرير، و الرجالي الخبير، و المفسّر البصير، آية اللّه السيّد حسين بن السيد رضا البروجردي قدّس اللّه سرّه العزيز.

و هذا الجزء كسابقه يحتوي على مطالب رشيقة، و حقائق دقيقة ينبغي لكلّ سألك يسلك سبيل فهم القرآن الكريم أن يعلمها.

المفتقر إلى رحمة ربّه الغفور غلام رضا بن علي أكبر الملقّب ب «مولانا» البروجردي

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 7

الباب الخامس

في أن في القرآن تبيان كل شي ء و جامعيته للعلوم و الحقائق و كيفية انشعابها منه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 9

اعلم أن العلم التفصيلي بهذا الباب لا يحصل إلا لمن آتاه اللّه علم الكتاب، و فصل الخطاب، و ميّز القشر من اللّباب، و كان واقفا مقيما في الكون الكبير على باب الأبواب، لإطاعه على حقائق الملك و الملكوت، و إفاضته على سرادق سلطان الجبروت، و دوام فقره و عبوديته و انقطاعه الى الحّي الذي لا يموت، كي يطّلع بعد ذلك بما هنالك من أسرار التشريع و التكوين، و ينطبق عنده إشارات التدوين، و أما نحن و من هو في درجتنا فإنّما آمنّا بذلك من جهة الإيمان بالغيب الذي هو من مراتب الإيمان و درجات التقوى و ذلك لما تقرر عندنا من مساوقة التدوين للتكوين بعد ما استفاضت به الأخبار من

أن نبينا صلّى اللّه عليه و آله قد أشهده اللّه خلق خلقه، و ولّاه ما شاء من أمره و انّه صلّى اللّه عليه و آله و آله يعلمون جميع ما في السّماوات و

الأرض و ما فيهن و ما بينهن و ما فوقهن و ما تحتهن، كل ذلك علم إحاطة، كما ورد في بعض الأخبار

. و يشهد له الإعتبار، أو علم اخبار كما هو القدر المعلوم من الشريعة.

هذا مضافا الى الآيات و الأخبار الدالّة على اشتماله على كل شي ء من التكوينات و التشريعات، كقوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «1»، و قوله:

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «2»، بناء على إرادة الكتاب منه، و قوله:

______________________________

(1) الأنعام: 38.

(2) يس: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 10

وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1»، و قوله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «2»، الى غير ذلك من الآيات الظاهرة بنفسها لعمومها في ذلك، سيّما بعد ورود البيان و التفسير لها في الأخبار.

فروى العيّاشي في تفسيره عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: (نحن و اللّه نعلم ما في السّماوات، و ما في الأرض، و ما في الجنة، و ما في النار، و ما بين ذلك) ثمّ قال: إن ذلك في كتاب اللّه، ثمّ تلا هذه الآية: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «3».

و

في الكافي عنه عليه السّلام: (إن اللّه أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتى و اللّه ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلّا و قد أنزله اللّه فيه) «4».

و

فيه عنه عليه السّلام: (إنّي لأعلم ما في السموات و ما في الأرض، و أعلم ما في الجنّة و أعلم ما في النّار، و أعلم ما كان و ما يكون، ثم سكت هنيئة فرأى

أنّ ذلك كبر على من سمعه منه) فقال عليه السّلام: (علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ و جلّ، إن اللّه يقول: «فيه تبيان كل شي ء» «5».

و

فيه عنه عليه السّلام: ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه، و لكن

______________________________

(1) النمل: 75.

(2) النحل: 89.

(3) تفسير العياشي ... طبع طهران ج 2 ص 266، البرهان ج 2 ص 380.

(4) الأصول من الكافي ج 1 ص 59.

(5) الأصول من الكافي ج 1 ص 261، ط. الآخوندي مع تعليقة الغفاري، و لا يخفى أن جملة (فيه تبيان كلّ شي ء) نقل بالمعنى لأنها تكون هكذا تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 11

لا تبلغه عقول الرّجال «1».

و

عن أبي جعفر عليه السّلام: إنّ اللّه لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله، و جعل عليه دليلا يدلّ عليه، و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا «2».

و

فيه عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا حدّثتكم بشي ء فاسئلوني أين هو من كتاب اللّه عزّ و جلّ؟ ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن القيل و القال، و فساد المال و كثرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول اللّه أين هذا من كتاب اللّه تعالى؟ قال عليه السّلام: إنّ اللّه يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ «3»، و قال: لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً «4»، و قال: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ «5» «6».

و

فيه عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعت

أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: (و اللّه إني لأعلم كتاب اللّه من أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي، فيه خبر السّماء و خبر الأرض، و خبر ما كان، و خبر ما هو كائن، قال اللّه عزّ و جل: «فيه تبيان كل شي ء» «7».

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 1 ص 60.

(2) الأصول من الكافي ج 1 ص 59.

(3) النساء: 114.

(4) النساء: 5.

(5) المائدة: 101.

(6) الأصول من الكافي ج 1 ص 60.

(7) الأصول من الكافي ج 1 ص 229، قد مرّ أنّ جملة «فيه تبيان كلّ شي ء» نقل بالمعنى فإنّها في القرآن هكذا: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 12

و

في «تأويل الآيات» نقلا عن «مصباح الأنوار» لشيخ الطائفة بالإسناد عن المفضّل قال: دخلت على الصّادق عليه السّلام ذات يوم، فقال لي يا مفضّل هل عرفت محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهما السّلام كنه معرفتهم؟ قلت: يا سيّدي و ما كنه معرفتهم؟ قال عليه السّلام: يا مفضّل من عرفهم كنه معرفتهم كان مؤمنا في السّنام الأعلى «1»، قال: قلت: يا سيدي عرّفني ذلك، قال: يا مفضّل تعلم أنّهم علموا ما خلق اللّه عزّ و جل و ذرأه و برأه، و أنّهم كلمة التقوى، و خزّان السماوات و الأرضين، و الجبال، و الرّمال، و البحار، و علموا كم في السّماء من نجم، و ملك، و وزن الجبال، و كيل ماء البحار، و أنهارها، و عيونها، و ما تسقط من ورقة إلّا علموها، وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «2» و هو في علمهم و قد علموا ذلك، فقلت يا سيّدي و قد علمت

ذلك و أقررت به و آمنت قال عليه السّلام: نعم يا مفضّل يا مكرّم، نعم يا محبور، نعم طيّب طبت و طابت لك الجنة و لكلّ مؤمن بها) «3».

و

في «البصائر»، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبيه، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام: قال: قلت له: جعلت فداك، النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ورث علم الأنبياء كلّهم؟

قال عليه السّلام: نعم، قلت: من لدن آدم إلى انتهى الى نفسه؟ قال: نعم قلت: ورثهم النبوّة و ما كان في آبائهم من النبوّة و العلم؟ قال عليه السّلام: ما بعث اللّه نبيا إلّا و قد كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم منه، إلى أن قال عليه السّلام و سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده

______________________________

(1) السنام الأعلى: أي أعلى مدارج الإيمان، و سنام كلّ شي ء أعلاه.

(2) الأنعام: 59.

(3) بحار الأنوار ج 7 ص 303 ط القديم عن مصباح الأنوار. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 13

و شكّ في أمره: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ «1» و كان المردة «2» و الريح، و النمل، و الإنس، و الجنّ، و الشياطين له طائعين، و غضب عليه، فقال:

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «3» و إنّما غضب عليه لأنه كان يدلّه على الماء، فهذا و هو طير قد أعطي ما لم يعط سليمان. الى أن قال عليه السّلام: إنّ اللّه يقول في كتابه: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «4» فقد ورثنا نحن هذا القرآن، فعندنا ما تسير به الجبال، و تقطع به البلدان، و يحيى به الموتى بإذن اللّه، و نحن

نعرف ما تحت الهواء، و إن كان في كتاب اللّه لآيات ما يراد بها أمر من الأمور التي أعطاها اللّه الماضين النبيين و المرسلين إلّا و قد جعله اللّه تعالى ذلك كله لنا في أمّ الكتاب، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «5»، ثم قال عزّ و جلّ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «6»، فنحن الذين اصطفانا اللّه فقد ورثنا علم هذا القرآن الّذي فيه تبيان كل شي ء. «7»

و

في «تفسير القمي» و غيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خبر طويل و فيه: فجاءهم النبي صلّى اللّه عليه و آله بنسخة ما في الصحف الأولى، و تصديق الذي بين يديه،

______________________________

(1) النمل: 20.

(2) المردة: بفتح الميم و الراء و الدال جمع المارد و هو العاصي و المراد بها الجن.

(3) النمل: 21.

(4) الرعد: 31.

(5) النمل: 75.

(6) فاطر: 32.

(7) البحار ج 14 ص 112 ح 4 عن الكافي ج 1 ص 226. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 14

و تفصيل الحلال من ريب الحرام، و هو ذلك القرآن، فاستنطقوه و لن ينطق لكم أخباره، فيه علم ما مضى، و علم ما يأتي إلى يوم القيامة، و حكم ما بينكم، و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأنّي أعلمكم الخبر «1».

و

في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام إنّ في القرآن ما مضى و ما يحدث و ما هو كائن.

و

في «الكافي» عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث أنه قال: ما من شي ء تطلبونه إلّا و هو في القرآن فمن أراد ذلك فليسألني عنه «2».

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام

في خطبة له مذكورة في نهج البلاغة: ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده، و بحرا لا يدرك قعره و منهاجا لا يضلّ نهجه، و شعاعا لا يظلم ضوئه، و فرقانا لا يخمد برهانه، و بيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه، و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان و بحبوحته «3» و ينابيع العلم و بحوره، و رياض العدل و غدرانه «4» و أثافي «5» الإسلام و بيانه، و أودية الحقّ و غيطانه «6»، و بحر لا ينزفه

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 22 ط القديم.

(2) بحار الأنوار ج 10 ص 26 ط القديم.

(3) بحبوحة المكان- بضم البائين-: وسطه.

(4) الرياض: جمع روضة و هي مستنقع الماء في رمل أو عشب، و الغدران بضم الغين: جمع غدير: القطعة من الماء يغادرها السيل، و المراد أن القرآن يجمع العدل تلتقي فيه متفرقاتها.

(5) الأثافي: جمع أثفية و هو الحجر يوضع عليه القدر، أي: عليه قام الإسلام.

(6) غيطان: جمع غاط أو غوط، و هو المطمئن من الأرض،

يقول عليه السّلام: القرآن منابت الحق يزكو الحق بها و ينمو. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 15

المنتزقون «1» و عيون لا ينضبها الماتحون «2» و مناهل لا يغيضها الواردون «3» و منازل لا يضلّ نهجه المسافرون، و أعلام لا يعمى عنها السائرون و آكام لا يجوز عنها القاصدون «4» جعله اللّه ريّا لعطش العلماء «5»، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ لطرق الصلحاء «6» و دواء ليس بعده داء، و نورا ليس معه ظلمة، و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و عزّا لمن تولّاه، و

سلما لمن دخله، و هدى لمن أئتمّ به، و عذرا لمن انتحله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم به، و فلجا لمن حاجّ به «7» و حاملا لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، و آية لمن توسّع، و جنّة لمن استلأم «8»، و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى «9».

و

في «المناقب» عن بكير بن أعين قال: قبض أبو عبد اللّه عليه السّلام ذراع نفسه و قال: يا بكير هذا و اللّه جلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذه و اللّه عروق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أعلم ما في الأرض، و أعلم ما في الدنيا، و أعلم ما في الآخرة، فرأى تغيّر جماعة، فقال: يا بكير إنّي لأعلم ذلك من كتاب اللّه إذ يقول:

______________________________

(1) لا ينزفه: أي لا يفنى مائه و لا يستفرغه المغترفون.

(2) و لا ينضبها- كيكرمها-: أي لا ينقصها، و الماتحون جمع ماتح: نازع الماء من الحوض.

(3) المناهل: جمع المنهل: مواضع الشرب من النهر، و لا يغيضها من باب الإفعال: أي لا ينقصها.

(4) آكام: جمع أكمة: و هو الموضوع المرتفع و هو دون الجبل في غلظ لا يبلغ الحجرية.

(5) الري- بكسر الراء و فتحها-: مصدر روي يروي من باب علم: روى من الماء: أي شرب و شبع.

(6) المحاج جمع محجة: و هي الجادة من الطريق.

(7) الفلج بفتح الفاء، الظفر و الفوز.

(8) الجنة بضم الجيم: ما به يتقى الضرر، و استلأم: لبس اللامة و هي الدرع أو جميع أدوات الحرب.

(9) نهج البلاغة تأليف السيد الرضي المتوفي سنة 406 في ذيل خطبة 196. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 16

نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» «2».

و

في تفسير فرات عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: سلوني قبل أن تفقدوني فو الّذي فلق الحبّة و برى ء النسمة إنّي لأعلم بالتوراة من أهل التوراة، و إنّي لأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل، و إنّي لأعلم بالقرآن من أهل القرآن، و الذي فلق الحبّة و برى ء النسمة ما من فئة تبلغ مائة إلى يوم القيامة إلّا و أنا عارف بقائدها و سائقها، سلوني عن القرآن، فإنّ في القرآن بيان كلّ شي ء، فيه علم الأولين و الآخرين، و إنّ القرآن لم يدع لقائل مقالا: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «3».

و

عن كتاب سليم بن قيس في خبر طويل أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها اللّه تعالى على محمّد صلّى اللّه عليه و آله عندي بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّي بيده، و تأويل كلّ آية أنزلها اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كلّ حلال، أو حرام، أو حدّ، أو حكم، أو شي ء تحتاج إليه الأمّة الى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطي بيدي، حتى أرش الخدش الخبر «4».

______________________________

(1) النحل: 89.

(2) بحار الأنوار: ج 7 ص 302 و ج 19 ص 23 ط. القديم.

(3) بحار الأنوار ج 7 باب جهات علومهم ص 290 ط. القديم عن فرات بن إبراهيم.

(4) بحار الأنوار ج 7 باب جهات علومهم ص 291 ط القديم كتاب سليم بن قيس. و لا يخفى أن سليم بن قيس كان من كبراء أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و مصنفيهم و كان هاربا من الحجّاج لأنه

طلبه ليقتله فلجأ الى أبان بن أبي عياش فآواه فلّما حضرته الوفاة قال لأبان: إن لك عليّ حقا و قد حضرتني الوفاة يا بن أخي أنه كان من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيت و كيت، و أعطاه كتابا و هو كتاب سليم بن قيس المشهور، رواه عنه ابن أبي عياش لم يروه عنه غيره، و كتابه هذا أقدم كتاب صنّف في الإسلام في عصر التابعين بعد كتاب السنن لابن أبي رافع و كان ذلك الكتاب في جميع الأعصار أصلا ترجع الشيعة اليه و تعول عليه حتى

روي في حقه عن الصادق عليه السّلام أنه قال: و من لم يكن عنده من شيعتنا و محبّينا كتاب تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 17

و

عن الحسن بن سليمان «1» في كتاب «المختصر» ممّا رواه من كتاب نوادر- الحكمة عن أبي الحسن الأول عليه السّلام في قوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «2» فقد أورثنا اللّه تعالى هذا القرآن، ففيه ما يسير به الجبال و تقطّع به الأرض و يكلّم به الموتى، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه العزيز: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «3»، و قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «4» فنحن الذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ فورثنا هذا الكتاب الّذي فيه كلّ شي ء «5».

و

في «البصائر» عن عبد الأعلى قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ابتداء منه: و اللّه إنّي لأعلم ما في السموات و ما في الأرض، و ما في الجنّة و ما في النّار، و ما كان و ما يكون إلى

أن تقوم الساعة، ثم قال: أعلمه من كتاب اللّه أنظر اليه هكذا ثم بسط كفيّه ثم قال عليه السّلام إنّ اللّه يقول: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «6» «7».

و

فيه بأسانيد عديدة عنه عليه السّلام: إنّي لأعلم ما في السموات و أعلم ما في الأرضين و أعلم ما في الجنّة، و أعلم ما في النّار، و أعلم ما كان و ما يكون، ثم

______________________________

سليم بن قيس فليس عنده من أمرنا شي ء.

مقدمة بحار الأنوار للشيخ عبد الرحيم الشيرازي.

(1) الحسن بن سليمان بن خالد البجلي فاضل، فقيه، تلميذ الشهيد، و يروي عنه، له مصنفات منها مختصر بصائر الدرجات لسعد بن عبد اللّه الأشعري، و منها المختصر في الرد على الذين أنكروا حضور النبي و الأئمة عليهم السّلام عند المحتضر.

(2) الرعد: 31.

(3) النمل: 75.

(4) فاطر: 32.

(5) بحار الأنوار ج 7 ص 291 باب جهات علومهم و ما عندهم من الكتب ط القديم.

(6) النحل: 89.

(7) بحار الأنوار ج 7 ص 302 باب أنهم عليهم السّلام لا يحجب عنهم علم السماء و الأرض. ط القديم. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 18

مكث هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه، فقال عليه السّلام: علمت ذلك من كتاب اللّه تعالى إنّ اللّه يقول: «فيه تبيان كل شي ء» «1» «2».

و

في «الخرائج» عن عبد اللّه بن الوليد السمان قال: قال الباقر عليه السّلام: يا عبد اللّه ما تقول في عليّ و موسى و عيسى؟ قلت: ما عسى أن أقول، قال عليه السّلام: هو و اللّه أعلم منهما ثمّ قال: ألستم تقولون: إنّ لعلي ما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من العلم؟ قلنا:

نعم، و النّاس ينكرون، قال عليه السّلام فخاصمهم فيه بقوله

تعالى لموسى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ «3»، فعلمنا أنّه لم يكتب له الشي ء كلّه، و قال لعيسى:

وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ «4» فعلمنا أنه لم يبيّن له الأمر كله، و قال لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «5» «6».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ربما مرّ و يمرّ عليك ذكر بعضها في طي المقدمات، و في تضاعيف تفاسير بعض الآيات، و هي كما ترى ما بين ظاهرة و صريحة في ذلك، و العموم في بعضها كالمشتملة على ما تحتاج إليه الأمة، و حد كلّ شي ء حتى أرش الخدش، و غيرها و إن من كان جهة الأحكام الشرعية، و الأمور التعبدية، إلّا أنّه لا منافاة فيها لما يدلّ عليه غيرها ظهورا أو صراحة من

______________________________

(1) قد مر سابقا ان هذه الجملة «فيه تبيان كل شي ء» ليست من القرآن، بل هي منقولة بالمعنى من آية:

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 302 باب أنهم عليهم السّلام لا يحجب عنهم علم السماء و الأرض. ط القديم.

(3) الأعراف: 145.

(4) الزخرف: 63.

(5) النحل: 89.

(6) بحار الأنوار ج 7 ص 322 باب أنهم عليهم السّلام أعلم من الأنبياء. ط. القديم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 19

الشمول للحوادث، و الكينونات الدنيوية، و الأخروية، و لذا صرّحوا عليهم السّلام بأنّ فيه علم ما في السماوات و ما في الأرض، و ما في الجنة، و ما في النار إلى غير ذلك مما يؤيّد به الآيات المتقدمة، و إلّا فالإنصاف أنّها أيضا مستقلّة في الدلالة على ذلك بعمومها الذي ينبغي صرفه

إلى الحقيقة.

و توهّم أنّه مشتمل على آيات و ألفاظ معدودة متناهية دالّة بوجوه الدلالات العرفية المنحصرة في الثلاث «1» فكيف يكون المدلول بها تلك المعاني الكثيرة المشتملة على جميع ما مضى و ما يأتي إلى يوم القيامة، بل و بعد القيامة من الأحوال، و الأطوار، و الأفعال الكثيرة المتجددة الغير المتناهية الدائمة بدوامه سبحانه.

مدفوع بأنّ قلة الألفاظ و تناهيها لا تمنع من كثرة المعاني و لا تناهيها إذا كانت هناك سعة من جهة الدلالة، أ لا ترى أنّ الحروف المقطّعة منحصرة في ثمانية و عشرين حرفا و بها يعبّر من حيث وجوه التركيب و فنون الترتيب عن جميع المعاني و المقاصد التي يقع التعبير عنها بين أهل العالم في محاوراتهم، و مكاتباتهم، و تصانيفهم، فالمعاني لا ريب في لا تناهيها مع أنه يعبّر عنها بالألفاظ و إن لم يحط التعبير إلّا بالمحدود منها.

فإن قلت: إنّ وجوه الدلالة محصورة معروفة عند أهل المعرفة باللسان

______________________________

(1) الدلالة اللفظية الوضعية تنقسم على ثلاثة أقسام: المطابقة و التضمن و الالتزام كما قال التفتازاني في التهذيب: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة و على جزئه تضمن و على الخارج التزام. و كما قال المتأله السبزواري في منطقه: دلالة اللفظ بدت مطابقةحيث على تمام معنى وافقه

و ما على الجزء تضمنا و سم و الخارج المعنى التزام إن لزم تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 20

فلو دلّ القرآن على جميع المعاني و المفاهيم و الحقائق و الوقايع و الحوادث اليومية الجزئية حتى خصوص الحركات الصادرة عن خصوص أفراد الإنسان في جميع الأزمان بل ساير الشؤون و الأحوال و الأطوار و الحركات، و الخطرات، و الإرادات، و الاقتضاءات الواقعة في جميع العوالم

من الغيب، و الشهادة في الفلكيات و العنصريات، و المركبات المعدنية، و النباتية، و الحيوانية لفهمها أهل اللسان الذين قد أنزل اللّه تعالى بلسانهم الرسول و القرآن كما قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «1»، و قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «2» و قال: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «3» و قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «4».

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار الدالّة على ذلك على أنّ المفسّرين من الخاصّة العامّة قد تصدّوا لتفسيره و تنقيره، و تشمّروا للفحص عن تنزيله و تأويله فلم يزيدوا على ما دوّنوه من تفاسيرهم مع أنّهم ذكروا كلّ ما قيل من حقّ أو باطل، و أين هذا من كلّ الأحكام التي ذكروا أنّ القرآن لا يستفاد منه إلّا أقل قليل من مجملاتها، و لذا فزعوا إلى العمل بأخبار الآحاد، بل إلى ساير الطرق الظنّية في استنباط الأحكام الشرعية، بل أين هذا من جميع الحقائق التكوينية و الحوادث الكونية المتعلقة بجميع ذرّات العالم مما كان أو يكون إلى يوم القيامة.

قلت: هذا كلّه اجتهاد في مقابل النصوص، و جرأة في الردّ على أهل الخصوص، و قد قال سبحانه:

______________________________

(1) إبراهيم: 4.

(2) الشعراء: 193- 195.

(3) القمر: 17.

(4) الزخرف: 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 21

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ «1» و ذلك أنّك قد سمعت منّا أولا أن التصديق التفصيلي في هذا الباب غير ممكن لنا، كيف و هو موقوف على تمام العلم و الإحاطة بظاهر القرآن و باطنه، و باطن باطنه، و هكذا إلى سبعة بطون أو سبعين بطنا أو أزيد

من ذلك، بل قد ورد أنّ الكلمة من آل محمّد عليهم السّلام لتنصرف على سبعين وجها فما ظنّك بالقرآن الذي لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم.

و لذا

قال مولانا الباقر عليه السّلام لقتادة «2» على ما رواه في «الكافي» في الصحيح و يحك يا قتادة إن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت، و يحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به «3»

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام لابن الصباح: إنّ اللّه علّم نبيّه التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه خطب خطبة ذكر فيها:

أن عليا هو أخي، و وزيري، و هو خليفتي و هو المبلّغ عني، إن استرشدتموه أرشدكم، و إن خالفتموه ظللتم، إنّ اللّه أنزل عليّ القرآن و هو الذي من خالفه ضلّ، و من يبتغي علمه عند غير عليّ هلك «4».

و

قال مولانا الرضا عليه السّلام لابن الجهم «5» اتق اللّه، تأوّل كتاب اللّه برأيك، فإن اللّه

______________________________

(1) يونس: 39.

(2) قتادة بن دعامة من أكابر محدّثي العامة و مفسّريهم، و قيل إنه أحفظ أهل البصرة و كان رأسا في العربية و مفردات اللغة و أيام العرب و النسب، و يظهر منه أنّه كان محبا لعلي أمير المؤمنين عليه السّلام حيث سمع خالد بن عبد اللّه قوله السي ء في عليّ عليه السّلام قام فانصرف قائلا في حق خالد: زنديق و رب الكعبة. ولد قتادة في سنة 61 ه و مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه.

(3) بحار الأنوار ج ص 139 ط القديم باب تأويل قوله تعالى: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً إلخ.

(4) بحار الأنوار ج 7 ص 282 ط القديم عن الأمالي للصدوق.

(5) ابن الجهم

هو علي بن محمد بن الجهم هو من المنحرفين عن أهل البيت، و لذا قال الصدوق في العيون بعد ما نقل كلماته مع علي بن موسى الرضا عليهما السّلام في مجلس المأمون: هذا الحديث غريب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه، و بغضه، و عداوته لأهل البيت عليهم السّلام. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 22

يقول: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1». «2»

و

قال عليه السّلام فيما كتبه للمأمون: إنّ الأئمة عليهم السّلام هم المعبّرون عن القرآن و الناطقون عن الرسول بالبيان «3».

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام بعد ذكر كلام طويل في تفسير القرآن إلى أقسام و فنون و وجوه تزيد على مائة و عشر إلى أن قال: و هذا دليل واضح على أن كلام الباري سبحانه لا يشبه كلام الخلق كما لا تشبه أفعاله أفعالهم و لهذه العلّة و أشباهها لا يبلغ أحد كنه حقيقة تفسير كتاب اللّه تعالى إلا نبيّه و أوصيائه «4».

ثمّ اعلم أن ما ذكر في السؤال من حصر وجوه الدلالة فيما هو المعروف عند أهل العرف ممنوع جدا فإنّ التفاهم بالدلالات الثّلاث إنما هو للعامّة و للخواصّ و الخصّيصين طرق أخرى لا يجري بها القلم، و لا يحتوي عليها الرقم، و ناهيك في ذلك أنّ جواب كل سؤال مطويّ فيه مستفاد منه بالقواعد التكسيرية التي ليست من الدلالات اللفظية، بل يشهد به أيضا ملاحظة العلوم المستنبطة من الحروف المقطّعة في فواتح السور. و

قول أبي جعفر عليه السّلام لأبي لبيد: إنّ لي فيها لعلما جمّا «5»

، و استخراج قيام الأئمة و الخلفاء منها.

و ما ذكره عليه السّلام في جواب وفد «6» فلسطين حيث سألوا عن

الصمد من العلوم الغريبة التي يشتمل على جملة منها الخبر إلى أن قال عليه السّلام: لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عزّ و جلّ

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) بحار الأنوار ج 19 ص 28 باب تفسير القرآن بالرأي ط. القديم.

(3) عيون أخبار الرضا عليه السّلام ج 2 ص 122 ط. دار الكتب الإسلامية بطهران.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ص 148 عن المحكم و المتشابه للسيد المرتضى ص 5.

(5) الصافي للفيض في تفسير سورة البقرة ذيل تفسير (ألم) ص 57 ع العياشي

(6) الوفد بفتح الواو و سكون الفاء: قوم يجتمعون فيردون البلاد. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 23

حملة لنشرت التوحيد، و الإسلام، و الإيمان و الدين، و الشرائع من الصمد، و كيف لي بذلك و لم يجد جدي أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه، حتى كان يتنفّس الصعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّ بين الجوانح مني لعلما جمّا هأه هآه ألا لا أجد من يحمله الخبر «1».

و ما يأتي نقله عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام من طرق الخاصة و العامة من تفسير بسم اللّه لابن عباس ليلة تامّة، و أنّه قال: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير بسم اللّه.

إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على من جاس «2» خلال ديارهم، و له أنس بأخبارهم، و استنار قلبه بتجلّي أشعّة أنوارهم.

و أما كون القرآن عربيّا أنزله اللّه تعالى تفهيما و تبيانا للناس فلا ينافي ما ذكرناه، لأنّا لا نمنع دلالة ظاهرة كسائر الألفاظ و العبارات، لجريانه على طريقة العرف و اللغة، إنما الكلام في أنّ فيه وجوها من الإشارة و الدلالة، يستنبط منها الأمور التكوينية، و الأحكام الشرعية بأسرها، و

إنّما يعلمها النبي صلّى اللّه عليه و آله و آله الطيّبون الذين يستنبطونه منه. و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما رواه في الغوالي «3»: القرآن على أربعة أشياء: على العبارة، و الإشارة، و اللطائف،

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 713، بحار الأنوار ج 3 ص 225 ط. الآخوندي بطهران.

(2) جاس يجوس جوسا الشي ء: طلبه بالحرص و الاستقصاء.

(3) غوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحساوي في الحديث لم يعتمد العلماء عليه. قال المجلسي قدس سرّه في الفصل الثاني من مقدمة البحار: كتاب غوالي اللئالي و إن كان مشهورا و مؤلفه في الفضل معروفا لكنه لم يميز القشر من اللباب، و أدخل أخبار المتعصبين بين روايات الأصحاب فلذا اقتصرنا منه على نقل بعضها. و قال صاحب الحدائق بعد نقل مرفوعة زرارة في الأخبار العلاجية: أن الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي مع ما هي عليها من الإرسال، و ما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل في نقل الأخبار، و لإهمال و خلط غثها بسمينها، و صحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور. مقدمة البحار ط. الآخوندي بطهران. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 24

و الحقائق، فالعبارة للعوامّ و الإشارة للخواصّ، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء «1».

و من جميع ما مرّ يظهر الجواب عن اقتصار المفسّرين على الظاهر، بل و عن الاستبعاد الذي في السؤال حسبما قد ينسبق الى بعض الأذهان و إن لم ينطق به اللسان بعد تظافر الأخبار، و تكاثر الآثار، بل قد ظهر مما مرّ و من التأمل في وجوه التأويلات، و البطون المأثورة في الأخبار أنّ وجوه الدلالة فيها غير منحصرة في جهة واحدة،

بل منها من جهة الحمل على الحقيقة الأوليّة، و الحقيقة بعد الحقيقة و اعتبارها في ساير المجالي التي ينبغي التعبير عنها بالمصاديق و الأفراد حسبما تأتي اليه الاشارة في تحقيق البطون، و منها من جملة الاستنباطات العددية، و القواعد التكسيرية، و الاعتبارات الوفقية، و غير ذلك مما يطول شرحها، و منها من جهات أخرى لا يحيط بأكثرها الأفهام، و لا يجري عليها الأقلام بل لعله لا يدرك نوع سنخيته بوجه من الوجوه فضلا عن إدراك حقيقته، و الاطّلاع على كلّية قاعدته.

و أمّا ما حكاه في «الصافي» ملخّصا عن بعض أهل المعرفة من أنّ العلم بالشي ء إما يستفاد من الحسّ برؤية، أو تجربة، أو سماع خبر، أو شهادة، أو اجتهاد، أو نحو ذلك، و مثل هذا العلم لا يكون إلّا متغيرا فاسدا محصورا متناهيا غير محيط، لأنه إنما يتعلّق بالشي ء في زمان وجوده علم، و قبل وجوده علم آخر، و بعد وجوده علم ثالث، و هكذا كعلوم أكثر الناس.

و إما يستفاد من مباديه، و أسبابه، و غاياته علما واحدا كليا بسيطا محيطا على وجه عقليّ غير متغيّر، فإنّه ما من شي ء إلّا و له سبب، و لسببه سبب، و هكذا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 37 ط. القديم عن الدرّة الباهرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 25

الى أن ينتهي الى مسبب الأسباب، و كلّ ما عرف سببه من حيث يقتضيه و يوجبه فلا بد أن يعرف ذلك الشي ء علما ضروريا دائما، فمن عرف اللّه تعالى بأوصافه الكمالية، و عرف ملائكته المدبّرين المسخّرين للأغراض الكليّة العقليّة، بالعبادات الدائمة، و النسك المستمرّة من غير فتور و لغوب الموجبة لأن يترشّح عنها صور الكائنات كلّ ذلك على الترتيب السببي و

المسبّبي، فيحيط علمه بكل الأمور و أحوالها و لواحقها علما بريئا من التغيّر و الشّك و الغلط، فيعلم من الأوائل الثواني، و من الكليات الجزئيات المترتبة عليها، و من البسائط المركبات، و يعلم حقيقة الإنسان و أحواله، و ما يكمّلها و يزكّيها و يصعدها الى عالم القدس و ما يدنّسها و يرديها و يشقيها و يهويها إلى أسفل السافلين، علما تابعا غير قابل للتغير، و لا محتملا لتطّرق الريب، فيعلم الأمور الجزئيّة من حيث هي دائمة كلية، و من حيث لا كثرة فيه و لا تغيّر، و إن كانت كثيرة متغيرة في أنفسها، و بقياس بعضها الى بعض، و هذا كعلم اللّه سبحانه بالأشياء، و علم الملائكة المقربين، و علوم الأنبياء و الأوصياء بأحوال الموجودات الماضية المستقبلة، و علم ما كان و علم ما سيكون الى يوم القيامة من هذا القبيل، فإنّه علم كلّي ثابت غير متجدّد بتجدّد المعلومات و لا متكثّر بتكثّرها، و من عرف كيفيّة هذا العلم عرف معنى قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» و يصدّق بأنّ جميع العلوم و المعاني في القرآن الكريم عرفانا حقيقيا، و تصديقا يقينيا على بصيرة لا على وجه التقليد و السماع و نحوهما، إذ ما من أمر من الأمور إلّا و هو مذكور في القرآن إمّا بنفسه أو بمقوّماته و أسبابه و مباديه و غاياته، و لا يتمكّن من فهم آيات القرآن، و عجائب أسراره و ما يلزمها من الأحكام و العلوم التي لا تتناهي إلّا من

______________________________

(1) النحل: 89.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 26

كان علمه بالأشياء من هذا القبيل «1».

ففيه أنّ سوق هذا الكلام إنّما هو في تحقيق علم الباري تعالى

حسبما ذهب اليه بعض المحقّقين و إن كان لا يخلو من نظر، نظرا الى عدم ترتّب الحوادث الكونية حتى الأفعال الاختيارية بقاعدة السببيّة التي هي أشبه بالأمور الطبيعية، و كأنه مبنّي على القول بفاعليّة سبحانه بالعليّة و الإيجاب، بل قد يظهر منه الاضطرار في أفعال العباد، و إلّا فالمختار قد يختار المرجوح أو الراجح باختياره الّذي هو السبب التامّ، و إن كان مرجّحات آخر لغيره.

و جعل الإرادة أيضا من جملة الأسباب المسببّة عن كينونة الطبيعة تكوينا جعليا ابتدائيا منه سبحانه أو تبعيّا للأعيان الثابتة حسبما توهّموه.

فاسد من وجوه: كالجبر و انثلام قاعدة السببيّة المقصودة و بطلان القول بالأعيان، و عدم استحقاق الثواب، و قبح العقاب الى غير ذلك مما تأبى عنه قواعد العدليّة المستفادة عن الشريعة الحقّة النبويّة. و من هنا يظهر فساد ما فرّع عليه من اشتمال القرآن على العلوم بالوجه المرسوم، مع أنّه لا اختصاص له حينئذ به كلّ اسم من أسمائه ممّا يتكلّم به كلّ أحد لدلالته على مسبّب الأسباب يدلّ على تفاصيل المصنوعات المترتبة الى ما لا نهاية لها و هو كما ترى.

هذا مضافا الى ما يظهر منه من التسوية بين علمه سبحانه و علوم ملائكته و أنبيائه، لفقد الجامع فضلا عن الاتّحاد بين ما هو ذات الواجب بلا مغايرة حقيقة و اعتبارية و بين صفة الممكن، و إرادة العلم الفعلي مع أنّه ليس من مذهب الحاكي و لا المحكّي عنه كما يظهر من ساير كتبهما توجب التسوية بين ذات الممكن و وصفه.

______________________________

(1) تفسير الصافي للفيض الكاشاني- المقدمة السابعة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 27

الباب السادس

اشارة

في بيان معنى التفسير، و التنزيل و التأويل، و الظاهر و الباطن، و المحكم و المتشابه، و

الناسخ و المنسوخ، و الكلام في حجية القرآن، و صحة الاستدلال بظواهره في الأصول و الفروع، و المنع عن التفسير بالرأي و ضابط التأويل

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 29

و فيه فصول:

الفصل الأول

قد اختلفوا في اتحاد معنى التفسير و التنزيل و التأويل و اختلافه، فعن ظاهر الأكثر الثاني، و لذا يقابل كل من الأوليين بالثالث، بل صرّح بعضهم، و لعلّه يؤمي إليه أصل الاشتقاق أيضا. قال في الصحاح «1»: الفسر البيان، و قد فسرت الشي ء أفسره بالكسر فسرا و التفسير مثله، و قال: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشي ء، و قد أوّلته تأويلا و تأوّلته تأوّلا بمعنى، و منه قول الأعشى «2»: على أنّها

______________________________

(1) الصحاح في اللغة لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي أخذ عن خاله إبراهيم الفارابي، و عن السيرافي و دخل بلاد ربيعة و مضر، فأقام فيها مدة في طلب علم اللغة ثم عاد الى خراسان، و أقام بنيسابور مدة فبرز في اللغة و تعلّم الكتاب و حسن الخط، و مات متردّيا من سطح داره، و قيل: إنّه تغيّر عقله و عمل له دفّتين و شدّهما كالجناحين و قال أريد أن أطير و وقع من علو فهلك في سنة 393، كتاب الصحاح كتاب حسن الترتيب سهل المطلب، و هو مفرد نعت كصحيح و صحاح و شحيح و شحاح و برى ء و براء قيل في مدح الصحاح: ليس صحاح الجوهري إلّا صحاح الجوهر

بل هو بحر ذهب أمواجه من درر

كشف الظنون ج 8 ص 400

(2) الأعشى ميمون بن قيس جندل من بني قيس المعروف بأعشى قيس، و الأعشى الكبير من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، و أحد أصحاب المعلّقات، كان كثير الوفود على الملوك

من العرب و الفرس، عاش عمرا طويلا و أدرك الإسلام و لم يسلم، و لقّب بالأعشى لضعف بصره، و عمي في آخر عمره، توفّي سنة 7 ه في قرية منفوحة باليمامة قرب مدينة الرياض. الأعلام للزركلي ج 8 ص 300.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 30

كانت تأول حبها* تأول ربعي السقاب فأصحبا، يعني أن حبها كان صغيرا في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كهذا السقب «1» الصغير لم يزل حتى صار كبيرا مثل أمه فصار له ابن يصحبه. و في القاموس: الفسر الإبانة و كشف المغطى كالتفسير، و الفعل كضرب و نصر، و نظر الطبيب الى الماء، كالتفسرة، أو هي البول يستدلّ به على المرض، أو هي مولّدة.

قال ثعلب «2»: التفسير و التأويل واحد، أو هو كشف المراد عن المشكل و التأويل ردّ أحد المحتملين الى ما يطابق الظاهر «3».

و قال: أوّل الكلام تأويلا و تأوّله دبّره و قدّره و فسّره، و التأويل عبارة الرؤيا «4».

و في النهاية الأثيرية «5»: في حديث ابن عباس اللّهم فقّهه في الدين، و علّمه التأويل، هو من آل الشي ء يؤول إلى كذا أي رجع و صار إليه، و المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ من وضعه الأصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهر

______________________________

(1) السقب بفتح السين و سكون القاف ج أسقب و سقاب: ولد الناقة ساعة يولد.

(2) ثعلب أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس أمام الكوفيين في النحو و اللغة و الحديث كان مشهورا بالحفظ و صدق اللهجة، ولد في بغداد سنة 200 و أصيب في أواخر أيامه بصمم فصدمته فرس فسقط في هوة فتوفّي على الأثر سنة 291 له مصنفات في الأدب و

الشعر و اللغة و التفسير منها: إعراب القرآن، معاني القرآن- تذكرة الحفّاظ ج 2 ص 214-.

(3) تاج العروس في شرح القاموس الزبيدي ج 3 ص 470.

(4) تاج العروس في شرح القاموس للزبيدي ج 7 ص 216.

(5) نهاية الأثيرية هي النهاية في غريب الحديث و هي مجلدات للشيخ أبي السعادات مبارك بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606 أخذ هذا الكتاب من الغريبين للهروي و غريب الحديث لأبي موسى الأصبهاني، و رتبه على حروف المعجم بالتزام الأول و الثاني من كل كلمة و اتباعهما بالثالث.- كشف الظنون ج 2 ص 1989-.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 31

اللفظ، و منه

حديث عائشة: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يكثر أن يقول في ركوعه و سجوده:

سبحانك اللّهم و بحمدك، بتأوّل القرآن، يعني أنّه مأخوذ من قول اللّه تعالى:

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ «1».

و في «مجمع البيان»: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، و التأويل ردّ أحد المحتملين الى ما يطابق الظاهر، و المعنى البيان.

و قال أبو العباس المبرّد «2»: التفسير و التأويل و المعنى واحد، و قيل:

التفسير كشف المغطى، و التأويل انتهاء الشي ء و مصيره و ما يؤول إليه أمره «3»، و قال في موضع آخر: التأويل: التفسير، و أصله المرجع «4»، و تبعه فيه الرازي الى أن قال: هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلا قال تعالى:

سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «5»، و قال تعالى: وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا «6» و ذلك لأنه إخبار عمّا يرجع إليه اللفظ من المعنى «7».

______________________________

(1) سورة النصر: 3.

(2) المبرد محمد بن يزيد الثمالي أبو العباس، أديب، لغوي، نحوي، إمامي، مقبول القول عند الخاصّة و العامّة،

ولد بالبصرة سنة 210 و توفي ببغداد سنة 286 قيل بموته و موت الثعلبي مات الأدب. قال ابن أبي الأزهر في حقهما: أيا طالب العلم لا تجهلن و عذ بالمبرد أو ثعلب

تجد عند هذين علم الورى فلا تك كالجمل الأجرب

علوم الخلايق مقرونةبهذين في الشرق و المغرب

(3) مجمع البيان للطبرسي ج 1 ص 23 مقدمة الكتاب، الفن الثالث.

(4) مجمع البيان للطبرسي ج 2 ص 408 ط. الصيداء.

(5) الكهف: 78.

(6) النساء: 59.

(7) التفسير الكبير للفخر الدين الرازي ج 7 ص 176، سورة آل عمران آية: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 32

و في «مجمع البحرين»: التأويل إرجاع الكلام و صرفه عن معناه الظاهر الى معنى أخفى منه مأخوذ من آل يؤول إذا رجع و صار إليه، و تأوّل فلان الآية أي نظر الى ما يؤول معناها الى أن قال: و

في حديث عليّ عليه السّلام ما من آية إلّا و علّمني تأويلها

أي معناها الخفي الذي هو غير المعنى الظاهر، لما تقرّر أنّ لكل آية ظهرا و بطنا، و المراد أنّه صلّى اللّه عليه و آله أطلعه على تلك الخفيّات المصونة و الأسرار المكنونة «1».

و على كلّ حال فالتفسير كالفسر لغة بمعنى الإبانة و الإيضاح و التفعيل للمبالغة، و غلط من أخذه من التفسرة بمعنى الطبيب أو استدلاله- أو- القارورة، أو غيرها لا لأنه يوناني و لم يعهد أخذ لغة من أخرى إذ هو أيضا ضعيف بل لدلالة المادّة على هذا المعنى الساري في جميع مشتقاتها التي منها، نعم قد يقال أنه مقلوب التسفير من سفر الصبح و أسفر بمعنى أضاء و أشرق و سفرت المرأة كشفت عن وجهها.

و فيه أنّ القلب و إن كان يقع في الأسماء كآرام،

و آدر، و معيق، من ارام و ادءر و عميق، و في الأفعال كجبذ من جذب، إلّا أنه مع مخالفته للأصل و الغلبة سيّما مع فقد الداعي الى التزامه مردود بأمثلة اشتقاقه، بل هذه المادّة المأخوذة عن س ف ر بصورها الستّة لفقد الترتيب و اعتبارها أنحاء التركيب يظهر منها الظهور و الكشف كالسفر الكاشف عن حال المسافر و السفير المبلغ للخبر، و السفر بالكسر الذي هو الكتاب و نحوه، و السرف الذي هو البذل با إظهار و انتشار و إكثار، و الفراسة التي بها كشف الأحوال و الاطلاع على الأخبار، و الفروسة التي هي إظهار الشجاعة و الجلادة و لا يخلو ذلك عن تكلّف في الرفس

______________________________

(1) مجمع البحرين ص 424 باب ما أوله الألف، حرف اللام ط. طهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 33

الذي هو الركض برجلك و الرسف الذي هو المشي كمشي المقيّد، لكنّ الخطب في مثله سهل كسهولته في وجوه الفرق التي سمعت شطرا منها بينه و بين التأويل، حيث لا شاهد على جملة منها عدا الإطلاق المشترك بينهما كما لا شاهد على ما يقال أيضا من أنّ التفسير إخبار عمّن أنزل فيه القرآن و عن سبب نزوله فهو علم من شاهد النزول و أسبابه، و لذا يجب فيه الاقتصار على النقل و الرواية، و ذلك بخلاف التأويل الذي يختلف باختلاف الأفهام و يصرف إليه من ظاهره الكلام، فعلم التفسير مختصّ بأقوام و باب التأويل مفتوح الى يوم القيامة، و عليه أكثر المتأخرين من العامّة.

و من هنا قال في عوارف المعارف «1»: إنّ التفسير علم نزول الآية و شأنها و قصتها و الأسباب التي نزلت فيها و هو محظور على الناس كافة

القول فيه إلّا بالسماع و الأثر، و أمّا التأويل فصرف الآية الى معنى تحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه يوافق الكتاب و السنة، فالتأويل يختلف باختلاف حال المؤول من صفاء الفهم و رتبة المعرفة و نصيب القرب من اللّه.

و لهم أقوال أخرى في المقام كقولهم: إنّ التفسير في الألفاظ و التأويل في المعاني، و إنّ التفسير يتعلّق بالمحكمات، و التأويل يختصّ بالمتشابهات و إنّ التفسير بالرواية، و التأويل بالدراية، و إنّ التفسير بيان الظاهر، و التأويل كشف

______________________________

(1) عوارف المعارف في التصوف مشتمل على ثلاثة و ستين بابا كلها في سير القوم و أحوال سلوكهم و أعمالهم للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي المتوفي سنة 632، كان من كبار الصوفية، شافعي مفسر، فقيه، واعظ، مولده في سهرود (مدينة في إيران في الجبال سكنها الأكراد في القرن العاشر ثم خربت بالمغول) 539، كان شيخ الشيوخ ببغداد، و أقعد في آخر عمره، فكان يحمل الى الجامع في محفّة، له مصنفات منها، عوارف المعارف، و نخبة البيان في تفسير القرآن و غيرهما.

- طبقات الشافعية ج 5 ص 143-

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 34

السرائر، الى غير ذلك مما لا شاهد على كثير منها مع إمكان إرجاع بعضها الى بعض.

نعم الّذي يستفاد من تصانيف كلمات الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين هو أنّ التفسير كشف المراد من ظواهر الآيات و بواطنها السبعة أو السبعين أو الأزيد من ذلك مما لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم، بحيث إنّه يشمل كل شي ء من دون ذلك دون اشتراط انضمامه الى غيره، و من هنا يطلق على العلم بالظواهر مع ضميمة بعض البواطن أو بدونها على وجه التسامح في الإطلاق، و

إلّا فالعلم به حقيقة إنّما يحصل بالعلم بتمام ما سمعت، و لذا يستفاد من كثير من الأخبار اختصاص التفسير بأهل الذكر الذين هم مهابط الوحي، و خزنة العلم.

ففي «المحاسن» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام يا جابر إنّ للقرآن بطنا و له ظهر، و للظهر ظهر، و ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أوّلها في شي ء و آخرها في شي ء و هو كلام متصل منصرف على وجوه «1».

و

في «الكافي» عنه عليه السّلام إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن و أحكامه «2».

و

عن «تفسير النعماني» عن الصادق عليه السّلام بعد كلام طويل مضى جملة منه و لهذه العلة و أشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه إلّا نبيه و أوصيائه «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 24 ط. القديم.

(2)

بحار الأنوار ج 7 ص 39 ط. القديم عن «البصائر» مسندا عن عمر بن مصعب أنه قال: سمعت الصادق عليه السّلام أنه قال: إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن و حكاية علم تغيير الزمان و حدثاته.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 148 أبواب صفات القاضي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 35

و

في خبر طويل عن مولانا الصادق عليه السّلام: إنّما يكفيهم القرآن لو وجدوا له مفسرا، قيل و ما فسّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال عليه السّلام: بلى قد فسّره لرجل واحد، و فسّر للأمة شأن ذلك و هو علي بن أبي طالب «1». إلخ.

و قد مرّ

قول أبي جعفر عليه السّلام لقتادة، إن كنت فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و يحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به «2»

بل قد مرّ أيضا

في

النبوي في احتجاجه يوم الغدير: عليّ تفسير كتاب اللّه، و الداعي إليه الى أن قال عليه السّلام: معاشر الناس تدبّروا القرآن و افهموا آياته، و انظروا في أحكامه، و لا تتّبعوا متشابهه، فو اللّه لن يبيّن لكم زواجره، و لا يوضح لكم عن تفسيره إلّا الذي أنا آخذ بيده «3».

و

في «البصائر» بالإسناد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان و منه ما لم يكن بعد، تعرفه الأئمة عليهم السّلام «4».

و

فيه، عن يعقوب بن جعفر، قال: كنت مع أبي الحسن عليه السّلام بمكة فقال له رجل: إنّك لتفسّر من كتاب اللّه ما لم تسمع، فقال عليه السّلام: علينا نزل قبل الناس، و لنا فسّر قبل أن يفسّر في الناس، فنحن نعلم حلاله و حرامه، و ناسخه و منسوخه، و سفريته و حضريته، و في أي ليلة نزلت كم من آية، و فيمن نزلت، فنحن حكماء اللّه في أرضه. الخبر «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 131 أبواب صفات القاضي.

(2) بحار الأنوار ج 7 ص 139 ط. القديم باب تأويل قوله تعالى: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ إلخ.

(3) بحار الأنوار ج 37 ص 209 ط. الآخوندي بطهران عن الإحتجاج للطبرسي ص 33- 41.

(4) بحار الأنوار ج 19 ص 26 ط. القديم باب أن للقرآن ظهرا و بطنا عن البصائر.

(5) بحار الأنوار ج 7 ص 40 ط. القديم باب أنهم عليهم السّلام أهل علم القرآن- عن البصائر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 36

و

روى العيّاشي في تفسيره عن الصادق عليه السّلام أنه سئل عن الحكومة فقال عليه السّلام: من حكم برأيه بين إثنين فقد كفر، و من فسّر آية من كتاب اللّه فقد

كفر «1».

أي إذا كان التفسير برأيه كما يظهر من أخبار آخر الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على أن المراد بالتفسير هو العلم بجميع المقاصد و المرادات و الحقائق القرآنية من الظاهر، و ظاهر الظاهر، و هكذا و الباطن، و باطن الباطن الى ما شاء اللّه فهو يشمل التنزيل و التأويل بالمعنى المستفاد لهما من الأخبار الكثيرة التي منها

النبوي المرويّ في الأمالي: يا علي أنا صاحب التنزيل و أنت صاحب التأويل «2».

يعني أنه صلّى اللّه عليه و آله يحكم بالظاهر الذي نزل عليه الكتاب و يقاتل عليه خاصّة، و لذا لم يؤمر بقتال المنافقين بل كان يقرّبهم و يؤلّفهم و أمّا مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فكان يقاتل على التأويل، و لذا قاتل مع أهل القبلة.

و لذا

ورد أيضا عنه عليه السّلام: أنا أقاتل على التنزيل، و عليّ يقاتل على التأويل «3».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام إنّ اللّه تعالى علّم نبيه التنزيل و التأويل فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا. إلخ «4».

و

في «البصائر» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ أنت تعلّم الناس تأويل القرآن بما لا يعلمون، فقال عليه السّلام: على ما أبلّغ رسالتك من بعدك يا رسول اللّه؟

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 18، بحار الأنوار ج 19 ص 29 ط القديم.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 139.

(3)

تفسير العياشي ج 1 ص 15، وسائل الشيعة ج 18 ص 150 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، و هو علي بن أبي طالب.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ص 135. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 37

قال

صلّى اللّه عليه و آله: تخبر الناس بما يشكل عليهم من تأويل القرآن «1».

و

فيه، عن الصادق عليه السّلام إنّ للقرآن تأويلا فمنه ما جاء، و منه ما لم يجي ء، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمة عرفه ذلك الإمام «2».

و

في حديث عمرو ابن عبيد عن أبي جعفر عليه السّلام إنما على الناس أن يقرءوا القرآن كما أنزل، فإذا احتاجوا الى تفسيره فالاهتداء بنا و إلينا «3».

و المراد أنّ التنزيل يفهمه الناس بظواهر العربية حيث إنّ القرآن قد نزل بلسانهم، و أمّا تفسير الشامل له و لوجوه التأويل و البواطن فإنما يطلب منهم.

و

في «الكافي» عن أحدهما عليه السّلام في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «4» قال عليه السّلام: فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لا يعلّمه تأويله، و أوصيائه من بعده يعلمونه «5»

الى غير ذلك من الأخبار الظاهرة فيما سمعت، و لو بقرينة المقابلة و ملاحظة الاشتقاق الذي لعلّه كاف في إثبات المرام، و كأنّ ما سمعت هو الذي يظهر من القمي أيضا في أول تفسيره، حيث ذكر في عداد وجوه القرآن: أنّ منه ما تأويله في تنزيله، و منه ما تأويله مع تنزيله، و منه ما تأويله قبل تنزيله، و منه ما تأويله بعد تنزيله الى أن قال: أمّا ما تأويله في تنزيله فكل آية نزلت في حلال أو حرام مما لا يحتاج الناس فيها الى تأويل مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ «6» الآية، و قوله تعالى:

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 195،

وسائل الشيعة ج 18 ص 145.

(2) بصائر الدرجات ص 195، وسائل الشيعة ج 18 ص 145.

(3) تفسير فرات بن إبراهيم ص 91، وسائل الشيعة ج 18 ص 149.

(4) آل عمران: 7.

(5) الكافي ج 1 ص 191 و وسائل الشيعة ج 18 ص 132.

(6) النساء: 23.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 38

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ «1» و مثله كثير مما تأويله في تنزيله، و هو من المحكم الذي ذكرنا، و أمّا ما تأويله مع تنزيله فمثل قوله تعالى:

أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2» فلم تستغن الناس بتنزيل الآية حتى فسّر الرسول من أولي الأمر، و قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «3» فلم تستغن الناس الذين سمعوا هذا من النبي صلّى اللّه عليه و آله بتنزيل الآية حتى عرّفهم النبي صلّى اللّه عليه و آله من الصادقين، و قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ «4» فلم تستغن الناس بهذا حتى أخبرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله كم يصلّون و كم يزكّون.

و أمّا ما تأويله قبل تنزيله فالأمور التي حدثت في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله مما لم يكن عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فيها حكم مثل الظهار حيث إنّ أوس بن الصامت «5» ظاهر من امرأته فجاءت الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و أخبرته بذلك، فانتظر النبي صلّى اللّه عليه و آله الحكم من اللّه تعالى، فأنزل اللّه سبحانه: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ «6» الآية و مثله ما نزل في اللعان و غيره مما لم يكن عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فيه حكم حتى نزل

عليه القرآن به من اللّه عزّ و جلّ، فكان التأويل قد تقدّم التنزيل.

و أمّا ما تأويله بعد تنزيله فالأمور التي حدثت بعد عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله من

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) النساء: 59.

(3) التوبة: 119.

(4) البقرة: 43، 83، 110 و النور: 56.

(5) أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت الأنصاري، صحابيّ شاعر قيل سكن بيت المقدس، و توفي بالرملة سنة 32.

(6) المجادلة: 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 39

غصب حقوق آله المعصومين و ما وعدهم اللّه به من النصر على أعدائهم و من أخبار القائم عليه السّلام و خروجه، و أخبار الرجعة و الساعة في قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1» و قوله تعالى:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «2» إلخ ... و قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «3» إلخ .. و مثله كثير مما تأويله بعد تنزيله.

أقول: و هو و إن كان يؤيد ما ذكرناه في الجملة إلّا أنه يستفاد ممّا ذكره في القسمين الآخرين إطلاق آخر لهما، و لعلّك ترى في الأخبار ما يؤيد كلا من الوجهين. نعم للأصوليين في المقام نمط آخر من الكلام، و هو أنّهم قسّموا اللفظ باعتبار كيفية دلالته وضعا على معناه الى النصّ، و الظاهر، و المجمل، و المؤول، فإن لم يحتمل غيره بحسب ما يفهم منه في لغة التخاطب فهو نصّ يتعين حمله عليه لعدم احتماله غيره، منقسم عند بعضهم الى ما هو نصّ بلفظه و منطوقه كقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الزِّنى «4»، وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «5»، أو بفحواه و مفهومه كقوله تعالى: فَلا

تَقُلْ لَهُما أُفٍ «6»، وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا «7»، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «8»،

______________________________

(1) الأنبياء: 105.

(2) النور: 55.

(3) القصص: 5.

(4) الإسراء: 32.

(5) النساء: 29.

(6) الإسراء: 23.

(7) النساء: 49.

(8) الزلزلة: 8.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 40

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ «1»، إذ المعلوم أنّ فهم ما فوق التأفيف من الضرب و الشتم و ما وراء الفتيل و الذرّة من المقدار الكثير و ما وراء القنطار من القليل و الدينار من الكثير أسبق الى الفهم من نفس التأفيف، و الفتيل، و الذرّة، و القنطار و الدينار.

و لذا قالوا إنّه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى و بالعكس، و توهّم كونه قياسا و لو بالأولوية غلط جدا، إذ المقصود التنبيه لحكم المسكوت عنه الّذي هو المدلول عرفا و أين هذا من الإلحاق. و إن احتمل بحسب الفهم العرفي فلا يخلو إمّا أن يكون المحتملات متساويين، أو أحدهما راجحا و الآخر مرجوحا، فإن تساويا إمّا للاشتراك أو لتصادم الأمارات أو غير ذلك فهو مجمل و مبهم ذاتي أو عرضي، بحسب الموارد أو المصداق مع تعيين المراد و عدمه، و إلّا فالراجح ظاهر، بلا فرق بين كون الرجحان ناشئا عن الحقيقة بأقسامها أو عن القرائن، و المرجوح مأوّل صحيح إن تعذر إرادة الظاهر، و فاسد مع جوازه، و قد يخصّ بالأول، و يردّه صحة التقسيم، و قولهم تأويل فاسد، و ورد النهي عنه، و لذا عرّف أيضا بالمحمول على المرجوح و ربما يضاف اليه لمقتضى و الأولى تركه.

و قد ظهر ممّا مرّ صحّة قولهم بعدم تمشّي التأويل في النصّ و المجمل لاختصاصه بالظاهر، و هذا

مبني على اصطلاحهم الذي لا مشاحّة فيه، و إلّا فالمستفاد من نصوص أهل الخصوص ثبوت التأويل الذي يعبّر عنه بالباطن و التخوم لكل آية من الآيات، بل للكلمات و الحروف بلا فرق بين المجملات، و الظواهر، و النصوص، و لذا

ورد فيما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: إنّ للقرآن

______________________________

(1) آل عمران: 75. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 41

بطنا، و للبطن بطن، و ظهرا، و للظهر ظهر «1».

بل

ورد إن القرآن غضّ طريّ لا يبلى أبدا، و إنه و إن نزل في قوم إلّا أنّه جار في أقوام آخرين الى يوم القيامة «2»

و هذا الجريان هو أحد إطلاقات التأويل المقابل للتنزيل، و يقال له الباطن أيضا.

ففي «تفسير العيّاشي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ظهر القرآن الذين نزل فيهم، و بطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم «3».

و

بإسناده عن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الرواية:

ما في القرآن إلّا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلّا و له حد، و لكلّ حد مطلع «4»، ما يعني بقوله لها ظهر و بطن؟ قال عليه السّلام: ظهره تنزيله، و بطنه تأويله، منه ما مضى، و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر كلما جاء منه شي ء وقع قال اللّه تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «5» و نحن نعلمه. «6»

______________________________

(1)

المحاسن ص 300 و الرسائل ج 18 ص 142: يا جابر إنّ للقرآن بطنا و له ظهر، و للظهر ظهر إلخ.

(2)

بحار الأنوار ج 19 ص 5 ط. القديم: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام ما بال القرآن لا يزداد على النشر و

الدرس إلّا غضاضة؟ فقال عليه السّلام: لأن اللّه لم يجعله لزمان دون زمان فهو في كل زمان جديد و عند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة.

(3) بحار الأنوار ج 19 ص 22 ط. القديم باب أن للقرآن ظهرا أو بطنا- مع تفاوت يسير.

(4) قال الفيض في الصافي في المقدمة الرابعة بعد ذكر الحديث: أقول: المطّلع: (بتشديد الطاء المهملة و فتح اللام) مكان الاطّلاع من موضع عال، و يجوز أن يكون بوزن مصعد بفتح الميم و معناه أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه، و محصّل معناه قريب من معنى التأويل و البطن، كما أنّ الحدّ قريب من معنى التنزيل و الظهر.- تفسير الصافي ج 1/ 18 طبع الاسلامية بطهران.

(5) آل عمران: 7.

(6) تفسير العياشي ج 1 ص 11 ط. الإسلامية بطهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 43

الفصل الثاني

في حدود حروف القرآن و مطالعها و تخومها قد تظافرت الروايات على أنّ لكل آية بل لكل حرف من حروف القرآن حدّا و مطلعا، و أنّ له تخوما و لتخومه تخوما، و قد مرّ خبر العياشي و غيره في اشتماله على الحدّ، و المطلع، و الظهر و البطن.

و

في «الكافي» و «تفسير العياشي»: إنّ القرآن له ظهر و بطن، فظاهره حكم، و باطنه علم ظاهره أنيق، و باطنه عميق، له تخوم، و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه «1».

و

في «المحاسن» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا و معاني، و ناسخا، و منسوخا، و محكما، و متشابها، و سننا، و أمثالا، و فصلا، و وصلا، و أحرفا، و تصريفا، فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك و أهلك «2».

قيل: المراد أنّه ليس

بمبهم على كل حدّ، بل يعلمه الإمام و من علّمه إياه من قبل.

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 3 ط. الإسلامية بطهران.

(2) المحاسن ص 270، وسائل الشيعة ج 18 ص 141 أبواب صفات القاضي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 44

و

من طريق العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله إن للقرآن ظهرا و بطنا وحدا و مطلعا «1».

و

عنه عليه السّلام: إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر و بطن و لكل حد مطلع «2».

و

في رواية: و لكل حرف حد و مطلع «3»

و

عنه عليه السّلام: إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطن الى سبعة أبطن «4».

و

عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ما من آية إلّا و لها أربعة معان ظاهر، و باطن، و حد و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحد هو أحكام الحلال و الحرام، و المطّلع هو مراد اللّه من العبد بها «5».

أقول: في النهاية الأثيرية: إنّ في الخبر في ذكر القرآن لكل حرف حدّ، و لكل حد مطلع، أي لكل حرف مصعد يصعد اليه من معرفة علمه، و المطلع مكان الاطلاع من موضع عال يقال مطلع هذا الجبل من مكان كذا أي مأتاه و مصعده. و قيل: معناه أنّ لكل حدّ منهتكا ينتهكه مرتكبه، أي إنّ اللّه لم يحرّم حرمة إلّا علم أن سيطلعها مستطلع. و يجوز أن يكون لكل حرف مطلع على وزن مصعد و معناه. و منه حديث عمر: لو أنّ لي ما في الأرض جميعا لافتديت به هول المطلع يريد به الموقف يوم القيامة، أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال.

و في القاموس: المطّلع

للمفعول: المأتي و موضع الاطّلاع من إشراف الى انحدار، و قول عمر: لافتديت به من هول المطلع، تشبيه لما يشرف عليه من أمر الآخرة بذلك، و

في الحديث ما نزل من القرآن آية إلّا لها ظهر و بطن، و لكل حرف

______________________________

(1) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(2) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(3) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(4) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران.

(5) تفسير الصافي ج 1 ص 18 ط. الإسلامية بطهران. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 45

حد و لكل حدّ مطلع

أي مصعد يصعد اليه من معرفة علمه، و بكسر اللام القوى العالي القاهر «1» قلت: الوجه الأول المذكور في «النهاية» كأنّه بالفتح و التشديد كالأول من القاموس أيضا، و الوجه الثاني المستفاد من الأول التخفيف، و الثالث المستفاد من الثاني الكسر و التشديد، و معناه على فرض احتماله في المقام أنّ لكل حد من الحدود الشرعية وليّا قويّا قاهرا يقوم بإقامته على مستحقه.

ثمّ إنّه قد فسّر الحد في العلوي المتقدم بأحكام الحلال و الحرام، و المطلع بمراد اللّه تعالى من العبد بها أي بتلك الأحكام أو بتلك الآية، و لعل الثاني أظهر، و المراد بقوله لكل آية حدّ اشتماله على حكم من الأحكام الشرعية الفرعية من الحلال و الحرام و إن كانت الآية بحسب الظاهر من القصص و المواعظ و غيرها مما لا يستفاد لنا منها شي ء من الأحكام، أو أنّ لها حكما من حيث التحقق و التخلّق و الاتّصاف، أو القبول و التصديق أو غير ذلك، و الأول أنسب، و معه فالمراد بالمطلع المفسر في الخبر إنما هو

التحقق و التخلق و تحصيل الملكات الفاضلة المطلوبة التي هي مراد اللّه من العبد بتلك الخطابات و الأحكام، و يحتمل أيضا أن يكون الظاهر و الباطن للآية من حيث نفسها بأن يراد بهما النوع و إن انتهى أحدهما أو كلاهما الى السبعين أو أكثر، و الحدّ و المطلع لها بالنسبة الى تكاليف المكلّفين، و أحكامهم و حدود استعدادهم و قابليّاتهم المقتضية لاختلاف أحكامهم و لو باختلاف في شرائط التكليف من العلم و القدرة و غيرهما مما يرجع الى اختلاف الموضوع، فلكل آية لكل واحد من آحاد المكلفين حدّ هو حكمه، و إن اشتركت ألوف منهم في حكم واحد لكونهم من مصاديق موضوع واحد، و لها

______________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس تأليف الزبيدي ج 5 ص 442.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 46

مطلع و هو التحقق بذلك الحكم من حيث الامتثال و القبول، و لاختلاف أحكام المكلّفين حينئذ حسبما سمعت

ورد أن لكلّ حدّ مطلعا

كما في بعض الأخبار المتقدمة.

و أن يراد بالظهر تنزيل الآية و بالبطن تأويلها الذي جرت الآية فيه بعد وقوعه حسبما مرّت إليهما الإشارة، و بالحد حدود الاستقامة التي ينفتح منها أبواب البواطن، بحيث يحصل من الانحراف فيها اعوجاج النظر و سوء الفهم و عدم الوصول الى المطلوب، و بالمطلع الإشراف و الاطلاع على تلك البواطن و الحقائق المقصودة و الإحاطة بها علما أو التحقّق بها عملا.

و أمّا ما في «الصافي» من أنّ محصّل معنى المطلع قريب من معنى التأويل و البطن كما أنّ معنى الحد قريب من معنى التنزيل و الظهر، فلعله بعيد جدّا سيما بعد المقابلة في النبوي و العلوي المتقدمين، بل و اختلاف التفسير في الثاني.

و أغرب منه ما حكاه في

الحاشية من بعض أهل المعرفة بعد النبوي المتقدم المشتمل على نزول القرآن على سبعة أحرف إلخ .. من أنّ الوجه في انحصار الأحرف في السبعة أنّ لكل من الظهر و البطن طرفين فذاك حدود أربعة، و ليس لحد الظهر الذي من تحته مطلع، لأنّ المطلع لا يكون إلّا من فوق فالحد أربعة و المطلع ثلاثة و المجموع سبعة «1».

قلت: و هو كما ترى.

و أمّا ما يقال: من أن الحدّ الحكم، و المطلع ما يتوسّل به اليه أي دليله، أو

______________________________

(1) تفسير الصافي المقدمة الرابعة ج 1 ص 18 ط. الإسلامية طهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 47

أنّ الحدّ الثواب و العقاب، و المطلع الاطلاع عليهما في الآخرة فلا يخفى ضعفه.

نعم قد يقال: أنّ المراد بالظهر ما ظهر من المعنى الجلي المنكشف، و بالبطن ما بطن و لم يظهر على غير من نوّر اللّه قلبه بنور المعرفة، و بالحدّ طرفا الظهر و البطن و بالمطلع يصعد به اليه، فمطلع الظاهر العلوم العربية و أسباب النزول الخاص و العام و الناسخ و المنسوخ و أمثال ذلك، و مطلع الباطن تطهير النفس عن أدناس دار الغرور، و ترقيها بملازمة الطاعات و الرياضات الى عالم النّور.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 49

الفصل الثالث

اشارة

في المحكم و المتشابه اعلم أنّ الكتاب الكريم و إن اتصّف كلّه بل كلّ آية منه بكونه محكما أي محفوظا من الغلط، و فساد المعنى، و ركاكة اللفظ كما في قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «1» أو المعنى ضمنت الحكمة المطلقة التي هي مطابقة التدوين للتكوين.

و بكونه متشابها لأنه يشبه بعضه بعضا في جزالة اللفظ، و فصاحته، و صحة المعنى، و تصديق بعضه بعضا

كما في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «2» أي متماثلا فيما مرّو غيره بلا اختلاف و لا تناقض، وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3». إلّا أنّه من حيث وضوح الدلالة و خفائها بحسب أفهام أغلب الأنام ينقسم الى محكم و متشابه كما أشير اليه في قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «4»، و في أخبار مستفيضة بل متواترة تأتي الى بعضها الإشارة. و هما

______________________________

(1) هود: 1.

(2) الزمر: 23.

(3) النساء: 82.

(4) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 50

مأخوذان من الإحكام الذي هو الإتقان، و التشابه الذي هو تماثل المراد بغيره، فيحصل الاشتباه فيه، و إن اختلفوا في المراد بهما: فقيل: إنّ المحكم ما اتضّح معناه و ظهرت دلالته لكل عارف باللغة، و المتشابه ما لا يعلم المراد به إلّا بقرينة تدل عليه، فاللغات الغامضة لا توجب التشابه، و المجازات كلها منه على وجه و إن كان يمكن أن يفرق بين القرائن، حيث أن القرائن المتصلة سيما اللفظية منها لا تشابه معها أصلا.

و قيل: إنّ المحكم هو الناسخ أو ما لم ينسخ أو ما لم يخصّص و لم يقيّد أيضا، و المتشابه هو المنسوخ أو ما يشمل المخصّص و المقيّد.

و قيل: إنّ المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا، و المتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا.

و قيل: إنّ المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، و المتشابه هو المتكرر كقصة موسى و غيره.

و قيل: إنّ المحكم ما يعلم تعيين تأويله، و المتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة.

الى غير ذلك من الأقوال التي لا شاهد لها و لو

من جهة ظهور اللفظ، و انسباق المعنى منه، و لذا وقع الاختلاف في تعيين معناه حتى من أهل اللغة و إن كان اختلافهم ليس على محض اللغة بل باعتبار استيفاء الأقوال بعد وقوع الخلاف، و لذا اكتفى في «الصحاح» و «المصباح» على تفسير المتشابهات بالمتماثلات، و قال في «القاموس»: سورة محكمة غير منسوخة و الآيات المحكمات: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «1» الى آخر السورة، أو التي

______________________________

(1) الأنعام: 151- 153.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 51

تفسير الصراط المستقيم ج 2 99

أحكمت فلا يحتاج سامعها الى تأويلها لبيانها كأقاصيص الأنبياء «1».

أقول: و لعل قوله: الى آخر السورة توهّم منه، بل الأولى الآيات الثلاثة كما حكاه الرازي عن ابن عباس «2» و لعله أراد الإشارة اليه مع اشتمال ما بعدها من الآيات على ما هو من المتشابه قطعا كقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ «3» و غيره.

و في «النهاية» الأثيرية في حديث صفة القرآن هو الذكر الحكيم: أي الحاكم لكم و عليكم، و هو المحكم الذي لا اختلاف فيه و لا اضطراب، فعيل بمعنى المفعول فهو محكم، و منه حديث ابن عباس: قرأت المحكم على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يريد المفصّل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شي ء، و قيل: هو ما لم يكن متشابها لأنه أحكم بيانه بنفسه و لم يفتقر الى غيره «4».

و قال في شبه: في صفة القرآن آمنوا بمتشابهه، و اعملوا بمحكمه المتشابه ما لا يتعلق معناه من لفظه، و هو على ضربين: أحدها إذا ردّ الى المحكم عرف معناه، و الآخر ما لا سبيل الى معرفة حقيقته، فالمتتبع له متبع للفتنة، لأنّه لا يكاد ينتهي الى شي ء

تسكن نفسه اليه.

أقول: و هذه الأقوال و إن اختلفت بحسب الظاهر حتى عدّها بعضهم اختلافا في المعنى المقصود، و آخرون من تكثّر المعاني بل قد يظهر ذلك أيضا من الطريحي في مجمعة حيث فسّر المحكم في اللغة بالمضبوط المتفق. قال:

______________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس تأليف محمد مرتضى الزبيدي ج 8 ص 253.

(2) قال فخر الدين الرازي في تفسيره ج 7 ص 170: المسألة الثالثة في حكاية أقوال الناس في المحكم و المتشابه فالأوّل ما نقل عن ابن عباس أنه قال: المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام (قل تعالوا) الى آخر الآيات الثلاث.

(3) الأنعام: 158.

(4) مجمع البحرين كتاب الميم باب أوله الحاء- مادة حكم- ص 468.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 52

و في الاصطلاح على ما ذكره بعض المحققين يطلق على ما اتضح معناه و ظهر لكلّ عارف باللغة، و على ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص، أو منهما معا، و على ما كان نظمه مستقيما خاليا عن الخلل، و على ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا، و يقابله بكلّ من هذه المعاني المتشابه انتهى «1».

إلّا أنّها لعلّها ناشئة عن الاختلاف في التعبير عن بعض المصاديق بأن يكون المحكم ما اتّضح و ظهر دلالته على المعنى المقصود من المخاطبين، و المتشابه ما لم يتضح دلالته، للإبهام، أو الاشتراك، أو كون المفاد منه متعذر الإرادة، لمخالفته لما ثبت بالعقل أو النقل القاطع به كالآيات الدالّة على ثبوت الجوارح و الجهات للّه سبحانه، و ثبوت الإضلال و الجبر منه تعالى، و غيرها مما ثبت خلافه بالضرورة من الدين إذا لم تقم هناك قرينة على تعيين شي ء مما يخالف الظاهر، أو اتضّحت دلالته لكن

المعنى ليس مقصودا من المخاطبين لطروّ النسخ أو التخصيص و التقييد على وجه و إن كان الأظهر خلافه، كما أنّ اختلاف المكلّفين من حيث الشروط و الموانع الراجعة الى الموضوع أو الحكم لا مدخلية له في صيرورة الدلالة متشابهة.

و لعلّك بما سمعت أمكن لك الجمع بين تلك الأقوال المختلفة إلّا ما شذ منها بالحمل على ذكر بعض المصاديق بل بين الأخبار التي ربما يتراءى منها الاختلاف.

ففي تفسير العيّاشي بالإسناد عن مسعدة بن صدقة «2»: قال سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه، قال عليه السّلام: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهة «3» قال و في رواية: الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل

______________________________

(1) مجمع البحرين كتاب الميم باب من أوله الحاء- مادة حكم- ص 468.

(2) مسعدة بن صدقة عامي، و لكن رواياته في غاية المتانة و السداد، روى عن الصادق و الكاظم عليهما السّلام.

(3) تفسير العيّاشي ج 1 ص 11، بحار الأنوار ج 19 ص 94. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 53

به، و المتشابه الذي يشبه بعضه بعضا «1»

ففي قوله: ما يعمل به، دلالة على ما سمعت حيث إنّ العمل إنّما يكون بعد ظهور الدلالة و بقاء الحكم، و بانتفاء كلّ منهما يكون من المتشابه، و لا يقدح فيه اقتصاره في الخبر على الأوّل كما لا يقدح في الاقتصار في غيره على الثاني.

و لذا عبّر عنه بمن المفيدة للتبعيض

فيما رواه في «الكافي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم، و ذلك أنّ اللّه

تعالى يقول: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ «2» الآية، الى أن قال:

فالمنسوخات من المتشابهات، و الناسخات من المحكمات «3».

و الى ذلك ينظر ما

في الخبر الآخر: و المحكم ليس بشيئين إنما هو شي ء واحد فمن حكم بحكم ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عز و جل، و من حكم بحكم فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت «4»

و

في توحيد الصدوق و تفسير العياشي عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهة «5».

الى غير ذلك من الأخبار المنطبقة على ما سمعت، نعم هل الإحكام و التشابه من الصفات الذاتية أو الدلالة للآية أو اللفظ أو الدلالة، أو الإضافية بالنسبة الى أفهام المخاطبين فيختلف الوصف باختلاف أفهامهم و ادراكاتهم و درجاتهم، فيكون المحكم لشخص أو في زمان متشابها لغيره أو زمان آخر

______________________________

(1) تفسير العيّاشي ج 1 ص 10، بحار الأنوار ج 19 ص 30.

(2) آل عمران: 7.

(3) الكافي ج 2 ص 28، وسائل الشيعة ج 18 ص 134.

(4) الكافي ج 1 ص 242، وسائل الشيعة ج 18 ص 131.

(5) تفسير العيّاشي ج 1 ص 11، بحار الأنوار ج 19 ص 94.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 54

و بالعكس، و جهان يحتمل الأول، لظاهر قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «1» الظاهر في انقسام آياته الى القسمين بالنظر إليها قطع النظر عن الاعتبارات الخارجة و لظواهر الأخبار المتقدمة حسب التقريب المتقدّم مع أنّ في كثير منها بل في ظاهر الآية توصيفها بالوصفين المتغايرين المتمانعين في الصدق سيما صفتي الناسخة و المنسوخة. و يحتمل الثاني لإناطة الفرق على الفهم المختلف باختلاف الأشخاص

و الأحوال و الأزمنة، و لو بمعونة العلم بالقرائن المتصلة الحالية أو المقالية أو المنفصلة المشتملة على بيان المجمل و تخصيص العام و تقييد المطلق و غيره مع أنّ التأويل كلّه من المتشابه و ما من آية إلّا ولها تأويل.

بل

ورد في الخبر أنّه ما من آية إلّا ولها ظاهر و باطن و حدّ و مطلع «2»

، و قد مرّ أن البطون كلها من التأويل فلكل آية معنى متشابه و إن كانت من المحكمات بناء على أن مغايرة الوصفين إنما هي بالاعتبار، فلا تمانع في الصدق بل يمكن تنزيل التقسيم من الآية و غيرها على ذلك و إن كان لا يخلو عن ضعف، إذ لا منافاة بين انتفاء الظهور بالنسبة الى الدلالة اللفظية المبنيّة على القواعد المؤسّسة عن بعض الآيات و بين ثبوت التأويل للكلّ مع ثبوت الظهور للبعض، بل يضعّف حكاية الإناطة أيضا بأنّ المنوط به هو فهم أهل اللسّان المبنيّ على القواعد الممهّدة، فإذا الأوّل أظهر، و منه يظهر أنّه لا ملازمة بين المتشابه و الجهل بالمراد لجواز العلم بالتأويل و لو مع عدم سبق الجهل.

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2)

في البصائر ص 195 عن الصادق عليه السّلام ما من القرآن آية إلّا ولها ظهر و بطن إلخ .. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 55

تذييل

في الجواب عن إشكال الملاحدة على وجود المتشابهات في القرآن حكى الرازي في تفسيره عن بعض الملاحدة أنّهم طعنوا في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات و قالوا: إنّكم تقولون: إنّ تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن الى قيام القيامة، ثم أنّا نريه بحيث يتمسّك به صاحب كلّ مذهب على مذهبه. فالجبري يتمسّك بآيات الجبر كقوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً «1»، و القدري يقول: بل هذا مذهب الكفّار بدليل أنه تعالى حكى ذلك منهم في معرض ذمّهم في قوله:

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ «2» و في موضع آخر:

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ «3» و أيضا مثبت الرؤية يتمسّك بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «4» و النافي لها يتمسّك بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «5»، و مثبت الجهة يتمسّك بقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «6» و بقوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «7»،

______________________________

(1) الأنعام: 25، و الإسراء: 46.

(2) فصلت: 5.

(3) البقرة: 8.

(4) القيامة: 22.

(5) الأنعام: 103.

(6) النحل: 50.

(7) طه: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 56

و النافي لها يتمسّك بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «1».

ثمّ إنّ كلّ واحد يسمّي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة و الآيات المخالفة لمذهبه متشابهة، و ربما آل الأمر في ترجيح بعضها على البعض الى ترجيحات خفيّة، و وجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع اليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا، أليس أنّه لو جعله ظاهرا جليّا نقيّا عن هذه المتشابهات كان أقرب الى حصول الغرض «2».

ثمّ حكى عن العلماء وجوها في فوائد المتشابهات كأنّه جعلها جوابا عن السؤال المتقدم فذكر أولا: أنّه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول الى الحقّ أصعب و أشقّ، و زيادة المشقّة توجب مزيد الثواب، قال اللّه تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «3».

و ثانيا: لو كان القرآن محكما بالكلّية لما كان مطابقا إلّا لمذهب واحد، و كان تصريحه مبطلا لكل ما

سوى ذلك المذهب، و ذلك مما ينفّر أرباب المذاهب عن قبوله و عن النظر فيه فالانتفاع به إنّما حصل لما كان مشتملا على المحكم و المتشابه فحينئذ يطمع صاحب كلّ مذهب أن يجد فيه ما يقوّي مذهبه و يؤثّر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، و يجتهد في التأمّل فيه كلّ صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسّرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلّص المبطل عن باطله و يصل الى الحق.

______________________________

(1) الشورى: 11.

(2) تفسير فخر الدين الرازي ج 7 ص 171.

(3) آل عمران: 142.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 57

و ثالثا: أنّه إذا كان مشتملا على المحكم و المتشابه افتقر الناظر فيه الى الاستعانة بدليل العقل، و حينئذ يتخلّص عن ظلمة التقليد، و يصل إلى ضياء الاستدلال و البيّنة، أمّا لو كان كلّه محكما لم يفتقر إلى التمسّك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل و التقليد.

و رابعا: أنّه لاشتماله على الأمرين افتقر الناظر فيه الى تعلّم طرق التأويلات و ترجيح بعضها على بعض، و افتقر في تحصيل ذلك الى تعلّم علوم كثيرة من علم اللّغة و النحو و علم أصول الفقه، و لو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان الى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.

و خامسا: و هو السبب الأقوى (عنده) في هذا الباب أنّ القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواصّ و العوامّ بالكليّة، و طبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوامّ في أوّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم، و لا بمتحّيز، و لا مشار اليه، ظنّ أنّ هذا عدم و نفي، فوقع في التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا

بألفاظ دالّة على بعض ما يناسب ما يتوهّمونه و يتخيّلونه، و يكون ذلك مخلوطا بما يدّل على الحقّ الصريح، فالقسم الأوّل و هو الّذي يخاطبون به في أوّل الأمر يكون من باب المتشابهات، و القسم الثاني و هو الّذي يكشف لهم في آخر الأمر و هو المحكمات، فهذا ما حضرنا في هذا الباب و اللّه اعلم بمراده «1». هذه الوجوه و إن سبقه غيره من المفسّرين في جلّها أو كلّها بل يوجد في كلام بعض المفسّرين منّا إلّا أنها غير حاسمة لمادّة الأشكال، بل منها ما يؤيّد أصل السؤال، لضعف الأوّل بأن الوصول الى الحق حينئذ متعسّر بل

______________________________

(1) التفسير الكبير تأليف الفخر الرازي ج 7 ص 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 58

متعذّر للأكثر لعدم معرفة عامّة الناس بل و خاصّتهم أيضا بالتأويل الذي لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم فإناطة التبليغ و معرفة الحقائق به نقض للغرض، سيّما مع ما في النفوس من الانحرافات و الاعوجاجات و الميل الى الأهواء الباطلة و المذاهب الفاسدة التي لا تقوم بالمتشابهات عليهم الحجّة و لا تنقطع بها عنهم المعذرة.

و الثاني بأنّه ممّا يقرّر أصل السؤال و يزيد في الإشكال، فإنّ المقصد من إرسال الرسل و إنزال الكتب إنّما هو اجتماع الكلمة على الحقّ و استيصال الباطل و ردع أهل الضلال، فكيف يليق بصاحب الشريعة الإجمال في المرام و التشابه في الكلام كي يتشّبث به كلّ فريق من المبطلين، و يأوّله على مذهبه كل مبطل من المنتحلين، سيّما بأن يكون فتنة و مضلّة لأهل ملّته و المتدينين بدينه، و المنقادين لأمره.

فالمراد بأرباب المذاهب المذكور في كلامه إن كان أصحاب المذاهب المتخربة في هذا الدين ففتح باب

التأويل و الإلحاد و الاعتذار بالانحرافات الباطلة لهم شقّ لعصا كلمة الأمّة عن الحقّ الذي به يؤمنون، و ماذا بعد الحق الّا الضلال فأنّى يؤفكون.

و إن كان المراد الفرق الكافرة الّتي لم يسلموا أصلا كعبدة الأصنام و أهل الكتاب فالأمر أشنع و أفظع، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «1».

و الثالث و الرابع بأنّ مجرّد الاستعانة بدليل العقل و تحصيل مثل اللغة و النحو و الأصول كيف صارت غاية مقصودة حتى أوجب قصد التوصل

______________________________

(1) يونس: 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 59

إليها إخفاء الحق في جملة المذاهب المختلفة، و هل العلوم المذكورة إلّا من المبادي و المقدمات العامّة التي يتوقّف على العلم بها فهم عامّة المخاطبات العربيّة و إن لم تكن شرعية فالناس يطلبونها لمعرفة الخطابات الواردة في الكتاب و السنّة لكونها عربيّة لا متشابهة، على أن أسباب التشابه من الاشتراك اللفظي و المعنوي و خفاء القرائن و غيرها شايعة في ألسنة العرب، و أين هذا من خصوص ما أوجب افتراق المذاهب و الاختلاف في الدين.

و من جميع ما مرّ ظهر ضعف الخامس أيضا فإن التدرّج في الإرشاد إنّما هو بالإجمال و التفصيل لا بما يوهم الجبر و التجسّم و التعطيل.

و التحقيق في دفع الأشكال أن يقال إنّ اللّه تعالى قد بعث رسوله صلّى اللّه عليه و آله بالرّسالة و ختم به النبوة، و جعله حجّة على جميع العالمين، و جعل شريعته باقية في عقبه الى يوم الدين، و أنزل عليه كتابا جامعا لعلوم الأولين و الآخرين، بل حاويا لجميع الحقائق و المعارف و الأحكام و الحوادث مما كان أو يكون أبد الآبدين حسبما مرّت اليه الإشارة، و حيث إنّه صلّى اللّه عليه

و آله لم يتفرّغ في البرهة التي كان فيها بين الأنام لتبليغ جميع الأحكام، بل ساير المعارف التي لم تستعدّ أصحابه لقبولها و إدراكها لقرب عهدهم بالجاهلية الجهلاء، مع أنّهم أعراب عرباء أولو أحقاد و قسوة و جفاء، فلذا أودع علمها عند خليفته و وصيّه بل أودع عنده جميع معاني القرآن و بطونه و حقائقه، و أمر بحفظهما و اتباعهما و التمسك بهما معا و أنّهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض، و حيث إنّه علم أنّ من أمته من يرتدّ عن دينه، و يترك وصيته في خليفته، و ينازعه في أمر هو أحق من غيره، فلذا جعل اللّه سبحانه، ظاهر كتابه مشتملا على المحكم الذي لا يختلف فيه اثنان لظهوره و وضوحه، و على المتشابه الذي أخبر في كتابه أنّه لا يعلمه إلّا اللّه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 60

و الراسخون في العلم الذين هم حججه على عباده، و أمنائه في بلاده على ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله فيما ورد من طرق الخاصّة و العامّة، بل أخبر في كتابه: أنهم لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1».

فالمتشابهات هي الّتي يضطرّ الناس و يلجئهم إلى الإقرار و الإذعان بولاية أولياء الأمر الذين هم الباب و الحجّاب، و حملة الكتاب و فصل الخطاب لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «2»، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ «3». و لو كان القرآن كلّه محكما لتوهّموا أنّه مقصور على ظاهره الذي هو غير مشتمل إلّا على أقّل قليل من الأحكام، و لم يمكن الإحتجاج عليهم بأنّهم محتاجون في معرفة حقائق الكتاب، و شرايع الحلال و الحرام

الى الإمام عليه السّلام. و توهّم أنّه مع ذلك لم ينفع به من هداه اللّه بنور الإيمان ثم إنّ ما ذكرناه من الحكمة هو المستفاد من كلام أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام):

ففي المحكيّ عن تفسير النعماني بالإسناد عن الصادق عليه السّلام قال: إن اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله فختم به الأنبياء فلا نبيّ بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده الى أن قال: فجعله النبي صلّى اللّه عليه و آله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كل زمان حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، و ذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض و احتجّوا بالمنسوخ و هم يظنون أنّه الناسخ، و احتجّوا بالخاصّ و هم يقدّرون أنّه العامّ و احتجّوا بأوّل الآية و تركوا السنّة في تأويلها، و لم ينظروا الى ما يفتح الكلام و الى ما يختمه، و لم يعرفوا

______________________________

(1) النساء: 83.

(2) الأنعام: 33.

(3) النحل: 83. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 61

موارده و مصادره إذ لم يأخذوه من أهله، فضّلوا و أضلّوا، ثم ذكر عليه السّلام كلاما طويلا في تقسيم القرآن الى أقسام، و فنون، وجوه تزيد على مائة و عشرة الى أن قال عليه السّلام و هذا دليل واضح على أنّ كلام البارئ سبحانه لا يشبه كلام الخلق، كما لا تشبه أفعاله أفعالهم.

و لهذه العلّة و أشباهها لا يبلغ أحد معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه إلّا نبيّه و أوصيائه الى أن قال عليه السّلام ثم سئلوه عن تفسير المحكم من كتاب اللّه عزّ و جلّ فقال: أمّا المحكم الذي لم ينسخه شي ء من القرآن فهو قول اللّه

عزّ و جلّ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ «1» الآية، و إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه و لم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له التأويلات من عند أنفسهم بآرائهم، و استغنوا بذلك عن مسئلة الأوصياء، و نبذوا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وراء ظهورهم الخبر «2».

و

في الإحتجاج عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في إحتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من القرآن فأجابه الى أن قال عليه السّلام: و قد جعل اللّه للعلم أهلا و فرض على العباد طاعتهم بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3» و بقوله: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «4»، و بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «5»، و بقوله:

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) المحكم و المتشابه عن تفسير النعماني ص 5، وسائل الشيعة ج 18 ص 148.

(3) النساء: 59.

(4) النساء: 83.

(5) التوبة: 119. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 62

وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1»، و بقوله: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «2»، و البيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء، و أبوابها أوصيائهم، فكل عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي الأوصياء، و عهودهم، و حدودهم، و شرائعهم، و سننهم، و معالم دينهم مردود غير مقبول، و أهله بمحل كفر، و إن شملهم صفة الإيمان الى أن قال عليه السّلام بعد تأويل كثير من المتشابهات، و بيان غفير من المجملات: و إنما جعل اللّه في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره و غير أنبيائه

و حججه في أرضه لعلمه بما يحدثه المبدلّون، و تلبيسهم على الأمة فأثبت فيه رموزا و جعل أهل الكتاب المقيمين به العالمين بظاهره، و باطنه من شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي يظهر مثل هذا العالم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، الى أن قال عليه السّلام: ثم إنّ اللّه تعالى لسعة رحمته و رأفته بخلقه قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلّا من صفي ذهنه، و لطف حسه، و صح تمييزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلّا اللّه و أمناؤه الراسخون في العلم، و إنما فعل اللّه ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل من علم الكتاب ما لم يجعله اللّه لهم و ليقودهم الاضطرار الى الائتمار لمن ولّاه أمرهم الخبر «3».

بل فيه بطوله شواهد آخر على ما قدّمناه.

و

روى البرقي في «المحاسن» عن الصادق عليه السّلام في رسالته قال عليه السّلام: فأمّا ما سألت عن القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة، لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت، و كلّ ما سمعت فمعناه على غير ما ذهبت اليه،

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) البقرة: 189.

(3) بحار الأنوار ج 19 الطبع القديم باب 129 ص 122، الإحتجاج ص 130. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 63

و إنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون، دون غيرهم، و لقوم يتلونه حق تلاوته، و هم الذين يؤمنون به و يعرفونه، و أمّا غيره فما أشدّ إشكاله عليهم و أبعده من مذاهب قلوبهم و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّه ليس شي ء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن، و في ذلك

يتحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء اللّه، و إنّما أراد اللّه بتعميته في ذلك أن ينتهوا الى بابه و صراطه و أن يعبدوه و ينتهوا في قوله الى طاعة القّوام بكتابه، و الناطقين عن أمره، و أن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.

ثمّ قال عليه السّلام: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1»، فأما عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا و لا يوجد و قد علمت أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر، لأنّهم لا يجدون من يأتمرون عليه، و من يبلّغونه أمر اللّه و نهيه فجعل اللّه الولاة خواصّ ليقتدي بهم فافهم ذلك إنشاء اللّه، و إيّاك و إيّاك و تلاوة القرآن برأيك، فإنّ الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الأمور، و لا قادرين على تأويله إلّا من حدّه و بابه الذي جعله اللّه له الخبر «2».

و

في «الكافي» و «العلل» و «رجال الكشي» «3» بالإسناد عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اللّه أجلّ و أكرم أن يعرف بخلقه- إلى أن قال:- و قلت للناس: أليس تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان الحجّة من اللّه على

______________________________

(1) النساء: 83.

(2) المحاسن ص 268، وسائل الشيعة ج 18 ص 141.

(3) الكشي محمد بن عمرو بن عبد العزيز أبو عمرو، فقيه، رجالي، إمامي اشتهر بكتابه (معرفة أخبار الرجال) مات نحو 340، اختصر رجال الكشي شيخ الطائفة الطوسي و سماه إختيار الرجال و هو المعروف بين الناس اليوم. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 64

خلقه قالوا بلى، قلت: فحين مضى رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله من كان الحجة على خلقه؟ قالوا القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ، و القدري، و الزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلّا بقيّم فما قال فيه من شي ء كان حقا، فقلت لهم: من قيّم القرآن؟

فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، و عمر يعلم، و حذيفة يعلم، قلت: كلّه؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال: إنّه يعلم القرآن كلّه إلّا عليا، و إذا كان الشي ء بين القوم و يقول هذا لا أدري و هذا لا أدري فأشهد أنّ عليا كان قيّم القرآن، و كانت طاعته مفترضة، و كان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ فقال عليه السّلام: رحمك اللّه «1».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام: إنّ رجلا سأل أباه عن مسائل فكان ممّا أجابه به أن قال عليه السّلام: قل لهم: هل كان فيما أظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من علم اللّه اختلاف؟ فإن قالوا لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم فيه اختلاف، فهل خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقولون: نعم؟ فإن قالوا لا فقد نقضوا أوّل كلامهم فقل لهم: ما يعلم تأويله إلّا اللّه و الراسخون في العلم، فإن قالوا: من الراسخون في العلم؟ فقل: من لا يختلف في علمه، فإن قالوا: من ذاك؟ فقل: كان رسول اللّه صاحب ذاك، الى أن قال: و إن كان رسول اللّه لم يستخلف أحدا فقد ضيّع من في أصلاب الرجال ممّن يكونوا بعده قال و ما يكفيهم القرآن؟ بلى لو وجدوا له مفسّرا

قال: و ما فسّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال بلى فسّره لرجل واحد، و فسّر للأمة شأن ذلك الرجل، و هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، إلى أن قال: و المحكم ليس بشيئين إنما هو شي ء واحد، فمن حكم بحكم ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ، و من حكم

______________________________

(1) الكافي ج 1 ص 168، علل الشرائع ج 1 ص 183. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 65

بحكم فيه اختلاف فرأى أنه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت «1».

و

في خطبة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ علم القرآن ليس يعلم إلّا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله، و بصر به عماه، و سمع به صممه، و أدرك به ما قد فات، و حيي به بعد إذ مات، فاطلبوا ذلك من عند أهله و خاصّته فإنّهم خاصة نور يستضاء به، و أئمة يقتدى بهم، هم عيش العلم، و موت الجهل، و هم الذين يخبركم حلمهم عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي منها خبر دخول الصوفّية على مولانا الصادق عليه السّلام و احتجاجه عليهم لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار و الزهد المذكور في «الكافي» «3» و غيره من الأخبار فلاحظ، بل يدلّ عليه أيضا الأخبار المتواترة الدالّة على غموض علم القرآن، و النهي عن الخوض و التكلّم

______________________________

(1) الكافي ج 1 ص 242.

(2) يوجد ذيل الحديث في خطبتين من نهج البلاغة: الأولى خطبة 147 و الثانية خطبة 237.

(3)

الكافي ج 5 ص 65، وسائل الشيعة ج 18 ص 135 عن مسعدة

بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث احتجاجه على الصوفية لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار و الزهد، قال عليه السّلام: أ لكم علم بناسخ القرآن و منسوخه، و محكمه و متشابه الذي في مثله ضل من ضل، و هلك من هلك من هذه الأمة؟ قالوا: بعضه فأمّا كلّه فلا، فقال عليه السّلام لهم: فمن ها هنا أتيتم، و كذلك أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى أن قال عليه السّلام: فبئس ما ذهبتم اليه، و حملتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و أحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل وردكم إياها لجهالتكم و ترككم النظر في غريب القرآن من التفسير، و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و الأمر و النهي- الى أن قال عليه السّلام: دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردوا العلم الى أهله تؤجروا و تعذروا عند اللّه، و كونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه و محكمه من متشابه و ما أحلّ اللّه فيه مما حرّم، فإنّه أقرب من اللّه، و أبعد لكم من الجهل، دعوا الجهالة لأهلها، فإنّ أهل الجهل كثير، و قد قال اللّه تعالى: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 66

فيه بغير علم، و إيجاب ردّ علمه الى أهله، و إنه إنما يفهمه من خوطب به، و خبر الثقلين و إنّهما لا يفترقان الى غير ذلك مما يوجب الاضطرار الى الحجة.

هذا مضافا الى أنّ التشابه في البعض ممّا يوجب الاستعلام و الاضطرار للرّجوع إلى أبواب العلم و خزنة الوحي، و التلقّي منهم،

و به ينفتح لأهله باب معرفة القانون و المعيار الكلّي في الاستنباط حسبما نشير إليه إن شاء اللّه تعالى، بل ربما تكون الحقائق لغموضها و دقّة مسالكها و مبانيها و خفاء معانيها لا يمكن التعبير عنها إلّا بالعبارات المتشابهة الّتي لا تعرف العامّة منها إلّا المعاني المأنوسة في أذهانهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 67

الفصل الرابع

اشارة

في الناسخ و المنسوخ النسخ لغة الإزالة كقولهم: نسخت الشمس الظلّ أي أزالته، و منه نسخت الريح آثار القدم، و النقل و التحويل كقولهم: نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه الى كتاب آخر، و منه قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أي ننقله الى الصحف، بل منه أيضا ما قيل من تناسخ الأرواح لنقلها من بدن الى بدن آخر متنعمة فيه أن كانت محسنة، و معذّبة فيه أن كانت مسيئة، و تناسخ القرون انقراضها قرنا بعد قرن، و تناسخ المواريث نقلها و تحويلها من وارث الى غيره قبل القسمة.

و قد طال التشاجر بين الأصوليين و غيرهم في كون النسخ حقيقة في الأول كما عن المشهور، أو الثاني كما عن القفّال «2»، أو أنّه مشترك بينهما كما عن الشيخ

______________________________

(1) الجاثية: 29.

(2) القفّال عبد اللّه بن أحمد المروزي، فقيه، شافعي، كان وحيد زمانه فقها و حفظا و زهدا، كثير الآثار في مذهب الشافعي، و كانت صنعته عمل الأقفال، ولد سنة 327 و توفي بسجستان سنة 417.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 68

أبي جعفر الطوسي قدس سرّه «1» و الباقلاني «2»، و الغزالي «3»، و الآمدي «4»، إلّا أنّ الأخير قيّده بأن لا يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدّل صفة وجوديّة فهو رابع المذاهب، و خامسها التوقّف كما عن جماعة، و

لم يصّرحوا بإرادة الاشتراك لفظا أو معنى، و ظاهر كلامهم بل الاستدلال بالاستعمال الظاهر في الحقيقة الأول، و لذا أجابوا عنه بأنه أعم، و أنّ الأظهر الأخير فهو السّادس، بل لعلّه يظهر من

______________________________

(1) شيخ الطائفة المحقة، و رافع إعلام الطريقة الحقة محمد بن الحسن بن علي الطوسي، فقيه، محدث، مفسّر، أصولي، ولد سنة 385 هو انتقل من خراسان الى بغداد سنة 408 هو أقام أربعين سنة و رحل الى الغري، أحرقت كتبه عدة مرات بمحضر من الناس، له تصانيف قيّمة في العلوم الإسلامية كالتبيان في التفسير، و النهاية في الفقه، و التمهيد في الأصول، و العدّة فيه أيضا، المبسوط في الفقه و الإستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار و التهذيب و غيرها، كان فضلاء تلامذته الذين كانوا، مجتهدين يزيدون على ثلاثمائة من الخاصة و العامة، توفي بالنجف سنة 460 ه قال صاحب الصراط المستقيم في نخبة المقال: في ترجمة الشيخ: محمد بن الحسن الطوسي أبوجعفر الشيخ الجليل أنجب

جل الكمالات إليه ينتسب تنجز القبض و عمره عجب

460 75

(2) القاضي الباقلاني محمد بن الطيب من كبار علماء الكلام، و ناصر طريقة الأشاعرة و انتهت رئاستهم اليه و هو الذي ناظر الشيخ المفيد قدّس سرّه و غلب عليه الشيخ فقال: الباقلاني: أ لك في كل قدر مغرفة فأجاب الشيخ نعم ما تمثلت بأدوات أبيك. ولد الباقلاني في البصرة 338 و توفي ببغداد سنة 403 ه.

(3) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، فقيه، شافعي تلمذ بنيشابور على إمام الحرمين حتى صار مشارا بالبنان، و صنّف كتبا كثيرة كالبسيط، و الوسيط، و الوجيزة في الفقه، و الجام العوام في علم الكلام، التبر المسكوك في نصيحة الملوك، و

المقصد الأسنى في شرح الأسماء، و أحياء العلوم في تهذيب الأخلاق على طريقة الصوفية، و غيرها توفّي بالطايران (قرية بطوس) سنة 505 و دفن هناك.

(4) الآمدي بكسر الميم (منسوب الى الأمد هو بلد من بلاد الجزيرة) يمكن أن يكون مراده بالأمدي علي بن محمد بن عبد الرحمن أبا الحسن البغدادي: فقيه حنبلي، بغدادي الأصل و المولد، نزل (آمد) بديار بكر سنة 450 ه و توفي به سنة 467 له عمدة الحاضر و كفاية المسافر في الفقه نحو أربع مجلدات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 69

كلمات أهل اللغة و لذا قال الفيّومي في مصباحه: نسخت الكتاب نسخا من باب نفع نقلته، و استنسخته كذلك.

ثم حكى عن ابن فارس «1»: أن كل شي ء خلّف شيئا فقد انتسخه فيقال انتسخت الشمس الظل، و الشيب الشباب أي أزاله، و كتاب منسوخ و منتسخ أي منقول، و النسخة الكتاب المنقول منه انتهى، حيث نبّه على أصل الباب و جعل منه انتساخ الشمس بل نسخ الكتاب أيضا، و إن كان تفسيره به بل بالنقل الذي اشتهر التمثيل به في المقام لا يخلو عن تسامح فإنه ليس نقلا حقيقة، بل حكاية لألفاظه و خطّه و لو بخطّ يخالفها.

و لذا قيل: إنّ الاستعمال لعلاقة المشابهة، بل لعلّه الظاهر أيضا ممّا ذكره شيخنا الطبرسي رحمه اللّه قال: النسخ في اللغة أبطال شي ء و إقامة آخر مقامه، يقال نسخت الشمس الظلّ أي أذهبته و حلّت محله، و قال ابن دريد «2»: كل شي ء

______________________________

(1) أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي من أئمة اللغة و الأدب، قرء عليه البديع الهمداني و الصاحب بن عبّاد، له تصانيف نفيسة: منها مقاييس اللغة و جامع التأويل في تفسير القرآن و

فقه اللغة، ولد سنة 329 و توفي سنة 395 و من شعره: قد قال فيما مضى حكيم ما المرء إلّا بأصغريه

فقلت قول امرء لبيب ما المرء إلّا بدرهميه

من لم يكن معه درهماه لم يلتفت عرسه اليه

و كان من ذلة حقيرايبول سنّوره عليه

(2) محمد بن الحسن بن دريد الأزدي من أئمة اللغة و الأدب، كانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء و أعلم الشعراء، ولد في البصرة سنة 223 و انتقل الى عمّان فأقام اثني عشر عاما و عاد الى البصرة ثم رحل الى نواحي فارس و كان شيعيا و له في أهل البيت عليه السّلام أشعار منها: أهوى النبي محمّدا و وصيّه و ابنيه و ابنته البتول الطاهرة

أهل العباء فإنني بولائهم أرجو السلامة و النجا في الآخرة تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 70

خلّف شيئا فقد انتسخه، و انتسخ الشيب الشباب، و تناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة و أصل الباب الإبدال من الشي ء غيره، و أمّا ما ربما يظهر من «القاموس» من التعدّد و التغاير حيث قال: نسخه كمنعه أزاله و غيّره و أبطله، و أقام شيئا مقامه إلخ. فلعلّه من حيث المورد و المتعلق.

و على كلّ حال فالخطب فيه سهل كسهولته في أنّه حقيقة هل هو الإبطال و الإزالة كما يلوح عن بعض، أو إقامة الغير مقام المزال كما يظهر من آخرين، أو الأمران معا كما عن الراغب «1» الأصفهاني في «المفردات» حيث قال: إنّه لغة إزالة الصورة عن الشي ء و إثباتها في غيره كنسخ الظل للشمس، ثمّ يقال في إزالة الصورة من غير إثباتها في غيره نحو قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ «2»، و يقال أيضا في

إثبات مثل هذه الصورة في الغير من غير إزالتها عن الأوّل كنسخ الكتاب و هو إثبات ما فيه في محلّ آخر «3».

______________________________ و أرى محبّة من يقول بفضلهم سببا يجير من السبيل الجائرة

أرجو بذاك رضي المهيمن وحده يوم الوقوف على ظهوره الساهرة

توفّي ابن دريد سنة 321 ه.

(1) الراغب الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني، أديب من أهل أصفهان سكن بغداد و اشتهر حتى كان يقرن بالغزالي له تصانيف قيّمة كمحاضرات الأدباء و الذريعة الى مكارم الشريعة و جامع التفاسير كبير أخذ عنه البيضاوي في تفسيره، و حلّ متشابهات القرآن و المفردات في غريب القرآن و هو من أجل كتبه و أجز لها فائدة و هو في الواقع تفسير جامع لما ورد في القرآن الكريم من الكلمات الصعبة توفىّ الراغب سنة 502.

(2) الحج: 52.

(3) المفردات ص 490 قال: النسخ إزالة شي ء بشي ء يتعقبه كنسخ الشمس الظل الشمس، و الشيب الشباب فيفهم منه الإزالة و تارة منه الإثبات و تارة منه الأمران و نسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقبه قال تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) قيل معناه ما نزيل العمل بها أو نحذفها عن قلوب العباد، و قيل: معناه ما نوجده و ننزله من قولهم نسخت الكتاب و ما ننساه أي نؤخره فلم ننزله (فينسخ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 71

بل و كسهولته أيضا في معناه الشرعي المتشرعي الذي اختلفوا فيه على أقوال عديدة لا يسلم جلّها أو كلّها عن وصمة الخلل التي لا تقدح في مثل هذه التعاريف التي ليس المقصود بها إلّا تحصيل نوع المعرفة أو المعرفة بالنوع، و لعلّ أسلمها من بعض الوجوه ما يحكى عن الفاضل العلّامة أعلى

اللّه مقامه. من إنه رفع الحكم الشرعي بدليل متأخّر على وجه لولاه لكان ثابتا، إلّا أن هذا هو نسخ الحكم الذي يبحث عنه الأصوليون، و إنما نبحث عن خصوص نسخ الآية حكما، أو تلاوة، أو معا بأن يخرج عن كونها كتابا و قرآنا محتوما، و إن قيل بإمكان إدراجه في نسخ الحكم الى رفعه فهو حقيقة في نسخ الحكم، لكنّه كما ترى لا يخلو من تكلّف، و لذا احتمل أيضا الاشتراك اللفظي و التجوّز لوجود العلاقة المصحّحة.

نعم قد يفرق بين النسخ و الإنساء باختصاص الأول برفع الحكم، و أمّا الثاني فهو رفعه و رفع التلاوة معا، و قيل: إنّ النسخ إذهاب الى بدل، و الإنساء إذهاب لا الى بدل، و ردّ بقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «1». لظهوره في الإتيان بالبدل، و ستسمع تمام الكلام عند تفسير الآية إن شاء اللّه تعالى.

نعم ينبغي أن يعلم أنّه مغاير للتخصيص «2» و التقييد و البيان للمجمل ضرورة

______________________________

اللّه ما يلقي الشيطان) و نسخ الكتاب نقل صورته المجردة الى كتاب آخر، و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة إلخ فما نقله المصنف في المفردات منقول بالمعنى.

(1) البقرة: 106.

(2) و قد أطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب الى ابن عباس. قال زعيم الحوزة العلمية آية اللّه أبو القاسم الخوئي في تفسيره القيّم (البيان): النسخ في اللّغة هو الاستكتاب،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 72

في الأخيرين، و أمّا الأوّل و إن قيل باشتراكه معه بأنّ كلّ واحد منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض ما يتناوله اللفظ لغة، إلّا أنّه

قد فرّق بينهما بأنّ التخصيص يبيّن أن الخارج به عن العموم لم يرد المتكلم بلفظه الدلالة عليه، و النسخ يبيّن أنّ الخارج به لم يرد التكليف به، و إن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه، و بأنّ التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد و النسخ قد يرد، و أنّ النسخ لا يكون في نفس الأمر إلّا بخطاب من الشارع بخلاف التخصيص، فإنّه يجوز بكل دليل عقلي أو سمعي، ظنيّ أو قطعيّ، و أنّ الناسخ لا بدّ أن يكون متراخيا عن المنسوخ بخلاف المخصّص فإنه يجوز أن يتقدّم العامّ و يقارنه و يتأخر عنه، و أنّ التخصيص لا يخرج العامّ عن الإحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان، لأنّه يبقى معمولا به فيما عدى صورة التخصيص بخلاف النسخ، فإنّه قد يخرج الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكليّة عند ما إذا ورد النسخ بمأمور به واحد، و أن النسخ يرفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص، و لذا قيل إنّ النسخ رفع و التخصيص دفع، لكنّه بناء على الظاهر، إذ في الحقيقة كلاهما دفع على ما قرّر في محلّه، و أنّه يجوز نسخ شريعة بشريعة، و لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى، و أنّ العامّ يجوز نسخه حتى لا يبقى منه شي ء بخلاف التخصيص، و أنّ النسخ تخصيص الحكم ببعض الأزمان، و التخصيص قد يكون بإخراج بعض الأزمان و قد يكون بإخراج بعض الأعيان و بعض الأحوال فيكون أعمّ من النسخ، و أنّ التخصيص يقع بالعقل و النسخ لا يقع به، و أنّه يقع نسخ فعل

______________________________

كالاستنساخ، و بمعنى النقل و التحويل، و منه تناسخ المواريث و الدهور، و بمعنى الإزالة، و منه نسخت

الشمس الظلّ، و قد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة و التابعين فكانوا يطلقون على المخصّص و المقيّد لفظ الناسخ. (البيان في تفسير القرآن ص 295).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 73

بفعل دون التخصيص، و أنّ التخصيص يقع بالمخصّصات المتصلة و الخبر الواحد و غيره من الأدلّة فيجوز تخصيص القطعي بالظني دون النسخ، و أنّ النسخ لا بد أن يقع فيما علم بالإجماع أو الضرورة دون التخصيص، و أنّ النسخ لا بد أن يكون في زمن وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله دون التخصيص، فيقع بعده، إلى غير ذلك من الوجوه الّتي لا يخفى عليك ضعف بعضها، و رجوع جملة منها إلى غيرها، و إن كان بعض منها في محلّه.

فما ربما يقال من نفى المغايرة رأسا و رجوع النسخ الى التخصيص، بل كونه من أفراده مطلقا إن كان هناك عموم أزماني و عن أفراد التقييد إن كان هناك إطلاق.

ضعيف جدّا مردود باستقرار الاصطلاح من الشارع أو المتشرعة الذي لا مشاحّة فيه على خلافه، و بظهور المغايرة جدّا من عدم الاكتفاء بأحدهما عن الآخر في أخبار كثيرة

كالمرويّ عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته المحكي في «النهج»: خلّف فيكم كتاب اللّه مبيّنا حلاله و حرامه و فرائضه و فضائله، و ناسخه و منسوخه، و رخصه و عزائمه، و خاصّه و عامّه الخطبة «1»

و

في خطبة أخرى بعد ما سئل عن أحاديث البدع الى أن قال: و آخر رابع لم يكذب على اللّه و لا على رسوله الى أن قال: بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه و لم ينقص منه، و حفظ الناسخ فعمل به، و حفظ

المنسوخ فجنّب عنه، و عرف الخاصّ و العامّ فوضع كلّ شي ء موضعه «2».

______________________________

(1) الخطبة الأولى

من نهج البلاغة قال عليه السّلام: و خلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم، كتاب ربكم مبيّنا حلاله و حرامه إلخ.

(2)

الخطبة (201) من نهج البلاغة أولها إنّ في أيدي الناس حقا و باطلا، و صدقا و كذبا. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 74

فنبّه عليه السّلام على التغاير مضافا الى التقابل بأنّ حقّ الناسخ العمل و المنسوخ الاجتناب، و أمّا الخاصّ و العامّ فيوضع كلّ منهما موضعه.

و

في «العيون» عن مولانا الرضا عليه السّلام في كتابه الى المأمون في حديث محض الإسلام الى أن قال بعد ذكر الكتاب: نؤمن بمحكمه، و متشابهه، و خاصّه و عامّه، و وعده، و وعيده، و ناسخه، و منسوخه «1».

و

في «الكافي» عن سليم بن قيس: إنّ في أيدي الناس حقّا و باطلا، و صدقا و كذبا، و ناسخا و منسوخا، و عامّا و خاصّا، و محكما و متشابها إلى أن قال فإن أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله مثل القرآن منه ناسخ و منسوخ، و خاصّ و عامّ، و محكم و متشابه، إلى أن قال: فما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آية من القرآن إلّا أقرأنيها و أملأها عليّ فكتبتها بخطي، و علّمني تأويلها و تفسيرها، و ناسخها، و منسوخها، و محكمها، و متشابهها، و خاصّها، و عامّها «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة في ذلك، بل الأمر واضح من أن يحتاج الى الأطناب فيه بذكر الشواهد عليه.

و أمّا إنّ النسخ هل هو رفع للحكم الشرعي الثابت بالخطاب، أو الدليل

السابق المقتضي لشموله في الزمن اللاحق أيضا بظهوره لظاهر الأدلة، أو أنّه بيان لانتهاء مدة الحكم لما استدلّوا به من الوجوه الضعيفة التي لا يليق بالتعرّض، أو أنّ النزاع في ذلك لفظي لابتناء الأول على الظاهر و الثاني على الواقع، أو لغير ذلك، أو أنّه مبنّي على تحقيق التكليف فإن كان مرجعه الى الإرادة الحقيقية أعني

______________________________

(1) عيون الأخبار ج 1 ص 131، وسائل الشيعة ج 18 ص 140.

(2) الكافي ج 1 ص 62، نهج البلاغة فيض الإسلام (201) ص 656.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 75

محبوبية الفعل و الرضا به واقعا تعيّن أن يكون النسخ كاشفا عن ارتفاع الحكم بالنسبة إلى زمن النسخ، و مفيدا لانقضاء أمده، و لا يمكن كونه رفعا للحكم الثابت في زمن النسخ لاستلزامه البداء بالمعنى الممتنع في حقّه سبحانه، و أن كان المراد به بعض الأمور الاعتبارية كالإلزام و جعل الثواب و العقاب، أو الأعمّ من الأول أمكن كونه رفعا للحكم الثابت في زمن الرفع لولاه، و غير ذلك من مباحث النسخ فالكافل لتحقيق الكلام فيها هو أصول الفقه، و إنّما نقتصر في المقام على البحث في أمرين:

الأوّل في جواز النسخ عقلا، الثاني في وقوعه شرعا.

و هو أي وقوعه شرعا و إن كان مقطوعا به مدلولا عليه بعد الأصل بالضرورة القطعيّة من المذهب بل الدين، إلّا أنّها لا تنهض حجة على اليهود حيث خالفت في الأول، و إن نهضت على أبي مسلم الأصفهاني «1» من العامّة حيث خالف في الثاني، نعم قد يحكى عن بعض اليهود أيضا المخالفة فيه خاصّة.

و بالجملة فيدلّ على الأول أنّه لا مانع منه عقلا فيجوز وقوعه، بل قد يدعّي العلم الضروري عليه أيضا و هو

كذلك، على أنّ أفعاله تعالى إما أن تكون معللة بالأغراض و المصالح و الحكم كما عن الإمامية، و تبعهم فيه المعتزلة فالمصالح تتغيّر بتغير الأزمنة كما يتغيّر بتغيّر الأشخاص، فكما يجوز أن يأمر زيدا

______________________________

(1) أبو مسلم الأصفهاني، أبو مسلم: وال من أهل أصفهان. معتزلي من كبار الكتّاب. كان عالما بالتفسير:

و بغيره من صنوف العلم، و له شعر، ولي أصفهان و بلاد فارس، للمقتدر العبّاسي، و استمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة 321 ه، فعزل. من كتبه «جامع التأويل» في التفسير أربعة عشر مجلدا، و مجموع رسائله، ولد أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني سنة 251 و توفي سنة 322 ه (إرشاد الأريب ج 6 ص 420، الأعلام للزركلي ج 6 ص 273).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 76

بشي ء و ينهى عمروا عنه بعينه في زمان آخر، لاختلاف المصالح بالوجوه و الاعتبارات التي من أعظمها مقتضيات الأزمنة الناشئة منها أو حدوث الطوارئ فيها.

أو لا تكون معلّلة بها كما عن الأشاعرة فالأمر أوضح فإنّه حينئذ يفعل ما يشاء كيف يشاء، و يغيّر و يبدّل حسب إرادته و مشيئته، فلا مانع من أن يأمر بشي ء قد نهى عنه سابقا أو بالعكس لتساوي نسبة الأمرين إلى فعله سبحانه.

هذا مضافا إلى أنّ الامتناع أمّا أن يكون ناشئا من ذاته أو ممّا يترتّب عليه و كلاهما فاسد.

أما الأوّل فلأن النسخ إمّا رفع ظاهر، أو بيان أمد الحكم و انتهائه، و قد قضت الضرورة الفعلية بأنّه ليس شي ء منهما من الممتنعات الذاتية.

و أمّا الثاني فإن كانت من جهة تأخير البيان عن وقت الخطاب فقد قرّر في الأصول جوازه، أو من جهة اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة فقد سمعت الكلام فيه على الوجهين،

أو من جهة أخرى فلا يدرك العقل شيئا يقتضي الامتناع، بل الإنصاف إنّه يدرك عدمه.

و أمّا ما يقال سندا للمنع، أو حكاية عن المانع من أنّ الفعل إن كان حسنا قبح النهي عنه، و إن كان قبيحا قبح الأمر به، ففيه أنّ الحسن و القبح على القول بهما حسبما ما هو المقرّر عند الإمامية كما يكونان بالذات كذلك يكونان بالوجوه و الاعتبارات، و قد سمعت أنّه قد يتغيّر المصالح بتغيّر الأزمنة، ألا ترى أنّ الطبيب قد يأمر المريض بشي ء من الأغذية أو الأدوية ثمّ ينهاه عنه، أو بالعكس، فحفظة الشرع الذين هم أطباء النفوس ربّما يأمرون الناس بشي ء في زمان، و ينهونهم عنه في زمان لعلمهم بما هو أقرب إلى السداد و أبعد عن الفساد،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 77

و أحرى بمصالح العباد، هذا كلّه مضافا إلى جميع ما يأتي ممّا يدلّ على الوقوع فإنّه أدلّ دليل على الجواز.

و أمّا وقوع النسخ شرعا أعمّ من هذه الشريعة و غيرها من الشرائع و إن كان قد يعبّر عن صنف بالنسخ في الشريعة، و عن آخر بنسخ الشريعة، و الأخير لا يتطرق إلى الأوّل لضرورة الخاتمية. فتدلّ عليه الضرورة القطعية من هذا الدين بل من سائر الأديان على تجدّد الشرائع و اختلاف الأحكام بحسب اختلاف المصالح في الأزمنة و مقتضياتها التي من أجلها اختلف الشرائع و التكاليف بحسب الأزمنة و غيرها.

و توهم اتحاد الشرائع و أنّ الأنبياء إنما بعثوا لتجديد الشرائع السالفة، و تذكير الناس بها بعد اندراسها بينهم مدفوع بأنّه و إن كان بعض الأنبياء مبعوثين لذلك كأنبياء بني إسرائيل المجدّدين لمذهب موسى عليه السّلام، و كأوصياء عيسى عليه السّلام المجدّدين لمذهبه، بل و كذا أوصياء

كل نبّي من الأنبياء إلّا أنّ القول به على سبيل الكليّة مخالف للضرورة القطعية. إذ من المعلوم بديهة أنّ ما جاء به نبيّنا خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله بل و كذا ما جاء به سائر الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام لم يكن بيانا و تجديدا لشريعة أبينا آدم عليه السّلام، ضرورة أنّ كتابه هو حروف التهجي و شريعته بعض الأمور المتعلّقة بالفلاحة و نحوها، و إن كانت مشتملة على بعض العبادات أيضا.

و دعوى أنّ بناء كل شريعة من الشرائع على زيادة شي ء من الأحكام على الشريعة السابقة لا نسخ شي ء منها و إبطالها، مدفوعة بأنّه التزام للإبطال أيضا و لو لمثل حكم الإباحة و نحوها.

على أنّ التأمل في أحكام الشرائع و تجددها يوجب القطع بما سمعت بحيث لا يبقى معه مجال لهذه الخيالات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 78

و أمّا ما يقال من أنّا لا نسلّم أنّ نبوّة نبينا صلّى اللّه عليه و آله بل و غيره من الأنبياء عليهم السّلام لا يصحّ إلّا مع القول بالنسخ، لاحتمال أن يكون شرع من سبقه محدودا إلى بعثته، إذ من الجائز أنّ موسى و عيسى عليهم السّلام أمر الناس بشرعهم إلى ظهور محمد صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ بعد ذلك أمرا الناس بإتباع شرعه فبعد ظهوره زال التكليف بشرعهما و حصل التكليف بشرع محمد صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى أمرهما، و مثله لا يكون نسخا، بل جاريا مجرى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «1» بل قيل: إنّ المسلمين الذين أنكروا وقوع النسخ أصلا بنوا مذهبهم على هذا الكلام، نظرا إلى أنّه قد ثبت في القرآن أنّ موسى و عيسى بشّرا في التوراة و

الإنجيل بمبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ بالفتح عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه، و معه يمتنع الجزم بالنسخ.

ففيه أنّا لا نعني بالنسخ إلّا زوال الحكم الثابت سابقا، و إبطاله بعد ثبوته و التعبّد به، بلا فرق بين كون الحكمين في شريعة واحدة، أو في شريعتين، و لا بين الإخبار بزواله و عدمه، فكلّ من الكليم و المسيح عليهم السّلام و إن بشّرا قومهما برسول يأتي من بعدهما اسمه أحمد، و أمرا الناس باتّباع الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف، و ينهاهم عن المنكر و يحلّ لهم الطيبات و يحرّم عليهم الخبائث، و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم، إلّا أنّ هذا إخبار منهما ببطلان حكم شريعتهما بعد قدومه، لا أنّ التديّن بشريعته صلّى اللّه عليه و آله من أحكام شريعتهما، بل كونه إخبارا عن انتهاء حكم شريعتهما بشريعته لا يخرجه عن النسخ كما توهم، بل كأنّه إختيار لأحد

______________________________

(1) البقرة: 178.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 79

القولين أو الأقوال في معناه حسب ما سمعت.

هذا مضافا إلى أنّه قد يلزم اليهود بأنه جاء في التوراة: أنّ اللّه تعالى قال لنوح عليه السّلام عند خروجه من الفلك: إنّي جعلت كل دابّة مأكلا لك و لذريتك و أطلقت ذلك لكم ما خلا الدم فلا تأكلوه، ثم إنّه حرّم على موسى و على بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.

و بأنّه ورد في التوراة أنّ اللّه تعالى أمر آدم عليه السّلام أن يزوّج بناته من بنيه، و قد حرّم ذلك في شريعة من بعده، و هذا ممّا حرّفوه في التوراة و إنما ذكرناه على سبيل الإلزام عليهم و إلّا فالمستفاد

من أخبار أهل البيت عليهم السّلام أنّه لم يزوّج بناته من بنيه على ما يأتي في تفسير سورة النساء إن شاء اللّه تعالى.

و بأنه أباح السبت ثم حرّمه، و جوّز الختان ثم أوجبه، و يرد الإلزام عليهم بكل حكم وضعي أو شرعي اقتضائي أو تخييري تجدّد في شي ء من الشرائع.

هذا كلّه مضافا إلى ما سمعت من جوازه عقلا، و عدم المانع من وقوعه، إذ غاية ما يستدلّ به للمنع أنّ موسى عليه السّلام لما بيّن شرعه، فإن كان قد دلّ على دوامه مع التنبيه بأنه سينسخه فهو باطل بالضرورة للمنافاة بين الأمرين، و لأنّه لو كان كذلك لنقل متواترا لتوفّر الدواعي، و لأنّه من الكيفية التي تتبع الأصل في النقل و معه يستحيل منازعة الجمع الكثير فيه.

و مع عدم التنبيه يستحيل أن ينسخ، و إلّا كانت تلبيسا ممتنعا على أصحاب الشرائع مع تطرّقه إلى شرعنا أيضا إذ بالكسر غاية الأمر أنّ الشارع نصّ على تأييده و قد فرضنا مثله في شريعة موسى عليه السّلام مع تحقق نسخة مضافا إلى أنّه يرفع

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 80

الوثوق بوعده و وعيده.

و إن لم يدلّ على دوامه و انقطاعه فإن اقتضى الإطلاق الأول و لو للاستصحاب أو اقتضاء الأمر التكرار و الدوام فالبحث البحث، و إن اقتضى الثاني و لو لاقتضاء الأمر المرّة فهو باطل للإجماع على الدوام في الجملة، و لأنّه حينئذ لا يقبل النسخ.

و أنّه قد تواتر النقل عن موسى عليه السّلام أنه قال: تمسّكوا بالسبت أبدا و قال:

تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات و الأرض و قوله حجة و طريقه التواتر الذي لا شكّ فيه.

و إن نسخ ما أمر به إمّا لحكمة ظهرت لم تكن

ظاهرة حال الأمر فهو البداء المستحيل في حقّه تعالى أو لا لحكمة فعبث قبيح عليه سبحانه.

و أنّه لو جاز نسخ الأحكام الشرعية لاختلاف الحكم و المصالح لجاز نسخ ما وجب من الإعتقادات في باب التوحيد، و العدل، و المعاد و غيرها، و هو باطل بالإجماع.

و أنّ المنسوخ إمّا مؤقّت فلا يقبل النسخ، أو مؤبّد فيستلزم الجهل، أو مطلق منزّل على أحدهما. و الكلّ كما ترى لظهور ضعف الأوّل بأنّ موسى عليه السّلام قد نبّه على نسخ شريعته، و وصيّ قومه بأن يؤمنوا بمن يأتي من بعده من الأنبياء خصوصا خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله كما وقع التلويح بل التصريح به في مواضع من التوراة و الإنجيل و الزّبور و كتب دانيال، و زكريا، و شعيا، و حيقوق، و غيرهم من الأنبياء حسبما تصدّى لنقله عنها كثير من الأعاظم. و عدم تواتر النقل لعلّه لإجماله المقتضى لعدم توفّر الدواعي، أو لانقطاع تواترهم باستئصال بخت نصّر إيّاهم،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 81

و إلّا فالحقّ أنّ البشارة كان شائعا ذائعا عندهم يعرفه أحبارهم بل عامتهم، و لذا هاجر كثير منهم قبل مبعثه عن أوطانهم الى المدينة انتظارا لبعثته، و إن لم يؤمنوا به بعده و في ذلك نزل: وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1».

و يؤيده أنّ كثيرا ممّن أسلم من أهل الكتاب بل ممّن لم يسلم منهم قد أقرّ بذلك، و نحن قد باحثنا مع كثير منهم فأقرّ جمع منهم بأنّ موسى قد وصّانا بل نؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان إلّا أنه لم يجي ء بعد و

هو الذي تسمّونه بصاحب العصر عجّل اللّه فرجه.

ثمّ مع تسليم على عدم تنبيه موسى عليه السّلام على نسخ شريعته فلا نسلّم استحالة النسخ، و التلبيس ممنوع بعد عدم التكليف به قبل وقوعه، و احتمال تطّرقه إلى شرعنا مدفوع بالضرورة القطعية.

و الدليل الثاني أيضا ضعيف للمنع مع أنه قد قال ذلك، و قد سمعت انقطاع تواترهم، بل قد ينسب وضع هذا القول الى ابن الراوندي «2» ليعارض به دعوى

______________________________

(1) البقرة: 89.

(2) ابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق: فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكّان بغداد نسبته الى راوند من قرى أصبهان، له مجالس و مناظرات مع جماعة من علماء الكلام، طلبه السلطان فهرب، و لجأ الى لاوي اليهودي بالأهواز و صنّف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سمّاه «الدامغ للقرآن» و وضع كتابا في قدم العالم و نفى الصانع و غيرها التي عدّوها الى اثني عشر كتابا كلها في الطعن على الشريعة، و لكن قال السيد المرتضى في الشافعي: إنّ ابن الراوندي قصد في الكتب المذكورة الطعن على المعتزلة و لا يعتقد هو إلّا مذهب الحق، (الأعلام ج ص 252، الكنى و الألقاب ج 2 ص 111.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 82

الرسالة لما ظهر منه الاستخفاف بالدين، و لهذا لمّا أسلم كثير من أحبارهم مثل كعب الأحبار «1» و ابن سلام «2» و وهب بن منبّه «3» و غيرهم من العارفين بالملّة اليهود لم يذكروا ذلك بل أنكروه.

مع أن الدوام في عبارته بعد تسليمه محمول على الزمان الطويل، بل قيل قد جاء في مواضع من التورية بهذا المعنى، فقد قال في العبد يستخدم ستّ سنين ثم يعتق في السابعة، فإن أبى العتق يستخدم أبدا، و

قال في البقرة التي أمروا بذبحها: يكون ذلك سنّة أبدا، ثم انقطع التعبد به الى غير ذلك من المواضع التي استعمل فيها التأبيد للزمان الطويل.

و الثالث أيضا مردود بأنّ الحكمة ظاهرة له سبحانه عالم بها في الأزل إلّا أنه لا يظهره إلّا بظهوره المقتضى المتجدّد بتجدّد الزمان.

و الرابع أيضا مردود بمنع الملازمة إذ من المصالح ما لا يتبدّل باختلاف الأزمنة أبدا كالتوحيد و سائر المعارف الّتي يحكم بها العقل، و لذا قيل: إنّه لا نسخ

______________________________

(1) كعب الأحبار بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق: تابعي. كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، و أسلم في زمن أبي بكر، و قدم المدينة في دولة عمر، فأخذ عنه الصحابة و غيرهم كثيرا من أخبار الأمم الغابرة، و أخذ هو من الكتاب و السنّة عن الصحابة. و خرج الى الشام و سكن حمص، و توفّي فيها عن مائة و أربع سنين سنة 32 ه (تذكرة الحفاظ ج 1 ص 49، الأعلام الزركلي ج 6 ص 85).

(2) عبد اللّه بن سلام بن حارث الإسرائيلي، أبو يوسف صحابي قيل أنه من نسل يوسف بن يعقوب. أسلم عند قدوم النبي صلّى اللّه عليه و آله المدينة، و كان اسمه «الحصين» فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه، و شهد مع عمر فتح بيت المقدس و الجابية، و له 25 حديثا، و توفّي بالمدينة سنة 43 ه، تهذيب التهذيب ج 5 ص 249، الأعلام ج 5 ص 223.

(3) قد مرّت ترجمة وهب بن منبّه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 83

في العقليّات، و ذلك انّ حكم العقل القطعي لا يتغيّر أصلا.

و الخامس أيضا ضعيف بأنّ المنسوخ مطلق،

أو مؤبّد في الظاهر، و اللّازم ممنوع حسب ما سمعت سابقا.

بقي الكلام فيما يحكي عن أبي مسلم بن بحر الاصفهاني من إنكار النسخ في القرآن نظرا إلى بعض ما مرّ ممّا قد ظهر الجواب عنه، و إلى قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ «1»، فلو جاز النسخ لبطل بعض الآيات إذ النسخ إبطال.

و ضعف هذا لدليل واضح فإنّ الآيات قد فسّرت بأنه لا يأتيه الباطل من قبل التوراة و لا من قبل الإنجيل و الزبور و لا يأتيه من بعده كتاب يبطله، و نسخ الآية و لو من حيث التلاوة ليس إبطالا للكتاب الموضوع للمجموع، مع أنّ الظاهر من الباطل ما يشهد ببطلانه لا ما يرفع الحكم و التلاوة.

على أنّه

قد ورد في تفسيرها عنهم عليهم السّلام: ليس في اخباره عمّا مضى باطل، و لا في اخباره عمّا يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقة كلّها لمخبراتها.

هذا مضافا الى الإجماع بل الضرورة على وقوع النسخ و دلالة جملة من الآيات عليه- كآية الاعتداد بالحول «2» المنسوخة بآية الاعتداد بأربعة أشهر و عشر «3»، و توهّم أنّه لم يزل بالكلية لأنّها لو كانت حاملا و امتدّ حملها حولا

______________________________

(1) فصلت: 42.

(2) أي آية (240) من سورة البقرة و هي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ إلخ ..

(3) أي آية (234) من سورة البقرة و هي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً إلخ ..

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 84

أعتدّت به لا ينبغي الإصغاء اليه.

و من الآيات الدالّة على النسخ آية تحويل القبلة الى المسجد الحرام «1»

و آية الدّالّة على ثبات الواحد في مقابل الإثنين الناسخة «2» للآية الأخرى الدالّة على الثبات في مقابل العشرة «3»، و الآية الآمرة بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول «4» المنسوخة برفعها «5»، و آية ما ننسخ من آية «6» على ما سيأتي على أن الخطب في ردّ أبي مسلم الأصفهاني سهل بعد مخالفته لإجماع المسلمين بل الضرورة من الدّين.

______________________________

(1) البقرة: 144 و هي آية: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إلخ ...

(2) الأنفال: 66 و هي آية الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ إلخ ..

(3) الأنفال: 65 و هي إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ إلخ ...

(4) المجادلة 12 و هي إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً إلخ ...

(5) المجادلة: 13 و هي آية أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ إلخ ...

(6) البقرة: 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 85

تبصرة في أقسام النسخ

النسخ على ثلاثة أقسام الأول نسخ الحكم دون التلاوة، و هو الشائع المعروف من النسخ في القرآن، فيكون الآية المنسوخة و الناسخة ثابتين في التلاوة و إن ارتفع حكم الأول، كآية عدّة المتوفي عنها زوجها «1»، و مصابرة الواحد للعشرة، و الصدقة قبل النجوى، و تحويل القبلة، و التخيير بين المّن و الفداء «2» و الأمر بقتال الكفار «3»، و الحبس المؤبد «4» المنسوخ بالجلد «5» و الإرث بعقد الولاء «6» على الخلاف في بعضها، و مثلها كثير في القرآن، بل قيل: إنّ آية السيف قد نسخت مائة و أربعين آية من أربعة و خمسين سورة مع بقاء تلاوتها.

و إن كان لا يخلو من نظر فإنّ كثيرا من

الآيات المعدودة من ذلك لا تنافي بينهما كي يلتزم بالنسخ المنفي بالأصل فيها إلّا أن تقوم عليه حجة.

و الثاني العكس أي نسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم المذكورة في كثير من الأخبار و إن اختلفت في خصوص العبارة.

______________________________

(1) البقرة: 234 و 240.

(2) محمد صلّى اللّه عليه و آله: 4.

(3) التوبة 29 و هي آية قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ

(4) النساء: 15 و هي آية وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.

(5) النور: 2 و هي آية الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.

(6) النساء: 33 و هي آية وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 86

ففي تفسير القمي كانت آية الرجم نزلت الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة نكالا من اللّه و اللّه عليم حكيم، و في الكافي عن الصادق عليه السّلام مثله الى قوله من اللّه «1» و قد روته العامّة أيضا «2»

، و من طريقهم أن من الآيات قوله تعالى: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ

______________________________

(1)

في الفقيه ج 4 ص 17: روى هشام بن سالم عن سليمان بن خالد قال: قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام: في القرآن رجم؟ قال عليه السّلام نعم قلت: كيف؟ قال: الشيخ و الشيخة إذا زنيا

فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة

، وسائل الشيعة ج 18 ص 350، و في الكافي ج 7 ص 177 عن يونس، عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الرجم في القرآن قول اللّه عزّ و جلّ: إذا زنا الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة، و في تهذيب الأحكام ج 10 ص 3 روى الحديث كما في الكافي.

أقول: و لا يخفى على المتأمّل في كلمات المحققين أنّ هذه الروايات و أمثالها لا تنهض حجّة على المطلوب لأنها دالّة على وجود النقص في الكتاب الكريم و هو خلاف الحق. و لعل الروايات على فرض صدورها صدرت تقيّة لأن العامّة رووا عن عمر بن الخطاب أنه ادّعى أنّ آية الرجم من القرآن، و لكنه لمّا كان وحده لم يقبل منه زيد بن ثابت و لم يكتبها في القرآن كما قال السيوطي في الإتقان ج ص 101: خرج ابن أشته في المصاحف عن الليث بن سعد قال: أوّل من جمع القرآن أبو بكر، و كتبه زيد ... و إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده و سيأتي أنّ حديث آية الرجم مرويّ في الصحيح و المسند من كتب العامّة عن عمر بن الخطاب و أبي بن كعب.

(2) صحيح البخاري ج 8 ص 26: عن ابن عباس أنّ عمر قال فيما قال، و هو على المنبر: إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله بالحق، و أنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللّه عليه آية الرجم فقرأناها و عقلناها، و وعيناها، فلذا رجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رجمنا بعده فأخشى أن طال بالناس زمان أن يقول

قائل: و اللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضل بترك فريضة أنزلها اللّه، و الرجم في كتاب اللّه حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال، ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

و في مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 132 عن زرّ بن حبيش، عن أبىّ بن كعب لقد رأيت سورة الأحزاب و إنّها التعادل سورة البقرة و لقد قرأنا فيها الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه و اللّه عليم حكيم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 87

جوف ابن آدم إلّا التراب و يتوب اللّه على من تاب «1».

______________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 117 بإسناده عن ابن عباس: جاء رجل الى عمر فقال: أكلتنا الضبع- يعني- فقال عمر: لو أنّ لامرئ واديا أو واديين لا ابتغى إليهما ثالثا فقال ابن عباس: و لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب اللّه على من تاب. فقال عمر لابن عباس: ممّن سمعت هذا؟ قال: من أبيّ قال فإذا كان بالغداة فاغد عليّ فرجع الى أمّ الفضل فذكر ذلك لها فقالت مالك و للكلام عند عمر و خشي ابن عباس أن يكون أبىّ نسي فقالت أمه عسى أن يكون أبىّ نسي فغدا الى عمر و معه الدّرة فانطلقا الى أبىّ فخرج أبىّ عليهما و سأله عمر عما قال ابن عباس فصدّقه.

و

في مسنده أيضا ج 5 ص 131 مسندا عن أبي كعب قال ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال إنّ اللّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال: فقرأ لم يكن الذين كفروا

من أهل الكتاب. قال فقرأ فيها و لو أنّ ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب و يتوب اللّه على من تاب إلخ ...

و في صحيح مسلم بهامش صحيح البخاري ج 4 ص 437 في باب كراهة الحرص على الدنيا عن أبي الأسود قال: بعث أبو موسى الأشعري الى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة و قراؤهم فاتلوه و لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبهم كما قست قلوب من كان قبلكم، و إنّا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول و الشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب إلخ ...

أقول: مع ورود هذه الروايات و غيرها في مسانيد القوم و صحاحهم الدالّة على إسقاط كلمات و آيات من القرآن الكريم لماذا يشنّعون على الإمامية و يطعنون عليهم بأنهم قائلون بتحريف الكتاب و نقصه مع أنّ القول بالنقص لا يقول به المحققون بل أجمعوا على عدم النقص و إليك ما قاله رؤساء علماء الشيعة و محققوهم في هذا الشأن:

قال الشيخ الطوسي في التبيان: أما الكلام في زيادة القرآن و نقصه فممّا لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، و أمّا النقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا و هو الذي نصره المرتضى و هو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت روايات من جهة الشيعة و العامّة بنقصان آي من آي القرآن طريقها الآحاد التي لا توجب علما و لا عملا

و الأولى الأعراض عنه إلخ ...

قال السيد المرتضى على ما حكى عنه صاحب مجمع البيان: إنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن لأنه يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له و أنه كان يعرض على النبي صلّى اللّه عليه و آله و يتلى عليه و أن جماعة من

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 88

و الثالث نسخهما معا كما روى مما يتلى في كتاب اللّه عشر

______________________________

الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و آله عدة ختمات كل ذلك يدل على أنه كان مجموعا مرتبا. و ذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية و حشوية العامة لا يعتد بخلافهم فإنه مضاف الى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم إلخ ...

قال الشيخ الصدوق في الإعتقادات: اعتقادنا في القرآن أنّه ما بين الدفتين و هو ما في أيدي الناس و ليس بأكثر من ذلك و من نسب إلينا أنّا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب إلخ ...

قال السيد محسن الأعرجي المحقق البغدادي في شرح الوافية: الإجماع على عدم الزيادة و المعروف بين علمائنا حتى حكى عليه الإجماع على عدم النقيصة إلخ ...

قال المحدث الخبير و المفسر الشهير المولى محسن القاساني في كتابه الوافي ج 2 ص 273 و 274 بعد ما حكى قول الصدوق في الإعتقادات: أشار في أول كلامه: «أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله هو ما بين

الدفتين و ما في ايدي الناس ليس بأكثر من ذلك» الى إنكار ما قيل أن القرآن الذي بين أظهرنا بتمامه كما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله بل منه ما هو خلاف ما أنزل اللّه و منه ما هو محرّف مغيّر، و قد حذف منه شي ء كثير: منها اسم أمير المؤمنين عليه السّلام في كثير من المواضع، و منها غير ذلك، و أنّه ليس أيضا على الترتيب المرضيّ عند اللّه و عند رسوله صلّى اللّه عليه و آله و قد روى ذلك كلّه علي بن إبراهيم في تفسيره و

روى بإسناده عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: ما من أحد من هذه الأمّة جمع القرآن إلّا وصي محمد صلّى اللّه عليه و آله

و

بإسناده عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعلي: يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف و الحرير و القراطيس فخذوه و اجمعوه و لا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق علي عليه السّلام فجمعه في ثوب أصفر ثمّ ختم عليه في بيته و قال: لا أرتدي حتى أجمعه، قال: كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما أنزل ما اختلف اثنان

ثمّ قال الفيض: أقول: و في

قوله صلّى اللّه عليه و آله: قرءوا القرآن كما انزل

الإشارة إلى صحّة ما أوّلنا به تلك الأخبار ... إلى أن قال: إن مرادهم عليهم السّلام بالتحريف و التغيير و الحذف إنّما هو من جهة المعنى دون اللفظ أي حرّفوه و غيّروه في تفسيره و تأويله يعنى حملوه

على خلاف مراد اللّه تعالى فمعنى قولهم عليهم السّلام: كذا نزلت أنّ المراد به ذلك لما يفهمه الناس من ظاهره و ليس مرادهم عليهم السّلام أنّها نزلت كذلك في اللفظ فحذف ذلك. كلّه يخطر ببالي في تلك الأخبار إن صحّت فإن أصبت فمن اللّه تعالى و له الحمد و إن أخطأت فمن نفسي و اللّه غفور رحيم، و استوفينا الكلام في هذا المعنى و فيما يتعلّق بالقرآن في كتابنا الموسوم بعلم اليقين فمن أراد فليراجع إليه. علم اليقين ص 130.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 89

رضعات يحرمن «1» و يقال: إنّ سورة الأحزاب كان بقدر السبع الطول و أزيد ثم وقع النقصان «2» و على كل حال فلا مانع منه كما لا مانع من

______________________________

(1) صحيح مسلم ج 4 ص 167: روى عمرة عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: «عشر رضعات معلومات يحرمن» ثم نسخن به: خمس معلومات، فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هن فيما يقرأ من القرآن.

(2) الإتقان ج 2 ص 40: روى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله مأتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّا ما هو الآن.

و في منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد حنبل ج 2 ص 43: روى زرّ قال: قال أبيّ بن كعب: يا زرّ، كأيّ تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: ثلث و سبعين آية، قال: إن كانت لتضاهى سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة، أقول: لا يخفى أن نسخ التلاوة أعمّ من أن يكون مع نسخ الحكم أو بدونه كما في سابقه هو بعينه التحريف و

الإسقاط كما نبّه عليه زعيم الأكبر آية اللّه العظمى السيد أبو القاسم الخوئي في بيانه حيث قال: إنّ نسخ التلاوة هذا إمّا أن يكون قد وقع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو أمر يحتاج الى الإثبات، و قد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، و قد صرّح بذلك جماعة في كتاب الأصول و غيرها مثل كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي ج 3 ص 106، بل قطع الشافعي و أكثر أصحابه و أكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة و إليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل إنّ جماعة ممّن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منه وقوعه كما في الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج 3 ص 217 و على ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أنّ نسبة النسخ الى النبي صلّى اللّه عليه و آله تنافي جملة من الروايات التي تضّمنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده. و إن أرادوا أنّ النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فهو عين القول بالتحريف. و على ذلك فيمكن أن يدّعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء السنة، لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ، بل تردد الأصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، و في جواز أن يمسّه المحدث و اختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفة من المعتزلة الى عدم جواز التلاوة كما في الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج 3 ص 201- 203.

و من العجب أن جماعة من علماء أهل

السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف الى أحد من علمائهم حتى أنّ الآلوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف الى الحشوية و قال: إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب الى ذلك، و أعجب من ذلك أنّه ذكران قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من فساد قول

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 90

سابقيه «1» لما سمعت من دليل الجواز بل الوقوع، مع أنّ التلاوة بمعنى استحبابها و استحقاق الثواب عليها فضلا عن غيرها كحرمة المسّ للمحدث حكم شرعي يجوز أن ينسخ كغيره من الأحكام بل و كذا إرجاعه الى نوع من الوضع ككونه قرآنا يترتب عليه أحكامه حتى في النذور و الأيمان، لكونه من جعليّات الشارع القابلة للرفع مضافا الى أنه لا يخرجه عن الحكم القابل له.

فما ربما يحكى عن شاذّ من المعتزلة من المنع عن الأوليين أعني نسخ الحكم دون التلاوة و العكس نظرا الى عدم الانفكاك بينهما نظير التفكيك بين المنطوق و المفهوم، و بين العلم و العالميّة، و أن بقاء التلاوة خاصة يوهم بقاء الحكم فيؤدي الى إعتقاد الجهل و هو قبيح من الحكيم، مع استلزامه خلوّ القرآن عند الفائدة، و أن العكس يشعر بزوال الحكم حيث أن الآية ذريعة الى معرفته، فالتفكيك تعريض للمكلّف لاعتقاد الجهل مع أنه عبث لا يلزم منه إثبات حكم و لا رفعه.

ضعيف جدا لا ينبغي الإصغاء اليه، و لا الى دليله بعد ظهور أن بناء النسخ بل الشريعة و لو فيما يتعلق بخصوص التلاوة الحكم على اعتبار المصالح المختلفة بالوجوه و الاعتبارات التي ربما يدعو بعضها الى إثبات الحكم أو- التلاوة في بعض الأزمنة أو رفع أحدهما خاصة.

و أما ما ذكر من الوجوه فضعفها واضح.

______________________________

أصحابه بالتحريف، فالتجأ

هو الى إنكاره (روح المعاني ص 24 ج 1) مع أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة و محققيهم، حتى أن الطبرسي قد نقل كلام السيد المرتضى بطوله، و استدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتمّ بيان و أقوى حجّة كما في مجمع البيان ج 1 مقدمة الكتاب ص 15.

(1) قد عرفت سابقا أنّ نسخ التلاوة سواء كان مع نسخ الحكم أم لا هو بعينه التحريف الممنوع جدا عند المحققين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 91

الفصل الخامس

في حجية القرآن و الاستدلال بظواهره في الأصول و الفروع اعلم أن جمهور أهل العلم من الفرق كلها على حجيته، و الرجوع اليه و التمسك بمحكماته في جميع العلوم و كافة الفنون من الأصول و الأحكام و الحكم و المواعظ، و القصص، و الوعد، و الوعيد، و غيرها، و كان الأمر مستمرا على ذلك في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام بلا نكير منهم في الرجوع الى محكماته، و كانت الأمة تفزع اليه في إثبات مذاهبها المختلفة التي قد يعّد الإعتقاد بها من الأصول فضلا عن رجوعهم اليه في الفروع، و لم يزل الأمر على ذلك الى أن حدث بعض المحدثين فأحدثوا القول بعدم جواز الرجوع اليه في شي ء من الأحكام، بل منهم من منع فهم شي ء منه مطلقا حتى المحكمات مثل قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، و نحوهما إلّا بتفسير من أصحاب العصمة عليهم السّلام، و فصّل بعضهم بين النصّ و الظاهر.

و مذهب جمهور متأخريهم أنّ كلّه متشابه بالنسبة إلينا و لا يجوز أخذ شي ء من الأحكام منه بل لا

يجوز تفسير شي ء من آياته إلّا بعد ورود بيانه و تفسيره عن أهل البيت عليهم السّلام دون النبي صلّى اللّه عليه و آله فإن الأخبار النبوية أيضا عند كثير

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 92

منهم كالكتاب لا يجوز الرجوع إليه إلّا بعد ورود بيانه في اخبار الأئمة عليهم السّلام حسبما تسمع اليه الإشارة.

و ذكر بعضهم و هو المحدث الحرّ العاملي قدّس اللّه نفسه «1» إن لنا أن نستدل بالقرآن و لا يلزم التناقض لوجهين:

أحدهما أنه دليل إلزامي للخصم لأنّه يعتقد حجية تلك الظواهر مطلقا.

و ثانيهما وجود النصوص المتواترة المخالفة للتقيّة الموافقة لتلك الظواهر

______________________________

(1) شيخ المحدثين العالم الفقيه المتبحر الورع الشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن بن علي صاحب الرسائل الذي مّن على جميع أهل العلم بتأليف هذا الكتاب الشريف و الجامع المنيف الذي هو كالبحر ولد في 8 رجب سنة 1033 قرء على أبيه و عمه و جده لأمه و خال أبيه و غيرهم في مشقر «من جبل عامل بسورية» و جبع و أنتقل بعد أربعين سنة إلى العراق و انتهى إلى طوس بخراسان و اتفق مجاورته بها حتى توفي سنة 1104 ه له غير الوسائل تصانيف قيمة آخر منها «أمل الآمال في ذكر علماء جبل عامل» و «الجواهر السنية في الأحاديث القدسية» و «رسالة في ردّ الصوفية» و «رسالة في تواتر القرآن» و «إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات» و «أرجوزة في الإرث» و «أرجوزة في الإرث» و «أرجوزة في الهندسة» و له ديوان فيه نحو عشرين ألف بيت منها في نظم

الحديث القدسي الذي رواه المسعودي في كتاب أخبار الزمان إن اللّه تعالى أوحى الى إبراهيم عليه السّلام: إنك لما سلّمت مالك للضعيفان و

ولدك للقربان و نفسك للنيران و قلبك للرحمن اتخذناك خليلا

:

فضل الفتى بالجود و الإحسان و الجود خير الوصف للإنسان

أو ليس إبراهيم لما أصبحت أمواله وقفا على الضيفان

حتى إذا أفنى اللهى أخذ أبنه فسخى به للذبح و القربان

ثم ابتغى النمرود إحراقا له فسخى بمهجته على النيران

بالمال جاد و بابنه و بنفسه و بقلبه للواحد الديان

أضحى خليل اللّه جل جلاله ناهيك فضلا خلّة الرحمان

صح الحديث به فيا لك رتبةتعلو بأخمصها على التيجان

توفي الحر العاملي في يوم (21) رمضان سنة 1104 في المشهد المقدس بخراسان.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 93

فاستدلالنا في الحقيقة بالكتاب و السنّة معا، و لا خلاف في وجوب العمل بهما.

و على كلّ حال فالحق الذي لا محيص عنه هو حجية ما كان منه محكما متضح الدلالة، و لو من جهة الظهور العرفي الذي يفهمه أهل اللسان و يدلّ عليه بوجوه:

منها الإجماع القطعي على ذلك المنعقد من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام المستمر في جميع الأعصار و الأمصار قبل ظهور الخلاف من بعض الأخباريين، بل الظاهر اتفاق قاطبة المسلمين من أهل الفرق و المذاهب كلها على التمسك بظواهره، و الأخذ بمحكماته، و الاستدلال بها في المقاصد الدينية، و الأحكام الشرعية، و المواعظ و القصص حتى في أصول عقائدهم من العدل و الكلام، و القدرة و الإختيار، و المعاد، و الجنة و النار و الحساب و الثواب و العقاب و نحوها، بل في إثبات صحة مذاهبهم كعصمة الإمام و تعيينه و لم يعهد من أحد منهم المناقشة فيه بعدم حجية الكتاب، و أنّه لا عبرة بظواهره.

و الالتزام بورود نصّ مفسّرا له في كلّ ما استدلّوا به تكلّف جدّا، بل لعلّه

مقطوع العدم، كظهور عدم اعتبارهم على ذلك النصّ على فرض وروده قبل تعيين المذهب.

ثم منهم من لا يعمل بأخبار الآحاد، و كثير منهم من لا يقول بحجيتها في أصول العقائد فمن أين كان سكونهم الى ذلك الخبر، و لم لم يقتصروا في الاستدلال على خصوص الآيات المفسّرة في الإخبار.

و يؤيّده استقرار الأمر من الخاصّة و العامّة خلفا عن سلف على تفسير الآيات قراءة و كتابة من دون الاقتصار على خصوص ما ورد من النبيّ و الأئمة عليهم السّلام في كل آية من الآيات إلّا في خصوص الكلمات و الآيات المعدودة عندهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 94

في المتشابهات، بل تراهم يعدّون المرويّ عنهم فيها أحد الوجوه، و يتصدّون لذكر غيرها أيضا نظرا الى قوة دلالة اللفظ أو تطرّق الاحتمال، أو ظهور كون ما ورد عنهم من البطون لا الظواهر، بل يمكن دعوى الضرورة القطعيّة على إرادة ظواهر كثير من الآيات حسبما يفهمه أهل اللسان الذين هم المطّلعون بأساليب الكلام، و قوانين العربية، كما أنّه يمكن دعواها أيضا على تشابه بعض الآيات و الكلمات الموجب للرجوع فيها الى العلماء من آل محمد.

و لذا قال الشيخ في «التبيان»: إنّ معاني القرآن على أربعة أوجه:

أحدها ما اختصّ اللّه تعالى بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلّف القول فيه.

و ثانيهما ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه، فكلّ من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه، مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ «1». و ثالثها ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصّلا مثل قوله تعالى: أقيموا الصلاة، ثم ذكر كثيرا من الآيات التي هي من هذا القبيل، و قال: إنّه لا يمكن استخراجها

إلّا ببيان من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و رابعها ما كان اللفظ فيه مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما، و يمكن أن يكون كلّ واحد منهما مرادا، فإنّه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول: إنّ مراد اللّه بعض ما يحتمله إلّا بقول نبي أو إمام معصوم الى آخر ما ذكره قدّس سره، و لعلّ المراد بالاختصاص في القسم الأوّل بالنسبة الى غير النبي و الأئمّة عليهم السّلام و إلّا فقد علّمهم اللّه سبحانه جميع علم القرآن، كما أنّ المراد بالرابع ما لم يكن هناك ظهور أو قرينة على التعيين، و ما ذكره من التفصيل لعّله مستفاد عن العلويّ المرويّ في

______________________________

(1) الإسراء: 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 95

«الإحتجاج» في جواب الزنديق و قد مرّ «1».

و منها الأخبار الكثيرة الدّالة على استدلال الأئمة عليهم السّلام بجملة من آياته و احتجاج أصحابهم بعضهم على بعض، و على خصمائهم في المذهب في مقامات كثيرة جدا من الأحكام، و غيرها الدّالة على حجية ظواهرها و اعتمادهم عليها في إثبات مقاصدهم، و ردّهم على خصمائهم في إنجاح مطالبهم، و تقرير الأئمة عليهم الصلاة و السلام لهم بذلك لاستدلالهم لأصحابهم بها مرشدين لهم اليه، و استمرار هذه الطريقة بين أصحابهم و التابعين لهم من دون نكير منهم عليه خلفا عن سلف، كما لا يخفى على من تتبع الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب الأصول و الفروع.

و منها أنّ ألفاظ الكتاب لو لم تكن دليلا على إرادة معانيها بدون التفسير لتوقّف كونها معجزة على ورود التفسير و بيان المعاني المرادة ضرورة أنّ من أظهر وجوه اعجازه على ما يأتي اشتماله على الفصاحة و البلاغة التي لا يسعها طاقة البشر حتى اعترف به

فصحاء العرب، حيث عجزوا عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، و من البيّن أنّ ذلك لا يتّم إلّا بمعرفة المعاني المتصورة من الإلفاظ، لأنّ البلاغة إنما تعرض اللفظ باعتبار ما أريد به من المعنى، و لم ينقل أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يتحدّى العرب بالقرآن بعد تفسيره و بيانه لهم، كيف و لو كان الأمر كذلك لشاع و ذاع، بل قد يقال: إنّ ذلك يوجب خروج القرآن عن كونه معجزا بالبلاغة لتوقّفه حينئذ على التفسير، و صحّته مبنّية على ثبوت النبوّة فإذا توقف ثبوتها على كونه معجزا لزم الدور.

______________________________

(1) الإحتجاج ص 130، وسائل الشيعة ج 18 ص 143.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 96

و توهّم أنّ إعجازه إنما هو من حيث الصرفة، أو خصوص الأسلوب أو- غيرهما مما لا توقف معه على فهم المعاني ضعيف جدا حسبما تأتي اليه الإشارة في البحث عن وجوه إعجازه.

و منها أنّ الآيات المحكمة الناصّة أو الظاهرة الواردة في بيان الأحكام و القصص و غيرها.

قد ورد في تفسيرها عن أصحاب العصمة ما يوافق ظاهرها كالأخبار الكثيرة المتواترة الواردة في أبواب الإرث موافقة لظاهر الآيات، و الواردة في أحكام النكاح و الطلاق و مدة العدة، و الظهار، و الإيلاء، و الكفّارات و المطاعم و مصارف الخمس، و الصدقات، و مناسك الحج، و كيفية الوضوء، و التيمم، و غيرها، بل الواردة في بيان قصص الأنبياء و المواعظ و المواعيد و أحوال المعاد و نحوها، و بالجملة من تصفّح جملة يسيرة مما ذكرناه حصل له القطع بأنّ ظواهر هذه الآيات هي المقصودة منها، بل من ملاحظة المطابقة بينها و بين الأخبار المروية في تفسيرها المطابقة لظواهرها على حسب ظاهر الأفهام يحصل القطع

بأنّ ظاهر كل ما له ظاهر من الآيات هو الحجة، و هو المقصود من سوق الخطاب، و إن كان غيره مقصودا أيضا من باب التأويل و استنباط شي ء من البطون السبعة أو السبعين التي لا يمنع حجيّة بعضها بعد استفادته من حجيّة غيره كما ستسمعه في موضعه.

و منها جملة من الآيات الكريمة التي لا دور في الاستدلال بها بعد القطع بإرادة مفادها الذي هو كون القرآن عربيا واضح الدلالة منزلا عليهم بلسانهم لتذكرهم، و تفكرهم، و خشيتهم.

كقوله تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 97

يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ «1».

و قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «2».

و قوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3».

و قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «4»، الى قوله تعالى: وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ «5».

و قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً «6».

و قوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «7».

و قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «8».

______________________________

(1) الزمر: 27- 28.

(2) محمد: 24.

(3) النساء: 82.

(4) الشعراء: 193- 195.

(5) الشعراء: 198- 199.

(6) طه: 113.

(7) الشورى: 7.

(8) الحشر: 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 98

و قوله تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ

الْحَقِ «1».

و قوله: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «2».

و قوله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ «3».

و قوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «4». و في آية: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ «5». و في أخرى: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ «6».

و قوله: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «7» وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «8».

و قوله: إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «9» و قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «10».

______________________________

(1) ص: 19.

(2) المائدة: 93.

(3) المائدة: 75.

(4) الأنعام: 46.

(5) الأنعام: 97.

(6) الأنعام: 97.

(7) الأعراف: 52.

(8) الإسراء: 106.

(9) التوبة: 124.

(10) النمل: 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 99

و قوله تعالى: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا «1».

و قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «2».

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا «3».

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «4».

الى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا يخفى وجوه دلالتها على المطلوب فلا داعي الى الإطناب بالتقريب، بل ربما يحصل القطع بذلك أيضا من ملاحظة بعض الخطابات الواردة فيه النازلة منزلة الخطابات الشفاهية التي لا واسطة فيها أصلا.

كقوله تعالى: يا أيّها الناس، يا أيّها الذين آمنوا، يا أهل الكتاب، يا بني آدم، يا عبادي الذين آمنوا، يوصيكم في أولادكم، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة المشتملة على الخطاب لعامّة

المكلفين، أو المصدّرة بذكر المخاطب المستفاد منها كونها خطابا منه سبحانه لهم، أو لصنف منهم المستلزم لفهمهم تلك الخطابات من دون واسطة.

و لذا ورد الأمر بسؤال الجنّة و غيرها من الخيرات، و الاستعاذة عن النار

______________________________

(1) الحج: 72.

(2) يونس: 57.

(3) الإسراء: 41.

(4) القمر: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 100

تفسير الصراط المستقيم ج 2 149

و غيرها من الشرور عند قراءة الآيات المتضمنة لها، و ورد في كثير من الآيات الأمر بالتفكر و التدبّر عند التلاوة، قال شيخنا الطوسي في تفسير قوله تعالى:

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1».

إنّ فيه دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شي ء من ظاهر القرآن إلّا بخبر و سمع و فيه تنبيه أيضا على فساد قول من يقول: إنّ الحديث ينبغي أن يروى على ما جاء و إن كان مخالفا لأصول الديانات في المعنى لأنه سبحانه دعا الى التدبر و التفكر، و ذلك مناف للتعامي و التجاهل «2».

و قال في تفسير أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ الآية «3»: أنّها تدلّ على فساد قول من زعم أنّ القرآن لا يفهم معناه إلّا بتفسير الرسول من الحشويّة «4» و غيرهم لأنه تعالى حثّ على تدبّره ليعرفوه و يتبيّنوه «5».

و من هذا الباب ما يدلّ على كونه خطابا للمشركين و احتجاجا عليهم و على اليهود و النصارى مع أنّ ذلك يتوقف على فهمهم و لو لاه لما صحّ ذلك و منه

______________________________

(1) محمد صلّى اللّه عليه و آله: 24.

(2) مجمع البيان ج 9 ص 140 ط. صيدا أفست مصطفوي.

(3) النساء: 82.

(4) قال العلامة النسّابة الفقيه البحّاثة آية اللّه السيد شهاب الدين المرعشي رحمه اللّه

في تعليقاته القيّمة على «إحقاق الحق» ما هذا لفظه: الحشوية قيل بإسكان الشين لأنّ منهم المجسّمة و المجسمة محشو و المشهور أنه بفتحها نسبة الى الحشا لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فوجد في كلامهم «رويا» فقال؛ رووا هؤلاء الأحشاء الحلقة أي جانبها و الجانب يسمى حشاء و منه الأحشاء لجوانب البطن- أقول: كلمة رويا مفعول وجد و المراد أن الحسن رأى قوما في حلقته يستندون في كل شي ء من العقليات و السمعيات برواية رويت.

(5) مجمع البيان ج 3 ص 80 ط. صيدا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 101

قصّة إرسال البراءة الى مكة، إنّ هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون «1».

و منها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ الآية «2» حيث دلّت على تقسيم الكتاب الى محكم و متشابه، ثم على الذّم و الإنكار على من اتّبع المتشابه طلبا لإيثار الفتنة و طلبا لتأويله مع أنه لا يعلم تأويله إلّا اللّه و الراسخون في العلم، و الظاهر من تخصيص الذّم على اتباع المتشابه أنه لا ذم على إتباع المحكم، كما يستفاد منها بل من مجرد التقسيم إليهما مع ملاحظة التسمية حجيّة الأول دون الثاني ضرورة أن الظاهر المنساق من المحكم بل المفسر به عندهم ما كان محكم الدلالة، بحيث تكون دلالته على ما أريد منه متضحة كما أن المتشابه ما لم تتضح دلالته لتشابه محتملاته بحيث لا مرجّح و لا معيّن لشي ء منها، بل يستفاد ذلك أيضا من أخبار كثيرة آمرة بالأخذ بالمحكم و ردّ المتشابه إليه، و أن من ردّ متشابه القرآن الى محكمه فقد هدي الى صراط مستقيم، و أن المتشابه ما يشبه

على جاهة، و ما يشبه بعضه بعضا الى غير ذلك مما يورث القطع بحجية المحكم، و أنه ما كان واضح الدلالة حسب ما مرّت إليه الإشارة و تأتي.

و من هنا يظهر سقوط ما قيل في الاعتراض على الاستدلال به من أن هذه الآية محكمة في ذمّ اتباع المتشابه، و أما وجوب اتباع المحكم فلا يستفاد منها إلّا ظنّا، إذ كون بعض الكتاب محكما و كون المحكم أم الكتاب لا يدل على وجوب اتباعه، و ذم اتباع المتشابه بل على عدم ذم إتباع المحكم بمفهوم اللقب

______________________________

(1) النمل: 76.

(2) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 102

و هو كما في كمال الضعف، سلّمنا و لكن نقول: إنّ وجوب الرجوع اليه ممّا لا نزاع فيه لأحد، إنّما النزاع في كون الظاهر محكما بالنسبة إلينا و ما ثبت حقيقة شرعية و لا غيرها في المحكم بحيث يدخل الظاهر فيه قطعا، و المستدلّ إنما استدلّ بها بناء على كون الظاهر محكما.

أقول: لا ينبغي التأمل من حجيّة المحكم بعد ملاحظة الآية و الأخبار بل الضرورة، و لذا نفى عنه الخلاف في صريح كلامه، و أما كون الظاهر محكما بالنسبة إلينا فقد سمعت استفادته من جملة من الأخبار بل من الآية أيضا مضافا الى ما

عن تفسير النعماني بإسناده المعروف عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام و رواه القمي في تفسيره مرسلا قال صلّى اللّه عليه و آله: و المحكم ممّا ذكرته في الأقسام ما تأويله في تنزيله من تحليل ما أحلّ اللّه سبحانه في كتابه، و تحريم ما حرّم اللّه فيه من المأكل و المشارب و المناكح.

و منه ما فرض اللّه عزّ و جلّ من الصلوة و الزكاة، و الصيام، و

الحج و الجهاد و ما دلهم به ممّا لا غنى بهم عنه في جميع تصرفاته مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية «1».

و هذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله، و لا يحتاج في تأويله الى أكثر من التنزيل، و منه قوله عزّ و جلّ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ الآية «2» فتأويله في تنزيله، فهذا كله محكم لم ينسخه شي ء قد استغنى بتنزيله عن تأويله «3».

و

قال (عليه السّلام) في موضع آخر: و أما ما في القرآن تأويله في تنزيله فهو

______________________________

(1) المائدة: 6.

(2) المائدة: 3.

(3) بحار الأنوار ج 19 ص 97 باب ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في أصناف آيات القرآن. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 103

كل آية محكمة نزلت في تحريم شي ء من الأمور المتعارفة التي كانت في أيام العرب تأويلها في تنزيلها، فليس يحتاج فيها الى تفسير أكثر من تأويلها و ذلك مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ الآية «1»، و قوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ الآية «2»، و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا «3» و قوله: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «4» و قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «5».

و مثل ذلك في القرآن كثير ممّا حرّم اللّه سبحانه لا يحتاج المستمع له الى مسألة عنه: و قوله عزّ و جلّ في معنى التحليل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ «6»، و قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «7» و قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا

أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ «8»، و قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ «9»،

______________________________

(1) النساء: 23.

(2) البقرة: 173.

(3) البقرة: 278.

(4) البقرة: 275.

(5) البقرة: 151.

(6) المائدة: 96.

(7) المائدة: 2.

(8) المائدة: 4.

(9) المائدة: 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 104

و قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «1»، و قوله تعالى:

لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ «2» و مثل هذا كثير في كتاب اللّه الخبر «3».

و هو صريح في أنّ نوع تلك الآيات التي لها ظواهر عرفيّة كلّه من المحكمات التي تأويلها بحيث يفهم معانيها كل من كان من أهل اللسان و المقصود من ذكر الآيات التمثيل لا الحصر و لذا نبّه في آخر الخبر على كثرة مثله في الكتاب.

و منها الأخبار الكثيرة الدّالة على عرض الأخبار عند التعارض أو الشك في صحّتها أو مطلقا على كتاب اللّه المستفاد منها كونه واضح الدلالة مع الإغماض عن الأخبار المفسّرة له، إذ لو لم يفهم منه شي ء إلّا بتفسيرهم لانتفت فائدة العرض.

ففي عدّة من الصحاح و غيرها: إنّ علي كل حقّ حقيقة، و على كل صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «4».

و

في حديث جابر عن أبي جعفر عليه السّلام: انظروا أمرنا، و ما جائكم منّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به، و إن لم تجدوه موافقا فردّوه «5».

و

في خبر آخر طويل: فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما

______________________________

(1) البقرة: 187.

(2) المائدة: 87.

(3) بحار الأنوار ج 19 ص 111 باب ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام

في أصناف آيات القرآن. ط.

القديم.

(4) المحاسن ص 126، الأمالي للصدوق ص 221.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ص 86. بيروت المعلق بتعليقات الرازي. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 105

على كتاب اللّه فما كان في كتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب الخبر «1».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي لا ينبغي الاعتراض عليها بأنّ غاية ما يستفاد من العرض عليه كونه أمارة لصحة الأخبار و عدمها، و اين هذا من حجّيته بنفسه، فقد ورد في عدّة من الأخبار لزوم الأخذ بما خالف العامّة و بما وافق الشهرة، و لا يستفاد منه حجية الخلاف و الوفاق بل و لا حجية الشهرة، غاية الأمر كونها باعتبار موافقة الخبر لها و مخالفته جابرة و كاسرة، و أمّا حجّيتها فمن أين؟ و بأنّ المراد من الآيات التي يجب العرض عليها هي المفسّرة عن الأئمة عليهم السّلام، و أما ما لم يعلم تفسيرها منهم فليس ممّا يجب العرض عليه.

لضعف الأوّل بأنّه لا يمكن العرض عليه إلّا بعد فهم معناه المقصود و لا خلاف لأحد في أنه إذا فهم المعنى المقصود من الكتاب فهو الحجة قطعا، و ضعف الثاني أيضا بأن الظاهر منها لزوم العرض عليه من حيث نفسه و أما إذا كان مبيّنا ببيان الأئمة عليهم السّلام فمع أنه لا مجال حينئذ للشك في صحة الخبر، أو ترجيحه على غيره لا ريب أن الاعتماد حينئذ على بيان الأئمة- عليهم السّلام لا الكتاب، فإنّ ظاهر قوله فما كان في كتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما، و قوله فإن وجدتموه للقرآن موافقا، أن العبرة بموافقتها و مخالفتها له في نفسه، و هو يدلّ على أنّ له ظاهرا هو المقصود منه

يمكن للعارض فهمه، و منها ما صحّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله عند العامّة فضلا عن الخاصّة، بل ادعى بعضهم تواتره، بل هو كذلك على ما مرّت اليه الإشارة من

قوله عليه السّلام: إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا كتاب اللّه

______________________________

(1) عيون الأخبار ط. قم ج 2 ص 20، وسائل الشيعة ج 18 ص 81 عن العيون. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 106

و عترتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض «1»

، فإنّ ظاهر الأمر بالتمسك سيّما مع ملاحظة عطف أهل البيت عليهم السّلام عليه الدال على المغايرة استقلال كل منهما بالإفادة، و عدم افتراقهما كما في الخبر لا يدلّ على توقف فهم جميع القرآن على بيان أهل البيت عليهم السّلام بل يكفي أن يكون فائدة ذلك تفهيم المتشابهات و استنباط جميع العلوم من الكتاب، فإنه

قد ورد أنه ما من شي ء مما كان أو يكون الى يوم القيامة إلّا و علمه في الكتاب، و إنّ فيه علم الأرض و علم السماء «2».

و أيضا المراد من الخبر إمّا أن يكون لزوم التمسك بكل منهما لاستقلال كل في الحجية، أو بهما معا أو بالعترة مستقلا و بالكتاب بشرط بيان العترة له، و أما الثالث فيلزمه التفكيك المخالف للظاهر جدا، بل المقصود من الخبر خلافه، و أما الثاني فيلزمه عدم حجية كلام العترة إذا لم يفصح عنه الكتاب و هو كما ترى.

و أوهن منه توّهم أنّ حجية أقوالهم إنما هي لدليل آخر فيتعين الأول:

و يمكن أن يقال: إنّا نختار الثاني، و يؤيّده الحكم بعدم الافتراق، و حينئذ نقول في الجواب عن قوله: (عدم حجية كلام العترة) أنّه بعد

القول بعصمتهم و أنّ علومهم مستفادة من الكتاب إذ فيه تفصيل كل شي ء علمنا إذا أخبر الإمام عليه السّلام بحكم من الأحكام أنّه في كتاب اللّه و العترة مجتمعان على ذلك.

و يمكن الجواب عنه بأنّ الكتاب أيضا حاله كذلك، إذ الحكم المستنبط منه نعلم أنه لو سئل عن الأئمة عليهم السّلام لأفتوا به فاتفقا عليه، إلّا أنّ فيه أنّ استفادة الحكم من الكتاب أول الكلام، إذ للخصم أن يقول أن ما نفهمه ليس هو بعينه مراد اللّه

______________________________

(1) هذا الحديث كما مر سابقا مما اتفق على نقله و الف كتب قيمة فيه مثل كتاب الثقلين من العبقات للمير حامد حسين قدس سرّه في جلدين و غيره.

(2) بصائر الدرجات ص 195، وسائل الشيعة ج 18 ص 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 107

تعالى، بل نحتاج في استفادة مراده الى بيان الأئمة و إثبات حجية ظواهرها بأدلة أخرى إعراض عن الاستدلال به، و كيف كان فالاستدلال بالخبر لا يخلو عن نظر.

و منها جملة من الأخبار التي مرّت الإشارة الى شطر منها كبعض أخبار العرض، و ما ورد في تفسير المحكم و المتشابه، و في فضل القرآن و شرفه، و أنه المخرج من الفتنة، و هو الفصل ليس بالهزل، و لا يشبع منه العلماء، و لم تلبث الجنّ إذا سمعته

«ان قالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد، و أنّه إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، و ما حل مصدّق، و من جعله أمامه قاده الى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه الى النار، و هو الدليل يدّل على خير سبيل، هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و أنّ من

استضاء به نوّره اللّه، و من عقد به أموره عصمه اللّه، و من تمسّك به أنقذه اللّه، و من لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، و من استشفى به شفاه اللّه، و من آثره على ما سواه هداه اللّه، و من طلب الهدي في غيره أضله اللّه، و من جعله شعاره و دثاره أسعده اللّه «1».

بل

في الخبر عن السجاد عليه السّلام أنّ القرآن بلغة العرب فيخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم، أما نقول للرجل التميمي الذي قد أغار قومه على بلد و قتلوا فيه أغرتم على بلد و فعلتم كذا الخبر.

و

في موثقة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل شرب الخمر في عهد أبي بكر و عمر، و اعتذر بجهله بالتحريم، فسألا أمير المؤمنين عليه السّلام عن ذلك

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 9 ط. القديم. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 108

فأمر عليه السّلام بأن يدار به على مجالس المهاجرين و الأنصار و قال: من كان قرء عليه آية التحريم فليشهد عليه، ففعلوا ذلك، فلم يشهد عليه أحد فخلّى عنه «1».

و نحوه

رواية أبي بصير عنه عليه السّلام و فيها: فإن لم يكن تلي عليه آية التحريم فلا شي ء عليه «2».

و

عن «الخصال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أتخوّف على أمتي من بعدي ثلث خلال أن يتأولّوا القرآن على غير تأويله، أو يبتغوا زلّة العالم، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا، و سأنبئكم المخرج من ذلك، و أمّا القرآن فاعملوا بمحكمه، و آمنوا بمتشابهه «3».

و

في «جامع الأخبار» «4» و «غوالي اللئالي» عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ

______________________________

(1) الفروع من الكافي ج 7 ص 216.

(2) الفروع من

الكافي ج 7 ص 249.

(3) الخصال ص 76 ط. الشفيعي بطهران.

(4) كتاب جامع الأخبار اختلف في مؤلفه، المشهور أنه للصدوق و لكنه خلاف التحقيق. قال المحدث الخبير العلامة المجلسي قدس سرّه في مقدمة البحار: أخطأ من نسب كتاب جامع الأخبار الى الصدوق، بل يروي عن الصدوق بخمس وسائط، و قد يظنّ كونه تأليف مؤلف مكارم الأخلاق، و يحتمل كونه لعلي بن سعد الخيّاط، لأنه قال الشيخ منتجب الدين في فهرسه: الفقيه الصالح أبو الحسن علي بن أبي سعد الخيّاط عالم، ورع واعظ، له كتاب الجامع في الأخبار، و يظهر من بعض الكتاب أنّ اسم مؤلّفه محمّد بن الشعيري، و من بعضها أنه يروي عن الشيخ جعفر بن محمد الدرويستي بواسطة و يظهر من تعليقه البحار ج 1 ط الآخوندي بطهران أنّ مؤلف جامع الأخبار كان من علماء عصر الخامس و السادس من الهجرة حيث نقل عن جامع الأخبار ص 10: حدثنا الحاكم الرئيس الإمام مجد الحكام أبو منصور على بن عبد اللّه الزيادي أدام اللّه جماله أملاء في داره يوم الأحد الثاني من شهر اللّه الأعظم رمضان سنة ثمان و خمسمائة. قال حدثني الشيخ الإمام أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الدرويستي إملاء أورد القصة مجتازا في أواخر ذي الحجة سنة أربع و سبعين و أربعمائة. قال حدثني أبو محمد بن أحمد. قال حدثني الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي اللّه عنه إلخ .. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 109

كتاب اللّه على أربعة أشياء: على العبارة، و الإشارة، و اللطائف، و الحقائق، فالعبارة للعوامّ، و الإشارة للخواصّ، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء «1».

دلالة هذه الروايات على المطلوب بيّنة، و المراد بالخواصّ

غير الأئمة المعبّر عنهم بالأولياء و إلا لا تحدّث معها و صارت الأربعة ثلثه، مضافا الى مقابلتها للعوامّ فلكلّ من الطوائف الأربع حظّ و نصيب من فهم القرآن و علمه.

و

في «الاحتجاج» عنه عليه السّلام في حديث الزنديق الذي جاء بأي من القرآن زاعما تناقضها حيث قال عليه السّلام بعد كلام طويل: ثم إن اللّه جلّ ذكره بسعة رأفته و رحمته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدّلون قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه و لطف فهمه و حسّه و صحّ تمييزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلّا اللّه و أمناؤه الراسخون في العلم الخبر «2».

و

في العلوي المذكور في «النهج» و غيره بعد قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ الآية «3»: فالردّ الى اللّه الأخذ بمحكم كتابه، و الردّ الى الرسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة،

ففي «النهج» في معنى الخوارج و لما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا لم تكن الفريق المتولّي عن كتاب اللّه تعالى قال اللّه سبحانه: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ «4» فردّوه الى اللّه نحكم بكتابه «5».

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 19 ص 27 ط. القديم عن الدرة الباهرة.

(2) الاحتجاج: ص 130، وسائل الشيعة ج 18 ص 143.

(3) النساء: 59.

(4) النساء: 59.

(5) نهج البلاغة لفيض الإسلام ص 377.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 110

و من هنا يظهر أنّ الآية المفسّرة بالخبر حجة لنا، و أنّ الجهل بالمراد من الردّ الى اللّه ضعيفة بعد ظهوره من المقابلة في الآية و تفسيره في الخبر، كضعف احتمال إرادة الرّد إليها معا،

فإنّ الردّ الى كلّ ردّ الى الكلّ، لعدم الفرقة عند الفرقة.

و أمّا ما يقال: إنّ المحكم لا نعلم المراد به سلّمنا كون الآية منه لكنّا تنازعنا في جواز العمل بالظواهر، فإن دلّت على الجواز فأين موضع الإفادة، أو على الرجوع الى محكم غيرها فأين ذلك المحكم.

ففيه أنّ الظاهر من المحكم عرفا ما كان له دلالة ظاهرة يفهمها أهل اللسان و هو الظاهر من الأخبار الواردة في تفسيره أيضا، بل و من مقابلته بالمتشابه المفسّر في كلامهم عليهم السّلام بما اشتبه على جاهة، و أمّا ما هو المرجع في المتنازع فيه فالآيات الكثيرة التي مرّت إليها الإشارة.

و من أطرف ما أورد على الاستدلال بها في المقام معارضتها بقوله تعالى:

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «1» و قوله تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ «2»، و قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» و قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «4» و قوله تعالى: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ «5»، الآيات، و هو كما ترى.

و

عن تفسير العيّاشي عن هشام رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قيل له روي

______________________________

(1) النساء: 65.

(2) الحشر: 7.

(3) الأحزاب: 21.

(4) النحل: 44.

(5) النساء: 83. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 111

عنكم أنّ الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجال، فقال عليه السّلام: ما كان اللّه ليخاطب خلقه بما لا يعقلون «1».

و

عن كنز الفوائد للكراجكي «2» قال جاء في الحديث أنّ قوما أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: أ لست رسول اللّه تعالى؟ قال لهم: بلى، قالوا له: و هذا القرآن الذي أتيت به كلام اللّه تعالى؟ قال عليه السّلام:

نعم، قالوا: فأخبرنا عن قول اللّه: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «3»، إذا كان معبودهم معهم في النار فقد عبدوا المسيح، أ فنقول: إنّه في النار؟ فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن اللّه سبحانه أنزل القرآن عليّ بكلام العرب، و المتعارف في لغتها أنّ ما لما لا يعقل، و من لمن يعقل، و الذي يصلح لهما جميعا، فإن كنتم من العرب فأنتم تعلمون هذا قال اللّه تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ يريد الأصنام التي عبدوها و هي لا تعقل، و المسيح لا يدخل في جملتها فإنه يعقل، و لو قال: إنكم و من تعبدون لدخل المسيح في الجملة، فقال القوم: صدقت يا رسول اللّه.

و

في «الكافي» و «المحاسن» عن محمد بن منصور قال سألت عبدا

______________________________

(1) تفسير العياشي ج 1 ص 341، وسائل الشيعة ج 2 أبواب ما يكتسب به باب 100.

(2) قال مؤلف البحار في مقدمته: و أمّا الكراجكي فهو من أجلّة العلماء و الفقهاء و المتكلمين و أسند إليه جميع أرباب الإجازات. و كتابه كنز الفوائد من الكتب المشهورة التي أخذ عنه جل من أتى بعده.

و سائر كتبه في غاية المتانة. و قال الشيخ منتجب الدين في فهرسه: الشيخ العالم الثقة أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي فقيه الأصحاب قرء على السيد المرتضى علم الهدى و الشيخ الموفق أبي جعفر و له تصانيف منها: كتاب التعجب، و كتاب النوادر. كان الكراجكي فقيها، أصوليا، محدثا، عالما بالنجوم و الهيئة، نحويا لغويا، طبيبا متكلما. من كبار العلماء و أعاظم الإمامية. تلمذ على الشيخ المفيد، و السيد المرتضى و سافر في طلب العلم الى بلاد كثيرة

و أكثر أقامته في الديار المصرية. توفي سنة 449.

(3) الأنبياء: 98. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 112

صالحا «1» عن قول اللّه عزّ و جلّ إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر و ما بطن، قال عليه السّلام إنّ القرآن له ظاهر و باطن، فجميع ما حرّم اللّه في القرآن فهو حرام على ظاهره كما هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب فهو حلال و هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الهدى «2».

و

في العلل عن الباقر عليه السّلام في حديث الطينة في قوله تعالى: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ «3» قال عليه السّلام: هو في الظاهر ما تفهمونه و في الباطن كذا إلخ .. «4»

و

في «الخصال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أمّا القرآن فاعملوا بمحكمه و آمنوا بمتشابهه «5».

و

عن الصادق عليه السّلام قال: القرّاء ثلاثة (ثم ذكرهم و ذمّ إثنين منهم و مدح واحدا و هو) من يعمل بمحكمه، و يؤمن بمتشابهه، و يقيم بفرائضه، و يحلّ حلاله، و يحرّم حرامه «6».

و

في «العيون»، من ردّ متشابه القرآن الى محكمه فقد هدى الى صراط مستقيم «7».

______________________________

(1) المراد بالعبد الصالح موسى بن جعفر عليهما السّلام.

(2) الأصول من الكافي ج 1 ص 374 بتفاوت يسير من الألفاظ.

(3) يوسف: 79.

(4) تفسير نور الثقلين ج 2 ص 49 في تفسير سورة يوسف عن علل الشرائع للصدوق.

(5) الخصال للصدوق ج 1 ص 76 ط. الشفيعي بطهران.

(6) الخصال للصدوق ج 1 ص 290 ط. الآخوندي بطهران.

(7) عيون أخبار الرضا للصدوق ج 1 ص 290 ط. الآخوندي بطهران.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 113

و

في «الكافي» و «الفقيه» عن عبيد بن زرارة

قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «1»، قال عليه السّلام: ما أبينها من شهد فليصمه، و من سافر فلا يصمه «2».

و

في «الكافي» و «التهذيب» عن الصادق عليه السّلام في حديث قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «3»، فلو سكت لم يبق أحد إلّا تعجّل لكنّه قال: وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «4». «5»

و

في «العلل» في الصحيح و تفسير العياشي عن زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام أ لا تخبرني من أين علمت و قلت إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟

فضحك (عليه السّلام) و قال: يا زرارة قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل به الكتاب من اللّه تعالى فإنّ اللّه يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا أن الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فوصل اللّه اليدين الى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا الى المرفقين ثمّ فصل بين الكلامين فقال:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فعرفنا حين قال برؤوسكم أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضها الخبر «6»

، و قريب منه خبران آخران.

و

في «الكافي» و «التهذيب» عن عبد اللّه الأعلى مولى آل سام قال: قلت

______________________________

(1) البقرة: 185.

(2) الفروع من الكافي ج 1 ص 197، من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 49.

(3) البقرة: 203.

(4) البقرة: 203.

(5) الفروع من الكافي ج 1 ص 307، التهذيب ج 1 ص 524.

(6) علل الشرائع ص 103، من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 30، الفروع من الكافي. تفسير الصراط المستقيم،

ج 2، ص: 114

لأبي عبد اللّه عليه السّلام: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة «1» فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال عليه السّلام: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه، قال اللّه تعالى:

وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» امسح عليه «3».

و

عنه عليه السّلام في ذبائح أهل الكتاب فقال عليه السّلام: قد سمعتم ما قال اللّه تعالى في كتابه، قالوا نحبّ أن تخبرنا فقال عليه السّلام: لا تأكلوها «4» إلخ.

و

في الصحيح عنه عليه السّلام: لو أنّ رجلا دخل في الإسلام فأقرّ به ثم شرب الخمر، و زنى، و أكل الرّبا، و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام، لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا إلّا أن تقوم عليه البينة أنّه قرأ السورة التي فيها الزنا، و الخمر، و أكل الرّبا «5».

و في أخبار كثيرة عنهم الاستشهاد بكثير من الآيات بل في أكثرها: ألم تسمع اللّه تعالى يقول: ألا ترى أنّ اللّه تعالى قال؟ أما تتلو كتاب اللّه؟ أما تقرأ من القرآن كذا؟ أما تقرأ كتاب اللّه؟ أما سمعت قول اللّه؟ بل كثير منها البحث عن الدلالة و كيفيّتها كما سمعت الخبر في كيفيّة المسح، و في تفسير إنّكم و ما تعبدون، و غيره.

و

في الصحيح عن زرارة و محمد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ فقال عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

______________________________

(1) المرارة هي الجبيرة.

(2) الحج: 78.

(3) الفروع من الكافي ج 1 ص 103.

(4) التهذيب ج 2 ص 354.

(5) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 39. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 115

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا

مِنَ الصَّلاةِ «1» فصار التقصير في السفر واجبا، كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا: إنما قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ «2»، و لم يقل افعلوا فكيف أوجب ذلك؟ كما أوجب التمام في الحضر فقال عليه السّلام: أو ليس قد قال اللّه: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «3» ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه تعالى ذكره في كتابه، و صنعه نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) و كذلك التقصير بهما واجب مفروض، لأنّ اللّه ذكره في كتابه، و صنعه نبيه صلّى اللّه عليه و آله و ذكره اللّه تعالى في كتابه الخبر «4».

و الدلالة بيّنة، و قرينة التجوّز على فرضه قوله و فعله عليه السّلام و التعكيس موهون جدا، الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي لا داعي الى التعرّض لها بعد التأمل في الوجوه المتقدمة التي يمكن تحصيل القطع من ملاحظة كلّ منها بانفراده، فإنّ من لاحظ جميع الأخبار الواردة في تفسير الآيات المتعلقة بالأحكام، بل غيرها من القصص و المواعظ، و المواعيد، و الأصول، و غيرها مع ملاحظة مطابقة مداليل تلك الأخبار للآيات، و كذا استشهاد الأئمة عليهم السّلام بها، و كذا الصحابة، و التابعين.

و عدم سؤالهم عن تفسيرها إلّا ما كان متشابها منها يقطع بأن مداليلها الظاهرة مقصودة منها، و إن كان غيرها مقصودة أيضا سيّما مع كون الكتاب على نظم عجيب، و نمط غريب، و اشتماله على وجوه الفصاحة و البلاغة

______________________________

(1) النساء: 101.

(2) النساء: 101.

(3) البقرة: 158.

(4) من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 141، تفسير العيّاشي ج

1 ص 271.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 116

و الاستعارات الرائقة، و الكنايات المبتكرة الفائقة، و محاسن العبارات، و لطائف الإشارات و غيرها من الأمور المتوقفة على فهم المعنى، كيف و لو لم يكن ما نفهمه من الظواهر مقصودا لم نقدر على استنباط تلك الأمور و فهمها، و لا على العلم بكونه معجزة باقية على مرّ الدهور و الأيّام، بل علما لهداية كافّة الأنام.

و أيضا لم يعهد الطعن على أحد في الإحتجاج في إثبات المسائل الأصولية و الفقهيّة و الكلاميّة، و من ثمّ ترى كلّ ذي فنّ و علم يجتهد في انتهاء علمه الى الكتاب، و الاستدلال به لمقصوده.

و أيضا لم يمنع أحد عن تفسير الكتاب و تدريسه و تصنيفه بل نجد كثيرا من أصحابهم ممّن صنّف فيه، و في خصوص الآيات المتعلقة بالأحكام المضبوطة عندهم بما يقرب من خمسمائة، بل نجد التفاسير المأثورة عنهم عليهم السّلام كتفسير مولانا أبي محمّد العسكري عليه السّلام و غيره مطابقة للظواهر المستفادة إلّا ما كان فيها من المواطن و التأويلات.

و أيضا المعهود من طريقة جميع أصحاب المذاهب و الملل و الأديان و النحل إتّباع الكتاب المنزل عليهم من ربّهم أو الموروث من رئيسهم، و صاحب مذهبهم.

و من ثمّ لم يعهد من اللّه سبحانه ذمّ اليهود و النصارى بالعمل بما وجدوه في التوراة و الإنجيل بل ورد الأمر بإقامتهما و اتباع ما أنزل اللّه فيهما.

بل لعلّ الضرورة قائمة على لزوم العمل بالظواهر المستفادة من الكتب الإلهية سيّما القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه بل و كانت الأمّة مجمعة على ذلك حتّى الأخباريين منهم، حتى أنّ جملة منهم قد صدّروا كتبهم، و الاستدلال على مطالبهم

بالآيات القرآنية، كصاحب «روضة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 117

الواعظين»، و «دعائم الإسلام» و «جامع الأخبار».

و قال ثقة الإسلام في «الكافي»: و أنزل عليه الكتاب فيه البيان و التبيان قرآنا عربيّا غير ذي عوج لعلهم يتّقون، الى أن استدل بجملة من الآيات على وجوب التفقّه في الدين «1».

و الصدوق قد استدلّ في مواضع من «الفقيه» و «الإعتقادات» و «إكمال الدين» و غيرها من كتبه بجملة من الآيات، و لم تزل الشيعة الإماميّة بل الأمة كافّة مجتمعة على ذلك في جميع الأعصار و الأمصار الى أن نشأ جملة من المحدّثين كالأمين الاسترابادي «2» و الشيخ الحرّ العاملي «3» و بعض ممّن تبعهما فيه فرفضوا حجيّة الكتاب، و منعوا عن الاستدلال به، لا لما كان سلمان «4» يقوله

______________________________

(1) خطبة كتاب الكافي ص 3 الى ص 7.

(2) قال الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل: مولانا محمد أمين الاسترابادي فاضل محقق ماهر، متكلّم فقيه، محدّث ثقة، جليل، له كتب منها كتاب الفوائد المدنية و مصنفات أخرى يروى عن شيخنا زين الدين بن محمد بن الحسن العاملي، و قد ذكره صاحب السلافة و أثنى عليه و ذكر أنه جاور بمكة و توفى بها سنة (1036) كان رحمه اللّه في مبادئ أمره داخلا في دائرة الاجتهاد، ثم رجع و ألّف الفوائد و حمل في كتبه على المجتهدين.

(3) قد مرّت ترجمته من قبل.

(4) سلمان الفارسي: صحابي: من مقدميهم. كان يسمي نفسه سلمان الإسلام. أصله من أصبهان عاش عمرا طويلا، و اختلفوا فيما كان يسمى به في بلاده، و قالوا: نشأ في قرية جيان، و رحل الى الشام، فالموصل، فنصيبين، و قرأ كتب الفرس و الروم و اليهود و قصد بلاد العرب، فلقيه

ركب من بني كليب فاستخدموه، ثم استعبدوه و باعوه، فاشتراه رجل من قرية فجاء به الى المدينة، و علم سلمان بخبر الإسلام، فقصد النبي صلّى اللّه عليه و آله بقباء و سمع كلامه، و لازمه أياما، فأعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه فأظهر إسلامه، و كان قوي الجسم، صحيح الرأي عالما بالشرائع و غيرها، و هو الذي دلّ المسلمين على حفر الخندق في الأحزاب، حتى اختلف عليه المهاجرون و الأنصار و كلاهما يقول:

سلمان منّا،

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلمان منّا أهل البيت

، و

سئل عنه علي عليه السّلام: امرؤ منّا و إلينا أهل تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 118

للناس على ما

رواه شيخنا الكشي بإسناده عن محمد بن حكيم قال: ذكر عند أبي جعفر سلمان فقال ذاك سلمان المحمدي، أنّ سلمان منّا أهل البيت، إنّه كان يقول للناس هربتم من القرآن الى الأحاديث وجدتم كتابا رفيعا حوسبتم على التفسير و القطمير و الفتيل، و حبّة خردل فضاق ذلك عليكم و هربتم الى الأحاديث التي اتسعت عليكم، إلخ «1».

بل لشبهة عرضت لهم قد نشأت من ملاحظة الأخبار الكثيرة الدّالة على أنّ علم الكتاب ممّا منح اللّه تعالى به الأئمّة عليهم السّلام، و أنّه لا يعلم المحكم و المتشابه، و الناسخ، و المنسوخ، و العام، و الخاصّ منه غيرهم، و أنّه يجب الرجوع إليهم في ذلك، و أنّه لا يعلم تفسيره و لا تأويله و باطنه غيرهم، و أنّه إنما يعرف القرآن من خوطب به، و أنّه لا يعلمه كما أنزله اللّه تعالى غيرهم.

و قد عقد في «الوسائل» بابا لعدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلّا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة عليهم

السّلام، و أورد فيه أخبارا يقضي

______________________________

البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، علم العلم الأول، و العلم الآخر، و كان بحرا لا ينزف، و جعل أميرا على المدائن، فأقام فيها الى أن توفي سنة 36 ه.

الأحاديث في فضائل سلمان كثيرة منها ما

عن منصور بن بزرج قال: قلت للصادق عليه السّلام ما أكثر ما أسمع منك سيدي ذكر سلمان الفارسي، قال عليه السّلام: لا تقل سلمان الفارسي و لكن قل سلمان المحمدي أ تدري ما كثرة ذكري له؟ قال: لا قال عليه السّلام: لثلاث خصال: إحداهما إيثاره هوى أمير المؤمنين عليه السّلام على نفسه، و الثانية حبّه للفقراء و اختياره إياهم على أهل الثروة و العدد، و الثالثة حبّه للعلم و العلماء، إن سلمان كان عبدا حنيفا مسلما و ما كان من المشركين.

و منها

عن الصادق عليه السّلام، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام يحدّثان سلمان بما لا يحتمله غيره من مخزون علم اللّه و مكنونه.

طبقات ابن سعد ج 4 ص 53، الأعلام للزركلي ج 3 ص 169، سفينة البحار ج 1 ص 646، حلية الأولياء ج 1 ص 419.

(1) قاموس الرجال ج 4 ص 419.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 119

جلّها لو لم نقل كلّها على ضدّ مقصده، كما ترى أنّ كثيرا من الأخبار التي سمعت الاستدلال بها على الحجيّة مأخوذة منه «1».

و أمّا ما ربما يوهم الدلالة على ما توهّموه ممّا ذكروه فالصحيح

عن منصور ابن حازم قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إن اللّه أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه الى أن قال: و قلت للناس: أليس تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

كان الحجّة من اللّه على خلقه؟ قالوا: بلى قلت: فحين مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كان الحجّة على خلقه؟

قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجئ و القدري و الزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلّا بقيّم، فما قال فيه من شي ء كان حقا إلى أن قال: فاشهدوا أنّ عليا عليه السّلام كان قيّم القرآن، و كانت طاعته مفترضة، و كان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ «2».

و فيه أنّ مخاصمة الفرق فيه إنما هو بالأخذ بالتأويل الذي لا يعلمه إلّا اللّه و الراسخون في العلم و القرآن و إن كان مشتملا على جميع الحقائق و الأحكام إلّا أن علمه على هذا الوجه مودّع عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام، و أين هذا من حجيّة الظواهر التي لا يستفاد منها إلّا أقل قليل من الأحكام، فإن الإختصاص إنما هو في المجموع لا في كلّ ما يستفاد منه.

و من هنا يسقط الاستدلال لهم بالعلوي: ما من شي ء تطلبونه إلّا و هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني، بل و

النبوي: يا علي أنت تعلّم الناس تأويل

______________________________

(1) وسائل الشيعة كتاب القضاء الباب الثالث عشر باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلّا بمعرفة تفسيرها من الأئمة عليهم السّلام و في هذا الباب: 82 حديثا.

(2) الكافي ج 1 ص 168، علل الشرائع ج 1 ص 183. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 120

القرآن «1»

، بل دلالته على ما ذكرناه واضحة جدا.

و

بالجعفري في جواب رجل

حيث سأله و ما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى لو وجدوه له مفسّرا، قال: و ما فسّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: بلى فسّره لرجل واحد، و فسّر للأمة شأن ذلك الرجل و هو علي بن أبي طالب «2».

فإن المراد الكفاية في جميع الأحكام كي يستغني الناس عن الإمام، و منه يظهر الجواب عن خبر دخول الصوفيّة على الصادق عليه السّلام و احتجاجاتهم عليه «3».

بل و

من قول الباقر عليه السّلام لقتادة إن كنت إنما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت و يحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به «4».

و

من قوله عليه السّلام ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده علم جميع القرآن كلّه ظاهره و باطنه غير الأوصياء «5».

و

في «المحاسن» البرقي عن الصادق عليه السّلام في رسالته: فأمّا ما سئلت القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت، و كلّ ما سمعت فمعناه على غير ما ذهبت إليه، و إنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم، و لقوم يتلونه حقّ تلاوته، و هم الذين يؤمنون به و يعرفونه، و أما غيرهم فما أشدّ إشكاله عليهم، و أبعده عن مذاهب قلوبهم، و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 195.

(2) الكافي ج 1 ص 242.

(3) روضة الكافي ص 269.

(4) روضة الكافي ص 311.

(5) بحار الأنوار ج 19 ص 23 ط. القديم عن بصائر الدرجات. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 121

إنه ليس شي ء أبعد عن قلوب الرجال من تفسير القرآن، في ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء اللّه،

و إنّما أراد اللّه بتعميمه في ذلك أن ينتهوا الى بابه، و صراطه، و أن يعبدوه و ينتهوا في قوله الى طاعة القوّم بكتابه، و الناطقين في أمره و أن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم ثم قال: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «1»، فأمّا عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا، و لا يوجد.

و قد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر لأنهم لا يجدون من يأتمرون عليه، و من يبلّغونه بأمر اللّه و نهيه فجعل اللّه الولاة خواصّ ليقتدى بهم فافهم ذلك إن شاء اللّه، و إيّاك و تلاوة القرآن برأيك فإن الناس غير مشتركين في علمه كإشتراكهم فيما سواه من الأمور، و لا قادرين على تأويله إلّا من حدّه و بابه الذي جعله اللّه له فافهم إن شاء اللّه و اطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء اللّه «2».

قلت: و فيه إشارات الى أنّ المقصود علم جميع القرآن حتى المتشابه. بل جميع القرآن حتى التأويل و البطون، و هذا هو الذي يوجب الرجوع الى من جعله اللّه أبوابه و صراطه كما لا يخفى على من تأمّل في هذا الخبر و غيره من الأخبار المتقدمة مضافا الى أنّ ما سمعت من الشواهد و الأخبار حاكمة على هذه لو فرضنا فيها ظهورا أو إطلاقا و معه يوهن الاستدلال بها جدّا.

و أوهن منه ما استدلّ به الشيخ الحرّ في فوائده الطوسية مضافا الى الأخبار التي قد سممعت الجواب عنها و أنّها بالدلالة على عكس مطلوبه أشبه من أن

______________________________

(1) النساء: 83.

(2) المحاسن ص 268، وسائل الشيعة ج 18 ص 141

عن المحاسن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 122

النصّ المتواتر و إجماع الإمامية دلّا على أنّ الذي نزل من القرآن قراءة واحدة، و أنّ الباقي رخص في التلاوة به في زمن الغيبة، و لا دليل على جواز العمل بكل واحدة من القراءات مع كثرتها جدّا و كونها مغايرة للمعنى غالبا.

و أنّ ظواهر القرآن أكثرها متعارضة بل كلّها عند التحقيق، و ليس لنا قاعدة يدلّ عليها الدليل في الترجيح هناك، و إنما وردت المرجّحات المنصوصة في الأحاديث المختلفة مع قلّة اختلافها بالنسبة الى اختلاف ظواهر الآيات فلو كنّا مكلّفين بالعمل بتلك الظواهر القرآنية من غير رجوع في معرفة أحوالها الى الإمام عليه السّلام لو ردت مرجّحات و قواعد كلّية يعمل بها كما وردت هناك، و إنما وجدنا جميع أهل المذاهب الباطلة و الإعتقادات الفاسدة يستدلّون بظواهر القرآن استدلالا أقوى من الاستدلال على الأحكام التي استنبطها المتأخرون من آيات الأحكام بآرائهم، فلو كان العمل بتلك الظواهر جائزا من غير رجوع الى الأئمة عليهم السّلام في تفسيرها و معرفة أحوالها من نسخ و تأويل و تخصيص و غيرها لزم صحّة جميع تلك المذاهب الباطلة من الجبر و التفويض و التشبيه، بل الشرك، و الإلحاد، و نفي الإمامية و العصمة بل مذهب المباحية، بل مذهب النصيرية، و كذا جميع المذاهب الباطلة.

و الى هذا أشار

الصادق عليه السّلام بقوله: احذروا فكم من بدعة زخرفت بآية من كتاب اللّه ينظر الناظر إليها فيراها حقّا و هي باطل.

و أنّ ذلك لو جاز الاستغناء عن الإمام عليه السّلام: لأنّه ما من مطلب من مطالب الأصول و الفروع إلّا و يمكن أن يستنبط من ظاهر آية أو آيات فأيّ حاجة الى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 123

الإمام؟

و قد صرّح بنحو ذلك القاضي عبد الجبّار «1» و غيره من علماء العامّة، و ذلك مباين لطريقة الإمامية معارض لأدلّة الإمامة، و اللازم باطل فكذا الملزوم.

و أنّ ظاهر حديث الثقلين وجوب التمسّك بهما معا فمن تمسك بالكتاب و لم يرجع في تفسيره و معانيه الى العترة لم يكن قد تمسّك بهما و إلّا لزم كون المخالفين المستدلّين بتلك الظواهر قد تمسّكوا بهما لأنهم يعترفون بفضل العترة، و هو واضح البطلان، و لو علم معاني الكتاب و قدر على الاستنباط منه غير العترة لافترقا و هو خلاف النصّ، لكن من تمسّك بالعترة كان قد تمسّك بهما لأنهم لا يخالفون الحقّ من تلك الظواهر المتعارضة، و أكثر تلك الظواهر مخالفة للعترة فظهر الفرق، و الى هذا المعنى أشار

مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: هذا كتاب اللّه الصامت، و أنا كتاب اللّه الناطق.

و أن كلّ آية يحتمل النسخ و التأويل و غيرهما إذا قطعنا النظر عمّا سواه فلا وثوق بجواز العمل بها إلّا أن يقترن بها حديث عن الأئمة عليهم السّلام.

و أنّ تعريف المتشابه صادق على كلّ آية من آيات الأحكام النظرية لاحتمال كل واحدة منها بل كل لفظة لوجهين فصاعدا إذا قطعنا النظر عن الأحاديث مضافا الى احتمال النسخ و غيره.

و الوهن في الوجوه المذكورة بيّن لمن يكون له أدنى تأمل، لضعف الأوّل بأنّ الاختلاف في القراءة سيّما في الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية ليس بحيث يوجب الاختلاف في الأحكام كما لا يخفى على من أمعن النظر في الاختلافات

______________________________

(1) قاضي القضاة عبد الجبّار بن أحمد الهمذاني الأسد الأسدآبادي، قاض، أصولي، كان شيخ المعتزلة في عصره، و لي القضاة بالري و مات سنة 415. له تصانيف كثيرة

منها: تنزيه القرآن عن المطاعن.

لسان الميزان ج 3 ص 386، تاريخ بغداد ج 11 ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 124

المتعلقة بها، و على فرضه كما في قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «1»، فقد قيل بتواتر القراءات السبع أو العشر حسبما تأتي إليه الإشارة، و مع تسليم العدم فقد ينزّل غير المتواتر منها منزلة الأخبار الآحاد، سلّمنا التعارض لكن باب الترجيح مفتوح، على أن الرجوع في مثله الى غيرها من الأدلّة لا يقدح في غيره مما لا اختلاف فيه و لا معارض له.

و الثاني بمنع التعارض حقيقة في الجلّ فضلا عن الكلّ سيّما في الأحكام، و على فرضه فالمرجع القواعد التي يفزع إليها في جملة المخاطبات من المحكم بالنسخ، أو التخصيص، أو التقييد، أو البيان، أو غيرها ممّا هو المقرّر عند أهل اللسان.

و الثالث بأنّ ما ذكره من استدلال جميع أرباب المذاهب بالظواهر القرآنيّة حقّ لا شبهة فيه، لكنّه يقضي بإجماعهم على حجيّته و وجوب الأخذ به، نعم ما يستدلّون به على باطلهم ليس من الظواهر التي هي من المحكمات، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «2»، على أن التعارض و التشابه واقع في نوع الأخبار التي هي حجّة عندهم قطعا، مضافا الى أنّ في قوله يستدلّون بظواهر القرآن استدلالا أقوى نظرا من وجهين، فإن استدلالهم ليست بالظواهر فضلا من أن تكون أقوى، و نسبة الاستنباط الى المتأخرين غريب جدا، فإنّ الطريقة كانت جارية مستمرة من لدن نزول القرآن الى هذا الزمان على استنباط الأحكام من ظواهرها، بل الأصول الاعتقادية أيضا حسبما صرّح

به في كلامه.

______________________________

(1) البقرة: 222.

(2) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 125

و لذا

قال مولانا أبو الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه السّلام في رسالته الي أهل الأهواز حين سئلوه عن الجبر و التفويض: إنه اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، و على تصديق ما أنزل اللّه مهتدون لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا تجتمع أمتي على ضلالة، فأخبر عليه السّلام أنّ ما اجتمعت عليه الأمّة و لم يخالف بعضها بعضا هو الحقّ فهذا معنى الحديث، لا ما تأوله الجاهلون، و لا ما قاله المعاندون من أبطال حكم الكتاب و اتباع حكم الأحاديث المزورة و الروايات المزخرفة، و اتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيرات، الى أن قال في أبطال الجبر و قوله: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ، وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1»، و قوله: «و ما الله بظلام للعبيد» «2»، و قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «3» مع آي كثيرة في ذكر هذا الخبر «4»

بطوله المذكور في «الإحتجاج» و بوجه أبسط في «تحف العقول» و فيه الاستدلال بآيات كثيرة كلّها ظواهر في الردّ على أهل الجبر و غيره من الشواهد الكثيرة المتقدمة أنّ القرآن هو الصادق و المصدّق للأخبار، و الناطق عليها بالحق، و أنه الميزان و المعيار في تصديق الأخبار، و ترجيح مختلفاتها كما أنّ عليها المدار في إيضاح مشكلات القرآن و تعيين متشابهاتها.

و الرابع بما يغني عن بيانه وضوحه كيف و إنما الكلام في حجيّة الظواهر التي لا تشمل

إلّا على قليل من الأحكام، و أين هذا من استنباط جميع الحقائق

______________________________

(1) الكهف: 49.

(2) وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- فصلت: 46.

(3) يونس: 44.

(4) الاحتجاج ص 249- 252 إلّا أنه ليس في الحديث ذكر الآيتين الأخيرتين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 126

و الأحكام المدلول عليها في مراتب بطونه و تأويلاته كي لا نحتاج معه الى الأمام الذي أودعه اللّه تعالى علم كتابه المشتمل على جميع كان و ما يكون.

و الخامس بما سمعت آنفا من الاستدلال بالخبر على المختار و الظاهر أنّ المراد به الأخذ بما اتّضح من كلّ منهما، فإذا علم شي ء من محكمات الكتاب و ظواهره علم أنه قول العترة الطاهرة، و إذا صحّ شي ء منهم علم أنه مأخوذ من الكتاب، و إذا اختلف النقل منهم عرض على الكتاب الذي هو الحاكم على الأخبار المختلفة، أو المجعولة كما أنّ الكتاب إذا تشابهت دلالته أو اختلف في ظاهر النظر آياته وجب الرجوع فيها الى العترة الطاهرة، و أمّا المحكم منه فهو الحجة الحاكمة على ما وصل إلينا من أخبارهم.

و لذا

قال مولانا أبو الحسن العسكري عليه السّلام في الخبر المتقدم.

بعد ما سمعت حكايته: فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب و تصديقه و التماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال عليه السّلام: إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب اللّه مثل قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ «1»

ثم اتفقت روايات العلماء

في ذلك لأمير المؤمنين عليه السّلام أنه تصدّق بخاتمه و هو راكع (الى أن قال) فالخبر الأول الذي استنبط منه هذه الأخبار خبر صحيح، و هو أيضا موافق للكتاب، فإذا شهد الكتاب بتصديق الخبر لزم الإقرار به الخبر «2».

______________________________

(1) المائدة: 55.

(2) الإحتجاج ص 249- 252 و لا يخفى أن المؤلف نقل بالمعنى السطر الآخر لأنه على ما نقله المجلسي في البحار ج 5 ص 21 ط. «فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار و تحقيق هذه الشواهد فيلزم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 127

و السادس بأنّ مجرّد الاحتمال لا يدفع الاستدلال بعد حجيّة الظواهر مع أنه متطرّق الى الأخبار أيضا مضافا الى احتمالات أخرى من حيث السند.

و السابع بالمنع الواضح فإنّ مجرد احتمال المعاني المختلفة فضلا عن احتمال النسخ و التخصيص و التقييد و غيرها لا يوجب صيرورة المحكم الظاهر الدلالة متشابها.

نعم يجب الفحص في الأدلة اللفظية بلا فرق بين الرواية و الآية عن المخصّص و سائر المعارضات للعلم الإجمالي بالاختلاف و طرق الطوارئ من التخصيص و غيره في الجملة، و هذا لا اختصاص له بالآيات بل لعلّه في الأخبار أكثر منه فيها، و أين هذا من القول بعدم حجيّة الظواهر السالمة عن جميع المعارضات أو الراجحة عليها بعد الفحص التامّ كما هو محل البحث في المقام، فعدم وصول المعارض إلينا كاف في بقاء الظواهر على حجيّتها، مع أنّ مجرد الاحتمال متطرّق إليهما معا، و

قد ورد عنهم عليهم السّلام أنّ في أخبارنا محكما محكم القرآن، و متشابها كمثابة القرآن «1».

ثم إنّه قد ظهر من جميع ما مرّ ضعف ما ربّما يحكى عن الأمين الإسترابادي الذي هو أوّل من سدّ باب التمسك بالآيات حيث استدلّ لذلك

بعدم ظهور دلالة قطعية على الحجيّة، و يترتب المفاسد على فتح هذا الباب، ألا ترى أنّ علماء العامّة قالوا في قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2»: أنّ المراد بأولي الأمر، السلاطين، و بأنّ القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة الى أذهان الرعية، و بأنّه إنما نزل على قدر عقول أهل الذكر، و بأنّ

______________________________

الأمة الإقرار بها كانت هذه الأخبار موافقة للقرآن، و وافق القرآن هذه الأخبار».

(1) عيون الأخبار ط. قم ج 1 ص 290، وسائل الشيعة ج 18 ص 82 ط. بيروت.

(2) النساء: 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 128

العلم بناسخه و منسوخه، و الباقي على ظاهره، و غير الباقي على ظاهره ليس إلّا عند أهل البيت عليهم السّلام، و إنّ الظن ببقائها على ظاهرها إنما يحصل للعامّة دون الخاصّة الى غير ذلك ممّا يتضح الجواب عنه بالتأمل فيما ذكرناه آنفا.

كما أنه يظهر منه أيضا ضعف ما ذكره السيد صدر الدين «1» في «شرح الوافية» حيث استدلّ من قبل القائلين بحجيّة الظواهر القرآنية بأنّ المتشابه كما يدلّ عليه بعض الأخبار ما اشتبه على جاهة، فنقول لا شي ء من الظاهر بمشتبه، و كلّ متشابه مشتبه، فلا شي ء من الظاهر بمتشابه و إذا لم يكن متشابها فيكون محكما و كل محكم يجب العمل به وفاقا، أما الكبرى فللأخبار، و أما الصغرى فلأنّ معنى قوله ما اشتبه على جاهة هو أنّ غير الإمام المعبّر عنه بالجاهل بعد علمه بالوضع لا يتصور منه الجهل بالمراد من اللفظ بحيث يصير مترددا فيه، و لا شكّ أن الظاهر يكون المراد منه مظنونا فلا يكون مشتبها بهذا المعنى.

و أجاب عنه، أولا بما حاصله أنّ المظنون أيضا مشتبه

لصدق الجهل المقابل للعلم الذي هو الإعتقاد الجازم على الظن، فالظّان أيضا جاهل.

و ثانيا أنه لا دليل على حصر الآيات في المحكم و المتشابه، و الآية غير دالّة عليه بل يجوز أن يكون الحكم وجوب إتباع المحكم وردّ المتشابه الى العالم و الوقوف عند الظواهر.

قلت: و هو غريب جدا بعد قيام الإجماع القطعي على حجيّة الظواهر و أنّ

______________________________

(1) السيّد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القميّ، فقيه، تلمذ على المدقق الشيرواني و الآغا جمال الخونساري و الشيخ جعفر القاضي ثم رحل الى قم و قام بالتدريس حتى كثرت الفتن فانتقل الى النجف الخونساري و الشيخ جعفر القاضي ثم رحل الى قم و قام بالتدريس حتى كثرت الفتن فانتقل الى النجف و عظم موقعه في النفوس و اشتغل بالتدريس و تلمذ عليه جمع من الأعاظم مثل الأستاذ الأكبر المحقق البهبهاني و غيره، صنّف كتبا قيّمة مثل رسالة في حديث الثقلين، و شرح الوافية في الأصول، و كتاب الطهارة استقصى فيه المسائل و نصر مذهب ابن عقيل في عدم تنجس الماء القليل، توفي سنة 1160.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 129

الظن في باب اللغات حجّة و إن اختلفوا في حجيّته في الأحكام، مضافا الى أن المعروف من مذهب الأخباريين تفسير العلم بالاعتقاد الراجح الشامل له و لذا ادّعوا قطعيّة الإخبار حسبما فصّل في الأصول، و أغرب منه نفي الحصر و الالتزام بالتثليث فإنّ الظاهر من الآية بل كاد أن يكون صريحها الحصر مضافا الى دلالة الأخبار الكثيرة عليه.

ثم أنه رحمه اللّه فرّق في آخر كلامه بين ظواهر الكتاب و ظواهر الأخبار التي لا شك في حجيّتها، مع أنّ قضية إلحاق المظنون بالمتشابه في الموضعين: بأنّا لو خلّينا

و أنفسنا لعلمنا بظواهر الكتاب و السنّة عند عدم نصب القرينة العقلية و الفعليّة، و القوليّة المتصلة على خلافها، و لكن منعنا عن ذلك في العمل بالقرآن إذ منعنا اللّه عن إتباع المتشابه، و لم يبيّن حقيقته لنا، و منعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير القرآن، و لا ريب أن غير النصّ محتاج الى التفسير لتحقق الاحتمال فيه، و أوصيائه عليهم السّلام أيضا منعونا.

و أيضا ورد الذمّ في إتباع الظنّ من غير استثناء ظواهر القرآن لا قولا لا تقريرا، و ليس هناك دليل قطعي بل و لا ظني و لا إجماع على الاستثناء.

و أما الأخبار فقد علمنا بجواز العمل بظواهرها من غير فحص من جهة الإجماع.

أقول: أمّا حجيّة الظواهر فموضع وفاق حسبما برهن عليه في الأصول إذ عليه بناء المخاطبات و المحاورات، و المكاتبات في جميع اللغات، مع عدم التأمل من أحد في العمل بها مع قيام احتمالات عديدة من المجاز، و النسخ و التخصيص، و التقييد، و غيرها، و بالجملة فالأصل المؤسّس في المقام هو حجيّة الظواهر كما وقع التصريح به في مواضع من كلامه الذي لا داعي الى الأطناب بحكايته، و حينئذ فالاستدلال بالظواهر الناهية عن اتباع الظن مع كونه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 130

دوريا بل من وجهين إذا كانت من ظواهر الكتاب ضعيف جدا، نعم قد ادّعى المانع عن العمل بها و هو المنع عن إتباع المتشابه مع عدم بيان حقيقته.

و فيه أنّه مع فرض عدم البيان فالمرجع في فهم معناه العرف و اللغة الحاكمين على عدم شموله للظواهر التي لا يتأمل أحد من أهل العرف و اللغة في كونها من المحكم المفسر بما اتضح معناه و

ظهر لكل عارف باللغة، لا المتشابه الذي لا يعلم المراد به إلّا بقرينة تدلّ عليه أو بغيره ممّا مرّت إليه الإشارة، على أنّ دعوى عدم بيان حقيقته ممنوعة جدّا كيف و قد سمعت دلالة الأخبار عليه، و قضيّتها كون المنسوخ منه لا ما احتمل نسخه سيّما بعد تأسيس الأصل المتقدم، كما أنه لا يرفع اليد عن العام و المطلق و غيرهما من الظواهر التي هي الحقائق بمجرّد احتمال التخصيص و التقييد و الإضمار و غيرها ممّا يعدّ في المجاز، هذا مضافا الى أنهما مفسّران في الأخبار بما يؤول الى المعنى العرفي حسبما سمعت في ما مرّ.

و من هنا يظهر النظر فيما أطنب من الكلام من نصرة الأخباريين سيّما فيما مهّده من المقدمة الثانية لذلك فلاحظ بل و فيما ذكره المحدث البحراني (رحمه اللّه تعالى) «1» في مقدمات «الحدائق»، و في «الدرر النجفية». و ان اختار في آخر

______________________________

(1) المحدث الكبير، و الفقيه العظيم الشيخ يوسف بن أحمد البحراني، كان محدثا، فقيها، غزير العلم. ولد في قرية ماحوز سنة 1107 و قام والده العلّامة الكبير بتدريبه و تربيته و تصدّى لتدريسه و تعليمه حتى أكمل في العلوم الأدبية و مهر فيها، مضى من عمره أربع و عشرون سنة و قد صار جامعا للعلوم العقلية و النقلية و لكن في هذه السنة أي 1131 مات والده تغمده اللّه برحمته، بقي المترجم بعد أبيه بالقطيف سنتين حتى احتلّت الأفاغنة بلاد إيران و قتلوا الشاه سلطان حسين آخر ملوك الصفوية و تفاقمت الاضطرابات في البحرين و استمرّت الثورات الداخلية حتى ألجأت المترجم له الى الجلاء عن وطنه فارتحل الى إيران برهة في كرمان ثم ارتحل الى شيراز و لبث بها

غير يسير مدرّسا و إماما و تفرّغ للمطالعة و التأليف، و البحث و التدريس فألف جملة من الكتب و عدّة من الرسائل و لكن ما أمهله الدهر

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 131

كلامه التفصيل المستفاد من تبيان الشيخ رحمه اللّه المؤيّد بالعلوي المروي في الإحتجاج حسب ما مرّ حكايتها.

______________________________

حتى عصفت بتلك البلاد عواصف الأيام و ألجأت المترجم له إلى الالتجاء بقرية (فسا) و ابتدأ هناك بتصنيف الحدائق حتى ثار طاغية شيراز (نعيم داغ خان) في سنة 1163 و قتل حاكم فسا و هجم على دار المترجم له و هو مريض و نهبت أمواله و أكثر كتبه ففّر منها مريضا بعائلته صفر اليد بناحية اصطهبانات و لبث بها مدة يقاسي مرارات الآفات و لكن تلك الظروف القاسية، و المواقف الحرجة لم تمنعه عن المطالعة و التأليف فتراه في خلالها كلها مكبّا على مطالعاته، جادّا في تأليفاته، سائرا في نهجه، فقد أنتج من بين الظروف و هاتيك الأدوار كتبا قيّمة ناهزت الأربعين سيما الحدائق الناضرة و لنعم ما قال في حقه العلامة المولى شفيع الجابلقي البروجردي في إجازته الكبيرة المسماة ب الروضة البهية في الإجازات الشفيعية:

أما الشيخ المحدث المحقق الشيخ يوسف قدّس سرّه صاحب الحدائق فهو من أجلّاء هذه الطائفة، كثير العلم، حسن التصانيف، نقي الكلام، بصير بالأخبار المروية عن الأئمة المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) يظهر كمال تتبعه و تبحره في الآثار المرويّة بالنظر إلى كتبه سيما الحدائق الناضرة، فإنها حقيق أن تكتب بالنور على صفحات و جنات الحور، و كل من تأخر عنه استفاد من حدائقه، و كان ثقة، ورعا، عابدا، زاهدا .. فلينظر إلى ما وقع على هذا الشيخ من البلايا و المحن، و مع

ذلك كيف اشغل نفسه و صنف تصنيفات فائقة؟ .. أرباب التراجم و أصحاب المعاجم بعده كلهم أثنوا عليه، قد حلّ المترجم له بالحائر المقدس على عهد زعيمها الأكبر المحقق البهبهاني قبل سنة 1169 و دارت بينه و بين البهبهاني مناظرات كثيرة في الأبحاث العلميّة، توفي قدّس سرّه رابع ربيع الأول سنة 1186 و دفن بالحائر.

الأعلام ج 9 ص 286، روضة البهية، مقدمة الحدائق للسيد عبد العزيز الطباطبائي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 133

الباب السابع

اشارة

في معنى الإنزال و التنزيل و السورة و أقسامها الأربعة و الآية و الكلمة و الحروف و غيرها و فيه ضبط السور و الآيات و الحروف

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 135

و فيه فصول:

الفصل الأول

في الانزال و التنزيل و الفرق بينهما قد سبق جملة من الكلام في تحقيق معنى التنزيل و الوحي و الإلهام، و الذي ينبغي ذكره في المقام أنّ القرآن تارة قد وصف بالإنزال و أخرى بالتنزيل، و هما و إن اشتركا في الحلول من عال الى أسفل، بل قال في القاموس نزّله تنزيلا و أنزله إنزالا و منزلا كمجمل، و استنزله بمعنى: إلّا أنّه قد يفرق بين الأمرين باختصاص الأوّل بأحداث الفعل من غير تكثر بأن كان النزول دفعة واحدة، و الثاني بإحداثه على وجه التكثير و التدريج، و لعلّه لما في معنى التفعيل من الإشعار على تكثير الفعل أو الفاعل أو المفعول، و المقام من الأوّل حيث إنّه قد أنزل الى السماء الدنيا، و إلى البيت المعمور في ليلة القدر، ثم أنزل منجما مفرقا الى النبي صلّى اللّه عليه و آله في ثلاث و عشرين سنة، أو في عشرين سنة، بل يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» بل من قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3»،

______________________________

(1) الدخان: 3.

(2) القدر: 1.

(3) البقرة: 185.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 136

سيما بعد ملاحظة الأخبار الواردة في تفسيرها حسبما تسمع إنشاء اللّه تفصيل الكلام فيها و في قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1» و غيره مما يدل على الأمرين، و لذا

جاء بالفعل في الثلاثة على صيغة الأفعال، و الرابعة على صيغة التفعيل، بل نبّه سبحانه بجعله فرقانا بعد كونه قرآنا مجتمعا في النزول، أو في صفة وجوده، و بالجملة هذا الفرق بين الفعلين و إن لم ينبّه عليه جمهور أهل اللغة إلّا أنّه لا بأس بعد مساعدة الأخبار و دلالتها على قسمي النزول، و مناسبة الإطلاق لهما في خصوص الموارد.

ففي «الكافي» عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2»، و إنما أنزل القرآن في عشرين سنة بين أوله و آخره فقال عليه السّلام: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة ثم قال عليه السّلام قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، و أنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، و أنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، و أنزل القرآن في ليلة ثلاث و عشرين «3».

و

فيه و في «الفقيه» بالإسناد عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال نزلت التوراة في ست مضين من شهر رمضان، و نزل الإنجيل في اثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، و نزل الزبور في ليلة ثمان عشرة من شهر رمضان، و نزل

______________________________

(1) الأسراء: 106.

(2) البقرة: 185.

(3) الأصول من الكافي كتاب فصل القرآن باب النوادر الحديث السادس ج 2 ص 460 ط. الإسلامية. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 137

القرآن في ليلة القدر «1».

و

عن بعض نسخ «الفقيه» الفرقان بدل القرآن

،

و لا بأس به فإن الأوّل باعتبار النزول الأول الجمعي، و الأخير باعتبار ما يؤول اليه من النزول المنجم التفريقي.

و

فيهما عن حمران بن أعين سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2» قال هي ليلة القدر، و هي في كل سنة في شهر رمضان من العشر الأواخر، و لم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر، قال اللّه تبارك و تعالى:

فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «3»، قال عليه السّلام يقدّر في ليلة القدر كل شي ء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل من خير أو شر أو طاعة أو معصية، أو مولود، أو أجل، أو رزق الحديث «4».

و

روى القمي عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «5» قال عليه السّلام أي أنزلنا القرآن، و الليلة المباركة ليلة القدر، أنزل اللّه القرآن فيها الى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل من البيت المعمور على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طول عشرين سنة الخبر «6».

أقول: و صريح هذا الخبر كبعض ما مرّ

أنّ القرآن و قد نزل جملة واحدة الى البيت المعمور

، و الأخبار و إن اختلفت في تعيين موضعه حيث إنّه

قد ورد في

______________________________

(1) الفروع من الكافي ج ص 157، الفقيه ج 2 ص 102.

(2) الدخان: 3.

(3) الدخان: 4.

(4) الفروع من الكافي ج 4 ص 157، الفقيه ج 2 ص 301.

(5) الدخان: 3.

(6) الصافي ج 2 ص 540 ط. الإسلامية بطهران عن مجمع البيان و القمي. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 138

العلوي المذكور في «الدر المنثور» أنه الضراح «1» بيت فوق سبع سموات تحت العرش، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك،

ثم لا يعودون اليه الى يوم القيمة «2».

و

في علل ابن سنان المروي عن مولانا الرضا عليه السّلام: إنه بيت في السماء الدنيا بحذاء العرش «3».

بل قد ورد مثله في أخبار آخر، و عن بعضهم أنه هو الكعبة البيت الحرام لكونه معمورا بالحج و العمرة، إلّا أن المستفاد من أكثر الروايات، و أشهرها و أظهرها أنه بيت في السماء الرابعة و هو الضراح حيث إنّ الملائكة لمّا ردّوا على اللّه سبحانه في جعله في الأرض خليفة، فقالوا: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ «4» فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام، فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة الى أن تاب عليهم، و جعل لهم البيت المعمور في السماء الرابعة بحذاء العرش مثابة، و أمنا لهم، و مطافا لهم، و قبولا لتوبتهم، و أمرهم ببناء بيت في الأرض بمثاله و قدره «5»، بل قد يقال: أنّ هذه الأخبار الأخيرة و إن كانت أشهر و أكثر إلا أن مقتضى الجمع بينهما مع صحّة جميعها القول بتحقّق البيت في جميع تلك المواضع، و الخطب فيه سهل.

______________________________

(1) الضراح بضم الضاد بيت في السماء حيال الكعبة يدخل كل يوم سبعون ألف ملك.

(2) بحار الأنوار ج 14 ص 105 ط. القديم عن الدر المنثور.

(3) في البحار ج 14 ص 104 عن العلل: فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى الضراح ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى البيت المعمور بحذاء الضراح.

(4) البقرة: 30.

(5) كما في البحار ج 14 ص 114 عن العلل عن الصادق عليه السّلام و عن الدر المنثور عن علي بن الحسين عليهما السّلام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 139

الفصل الثاني

في معنى السورة المشهورة في السور أنها بالواو، و

الهمز إما لغة فيها على ما في القاموس، أو أنه للاختلاف في اشتقاقها كما في المجمع و غيره، فإنّها على الأول مأخوذة من سور المدينة لحائطها المحيط بها، أو من السورة التي جمعها السور بالضم فالسكون للمنزلة الرفيعة، و منه قول النابغة «1»:

ألم تر أن اللّه أعطاك سورةترى كل ملك دونها يتذبذب

و على الثاني من السؤر الذي هو البقية غلب استعمالها على جملة من

______________________________

(1) النابغة الذبياني زياد بن معاوية، أبو أمامة، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى من أهل الحجاز. كانت تضرب له قبّة من جلد أحمر بسوق عكاظ فتقصده الشعراء فتعرض عليها أشعارها و كان الأعشى و حسّان و الخنساء ممن يعرض شعره على النابغة، و كان أبو عمرو بن العلاء يفضّله على سائر الشعراء و هو أحد الأشراف في الجاهلية، و كان حظيا عند نعمان بن المنذر حتى شبّب في قصيدة له بالمتجردة (زوجة النعمان) فغضب النعمان، ففرّ النابغة و وفد على الغسّانيّين بالشام، و غاب زمنا. ثم رضي عنه النعمان، فعاد إليه و اعتذر بقصائد تعرف بالاعتذاريات و كان أحسن شعراء العرب ديباجة، لا تكلف في شعره و لا حشو. و عاش عمرا طويلا و ديوانه مشهور طبع بمصر و باريس. مات نحو ثمانية و عشر قبل الهجرة و ما أدرك عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

الأعلام ج 3 ص 92، الأغاني ج 11 ص 3، نهاية الارب ج 3 ص 59.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 140

الآيات تزيد على الثلث، ذات ترجمة.

و عرّفت بتعريفات لا داعي في التعرض لها في المقام، و ستسمع بعض الكلام في ترجمة الفاتحة، إنما المهم تحديد سور القرآن لإناطة جملة من الأحكام عليها في الشرع

كوجوب قراءة سورة كاملة في كل سورة من أوليي الفرائض، و حرمة القران بين سورتين في ركعة فضلا عمّا قد يلزم قراءتها أو تعليمها لنذر و شبهه، أو استئجار، أو إمهار، فالمشهور عند العامّة مائة و أربعة عشر سورة، و عن أبيّ بن كعب «1» ستة عشر بزيادة القنوتين «2»، و عن بعضهم ثلاثة

______________________________

(1) أبي بن كعب بن قيس من بني النجار من الخزرج، صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، مطلعا على الكتب القديمة يكتب و يقرأ على قلة العارفين بالكتابة في عصره و لما أسلم كان من كتّاب الوحي، و شهد بدرا و أحدا و خندقا و المشاهد كلها و كان من الاثنى عشر الذين أنكروا على أبي بكر خلافته و أرادوا تنزيله عن منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قال أبو الصلاح في التقريب: أبي بن كعب من المعروفين بولايتهم عليهم السّلام. و كان من فضله و جلالته أنه في حديث حكى عنه الصادق عليه السّلام قولا في حسن الظن كما

في سفينة البحار في كلمة ظنن ج 2 ص 110 عن الصادق عليه السّلام: حسن الظن أصله من حسن إيمان المرء و سلامة صدره الى أن قال: و قال أبي كعب إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكروها منه فتأولوا لها سبعين تأويلا فإن اطمأنت قلوبكم على أحدهم و إلا فلوموا أنفسكم حيث لم تعذروه في خصلة سترها عليه سبعون تأويلا و أنتم اولى بالإنكار على أنفسكم منه.

و كان أبي بن كعب من كتّاب الوحي و لذلك أمره عثمان بجمع القرآن و في الحديث أقرأ أمتي أبي بن كعب- قال في الأعلام: له في الصحيحين و غيرهما 164 حديثا،

و كان نحيفا قصيرا أبيض الرأس و اللحية مات بالمدينة سنة 21 ه. الأعلام ج 1 ص 78، و سفينة البحار ج 1 ص 8 و ج 2 ص 110، و حلية الأولياء ج 1 ص 250.

(2) سورتا القنوتين سورتان مجعولتان مرويتان عن طريق العامة. قال السيوطي في الإتقان و الدر المنثور: أخرج الطبراني و البيهقي، و ابن الضريس: أن من القرآن سورتين و قد سماهما الراغب في المحاضرات سورتي القنوت و نسبوهما الى تعليم علي و قنوت عمر و مصحف ابن عبّاس و زيد بن ثابت و قراءة ابن موسى إحداهما: بسم اللّه الرحمن الرحيم إنّا نستعينك و نستغفرك و نثني عليك و لا نكفرك و نخلع و نترك من يفجرك- و الثانية بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 141

عشر بعدّ الأنفال و التوبة واحدة، و عن ابن مسعود «1» اثنتي عشرة سورة بنقصان المعوذتين، لكن الذي استقرّ عليه مذهب الإمامية أنّها مائة و اثنتي عشرة سورة بعدّ المعوذتين سورتين، و الضحى و الإنشراح سورة واحدة، و كذا الفيل و الإيلاف أمّا المعوذتين بكسر الواو فقد أجمع علمائنا و أكثر العامّة على أنّهما من القرآن، و أنّه يجوز القراءة بهما في المكتوبة، و لم يحك الخلاف في ذلك إلّا عن عبد اللّه بن مسعود حيث زعم أنّهما ليستا من القرآن و إنما أنزلتا لتعويذ الحسن و الحسين (عليهما السّلام) و قد انقرض القول به.

بل في «الذكرى» أنه قد استقر الإجماع من العامّة و الخاصّة على خلافه مضافا الى استفاضة الأخبار بذلك.

ففي كثير عن منها أنّ مولانا الصادق عليه السّلام قرأ بهما في الفريضة،

ثم قال

عليه السّلام:

______________________________

و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى عذابك الجدّ إن عذابك بالكافرين ملحق.

نقض الوشيعة في نقد عقائد الشيعة تأليف السيد محسن الأمين ص 204.

(1) عبد اللّه بن مسعود بن غافل: صحابي، من أكابرهم فضلا و عقلا و قربا من رسول اللّه (ص) و هو من أهل مكة، و من السابقين الى الإسلام، و أول من جهر بقراءة القرآن بمكة، و كان خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صاحب سره، و رفيقه في حله و ترحاله و غزواته، نظر اليه عمر يوما و قال: وعاء ملي ء علما و ولي بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان و كان من الذين شهدوا جنازة أبي ذر و باشروا تجهيزه و هو أيضا من الإثني عشر الذين أنكروا على الأول خلافته، و كان قصيرا جدا، يكاد الجلوس يوارونه. و كان يحب الإكثار من التطيب فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مرّ من طيب رائحته، له 848 حديثا و أورد الجاحظ في البيان و التبيين خطبة له و مختارا من كلامه، كان عالما بالقرآن، أخذ سبعين سورة من القرآن من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بقيّته من علي بن أبي طالب عليه السّلام،

روي الكشي في رجاله عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: من أحب ان يسمع القرآن غضا فليسمعه من ابن أم عبد

يعني ابن مسعود في المستدرك نقلا عن تلخيص الشافعي أنه قال: لا خلاف بين الأمة في طهارة ابن مسعود و فضله و ايمانه و مدحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ثنائه

عليه، توفي بالمدينة سنة 32 ه و دفن بالبقيع.

الأعلام ج 4 ص 280، و غاية النهاية ج 1 ص 458 و سفينة البحار ج 2 ص 138. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 142

أنّهما من القرآن «1».

و

روى الحسين بن بسطام في «طبّ الأئمة» عنه عليه السّلام أنه سئل عن المعوذتين أ هما من القرآن؟ فقال عليه السّلام: إنّهما من القرآن، فقال الرجل: إنّهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود و لا في مصحفه، فقال عليه السّلام: أخطأ ابن مسعود، أو قال عليه السّلام كذب ابن مسعود، هما في القرآن، قال الرجل: فأقرأهما في المكتوبة؟ قال نعم «2».

و

روى القمي بالإسناد عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام:

إنّ ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف، فقال: كان أبي يقول إنّما فعل ذلك ابن مسعود برأيه، و هما من القرآن «3».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المعتضدة بالإجماع نقلا و تحصيلا.

فما

يحكى عن عبارة الفقه الرضوي حيث قال عليه السّلام: و إنّ المعوذتين من الرقية ليستا من القرآن، أدخلوها في القرآن، و قال: إنّ جبرائيل علّمهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (الى أن قال) و أمّا المعوذتان فلا تقرأهما في الفرائض، و لا بأس بالنوافل انتهى «4».

فمع الغضّ عمّا في سنده لعدم ثبوت اعتباره يجب حمله على التقيّة «5».

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 161، وسائل الشيعة ج 2 ص 786.

(2) طبّ الأئمة ص 119، وسائل الشيعة ج 2 ص 786.

(3) تفسير القمي ص 774، وسائل الشيعة ج 2 ص 787.

(4) فقه الرضوي ص 9، الحدائق ج 8 ص 232 ط الآخوندي بالنجف.

(5) فقه الرضوي أو فقه الرضا كتاب منسوب الى الرضا عليه السّلام و

لكنه ليس بمعتمد عند المحققين و لا يعتمدون على متفرداته و من أراد تحقيقه فليراجع المستدرك للنوري، و الذريعة لآغا بزرك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 143

و أمّا اتحاد الضحى و الإنشراح كالفيل و الإيلاف فهو و إن تردّد فيه المحقّق في «المعتبر»، بل قطع بعض من تأخر عنه بالتعدّد كثاني المحققين، و الشهيدين، و سيّد المدارك، و غيرهم من المتأخرين نظرا الى عدم دلالة واضحة من الأخبار على الاتحاد، مع الفصل بالبسملة و الترجمة في جميع المصاحف، و تسميتها سورتين

في خبر المفضل قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تجمع بين السورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى و ألم نشرح، و سورة الفيل و الإيلاف،

لكون الاستثناء حقيقة في المتصل، و لا أقل من الظهور.

إلّا أن الذي ينبغي القطع به هو الاتحاد كما هو المشهور فتوى و عملا و عن غير واحد منهم نسبته الى علمائنا.

و في «الانتصار» أنه مذهب الإمامية.

و عن «أمالي» الصدوق أنه من دين الإمامية الذي يجب الإقرار به.

و عن «الإستبصار» أنّ الأولين سورة واحدة عند آل محمد عليهم السّلام، بل لم يعهد ممن سبق على المحقق التأمل فيه، الى غير ذلك مما يقطع معه بتحقق الإجماع سيما مع كونه من متفردات الإمامية، مضافا الى الأخبار الكثيرة

كالمروي عن «هداية» الصدوق عن الصادق عليه السّلام قال: و موسّع عليك أيّ سورة في فرائضك الأربع، و هي الضحى و ألم نشرح في ركعة لأنهما جميعا سورة واحدة و الإيلاف، و ألم تر في ركعة لأنهما جميعا سورة واحدة «1»،

و نسبه في التبيان.

و

«مجمع البيان»، و «الشرائع»، و غيرها من كتب الجماعة الى رواية

______________________________

(1) البحار ج 18 ص 342 ط القديم، الحدائق ج 8

ص 204 ط الآخوندي بنجف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 144

أصحابنا و صحيح الشحّام: صلّى بنا أبو عبد اللّه عليه السّلام فقرأ الضحى و ألم نشرح في ركعة «1».

و

عن كتاب القراءة لأحمد بن محمد بن سيّار عن الصادق عليه السّلام الضحى و ألم نشرح سورة واحدة «2».

و

روى العيّاشي عن أبي العباس عن أحدهما أ لم تر كيف فعل ربك و الإيلاف سورة واحدة «3».

قال: و روى أنّ أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه «4»، الى غير ذلك من الأخبار الدالّة على الاتحاد، فضلا عمّا يدلّ على عدم الاجتزاء بواحدة منهما في الفريضة، و أنّه يجب قراءتهما معا مع حرمة الجمع بين السورتين فيها حسب ما قرّر في موضعه، و من هنا يظهر ضعف ما ذكروه من عدم الدليل على الاتحاد.

و أمّا حكاية الفصل و الترجمة التي قيل: إنّها من أعظم الشبه في ذهاب المتأخرين الى خلاف ما عليه المتقدّمون، سيما مع ما اشتهر بينهم من دعوى تواتر السبع المتفقة على إثبات البسملة، ففيها مع الغضّ عمّا سمعت من عدم إثباتها في مصحف أبيّ، أنّه لا عبرة بمجرد الفصل و الترجمة بعد صراحة الأخبار بل استقرار المذهب على ما مرّ، على أنّ جماعة من القائلين بالاتّحاد ذهبوا الى لزوم البسملة بينهما، بل عن الحليّ في «السرائر» أنّه لا خلاف في عدد آياتهما فإذا لم يبسمل بينهما نقصتا من عددهما. و لم يكن قد قرأهما جميعا، و إن كان الأظهر عدم الفصل، لظواهر بعض الأخبار.

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 254، وسائل الشيعة ج 2 ص 742.

(2) مستدرك الوسائل ج 1 ص 275.

(3) مجمع البيان ج 10 ص 544، وسائل الشيعة ج 2 ص 744.

(4) مجمع

البيان ج 10 ص 544، وسائل الشيعة ج 2 ص 744.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 145

و أما خبر المفضّل فكأنه خرج مخرج التجوز و المسامحة في التعبير حسبما يسمّيها الناس سورتين للفصل، و لذا وقع مثله في خبر «الهداية» و غيره مع التصريح بالاتحاد.

و أما الأنفال و التوبة فبعض العامّة و إن نسب الى أئمتنا عليهم السّلام القول بالاتحاد، إلّا أنّ الظاهر من عدم تعرّض أحد من الأصحاب لذلك في باب قراءة السورة التامة في الفريضة العدم.

بل

في العلوي المرويّ في «المجمع» تعليل عدم نزول البسملة على رأس سورة برائة بأنّ بسم اللّه للأمان و الرحمة، و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف «1».

و يؤيّده الأخبار الكثيرة من طرق الفريقين المشتملة على بيان سبب نزول السورة، حيث علّق الحكم فيها بنزول السورة لا الآية و الآيات، بل الأخبار الدالّة على فضلها، و فضل الأنفال، مؤيدا بتقرير الثابت في المصاحف، و ضبط آيات كلّ منها و غير ذلك ممّا يشير الى استقرار المذهب على التعدد، سيّما مع سكوتهم عن الحكم بالاتحاد عند البحث عن وجوب التبعيض مع تعرّضهم للحكم في السورتين المتقدمتين، و أما ما رواه العيّاشي و الطبرسي في تفسيرهما عن مولانا الصادق عليه السّلام من اتحادهما «2».

ففيه، مع الغضّ عن ضعف السند، و عدم ثبوت مثل هذا الحكم بمثله، أنّه لا يصلح لمقاومة ما مرّ، مضافا إلى عدم صراحة المتن في المطلوب، و إن كان ظاهرا فيه، نعم قد يؤمي إليه عدّهما سابعة السبع الطول، و إن قيل: إنّ ذلك

______________________________

(1) مجمع البيان تأليف الفضل بن الحسن الطبرسي المطبوع بطهران من منشورات المعارف الإسلامية (ج 5 ص 2).

(2) تفسير العيّاشي ج 2 ص 73، و

البحار ج 19 ص 69، و الصافي ج 1 ص 680، مجمع البيان ج 5 ص 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 146

لنزولهما جميعا في المغازي، و تسميتهما بالقرينين، بل من القريب حمل خبر الاتحاد على شي ء من هذه الوجوه، إلّا أنّ الاحتياط في مثل القراءة و غيرها لا يخفى سبيله، و لا ينبغي تركه. و إن كان الأظهر حرمة كلّ من التبعيض، و الجمع بين مطلق السورتين، كما أنّ الأظهر في المقام التعدّد.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 147

الفصل الثالث

في تقسيم السور قسّموا السور الى أقسام أربعة: أحدهما الطول كصرد جمع الطولى بالضم مؤنثة الأطول كالكبر و الفضل في جمع الكبرى و الفضلى.

و في «النهاية» إنّ هذا البناء يلزمه الألف أو الإضافة، قال: و السبع الطول هي البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف، و التوبة، و هو مبنّي على إسقاط الأنفال رأسا، و عدّ التوبة سورة مستقلة، لكن في القاموس أنّها من البقرة الى الأعراف، و السابعة سورة يونس، أو الأنفال و براءة جميعا، لأنّهما سورة واحدة عنده انتهى.

و لا يخفى أنّ هذين القولين يخالفان ما في «النهاية» بل لعلّ ظاهره أنّ من عدّهما سورتين جعل السابعة سورة يونس، و ليس كذلك، بل يظهر من بعضهم أنّهما معا السابعة، و لو عند من قال بالتعدد نظرا الى وحدة البسملة فيهما، أو نزولهما جميعا في المغازي، أو لقربهما في الآي للستّة السابقة، أو لأن الأولى في ذكر العهود، و الثانية في رفع العهود.

و في «المجمع» عن ابن عباس أنه قال لعثمان بن عفّان: ما حملكم على أن

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 148

عمدتم الى براءة و هي من المئين و الى

الأنفال و هي من المثاني، فجعلتموها في السبع الطول، و لم تكتبوا بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم؟ فقال: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله تنزيل عليه الآيات فيدعو بعض من يكتب له

فيقول صلّى اللّه عليه و آله له: ضع هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا،

و كانت الأنفال من أوّل ما نزل من القرآن بالمدينة، و كانت براءة من آخر ما نزلت من القرآن، و كانت قصتها شبيهة بقصّتها، فظنّنا أنها منها، و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن أنها منها، فوضعناهما في السبع الطول، و لم نكتب بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم «1».

ثمّ أنه يظهر من «النهاية» الأثيرية إطلاق الطوليين على الأنعام و الأعراف قال: و منه حديث أمّ سلمة كان يقرأ في المغرب بطولي الطوليين، تثنية الطولي و مذكرها الأطول، أي أنه كان يقرأ فيها بأطول السورتين الطويلتين يعني الأنعام و الأعراف.

ثانيهما: المئون جمع المائة و النون، قال في «الصحاح»: أصله يعني المائة مأي مثال معيّ و الهاء عوض عن الياء و إذا جمعت بالواو و النون قلت مئون بكسر الميم، و بعضهم يقول مئون بالضم.

أقول: و المراد منها ما آياتها في حدود المائة بشي ء من زيادة أو نقصان، قالوا: و هي من يونس الى الفرقان، و قيل: من بني إسرائيل الى سبع سور، لأن كلّها منها على نحو مائة آية، و التسمية للسور باعتبار الآيات فإنّها يوصف بها كما يقال مررت برجل مائة أبله كما في «القاموس» و إن قال: و الوجه الرفع.

ثالثها المثاني جمع المثنى كالمعنى و المعاني، و عن الفرّاء أنّ واحدها

______________________________

(1) مجمع البيان ج 5 ص 2.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 2، ص: 149

مثناة، و المثاني و إن كانت تطلق على الفاتحة لمّا مرّ، و على جميع القرآن بمعنى المجموع، أو كلّ آية منه لاقتران آية الرحمة بآية العذاب، أو لغيره ممّا مرّ، و لكن المراد بها في المقام ما كان أقلّ من المئين و أزيد من المفصّل، قيل: كأنّ المئين جعلت مبادئ، و التي تليها مثاني.

و في «مجمع البيان» أنّها مثاني السبع الطول قال: و أولها سورة يونس، و آخرها النمل، و قيل: و المشهور بين العامّة أنّه من الطواسين الى الحجرات، و قيل: إنّه بقيّة السور غير الطول السبع، و المئين السبع، و المفصّل المفسّر بسورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله الى آخر القرآن، و هي تقصر عن المئين و تزيد على المفصّل، كأنّ الطول جعلت مبادئ أخرى، و التي تليها مثاني لها فهي مثاني لكل منهما، و قيل: أقوال أخر أشار الى جملة منها في «القاموس» قال: و المثاني القرآن، أو ما ثنّى منه مرّة بعد مرّة، أو الحمد، أو البقرة، الى براءة، أو كل سورة دون الطول، و دون المئين، و فوق المفصّل، أو سورة الحجّ و القصص، و النمل، و العنكبوت، و النور، و الأنفال، و مريم، و الرّوم و ياسين، و الفرقان، و الحجر و الرعد، و سبأ، و الملائكة، و إبراهيم، و ص، و محمّد، و لقمان، و النون، و الزخرف، و المؤمن، و السجدة، و الأحقاف، و الجاثية، و الدخان، و الأحزاب.

رابعها المفصّل بفتح الصاد المشدّدة، قال في «القاموس»، إنّه من الحجرات الى آخر القرآن في الأصحّ، أو الجاثية، أو القتال أو ق عن النووي «1»

______________________________

(1) النووي يحيى بن شرف الشافعي، أبو زكريّا يحيى الدين:

علّامة بالفقه و الحديث ولد في نوا (من قرى حوران بسورية) و إليها نسبته سنة 631 تعلّم في دمشق و أقام بها زمنا طويلا له مصنّفات كثيرة: منها تهذيب اللغات و الأسماء، المنهاج في شرح صحيح مسلم خمس مجلدات، التبيان في آداب حملة القرآن .. توفي سنة 676 في النوا، الأعلام ج 9 ص 184 طبقات، الشافعية للسبكي ج 5 ص 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 150

تفسير الصراط المستقيم ج 2 199

و الصّافّات، أو الصّف، أو التبارك، عن أبي الصيف «1»، أو إنّا فتحنا، عن الدزمارى «2»، أو سبّح اسم ربّك الأعلى، عن الفركاح «3» أو و الضحى، عن الخطّابي «4». «5» أقول: و الذي استقرّ عليه مذهب أصحابنا الإمامية عطّر اللّه مراقدهم أنّه من سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله الى آخر القرآن، بل عن «التبيان» نسبته الى أكثر أهل العلم، و اقتصر عليه في «مجمع البيان» من غير إشارة الى غيره، و قد يؤيد ذلك بما في المروي مرسلا في «مجمع البحرين» «6» و لعلّه خبر سعد الآتي، أو غيره، فيعضده أنّ المفصل ثمان و ستون سورة نظرا إلى انطباق هذا العدد عليه بداية و نهاية كما لا يخفى و إنما سميّت به لكثرة الفصول بين سورة بالبسملة، من قوله

______________________________

(1) محمد بن إسماعيل بن علي بن أبي الصيف، فقيه، شافعي يمنى أصله من زبيد أقام و توفي بمكة سنة 609 ه له مصنّفات: منها (الأربعون حديثا جمعها عن أربعين شيخا من أربعين مدينة. طبقات الشافعية ج 6 ص 19.

(2) هو: أحمد بن كشاسب بن علي الدزمارى كمال الدين الفقيه الصوفي الشافعي، توفّي سنة (643) ه و نسبته الى دزمار (بكسر

الدال) قلعة حصينة من نواحي آذربايجان قرب تبريز، طبقات السبكى ج 8 ص 30.

(3) الفركاح عبد الرحمن بن إبراهيم الفزازي تاج الدين، مورخ من علماء الشافعية بلغ رتبة الاجتهاد، مصري الأصل، دمشقي الإقامة و الشهرة له مصنّفات: منها شرح الورقات لإمام الحرمين في الأصول، و كشف القناع في حلّ السماع- طبقات الشافعية للسبكي ج 5 ص 60- الأعلام ج 4 ص 64.

(4) الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب بن سليمان: فقيه محدث من أهل بست (من بلاد كابل) من نسل زيد بن الخطاب (أخي عمر بن الخطاب) له مصنفات منه: معالم السنن في شرح سنن أبي داود، إصلاح غلط المحدثين، شرح البخاري، بيان إعجاز القرآن. ولد في سنة 319 و توفي ببست سنة 388 ه،- يتيمة الدهر للثعالبي ج 4 ص 231- الأعلام للزركلي ج 2 ص 304.

(5) تاج العروس في شرح القاموس للزبيدي ص 60 ج 8 فصل ألفا من باب اللّام.

(6) مجمع البحرين حرف اللام ما أوله الفاء ص 448 في كلمة فصل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 151

عقد مفصل أي جعل بين كل لؤلؤتين منه جوهرة، أو لقلة المنسوخ فيه من قولهم حكم فاصل و فيصل ماض أو لكثرة فواصله في سورة، أو آياته فإن الفاصلة الخرزة بين الخرزتين، و أواخر آيات التنزيل بمنزلة قوافي الشعر.

ثمّ إنّ التسمية في هذه الأسماء الأربعة مشهورة بين العامّة، بل و بين الخاصة أيضا، و إن توهّم بعض المتأخرين أنّه لا أصل لها في أخبارنا، بل ذكر السيد «1» في مداركه بعد نقل الشهرة على استحباب قراءة المفصّل في الصلوة أنّه ليس في إخبارنا تصريح بعد هذا الاسم و لا تحديده، و إنما رواه الجمهور

عن عمر «2» و تبعه البحراني، في حدائقه قال بعد نقل كلامه: و من هنا يعلم أنّ الظاهر أنّ أصحابنا (رضي اللّه عنهم) قد تبعوا في ذلك العامّة، ثم قال بعد أن حكى عن مجمع البحرين: إن في الحديث فضّلت بالمفصّل.

و

في الخبر أنه ثمان و ستون إلخ

إنّه ربما أشعر كلامه بأن الأخبار المذكورة في كلامه مرويّة عن طرقنا، و لم أقف على من نقلها كذلك سواه، و الظاهر أنّها من

______________________________

(1) محمد بن علي بن الحسين العاملي صاحب المدارك، كان فاضلا، متبحرا، ماهرا، محققا، مدققا، زاهدا، عابدا، ورعا، فقيها، محدثا، جامعا للعلوم و الفنون جليل القدر، عظيم المنزلة قرأ على أبيه و على المولى أحمد الأردبيلي و تلامذة جدّ لأمه الشهيد الثاني، و كان شريك خاله الشيخ حسن في الدرس، و كان كل منهما يقتدي بالآخر في الصلاة، و يحضر درسه له كتاب مدارك الأحكام في شرح شرايع الإسلام خرج منه العبادات في ثلاث مجلدات فرغ منه سنة 998 و هو من أحسن كتب الاستدلال، و حاشية الإستبصار، و حاشية التهذيب، و حاشية على ألفية الشهيد، و شرح المختصر النافع و غير ذلك. توفي سنة 1009 في قرية جبع.- سفينة البحار ج 1 ص 328-.

(2) في بدائع الصنائع ج 1 ص 205 كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري: أن اقرأ في الفجر و الظهر بطول المفصل و في العصر و العشاء بأوساط المفصل و في المغرب بقصار المفصل.

- تعليقه الحدائق ج 8 ص 177 ط. الآخوندي بالنجف-

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 152

طرق العامّة و إن تناقلها أصحابنا في كتب الفروع.

نعم وقفت على ذلك في كتاب دعائم الإسلام «1» إلّا أنّه من كلامه

و لم يسنده الى رواية حيث قال: و لا بأس أن يقرأ في الفجر بطوال المفصّل و في الظهر و العشاء الآخرة بأوساطه، و في العصر بأوساطه، و في العصر و المغرب بقصاره انتهى «2».

و نسج على منوالهم كثير ممن تأخر عنهم، لكن القدح ليس في موضعه إذ

في «الكافي» بالإسناد عن سعد الإسكاف أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطيت

______________________________

(1) دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد بن منصور أبي حنيفة ابن حيون التميمي، قال المجلسي في مقدمة البحار: و كتاب دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهمون أنه تأليف أبي حنيفة النعمان بن منصور قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيلية، و كان مالكيا أولا ثم اهتدى و صار إماميا، و أخبار هذا الكتاب أكثرها موافقة لما في كتبنا المشهورة لكن لم يرو عن الأئمة بعد الصادق خوفا من الخلفاء الإسماعيلية، و تحت سرّ التقية أظهر الحق لمن نظر فيه متعمقا، و أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. قال ابن خلكان: هو أحد الفضلاء المشار إليهم ذكره الأمير المختار المسيحي في تاريخه فقال: كان من العلم و الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد عليه. و قال ابن زولاق في ترجمة ولده علي بن النعمان:

كان أبوه النعمان بن محمد القاضي في غاية الفضل من أهل القرآن و العلم بمعانيه، و عالما بوجوه الفقه و علم اختلافات الفقهاء و اللغة و الشعر و المعرفة بأيام الناس مع عقل و إنصاف و ألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف و أملح سجع، و عمل في المناقب و المثالب كتابا حسنا، و له ردود على المخالفين: له ردّ على أبي

حنيفة و على مالك، و الشافعي و على شريح، و كتاب اختلاف ينتصر فيه لأهل البيت عليهم السّلام قال الزركلي في الأعلام: ابن حيون النعمان بن محمد بن منصور كان واسع العلم بالفقه و القرآن و الأدب و التاريخ، من أهل القيروان، مولدا و منشئا تفقه بمذهب المالكية، و تحول الى مذهب الباطنية. عاصر المهدي و القائم و المنصور و المعزّ و خدمهم، و قدم مع المعز إلى مصر و توفي بها سنة 363 هو صفة الذهبي بالعلامة المارق و قال: كتبه كبار مطوّلة، و كان وافر الحشمة عظيم الحرمة، في أولاده قضاة و كبراء. الأعلام ج 9 ص 8، وفيات الأعيان ج 2 ص 166، بحار الأنوار ج 1.

(2) الحدائق الناظرة ج 8 ص 178 ط. الآخوندي بالنجف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 153

السور الطول مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و المثاني مكان الزبور، و فضّلت بالمفصل ثمان و ستين سورة، و هو مهيمن على سائر الكتب فالتوراة لموسى، و الإنجيل لعيسى، و الزبور لداود صلّى اللّه عليه و آله «1».

و

في «مجمع البيان» أنّه قد شاع في الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: أعطيت لمكان التوراة السبع الطول، و مكان الإنجيل المثاني، و مكان الزبور المئين، و فضّلت بالمفصّل، قال و في رواية واثلة بن الأسقع «2»: و أعطيت مكان الإنجيل المئين، و مكان الزبور المثاني، و أعطيت فاتحة و خواتيم البقرة من تحت العرش لم يعطها أحد قبلي، و أعطاني ربي المفصّل نافلة «3».

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 439 ط الإسلامية بطهران.

(2) واثلة بن الأسقع بن عبد العزي: صحابي، من أهل الصفة. كان قبل إسلامه ينزل ناحية

المدينة.

و دخل المسجد بالمدينة و النبي صلّى اللّه عليه و آله يصلى الصبح، فصلى معه و كان من عادة النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا انصرف من صلاة الصبح تصفح وجوه أصحابه، ينظر إليهم فلما دنا من واثلة أنكره، فقال من أنت؟ فأخبره، فقال صلّى اللّه عليه و آله ما جاء بك؟ قال: أبايع فقال صلّى اللّه عليه و آله: على ما أحببت و كرهت؟ قال: نعم و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتجهز الى تبوك، فشهدها معه. قيل خدم النبي (صلّى اللّه عليه و آله ثلاث سنين، ثم نزل البصرة و كانت له بها دار و شهد فتح دمشق و سكن قرية البلاط على ثلاثة فراسخ منها و حضر المغازي في البلاد الشامية، و تحول الى بيت المقدس، فأقام و يقال: كان مسكنه ببيت جبرين و كفّ بصره و عاش 105 سنين و قيل: 98 سنة و هو آخر الصحابة موتا في دمشق، له 76 حديثا و وفاته بالقدس أو بدمشق سنة 83 ه. أسد الغابة ج 5 ص 77، الأعلام ج 9 ص 120.

(3) مجمع البيان ج 1 مقدمة الكتاب الفن الرابع في ذكر أسامي القرآن و معانيها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 155

الفصل الرابع

في معنى الآية و الكلمة و الحروف أما الآية فهي في الأصل بمعنى العلامة، أو العلامة التي فيها العبرة، أو التي فيها الحجّة، أو العلامة الظاهرة، و بمعنى العجب من قولهم فلان آية في العلم، و العبرة، و الشخص، و لعل الأظهر كونها حقيقة في الأول، و إن أطلقت على الجميع باعتبار الموارد، و عليه حمل قوله تعالى: عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ «1»

أي علامة لإجابتك دعانا، و آيات الكتاب علامات و دلالات على معانيها.

و عن أبي عبيدة «2» أن معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها

______________________________

(1) المائدة: 114.

(2) معمر بن المثنّى بالولاء البصري، أبو عبيدة النحوي: من أئمة العلم بالأدب و اللغة مولده في سنة 110 و وفاته في البصرة 209 ه استقدمه هارون الرشيد الى بغداد سنة 188 ه، و قرأ عليه أشياء من كتبه.

قال الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. و كان أباضيا، شعوبيا، من حفّاظ الحديث، قال ابن قتيبة: كان يبغض العرب و صنف في مثالبهم كتبا و لمّا مات لم يحضر جنازته أحد، لشدّة نقده معاصريه، و كان مع سعة علمه، ربّما أنشد البيت فلم يقم وزنه و يخطئ إذا قرأ القرآن نظرا له نحو 200 مؤلّف منها «مجاز القرآن» و «معاني القرآن» «و اعراب القرآن» و «طبقات الشعراء» و غيرها.

وفيات الأعيان ج 2 ص 105- تأريخ بغداد ج 13 ص 252- الأعلام ج 8 ص 191.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 156

و انقطاعه عمّا بعدها، و يقال: إنّ الآية هي القصّة و الرسالة، قال كعب بن زهير «1»:

ألا أبلغا هذا المعرّض آية أ يقظان هذا القول أم قال ذا الحلم، أي رسالة فمعنى الآيات القصص، أي قصّة تتلو قصّة.

و عن ابن السكيت: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا ورائهم شيئا، فمعنى الآية جماعة من الحروف دالّة على معنى مخصوص، و وزنها فعله بسكون العين، أو بفتحها، أو فاعله، قال في الصحاح: الآية: العلامة؛ و الأصل أوية بالتحريك، قال سيبويه «2». موضع العين من الآية واو لأنّ ما كان موضع العين منه واوا ياء أكثر مما موضع العين و

اللام منه ياء، مثل شويت أكثر من حييت، و يكون النسبة إليها آووي.

______________________________

(1) كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني: شاعر عالي الطبقة، من أهل نجد له ديوان شعر مطبوع كان ممّن اشتهر في الجاهلية، و لمّا ظهر الإسلام هجا النبي صلّى اللّه عليه و آله و أقام يشبّب بنساء المسلمين، فهدر النبي صلّى اللّه عليه و آله دمه فجاءه كعب مستأمنا و قد أسلم، و أنشده لا ميتّه المشهورة التي مطلعها: «بانت سعاد و قلبي اليوم مبتول» فعفا عنه النبي صلّى اللّه عليه و آله و خلع عليه بردته و هو من أعرق الناس في الشعر، قوله في أمير المؤمنين عليه السّلام مشهور: صهر النبي و خير الناس كلهم فكل من رامه بالفخر مفخور

صلى الصلوة مع الأمي أولهم قبل العباد و ربّ الناس مفخور

خزانة الأدب ج 4 ص 11- الأعلام ج 6 ص 81- سفينة البحار ج 2 ص 483.

(2) سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشير: إمام النحاة و أول من بسط علم النحو- ولد في إحدى قرى شيراز، و قدم البصرة فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، و صنّف كتابه المسمى «كتاب سيبويه» في النحو لم يصنع قبله و لا بعده مثله، و رحل الى بغداد، فناظر الكسائي و أجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم و عاد الى الأهواز فتوفي بها، قيل: وفاته و قبره بشيراز. ولد سنة 148 ه و توفي سنة 180 ه و سيبويه بالفارسية رائحة التفاح.

- وفيات الأعيان ج 1 ص 385- تاريخ بغداد ج 12 ص 195- الأعلام ج 5 ص 252.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 157

ثم حكى عن الفراء «1» أنها من الفعل فأعلّت و إنما ذهبت

منه اللام، و لو جاءت تامة لجاءت أيية، و لكنها خفّفت ثم ذكر أن جمعها أي، و آياي، و آيات.

و حكى عن إنشاد أبي زيد «2» رابعا، قال: لم يبق هذا الدهر من آيائه غير أثافيه و ارمدائه.

و قال القاضي «3»، اشتقاقها من أيّ لأنها تبيّن أيا من أيّ، أو من أوى اليه و أصلها أيّه أو أويه كتمرة فأبدلت عينها ألفا على غير قياس، أو أوية، أو أيية

______________________________

(1) الفراء يحيى بن زياد بن عبد اللّه الديلمي: إمام الكوفيين و أعلمهم بالنحو و اللغة و فنون الأدب، و من كلام ثعلب: لو لا الفراء ما كانت اللغة، ولد بالكوفة سنة 144 ه و انتقل الى بغداد و عهد اليه المأمون بتربيته ابنيه فكان أكثر مقامه بها، فإذا جاء آخر السنة انصرف الى الكوفة فأقام أربعين يوما في أهله يوّزع عليه ما جمعه و يبرّهم، و توفى في طريق مكة سنة 207، و كان مع تقدمه في اللغة و النحو فقيها متكلما، عالما بأخبار العرب و أيامها، عارفا بالنجوم و الطب، يميل الى الاعتزال له مصنفات منها «المقصور و الممدود» و «معاني القرآن» أملاها في مجالس عامة كان في جملة من يحضرها نحو ثمانين قاضيا، و «المذكر و المؤنث» و «الجمع و التشبيه في القرآن» ألّفه بأمر المأمون، و اشتهر بالفرّاء مع أنه لم يعمل في صناعة الفراء، فقيل: لأنه كان يفري الكلام، و عرف أبوه «زياد» بالأفطح لأن يده قطعت في معركة فخ سنة 169 ه و قد شهدها مع الحسين بن علي بن الحسن، في خلافة موسى الهادي.

- وفيات الأعيان ج 2 ص 228- الأعلام للزركلي ج 9 ص 178.

(2) أبو زيد الأنصاري أحد

أئمة الأدب و اللغة، من أهل البصرة، ولد سنة 119 ه و توفي بالبصرة سنة 215 ه و هو من ثقاة اللغويين قال ابن الأنباري كان سيبويه إذا قال سمعت الثقة عني أبا زيد، له مصنفات منها، «كتاب النوادر» في اللغة «و اللباء و اللبن» و «المياه» و «خلق الإنسان» و «لغات القرآن» و «الوحوش» و «بيوتات العرب».

- وفيات الأعيان ج 1 ص 207- تاريخ بغداد ج 9 ص 77- الأعلام ج 3 ص 144.

(3) القاضي هو البيضاوي عبد اللّه بن عمر بن محمد، قاض مفسّر ولد في بيضاء قرب شيراز و ولي قضاء شيراز مدة، فانصرف عن القضاء و رحل الى تبريز و توفي فيها سنة 686 ه له آثار منها: «أنوار التنزيل و أسرار التأويل» يعرف بتفسير البيضاوي.

- البداية و النهاية ج 13 ص 309- الأعلام ج 4 ص 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 158

كرملة فأعلّت، أو آئيه كقابلة فحذفت الهمزة تخفيفا.

ثم أنها قد غلبت في دين الإسلام غلبة عرفية عامة، أو خاصة متشرعة، أو شرعية و إن كان الأظهر الأخير في جماعة حروف أقصرها اثنان، مثل حمّ و يسن، و أطولها آية المداينة في أواخر البقرة «1» و هي مائة و ثلاثة و ثلاثون كلمة على ما قيل، و هو مبنيّ على عدم عدّ الحرف الواحد آية كما استقرت عليه كلمتهم.

قال شيخنا «2» الطبرسي في المجمع لم يعدّق آية، و لا نظرائه من ن و ص،

______________________________

(1) البقرة: 282- صدرها: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ..) إلخ.

(2) أمين الدين أو أمين الإسلام أبو الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي الطوسي: مفسّر فقيه، جليل، كامل، نبيل، محقق، لغوي من أجلاء الإمامية و

لقد أذعن لفظه كل من عاصره أو تأخر عنه: قال الأفندي في رياض العلماء: رأيت نسخة من مجمع البيان بخط القطب الكيدري قد قرأها نفسه على نصير الدين الطوسي و على ظهرها أيضا بخطه هكذا: تأليف الشيخ الإمام الفاضل السعيد الشهيد انتهى- قال في الروضات: الشيخ الشهيد السعيد و الحبر الفقيه الفريد، الفاضل العالم المفسّر الفقيه المحدّث الجليل الثقة، الكامل النبيل، قال الشيخ أسد اللّه التستري في المقاييس عند ذكر ألقاب العلماء و منها أمين الإسلام الشيخ الأجل الأوحد الأكمل الأسعد قدوة المفسرين و عمدة الفضلاء المتبحرين أمين الدين أبي علي إلخ .. يروي المترجم له عن جماعة منهم: أبو علي بن الشيخ الطوسي، و الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن علي و الشيخ الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي، و السيد أبو طالب الجرجاني و غيرهم مصنفات كثيرة رائعة منها «مجمع البيان» و هو من أحسن التفاسير و أجمعها لفنون العلم فرع منه منتصف ذي القعدة سنة 536 ه «و جوامع الجامع مختصر مجمع البيان و الكشاف» و «تاج المواليد» و «أعلام الورى بأعلام الهدى» في فضائل الأئمة و غيرها. توفي سنة 548 ه عن الأفندي في رياض العلماء أنه قال: مما اشتهر بين الخاص و العام أن الطبرسي رحمه اللّه أصابته السكتة فظنّوا به الوفاة فغسلوه و كفنوه و دفنوه و انصرفوا فأفاق و وجد نفسه مدفونا فنذر إن خلصّه اللّه تعالى من هذه البلية أن يؤلف كتابا في تفسير القرآن و اتفق أن بعض النباشين كان قد قصد قبره في تلك الحال و أخذ في نبشه فلما نبشه و جعل ينزع عنه الأكفان قبض بيده عليه فخاف النباش خوفا عظيما

ثم كلمه فازداد خوف النباش فقال له: لا تخف و أخبره بقصته فحمله النباش على ظهره و أوصله الى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 159

لأنه مفرد و كلّ مفرد فإنه لا يعدّ لبعده عن شبه الجملة، فأما المركّب فما أشبه الجملة و وافق رؤوس الآي فإنه يعدّ مثل طه، و حم، و ألم.

أقول: و من هنا يظهر انهم اعتبروا في معناها معنى الجمعية التي أحد معانيها من قولهم خرج القوم بآيتهم أي بأجمعهم، و إن كانت مع ذلك عبرة و علامة واضحة، و حجة بينة على صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله و لذا كان كل آية منه معجزة أبد الدهر، و على الحقائق الكلية و العلوم الربانية، و المعارف الإلهية التي هي دليل عليها حسبما سمعت فكأنه قد لوحظت في المنقول إليه جميع المعاني كما هو الأوفق بالجمعية المعتبرة في مسماها فإن الأظهر حصول النقل الشرعي فيها.

و لذا قال الجاحظ «1»: سمى اللّه كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم

______________________________

بيته فأعطاه الأكفان و وهب له مالا جزيلا و تاب النباش على يده ثم وفيّ بنذره و ألّف كتاب مجمع البيان انتهى قال المحدث النوري في مستدركات الوسائل بعد نقل هذه الحكاية و مع هذا الاشتهار لم أجدها في مؤلف أحد قبله و ربما نسبت الى العالم الجليل المولى فتح اللّه الكاشاني صاحب تفسير منهج الصادقين و خلاصته و شرح هذه الحكاية مع بعدها في نفسها من حيث بقاء حياة المدفون بعد الإفاقة أنها لو صحّت لذكرها في مقدمة مجمع البيان لغرابتها و لاشتمالها على بيان السبب في تصنيفه مع أنه لم يتعرض لها و اللّه أعلم، توفى بسبزوار و نقل الى المشهد

الرضوي و دفن في جوار الرضا عليه السّلام.

و الطبرسي بالطاء المهملة و الباء المفتوحتين و الراء الساكنة بعدها سين مهملة نسبة الى طبرستان و هي بلاد مازندران، قال في معجم البلدان الطبر بالتحريك هو الذي يشقق به الأحطاب و ما شاكله بلغة الفرس و استان الموضع أو الناحية فطبرستان أي ناحية الطبر لأن أكثر أهل تلك الجبال مسلحون بالطبر. مقدمة مجمع البيان، الأعلام ج 5 ص 352، روضات الجنان ص 512.

(1) الجاحظ هو أبو عثمان عمرو بن بحر البصري اللغوي النحوي كان من غلمان النظام و كان من كبار أئمة الأدب و رئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة و مائلا الى النصب و العثمانية ولد في البصرة سنة 163 ه و توفي فيها سنة 255 ه فلج في آخر عمره و كان مشوه الخلقة و قيل في قبحه، لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ما كان إلّا دون قبح الجاحظ، مات و الكتاب على صدره، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه، له تصانيف كثيرة منها «الحيوان» مجلدات و «البيان و التبيين» و «المحاسن و الأضداد» و

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 160

على الجمل و التفصيل، سمى جملته قرآنا كما سموا ديوانا، و بعضه سورة كقصيدة و بعضها آية كالبيت، و آخرها فاصلة كقافية.

ثم لا يخفى أن ما ذكرناه في تعريف الآية تعريف لفظي لم نقصد به إلّا المعرفة الإجماليّة التي يتميز بها النوع عن غيره في الجملة إذ لا يهمّنا الاستقصاء في تعريفه بما يسلم طردا و عكسا من المناقشات، و إن كان ملحوظا فيما ذكرناه حيثيّة الجعل الشرعي الذي معها يسلم عن كثير من الاعتراض بخلاف ما ذكره القوم في المقام، مثل ما قيل من أنها كل

كلام يتصل الى انقطاعه، أو أنها ما يحسن السكوت عليه، أو أنها جماعة حروف، الى غير ذلك مما لا يسلم منها لو لا اعتبار الحيثيّة المتقدّمة.

و أما الكلمة فعن الفراء و غيره أن فيها ثلث لغات: فتح الأول و كسر الثاني، و هو الأشهر، و يجوز سكون الثاني مع فتح الأول و كسره، بل قد يقال باطراد الثلاثة في كل ما كان على فعل بفتح الفاء و كسر العين نحو كبد و ورق و تطلق على كل لفظ وضع لمعنى مفرد، و تجمع على كلمات و كلم على الأظهر من الأقوال فيها، كما صرّح به في «الصحاح» و غيره.

و قد يقال: إنّها مشتقة من الكلم بالفتح فالسكون بمعنى الجراحة نظرا الى أن السمع و القلب يتأثران بها كما أنّ البدن قد يتأثر بالجراحة، بل قد يكون الأول

______________________________

«العثمانية» التي نقض عليها أبو جعفر الإسكافي و الشيخ المفيد، و السيد أحمد بن طاووس و من أشعار الجاحظ ما أنشده في أواخر عمره عند المبرد: أ ترجو أن تكون و أنت شيخ كما قد كنت في أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب

الكنى و الألقاب، سفينة البحار ج 1 ص 146، الأعلام ج 5 ص 239.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 161

أقرب الى الدوام، و أبعد عن الالتيام و الالتحام، و لذا قيل: جراحات السنان لها التيام و لا يلتام ما جرح اللسان.

و في «الصحاح»: الكلم الجراحة، و الجمع كلوم و كلام، تقول كلمته كلما قال: و قرأ بعضهم «1»: دابة من الأرض تكلمهم «2»، أي تجرحهم، و تسمهم، لكنّه اشتقاق بعيد كما نبّه عليه نجم الأئمة «3» و غيره، و أبعد منه ما يتوهم

من اشتقاقها من الكلام بالضم.

قال في القاموس: إنّه الأرض الغليظة، و ربّما يفسّر بالقوت، قيل و منه قولهم: شغلنا الكلام عن الكلام.

و أمّا الحرف، فهو في الأصل بمعنى الطرف، و النهاية، و الحدّ، و الشفير، و منه حرف الجبل، و هو أعلاه المحدد، و حرف لشفيره، و قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «4»، أي على وجه واحد، و هو أن يعبده على السراء دون الضراء، أو في العلانية دون السر، أو باللسان دون الجنان، فإن الدين حرفان، أو على ضعف في العبادة، كضعف القائم على حرف، أي طرف جبل، الى غير ذلك ممّا يؤول إلى ما مرّ، نعم قد غلب عرفا على هذه المسموعات التي

______________________________

(1) المراد به ابن زرعة الذي قرأ تكلمهم بتخفيف اللام على ما صرح به الطبرسي مجمع البيان ج ص 232.

(2) النمل: 82.

(3) نجم الأئمة محمد بن الحسن الرضي الإسترابادي: محقق، مدقق من نوادر الزمان من الإمامية له مصنفات رائعة فائقة منها: «شرح الكافية لابن الحاجب» في النحو و «شرح مقدمة ابن الحاجب المسماة بالشافية في علم الصرف» و «شرح القصائد السبعة لابن أبي الحديد» توفي نحو 686 ه.

خزانة الأدب للبغدادي ج 1 ص 12 و الأعلام ج 7 ص 317.

(4) الحج: 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 162

يقال لها حروف المعجم، و ربما يعرّف بأنه كيفية للصوت بها يمتاز الصوت عن صوت آخر مثله في الحدّة و الثقل تمييزا في المسموع، و التقييد بالمثليّة في الوصفين، لإخراجهما إذ لا يمتاز بشي ء من الحدة أي الزيرية و الثقل أيّ البميّة صوت يماثله فيهما و إن كانا كيفيتين للصوت، و بالتميز في المسموع لإخراج الغنّة التي تظهر من

تسريب الهواء بعضا الى الأنف و بعضا الى الفم مع انطباق الشفتين و البحوحة التي هي للصوت الخارج من الحلق و غيرهما من طول الصوت و قصره، و كونه طيبا و غيره، فإن شيئا من ذلك لا يوجب التميز في المسموع. و لذا قد تختلف هذه الأمور و المسموع واحد، و قد تتّحد و المسموع هو الحروف خاصة لا تلك الكيفيات، و هو لا يخلو عن تأمل.

نعم قد يقسّم الحروف الى زمانية صرفة و هي ما يمكن تمديدها بلا توهّم تكرار كالفاء و القاف و الشين، و كالحروف المصوّتة المشهورة بحروف المدّ و اللين المقابلة للصوامت التي هي ما سواها، و إلى آنيّة صرفة كالباء و الطاء، و الدال، و غيرها من الصوامت التي لا يمكن تمديدها أصلا، فإنّها لا توجد إلّا في آخر زمان حبس النفس، كما يشهد به التكلّم بها- ساكنة بعد الهمزة المفتوحة، و لذا قيل: إنّ تسميتها بالحروف أولى من تسمية غيرها، لأنّها أطراف الصوت، و قد سمعت أنّ الحرف هو الطرف، و الى آنيّة تشبه الزمانيّة و هي أن تتوارد أفراد آنيّة مرارا فيظنّ أنّها فرد واحد زماني كالراء و الحاء، و الخاء، حيث إنّ الغالب على النطق أن الراء التي في آخر الدار مثلا راأت متوالية كل واحد منها آنيّ الوجود، إلّا أن الحسّ لا يشعر بامتياز أزمنتها، فظنّها حرفا واحدا زمانيا.

و من هنا يعترض على التعريف المتقدم بعدم شموله للحروف الآنيّة نظرا الى أنّها لا توجد إلا في الآن الذي هو بداية زمان الصوت أو نهايته، فلا تكون

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 163

عارضة له حقيقة، لأنّ العارض يجب أن يكون موجودا مع المعروض، و هي لا توجد

مع الصوت الذي هو زماني.

و أجيب بأنّ عروضها للصوت على نحو عروض الآن للزمان، و النقطة للخطّ يعني أن عروض الشي ء للشي ء قد يكون بحيث يجتمعان في الزمان، و قد لا يكون، و حينئذ يجوز أن يكون كلّ واحد من الحروف الآنيّة طرفا للصوت عارضا له عروض الآن للزمان، فيندفع الإشكال.

أقول: و في كلّ من الاعتراض و الجواب نظر.

أمّا في الأول فللمنع من كون هذه الحروف آنيّة حقيقية، و التسمية باعتبار الإضافة، سلّمنا لكن عروض الكيفية إنّما هو لأجزاء الصوت أوعيتها زمانا، و أنا، و منه يظهر الحقّ في الجواب.

و أمّا في الثاني فلأن النقطة مجرّد نهاية للخطّ، و هذا كيفية للنهاية، و الفرق واضح جدا، نعم تعريف الحرف بالهيئة العارضة إنما هو المشهور عند الحكماء، و أمّا أهل العربية، بل العرف العام فالظاهر منهم إطلاقه على مجموع العارض و المعروض كما لا يخفى.

ثمّ إنّه حكى في «المصباح المنير» عن الفرّاء، و ابن السكّيت أنّ حروف المعجم جميعها مؤنثة، و لم يسمع التذكير في شي ء من الكلام، و أنّه يجوز تذكيرها في الشعر.

و عن ابن الأنباري «1» التأنيث في حروف المعجم عندي على معنى الكلمة

______________________________

(1) ابن الأنباري محمد بن القاسم بن محمد بن بشّار: من أعلم أهل زمانه بالأدب و اللغة، و من أكثر الناس حفظا للشعر و الأخبار، قيل: كان يحفظ ثلاثمئة ألف شاهد في القرآن، ولد في

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 164

و التذكير على معنى الحرف.

و عن البارع «1» أنّ الحروف مؤنثة إلّا أن تجعلها اسما فعلى هذا يجوز أن يقال هذا جيم، و ما أشبهه.

______________________________

الأنبار (على الفرات) سنة 271 ه و توفي ببغداد سنة 328 و كان يتردد الى أولاد الخليفة

الراضي باللّه، يعلّمهم، له مصنّفات منها «الزاهر» في اللغة و «شرح معلقة عنترة» و «الأمثال» و «الأضداد» و «غريب الحديث» و هو أجلّ كتبه: قيل أنه 45000 ورقة.

- وفيات الأعيان ج 1 ص 503 و تذكرة الحفاظ ج 3 ص 57- و الأعلام ج 7 ص 226.

(1) البارع البغدادي الحسين بن محمد بن عبد الوهاب من بني الحارث بن كعب من علماء النحو و اللغة و هو من بيت وزارة ولي بعض جدوده وزارة المعتضد و المكتفي العبّاسيين، له ديوان شعر و كتب في الأدب و من شعره: أفنيت ماء الوجه من طول ماأسأل من لا ماء في وجهه

أنهي إليه شرح حالي الذي يا ليتني متّ و لم أنهه

ولد البارع في بغداد 443 و عمي في آخر عمره و توفي سنة 534. وفيات الأعيان ج 1 ص 158، أنباء الرواة ج 1 ص 328، الأعلام ج 2 ص 280.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 165

الفصل الخامس

في عدد الآيات و الكلمات و الحروف اختلفوا في تعيين عدد آيات القرآن الكريم على أقوال بعد اتفاقهم في الجملة على أنها لا تقصر عن ستّة آلاف و مائتي آية و شي ء زائد، فاختلافهم في تعيين شي ء زائدا، و الأقوال المختلفة لا ترجع إلى إثبات بعض الآيات و رفعها رأسا، بل الى عدّ بعض الآية آية.

فعن المكّيين أن القدر الزائد ستّ عشر آية، و قيل تسع عشر آية، و قيل اثنتي عشرة آية و عن المدنيّتين إحدى عشر آية، و الأكثر على أنّها عندهم سبع عشر آية و لعل نسبة الأوّل إليهم و هم، و عن البصريين أربع آيات، و قيل ثلاث آيات، و قيل خمس آيات، و ربّما يقال:

إنّ بناء مصاحفهم على الأوّل، و عن الشاميين سبع و عشرون، و قيل تسع و عشرون، و المحكي عن إبراهيم «1» التميمي نقصان واحدة عن المائتين، و عن الكوفيين خمس و ثلاثون، و في «برهان القارى» حكاية عن بعض البارعين في هذا الشأن أنّها في عددهم ستّ و ثلاثون، و ربما ينسب إليهم غير ذلك، بل فيه أنّ الزيادة عند المدني الأوّل سبع عشر آية،

______________________________

(1) إبراهيم بن يزيد التميمي أو التميمي عدّه ابن قتيبة من الشيعة و ذكره الشيخ في رجال السجّاد عليه السّلام مات على عهد الحجّاج سنة 95 ه و لم يحضر جنازته أحد خوفا منه إلّا سبعة أنفس.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 166

و عند المدني الأخير، و هو إسماعيل «1» بن جعفر المدني أربع عشر آية الى غير ذلك من الأقوال التي لا طائل تحت التعرض لها لعدم الدليل على شي ء منها.

ثم

روى شيخنا الطبرسي في «المجمع» في تفسير سورة الإنسان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ جميع سور القرآن مائة و أربع عشر سورة، و جميع آيات القرآن ستّة آلاف آية و مأتي آية و ستّ و ثلاثون آية، و جميع حروف القرآن ثلاثمئة ألف و أحد و عشرون ألف حرف و مائتا و خمسون حرفا «2».

أقول: و من هنا يظهر صحّة عدد الكوفيين سيّما مع ملاحظة ما ذكره في أول «المجمع» من أن عدد الكوفيين أصح الأعداد و أعلاها إسنادا لأنّه مأخوذ عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: و تعضده الروايات الواردة

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: فاتحة الكتاب سبع آيات إحداهنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم

، قال: و عدد أهل المدينة منسوب الى

أبي جعفر «3» يزيد بن القعقاع القارئ، و شيبة بن نصاح «4»، و هما المدني الأول، و الى إسماعيل بن جعفر و هو المدني الأخير،

______________________________

(1) إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري أبو إبراهيم: قارئ أهل المدينة في عصره من موالي بني زريق من الأنصار رحل الى بغداد، و تولى تأديب على بن المهدي، ولد سنة 130 هو توفي سنة 180 ه. تاريخ بغداد ج 6 ص 218، الأعلام ج 1 ص 308.

(2) مجمع البيان ج 5 ص 406.

(3) أبو جعفر القارئ يزيد بن القعقاع المخزومي المدني أحد القراء العشرة من التابعين كان إمام أهل المدينة في القراءة، و عرف بالقارئ و كان من المفتين المجتهدين، توفّي بالمدينة سنة 132 ه وفيات الأعيان ج 2 ص 278، الأعلام ج 9 ص 241.

(4) شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي المدني، قاضي المدينة و إمام أهلها في القراآت، و كان من ثقات رجال الحديث. توفي سنة 130 ه.

تهذيب التهذيب ج 4 ص 377، الأعلام ج 3 ص 264.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 167

و قيل: المدني الأول هو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، و عبد اللّه بن عمر «1» و المدني الأخير هو أبو جعفر، و شيبة بن إسماعيل، و الأوّل أشهر، و عدد أهل البصرة منسوب الى عاصم بن أبي الصباح الجحدري «2» و أيّوب بن المتوكّل «3» لا يختلفان إلّا في آية واحدة في ص قوله: فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ «4»، عدها الجحدري، و تركها أيّوب، و عدد أهل مكة منسوب الى مجاهد «5» بن جبير، والى إسماعيل المكّي «6»، و قيل لا ينسب الى أحد، بل وجد في مصاحفهم على

رأس كلّ آية ثلاث فقط، و عدد أهل الشام منسوب الى عبد اللّه بن عامر «7»، ثمّ قال:

و الفائدة في معرفة آي القرآن أنّ القارئ إذا عدّها بأصابعه كان أكثر ثوابا، لأنه

______________________________

(1) عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب: صحابي نشأ في الإسلام، و هاجر الى المدينة مع أبيه، و شهد فتح مكة، ولد في مكة سنة 10 قبل الهجرة و كفّ بصره في آخر حياته و توفّي سنة 73 ه. بمكة، و هو آخر من توفي بمكّة من الصحابة، له في كتب الحديث 2630 حديثا.

تهذيب الأسماء ج 1 ص 278- وفيات الأعيان ج 1 ص 246- الأعلام ج 4 ص 246-.

(2) عاصم بن أبي الصباح الجحدري المقرئ البصري المتوفي (128). غاية النهاية ج 1/ 349.

(3) أيّوب بن المتوكّل الأنصاري المقرئ البصري المتوفّى (200) ه. غاية النهاية ج 1/ 172.

(4) ص: 84.

(5) مجاهد بن جبير، أو جبر أبو الحجّاج المقرئ المفسّر المكّى المتوفّى (103).

غاية النهاية ج 2 ص 41، حلية الأولياء ج 3 ص 279، الأعلام ج 6 ص 161-.

(6) إسماعيل بن عبد اللّه بن قسطنطين قارئ مكة من أصحاب ابن كثير قرأ عليه الشافعي، مات سنة 190 ه و هو المعروف بالقسط.

(7) عبد اللّه بن عامر اليحصبي الشامي أحد السبعة ولّي قضاء دمشق في خلافة الوليد ابن عبد الملك، ولد في البلقاء في قرية «رحاب» سنة 8 من الهجرة و انتقل الى دمشق بعد فتحها، يقال: أنه أخذ القراءة عن معاوية و هو غلط فإنّ معاوية أظهر الإسلام عام الفتح و كان من الطلقاء ثم كان من الأمراء و أصحاب السياسة و تعليم القرآن بعيد من مثله و انّما نسبوه إليه تشريفا له، و

إنّما أخذ عن الواثلة بن الأسقع و فضالة بن عبيد- توفي بدمشق عام 118 ه.

تهذيب التهذيب ج 5 ص 274، الأعلام ج 4 ص 228، فهرس مشاهير القرّاء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 168

قد شغل بالقرآن يده مع قلبه و لسانه، و بالحريّ أن تشهد له يوم القيامة فإنّها مسئولة، و لأن ذلك أقرب الى التحفظ فإنّ القارئ لا يأمن السهو، و

قد روى عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: تعاهدوا القرآن فإنّه وحشيّ، و قال صلّى اللّه عليه و آله لبعض النساء اعقدن بالأنامل فإنّهن مسئولات، و مستنطقات،

و قال حمزة بن حبيب «1» و هو أحد القرّاء السبعة إنّ العدد مسامير القرآن «2».

أقول: أمّا الفائدة في معرفة الآيات فلعلّه يكفي فيها ما سمعت، بل قد تظهر أيضا في مثل النذر، و الاستيجار للتعليم، أو للقراءة، و قراءة الجنب، و أختيه لسبع آيات المحكم بكراهة ما زاد عليها، و اشتدادها فيما زاد على السبعين، هذا مضافا الى الفضل المترتّب على أعداد الآيات، فضلا عمّا يترتب على الحروف و الكلمات، كما

ورد في النبوي: أنّ من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، و من قرأ مائتي آية كتب من القانتين، و من قرأ ثلاثمئة آية لم يحاجّه القرآن «3».

و

أنه ينبغي أن يقرأ في الوتيرة بعد العشاء مائة آية «4»

، و

أنّ من قرأ مائة آية يصلّي بها في ليلة كتب اللّه له بها قنوت ليلة، و من قرأ مائتي آية في غير صلاة الليل كتب اللّه له في اللوح قنطارا من الحسنات، و القنطار ألف و مائتا أوقيّة، و الأوقيّة أعظم من

______________________________

(1) حمزة بن حبيب الزيّات كان عالما بالقرآن و القراءات،

قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفا من كتاب اللّه إلّا بأثر، ولد سنة 80 و توفي سنة 156 و يأتي ترجمته مفصّلا.

- تهذيب التهذيب ج 3 ص 27، الأعلام ج 2 ص 308.

(2) مجمع البيان مقدمة الكتاب- الفن الأول في تعداد آي القرآن.

(3) معاني الأخبار للصدوق ص 410 قال بعد نقل الحديث: يعني من حفظ قدر ذلك من القرآن، يقال قد قرأ الغلام القرآن إذا حفظه.

(4) مصباح المتهجد ص 81: يستحب أن يقرأ فيهما (الركعتين للوتيرة) مائة آية من القرآن و

روي في فلاح السائل ص 259 عن الصادق عليه السّلام قال: كان أبي يصلّي بعد عشاء الآخر ركعتين و هو جالس يقرأ فيهما مائة آية. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 169

جبل أحد «1»

، و

أنّ درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال له: اقرأ و أرق

، بل قد يعدّ الوقف على خصوص الآيات من الترتيل المندوب إليه، و لذا

ورد «2» أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقطع قراءته آية آية «3».

و أمّا سبب الاختلاف فيها مبني على اختلاف أنظارهم كغيره من الاختلافات الكثيرة الواقعة في الموادّ و الهيئات المستندة إليها، أو الى اختلاف المصاحف، نعم ذكر في «برهان القارئ» تبعا لهم أنّ الموجب هو النقل و التوقيف، قال و يؤيّده ما

رواه عاصم عن ذرّ عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: اختلفنا في سورة من القرآن، فقال بعضنا ثلاثين، و قال بعضنا اثنتين و ثلاثين، فأتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبرناه فتغيّر لونه، فأسرّ الى علي بن أبي طالب عليه السّلام بشي ء، فالتفت إلينا عليّ عليه السّلام فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمركم أن تقرأوا

القرآن كما علّمتموه «4»

، قال و في هذا دليل على أن العدد راجع الى التعليم، و فيه أيضا دليل على تصويب العددين.

أقول بل لعلّ الأظهر فيه على فرض صحّة الخبر أنّ العدد الحقّ هو ما أسرّه النبي صلّى اللّه عليه و آله الى مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام إرشادا لهم الى سؤاله و الأخذ منه، حيث

إنّه عليه السّلام باب مدينة حكمته عليه السّلام

و حيث

إنّه صلّى اللّه عليه و آله علم أنّ الناس لا يأتون البيوت من

______________________________

(1) معاني الأخبار ص 147 عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

(2) أمالي الصدوق ص 216 عن الصادق عليه السّلام.

(3) مجمع البيان ج 10 ص 378 عن أمّ سلمة.

(4)

روى أحمد بن حنبل و ابن بطة و أبو يعلى في مصنفاتهم عن الأعمش عن أبي بكر ابن أبي عيّاش في خبر طويل: أنه قرأ رجلان ثلاثين آية من الأحقاف، فاختلفا في قراءتهما فقال ابن مسعود: هذا الخلاف ما أقرأه فذهبت بهما الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فغضب و علىّ عنده فقال علي عليه السّلام: رسول اللّه يأمركم أن تقرأوا ما علّمتم. بحار الأنوار ج 92 ص 53 ط ط. الآخوندي بطهران. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 170

الأبواب أمرهم بالقراءة كما علّموا

، و في معناه ما

روي عن مولانا الصادق عليه السّلام اقرأوا كما علّمتم حتى يجي ء من يعلّمكم «1».

و أمّا الكلمات القرآنية فقد يقال: إنّ مجموعها عند الجميع سبع و سبعون ألف كلمة و أربعمائة و شي ء زائد اختلفوا في تعيينه، فعند البصريين أربع و ستّون، و عند الكوفيين و الشاميين ثلاثون، و عن أهل الحرمين تسع و ثمانون، و ربما يحكى عن الكوفيّين خمسون، و عن

حميد بن الأعرج عشرون، و عن إبراهيم التميمي تسع و تسعون، و عن عطاء تسع و ثلاثون، و عن عبد العزيز ست و ثلاثون، و عن البصريين سبع و ثلاثون الى غير ذلك من الأقوال الكثيرة التي لا طائل تحت التعرّض لها فضلا عن الترجيح بينها، نعم في «برهان القارئ»:

عدّدنا الكلمات فكانت اثنتين و سبعين ألفا، و لعلّه سهو منه، و كان منشأ الاختلاف في الأعداد هو الاختلاف في تعيين الكلمات، نعم في «جواهر التفسير»: أنّ أقصرها حرفان، كمن و (عن) و (ما) و (لا)، و إن جاء كثير من حروف المعاني على حرف واحد كواو العطف و همزة الاستفهام، و الباء الجارّة لكنّها لمّا لم يتنطق بها مفردة لم يعتبروها رأسا، و أطولهما عشرة أحرف مثل:

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ «2». و أمّا قوله: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «3» فهو و إن كان في اللفظ أحد

______________________________

(1)

في الكافي بإسناده عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس- فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام كفّ عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم قرأ كتاب اللّه عزّ و جلّ على حدّه إلخ. الكافي كتاب فضل القرآن باب النوادر حديث 23.

و

فيه أيضا عن سفيان بن السمط قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تنزيل القرآن قال عليه السّلام:

اقرءوا كما علمتم. المصدر السابق ج 2 ص 631.

(2) النور: 55.

(3) الحجر: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 171

عشر حرفا لكنّه في الرسم عشرة.

أقول: و فيه تأمل إذ الملفوظ أولى بالاعتبار، بل الأظهر موافقة المكتوب له. و أمّا أعداد حروف القرآن فهي ثلاثمأة واحد و عشرون

ألفا و شي ء، زائدا اختلفوا في تعيينه، فعن أهل الحرمين مائتان و خمسون، و عن البصريين مائتان، و عن الكوفيين مائة و ثمانون، و عن الشامي مثله بزيادة ثمانية، و ربّما يحكى عن مجاهد مائة و عشرون و عن غيره أقوال أخر ربما تزيد على ما سمعت بكثير لكنّه لا داعي للتعرّض لها سيّما بعد ما سمعت في النبوي المحكي عن «مجمع البيان» أنّ جميع حروف القرآن ثلاثمئة ألف و أحد و عشرون ألف و عشرون ألف حرف و مائتان و خمسون حرفا، و هو الموافق للمحكيّ عن أهل الحرمين.

ثمّ أنّه

قد روى عن مولانا الصادق عليه السّلام أنّ من تعلّم من القرآن حرفا كتب اللّه له عشر حسنات و محى عنه عشر سيئات و رفع له عشر درجات، ثمّ قال عليه السّلام لا أقول: بكلّ آية، و لكن بكلّ حرف (باء) أو (تاء) أو شبههما، قال: و من قرأ حرفا و هو جالس في صلاة كتب اللّه له به خمسين حسنة، و محى عنه خمسين سيئة، و رفع له خمسين درجة، و من قرأ حرفا و هو قائم في صلاته كتب اللّه له مائة حسنة، و محى عنه مائة سيئة، و رفع له مائة درجة الخبر. «1»

و على هذا فيكتب لمن تكلّم كلّ القرآن مضروب العدد المذكور على عشرة و هو ثلاثة آلاف و مائتان و اثنتي عشر ألفا و خمسمائة حسنة (3212500) و يمحي عنه بهذا العدد من السيئة و ترفع له بهذا العدد درجة، و لمن قرأه و هو جالس في صلاة مضروبة في خمسين، و هو ستّة عشر ألف ألف و اثنان و ستّون

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 4 ص 841

ح 7696.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 172

ألفا و خمسمائة (16062500) بالنسبة الى كلّ من الثلاثة، و لمن قرأه قائما فيها مضروبة في مائة، و هو اثنان و ثلاثون ألف ألف و مائة و خمسة و عشرون ألفا (32125000)، و اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، ثمّ إنّ أكثر الحروف دورانا في الكتاب العزيز، بل في مطلق الكلام هو الألف حتى لا يكاد يخلو منها شي ء من الكلام القصير، فضلا عن الخطب و الكتب الطويلة، و إن أنشد مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام خطبة طويلة خالية منها على وجه الارتجال و ليس ببدع من غرائبه البديعة روحي له الفداء، أوّلها: حمدت من عظمت منّته، و سبقت غضبه رحمته، و تمّت كلمته و نفذت مشيّته، الخطبة بطولها «1» كما

أنّه عليه السّلام أنشد خطبة طويلة «2» خالية من النقط مع كثرة دورانها في الكلام أولها: الحمد للّه الملك المحمود، المالك الودود، و قال كلّ مطرود، الخطبة بطولها

و ربّما يروى عنه عليه السّلام خطبة أخرى في ذلك كما

رواه ابن شهر آشوب في «المناقب» قال: روى الكلبي عن أبي صالح، و أبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام: أنّه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أنّ الألف أكثر دخولا في الكلام فارتجل الخطبة المونقة.

أوّلها: حمدت من عظمت إلخ

ثم ارتجل خطبة أخرى من غير النقط التي أولها:

الحمد للّه أهل الحمد و مأواه، أؤكد الحمد و أحلاه، و أسرع الحمد و أسراه و أطهر الحمد و أسماه، و أكرم الحمد و أولاه الى آخرها «3»

، قال: و قد أوردتهما في

______________________________

(1) الوافي للفيض القاساني ج 2 ص 265 ط. الإسلاميّة بطهران.

(2) هذه الخطبة مرويّة بطرق عديدة و رواها العلّامة

المجلسي في المجلّد السابع عشر من البحار من مصباح الكفعمي باختلاف شديد و قال في المجلّد التاسع منه: و روى الكلبي عن أبي صالح إلخ.

(3) مناقب آل طالب ج 2 ص 48 ط. المطبعة العلمية بقم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 173

«المخزون المكنون».

و بالجملة فجميع الألفات المذكورة في القرآن على قول عبد العزيز المزني الذي قيل أنّه أشهر الأقوال ثمانية و أربعون ألفا و ثمانمأة (48800)، و هو أكثر الحروف دورانا في الكتاب العزيز كما أقلها الظاء المشالة، و عدة ما ورد منها فيه اثنان و ثمانمائة (802)، و غيرهما متوسطات في ذلك مضبوطة الأعداد عند المعتنين بهذا الشأن «1».

تم الجزء الثاني و يليه الجزء الثالث أوّله: علم القرآن مخزون عند أهل البيت عليهم السّلام

______________________________

(1) قال النراقي في الخزائن في بيان حروف القرآن: الألف (48800) الباء (11200) الناء (10199) الثاء (9276) الجيم (3273) الحاء (3939) الخاء (2418) الدال (5342) الذال (4399) الراء (11793) الزاء (1590) السين (5891) الشين (2253) الصاد (2081) الضاد (2674) الطاء (2274) الظاء (842) العين (9020) الغين (2208) الفاء (8470) القاف (6813) الكاف (10354) اللام (33522) الميم (26035) النون (26565) الواو (25536) الهاء (9070) الياء (25919).

الخزائن لأحمد النراقي ص 275.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 175

الباب الثامن

في أنّ علم القرآن مخزون عند أهل البيت

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 177

اعلم أنّ علم القرآن مخزون عند أهل البيت عليهم السّلام و هو ممّا قضت به ضرورة المذهب، بل الدين لو لا متابعة الأهواء الباطلة، بل يظهر ذلك من التأمّل في كثير من الآيات كقوله تعالى:

فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ «1».

و قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «2».

و قوله

تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «3».

و قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «4».

و قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ «5».

و قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ «6».

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المفسّرة في أخبار الفريقين بهم عليهم السّلام، بل

______________________________

(1) العنكبوت: 47.

(2) آل عمران: 7.

(3) الرعد: 43.

(4) العنكبوت: 49.

(5) الجاثية: 29.

(6) الأعراف: 170.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 178

قد ورد في أخبار متواترة معنى، و إن لم تكن ألفاظها متواترة، أنّها نزلت فيهم، و أنّهم المخصوصون بها، مع دلالة تلك الأخبار على تمام المقصود أيضا.

ففي «تأويل الآيات» و «المناقب» و «تفسير العيّاشي» عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ «1» قال عليه السّلام: هم آل محمد صلوات اللّه عليهم. «2»

و

في «البصائر» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله. «3»

و

فيه، عن أحدهما في هذه الآية قال: إنّ الراسخين في العلم هم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، فرسول اللّه أفضل الراسخين في العلم قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزّل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه. «4»

و

فيه، عن يعقوب بن جعفر، قال: كنت مع أبي الحسن عليه السّلام بمكّة، فقال له رجل: إنّك لتفسّر من كتاب اللّه ما لم نسمع به، فقال أبو الحسن عليه السّلام: علينا نزل قبل الناس، و لنا فسّر قبل أن يفسّر في الناس، فنحن نعرف حلاله و حرامه، و ناسخه و منسوخه، و سفريّه و حضريّه، و في أيّ ليلة

نزلت كم من آية، و فيمن نزلت و فيما نزلت، فنحن حكماء اللّه في أرضه، و شهداؤه على خلقه، و هو قول

______________________________

(1) العنكبوت: 47.

(2) تأويل الآيات الظاهرة ص 423، المناقب لابن شهر آشوب ج 3 ص 485.

(3) بصائر الدرجات ص 56، بحار الأنوار ج 23 ص 199 ح 31.

(4) بصائر الدرجات ص 56، بحار الأنوار ج 23 ص 199 ح 33. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 179

اللّه تبارك و تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ «1» فالشهادة لنا و المسألة للمشهود عليه ... إلخ «2».

و

في «المناقب» عن تفسير الثعلبي، قال علي عليه السّلام في قوله تعالى:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «3»: نحن أهل الذكر. «4»

و

عن «إبانة» أبي العبّاس الفلكي عنه عليه السّلام: «ألا إنّ الذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نحن أهله، و نحن الرّاسخون في العلم، و نحن منار الهدى، و أعلام التقى، و لنا ضربت الأمثال» «5».

و

في «الكافي» و «تفسير العيّاشي»، و «تأويل الآيات»، عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «6»، قال عليه السّلام: «هم الأئمّة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله» «7».

و في «البصائر» و غيره أخبار كثيرة جدّا في معناه، و

في كثير منها: «إيّانا عنى، و عليّ أوّلنا و خيرنا» «8»

، و

في بعضها: «هم الأئمّة خاصّة» «9» و نحن

______________________________

(1) الزخرف: 19.

(2) بصائر الدرجات ص 54، بحار الأنوار ج 23 ص 196 ح 26.

(3) النحل: 43.

(4) المناقب لابن شهراشوب ج 3 ص 98.

(5) بحار الأنوار ج 23 ص 184 نقلا عن المناقب ج 3/ 98 و الإبانة.

(6) العنكبوت: 49.

(7) الكافي ج 1 ص 167 باب أنّ الأئمّة قد

أوتوا العلم، إلّا أنّه ليس فيه «من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله»، بحار الأنوار ج 23 ص 189 ح 5 عن كنز الفوائد.

(8)

الكافي ج 1 ص 167 باسناده عن بريدة بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قال عليه السّلام: إيّانا عنى و عليّ أوّلنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

(9) الكافي ج 1 ص 167، بصائر الدرجات ص 56. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 180

المخصوصون بها.

و

في «المناقب» عن أبي القاسم الكوفي، قال: روى في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ «1»: «إنّ الراسخين في العلم من قرنهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالكتاب، و أخبر أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

قال: و في اللغة الراسخ هو اللازم الذي لا يزول عن حاله، و لن يكون كذلك إلّا من طعنة اللّه تعالى على العلم في ابتداء نشوءه كعيسى عليه السّلام في وقت ولادته قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ «2» فأمّا من يبقى السنين الكثيرة لا يعلم ثمّ يطلب العلم، فيناله على قدر ما يجوز أن يناله منه فليس ذلك من الرّاسخين، يقال: رسخت عروق الشجر في الأرض، و لا يرسخ إلّا صغيرا.

و

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذبا، و بغيا علينا، و حسدا لنا «3» أن رفعنا اللّه سبحانه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستعطى العلم «4» و يستجلى العمى، لا بهم» «5».

و

في «تأويل الآيات» عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: هذا

كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ «6» قال: «إنّ الكتاب لا ينطق، و لكن محمد صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته هم

______________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) مريم: 30.

(3) في المصدر: و بغيا لنا، و حسدا علينا.

(4) في البحار: بنا يستعطى الهدى.

(5) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 285 ط قم، و بحار الأنوار ج 23 ص 204 ح 53 باب أنّهم عليهم السّلام أهل علم القرآن.

(6) الجاثية: 29. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 181

الناطقون بالكتاب» «1».

و

في «تفسير القمّي» عن بريد «2»، عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزّل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، قال: جعلت فداك إنّ أبا الخطّاب كان يقول فيكم قولا عظيما، قال: و ما كان يقول؟ قلت: قال: إنّكم تعلمون علم الحلال و الحرام و القرآن، فقال عليه السّلام: علم الحلال و الحرام و القرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث بالليل و النهار» «3».

و في «البصائر» ما في معناه،

فيه: «و أيّ شي ء الحلال و الحرام في جنب العلم؟ إنّما الحلال و الحرام في شي ء يسير من القرآن» «4».

و

من الشائع في أخبار الفريقين، و العبارة للمفيد في «إرشاده» عن ابن نباتة، قال: لمّا بويع أمير المؤمنين عليه السّلام بالخلافة خرج إلى المسجد معمّما بعمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لابسا برديه، فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، و وعظ، و أنذر، ثمّ جلس متمكّنا، و شبّك بين أصابعه، و وضعهما أسفل سرّته، ثمّ قال عليه السّلام:

يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّ عندي علم الأوّلين و الآخرين، أما و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم،

______________________________

(1) تأويل الآيات الظاهرة: ص 559، كنز الدقائق ج 9 ص 432 و فيه في ذيل الحديث: هذا على سبيل المجاز تسمية المفعول باسم الفاعل، إذ جعل الكتاب هو الناطق، و الناطق غيره.

(2) الظاهر أنّه بريد بن معاوية العجلي، البجلي من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام وثّقه النجاشي لأنّ القمّي روى عنه في تفسيره. (معجم رجال الحديث ج 3).

(3) تفسير القمّي: 87- 88، و الإختصاص ص 314 عن محمد بن مسلم.

(4) بصائر الدرجات ص 53، بحار الأنوار ج 33 ص 195 عن البصائر. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 182

حتى ينتهي كلّ كتاب من هذه الكتب و يقول: يا ربّ إنّ عليّا قضى بكتابك، و اللّه إنّي لأعلم بالقرآن و تأويله من كلّ مدّع علمه، و لو لا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة، ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي فلق الحبّة و برى ء النسمة لو سألتموني عن آية آية لأخبرتكم بوقت نزولها، و فيم نزلت، و أنبأتكم بناسخها، و منسوخها، و خاصّها، و عامّها، و محكمها من متشابهها، و مكّيّتها من مدنيّتها، و اللّه ما من فئة تضلّ أو تهتدي إلّا و أنا أعرف قائدها و سائقها و ناعقها» «1».

قال في «المناقب»: و رواه ابن أبي البختري من ستّة طرق، و ابن المفضّل من عشر طرق، و إبراهيم الثقفي من أربعة عشر طريقا، منهم: عديّ بن حاتم، و الأصبغ

بن نباتة، و علقمة بن قيس، و يحيى بن امّ الطويل، و زرّ بن حبيش، و عباية بن ربعي، و عباية بن رفاعة، و أبو الطفيل.

ثمّ ذكر الخبر قريبا ممّا مرّ «2».

و

في «البصائر»، عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «كنت إذا سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجابني، و إن فنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية في ليل و لا نهار، و لا سماء و لا أرض، و لا دنيا و لا آخرة، و لا جنّة و لا نار، و لا سهل و لا جبل، و لا ظلمة و لا نور، إلّا و أقرأنيها، و أملأها عليّ، و كتبتها بيدي، و علّمني تأويلها و تفسيرها، و محكمها و متشابهها، و خاصّها و عامّها، و كيف نزلت، و أين نزلت، و فيهم أنزلت إلى يوم القيامة، و قد دعا اللّه إلى أن يعطيني فهما

______________________________

(1) الإرشاد ص 30 ط طهران المطبعة العلمية الإسلامية.

(2) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 38 ط، قم، بحار الأنوار ج 40. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 183

و حفظا، فما نسيت آية من كتاب اللّه أملاه عليّ» «1».

و

فيه، و في «الاختصاص» عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، قال: سألته عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال عليه السّلام: «إنّ اللّه علّم القرآن»، قال: قلت: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ قال عليه السّلام: «ذاك أمير المؤمنين عليه السّلام علّمه بيان كلّ شي ء ممّا يحتاج الناس إليه». «2»

و

في «المناقب» عن ابن عبّاس، قال: حم اسم من أسماء اللّه عسق علم عليّ سبق كلّ جماعة، و تعالى كلّ فرقة. «3» و فيه أيضا،

عن محمد بن مسلم، و أبي حمزة الثمالي، و جابر بن يزيد، عن الباقر عليه السّلام.

و عن عليّ بن فضّال، و الفضيل بن يسار، و أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام.

و عن أحمد بن محمد الحلبي، و محمد بن الفضيل، عن الرضا عليه السّلام.

و

قد روي عن موسى بن جعفر عليهما السّلام، و عن زيد بن علي، و عن محمد بن الحنفيّة رضى اللّه عنه، و عن سلمان الفارسي، و عن أبي سعيد الخدري، و عن إسماعيل السديّ، أنّهم قالوا في قوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4»: «هو علي بن أبي طالب عليه السّلام». «5»

______________________________

(1)

بصائر الدرجات ص 53 و فيه: «و لا على من أنزلت إلّا أملاها عليّ»، بحار الأنوار ج 40 ص 139 عن البصائر.

(2) بصائر الدرجات ص 148، الاختصاص ص 157، بحار الأنوار ج 40 ص 142 عن الإختصاص و البصائر.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 28 ط قم، بحار الأنوار ج 40 ص 145 عن المناقب.

(4) الرعد: 43.

(5) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 257 ط قم، بحار الأنوار ج 40 ص 146 عن المناقب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 184

و

فيه أيضا: الثعلبي في تفسيره باسناده عن أبي معاوية، من الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، و روي عن عبد اللّه بن عطاء، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قيل لهما: زعموا أنّ الّذي عنده علم الكتاب عبد اللّه بن سلام «1»، قال: «ذاك علي ابن أبي طالب عليه السّلام».

ثمّ روى أيضا أنّه سئل سعيد بن جبير: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد اللّه ابن سلام؟ قال: «لا فكيف و هذه

سورة مكيّة» «2» و قد روي عن ابن عبّاس: لا و اللّه ما هو إلّا علي بن أبي طالب، لقد كان عالما بالتفسير و التأويل، و الناسخ و المنسوخ، و الحلال و الحرام.

و روي عن ابن الحنفيّة: «علي بن أبي طالب عنده علم الكتاب الأوّل و الآخر». رواه النطنزي في «الخصائص».

ثمّ قال ابن شهر آشوب: «و من المستحيل أنّ اللّه تعالى يستشهد بيهوديّ و يجعله ثاني نفسه! «3» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مرّت في المقدّمات السابقة إلى بعضها الإشارة، و ستسمع إن شاء اللّه العزيز كثيرا منها في تفسير الآيات المتعلّقة.

و أمّا انتهاء علم القرآن و علم التفسير إليهم عليهم السّلام فواضح بعد ما مرّ في الأبواب السابقة، و ما يأتي من الأخبار المتواترة الدالّة على أنّ مولانا أمير

______________________________

(1) هو عبد اللّه بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبو يوسف، أسلم عند قدوم النبي صلّى اللّه عليه و آله المدينة و كان اسمه الحصين فسمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه، مات سنة (43) ه. (الاعلام ج 4 ص 223).

(2) الإتقان للسيوطي ج 1 ص 16 ط بيروت.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 257- 259، بحار الأنوار ج 40 ص 145- 146 عن المناقب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 185

المؤمنين عليه السّلام هو الجامع للقرآن كما نزل من دون زيادة حرف أو نقصان، و أنّ إليه ينتهي علم ظاهره و باطنه، و تنزيله و تأويله، و تخومه و بطونه، و محكمه و متشابهه، و عامّه و خاصّه، و ناسخه و منسوخه، كما ينتهي إليه سائر العلوم و المعارف و الكمالات، على ما أطبق عليه الفريقان، كما نبّه عليه الرازي في

«أربعينه».

و قال في «المناقب»: و من عجب أمره في هذا الباب أنّه لا شي ء من العلوم إلّا و أهله يجعلون عليّا قدوة، فصار قوله قبلة للشريعة «1»، فمنه سمع القرآن.

ذكر الشيرازي في «نزول القرآن» و أبو يوسف يعقوب في تفسيره، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ «2»: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يحرّك شفتيه عند الوحي ليحفظه، فقيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ يعني بالقرآن لِتَعْجَلَ بِهِ من قبل أن يفرغ به من قراءته عليك إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ قال: ضمن اللّه محمدا أن يجمع القرآن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه.

قال ابن عبّاس: فجمع اللّه القرآن في قلب عليّ، و جمعه عليّ بعد موت رسول اللّه بستّة أشهر. «3» و

في أخبار أبي رافع أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في مرضه الذي توفّي فيه لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: «يا علي هذا كتاب اللّه خذه إليك» فجمعه في ثوب فمضى إلى منزله، فلمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله جلس عليّ فألّفه كما أنزل اللّه، و كان به عالما» «4».

______________________________

(1) في «البحار»: في الشريعة.

(2) القيامة: 16.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 41 ط قم، بحار الأنوار ج 40 ص 155.

(4) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 41، بحار الأنوار ج 40 ص 155.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 186

و حدّثني أبو العلاء العطّار، و الموفّق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن عليّ «1» بن رباح أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر عليّا بتأليف القرآن فألّفه و كتبه.

و

عن جبلة «2»

بن سحيم، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لو ثنيت لي الوسادة، و عرف لي حقّي لأخرجت لهم مصحفا كتبته، و أملأه عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و

روى أبو نعيم في «الحلية» و الخطيب في «الأربعين» بالإسناد عن السدّي، عن عبد خير «3»، عن عليّ عليه السّلام، قال: «لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقسمت- أو حلفت- أن لا أضع ردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين اللّوحين، فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن».

و

في أخبار أهل البيت عليهم السّلام: «آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلّا للصلاة حتى يؤلّف القرآن و يجمعه، فانقطع عنهم مدّة إلى أن جمعه، ثمّ خرج إليهم به في إزار يحمله و هم مجتمعون في المسجد ... إلخ «4».

و قال أيضا في «المناقب»: و منهم العلماء بالقراءات،

روى أحمد بن حنبل،

______________________________

(1) عليّ بن رباح بن قصير (بضمّ العين و فتح اللام) المصري، ولد سنة (10) ه و توفّي سنة (114) أو (117) (تهذيب التهذيب ج 7/ 271).

(2) جبلة بن سحيم التيمي الشيباني أبو سريرة الكوفي توفّي سنة (125) أو (126) ه (تهذيب التهذيب ج 2 ص 55).

(3) هو عبد خير بن يزيد الهمداني أبو عمارة الكوفي المخضرم أدرك الجاهلية و عاش (120) سنة أو أكثر، ذكره ابن عبد البرّ و غيره في الصحابة. (تهذيب التهذيب ج 6 ص 163).

(4) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 41. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 187

و ابن بطّة «1»، و أبو يعلى «2» في مصنّفاتهم عن الأعمش، عن أبي بكر «3» بن عيّاش في خبر طويل أنّه قرأ رجلان ثلاثين آية من الأحقاف. فاختلفا في قراءتهما، فقال

ابن مسعود: هذا خلاف ما أقرأه، فذهبت بهما إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فغضب و عليّ عنده، فقال عليّ: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأمركم أن تقرؤوا كما علّمتم. و هذا دليل على علم عليّ بوجوه القرآن المختلفة.

و

روى أنّ زيدا لمّا قرأ «التابوه» «4» «5» قال عليّ عليه السّلام: اكتبه «التابوت»، فكتبه كذلك، و القرّاء السبعة إلى قراءته يرجعون. «6»

فأمّا حمزة و الكسائي فيعوّلان على قراءة عليّ و ابن مسعود، و ليس مصحفهما مصحف ابن مسعود، فهما إنّما يرجعان إلى عليّ و يوافقان ابن مسعود فيما يجري مجرى الإعراب، و قد قال ابن مسعود: ما رأيت أحدا أقرأ من علي ابن أبي طالب عليه السّلام للقرآن.

و أمّا نافع، و ابن كثير، و أبو عمرو فمعظم قراءاتهم ترجع إلى ابن عبّاس،

______________________________

(1) هو عبيد اللّه بن محمد العكبري الحنبلي المعروف بابن بطة توفّي (387)- العبر ج 3 ص 34.

(2) هو أبو يعلى الموصلي أحمد بن علي الحافظ المتوفّى (307)- العبر ج 2/ 140.

(3) هو: أبو بكر شعبة بن عيّاش بن سالم الحنّاط الأسدي توفّي سنة (193)- غاية النهاية ج 1 ص 325 رقم 1321.

و لا يخفى أنّ الأعمش من شيوخ أبي بكر بن عيّاش و توفّي سنة (148) و لا يروي عن تلميذه، بل الأمر بالعكس، فالظاهر أنّ في العبارة تقديما و تأخيرا.

(4) البقرة: 248.

(5) قال الطبرسي في «مجمع البيان» ج 2 ص 352: التابوت بالتاء لغة جمهور العرب، و التابوه بالهاء لغة الأنصار.

(6) المناقب ج 2 ص 42.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 188

و ابن عبّاس قرأ على أبي بن كعب، و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و الّذي من قراءة هؤلاء

يخالف قراءة أبيّ فهو إذا مأخوذ من عليّ عليه السّلام.

و أمّا عاصم فقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، و قال أبو عبد الرحمن:

قرأت القرآن كلّه على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. فقالوا: أفصح القراآت قراءة عاصم، لأنّه أتى بالأصل، و ذلك أنّه يظهر ما أدغمه غيره، و يحقّق من الهمز ما ليّنه غيره، و يفتح من الألفات ما أماله غيره.

و العدد الكوفي في القرآن منسوب إلى عليّ عليه السّلام، ليس في الصحابة من ينسب إليه العدد غيره، و إنّما كتب عدد ذلك كلّ مصر عن بعض التابعين.

ثمّ قال: و منهم المفسّرون كعبد اللّه بن العبّاس، و عبد اللّه بن مسعود، و أبي بن كعب، و زيد بن ثابت، و هم معترفون له بالتقدّم.

ففي «تفسير العيّاشي»: قال ابن عبّاس: جلّ ما تعلّمت من التفسير من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و قال ابن مسعود: إنّ القرآن انزل على سبعة أحرف، ما منها إلّا و له ظهر و بطن، و إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام علم الظاهر و الباطن. «1» و في فضائل العكبري:

قال الشعبي: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد نبي اللّه من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و

في «تاريخ» البلاذري، و «حلية الأولياء»: قال عليّ عليه السّلام: و اللّه ما نزلت آية إلّا و قد علمت فيما نزلت، و أين نزلت، أ بليل نزلت أم بنهار نزلت، في سهل أو جبل، إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا، و لسانا سئولا. «2»

______________________________

(1) رواه أيضا أبو نعيم في حلية الأولياء ج 1 ص 65.

(2) حلية الأولياء ج 1 ص 67- 68 بتفاوت يسير، الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 338، مناقب

تفسير الصراط

المستقيم، ج 2، ص: 189

و

في «قوت القلوب»: قال عليّ عليه السّلام: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب» «1».

و لمّا وجد المفسّرون قوله لا يأخذون إلّا به.

سأل ابن الكوّاء و هو عليه السّلام على المنبر: ما الذَّارِياتِ ذَرْواً؟ فقال:

الرياح، فقال: و ما الحاملات وِقْراً؟ قال: السحاب، قال: و ما الجاريات يُسْراً؟ قال: الفلك، قال: فما المقسمات أَمْراً؟ قال الملائكة، فالمفسّرون كلّهم على قوله. «2»

و جهلوا تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ «3» فقال له رجل:

هو أوّل بيت؟ قال عليه السّلام: لا قد كان قبله بيوت، و لكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى و الرحمة و البركة، و أوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم «4»، ثمّ هدم فبنته العمالقة، ثمّ هدم فبنته قريش.

و إنّنا استحسن قول ابن عبّاس فيه «5» لأنّه قد أخذ منه عليه السّلام.

و قال أحمد في «المسند»: لمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان ابن عبّاس ابن عشر

______________________________

الخوارزمي ص 54 ط تبريز.

(1) و رواه النقشبندي الحنفي أيضا في «ينابيع المودّة» ج 1 ص 205 و ج 3 ص 456 ط الجديد، و العلّامة الهروي في «شرح عين العلم و زين الحلم» ص 91، و العلّامة الكاكوردي في «الروض الأزهر» ص 33 ط حيدرآباد.

(2) المستدرك للحاكم ج 2 ص 466 ط حيدرآباد الدكن.

(3) آل عمران: 96.

(4) جرهم: بطن من القحطانية كانت منزلهم أوّلا اليمن، ثمّ انتقلوا إلى الحجاز، و نزلوا بمكّة و استوطنوها- معجم قبائل العرب ص 183.

(5) في (أي في علم التفسير).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 190

سنين، و كان قرأ المحكم يعني المفصّل «1». «2» أقول: و انتساب ابن عبّاس إلى

أمير المؤمنين عليه السّلام في العلوم سيّما التفسير واضح جليّ مروي من طرق الفريقين، و لذا لمّا سئل عن علمه قال: علمي إلى علم عليّ عليه السّلام كالقرارة في المثعنجر.

قال في «القاموس»: و المثعنجر: السائل من ماء أو دمع، و بفتح الجيم:

وسط البحر ... إلى أن قال: و قول ابن عبّاس و قد ذكر عليّا رضي اللّه تعالى عنهما:

«علمي إلى علمه كالقرارة في المثعنجر أي مقيسا إلى علمه كالقرارة موضوعة في جنب المثعنجر». «3» و رواه عنه في «النهاية» «4».

و في «المناقب» عن تفسير العيّاشي: قال ابن عبّاس: عليّ علم علما علّمه رسول اللّه، و رسول اللّه علّمه اللّه، فعلم النبي من علم اللّه، و علم عليّ من علم النبيّ، و علمي من علم عليّ، و ما علمي و علم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله في علم عليّ

______________________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 43.

(2) أورد البحراني في «البرهان» ج 1 ص 52 رواية عن العيّاشي تدلّ على أنّ المفصّل سبع و ستّون سورة من سورة الفتح إلى آخر القرآن.

(3) القاموس في مادّة «ثعجر».

(4) هذا الكلام عن ابن عبّاس مشهور بين الفريقين، أورده الحافظ أبو عبيد الهروي في «الغريبين» في مادّة «قرر»، و العلّامة الشيخ محمد طاهر الصديقي في «مجمع بحار الأنوار» ج 3 ص 131 ط لكهنو، و العلّامة الزبيدي الحنفي في «تاج العروس» ج 3 ص 487 في مادّة (قرر)، و ابن منظور المصري في «لسان العرب» ج 4 ص 103 ط بيروت، و ابن الأثير في «النهاية» ج 1 ص 152 ط مصر، و قال:

القرارة: الغدير الصغير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 191

إلّا كقطرة في سبعة أبحر. «1» و

عن الضحّاك، عن ابن عبّاس أنّه قال: اعطي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تسعة أعشار العلم، و إنّه لأعلمهم بالعشر الباقي. «2».

بل رووا عن عمر بن الخطّاب التصديق له بمثل ذلك:

فعن الخطيب في «الأربعين»: قال عمر: العلم ستّة أسداس، لعليّ من ذلك خمسة أسداس، و للناس سدس، و لقد شاركنا في السدس حتى لهو أعلم به منّا. «3» قال في «المناقب»: و قد ظهر رجوعه إلى عليّ عليه السّلام في ثلاث و عشرين مسألة حتى قال: لو لا عليّ لهلك عمر، و قد رواه الخلق منهم: أبو بكر بن عيّاش، و أبو المظفّر السمعاني.

قال الصاحب:

«في مثل فتواك إذ قالوا مجاهرةلو لا عليّ هلكنا في فتاوينا»

و قال خطيب خوارزم:

إذا عمر تخطّي في جواب و نبّهه عليّ بالصواب

يقول بعدله لو لا عليّ هلكت هلكت في ذاك الجواب «4»

______________________________

(1) المناقب ج 2 ص 30، ينابيع المودّة ص 70 ط اسلامبول.

(2) المناقب ج 2 ص 30، الاستيعاب لابن عبد البر ج 2 ص 462 ط حيدرآباد بتفاوت يسير، ذخائر العقبى ص 78 ط مصر، الرياض النضرة ج 2 ص 194 ط مصر، أسد الغابة ج 4 ص 22 ط مصر، تاريخ الخلفاء للسيوطي.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 31، مناقب الخوارزمي ص 55 ط تبريز.

(4) المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 31- 32، روى قوله هذا غير واحد من الأعلام و إليك بعضهم:

1- ابن قتيبة في مختلف الحديث ص 202 ط القاهرة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 192

كما اشتهر قوله الآخر الذي صار مثلا بين الناس: «معضلة ليس لها أبو حسن». «1» قال الجزري في «النهاية»: يقال: أعضل إلى الأمر إذا ضاقت فيه الحيل، و

منه حديث عمر: «أعوذ باللّه من كلّ معضلة ليس لها أبو حسن»، و روى المعضّلة (بفتح العين و تشديد الضاد) أراد المسألة الصعبة، أو الخطّة الضيّقة المخارج. من الإعضال أو التعضيل، و يريد بأبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السّلام.

و منه حديث معاوية و قد جاءه مسألة مشكلة، فقال: «معضلة و لا أبا حسن»، أبو حسن معرفة وضعت موضع النكرة، كأنّه قال: و لا رجل لها كأبي حسن، لأنّ لا النافية إنّما تدخل على النكرات دون المعارف. «2» و

في «الكافي» باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي

______________________________

2- ابن عبد البرّ في الإستيعاب ج 3 ط مصر بذيل الإصابة ص 39.

3- القاضي علي المالقي في قضاة الاندلسّ ص 73 ط القاهرة.

4- محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 82 ط مصر.

5- ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة ص 18 ط الغريّ.

6- المتّقي الهندي في كنز العمّال ج 1 ص 154 ط حيدرآباد الدكن.

7- عضد الدين الياسجي في المواقف.

8- علاء الدين القوشجي في شرح التجريد.

9- أخطب خوارزم في المناقب ص 48.

(1) تعوّذ الخليفة من معضلة ليس لها أبو حسن ممّا رواه جماعة من أعلام القوم كصاحب «الاستيعاب» ج 3 ص 39 المطبوع بذيل الإصابة طبع مصر، و صاحب «مختلف الحديث» ص 202 ط القاهرة، و صاحب «صفة الصفوة» ج 1 ص 121 ط حيدرآباد، و صاحب «أسد الغابة» ج 4 ص 22 ط مصر.

(2) النهاية ج 3 ص 105. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 193

أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره و باطنه غير الأوصياء» «1».

و

فيه، عنه عليه السّلام قال: ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل

إلّا كذّاب، و ما جمعه و حفظه كما نزّله اللّه تعالى إلّا علي بن أبي طالب عليه السّلام .. إلخ «2».

و

في «البصائر» عن الصادق عليه السّلام: «قد ولّدني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا أعلم كتاب اللّه، و فيه بدء الخلق، و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض، و خبر الجنّة و خبر النار، و خبر ما كان و خبر ما هو كائن، أعلم ذلك كأنّما أنظر إلى كفّي إنّ اللّه يقول «3»: «فيه تبيان كلّ شي ء» «4».

و

في «تفسير العيّاشي» عن أبي الصباح قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اللّه علّم نبيّه عليه السّلام التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا صلوات اللّه عليهما. «5»

و قد مضى

في خبر طويل عن الباقر عليه السّلام: انّ الناس يكفيهم القرآن لو وجدوا له مفسّرا، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسّره لرجل واحد، و فسّر للامّة شأن ذلك، و هو علي بن أبي طالب عليه السّلام «6».

______________________________

(1) الكافي ج 1 ص 228 ط دار الكتب الاسلامية بطهران.

(2) الكافي ج 1 ص 228.

(3) مراده عليه السّلام مفاد قول اللّه سبحانه لا لفظه بعينه، و أمّا اللفظ بعينه ففي سورة النحل: 89 وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.

(4) بصائر الدرجات ص 197.

(5) تفسير العيّاشي ج 1 ص 17 و بحار الأنوار ج 92 ص 97 عن العيّاشي، و رواه في البحار ج 26 ص 173 رقم 43 عن بصائر الدرجات و في ذيله:

«قال: و علّمنا اللّه ثمّ قال: ما صنعتم من شي ء أو حلفتم عليه من يمين فأنتم

فيه من سعّة».

(6) الكافي ج 1 ص 250 ح 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 194

و

أنّه إنّما يعرف القرآن من خوطب به. «1»

و

أنّه يسئل عن القرآن علماء آل محمد عليهم السّلام. «2»

و

في «الأمالي» و «العيون» عن مولانا الرضا عليه السّلام في حديث: انّ المأمون سأل علماء العراق و خراسان عن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «3» فقالت العلماء: أراد اللّه بذلك الأمّة كلّها، فقال المأمون:

ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا عليه السّلام: ما أقول كما قالوا، و لكنّي أقول: أراد اللّه عزّ و جلّ بذلك العترة الطاهرة، فقال المأمون: و كيف عنى العترة من دون الامّة؟

فقال الرضا عليه السّلام: إنّه لو أراد الامّة لكانت بأجمعها في الجنة لقول اللّه عزّ و جلّ:

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «4» فصارت الوارثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم، قال المأمون: و من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا عليه السّلام: الذين وصفهم اللّه في كتابه فقال:

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «5» ... إلى أن قال: فصارت وراثة الكتاب للمهتدين دون الفاسقين. «6»

و قد مرّ

في خبر خطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: معاشر الناس تدبّروا القرآن، و افهموا آياته، و انظروا إلى محكماته، و لا تتّبعوا متشابهه، فو اللّه لن يبيّن لكم

______________________________

(1) الكافي ج 8 ص 311 ح 485.

(2) الكافي ج 1 ص 210- 212 ح 1- 9 ..

(3) فاطر: 32.

(4) فاطر: 32.

(5) الأحزاب: 33.

(6) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 180 باب

23 ح 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 195

زواجره، و لا يوضح لكم تفسيره إلّا الّذي أنا آخذ بيده و مصعده إليّ، وسائل بعضده و معلمكم أنّ من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، و هو علي بن أبي طالب أخي و وصيّي، و موالاته من اللّه عزّ و جلّ، أنزلها عليّ، معاشر الناس إنّ عليّا و الطيّبين، من ولدي هم الثقل الأصغر، و القرآن هو الثقل الأكبر، و كلّ واحد منبئ عن صاحبه و موافق له، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ألا إنّهم أمناء اللّه في خلقه، و حكماؤه في أرضه، ألا و قد أدّيت، ألا و قد بلّغت، ألا و قد أسمعت، ألا و قد أوضحته، ألا و إنّ اللّه عزّ و جلّ قال، و أنا قلت عن اللّه عزّ و جلّ، ألا إنّه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، و لا تحلّ إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره.

ثمّ ضرب بيده على عضده فرفعه- و كان منذ أول ما صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله درجة دون مقامه فبسط يده نحو وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- و شال عليّا حتى صارت رجله مع ركبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قال: معاشر الناس هذا عليّ أخي، و وصيّي، و واعي علمي، و خليفتي على أمّتي و على تفسير كتاب اللّه عزّ و جلّ و الداعي إليه ... «1»

و

عن الصادقين عليهما السّلام في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ... إلخ «2» قالا: هي لنا خاصّة، و إيّانا عنى. «3»

و

في «تفسير القمّي»: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «4» يعني آل محمد صلوات

اللّه عليهم. «5»

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 37 ص 209 ح 86 عن الإحتجاج.

(2) فاطر: 32.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 130 باب إمامة السجّاد عليه السّلام.

(4) العنكبوت: 43.

(5) تفسير القمّي ج 2 ص 150.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 196

و

في «شرح الآيات الباهرة» باسناده عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال:

نحن هم «1».

و

في «الكافي» باسناده عن أحمد بن حمّاد، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي الحسن الأوّل، قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ورث النبيّين كلّهم؟ قال: نعم، قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟

قال: ما بعث اللّه نبيّا إلّا و محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم منه، قال: قلت: إنّ عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن اللّه، قال: صدقت، و سليمان بن داود كان يفهم منطق الطير، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقدر على هذه المنازل، قال: فقال: إنّ سليمان ابن داود قال للهدهد حين فقده و شكّ في أمر فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ حين فقده فغضب عليه فقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «2»، و إنّما غضب عليه، لأنّه كان يدلّه على الماء، فهذا- و هو طائر- قد أعطي ما لم يعط سليمان، و قد كانت الريح و النمل و الإنس و الجن و الشياطين المردة له طائعين، و لم يكن يعرف الماء تحت الهواء و كان الطير يعرفه، و إنّ اللّه يقول في كتابه: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ

قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى «3»، و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسيّر به الجبال و تقطّع به البلدان و تحيى به الموتى، و نحن نعرف الماء تحت الهواء، و إنّ في كتاب اللّه لآيات ما يراد بها أمر إلّا أن يأذن اللّه به مع ما قد يأذن اللّه

______________________________

(1) تأويل الآيات الطاهرة ص 424.

(2) النمل: 21.

(3) الرعد: 30. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 197

ممّا كتبه الماضون جعله اللّه لنا في أمّ الكتاب، إنّ اللّه يقول: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1»، ثم قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «2» فنحن الذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ و أورثنا هذا الذي فيه تبيان كلّ شي ء. «3»

و عن الحمويني «4» من أعيان العامّة باسناده عن ابن مسعود قال: القرآن انزل على سبعة أحرف ما منها إلّا و له ظهر و بطن، و إنّ علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر و الباطن. «5» و

عن ابن شاذان «6» من طريق المخالفين عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعبد الرحمن بن عوف: أنتم أصحابي، و علي بن أبي طالب منّي و أنا من علي فما قاسه بغيره فقد جفاني، و من جفاني فقد آذاني، و من آذاني فعليه لعنة اللّه ربّي، يا عبد الرحمن إنّ اللّه تعالى أنزل عليّ كتابا مبينا، و أمرني أن أبيّن ما نزّل إليهم ما خلى عليّ بن أبي طالب، فإنّه لم يحتج إلى بيان، لأنّ اللّه تعالى جعل فصاحته كفصاحتي، و درايته كدرايتي، و لو كان الحلم رجلا لكان عليّا، و لو

كان

______________________________

(1) النمل: 77.

(2) فاطر: 32.

(3) الكافي ج 1 ص 236 ح 7، و رواه في البحار ج 26 ص 161 ح 7 عن «البصائر» عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبيه، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام.

(4) هو: إبراهيم بن محمد بن المؤيّد بن حمّويه الجويني المتوفّى (722)- الاعلام ج 1/ 61.

(5) رواه أيضا أبو نعيم الاصبهاني في حليّة الأولياء ج 1 ص 67، و ابن شهر آشوب في المناقب ج 2 ص 43.

(6) هو: أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمّي من مشايخ الاماميّة و كان حيّا سنة (412) ه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 198

العقل رجلا لكان الحسن، و لو كان السخاء رجلا لكان الحسين، و لو كان الحسن شخصا لكان فاطمة، بل هي أعظم، إنّ فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصرا و شرفا و كرما. «1»

و

عنه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: العلم خمسة أجزاء، اعطي علي بن أبي طالب عليه السّلام من ذلك أربعة أجزاء، و اعطي سائر الناس واحدا، و الذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا عليّ بجزء الناس أعلم من الناس بجزئهم. «2»

و قال ابن أبي الحديد «3» في «شرح نهج البلاغة»: و من العلوم علم تفسير القرآن، و عنه أخذ، و منه فرّع، و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك، لأنّ أكثره عنه، و عن عبد اللّه بن عبّاس، و قد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له، و انقطاعه إليه، و أنّه تلميذه و خرّيجه، و قيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر

المحيط. «4»

______________________________

(1) مائة منقبة لابن شاذان ص 122 المنقبة (67) و أخرجه الخوارزمي في مقتل الحسين عليه السّلام ص 60 باسناده إلى ابن شاذان، و القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة ص 263 و الجويني في فرائد السمطين ج 3 ص 68.

(2) مناقب ابن شاذان ص 133 المنقبة (78)، و أخرجه الخوارزمي في مقتل الحسين عليه السّلام ج 1/ 44 و ابن عساكر في تاريخ دمشق ج 3 ص 45 و المتّقي الهندي في كنز العمّل ج 11 ص 615.

(3) هو: عزّ الدين أبو حامد بن هبة اللّه بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني المولود سنة (586) هو المتوفّى سنة (656) كما في «سير النبلاء» و قد تصدّى لشرح «نهج البلاغة» غير واحد من العلماء، و استخرجوا من ذلك اليمّ الزاخر لئالئ ثمينة، و ألّفوا نظما و نثرا باللغات المختلفة حول هذا الكتاب القيّم ما تنوف على مائة بل أكثر، منها: «شرح ابن أبي الحديد» شرع في تأليفه في غرّة رجب سنة (644) و أتمّة في سلخ صفر سنة (649) فقضى أربع سنين و ثمانية أشهر، و كانت كما يقول:

«مقدار خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام ج».

(4) شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 199

و حكى السيّد بن طاووس في «سعد السعود» عن أبي حامد الغزالي «1» في كتاب «بيان العلم اللدنّي في وصف مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: قال علي عليه السّلام لمّا حكى عهد موسى: «أنّ شرح كتابه كان أربعين جملا»، لو أذن اللّه و رسوله لأشرع في شرح معاني «ألف» الفاتحة حتى يبلغ مثل ذلك، يعني أربعين وقرا أو جملا».

و هذه الكثرة

في السعة و الافتتاح في العلم لا يكون إلّا لدنيّا سماويا إلهيّا.

ثمّ

حكى السيّد عن أبي عمر «2» الزاهد محمد بن عبد الواحد باسناده أنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: يا بن عبّاس إذا صلّيت العشاء الآخرة فالحقني إلى الجبّانة، قال: فصلّيت و لحقته و كانت ليلة مقمرة، قال: فقال لي: ما تفسير الألف من الحمد؟ فما علمت حرفا أجيبه، قال: فقلت: لا أعلم، فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة، قال: ثمّ قال: فما تفسير الميم من الحمد؟ فقلت: لا أعلم، قال:

فتلكّم في تفسيرها ساعة تامّة، قال: ثمّ قال: ما تفسير الدال من الحمد؟ قال:

قلت: لا أدري، قال: فتكلّم فيها إلى أن بزق عمود الفجر، قال: فقال لي: قم يا أبا عبّاس إلى منزلك و تأهّب لغرضك.

قال أبو العبّاس عبد اللّه بن العبّاس: فقمت و قد وعيت كلّ ما قال، ثمّ تفكّرت فإذا علمي بالقرآن في علم عليّ عليه السّلام كالقرارة في المتفجّر. و في نسخة: كالقرارة في المثعنجر. «3»

______________________________

(1) أبو حامد الغزالي محمد بن محمد الشافعي توفّي سنة (505) ه.

(2) أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد اللغوي الباوردي كان معروفا بغلام ثعلب توفّي سنة (345) ببغداد- تاريخ بغداد ج 2 ص 356.

(3) بحار الأنوار ج 92 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 200

تفسير الصراط المستقيم ج 2 249

أقول: و يأتي مثل هذا الخبر في تفسير الحمد «1».

و عنه، عن ابن عبّاس من طريق العامّة: «ما علمي و علم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله في علم عليّ عليه السّلام إلّا كقطرة في سبعة أبحر. «2» و

عن طريق النقّاش «3»، و ابن المغازلي «4» الفقيه الشافعي، و الموفّق بن أحمد «5»،

و الترمذي، و غيرهم، عن ابن عبّاس، و عبد اللّه بن مسعود، و غيرهما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: قسمت الحكمة على عشرة أجزاء، فأعطي عليّ عليه السّلام تسعة أجزاء، و الناس جزاء واحدا. «6» و زاد في بعضها: أنّه شاركهم فيه حتى هو أعلم به منهم.

و روى الترمذي «7» عن ابن عبّاس قال: كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يشرح لنا نقطة الباء من بسم اللّه الرحمن الرحيم ليلة فانفلق عمود الصبح و هو بعد لم يفرغ، فرأيت نفسي في جنبه كالقرارة في جنب البحر المثعنجر. «8»

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 105.

(2) بحار الأنوار ج 92 ص 105.

(3) النقّاش: محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون أبو بكر المفسّر الموصلي البغدادي ولد سنة (266) و توفّي سنة (381) ه- الأعلام ج 6/ 310.

(4) هو أبو الحسن عليّ بن محمد الحافظ الشهير بابن المغازلي الواسطي الشافعي المتوفّى سنة (483) ه.

الكنى و الألقاب ج 1 ص 417.

(5) هو: الموفّق بن أحمد المكي الخوارزمي الحنفي، ولد سنة (384) و توفّي سنة (568) ه. الأعلام ج 8/ 289.

(6) المناقب لابن المغازلي ص 287- حلية الأولياء ج 1 ص 64- مناقب الخوارزمي ص 49.

(7) هو: أبو عبد اللّه محمد بن علي بن حسن بن بشير المؤذّن الحكيم الترمذي المقتول سنة (255)- كشف الظنون ج 2 ص 1979.

(8) ينابيع المودّة ط اسلامبول ص 70- أرجح المطالب ط لاهور ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 201

و

روى الترمذي أيضا أنّه قال رسول اللّه: ما رآني في الدنيا على الحقيقة التي خلقني اللّه عليها غير علي بن أبي طالب عليه السّلام. «1»

بل

قد ورد في

أخبار كثيرة أنّ كلّ علم حقّ عند كلّ أحد فهو منهم عليهم السّلام.

ففي «مجالس المفيد» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أما إنّه ليس عند أحد من الناس حقّ و لا صواب إلّا شي ء أخذوه منّا أهل البيت. و لا أحد من الناس يقضي بحقّ و لا عدل إلّا و مفتاح ذلك القضاء و بابه و أوّله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطئوا، و الصواب من قبل علي بن أبي طالب عليه السّلام إذا أصابوا. «2»

و

في «البصائر» و «رجال الكشي» عن أبي مريم «3» قال: قال أبو جعفر عليه السّلام لسلمة بن كهيل «4»، و الحكم بن عتيبة «5»: شرّقا و غرّبا لن تجدا علما صحيحا إلّا شيئا خرج من عندنا أهل البيت. «6».

و

فيهما عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شهادة ولد الزنا تجوز؟

______________________________

(1) لم أجد له مصدرا.

(2) أمالي المفيد ص 56 و 57.

(3) هو: عبد الغفّار بن القاسم بن قيس بن فهد أبو مريم الأنصاري، روى عن الصادقين عليهما السّلام، وثّقه النجاشي و قال: له كتاب- معجم رجال الحديث ج 1 ص 55.

(4) هو: سلمة بن كهيل بن الحصين أبو يحيى الحضرمي الكوفي التابعي، كان من البترية، و هم الذين دعوا إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ خلطوها بولاية الشيخين، و بغض عثمان و طلحة و الزبير و عائشة- معجم رجال الحديث ج 7 ص 208.

(5) الحكم بن عتيبة أبو محمد الكوفي الكندي البتري توفّي سنة (114) أو (115) وردت في ذمّه روايات كثيرة- معجم رجال الحديث ج 6 ص 174.

(6) بصائر الدرجات ص 10، الكافي ج

1 ص 399. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 202

قال عليه السّلام: لا، فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز، فقال عليه السّلام: اللهمّ لا تغفر ذنبه، ما قال اللّه للحكم: إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «1» فليذهب الحكم يمينا و شمالا، فو اللّه لا يؤخذ العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السّلام. «2»

و

في «البصائر» عنه عليه السّلام: كلّما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل. «3»

و

فيه عن زرارة قال: كنت عند أبي عبد اللّه جعفر عليه السّلام فقال لي رجل من أهل الكوفة: سله عن قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «سلوني عمّا شئتم و لا تسألوني عن شي ء إلّا أنبأتكم به»، قال: فسألته، فقال عليه السّلام: إنّه ليس أحد عنده شي ء إلّا خرج من عند أمير المؤمنين عليه السّلام فليذهب الناس حيث شاؤا فو اللّه ليأتينّ الأمر هاهنا، و أشار بيده إلى صدره. «4»

قال المجلسي رحمه اللّه: ليأتينّ (بفتح الياء و رفع الأمر) أي يأتي العلم و ما يتعلّق بأمر الخلق و يهبط إلى صدورنا، و يحتمل نصب الأمر فيكون ضمير الفاعل راجعا إلى كلّ أحد من الناس، أو كلّ من أراد اتضاح الأمر له.

أقول: و لعلّ الأقرب الأوّل، و ذلك أنّك قد سمعت في غير موضع من هذا التفسير أنّ اللّه تعالى جعلهم أبوابه، و سبله و صراطه في الأمور التكوينيّة و التشريعيّة، فلا يصل إلى أحد من الخلق شي ء من الفيوض الإلهيّة، و المواهب

______________________________

(1) الزخرف: 44.

(2) بصائر الدرجات ص 9، رجال الكشي ص 137، الكافي ج 1 ص 400 و ج 7 ص 365.

(3) بصائر الدرجات ص 38 ح 5، الوسائل ج 18 ص 50 ح 34 عن

البصائر.

(4) بصائر الدرجات ص 12 ح 1، الوسائل ج 18 ص 46 ح 21، و لكن فيه مكان (ليأتين الأمر هاهنا و أشار بيده إلى صدره): ليس الأمر إلّا من هاهنا و أشار بيده إلى بيته، بحار الأنوار ج 40/ 136 و فيه:

ليأتينهم الأمر هاهنا و أشار إلى المدينة».

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 203

الرحمانيّة إلّا بوساطتهم و شفاعتهم، فبهم بدأ اللّه، و بهم يختم، و من جملة فيوضه سبحانه، بل من أعظمها العلوم و المعارف الحقيقيّة التي خصّهم اللّه سبحانه بمعرفتها، فهم عيبة علمه، و خزنة وحيه.

ففي «البصائر»: عن الصادق عليه السّلام يقول: «نحن ولاة أمر اللّه، و خزنة علم اللّه، و عيبة وحي اللّه». «1»

و

فيه، عنه عليه السّلام: يا بن أبي يعفور «2» إنّ اللّه واحد متوحّد بالوحدانيّة، متفرّد بأمره، فخلق خلقا فقدّرهم لذلك «3» الأمر، فنحن هم، يا ابن أبي يعفور فنحن حجج اللّه في عباده، و خزّانه على علمه، و القائمون بذلك. «4»

و

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و اللّه إنّا لخزّان اللّه في سمائه و أرضه، لا على ذهب و لا على فضّة إلّا على علمه. «5»

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 30، بحار الأنوار ج 26 ص 106 ح 9 عن البصائر.

(2) هو: عبد اللّه بن أبي يعفور واقد أبو محمد العبدي من خواصّ أصحاب الصادق عليه السّلام توفّي في حياة الإمام عليه السّلام سنة الطاعون. معجم رجال الحديث ج 10 ص 96.

(3) في البحار: فقدّرهم بذلك الأمر. و قال المجلسي قدس سرّه في بيانه: بذلك الأمر أي الإمامة، أو بذلك العلم، فالباء للسببيّة.

(4) بصائر الدرجات ص 29، الكافي ج 1 ص 193 ح 5، بحار الأنوار ج 26 ص 106 ح

8.

(5) بصائر الدرجات ص 29، الكافي ج 1 ص 192 ح 2، بحار الأنوار ج 26 ص 105 ح 1 عن البصائر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 205

الباب التاسع

في أنّ جلّ القرآن نزل في أهل البيت و شيعتهم و في أعدائهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 207

روى الشيخ الجليل ثقة الإسلام الكليني «1»، و محمّد بن مسعود العياشي «2»، و فرات «3» بن إبراهيم، بأسانيدهم عن أصبغ «4» بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: نزل القرآن أرباعا: ربع فينا، و ربع في عدوّنا، و ربع سنن و أمثال، و ربع فرائض و أحكام، و لنا كرائم القرآن «5».

قال في «تأويل الآيات»: و روت الخاصّة و العامّة عن ابن عبّاس أيضا مثله «6» و فيه عن ابن نباتة عنه عليه السّلام قال: القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، و ربع في أعدائنا، و ربع فرائض و أحكام، و ربع حلال و حرام، و لنا كرائم

______________________________

(1) هو محمد بن يعقوب بن إسحاق ابو جعفر الكليني مصنّف «الكافي» في عشرين سنة، توفّى سنة (328) أو (329) و قبره في بغداد مزار معروف. طبقات الشيعة ج 1/ 314.

(2) هو: محمّد بن مسعود بن محمد بن عيّاش أبو النضر السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشى، كان عاميا ثم تبصّر، و كان حديث السنّ، و بعد سمع الاصحاب بالعراق و روى عن علي بن الحسن بن عليّ بن فضّال الّذي يروى عن أخيه أحمد الذي توفى سنة (260)- طبقات الشيعة ج 1 ص 305.

(3) فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، روى عن عبيد بن كثير المتوفى (294) و روى عنه الصدوق المتوفى (381) بواسطة واحدة كثيرا في الأمالى- طبقات الشيعة ج 1

ص 216.

(4) الأصبغ بن نباتة المجاشعي من خاصّة أمير المؤمنين عليه السّلام، و عمّر بعده، و روى عنه عهد الأشتر الذي عهده اليه أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا ولّاه مصر- معجم رجال الحديث 3 ص 219.

(5) الكافي ج 2 ص 628- تفسير الفرات ص 2- شواهد التنزيل ج 1 ص 43 ح 58- بحار الأنوار ج 24 ص 305 ح 1 عن الكنز و الفرات.

(6) بحار الأنوار ج 24 ص 305 عن الكنز ح 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 208

القرآن «1».

قلت: و الكرائم نفائس الشي ء و خياره جمع الكريمة، و التاء للمبالغة كما في «النهاية الاثيريّة» قال: و منه حديث الزكاة: «و أنق كرائم أموالهم» أى نفائسها الّتي يتعلّق بها نفس مالكها و يختصّها لها حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقّها.

و المراد أنّ كلّ ما في القرآن من خير، و برّ، و شرف فهو لهم، و فيهم، و في شيعهم، كما

في الزيارة الجامعة الكبيرة: «إن ذكر الخير كنتم أوّله، و أصله، و معدنه، و مأواه، و منتهاه».

عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: ما من آية في القرآن أوّلها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا و عليّ بن أبى طالب عليه السّلام أميرها و قائدها، و شريفها و أوّلها، و ما من آية تسوق إلى الجنّة إلّا و هي في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الأئمة عليهم السّلام، و أشياعهم، و أتباعهم، و ما من آية تسوق الى النار إلّا و هي في أعدائهم و المخالفين لهم، و إن كانت الآيات في ذكر الأوّلين فما كان منها في خير فهو جار في أهل الخير، و ما كان منها من شرّ فهو

جار في أهل الشرّ «2».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام قال: يا خيثمة «3» إنّ القرآن نزلت أثلاثا: فثلث فينا، و ثلث في عدوّنا، و ثلث فرائض و أحكام «4».

______________________________

(1) البحار ج 24 ص 305 ح 2 عن تفسير الفرات.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 316 ح 20 عن عقائد الصدوق ص 104.

(3) الظاهر أنّه خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي الكوفي أبو عبد اللّه و كان من أصحاب الباقر عليه السّلام- انظر معجم رجال الحديث ج 7 ص 82.

(4) بحار الأنوار ج 24 باب جوامع تأويل ما نزل فيهم 4 ح 46 عن الفرات.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 209

و

روى ابن المغازلي عن ابن عبّاس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: القرآن أربعة أرباع: فربع فينا أهل البيت خاصّة، و ربع حلال، و ربع حرام، و ربع فرائض و أحكام، و اللّه أنزل فينا كرائم القرآن «1».

و روى العيّاشى مثله بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام «2».

و

روى عن أصبغ بن نباتة عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا و في عدوّنا، و ثلث سنن و أمثال، و ثلث فرائض و أحكام «3».

و

في «تفسير العياشي» عن خيثمة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «القرآن نزل أثلاثا: ثلث فينا و في أحبّائنا، و ثلث في أعدائنا و عدوّ من كان قبلنا، و ثلث سنّة و مثل، و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ء، و لكنّ القرآن يجرى أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض، و لكلّ قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شرّ» «4».

و في «كشف

الغمّة» عن ابن مردويه «5»، عن ابن عبّاس قال: «ما في القرآن آية إلّا و عليّ رأسها و قائدها» «6».

قال: و روي عن عليّ عليه السّلام قال: «نزل القرآن أرباعا: فربع فينا، و ربع في

______________________________

(1) المناقب لابن المغازلي ص 328.

(2) بحار الأنوار ج 92 باب أنواع آيات القرآن ص 114 ح 1 عن تفسير العياشي ج 1 ص 9 مع تفاوت يسير.

(3) تفسير العياشي ج 1 ص 9.

(4) تفسير العياشي ج 1 ص 10.

(5) هو أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني المتوفّى (352)، الكنى و الألقاب ج 1 ص 406.

(6) كشف الغمّة ص 91- بحار الأنوار ج 36 ص 116 من كشف الغمّة. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 210

عدوّنا، و ربع سير و أمثال .. و ربع فرائض و أحكام» «1».

و فيه عن ابن عبّاس: «ما نزلت «يا أيّها الذين آمنوا» إلّا و عليّ أميرها و شريفها» «2».

و عنه في خبر آخر: «إلّا كان عليّ رأسها و أميرها» «3».

و عن حذيفة «4»: «إلّا كان عليّ لبّها و لبابها» «5».

و

في «غيبة النعماني» «6»: عن العبد الصّالح عليه السّلام في قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ «7» أنّه قال: «إنّ القرآن له ظاهر و باطن، فجميع ما حرّم اللّه في القرآن فهو حرام على ظاهره كما هو في الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب فهو حلال، و هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الهدى» «8».

و

في «تفسير فرات» عن ابن عبّاس قال: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيدي و يد أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السّلام،

فعلا بنا على ثبير، ثمّ صلّى ركعات، ثمّ رفع

______________________________

(1) المصدر نفسه ص 91.

(2) كشف الغمّة ص 91 البحار ج 36 ص 117 عن كشف الغمّة.

(3) المصدر نفسه ص 91 البحار ج 36 ص 117 عن كشف الغمّة.

(4) هو حذيفة بن اليمان أبو عبد اللّه العبسي كان صاحب سرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله في المنافقين، توفّى بالمدائن سنة (36) ه- الاعلام للزركلى ج 2 ص 180.

(5) كشف الغمّة ص 92- البحار ج 36 ص 117 عن الكشف.

(6) النعماني: محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب كان تلميذا للكليني المتوفّى (329) و كان حيّا في سنة (342) ه و توفى بالشام- الذريعة ج 16 ص 79.

(7) الأعراف: 33.

(8) غيبة النعماني ص 64 و فيه: «ائمّة الهدى الحقّ». تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 211

يده الى السّماء فقال: أللّهمّ إنّ موسى بن عمران عليه الصلاة و السّلام سألك، و أنا محمّد نبيّك أسألك أن تشرح لي صدري و تيسّر لي أمرى، و تحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلى عليّ بن أبي طالب أخى أشدد به أزرى، و أشركه في أمرى، قال: فقال ابن عبّاس: سمعت مناديا ينادى: يا أحمد قد أوتيت ما سألت، قال: فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: يا أبا الحسن ارفع يدك إلى السّماء فادع ربّك و سله يعطك، فرفع يده إلى السماء و هو يقول: اللهمّ اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي عندك ودّا، فأنزل اللّه على نبيّه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «1». فتلاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أصحابه، فتعجّبوا من ذلك

عجبا شديدا، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: بما تعجبون؟ إنّ القرآن أربعة أرباع: ربع فينا أهل البيت خاصّة، و ربع في أعدائنا، و ربع حلال و حرام، و ربع فرائض و أحكام، و إنّ اللّه أنزل في علي بن أبي طالب عليه السّلام كرائم القرآن» «2».

و

في «البصائر» عن أبي الحجاز «3» قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ختم مائة ألف نبىّ و أربعة و عشرين ألف نبيّ، و ختمت أنا مائة ألف وصيّ و أربعة و عشرين ألف وصيّ، و كلّفت ما تكلّف الأوصياء قبلي، و اللّه المستعان، و إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال في مرضه: لست أخاف عليك أن تضلّ بعد الهدى، و لكن أخاف عليك فسّاق قريش و عاديتهم، حسبنا اللّه و نعم الوكيل على أنّ ثلثي القرآن فينا و في شيعتنا، فما كان من خير فلنا و لشيعتنا، و الثلث أشركنا

______________________________

(1) مريم: 96.

(2) تفسير فرات ص 89- بحار الأنوار ج 35 عن الروضة ص 16 و تفسير فرات.

(3) لم أظفر على ترجمته. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 212

فيه النّاس، فما كان من شرّ فلعدوّنا» «1».

و

في «الخصال» عن ابن أبي ليلى «2» قال: «نزلت في عليّ ثمانون آية صفوا في كتاب اللّه ما شركه فيها أحد من هذه الأمّة «3».

و فيه بالإسناد عن مجاهد مثله، إلّا أنّ فيه: «سبعون» «4».

قلت: و لعلّ المراد الآيات المختصّة به دون غيره كما يومى إليه قوله:

«صفوا» أو أنّه ذكر هذا العدد بناء على ما اطلع عليه.

و

عن ابن شهر آشوب قال: روى جماعة من الثقات عن الأعمش، عن عباية الأسدي عن عليّ عليه السّلام،

و الليث «5»، عن مجاهد، و السدي عن أبي مالك «6»، و ابن أبي ليلى، عن داود «7» بن على، عن أبيه، و ابن جريح، عن عطاء، و عكرمة، و سعيد بن جبير، كلّهم عن ابن عبّاس، و روى العوّام «8» ابن حوشب عن مجاهد،

______________________________

(1) بصائر الدرجات ص 120.

(2) هو عبد الرحمن بن أبى ليلى الأنصارى من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام- شهد معه، عربيّ كوفّي، ضربه الحجّاج حتّى اسودّ كتفاه على سبّ عليّ عليه السّلام- جامع الرواة ص 443 رقم 3652.

(3) الخصال ج 2 ص 592 أبواب الثمانين ح 1.

(4) الخصال ج 2 ص 581 أبواب السبعين ح 2.

(5) هو الليثي بن أبى سليم الكوفي القرشي كان من العلماء و يقال: كان من أوعية العلم، توفي سنة (143) ه- الميزان للذهبى ج 3 ص 420.

(6) ابو مالك روى روايات كثيرة عن ابن عباس و روى عنه السدّى إسماعيل بن عبد الرحمن المتوفى (128 ه) ذكره ابن أبى حاتم في «الجرح و التعديل» ج 9 ص 435 رقم 2173 و قال: سئل أبو زرعة عنه فقال: كوفى ثقة لا أعرف اسمه.

(7) هو داود بن على بن عبد اللّه بن عباس، عمّ المنصور الدوانيقي، قد ولى الكوفة في دولة السفّاح، ثم المدينة، مات سنة (133 ه)- ميزان الاعتدال ج 2 ص 13.

(8) العوّام بن حوشب بن يزيد الشيباني أبو عيسى الواسطي توفى سنة (148 ه)- سير أعلام النبلاء ج 4 تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 213

و روى الأعمش عن زيد بن وهب «1». عن حذيفة كلّهم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما انزل اللّه تعالى في القرآن آية فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا إلّا و عليّ أميرها و شريفها» «2».

و

في رواية حذيفة: «إلّا كان لعلي بن أبى طالب عليه السّلام لبّها «3» و لبابها» «4».

و

في رواية: «إلّا عليّ رأسها و أميرها» «5».

و

في رواية يوسف «6» بن موسى القطّان، و وكيع «7» بن الجرّاح: «أميرها و شريفها لأنّه أوّل المؤمنين ايمانا «8».

و

في رواية إبراهيم «9» الثقفي، و أحمد بن حنبل، و ابن بطّة «10» العكبري،

______________________________

ص 354.

(1) هو زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي المتوفى سنة (96)- سير أعلام النبلاء ج 4 ص 199.

(2) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 546- بحار الأنوار ج 37 ص 333.

(3) اللبّ و اللباب (بضم اللام) في اللغة بمعنى واحد و هو المختار الخالص من كل شي ء و لعلّ معنى الحديث أنّ المصداق الأتمّ الخالص المختار من المؤمنين هو أمير المؤمنين عليه السّلام.

(4) المناقب ج 1 ص 546- شواهد الحسكاني ج 1 ص 48.

(5) المصدر نفسه.

(6) يوسف بن موسى بن راشد القطّان أبو يعقوب الكوفي نزيل بغداد، توفّى سنة (253) من سنّ عالية- سير أعلام النبلاء ج 12 ص 222.

(7) وكيع بن الجرّاح بن مليح الرؤاسى الحافظ ولد بالكوفة سنة (129) و توفّي بفيد راجعا من الحجّ سنة (197)- الاعلام ج 9 ص 135.

(8) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 546- بحار الأنوار ج 37 ص 333.

(9) هو إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفي سنة (283 ه)- الاعلام ج 1 ص 56.

(10) هو عبيد اللّه بن محمّد بن محمد بن حمدان بن بطّة العكبري الحنبلي المتوفى (387)- الاعلام ج 1 ص 354. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 214

عن عكرمة، عن ابن عبّاس: «إلّا عليّ رأسها و شريفها و

أميرها» «1».

و

في «صحيفة الرضا عليه السّلام» «2»: «ليس في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا في حقّنا، و لا في التوراة يا أَيُّهَا النَّاسُ إلّا فينا» «3».

و

في تفسير مجاهد قال: ما كان في القرآن «يا أيّها الذين آمنوا» فإنّ لعليّ عليه السّلام سابقة هذه الآية، لأنّه سبقهم الى الإسلام، فسمّاه اللّه تعالى في تسع «4» و ثمانين موضعا أمير المؤمنين و سيّد المخاطبين الى يوم الدين «5».

و

روى المنقري «6» باسناده الى عمرو «7»، أخى بريدة الأسلمي، و روى يوسف ابن كليب المسعودي باسناده عن أبى داود، عن أخى بريدة، و روى عبّاد

______________________________

(1) المناقب ج 1 ص 546.

(2) صحيفة الرضا: و يعبّر عنها بمسند الرضا، و الرضويات، و صحيفة أهل البيت أيضا و قد أحصى بعض الأصحاب أحاديثها فوجدوها (240) حديثا و هي منسوبة الى الإمام الرضا عليه السّلام، مروية بأسانيد متعددة ينتهى جميعها الى ابى القاسم عبد اللّه بن احمد بن عامر بن سليمان بن صالح بن وهب، عن أبيه احمد بن عامر عن الرضا عليه السّلام في سنة (194)، انظر الذريعة ج 15 ص 17 رقم 92.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 546- بحار الأنوار ج 37 ص 333.

(4) هذه الموارد (11) موردا في سورة البقرة، و (7) موارد في آل عمران، و (9) موارد في سورة النساء، و (16) موردا في المائدة، و (6) موارد في الأنفال، و (6) موارد في التوبة، و (1) في الحجّ، و (3) موارد في سورة النور، و (7) موارد في الأحزاب، و (2) في سورة محمّد، و (5) موارد في الحجرات، و (1) في سورة الحديد، و (3) في المجادلة، و (1) في سورة الم،

و (3) موارد في المتمحثة، و (3) في الصفّ، و (1) في الجمعة، و (1) في سورة المنافقين، و (1) في التغابن، و (2) في سورة التحريم.

(5) المناقب ج 1 ص 546- البحار ج 37 ص 333.

(6) هو: سليمان بن داود بن بشر بن زياد أبو أيّوب المنقري البصري المعروف بالشاذكونى الحافظ المتوفى (234) ه- سير أعلام النبلاء ج 10 ص 677.

(7) هو عمرو بن حصيب أخو بريدة بن حصيب الأسلمي كما في أمالي الشيخ ص 181. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 215

ابن «1» يعقوب الأسدى، باسناده عن أبى داود «2» السبيعي، عن أخى بريدة، أنّه دخل أبو بكر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: اذهب و سلّم على أمير المؤمنين، فقال: يا رسول اللّه و أنت حىّ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: و أنا حىّ، ثم جاء عمر فقال له مثل ذلك.

و في رواية السبيعي: أنّه قال عمر: و من أمير المؤمنين؟ قال: علي بن ابى طالب قال: عن أمر اللّه و أمر رسوله؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم «3».

و

روى الشيخ أبو جعفر الطوسي قدّس سرّه باسناده الى الفضل «4» بن شاذان عن داود «5» بن كثير. قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: أنتم الصلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و أنتم الزكاة، و أنتم الحجّ؟

فقال عليه السّلام: يا داود نحن الصّلاة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و نحن الزّكاة، و نحن الصيام، و نحن الحجّ، و نحن الشّهر الحرام، و نحن البلد الحرام، و نحن كعبة اللّه، و نحن قبلة اللّه، و نحن وجه اللّه، قال اللّه تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «6»

و نحن الآيات، و نحن البيّنات.

______________________________

(1) هو أبو سعيد عبّاد بن يعقوب الأسدى الرواجني الكوفي المتوفى سنة (250) ه- التاريخ الكبير للبخاري ج 6 ص 44 رقم 1645.

(2) هو نفيع بن الحارث أبو داود النخعي الكوفي و يقال له السبيعي لأنّهم مواليه، و كان أعمى من قبيلة همدان تابعيّا- تهذيب التهذيب ج 1 ص 470.

(3) المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 549- أمالى الشيخ ص 181 و ص 182 و البحار ج 37 ص 291 عن الأمالى و ص 334 عن المناقب.

(4) الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمد الأزدى النيسابوري المتوفّى (260 ه) الاعلام ج 5 ص 355.

(5) داود بن كثير أبى خالد الرقّى أبو سليمان المتوفّى بعد وفاة الرّضا عليه السّلام بقليل حدود سنة (203 ه)- معجم رجال الحديث ج 7 ص 122.

(6) البقرة: 115. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 216

و عدوّنا في كتاب اللّه عزّ و جلّ: الفحشاء و المنكر و البغي، و الخمر، و الميسر و الانتصاب و الأزلام، و الأصنام و الأوثان، و الجبت و الطاغوت، و الميتة و الدم و لحم الخنزير.

يا داود إنّ اللّه خلقنا فأكرم خلقنا، و فضّلنا، و جعلنا أمناءه، و حفظته، و خزّانه على ما في السماوات و ما في الأرض، و جعل لنا أضدادا و أعداء، فسمّانا في كتابه، و كنى عن أسمائنا بأحسن الأسماء و أحبّها إليه، و سمّى أضدادنا و أعدائنا في كتابه، و كنّى عن أسمائهم و ضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه و إلى عبادة المتّقين «1».

و

عن الفضل بن شاذان بالإسناد عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: نحن أصل كلّ خير، و من فروعنا كلّ برّ،

و من البرّ التوحيد، و الصلاة، و الصيام، و كظم الغيظ عن المسي ء، و رحمة الفقير، و تعاهد الجار، و الإقرار بالفضل لأهله.

و عدوّنا أصل كلّ شرّ، و من فروعهم كلّ قبيح و فاحشة، فمنهم الكذب و النميمة، و البخل، و القطيعة، و أكل الرّبا، و أكل مال اليتيم بغير حقّه، و تعدّى الحدود الّتى أمر اللّه عزّ و جلّ، و ركوب الفواحش ما ظهر منها و ما بطن من الزّنا و السّرقة، و كلّ ما وافق ذلك من القبيح، و كذب من قال: إنّه معنا و هو متعلّق بفرع غيرنا «2».

و

في «رجال الكشي» بالإسناد عن بشير «3» الدهّان، قال: كتب أبو

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 303 ح 14 عن كنز الفوائد ص 2- 3.

(2) البحار ج 24 ص 303 ح 15 عن الكنز.

(3) بشير الدهّان الكوفي من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السّلام، و قيل: (يسير) بالياء التحتانية و السين المهملة، وقع في اسناد جملة من الروايات تبلغ ثمانية عشر موردا. معجم رجال الحديث ج 3 تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 217

عبد اللّه عليه السّلام إلى أبي «1» الخطّاب بلغني أنّك تزعم أنّ الزّنا رجل، و أنّ الخمر رجل، و أنّ الصّلاة رجل، و الصيام رجل، و أنّ الفواحش رجل، و ليس هو كما تقول، إنّا أصل الحقّ، و فروع الحقّ طاعة اللّه، و عدوّنا أصل الشّرّ، و فروعهم الفواحش، و كيف يطاع من لا يعرف، و كيف يعرف من لا يطاع «2».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة الّتى سيمرّ عليك كثير منها في تضاعيف هذا التفسير إن شاء اللّه تعالى.

و جملة الكلام أنّه يستفاد من ملاحظة الأخبار أمور:

أحدها: أنّ كلّ آية في

القرآن فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فالخطاب فيها متوجّه إلى أهل البيت عليهم السّلام بالأوليّة و الأولويّة و الأصالة، و هم أميرها و شريفها و رأسها و لبّها و لبابها، و ذلك بسبب سبقتهم إلى الإيمان باللّه سبحانه في عالم الأنوار و في الظلّة الخضراء.

كما

عن الثّمالى عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: إنّ اللّه سبحانه تفردّ في وحدانيّته، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نورا، ثمّ خلق من ذلك النور محمّدا و عليّا و عترته عليهم السّلام، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت روحا و أسكنها في ذلك النور و أسكنه في أبداننا، فنحن روح اللّه و كلمته، احتجب بنا عن خلقه، فما زلنا في ظلّ خضراء مسبّحين نسبّحه و نقدّسه حيث لا شمس و لا قمر، و لا عين تطرف، ثمّ خلق

______________________________

ص 331 رقم 1806.

(1) ابو الخطّاب محمّد بن أبى زينب الأسدى الكوفي البزّاز البرّاد، كان مستقيما ثم انحرف و صار من الغلاة فترك أصحابنا ما رواه بعد انحرافه- معجم رجال الحديث ج 14 ص 243.

(2) بحار الأنوار ج 24 ص 299 عن رجال الكشي ص 188. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 218

شيعتنا، و إنّما سمّوا شيعة لأنّهم خلقوا من شعاع نورنا «1».

و

عنه، قال: دخلت حبابة «2» الوالبيّة على أبي جعفر عليه السّلام فقالت: أخبرني يا بن رسول اللّه أيّ شي ء كنتم في الأظلّة؟ فقال عليه السّلام: كنّا بين يدي اللّه قبل خلق خلقه، فلمّا خلق الخلق سبحنا فسبّحوا، و هلّلنا فهلّلوا، و كبّرنا فكبّروا، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «3» الطريقة حبّ عليّ صلوات اللّه عليه، و الماء الغدق الماء الفرات، و هو ولاية آل

محمّد عليهم السّلام. «4».

و

في خبر المفضّل: كنّا أنوارا حول العرش نسبّح اللّه و نقدّسه حتّى خلق اللّه سبحانه الملائكة فقال لهم: سبّحوا، فقالوا: يا ربّنا لا علم لنا، فقال لنا: سبّحوا فسبّحنا، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا، ألا إنّا خلقنا من نور اللّه، و خلق شيعتنا من دون ذلك النور ... الخبر «5».

و أيضا لسبقهم إلى الإيمان به سبحانه في عالم الميثاق و الذرّ الأوّل، كما

ورد أنّ أوّل من بادر إلى الإجابة هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ الأئمّة من ذرّيته صلوات اللّه عليهم أجمعين،

و لسبقتهم إلى الإيمان به في هذا العالم الناسوتي في الدّولة الكاملة الختمية المصطفوية كماليا شرفيّا، إذ لا يدانى

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 25 ص 23 ح 39 عن مشارق الأنوار للبرسي ص 42.

(2) هي صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنين عليه السّلام بخاتمه و أتت بها الى الأئمّة بعده واحدا بعد واحد و هم يطبعوهن فيها إلى أن انتهت الى أبي الحسن الرضا عليه السّلام فطبع فيها و عاشت بعد ذلك تسعة أشهر- سفينة البحار ج 2 ص 30 طبع الجديد.

(3) سورة الجنّ: 16.

(4) بحار الأنوار ج 25 ص 24 ح 40 عن مشارق الأنوار للبرسي ص 40.

(5) البحار ج 25 ص 21.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 219

ايمانهم إيمان أحد من المخلوقين، آتاهم اللّه ما لم يؤت أحدا من العالمين، و سبقا حدوثيا زمانيّا كما اتّفقت عليه روايات الفريقين من أنّه عليه السّلام أوّل من آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العالم الناسوت إيمانا ظاهريّا بعد ما آمن به في جميع العوالم الكليّة و النشآت الغيبيّة، و لذا

قال عليه

السّلام: سبقتكم إلى الإسلام طرّا* غلاما ما بلغت أو ان حلمي «1» و قد قيل في هذا أيضا: ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا* عن هاشم ثمّ منها عن أبى الحسن أليس أوّل من صلّى لقبلتكم* و أعلم الناس بالآداب و السنن

و بالجملة فهؤلاء الأنوار صلوات اللّه عليهم هم السّابقون بالإيمان في جميع العوالم بمراتب السبق و أقسامه الستّة «2».

______________________________

(1)

قال ابن حجر الهيثمي: لما وصل الى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فخر من معاوية قال عليه السّلام لغلامه: اكتب إليه، ثمّ أملى عليه:

محمّد النبي أخي و صهري* و حمزة سيّد الشهداء عمّى و جعفر الذي يمسى و يضحى* يطير مع الملائكة ابن أمّي و بنت محمد سكنى و عرسي* منوط لحمها بدمى و لحمى و سبطا أحمد ولداي منها* فأيّكم له سهم كسهمي سبقتكم الى الإسلام طرّا* غلاما ما بلغت أو ان حلمي الصواعق المحرقة ص 130 ط القاهرة-

(2) السبق على المشهور ينقسم الى ستّة أقسام: الزّماني، و الرّتبى، و الشّرفى، و الطبعي، و العلّى، و الماهوى، و زاد عليها صدر المتألهين قسما سابعا، و هو السبق بالحقيقة، و المحقّق الداماد قسما ثامنا و هو السبق الدهري، قال الفيلسوف المتأله السبزواري في منظومته: السبق منه ما زمانيا كشف و السبق بالرتبة ثم بالشرف

و السبق بالطبع و بالعليّةثمّ الّذى يقال بالماهيّة تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 220

و لذا

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله تعالى: السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «1»: إنّها فّي نزلت «2».

و

قال مولانا الصادق عليه السّلام: نحن السابقون، و نحن الآخرون «3».

بل يستفاد من أخبار متواترة أنّ كلّ من آمن باللّه و وحّده و عبده في جميع العوالم فإنّما هو بوساطتهم،

و لذا

قالوا: «بنا عرف اللّه و بنا عبد اللّه» «4».

و

في أخبار كثيرة: «نحن الأعراف الّذين لا يعرف اللّه إلّا بسبيل معرفتنا» «5».

و

في «الجامعة الكبيرة»: «بكم علّمنا اللّه معالم ديننا، و أصلح ما كان فسد من دنيانا».

ثانيها: أنّ القرآن كلّه إنّما نزل فيهم و في شيعتهم، و في أعدائهم.

و ذلك أنّ من الآيات ما نزلت بخصوصها فيهم، و منها ما نزلت في غيرهم، سواء أ كان في شأن أشخاص خصوصا أو عموما، و القصص و الأمثال، أم كان في الفرائض و السنن و الأحكام، و كلّ ذلك ينقسم إلى فروع الإيمان و فروع

______________________________ و السبق بالذّات هو اللذ كان عمّ بذي الثّلاثة الأخير انقسم

بالذّات إن شي ء بدا و بالعرض لاثنين سبق بالحقيقة انتهض

و السبق فكيّا يجي طوليّاسمّى دهريّا و سرمديّا

(1) الواقعة: 10- 11.

(2)

في البحار ج 24 ص 8 ح 22 عن عليّ عليه السّلام قال: «إنّي أسبق السابقين إلى اللّه و إلى رسوله ... إلخ.

(3) بحار الأنوار ج 24 ص 4 ح 11 عن مناقب آل أبى طالب ج 3/ 403.

(4) البحار ج 25 ص 20 ح 31.

(5) البحار ج 24 ص 249 ح 2 عن الاحتجاج ص 121.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 221

الكفر.

فالآيات المتضمّنة لفروع الإيمان و أحكامه و وعده و جزائه، و جميع الطّاعات و العبادات، و الفرائض و السنن، و القصص المتعلّقة بأهل الإيمان من الأنبياء و المرسلين، و الملائكة و الشهداء و الصالحين و الصّديقين، و المستضعفين كلّها نزلت في شيعتهم.

و الآيات المتضمّنة للكفر و النّفاق و الشّرك، و متابعة الأهواء و الفحشاء، و الظّلم، و النّواهى المتعلّقة بها، و الوعيد و التهديد على ذلك، و السجّين، و الظلمة، و

القسوة، و القصص المتعلّقة بالكفّار، و الفرق كلّها، ممّا نزلت في أعدائهم، و لذا

قالوا: «إنّ آيات القرآن نزلت أثلاثا: فثلث فينا، و ثلث في شيعتنا، و ثلث في أعدائنا».

بل و إليه يئول ما

ورد من أنّها نزلت أرباعا: ربع فينا، و ربع في أعدائنا، و ربع فرائض و أحكام، و ربع حلال و حرام.

فإنّ الأخيرين يؤولان إلى الأوّلين على ما سمعت من التقريب.

ثالثها: أنّهم عليهم السّلام أصل كلّ خير و برّ و شرف و إحسان، و منهم ينشعب جميع الخيرات و الذّوات السعيدة الصّالحة حتّى علييّن و ما خلق منه من طين المؤمنين و الملائكة و الجنان، و الأفعال الحسنة و الأقوال الصالحة الصّادقة، و الهيئات و الأشكال المليحة، و الروائح و الألوان الطيّبة، و غير ذلك ممّا يتعلّق بالتكوينيّات، و كذا التشريعيّات في العبادات، و الطاعات المفترضة و المندوبة، و لذا

قالوا: «نحن أصل كلّ خير و برّ، و من فروعنا كلّ برّ، و من البرّ التوحيد،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 222

و الصّلاة و الصّيام ...

الى آخر ما مرّ «1».

و في أخبار طينة الأنبياء و المؤمنين إشارات إلى ذلك، مثل ما

ورد «أنّ جميع الأنبياء و الملائكة و المؤمنين، بل الجنّة و السماوات و الحجب، و السرادقات، و الأعمال الصّالحة كلّها خلقت من فاضل أشعّة أنوارهم عليهم السّلام، و أنّ قلوب شيعتهم خلقت من فاضل طينة أبدانهم عليهم السّلام، و أنّ شيعته منهم لأنّهم خلقوا من شعاع طينتهم «2».

و نظير ذلك كلّه في جانب الشرور و المفاسد و القبايح من طينة خبال و سجّين، و النار، و ما خلق منها من الذّوات و الكينونات، و الصفات و الملكات، و الأفعال، و الخطرات، و الأقوال، و الأشكال و

الهيئات الى غير ذلك من الفروع، و فروع الفروع، و هلّم جرّا.

فالقرآن كلّه بهذا الإعتبار إنّما نزل فيهم و في أعدائهم بعد ملاحظة الأصول و الفروع.

بل الكون الكبير و عالم التكوين منقسم الى نور و ظلمة، و خير و شرّ، و حسن و قبح، و استقامة و انحراف، إلى غير ذلك من الأضداد، فهم أصل الخير و فرعه، و معدنه و مأواه و منتهاه، كما أنّ أعدائهم أصل الشرّ و فرعه ... إلخ.

و لذا وقع التّعبير عنه بجملة من فروعهم تلويحا و تكنية للمؤمنين، و سترا و تقيّة عن المخالفين، فيعبّر عنهم بالصلاة، و الزكاة، و الحجّ، و الكعبة، و غيرها، حسبما سمعت في الأخبار المتقدمة، و غيرها، كما أنّه يعبّر عن أعدائهم بالجبت،

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 24 ص 303 عن كنز الفوائد ص 2- 3.

(2) البحار ج 25 ص 1 إلى ص 33.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 223

و الطاغوت، و الشيطان، و الخمر، و الميسر، و الرّجس، و غير ذلك.

قال مولانا الصادق عليه السّلام فيما كتبه في جواب المفضّل على ما رواه في «البصائر» في خبر طويل: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أحلّ حلالا و حرّم حراما إلى يوم القيامة، فمعرفة الرّسل و ولايتهم و طاعتهم هو الحلال، فالمحلّل ما حلّلوا، و المحرّم ما حرّموا، و هم أصله، و منهم الفروع الحلال، و ذلك سعيهم، و من فروعهم أمرهم شيعتهم، و أهل ولايتهم بالحلال و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم شهر رمضان، و حجّ البيت و العمرة، و تعظيم حرمات اللّه و مشاعره. و تعظيم البيت الحرام، و المسجد الحرام، و الشهر الحرام، و الطهور و الاغتسال من الجنابة، و مكارم الأخلاق

و محاسنها، و جميع البرّ، ثمّ ذكر بعد ذلك فقال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «1».

فعدوّهم هم الحرام المحرّم، و أوليائهم الداخلون في أمرهم الى يوم القيامة، فهم الفواحش و ما ظهر منها و ما بطن و الخمر و الميسر، و الزنا و الرّبا، و الدم، و لحم الخنزير، فهم الحرام المحرّم، و أصل كلّ حرام، و هم الشرّ و أصل كلّ شر، و منهم فروع الشرّ كلّه، و من تلك الفروع الحرام، و استحلالهم إيّاها، و من فروعهم تكذيب الأنبياء، و جحود الأوصياء و ركوب الفواحش: الزنا، و السرقة، و شرب الخمر و المسكر، و أكل مال اليتيم، و أكل الربا، و الخدعة، و الخيانة، و ركوب المحارم كلّها، و انتهاك المعاصي.

______________________________

(1) سورة النحل: 90. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 224

و إنّما أمر اللّه بالعدل، و الإحسان، و إيتاء ذي القربى يعنى مودّة ذي القربى و ابتغاء طاعتهم، و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي، و هم أعداء الأنبياء و أوصياء الأنبياء، و هم المنهيّ من مودّتهم و طاعتهم، يعظكم بهذه لعلّكم تذكّرون.

و أخبرك أنّي لو قلت لك: إنّ الفاحشة، و الخمر، و الميسر، و الزّنا، و الميتة، و الدّم، و لحم الخنزير هو رجل، و أنا أعلم أنّ اللّه قد حرّم هذا الأصل و حرّم فرعه و نهى عنه، و جعل ولايته كمن عبد من دون اللّه وثنا و شركا، و من دعا الى عبادة نفسه فهو كفرعون إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1» فهذا كلّه على وجه إن شئت قلت: هو رجل و

هو الى جهنّم و من شايعه على ذلك فإنّهم مثل قول اللّه:

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ «2» لصدقت، ثمّ إنّي لو قلت: إنّه فلان ذلك كلّه لصدقت: إنّ فلانا هو المعبود المتعدّي حدود اللّه الّتي نهي أن يتعدّى.

ثمّ إنّي أخبرك إنّ الدين و أصل الدين هو رجل، و ذلك الرجل هو اليقين، و هو الإيمان، و هو إمام أمّته و أهل زمانه، فمن عرفه عرف اللّه و دينه، و من أنكره أنكره اللّه و دينه، و من جهله جهل اللّه و دينه، و لا يعرف اللّه و دينه و حدوده و شرائعه بغير ذلك الإمام، كذلك جرى بأنّ معرفة الرجال دين اللّه «3».

و المعرفة على وجهين: معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين اللّه، و يوصل بها الى معرفة اللّه، فهذه المعرفة الباطنة الثابتة الموجبة حقّها المستوجب

______________________________

(1) النازعات: 24.

(2) البقرة: 173.

(3) في نسخة: «فذلك معنى أنّ معرفة الرّجال دين اللّه». تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 225

أهلها عليها الشكر للّه الّتى منّ عليهم بها منّ من اللّه يمنّ به على من يشاء، مع المعرفة الظاهرة، فأهل المعرفة في الظاهر الذين علموا أمرنا بالحقّ على غير علم لا يلحق بأهل المعرفة في الباطن عن بصيرتهم، و لا يصلوا بتلك المعرفة المقصرة إلى حقّ معرفة اللّه كما قال في كتابه: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «1».

فمن شهد شهادة الحقّ لا يعقد عليه قلبه و لا يبصر ما يتكلّم به لا يثاب عليه مثل ثواب من عقد قلبه و ثبت على بصيرة، و كذلك من تكلّم بجور لا يعقد عليه قلبه لا يعاقب عليه

عقوبة من عقد عليه قلبه و ثبت، فقد عرفت كيف كان حال رجال أهل المعرفة في الظاهر و الإقرار بالحقّ على غير علم في قديم الدّهر و حديثه إلى أن انتهى الأمر إلى نبيّ اللّه، و بعده إلى من صاروا؟

إلى من انتهت إلى معرفتهم، و إنّما عرفوا بمعرفة أعمالهم و دينهم الّذي دان اللّه به المحسن بإحسانه و المسي ء بإسائته، و قد يقال: إنّ من دخل في هذا الأمر بغير يقين و لا بصيرة خرج منه كما دخل فيه، رزقنا اللّه و إيّاك معرفة ثابتة على بصيرة.

و أخبرك أنّى لو قلت: إنّ الصلاة و الزكاة و صوم شهر رمضان، و الحجّ و العمرة، و المسجد الحرام، و البيت الحرام، و المشعر الحرام، و الطهور، و الاغتسال من الجنابة، و كل فريضة كان ذلك هو النبي الّذى جاء به من عند ربّه لصدقت، لأنّ ذلك كلّه إنّما يعرف بالنبيّ، و لو لا معرفة ذلك النبيّ و الإيمان به و التسليم له ما عرف ذلك، فذلك منّ اللّه على من يمنّ عليه، و لو لا ذلك لم نعرف

______________________________

(1) الزخرف: 86. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 226

شيئا من هذا، فهذا كلّه ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله، و أصله و فرعه، و هو دعاني إليه، و دلّني عليه، و عرّفنيه، و أمرنى به، و أوجب عليّ له الطاعة فيما أمرني به لا يسعني جهله، و كيف يسعني جهل من هو فيما بيني و بين اللّه، و كيف يستقيم لي لو لا أنّي أصف أنّ ديني هو الّذى أتانى به ذلك النبيّ، أن أصف أنّ الدين غيره؟ و كيف لا يكون ذلك معرفة الرّجل، و إنّما هو

الّذى جاء به من عند اللّه ... إلى أن قال: فاللّه تبارك و تعالى إنّما أحبّ أن يعرف بالرّجال، و أن يطاع بطاعتهم، فجعلهم سبيله، و وجهه الذي يؤتى منه، لا يقبل اللّه من العباد غير ذلك، لا يسئل عمّا يفعل و هم يسألون، فقال فيما أوجب من محبّته لذلك:

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «1».

فمن قال لك: إنّ هذه الفرائض كلّها إنّما هي رجل، و هو يعرف حدّ ما يتكلّم به فقد صدق، و من قال على الصفة الّتى ذكرت بغير الطاعة فلا يغني التمسّك بالأصل بترك الفرع، كما لا تغني شهادة أن لا إله إلّا اللّه بترك شهادة أنّ محمّدا رسول اللّه. و لم يبعث اللّه نبيّا قطّ إلّا بالبرّ و العدل، و المكارم، و محاسن الأخلاق، و النهى عن الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، فالباطن منه ولاية أهل الباطل، و الظاهر منه فروعهم، و لم يبعث اللّه نبيّا قطّ يدعو الى معرفة ليس معها طاعة في أمر أو نهى، فإنّما يقبل اللّه من العباد العمل بالفرائض الّتى افترضها اللّه على حدودها مع معرفة من جاءهم به من عنده و دعاهم إليه ... الخبر بطوله «2».

______________________________

(1) النساء: 80.

(2) بحار الأنوار ج 4 ص 286- ص 298 نقلا عن البصائر ص 154.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 227

رابعها: ما نبّه عليه بعض «1» الأعلام في هذا المقام. و هو أنّ أحكام اللّه سبحانه إنّما تجري على الحقائق الكلّية و المقامات النوعيّة دون خصائص الأفراد و الآحاد، فحيثما خوطب قوم بخطاب أو نسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب و ذلك الفعل عند العلماء و أولى الألباب

كلّ من كان من سنخ أولئك القوم و طينتهم، فصفوة اللّه تعالى حيثما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم مكرمة يشمل ذلك كلّ من كان من سنخهم و طينتهم من الأنبياء و الأولياء، و كلّ من كان من المقرّبين إلّا مكرمة خصّوا بها دون غيرهم، و كذلك إذا خوطبت شيعتهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعدائهم بسوء، و نسب إليهم سوء يدخل في الأوّل كلّ من كان من سنخ شيعتهم و طينة محبّيهم، و في الثاني كلّ من كان من سنخ أعدائهم و طينة مبغضيهم من الأوّلين و الآخرين، و ذلك لأنّ كلّ من أحبّه اللّه و رسوله أحبّه كلّ مؤمن من ابتداء الخلق إلى انتهائه، و كلّ من أبغضه اللّه و رسوله أبغضه كلّ مؤمن، كذلك هو يبغض كلّ من أحبّه اللّه تعالى و رسوله، فكلّ مؤمن في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم و محبّيهم، و كلّ جاحد في العالم قديما أو حديثا الى يوم القيامة فهو من مخالفيهم و مبغضيهم.

و قد وردت الإشارة الى ذلك في كلام الصادق عليه السّلام في حديث المفضّل بن عمر، و هو الّذى

رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب «علل الشرائع» باسناده الى المفضّل بن عمر قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: بما صار عليّ أبى طالب عليه السّلام قسيم الجنّة و النّار؟ قال: لأنّ حبّه إيمان و بغضه كفر، و إنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان

______________________________

(1) هو الشيخ الأجلّ العالم الربّانى و الفاضل الصمداني محمد محسن الفيض الكاشاني المتوفّى سنة (1091 ه) و مرقده معروف في كاشان موئل للزائرين و العاكفين و ما نبّه عليه في «تفسير الصافي» المقدمة

الثالثة. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 228

و خلقت النّار لأهل الكفر، فهو عليه السّلام قسيم الجنّة و النّار لهذه العلّة، و الجنّة لا يدخلها إلّا أهل محبّته، و النار لا يدخلها إلّا أهل بغضه، قال المفضّل: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فالأنبياء و الأوصياء هل كانوا يحبّونه و أعداؤهم يبغضونه؟ فقال: نعم، قلت: فكيف ذلك؟ قال: أما علمت أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال يوم خيبر: لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه تعالى و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، ما يرجع حتّى يفتح اللّه على يده؟ قلت: بلى، قال: أما علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أوتي بالطير المشويّ قال: أللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معى هذا الطير، و عنى به عليّا؟ قلت:

بلى، قال: يجوز أن الا يحبّ أنبياء اللّه و رسله و أوصيائهم عليهم السّلام رجلا يحبه اللّه و رسوله، و يحبّ اللّه و رسوله؟ فقلت: لا، قال: فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أممهم لا يحبّون حبيب اللّه و حبيب رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أنبيائه؟ قلت: لا، قال: فقد ثبت أنّ جميع أنبياء اللّه و رسله و جميع المؤمنين كانوا لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام محبّين، و ثبت أنّ المخالفين لهم كانوا له و لجميع أهل محبّته مبغضين، قلت: نعم، قال:

فلا يدخل الجنّة إلّا من أحبّه من الأوّلين و الآخرين، فهو إذن قسيم الجنّة و النّار، قال المفضّل: فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرجّت عنّي فرّج اللّه عنك فزدني ممّا علّمك اللّه تعالى، فقال: سل يا مفضّل، فقلت: أسأل يا ابن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام يدخل محبّه الجنّة و مبغضه النار أو رضوان و مالك؟ فقال: يا مفضّل أما علمت أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث رسوله و هو روح الى الأنبياء عليهم السّلام و هم أرواح قبل خلق الخلق بألفى عام؟ قلت: بلى قال: أما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد اللّه و طاعته، و اتّباع أمره، و وعدهم الجنّة على ذلك، و أوعد من خالف ما أجابوا إليه و أنكره النار؟ فقلت: بلى، قال عليه السّلام: أ فليس النبي ضامنا لما وعد و أوعد عن ربّه عزّ و جلّ؟ قلت: بلى، قال عليه السّلام: أو ليس على بن أبي طالب عليه السّلام خليفته و إمام أمّته؟ قلت: بلى، قال عليه السّلام: أو ليس رضوان و مالك من جملة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 229

الملائكة المستغفرين لشيعته الناجين بمحبّته؟ قلت: بلى، قال عليه السّلام: فعليّ بن أبي طالب صلوات اللّه و سلامه عليه إذن قسيم الجنّة و النّار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رضوان و مالك صادران عن أمره بأمر اللّه تبارك و تعالى، يا مفضّل خذ هذا فإنّه من مخزون العلم و مكنونه لا تخرجه إلّا إلى أهله «1».

أقول: أنّ مجرّد السنخيّة و النوعيّة و إن أفاد شمول الخطابات و عموم الأحكام بعد مساعدة ما يدلّ على عموم الموضوع تنزيلا أو تأويلا إلّا أنّه لا يقضى باختصاص القرآن بهم و بشيعتهم و أعدائهم إلّا مع ملاحظة الأصالة التبعيّة حسبما سمعت فيما استفدناه من الأخبار، و إلّا فكلّ الناس في ذلك شرع سوء، فأين الإختصاص، و على كلّ حال فالأخبار متواترة على نزول القرآن

فيهم و في شيعتهم و في أعدائهم، بل هذا الأمر كان مشهورا عند المؤالف و المخالف.

ففي الاحتجاج عن سليم بن قيس قال: قدم معاوية بن أبي سفيان حاجّا في خلافته فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الّذين استقبلوه ما منهم قرشي فلمّا نزل قال: ما فعلت الأنصار و ما بالهم لم يستقبلوني؟

فقيل لهم: إنّهم محتاجون ليس لهم دوابّ، فقال معاوية: و أين نواضحهم؟

فقال قيس «2» بن سعد بن عبادة، و كان سيّد الأنصار و ابن سيّدها: أفنوها يوم بدر و أحد و ما بعدهما من مشاهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين ضربوك و أباك على الإسلام

______________________________

(1) تفسير الصافي ج 1 ص 15 المقدمة الثالثة عن علل الشرائع ص 65- بحار الأنوار ج 39 ص 194 عن العلل.

(2) قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصارى الخزرجي المدني صحابيّ من دهاة العرب و أجوادهم، كان بين يدي النبي صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة الشرطي من الأمير، و كان من أطول الناس و أجملهم، هرب من معاوية سنة (58)، و سكن تفليس فمات بها سنة (60)، الاعلام ج 6/ 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 230

حتى ظهر أمر اللّه و هم كارهون.

ثمّ إنّ معاوية مرّ بحلقة من قريش فلمّا رأوه قاموا غير عبد اللّه ابن عبّاس، فقال له: يا بن عبّاس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة أنّي قاتلتكم بصفّين فلا تجد من ذلك يا ابن عبّاس فإنّ ابن عمّى عثمان قتل مظلوما، قال ابن عبّاس: فعمر بن الخطّاب قد قتل مظلوما، قال: إنّ عمر قتله كافر، قال ابن عبّاس: فمن قتل عثمان؟ قال: قتله المسلمون، قال: فذلك أدحض لحجّتك.

قال: فإنّا

قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ و أهل بيته فكفّ لسانك، فقال: يا معاوية أ تنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: أ فتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم، قال: فنقرأ و لا نسأل عمّا عنى اللّه به، ثمّ قال: فأيّهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به، قال: كيف العمل به و لا نعلم ما عنى اللّه؟

قال: سل عن ذلك من يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت و أهل بيتك، قال: إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي أسأل عنه آل أبي سفيان؟ يا معاوية أ تنهانا أن نعبد اللّه تعالى بالقرآن بما فيه من حلال و حرام فإن لم تسأل الامّة عن ذلك حتى تعلم تهلك و تختلف، قال: اقرءوا القرآن و تأوّلوه و لا ترووا شيئا ممّا أنزل اللّه فيكم و ارووا ما سوى ذلك، قال: فإنّ اللّه تعالى يقول في القرآن: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «1» قال: يا ابن عبّاس اربع «2» على نفسك و كفّ لسانك، و إن كنت لا بدّ فاعلا فليكن ذلك سرّا لا يسمعه أحد علانية، ثمّ رجع إلى بيته، فبعث إليه بمائة ألف درهم، و نادى منادي معاوية: أن برئت الذمّة ممّن يروى حديثا من مناقب عليّ و فضل أهل

______________________________

(1) التوبة: 32.

(2) اربع عليك أو على نفسك أو على ضلعك: اى توقّف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 231

بيته عليهم السّلام ... الخبر بطوله «1».

و رواه سليم بن قيس في كتابه بوجه أبسط، و فيه: أنّه قال ابن عبّاس: إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان، و

آل أبي معيط، و اليهود، و النصارى، و المجوس، قال: فقد عدلتني بهؤلاء، قال: لعمري ما أعدلك بهم إلّا إذا نهيت الأمّة أن يعبدوا اللّه بالقرآن بما فيه من أمر أو نهى، أو حلال أو حرام، أو ناسخ أو منسوخ، أو عامّ أو خاصّ، أو محكم أو متشابه، و إن لم تسأل الأمّة عن ذلك هلكوا و اختلفوا و تاهوا «2».

خامسها: أنّ لمولانا أمير المؤمنين و ذريّته المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين في كتاب اللّه أسماء شريفة و ألقابها منيفة كما أشير إلى بعض منها في الأخبار المتقدّمة.

و

في «المناقب» مسندا عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و خطب أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السّلام بالكوفة عند منصرفه من النهروان، و بلغه أنّ معاوية يسبه و يعيبه و يقتل أصحابه فقام خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذكر ما أنعم اللّه تعالى على نبيّه و عليه، ثمّ قال: لو لا آية في كتاب اللّه تعالى ما ذكرت ما أنا ذاكره في مقامي هذا، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «3» اللهمّ لك الحمد على نعمك الّتى لا تحصى، و فضلك الّذي لا ينسى، يا أيّها النّاس إنّه بلغني ما بلغني، و إنّي قد أراني قد اقترب أجلى، و كأنّي بكم و قد جهلتم أمرى، و إنّي تارك فيكم ما تركه رسول اللّه: كتاب اللّه و عترتي، و هي عترة الهادي النّجاة: خاتم الأنبياء، و سيّد النجباء، و النبيّ

______________________________

(1) الإحتجاج للطبرسي ج 2 ص 15 ط النجف الأشرف.

(2) الإحتجاج للطبرسي ج 2 ص 15 ط النجف الأشرف.

(3)

الضحى: 11. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 232

المصطفى، يا أيها النّاس لعلّكم لا تسمعون قائلا يقول مثل قولي بعدي إلّا مفتر، أنا أخو رسول اللّه، و ابن عمّه، و سيف نقمته، و عماد نصرته و بأسه و شدّته، أنا رحى جهنّم الدائرة، و أضراسها الطاحنة، أنا مؤتم البنين و البنات، أنا قابض الأرواح، و بأس اللّه الّذى لا يردّه عن القوم المجرمين، أنا مجدّل الأبطال، و قاتل الفرسان، و مبيد من كفر بالرحمن، و صهر خير الأنام، أنا سيّد الأوصياء، و وصيّ خير الأنبياء، أنا باب مدينة العلم، و خازن علم رسول اللّه و وارثه، أنا زوج البتول سيّدة نساء العالمين، فاطمة التقيّة النقيّة الزكيّة البرّة المهديّة حبيبة حبيب اللّه، و خير بناته و سلالته، و ريحانة رسول اللّه، سبطاه خير الأسباط، و ولداي خير الأولاد، هل أحد ينكر ما أقول؟

أين مسلموا أهل الكتاب؟ أنا اسمى في الإنجيل أليا، و في التوراة بريّا، و في الزّبور أديّ، و عند الهند كبكر، و عند الروم بطريا و عند الفرس جبتر، و عند الترك بثير، و عند الزنج حيتر، و عند الكهنة بوى ء، و عند الحبشة بثريك، و عند أمّي حيدرة، و عند ظئرى «1» الميمون، و عند العرب عليّ، و عند الأرمن فريق و عند أبي ظهير، ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم، يقول اللّه عزّ و جلّ: «إنّ اللّه مع الصادقين» «2».

و أنا المؤذّن في الدّنيا و الآخرة، قال اللّه عزّ و جلّ: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «3» أنا ذلك المؤذّن، و قال:

______________________________

(1) الظئر (بكسر الظاء): العاطفة على ولد غيرها- المرضعة لولد غيرها.

(2)

ليست هذه الجملة بعينها في القرآن و لكن مفادها يستفاد من سورة البقرة الآية (177) و الآية (194).

(3) الأعراف: 43. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 233

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ «1».

و أنا المحسن يقول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «2» و أنا ذو القلب يقول اللّه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «3» و أنا الذّاكر يقول اللّه:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ «4».

و نحن أصحاب الأعراف: أنا و عمّى، و أخي، و ابن عمّى، و اللّه فالق الحبّ و النوى لا يلج النار لنا محبّ، و لا يدخل الجنّة لنا مبغض، يقول اللّه عزّ و جلّ:

وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ «5».

و أنا الصّهر، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً «6».

و أنا الاذن الواعية، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «7».

و انا السلم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ «8».

و من ولدي مهديّ هذه الامّة، ألا و قد جعلت محنتكم، ببغضي يعرف المنافقون، و بمحنتى امتحن اللّه المؤمنين، هذا عهد النبي الامّي: «ألا إنّه لا يحبّك

______________________________

(1) التوبة: 3.

(2) العنكبوت: 69.

(3) ق: 36.

(4) آل عمران: 188.

(5) الأعراف: 44.

(6) الفرقان: 56.

(7) الحاقّة: 12.

(8) الزمر: 30. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 234

إلّا مؤمن و لا يبغضك إلّا منافق»، و أنا صاحب لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الدّنيا و الآخرة، و رسول اللّه فرطي، و أنا فرط شيعتي، و اللّه لا عطش محبّى، و لا خاف وليّي، أنا وليّ المؤمنين،

و اللّه وليّي، حسب محبّى أن يحبّوا ما أحبّ اللّه، و حسب مبغضي أن يبغضوا ما أحب اللّه، ألا و إنّه بلغني أنّ معاوية سبّنى و لعنني، أللهمّ اشدد وطأتك عليه و أنزل اللّعنة على المستحقّ، آمين ربّ العالمين، ربّ إسماعيل، و باعث إبراهيم إنّك حميد مجيد».

ثمّ نزل عليه السّلام عن أعواده فما عاد إليها حتّى قتله ابن ملجم لعنه اللّه.

قال جابر «1»: سنأتي على تأويل ما ذكرنا من أسمائه:

أمّا قوله: انا اسمى في الإنجيل «أليا» فهو عليّ بلسان العرب.

و في التوراة «برى ء» قال: بري ء من الشرك.

و عند الكهنة «بوي ء» هو من تبوّء مكانا، و بوّأ غيره مكانا، و هو الّذى يبوّء الحقّ منازله، و يبطل الباطل و يفسده.

و في الزبور «أدىّ» و هو السّبع الّذي يدقّ العظم و يفرس اللحم.

و عند الهند «كبكر» قال: يقرءون في كتب عندهم فيها ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذكر فيها أن ناصره «كبكر» و هو الّذي إذا أراد شيئا لجّ فيه و لم يفارقه حتّى يبلغه.

و عند الرّوم «بطريسا» قال: مختلس الأرواح.

______________________________

(1) هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أبو عبد اللّه التابعي، واسع الرواية غزير العلم، و توفّى بالكوفة سنة (128 ه)- الأعلام ج 2/ 93. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 235

و عند الفرس «حبتر» و هو البازي الّذي يصطاد.

و عند الترك «بثير» قال: هو النمر الّذي إذا وضع مخلبه في شي ء هتكه.

و عند الزنج «حيتر» قال: و هو الّذي يقطع الأوصال.

و عند الحبشة «بثريك» قال: هو المدمّر على كلّ شي ء، أتى عليه.

و عند أمّى «حيدرة» قال: هو الحازم الرأى، الخبير النقّاب «1» النظّار في دقائق الأشياء.

و عند ظئرى «ميمون»، قال جابر: أخبرنى

محمّد بن على عليهما السّلام قال: كانت ظئر علي عليه السّلام الّتى أرضعته امرأة من بنى هلال، خلفته في خبائها «2»، و معه أخ له من الرضاعة، و كان أكبر منه سنّا بسنة إلّا أياما، و كان عند الخباء قليب، فمرّ الصبيّ نحو القليب و نكس رأسه فيه فحبا «3» عليّ عليه السّلام خلفه، فتعلّقت رجله بطنب الخيمة، فجرّ الحبل حتّى أتى على أخيه، فتعلّق بإحدى رجليه بيده و إحدى يديه بفيه، فجاءته أمّه و أدركته فنادت يا للححيّ يا للححيّ من غلام ميمون أمسك على ولدي، فأخذوا الطفل من عند رأس القليب، و هم يعجبون من قوّته على صباه و لتعلّق رجله بالطنب و لجرّه الطفل حتّى أدركوه فسمّته أمّه ميمونا أى مباركا فكان الغلام في بني هلال يعرف بمعلّق ميمون و ولده إلى اليوم.

و عند الأزمن «فريق» قال: الفريق: الجسور الّذي يهابه النّاس.

و عند أبي «ظهير» قال: كان أبوه يجمع ولده و ولد إخوته ثمّ يأمرهم

______________________________

(1) النقّاب: النافذ في الأمور و الذي يبالغ في البحث عنها.

(2) الخباء (بكسر الخاء) ما يعمل من وبر أو صوف أو شعر للمسكن.

(3) حبا: الولد: زحف على يديه و بطنه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 236

بالصّراع و ذلك خلق في العرب. و كان عليّ عليه السّلام يحسر عن ساعدين له غليظين قصيرين و هو طفل، ثمّ يصارع كبار إخوته و صغارهم و كبار بنى عمّه و صغارهم فيصرعهم، فيقول أبوه: ظهر عليّ فسمّى ظهيرا.

و عند العرب عليّ، قال جابر: اختلف الناس من أهل المعرفة لم سمّي عليّ عليّا، فقالت طائفة: لم يسمّ أحد من ولد آدم قبله بهذا الاسم في العرب و لا في العجم، إلّا أن

يكون الرجل من العرب يقول: ابني هذا عليّ يريد من العلوّ لا أنّه اسمه، و إنّما تسمّى الناس به بعده و في وقته.

و قالت طائفة: سمّى عليّ عليّا لعلوّه على كلّ من بارزه.

و قالت طائفة: سمّي عليّ عليّا لأنّ داره في الجنان تعلو حتّى تحاذي منازل الأنبياء، و ليس نبيّ تعلو منزلته منزلة عليّ.

و قالت طائفّة: سمّي عليّ عليّا لأنّه علا ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقدميه طاعة اللّه عزّ و جلّ. و لم يعل أحد على ظهر نبيّ غيره عند حطّ الأصنام من سطح الكعبة.

و قالت طائفة: سمّى عليّ عليّا لأنّه زوّج في أعلى السماوات. و لم يزوّج أحد من خلق اللّه عزّ و جلّ في ذلك الموضع غيره.

و قالت طائفة: إنّما سمّي عليّ عليّا لأنّه كان أعلى الناس علما بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1»

______________________________

(1) معاني الأخبار ص 58- 63- بحار الأنوار ج 35 ص 45- ص 48 عن المعاني، و المؤلّف نقله عن المناقب و الظاهر أنّ مراده «المناقب» لابن شهر آشوب، و لكن ما وجدته فيه، نعم الأسماء المذكورة موجودة في القصيدة المذهبّة لأبى محمّد طلحة بن عبيد اللّه العوني المصري المتوفّى حدود (350) ه مع تفاوت يسير و نقل بعضها في «المناقب» و أذكر القصيدة تيمنّا و تبرّكا: وسائل عن العليّ الشانى هل نصّ فيه اللّه بالقرآن تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 237

______________________________ بأنّه الوصيّ دون ثان لأحمد المطهّر العدناني

فاذكر لنا نصّا به جليّاأجبت يكفى (خمّ) بالخصوص

من آية التبليغ بالمخصوص و جملة الأخبار و النصوص

غير الذي انتاشت يد اللصوص و كتّمته ترتضي أميّا

أما سمعت يا بعيد الذهن ما قاله أحمد كالمهنّى

أنت كهارون لموسى منّي إذ

قال موسى لأخيه اخلفني

فاسألهم لم خالفوا الوصيّاأما سمعت خبر المباهلة

أما علمت أنّها مفاضلةبين الورى فهل رأى من عادلة

في الفضل عند ربّه و قابله و لم يكن قربّه نجيّا

أمّا سمعت أنّا أوصاه و كان ذا فقر كما تراه

فخصّ بالدين الذي يرعاه فإن عداه و هو ما عداه

غادر دينا لم يكن مرعيّافقال: هل من آية تدلّ

على عليّ الطهر لا تعلّ بحيث فيها الطهر يستقلّ

تدنيه للفضل فيقصي كلّ و يغتدي من دونه مقصيّا

فقلت إنّ اللّه جلّ قالاإذ شرّف الآباء و الأنسالا

و آل إبراهيم فازوا إلّاإنّا وهبنا لهم إفضالا

لسان صدق منهم عليّافكان إبراهيم ربانيّا

ثمّ رسولا منذرا رضيّاثمّ خليلا صفوة صفيّا

ثمّ إماما هاديا مهديّاو كان عند ربّه مرضيّا

فعندها قال: «و من ذريّتى»قال له: لا لن ينال رحمتي

و عهدي الظّالم من بريتي أبت لملكى ذاك وحدانيّتى

سبحانه لا زال وحدانيّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 238

______________________________ فالمصطفى الآمر فينا النّاهى و عادم الأمثال و الأشباه

فالفعل منه و المقال الزاهي لم يصدر إلا بأمر اللّه

لم يتقوّل أبدا فريّاإن كان غير ناطق عن الهوى

إلّا بأمر مبرم من ذي القربى فكيف أقصاهم و أدنى المجتوى

إذن لقد ضلّ ضلالا و غوى و لم يكن حاشا له غويّا

لكنّما الأقوام في السقيفةقد نصبوا برأيهم خليفة

و كان في شغل و في وظيفةمن غسل تلك الدّرة النظيفة

و حزنه الّذى له تهيّاحتّى إذا قضى الخليفة انتخب

من عقد الأمر له بين العرب ثم قضى و اختار منهم من أحبّ

و إن تكن شورى فللشورى سبب إذ كان ذا ترتيبه مقضيّا

ثمّ قضى ثالثهم فانشالواله الرّجال تتبع الرجال

فلم تسع غير القبول الحال فقام و الرضا به محال

إذ كان كلّ يتمنّى

شيئافغاضبت أوّلهم ذات الجمل

و قام معها الرّجلان في العمل فردّهم سيف القضاء و فصل

و لم يكن قد سبق السيف العذل فقد تأتّى حربهم مليّا

و غاضب الثاني لأمر سالف فاجتاحه بذي الفقار القاصف

و أصبح الناصر كالمخالف إذ شكت الرّماح بالمصاحف

و أخذ الانحدار و الرقياو كان أن يردّ للتسليم

إذ ردّ للاحبش في الهزيم فأعمل الحيلة في التحكيم

بأمر شيطانهم الرّجيم ففي الرعاة حكّم الرّعيّا

فلم يجد للكفّ من مناص و أخذ التحكيم بالنواصي

فجاء أهل الشام بابن العاص فاحتال فيها حيلة القناص تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 239

______________________________ غرّ أبا موسى الأشعريّاقام أبو موسى فويق المنبر

و قال: إنّى خالع بحيدركما خلعت خاتمي من خنصر

ثم جعلتها لنجل عمريا عمر و قم أنت اخلع الشاميّا

فقال عمرو: أيّها الناس اشهدواأن خلع الّذى له يعتمد

ثمّ اسمعوا قولي و لا تردّوابه فإني لابن هند أعقد

فاتخذوه مذهبا عمريّافما ترى أنت بهذى الحال

من المقال و من الأفعال لا تدخل المفتاح في الأقفال

تفتح عن الاضغان و الأذحال و ما يكون في الحشا مطويّا

إنّ عليّا عند أهل العلم أوّل من سمّى بهذا الاسم

قد ناله من ربّه في الحكم على يدي أخيه و ابن الفم

وحيا قديم الفضل عد عليّاو هو الذي سمّى في التوراة

عند أولى هاد من الهداةبالنصّ و التصريح في البراة

برغم من سيئ من العداةمن كلّ عيب في الورى بريّا

و هو الذي يعرف عند الكهنةإذ جمعوا التوراة في الممتحنة

فأخذوا من كل شي ء أحسنه و هم لتوراة الكليم خزنة

ليورد الحقّ لهم بويّاو هو الذي يعرف في الإنجيل

برتبة الإعظام و التبجيل و ميزة الغرة و التحجيل

و فوزة الرقيب للمجيل و كان يدعى عندهم أليّا

و هو الذي يعرف بالزبورزبور داود

حليف النور

و ذي العلا و العلم المنشورفي اسم الهزبر الأسد الهصور

ليث الوغا اعنى به أريّاو هو الّذي تدعوه ما بين الورى

أكابر الهند و أشياخ القرى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 240

______________________________ ذو و العلوم منهم بكنكرالأنّه كان عظيما خطرا

و كنكر كان له سميّاو هو الذي يعرف عند الروم

ببطرس القوّة و العلوم و صاحب السرّ لها المكتوم

و مالك المنطوق و المفهوم و من يكن ذا يدع بطرسيّا

و هو الذي يعرف عند الفرس لدى التعاليم و عند الدرس

بغرسنا و ذاك اسم قدسي معناه قابض بكلّ نفس

كما دعوه عندهم بارياو هو الذي يعرف عند الترك

تيرا و ذاك مشبه المحكّ و أنّه يرفع كلّ شكّ

عن كلّ حاك قوله و محكي إذا عرفت المنطق التركيا

و هو الذي يدعونه في الحبش بتريك أى مدبّر لا يختشى

لقدرة به و بطش مدهش و ينعتونه بأقوى قرشي

فاسئل به من يعرف الحبشياو هو الّذى يعرف عند الزّنج

بحنبنى أى مهلك و منجى و قاطع الطريق في المحجّ

إلّا بإذن في سلوك النهج فإن أردت فاسأل الزنجيّا

و هو فريق بلسان الأرمن فاروقه الحق لكلّ مؤمن

تعرفه اعلامهم في الزمن فاسأل به ان كنت ممّن يعتنى

تحقيقه من كان أرمنياو هو الذي سمّته تلك الجوهرة

إذ ولدت في الكعبة المطهّرةو خرّجت به فقال الجمهرة

من ذا؟ فقالت: هو شبلي حيدرةولدته مطهّرا قدسيّا

هذا و قد لقبّه ظهيراأبوه إذ شاهده صغيرا

يصرع من إخوانه الكبيرامشمّرا عن ساعد تشهيرا

و كان عبلا فتلا قويّا

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 241

______________________________ و لقّبته ظئره ميموناإذ رأت السعد به مقرونا

فكان درّا عندها مكنونايحمى أخا رضاعه المنونا

ثمّ يدر ثديها الأبيّاو اسم أخيه في بنى هلال

معلّق الميمون

بالحبال يذكره في سمر الليالي

رجالهم فاسمع من الرجال موهبة خصّ بها صبيّا

و الاسم عند اللّه في العلى عليّ و هو الصحيح و الصريح و الجلي

اشتقّه من اسمه في الأزل كمثل ما اشتقّ لخير الرسل

و منح النبيّ و الوصيّاو اتّفقت آراء أهل العلم

على اسمه من دون معنى الاسم فاختلفت في قصده و الفهم

له و كلّ لم يطش بسهم إذ قد أصاب الغرض المرقيّا

فقام قوم: قد علا برازاأقرانه و ابتزّها ابتزازا

فما رآه القرن إلا انحازاو كان دونا سافلا فامتازا

فهو عليّ إذ علا العديّاو قال قوم: قد علا مكانا

متن النبيّ و رمى الأوثاناإذ لم يطق حمل نبي كانا

من ثقل الوحي حكى ثهلانافنال منه المنزل العليّا

و قال فرقة عليّ الدّارفي جنّة الخلد مع المختار

علّاه ذو العرش على الأبرارفي روضة تزهو و في أنهار

فنال منه المرتضى العلويّاو قال فرقة علاهم علما

فكان أقضاهم لذاك حكماو من الى القضاء قد تسمّى

يكون أعلى رفعة و أسمى فوال ذاك العالم السميّا

ودع تأويل الكتاب و الخبرو خذ بما بان لديك و ظهر

قد خاطب اللّه به خير البشرليفهموا الأحكام في بادي النظر تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 242

______________________________ و يعرفوا النبيّ و الوصيّاو استمسكن بالعروة الوثقى الّتى

لم تنفصم عنه و لم تنفلت تمش على الصراط لم تلتفت

في قدم رأس و قلب مثبت حتى تجوز سالما سويّا

إلى جنان الخلد في أعلى الرتب إذ ينثنى كل امرء مع من أحبّ

موهبة ممّن له الشكر وجب فهو أبرّ خالق و خير ربّ

عزّ و جلّ ملكا قويّايا ربّ عبدك الّذى غمرته

بالفضل و الإنعام مذ صيّرته و قد عصى جهلا و قد أمرته

إن تاب فالذنب له غفرته قد تبت فاغفر

ذنبي العديّا

يا ربّ ما لي عمل سوى الولالا حمد و آله أهل العلا

صنو الرسول و الوصي المبتلاو فاطم و الحسنين في الملاء

غرّا تزين العرش و الكرسيّاثم عليّ و ابنه محمّد

و جعفر الصدق و موسى المهتدى ثم عليّ و الجواد الأجود

محمّد ثم عليّ الأمجدو الحسن الذي جلا المهديّا

فأعطني بهم جمال الدنياو راحة القبر زمان البقيا

و الأمن و الستر بحشر المحياو الريّ من كوثر أهل السقيا

و الحشر معهم في العلى سويايا طلح إن تختم بهذا في العمل

لم يدن منك فزع و لا وجل و أنت طلح الخير إن جاء الأجل

بالأجر من ربّ الورى عزّ و جلّ كفى بربّى راحما كفيّا

الغدير ج 4 ص 156- 161.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 243

الباب العاشر

اشارة

في اعجاز القرآن

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 245

لا ريب في كون القرآن معجزة من معجزات سيّد الأنام عليه و على آله أفضل الصلاة و السلام، باقية على مرّ الدهور و الأعوام و الشهور و الأيّام، و إنّما الكلام في جهة إعجازه و كيفيّته، فاختلفوا فيه على أقوال:

أحدها: أنّه معجز بفصاحته، ذهب إليه كثير من المتكلمين، و اختاره الجبّائيان «1»، و الرازي، و المحكىّ عن الفاضل العلّامة أعلى اللّه مقامه ذلك في «المناهج» و هو الظاهر منه في كتابه «نهج المسترشدين» و يظهر أيضا من علماء المعاني و البيان حيث ذكروا أنّ من فوائده كشف الأستار عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن.

و لا ينافيه ما ذكره بعضهم من أنّ مدرك الأعجاز هو الذوق ليس إلّا، سيّما بعد تصريحهم بأنّ وجه الإعجاز أمر من جنس الفصاحة و البلاغة، نعم عن بعضهم أنّه لا علم بعد علم الأصول اكشف للقناع عن

وجه الإعجاز من هذين العلمين، و فيه إيماء إلى أنّ من وجوه الإعجاز أيضا عنده اشتماله على العلوم الحقيقيّة و المعارف الربانية.

______________________________

(1) الجبّائيان: هما أبو على محمّد بن عبد الوهاب كان من الأئمّة المعتزلة و رئيس علماء الكلام في عصره، ولد في جبّا (خوزستان) و اشتهر في البصرة، و توفي فيه سنة (303) ه تنسب إليه الطائفة الجبّائيّة، و ابنه أبو هاشم عبد السلام ابن محمّد، هو أيضا من كبار المعتزلة نسب إليه الطائفة البهشميّة، تعلّم على أبيه، و توفّى ببغداد سنة (321 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 246

ثانيها: إعجازه من حيث الأسلوب و عنوا به الفنّ و الضرب.

ثالثها: ما ذهب إليه الجويني «1» من أنّه معجز بفصاحته و أسلوبه معا، قال:

لأنّ كلّ واحد منهما غير متعذّر على العرب، لأنّه وجد في كلامهم ما هو بفصاحته و ليس مثل أسلوبه، و كلام مسيلمة «2» كأسلوبه و ليس كفصاحته، و أمّا مجموعهما فغير مقدور للخلق.

رابعها: ما يحكى عن الشيخ كمال الدين «3» ميثم البحراني من أنّه معجز بأمور ثلاثة معا: فصاحته، و أسلوبه، و اشتماله على العلوم الشريفة من علم التوحيد و السلوك الى اللّه تعالى، و تهذيب الأخلاق، فإن الفصاحة خاصّة قد وجدت في كلام العرب، و الأسلوب و إن أمكن عند التكلّف، لكن اجتماعه مع الفصاحة نادر، لأنّ تكلّف الأسلوب مذهب بالفصاحة، و أمّا العلوم الشريفة فلم يوجد لها عين و لا أثر إلّا ما يوجد في كلام قسّ بن «4» ساعدة و أضرابه ممّن وقف على الكتب الإلهيّة نقلا من غيره.

و الحاصل أن كلامهم يوجد فيه ما يناسب بعض القرآن في الفصاحة و هو في مناسبته له في أسلوبه أبعد، و أمّا في

العلوم المذكورة فأشدّ بعدا.

خامسها: أنّه خلوّه من التناقض كما أشار إليه سبحانه بقوله:

______________________________

(1) الظاهر انّ المراد به هو عبد الملك بن عبد اللّه أبو المعالي الفقيه الشافعي توفي سنة (478 ه) نيسابور.

(2) هو أبو ثمامة مسيلمة بن حبيب اليمامي ادّعى النبوة قبل الهجرة و سمّى بمسيلمة الكذاب و حاربه المسلمون و قتله الوحشي سنة (13 ه).

(3) هو كمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني الفقيه الحكيم له تصانيف منها «شرح نهج البلاغة» توفى به سنة (681 ه).

(4) قسّ بن ساعدة الإيادي من معدّ بن عدنان. قيل: إنّه عمّر (700) سنة و هو أوّل من تألّه و تعبّد من العرب، و قد أدرك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سمعه و مات قبل البعثة- بلوغ الأرب ج 2 ص 244.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 247

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1». تفسير الصراط المستقيم ج 2 269

سادسها: إنّه من جهة اشتماله على الغيوب، و الإخبار عن الكائنات قبل وقوعها.

سابعها: ما يحكى عن السيّد المرتضى «2» رضى اللّه عنه، و النظّام «3» من العامّة و ربما يحكى أيضا عن الأستاذ أبي إسحاق «4» من الأشاعرة، و كثير من المعتزلة و هو الصرفة، بمعنى أنّ اللّه تعالى صرف النّاس عن معارضته.

قيل: و هذا يحتمل أمورا ثلاثة:

الأوّل: أنّه تعالى سلبهم القدرة.

الثاني: أنه سبحانه سلبهم الدّاعية و همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليه.

الثالث: أنّه سلبهم العلوم الّتي كانوا يتمكّنون بها من المعارضة، و ربما يقال: إنّ مختار السيّد هو الأخير.

ثامنها: التوقّف في ذلك كما يحكى عن سديد «5» الدّين سالم عزيزة، و ربّما

______________________________

(1) النساء: 82.

(2) هو الشريف المرتضى

على بن الحسين فقيه الشيعة في عصره، ولد في بغداد سنة (355) و توفي بها سنة (436).

(3) هو إبراهيم سيّار المتكلّم المعتزلي البصري توفّي ببغداد سنة (231) ه.

(4) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابو إسحاق الاسفرائني المتوفى (418)- الاعلام ج 1/ 59.

(5) هو سديد الدين سالم بن شمس الدين محفوظ بن عزيزة بن وشاح السوراني الحلّى كان من الفقهاء المتكلمين في القرن السابع له التبصرة و المنهاج في الكلام قرأ عليه السيّد رضى الدين على بن طاوس

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 248

يؤمي اليه كلام الوحيد «1» في «التجريد» حيث قال: و إعجاز القرآن، قيل:

لفصاحته، و قيل: لاسلوبه و فصاحته، و قيل: للصرفة، و الكلّ محتمل، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.

لكنّه لا يخفى عليك أنّ الاختلاف في ذلك غير قادح في الإعجاز الّذى اتّفق عليه جميع أهل الإسلام، بل كافّة الأنام من الخواصّ و العوامّ، حيث إنّه من الضروريّات القطعية المعلومة لجميع أهل الفرق و الأديان أنّ نبيّنا خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله قد ادّعى النبوّة العامّة الخاتميّة على فترة من الرّسل و انقطاع من الوحي، و ضلالة من الأمم، و جهالة في أهل العالم، و اندراس لجملة العلوم و الحكم، فجاءهم بهذا القرآن الهادي للّتي هي أقوم، هدى من الضلالة، و رشدا من العمى و الجهالة، و نورا من الظلمة، و ضياء عن الغياهب «2» المدلهمّة، و استبصارا لكافة الأمّة، و كشفا للغمّة، ساطعا تبيانه، قاطعا برهانه، قرأنا عربيّا غير ذي عوج، داعيا إلى خير مقصد و منهج، مصدّقا لما بين يديه من الكتب السماويّة، محتويا على أكثر ممّا اشتملت عليه من العلوم الحقّة و المعارف الإلهيّة، معجزا سائرا دائرا،

باقيا على مرّ الدهور، متجليا منه أنوار الحقائق تجلّى النور من الطّور، أفحم به من تصدّى لمعارضته من العرب العرباء، و أبكم به من تحدّى من مصاقع الخطباء الفصحاء الّذين هم كانوا أمراء الكلام، و بلغاء الأنام، فلم يظهر منهم إلّا الضعف و الفتور، مع ما كان يتلو عليهم من الآيات الحاكمة عليهم بالعجز و القصور مثل قوله تعالى:

______________________________

المتوفى (664)، طبقات أعلام الشيعة ج 3/ 71.

(1) المقصود به هو الخراجة نصير الدين الطوسي المتوفى (672).

(2) الغياهب جمع الغيهب و هي الظلمة، و المدلهمّة من ادلهمّ اللّيل اى اشتدّ سواده.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 249

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا ...

الآية «1»، و قوله تعالى: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2»، و قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «3»، و قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «4».

فعجزوا عن معارضته ببليغ الكلام حتى اختاروا الخصام بالنبال و السهام، و قصروا عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه فالتجأوا إلى قبول

جراحة السنان للقصور عن فصاحة اللّسان.

و لم يعهد من واحد منهم في ذلك الزّمان و لا في غيره من الأزمان إلى هذا الأوان معارضته بمثل أقصر سورة منه مع وقوع التحدّي و الإخبار عن عجز الجميع عن الإتيان به كما في الآيات المتقدّمة، و توفّر الدواعي على المعارضة و المناقضة، و تراكم الأسباب الدينيّة و الدنيوية على المغالبة و المنافسة.

______________________________

(1) البقرة: 23- 24.

(2) يونس: 37- 38.

(3) هود: 12- 14.

(4) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 250

و هذا غاية الإعجاز للكلام بلا فرق بين تسليم اشتماله على مراتب الفصاحة و البلاغة، و الأسرار الحكميّة و الآداب الإلهيّة و عدمه، فإنّ إعجازه على الأوّل ظاهر، و كونه خارقا للعادة معجزا لجميع البشر باهر، و كذا على الثاني أى على فرض عدم التسليم بأنّ إعجازه للفصاحة، بل للصرفة أيضا ظاهر، بل لعلّه أظهر، إذ سلب القدرة عن آحاد النّاس عمّا كانوا يقدرون عليه و استمرار ذلك السّلب في حال حياة السالب و بعدها الى أبد الدهر أعجب و أغرب من إظهار القدرة على ما لا يقدرون عليه.

ألا ترى أنّه لو ادّعى أحد النبوة و قال: إنّ معجزتي المشي على الماء، و ادّعاها آخر و قال: إنّ معجزتي سلب قدرة الناس عن المشي على الأرض لكانا مشتركين في خرق العادة، بل لعلّ الثاني أعظم قدرا و أجلّ خطرا لكونه تصرفا في الغير، سيّما مع عمومه و شموله لجميع آحاد النوع، خصوصا مع استمراره مدّة حياته و بعد وفاته.

و بالجملة كون القرآن معجزا أمر بديهيّ لا شك فيه و لا شبهة يعتريه، سيّما مع الإخبار فيه في كمال القوّة و الاطمئنان بمحضر و منظر من فصحاء آل عدنان و بلغاء

قحطان بأنّه لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» مع أنّهم قد أذعنوا له بكمال الفصاحة و البلاغة و أعظموا أمره حتّى نسبوه الى السّحر كما حكى عنهم فيه بقوله: وَ قالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «2»، و

قد ورد في تفسير قوله تعالى:

______________________________

(1) الإسراء: 88.

(2) الصّافّات: 15. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 251

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1»: إنّها نزلت في الوليد «2» بن المغيرة و كان شيخا كبيرا مجرّبا من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يجلس في الحجر و يقرأ القرآن، فاجتمعت قريش الى الوليد و قالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد صلّى اللّه عليه و آله أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال:

دعوني أسمع كلامه، فدنى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا محمّد أنشدنى من شعرك، قال صلّى اللّه عليه و آله: ما هو بشعر، و لكنّه كلام اللّه الذي ارتضاه الملائكة- و أنبياؤه و رسله، فقال: أتل عليّ منه شيئا، فقرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (حم، تنزيل) السجدة فلمّا بلغ قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ «3» فاقشعرّ الوليد و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته و مرّ الى بيته و لم يرجع الى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبى جهل و قالوا: يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبأ إلى دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أما تراه لم

يرجع إلينا، فغدا أبو جهل الى الوليد و قال له: يا عمّ نكسّت رؤسنا و فضحتنا و أشمتّ بنا عدوّنا، و صبوت إلى دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال: ما صبوت الى دينه و لكنّي سمعت كلاما صعبا تقشعرّ منه الجلود، فقال أبو جهل: أخطب هو؟ قال: لا، الخطب كلام متصل و هذا كلام منثور، و لا يشبه بعضه بعضا، قال: أ فشعر هو؟ قال: لا، أما إنّى لقد سمعت أشعار العرب بسيطها، و مديدها، و رملها، و رجزها، و ما هو بشعر، قال: فما هو؟ قال: أفكّر فيه، فلمّا كان من الغد قال له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر، فإنّه أخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه على رسوله في ذلك

______________________________

(1) المدثر: 11.

(2) الوليد بن المغيرة بن عبد الله ابو عبد الشمس المخزومي من زنادقة العرب، هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر (1 ه)- الاعلام ج 9/ 144.

(3) فصلت: 13. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 252

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1».

و إنّما سمّى وحيدا لأنّه قال لقريش: أنا أتوحّد بكسوة البيت سنة، و عليكم في جماعتكم سنة، و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له شعر عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها، فأنزل اللّه تعالى:

ذَرْنِي إلى قوله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ «2». «3»

و

في خبر آخر: أنّ الوليد قال لبني مخزوم: و اللّه لقد سمعت من محمّد صلّى اللّه عليه

و آله آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و الجنّ، إنّ له لحلاوة و إن عليه لطلاوة «4»، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق «5»، و إنّه ليعلو و لا يعلى، فقال قريش: صبأ «6» الوليد، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا، و كلّمه بما أحماه، فقام و ناداهم فقال: تزعمون أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟

و تقولون: إنّه كاهن، فهل رأيتموه يتكهّن؟ و تزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا؟ فقالوا: لا، فقال: ما هو إلّا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين المرء و أهله و ولده و مواليه؟ ففرحوا به و تفرّقوا مستعجبين منه «7».

______________________________

(1) المدثر: 11.

(2) المدثر: 11- 24.

(3) بحار الأنوار ج 9 ص 245 عن تفسير القمى ص 702.

(4) الطلاوة بتثليث الطاء: الحسن و البهجة.

(5) أغدقت الأرض: أخصبت.

(6) صبأ: أى خرج من دين الى دين آخر.

(7) بحار الأنوار ج 9 ص 167- مجمع البيان ج 5 ص 387 بتفاوت يسير.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 253

و في «مجمع البيان»: يروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن، فعكفوا على لباب البرّ، و لحوم الضأن، و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلمّا أخذوا فيما أرادوا و اسمعوا قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ «1»، فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شي ء من الكلام، و لا يشبهه كلام المخلوقين، و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا «2».

و

في «الإحتجاج» عن هشام بن الحكم «3»، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء «4»، و أبو شاكر الديصاني، و عبد الملك البصري، و ابن المقفّع «5» عند بيت اللّه الحرام يستهزءون بالحاجّ و

يطعنون على القرآن، فقال أبن أبي العوجاء: تعالوا ينقض كلّ واحد منّا ربع القرآن، و ميعادنا من قابل في هذا الموضع تجتمع فيه و قد نقضنا القرآن كلّه، فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و في إبطال نبوّته إبطال الإسلام، و إثبات ما نحن فيه، فاتّفقوا على ذلك و افترقوا، فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت اللّه الحرام.

فقال ابن أبى العوجاء: أمّا أنا فمتفكّر منذ افترقنا في هذه الآية:

______________________________

(1) هود: 44.

(2) مجمع البيان ج 3 ص 165 ط صيدا.

(3) هو هشام بن الحكم أبو محمد الشيباني بالو لاء الكوفي كان من أصحاب الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام نشأ بواسط و سكن بغداد و صنف كتبا في الكلام و في الرد على المخالفين، توفى حدود سنة (190) ه- انظر الاعلام ج 9/ 82.

(4) هو عبد الكريم بن أبى العوجاء كان من الزنادقة و كان خال معن بن زائدة الشيباني قتل حدود سنة (153) قتله محمد بن سليمان بن على العباسي الحاكم بالكوفة- الكامل لابن الأثير ج 5 ص 38.

(5) هو عبد الله بن المقفع من أكابر الكتاب ولد في العراق مجوسيا سنة (106) و أسلم على يد عيسى ابن علي عم السفاح و ولى كتابة الديوان للمنصوب العباسي، و اتهم بالزندقة فقتله أمير البصرة سفيان المهلبي سنة (142)- الاعلام ج 4/ 283. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 254

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «1» فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها و جمع معانيها فشغلتني هذه الآية عن التفكّر فيما سواها.

و قال عبد الملك: و أنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا

لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ «2» و لم أقدر بمثلها.

فقال أبو شاكر: و أنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «3» و لم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفّع: يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، و أنا منذ فارقتكم متفكّر في هذه الآية: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي «4» لم أبلغ غاية المعرفة بها، و لم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبيناهم في ذلك إذ مرّ بهم جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «5».

فنظر القوم بعضهم إلى بعض و قالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت وصيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلّا إلى جعفر بن محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و اللّه ما رأيناه قطّ إلّا هبناه

______________________________

(1) يوسف: 80.

(2) الحجّ: 73.

(3) الأنبياء: 23.

(4) هود: 44.

(5) الإسراء: 44. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 255

و اقشعرّت جلودنا لهيبته، ثمّ تفرقوا مقرّين بالعجز «1».

إن قلت: إنّ الاختلاف في تعيين الوجه في الإعجاز قادح في أصله، نظرا إلى أنّ الدعوة عامّة إلى كافّة النّاس، فلا بدّ أن تكون المعجزة عامّة واضحة بحيث يفهمها النّاس كافّة، و لا يشكّ فيها أحد منهم و إن أنكرها بلسانه، و الاختلاف في ذلك ينبئ عن اختفاء كلّ من الوجوه الظاهرة لكلّ من المختلفين عن الآخرين، حيث إنّ كلّ

واحد منهم منكر لما يثبته الآخرون من وجوه الإعجاز، و كلّ من هذه الوجوه المختلفة فيها قابل للإنكار لعدم القطع بتحقّقه، و عدم الاتفاق عليه.

بل و من هنا يظهر عدم الاتفاق على اعجاز القرآن في الجملة، لأنّ كلّا من الفرق يعلّل جهة الإعجاز بما ينكره الآخر.

فالجواب أنّه مجرّد الاختلاف في ذلك لا يقتضي الشكّ في الإعجاز بعد الاتّفاق عليه، بل لعلّ الاختلاف إنّما نشأ من فهم كلّ منهم غير ما فهمه الآخر لعجزه عن ذلك، أو لأنّه ليس من أهله، و ليست تلك الوجوه مانعة الجمع كى يمنع تحقّق كلّ منها من الآخر، بل يمكن تصويب كلّ منهم من جهة فهمه، كما لو اتّفق جماعة على إكرام زيد غير أنّ واحدا منهم يكرمه لعلمه، و آخر يكرمه لعدالته، و ثالث يكرمه لسخائه، و رابع يكرمه لشجاعته، و كلّ هذه الأوصاف ظاهرة للكلّ ظهور البعض للبعض، فلا مانع من كونه مجمعا لها، على أنّه ليس المقصود إثبات جامعيّته عند الجميع بل الاتّفاق على وجوب الإكرام و هو حاصل بتصديق كلّ فرقة منهم بصفة من تلك الصفات، و لو مع فرض التضادّ بين الجهات، كالصّرفة و غيرها لرجوعهما إلى الإثبات و النفي، فإنّ الاتّفاق على ما هو المراد دافع

______________________________

(1) الإحتجاج: 205.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 256

للإيراد، و من البيّن أنّ الجهات التعليليّة لا توجب اختلافا أو تغايرا فيما علّل بها، لأنّها علل و كواشف، و معرّفات لا يتقيّد بها المطلوب.

فان قلت: إنّ الجهات في المقام تقييديّة ترجع الى اختلاف الأحكام تبعا لاختلاف الموضوعات كما في المثال المذكور، إذ توجب الفرقة الأولى إكرام العالم، و الثانية إكرام العادل، و الثالثة إكرام السخي، و هكذا، و الاتّفاق في

مثله منتف جدّا، و لذا لم يعتبروا به في باب الإجماع أيضا.

قلت: لا ريب في أنّ المقصود في المقام إعجاز القرآن، و هو حكم خاصّ في موضع خاصّ و إن اختلفت علله إثباتا و نفيا أو جميعا و استقصاء، و هذا لا يقتضي اختلاف الموضوع، و ذلك لأنّه ليس الكلام في أنّ نوعا خاصّا خارقا للعادة من الفصاحة و البلاغة أو من البيانات المشتملة على الآداب و الحكم، أو الصرفة، أو غير ذلك معجزة أم لا، فإنّ الخارق من كلّ شي ء معجزة بشرطها، بل الكلام في إثبات إعجاز القرآن و لو بأيّ وجه كان و هذا ممّا اطبقوا عليه.

فإن قلت: مجرّد الاختلاف في ذلك ممّا يقدح في الإطباق على الإعجاز لعدم حصول الإطباق على شي ء من تلك الجهات بل لعلّه ربما يتوهّم أنّ الاتّفاق الحاصل على اعجازه إنّما وقع بمجرّد التعبّد و التقليد و الأخذ من غير دليل و لذا اختلفوا في وجهه حتى ذهبوا فيه كلّ مذهب حسبما سمعت، و هذا ممّا يقدح في الإعجاز.

قلت: نمنع من تحقّق القدح فيه بمجرّد الاختلاف، كيف و مراتب النّاس و استعداداتهم مختلفة و بحسبها تختلف أنظارهم و مقاصدهم، و من كمال المعجزة اشتمالها على جهات عديدة ظاهرة و خفيّة، و التوهم المذكور في السؤال ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه بعد وقوع التحدّى به على لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله، بل في آيات كثيرة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 257

تتلى على المصاقع الخطباء في كلّ صباح و مساء.

و كيف كان فالحقّ أنّ إعجاز القرآن ليس من جهة واحدة بل هو من جهات كثيرة و إن اختصّ ادراك بعضها بالبعض:

منها: ما سمعت من الفصاحة العجيبة و البلاغة الغريبة

الّتى أذعن لها جميع فصحاء العرب و بلغاء محافل الأدب مع كمال حرصهم و اجتهادهم على معارضته و مناقضته، حتى انّهم قد أفحموا عند سماع قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ و أبكموا من نداء قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ بل كانوا عموا عن ذلك و صمّوا و إن بذلوا جهدهم في ذلك و همّوا.

و توهّم أنّه لعلّهم قد عارضوه بما لم يصل إلينا، مدفوع بأنّه لو كان لبان، سيّما مع توفّر الدّواعى و اجتماع الهمم على نقل الأمور العجيبة و الشّئون الغريبة خصوصا في مثل هذا الأمر الذي جمعوا فيه متفرّقات ما صدر عنهم في مقام المعارضة حسبما سمعت سابقا، و لا يخفى عليك توفّر الدواعي على نقل القصائد و الخطب و الاشعار و الأمثال الفصيحة من الجاهليّة و الإسلام و قد لفّق مسيلمة الكذّاب جملة من المزخرفات و الاضحوكات قد بقيت حكايتها إلى الآن كقوله: و الزارعات زرعا، فالطاحنات طحنا، و العاجنات عجنا، و الطابخات طبخا، و قوله الآخر: الفيل، ما الفيل، و ما أدريك ما الفيل، له ذنب وثيل و خرطوم طويل.

فإن قلت: لعلّهم قد عارضوه بما قد ذهب من البين بعد ظهر شوكة الإسلام، و تبدّل المعارضة بالكلام بالمجادلة بالسيوف و السّهام.

قلت: بعد تسليم ذهابه من بين المسلمين فلا ريب في توفّر الدواعي على بقائه بين الكفّار من أهل الكتاب و غيرهم، سيّما اليهود الّذين هم أشدّ الناس

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 258

عداوة للمؤمنين، مضافا إلى ظهور وجود أهل اللّسان في كل زمان و أوان بكلّ مكان، و اتّفاق الجميع بحصول الإعجاز بحيث لم يظهر إلى الآن المعارضة من فصحاء نجد، و اليمن، و العراق، و الحجاز.

و منها:

نظمه العجيب و أسلوبه الغريب الّذي لا يشبه شيئا من أساليب الكلام للعرب العرباء، و لا صنفا من صنوف تركيبات مصاقع الخطباء، و لا فنّا من فنون توصيفات بلغاء الأدباء، بحيث تنادي كلّ جزء منه من الآيات و السور: ما يشبه نقد الكلام البشر، و لذا لمّا عجز الوليد عن معارضته، قال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ مع شيوع الفصاحة و غلبتها في ذلك الزمان، بل ربما يظهر من بعض الأخبار، و يؤيّده الاعتبار أنّ الأولى في معجزة كل نبيّ أن تكون من سنخ الصنعة الغالبة على أهل زمانه.

كما

روى في «العلل» و «العيون» و «الاحتجاج» عن ابن السكّيت «1» أنّه قال لأبى الحسن الرّضا عليه السّلام: لماذا بعث اللّه موسى بن عمران عليه السّلام بيده البيضاء و العصاء، و آلة السّحر، و بعث اللّه عيسى عليه السّلام بالطبّ، و بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالكلام و الخطب، فقال له أبو الحسن عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا بعث موسى عليه السّلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند اللّه عزّ و جلّ بما لم يكن في وسع القوم مثله و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجّة عليهم، و أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث عيسى عليه السّلام في وقت ظهرت فيه الزمانات، و احتاج الناس الى الطبّ فأتاهم من عند اللّه عزّ و جلّ بما لم يكن عندهم مثله و بما أحيى لهم الموتى، و أبرأ الأكمه

______________________________

(1) ابن السكيت: يعقوب أبو يوسف كان من أكابر اللغويّين من الاماميّة ولد في بغداد سنة (186 ه) أدرك الامام الرّضا عليه السّلام و استفاد منه في أبان شبابه،

و اتصل بالمتوكل العبّاسى و جعله المتوكّل من ندمائه ثمّ قتله لتشيّعه سنة (244 ه)- الاعلام ج 9 ص 255. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 259

و الأبرص بإذن اللّه، و اثبت به الحجّة عليهم، و إنّ اللّه تبارك و تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله في وقت كان الأغلب على عصره الخطب و الكلام- و أظنّه قال:

و الشعر، فأتاهم من كتاب اللّه و مواعظه و أحكامه بما أبطل به قولهم و أثبت الحجّة عليهم.

فقال ابن السكيت: تاللّه ما رأيت مثل اليوم قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال عليه السّلام: العقل تعرف به الصادق على اللّه فتصدّقه، و الكاذب على اللّه فتكذّبه، فقال ابن السكّيت: هذا و اللّه الجواب «1».

و بالجملة غرابة الأسلوب ممّا أذعن به الجميع، و لذا حكى في بعض التفاسير عن أبي عبيدة «2»: أنّ أعرابيّا سمع قول اللّه تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فخرّ ساجدا في الحال، فقيل له: أسجدت للّه تعالى و آمنت به؟ فقال: لا بل سجدت لفصاحة هذا الكلام.

ثمّ إنّ الأولى عدّ هذين الوجهين سببا واحدا للعلم بالإعجاز، و لذا تعرّضنا لما يتعلّق بكلّ منهما في الآخر.

و أمّا ما يحكى عن القائلين بالصرفة في إبطال القول بالفصاحة من أنّ الإعجاز لو كان مستندا إليها لكان إمّا من حيث ألفاظه المفردة أو من حيث الهيئة التركيبيّة، أو منهما معا، و الأقسام الثلاثة بأسرها باطلة، فاعجازه بسبب الفصاحة باطل، فيكون للصرفة، إذ ما عداها من الأقوال ضعيفة، و إنّما قلنا إنّ الأقسام باطلة لأنّ العرب كانوا قادرين على المفردات و على التراكيب، و من

______________________________

(1) أصول الكافي ج 1 ص 24- بحار الأنوار ج 17

ص 120.

(2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنّى اللّغوى البصري ولد سنة (106 ه) و توفّى سنة (203 ه)- الاعلام ج 8 ص 198.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 260

كان قادرا عليهما منفردين يكون قادرا عليهما معا، فثبت من ذلك أنّ العرب كانوا قادرين على المعارضة و إنّما منعوا منها، ليكون المنع هو العجز.

ففيه أوّلا أنّ فساد الأقسام لا يقضى بتعيين القول بالصرفة لأنّ بطلان غيرها ليس ببيّن و لا مبيّن، بل الحقّ صحتها أيضا في الجملة حسبما يفصّل الكلام فيها، سيّما اشتماله على الاخبار بالمغيبات و غيرها ممّا يأتي.

و ثانيا إنّ ما ذكره من قدرة العرب على المفردات و على التراكيب. إن كان المراد قدرتهم جميعا أو بعضهم على جميع أفراد النوعين حتّى الكلام البليغ الفصيح الذي هو في نهاية الفصاحة و البلاغة فتطرّق المنع اليه، واضح جدّا، كيف و من البيّن أنّه أوّل الكلام، بل الضرورة قاضية بأنّ الطائفة المشتركين في لغة واحدة من اللّغات ليسوا بمتساويين في الاقتدار على المفردات الفصيحة و مركّباتها و لا على أداء الكلام مطابقا لمقتضى الحال على نحو واحد، فضلا من أن يشركوا في القدرة على المرتبة العليا الّتي يعجز عنها القوى البشريّة.

و إن كان المراد قدرتهم على معرفة اللّغات العربيّة و تركيبها في الجملة، فمع تسليمه لا يجدي، ضرورة أنّ مجرّد معرفة اللّغات لا يستلزم القدرة على التعبير عن المعاني بالألفاظ الجامعة لوصفى الفصاحة و البلاغة، و بالجملة فالفرق واضح بين العلم باللّغات و الألفاظ المفردة و كيفيّة التركيب و بين ملكة إنشاء الكلام جامعا للوصفين. هذا.

مضافا إلى أنّ القائل بالصرفة إن أراد سلب الداعية فمن البيّن نحقّقها، سيّما بالنّسبة إلى الّذين شمّروا عن ساق الجّد للمعارضة.

و إن أراد سلب العلم أو القدرة فمن المفروض تسليم القائل بالصرفة قدرتهم المستلزمة للعلم أيضا.

أللهمّ إلّا أن يقال: إنّ ما هو المسلّم في كلامه إنّما هو القدرة لا عند

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 261

المعارضة، و أمّا عندها فهي أو العلم مسلوبة.

و الحاصل أنّه مع عدم إرادة المعارضة فالمنتفى هو الدّاعى، و مع ارادتها فأحد الأمرين فالصرفة متحقّقة دائما بأحد المعاني الثلاثة على سبيل منع الخلوّ، و على هذا فكأنّه يعود النزاع لفظيّا على بعض الوجوه فتأمّل جيّدا.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ للقول بالصرفة بأنّ الصّحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقّفون في بعض السور و الآيات حتى تتحقّق شهادة الثقات بل حكى عن ابن مسعود أنّه بقي متردّدا في الفاتحة و المعوذتين، بل المحكىّ عنه عدم عدّ المعوذّتين من القرآن، و لو كان الإعجاز للفصاحة أو للأسلوب لكان يفهمه كلّ أحد.

و يمكن الجواب مع الغضّ عن إمكان عدم فهم البعض للفصاحة بحيث صار سببا للاختلاف، و لذا نشأ القول بالصّرفة و نحوها، بأنّ مجرّد مثل تلك الفصاحة لا يستلزم القرآنية، فإنّها أعمّ مطلقا، و هو لا يستلزم الأخصّ، و لذا لا يصدق حدّ القرآن على أدعية الصحيفة السجادية و خطب «نهج البلاغة» و غيرهما، و إن قلنا بعجز الآخرين عن الإتيان بمثلها، بل و كذا الأحاديث القدسيّة فآيات التوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها ممّا نزلت من عنده سبحانه لا للاعجاز و التعدّى بها، و ان كان العجز حاصلا معها، فليس مجرّد حصول العجز من الأعراض الخاصّة القرآن، و لا من مقوّماته الذاتيّة.

و من هنا يظهر فساد إنكار غير الصرفة من وجوه الإعجاز، نعم ربّما احتجّ القائلون بالفصاحة على فساد القول بالصرفة بوجوه:

أحدها أنّ الإعجاز

لو كان للصرفة لكانوا قادرين على الإتيان بمثله قبل الصرفة، فاذا وجدت الصرفة و حصل المنع وجب أن يجدوا ذلك من أنفسهم

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 262

ضرورة، لأنّا نعلم بالضرورة أنّ من كان له قدرة أو قدرة على شي ء ثمّ سلبا عنه يجد ذلك من نفسه، و لو وجد و أسلب القدرة و العلم من أنفسهم لتحدّثوا به في مجالسهم، و لو تحدّثوا به لاشتهر و ذاع، و تواتر و شاع، لأنّه من الأمور العجيبة الّتى تتوفّر الدواعي على نقلها و كلّ هذه المقدّمات ضروريّة، و لمّا لم يقع شي ء من ذلك فكان القول بالصرفة باطلا.

ثانيها: أنّه لو كان الإعجاز بسبب الصرفة لوجب أن يكون القرآن في غاية الركاكة، و اللازم باطل فالملزوم مثله، بيان الملازمة أنّ منعهم عن معارضته على تقدير ركاكته أبلغ في الإعجاز ممّا لو كان بالغا في الفصاحة و هو ضروري، و أمّا بطلان اللازم فظاهر فيبطل الملزوم و هو المطلوب.

ثالثها أن حصول الصّرفة على فرضه إنّما هو بعد النبوة و تحقّق التحدّى، و أما قبله فلا صارف لهم عن الإتيان بمثله، و العادة تقضى بصدور مثله عنهم قبل ذلك، فلو كان الوجه هو الصرفة لكان لهم أن يعارضوه بعد التحدّى بما صدر عنهم قبله.

أقول: و يمكن الجواب عن الأوّل بأنّه لعلّهم كانوا يجدون ذلك من أنفسهم و يؤيّده أنّ من كان بصدد المعارضة مثل ابن أبي العوجاء، و غيره كانوا يزعمون أوّلا قدرتهم على ذلك، ثم ظهر لهم عجزهم، أو تنصرف عن ذلك هممهم، و لهذا هو الصرفة عندهم على ما سمعت، و لعلّهم يريدون بها الصرفة الدائمة على أحد الوجوه لا على وجه التبدّل و حينئذ فتبطل الملازمة.

و

عن الثاني بالمنع عن الاستلزام لمطلوبيّة الفصاحة نفسها، مع انّ الركاكة في نفسها مانعة، و الإعجاز يجب أن يكون على الوجه الأبلغ، سلّمنا لكنّ الأبلغ هو الاشتمال على وجوه الإعجاز.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 263

و عن الثالث بأنّ القائل بالصرفة لعلّه يلتزم بالمنع عن صدور مثله عنهم قبله أيضا لذلك أو عن المعارضة به على فرض الصدور، هذا.

لكنّه لا يخفى عليك أنّ القول بالصرفة بمكان من القصور لما مرّ و يأتى من الوجوه الّتى فيها الإعجاز من جهات شتّى.

و منها اشتماله على العلوم الحقيقيّة و المعارف الإلهيّة و أصول الحقائق و كشف الأسرار و الدقائق بألفاظ فائقة رائعة مهذبّة مختصرة في غاية الإيجاز، و نهاية الاختصار، بل لا يخفى على من له خوض في العلوم العالية و الحكمة المتعالية أنّ المقاصد الّتى أفنت الحكماء الفلاسفة الّذين هم قدوة أرباب العقول أعمارهم فيها، و لم يصلوا بعد الرياضات الشديدة و المشاقّ الكثيرة إليها ربما أشرقت لوامع أنوارها من أفق بعض الآيات أو الكلمات على أفئدة بعض أرباب القلوب، بل ربما ينفتح بالتأمّل في كثير من الآيات أبواب العلم بالغيوب، بل لعلّك ترى كثيرا من المسائل الّتى صنّفوا فيها الكتب و الرّسائل، و أكثروا فيها من ذكر الوجوه و الدلائل ربّما يمرّ عليك بأوضح تعبير و أيسر بيان في بعض آيات القرآن، بل ليس بشي ء من الحقائق و الأسرار إلّا و لها أصل في كتاب اللّه ساطع الأنوار، و إن احتجبت بعض القلوب بغشاوة الأستار و ظلمة الأكدار، مع كونه صلّى اللّه عليه و آله قد نشأ في بلد لم يكن فيه عالم و لا حكيم، و لم يعهد من حاله أنه تلمذ على أحد أو سافر

في صقع من الأصقاع لذلك.

و منها اشتماله على قصص الأنبياء السالفين و أحوال المتمّردة الماضين و جزئيّات أحوالهم و أقوالهم و ما جرى عليهم مع عدم قراءته صلّى اللّه عليه و آله لشي ء من كتبهم، و لا ملاقاته لأحد من علمائهم، حتّى أنّ علماء اليهود و أحبار النصارى لم يقدروا على الإنكار عليه في شي ء ممّا أخبر به عن الماضين، مع غاية حرصهم على ذلك و اجتهادهم فيه، و لذا قيل:

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 264 لم يقترن بزمان و هو يخبرناعن القرون و عن عاد و عن إرم

و قد قال أيضا: من وجوه الإعجاز اشتماله على الآداب القويمة و الشرائع المستقيمة، و مكارم الأخلاق، و محاسن الصّفات ممّا فيه نظم إصلاح أحوال العباد و نظم سياسة البلاد، بحيث لو تأمّل فيه العالم البصير لعلم أنّه ليس إلّا تنزيلا من عليم خبير، و من العوارض النفسانية لكثير من النّاس عند قراءته و استماعه من المصيبة و الخوف و الخشية، و الشوق و الرقّة و التوجّه الى المبدء، و التذكّر لأمور الآخرة، و دفع الحيرة، و انكشاف العلوم الغيبيّة و المعارف الربانيّة، و غير ذلك من الأطوار العجيبة و الأحوال الغريبة المختصّة به دون غيره من الكلمات و الخطب و الأشعار و غيرها، و إن اختلفت تلك الأحوال باختلاف الأشخاص و الأزمان و غيرها.

و منها الاستخارات المجرّبة الّتى كأنّها بقيّة من الوحي الإلهى و الإلهام حتّى انّه ربما يستفاد مقصد المستخير و جوابه و عاقبته من الآية تصريحا أو تلويحا، بل كثيرا ما اتّفق لهذا العبد المسكين، و غيري من المسلمين الإخبار عن مقصد المستخير بمجرّد التأمّل في الآية، من دون علم سابق به، و

ممّا يئول الأمر إليه في العاقبة، و هذا واضح لمن جرّب ذلك.

و منها اشتمال سوره و آياته و كلماته و حروفه على الأسرار العجيبة و الخواصّ الغريبة من شفاء الأمراض و الاعراض، و دفع العافات و العاهات و البليّات، و استجلاب الخيرات، و أداء الديون و الغرامات، و غير ذلك ممّا سنشير الى جماعة منها في الباب الرابع عشر.

و منها انطباق كثير من الأسئلة و الأجوبة الواقعة فيه على القواعد الجفريّة التي هي من قواعد علم التكسير الّتى لم يطّلع عليها الّا الاوحديّ من الناس، بل هو من علوم الأنبياء و الأوصياء و خواصّ الأولياء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 265

و لذا ترى أنّك إذا علمت في قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ «1» بالقواعد التكسيريّة يخرج الجواب: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «2».

و كذا إذا سألت بهذه العبارة: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ يخرج الجواب: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «3»، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على أهله.

و منها اشتماله على الإخبار من الأمور الغائبة عن الحواسّ من الحوادث الكائنة و الوقايع المستقبلة، و خطرات قلوب المنافقين، و مستجنات صدورهم و غير ذلك، و هي بكثرتها و إن اشتركت في إفادة الإعجاز، لكنّها تنقسم إلى نوعين:

الأوّل أنّه سبحانه أخبر في كثير من الآيات من أحوال المنافقين و الكفّار، و أقوالهم و أسرارهم و تناجيهم و خطرات قلوبهم ما يطلع عليها غيرهم، حتى إنّهم بعد الإخبار ربما صدّقوا به و لم يسع لهم إنكاره، و هذا النوع كثير في القرآن:

مثل ما أخبر عنه من أنّهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «4».

و قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا

الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ «5» أى أ تحدّثونهم بما بيّنه اللّه لكم في كتابكم من العلم ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و البشارة به.

______________________________

(1) يس: 78.

(2) يس: 79.

(3) زخرف: 9.

(4) البقرة: 14.

(5) البقرة: 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 266

و مثل ما أخبر عمّا وقع عن بعضهم من ملامسة النساء بقوله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1».

و مثل ما روى أنّه تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر، و قرى عرينة «2» و قال بعضهم لبعض: أدخلوا في دين محمّد أوّل النهار باللّسان دون الإعتقاد و اكفروا به آخر النّهار، و قولوا: إنّا نظرنا في كتبنا و شاورنا علماءنا فوجدنا محمّدا ليس بذلك و ظهر لنا كذبه في بطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينه، و قالوا: إنّهم أهل الكتاب، و هم أعلم به منّا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فنزلت: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3». «4» و ما روى من أنّهم كانوا ينالون «5» من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره به جبرئيل، فقال بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم كيلا يسمع إله محمّد صلّى اللّه عليه و آله فنزلت: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «6». «7» و مثل ما أخبر عن بعضهم بقوله: وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما

يُبَيِّتُونَ «8».

______________________________

(1) البقرة: 187.

(2) عرينة (بضم العين المهملة): موضع ببلاد فزارة، و قيل: قرى بالمدينة- معجم البلدان ج 4 ص 115.

(3) آل عمران: 72.

(4) مجمع البيان ج 2 ص 115.

(5) نال منه: وقع فيه و شتمه و عابه.

(6) الملك: 14.

(7) مجمع البيان ج 2 ص 115.

(8) النساء: 81.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 267

و أخبر عن أصحاب العقبة أو غيرهم من المنافقين بقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ «1»، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة المشتملة على هذا النوع.

الثاني أنّه سبحانه أخبر فيه عن كثير من الأمور المستقبلة التي لا يمكن الاطلاع عليها إلّا من طرق الوحي و الإلهام مع مطابقة الجميع لما وقع بعد الإخبار كالإخبار بذلّة اليهود و عدم انتقال الملك و السلطنة إليهم الى آخر الدهر، و قد تحقّق صدقه لتفرّقهم و ذلّتهم في البلاد و ضرب الجزية عليهم و الاستخفاف بهم حتى ضربت بهم الأمثال كما أخبر اللّه تعالى عن ذلك بقوله: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «2».

و قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ «3».

و الإخبار عن غلبته على الكفّار مع فقد ما يدلّ على ذلك من الأمارات و الآثار سيّما مع قلّة الأنصار، و انتشار الكفّار في أطراف الأرض و بسيطها غاية

الانتشار. و مع ذلك فقد أخبر بغلبة المسلمين عليهم على وجه الحتم و الجزم بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ «4».

______________________________

(1) التوبة: 64- 65.

(2) الأعراف: 167.

(3) آل عمران: 112.

(4) آل عمران: 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 268

حيث إنّها نزلت في مشركي مكّة يوم بدر مع ظهور أمارات الغلبة من العدّة و العدّة للمشركين، أو في اليهود حين استشعروا الضعف من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم أحد فنقضوا العهد.

و الاخيار عن انهزام الكفّار يوم بدر بقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1».

و عن غلبة الروم على فارس بقوله سبحانه الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ... «2».

و ذلك أنه غلبت فارس الروم، و ظهرت عليهم على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و فرحت بذلك كفّار قريش، من حيث إنّ فارس لم يكونوا أهل كتاب مع أنّ كسرى خرق كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهان رسوله، و قيصر كان من النصارى، و قد كان أكرم و قبل كتابه، و كان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين، فدفعهم فارس منه، فساء ذلك المسلمين فكان المشركون بمكة يجادلون المسلمين، و يقولون: إنّ أهل الروم أهل كتاب و قد غلبهم الفرس، و أنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذى أنزل إليكم على نبيّكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فنزلت الآية.

بل

ورد أنّ أبا بكر ناحب «3» بعض المشركين

قبل أن يحرم القمار على شي ء

______________________________

(1) القمر: 45.

(2) الروم: 4.

(3) ناحب مناحبة فلانا على كذا: راهنه، و الذي راهنه أبو بكر هو أبي بن خلف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 269

إن لم تغلب فارس في سبع سنين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم فعلت؟ فكلّ ما دون العشر بضع، فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين، ثمّ أظهر اللّه الروم على فارس زمن الحديبيّة، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب «1».

و كالإخبار بأنّ المتخلّفين عن غزوة تبوك لا يقاتلون بعد ذلك معه أبدا، حيث أنزل اللّه سبحانه: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «2» فكان كذلك.

و أنّ أبا لهب و غيره من أهل النار، لعدم ايمانهم به صلّى اللّه عليه و آله أبدا، فكان كذلك كما قد أخبر عنه بقوله في أبي لهب: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ و في امرأته:

وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ «3».

و في غيرهما من المنافقين: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «4».

و أنّ المشركين الذين كانوا بصدد معارضة القرآن لا يقدرون على ذلك أبدا، حيث عنى ذلك بقوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «5».

و قوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا «6»، و فيه الإعجاز من وجهين فلا تغفل.

______________________________

(1) مجمع البيان ج 5 ص 8 مع تفاوت يسير في الألفاظ.

(2) التوبة: 83.

(3) المسد: 3- 4.

(4) البقرة: 6.

(5) الإسراء: 88.

(6) البقرة: 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 270

تفسير الصراط المستقيم ج 2 299

و أنّ العداوة و البغضاء قائمة بين اليهود و النصارى كما قال سبحانه:

وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى

يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1»، أى الحرب للمسلمين.

و

روى أنّه لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة، و وعد أمّته ملك فارس و الرّوم قالت المنافقون و اليهود، هيهات من أين لمحمّد ملك فارس و الروم، ألم يكفه المدينة و مكّة حتى طمع في الروم و فارس؟! فنزل قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ الآية «2».

و

يقال: إنّها نزلت يوم حفر الخندق حين ظهرت صخرة مروة «3» بيضاء كسرت معاولهم إلى أن أرسلوا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بذلك- فهبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع سلمان الخندق، و أخذ المعول من يد سلمان فضربها به ضربة صدعها «4»، و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتّى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكبيرة، و كبّر المسلمون، ثمّ ضربها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثانية فكسرها، و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتّى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تكبيرة فتح، و كبّر المسلمون، ثمّ ضربها صلّى اللّه عليه و آله ثالثة فأضاء كذلك، و كبّروا جميعا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ضربت ضربتي الاولى فبرق الّذى رأيتم، أضائت لي منها قصور الحيرة، و مدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب.

فأخبرنى جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، و أضائت في الضربة الثانية قصور الحمير من أرض الروم، و أخبرنى جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، و أضائت في

______________________________

(1) المائدة: 64.

(2) آل عمران: 26.

(3) المروة: واحدة المرو حجارة صلبة

تعرف بالصّوان.

(4) صدع الشي ء: شقّه و لم يفترق. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 271

الثالثة قصور صنعاء و أخبر جبرئيل ظهور أمّتي عليها فأبشروا، فاستبشر المسلمون، و قالوا: الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون، يمنّيكم و يعدكم الباطل، و يخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيوة و مدائن كسرى، و أنّها تفتح لكم، و أنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق، و لا تستطيعون أن تبرزوا؟! فنزل قوله سبحانه: وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «1».

و أنزل اللّه في هذه القصّة: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «2».

و كالإخبار بعود النبي صلّى اللّه عليه و آله الى مكّة بعد هجرته عنها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «3».

و المراد بالمعاد مكّة المكرّمة شرّفها اللّه لعوده إليها، و ليس في الآية كما ترى شرط و لا استثناء.

و كوعده بملاقاة إحدى الطائفتين: إمّا عير «4» قريش و صاحبها أبو سفيان، و إمّا النفير، و هو جيشها، فقال سبحانه: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ يعنى امّا العير و إمّا النفير، وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «5»، و هو العير، و صاحبها أبو سفيان و يريد اللّه أن يحقّ بكلماته بإعزاز الإسلام و إهلاك وجوه قريش على أيديكم فكان كما أراد سبحانه.

______________________________

(1) الأنفال: 49.

(2) آل عمران: 26.

(3) قصص: 85.

(4) العير: القافلة.

(5) الأنفال: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 272

و الإخبار بظهور دعوته و الغلبة على سائر الأديان بقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «1»، و

قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «2».

و الإخبار بدخول المسجد الحرام مع الأمن و الحلق و التقصير، فكان كما أخبر عنه بقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ «3».

و التعليق بالمشيّة للتيمّن و التبرّك و الامتثال.

و الإخبار عن مواعدة عبد اللّه «4» بن أبيّ و أصحابه لبني النضير، و عدم الرفاء بوعده لهم بقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ «5».

و الإخبار عن غلبة أصحابه المؤمنين و استخلافهم في الأرض بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...

______________________________

(1) التوبة: 32.

(2) التوبة: 33.

(3) الفتح: 27.

(4) هو عبد الله بن أبي بن مالك المشهور بابن سلول الخزاعي المدني رأس المنافقين في الإسلام أظهر الإسلام بعد قصة بدر تقاة، مات سنة (9 ه)، الاعلام ج 4 ص 188.

(5) الحشر: 11- 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 273

وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «1».

و الإخبار عن قصّة طلحة بن أبيرق و مكر المنافقين بقوله تعالى:

و الإخبار عن كذب المنافقين و قولهم بقوله سبحانه: لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «2»، و قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا

بِما لَمْ يَنالُوا «3». و قوله سبحانه: وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «4».

و الإخبار عن انشقاق القمر بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «5».

و هذا و إن كان بعد الوقوع إلّا أنّها قد تضّمنت معجزة اخرى و هي الإنشقاق لا سبيل الى إنكاره بعد بقاء الإخبار به عن زمان الدعوة.

و الإخبار عمّا تكتمه اليهود من أحكام التوراة كما قال سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ «6» الى غير ذلك من الآيات الّتى تسمع تمام الكلام فيها في مواضعها من هذا التفسير إنشاء اللّه تعالى.

و يعدّ أيضا من وجوه الإعجاز أنّه على كمال فصاحته الّتى لا يدانيه فيها غيره قد اشتمل على أمور منافية للفصاحة في غيره كملازمة الصّدق و التجنّب

______________________________

(1) النور: 55.

(2) التوبة: 94.

(3) التوبة: 74.

(4) التوبة: 107.

(5) القمر: 1.

(6) المائدة: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 274

عن الكذب و الإغراق في جميع القرآن، فإنّ كلّ شاعر ترك الكذب و لازم الصدق ترك شعره، و لذا قيل: إنّ حسّان «1» بن ثابت و لبيد «2» بن ربيعة لمّا أسلما ترك شعرهما الإسلامى، إذ لم يكن كشعرهما الجاهلى.

الفرق بين القرآن و الحديث القدسي

و أمّا الفرق بين القرآن و الحديث القدسي فقد فرّق العلماء بينهما بوجوه:

الأوّل أنّ القرآن يختصّ سماعه من الروح الأمين، و لكن الحديث القدسي قد يكون إلهاما و نفثا في الروع و نحو ذلك.

الثاني أن القرآن مسموع بعبارة بعينها بخلاف الحديث القدسي.

الثالث أنّ القرآن مشتمل على الإعجاز بخلاف الحديث القدسي.

الرّابع أنّ القرآن مقطوع الصدور، بخلاف الحديث القدسي فإنّه كسائر الأحاديث في ظنّية صدورها.

______________________________

(1)

حسّان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصارى أبو الوليد الصحابي الشاعر المدني أحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهليّة و الإسلام عاش (60) سنة في الجاهليّة و (60) سنة في الإسلام. مات سنة (54 ه)- الاعلام ج 2 ص 188.

(2) لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري أحد الشعراء الفرسان في الجاهليّة، أدرك الإسلام و يعدّ من الصحابة، قيل: إنّه ترك الشعر بعد إسلامه و لم يقل إلّا بيتا واحدا و هو: ما عاتب المرء الكريم كنفسه و المرء يصلحه الجليس الصّالح

و هو أحد أصحاب المعلّقات، عاش عمرا طويلا و سكن الكوفة، توفي سنة (41 ه)، الاعلام ج 6 ص 104.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 275

الباب الحادي عشر

اشارة

في بيان نزول القرآن على سبعة أحرف و في هذا الباب يذكر أيضا منشأ اختلاف القراءات، و هل هي متواترة أم لا و نبذ من أحوال القراء

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 277

و فيه فصول:

الفصل الأوّل

في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف قد تظافرت الأخبار من العامّة في أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، بل في بعضها أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لم ينه أحدا عن الاختلاف في قراءة القرآن، و أنّه قرّرهم عليه بل صرّح بجوازه،

ففي «صحيح البخاري» «1» عن ابن عبّاس انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: أقرأنى جبرائيل على حرف فراجعته فزادني، فلم أزل أستزيده و يزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف «2».

عن «جامع الأصول» «3» عن البخاري، و مسلم «4»، و مالك «5»،

______________________________

(1) البخاري محمد بن إسماعيل الجعفي الحافظ المحدث المورّخ، ولد في بخارى سنة (194 ه) و توفّي في خرتنك سمرقند سنة (256).

(2) صحيح البخاري باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ج 6 ص 100 ح 3991 و أخرجه مسلم في الصحيح ج 1 ص 561.

(3) جامع الأصول لأحاديث الرسول لابن الأثير أبى السعادات المبارك المتوفى (606) بالموصل.

(4) مسلم بن الحجّاج النيسابوري الحافظ المحدّث المتوفى سنة (261).

(5) مالك بن انس الأصبحي المدني ولد بالمدينة سنة (93) و توفى سنة (179). تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 278

و أبي داود «1» و النسائي «2»، بأسانيدهم، عن عمر بن الخطّاب قال: سمعت هشام «3» بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستمعت لقرائته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكدت أساوره

«4» في الصلاة، فتربّصت حتّى سلّم فلبّبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة الّتى سمعتك تقرأها؟ قال: أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: كذبت، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت: إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

كذلك أنزلت، ثمّ قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة الّتى أقرأنيها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: كذلك أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه «5».

قال في «جامع الأصول» أخرجه الجماعة

، و قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

و

روى مسلم، و التّرمذي «6»، و أبو داود، و النسائي في صحاحهم، جميعا عن أبيّ «7» بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجل و صلّى، فقرأ قراءة

______________________________

(1) أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني المحدث المتوفى بالبصرة سنة (275).

(2) النسائي احمد بن على بن شعيب المحدّث الحافظ المتوفى سنة (303).

(3) هشام بن حكيم حزام بن خويلد، صحابى ابن صحابى أسلم يوم فتح مكّة توفى بعد سنة (15)- الاعلام ج 9 ص 83.

(4) ساور فلانا: واثبه أو وثب عليه.

(5) أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من الصحيح: ج 5 ص 73 كتاب الخصومات الحديث (2419) و في ج 9 ص 23 كتاب فضائل القرآن الحديث (4992) و (5041)- و أخرجه مسلم في الصحيح ج 1 ص 561 و في مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 24.

(6) الترمذي محمد بن عيسى المحدّث ولد سنة (209) و توفّى سنة (279).

(7) أبيّ بن كعب بن قيس الخزرجي المدني

أبو المنذر، صحابي كان قبل الإسلام من أحبار اليهود، يكتب تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 279

أنكرتها، ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلمّا قضيت الصلاة دخلنا جميعا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فأمرهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقرأ، فحسّن شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، و لا إذ كنت في الجاهليّة- فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقا كأنما أنظر إلى اللّه فرقا، فقال لي: يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوّن على أمّتى، فردّ إليّ في الثانية أن أقرأ القرآن على حرفين، فرددت إليه أن هوّن على أمّتي، فردّ إليّ في الثالثة أن اقرأه على سبعة أحرف، و لك بكلّ ردّة رددتها مسألة تسألنيها، فقلت: أللهمّ اغفر لامّتي، اللّهمّ اغفر لامّتى و أخّرت الثالثة ليوم يرغب فيه إليّ الخلق كلّهم حتّى إبراهيم عليه السّلام «1»

و

في النبوىّ المرويّ من طرقهم: «الكتب تنزل من السّماء من باب واحد، و إنّ القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف» «2».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتى لا داعي للتعرّض لها، و

في بعضها: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقى جبرائيل، فقال: يا جبرائيل إنّى بعثت إلى أمّة أمّيين، منهم العجوز و الشيخ الكبير، و الغلام، و الجارية، و الرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، فقال

______________________________

و يقرأ، توفّى بالمدينة سنة (21)- الاعلام ج 1 ص 78.

(1) صحيح مسلم ج 1 ص 561 كتاب صلاة المسافرين و قصرها و

أخرجه احمد بن حنبل في مسنده ج 5 ص 127، و أخرجه الطبري عن أبى كريب بطرق اخرى باختلاف يسير أيضا و أخرجه الزركشي عن صحيح مسلم في البرهان ج 1 ص 302.

(2)

جامع البيان للطبري ج 1 ص 23 و فيه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: كان الكتاب الأوّل نزل من باب واحد، و على حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب و على سبعة أحرف: زجر، و أمر، و حلال، و حرام، و محكم، و متشابه- و أمثال-. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 280

لي: يا محمّد إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» «1».

و ورد في بعض أخبارنا أيضا مثل ذلك:

ففي «الخصال» عن عيسى بن «2» عبد اللّه الهاشمي عن أبيه، عن آباءه قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتانى آت من اللّه فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: يا ربّ وسّع على أمّتي، فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف «3».

و

فيه أيضا عن الصّادق عليه السّلام حين قال له حمّاد بن عثمان: إنّ الأحاديث تختلف عنكم، قال: فقال عليه السّلام: «إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، و أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه، ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب «4». «5»

لكنّه لا يخفى عليك أنّ هذه الأخبار لضعف سندها، و قصور دلالتها و موافقتها للأخبار العاميّة المتقدّمة، بل جملة منها بعينها مرويّة عن طرقهم،

______________________________

(1) تفسير الطبري ج 1 ص 12 مع تفاوت يسير- و سنن الترمذي ج 5 ص 194.

(2) مشترك بين رجلين: أحدهما عيسى بن عبد اللّه بن على بن عمر بن على

بن الحسين بن على بن أبي طالب عليهم السّلام.

و الثاني عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن على بن أبي طالب عليه السّلام و على أيّ حال لا يحكم بوثاقته، مضافا الى أنّ الراوي عنه كما في الخصال أحمد بن هلال أبو جعفر العبرتايى المتوفّى (267) و هو على ما في كتب الرجال كان غاليا متّهما في دينه. انظر معجم رجال الحديث ج 2 ص 355، و ج 13 ص 202.

(3) الخصال ج 2 ص 358 باب السبعة ح 34.

(4) سورة ص: 39.

(5) الخصال ج 2 ص 358 باب السبعة ح 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 281

و مخالفتها لما يأتى ممّا هو أقوى سندا و أوضح دلالة لا تنهض حجّة لا ثبات نزوله على الوجوه السبعة بحسب المادّة، أو الهيئة، أو اللّغة، حسبما يأتى إليها الاشارة.

و لذا قال الطبرسي في «مجمع البيان»: إنّ الشائع في أخبار الإمامية أنّ القرآن نزل بحرف واحد، ثمّ نسب الى العامّة نزوله على سبعة أحرف «1».

و قال الشهيد في «المسالك» في باب المهر: إنّه قد ورد في أخبارنا أنّ السبعة ليست هي القراآت، بل أنواع التركيب من الأمر، و النهى، و القصص، و غيرها «2».

أقول: بل ورد في أخبارنا أنّه على حرف واحد:

ففي «الكافي» في الصحيح، عن الفضيل «3» بن يسار، قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال عليه السّلام: كذبوا أعداء اللّه، و لكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد «4».

و

في الصحيح عن زرارة، عن أبى جعفر عليه السّلام قال: إنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد، و لكنّ الاختلاف يجي ء من قبل الرّواة «5».

______________________________

(1) مجمع

البيان ج 1 ص 25، و فيه: و ما

روته العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف»

اختلف في تأويله ...

(2)

بحار الأنوار ج 93 ص 4 و ص 97 عن أمير المؤمنين عليه السّلام: انزل القرآن على سبعة أقسام: أمر، و زجر، ... و قصص.

(3) الفضيل بن يسار أبو القاسم النهدي البصري روى عن ابى جعفر و ابى عبد اللّه عليهما السلام و توفّى في حياة الصادق عليه السّلام، وثّقه النجاشي و الشيخ- معجم رجال الحديث ج 13 ص 335.

(4) الأصول من الكافي ج 2 ص 630 ح 13.

(5) الأصول من الكافي ج 2 ص 630 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 282

و

عن معلّى بن خنيس، قال: كنّا عند أبى عبد اللّه عليه السّلام.

فقال عليه السّلام: إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ، فقال ربيعة «1»:

ضالّ؟ فقال عليه السّلام: نعم ضالّ، ثمّ قال عليه السّلام: أمّا نحن فنقرأ على قراءة أبي «2».

أراد قراءة أبيه عليه السّلام، و الجمع له تفخيما أوله و لأصحابه.

و يمكن أن يراد قراءة أبيّ بن كعب لمطابقة قراءته لقرائتهم، إلّا أنّها اليوم غير مضبوطة عندنا، إذ لم تصل إلينا قراءته في جميع ألفاظ القرآن، و إسناد القراءة إليه لعلّه للتقيّة عن ربيعة الرأى الّذى هو من رؤس ذوات الأذناب، سيّما بعد الحكم بضلالة ابن مسعود على فرض المخالفة، حيث إنّه قد اشتهر عنه أنّ الفاتحة ليست من القرآن، بل المعوذّتان أيضا ليستامنه.

بل عن بعض علماء العامّة أيضا إنكار نزول القرآن على سبعة أحرف، كما حكي عن جار اللّه الزمخشري أنّه أنكر تواتر السبع، و قال: إنّ القراءة الصحيحة الّتى

قرأ بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما هي في ضمنها، و إنّما هي واحدة، و انّ المصلّى لا تبرأ ذمّته من الصلاة إلّا إذا قرأ بما فيه الاختلاف على كلّ الوجوه، كمالك، و ملك، و صراط و سراط، و غير ذلك، انتهى «3».

و على كلّ حال فقد ذكر لنزول القرآن على سبعة أحرف وجوه «4»:

______________________________

(1) هو ربيعة بن فرّوخ أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأى من فقهاء العامّة توفّى سنة (136 ه)- الاعلام ج 3 ص 42.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 634 ح 27.

(3) انظر جواهر الكلام ج 9 ص 295.

(4) قال الزركشي في «البرهان» ج 1 ص 304: قال الحافظ أبو حاتم ابن حبّان البستي: اختلف الناس فيهاعلى خمسة و ثلاثين قولا تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 283

منها ما

رواه في «مجمع البيان» عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أمر، و زجر، و ترغيب، و ترهيب، و جدل، و مثل، و قصص «1».

و

عن «النعماني» «2» عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كلّ قسم منها كاف شاف، و هي: أمر، و زجر، و ترغيب، و ترهيب، و جدل، و مثل، و قصص «3».

و منها عن بعض العامّة من أنّه وعد، و وعيد، و أمر، و نهى، و جدل، و قصص، و مثل «4». و مرجعه إلى الأولى.

و منها ما عن بعضهم أيضا من أنّه ناسخ، و منسوخ، و محكم، و متشابه و مجمل، و مفصّل، و تأويل لا يعلمه إلّا اللّه تعالى «5».

و لكن أخبارهم صريحة في أنّ الاختلاف ليس مقصورا على المعنى، بل هو

أعمّ منه و من اللفظ، فالوجوه المتقدّمة لا تسمن و لا تغني من جوع.

و منها أنّ المراد من الحروف القراءات نظرا إلى أنّ الاختلاف فيها على سبعة أوجه:

الأوّل الاختلاف في اعراب الكلمة ممّا لا يزيلها عن صورتها في الكتابة

______________________________

(1) رواه أيضا الطبري في تفسيره ج 1 ص 24 برواية محمّد بن بشّار باسناده عن أبى قلابة.

(2) النعماني هو محمد بن إبراهيم بن جعفر ابو عبد اللّه الكاتب المعروف بابن ابى زينب، كان من أجلّاء تلاميذ الكليني، صاحب كتاب «الغيبة».

(3) رسالة النعماني في صنوف آي القرآن، راجع بحار الأنوار ج 93 ص 4 و ص 97.

(4) تفسير الطبري ج ص 18- و مجمع البيان ج 1 ص 26.

(5) مجمع البيان ج 1 ص 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 284

و لا يغيّر معناها، كقوله: فَيُضاعِفَهُ «1» بالرفع و النصب.

الثاني الاختلاف في الإعراب ممّا يغيّر معناها و لا يزيل صورتها كقوله:

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ «2» و إذ تلقونه «3».

الثالث الاختلاف في حروف الكلمة لا في الاعراب ممّا يغيّر معناها و لا يزيل صورتها كقوله: كَيْفَ نُنْشِزُها «4» و «كيف ننشرها» بالراء و الزاى.

الرابع الاختلاف في الحروف ممّا يغيّر الصورة دون المعنى، عكس الثالث، كقوله: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً «5» و «إلا زقية» «6».

الخامس الاختلاف في الحروف ممّا يزيل الصورة و المعنى نحو طَلْحٍ مَنْضُودٍ «7» و طلع «8».

السادس الاختلاف بالتقديم و التأخير كقوله: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ «9» و سكرة الحقّ بالموت «10».

______________________________

(1) البقرة: 245- قال الطبرسي في المجمع ج 1 ص 272: فيه (اى في فيضاعفه) أربع قراءات: قرأ ابو عمرو و نافع و حمزة و الكسائي بالألف و الرفع. و قرأ عاصم بالألف و النصب ...

(2) النور:

15.

(3) تلقونه بكسر اللام و ضم القاف مخفّفة من ولق إذا كذب راجع مجمع البيان ج 5 ص 19.

(4) البقرة: 259 قرأ الكوفيّون و ابن عامر بالزاي و الباقون بالراء- التيسير للدانى ص 82.

(5) يس: 29.

(6) قال في المجمع ج 5 ص 16: في الشواذّ قراءة ابن مسعود و عبد الرحمن بن الأسود: (إلّا زقية) من زقا الطائر يزقو و يزقى إذا صاح.

(7) الواقعة: 29.

(8)

نقلها ابن خالويه في «مختصر شواذ القرآن» ص 178 عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قرأها على المنبر،

و (طلح) بالحاء: الموز و (طلع) بالعين ما يبدو من ثمرة النخل في أوّل ظهورها.

(9) ق: 19.

(10) ذكرها ابن خالويه في «مختصر شواذ القرآن» ص 144 عن ابى بكر و أبيّ بن كعب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 285

السابع الاختلاف بالزيادة و النقصان كقوله: وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ «1» و ما عملت أيديهم «2».

قال في «المجمع» حكاية عن الشيخ أبي جعفر الطوسي قدّس سرّهما: أنّ هذا الوجه أملح، لما

روى عنهم عليهم السّلام من جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه «3».

أقول: لكنّك قد سمعت تظافر أخبارنا على ردّ خبر نزوله على سبعة أحرف، و على فرضه فمقتضاه نزوله على الوجوه السبعة، و أين هذا من جواز متابعتهم في قراءاتهم المختلفة الّتى ستسمع اختلافها.

و منها ما يقال: من أنّ المراد سبع لغات من طوائف العرب كلغة هوازن، و هذيل، و قريش، و يمن، و كنانة، و تميم، و ثقيف.

كما يقال: إنّ «الجبت» «4» لم يكن معروفا في لغة أهل الحجاز، و إنّما هو في لغة أهل الحبشة بمعنى السّحر، لكنّ العرب أدخلوه في لغتهم.

قال الفيروزآبادي «5» في «القاموس»: و نزل القرآن على سبعة أحرف، أى

______________________________

(1) يس:

35.

و مثل هذا القسم أيضا. حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (البقرة: 238) و (صلاة العصر) ذكرها الطبري في «التفسير» ج 2 ص 348 عن مصحف أم سلمة، و عائشة، و حفصة زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله و نحوه أيضا: أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ (الكهف: 80) (و كان كافرا) أخرجه ابن جرير في «التفسير» ج 16 ص 3 عن قتادة في حرف أبيّ بن كعب و مصحف ابن مسعود.

(2) بدون الهاء كما في مصاحف أهل الكوفة، راجع الكشّاف ج 2 ص 252.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 26.

(4) النساء: 51.

(5) الفيروزآبادي: أبو طاهر محمد بن يعقوب اللغوي مجد الدين الشيرازي ولد بكازرون من أعمال شيراز سنة (729) و توفى سنة (817)- الاعلام ج 8 ص 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 286

سبع لغات من لغة العرب، و ليس المراد أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، و إن جاء على سبعة أو عشرة أو أكثر، و لكنّ المعنى أنّ هذه اللّغات متفرّقة في القرآن «1».

و قال ابن الأثير في «النهاية»: أراد بالحرف اللّغة، يعنى على سبع لغات من لغة العرب، أى إنّها متفرّقة، فبعضه بلغة قريش، و بعضه بلغة هذيل، و بعضه بلغة هوازن، و بعضه بلغة اليمن.

ثم نفى إرادة القراآت السبع ... إلى أن قال: و ممّا يبيّن ذلك قول ابن مسعود: إنّي قد سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين، فاقرأوا كما علّمتم، إنّما هو كقول أحدكم: هلّم، و تعال، و أقبل.

و فيه أقوال أخر، هذا أحسنها. انتهى.

لكن قد يقال: إنّهم كانوا في مبدأ الإسلام مخيّرين في أن يقرءوا بما شاؤا منها، ثمّ أجمعوا على أحدها، و إجماعهم حجّة، فصار انعقاد الإجماع منهم على

ما أجمعوا عليه مانعا عن جواز القراءة بغيره.

أقول: و لعلّ هذا الإجماع هو الّذى يدّعون انعقاده في خلافة عثمان حسبما تأتى إليه الإشارة و قد تعرّض بعض أصحابنا له على وجه الحكاية، بل صرّح به في «المحاضرات الأوائل» نقلا عن «الإتقان» للسيوطي، قال: أوّل من جمع القرآن عثمان، و اقتصر من سائر اللّغات السبعة على لغة قريش حين اقتتل الغلمان و المعلّمون في خلافته، كان يقول بعضهم لبعض: إنّ قراءتي خير من قراءتك فجمعهم على مصحف واحد، و جمع المصاحف التي كانت بين الناس،

______________________________

(1) القاموس في كلمة (حرف).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 287

و أحرقها من خشية الفتنة عند الاختلاف، و حملهم على القراءة بوجه واحد، و أمر بإرسال المصاحف الى أقطار الأرض، و إن كان المشهور بين الناس أنّ عثمان هو جامع القرآن مطلقا، و ليس الأمر كذلك، بل الجامع الأوّل للسور المرتبّة الباقية إلى يومنا هذا هو أبو بكر، و كان جمعه أوّلا على سبعة لغات، لأنّه كان نزل على لغات قبائل شتّى من أهل الحجاز تأليفا لقلوب جميعهم حكمة بالغة منه سبحانه، فكانت كل قبيلة تتداول لغتها، و ترجّحها على غيرها، فجرى الاختلاف بذلك، فاندفع بجمع عثمان، و أمّا ترتيب القراءة على لغة خاصّة فهو لعثمان، و لهذا ينسب إليه الرّسم، فيقال: هذا رسم عثمانى، إلى آخر ما ذكره.

و منها ما يتوهّم أنّ المراد بها القراآت السبع المشتهرة في الأزمنة المتأخّرة، و هو توهّم فاسد نبّه على فساده كثير من الخاصّة و العامّة، حسبما تسمع اليه الإشارة، بل صرّحوا بأنّ القراآت المتداولة بينهم في الأعصار المتقدّمة كانت أزيد من عشرين، و قد صنّفوا فيها الكتب و التصانيف، و أنّ أوّل من اقتصر على

السبعة هو ابن مجاهد «1»، و قد اعترضوا عليه في اختيار العدد و المعدود، بل حكى الإجماع عنهم فضلا عن غيرهم على فساد هذا التوهّم «2».

و منها غير ذلك من الأقوال «3» الكثيرة عنهم على نحو أربعين قولا، بل ربّما

______________________________

(1) هو أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، شيخ القراء أبو بكر البغدادي فاق في عصره سائر نظائره من أهل صناعته- توفي سنة (324 ه) و سيجيئ ذكره إنشاء اللّه تعالى- معرفة القرّاء للذهبى ج 1 ص 469.

(2) قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المتوفّى (665 ه):

ظنّ قوم أنّ القراآت السبع الموجودة الآن هي الّتى أريدت في الحديث، و هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، و إنّما يظنّ ذلك بعض أهل الجهل.- الإتقان للسيوطي ج 1 ص 138.

(3) منها: أنّ المراد التوسعة على القارى و لم يقصد به الحصر. بل المقصود الكثرة في الآحاد كما يراد من

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 288

يقال: إنّ الخبر من المشكل الذي لا يدرى معناه، لأنّ الحرف لغة يصدق على حرف الهجاء، و على الكلمة، و على المعنى، و على الجملة. «1»

______________________________

لفظ السبعين و سبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات، و نسب هذا القول الى القاضي عيّاض و من تبعه.

- البيان ص 208.

و منها: أنّ ذلك راجع الى بعض الآيات مثل قوله تعالى: أُفٍّ لَكُمْ الأنبياء: 67 قرء على سبعة أوجه: النصب و الجر و الرفع بالتنوين و غيره، و سابعها الجزم- البرهان ج 1 ص 315.

(1) قاله ابو جعفر محمد بن سعدان النحوي، أحد القرّاء، كان يقرأ بقراءة حمزة ثمّ اختار لنفسه قراءة نسبت إليه توفي سنة (231)- البرهان للزركشى ج 1 ص 213- ابناه الرواة

ج 3 ص 140.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 289

الفصل الثاني

في منشأ اختلاف القرّاء و ادّعاء التواتر و الإجماع على السبع قد سمعت أنّ الصحيح من روايات أهل البيت عليهم السّلام أنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد، و لم يكن فيه اختلاف أصلا، و أنّ الاختلاف من قبل الرواة، و أنّه لم يكن لهؤلاء القرّاء و لقرائتهم ذكر في العصر الأوّل.

حكى ابن طاوس في «سعد السعود» عن محمّد بن «1» بحر الرهنى الذي هو من أعاظم علماء الإمامية في بيان الاختلاف في المصاحف قال: اتّخذ عثمان سبع نسخ و أرسل إلى مكّة صحفا، و إلى الشّام مصحفا، و إلى الكوفة مصحفا، و الى البصرة مصحفا، و الى اليمن مصحفا، و إلى البحرين مصحفا، و أبقى في المدينة مصحفا، و هذه المصاحف لخلوّها عن الإعراب و النقط وقع فيها اختلافات كثيرة.

و يؤيّده ما يحكى عن السيوطي فيما سمّاه «بالمطالع السعيدة» في شرح

______________________________

(1) محمد بن بحر بن سهل الرهنى أبو الحسين الشيباني ساكن ترماشيز من أرض كرمان، له تصانيف كثيرة نحو خمسمائة مصنّف، كان من أكابر الاماميّة في القرن الرابع، و هو من مشايخ أبى العباس بن نوح السيرافي المتوفّى (408 ه)- طبقات أعلام الشيعة ج 1 ص 248.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 290

الفريدة في اللغة: أنّ أبا الأسود الدئلي أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية.

و منه يظهر أنّ منشأ الاختلافات إنّما هو اختلاف المصاحف العثمانيّة و احتمالاتها.

نعم قد يفسّر الحروف السبعة في الخبر المتقدّم بالقراءات السّبع، بل قد غلب هذا الوهم على كثير من العامّة حتّى زعموا نزول القرآن على الوجوه السبعة، لكنّك قد سمعت اختلافهم في معنى الخبر على وجوه تبلغ أربعين وجها، بل

صرّح الفيروزآبادي و ابن الأثير كما سمعت على عدم ارادة القراآت السبع.

و قال محمد بن بحر الرهنى: إنّ كلّ واحد من القرّاء قبل أن يتجدّد القارئ الّذى بعده لا يجيز إلّا قراءته، ثمّ لمّا جاء الثاني انتقل عن المنع الى الجواز و كذا في القراآت السبعة، فاشتمل كلّ واحد على انكار قراءته، ثمّ عاد الى خلاف ما أنكره، ثمّ اقتصروا على هؤلاء السبعة.

ذكر ابن الجزري «1» الشافعي في «تحبير التيسير» في بيان السبب الباعث لتأليفه: إنّي رأيت الجهل قد غلب على كثير من العوامّ، و شاع عند من لا علم له أنّه لا قراءة إلّا الّذى في هذين الكتابين، يعنى «التيسير» «2» و «الشاطبيّة» «3» و أنّ

______________________________

(1) هو محمّد بن محمّد بن على بن يوسف شمس الدين أبو النمير الدمشقي الشافعي الجزري ولد بدمشق سنة (751) و توفّي بشيراز سنة (833 ه) مصنّفات منها «تجسير التيسير» في القراآت- هديّة العارفين ج 2 ص 187.

(2) التيسير في القراآت السبع لأبى عمر و عثمان بن سعيد الداني المتوفى (444).

(3) الشاطبيّة قصيدة في القراآت السبع نظم في هذه القصيدة كتاب «التيسير» لأبى عمر و الداني المتقدّم ذكره، و أبياتها (1173) بيتا، و ناظمهما أبو محمد القاسم بن فيّرة الشاطبي الضرير المتوفى (590) بالقاهرة، و سمّاها (حرز الأمانى و وجه التهاني)- كشف الظنون ج 1 ص 646.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 291

السبعة الأحرف المشار إليها

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»

هي قراءات هذه السبعة القرّاء، و أنّ ما عدى في هذين الكتابين من القراآت شاذّ لا يقرأ به، أو لا يصحّ و كلّ قول من هذه الأقوال و نحوها باطل لا يلتفت إليه، و

خلف لا يعوّل عند علماء الإسلام عليه، كما بيّنه غير واحد من الأئمّة، و أوضحه المقتدى بهم من سراة الأمّة.

و قال في «النشر في القراآت العشر»: لمّا توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قام بالأمر أبو بكر، و قاتل الصّحابة أهل الردّة و أصحاب مسيلمة، و قتل من الصّحابة نحو خمسمائة صحابي، أشير على أبى بكر بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يذهب بذهاب الصّحابة، فتوقّف في ذلك من حيث إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يأمر في ذلك بشي ء، ثمّ اجتمع رأيه و رأى الصحابة على ذلك، فأمر زيد بن ثابت بتتّبع القرآن و جمعه، فجمعه في صحف كانت عند أبى بكر حتّى توفّي ثمّ عند عمر حتّى توفّي، ثمّ عند حفصة، و لمّا كان في نحو ثلاثين من الهجرة، في خلافة عثمان حضر حذيفة بن اليمان فتح أرمينية، و آذربيجان، فرأى النّاس يختلفون في القرآن و يقول أحدهما للآخر: قراءتي أصحّ من قراءتك فأفزعه ذلك، و قدم على عثمان و قال: أدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود و النصارى، فأرسل عثمان الى حفصة أن أرسلى إلينا الصحف ننسخها، ثمّ نردّها إليك، فأرسلتها إليه.

فأمر زيد بن ثابت و عبد اللّه «1» بن الزبير، و سعيد «2» بن العاص، و عبد الرحمن «3» بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، و قال: إذا اختلفتم أنتم و زيد في

______________________________

(1) عبد اللّه بن الزبير بين العوامّ المقتول بمكة (73).

(2) سعيد بن العاص بن سعيد الأموي المتوفى (59)- الأعلام ج 3/ 149.

(3) عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني المتوفى (43)- الاعلام ج 4 ص 73.

تفسير الصراط المستقيم،

ج 2، ص: 292

شي ء فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم، فكتب منها عدّة مصاحف، و وجّهها إلى الأمصار.

إلى أن قال: و اجتمعت الامّة المعصومة من الخطاء على ما تضمّنته هذه المصاحف.

ثمّ قال: و قرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم و تلقّوا ما فيه عن الصحابة الّذين تلقّوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ ذكر القرّاء الذين تلقّوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكر نحو أربعين قارئا غير القرّاء العشر المشهورين.

الى أن قال: تجرّد قوم للقراءة و الأخذ، و اعتنوا بضبط القراءة أتمّ عناية، حتّى صاروا في ذلك أئمّة يهتدى بهم، و يرحل إليهم و يؤخذ عنهم، قد أجمع أهل بلدهم على تلقّى قراءتهم بالقبول و لم يختلف عليهم فيها اثنان، و لتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم.

ثمّ ذكر عشرين قارئا منهم العشرة المشهورون، و زاد عليهم: شيبة بن «1» نصاح، و حميد بن «2» قيس الأعرج، و محمد بن «3» محيصن، و يحيى بن «4» وثاب،

______________________________

(1) هو شيبة بن نصاح بن سرجس المدني المقري مولى أمّ سلمة رضى اللّه عنها و كان من شيوخ نافع، توفي سنة (130 ه).

(2) حميد بن قيس الأعرج المقرئ المكي المتوفّى (130 ه).

(3) هو محمد بن عبد الرحمن السهمي ابن محيصن المكي كان من المقرئين بالشواذ المقبولة في مصطلحهم، توفّي سنة (123 ه).

(4) يحيى بن وثاب الأسدى المقرئ الكوفي المتوفّى (103 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 293

و سليمان «1» الأعمش، و إسماعيل بن «2» عبد اللّه المخزومي و عطيّة «3» بن قيس الكلابي، و إسماعيل «4» بن عبيد اللّه بن أبى المهاجر، و يحيى بن الحادث الذمارى «5»، و شريح بن «6» يزيد الحضرمي.

ثمّ قال: إنّ

القرّاء بعد هؤلاء المذكورين كثروا و تفرّقوا في البلاد و انتشروا، و خلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم و اختلفت صفاتهم، منهم المتقن للتلاوة، المشهور بالرواية و الدراية، و منهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، و كثر بينهم لذلك الاختلاف، و قلّ الضّبط و اتّسع الخرق، و كاد الباطل يلتبس بالحقّ، فقام جهابذة علماء الامّة، و صناديد الائمّة، فبالغوا في الاجتهاد، و جمعوا الحروف و القراآت، و ميّزوا بين المشهور و الشاذّ، و الصحيح و الناد بأصول أصّلوها، و أركان قد فصّلوها، و ها نحن نشير إليها، و نعوّل كما عوّلوا عليها، فنقول: كلّ قراءة وافقت العربيّة و لو بوجه، و وافقت أحد المصاحف العثمانيّة و لو احتمالا، و صحّ سندها، فهي القراءة الصحيحة الّتى لا يجوز ردّها، و لا يحلّ إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة الّتى نزل بها القرآن و وجب على النّاس قبولها، سواء أ كانت من السّبعة أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة

______________________________

(1) سليمان بن مهران أبو محمد الأسدى الكوفي المعروف بالأعمش، المتوفى (148).

(2) إسماعيل بن عبد اللّه بن قسطنطين ابو إسحاق المخزومي المكّى المقرئ كان شيخ محمد بن إدريس الشافعي في القراءة توفي سنة (170 ه).

(3) هو عطيّة بن قيس ابو يحيى الكلابي الحمصي الدمشقي التابعي القارى توفى سنة (121) و قد جاوز المائة سنة- غاية النهاية ج 1 ص 513.

(4) إسماعيل بن عبيد اللّه بن أبى المهاجر الدمشقي المتوفّى (132 ه)- تاريخ الاعلام ص 376.

(5) يحيى بن الحارث بن عمرو الذماري الدمشقي المقرئ المتوفى (145)- غاية النهاية ج 2 ص 367.

(6) شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي المقري المتوفى (203)- غاية النهاية ج 1 ص 325.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 2، ص: 294

المقبولين، و متى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذّة، أو باطلة، سواء أ كانت عن السّبعة، أو عمّن هو أكبر منهم.

هذا هو الصحيح عند ائمّة التحقيق من السلف و الخلف «1».

ثمّ حكاه عن جماعة «2» من العامّة، و حكى عن أبي شامة في كتابه «المرشد الوجيز» أنّه لا ينبغي أن يغترّ بكلّ قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الائمّة السّبعة، و يطلق عليها لفظ الصحّة، و أنّ هكذا أنزلت إلّا إذا دخلت في ذلك الضابط، و حينئذ لا يتفردّ بنقلها مصنّف عن غيره، و لا يختصّ ذلك بنقلها عنهم، بل ان نقلت عن غيرهم من القرّاء فذلك لا يخرجها عن الصحّة، فإنّ الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من نسبت إليه، غير أنّ هؤلاء السبعة لشهرتهم و كثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس الى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم «3».

إلى أن قال بعد كلام طويل: قال الإمام أبو محمد بن مكّى في مصنّفه ألحقه بكتابه «الكشف»: فإن سأل سائل فقال: فما الذي يقبل من القرآن الآن فيقرأ به، و ما الذي لا يقبل و لا يقرء به؟ فالجواب أنّ جميع ما روى في القرآن على ثلاثة أقسام:

الأوّل ما يقبل و يقرأ به، و ذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال: أن ينقل عن الثقات عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و يكون في العربيّة الّذى نزل به القرآن سائغا، و يكون موافقا لخطّ المصحف.

______________________________

(1) النشر لابن الجزري ج 1 ص 9.

(2) حكاه عن عثمان بن سعيد الداني، و ابى محمّد مكي بن ابى طالب، و أحمد بن عمّار المهدوى.

(3) النشر في

القراآت العشر ج 1 ص 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 295

الثاني ما صحّ نقله عن الآحاد، و صحّ وجهه في العربيّة، و خالف لفظ خطّ المصحف، فهذا يقبل و لا يقرأ لعلّتين: أحدهما أنّه لا يثبت القرآن بخبر الواحد، و الاخرى أنّه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على صحّته، و لا يجوز القراءة به، و لا يكفر من جحده.

و الثالث ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة و لا وجه له في العربيّة، فهذا لا يقبل و لا يقرأ و إن وافق خطّ المصحف.

إلى أن قال: و أمّا هل القراآت الّتى يقرأ بها اليوم في الأمصار جميع الأحرف السّبعة، أم بعضها؟ فهذه المسئلة مبنيّة على الفصل المتقدّم، فإنّ من عنده لا يجوز للامّة ترك شي ء من الأحرف السّبعة يدّعى أنّها مستمرّة النقل بالتّواتر الى اليوم، و إلّا تكون الامّة جميعها عصاة مخطئين في ترك ما تركوا منه، كيف و هم معصومون من ذلك.

و أنت ترى ما في هذا القول، لأنّ القراآت المشهورة اليوم من السبعة أو العشرة، أو الثلاثة عشرة بالنسبة الى ما كان قلّ من كثر، و نزر من بحر، فإنّ من له اطلاع على ذلك يعرف أنّ القرّاء الّذين أخذوا عن الائمّة المتقدّمين كثير، و الذين أخذوا عنهم أيضا أكثر، و هلّم جرّا، فلمّا كانت المائة الثالثة، و اتّسع الخرق، و قلّ الضبط، و كان علم الكتاب و السنّة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدّى بعض الأئمّة لضبط ما رواه من القراآت، فكان أوّل إمام جمع القراآت في كتاب هو أبو عبيد القاسم بن سلّام، المتوفّى (224)، و جعلهم فيما أحسبه خمسة و عشرين قارئا مع هؤلاء السبعة «1».

______________________________

(1) النشر

في القراآت العشر ج 1 ص 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 296

و كان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية، جمع كتابا في القراآت الخمسة من كلّ مصر واحدا، و توفّى سنة (258 ه).

و كان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي، صاحب قالون، ألّف كتابا في القراآت، و جمع فيه قراءة عشرين إماما منهم هؤلاء السبعة، توفّي سنة (282 ه).

و كان بعده الإمام أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، جمع كتابا كافلا سمّاه «الجامع»، فيه نيف و عشرون قراءة، توفّي سنة (310 ه).

و كان في اثره أبو بكر محمّد بن أحمد بن عمر الداجوني المتوفّى (324 ه)، جمع كتابا في القراآت و أدخل فيه أبا جعفر أحد العشرة.

و كان في اثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد، إمام القرّاء في عصره، و هو أول من اقتصر على قراءة هؤلاء السبعة فقط، توفّي سنة (324 ه).

و قام الناس في مصره و بعده و ألّفوا في القراآت أنواع التأليفات المشتملة على القراآت العشر، و الأكثر منها أو الأقلّ.

إلى أن قال بعد الإطناب الذي حذفناه للاختصار: و لا زال النّاس يؤلّفون في كثير القراآت و قليلها، يروون شاذّها و صحيحها بحسب ما وصل إليهم، أو صحّ لديهم، و لا ينكر أحد عليهم، بل هم في ذلك متّبعون سبيل السلف حيث قالوا: القراءة سنّة متّبعة يأخذها الآخر عن الأوّل، و ما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر إلّا ما قدّمنا عن ابن «1» شنبوذ لكونه خرج عن المصحف العثماني،

______________________________

(1) هو: محمد بن احمد بن أيّوب المعروف بابن شنبوذ المقرئ البغدادي المتوفى (328)- غاية النهاية

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 297

و للناس في ذلك خلاف

كما قدّمناه و لذا ما أنكر على ابن «1» مقسم من كونه أجاز القراءة بما يوافق المصحف من غير أثر.

أمّا من قرأ «الكامل» «2» للهذلى، أو «سوق العروس» «3» للطبري أو «الإقناع» «4» للأهوازى، أو «كفاية» «5» أبى العزّ، أو «المبهج» «6» لسبط الخيّاط، أو «الروضة» «7» للمالكى، و نحو ذلك. على ما فيها من ضعيف و شاذّ عن السبعة و العشرة، و غيرهم، فلا نعلم أحدا أنكر ذلك، و لا زعم أنّه مخالف لشي ء من الأحرف السبعة «8».

بل ما زالت علماء الامّة، و قضاة المسلمين يكتبون خطوطهم، و يثبتون شهادتهم في إجازاتنا بمثل هذه الكتب و القراآت.

______________________________

ج 2/ 52.

(1) هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مقسم البغدادي المتوفى (354)- غاية النهاية ج 2 ص 123.

(2) الكامل في القراآت الخمسين لأبى القاسم يوسف بن على بن عبادة المعذلى المغربي المتوفى (465)- كشف الظنون ج 2 ص 1381.

(3) سوق العروس في القراآت لأبي معشر الطبري عبد الكريم بن عبد الصمد المتوفى (478).

(4) الإقناع في القراآت الشاذّة لأبى على الحسن بن على الأهوازى المقرئ المتوفى (446)- كشف الظنون ج 1 ص 140.

(5) كفاية المبتدي و تذكرة المنتهى في القراآت العشر لأبى العزّ محمد بن الحسين بن بندار القلانسي الواسطي المتوفى (521 ه)- كشف الظنون ج 2 ص 1500.

(6) المبهج في القراآت لعبد اللّه بن على البغدادي المعروف بسبط الخيّاط توفى سنة (541 ه)- كشف الظنون ج 2 ص 1582.

(7) الروضة في القراآت السبع لأبى على الحسن بن محمد بن إبراهيم المقري البغداديّ المالكي المتوفى (438 ه)- كشف الظنون ج 1 ص 931.

(8) النشر في القراآت العشر ج 1 ص 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص:

298

ثم قال: و إنّما أطلنا هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أنّ القراآت الصحيحة هي الّتى عن هؤلاء السبعة، و أنّ الأحرف السبعة الّتى أشار إليها النبي صلّى اللّه عليه و آله هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهّال أنّ القراآت الصحيحة هي الّتى في «الشاطبيّة» و «التيسير»، و أنّها هي المشار إليها

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»

، حتّى أنّ بعضهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذّا، و ربما كان كثير ممّا لم يكن في «الشاطبية» و «التيسير» عن غير هؤلاء أصحّ من كثير ممّا فيهما، و إنّما أوقع هؤلاء في الشّبهة أنّهم سمعوا نزول القرآن على سبعة أحرف، و يسمعون قراءات السبعة، فظنّوا أنّ هذه هي المشار إليها، و لذلك كره كثير من المتقدّمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القرّاء، و قالوا: لماذا اقتصر على هذا العدد «1».

ثمّ أطال الكلام الى أن قال: و كان من جواب الشيخ الإمام مجتهد العصر أبى العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام ابن تيمية «2»: لا نزاع بين العلماء أنّ الأحرف السبعة الّتى ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ القرآن أنزل عليها ليست قراءات القرّاء السبعة المشهورة، بل أوّل من جمع ذلك ابن مجاهد، فيكون ذلك موافقا لعدد الحروف الّتى أنزل عليها القرآن لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أنّ القراآت السبع هي الحروف السّبعة، و انّ هؤلاء السبعة هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم، و لهذا قال بعض من قال من أئمّة القرّاء: لو لا أنّ ابن مجاهد سبقني الى حمزة لجعلت مكانه يعقوب

الحضرمي إمام جامع البصرة، و إمام قرّاء البصرة في

______________________________

(1) النشر في القراآت العشر ج 1 ص 36.

(2) ابن تيميّة: أحمد بن عبد الحليم الحرّانى الدمشقي الحنبلي ابو العبّاس المتوفّى سنة (728 ه)- الأعلام ج 1 ص 140.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 299

زمانه في رأس المأتين.

ثم قال ابن تيميّة: و لذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبعون من السّلف و الأئمّة في أنّه لا يتعيّن أن يقرأ بهذه القراآت المعيّنة في جميع أعصار المسلمين، بل من تثّبت عنده قراءة حمزة و الكسائي فله أن يقرأ بها، بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع و الخلاف، بل أكثر العلماء الأئمّة الّذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان «1» بن عيينة، و أحمد بن «2» حنبل، و بشر «3» بن الحارث، و غيرهم يختارون قراءة أبى جعفر ابن القعقاع، و شيبة بن نصاح المدنييّن، و قراءة البصريّين لشيوخ يعقوب و غيرهم على قراءة حمزة و الكسائي.

ثمّ أطال الكلام في ذلك و النقل عن جماعة من العلماء بمثل هذا القول، و انكار الاقتصار على السبع، و أنّ وجه الاقتصار على السبعة إنّما هو لقصور الهمم، و نقص العلم، و أنّه إنّما اقتصر على قراءة العشر لذلك، و إلّا فهي غير محصورة فيهم، إلى آخر ما ذكر.

و إنّما أطلت الكلام بنقله للتنبيه على مبدأ الأمر و نهايته حسبما صرّحوا به مضافا إلى سراية ذلك التوهّم الى أذهان جملة من الأعيان حسبما تسمع، و لعلّه إلى ذلك أشار الشهيد في بحث المهور من «المسالك» بعد خبر الأحرف السبعة:

______________________________

(1) سفيان بن عيينة بن ميمون الكوفي، ولد بالكوفة سنة (107)، و توفّى بمكة سنة (198)- الاعلام ج 3 ص 159.

(2) احمد بن محمد

بن حنبل الشيباني ولد ببغداد سنة (164) و توفى سنة (241) له مصنّفات منها «المسند» ستة مجلّدات تحتوى على ثلاثين الف حديث- الاعلام ج 1 ص 192.

(3) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي المتوفى (227) ه- التقريب ج 1 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 300

تفسير الصراط المستقيم ج 2 349

أنّه قد فسّرها بعضهم بالقراءات السبعة، و ليس بجيّد، لأنّ القراآت المتواترة لا تنحصر في السبعة، بل و لا في العشرة كما حقّق في محلّه، و اقتصروا على السبعة تبعا لابن مجاهد، حيث اقتصر عليها تبرّكا بالحديث، و في أخبار: أنّ السبعة ليست هي القراآت، بل أنواع التركيب من الأمر، و النهى، و القصص، و غيرها، انتهى.

إلّا أنّ فيه: أنّ دعوى التواتر في شي ء منها فضلا عن جميعها ليست في محلّها، و إن سبقه فيها بل لحقه عليها كثير من الفريقين، بل ذكر والدي العلّامة أعلى اللّه مقامه في «شرحه للشرايع»: أنّ المشهور بين المتأخرين من الطائفة تواتر القراآت السبع، و قد استفاض عليه حكاية الشهرة عن الأجلّة، و ممّن ذهب إليه الفاضل «1» في «التذكرة» كما عن «المنتهى» و «النهاية»، و المحقّق الثاني «2» في «جامع المقاصد» «3» و الشهيد «4» في «الروض» و «المقاصد العليّة» فقالوا: إنّ الكلّ نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا على الأمّة، و تهوينا على هذه الملّة، استنادا إلى ما

رواه الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف»

، مدّعيا تواتر ذلك منه، الى آخر ما ذكره عطّر اللّه مرقده.

و ذكر في «المدارك» بعد حكاية الإجماع عن جمع من الأصحاب على تواتر القراآت السبع: أنّه نقل جدّى قدّس

سرّه عن بعض محقّقى القرّاء أنّه أفرد كتابا في أسماء الرّجال الذين نقلوا هذه القراآت في كلّ طبقة، و هم يزيدون عمّا

______________________________

(1) هو العلّامة الحلّى الحسن بن يوسف المتوفى (726 ه).

(2) هو على بن الحسين بن عبد العلى، الكركي المتوفّى (940 ه).

(3) جامع المقاصد ج 2 ص 244.

(4) المراد به هو الشهيد الثاني زين الدين بن على العاملي الشهيد في سنة (966).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 301

يعتبر في التواتر «1».

قال: ثمّ إنّه حكى عن جماعة من القرّاء أنّهم قالوا: ليس المراد بتواتر السبع و العشر أنّ كلّ ما ورد من هذه القراآت متواترة، بل المراد انحصار التواتر الآن فيما نقل من هذه القراآت، فإنّ بعض ما نقل عن السّبعة شاذّ، فضلا عن غيرهم، و هو مشكل جدّا، لأنّ المتواتر لا يشتبه كما يشهد به الوجدان. انتهى «2».

و قال الفاضل في «التذكرة» يجب أن يقرأ بالمتواتر من القراآت، و هي السبعة، و لا يجوز أن يقرأ بالشواذ، و لا بالعشرة «3».

و في «الذّكرى»: يجوز القراءة بالمتواتر، و لا يجوز بالشواذّ، و منع بعض الأصحاب من قراءة أبى جعفر، و يعقوب، و خلف، و هي كمال العشرة، و الأصحّ جوازها لثبوت تواترها كثبوت تواتر القراآت السبعة «4».

بل عن «جامع المقاصد» «5»، و «الغروية»، و «الروض» الإجماع على تواتر السبع، كما عن «مجمع البرهان» نفى الخلاف فيه.

بل قد يؤيّد وصفها بالتواتر بالتتبع في الكتب الأصوليّة و الفقهيّة، و بما في «وافية الأصول» للفاضل التوني «6» من إجماع قدماء العامّة، و من تكلّم في المقام

______________________________

(1) روض الجنان: 264.

(2) مدارك الأحكام ج 3 ص 338.

(3) التذكرة ج 1 ص 115.

(4) الذكرى: 187.

(5) جامع المقاصد ج 1 ص 244.

(6) الروض:

ص 264.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 302

من الشيعة عليه «1».

بل عن الفاضل في «نهاية الأصول» الاستدلال على تواترها بأنّها لو لم تكن متواترة لم تجز قراءة شي ء كملك و مالك، و أشباههما، و التالي باطل فالمقدّم مثله، دليل الشرطيّة أنّهما وردا عن القرّاء السبعة، و ليس تواتر أحدهما أولى من تواتر الآخر، فإمّا أن يكونا متواترين و هو المطلوب، أو لا يكون شي ء منهما بمتواتر و هو باطل، و إلّا يخرج عن كونه قرآنا، هذا خلف «2».

و في «زبدة» شيخنا البهائي: و السبع متواترة إن كانت جوهرية، كملك، و مالك، و أمّا الأدائيّة كالمدّ و الإمالة فلا.

و ذكر الشّارح الفاضل المازندراني «3» في تعليل الأوّل: أنّ كلّا من القراءتين قرآن فلا بدّ أن يكون متواترا، و إلّا لزم أن يكون بعض القرآن غير متواتر، و هو باطل، و كأنّه أشار به الى ما حقّقوه في موضع آخر من أنّه لا بدّ أن يكون القرآن متواترا، و أنّ ما ليس بمتواتر فليس بقرآن، نظرا إلى توفّر الدواعي على نقله للمقرين باعجاز الخصم و قهره، و للمنكرين بإرادة التحدّى لإبطال كونه معجزا، و لأنّه أصل لجميع الأحكام علميّا كان أو عمليّا، و كلّما كان كذلك فالعادة تقضي بالتواتر في تفاصيله من أجزاءه، و ألفاظه، و حركاته، و سكناته.

بل ذكر الفاضل في «نهايته»: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان مكلّفا بإشاعة ما نزل عليه من القرآن الى عدد التواتر لتحصيل القطع بنبوّته.

______________________________

(1) الوافية للفاضل التوني ص 148 الباب الثالث في الادلّة الشرعيّة.

(2) هو بهاء الملّة و الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الاصبهانى المتوفى (1031 ه).

(3) هو محمد صالح بن احمد المازندراني صهر المجلسي الأول،

توفّي سنة (1081 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 303

بل ذكر في جواب سئوال أورده على نفسه: أنّ الإجماع دلّ على وجوب إلقاءه على عدد التواتر، لئلّا تنقطع المعجزة الدالّة على صدق نبوّته.

إلى أن قال: و أمّا اختلاف المصاحف فكلّ ما هو من الآحاد فليس بقرآن، و ما هو متواتر فهو القرآن.

الى غير ذلك من مختلفات كلماتهم الّتى ربما يظنّ منها اتّفاقهم على تواتره كما زعموه.

لكنّك خبير بأنّ ما ذكروه في هذا الباب ممّا سمعت و ما لم تسمع كلّها قاصرة عن إفادة ذلك، نعم قام الإجماع بل الضرورة على عدم الزيادة في القرآن، فالمشترك بين القراآت السبع، بل و بين غيرها أيضا قرآن قطعا، و أمّا خصوص ما تفرّد به كلّ واحد من القرّاء السبعة أو العشرة من حيث تلك الخصوصيّة لا من حيث المادّة الجامعة فلم يقم إجماع و لا ضرورة على كونه بتلك القراءة الخاصّة قرآنا، كيف و قد سمعت أنّ المستفاد من الأخبار أنّه واحد، نزل من عند إله واحد، بل قد سمعت سبب الاختلاف في ذلك، و أنّ كلّ ما اختلفوا فيه أو خصوص السبعة ليس ممّا نزل به جبرئيل، و لا ممّا قرأ النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا ممّا أقرّه.

بل كيف يكون الأغلاط العثمانيّة في المصاحف السبعة و اختلاف الناس في قراءة كلّ منها، حيث إنّها كانت عارية من النقط و الإعراب أصلا في إثبات القرآن النازل من السّماء.

هذا مضافا الى استفاضة الأخبار بل تواترها على مخالفة قراءة الأئمّة القراآت المشهورة، بل كتب القراءة و التفسير مشحونة من قولهم: قرأ حفص كذا، و عاصم كذا، و حمزة كذا، و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كذا، و

في كثير منها: و في

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 304

قراءة أهل البيت كذا، و ربما ينسبونها الى واحد منهم عليهم السّلام فجعلوا قراءتهم قسيما لقراءة أهل بيت الوحي و التنزيل، بل كثيرا ما صدر ذلك من الخاصّة، و أخبارهم به متظافرة.

قال ابن أبي الحديد في «شرح النهج» حكاية عن الشيخ أبى جعفر الإسكافى «1» في كتابه المسمّى ب «نقض العثمانية» في جملة كلام له في الإمامة:

و قد تعلمون أنّ بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى، فيحملون الناس على ذلك حتّى لا يعرفوا غيره كنحو ما أخذ الناس الحجّاج «2» بن يوسف الثقفي بقراءة عثمان، و ترك قراءة ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، و توعّد على ذلك، سوى ما صنع هو و جبابرة بنى أميّة، و طغاة بنى مروان بولد عليّ عليه السّلام و شيعته، و إنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجّاج حتّى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، و نشأ أبناؤهم، و لا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها، و كفّ المعلّمين عن تعليمها، حتّى لو قرأت قراءة عبد اللّه، و أبيّ ما عرفوها، و لظنّوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان، لإلف العادة، و طول الجهالة، لأنّه إذا استولت على الرعيّة الغلبة، و طالت عليهم أيّام التسلّط، و شاعت فيهم المخافة، و شملتهم التقيّة، اتّفقوا على التخاذل و التساكت، فلا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم، و تنقص من ضمائرهم، حتى تصير البدعة الّتى أحدثوها غامرة للسنّة.

و أمّا دعوى الإجماع و الضرورة على تواتر السبعة أو العشرة فغير مسموعة لعدم تحقّق شي ء من الأمرين، و المحكيّ منهما غير مجد، سيّما بعد

______________________________

(1) هو أبو جعفر محمد بن عبد اللّه المعتزلي الإسكافي البغدادي

المتوفى (240)- تذكرة الحفّاظ ج 2/ 71.

(2) الحجّاج بن يوسف الثقفي الطائفي الهالك (95)- العبر ج 1 ص 112.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 305

الخبرة التامّة بحقيقة الأمر، و توفّر الأمارات على انتهاء ذلك الى خطّ عثمان، و ضبط زيد بن ثابت.

على أنّه إن أريد التواتر على المشترك بين الجميع فمسلّم، و إن أريد التواتر على خصوص كلّ منها فأوّل الكلام، لعدم تحقّق ما هو شرط فيه قطعا من الأخبار و العدد في كلّ طبقة من الطبقات، بل لعلّه يسرى الإشكال في الأوّل أيضا و إن كان الحكم مقطوعا فيه.

ثم إن أريد بالتواتر تواتر النقل عن السبعة أو العشرة فهو على فرضه غير مجد، أو عن النبي صلّى اللّه عليه و آله فلا يحصل بذلك العدد، سيّما مع الانتهاء الى الواحد الذي حاله معلوم، مع أنّ المدّعى إثبات التواتر على كلّ من السبعة.

و مما مرّ ظهر ضعف ما ادّعاه الصالح المازندراني في «شرح الزبدة» من أنّ التواتر قد يحصل بسبعة نفر، إذ لا يتوقّف على حصول عدد معيّن، بل المعتبر فيه حصول اليقين، و أنّ القارئين لكلّ واحد من القراآت السّبع كانوا بالغين حدّ التواتر، إلّا أنّهم أسندوا كلّ واحدة منها الى واحد منهم إمّا لتجرّده بهذه القراءة، أو لكثرة مباشرته لها، ثمّ أسندوا الرّواية عن كلّ واحد منهم الى اثنين لتجرّدهما لروايتها و عدم تجرّد غيرهما.

إذ فيه المنع من حصول اليقين بنقلهم سيّما مع مخالفة المذهب مع هن و هن، مع أنّ الكلام ليس في المشترك بل في الخصوص، و بلوغ القارئين لكل واحدة منها حدّ التواتر أوّل الكلام، هذا كلّه مضافا إلى ما أورده الرّازى عليهم من أنّه إذا كانت تلك القراآت متواترة، و

خيّر اللّه المكلّفين بينها فترجيح بعضها على بعض موجب للفسق، مع أنّك ترى أنّ كلّ واحد من هؤلاء القرّاء مختصّ بنوع من القراءة، و يحمل الناس عليه و يمنعهم عن غيره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 306

و لعلّه لذلك ذكر الشهيد الثاني: أنّه ليس المراد تواترها، بل المراد انحصار المتواتر فيما نقل الى الآن من القراآت، فإنّ بعض ما نقل عن السبعة شاذّ، فضلا عن غيرهم، كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن.

قلت: و لعلّ مراده به هو الضابط المتقدّم المذكور في كلام ابن الجزري، و غيره المشتمل على الأمور الثلاثة الّتى هي موافقة إحدى المصاحف العثمانية و لو احتمالا، و العربيّة، و صحّة السند، و إليه أشار ابن الجزري في «طيبة النشر» بقوله:

و كلّ ما وافق وجه نحوو كان للرسم احتمالا يحوى

و صحّ اسنادا هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان

و حيثما يختلّ ركن أثبت شذوذه لو أنّه للسبعة

و هو كما ترى سيّما مع منافاته لما ادّعوه من تواتر السبعة بخصوصها.

و أمّا ما حكاه في «المدارك» عن جدّه عن بعض محقّقى القرّاء أنّه أفرد كتابا في ذلك، فلعمري إنّ الحكاية لا يثبت بها تواتر الرواية، و إنّما هو بالنسبة إلينا بل اليه أيضا خبر واحد، فمن الغريب الركون الى مثله في دعوى التواتر، فضلا عن دعوى تواتر الثلاثة كمال العشرة كما سمعت عن «الذكرى».

و أغرب منه ما في «جامع المقاصد» حيث قال: و قد اتّفقوا على تواتر السبع.

و في الثلاث الاخر الّتى تكمل بها العشرة، و هي قراءة أبى جعفر،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 307

و يعقوب، و خلف تردّد، نظرا الى الاختلاف في تواترها «1»، و قد شهد شيخنا في «الذكرى» بثبوت تواترها، و لا يقصر

من ثبوت الإجماع بخبر الواحد، فحينئذ تجوز القراءة بها، و ما عداها شاذّ ... إلخ «2».

إذ في كلّ من المقيس و المقيس عليه نظر واضح، على أنّه لا يثبت به التواتر، و لعلّه لهذه الجهة و غيرها أنكر كثير من المتأخّرين تواتر السبعة، فضلا عن غيرها، و نسبه في «القوانين» إلى جماعة من أصحابنا، و قد بالغ الفاضل الجليل السيّد «3» نعمة اللّه في ذلك، و حكاه عن السيّد الأجلّ على بن طاووس في مواضع من كتاب «سعد السعود» و غيره، و عن صاحب «الكشّاف» عند تفسير قوله تعالى: وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ «4»، و عن نجم الأئمّة الرضى «5» في موضعين من «شرح الرسالة» أحدهما عند قول ابن الحاجب «6»: و إذا عطف على الضمير المجرور أعيد الخافض.

أقول: لم أظفر به «7» فيما عندي من نسخة «الكشاف».

______________________________

(1) جامع المقاصد ج 2 ص 244.

(2) الذكرى: 187.

(3) السيّد نعمة اللّه بن عبد اللّه الجزائرى الأديب المدّرس الفقيه الإمامى ولد سنة (1050) و توفي سنة (1112 ه)- الاعلام ج 9 ص 11.

(4) الانعام: 137.

(5) محمّد بن الحسن رضى نجم الدين الأسترابادي المتوفّى نحو (686 ه)- الاعلام ج 6 ص 317.

(6) هو عثمان بن عمر بن أبى بكر بن يونس النحوي الفقيه المالكي ابن الحاجب ولد في أسنا من صعير مصر سنة (570) و مات بالإسكندرية سنة (646)- الاعلام ج 4 ص 374.

(7) كلام الزمخشري في الطعن على ابن عامر موجود في الكشّاف ج 2 ص 54 في ذيل الآية (137) من سورة الانعام، راجع المطبوع.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 308

نعم قال شيخنا «1» البهائى في «الكشكول»: طعن الزمخشري في قراءة ابن عامر:

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ ببناء الفعل للمفعول، و قد شنّع عليه كثير من الناس.

قال الكواشي «2»: كلام الزمخشري يشعر بأنّ ابن عامر ارتكب محظورا، و أنّه غير ثقة، لأنّه يأخذ القرائة من المصحف، لا من المشايخ، و مع ذلك أسندها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ليس الطعن في ابن عامر طعنا فيه فقط، بل هو طعن أيضا في علماء الأمصار، حيث جعلوه أحد القراء السبعة المرضيّة، و في الفقهاء حيث لم ينكروا عليهم، و إنّهم يقرءونها في محاربيهم، و اللّه أكرم من أن يجمعهم على الخطاء.

و قال أبو حيّان «3»: أعجب لعجمى ضعيف في النحو يردّ على عربيّ صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في كلام العرب في غير بيت- و أعجب سواء ظنّ هذا الرّجل بالقرّاء الأئمّة الذين تخيّرهم هذه الأمّة لنقل كتاب اللّه تعالى شرقا و غربا، و قد اعتمد المسلمون على نقلهم، لضبطهم و معرفتهم و ديانتهم «4».

و قال المحقّق «5» التفتازاني: هذا أشدّ الجرم، حيث طعن في اسناد القراء السبعة و رواياتهم، و زعم أنّهم إنّما يقرءون من عند أنفسهم، و هذه عادته يطعن

______________________________

(1) بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن عبد الصمد من أكابر الاماميّة و رئيس علماء عصره ولد في بعلبك سنة (953) و توفّي بأصفهان سنة (1031 ه) و دفن بطوس- الاعلام ج 6 ص 334.

(2) أحمد بن يوسف بن الحسن الموصلي المفسّر الفقيه الشافعي المتوفى (608)- الاعلام ج 1 ص 259.

(3) أبو حيّان التحوى: محمّد بن يوسف بن على الأندلسي الحيّانى، ولد في غرناطة سنة (654) و توفّى بالقاهرة سنة (745 ه)- الاعلام ج 8 ص 26.

(4) روح المعاني في تفسير القرآن للآلوسي نقلا

عن أبى حيّان ج 8 ص 29.

(5) هو مسعود بن عمر التفتازاني الأديب المنطقي ولد سنة (712) و توفّى سنة (793 ه)- الاعلام ج 8 ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 309

في تواتر القراآت خطاء، و كذا الروايات عنهم.

و قال ابن المنير «1»: نتبرأ الى اللّه، و نبرّء حملة كلامه عمّار ما هم به، فقد ركب عمياء و تخيّل القراءة اجتهادا و اختيارا، لا نقلا و اسنادا، و نحن نعلم أنّ هذه القراءة قرأها النبي صلّى اللّه عليه و آله على جبرئيل كما أنزلها عليه، و بلغت إلينا بالتواتر عنه، فالوجوه السبعة متواترة اجمالا و تفصيلا، فلا مبالاة بقول الزمخشري و أمثاله، و لو لا عذر أنّ المنكر ليس من أهل علمي القراءة و الأصول لخيف عليه الخروج عن ربقة الإسلام، و مع ذلك فهو في وهدة خطرة، و زلّة منكرة «2».

و لا يخفى أنّ كلام أبي حيّان، و التفتازاني، و ابن المنير، و نظرائهم ناشئ من مجرّد التقليد و العصبيّة، و حسن الظنّ باختيار الأمّة و الاعتماد على المتّسمين باسم الإسلام، و متابعة السلف الصّالح، حتّى كادوا يسطون بالّذين يتكلّمون بشي ء من الحقّ و ينسبونه الى الخطأ و الجهالة، بل الخروج عن الدين، فكيف يجترئ أحد أن يتفّوه بالحقّ بعد ظهوره في مثل هذا الأمر الّذى يسهل الخطب فيه، فضلا عن غيره من الحقائق.

و بالجملة فقد ظهر أنّ دعوى التواتر في شي ء ممّا اختلفوا فيه ضعيفة جدّا، و أضعف منها دعوى تواتر الجميع، و ستسمع من الطوسي و الطبرسي، و غيرهما أنّ المعروف الظاهر من مذهب الاماميّة، و الشائع في أخبارهم و آثارهم أنّ القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد، و قد مرّت

الأخبار الدالّة على ذلك، و أنّ الاختلاف إنّما جاء من قبل الرّواة، لا استنادا الى رواياتهم، بل الى استحساناتهم

______________________________

(1) ابن المنير: عبد الواحد بن منصور الإسكندرى المالكي المفسّر ولد سنة (651) و توفي سنة (733 ه)- الأعلام ج 4 ص 327.

(2) الكشكول ج 1 ص 47- 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 310

و اجتهاداتهم حسبما يؤدّى إليه أنظارهم، و لذا قيل: إنّه كان أحدهم إذا برع و تمهّر شرع للناس طريقا في القراءة لا يعرف إلّا من قبله، بحيث لم يكن قبله معهودا أصلا، كما يشهد به تتبّع كتب القراءة، و ما أبدعوه من الصفات، و الآداب، و الوظائف التي يمكن تحصيل القطع بعدم كونه معهودا في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله أصلا، و هذا فيما يتعلّق بالهيئة، و أمّا المادّة فقد سمعت أنّ منشأ الاختلاف فيها الأغلاط العثمانيّة، و خلوّ مصاحفه عن الإعراب و النقط، على أنّه لو كانت الطريقة المسلوكة لهم هو التواتر لا اشتراك الكلّ في الكلّ على فرض التعدّد، و لم يختصّ كلّ واحد منهم بواحدة مظهرا للحثّ الأكيد، و التعصّب الشّديد على تعيينها، سيّما مع تقارب أزمنتهم و تمكّن كلّ منهم عن الاطّلاع بما وصل إلى الآخر ممّا يقتضي التواتر، و كيف اطّلع من بعدهم عليه و لم يطّلع كلّ منهم بما تواتر للآخر، مع قرب المأخذ و اتّحاد الفنّ، و من المستبعد جدّا تواتر موادّ الكلمات و هيئتها من الحركات و السكنات، و غيرها، و عدم تواتر كون البسملة و المعوذتين من القرآن لوقوع الخلاف فيه عندهم على أقوال مرّت إليها الإشارة، الى غير ذلك مما يقضى بكون قراءاتهم مذاهب لهم، لا أنّهم قد تواتر إليهم ذلك.

بل

يدلّ عليه أيضا ما استدلّوا به في بعض التفاسير و كتب القراءة لترجيح بعض القراآت على بعض ما من مناسبة اللّغة، و كثرة الأشباه و النظائر، و موافقة المعنى و غيرها من الوجوه الاجتهاديّة الّتى لا ينبغي الإصغاء إليها، حسبما تصدّى لحكاية جملة منها في «مجمع البيان» و غيره.

و يؤمي إليه ما ذكروه في أحوال بعض القرّاء و تابعيهم من قولهم: له قراءة، أوله اختيار.

مع أنّه اختلفت الرّواية عن كلّ واحد من هؤلاء القرّاء أيضا، بل

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 311

الاختلافات المحكيّة عنهم كثير بعدد رواتهم، و إن اقتصر في «التيسير» لكلّ منهم على راويين، و تبعه من تأخّر عنه.

ثم إن كان البناء على مجرّد الرواية فما الداعي الى عدم الانتهاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو إلى الخلفاء، أو أحد الصّحابة، مع أنّ هؤلاء القرّاء لم يأخذوا منهم إلّا بوسائط، فالأولى عدّهم بالنسبة إلينا من الوسائط.

و لذا قال في «التيسير»: إنّ هؤلاء على طبقات ثلاث:

منهم من هو في الطبقة الثانية من التابعين، و هما اثنان: ابن كثير، و ابن عامر، و منهم من هو في الطبقة الثالثة، و هما اثنان أيضا: نافع، و عاصم، و منهم من هو في الطبقة الرابعة، و هم ثلاثة: أبو عمرو، و حمزة، و الكسائي.

ينبغي التنبيه على أمرين:

الأوّل: أنّا معشر الاماميّة و إن لم نحكم بصحّة خصوص كلّ من القراآت السبع، بل العشر أيضا، فضلا عن غيرها بمعنى مطابقة كلّ منها للمنزل على على النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو الإذن العام الشمولي الأوّلى للجميع، إلّا أنّه لمّا عمّت البليّة و خفي الحقّ، و قامت الفتنة على قطبها، و ارتدّ الناس على أعقابهم القهقرى، و

تركوا وصيّة سيّد الورى في التمسّك بالثقلين أمرنا أن نقرأ القرآن كما يقرأه الناس.

كما

روى عن الصادق عليه السّلام: «كفّ عن هذه القراءة، إقرا كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فاذا قام القائم قرأ كتاب اللّه على حدّه ... إلخ «1».

قال الشيخ في «التبيان» فيما حكى منه: إنّ المعروف من مذهب الاماميّة أنّ القرآن نزل بحرف واحد على نبيّ واحد، غير أنّهم اجمعوا على جواز القراءة

______________________________

(1) الوسائل ج 4 أبواب القراءة في الصلاة- ص 821- الباب 74- الحديث 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 312

بما يتداوله القرّاء و أنّ الإنسان مخيّر بأىّ قراءة شاء قرأ، و كرهوا تجريد قراءة بعينها «1».

و قال الطبرسي في «مجمع البيان»: الظاهر من مذهب الاماميّة أنّهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القرّاء بينهم من القراآت، إلّا أنّهم اختاروا القراءة بما جاز بين القرّاء، و كرهوا تجريد قراءة مفردة.

ثمّ ساق الكلام الى أن حكى عن الشيخ أبى جعفر الطوسي أنّه روى جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه «2».

و الظاهر أنّه ممّا أطبقت عليه الإماميّة.

و مرّ الحكاية عن الزمخشري أنّه قال: إنّ المصلّى لا تبرأ ذمّته من الصلاة إلّا إذا جمع في قراءته بين جميع المختلفات، نظرا الى أنّ الصحيح واحدة من الجميع.

إلّا أنّه قد سهّل علينا الخطب في ذلك ما سمعت من الإجماع و الأخبار، بل المحكيّ من البهبهاني «3» في «حاشية المدارك» أنّ المراد بالتواتر ما تواتر صحّة قراءته في زمان الائمّة عليهم السّلام بحيث يظهر إنّهم كانوا يرضون به، و يجوّزون ارتكابه في الصلاة، لأنّهم صلوات اللّه عليهم كانوا راضين بقراءة القرآن على ما هو عند الناس، و ربما كانوا يمنعون من غيره، و

يقولون: هي مخصوصة بزمان ظهور القائم عجّل

اللّه تعالى فرجه الشريف «4».

______________________________

(1) التبيان ج 1 ص 7 في المقدّمة.

(2) مجمع البيان ج 1 مقدّمة الكتاب ص 26.

(3) هو الأستاذ الأكبر الوحيد الآقا محمد باقر البهبهاني المتوفّى بالحائر (1205 ه).

(4) جواهر الكلام ج 9 ص 292 عن حاشية المدارك.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 313

قلت: و لعلّه تكلّف مستغنى عنه، حيث إنّك سمعت أنّ صريح بعض و ظاهر آخرين أنّ المراد تواتر النقل و الصدور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، لا التصحيح و التجويز عن الائمّة عليهم السّلام.

لكنّ الخطب فيه سهل، إنّما الكلام في أنّه هل يتعيّن على المصلّى أو غيره ممّن يروم التوظيف في القراءة تحرّى الأشهر و الأقيس في العربيّة من السبعة في خصوص كلّ آية، فيجوز التلفيق، أو مطلقا فلا يجوز، أو لا يتعيّن عليه شي ء من الأمرين فيتخيّر بين السّبعة أو العشرة، أو كلّما قرئ به و لو من غيرها، وجوه بل أقوال.

و لعلّ الأظهر هو الأخير لما سمعت من اشتراك السبعة و غيرها في عدم التواتر، و حدوث الاشتهار لها في الأزمنة المتأخرة بين العامّة، مضافا الى صدق «كما علّمتم» و «كما يقرأ الناس» على كلّ منها.

نعم قد يقال: إنّ الظاهر منهما وجوب الاقتصار على ما في أيدي النّاس ممّا هو متواتر بينهم، أو مشهور لديهم، فلا يقرأ بالشواذّ، مضافا إلى وجوب التأسّي، و قاعدة الاقتصار على القدر المعلوم، و الإجماع المحكي على ذلك.

فعن «مفتاح الكرامة» أنّ أصحابنا متفّقون على عدم جواز العمل بغير السبع أو العشر إلّا شاذّ منهم، قال: و الأكثر على عدم العمل بغير السبع «1».

و قد سمعت عن «وافية الأصول» للفاضل التوني: أنّه أجمع قدماء العامّة، و من تكلّم في المقام من الشيعة

على عدم جواز القراءة بغيرها و إن لم يخرج عن

______________________________

(1) مفتاح الكرامة ج 2 ص 390.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 314

قانون اللّغة و العربيّة «1».

و قد نفى المقدّس «2» الأردبيلى في «مجمع الفائدة» الخلاف عن السبعة، و عن الزيادة على العشر، يعنى اثباتا و نفيا، قال: و أمّا الثلاثة الّتى بينهما فالظاهر هو عدم الاكتفاء للعلم بوجوب قراءة ما علم كونه قرآنا، و هي غير معلومة، و ما نقل أنّها متواترة غير ثابت، و لا يكفى شهادة مثل الشهيد، لاشتراط التواتر في القرآن الذي يجب ثبوته بالعلم، و لا يكفى في ثبوته الظنّ بالخير الواحد، و نحوه ... إلى أن قال: نعم يمكن أن يجوز له ذلك إذا كان ثابتا عنده بطريق علمي و هو واضح، بل يفهم من بعض كتب الأصول أنّ تجويز قراءة ما ليس بمعلوم كونه قرآنا يقينا فسق، بل كفر، فكلّ ما ليس بمعلوم يقينا أنّه قرآن منفيّ كونه قرآنا يقينا على ما قالوا «3».

أقول: هذا غاية ما يمكن الاستدلال به للاقتصار على شي ء من الوجوه المتقدّمة لكنّه لا يخفى أنّ دعوى الظهور في حيّز المنع، و الاستقرار على السبعة في زمان صدور الخطاب غير معلوم حتى ينزّل عليه، و حمل

قوله عليه السّلام: «كما علّمتم» «4»

، و

«كما يقرأ الناس» «5»

على العموم أولى من حمله على العهد لغة و عرفا.

على أنّك قد سمعت اختلافهم في العصر الأوّل على أقوال منتشرة تمنع

______________________________

(1) الوافية ص 148.

(2) المقدّس الأردبيلى الفقيه المحقّق أحمد بن محمد المجاور بكربلاء توفي بالنجف سنة (993).

(3) مجمع الفائدة ج 2 ص 218.

(4) الوسائل- الباب 74- من أبواب القراءة في الصلاة- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب 74 من أبواب القراءة

في الصلاة- الحديث 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 315

كون شي ء منها بخصوصه معهودا.

و منه يظهر الجواب عن حمل الناس على العموم و لو حكمة، بل عمّا مرّ أيضا من وجوب التأسّى و قاعدة الاقتصار.

و أمّا الإجماع المتكرّر في كلامهم فلعلّ الظاهر أنّه مبنيّ على ما زعموه من دعوى التواتر، و قد سمعت ما فيه.

و أمّا ما صدر عن المقدّس فغريب جدّا، سيّما حكمه القطعي بعدم كون غير المقطوع به قرأنا، و أغرب منه ما حكاه كسابقه من حكاية التفسيق بل التكفير.

و لذلك مال شيخنا في «الجواهر» الى عدم وجوب متابعة شي ء من السبع أو العشر، قال: بل ربما كان إطلاق الفتاوى و خلوّ كلام الأساطين منهم عن إيجاب مثل ذلك في القراءة أقوى شاهد على عدمه خصوصا من نصّهم على بعض ما يعتبر في القراءة من التشديد، و نحوه.

و دعوى إرادة القراآت السبع في حركات المباني من الإعراب في عبارات الأصحاب لا دليل عليها، نعم وقع هذا التعيين في كلام متأخرى المتأخّرين من أصحاب، و ظنّى أنّه و هم محض «1».

أقول: و الأحوط مع ذلك كلّه عدم الخروج عن شي ء من العشر، بل الاقتصار على السبع، سيّما إذا وجبت القرائة لصلاة، أو نذر، أو استيجار، أو غيرها.

الأمر الثاني: هل يجب متابعة واحد من القرّاء في صفات الحروف من الجهر، و الشدّة، و الهمس، و غيرها، و كذا الوصل، و الوقف، و الترقيق، و التفخيم،

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 9 ص 298.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 316

و المدّ، و التسهيل، و الإمالة، و غيرها، من الوظائف و الآداب المعتبرة عندهم، أم لا؟

الأظهر الأشهر هو الثاني، بل لعلّه عليه الإجماع، بل لم أظفر على مخالف في المقام.

نعم في

«جواهر الكلام» أنّ المحكيّ عن «الكفاية» عن بعضهم القول بوجوب مراعاة جميع الصفات المعتبرة عند القرّاء «1».

أقول: و لعلّ المنشأ وقوع السقط في النسخة المحكيّة عنها، أو وهم من الحاكي حيث وصل بعض العبارة بغيرها، و هذه عبارة «الكفاية»:

و أوجب بعضهم في القراءة مراعاة المد المتّصل دون المنفصل، و مراعاة الصفات المعتبرة عند القرّاء ليست واجبة شرعا، إلّا أن يتوقّف تميز بعض الحروف عن بعضها عليه. انتهى.

و هي كما ترى صريحة في عدم الوجوب و إنّما تصحّ الحكاية في خصوص المدّ المتّصل.

و بالجملة لا ينبغي التأمّل في عدم وجوب ما اعتبروه ممّا لا يرجع الى تمييز الحروف، أو الى القواعد العربيّة المعهودة المعتبرة، إذ لا شبهة في وجوب مراعاة ما يئول إليهما، كالتشديد، و الإعراب الشامل للحركات البنائيّة و السكون، و وصل الهمزة و قطعها في مواضعهما كى لا تؤل المخالفة إلى زيادة حرف أو نقصانه، و كالإدغام في الكلمات الّتى بنيت عليه، و أمّا عند النون و التنوين فستسمع الكلام فيه، و في الإدغام الصغير، و الكبير.

______________________________

(1) الجواهر ج 9 ص 298.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 317

و أمّا غير ذلك من صفات الحروف، و المدّ، و الإمالة، و التخفيف، و التسهيل، و غيرها مما ملأوا منه كتب القراءة فالظاهر عدم وجوب شي ء منها، بل لعلّ عليه الإجماع الكاشف عن طريقة المعصوم و رضاه، بل عليه السيرة القطعيّة، سيّما بين الطائفة الحقّة الإماميّة.

كيف و لو وجب شي ء من ذلك لنبّهوا عليه، و لوقع السؤال عنه في خبر من الأخبار مع عموم البلوى، و توفّر الدواعي الى قراءة القرآن، سيّما في الصلاة التي هي فرض على الأعيان في جميع الأزمان.

بل قد سمعت أنّ الاختلافات المرويّة عن

أهل البيت عليهم السّلام مرجعها الى اختلاف الكلمات و الحروف و الحركات و نحوها، ممّا مرّت إلى اعتبارها الاشارة، و أمّا غيرها ممّا يعدّ في المحسّنات فلم يقع إليها اشارة، فضلا عن عبارة في خبر من الأخبار، و لا في شي ء من كلمات علمائنا الأخيار.

و لقد أجاد كاشف «1» الغطاء حيث قال: و أمّا المحسّنات في القراءة من إدغام في كلمتين، أو مدّ، أو وقف، أو تحريك، أو نحوها فايجابها كإيجاب مقدار الحروف في علم الكتابة، و المحسّنات في علم البديع، و المستحبّات في مذهب أهل التقوى، و لو أنّ مثل هذه الأمور مع عدم اقتضاء اللّسان لها كان من اللوازم لنادى بها الخطباء، و كرّر ذكرها العلماء، و تكرّر في الصلاة الأمر بالقضاء، و لأكثروا السؤال في ذلك عن الائمّة الأمناء، و لتواثر النقل لتوفّر دواعيه.

و قال السيّد الأجلّ الطباطبائي «2» في منظومته:

______________________________

(1) هو الشيخ جعفر بن خضر النجفي، ولد ستة (1156) و توفّى سنة (1227 ه)، كان في عصره شيخ مشايخ النجف و الحلّة من فقهاء الإماميّة، و اشتهر تصانيفه «كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء».

(2) هو بحر العلوم محمد مهدي بن مرتضى بن محمّد الطباطبائى البروجردي الأصل النجفي، كان من

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 318 و راع في تأدية الحروف مايخصّها من مخرج لها انتمى

و اجتنب اللّحن و أعرب الكلم و الوصل و القطع لهمز التزم

و الدرج في الساكن كالوقف على خلافه على خلاف حظلا

و كلّما في الصرف و النحو وجب فواجب و يستحبّ المستحبّ

نعم قد يتأمّل في جواز الإدغام بلا غنّة و معها عند الأحرف الستّة نظرا إلى التبديل الموجب للتغيير.

و استقرار أهل اللّسان عليه زمن النزول غير معلوم،

و إلّا لوافقه الرّسم.

لكنّه ليس في محلّه بعد حكاية الاتفاق عليه، بل على وجوبه حسبما تسمع.

نعم يمكن التأمّل في الحكم باستحباب كلّما حكموا باستحبابه، و إن حكم به الطباطبائى و غيره، لأنّه حكم شرعيّ لا يثبت إلّا بدليل، و كونها من مجوّدات القراءة و محسّناتها عند أهل اللّسان غير معلوم حتى في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، سلّمنا، لكنّه غير مثبت للدعوى.

نعم قد يقال: إنّ علم القراءة كان متداولا في زمان الأئمّة عليهم السّلام، حتّى أنّ بعض أعاظم أصحابهم و ثقاتهم، و المقرّبين عندهم كانوا عارفين ماهرين بهذا العلم.

______________________________

أعاظم فقهاء الاماميّة توفى سنة (1212 ه).

قال المؤلف في منظومته الرجالية (نخبة المقال):

السيّد المهدي الطباطبائى بحر العلوم صفوة

الصفاءو المرتضى والده سعيد

مات (غريبا) عمره مجيد * ترجمته بالتفصيل في تاريخ بروجرد ج 2 من صفحة 1212 (172) إلى ص 250.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 319

مثل حمران «1» بن أعين، الّذى هو في غاية الجلالة عندهم، و في نهاية الإخلاص و الإطاعة لهم، و كان ماهرا في علم القراءة على قراءة «2» حمزة القارى، و

الامام الصادق عليه السّلام أمره بمناظرة الشامي في علم القراءة، و الشامي كان مريدا للمناظرة مع الإمام عليه السّلام في هذا العلم فقال: إنّما أريدك لا حمران، فقال عليه السّلام:

إن غلبت حمران فقد غلبتني مناظرة، فغلب حمران عليه «3».

و مثله أبان بن «4» تغلب الثقة الجليل، فقد ذكروا في ترجمته: أن له قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء.

و ثعلبة «5» بن ميمون الّذي قالوا في ترجمته: إنّه كان وجها في أصحابنا، قارئا، فقيها، نحويّا، لغويّا، راوية، حسن العمل، كثير العبادة و الزّهد، و غيرهم، من الأجلّة الّذين كانوا ماهرين في هذا العلم، و

في غاية المتابعة و الإطاعة للأئمّة الّذين هم عليهم السّلام قررّوهم عليه، و لم يتأمّلوا في علمهم، و لا في عملهم.

و من المعلوم أنّ مراعاة هذا العلم لأجل العمل في مقام القراءة، فلو لم يكن مشروعا لكانوا يمنعون أمثال هؤلاء الأجلّة، و خصوصا مع منعهم الجهّال عمّا لا

______________________________

(1) حمران بن أعين ابو حمزة الكوفي من أصحاب الباقر و الصادق صلوات اللّه عليهما، ترجمه ابن الجزري في غاية النهاية ج 1 ص 262 رقم 1189 و قال: مقرئ كبير ... توفّي حدود (130 ه) أو قبلها.

(2) بل حمزة القارى الزيّات كان من تلامذته و روى القراءة عنه عرضا كما قال ابن الجزري في ترجمته.

(3) بحار الأنوار ج 47 ص 407 ح 11 عن رجال الكشي ص 178.

(4) أبان بن تغلب أبو سعيد الربعي الكوفي النحوي المقرئ الجليل من أصحاب السجّاد و الباقر و الصادق صلوات اللّه عليهم، توفّي سنة (141).

(5) ثعلبة بن ميمون أبو إسحاق النحوي الكوفي كان من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما صلوات اللّه، و روى (127) رواية- معجم رجال الحديث ج 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 320

يضرّ و لا ينفع، فضلا عن مثل هؤلاء الأعلام المقرّبين عندهم.

فعلى هذا يمكن أن يقال: محسّنات القراءة لعلّها كانت محسّنات عند الأئمّة عليهم السّلام أيضا، فضلا من أن يكون ممّا يلزم ارتكابه عند القرّاء، مثل مدّ وَ لَا الضَّالِّينَ و نحوه ممّا أمروا به، و كذا ما منع القرّاء منه و لم يكن ممنوعا من جهة لغة العرب، و لا من الشارع، و لا من العقل.

و يؤيّد ما ذكرناه من كون هذا العلم متداولا عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام على وجه يشعر بتقريرهم إيّاهم على ذلك

ما

رواه الكشي «1» من حمزة «2» الطيّار، قال: سألني أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قراءة القرآن، فقلت: ما أنا بذلك، فقال عليه السّلام: لكن أبوك، قال: ثم قال: إنّ رجلا من قريش كان لي صديقا، و كان عالما قارئا، فاجتمع هو و أبوك عند ابى جعفر عليه السّلام، فقال: ليقبل كلّ منكما على صاحبه و يسأل كلّ منكما صاحبه، ففعلا، فقال القرشي لأبي جعفر عليه السّلام: قد علمت ما أردت، أردت أن تعلمني أنّ في أصحابك مثل هذا، قال عليه السّلام: هو ذاك، فكيف رأيت ذلك «3»؟.

و في ترجمة حمران بن أعين عن رسالة أبى غالب «4» الزراري أنّ حمران بن أعين من أكبر مشايخ الشيعة المفضلين الّذين لا يشكّ فيهم، و كان أحد حملة القرآن، و من بعده يذكر اسمه في القراآت، و روى أنّه قرأ على أبي جعفر عليه السّلام،

______________________________

(1) الكشي محمد بن عمر بن عبد العزيز الفقيه الرجالي المتوفى نحو (340 ه)- الاعلام ج 7 ص 201.

(2) هو حمزة بن محمد الطيّار الكوفي من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام- معجم رجال الحديث ج 6 ص 279.

(3) معجم رجال الحديث ج 6 ص 279 رقم 4602.

(4) أبو غالب الزراري: أحمد بن محمد بن سليمان الموثّق، روى عن الكليني المتوفى (329)، و توفي سنة (368) و كتب رسالته لابن ابنه سنته (356) و جدّدها سنة (367)- رجال بحر العلوم ج 1 ص 225.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 321

و كان مع ذلك عالما بالنحو و اللّغة.

و في ترجمة أبان بن تغلب، عن النجاشي: أنّه كان قارئا من وجوه القرّاء، فقيها، لغويّا، سمع من العرب و حكى عنهم، و كان مقدّما في كلّ فنّ

من العلم، في القرآن، و الفقه، و الحديث ... الى أن قال: و لأبان قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء، أخبرنا بها أبو الحسن «1» التميمي عن أحمد «2» بن محمّد بن سعيد، عن محمّد بن يوسف الرازي المقرئ «3» بالقادسيّة سنة احدى و ثمانين و مأتين، عن أبى نعيم الفضل بن عبد اللّه بن العبّاس بن معمر الأزدي الطالقاني، ساكن سواد البصرة سنة خمس و خمسين و مأتين، قال: حدّثنا محمّد بن موسى بن أبى مريم صاحب اللؤلؤ، قال: سمعت أبان بن تغلب- و ما رأيت أحدا أقرأ منه قطّ، يقول:

إنّما الهمز «4» رياضة، و ذكر قراءته الى آخرها «5».

______________________________

(1) هو محمّد بن جعفر أبو الحسن التميمي من مشايخ النجاشي ذكره في ترجمة الحسين بن محمّد بن الفرزدق- معجم رجال الحديث ج 15 ص 170.

(2) هو احمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني الحافظ المعروف بابن عقدة أبو العباس الكوفي، توفى سنة (333 ه)- معجم رجال الحديث ج 2 ص 274.

(3) ذكره الذهبي في «الميزان الاعتدال» ج 4 ص 72 و قال: محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي شيخ يروى عنه أبو بكر بن زياد النقّاش، و ذكره الخطب البغدادي في تاريخ بغداد ج 3 ص 397 و قال: قدم قبل (300) بغداد.

(4) في ذيل رجال النجاشي: يعنى أنّ التكلّم بالهمزة و الإفصاح عنها مشقّة و رياضة بلا ثمر فلا بدّ فيها من التخفيف،

روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «نزل القرآن بلسان قريش، و ليسوا بأهل نبر، و لو لا أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل بالهمزة على النبي صلّى اللّه عليه و آله ما همزنا» كما في شرح الشافية لابن

الحاجب ج 3 ص 31

و النبر: الهمز.

(5) رجال النجاشي ج 1 ص 76.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 322

و ذكر الشيخ في «الفهرست» مثله «1».

و ستسمع أنّ حمران بن أعين كان من مشايخ حمزة القارى.

و في «التيسير» و «المجمع» أنّ حمزة قرأ على الصّادق عليه السّلام، و أنّ الكسائي و هو أحد القرّاء السبعة قرأ على أبان بن تغلب، و أنّ الأعمش، و أبا إسحاق السّبيعى، و أبا الأسود الدئلي كانوا ممّن يؤخذ عنهم القراءة «2».

و ذكر الشيخ في «الفهرست» في ترجمة عمر بن «3» موسى أنّ له كتاب قراءة زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليهم السّلام، ثم ذكر الاسناد إليه و قال:

هذا قراءة أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: و ما رأيت أعلم بالكتاب، و ناسخه، و منسوخه، و مشكله، و إعرابه منه «4».

و في ترجمة محمد بن «5» عبّاس: أنّ له كتاب قراءة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كتاب قراءة أهل البيت عليهم السّلام «6».

______________________________

(1) الفهرست ص 17- 18.

(2) مجمع البيان مقدّمة الكتاب ص 12 الفنّ الثاني.

(3) هو عمر بن موسى بن وجيه أبو حفص الوجيهي الأنصارى الشامي الزيدي المتوفّى (158) على ما في دائرة الأعلمى ج 23 ص 49 و ترجمته توجد في غير واحد من معاجم الرجال منها: مختصر تاريخ دمشق ج 19 ص 153- الميزان للذهبى ج 3/ 224- لسان العرب ج 4/ 332.

(4) الفهرست ص 114 رقم 497.

(5) هو محمّد بن العبّاس بن علي بن مروان المعروف بابن الحجّام، من ثقات الاماميّة في القرن الرابع سمع منه التلعكبري سنة (328)، و له منه إجازة- معجم رجال الحديث ج 16/ 198.

(6) الفهرست ص 149 رقم 638.

تفسير الصراط

المستقيم، ج 2، ص: 323

الفصل الثالث

في نبذ من أحوال القرّاء العشرة و رواتهم الأوّل من القرّاء السبعة هو نافع «1» بن عبد الرحمن المدني، قرأ على أبى جعفر يزيد «2» بن القعقاع، و منه تعلّم القرآن، و على شيبة «3» بن نصاح القاضي، و على عبد الرحمن «4» بن الأعرج، و على أبى عبد اللّه بن مسلم بن جندب الهذلي «5»، و على أبى روح «6» يزيد بن رومان.

قالوا: و أخذ هؤلاء القراءة عن أبى هريرة «7»، و ابن عبّاس «8»، و عبد اللّه «9» بن عيّاش بن أبي ربيعة، كلّهم عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

______________________________

(1) هو نافع بن عبد الرحمن بن ابى نعيم المدني المتوفى (169 ه)- غاية النهاية ج 2 ص 330.

(2) ابو جعفر القارى يزيد بن القعقاع المدني المتوفى (132 ه)- غاية النهاية ج 2 ص 382.

(3) شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المدني المتوفّى (130)- الاعلام ج 3 ص 264.

(4) هو عبد الرحمن بن هرمز أبو داود الأعرج المدني المتوفّى (117)- الأعلام ج 4 ص 116.

(5) أبو عبد اللّه مسلم بن جندب الهذلي مولاهم المدني المتوفى (130) غاية النهاية ج 2 ص 297.

(6) أبو روح يزيد بن رومان المدني القارى المتوفّى (120) أو (130) المصدر ج 2 ص 381.

(7) ابو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي المتوفّى بالمدينة (59)- الأعلام ج 4 ص 80.

(8) عبد اللّه بن العبّاس بن عبد المطلب المتوفّى (68) بالطائف- الأعلام ج 4 ص 228.

(9) عبد اللّه بن عيّاش بن أبى ربيعة المخزومي المتوفى بعد (70) أو سنة (78 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 439.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 324

و

ذكروا للنافع راويين: أحدهما: عيسى بن ميناء الزرقي لقّبه نافع بقالون «1» لجودة قراءته فإنّ معنى قالون بلغة الروم «جيّد».

و الآخر: أبو سعيد عثمان بن سعيد القبطي المصريّ الملقّب بورش «2» لشدّة بياضه.

الثاني منهم: عبد اللّه بن كثير «3» المكي، أخذ عن عبد اللّه بن «4» سائب المخزومي، صاحب النبي صلّى اللّه عليه و آله، و مجاهد بن «5» جبر أبى الحجّاج، و در بأس مولى ابن عبّاس، و أخذ مجاهد و درباس عن ابن عبّاس، عن أبيّ، و زيد بن ثابت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و روى عن ابن كثير أبو الحسن البزّى «6» أحمد بن محمد بن عبد اللّه، و قنبل «7» أبو عمرو محمّد بن عبد الرحمن، يقال: رجل قنبل أى غليظ شديد.

______________________________

(1) عيسى بن ميناء بن وردان الزرقي أبو موسى الملقّب بقالون، كان ربيب نافع على ما قيل، توفّى سنة (220) ه- غاية النهاية ج 1 ص 615.

(2) عثمان بن سعيد بن عبد اللّه المصري ولد سنة (110) بمصر، و رحل الى نافع فعرض عليه القرآن عدّة ختمات في سنة (155)، توفّى بمصر سنة (197 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 502.

(3) عبد اللّه بن كثير بن عمرو بن عبد اللّه ابو معبد المكي الداري من بنى عبد الدار ولد بمكّة سنة (45) و أدرك غير واحد من الصحابة و روى عنهم، توفي سنة بمكة المكرّمة سنة (120 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 443.

(4) عبد اللّه بن السائب بن أبى السائب صيفي بن عابد المخزومي المكّى له صحبة و روى القراءة عن أبيّ بن كعب، توفي حدود سنة (70 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 419.

(5) مجاهد بن

جبر أبو الحجّاج المكّى المفسّر المتوفّى (104)- الاعلام ج 6 ص 161.

(6) احمد بن محمد بن عبد اللّه بن القاسم البزّى المكي، ولد سنة (170 ه) و توفّى سنة (250 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 119.

(7) محمد بن عبد الرحمن بن خالد المكّى الملقّب بقنبل، و له سنة (195)، و توفّي سنة (291 ه)- غاية

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 325

و قيل: هم أهل بيت بمكّة المكرّمة يقال لهم القنابلة، و اختلفوا في تلقّبه به.

روى البزّى و قنبل عن ابن كثير بالواسطة، و لم يذكر الطبرسي في «جمع البيان» رواية قنبل عن ابن كثير، بل قال: له ثلاث روايات: رواية البزي، و رواية ابن فليح، و رواية أبي الحسين القوّاس «1».

الثالث منهم: أبو عمرو بن العلاء البصري، اسمه زبان «2»، أبو يحيى أو غيرهما يروى عن جماعة من أهل الحجاز، و البصرة:

فمن أهل مكّة المكرّمة يروى عن مجاهد، و سعيد «3» بن جبير، و عكرمة «4» بن خالد، و عطاء «5» بن أبي رباح، و عبد اللّه بن كثير، و محمد بن عبد الرحمن بن محيصن، و حميد بن قيس الأعرج.

و من أهل المدينة يروى عن يزيد بن قعقاع القارى، و يزيد بن رومان، و شيبة بن نصاح.

و من أهل البصرة يروى عن الحسن بن أبي الحسن البصري، و يحيى «6» بن يعمر، و غيرهما، و هؤلاء أخذوا عن الصحابة.

______________________________

النهاية ج 2 ص 167.

(1) مجمع البيان ج 1 مقدمة الكتاب، الفنّ الثاني ص 11.

(2) زبان بن العلاء بن عمّار بن العريان أبو عمرو المازني البصري و قد اختلف في اسمه على أكثر من عشرين قولا، و له بمكة المكرّمة سنة (68)، و نشأ بالبصرة، و

توفي بالكوفة سنة (154).

(3) سعيد بن جبير بن هشام الكوفي التابعي الجليل قتله الحجّاج بواسط شهيدا في سنة (95) أو (94)- غاية النهاية ج 1/ 305.

(4) عكرمة بن خالد بن العاص المكي التابعي المتوفى (115)- المصدر ج 1 ص 515.

(5) عطاء بن ابى رباح بن أسلم المكي المتوفى (115)- غاية النهاية ج 1 ص 513.

(6) يحيى بن بن يعمر أبو سليمان العدواني البصري التابعي أوّل من نقّط المصاحف، توفي قبل سنة (90)- غاية النهاية ج 2 ص 381.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 326

و روى عن أبي عمرو البصري يحيى بن المبارك اليزيدي «1»، و أبو عمر حفص ابن عمر بن عبد العزيز الدوري «2» البغدادي الضرير، و أبو شعيب صالح بن زياد السوسي «3».

و في «مجمع البيان»: لأبى عمرو البصري ثلاث روايات: رواية شجاع «4» ابن أبى نصر، و رواية العبّاس بن الفضل البصري قاضى الموصل المتوفى (186)، و رواية اليزيدي.

و لليزيدي ستّ روايات: رواية أبي «5» حمدون الزاهد، و أبى عمر الدوري، و أوقية «6»، و أبى نعيم غلام «7» سجادة، و أبى أيّوب «8» الخيّاط، و ابى شعيب

______________________________

(1) هو يحيى بن المبارك أبو محمد البصري النحوي المقرئ المتوفى (202) ه جوّد القرآن على أبى عمرو البصري، عرف باليزيدي لاتصاله بيزيد بن منصور خال المهدي العباسي، كان يؤدّب ولده.

(2) أبو عمر الدوري حفص بن عمر الأزدى المقرئ النحوي البغدادي نزيل سامرّاء، توفّي سنة (246 ه) قيل: إنّه أوّل من جمع القراآت و ألّفها، و الدوري نسبة الى الدور محلّة بالجانب الشرقي من بغداد.

(3) ابو شعيب السوسي صالح بن زياد المقرئ المتوفى (260) قرأ على اليزيدي و سمع بالكوفة من ابن نمير، و بمكة

المكرّمة من سفيان بن عينية.

(4) شجاع بن ابى نصر البلخي المقرئ الزاهد المتوفى (190) ببغداد قرأ القرآن على ابى عمرو و جوّده، أخذ عنه القاسم بن سلّام و محمد بن غالب.

(5) هو الطيّب بن إسماعيل أبو حمدون الذهلي البغدادي الزاهد اللؤلؤى المقرئ كان إماما في القراءة و التجويد، روى الحروف عن الكسائي، ترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام في وفيات (240)- (250 ه) ص 298 رقم 225.

(6) هو عامر بن عمر بن صالح أبو الفتح المعروف بأوقية الموصلي المقرئ توفّي سنة (250 ه)- غاية النهاية ج 1 ص 350.

(7) هو جعفر بن حمدان المشهور بغلام سجادة البغدادي من أصحاب اليزيدي ترجمه ابن الجزري و كنّاه بأبى محمد- غاية النهاية ج 1 ص 191.

(8) هو سليمان بن أيّوب بن الحكم أبو أيّوب الخيّاط البغدادي المتوفى (235)- غاية النهاية ج 1 ص 312.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 327

السوسي.

الرابع منهم ابن عامر أبو عمران «1» عبد اللّه بن عامر الدمشقي، أخذ عن أبى الدرداء «2» عويمر بن عامر صاحب النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المغيرة «3» بن أبي شهاب، و أخذ الأوّل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و الثاني عن عثمان بن عفّان.

و روى عن ابن عامر هشام «4» بن عمّار الدمشقي، و ابن ذكوان «5»، رويا عنه بواسطتين.

الخامس: عاصم «6» بن أبي النجود بهدلة الأسدي الكوفي، روى عن أبي

______________________________

(1) عبد اللّه بن عامر اليحصبى امام أهل الشام في القراءة، ولى قضاء دمشق في خلافة الوليد ابن عبد الملك، و كان يؤم الناس في المسجد فلمّا استخلف سليمان بن عبد الملك بعث الى مهاجر و قال: إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان قف

خلف ابن عامر فاذا تقدّم فخذ بثيابه و اجذبه و قل تأخّر، فلن يتقدّم منّا دعيّ، و صلّ أنت يا مهاجر، فضل.

قال ابن الجزري: قد ورد في اسناد ابن عامر تسعة أقوال أصحّها أنه قرأ على المغيرة بن أبى شهاب، و نقل عن بعض أنه قال: لا يدرى على من قرأ، و له سنة ثمان من الهجرة و توفّي سنة (118)- طبقات القرّاء ج 1 ص 404.

(2) أبو الدّرداء هو عويمر بن زيد الخزرجي كان من القرّاء على عهد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و تصدّر للإقراء بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله عند ما تولّى قضاء دمشق في خلافة عثمان و عدّ تلامذته الذين قرءوا عنده فكان عدّتهم (1600) و نيفا، توفي سنة (32).

(3) قال الذهبي: لا يكاد يعرف إلّا من قراءة ابن عامر عليه، و قال في تاريخ الإسلام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي قرأ على عثمان بن عفّان و عليه قرأ عبد اللّه بن عامر الدمشقي، نقل القصّاع أنه توفّى سنة (91) ه- و له تسع و ثمانون سنة. تاريخ الإسلام ص 484.

(4) هشام بن عمّار بن نصير الدمشقي الخطيب المقرئ و له سنة (153) و توفي سنة (245).

(5) هو عبد اللّه بن أحمد بن بشر بن ذكوان المقرئ الدمشقي و له سنة (173) و توفّى سنة (242).

(6) عاصم بن أبى النجود- بهدلة- أبو بكر الأسدى بالولاء الكوفي القارى، قيل: اسم أبيه عبيد، و بهدله اسم أمّه، أخذ القراءة عرضا من زرّ بن جيش، و أبى عبد الرحمن السلمي، و أبى عمرو الشيباني، توفى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 328

عبد الرحمن «1» عبد اللّه بن حبيب السلمي، و أبى مريم

زرّ بن «2» حبيش.

و أخذ الأوّل عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و عن أبيّ بن كعب، و زيد «3» بن ثابت، و عبد اللّه بن مسعود، و عثمان.

و الثّانى عن الأخيرين.

و روى عن عاصم حفص بن «4» سليمان الأسدى الكوفي البزّاز، و أبو بكر شعبة «5» بن عيّاش بن سالم الأسدى.

قال في «مجمع البيان»: و لأبي بكر بن عيّاش ثلاث روايات:

رواية أبي يوسف «6» الأعشى، و أبى صالح «7» البرجمي، و يحيى «8» بن آدم.

______________________________

سنة (127) أو (128)- تهذيب التهذيب ج 5 ص 39.

(1) أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن حبيب السلمي المقرئ الكوفة، ولد في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أخذ القراءة عن ابن مسعود، و عرض القرآن على عليّ عليه السّلام على ما ذكره الذهبي، كان يقرئ الناس في مسجد الكوفة أربعين سنة، توفي سنة (74 ه).

(2) زرّ بن حبيش أبو مريم الأسدى أدرك الجاهليّة و لم ير النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو من كبار التابعين و من ثقات أمير المؤمنين عليه السّلام توفي سنة (83) من عمر (127) سنة.

(3) زيد بن ثابت كان كاتب النبي صلّى اللّه عليه و آله بالعبرية، و تولّى جمع القرآن بأمر أبى بكر، ثم ترأس لجنة توحيد المصاحف في عهد عثمان و كان يحبّه عثمان و ولّاه بيت المال توفى سنة (54) أو (55).

(4) حفص بن سليمان بن المغيرة المقرئ الكوفي و هو ابن امرأة عاصم و ربيبه توفي سنة (180 ه).

(5) ابو بكر شعبة بن عيّاش الكوفي المعروف بعدم الضبط على خلاف زميله حفص الضابط، توفي سنة (493).

(6) أبو يوسف الأعشى يعقوب بن محمّد الكوفي، تصدّر للإقراء بالكوفة توفي سنة

حدود (200).

(7) أبو صالح البرجمي عبد الحميد بن صالح المقرئ الكوفي، كان إمام مسجد بنى شيطان، توفي سنة (230 ه)- تاريخ الإسلام ص 251.

(8) أبو زكريا يحيى بن آدم القرشي الكوفي الأحول الحافظ المقرئ توفّي بفم الصلح سنة (203)-

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 329

السادس: أبو عمارة «1» حمزة بن حبيب الكوفي الزيّات.

روى عن الامام جعفر الصادق عليه السّلام، و عن الأعمش، و محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى القاضي، و حمران بن أعين، و أبى إسحاق «2» السبيعي، و منصور «3» بن المعتمر، و مغيرة «4» بن المقسم، و أخذ هؤلاء عن التابعين عن الصحابة.

هذا على ما في «التيسير».

و قال في «المجمع»: و أمّا حمزة فقرأ على جعفر بن محمد الصّادق عليهما السّلام، و قرأ أيضا على الأعمش سليمان بن مهران، و قرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، و هو قرأ على علقمة «5»، و مسروق «6»، و الأسود «7» بن يزيد، و هؤلاء قرءوا

______________________________

رجال صحيح البخاري ج 2 ص 787.

(1) ابو عمارة حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيّات القارى الكوفي المتوفّى بحلوان سنة (156 ه)- تهذيب التهذيب ج 3 ص 27.

(2) أبو إسحاق عمرو بن عبد اللّه السّبيعى التابعي كان شيخ الكوفة في عصره، و بلغت مشيخته نحوا من (400) شيخ، و له سنة (33) و سمع من (38) صحابيّا و توفى سنة (127 ه)- تاريخ الإسلام للذهبى ج 5 ص 116.

(3) منصور بن معتمر السلمي أبو عتّاب الكوفي، كان من كبار الحفّاظ الأثبات توفى سنة (132)- تاريخ الإسلام ج 5 ص 547.

(4) مغيرة بن مقسم الضبّى الكوفي أبو هشام الأعمى توفى سنة (133 ه)- تاريخ الإسلام ج 5 ص 541.

(5)

هو علقمة بن قيس النخعي الهمداني التابعي كان فقيه العراق، ولد في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و توفي بالكوفة سنة (62 ه).

(6) هو مسروق بن الأجدع الهمداني التابعي، شهد حروب أمير المؤمنين عليه السّلام و كان أعلم بالفتيا من شريح، توفى سنة (63 ه).

(7) الأسود بن يزيد بن قيس النخعي التابعي الفقيه الحافظ المتوفّى سنة (75 ه) كان عالم الكوفة في عصره.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 330

على عبد اللّه بن مسعود.

و قرأ حمزة أيضا على أبى الأسود «1» الدئلي، و هو قرأ على علي بن أبى طالب عليه السّلام.

روى عن حمزة خلف «2» بن هشام البزّاز، و خلّاد بن خالد «3» الشيباني، كلاهما بواسطة سليم بن عيسى الحنفي «4».

و السابع: الكسائي و هو أبو الحسن على «5» بن حمزة الكوفي.

قال في «التيسير»: و رجاله حمزة بن حبيب الزيّات، و عيسى «6» بن عمر الهمداني، و محمّد بن أبى ليلى، و غيرهم من مشيخه الكوفيّين، غير أنّ مادّة قراءته و اعتماده في اختياره القراءة عن حمزة.

و في «المجمع»: أنّه قرأ على حمزة، و لقى من مشايخ حمزة ابن أبي ليلا و قرأ عليه، و على أبان بن تغلب، و عيسى بن عمر، و غيرهم.

______________________________

(1) أبو الأسود ظالم بن عمرو، كان أديبا، شاعرا، فقيها من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و وضع علم النحو بأمره، توفّى سنة (69) بالبصرة.

(2) سيأتى ترجمته إنشاء اللّه.

(3) خلّاد بن خالد الشيباني مولاهم الصيرفي من كبار القرّاء المجودّين، توفي بالكوفة سنة (220) ه.

(4) سليم بن عيسى الكوفي الحنفي بالولاء المقرئ كان أخصّ أصحاب حمزة و أضبطهم توفّي سنة (188 ه).

(5) هو عليّ بن حمزة بن عبد اللّه بن بهمن

بن فيروز الأسدى مولاهم، من أولاد الفرس، انتهت إليه رياسته الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيّات، توفّى سنة (189 ه)- طبقات القرّاء ج 1 ص 535.

(6) عيسى بن عمر الثقفي بالولاء، كان من ائمّة اللغة و من شيوخ الخليل، و سيبويه و ابن العلاء، و كان بصريّا و له نحو سبعين مصنّفا، توفّى سنة (149 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 331

روى عن الكسائي أبو الحارث «1» اللّيث بن خالد البغدادي، و الدوري المتقدم ذكره، عن أبى عمرو البصري.

و في «المجمع»: أنّ له ستّ روايات:

رواية قتيبة «2» بن مهران، و رواية نصير «3» بن يوسف النحوي، و رواية أبى الحارث البغدادي، و رواية أبى حمدون الزّاهد، و رواية حمدون ابن ميمون الزّجّاج، و رواية الدوري. «4» و هؤلاء هم القرّاء السبعة و رواتهم الأربعة عشر مع ما أضيف إليها، و مشايخهم حسبما نقله في «التيسير» و غيره.

و فيهم قال أبو مزاحم «5» الخاقاني:

و إنّ لنا أخذ القراءة سنّةعن الأوّلين المقرئين ذوي الستر

فللسبعة القرّاء حق على الورى لإقرائهم قرآن ربّهم الوتر

فبالحرمين ابن الكثير و نافع و بالبصرة ابن للعلاء أبو عمرو

______________________________

(1) ابو الحارث الليث بن خالد البغدادي كان من أجلّة أصحاب الكسائي، توفى سنة (240)- طبقات القرّاء ج 2 ص 34.

(2) قتيبة بن مهران الأزاذانى الإصبهانى المقرئ، انتهت إليه رياسته الإقراء بأصبهان، صحب الكسائي مدّة طويلة، و كان موجودا في حدود سنة (220 ه)- طبقات المحدثين بأصبهان ج 2 ص 86.

(3) نصير بن يوسف بن أبى نصر الرازي النحوي المقرئ أبو المنذر، له مصنّف في رسم المصحف، توفّي سنة (240 ه)- شذرات الذهب ج 2 ص 95.

(4) مجمع البيان ج 1 الفنّ الثّانى من المقدّمة.

(5) هو موسى

بن عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان أبو مزاحم الخاقاني البغدادي الشاعر المتوفى (325)- غاية النهاية ج 2 ص 320.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 332 و بالشام عبد اللّه و هو ابن عامرو عاصم الكوفي و هو أبو بكر

و حمزة أيضا و الكسائي بعده أخو الحذق بالقرآن و النحو و الشعر

و أمّا القرّاء الثلاثة المكمّلون للعشرة:

فأوّلهم: أبو جعفر «1» يزيد بن القعقاع المخزومي المدني، قرأ على عبد اللّه بن عبّاس، و على مولاه عبد اللّه «2» بن عيّاش بن أبى ربيعة المخزومي، و هما قرءا على أبيّ بن كعب، و قرأ أبىّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و روى عنه أبو الحارث عيسى «3» بن وردان المدني الحذّاء، و ابن الجمّاز «4» أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز الزهري المدني.

و ثانيهم: يعقوب «5» بن إسحاق الحضرمي البصري، روى عنه رويس «6» محمّد ابن المتوكّل اللؤلؤى البصري، و روح «7» بن عبد المؤمن الهزلى البصري.

و ثالثهم: و هو تمام العشرة، خلف «8» بن هشام البزّاز ذكروا أنّ له اختيارا.

______________________________

(1) توفى بالمدينة سنة (132) أو (128 ه)- طبقات القراء ج 2 ص 382.

(2) ولد بالحبشة في الهجرة الاولى، و قرأ على أبيه عيّاش و على أبيّ بن كعب توفّي سنة (64).

(3) كان ابن وردان مقرئا حاذقا و كان من أجلّة أصحاب نافع مات حدود سنة (160)- طبقات القرّاء ج 1 ص 616.

(4) توفّي ابن الجمّاز سنة (170) ه أو بعدها- طبقات القرّاء ج 1 ص 315.

(5) ولد بالبصرة سنة (117) و توفّي بها سنة (205 ه)- تهذيب التهذيب ج 11 ص 382.

(6) كان رويس من أحذق أصحاب يعقوب الحضرمي، توفّى سنة (238)- طبقات القرّاء

ج 2 ص 234.

(7) توفّي سنة (234) و كان من أجلّة أصحاب يعقوب.

(8) هو أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزاز البغدادي، قال ابن الجزري: حفظ القرآن و هو ابن عشر سنين، قال ابن أشته: كان حلف يأخذ بمذهب حمزة إلى أنّه خالفه في مائة و عشرين حرفا، و له سنة (150) و توفّى سنة (229)- طبقات القرّاء ج 1 ص 272.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 333

روى عنه إسحاق «1» بن إبراهيم الورّاق المروزي، و إدريس «2» بن عبد الكريم الحدّاد.

ثمّ اعلم أن المراد بالمدني حيث أطلق هو نافع، و أبو جعفر القعقاع.

و المكّى هو عبد اللّه بن كثير، و إذا اجتمعا قيل: حجازيّ.

و الكوفي عاصم، و حمزة، و الكسائي، و خلف، و البصري ابو عمرو، و يعقوب.

و قد يزاد على ما في «المجمع» و غيره: أبو حاتم «3» السجستاني سهل بن محمّد، و ليس كيعقوب من السبعة، و إذا اجتمع أهل الكوفة و البصرة قيل:

عراقي.

و الشامي ابن عامر، لا غير و اعلم أيضا أنّهم يطلقون القراءة على ما كان عن أحد العشرة أو من هو مثلهم.

و الرواية على ما كان من أحد رواتهم.

و الطريق عليها و على ما كان عمّن بعدهم، فيقال: هذه قراءة نافع، من رواية قالون، من طريق الجزري، أو الشاطبي «4».

______________________________

(1) هو ابو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عثمان الورّاق المتوفى (286)- المهذّب ص 12.

(2) هو ابو الحسن إدريس البغدادي المتوفى (292)- المهذب في القراآت العشر ص 12.

(3) أبو حاتم السجستاني سهل بن محمد بن عثمان البصري اللغوي الشاعر المتوفى (248)- الاعلام ج 3 ص 210.

(4) قال محمد محمد محمد سالم الشافعي في «المهذّب» ص 25: اعلم أنّ كل خلاف

نسب لإمام من الأئمة العشرة ممّا اجمع عليه الرواة عنه فهو قراءة.

و كل ما نسب للراوي عن الامام فهو رواية ...

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 334

و إن كان قد يطلق كلّ من الثلاثة على غيره، سيّما في كلام من ليس من أهل هذا الاصطلاح.

ثمّ إنّ هاهنا جملة من القرّاء غير من سمعت ربما نسب إليهم شواذّ القراآت لا داعي للتعرّض لهم «1».

______________________________

و كلّ ما نسب للآخذ عن الراوي و إن سفل فهو طريق ...

مثل إثبات البسملة بين السورتين فهو قراءة ابن كثير، و رواية قالون عن نافع، و طريق الإصبهانى عن ورش.

(1) مثل الحسن بن يسار البصري المتوفى (110) قارئ البصرة، و ابن محيصن محمد بن عبد الرحمن المتوفى (123) قارئ مكّة، و غيرها.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 335

الباب الثاني عشر

اشارة

في كيفيّة القراءة و آدابها الظاهرة و وظائفها الباطنة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 337

و فيه فصول:

الفصل الأوّل

اشارة

في الآداب الظاهرة الّتى ينبغي الاهتمام بها و المداومة عند القراءة، بل عند إرادتها لو لم تكن حاصلة قبلها، و هي أمور:

الأوّل: الطهارة من الحدث الأكبر و الأصغر بلا خلاف فيها، بل على مطلوبيتها في الجملة، نقلا و تحصيلا، للتعظيم المأمور به في جملة من الأخبار، و لخصوص جملة من المعتبرة.

فممّا يدلّ على الأوّل ما

رواه الحميري «1» في «قرب الاسناد» «2» عن محمّد «3» ابن عبد الحميد، عن محمد بن «4» الفضيل، عن أبى الحسن عليه السّلام قال:

______________________________

(1) هو أبو العبّاس عبد اللّه بن جعفر بن الحسين بن مالك بن جامع الحميري شيخ القمييّن كان حيّا سنة (297 ه) و سمع منه أهل الكوفة في حدود السنة المذكورة.

(2) هو مجموع من الأخبار المسندة الى المعصوم عليه السّلام لقلّه وسائطه سمّى بقرب الاسناد- الذريعة ج 17 ص 67.

(3) هو محمد بن عبد الحميد بن سالم أبو جعفر العطّار الكوفي، نشأ في عصر الإمام الرضا عليه السّلام و بقي الى زمان العسكري عليه السّلام، و وقع في اسناد كامل الزيارات- معجم رجال الحديث ج 16 ص 209.

(4) هو محمد بن الفضيل بن كثير الأزدى الكوفي الصيرفي أبو جعفر الأزرق، روى عن أبى الحسن موسى و الرضا عليهما السّلام و له كتاب و مسائل، معجم رجال الحديث ج 17 ص 145. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 338

سألته أقرأ المصحف، ثمّ يأخذنى البول، فأقوم و أبول و أستنجى و أغسل يدي، و أعود إلى المصحف فأقرأ فيه؟

قال عليه السّلام: لا، حتّى تتوضّأ للصّلاة «1».

و الظاهر أنّ المراد مثل الوضوء للصلاة، و لذا كان

الأظهر عندنا أنّ الوضوء للقراءة و غيرها من الغايات المندوبة يستبيح به الصّلاة على ما حرّرناه في الفقه.

و

روى أحمد «2» بن فهد في «عدّة الداعي» قال: قال عليه السّلام: لقارئ القرآن بكلّ حرف يقرأه في الصّلاة قائما مائة حسنة، و قاعدا خمسون حسنة، و متطّهرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطّهرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطّهر عشر حسنات، أما إنّي لا أقول: «المر» حرف بل بالألف عشر، و باللام عشر، و بالميم عشر، و بالراء عشر «3».

و هذا الخبر أرسله في «كشف اللثام» إلى قوله: «عشر حسنات» عن مولانا الصّادق عليه السّلام، قال: و أرسل نحوه عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

و

في «الخصال» بالإسناد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، في حديث الأربعمائة، قال: «لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهور حتّى يتطّهر» «4».

و لعلّه يستفاد منه كالخبر الأوّل كراهة القراءة من غير طهور، و لم أر من نبّه عليه، و لعلّهم فهموا منه التعبير عن الاستحباب، و أمّا البناء على كراهة ترك

______________________________

(1) قرب الاسناد ص 175- وسائل الشيعة ج 4 ص 847 باب استحباب الطهارة القراءة القرآن.

(2) هو أحمد بن محمد بن فهد الأسدى الفقيه الجليل الحلّى، ولد في الحلّة سنة (753) و توفي بكربلاء سنة (841 ه)، روضات الجنّات ج 1 ص 21.

(3) عدّة الداعي ص 212- وسائل الشيعة ج 4 ص 848.

(4) الخصال ج 2 ص 627- حديث أربعمائة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 339

المستحب، و استحباب ترك المكروه فلا ينبغي الإصغاء إليه.

بل قد ورد الأمر بالطهارة لكتابته و تعليقه:

ففي «الكافي» و «قرب الاسناد» عن عليّ بن «1» جعفر، عن أخيه موسى

بن جعفر عليهما السّلام: أنّه سأله من الرّجل أ يحلّ له أن يكتب القرآن في الألواح و الصحيفة، و هو على غير وضوء؟ قال عليه السّلام: لا «2».

و

روى الشيخ في «الإستبصار» بالإسناد عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «المصحف لا تمسّه على غير طهر، و لا جنبا، و لا تمسّ خطّه و لا تعلّقه، إنّ اللّه يقول: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «3». «4»

أقول: و النهى فيه محمول على مطلق مطلوبيّة الترك الأعمّ من الكراهة و الحرمة، فلا يقدح الجمع في النهى بين مسّ الخطّ و التعليق، كما أنّه في الأخبار السابقة ظاهر في الكراهة، و لو بقرينة المقام، أو بمعرفة الإجماع و غيره على نفى التحريم، بل ينزّل عليه نفي البأس عنه في أخبار أخر:

كصحيح أبى بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّن قرأ المصحف، و هو على غير وضوء، قال عليه السّلام: لا بأس و لا يمسّ الكتاب «5».

______________________________

(1) هو على بن جعفر الصادق عليه السّلام أبو الحسن المدني سكن العريض من نواحي المدينة كان جليل القدر عظيم الشأن، روى عن أبيه و أخيه و عن الرضا عليهم السّلام، و له كتب و روى عنه جماعة، توفى سنة (210 ه) كما في تقريب ابن حجر ص 369.

(2) رواه المجلسي في البحار ج 10 ص 277 و ج 80 ص 309.

(3) سورة الواقعة: 79.

(4) الاستبصار ج 1 ص 113 و 114 باب أنّ الجنب لا يمسّ المصحف ح 3.

(5) التهذيب ج 1 ص 35- الاستبصار ج 1 ص 113.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 340

و

في «الكافي» عن حريز «1»، عمّن أخبره، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: كان إسماعيل بن أبى عبد اللّه

عنده، فقال عليه السّلام: يا بنىّ اقرأ المصحف، فقال: إنّي لست على وضوء، فقال عليه السّلام: لا تمسّ الكتابة، و مسّ الورق و اقرأه «2».

فإنّ نفى البأس في الأوّل لنفى الحرمة، و الأمر في الثاني لدفع توهّم الحظر، و لذا نبّه فيهما على ما هو المحظور من مسّ الكتابة.

و يدلّ على الثاني، مضافا إلى التعظيم و الأولويّة القطعيّة الّتي مرجعها إلى الدلالة اللفظيّة العلويّ المتقدّم من «الخصال» في حديث الاربعمائة، و غيره ممّا يأتي.

و لعلّه لا خلاف فيه، كما لا خلاف في جواز القراءة، للجنب و الحائض، و النفساء، و من مسّ الميّت، من غير العزائم الأربع، للمعتبرة المستفيضة:

كالصحيح عن الصادق عليه السّلام، قال: «يقرأ الجنب القرآن، و الحائض، و النفساء أيضا «3».

و

موثّق ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يأكل، و يشرب، و يقرأ القرآن؟ قال عليه السّلام: ثم يأكل، و يشرب، و يقرأ، و يذكر اللّه تعالى ما شاء «4».

و

صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: قلت له: الحائض و الجنب هل يقرأن من القرآن شيئا؟ قال عليه السّلام: «نعم، ما شاءا إلّا السجدة، و يذكر ان

______________________________

(1) هو حريز بن عبد اللّه السجستاني ابو محمد الأزدى روى عن الصادق عليه السّلام و له «أصول الأربعة في الصلاة و الصوم و الزكاة و النوادر» رواها عنه حماد بن عيسى الغريق سنة (208)- الذريعة ج 2.

(2) الوسائل ج 1 ص 269 ح 2- التهذيب ج 1 ص 35.

(3) فروع الكافي ج 1 ص 30: قال: الحائض تقرأ القرآن، و النفساء و الجنب أيضا.

(4) الفروع ج 1 ص 16- التهذيب ج 1 ص 36. تفسير الصراط المستقيم، ج 2،

ص: 341

اللّه تعالى على كلّ حال» «1».

و

موثّق الفضيل عنه عليه السّلام: «لا بأس أن تتلوا الحائض و الجنب القرآن «2».

و

في صحيح الحلبي، عن الصادق عليه السّلام قال: سألته: أ تقرأ النفساء، و الحائض، و الجنب، و الرجل يتغوّط، القرآن؟ فقال عليه السّلام: يقرءون ما شاءوا «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، مضافا إلى الإجماع المحصّل و المحكي في كلام الجماعة نقلا مستفيضا.

فلا ينبغي الإصغاء إلى ما يحكى عن سلّار «4» في غير «المراسم» من تحريم القراءة للجنب مطلقا، أوله و لأختيه، لشذوذه و ضعفه، كضعف ما يستدلّ به من الخبرين:

أحدهما

المرويّ عن «الخصال» عن السكوني «5»، عن الصادق عليه السّلام، من آباءه، عن عليّ عليهم السّلام، قال: «سبعة لا يقرءون من القرآن: الراكع، و الساجد، و في الكنيف، و في الحمّام، و الجنب، و النفساء، و الحائض «6».

و الآخر

المرويّ في «الفقيه» و «الأمالى» و «العلل» عن أبي سعيد الخدري في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعلىّ عليه السّلام أنّه قال: «يا على من كان جنبا في الفراش مع امرأته

______________________________

(1) العلل ص 105.

(2) التهذيب ج 1 ص 36.

(3) التهذيب ج 1 ص 36.

(4) سلار: حمزة بن عبد العزيز الديلمي الفقيه سكن بغداد و توفي في «خسرو شاه» من قرى تبريز سنة (463 ه)- الذريعة ج 1 ص 73.

(5) هو إسماعيل بن ابى زياد مسلم السكوني الشعيري عدّه الشيخ الطوسي في «عدّة الأصول» ممّن انعقد الإجماع على ثقته و قبول روايته و إن كان عاميّا.

(6) الخصال ص 357 باب السبعة ح 42. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 342

فلا يقرأ القرآن فإني أخشى أن ينزل عليهما نار من السماء فتحرقهما» «1».

إذ مع قصورهما سندا و دلالة

لا يعارضان ما سمعت، سيّما مع موافقتهما للعامّة، و عاميّة السكوني معروفة، و الكلام في وصايا النبيّ مشهور.

و أضعف منهما ما يقال: من معروفيّة ترك الجنب قراءة القرآن في ذلك الزّمان، نظرا إلى ما

يحكى عن عبد اللّه بن «2» رواحة، حيث رأته امرأته مع جاريته، فمضت لتأخذ سكّينا، فأنكر عليها ذلك و احتجّ عليها بأنّه أليس نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقرأ أحدنا و هو جنب؟ فقالت له: اقرأ، فقال:

شهدت بأنّ وعد اللّه حقّ* و أنّ النار مثوى الكافرينا و أنّ العرش من فوق «3» طباق* و فوق العرش رب العالمينا و تحمله ملائكة شداد* ملائكة إلا له مسوّمينا فقالت: صدق اللّه و كذب بصرى، فجاء و أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، فضحك حتّى بدت نواجذه. «4»

إذ إثبات الحكم الشرعي بمثله كما ترى.

فلا ريب في ضعف القول بالحرمة مطلقا، بل و لا ريب أيضا في ضعف مالا يعرف القائل به من القول بحرمة ما زاد على سبع آيات، أو السبعين، و إن كان

______________________________

(1) وسائل الشيعة ب 16 من أبواب الجنابة ج 1 ح 3 ص 493.

(2) هو عبد اللّه بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الصحابي الشهيد في مؤتة (8).

(3) في مختصر تاريخ دمشق ج 12 ص 158: «و أنّ العرش فوق الماء طاف» و فيه: و تحمله ملائكة كرام ملائكة إلا له مقرّبينا

(4) مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ج 12 ص 158- 159 مع تفاوت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 343

ربما يلوح من «المقنعة» و «النهاية»، و ظاهر «المهذّب» بل قد يستدلّ له

بموثّقة سماعة، قال: سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال عليه السّلام: «ما بينه و

بين سبع آيات إلّا أربع سور» «1».

و في رواية زرعة عن سماعة قال: «سبعين آية» «2».

و لذا ربما عدّهما بعضهم روايتين، و آخرون رواية واحدة مضطربة.

إلّا أنّ فيه، مع الإضمار، و ظهور الاضطراب، و شذوذ القول به، أنّ الخبر كما ترى غير صريح في الحرمة، فلا يصلح مقيّدا و مخصّصا للمعتبرة المتقدّمة الّتى فيها الصّحاح و غيرها.

على أنّ التدافع بينهما حاصل على فرض التعدّد فلا ينبغي التأمّل في جواز القراءة من غير الأربع للمحدث بالحدث الأكبر مطلقا.

نعم إنّما الكلام في أنّ الجواز هل هو من غير كراهة، مطلقا، كما هو ظاهر «الفقيه» و «الهداية» و «المقنع»، و غيرهما، ممّن نفى البأس عن قراءة القرآن كلّه ما خلا العزائم، بل و صريح «المدارك» و «الحدائق» لظاهر الأخبار المتقدّمة الدالّة على نفى البأس الشامل بإطلاقه لنفى الكراهة، كما هو مقتضى الأصل الّذي لا رافع له في المقام بعد تضعيف خبر السّبع و السّبعين، و عدم صلاحيّته للتخصيص و التقييد.

أو أنّ الجواز مع الكراهة مطلقا و لو في أقلّ من السّبع كما عن ابن سعيد «3»

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 36- وسائل الشيعة ج 1 ح 10 ب 19 من أبواب الجنابة ص 494.

(2) التهذيب ج 1 ص 39- الوسائل ب 19 من أبواب الجنابة ح 10 ج 1 ص 494.

(3) ابن سعيد ابو أحمد بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي ولد سنة (601) و توفّي سنة (689) أو

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 344

في «الجامع» حيث أطلق كراهة قراءة الجنب القرآن «1»، و عن سلّار في «المراسم» حيث قال: إنّه يندب له أن لا يقرأ القرآن «2».

و لعلّه للتعظيم، و فحوى ما دلّ على استحباب الطهارة من

الأصغر للقراءة، و ظهور أخبار الباب، و إن اشتملت على الأمر في رفع الخطر الّذى هو أعم من الكراهة.

أو مع الكراهة فيما زاد على السبع لظاهر مفهوم موثّق سماعة المتقدّم، و عليه المشهور، جمعا بينه و بين الأخبار المتقدّمة.

و ما فيه من الضعف و القصور منجبر بالشهرة العظيمة بين الطائفة، و هؤلاء ذكروا اشتداد الكراهة بقراءة السبعين.

و تفرّد المحقّق الأوّل بإثبات مرتبة ثالثة للكراهة، و هي غلظها فيما زاد عن السبعين، و لا دلالة عليه.

أو معها فيما زاد عن السبعين «3»، لا ما نقص عنه مطلقا، كما عن ابن حمزة، أقوال.

و لعلّ الأظهر هو الثاني، لما سمعت، مضافا إلى أنّه من السنن الذي يتسامح فيها.

لكنّ المراد بالكراهة قلّة الثواب، لا المرجوحية الصرفة، جمعا بينها و بين

______________________________

(690) ه- معجم الرموز ص 220.

(1) الجامع للشرايع كتاب الطهارة باب الجنابة ص 39.

(2) المراسم كتاب الطهارة باب غسل الجنابة و بالوجبه ص 42.

(3) حكاه العلّامة في «المنتهى» ج 1 ص 87 عن بعض الأصحاب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 345

الإطلاقات الآمرة بالقراءة مطلقا، و لخصوص الجنب، بل يستفاد من صريح

المرسل المتقدّم حيث قال: و متطهّرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطهّر عشر حسنات» «1».

و منه يظهر ضعف ما يقال: من نفى البلد عن الثاني نظرا إلى أنّ الأوّل لا يرتكب إلا في الشي ء الذي لا يمكن أن يقع إلّا عبادة، فنلتزم حينئذ بذلك، إذا القراءة أيضا كذلك، للإطلاقات الآمرة كقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ «2».

بل العمومات أيضا

كقوله صلّى اللّه عليه و آله في وصيّته لعليّ عليه السّلام، على ما رواه في «الكافي» و «المحاسن»: «و عليك بتلاوة القرآن» «3».

مضافا إلى الأخبار الكثيرة

الآمرة بذكر اللّه سبحانه على كلّ حال، بل

في أخبار كثيرة: أنّ موسى على نبينا و آله و عليه السّلام سأل ربّه فقال: يا ربّ تمرّ بي حالات أستحيى أذكرك فيها.

و في خبر آخر: يأتي عليّ مجالس أعزّك و أجلّك أن أذكرك فيها، فقال تعالى: «يا موسى إنّ ذكرى حسن على كلّ حال» «4».

و بالجملة قضيّة العمومات و الإطلاقات الآمرة بالقراءة، و الدعاء، و الذكر، و غيرها شمولها لجميع الأمر، غاية الأمر نقصان ثوابها باعتبار بعض الحالات لفقد بعض المكمّلات، و أمّا المرجوحيّة المطلقة بالنسبة إلى الترك فلا يستفاد من

______________________________

(1) عدّة الداعي ص 212- وسائل الشيعة ج 4 ص 848.

(2) المزمّل: 20.

(3) المحاسن ص 17.

(4) أصول الكافي ج 2 ص 497.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 346

شي ء من الأدلّة، بل لعلّ المقطوع منها خلافه.

نعم قد يقال: إنّ الأولى للحائض و النفساء ترك القراءة مطلقا، نظرا إلى ورود النهى منها، مضافا الى خبر «الخصال» «1» المتقدّم في المرسلين: أحدهما

النبويّ: «لا يقرء الجنب و الحائض شيئا من القرآن» «2».

و الآخر:

العلوي: «لا تقرأ الحائض قرآنا» «3».

بل

عن أبى جعفر عليه السّلام: «إنّا نأمر نساءنا الحيّض أن يتوضّأن عند وقت كلّ صلاة ... إلى قوله عليه السّلام: و لا يقربن مسجدا، و لا يقرأن قرآنا» «4».

لكن

في خبر معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام قال: «تتوضّأ المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل، و إذا كان وقت الصلاة توضّأت و استقبلت، القبلة، و هلّلت، و كبّرت، و تلت القرآن، و ذكرت اللّه عزّ و جلّ «5»».

هذا مضافا إلى ضعف المرسلين، و قصورهما عن معارضة ما سمعت.

بقي في المقام أمور:

أحدها: أنّ الأظهر وفاقا للأكثر حرمة مسّ كتابة القرآن للمحدث بأحد

الحدثين لقوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «6».

______________________________

(1) الخصال باب السبعة ح 42 ج 1 ص 357.

(2) عوالي اللآلي: الفصل الثامن ح 12 ج 1 ص 131.

(3) دعائم الإسلام ج 1 ص 128.

(4) دعائم الإسلام: في أحكام الحيض ج 1 ص 128.

(5) فروع الكافي ج 1 ص 101 باب ما يجب على الحائض في أوقات الصّلوات ح 2.

(6) الواقعة: 79.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 347

حيث إنّ الظاهر رجوع الضمير الى القرآن كما فهمه أكثر المفسّرين، بل ظاهر «التبيان» و «مجمع البيان» نسبته إلى الإماميّة، مضافا الى ما مرّ في خبره مولانا أبي الحسن عليه السّلام من النهى عن المسّ، للآية.

بل لعلّه الظاهر هو أيضا فيما مرّ من قول الصادق عليه السّلام لابنه إسماعيل «1».

بل

عن الباقر عليه السّلام تفسير قوله تعالى: إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» بالمطهّرين من الأحداث و الجنابات «3».

و ستسمع الكلام فيه و في ضعف القول بالجواز، و تحقيق معنى المسّ و الكتابة عند التعرّض لتفسير الآية إنشاء اللّه تعالى، و تمام الكلام في الفقه.

ثانيها: المحكي عن المرتضى «4» رضى اللّه عنه حرمة مسّ ما عدى الكتابة من جلد المصحف، و هامشه، للآية، و

خبر أبي الحسن عليه السّلام المتقدّم: «المصحف لا تمسّه على غير طهر، و لا جنبا، و لا تمسّ خطّه، و لا تعلّقه، إنّ اللّه يقول: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «5». «6»

و ضعفه واضح، إذا لضمير في الآية للقرآن لا للمصحف، و الخبر مع ضعفه عند السيّد، فضلا عن غيره، لا بدّ من حمله على الكراهة، لاستقرار المذهب على نفى الحرمة، و ظهور الإجماع على الكراهة، و لا أقلّ من الشهرة العظيمة التي تصلح دليلا للكراهة،

سيّما مع المسامحة في أدلّتها، مضافا إلى التعظيم،

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 35.

(2) الواقعة: 79.

(3) مجمع البيان ج 5 ص 226.

(4) حكاه المحقّق في المعتبر ج 1 ص 190.

(5) الواقعة: 79.

(6) وسائل الشيعة ج 1 ص 269 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 348

و

صحيح محمد بن مسلم، عن أبى جعفر عليه السّلام: «الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثياب، و يقرآن من القرآن ما شاء إلّا السجدة» «1».

و توهّم دلالته على مذهب السيّد ضعيف كأصل المذهب، و مع فرضه فلا بدّ من حمله على الاستحباب لقضية ما مرّ، مضافا إلى ما تفسير الصراط المستقيم ج 2 369

في «الفقه الرضوى»: «و لا تمسّ القرآن إذا كنت جنبا، أو على غير وضوء، و مسّ الأوراق» «2».

و سبيله عندنا سبيل الأخبار الضعيفة الّتى نقول بحجّيتها بالانجبار في مثل المقام.

ثالثها: هل يستحبّ طهارة الثوب و البدن، و مكان القارى من الأخباث؟

لم أر من تعرّض له من الأصحاب، و قضيّة الأصل العدم، غير أنّ الأوفق بالإكرام و تعظيم القرآن المأمور به في المعتبرة الاجتهاد في التنظيف و الطهارة للقراءة.

الثاني من الآداب الظاهرة: السّواك قبل القراءة، للمعتبرة،

ففي «المحاسن» بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نظّفوا طريق القران، قيل: يا رسول اللّه و ما طريق القرآن؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أفواهكم، قيل: بماذا؟

قال صلّى اللّه عليه و آله: بالسواك «3».

و

فيه، عنه عليه السّلام: «أفواهكم طريق من طريق ربّكم، فأحبّها إلى اللّه أطيب بها

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 36 و ص 105.

(2) فقه الرضا (عليه السّلام) ص 4 و عنه في البحار ج 81 ص 52 ح 23.

(3) المحاسن ص

588- و الجعفريات ص 15 و دعائم الإسلام ج 1 ص 119. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 349

ريحا، فطيّبوها بما قدرتم عليه» «1».

و

روى الصدوق عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ أفواهكم طرق القرآن فطهّروها بالسواك «2».

و

في «الخصال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: في السواك اثنتا عشرة خصلة: مطهرة للفم، و مرضاة للربّ، و يبيّض الأسنان، و يذهب بالحفر، و يقلّ البلغم، و يشهىّ الّطعام، و يضاعف الحسنات، و تصاب به السنّة، و تحضره الملائكة، و يشدّ اللثة، و هو يمرّ بطريق القرآن، و صلاة ركعتين بسواك أحبّ الى اللّه عزّ و جلّ من سبعين ركعة بغير سواك «3».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام: «إذا قمت باللّيل فاستك، فإنّ الملك يأتيك فيضع فاه على فيك، فليس من حرف تتلوه و تنطق به إلّا صعد به إلى السّماء، فليكن فوك طيّب الريح» «4».

و

في «المحاسن» عنه عليه السّلام: «إنّي لاحبّ للرجل إذا قام بالليل أن يستاك، و أن يشمّ الطيب، فإنّ الملك يأتى الرجل إذا قام بالليل حتى يضع فاه على فيه، فما خرج من القرآن من شي ء دخل في جوف ذلك الملك «5».

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على استحباب تطييب الفم للقراءة، و غيرها

______________________________

(1) المحاسن ص 588.

(2)

أعلام الدين للديلمي، و عنه البحار ج 84 ص 330: و فيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أفواهكم طرق القرآن فطيّبوها بالسّواك ... إلخ.

(3) الخصال ج 2- أبواب الاثنى عشر- ص 480 ح 52.

(4) فروع الكافي ج 1 ص 8.

(5) المحاسن ص 559، و عنه البحار ج 80 ص 343.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 350

بالسواك.

و هل يستحبّ التطيّب بالعطر، و نحوه و جهان،

و الأظهر الأوّل لفحوى ما سمعت، و ما دلّ على استحبابه للصلاة، و غيرها.

و أمّا البحث عن كيفيّة السواك و نصابه، و ما يستاك به فمذكور في الفقه.

الثالث من الآداب الظاهرة: ستر العورة لما دلّ على النهى عن القراءة في الحمّام للعريان من غير إزار.

ففي «الكافي» و «الفقيه» عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام:

أ كان أمير المؤمنين سلام اللّه عليه ينهى عن قراءة القرآن في الحمّام؟ فقال عليه السّلام:

لا، إنّما نهى أن يقرأ الرجل و هو عريان، فأمّا إذا كان عليه إزار فلا بأس «1».

و

روى الشيخ في «التهذيب» عن أبى بصير قال: سألته عن القراءة في الحمّام، فقال عليه السّلام: «إذا كان عليك إزار فاقرأ القران إن شئت كلّه» «2».

و من هنا يظهر أنّ الإطلاق النهى عن القراءة في الحمّام محمول على ما لم يكن معه إزار.

كما أنّ إطلاق نفى البأس عنها

في خبر علي بن يقطين عن الكاظم عليه السّلام: «أقرأ في الحمّام، و أنكح فيه؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «3»

و مثله غيره من الأخبار إنّما هو للإشعار بالجواز الذي هو أعمّ من الكراهة، و إن كان معها في بعض الأفراد، أو أنّه مقيّد بخصوص الستر.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 76 ص 77 ط طهران المطبعة الاسلاميّة.

(2) التهذيب ج 1 ص 377 ح 1165.

(3) الفقيه ج 1 ص 63 ح 234.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 351

بل لعلّه يستفاد من فحوى الخبرين دوران النهى المحمول على الكراهة مدار كشف العورة وجودا و عدما، و لو في غير الحمّام، و لذا لم تقيّد العنوان به.

نعم هل العبرة في عورة المرأة بعورة الصلاة، أو النظر لغير المماثل، أو المماثل؟ وجوه، و الأظهر الثالث، فترتفع

الكراهة بستر العضوين كالرّجل.

و التأمّل في شمول الحكم لها مع تعليقه في الخبر الأوّل على الرجل و لا دليل على الاشتراك، مدفوع بظهور، من الفحوى، مضافا الى أنّ المسئول عنه في الخبر الثاني هو نفس القراءة.

الرابع من الآداب الاستعاذة، للأمر بها كتابا و سنّة، قال اللّه تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «1» أى إذا أردت القراءة، كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «2»، و كما يقال: إذا لقيت العدوّ فخذ سلاحك.

و الأخبار الآمرة بها كثيرة، و ستسمع إنشاء اللّه تعالى تمام الكلام فيها، و في وجوبها، و ندبها، و محلّها، و كيفيّتها، و معناها في مفتتح فاتحة الكتاب و عند تفسيرها.

الخامس من الآداب القراءة من المصحف و إن كان حافظا للقرآن، قادرا، على قراءته عن ظهر القلب، فإنّ النظر إلى المصحف عبادة مستقلّة، مع ما يوجبه من سلامة البصر، فالقراءة منه بمنزلة الجمع بين العبادتين، بل لعلّ القراءة في المصحف أفضل منها عن ظهر القلب مع قطع النظر عن استحباب النظر.

______________________________

(1) النحل: 98.

(2) المائدة: 6.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 352

فعن الصدوق في «ثواب الأعمال» مرفوعا عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ القرآن في المصحف نظرا متّع ببصره، و خفّف على والديه و إن كانا كافرين» «1».

و

فيه مرفوعا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ليس شي ء أشدّ على الشيطان من القراءة في المصحف نظرا» «2».

و

في «أمالى الطوسي، عن أبي ذرّ قال: النظر إلى علي بن أبى طالب عليه السّلام عبادة، و النظر الى الوالدين برأفة و رحمة عبادة، و النظر في الصحيفة، يعنى صحيفة القرآن عبادة، و النظر الى الكعبة عبادة» «3».

و روى الصدوق مثله ...

الى أن قال: «و النظر إلى المصحف من غير قراءة عبادة» «4».

و

في «الكافي» عن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن على ظهر قلبي، فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ فقال عليه السّلام لي: بل اقرأه و انظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة» «5».

و

فيه عنه عليه السّلام، قال: «قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن الوالدين و لو كانا كافرين» «6».

______________________________

(1) ثواب الأعمال ص 128- الوسائل ج 6 ص 204 ح 7735.

(2) ثواب الأعمال ص 129- الوسائل ج 6 ص 204 ح 7735.

(3) أمالي الطوسي ج 2 ص 70- الوسائل ج 6 ص 205 ح 7738.

(4) الفقيه ج 2 ص 132 ح 556- الوسائل ج 6 ص 205 ح 7739.

(5) الكافي ج 2 ص 449 ح 5- الوسائل ج 6 ص 204 ح 7738.

(6) الكافي ج 2 ص 449 ح 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 353

و

في «قرب الإسناد» عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: يستحبّ أن يعلّق المصحف في البيت يتّقى به من الشياطين.

قال: و يستحبّ أن لا يترك من القراءة فيه «1».

أقول: و يستفاد منه جهة ثالثة للاستحباب، و هو استعمال المصحف و عدم ترك القراءة فيه، فلا تغفل.

السّادس من الآداب خفض الصوت و الإسرار بالقراءة لأنّه أبعد من الرياء، و أقرب الى الخلوص و أحدى بتوجّه النفس و حضور القلب، لنيل المقامات، و التحقق بحقائق الآيات، فإنّ الصوت كلّما ازداد جهارته ازداد توجّه النفس إليه، و اشتغال القلب به، فإنّه ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «2» فينصرف، شطر من توجّه القلب إلى ضبط

ميزان الصوت و التحسين، و التحرير، و الانتقال، و غير ذلك من الأحوال.

و أمّا خفض الصوت فالقارئ معه يتمكّن من صرف تمام القلب الى التدبّر في المعاني، و التحقّق بحقائقها، و لذا يمكن في الإسرار من التدبر و التفكير ما لا يمكن في الإجهار، بل لعلّه يحصل في الاستماع من الالتفات ما لا يحصل في القراءة، و لا تغفل عن هذه الدقيقة، فإنّها كثيرة الفائدة.

هذا مضافا الى قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «3» أى المجاوزين ما أمروا به في الدعاء من الإخفات، و لذا

قال

______________________________

(1) قرب الاسناد ص 42 المطبوع بطهران بأمر أية اللّه العظمى البروجردي قدّس سرّه.

(2) الأحزاب: 4.

(3) الأعراف: 55. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 354

الصادق عليه السّلام على ما رواه في «مصباح الشريعة»: «استعن باللّه في جميع أمورك متضرّعا إليه أناء الليل و النّهار، قال: و الاعتداء من صفة قرّاء زماننا هذا و علامتهم.

و

في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه كان في غزاة، فأشرف على واد، فجعل الناس يهلّلون، و يكبّرون، و يرفعون أصواتهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس اربعوا «1» على أنفسكم، أما إنّكم لا تدعون أصمّ، و لا غائبا، إنّكم تدعون سميعا قريبا، إنّه معكم» «2».

و قال سبحانه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ «3».

و

قد ورد في تفسيره، عن أحدهما عليهما السّلام: أنّه لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غير اللّه لعظمته «4».

و

في «مجالس الشيخ» بالإسناد عن أبى ذرّ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيّة له قال: «يا أبا ذرّ اخفض صوتك عند الجنائز، و عند

القتال، و عند القرآن» «5».

و

في «الكافي» عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط

______________________________

(1) اربعوا على أنفسكم: توقّفوا.

(2) مجمع البيان ج 3 ص 78، و أخرجه أبو داود في صحيحة ج 1 ص 350، و الترمذي ج 13 ص 14 و مسلم ج 8 ص 73 بتفاوت يسير.

(3) الأعراف: 205.

(4) الكافي ج 2 ص 205.

(5) المجالس و الأخبار ص 338. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 355

بدمه في سبيل اللّه «1».

هذا مضافا إلى ما يدلّ على افضليّة العبادة سرّا عليها علانية،

كالنبوى: «أعظم العبادة أجرا أخفاها» «2»

و

الجعفري: «و اللّه العبادة في السرّ أفضل منها في العلانية» «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، و ربما يرجّح الجهر على الإخفات لاقتضاء الحال، أو لإعلاء كلمة الدّين، أو لتعليم المؤمنين، أو لانزجار النفس من الإخفات، أو لاهتداء الناس في البراري، سيّما الليالي، أو لتنبيه الغافلين، أو إيقاظ النائمين، أو إسماع المستمعين، أو لغير ذلك من المصالح التي لعلّه لا يمكن ضبط خصوصياتها، فيرجّح الإجهار حينئذ على حسب ما اقتضته المصلحة.

و على شي ء من ذلك أو غيره يحمل ما

رواه الحلّي في آخر «السرائر» بالإسناد، عن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرّجل لا يرى أنّه صنع شيئا في الدعاء و في القراءة حتى يرفع صوته، فقال عليه السّلام: لا بأس، إنّ علي بن الحسين عليه السّلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار، و إنّ أبا جعفر عليه السّلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان إذا قام من الليل و

قرأ رفع صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من الساقين «4»، و غيرهم، فيقومون

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 454 ح 6- الوسائل ج 6 ص 209 ح 23.

(2) الوسائل ج 1 ص 79 ح 8- قرب الاسناد ص 64 و فيه: أعظم العبادات.

(3) الكافي ج 4 ص 8 ح 2- الوسائل ج 1 ص 77 ح 2.

(4) في المصدر: السقّائين. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 356

و يستمعون الى قراءته «1».

و ستسمع رواية أبى بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام في الأمر بالقراءة بين القرائتين «2»، يعنى المتوسط في الرفع و الخفض.

السابع من الآداب الظاهرية تحسين الصوت في قراءة القرآن بما لا يبلغ حدّ الغناء، لما سمعت من خبر إسحاق بن عمّار، و لما

رواه الصدوق في «العيون» عن الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» «3».

و في رواية أخرى مثله، و زاد: «و قرأ عليه السّلام: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ «4». «5»

قلت: و يستفاد منه أنّ الصوت الحسن نعمة زائدة منه سبحانه.

و يؤيّده ما

في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: «إنّه هو الوجه الحسن، و الصوت الحسن، و الشعر الحسن «6».

و

عن الصادق عليه السّلام في معنى الترتيل: «هو أن تمكث و تحسّن به صوتك» «7».

و

فيه، عن علقمة بن قيس، قال: كنت حسن الصوت بالقرآن، و كان

______________________________

(1) مستطرفات السرائر ص 97.

(2) الكافي ج 2 ص 451 ح 13.

(3) عيون اخبار الرضا عليه السّلام ص 227- البحار ج 79 ص 255 ح 4.

(4) فاطر: 1.

(5) عيون الاخبار ج 2 ص 69 ح 322 و عنه في البحار

ج 69 ص 193 ح 6.

(6) مجمع البيان ج 8 في تفسير سورة الملائكة ص 400.

(7) مجمع البيان ج 10 ص 278. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 357

عبد اللّه بن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه، فاذا فرغت من قراءتي، قال: زدنا من هذا فداك أبي و أميّ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ حسن الصوت زينة القرآن» «1».

و

عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ لكلّ شي ء حلية، و حلية القرآن حسن الصوت» «2».

و

في «الكافي» عن النوفلي «3»، عن أبى الحسن عليه السّلام قال: ذكرت الصوت عنده، فقال عليه السّلام: إنّ على بن الحسين عليه السّلام كان يقرأ، فربما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته، و انّ الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله النّاس من حسنه، قلت: و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّى بالناس و يرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون» «4».

و فيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ما مرّ عن أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «5».

و

عنه عليه السّلام، قال: كان علي بن الحسين صلوات اللّه عليه أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان السقّاؤون يمرّون، فيقفون ببابه يسمعون قراءته و كان أبو جعفر عليه السّلام أحسن النّاس صوتا «6».

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على استحباب تحسين الصوت، بل و إنّه من مننه

______________________________

(1) مجمع البيان ج 1 ص 16 الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

(2) جامع الاخبار ص 57- بحار الأنوار ج 92 ص 190 عن الجامع.

(3) هو على بن محمّد بن

سليمان النوفلي رمي، روايات عن ابى الحسن العسكري عليه السّلام.

(4) الكافي ج 2 ص 615 ح 4.

(5) الكافي ج 2 ص 615 ح 9.

(6) الكافي ج 2 ص 16 ح 11.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 358

العظيمة، و نعمه الجسيمة على عبده، و أنّ النبي و الإمام أكمل الناس في ذلك.

و أمّا ما بلغ من ذلك حدّ الغناء و الترجيح فقد عبّر عنه في الأخبار بلحون أهل الفسق، و أهل الكبائر.

كما

في «الكافي» عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرأوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق، و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح، و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه شأنهم» «1».

و

في «المجمع» عن عبد الرحمن بن سائب، قال: قدم علينا سعد بن أبى وقّاص، فأتيته مسّلما عليه، فقال: مرحبا يا ابن أخى بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن، قلت: نعم و الحمد للّه، قال: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه فابكو، فإن لم تبكو فتباكوا و تغنّوا به، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» «2».

قال شيخنا الطبرسي قدّس سرّه: تأوّل بعضهم تغنّوا به بمعنى استغنوا به، قال: و أكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت و تحزينه «3».

قال الفيض قدّس سرّه في «الصّافى» بعد ذكره، و ذكر بعض ما سمعت من الأخبار: إنّ المستفاد منها جواز التغنّي بالقرآن و الترجيع به، بل استحبابهما، فما ورد من النهى عن الغناء كما يأتى في محلّه ينبغي حمله على لحون أهل الفسوق و الكبائر، و على ما كان

معهودا في زمانهم عليهم السّلام في فسّاق الناس، و سلاطين بنى

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 614 ح 3.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 36- الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 36- الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 359

أميّة، و بنى العبّاس من تغنّي المغنيّات بين الرّجال، و تكلّمهنّ بالأباطيل، و لعبهنّ بالملاهي من العيدان، و القصب، و نحوها «1».

قال في «الفقيه»: سأل رجل عليّ بن الحسين عليهما السّلام عن شراء جارية لها صوت، فقال عليه السّلام: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة «2».

قال: يعنى بقراءة القرآن، و الزهد، و الفضائل التي ليست بغناء، و أمّا الغناء فمحظور.

و

في «الكافي» و «التهذيب» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أجر المغنيّة التي تزّف العرائس ليس به بأس، ليست بالّتي تدخل عليها الرّجال «3».

و في معناه أخبار أخر، و كلام الفقيه يعطى أنّ بناء الحلّ و الحرمة على ما يتغنّى به، و الحديث الآخر يعطى أنّ السماع صوت الأجنبيّة مدخلا في الحرمة، فليتأمّل انتهى.

حرمة الغناء:

أمّا حرمة الغناء في الجملة فلا ريب فيه، و كأنّه من ضروريات المذهب، بل الدين، و ادّعوا عليه إجماع المسلمين، نعم ربما يحكى عن بعض أهل الخلاف الخلاف فيه، كما حكاه بعض العامّة عن معاوية «4»،

______________________________

(1) الصافي ج 1 ص 46- المقدّمة الحادية عشرة.

(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 42 ح 139.

(3) الكافي ج 5 ص 120 ح 3- التهذيب ج 6 ص 357 ح 1022.

(4) معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب الأموي المولود (20) قبل الهجرة و المتوفي (60) ه حكى العيني في عمدّة القارى شرح صحيح البخاري ج 5 ص 160

أنّ معاوية كان ممّن ذهب إلى إباحة الغناء.

و قال الغزالي في احياء العلوم ج 2 ص 138: نقل أبو طالب المكي إباحة السماع عن جماعة، فقال: سمع من الصحابة عبد اللّه بن جعفر، و عبد اللّه بن الزبير، و المغيرة بن شعبة، و معاوية و غيرهم.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 360

و المغيرة «1» بن شعبة، و ابن الزبير «2»، و عبد اللّه «3» بن جعفر، بل كان يعدّ ذلك من مطاعنهم.

و لذا قال ابن أبي الحديد: ما ينسب الى معاوية من شرب الخمر سرا لم يثبت إلّا أنّه لا خلاف في أنّه كان يسمع الغناء «4».

و حكى الشيخ في «الخلاف» عن أبي حنيفة «5»، و مالك، و الشافعي «6» كراهة الغناء، و عدم حرمته «7».

و ما ربما يوجد في أخبارنا ممّا يوهم الإباحة محمول على التقيّة قطعا، فإنّ الإماميّة قديما و حديثا على الحرمة، بل عدّها المحدّث «8» الحرّ العاملي في «الفوائد الطوسية»، و المدقّق «9» القمى من الضروريات، و الأخبار متواترة على التحريم في الجملة، بل قال في «الفوائد الطوسيّة»: إني اعتبرتها من جميع كتب

______________________________

(1) المغير بن شعبة بن ابى عامر الثقفي المتوفّى (50)- الاعلام ج 8 ص 199.

(2) عبد اللّه بن الزبير بن العوّام المقتول (73)- تاريخ ابن الأثير ج 4 ص 135.

(3) عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب المتوفّى (80)- العبر ج 1 ص 91.

(4) شرح «النهج» لابن ابى الحديد ح 5 ص 130 و فيه: أنّ نوم معاوية كان بين القيان المغنيّات و اصطحابه معهّن.

(5) ابو حنيفة: النعمان بن ثابت الكوفي المتوفى (150)- تاريخ بغداد ج 13 ص 333.

(6) الشافعي: محمد بن إدريس القرشي المتوفى بمصر (204)- تذكرة الحفاظ

ج 1 ص 329.

(7) لم أظفر على هذه: الحكاية في خلاف الشيخ، نعم في «الرسالة القشيريّة» ص 467: من قال بإباحته (اى السماع و الغناء) من السلف مالك بن أنس، و أهل الحجاز كلّهم يبيحون الغناء، إلى ان قال: و أمّا الشافعي فإنّه لا يحرّمه، و يجعله في العوامّ مكروها.

(8) هو محمّد بن الحسن بن عليّ العاملي المتوفّى (1104)- الاعلام ج 6 ص 321.

(9) هو أبو القاسم بن محمد حسن الجيلاني الشفتي القمى المتوفّى (1231 ه)- معجم المؤلفين ج 8 ص 116.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 361

الحديث الّتي عندي فوجدتها تقارب ثلاثمائة حديث وردت بلفظ الغناء، و بألفاظ أخر توافق معناه، ثمّ تعجّب من الأردبيلى «1» في «شرح الإرشاد» حيث اعتمد في تحريمه على الإجماع، قائلا: إنّه لو لاه لما جزم بتحريمه مدعيّا ضعف الأخبار بعد نقل يسير منها «2». «3» أقول: و لعلّ تأمّل الأردبيلى ناشئ عن قلّة التتبع، فإنّ الأخبار الدالّة على حرمته مستفيضة جدّا، بل متواترة قطعا، و فيها الصّحاح، و غيرها، بل يستفاد أيضا من بعض الآيات، و لو بمعونة بعض الأخبار الواردة في تفسيرها، إذ

قد ورد في تفسير قول الزور في قوله تعالى: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «4» أنّه الغناء، كما في صحيحة الشحّام «5»، و موثّقة أبى بصير «6»، و حسنة هشام «7»، و مرسلة ابن «8» عمير،

______________________________

(1) هو احمد بن محمد الأردبيلى الفقيه المتوفى بكربلاء سنة (993 ه)- الاعلام ج 1 ص 223.

(2) قال في مجمع الفائدة ج 8 ص 59: ما رأيت رواية صريحة في التحريم ... إلخ.

(3) الفوائد الطوسية ص 84- 88.

(4) الحجّ: 31.

(5) هو زيد بن يونس ابو اسامة الشحّام الكوفي كان من أصحاب الباقر

و الصادق صلوات اللّه عليهما، و ثقة النجاشي، معجم رجال الحديث ج 7.

و صحيحة ما

روى في الكافي الفروع منه ج 2 ص 201: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله عز و جل:

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: قول الزور الغناء.

(6) ابو بصير كنية لخمسة أشخاص و إذا أطلق فالمراد به يحيى بن القاسم الأسدى المتوفى حدود (148) و موثّقته ما

روى في فروع الكافي ج 2 ص 200: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: الغناء.

(7) حسنة هشام ما

رواها على بن إبراهيم في تفسيره ص 440 عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن الصادق عليه السّلام أنّه قال في تفسير قَوْلَ الزُّورِ: الغناء

، و هشام الذي روى عن الصادق عليه السّلام و روى عنه ابن ابى عمير مشترك بين هشام بن الحكم و هشام بن سالم، و كلاهما موثّقان.

(8) مرسلة ابن أبى عمير ما رواها

في فروع الكافي ج 2 ص 201 باسناده عن ابن أبى عمير عن بعض تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 362

و رواية يحيى بن عبادة «1».

و به فسّر الزور في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ «2».

و لهو الحديث في قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ «3» في أخبار مستفيضة، كصحيحة أبي الصباح «4»، و خبر محمد بن مسلم «5»، و مهران «6» بن محمد، و الوشّاء «7»، و الحسن «8» بن هارون، و عبد الأعلى «9»، و غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتى تمرّ عليك ان شاء اللّه تعالى

______________________________

أصحابه عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: قَوْلَ الزُّورِ الغناء.

(1) هو يحيى بن

عبادة المكي، عدّة البرقي من أصحاب الصادق عليه السّلام، و روايته هي التي رواها الصدوق منه باسناده في «معاني الاخبار» ص 349 في باب فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ح 1.

(2) الفرقان: 72.

(3) لقمان: 6.

(4) هو أبو الصباح الكناني إبراهيم بن نعيم العبدي من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السّلام، وثّقه النجاشي و

قال: كان أبو عبد اللّه عليه السّلام يسمّيه «الميزان»

لثقته، و المراد بصحيحة هي التي رواها الكليني في الكافي ج 6 كتاب الأشربة ص 433 ح 13 في معنى الزّور في لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ.

(5) هو محمّد بن مسلم بن رباح الثقفي أبو جعفر الطّحان عدّ من أصحاب الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السّلام وثقه النجاشي و قال: كان من أوثق الناس، توفى سنة (150) و المراد بخبره، ما رواه في الكافي ج 6 ص 433 كما رواه أيضا عن أبى الصباح الكناني.

(6) هو مهران بن محمد بن أبى نصر السكوني، ترجمه النجاشي و قال: له كتاب، و المراد بحديثه ما رواه الكليني في الكافي ج 6 باب الغناء ص 433 ح 16.

(7) هو الحسن بن على بن زياد الوشّاء البجلي الكوفي من وجوه أصحاب الرضا عليه السّلام، و المقصود من خبره ما رواه في الكافي ج 6 ص 432 ح 8 في باب الغناء.

(8) هو من أصحاب الصادق عليه السّلام و حديثه هو الذي رواه مهران بن محمد المتقدم ذكره.

(9) هو مشترك بين عشرة رجال ثلاثة منهم موثّقون و الباقون مجاهيل و أمّا رواية عبد الأعلى هي الّتى

رواها الصدوق في معاني الاخبار ص 99 عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: قَوْلَ الزُّورِ الغنا. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 363

في

تفسير الآيات، و إنّما طويناها في المقام حذرا من التكرار.

بل

في «المقنع» للصدوق: «شرّ الأصوات الغناء «1».

الغناء ممّا وعد اللّه عليه النّار، و تلا قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «2». «3» و

في «العيون» عن الرّيان بن الصلت، قال: سألت الرضا عليه السّلام يوما بخراسان فقلت: يا سيّدى إنّ هشام «4» بن إبراهيم العبّاسى حكى عنك أنّك رخصّت له في استماع الغناء؟ فقال عليه السّلام: كذب الزنديق، إنّما سألنى عن ذلك فقلت له: إنّ رجلا سأل أبا جعفر عليه السّلام عن ذلك، فقال أبو جعفر عليه السّلام: إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ فقال: مع الباطل، فقال أبو جعفر عليه السّلام: قد قضيت «5».

و

عن إبراهيم بن محمّد المدني عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سئل عن الغناء، و أنا حاضر، فقال عليه السّلام: «لا تدخلوا بيوتا اللّه معرض عن أهلها» «6».

و

في «تفسير القمى» بالإسناد عن عبد اللّه بن عبّاس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث قال: «إنّ من أشراط القيامة إضاعة، الصلاة، و اتباع الشهوات، و الميل

______________________________

(1) المقنع للصدوق ط قم ص 456 رواه عن أبى عبد اللّه الصادق عليه السّلام.

(2) سورة لقمان: 6.

(3) الوسائل ج 12 كتاب التجارة باب 99 ص 226 ح 6 عن أبى جعفر عليه السّلام.

(4) هشام بن إبراهيم العبّاسى الكذّاب كان شيعيّا، ثم انقلب الى الزندقة كان ينقل أخبار الإمام الرضا عليه السّلام إلى ذي الرياستين و المأمون فولّاه المأمون حجابة الإمام عليه السّلام فكان لا يتكلم في داره بشي ء إلّا أورده

هشام على المأمون و وزيره- معجم رجال الحديث ج 19.

(5) عيون الأخبار ص 148 و عنه الوسائل ج 12 ص 227 ح 14.

(6) فروع الكافي ج 2 ص 200. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 364

الى الأهواء ... إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه، و يتخذونها مزامير ... إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: و يتغنّون بالقرآن الى أن قال: فأولئك يدعون في ما ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس «1».

و

في «العيون» عن الرّضا عن آباءه عن عليّ عليهم السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إني أخاف عليكم استخفافا بالدين، و قطيعة الرّحم، و أن تتخذوا القرآن مزامير» «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتى لا ينبغي معها الإصغاء إلى ما يظهر من الكاشاني في «الوافي» تبعا للغزالى، و غيره من العامّة من عدم حرمة الغناء في نفسه، و من حيث إنّه صوت، بل الحرمة إنّما تعرض للعوارض التي تعرضه عن دخول الرجال على المغنيّات، و تكلّمهنّ بالأباطيل، و لعبهنّ الملاهي من العيدان، و المزامير، و القصب، و غيرها «3».

و ربما يميل الى ذلك الخراساني «4» في «الكفاية» حيث قال بعد نقل جملة من الأخبار الأمرة بتحسين الصوت ما لفظه:

يمكن الجمع بين هذه الأخبار و الأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين:

أحدهما تخصيص تلك الأخبار بما عدى القرآن، و حمل ما يدلّ على ذمّ التغنّى بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو، كما يصنعه الفّساق في غنائهم.

______________________________

(1) تفسير على بن إبراهيم القمى ج 2 ص 304- 307.

(2) عيون أخبار الرّضا ج 2 ص 42- بحار الأنوار ج 92 ص 194 ح 8

عن العيون.

(3) الوافي ج 3 ص 35 كتاب المعايش و المكاسب باب 34.

(4) هو المولى محمد باقر بن محمد مؤمن الخراساني السبزواري المتوفى (1090 ه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 365

و ثانيهما أن يقال: المذكور في تلك الأخبار «الغناء»، و المفرد المعرّف لا يدلّ على العموم لغة، و عمومه إنّما يستنبط من حيث إنّه لا قرينة على ارادة الخاصّ، و إرادة بعض الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة و سياق البيان و الحكمة، فلا بدّ من حمله على الاستغراق و العموم، و هاهنا ليس كذلك، لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري المغنيّات في مجالس الفجور و الخمور، و غيرها، فحمل المفرد المعرّف على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد، و في عدّة من الأخبار إشعار بكونه لهوا باطلا، و صدق ذلك في القرآن و الدعوات، و الأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة و المهيّجة للأشواق إلى عالم القدس محلّ تأمّل.

فحينئذ ان ثبت الإجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعا، و إلّا بقي حكمه على أصل الإباحة.

ثمّ ذكر استثناء الحدى، و فعل المرأة له في الأعراس ... الى أن قال: و عن بعضهم استثناء مراثي الحسين عليه السّلام «1».

أقول: قد ظهر ممّا سمعت أنّ عروض الشبهة في هذه المسألة القطعيّة إنّما حصل لبعض الأمور أو كلّها:

أحدها: الوسوسة في أصل الحرمة، و قد عرفت أن عليها الضرورة القطعيّة، فضلا عن الإجماع بقسميه، و الآيات، و الاخبار المتواترة.

و أمّا ما

في خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام المرويّ في «قرب الإسناد» قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر، و الأضحى، و الفرح؟

______________________________

(1) مكاسب الشيخ

المطبوع بالنجف الأشرف بتحقيق كلانتر ج 3 ص 243 إلى ص 267. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 366

قال عليه السّلام: لا بأس به ما لم يعص به» «1».

و في كتاب علي بن جعفر مثله، إلّا أنّ فيه: «ما لم يزمر به»

، أى ما لم يلعب معه بالمزمار «2».

فمع اضطرابه، و احتمال حمله على ارادة التغنّى بالشعر على وجه لا يصل الى حدّ الغناء، أو على خصوص العرس في اليومين، أو على غير ذلك.

محمول على التقيّة، لما سمعت من ولوع أكثر الاموية و العباسيّة بذلك، و موافقة فقهائهم لهم عليه.

كما يحمل عليها ما

رواه القمى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «و رجّع بالقرآن صوتك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا «3».

مع احتمال حمله على ترجيع دون حدّ الغنا كما تعرف، مع أنّا لنأبى عن طرح مثله، بعد ما سمعت من الأدلّة القطعيّة التي لا تأمّل معها في ثبوت أصل الحكم.

ثانيها: التأمّل في عموم الحكم الذي لا ينبغي التأمّل فيه، نظرا إلى.

استفادته من الإطلاقات المتقدّمة الّتي هي كالعمومات.

فمناقشة الخراساني في دلالتها على العموم ضعيفة جدّا، و حمل اللام في المعرّف بها على العهد، مع ظهورها في الماهيّة من حيث هي، أو الشائعة مع مساعدة غيرها من الإطلاقات و الانسباق بعيد قطعا.

______________________________

(1) قرب الاسناد ص 121- و عنه الوسائل ج 13 ص 85 ح 5.

(2) الوسائل ج 12 ص 85 ذيل ح 5.

(3) الكافي ج 2 ص 616 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 367

و منه يظهر أيضا ضعف ما يحتمل إرادته في كلام الكاشاني، من أنّ المحرّم خصوص الصوت الغنائى المقترن للأباطيل و الملاهي من المزامير، و

الأوتار، و غيرها، حيث إنّ كلامه محتمل له، كما أنّه محتمل لما نسبه إليه المشهور من أنّ حرمته ليس لكونه فردا من الصوت مشتملا على كيفيّة خاصّة، بل لاقترانه بغيره من المحرّمات، كدخول الرجال، و التكلّم بالباطل، و اللّعب بالملاهي، و غيرها.

و أما تخصيص الحكم بغير القرآن كما هو أحد وجهي الخراساني، أو بغير المراثي كما عن الأردبيلى و غيره، أو بغير ما كان من القرآن، و الدعاء، و الذكر، و غيرها ممّا يذكّر الآخرة، و يهيّج الشوق، و ينّعش القلب، كما عن آخرين، فكلّ ذلك ممّا لا دليل عليه، بل يردّها ما سمعت من الأخبار، و غيرها.

نعم ربما يستدلّ له بالعمومات أو الإطلاقات الآمرة بقراءة القرآن، و الدعاء، و عموم أدلّة الإبكاء، و الإرشاد الشّاملة لما كان على هذه الكيفيّة الخاصّة، و على فرض شمول أدلّة تحريم الغناء للمقام فهو من تعارض العموم من وجه يجب فيه الرجوع الى المرجّحات، أو الأدلّة الخارجيّة، و قضيّتها في المقام الإباحة للأصل، مضافا الى خصوص ما دلّ على الأمر بالتغنّى في القرآن

كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خبر «المجمع»: «تغنّوا به فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» «1».

و

قول أبى جعفر عليه السّلام في خبر أبي بصير: «و ترجّع بالقرآن صوتك، فإنّ اللّه تعالى يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا» «2».

و ما مرّ من الأخبار الآمرة بتحسين الصوت، و انّه حلية القرآن «3».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 4 ص 273 ح 4681- مجمع البيان ج 1 ص 16.

(2) الوسائل ج 4 ص 24 من أبواب قراءة القرآن ح 1.

(3) أصول الكافي ص 599.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 368

و في الكلّ نظر: أمّا العمومات الآمرة بالقراءة فلأنّها

إنّما يدلّ على استحبابها حيث لم يشتمل على جهة محرّمة، أمّا معها فالتحكيم لأدلّة التحريم، من دون فهم التعارض أصلا، و لذا لم يتأمّل أحد في تقديم ما دلّ على حرمة الزنا، و اللّواط، و شرب الخمر على ما دلّ على استحباب قضاء حوائج المؤمنين، و إدخال السّرور في قلوبهم، و إن كان بين الدليلين العموم من وجه، و ذلك لأنّ أدلّة الإباحة و الاستحباب و الكراهة لا يعارض شي ء منها شيئا من أدلّة الوجوب و المحرمة.

نعم لو قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهى على جميع الوجوه اتّجه اجتماع الجهتين المستلزمتين للحكمين كالصّلاة في الحمّام، و لو مع تعيّنه لتضّيق الوقت، أو عدم مباح غيره، فيتصوّر حينئذ اجتماع حرمة القراءة و استحبابها في قراءة القرآن بكيفيّة محرّمة كالغناء، أو في هواء مغصوب، أو بلسان مغصوب عينا كلسان العبد الأبق أو العاصي، أو منفعة كالأجير لقراءة غير القرآن.

و أمّا خبر «المجمع» فمع ضعفه، و كونه من طريق العامّة، و ظهور الحمل على التقيّة، سيّما مع شيوع المذهب بين العامّة، محمول على ما مرّ في كلام الطبرسي في المعنيين.

و يؤيّده ما

في «النهاية» لابن الأثير، قال: «في حديث القرآن: «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا»

أى من لم يستغن به من غيره، يقال: تغنّيت، و تغانيت، و استغنيت.

قيل: أراد من لم يجهر بالقراءة فليس منّا.

و قد جاء مفسّرا

في حديث آخر: «ما اذن اللّه لشي ء كإذنه للنبي يتغنّى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 369

بالقرآن يجهر به» «1».

قيل: إنّ قوله: «يجهر به» تفسير لقوله «يتغنّى به».

و قال الشافعي «2»: معناه تحسين القراءة و ترقيقها، و يشهد له

الحديث الآخر: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»

و كلّ من رفع صوته و والاه فصوته عند العرب

غناء.

قال ابن الأعرابي «3»: كانت العرب تتغنّى بالركباني «4» إذا ركبت، و إذا جلست في الأفنية، و على أكثر أحوالها، فلمّا نزل القرآن أحب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يكون هجيرتهم «5» بالقرآن مكان التغنّي بالركباني، الى أن قال: و في حديث عائشة: «و عندي جاريتان يتغنيّان بغناء بعاث» «6»، أى تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث، و هو حرب كانت بين الأنصار، و لم ترد الغناء المعروف بين أهل اللهو و اللعب «7».

و حكى السيّد المرتضى عن أبى عبيد القاسم بن سلّام مستشهدا له ببيت الأعشى «8»:

______________________________

(1) المسند لابن حنبل ج 2 ص 271- و ص 285- و ص 450.

(2) هو محمد بن إدريس الشافعي امام الشافعيّة توفي سنة (204)- تذكرة الحفّاظ ج 1 ص 365.

(3) هو محمد بن زياد الأديب اللغوي الكوفي المتوفى (231)- تاريخ بغداد ج 5 ص 282.

(4) الركبانى: نشيد بالمدّ و التمطيط- الفائق ج 1 ص 458.

(5) الهجّيرى (بكسر إلها و الجيم المشدّدة و آخرها الألف المقصورة): العادة و الدأب.

(6) قال الطريحي في «المجمع»: بعاث بالضم كعزاب يوم حرب في الجاهليّة بين الأوس و الخزرج و كان الظفر للأوس، استمرّ مائة و عشرين سنة حتّى ألفّ بينهم الإسلام.

(7) نهاية ابن الأثير ج 3 ص 391- 392 في كلمة (غنا).

(8) هو عامر بن الحارث بن رباح الباهلي من همدان، شاعر جاهلي- الاعلام ج 4 ص 16.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 370

تفسير الصراط المستقيم ج 2 399

و كنت امرا زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن «1»

و قول الآخر:

كلانا غنّي عن أخيه حياته و نحن إذا متنا أشدّ تغانيا «2»

و احتجّ أيضا بقول ابن مسعود: «من قرأ سورة آل عمران

فهو غنيّ» أى مستغن.

و

بخبر مرفوع، عن عبد اللّه بن «3» نهيك أنّه دخل على سعد «4» بيته، فاذا مثال رثّ، و متاع رثّ، فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».

قال أبو عبيد «5»: فذكره المتاع الرثّ و المثال الرثّ يدلّ على أنّ التغنّى بالقرآن الاستغناء به عن الكثير من المال، و المثال هو الفراش، و لو كان التغنّى معناه الترجيح لعظمت المحنة علينا بذلك، إذا كان من لم يرجّع بالقرآن فليس منه صلّى اللّه عليه و آله.

و ذكر غير أبي عبيد جوابا آخر، و هو أنّه عليه السّلام أراد: من لم يحسّن صوته بالقرآن و لم يرجّع فيه.

______________________________

(1) ديوان الأعشى: 22.

(2) نسبه صاحب «اللّسان» في (غنى) إلى المغيرة بن حبناء التميمي، و ذكره المبرّد في «الكامل» ج 3 ص 14 في ضمن أبيات لعبد اللّه بن معاوية و قبله: فعين الرضا عن كلّ عيب كليلةو لكنّ عين السخط تبدي المساويا

(3) أورده ابن أبى حاتم في الجرح و التعديل ج 5 ص 183 و قال: سمع عليّا رضى اللّه عنه و روى عنه أبو إسحاق الهمداني.

(4) هو سعد بن ابى وقّاص مالك القرشي الزهري الصحابي المتوفى بالعقيق على عشرة أعيان من المدينة سنة (55 ه)- الاعلام ج 3 ص 137.

(5) هو أبو عبيد القاسم بن سلّام الهروي الخراساني البغدادي المتوفى (224)، الاعلام ج 6 ص 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 371

و احتجّ صاحب هذا الجواب

بحديث عبد الرحمن «1» بن السائب قال: أتيت سعدا- و قد كفّ بصره- فسلّمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقال: مرحبا بابن أخي، بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن، و قد سمعت رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

إنّ هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغن بالقرآن فليس منّا»

... الى أن قال السيّد:

و قد ذكر محمّد بن القاسم «2» الأنبارى وجها ثالثا في الخبر، قال: أراد عليه السّلام:

من لم يتلذّذ بالقرآن و لم يستحله، و لم يستعذب تلاوته كاستحلاء أصحاب الطرب للغناء و التذاذهم به.

ثمّ قال السيّد: و جواب أبي عبيد أحسن الأجوبة و أسلمها، و جواب أبى بكر أبعدها ... إلى أن قال: و يمكن أن يكون في الخبر وجه رابع خطر لنا، و هو أن يكون

قوله عليه السّلام: «من لم يتغنّ»

من غنى الرجل بالمكان إذا طال مقامه به، و منه قيل: المغنى و المغانى، قال اللّه تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا «3» أى لم يقيموا بها ...

إلى أن قال: فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يقم على القرآن فيتجاوزه و يتعدّاه الى غيره و لم يتخذه مغنى و منزلا و مقاما فليس منّا «4».

أقول: و هذه الوجوه أكثرها تكلّفات مستغنى منها بعد ما سمعت من ضعف الخبر، و عاميّته، و مخالفته، على فرض ظهوره فيما استدلّوا له به، للكتاب

______________________________

(1) هو عبد الرحمن بن السائب بن أبى السائب صيفي بن عابد القرشي المخزومي، قتل يوم الجمل.

(2) هو محمّد بن القاسم بن محمّد بن بشّار أبو بكر الأنبارى الأديب اللّغوى ولد في الأنبار سنة (271) و توفّي ببغداد سنة (328 ه).

قيل: كان يحفظ ثلاثمائة ألف شاهد في القرآن- الاعلام ج 7 ص 226.

(3) الأعراف: 92.

(4) درر القلائد و غرر الفوائد للسيّد المرتضى ج 1 ص 31- 35.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 372

و السنة، و الإجماع، بل

الضرورة حسبما سمعت، و لعلّ الأظهر فيه حمله على الاستغناء، لما سمعت مضافا الى التصريح به في «الصحاح» و «القاموس» و «مصباح المنير» و غيرها، و أمّا غيره من المعاني فبعيد جدّا.

و مثلها في البعد ما حكاه السيّد عن بعض السلاطين من معاصريه، من حمله على ما يشبه الغنا كالتباكى لما يشبه البكاء للإتيان بما يمتاز عن الباطل مع تحسين الصوت فيه، و الأمر سهل بعد ما سمعت.

و أمّا خبر أبى بصير فلا دلالة فيه على ذلك، فإنّ التحسين و الترجيع أعمّ من الغناء، و منه يظهر النظر في غيره من الأخبار أيضا.

الثالث من الأمور الّتى صارت موجبة لعروض الشبهة في هذه المسألة توهّم كون الغناء من صفات اللفظ و المقروء، لا الصوت و القراءة كما عن البعض.

و ربّما يؤيّد باستظهاره من الأخبار المفسّرة للزور، و لقول الزور، و للهو الحديث، حيث إنّ الظاهر منها بل من الآيات كونه من مقولة الكلام، و لذا عبّر عنه بقول الزور أى الباطل، و بلهو الحديث الذي هو من اضافة الصفة الى الموصوف.

بل قد يؤيّد أيضا بما

في بعض الأخبار من أنّ قول الزور أن يقول للّذى يغنّي: أحسنت «1».

و

بقول علي بن الحسين عليهما السّلام في مرسلة «الفقيه» المتقدّم في الجارية التي لها صوت: «لا بأس لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة» «2»

يعنى بقراءة القرآن في الزهد،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 12 ص 229- الباب 99 من أبواب ما يكتسب به ح 21.

(2) الوسائل ج 12 ص 86- الباب 16 من أبواب تحريم بيع المغنّية و شرائها ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 373

و الفضائل الّتى ليست بغناء، و لو مع احتمال كون التفسير من الصدوق أيضا.

قلت: و فساد هذا الوهم أيضا

واضح، إذ من المقطوع به بعد التأمّل في كلمات اللغويين و الفقهاء كون الغناء من صفات الأصوات لا الألفاظ و لذا عرّفوه بالصوت، و بمدّه، و بالصوت المطرب، و بتطريبه، و ترجيعه، بل لو استقصيت كلمات الجميع وجدتها راجعة الى شي ء ممّا سمعت، بل في «المصباح المنير»: «الغناء مثل كتاب: الصوت» و

في «المقنع» للصدوق مرسلا عن الصادق عليه السّلام: قال: «شرّ الأصوات الغناء» «1»

مضافا الى أنّ للأقوال المحرّمة عنوانات أخر كالكذب، و النميمة، و البهتان، و الكفر، و نحوها، و من البيّن أنّهم لم يقصدوا بتحريم الغناء إلّا التنبيه على حرمتها من حيث هي، بل كما أنّ في الألفاظ حراما يجب تركه، فكذلك في الأصوات.

و أمّا ما جعلوه مؤيّدا لهذا التوهم من الظواهر المتقدّمة فهو بمكان من الضعف و القصور، إذ يكفى في جواز اتّصاف الحديث باللهو، و القول بالزور اتصافهما بكيفيّة لاهية باطلة، و لعلّه من المقطوع الذي لا ينبغي التأمّل فيه بعد ما سمعت و غيره.

و من العجيب ركون الشيخ التستري «2» أدام اللّه بقاءه الى ذلك، حيث إنّه بعد نقل المناقشة بما سمعت من التأييد، قال: فالإنصاف أنّها لا تدلّ على حرمة نفس الكيفيّة إلا من حيث إشعار لهو الحديث بكون اللّهو على إطلاقه مبغوضا للّه تعالى، و كذا الزور بمعنى الباطل، و إن تحقّقا في كيفيّة الكلام لا في نفسه كما إذا

______________________________

(1) المقنع ص 456 و عنه الوسائل ج 12 ص 309.

(2) هو الشيخ مرتضى بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري المتوفى (1281) بالنجف الأشرف.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 374

تغنّى في كلام حقّ من قرآن، أو دعاء، أو مرثية «1».

و فيه مع الغضّ عما سمعت أنّه مع ظهور الأدلّة في نفس الكلام

لا إشعار فيها بحرمة اللّهو، فضلا من أن يكون له إطلاق شامل لهذا الفرد الّذى هو من كيفيّات الصوت، مع أنّ المقطوع أنّ الغناء نفسه أيضا من الموضوعات المستنبطة العرفيّة و اللّغوية الّتي ثبت له حكم الحرمة بالضرورة من الدّين، فيجب الرّجوع في معناه الى العارفين بالعرف و اللّغة، و قد سمعت و تسمع أيضا اتفاقهم على أنّه من كيفيّات الأصوات.

و أمّا ما اختاره من أنّ حرمة الغناء إنّما هو من جهة كونه لهوا فستسمع تمام الكلام في فساده.

رابعها: تخصيص موضوع الغناء بأنّه إنّما يتحقّق بالنسبة الى بعض الألفاظ و الكلمات دون بعض، و إن كان من صفات الأصوات، و لا أعرف من المتفقّهة قائلا به.

نعم ذكر الشيخ التستري زيد قدره: أنّه قد ظهر من بعض من لا خبرة له من طلبة زماننا تقليدا لمن سبقه من أعياننا منع صدق الغناء في المراثي، و هو عجيب، فإن أراد أنّ الغناء ممّا يكون لموادّ الألفاظ دخل في صدقه فهو تكذيب للعرف و اللّغة، إذ لا ريب أنّ من يستمع من بعيد صوتا مشتملا على الإطراب المقتضى للرفض أو ضرب آلات اللهو لا يتأمّل في اطلاق الغناء، عليه، و إن لم يعلم موادّ الألفاظ.

و إن أراد أنّ الكيفيّة الّتى يقرأ بها للمرثية لا يصدق عليه الغناء فهو تكذيب

______________________________

(1) المكاسب مع تعليقات الكلانتر ج 3 ط النجف ص 173.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 375

للحسّ «1».

قلت: و هذا الكلام منه سلّمه اللّه صريح في نقض ما ذكره أوّلا، حيث استفاد من الأدلّة كون الغناء من صفات الألفاظ، فلا حظ تمام كلامه.

ثمّ انّ القول المحكيّ عن بعض الأعيان لعلّه هو الذي سمعت فيما حكيناه من «الكفاية». حيث قال: و

صدق ذلك في القرآن و الدعوات ... الى آخر ما تقدّم منه، سيّما بعد ملاحظة قوله فيما بعد: «فإذن إن ثبت إجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعا و إلّا بقي حكمه على أصل الإباحة.

و لعلّ إليه، أو الى غيره أشار كاشف الغطاء «2» تفريعا على مسألة أصوليّة بقوله: ففي مسألة الغناء قد ظهر في العرف الجديد تخصيصه لما لم يكن في قرآن، أو تعزية، أو ذكر، أو دعاء، أو أذان، أو مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الأئمّة عليهم السّلام، و قد علم من تتبّع كلمات أهل اللغة و أحوال الأمويّين، و العباسيّين، و إسحاق «3» بن إبراهيم شيخ المغنّين: أنّ الكثير أو الأكثر، أو الأحقّ في تسميته غناء ما كان في القرآن، و مدح النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا يعرف في أيّامهم الفرق من جهة ذوات الكلمات، و إنّما المدار على كيفيّات الأصوات، و هو الظاهر من كلام أهل اللّغة قدمائهم و متأخّريهم ممّن عاصر زمان ورود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أو تقدّمه، أو تأخّر عنه، و ما رأينا أحدا منهم أخذ فيه عدم القرآنيّة و المدح و الذكر و نحوها فيه، و لم يذكر بينهم

______________________________

(1) المكاسب مع التعليقات للكلانتر ج 3 ص 269.

(2) هو جعفر بن خضر الحلي النجفي الفقيه المتوفى بالنجف الأشرف سنة (1227 ه)- الاعلام ج 2 ص 117.

(3) هو إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلي المعروف بابن النديم المغنّي تفردّ بصناعة الغناء، ولد سنة (155) و مات ببغداد سنة (235)، كان نديما للرشيد و المأمون، و الوائق العباسيّين.- الاعلام ج 1 ص 283.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 376

خلاف في

معناه، مع اختلاف عباراتهم، فما ذلك إلّا لاتّحاد المعنى العرفي، و الإشارة إليه، و المسامحة في التعريف بالأعمّ و الأخصّ، فمدار تحقيق الغناء و خلافه على كيفيّات الأصوات من غير ملاحظة لذوات الكلمات، فقد ظهر خطأ للعرف الجديد الذي هو بمنزلة المرآة الكاشفة عن العرف القديم، كما أخطأ بديهة في تخصيص اسم الغناء بغير الجاري على وفق العربيّة و الفصاحة.

و ليس هذا بأوّل قارورة كسرت في الإسلام، فقد أخطأ في كثير من المقامات، فلا يحمل لفظ الغناء على المعنى الجديد، كما لا تحمل ألفاظ التربة، و القهوة، و اللبن، و النهر، و البحر، و الساعة، و غيرها على المعاني الجديدة.

قلت: و لعلّه رحمه اللّه تسلّم المعنى الجديد للغناء على الوجهين على سبيل الفرض و المماشاة، و إلّا فمن البيّن أنّه في حيّز المنع، و لذا ترى المتورّعين في الدين الدين إذا سمعوا قارئ القرآن، أو راثي الحسين عليه السّلام يرجّع و يطرب بصوته ينكرون عليه و يمنعونه، معلّلين بأنّه غناء محرّم.

خامسها: ما اختاره شيخنا التستري زيد علاه في المسألة، حيث قال بعد ذكر ما سمعت طرفا منه، ما لفظه: إنّ المحصّل من الأدلّة المتقدّمة حرمة الصوت المرجّع فيه على سبيل اللهو، فإنّ اللهو كما يكون بآلة من غير صوت كضرب الأوتار، و نحوه، و بالصوت في الآلة كالمزمار، و القصب و نحوهما، فقد يكون بالصوت المجرّد، فكلّ صوت يكون لهوا بكيفيّة، و معدودا من ألحان أهل الفسوق و المعاصي فهو حرام، و إن فرض أنّه ليس بغناء.

و كلّ ما لا يعدّ لهوا فليس بحرام و إن فرض صدق الغناء عليه فرضا غير محقّق لعدم الدليل على حرمة الغنا إلّا من حيث كونه باطلا و لهوا،

أو لغوا و زورا.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 377

ثمّ انّ اللهو يتحقّق بأمرين:

أحدهما: التلهّي و إن لم يكن لهوا.

و الثاني: كونه لهوا في نفسه عند المستمعين، و إن لم يقصد به التلهّي.

ثمّ انّ المرجع في اللهو الى العرف، و الحاكم بتحقّقه هو الوجدان، حيث يجد الصوت المذكور مناسبا آلات اللّهو، و الرقص، و لحضور ما تستلذّه القوى الشهوية، من كون المغنّى جارية، أو أمرد، و نحو ذلك، و مراتب الوجدان المذكور مختلفة في الوضوح و الخفاء، فقد يحسّ بعض الترجيع من مبادي الغناء و لم يبلغه.

و ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا فرق بين استعمال هذه الكيفيّة في كلام حقّ أو باطل، فقراءة القرآن، و الدعاء و المراثي بصوت يرجّع فيه على سبيل اللّهو لا إشكال في حرمتها، و لا في تضاعف عقابها لكونها معصية في مقام الطاعة و استخفافا بالمقروء و المدعوّ و المرثى.

و من أوضح تسويلات الشيطان أنّ الرجل المتستر قد تدعوه نفسه لأجل التفرّج و التنزّه و التلذّذ، إلى ما يوجب نشاطه و رفع الكسالة عنه من الزمزمة الملهية، فيجعل ذلك في بيت من الشعر المنظوم في الحكم و المراثي و نحوها، فيتغنّى به، أو يحضر عند من يفعل ذلك «1» ... إلى آخر ما ذكره زيد قدره.

و فيه أوّلا: أنّ الظاهر من كلامه أنّ حرمة الغناء إنّما هو من جهة كونه لهوا، لا لكونه غناء كما صرّح به أيضا، مع أنّك قد سمعت أنّ الغناء بنفسه ممّا قد علّق عليه الحكم في الشريعة، و أنّ حرمته ضروري من المذهب، فإناطة الحرمة على

______________________________

(1) المكاسب بتحقيق الكلانتر ط النجف ج 3 ص 215- 224.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 378

صدق اللهو وجودا و عدما

التزام بعدم ثبوت الحكم الحرمة للغناء في الشريعة.

فإن قلت: صريح كلامه هو الحرمة، غاية الأمر تعليله بكونه لهوا و زورا و باطلا، و هذا لا ينافي الحكم، بل هو مستفاد من الأدلّة.

قلت: الجهة في المقام تقييديّة تفيد تغاير الموضوع و اختلافه، و الحاصل أنّ الحكم عنده ثابت للهو و إن لم يكن غناء، لا للغناء و إن لم يكن لهوا، فالغناء من حيث هو لا حرمة له في الشريعة كما صرّح معلّلا بعدم الدليل، و قد مرّ أنّ أدلّة حرمة الغناء غير منحصرة في الأخبار المفسّرة للآيات، بل هناك أدلّة أخرى من الضرورة، و الإجماع، و الأخبار.

على أنّ التمسّك بتلك الأخبار أيضا غير متوقّف على صدق اللهو و الباطل عندنا، سيّما مع القطع على عدم الإناطة على مصاديقهما العرفيّة.

مضافا إلى أنّ حرمة اللّهو بمصاديقه العرفيّة غير ثابت قطعا، و لذا قال سلّمه اللّه في موضع آخر بعد إقامة جملة من الأدلّة على حرمته: ما لفظه: لكنّ الإشكال في معنى اللهو فإنّه إن أريد به مطلق اللعب كما يظهر من «الصحاح» و «القاموس» فالظاهر أنّ القول بحرمته شاذّ مخالف للمشهور و السيرة، فإنّ اللعب هي الحركة لا لغرض عقلائى، و لا خلاف ظاهرا في عدم حرمته على الإطلاق.

نعم لو خصّ اللهو بما يكون من بطر، و فسرّ بشدّة الفرح كان الأقوى تحريمه، و دخل في ذلك الرقص، و التصفيق، و الضرب بالطست بدل الدفّ، و كلّما يفيد فائدة آلات اللهو.

و لو جعل مطلق الحركات الّتي لا يتعلّق بها غرض عقلائي مع انبعاثها عن

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 379

القوى الشهوية ففي حرمته تردّد «1».

قلت: و الأظهر هنا العدم بإطلاقه، بل و في ما كان عن بطر

أيضا إلّا في موارد خاصّة، و لتحقيق المسألة مقام آخر.

و ثانيا: أنّ صدق اللهو بمجرّد صدق التلهّى و إن لم يكن لهوا بعيد جدّا، و مع فرضه فالحكم غير منوط به قطعا، و لذا لم يقل أحد بأنّ الصوت الخالي عن الترجيع، بل معه أيضا إذا كان في غاية الكراهة و الرداءة، غناء، أو أنّه حرام و إن لم يكن غناء، لكونه صوتا لهويا.

لكنّه سلّمه اللّه ملتزم به.

بل التحقيق أنّ بين الصوت اللهوى و الغناء عموم من وجه، و القول بحرمة غير الثاني من الأوّل و حليّة غير الأوّل من الثاني في غاية الغرابة.

و أغرب منه ما جعله من تسويلات الشيطان، فإنّ التفرّج و التنزّه و دفع الكسالة ببيت من الشعر و لو مع عدم الترجيع و كراهة الصوت ممّا ليس به بأس قطعا.

إذا عرفت مواقع عروض الشبهة في المسألة و دفعها، و أنّه لا شبهة في حرمته، و في كونه من صفات الأصوات، فاعلم أنّه قد يعرّف بأنّه الصوت المطرب، كما عن «الإيضاح» و «السرائر»، بل في «القاموس»: أنّه من الصوت ما أطرب به، و في «الصحاح»: أنّه من السماع، و في «المصباح»: أنّه مدّ الصوت و التطويل، و من شهادات «القواعد» و بعض كتب اللّغة: أنّه ترجيع الصوت و مدّه، و عن بعض كتب الأصحاب: أنّه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب،

______________________________

(1) المكاسب بتحقيق السيّد محمد كلانتر ط النجف ج 4 ص 244- 246.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 380

و نسبه الأردبيلى، و الحرّ العاملي الى المشهور.

و عن بعض المتأخرين: الحوالة على العرف، و ليس بجيّد، لعدم استقرارهم فيه على معنى محصّل، بل قد عرفت أنّ هؤلاء العلماء الذين هم أعرف بالمعاني العرفيّة من

غيرهم قد اختلفوا في موضوعه على أقوال كثيرة، فمن أين يسع للعامى الاستقلال بتميز معناه.

و من هنا يظهر أنّ الترديد بين التعريف الأخير، و بين الحوالة على العرف كما عن بعض الأجلّة ليس بشي ء.

بل الظاهر الذي يساعده العرف أيضا: أنّه المشتمل على الترجيع و الإطراب لنصّ أهل اللغة على كلّ منهما على وجه يظهر من المقتصرين على أحد الأمرين إرادتهما معا، كما يظهر بالتأمّل في كلامهم، على أنّه يكفي نصّ البعض على البعض بعد وضوح كون مقصودهم على ما هو ديدنهم بيان بعض الخواصّ و الآثار، بحيث ربما يظهر منهم المسامحة في التعبير، أو الحوالة على ما هو المعروف، أو كون المعرّف من هذا الجنس كما في قولهم: سعدانة نبت، و لذا ربما ترى بعضهم يعرّفونه بتحسين الصوت، أو مدّه، أو إطالته، مع أنّ من المقطوع أنّ شيئا منها بانفراده ليس من الغناء في شي ء.

هذا مضافا الى ما

رواه في «الكافي» عن مولانا أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسوق و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 381

شأنهم «1».

حيث إنّه صلّى اللّه عليه و آله قيّد الترجيع بخصوص المضاف إلى أحد الثلاثة فهو مصدر نوعي، و لعلّ ذكر النوح و الرهبانية عقيب الغناء من باب التنبيه على الخاصّ بعد ذكر العامّ، سيّما مع كونهما من الأفراد الخفيّة، فلعلّ المراد بترجيع الغناء هو الموجب لسرور و الفرح و البطر، و بالنوح هو الموجب للحزن، فإنّ الطرب

المصرّح به في كلمات أهل اللغة و الفقهاء يشملهما.

و لذا قال في «القاموس»: إنّ تخصيص الطرب بالفرح و هم و في «الصّحاح»: الطرب: خفّة تصيب الإنسان لشدّة حزن أو سرور، و في «الأساس»: هو خفّة سرور، أو همّ.

بل صرّح بعض الأجلّة: بأنّه يفهم من كتب اللّغة أنّ التغنّي، و التطريب، و الترجيع، و اللّحن، و التغريد، و الترنّم ألفاظ متقاربة المعنى، لأنّهم يذكرون بعضها في تفسير بعض، و لعلّه لما سمعت.

و المراد بالرّهبانية (في الحديث) خصوص ما يستعمله الصوفيّة المبتدعة حيث إنّهم جعلوا التغنّي سببا لحصول ما يسمّونه عندهم بالوجد و الشوق و الحال، و الانبعاث، و لهم في ذلك أقاويل، و ترّهات لا ينبغي تدنيس الكتاب بالتعرّض لها، و لعلّ عليهم عمدة التعريض

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يجوز تراقيهم»

أى ليس مقصودهم التقرّب به إلى اللّه، و لا التدبّر في معاني القرآن، بل هو مجرّد الصوت المتردّد في حناجرهم الموجب للإطراب.

و المراد

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «قلوبهم مقلوبة»

أى انقلبت وجوه قلوبهم من أعلى

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 614 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 382

عليّين الى أسفل السافلين، فيتصاعد عليها من ظلمات غواسق سجّين.

و المقصود

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «و قلوب من يعجبه شأنهم»

: أنّ مريديهم قد اقتدوا بهم في ضلالتهم، و غوايتهم، حيث إنّهم قد ضلّوا و أضلّوا كثيرا، و ضلّوا عن سواء السّبيل.

و من جميع ما مرّ يظهر النظر في كثير من كلمات القوم، حتّى فيما ذكره الشيخ الأكبر عطّر اللّه مرقده في شرحه على «القواعد» حيث قال في جملة كلام له: «فلم يبق سوى الرّجوع الى العرف الّذى هو المرجع و المفزع في

فهم المعاني من المباني و هو لا يكال بمكيال، و لا يوزن بميزان».

فقد تراه يرى تحقّق الغناء في صوت خال عن الحسن و الرقّة مشتمل على الخشونة و الغلظ، و في خال عن المدّ مشتمل على التقطيع و التكسير، و في خال عن الترجيع متصف بالخفاء، و في المهيّج المطرب بمعنى الخفّة المقرونة بالانشراح، و اللّذة، و في مقرّح للفؤاد مهيّج على البكاء للعشّاق إلى غير ذلك.

إذ فيه: أنّ صدق اسم الغناء على كثير ممّا ذكره لا يخلو عن تأمّل واضح، بل لعلّ المقطوع في جملة منها عدم الصدق عرفا و لغة.

بقي في المقام أمور:

أحدها: المرجع في الترجيع و الطرب هو العرف حيث إنّه ليس لهما معنى شرعي، و العرف فيهما موافق للغة.

قال في «القاموس»: الترجيع في الأذان تكرير الشهادتين جهرا بعد إخفائهما و في الصوت ترديد الصوت في الحلق.

و في «الصّحاح»: الترجيع ترديد الصوت في الحلق كقراءة أصحاب

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 383

الألحان.

و مثله من شمس العلوم، و غيره.

و قد سمعت الكلام في الطرب الذي هو أيضا من الموضوعات العرفيّة فلا تأثير للنيّة خلافا و وفاقا فيهما وجودا و عدما، و إنّما العبرة بتحقّقهما بالنسبة الى غالب أفراد النّوع، فلا عبرة بالطّروب الخفيف الذي ينفعل عمّا لا ينفعل عنه غالب أفراد النوع، و لا بالغليظ المزاج الّذى لا يكاد يتأثّر بشي ء من ذلك، بل كأنّه عندهم سقيم القلب، عديم اللبّ، و لذا قالوا: من لم يهيّجه الربيع و الأزهار، و العود و الأوتار، و الأصوات و الأطيار فهو فاسد المزاج محتاج الى العلاج.

ثانيها: إذا شكّ في صدق الغناء على فرد من أفراد الأصوات فإن كان الشكّ مصداقيّا فالأصل الحليّة، كما لو شكّ في كون فرد

من أفراد المايع خلا، أو خمرا، و كأنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب حتّى من الأخباريين المتوقّفين في الشبهة الحكميّة، و الأخبار به كثيرة، مثل

قوله عليه السّلام: «كل شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام» «1»

، و

«كلّ شي ء يكون فيه حلال و حرام فهو لك حلال» «2»

، بناء على التقريب المذكور في موضعه كغيره من أدلّة المسألة.

و أمّا إذا كان الشك مفهوميّا، و كان الشك في الفرد مسبّبا عن الشكّ في معنى اللفظ، فلعلّ الأصل الإشتغال، و لزم تحصيل الامتثال و لو بالاحتياط بلا فرق بين كون الترديد بين العامّ و الخاصّ المطلقين، أو العامّين من وجه، للقطع بالتكليف بمسمّاه المردّد بين الأمرين على أحد الوجهين، و قضيّة لزوم تحصيل

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 273 ح 12 عن الكافي.

(2) بحار الأنوار ج 2 ص 282 رقم 57 عن التهذيب.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 384

القطع بالامتثال.

و توهّم أنّ المتيقّن من التكليف إنّما هو بالنسبة الى مصداق العنوانين، فانتفاء الشرط و هو العلم يمنع من تعلّق التكليف بغيره.

مدفوع بأنّ العلم التفصيلي به و إن كان منتفيا لكنّه ليس مانعا، و لا وجوده شرطا، و المفروض القطع بتحقق التكليف بأحد العنوانين، و العلم الاجمالي حاصل به، و الامتثال بالنسبة إليه ممكن، كما في الشبهة المحصورة، و غيرها من الموارد الّتى يجب فيها الاحتياط كما في المقام.

و من هنا يظهر النظر فيما ذكره شيخنا «1» النجفي عطّر اللّه مرقده في «الجواهر» حيث حكم بأنّ قضيّة الأصل إباحة الأفراد المشكوكة لكونه من شبهة الموضوع الراجعة إلى شبهة الحكم، فالقدر المتيقّن هو حرمة الأفراد المعلومة بالتفصيل، فيشكّ حينئذ في حرمة الزائد لاحتمال كون تمام ماهيّة الغناء ما

اشتملت عليه تلك الأفراد خاصّة، فله الرجوع في غيرها الى أصل الإباحة «2».

قلت: فعلى هذا فاللازم عليه هو التفصيل بين العامّ و الخاصّ المطلقين، و غيره، فيحكم بالإباحة في الأوّل و الاحتياط في الثاني سواء كانا متباينين أو من العامّين من وجه كما في المقام، فإنّ من يفسّره بالصوت المطرب يعمّم من جهة الترجيع، و كذا العكس.

ثالثها: ربما يقال: إنّ تحريم الغناء عقلي لا يتطّرق إليه تقييد، و لا

______________________________

(1) هو الشيخ محمد حسن النجفي شيخ الفقهاء و امام المحقّقين المتوفى (1266).

(2) الجواهر ج 22 ص 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 385

تخصيص، لظواهر الآيات، و تواتر الأخبار، و الإجماع، بل الضرورة.

و هو كما ترى، إذ قوّة الأدلّة لا تجعل الحكم عقليّا، مع أنّ ما مرّ من الأدلّة إنّما هو على حرمته في الجملة، و لذا ترى المشهور قد حكموا باستثناء المغنيّة في الأعراس، أو بإباحة أجرتها المستلزمة لذلك، و إن قيّده بعضهم بما إذا لم تتكلّم بالباطل، و لم تلعب بالملاهي، و لم تدخل عليها الرّجال، و بالجملة إذا لم يقترنه حرام آخر.

و الأصل فيه

قول الصادق عليه السّلام في خبر أبى بصير: «أجرة المغنيّة الّتى تزفّ العرائس ليس به بأس، ليس بالّتى تدخل عليها الرجال» «1».

و

قوله عليه السّلام في خبره الآخر حين سأله عن كسب المغنيّات، فقال عليه السّلام: «الّتي يدخل عليها الرّجل حرام، و الّتى تدعى الى الأعراس لا بأس به و هو قول اللّه تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «2». «3»

قلت: و لا بأس باستثنائه بعد قوّة السند، و الاعتضاد بعمل الجماعة و غير ذلك.

و أمّا الحداء (بضم الحاء المهملة) كدعاء، للصوت الّذى يرجّع فيه للسير

بالإبل، فلم أجد ما يصلح لاستثنائه، و إن اشتهر ذلك بينهم كما حكاها في «الكفاية»، و غيره أيضا.

______________________________

(1) فروع الكافي ج 1 ص 361- الفقيه ج 2 ص 53.

(2) سورة لقمان: 6.

(3) فروع الكافي ج 1 ص 361- التهذيب ج 2 ص 108.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 386

و النبوي «1» المشتمل على فعل عبد اللّه بن رواحة، ضعيف سندا، و متنا و لعلّه من بدع الثاني، و لذا نسبه إليه ابن الأثير في «النهاية» قال: و قد رخصّ عمر في غناء الأعراب، و هو صوت كالحداء «2».

إلّا أن يقال: إنّه غير ذلك، و لذا شبّهه به.

و على كلّ حال فلا دليل على استثناءه، كما أنه لا دليل على استثناء مراثي الحسين عليه السّلام، و غيره.

______________________________

(1)

رواه البيهقي في «السنن» ج 10 ص 227 أنّ النبي عليهما السّلام قال لعبد اللّه بن رواحة: حركّ بالنوق فاندفع يرتجز، و كان جيّد الحداء و كان مع الرجال، و كان أنجشة مع النساء فلمّا سمعه تبعه، فقال صلّى اللّه عليه و آله لأنجشه: رويدك، رفقا بالقوارير.

(2) النهاية لابن الأثير ج 3 ص 392.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 387

الفصل الثاني

الترتيل

لا إشكال في مطلوبيّة الترتيل في الجملة، بل عليه الإجماع تحصيلا و نقلا، بعد ورود الأمر به في ظاهر الكتاب، مضافا الى الأخبار المستفيضة الّتى تأتى الى كثير منها الإشارة.

إنّما الإشكال في تحقيق معناه، و في أنّ مطلوبيّته هل هي على سبيل الوجوب أو الاستحباب.

أما الأوّل فالمرجع فيه كغيره من الموضوعات المستنبطة هو العرف و اللّغة.

قال في «الصّحاح»: الترتيل في القراءة: الترسّل فيها، و التبيين بغير بغى، و كلام دثل، بالتحريك أى مرتّل.

قلت: و لعلّ المراد بالبغي مجاوزة الحد في الترجيع و

المدّ بحيث يشبه الغناء، كما يومى اليه ما يأتى من عبارة «نهاية الأحكام».

و في «القاموس»: الرتل محركّة حسن تناسق الشي ء، و بياض الأسنان، و الحسن من الكلام ... الى أن قال: و رتّل الكلام ترتيلا: أحسن تأليفه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 388

و في «المصباح»: رتّلت القرآن ترتيلا: تمهّلت في القراءة و لم أعجل.

و

في «النهاية»: «في صفة قراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يرتّل آية آية

، ترتيل القراءة:

التأنّي فيها، و التمهّل، و تبيين الحروف و الحركات تشبيها بالثغر المرتّل و هو المشبّه بنور الأقحوان، يقال: رتّل القراءة، و ترتّل فيها.

و عن «المغرب» «1»: الترتيل في الأذان و غيره أن لا يعجل في إرسال الحروف، بل يتثبّت فيها، و يبيّنها تبينا، يوفّيها حقّها من الإشباع من غير اسراع.

و عن قطرب «2»: أنّ الرتل بمعنى الضعف و اللين، و المراد بالترتيل تحزين القران، أى قراءته بصوت حزين.

و قيل: إنّه أن تقرأ على نظمه و تواليه و لا تغيّر لفظا، و لا تقدّم مؤخّرا. و هو مأخوذ من ترتّل الأسنان إذا استوت و حسن انتظامها، و ثغر رتل ككيف إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها.

الى غير ذلك من عباراتهم الّتى يتراءى منها الاختلاف في معناه، و لذا اختلفت فيه كلمات المفسرين و الفقهاء أيضا:

ففي «مجمع البيان» في قوله تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «3»: أى بيّنه بيانا، أو اقرأه على هينتك «4» ثلاث آيات، و أربعا، و خمسا، الى آخر ما حكاه عن المفسّرين «5».

______________________________

(1) «المغرب» في اللغة لأبي الفتح ناصر بن عبد السيّد المطرّزى المتوفى (610).

(2) قطرب: محمّد المستنير بن أحمد النحوي اللغوي المتوفى (206)- الاعلام ج 7 ص 315.

(3) المزمّل: 5.

(4) الهينة (بكسر الهاء

و سكون الياء و فتح النون) السكينة و الوقاء.

(5) مجمع البيان ج 10 ص 377.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 389

و عن المحقّق في «المعتبر»، و العلّامة في «المنتهى»: أنّه تبيين الحروف من غير مبالغة، و ربما كان واجبا إذا أريد به النطق بالحروف بحيث لا يدمج بعضها في بعض، و يمكن حمل الآية عليه، لأنّ الأمر عند الإطلاق للوجوب.

و عن «نهاية الأحكام»: أنّه بيان الحروف و إظهارها، و لا تمدّ بحيث يشبه الغناء.

و من «الذكرى»، و «فوائد الشرائع»، و «تعليق النافع»: أنّه حفظ الوقوف، و أداء الحروف.

و عن «المدارك»: أنّه الترسل و التبيين، و حسن التأليف.

و في «النفليّة»: أنّه تبيين الحروف بصفاتها المعتبرة من الهمس و الجهر، و الاستعلاء، و الإطباق، و الغنّة، و غيرها، و الوقف التامّ، و الحسن.

إلى غير ذلك ممّا لعلّه راجع الى شي ء ممّا سمعت، لكنّ التأمّل الصادق شاهد بأنّ كثيرا مما سمعت من الاختلاف يرجع الى الاختلاف في التعبير دون المراد، و لذا عبّروا بعبارات متقاربة.

و لعلّ الأولى تعريفه بأنّه الترسّل، و التمهّل، و التأنّى بالقراءة لإيفاء حقوق الحروف و الحركات، و الكلمات، مادّة، و هيئة، فصلا، و وصلا، كى يظهر تبينه، و يحسن تأليفه، و تنضيده مع ملاحظة التوسّط بين الإسراع، و الفصل الكثير بالمدّ، و الإبطاء.

و هذا هو المستفاد من متفرّقات كلماتهم، بل قد يستفاد من الأخبار أيضا:

كخبر عبد اللّه بن سليمان أنّه سأل الصادق عليه السّلام عن قوله عزّ و جلّ وَ رَتِّلِ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 390

الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «1» فقال عليه السّلام: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بيّنه تبيانا، و لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن افزعوا «2» قلوبكم القاسية،

و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «3».

و

عن «دعائم الإسلام» عنه عليه السّلام: «و لا تنثره نثر الدقل «4» و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حركّوا به القلوب، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «5».

قال ابن الأثير في «النهاية»: في حديث ابن مسعود، و حذيفة في القراءة:

«هذّا كهذّ الشعر، و نثرا كنثر الدقل» أراد: لا تسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر، و الهذّ: سرعة القطع، و الدقل: رديّ التمر، أى كما يتساقط الرطب اليابس من العذق إذا هزّ.

و ظاهره كما قيل: إرادة نفى الإسراع من الفقرتين، لكنّ الأظهر حمله على ما هو الظاهر من الخبر الأوّل أيضا، إذ كما أنّ نثر الرّمل اشارة إلى المدّ و التطويل الكثير، و المبالغة في التأنّى، بحيث يكون الفصل بين الحروف و الكلمات متفحّشا جدّا، كالرمل المنثور، فكذلك نثر الدقل اشارة إليه، فالمقصود التنبيه على التوسّط بين الأمرين.

و ربما يعتبر فيه أيضا حفظ الوقوف و مراعاة أقسامها و أحكامها، كما مرّ

______________________________

(1) المزمّل: 5.

(2) في الوسائل: اقرعوا به.

(3) الكافي ج 2 ص 614 باب ترتيل القرآن ح 1.

(4) الدقل: أردأ التمر.

(5) دعائم الإسلام ج 1 ص 161.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 391

في جملة من التعاريف.

بل

قد رووا في كتب الفروع من مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه أداء الحروف، و حفظ الوقوف» «1».

و لذا اعتبر فيه بعض الأصحاب كالشهيد و غيرة حسبما سمعت عن النفليّة مراعاة الوقف التامّ و الحسن.

بل و منه، أو الأولى منه بالمراعاة كون الوصل بالحركة، و الوقف بالسكون، أو غيره من وجوهه حذرا من الوصل بالسكون، و الوقف بالحركة الذين يقال بحرمتهما، و أنّ التحرّز منهما من الترتيل الواجب.

كما أنّه يعدّ

منه أيضا مراعاة الحروف الّتى منها التشديد و مراعاة بعض أقسام المدّ و الإدغام الصغير مطلقا، و خصوصا عند حروف (يرملون) المشتملة على الغنّة و عدمها.

و يعدّ من الترتيل المستحبّ مراعاة صفات الحروف من الهمس، و الجهر و أخواتهما، و الترقيق، و التفخيم، و بعض أقسام المدّ، و الوقف، و الإمالة، و غير ذلك ممّا يشمله اسم الترتيل الّذى هو التحسين، و التبيين، و التنضيد، و التجويد، بعد ثبوت مطلوبيته في الجملة، و بعد تحقّق صدق الموضوع عليه شرعا، أو عرفا خاصّا، أو عامّا.

لكن لا يخفى أنّ المراد بالترتيل الواجب ما يجب مراعاته ممّا يصدق عليه هذا الاسم وجوبا شرطيّا يتوقّف عليه صدق القراءة، أو صحّة الامتثال، أو

______________________________

(1)

بحار الأنوار ج 84 كتاب الصلاة ص 188 و فيه: عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه (اى الترتيل) حفظ الوقوف و بيان الحروف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 392

شرعيّا من جهة تعلّق الأمر ندبا بمطلق القراءة، أو وجوبا في الصلاة، و في امتثال النذر، و غيره، و منه يظهر الكلام في المندوب.

و حيث إنّ كثيرا ممّا سمعت لا يخلو من إجمال موضوعا، أو خفاء حكما، فلنشر الى كلّ منها موضوعا و حكما إشارة مقنعة.

فنقول: أمّا مراعاة موادّ الحروف و حركاتها، و تمييز كلّ منها من غيره فلا ريب في وجوبها شرطا مطلقا و شرعا حيث تكون القراءة واجبة بلا خلاف فيه فيما أعلم، بل عليه الإجماع نقلا و تحصيلا، مضافا إلى عدم صدق الامتثال مع الإخلال، و لو بحرف واحد، تركا، أو إبدالا ممنوعا أو غيرهما، فإنّ كلّا من السورة، و الآية، و الكلمة و غيرها موضوعة للمجموع المركّب من الأجزاء الخاصّة المنتفى بانتفاء كلّ جزء منها.

بل غير

القرآن أيضا من الدّعاء، و الذكر، و المناجاة، بل الكتب، و المحاورات يعدّ اللحن فيها غلطا، بلا فرق بين الكتابة و القراءة، حيث إنّه لا يتأمّل أحد من أهل العرف في نسبة الغلط و التحريف باللحن الحاصل بحرف واحد، أو أزيد، و لا بين تغيّر المعنى به و عدمه، بل و لا بين كون الإخلال، بموادّ الحروف أو بهيئتها من حيث الحركات الإعرابيّة و البنائيّة.

فما يحكى عن المرتضى في بعض رسائله «1»، وفاقا للمحكيّ في «المعتبر» «2» عن بعض الجمهور من أنّه لا يقدح في الصحّة الإخلال بالإعراب الّذى لا يغيّر المعنى.

______________________________

(1) رسائل السيّد المرتضى ج 2 ص 387.

(2) المعتبر ج 2 ص 167.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 393

لا ريب في ضعفه، كضعف ما يستدلّ له من صدق القراءة معه.

لتطرّق المنع إليه بعد فرض كون القرآن المنزل من الرحمن على خلافه، بلا فرق بين كون هذا المخالف للمنزل مصحّحا بحسب القواعد العربيّة و لو بوجه ضعيف، أو قويّ، أولا، كضمّ «الرحمن الرحيم» أو فتحهما للقطع عن الوصفيّة.

و أضعف منه ما يحكى عن «الذخيرة» من أنّ بهذا القدر من التغيير لا يخرج الحمد مثلا عن كونه حمدا عرفا، لبنائهم على المسامحة، فيصدق المسمّى على من قرأه بهذا الوجه.

و فيه: أنّ المسامحات العرفيّة لا يترتّب عليها شي ء من الأحكام الشرعيّة، بل الأصل الحمل على الحقيقة سيّما في الأمور التعبديّة و إلّا فقد يصدق باعتبار المسامحة مع الإخلال ببعض الحروف، بل و بعض الكلمات أيضا.

و أمّا ما استشكله في «جامع المقاصد» بعد حكاية نفى الفرق في البطلان بالإخلال بالاعراب بين كونه مغيّرا للمعنى مثل ضمّ تاء (أنعمت)، أولا كفتح دال (الحمد)، حيث قال: و لا يكاد يتحقّق ذلك،

لأنّ اختلاف الحركة يقتضي اختلاف العامل فيتغيّر المعنى لا محالة.

فالظاهر اندفاعه بأنّ المراد المعنى الظاهر المقصود.

و بالجملة لا إشكال في لزوم اعتبار موادّ الحروف و هيئاتها الاعرابيّة و البنائيّة و عدم حصول الامتثال باللحن في شي ء منها لما سمعت، و لظواهر بعض الأخبار

كالمروي في «الخصال» عن الصادق عليه السّلام قال: «تعلّموا العربيّة، فإنّها كلام اللّه الّذى كلّم به خلقه و نطق به للماضين» «1».

______________________________

(1) الخصال ج 1 ص 124.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 394

و

في «الكافي» عنه: قال: أعرب القران فإنّه عربيّ «1».

و

في «المعاني» عنه، عن آبائه عليهم السّلام، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تعلّموا القرآن بعربيّته، و إيّاكم و النبر فيه يعنى الهمز» «2».

فإنّ الأمر بتعلّم العربيّة لحفظ قواعدها، و إعمال حدودها، و النبر المنهيّ عنه هو تبديل الياء بالهمزة، و إظهار الهمزة الغير الاصليّة، و كانت قريش لا تنبر.

و لذا

قال الصادق عليه السّلام بعد ذكر الخبر: «الهمز زيادة في القرآن إلّا الهمز الأصلى مثل قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ «3» و قوله تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ «4»، و قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ «5».

قال ابن الأثير في «النهاية»: في الخبر قيل له: يا نبيّ اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّا معشر قريش لا ننبر»

- و

في رواية: «لا تنبر باسمي».

ثم قال: النبر همز الحرف، و لم تكن قريش تهمز في كلامها، و لمّا حجّ المهدي «6» قدّم الكسائي يصلّي بالمدينة فهمز، فأنكر أهل المدينة عليه و قالوا:

إنّه ينبر في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقرآن «7».

و

روى ابن فهد الحلي في «عدّة الداعي» عن مولانا أبي جعفر الجواد عليه السّلام

______________________________

(1) الكافي كتاب فضائل القرآن باب ترتيل

القرآن بالصوت الحسن ح 5 ص 599.

(2) معاني الأخبار ص 98 و لكن فيها كما في الوسائل أيضا: إيّاكم و النبز، (بالزاي المعجمة).

(3) النمل: 25.

(4) النحل: 5.

(5) البقرة: 72.

(6) هو محمّد بن عبد اللّه المنصور العبّاسى المتوفّى (169)- الاعلام ج 7 ص 91.

(7) النهاية لابن الأمر ج 5 ص 7. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 395

قال: «ما استوى رجلان في حسب و دين قطّ إلّا كان أفضلهما عند اللّه آدبهما».

قال: قلت: قد علمت فضله عند الناس في النادي و المجلس، فما فضله عند اللّه؟ قال عليه السّلام: «بقراءة القرآن كما انزل، و دعاءه اللّه من حيث لا يلحن، فإنّ الدعاء الملحون لا يصعد الى اللّه تعالى «1».

قال: و يقرب منه

قول الصادق عليه السّلام: «نحن قوم فصحاء إذا رويتم عنّا فأعربوه» «2».

أقول: و اللحن على ما في «الصحاح» و «القاموس» و غيرهما، هو الخطأ في الإعراب، و في القراءة.

الى غير ذلك من الأخبار التي لا بأس فيها من ضعف في السند، أو قصور في الدلالة، بعد ما سمعت من توقّف صدق القراءة الصحيحة على مراعاة مواد الحروف و تمييزها، و لو بالنسبة الى الحروف المشتركة في المخارج كالذال و الزاى، أو المتشابهة من حيث لحن العامّة كالغين و القاف، و الهاء و الحاء، و غيرها.

نعم: المحكيّ من أحد وجهي الشافعي عدم لزوم مراعاة المخرج في الضاد و الظاء، فتصحّ القراءة، بل الصلاة أيضا مع إخراج كلّ منها من مخرج الآخر، نظرا الى العسر و المشقّة.

و فيه: أنّ العسر و المشقّة اللازمين من أداء الحروف من مخارجها إن بلغ حدّا لا يتحمّل مثلها عادة، أو انتفت معها القدرة فلا ريب في المعذوريّة،

______________________________

(1) عدّة الداعي ص 10.

(2)

بحار الأنوار ج 2 ص 151 و فيه: أعربوا كلامنا فإنّا قوم فصحاء.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 396

و الاكتفاء بالمقدور، للشريعة السمحة السهلة.

و لما ورد في الأخرس، و الألثغ «1» و التمتام «2».

و

للنبويّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ سين بلال عنه اللّه شين» «3».

و عليه يحمل

النبوي الآخر: «إنّ الرّجل من الأعجمي من أمّتي ليقرأ القرآن بعجمته، فترفعه الملائكة على عربيّته» «4».

و مع إمكان التعلّم، و تيسّر الأداء من المخرج فلا ريب في وجوبه حيث تجب القراءة، لتوقّف الواجب عليه، مع أنّ التمييز بين الحروف إنّما هو باختلاف المخارج، و إن كان للصفات مدخليّة في بعضها، و قد ذكروا أنّ الضاد و الظاء مشتركان في الصفات الخمسة: من الجهر، و الرخوة، و الإطباق، و الإصمات، و الاستعلاء، و إنّما انفردت الضاد بالاستطالة التي اختصّت بها، و من المعلوم أنّها ليست مغيّرة للحقيقة، بل التميز بينهما، منحصر في التأدية من المخرجين المقرّرين لهما.

نعم حكى شيخنا البهائى قدّس سرّه عن أبى عمرو «5» بن العلاء الذي قيل: إنّه إمام في اللغة أنّه ذهب إلى اتّحادهما و أقام على ذلك أدلّة و شواهد.

و لعلّها عند التأمّل من المناقشة في البديهيّات الّتى لا ينبغي الإصغاء إليها، لضرورة المغايرة بحسب الأداء و المخرج، و جزئيّتهما للكلمات المتخالفة لغة،

______________________________

(1) الألثغ: الذي ينطق بالسين كالثاء.

(2) التمتام (كالصمصام): الذي يعجّل في كلامه و لا يفهمه.

(3)

سفينة البحار ج 1 ص 390 و فيه: و في عدة الداعي عنهم عليهم السّلام: إنّ سين بلال عند اللّه شين.

(4) أصول الكافي ص 601.

(5) هو زبّان بن عمّار العلاء أبو عمر و المازني البصري المتوفّى (154)- الاعلام ج 3 ص 72.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 397

و عرفا،

و ضعفا، و استعمالا، و لعلّه لحن من العرب بتبديل أحدهما بالآخر.

و لذا قال في «المصباح المنير»: الضاد حرف مستطيل، و مخرجه من طرف اللسان إلى ما يلي الأضراس، و مخرجه من الجانب الأيسر أكثر من الأيمن، و العامّة تجعلها ظاء فتخرجها من طرف اللسان و بين الثنايا، و هي لغة حكاها الفرّاء «1» عن المفضّل «2».

قال: و من العرب من تبدّل الضاد ظاء فتقول: عظّت الحرب بنى تميم، و من العرب من يعكس فتبدّل الظاء ضادا، فتقول: ضهيرة في الظهير.

و هذا و إن نقل في اللّغة و جاز استعماله في الكلام و لكن لا يجوز العمل به في كتاب اللّه تعالى لأنّ القراءة سنّة متبّعة، و هذا غير منقول فيها انتهى كلامه.

أقول: و ممّا مرّ يظهر أيضا فساد القول المحكي عن بعضهم من تبديل الضاد طاء مهملة، أو دالا، بل ربما يحكى عن عوام الخاصّة و علماء العامّة من المصريين و الشاميين حيث إنّهم نطقوا بها ممزوجة بالدال المفخّمة و الطاء المهملة معرضين عن الضاد الصحيحة الخالصة التي نطق بها أهل البيت عليهم السّلام، و أخذها عنهم العراقيّون و الحجازيون.

قال شيخنا في «الجواهر»: و هذا الاختلاف على قديم الدهر، و سالف الزمان بين علماء الخاصّة و العامّة، و إن حكى عن جماعة منهم موافقة الخاصّة في ذلك كالشيخ على المقدسي «3» الّذى قد صنّف في ذلك رسالة و رجّح فيها ضاد

______________________________

(1) هو يحيى بن زياد بن عبد اللّه الديلمي النحوي الكوفي المتوفى (207) الاعلام ج 9 ص 178.

(2) هو المفضّل بن محمد أبو العباس الضبّى الكوفي المتوفى (168)- الاعلام ج 8 ص 204.

(3) هو على بن محمد بن خليل الحنفي نزيل القاهرة المعروف بابن

غانم المقدسي الفقيه اللغوي ولد سنة (920) و توفّي (1004) له مصنّفات منها: «بغية المرتاد لتصحيح الضّاد»- معجم المؤلفين ج 7

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 398

العراقيّين و الحجازيّين، وردّ عليه الشيخ على المنصوري «1» في رسالة ألّفها و كان ممّا ردّ فيها عليه أنّ النطق بالضّاد قريبة من الظاء ليس من طريق أهل السنّة المتبّعة، و إنّما هو من طريق الطائفة المبتدعة.

و هي شهادة منه على طريقتنا المأخوذة يدا بيد الى

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله القائل: «إنّى أفصح من نطق بالضّاد».

و فيه إشعار أيضا بالمطلوب، ضرورة تيسّر ضادهم لكلّ أحد حتى النّساء و الصبيان، فلا يناسب ذكر اختصاصه صلّى اللّه عليه و آله بالأفصحيّة، بخلاف الضّاد الذي ذكرناه، فإنّه ممّا يعسر فعله بحيث يتميّز عن الظاء و كما اعترف به بعضهم.

قال راجزهم:

و الضاد و الظاء لقرب المخرج قد يؤذنان بالتباس المنهج

و قال:

و يكثر التباسها بالضّادإلّا على الجهابذ النقّاد

و يقرب من ذلك المحكيّ عن السخاوي «2»، و الجزري «3»، و ابن امّ قاسم، بل قال الأخير منهم: إنّ التفرقة بينهما محتاجة إلى الرياضة التامّة.

______________________________

ص 195.

(1) هو على بن سليمان بن عبد اللّه المنصوري المصري المقرئ النحوي المتوفّى (1134) من آثاره: «ردّ الإلحاد في النطق بالضّاد»- معجم المؤلفين ج 7 ص 104.

(2) هو على بن محمد بن عبد الصمد المصري السخاوي الشافعي المقرئ المتوفى (643)- الاعلام ج 5 ص 154.

(3) هو محمد بن محمد بن محمد شمس الدين المعروف بابن الجزري المتوفّى (833)- الاعلام ج 7 ص 274.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 399

إلى غير ذلك ممّا ليس هاهنا محلّ ذكره.

نعم ينبغي أن يعلم أن المدار في صدق امتثال الأمر بالكلمة المشتملة على الضّاد صدق

ذلك عليه في عرف القارئين كغيره من الحروف، فوسوسة كثير من النّاس في الضّاد و ابتلاءهم بإخراجه و معرفة مخرجه في غير محلّها، و إنّما نشأ ذلك من بعض جهّال من يدّعي المعرفة بعلم التجويد من بنى فارس المعلوم صعوبة اللّغة العربيّة عليهم، و إلّا فمتى كان اللّسان عربيّا مستقيما خرج الحرف من مخرجه من غير تكلّف ضرورة، و إلّا لم يصدق عليه اسم ذلك الحرف عرفا، كما هو واضح.

و على ذلك بنوا وصف مخارج الحروف إلى شفويّة مثلا، و غيرها، لبعض الأغراض المتعلّقة لهم بذلك، و ليس المقصود منه تميّز النطق بالحروف قطعا، فإنّ ذلك يكفى فيه صدق الاسم و عدمه، و لا يحتاج الى هذا التدقيق الذي لا يعلمه إلا الأوحدى من الناس، بل لا يمكن معرفته على وجه الحقيقة إلّا لخالق الخلق الّذى أودعهم قوّة النطق، و اللّه أعلم «1».

و أمّا البحث عن مخارج الحروف، و أنّها هل هي ثلاثة كما عن بعضهم، أو أنّها ثمانية، كما عن آخرين، أو أربعة عشر، كما عن قطرب، و الفرّاء، و ابن دريد «2»، أو ستّة عشر، كما عن كثير من القرّاء و النحاة، أو سبعة عشرة، كما عن الخليل «3»، و بعض القدماء، و اختاره جمهور المتأخّرين فلا يهمّنا البحث عنه، و لا عن تعيين مخرج كلّ حرف من الحروف بعد فقد التعبّد في شي ء من ذلك،

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 9 ص 399- 400.

(2) هو محمد بن الحسن بن دريد اللغوي المتوفى ببغداد سنة (321)- الاعلام ج 6 ص 310.

(3) هو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدى اللغوي المتوفّى (170 ه)- الأعلام ج 2 ص 363.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 400

تفسير الصراط المستقيم

ج 2 439

و ظهور الرجوع الى العرف الّذى هو المرجع في مثله، مع القطع بأنّ القدر المعتبر منه هو التلفّظ بالحروف على وجه يمتاز به كلّ منها عن غيره، بلا فرق بين أدائه عن المخرج المشهور لذلك الحرف أم لا على الأظهر، إذ لا دليل على اعتبار أمر زائد، و التعبّد بلزوم مراعاة المخارج المعهودة غير ثابت، و الأصل برائة الذمّة عنه.

و نحن و إذ قلنا بلزوم الاحتياط في الشكوك الثانوية المتعلّقة بكيفيّات الشرائط، و الأجزاء، إلّا أنّه جار فيما إذا لم يكن هناك إطلاق صادق في الصورتين، و أمّا معه فهو المتبّع.

و من هنا يتجّه الاكتفاء بإخراج الواو من بطن الشفة السفلى مع رؤوس الثنايا العليا كما لهجت له عوامّ العجم، بل و بعض خواصّهم، مع أن يخرجها بين الشفتين بلا خلاف ظاهر بينهم، فكأنّهم يكتفون عن الشفة العليا بثناياها، و لذا يؤدّى به الحرف ممتازا عن غيره، من غير خروج عن حقيقة الواويّة.

بل و منه يظهر أيضا سهولة الخطب في الصفات التي ذكروها للحروف من الهمس، و الجهر، و غيرهما للقطع بعدم وجوب شي ء منها إلّا ما له مدخليّة في أداء مادّة الحرف.

بل يشكل الحكم باستحبابها أيضا، و إن مرّ عن «النفلية» تفسير الترتيل المستحبّ بمراعاتها، بل نسب الشهيد الثاني في «شرحها» اعتبارها إلى علماء التجويد و أهل العربيّة، و ربما يستفاد من بعض المتأخّرين أيضا اعتبارها على وجه الاستحباب، و لو للمسامحة في دليله، و لا ريب في أنّه لا يخلو من رجحان إذا لم يؤدّ إلى الإخلال في معاني القرآن و الدعاء و حضور القلب عند القرائة، و التحقّق بحقايقها، فإنّ هذه الأمور هي العمدة في الباب بعد إحراز المسمّى بما

تفسير

الصراط المستقيم، ج 2، ص: 401

يصدق عليه ذلك عرفا، حسبما سمعت و أمّا مع التمهّر فيها، و جريان اللّسان بها من غير كلفة و مشقّة، فلا شبهة في أولويّة مراعاتها، سيّما مع الالتفات إلى عدّ كثير منهم الإخلال بها من اللحن الخفي، مضافا الى قاعدة التسامح، مع أنّ الإخلال ببعض الصفات ربما يمنع من الإفصاح بمادة الحرف و إن حصل الامتياز في الجملة.

و بالجملة الصفات الّتى لها ضدّ خمس قد أشير إليها مجتمعة و الى أضدادها بالترتيب في كلام الجزري:

صفاتها جهر «1»، و رخو «2»، مستفل «3»منفتح «4»، مصمتة، و الضدّ قل

مهموسها (فحثّه شخص سكت)شديدها لفظ (أجد قط بكت)

و بين رخو و الشديد (لن عمر)و سبع علو (خصّ ضغط قظ) حصر

و (صاد ضاد طاء ظاء) مطبقةو (فرّ من لبّ) الحروف مذلقة «5»

______________________________

(1) الجهر هو عدم جريان النفس عند النطق بالحرف و هي (19) حرفا و ضدّه الهمس و هو جريان النفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج و عدد حروفه (10) حروف.

(2) الرخو و الرخاوة: إرخاء الصوت و جريانه عند النطق بالحرف و حروفها (15) حرفا، و ضدّها الشدّة و هو امتناع جرى الصوت عند النطق بالحرف لكمال الاعتماد على المخرج و حروفها (8) كما في البيت.

(3) الاستفال هو الانخفاض و هو انحطاط اللسان الى قاع الضم عند النطق بالحرف و حروفه (21) حرفا و ضدّه الاستعلاء اى الارتفاع اللسان عند التكلم بالحرف الى الحنك الأعلى و حروفه (7) أحرف كما في البيت.

(4) الانفتاح الافتراق بين اللسان و الحنك الأعلى و خروج النفس من بينهما عند النطق و حروفه (24) حرفا و ضدّه الاطباق و هو التصاق اللسان على الحنك الأعلى

و حروفه (4) كما في البيت.

(5) طيبة النشر للجزرى في ضمن اتحاف البررة في المتون العشرة ص 172.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 402

و أمّا ما لم يذكروا لها ضدّا من الصّفات الّتى تتّصف بها أحرف خاصة، فهي ستّ قد أشير إليها في هذه الأبيات:

صفيرها «1» صاد، و زاى، سين فلقلة «2» (قطب جد) و اللين «3»

واو، و ياء سكنا و انفتحاقبلهما و الانحراف «4» صحّحا

في اللام و الراء بتكرير جعل و للتفشى «5» الشين ضادا استطل «6» «7»

و أمّا التغليظ في اللام و التفخيم في الراء، و الترقيق فيهما في بعض المواضع و في حروف الاستفالة، و في الهمزة في بعض المواضع، و بالباء في البسملة، و غيرها، و إظهار الإطباق في مثل أَحَطْتُ «8»، و بَسَطْتَ «9» بعد الإدغام، و الغنّة في النون و الميم المشدّدتين فلا دليل على اعتبارها.

نعم، يلزم التحرّز من الإدغام في مثل قوله تعالى: فَسَبِّحْهُ «10» و قوله

______________________________

(1) كل صوت يمتدّ و لا يغلظ و هو خال من الحروف يسمّى صفيرا، و حروف الصفير: «الصاد، و الزاى، و السين» تخرج من رأس اللسان و بين أسنان مقدّم الفم أى الثنايا.

(2) القلقلة: تحريك الصوت، و حروفها خمسة مذكورة في البيت، تحصل من اجتماع صفتي الجهر و الشدّة، و تلك الحروف تسمّى أيضا المضغوطة.

(3) اللين ضدّ الخشونة، و الواو و الياء إذا كانتا ساكنتين، و ما قبلهما مفتوحا تسميّان حرفي اللين.

(4) الانحراف هو الميل و سميّت اللام و الرّاء المنحرفة لأنّ اللسان حين التلفّظ باللام يميل الى اللثة و الأسنان، و حين التلفظ بالراء يميل قليلا إلى الحنك الأعلى.

(5) التّفشى: الانتشار و تفخيم الحرف عند النطق به و حرفه الشين.

(6)

الاستطالة: طلب الطول و احرفها الضاد لأنّها في حال السكون. يطول التلفظ بها.

(7) اتحاف البررة في المتون العشرة- المقدّمة في علم التجويد لابن الجزري ص 374.

(8) النمل: 22.

(9) المائدة: 28.

(10) ق: 40- الطور: 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 403

تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ «1» و قوله تعالى: قالُوا وَ هُمْ «2» بل يلزم إظهار الحاء في الأوّلين، و الواو في الثالث كيلا يسبق النطق بها مشدّدة.

كما يلزم إظهار الياء المكسور ما قبلها، نحو فِي يَوْمٍ «3» و إظهار الغين في قوله: لا تُزِغْ قُلُوبَنا «4» و اللام الساكنة في قوله: قُلْ نَعَمْ «5» و إن كانا متجانسين عند بعضهم، إلى غير ذلك ممّا هو جار على مقتضى الأصل، مضافا إلى اتفاقهم عليه ظاهرا كما نبّهوا عليه، و صرّح به الجزري، و غيره.

و أمّا سائر ما يعدّ من معاني الترتيل ممّا مرّت إليه الإشارة فستسمع الكلام في كلّ منها في موضعه إنشاء اللّه تعالى.

تذنيب: في حفظ الوقوف و معناه: حفظ الوقوف الّذي به فسرّ به الترتيل في العلوي المرسل في جملة من كتب الجماعة المشتهر بين العامّة حكايته عنه عليه السّلام، كما أنّهم حكوه عن ابن عبّاس أيضا.

و فسّر مرّة كما من كشف اللثام، بأن لا يهذّ هذّ الشعر، و لا ينثر نثر الرمل، قيل: و يؤيّده روايتهما في تفسيره بذلك عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام.

أقول: و مجرّد ذلك لا يقضى بالاتّحاد، سيّما مع عدم ظهور المعنى و كون الخبر مصدّرا بتبيين الحروف، أو أدائها حسبما مرّ، و ظهور أولوية التأسيس على التأكيد.

______________________________

(1) الزخرف: 89.

(2) الشعراء: 96.

(3) السجدة: 5.

(4) آل عمران: 8.

(5) الصافات: 18.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 404

و فسّر اخرى بالمحافظة على تحقيق الوقف في موارده

بحفظ حدوده، و ذلك بأن لا يقف على آخر الكلمة أو الآية بإظهار الحركة، و ذلك لأنّه لا يجوز الوقف بالحركة، كما أنّه لا يجوز الوصل بالسكون لمخالفتهما لطريقة أهل اللّسان و ظهور الاتّفاق على بطلان القراءة في الصلاة بهما، و قد صرّح كثير من أهل اللّسان بأنّ لغة العرب أن لا يوقف على متحرّك.

و نقل شيخنا التقى المجلسي رحمة اللّه عليه: اتفاق القرّاء و أهل العربية على عدم جوازهما، و لذا جعله من الترتيل الواجب.

و من هنا يظهر ضعف ما في «كشف الغطاء» من نفى البأس عن الوقف على المتحرّك، و وصل الساكن.

إذ قد سمعت أنّه مما اتفق على فساده أهل العربيّة، بل يمكن الاستدلال له أيضا بما

ورد من أن «الأذان و الاقامة مجزومان» «1».

قال الصدوق: و في خبر آخر: «موقوفان» «2».

و ذلك أنّه عبّر عن الوقف بالجزم و ترك الحركة.

نعم عن الشهيد الثاني في «الروض» أنّه لو فرض ترك الوقف أصلا سكن أواخر الفصول أيضا، و إن كان ذلك في أثناء الكلام، ترجيحا لفضيلة ترك الإعراب على المشهور من حال الدّرج.

و فيه تأمّل واضح، نعم يمكن حمله على السّكت الّذى ينبغي إخراجه عن حكم الوصل، و إلحاقه بالوقف.

______________________________

(1) الفقيه ج 1 ص 91.

(2) الفقيه ج 1 ص 91.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 405

و ذلك أنّ هاهنا أمورا ثلاثة: الوقف، و القطع، و السكت.

و الوقف عندهم عبارة عن قطع الصّوت عن الكلمة زمانا يتنفّس فيه عادة بنيّة استءناف القراءة عليه، فإن لم يكن هنا نيّة استيناف القراءة فهو القطع، و لذا شرطوا فيه أن لا يكون إلّا على رأس آية، و إن لم يكن الشرط في محلّه.

و أمّا السكت فهو قطع الصوت زمنا هو

دون زمن الوقف عادة من غير أن يتنفّس.

قال في «شرح طيبة النشر»: و قد اختلفت عباراتهم في التأدية ممّا يدل على طول زمن السكت و قصره، و المشافهة حاكمة عليه بحقه.

و يستفاد منه أنّ هذا من اصطلاح متأخّريهم، و أنّه كان المتقدّمون يطلقون كلّا منها على الآخر.

و ثالثة فسّر حفظ الوقوف بالمحافظة على شرائط الوقف، و مراعاة الرّسم، بأن يوقف على ما حذف لفظا بالإثبات كالألف من قوله: وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ «1»، و الياء من قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ «2» و الواو من قوله: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ «3»، و كذا إبدال التنوين ألفا في مواضعه كقوله تعالى: خَوْفاً وَ طَمَعاً «4».

و ذلك لأنّهم وقفوا في آخر الكلمة على وجوه تسعة: الأوّل: السكون على

______________________________

(1) النمل: 15.

(2) البقرة: 269.

(3) الانعام: 108.

(4) الأعراف: 56.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 406

ما مرّ.

و الثاني: الروم (بفتح الراء) بمعنى القصد، و هو النطق ببعض حركة الموقوف عليه، و ربّما حدّوه بالتلفّظ بثلث الحركة و ترك الثلثين، و الاختلاس عكسه، يعنى التلفّظ بثلثي الحركة و ترك الثلث، و لذا لم يعدّوه من أقسام الوقف.

و الثالث: الإشمام و هو الإشارة إلى الحركة بضمّ الشفتين بعد الإسكان، و لذا قالوا: إنّ الروم لا يدركه الأصمّ، و الإشمام لا يدركه الأعمى.

و الرابع: الإبدال و هو بالألف في الاسم المنصوب المنوّن غير المؤنّث كقوله: (أحدا)، و بالهاء في (الرّحمة) و (رحمة) معرّفة، و مجرّدة و بالألف في مثل (يشاء) فتسقط أحدهما، و هو متروك عندنا، و إن حكوه عن حمزة و هشام، كما حكى عنهما أيضا النقل.

و الخامس: النقل في مثل قُرُوءٍ «1» و النَّسِي ءُ «2» حيث ينقل حركة الهمزة الى الواو أولياء، و

تقلب الهمزة واوا في قُرُوءٍ و ياء في النَّسِي ءُ ثمّ تدغم الواوان في الأوّل، و الياء ان في الثاني، و هو أيضا متروك عندنا.

السادس: الإدغام كما عرفت في قُرُوءٍ و النَّسِي ءُ.

السابع: الحذف لبعض الياءات التي ربّما تثبت في الوصل على بعض القراءات كقوله: إِلَى الدَّاعِ «3» و قوله: فَهُوَ الْمُهْتَدِ «4».

______________________________

(1) البقرة: 228.

(2) التوبة: 37.

(3) القمر: 8.

(4) الإسراء: 97.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 407

و الثامن: الإثبات لياءات الزوائد المخذوفة في الوصل نحو والٍ «1» و واقٍ «2».

و التاسع: إلحاق هاء السكت في نحو (فبمه) و (ممّه).

و لا يخفى عليك أن كثيرا من هذه الأقسام تصنّعات، و تكلّفات و استحسانات لم يقم عليها شاهد، فضلا عن حجّة، بل الظاهر أنّه لا يجوز الوقف بمثل النقل و الإدغام و غيرهما ممّا يوجب تغييرا في الحرف أو الحركة من غير شهادة به من أهل اللّسان، و لعلّه لا عبرة بقراءة واحد من القرّاء، أو لحن طائفة من العرب لم يعلم نزول القرآن بلغتهم.

و رابعة فسّر حفظ الوقوف بمراعاة الإثنين من الأربعة المشهورة كما في «شرح النفليّة» للشهيد الثاني تبعا للأوّل فيها، قال بعد إرسال الخبر: و ليس المراد مطلق الوقف، بل الوقف التامّ، و هو الّذى لا يكون للكلام قبله تعلّق بما بعده لا لفظا و لا معنى، و الحسن و هو الذي يكون له تعلّق من جهة اللفظ دون المعنى.

قال: و من ذلك يعرف وجه الوصف بالتمام و الحسن، فإنّ الوقف على الحسن حسن في نفسه مفيد، لحسن النظم، و سهولة الضم، لكن لا يحسن الابتداء بما بعده للتعلّق اللفظي فهو دون التامّ، و هذا كلّه مع التمكّن و اليسر، و أمّا عند فراغ النفس فيحسن الوقف

مطلقا، سواء كان أحدهما أو غيرهما من الأنواع المرخصّة و الممنوعة ... الى أن قال:

و في الفاتحة أربعة وقوف توامّ: على البسلمة، و مالك يوم الدين

______________________________

(1) الرّعد: 11.

(2) الرّعد: 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 408

و نستعين، و آخرها، و عشرة حسنة: على «بسم اللّه»، و على «الرحمن» و على «الحمد للّه» و على «ربّ العالمين» و على «الرحمن» و على «الرحيم» و على «إيّاك نعبد» و على «المستقيم» و على «أنعمت عليهم» و على «غير المغضوب عليهم».

أقول: و القسمان الباقيان هما الكافي و القبيح.

و وجه الحصر على ما في «شرح طيبة النشر»: أنّ الكلام إمّا تامّ أولا، و التامّ إمّا لا يكون له تعلّق بما بعده لا لفظا و لا معنى، أو يكون له تعلق، فالأوّل هو التام فيوقف عليه، و يبتدأ بما بعده.

و الثّاني لا يخلو إمّا يكون تعلّقه من جهة اللفظ فهو الحسن الذي يجوز الوقف عليه لتمامه و لا يجوز الابتداء بما بعده لتعلّقه بما قبله لفظا، إلّا أن يكون رأس آية فإنّه يجوز عند الأكثر، كما هو المحكىّ «1» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و إمّا يكون تعلّقه بما بعده من جهة المعنى و هو الوقف الكافي كالتمام يجوز أن يوقف عليه و يبتدأ بما بعده.

و أمّا إذا لم يكن الكلام تامّا فالوقف قبيح، لا يجوز الوقف عليه و لا الابتداء بما بعده.

أقول: و ظاهره كصريح غيره اختيار الكافي على الحسن، لكنّ الخطب سهل بعد عدم الدّليل على شي ء من ذلك سوى الاستحسان الّذى لا عبرة به عندنا.

______________________________

(1)

النشر في القراآت العشر ج 1 ص 226 روى عن أم سلمة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأ

قطع قراءته آية آية ... تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 409

و رجوعه مطلقا الى الترتيل و التزيين المأمور بهما غير معلوم و إلّا فلا بأس به.

مضافا إلى حدوث هذا الاصطلاح منهم بحيث لا يصلح حمل العلويّ و غيره عليه، فإنّه منسوب إلى أبى عمرو «1»، صاحب «التيسير».

كما يحكى عن رجل آخر معروف بالسجاوندي «2» اصطلاح آخر في الوقف، فإنّه قسمّه الى خمسة أقسام:

الوقف اللازم، و هو الّذى يحصل بتركه في المعنى شناعة مثل قوله تعالى:

وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ «3»، فلو وصلت بما بعدها يكون قوله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ «4» صفة الأصحاب النار، و هو شنيع و محال.

2- الوقف المطلق، و هو الذي يحسن الابتداء بما بعده، و الوقف عليه لعدم ثبوت الاتّصال، كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لأنّه ثمّ ذكر الأوصاف، و إِيَّاكَ نَعْبُدُ ابتداء تضرّع.

3- الوقف الجائز، و هو الّذى حصل دليل الوقف و دليل الوصل فيه، كقوله تعالى حكاية عن بلقيس:

______________________________

(1) هو أبو عمرو بن عثمان بن سعيد الداني الأندلسي المتوفى (444) و من مصنفاته «التيسير».

(2) هو أبو عبد الله محمد بن طيفور السجاوندى الغزنوي المتوفى (544) أو (560) و من مصنفاته «الإيضاح في الوقف و الابتداء»- البرهان في معلوم القرآن للزركشى ج 1 ص 496.

(3) غافر: 6.

(4) غافر: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 410

إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً «1» و الوقف عليها جائز، لأنّ قوله تعالى: وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ «2» يمكن أن يكون قول بلقيس فينبغي الوصل، و يمكن أن يكون قوله تعالى توقيعا لقول بلقيس فينبغي الوقف.

4- الوقف المجوّز، و هو الذي لكلّ من الوقف و الوصل

فيه وجه، لكنّ الوصل أظهر و أقوى كقوله تعالى: وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «3».

5- الوقف المرخّص، هو ما بين كلامين تعلّق أحدهما بالآخر، و كلّ واحد منهما تامّ مستقلّ في إفادة المعنى كقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً «4»، لأنّ قوله: وَ أَنْزَلَ عطف على (جعل) و كلاهما صلة (الّذي)، و لكن كل واحد منهما يفيد معنى تامّا لو انقطع النفس عليه:

و هذا كلّه استحسانات، بل تصرّف في الأحكام الشرعيّة بدون إذن صاحب الشريعة، و ذلك لأنّهم يثبتون بذلك رجحانا وجوبيّا، أو ندبيّا و كلاهما من الأحكام الشرعيّة التي يجب فيها التوقيف، لا الأخذ بالاستحسانات و الظنون.

بل لا يخفى أنّ فيها شوب التشريع الذي يحرم معه الفعل، و لو مع اشتماله على جهة الحسن الذي لا يصلح دليلا للحكم، و هل هذا إلّا مثل قول (آمين) الذي هو استجابة لما تضمّنه الحمد من الدعاء.

قال السيّد نعمة اللّه طاب ثراه في جملة كلام ذكره في «الأنوار»: قد بقي

______________________________

(1) النمل: 34.

(2) النمل: 34.

(3) البقرة: 7.

(4) البقرة: 22.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 411

القرآن حتى وقع في أيدي القرّاء فتصرّفوا فيه بالمدّ، و الإدغام، و التقاء الساكنين، و غيرها تصرّفا نفرت الطّباع منه، و حكم العقل بأنّه ما تزل هكذا.

ثمّ قال: ظهر رجل اسمه سجاوندى، أو نسبة الى بلدة فكتب هذه الرموز على كلمات القرآن، و علّمه بعلامات أكثرها لا يوافق لا تفاسير الخاصّة، و لا تفاسير العامّة، و الظّاهر أنّ هذا إذا مضت عليه مدّة عديدة يدّعى أيضا فيه التواتر، و أنّه جزء القرآن فيجب كتابته و استعماله «1».

أقول: و كأنّ فيه تعريضا على بعض أصحابنا حيث توهّموا تواتر السّبع أو العشر، و كذا

تواتر المدّ، و غيره من الكيفيّات حسبما مرّت اليه الاشارة و تأتى إنشاء اللّه تعالى.

و بالجملة فلا وجه للاعتماد على شي ء من تلك الوجوه و الكيفيّات سيّما مع جعلهم بعض الأقسام منه واجبا، و بعضها حراما، من دون الاستناد الى آية أو رواية، أو حجّة شرعيّة، أو دلالة عقليّة.

كما يحكى عن بعضهم: أنّ الوقوف الواجبة ثلاثة و ثمانون وقفا، منها الوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «2».

و عن الإمام أبي منصور «3» أنّه جعل الوقف الحرام ثمانية و خمسين وقفا و من وقف على واحد منها متعمّدا فقد كفر، و جعل منها الوقف على صِراطَ الَّذِينَ «4»، و على مُلْكِ سُلَيْمانَ «5».

______________________________

(1) الأنوار النعمانية ج 2 ص 362 ط تبريز.

(2) آل عمران: 7.

(3) ابو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفّى (429)- الاعلام ج 4 ص 173.

(4) الفاتحة: 7.

(5) البقرة: 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 412

و قد ذكر بعضهم مضافا الى ما مرّ وقوفا أربعة آخر:

الوقف اللّازم الذي يجب الوقف عليه، و عدّوا منه قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» لأنّه لو وصل بقوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ «2» لصارت الجملة صفة لقوله: بِمُؤْمِنِينَ «3».

و منه قوله تعالى: إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ «4»، إذ لو وصل لصار الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ «5» صفة للظالمين، و خطره ظاهر، بل هو كلام مبتدأ من اللّه تعالى، الى غير ذلك ممّا عدّوه منه.

و وقف المعانقة، و يسمّى المراقبة، و هما وقفان متقاربان، إذا وقفت على الأوّل ينبغي وصل الثاني بما بعده، و إذا وقفت على الثاني ينبغي وصل الأوّل بما قبله ليحسن ذلك الوقف.

و هو في القرآن ثمانية عشر موضعا متفّقا عليها، منها

في البقرة في ثلاثة مواضع: لا رَيْبَ فِيهِ «6» و عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا «7».

و في ستة عشر موضعا مختلفا فيها.

______________________________

(1) البقرة: 8.

(2) البقرة: 9.

(3) البقرة: 8.

(4) البقرة: 145.

(5) البقرة: 146.

(6) البقرة: 2.

(7) البقرة: 96.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 413

و وقف الغفران الّذي رووا فيه

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من ضمن أن يقف عشرة في القرآن ضمنت له الجنّة».

و هو في المائدة: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ «1».

و في الأنعام: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ «2».

و في السجدة: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً «3».

و فيها أيضا: لا يَسْتَوُونَ «4».

و في يس: وَ آثارَهُمْ «5».

و فيها أيضا: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ «6».

و فيها أيضا: مِنْ مَرْقَدِنا «7».

و فيها أيضا: وَ أَنِ اعْبُدُونِي «8».

و فيها أيضا: مِثْلَهُمْ «9».

و في سورة الملك: وَ يَقْبِضْنَ «10».

و وقف النبي صلّى اللّه عليه و آله

، رووا منه صلّى اللّه عليه و آله: أنّه اختار الوقف في سبعة عشر موضعا «11»:

______________________________

(1) المائدة: 51.

(2) الانعام: 36.

(3) السجدة: 18.

(4) السجدة: 18.

(5) يس: 13.

(6) يس: 20.

(7) يس: 52.

(8) يس: 61.

(9) يس: 81.

(10) الملك: 19.

(11) قال الحصرى في «معالم الاهتداء في الوقف و الابتداء»: مسمّى الوقف في غيره المواضع وقف السنّة تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 414

ففي البقرة قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ «1»، و وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «2».

و في آل عمران: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «3».

و في سورة المائدة: مِنَ النَّادِمِينَ «4» و فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ «5» و فَقَدْ عَلِمْتَهُ «6»، و في رواية: ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ «7».

و في سورة يونس: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «8» و إِي وَ رَبِّي «9».

و في رواية:

أَ حَقٌّ، هُوَ «10»، و في رواية: إِنَّهُ لَحَقٌ «11».

و في سورة يوسف: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ «12».

و في سورة الرعد: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ «13».

و في سورة النحل: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها «14».

______________________________

و وقف جبريل و وقف الابتداء، و لم أعثر على اثر صحيح أو ضعيف يدلّ على أنّ الوقف في جميع غيره المواضع من السنّة.

(1) البقرة: 148.

(2) البقرة: 197.

(3) المائدة: 116.

(4) المائدة: 131.

(5) المائدة: 48.

(6) المائدة: 161.

(7) المائدة: 116.

(8) يونس: 2.

(9) يونس: 53.

(10) يونس: 53.

(11) يونس: 53.

(12) يوسف: 108.

(13) الرعد: 18.

(14) النمل: 5. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 415

و في سورة لقمان: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ «1».

و في سورة المؤمن: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ «2».

و في سورة الحشر: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ «3».

و في سورة النازعات: فَحَشَرَ «4».

و في سورة القدر: مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «5».

و في سورة النصر: وَ اسْتَغْفِرْهُ «6».

و عن بعضهم أيضا في أواخر البقرة: غَنِيٌّ حَمِيدٌ «7».

و في سورة القدر: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ «8».

و لا يخفى عليك أنّه لم يثبت الرواية بشي ء منهما، لكونهما عاميّين، و بعض أصحابنا أخذهما عنهم.

و أمّا لزوم الوقف و وجوبه في المواضع التي ذكروها فمن المقطوع انتفاء الوجوب فيها كانتفاء الحرمة فيما حكموا بها فيه، و لذا صرّح بعضهم بأنّهم لم يقصدوا ما يتراءى من ظاهر كلامهم.

قال الجزري في «طيبة النشر»:

و ليس في القرآن من وقف وجب و لا حرام غير ما له سبب

______________________________

(1) لقمان: 13.

(2) المؤمن: 6.

(3) الحشر: 2.

(4) النازعات: 23.

(5) القدر: 3.

(6) النصر: 3.

(7) البقرة: 267.

(8) القدر: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 416

و فسّر ما له السبب بما أريد به تغيير المعنى.

و قال بعض شرّاحه من أفاضل المتأخرين: إنّه وقع في كلام كثير ممّن ألّف في الوقوف قولهم: الوقف

على هذا واجب أو لازم، أو حرام، أو لا يحلّ، و نحو ذلك من الألفاظ الدالّة على الوجوب و التحريم، و لا يريدون بذلك المقرّر عند الفقهاء ممّا يثاب على فعله و يعاقب على تركه، أو يعاقب على فعله و يثاب على تركه، بل المراد أنّه ينبغي للقارى ء أن يقف عليه لنكتة، أو لمعنى يستفاد من الوقف، أو يتوهّم من الوصل تغيير المعنى المقصود، أو نحو ذلك، أو لا ينبغي الوقف عليه أو الابتداء بما بعده لما يتوهّم من تغيير المعنى و بشاعة اللفظ، و نحو ذلك.

فمن الأوّل: قوله تعالى: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ «1».

قال السخاوي: الوقف عليه واجب، لئلا يتوهّم أنّ ما بعده و هو إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ من قولهم، بل هو من قول اللّه تعالى، و يؤكّد هذا التوهم كسر (إنّ) فإنّها تكسر بعد القول.

و من الثاني: الوقف على (الموتى) في قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ «2» فإنّه إنّ وقفنا على (الموتى) يتوهّم أنّ الموتى يستجيبون مع الذين يسمعون، و ليس كذلك و إنّما المعنى أنّ الموتى لا يستجيبون بل يبعثهم اللّه تعالى.

و كذلك الوقف على (لا يستحيي) في قوله تعالى:

______________________________

(1) يونس: 65.

(2) الانعام: 36.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 417

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي «1»، و الوقف على (لا يهدى) في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «2»، كلّ ذلك لا يجوز، فإن قصد أحد ذلك عمدا مع الالتفات، و العياذ باللّه تغيّر المعنى المراد الى غيره كان حراما معاقبا عليه بهذا السبب.

بقي الكلام في أنّ مراعاة تلك الوقوف، مع القطع بعدم وجوبها، هل هي مندوبة أم لا؟، ذهب الشهيدان، و المجلسيّان، و البهبهاني، و غيرهم إلى

الأوّل، و قد سمعت آنفا تمام الكلام بما يستدلّ به للوجهين.

نعم، ربما يستشكل في تفسير الوقوف الواردة في الخبر بالأربعة المشهورة المتقدّمة فعلا و تركا، بأنّ هذه الوقوف إنّما وضعوها على حسب ما فهموه من التفاسير، و المعاني التي هي أبعد شي ء من عقول الرجال، بل

قد ورد: انّ معاني القرآن لا يفهمها إلّا أهل البيت عليهم السّلام الذين نزل في بيوتهم القرآن

، و يشهد له أنّا نرى كثيرا من الآيات كتبوا فيها نوعا من الوقف، بناء على ما فهموه، و وردت الأخبار المستفيضة بخلاف ذلك المعنى الّذى فهموا، كما أنّهم كتبوا الوقف اللازم في قوله سبحانه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «3» على آخر كلمة الجلالة، لزعمهم أنّ الرّاسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابهات، و قد وردت الأخبار المستفيضة في أنّ الراسخين في العلم هم الائمّة عليهم السّلام و هم يعلمون تأويلها، مع أنّ المتأخّرين من مفسّرى العامّة و الخاصّة رجّحوا في كثير من الآيات تفاسير لا توافق ما اصطلحوا عليه في الوقف.

نعم، ربما يجاب عن الأشكال بأنّ المراد المحافظة على معنى الوقف التامّ

______________________________

(1) البقرة: 26.

(2) المائدة: 51.

(3) آل عمران: 7.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 418

و الحسن، لا خصوص ما تخيّلوه.

و أنّ ما ورد من اختصاص علم القرآن بهم لا ينافي إتباع الظاهر لنا فيما لم يرد فيه نصّ منهم.

أقول: و على هذا فيسقط التوقيف على خصوص ما عيّنوه مصداقا لتلك الأقسام في الفاتحة و غيرها على ما زعموه.

مضافا الى أنّه لا دليل على حسن المحافظة على تلك المعاني أيضا، و لو في غير ما عيّنوه من المصاديق.

سيّما مع ملاحظة عموم البلوى بها للناس عند القراءة في الصلاة و غيرها،

و عدم ورود نصّ في ذلك عن الأئمّة عليهم السّلام، مع شيوع علم القراءة في تلك الأزمنة بين العامّة، مع أنّه كان بين رواتهم من الإماميّة أهل الديانة و العبادة، و التقوى، و لم يعهد من أحد منهم السؤال عن كيفيّة الوقف موارده، كما لم يقع عنهم السؤال قطّ ممّا زخرفوا بقرائتهم البتراء مثل أقسام المدّ، و الإمالة، و الاختلاس، و الإشمام، و الروم، و غير ذلك ممّا ملئوا بها كتب القراءة، و صرفوا فيها أعمارهم، و هذا كلّه دليل على عدم المطلوبيّة بوجه، بل مطلوبيّة ترك التعرّض و الالتفات إليه رأسا، بل لعلّ في بعض الأخبار إشعارا عليه أيضا.

مثل ما

أرسله في «مجمع البيان» عن أمّ سلمة: «كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يقطع قراءته آية آية» «1».

فإنّ ظاهره الذي من المقطوع إرادته أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقف على الآيات، مع أنّ مقتضى ما ذكروه أنّ المدار على ملاحظة المعاني، فربما يحسن الوقف على

______________________________

(1) مجمع البيان ج 10 ص 378 في تفسير الترتيل من سورة المزمّل.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 419

بعض الآية، و ربما يحسن الوصل بين الإثنين عندهم.

و ما

رواه عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه السّلام، عن الرجل يقرأ الفاتحة، و سورة اخرى في النفس الواحد، قال عليه السّلام: إن شاء قرأ في نفس واحد، و إن شاء في غيره «1».

إلّا أنّ الظاهر منه إرادة مجرّد الجواز، و إن كان الأظهر كراهة قراءة سورة واحدة بنفس واحد فضلا عن السّورتين، و ذلك لا للإخلال بالوقف، بل لمنافاته للترتيل المأمور به في الكتاب و السنّة.

و لنا

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بعد الأمر بالترتيل بما مرّ: «و

لكن اقرعوا به قلوبكم القاسية و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «2».

و

قال مولانا أبو عبد اللّه عليه السّلام في خبري محمّد بن الفضيل، و محمد بن يحيى: «يكره أن يقرأ قل هو اللّه أحد في نفس واحد» «3».

و

قال عليه السّلام في الترتيل: «هو أن تتمكّث فيه و تحسّن به صوتك» «4».

و

من إسحاق بن عمّار، عن جعفر الصادق، عن أبيه عليهما السّلام: «أنّ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اختلفا في صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكتبا إلى أبيّ بن كعب: كم كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سكتة؟ قال: سكتتان: إذا فرغ من امّ القرآن، و إذا فرغ من السورة «5».

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 220- قرب الاسناد ص 93.

(2) الأصول من الكافي ص 598.

(3) أصول الكافي ص 599- و فروع الكافي ج 1 ص 86.

(4) مجمع البيان ج 10 ص 378 و عنه البحار ج 92 ص 191.

(5) مجمع البيان ج 10 ص 178.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 420

و لعلّ المراد من السكتة غير الوقف، بل هو وقف معه سكوت ما، كيلا يكون قراءتهما بنفس واحد.

بل قد ورد في رواية «1» حمّاد تقدير السكتة بعد السورة بنفس، مع أنّك قد سمعت كراهة قراءة التوحيد بنفس واحد، و لعلّ ثبوتها في الحمد أظهر.

و لذا حكى المولى البهبهاني عن بعضهم أنّه قال: و الأولى أن لا يقرأ مقدار سورة التوحيد من غيرها أيضا بنفس واحد، ثمّ قال: و لعلّه كذلك، بل لعلّ الأقل منها أيضا كذلك لاستحباب الترتيل.

أقول: و مع كلّ ذلك فلعلّ الأظهر أنّ مراعاة الوقف في مواضعة الّتى هي مقاطع الكلام من الترتيل

المندوب اليه، و مثل هذا الترتيل يحسن مراعاته و لو في المناجاة و الأدعية، و في الكلمات العرفيّة، بل و كذا في الخطب و الأشعار، فإنّ في كلّ كلام مواضع للفصل و الوصل يعرفها أهل العرف، و أرباب دراية المعنى، بحيث يعرفون بالوجدان حسن الفصل في مواضع منها، و الوصل في غيرها كما يقضى به التأمّل في مخاطباتهم العرفيّة.

و في كلام الأردبيلى في «مجمع الفائدة» ما يؤذن بدعوى الإجماع على أولويته في مواضعه.

بل و لعلّ إليه إشعارا فيما رواه الكليني قدّس سرّه

في «الكافي»، من حفص، قال: «ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام، و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزنا، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنسانا» «2».

بل و من هنا عدّ غير واحد من أصحابنا من الترتيل: أو الوقف المستحبّ

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 84 ص 189.

(2) أصول الكافي ص 594.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 421

أن يقف على غير المضاف، بل و على غير الموصوف أيضا.

و إن أطنب في ذلك بعض أرباب القرائة فألحق به ما ليس منه، حيث ذكر أنّه ينبغي للقارى ء أن يجتنب عن الوقف بين العامل و المعمول، و بين الفعل و ما يتعلّق به من فاعل و مفعول، و ظرف، و مصدر، و غيرها، و بين الشرط و الجزاء، و بين الأمر و جوابه، و بين المبتدأ و الخبر، و بين الصلة و الموصول، و بين الصّفة و الموصوف، و بين البدل و المبدل منه و بين المعطوف و المعطوف عليه، و بين المؤكّد و المؤكّد، و بين المضاف و المضاف إليه، و بين المستثنى و المستثنى منه، و بين «كان» و «إنّ»

و أخواتهما، و أسمائها، و بين القسم و جوابه، و بين الحرف و مدخوله «1».

و أنت ترى أنّه لا يقضى به العرف على وجه الكليّة، فربما يحسن الوقف في كثير من الموارد مع دخولها تحت بعض المذكورات، لطول الكلام، أو لغيره من مقتضيات المقام.

و هذا كلّه فيما لم يقصر النفس، و أمّا مع قصره فالأحسن الوقف حيث شاء، نعم ذكر في «كشف اللثام» و غيره أنّه لا ينبغي إكثار الوقف بحيث يختلّ النظم، و يلحق بذكر الأسماء المعدودة.

______________________________

(1) النشر في القراآت العشر ج 1 ص 230.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 422

في مراعاة المدّ

عرّفوا المدّ بإطالة الصوت بحرف مدّي من حروف العلّة، و القدر الواجب منه ما يتوصّل به إلى أداء الحرف الساكن الذي يسمّونه سبب المدّ، و ذلك لأنّ التلّفظ بالحروف إنّما يتمشّى بتحركّها أو اتصالها بالمتحرّك، أو بالساكن الذي يتوصّل بمدّة الى التلفّظ بها، و ذلك على فرض توقّف الإفصاح بها عليه، مقدّر بقدره، و إلّا فالقدر الزائد على ذلك لا دليل على وجوبه، و لا على ندبه، و إن توسّع فيه أرباب القراءة حيث قسّموه إلى الطبيعي، و هو الامتداد الحاصل لذات الحروف الثلاثة بقدر التلفّظ بها كما في قوله: آتُونِي «1»، و يسمّى أصليّا و ذاتيّا، و لذا قدّروها بألف واحدة، و هو قدر التلفّظ بها.

و غير طبيعي، و هو ينقسم إلى ما له سبب معنويّ و هو ما قصد به المبالغة في النفي، كما عن حمزة في مثل لا رَيْبَ «2»، و لا لا جَرَمَ «3» و لا مُقامَ «4».

و منه مدّ التعظيم في لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ

و ما له سبب لفظيّ، و هو إمّا السكون، و إمّا الهمزة، و السكون

ينقسم الى

______________________________

(1) الكهف: 96.

(2) البقرة: 2.

(3) هود: 22.

(4) الأحزاب: 13.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 423

أصليّ و عارضي، فالأصليّ مظهر في فواتح السور، و مدغم في مثل دَابَّةٍ «1» و الضَّالِّينَ «2»، و كلاهما لازم، و مقداره، فيهما عند ورش، و حمزة أربع ألفات، و عند غيرهما ثلاث، و عن ثالث خمس، و عن رابع ألفات.

و العارضى المدغم في الرَّحِيمِ مالِكِ «3» على فرض الإدغام.

و المظهر في نَسْتَعِينُ «4»، و جوّزوا فيها الطول و القصر و التوسّط.

و أمّا الهمزة فإن كان بعد حروف المدّ في كلمة، مثل (جاء) و (جي ء) و (سوء) فالمدّ متّصل لازم عندهم، محدود بالخمس إلى الألفين، على الاختلاف بينهم، أو في كلمتين فمنفصل جائز.

و لهم اختلافات كثيرة في عدّها، و حدّ مدّها، حتى أنهاها بعضهم الى خمسة عشر قسما.

قال قائلهم:

و للمدّ أنواع لدى الحصر خمسةو عشر لتمكين «5» و بسط «6» مفصّلا

______________________________

(1) البقرة: 164 و سور أخرى.

(2) فاتحة الكتاب: 7 و سور اخرى.

(3) فاتحة الكتاب: 3- 4.

(4) فاتحة الكتاب: 5.

(5) مدّ التمكين في نحو (أولئك) و (الملائكة) و (شعائر) و هي مدّة تليها همزة، لأنّه جلب ليتمكّن به من إخراجها من يخرجها- الإتقان ج 1 ص 338.

(6) مدّ البسط و يسمّى أيضا مدّ الفصل في نحو (بما أنزل) لأنّه يبسط بين كلمتين و يفصل بين متصلتين- الإتقان ج 1 ص 338.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 424 و عدل «1» و فرق «2» بنية «3» عوض و لازم عارض و حجز و أصل تأصلا

كذا مع روم مبدل شبه مبدل مبالغة، إمعان فافهم مكمّلا

و في بعض هذه الأقسام اختلافات عندهم في تحديده.

فمن الغريب ما في «مجمع البحرين» من دعوى اتّفاقهم في

كثير من الأقسام، حيث قال في كتاب الدال باب أوّله الميم: و حروف المدّ هي حروف العلّة، و في مصطلح القرّاء إن كان بعدها حمزة تمدّ بقدر ألفين الى خمس ألفات، و إن كان بعدها تشديد تمدّ بقدر أربع ألفات اتّفاقا منهم مثل (دابّة)، و إن كان ما بعدها ساكن تمدّ بقدر ألفين اتّفاقا (كصاد)، و ان كان بعدها غير هذه الحروف لم تمدّ إلّا بقدر خروجها من الفم، فمدّ بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن إلّا بقدر خروج الحرف من الفم، إلّا (الرحيم) عند الوقف فيمدّ بقدر ألفين «4».

أقول: لكنّ الخطب في كلّ ذلك سهل عندنا بعد ما سمعت من عدم وجوب شي ء منها، و لا استحبابه عدى ما يتوقّف عليه أداء الحروف على فرض التوقف و إلّا فلا دليل على مطلوبيّة شي ء زائد عليه.

نعم عدّ في «النفلية» في المستحبّات المدّ المنفصل و توسّطه مطلقا.

و لعلّه عدّ في «الألفيّة» المتّصل من الواجبات، و ليست عندي كى الأحظ.

______________________________

(1) مدّ العدل في كلّ حرف مشدّد قبله حرف مدّ و لين نحو (و لا الضّالّين) لأنّه يعدل حركة و يقوم مقامها في الحجز بين الساكنين.

(2) مدّ الفرق في نحو (الآن) لأنّه يفرق به بين الاستفهام و الخبر.

(3) مدّ البنية في نحو (ماء) و (دعاء) و (نداء) و (زكريّاء) لأنّ الاسم بني على المدّ، فرقا بينه و بين المقصور.

(4) مجمع البحرين ج 3 ص 145.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 425

و قال الشهيد الثاني في «شرح النفليّة»: يجوز حينئذ القصر، و المد و هو أفضل لما فيه من تحقيق الحرف.

و قال بعد قوله: «و توسطه مطلقا»: سواء كان مدا منفصلا أم غير منفصل، واجب المدّ، أم جائزة، فإنّ زيادته

عن التوسط كمدّ ورش يكاد يخرج عن حدّ الفصاحة، و تفوّت لذاذة استماعه، و محاسن أداءه، و دون التّوسط لا يبيّن معه حروف المدّ بيانا شافيا، و لا تفصح معه إفصاحا كافيا، و خير الأمور أوسطها.

و لا يستشكل بأنّ الجميع متواتر، إذ لا بعد في تفضيل بعضه على بعض، و إن اشترك الجميع في أصل البلاغة و وصف الفصاحة، و من البيّن أنّ في بعض تركيب القرآن العزيز ما هو أفصح من بعض، و أجمع لدقائق البلاغة و مزايا الفصاحة.

و قد عدّ الأردبيلى المدّ الواجب في عداد ما يجب مراعاته، بل كأنّه قد أرسله إرسال المسلّمات حيث قال: و معلوم من وجوب القراءة بالعربيّة المنقولة تواترا عدم الإجزاء و عدم جواز الإخلال بها حرفا، و حركة بنائية و اعرابيّة، و تشديدا، و مدّا واجبا، و كذا تبديل الحروف، لعدم صدق القراءة، فتبطل الصلاة مع الاكتفاء بها.

و قال السيّد «1» الطباطبائى في «إصلاح العمل»: صرّح جماعة بوجوب مراعاة المدّ المتّصل، و فيه أشكال، و لكنّه أحوط.

قال: و لا يجب المنفصل، و قيل: هو أفضل، ثمّ حكى عن صريح بعض الأصحاب أنّ المراد بالمدّ المتصل ما يكون حرف المد و موجبه في كلمة واحدة،

______________________________

(1) هو السيّد المجاهد محمد بن الأمير السيّد على الطباطبائى الحائرى المتوفى (1242).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 426

و بالمنفصل ما كان حرف المدّ في كلمة، و موجبه في اخرى، فيدخل في الأوّل مدّ «أولئك» و مدّ «و لا الضالّين»، و مدّ كهيعص

و لكن يظهر من جماعة منهم السيوطي في «الإتقان» «1»، و بعض شرّاح «الشاطبية» أنّ المتّصل عبارة عمّا كان سببه وقوع الهمزة في كلمة واحدة فيخرج الأخيران عنه، و يدخل في الثاني

مدّ «لا إله إلّا اللّه».

أقول: المشهور، بل كاد أن يكون إجماعا منهم هو التفسير الأوّل، و به صرّح الشهيد الثاني في «شرح النفليّة» كما صرّح به أيضا كثير من شرّاح «الشاطبية» و الجزري في «طيبة النشر» و غيرهم من أئمّة القراءة، من دون اشارة إلى خلاف أصلا، لكنّ الخطب فيه سهل جدّا بعد عدم الدليل على وجوبه في شي ء من الأقسام، بلا فرق بين تسميته متّصلا أو منفصلا، و استقرار طريقة أهل اللّسان على مراعاته غير معلوم، بل المعلوم خلافه.

ألا ترى أنّهم في محاوراتهم و تكلماتهم العرفيّة لا يراعون شيئا من ذلك، و إنّما يقتصرون على أداء موادّ الحروف، بل لو تكلّف أحد بمراعاة ذلك لكان ذلك منكرا مستهجنا عندهم.

هذا مضافا الى خلوّ الأخبار، بل خلوّ كتب القدماء، و أكثر المتأخرين عن ذلك، بل أوّل من تعرّض لذلك من فقهاء أصحابنا هو الشهيد في الألفية» و «النفلية»، و لم يتعرّض له في «الذكرى»، أصلا.

و كأنّ الّذى دعاه إلى ذلك إكمال العدّة في الكتابين، و لذا عدّ من المندوب في «الثاني» بعد ذكر المدّ، عدم الإفراط في التشديد، و إشباع كسرة كاف

______________________________

(1) الإتقان ج 1 ص 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 427

«ملك»، و ضمّ دال «نعبد» و الإتيان بالواو بعدها سلسا، و إخلاص الدال في «الدين» و الياء في «إيّاك» و الفتحة في الكاف من «ايّاك» بلا إشباع، و التحرّز من تشديد الباء في «نعبد» و نحوه، و التاء في «نستعين» و تصفية الصاد في «الصراط» المختارة اى إذا اختار الصاد، فإن اختار السين فليحافظ على همسه، و تمكين حرف المدّ و اللين بغير افراط، و كذا فتحة نون «الذين» و اجتناب تشديد تاء «أنعمت»

و ضاد «المغضوب» و اجتناب تفخيم الألف، و إخفاء الهاء، بل تكون ظاهرة، الى غير ذلك ممّا لم يقم على مطلوبيّته شاهد، فضلا عن حجّة، عدا بعض الاعتبارات التي ترجع إلي ملاحظة صفات الحروف أو إلى تبيينها، و الإفصاح عنها، كما يشهد له التأمّل فيما ذكره ثانى الشهيدين في الشرح، و أنت تعلم أنّ المعتبر إنّما أداء الحروف، و أمّا الصفات فلا دليل على اعتبارها فضلا عن الأمور المحقّقة لها، بل لا يخفى أنّ التوغّل و الاستغراق في هذا القدر الذي ذكره الشهيد فضلا عن غيره ممّا اعتنى به أئمّة هذه الصناعة من صفات الحروف و غيرها يسلب الخشوع الذي هو المطلوب بالقراءة.

و لذا ورد الأمر في الكتاب و السنّة بالتدبّر فيها و التحقّق بحقائقها، و استجلاب الخشوع عندها على ما ستسمع تمام الكلام فيه إنشاء اللّه.

و أمّا ما ذكره المحقّق الثاني، بل الشهيد الثاني أيضا من أنّه لو ترك المدّ المتّصل تحقّق الإخلال بمثل الإخلال بحرف فهو على إطلاقه ممنوع، نعم قد سمعت أنّه لو توقّف عليه أداء الحرف وجب بلا فرق بين كون الموجب الهمزة أو الساكن في كلمة أو كلمتين، و ذلك لا لكونه مدّا، بل لتوقّف الحرف الساكن عليه، إذ الساكن الواقع بعد حرف المدّ لا بدّ من اعتماده على ما يتوصّل به إلى النطق به، و ذلك في أمثال المقام امتداد حرف المدّ لفقد الحركة السابقة.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 428

و من هنا يظهر أنّه يمكن القول باستحباب المدّ عند السكون العارض كما في «الرّحيم» و «نستعين» حيث يتوقّف الإفصاح عن حرفي المدّ و الساكن عليه، بل يمكن الاستدلال له بما ورد في المعتبرة من الأمر بإفصاح الألف و الهاء

في التهليل من الأذان كما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام.

و

عنه عليه السّلام: الأذان جزم بإفصاح الألف و الهاء» «1».

بل

عن «المنتهى» عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يؤذّن لكم من يدغم الهاء، قيل:

و كيف يقول؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: يقول: أشهد أنّ لا إله إلّا اللّه «2».

و قد اختلفوا في تعيين الهاء الّتي نهينا عن إدغامها على وجوه لا داعي للتعرّض لها في المقام، إلّا أنّ الظاهر أنّ المراد الهاء الأخيرة، و لو بقرينة ما في الخبر المتقدّم، و غيره من الأمر بالجزم أى الوقف على فصول الأذان مع إفصاح الألف و الهاء، فالمراد بالإدغام المنهيّ عنه ترك المدّ بحيث يؤدّي الى إخفاء الهاء.

و لعلّ ما ذكرناه في معنى الخبر أولى ممّا ذكره الحلّى «3»، و شيخنا البهائي، و العلّامة المجلسي عطّر اللّه مراقدهم، فلاحظ.

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 150.

(2) بحار الأنوار ج 84 ص 159.

(3) قال ابن إدريس الحلي على ما حكى في البحار: المراد بالهاء هاء (إله) لا هاء (أشهد) و لا هاء (اللّه).

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 429

في مراعاة التشديد

يجب مراعاة التّشديد الذي منه التلفّظ بالحرفين، فإنّ الحرف المشدّد أقيم مقامهما، و الإخلال به بكلّ من التّخفيف و الفكّ إخلال بالقراءة الموسوعة الّتى وقع التعبّد بقرائتها مع مخالفتهما الطريقة العرف و القواعد اللّغوية.

فما في «التذكرة» عن بعض الجمهور من جواز ترك الشدّة لعدم ثبوتها في المصحف ضعيف جدّا كدليله، فإنّه في الحقيقة إخلال بالحرف، و بالكيفيّة المعتبرة، و لذا نفى غير واحد منّا الخلاف في عدم الإجزاء مع الإخلال به الشامل للوجهين معا، بل للثالث الذي هو التحريك بعد الفكّ.

قال في «كشف اللّثام»: و فكّ الإدغام

من ترك الموالاة إن تشابه الحرفان، و إلّا فهو إبدال حرف بغيره، و على التقديرين من ترك التشديد، نعم، لا بأس به بين كلمتين إذا وقف على الأوّل نحو لَمْ يَكُنْ لَهُ

و مفهومه كما ترى ثبوت البأس بالفكّ عند الوصل، و تنقيح البحث يستدعى بسط الكلام في أقسام التشديد و الإدغام مع التعرّض لما له من الأحكام.

فنقول: إنّ التشديد على ما صرّح به بعضهم، و يستفاد من كلام آخرين على وجوه ستّة:

أحدها: التشديد الأصلى «كتوّاب» و «أوّاب» و «وهّاب» و نحوها، و هذا لا خلاف و لا إشكال في وجوبه، و عدم الاجتزاء بالتخفيف و بالفكّ الذي لعلّه لا يحصل إلّا بالسكت بين الواوين لما عرفت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 430

ثانيها: التشديد البدلى الحاصل من إدغام لام التعريف في الحروف الشمسيّة «كالرّحمن» و «الرّحيم».

و ذلك لأنّهم قسّموا الحروف إلى شمسيّة تدغم فيها اللّام، و قمريّة تظهر عندها، و كلّ منهما أربعة عشر حرفا، فالقمريّة هي حروف قولك: «ابغ حجك و خف عقيمه» و الشمسيّة ما سواها، و التسمية باعتبار لفظة الشمس و القمر، تسمية للكلّ بملاحظة الجزء.

و لا يهمّنا البحث في أنّ سبب الإدغام في المقام هل هو قرب المخرج، أو غيره بعد استقرار طريقة أهل اللّسان عليه بلا خلاف و لا إشكال فيه من أحد، و إن تضمّن إبدالا من الحرف الأصلي الذي هو اللام فالإخلال به بفكّ الإدغام، أو بترك الإبدال إخلال بالقرائة المعهودة الموظّفة.

و توهّم جواز موافقة الخطّ الذي يوافقه الأصل أيضا مدفوع بما سمعت.

و أمّا إبقاء الخطّ على الأصل فربّما علّلوه بكون اللام من كلمة، و الحرف المدغم فيه من كلمة أخرى، و بالأمن عن اللبس في المنكّر المدخول لهمزة

الاستفهام، و الخطب فيه سهل.

ثالثها: التشديد اللّازم، و هو الذي في الأدوات مثل «لمّا» و «أمّا» و «ثمّ» و «حتّى» و «كلّا» و نحوها، و هو في الوجوب و عدم الاجتزاء مع الإخلال به كالسابقين.

رابعها: تشديد الغنّة، و كأنّه تغليب في التسمية، حيث إنّهم عبّروا به عن الإدغام في حروف «يرملون» مع وضوح انتفاء الغنّة في اللام و الراء، و قد اتّفقت كلمة القرّاء على إدغام النون الساكنة و التنوين في هذه الحروف و صرّح في شرح «طيبة النشر»، و «إبراز المعاني» بالإجماع، بل في «الشاطبية» أيضا حيث قال:

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 431 و كلّهم التنوين و النون أدغموابلا غنّة في اللام و الراء ليجملا

و كل بينمو أدغموا مع غنّةو في الواو و اليا دونها خلف تلا «1»

و هو المحكيّ عن «التيسير» و «سراج القاري»، و غيرهما أيضا.

بل في «إبراز المعاني»: التّصريح بأنّ الإدغام في حروف «يرملون» الستّة، و الإظهار في حروف الحلق الستّة، و القلب عند الباء، و الإخفاء في البواقي هي الوجوه الّتي لها في اللّغة، بل قد استفاد من الشاطبيّة أيضا، و إن كانت استفادته لا تخلو من نظر فلاحظ.

و أمّا الفقهاء: فقد سمعت أنّ مفهوم كلام كاشف اللثام وجوبه، و هو الظاهر من الشهيد في «البيان» و «الألفيّة» و ثانى المحققين و الشهيدين، و غيرهم ممن صرّح بوجوب الإدغام الصغير، حيث إنّ غير واحد منهم صرّحوا بكون المقام منه و إن افردوه بالبحث لاختصاصه ببعض الأحكام.

و في «إصلاح العمل» أنّه صرّح جماعة بوجوب الإدغام الصغير، و لكنّه أحوط، قال: و فسّره بعض بإدغام التنوين و النون الساكنة في أحد حروف «يرملون»، و على كلّ حال ففي وجوبه إشكال:

من

الأصل، و جواز القراءة بالمرسوم، و عدم الإشعار بوجوبه في شي ء من كلمات قدماء الأصحاب، فضلا من الأخبار.

و من ظهور إجماع المتأخرين عليه، فإنّهم بين مصرّح به و ساكت عنه، مقرّر له مع ظهور إيكالهم كيفيّة القرائة على الرّجوع الى علماء هذا الفنّ، و الكتب المصنّفة فيه، بل و لعلّه السرّ أيضا في عدم تعرّض القدماء و لغيره ممّا لا تأمّل في وجوبه، كإخراج الحروف من مخارجها، و مراعاة التشديد، و غيره.

______________________________

(1) حرز الأمانى المعروف بالشاطبية ص 24 باب احكام النون الساكنة و التنوين.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 432

هذا مضافا الى أنّ كثيرا من موارد هذا الإدغام يرجع الى رسم الخطّ الّذى لا يجوز تغييره مثل عَمَّ يَتَساءَلُونَ «1» و مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «2»، و عَمَّا يَعْمَلُونَ و نحوها.

و إلى ما سمعت عن «شرح الشاطبية» من أنّ هذا الإدغام من مقتضى اللّغة، و اتفاق القرّاء السبعة، و غيرهم على لزوم مراعاته، و لا ريب في وجوب إتّباع قراءتهم، إمّا للتواتر كما عليه جماعة، أو لوقوع التعبّد لنا من الائمة عليهم السّلام كما يستفاد من الأخبار، إلّا أنّ الأظهر مع كلّ ذلك عدم الوجوب، لمنع الإجماع، بل الاتّفاق أيضا، و كيف يحصل لنا العلم بفتوى الإمام عليه السّلام من مجرّد فتوى بعض المتأخرين، و لذا لم يدّعه عليه أحد منهم.

مع أنّه من المحتمل قويّا أنّهم أرادوا بالوجوب غير المعنى المصطلح، حسبما سمعت في الوقف، بل قد سمعت أيضا أنّه قد تبعه فيه بعض المتأخرين.

و أمّا ما مرّ من إيكالهم كيفية القراءة على علماء الفنّ ... إلخ ففيه ما لا يخفى، مع إشعار كثير منهم تصريحا أو تلويحا بالقدر الواجب الراجع الى مادّة الكلمة و هيئتها الظاهر

في نفى أمر زائد، بل هو صريح بعضهم أيضا.

قال في «مجمع الفائدة»: و أمّا باقي الصفات في الحروف من الترقيق، و التفخيم، و الغنّة، و الإظهار، و الإخفاء فالظاهر عدم الوجوب، بل عدم الاستحباب، لعدم الدليل شرعا، و صدق القرائة بدونها لغة و عرفا، و إن كان عند القرّاء واجبا.

و نفى البأس في «كشف الغطاء» عن فكّ المدغم من كلمتين.

______________________________

(1) النبأ: 1.

(2) نوح: 25.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 433

و أمّا إدراج الإدغام في الرسم في بعض المواضع فمع معارضته بالعدم في الأكثر مدفوع بعدم العبرة بالرسم المتعارف الذي لا شكّ في اختلافه بحسب الأعصار، بل لا ريب في استناده أوّلا الى المصاحف العثمانيّة، التي خولف فيها طريقة العرف مع أنّه وقع كثيرا مخالفة الرسم في المعرّف باللام و غيره.

و أمّا نسبته إلى اللغة فمع عدم ثبوتها لعلّ المراد مجرّد الجواز لا اللزوم، بل لعلّه الظاهر.

و أمّا اتّفاق القرّاء عليه فمع الغضّ عن احتمال ارادة غير المصطلح من الوجوب، لا ريب في أنّه إنّما يلزم متابعتهم في موادّ الحروف، لا في هذه التصرفات التي ربّما يؤدّي إلى تغيير موادّ الأصول، و لذا لم يقل أحد بوجوب الإدغام الكبير، بل الظاهر من أكثر الأصحاب إختيار تركه لزوما أو احتياطا.

نعم يمكن دعوى القطع من جميع ما مرّ، و غيره بالجواز، بل لعلّ عليه إجماع الفقهاء أيضا، فقضيّة الاحتياط في المقام مراعاته لارتباط المشكوك فيه بالمأمور به، سيّما إذا وجبت القرائة الصلاة أو نذر، أو استيجار، أو غيرها.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ معقد الإجماعات المحكيّة، بل و دعوى قضاء العرف و اللّغة هو كلّ من الأمور الأربعة، أعنى الإدغام في حروف «يرملون»، و الإظهار في حروف الحلق، و القلب

في الباء، و الإخفاء في البواقي.

أمّا الإدغام فهو بلا غنّة في اللام و الراء، و مع الغنّة في حروف «ينمو» الأربعة، إلّا عن خلف (بن هشام المتوفّى 229) في الواو و الياء للقرب القريب في الأوّلين الموجب لتمحض الإدغام دون الأربعة الأخيرة فلم يذهب بغنّتها، بل حكى في «شرح الشاطبية» عن بعضهم أنّه في الواو و الياء إخفاء لا إدغام، و إنّما يقولون له إدغام مجازا، و إلّا فهو إخفاء على مذهب القائلين ببقاء الغنّة، لأنّ

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 434

ظهورها يمنع من تمحّض الإدغام الّا أنّه لا بدّ من تشديد يسير فيهما.

قال: و هو قول الأكابر حيث قالوا: الإخفاء ما بقيت معه الغنّة.

و أمّا عند النون و الميم فهو إدغام محض، لأنّ في كلّ واحد من المدغم و المدغم فيه غنّة، فاذا ذهبت إحداهما بالإدغام بقيت الاخرى.

نعم هو على مذهب خلف في اللام و الراء إدغام محض، و لذا اختار ترك الغنّة فيهما، بل هو المحكّي عن الكسائي أيضا في احدى الحكايتين.

و في «إبراز المعاني»: أنّ في اللغة حذف الغنّة و ابقاؤها جائز عند الحروف الستّة، ثمّ إنّهم أطبقوا على وجوب إظهارها في نحو «الدنيا» و «بنيان» و «قنوان» و «صنوان»، حذرا من الاشتباه بالمضاعف نحو حيّان، و بوّان، و من اجتماع ثلاث من حروف العلّة في كلمة واحدة.

كما أنّهم أطبقوا على الإظهار في حروف الحلق، و قلب النونين ميما عند الباء في كلمة أو كلمتين مع إظهار الغنّة على الأشهر منهم، و على الإخفاء في البواقي مع بقاء غنّتهما، لأنّها لم يستحكم فيها البعد و لا القرب عنهما، فلمّا توسّطت أعطيت حكما وسطا بين الإظهار و الإدغام و هو الإخفاء بلا فرق

بين كونها في كلمة أو كلمتين.

خامسها: تشديد المدغم بالإدغام الصغير الذي يكون فيه أوّل الحرفين ساكنا، و سمّى لاختصاصه ببعض الحروف، و عدم تاثيره في إسكان المتحرّك قبل ادغامه دون الكبير الذي هو إدراج المتحرّك بعد إسكانه في المتحرّك.

ثمّ الإدغام الصغير ينقسم الى واجب، و ممتنع، و جائز.

فالواجب ما أوجبه أئمّة الصرف بشروطه الأحد عشر المذكورة في موضعه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 435

و الممتنع هو بعض موارد اختلال الشروط حسبما أشاروا اليه.

و الجائز ما تصدّى لذكره أئمّة القرّاء و ينقسم الى ثلاثة أقسام:

الأوّل: إدغام حرف من كلمة عند حروف متعدّدة من كلمات.

كادغام الذال المعجمة في كلمة (إذ) في الصاد، نحو وَ إِذْ صَرَفْنا «1»، و السين، نحو إِذْ سَمِعْتُمُوهُ «2»، و الزاى، نحو وَ إِذْ زَيَّنَ «3»، و التاء نحو إِذْ تَبَرَّأَ «4»، و الدال، نحو إِذْ دَخَلُوا «5»، و الجيم، نحو إِذْ جَعَلَ «6».

و كادغام الدال المهملة من كلمة (قد) في ثمانية أحرف: الجيم، و الصاد، و السين، و الزاى، و الذال، و الضاد، و الشين، و الظاء، نحو قَدْ جَعَلَ «7»، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ «8».

قَدْ سَلَفَ «9»، وَ لَقَدْ زَيَّنَّا «10» وَ لَقَدْ ذَرَأْنا «11» قَدْ ضَلُّوا «12»،

______________________________

(1) الأحقاف: 29.

(2) النور: 12.

(3) الأنفال: 48.

(4) البقرة: 166.

(5) الحجر: 52.

(6) المائدة: 20.

(7) مريم: 24.

(8) الفتح: 27.

(9) النساء: 22 و 23- الأنفال: 38.

(10) الملك: 5.

(11) الأعراف: 179.

(12) النساء: 167- المائدة: 77.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 436

قَدْ شَغَفَها «1»، لَقَدْ ظَلَمَكَ «2».

و إدغام تاء التأنيث في ستّة: الجيم، و الظاء، و الثاء، و الصاد، و السين، و الزاى، نحو نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «3» و حَمَلَتْ ظُهُورُهُما «4»، كَذَّبَتْ ثَمُودُ «5»، لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ «6»، أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «7»، خَبَتْ زِدْناهُمْ

«8».

و إدغام اللام من كلمتي (بل) و (هل) في ثمانية: التاء، و الثاء و السين، و الزاى، و الطاء، و الظاء، و النون، و الضاد.

نحو بَلْ تَأْتِيهِمْ «9»، هَلْ ثُوِّبَ «10» بَلْ سَوَّلَتْ «11»، بَلْ زَعَمْتُمْ «12»، بَلْ طَبَعَ «13» بَلْ ظَنَنْتُمْ «14»، بَلْ نَقْذِفُ «15»، بَلْ نَحْنُ «16»

______________________________

(1) يوسف: 30.

(2) ص: 24.

(3) النساء: 56.

(4) الانعام: 146.

(5) القمر: 23- الحاقّة: 4.

(6) الحجّ: 40.

(7) التوبة: 86- 124- 127.

(8) الإسراء: 97.

(9) الأنبياء: 40.

(10) المطفّفين: 36.

(11) يوسف: 18- 83.

(12) الكهف: 48.

(13) النساء: 155.

(14) الفتح: 12.

(15) الأنبياء: 18.

(16) الحجر: 15.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 437

بَلْ ضَلُّوا «1».

و لا يخفى أنّ هذه المواضع المذكورة، و غيرها من الموارد التي لم نتعرّض لها كلّها مما وقع فيه الخلاف عندهم.

نعم ممّا أجمعوا عليه إدغام ذال كلمة (إذ) في نحو إِذْ ذَهَبَ «2» و إِذْ ظَلَمْتُمْ «3».

و إدغام كلمة (قد) في قَدْ دَخَلُوا «4» و قَدْ تَعْلَمُونَ «5».

و إدغام تاء التأنيث في فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «6»، أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما «7»، فَآمَنَتْ طائِفَةٌ «8».

و إدغام لام كلمة (هل) و (بل) في هَلْ لَنا، و في بَلْ لا تُكْرِمُونَ «9»، «هل رأيتم»، بَلْ رانَ «10».

و إدغام لام كلمة (قل) في قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ «11».

بل قال الشاطبيّ تعميما للحكم:

______________________________

(1) الأحقاف: 28.

(2) الأنبياء: 87.

(3) الزخرف: 39.

(4) المائدة: 61.

(5) الصفّ: 5.

(6) البقرة: 16.

(7) يونس: 89.

(8) الصفّ: 14.

(9) الفجر: 17.

(10) المطففين: 14.

(11) الإسراء: 88.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 438 و ما أوّل المثلين فيه مسكّن فلا بدّ من إدغامه متمثلا «1»

و في شرحه المسمّى «إبراز المعاني»: كلّ مثلين التقيا، و أوّلهما ساكن فواجب إدغامه في الثاني لغة، و قراءة، سواء كان ذلك في كلمة، نحو يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ «2»، يُوَجِّهْهُ «3»،

أو في كلمتين نحو فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ «4».

و لا يخرج من هذا العموم إلّا حرف المدّ، نحو قالُوا وَ أَقْبَلُوا «5»، فِي يَوْمَيْنِ «6»، فإنّه يمدّ عند القرّاء و لا يدغم.

بل قد ادّعى عليه الإجماع جماعة منهم أبو على الأهوازى قال: المثلان إذا اجتمعا، و كانا واوين قبل الاولى منهما ضمّة، أو ياءين قبل الاولى منهما كسرة فإنّهم أجمعوا على أنّهما يمدّان قليلا، و يظهران بلا تشديد و لا إفراط، مثل آمَنُوا وَ عَمِلُوا «7»، فِي يُوسُفَ «8» فِي يَتامَى «9».

قال: و على هذا وجدت أئمّة القرائة في كلّ الأمصار، و لا يجوز غير ذلك، فمن خالف هذا فقد غلط في الرواية، و أخطأ في الدراية.

قال: و أمّا الواو و إذا انفتح ما قبلها و أتى بعدها واو من كلمة أخرى فإنّ عدم

______________________________

(1) حرز الأمانى المعروف بالشاطبية ص 23.

(2) النساء: 78.

(3) النحل: 76.

(4) البقرة: 60.

(5) يوسف: 71.

(6) البقرة: 203.

(7) البقرة: 25.

(8) يوسف: 7.

(9) النساء: 127.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 439

إدغامها حينئذ إجماعيّ مثل عَصَوْا وَ كانُوا «1» آوَوْا وَ نَصَرُوا «2»، ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا «3» و نحو ذلك.

و ذكر أنّ بعض شيوخنا خالف في هذا.

و أمّا في مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ «4»، فقد اختلفوا فيه، و المختار عندهم الوقف.

و أمّا إذا كان الحرفان في كلمة واحدة مختلفتين، إلّا أنّهما من مخرج واحد، نحو حَصَدْتُمْ «5» وَ إِنْ عُدْتُمْ «6» أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ «7» و إِنْ طَرَدْتُهُمْ «8»، فالمحكيّ عن بعضهم وجوب الإدغام أيضا لكونهما من مخرج واحد في كلمة واحدة.

الثاني من أقسام الإدغام الصغير الجائز: هو إدغام حروف آخر غير ما ذكر من الّتى قربت مخارجها:

كإدغام الباء في خمسة مواضع: أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ

«9»

______________________________

(1) البقرة: 61.

(2) الأنفال: 72.

(3) المائدة: 93.

(4) الحاقة: 29.

(5) يوسف: 47.

(6) الإسراء: 8.

(7) المرسلات: 20.

(8) هود: 30.

(9) النساء: 74.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 440

تفسير الصراط المستقيم ج 2 479

إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ «1»، وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ «2» اذْهَبْ فَمَنْ «3» فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ «4».

و لبعضهم خلاف في وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ «5».

و كإدغام اللام المجزومة في الذال المعجمة في قوله: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ في ستّة مواضع في القرآن «6»، بخلاف غير المجزومة نحو فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ «7».

و إدغام الفاء المجزومة في الباء نحو نَخْسِفْ بِهِمُ «8».

و إدغام الذال المعجمة في التاء في قوله: عُذْتُ «9» فَنَبَذْتُها «10».

و إدغام الراء في اللّام، نحو فَاصْبِرْ لِحُكْمِ «11» أَنِ اشْكُرْ لِي «12» يَغْفِرْ لَكُمْ «13».

______________________________

(1) الرعد: 5.

(2) الحجرات: 11.

(3) الإسراء: 63.

(4) طه: 97.

(5) الحجرات: 11.

(6) البقرة: 231- آل عمران: 28.

(7) البقرة: 85.

(8) سبأ: 9.

(9) غافر: 27- الدخان: 20.

(10) طه: 96.

(11) الطّم: 48- الطور: 48.

(12) لقمان: 14.

(13) آل عمران: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 441

و إدغام الدال المهملة في الثاء المثلّثة نحو وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا «1».

الثالث من الأقسام: هو إدغام النون الساكنة و التنوين في الستّة المتقدّمة، بل الميم الساكنة أيضا، حيث ذكروا أنّ حكمها الإدغام في مثلها نحو كَمْ مِنْ فِئَةٍ «2».

و الإخفاء مع الغنّة في الباء الموحدة نحو ما هُمْ بِضارِّينَ «3» و إن يحكى فيها الإدغام من بعضهم، و الإظهار عن بعض آخر، سيّما في الواو و الفاء.

ثمّ إنّ الأقسام الثلاثة و إن اشتركت في كونها من الإدغام الصغير الذي أفتى غير واحد من أصحابنا بوجوبه، بل عن «فوائد الشرائع»: لا نعرف فيه خلافا إلّا أنّه لا يخفى

على من اطّلع على كثرة الخلاف الواقع في كثير منها أنّه ينبغي التأمّل في جوازه بإطلاقه فضلا عن وجوبه، نظرا إلى أنّه إخلال بالحروف و إبدال لها بغير من الكلمات الموضوعة، و جوازه غير معلوم.

نعم ما علم اتّفاقهم عليه لا يبعد جوازه، بل رجحانه، دون وجوبه حسبما سمعت في القسم الرابع.

سادسها: الإدغام الكبير الّذى قد سمعت تعريفه و تسميته في سابقه، و لا أعرف أحدا قال بوجوبه، و إنّما الكلام في جوازه في كلّ من المثلين، و المتجانسين، و المتقاربين.

و المشهور عندهم أنّه مخصوص بقرائة أبى عمرو بن العلاء البصري (المتوفّى 154) من طريق السوسي (صالح بن زياد المتوفى 261) و عن عاصم الذي على قراءته سواد مصاحفنا الإدغام في خصوص كلمتين.

______________________________

(1) آل عمران: 145.

(2) البقرة: 249.

(3) البقرة: 102.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 442

و هما: ما مَكَّنِّي «1»، و لا تَأْمَنَّا «2»، مع روم، أو إشمام في الأخير عن الجميع إلّا عن أبي جعفر (يزيد بن القعقاع المدني المتوفى 132) و إن أخلّ أحدهما أو كلاهما بتمام الإدغام.

و شرط الإدغام الكبير عندهم أن يتحرّك الحرفان، فإن سكن الأوّل أدغم للجميع مثل إِذْ ذَهَبَ «3» قَدْ دَخَلُوا «4»، و قد مرّ.

و إن سكن الثاني فلا إدغام للجميع نحو إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها «5» كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ «6».

و أمّا إن تحرّكا فلا فرق بين كونهما في كلمة نحو ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ «7» و مَناسِكَكُمْ «8» و يَرْزُقُكُمْ «9» و نحوه من المتماثلين و المتجانسين، فإنّ المثلين منحصرة في المثالين، أو في كلمتين، و هو عامّ كثير بالنسبة الى أكثر الحروف، و قد تصدّوا لذكر موارده في القرآن على سبيل الكلّية، و منهم من رتّبه على ترتيب السور،

و منهم من حذفه رأسا.

و حكى الشهيد في «شرح النفليّة» عن أكثر القرّاء أنّهم تركوه، و عن أبى عبيد القاسم ابن سلّام (المتوفى 224) أنّه لم يذكره في مصنّفاته لكراهته له، و أنّه

______________________________

(1) الكهف: 95.

(2) يوسف: 11.

(3) الأنبياء: 87.

(4) المائدة: 61.

(5) المائدة: 58.

(6) العنكبوت: 41.

(7) المدّثر: 42.

(8) البقرة: 200.

(9) يونس: 31.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 443

قال في بعض كتبه: القرائة عندنا هي الإظهار، لكراهتنا الإدغام إذا كان تركه ممكنا.

و جعل تركه في «النفلية أفضل، و علّله في «شرحه» بأنّ التفكيك أفصح، و أكثر حروفا، فيكثر معه ثواب القرائة، و لأنّ فيه إيتاء كلّ حرف حقّه من إعرابه، أو حركته الّتى يستحقّها، و الإدغام يلبس على كثير من النّاس وجه الإعراب، و يوهم من المقصود من المعنى في قوله: يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ «1» الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2».

و على كلّ حال فالأقرب عدم جواز القرائة به لاستلزامه تغيير كيفيّة الحروف بالإسكان و مادّته بالإبدال.

و أمّا ما في «الجواهر» من التوقّف في جوازه لو لا الإجماع المدّعى على القرائة بالسّبع أو العشر.

ففيه أنّ التوقف في موضعه، و الإجماع على فرض تسليمه إنّما هو في غير هذه الكيفيات الخارجة عن موادّ الكلمات.

فهو في الحقيقة تصرّف في الكلمات القرآنيّة بغير حجّة شرعيّة.

و أمّا ما في بعض كتب هذا الفنّ من الاستشهاد لهذا الإدغام ببعض أشعار العرب فمع الغضّ عن عدم ثبوت مثله لا ريب أنّه ربما دعتهم الضرورة فيه إلى تسكين المتحرّك و تحريك الساكن من غير الاقتصار في ذلك الى مواضع الإدغام، و لذا يغتفر ما لا يغتفر في غيره، بل قد اشتهر عندهم الاعتذار بضرورة الشعر، و إن أجيب بأنّه لا ضرورة في الشعر.

______________________________

(1) النمل: 40- لقمان:

12.

(2) الحشر: 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 444

و بالجملة فلا دليل على جوازه في المثلين، مثل الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «1»، فضلا عن المتقاربين و المتجانسين نحو يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «2» قَدْ سَمِعَ اللَّهُ «3» قَدْ شَغَفَها حُبًّا «4» قَدْ جاءَكُمْ «5».

إذ فيها الإبدال، مضافا الى ترك الإعراب و الإدغام الذي هو تغيير في الهيئة.

فعدم الجواز في الأوّل من وجهين، و في الأخيرين من وجوه ثلاثة.

و لذا، أو لكثرته سمّى كبيرا، حسبما سمعت.

ثمّ إنّ الأمر في الأوّل واضح.

و قد ذكروا في ضبط الأخيرين: أنّ الحرفين إن اتفقا في المخرج و اختلفا في الصفة أو بالعكس كانا متقاربين، و إن اتفقا فيهما فمتجانسان، أو اختلفا فيهما فمتباينان.

و عن الأكثر تعريف المتماثلين بالمتفقين في المخرج و الصفة كاللامين و الدالّين، و المتجانسين بالمتفقين في المخرج دون الصفة، كاللام و الراء، و المتقاربين بالمتفقين في أحدها، أو خصوص الثاني، و الخطب عندنا سهل بعد عدم الاعتبار بالأصل.

______________________________

(1) الفاتحة: 3- 4.

(2) البقرة: 284.

(3) المجادلة: 1.

(4) يوسف: 30.

(5) آل عمران: 183.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 445

الفصل الثالث

في الوظائف الباطنية لقارئ القرآن لا بدّ لقارئ القرآن من مراعاة الوظائف الباطنيّة و ملازمتها، و الاستمرار عليها كما وجبت عليه رعاية الوظائف الظاهريّة الّتى مرّت الإشارة إليها، حيث إنّ من الواضح أنّه ليس المقصود من التلاوة مجرّد التلفّظ بالكلمات و الآيات، و لو مع حفظ الحدود الظاهرة.

بل

ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ربّ تال للقرآن و القرآن يلعنه» «1».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله عند نزول بعض الآيات: «ويل لمن لاكها بين لحيتيه و لم يتدبّرها» «2».

و

في «الكافي» و «الأمالى» و «الخصال» عن مولانا ابى جعفر عليه السّلام قال: «قرّاء

القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتّخذه بضاعة، و استدرّ به الملوك و استطال به على النّاس.

و رجل قرأ القرآن فحفظ حروفه، و ضيّع حدوده، و أقامه إقامة القدح، فلا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 184 عن جامع الأخبار ص 56.

(2) مجمع البيان ج 2 ص 554 و فيه فويل لمن لاكها بين فكيّه و لم يتأمّل ما فيها. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 446

كثّر اللّه هؤلاء من حملة القرآن.

و رجل قرأ القرآن، فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله، و أظمأ به نهاره، و قام به في مساجده، و تجافى به عن فراشه، فبأولئك يدفع اللّه البلاء، و بأولئك يديل اللّه من الأعداء، و بأولئك ينزل اللّه الغيث من السماء، فو اللّه لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر «1».

و

في «الخصال» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قرّاء القرآن ثلاثة: قارئ للقرآن ليستدرّ به الملوك، و يستطيل به على النّاس، فذلك من أهل النار.

و قارئ قرأ القرآن فحفظ حروفه، و ضيّع حدوده، فذلك من أهل النار.

و قارئ قرأ القرآن فاستتر به تحت برنسه، فهو يعمل بمحكمه، و يؤمن بمتشابهه، و يقيم فرائضه، و يحلّ حلاله، و يحرّم حرامه، فهذا ممّن ينقذه اللّه تعالى من مضلّات الفتن، و هو من أهل الجنّة، و يشفع فيمن يشاء «2».

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة الّتى ستسمع كثيرا منها إنشاء اللّه في الشروط و الوظائف الباطنيّة.

منها: التخلّي عن الشواغل القالبية و القلبيّة،

قال مولانا الصادق عليه السّلام على ما في «مصباح الشريعة»: «من قرأ القرآن و لم يخضع له، و لم يرقّ قلبه، و لم ينشئ حزنا و وجلا في سرّه فقد استهان بعظم شأن اللّه

و خسر خسرانا مبينا، فقارى القرآن يحتاج الى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، و بدن فارغ، و موضع خال، فاذا خشع للّه قلبه فرّ عنه الشيطان الرجيم قال اللّه تعالى:

______________________________

(1) أصول الكافي ص 605- الأمالى ص 122- الخصال ج 1 ص 69.

(2) الخصال ج 1 ص 70. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 447

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «1» و إذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه لقراءة القرآن، فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن، و إذا اتخذ مجلسا خاليا، و اعتزل عن الخلق بعد أن أتى بالخصلتين الأوليين استأذن روحه و سرّه باللّه، و وجد حلاوة مخاطبات اللّه تعالى عباده الصالحين، و علم لطفه بهم، و مقام اختصاصه لهم بفنون كراماته، و بدايع إشاراته، فاذا شرب كأسا من هذا المشرب، فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا، و لا على ذلك الوقت وقتا، بل يؤثره على كلّ طاعة و عبادة، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة، فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك، و منشور ولايتك، و كيف تجيب أوامره و نواهيه، و كيف تمثّل حدوده، فإنّه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فرتّله ترتيلا، وقف عند وعده و وعيده، و تفكّر في أمثاله و مواعظه، و احذر أن تقع من إقامة حروفه في إضاعة حدود «2».

اعلم أنّ المقصود الأصلى من الذكر، و الدعاء، و التلاوة، و نحوه إنّما هو التجنّب عن مهاوي الغفلة، و الجهالة، و التخلّص عن فيافى بيداء الضلالة، و التحقّق بحقيقة العبوديّة للحقّ المعبود، و الاستغراق في بحار الأنوار الشهود، و التمكّن على بساط حريم حرم القدس، و استشمام نفحات

مواهب الأنس، و كشف سبحات الجلال، لإشراق أنوار تجليّات الجمال، و ذوق لذّة المناجاة الّتى هي لذائذ ثمار جنّات الوصال.

و هذا كلّه لا يحصل ما لم يحصل الطهارة الكليّة عن أرجاس الشواغل القلبيّة و البدنيّة، فكما أنّ من ليس له الطهارة البدنية يحرم عليه مسّ ظاهر خطّ

______________________________

(1) النحل: 98.

(2) مصباح الشريعة، الباب الرابع عشر- المحجّة البيضاء ج 2 ص 249.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 448

المصحف بظاهر بدنه، كذلك من ليس له الطهارة القلبيّة عن الأفكار الرديّة النفسانيّة، و الأخلاق الرذيلة الشيطانيّة محروم عن إدراك حقايق القرآن، و الصعود في مدارج مراتب الإيمان.

فالحرمة في الأول تشريعيّة، و في الثاني تكوينيّة، كما أنّ الاستعاذة المندوب إليها عند القرائة قوليّة و فعليّة، بل النافع منها هي الثانية.

كما لوّح إليه الإمام عليه السّلام

في قوله: «فاذا خشع للّه قلبه فرّ منه الشّيطان الرجيم»

مستشهدا بالآية الشريفة.

بل

ورد في النبوي: «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى الملكوت» «1».

و من البيّن أنّ التدبّر في معاني القرآن و أسراره إنّما هو من الملكوت التي لا تدرك إلّا بالإدراكات القلبيّة الّتى هي من عالم النور، فلا يدركها مدارك المحجوبين المنغسمين في غواسق عالم الغرور، فإنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب الّتى في الصدور.

و لذا جعل بالجعل التكويني الثانوى بمقتضى الفطرة المغيّرة الشيطانيّة بسوء اختيارهم في قلوبهم أكنّة أن يفقهوه، و في آذانهم وقرا، وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «2».

و هو الحجاب المشار إليه بقوله:

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 59 ح 39 عن أسرار الصلاة.

(2) فصلت: 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 449

وَ إِذا قَرَأْتَ

الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «1».

و هذا الحجاب و هو حجاب الكفر أوّل الحجب و أعظمها، و أشدّها على أهله، و أبعدها من قبول الحقّ و استماع الصدق.

و ثانى الحجب: حجاب الفسق و الخروج عن الطاعة باقتراف كبيرة، أو بالإصرار على صغيرة، أو بالتخلّق بشي ء من الأخلاق الرديّة المهلكة كالكبر، و العجب، و الرياء، و غيرها ممّا يجمعها متابعة الأهواء التي قد ورد أنّها الشرك الخفي.

بل

في النبوي: «أبغض إله في الأرض الهوى».

و هذا كلّه مما يوجب ظلمة القلوب و كدورتها و زيفها، و صداها، كالمرآة الصافية إذا تراكمت عليها الغبار، و حجبها عن إشراق الأنوار.

و لذا شرط اللّه تعالى الإنابة في الفهم و التذكّر، قال تعالى: وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ «2» و قال تعالى: تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ «3» و قال تعالى:

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «4».

و من البيّن أنّ الذي آثر غرور الدنيا العاجلة الفانية الداثرة على الفوز بالتقرّب إلى اللّه، و نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب، و لذا يتراكم على مرآة قلبه أغطية القسورة و الارتياب، و لا ينكشف له أسرار الكتاب، لأنّ بينه و بين

______________________________

(1) الإسراء: 45.

(2) غافر: 13.

(3) ق: 8.

(4) الرعد: 19- الزمر: 9.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 450

فهمها حجابا و أىّ حجاب، بل ربما تورث ذلك للقلب الانطباع و الانقلاب.

فقد ورد عن مولانا الباقر عليه السّلام: «ما من شي ء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى يقلب عليه فيصير أعلاه أسفله» «1».

و

قال الصادق عليه السّلام: «يقول اللّه تعالى: إنّ أدنى ما أصنع بالعبد إذا أثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي».

و

عن النبي

صلّى اللّه عليه و آله: «إذا عظّمت أمّتي الدينار و الدرهم نزع عنها هيبة الإسلام، و إذا تركوا الأمر بالمعروف حرموا بركة الوحي».

ثالثها: الإشتغال بالملاهي و العادات و فضول العيش بل التكسّب، و غيرها من الأفعال المباحة الّتى توجب اشتغال القلب بها، و صرفه عن غيرها إذ ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «2»، فمن اشتغل بشي ء من المباحات، بل المندوبات، فضلا عن غيرها، صرفت إليها همّته، و اجتمع له قلبه، فمن أين يمكن له الإقبال و فراغ البال لفهم أسرار كلام ذي الجلال، و الاستيناس به في حريم حرم بساط الوصال.

و لذا

قال الإمام عليه السّلام في الخبر المتقدّم: «إنّه إذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه لقرائة القران» «3».

بل شرط مع ذلك خلوّ المجلس، و الاعتزال عن الخلق في حال القرائة، بل مطلقا، فإنّ من يستكثر من معاشرة الخلق و معاملتهم و محادئتهم لا بدّ أن يقع

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 54 ح 22 عن الأمالي للصدوق ص 239.

(2) سورة الأحزاب: 4.

(3) مصباح الشريعة الباب الرابع عشر.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 451

بينه و بينهم علائق و ارتباطات مختلفة متعلّقة بالأموال و الأحوال، و الأفعال، و الأقوال، فاذا خلى بنفسه ساعة ليستريح، ترائت له تلك الارتباطات، و حدثّت بها نفسه، و اشتغل بها قلبه، و أقبل على التفكّر فيها إقبال المحبّ للمحبوب، أو الكاره للمرهوب عنه، لاشتمال تلك الخطرات على الأمور المطلوبة الّتى تسرّه، أو الأفكار الرديّة الموحشة التي تسوؤه و تضرّه، مضافا إلى مالا مخلص له عنه من التفكّر في تدبير المعاشرات المستأنفة، و حفظ الارتباطات السّابقة في الأزمنة المستقبلة، بل ربما يصل به الحال الى أن لا يملك البال،

بل لا يزال الخيال في تحوّل و انتقال من شي ء الى شي ء فينتقل معه القلب من حال الى حال.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «إعراب القلوب على أربعة أنواع: رفع، و فتح، و خفض، و وقف، فرفع القلب في ذكر اللّه تعالى، و فتح القلب في الرضا عن اللّه تعالى، و خفض القلب في الاشتغال بغير اللّه، و وقف القلب في الغفلة عن اللّه تعالى، ألا ترى أنّ العبد إذا ذكر اللّه بالتعظيم خالصا ارتفع كلّ حجاب كان بينه و بين اللّه تعالى من قبل ذلك، و إذا انقاد القلب لمورد قضاء اللّه بشرط الرضا عنه كيف ينفتح القلب بالسرور و الراحة و الروح، و إذا اشتغل قلبه بشي ء من أسباب الدنيا كيف تجده منخفضا مظلما كبيت خراب ليس فيه عمران، و لا مؤنس، و إذا غفل عن ذكر اللّه كيف تراه بعد ذلك موقوفا محجوبا قد قسى و أظلم منذ فارق نور التعظيم.

فعلامة الرّفع ثلاثة أشياء: وجود الموافقة، و فقد المخالفة، و دوام الشوق.

و علامة الفتح ثلاثة أشياء: التوكّل، و الصدق، و اليقين.

و علامة الخفض ثلاثة أشياء: العجب، و الرّياء، و الحرص.

و علامة الوقف ثلاثة أشياء: زوال حلاوة الطاعة، و عدم مرادة المعصية،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 452

و التباس علم الحلال بالحرام «1».

و

قال عليه السّلام: من رعى قلبه عن الغفلة، و نفسه عن الشهوة و عقله عن الجهل فقد دخل في ديوان المتنبّهين، ثم من رعى عمله عن الهوى، و دينه عن البدعة، و ماله عن الحرام فهو في جملة الصالحين.

و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم و مسلم.

و هو علم الأنفس، فيجب أن يكون نفس المؤمن

على كل حال في شكر، أو عذر، على معنى إن قبل ففضل، و إن ردّ فعدل، و تطالع الحركات في الطاعات بالتوفيق، و يطالع السكون عن المعاصي بالعصمة، و قوام ذلك كلّه بالافتقار الى اللّه تعالى، و الاضطرار إليه، و الخشوع و الخضوع و مفتاحها الإنابة الى اللّه تعالى، مع قصر الأمل بدوام ذكر الموت، و عيان الوقوف بين يدي الجبّار، لأنّ في ذلك راحة من الحبس، و نجاة من العدوّ و سلامة للنفس، و سببا للإخلاص في الطّاعة بالتوفيق، و أصل ذلك أن يردّ العمر الى يوم واحد.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الدّنيا ساعة فاجعلها طاعة».

و باب ذلك كلّه ملازمة الخلوة بمداومة الفكرة، و سبب الخلوة القناعة، و ترك الفضول من المعاش، و سبب الفكرة الفراغ، و عماد الفراغ الزهد، و تمام الزهد التقوى، و باب التقوى الخشية و دليل الخشية التعظيم للّه، و التمسّك بخالص طاعته و أوامره، و الخوف و الحذر مع الوقوف عن محارمه، و دليلها العلم، قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2». «3»

______________________________

(1) مصباح الشريعة ص 3.

(2) فاطر: 28.

(3) مصباح الشريعة ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 453

رابعها: حجاب الجهل بمعاني القرآن حتّى ترجمة ظاهر ألفاظه، لأنّ الجاهل. بمعاني القرآن، و الصلاة، و الدعاء، و الأذكار، و غيرها كالعجمى البحت الذي لا يعرف شيئا من ترجمة الألفاظ العربيّة التي ورد التوظيف بها، أولا يعرف كثيرا من لغاتها بل ربما يلحن في موادّ ألفاظها و هيئتها ليس له من الفضل و الثواب ما للعالم المطّلع على معانيها و مبانيها، و وجوب ظاهرها. و تنزيلها، كما أنّه ليس لهذا العالم من الأجر و الثواب ما

للعالم المطّلع بأنوار التنزيل، و أسرار التأويل، بل التفضيل بينهم على حسب مراتب العلم و درجات المعرفة، و لذا قال اللّه سبحانه: وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «4» و قال: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «5»، و قال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «6».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام قال: ما استوى رجلان في حسب و دين قطّ إلّا كان أفضلهما عند اللّه عزّ و جلّ آدبهما، قال: قلت: جعلت فداك قد علمت فضله عند النّاس في النادي و المجالس، فما فضله عند اللّه عزّ و جلّ؟ قال عليه السّلام: بقراءة القرآن كما أنزل، و دعائه للّه عزّ و جلّ من حيث لا يلحن، و ذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد عند اللّه عزّ و جلّ «7».

و الأدب في الظاهر بمراعاة الحروف، و إعراب الألفاظ، و في الباطن بحفظ الحدود و نور الاستيقاظ كما يومئ إليه أيضا

قوله عليه السّلام: «كما انزل».

______________________________

(4) المجادلة: 11.

(5) سورة يوسف: 76.

(6) الزمر: 9.

(7) عدّة الداعي ص 10.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 454

اعلم أنّه ربما يتوهّم أنّ الجاهل بمعاني القران، و الأذكار، و الأدعية ليس له أجر و ثواب في ذلك، و هو واضح الفساد، بل مخالف لما هو الضروري من ثبوت الوظائف الشرعيّة الواجبة و المندوبة لعامّة المكلّفين، و حصول الإجزاء بمجرّد امتثال الظواهر، و لو في الصلاة و القرائة، و عدم وجوب المعرفة بالمعاني و الحقائق، نعم يختلف مراتب العقول، و درجات الفضل و الثواب باختلاف الناس في ذلك و لا كلام فيها.

خامسها: حجاب القرائة، و الاستقصاء في مراعاة تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها و حفظ صفاتها، و هذا الحجاب كالحجب المتقدّمة من الحجب الظلمانيّة التي

تمنع القلوب من مشاهدة أنوار الغيوب، بل لا يزال الرجل معه مشتغلا بترديد الحروف و تكريرها، مستغرق الهمّة في مراعاة صفاتها، و آدابها الّتى ملأوا منها كتب التجويد و القرائة، بل لو لم يكن إلّا مراعاة الصفات المتعددة المعدودة لكل حرف حرف لكفى به شغلا شاغلا عن التدبّر في معاني القرآن، و التفكر في حقائقه و قد يقال: إنّه قد وكّل بذلك شيطان يصرف الناس عن فهم معاني كلام اللّه تعالى، و لا يزال يحملهم على ترديد الحروف يخيّل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه، حتى يكون تأمّله مقصورا على مخارج الحروف فهو أعظم أضحوكة للشيطان، و أبعد عمّا يراد به من التدبر في القرآن.

و ربّما ينضمّ الى ذلك الميل الى التغنّي و ترجيع الصوت به، و التردّد في صنوف الألحان.

بل يلحقهما أمر ثالث و هو ملاحظة الإعراب و البناء، و وجوه القراءات.

و لذا ورد في الخبر: «من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع».

و كلّ من هذه الثلاثة حجاب قويّ لمن ابتلي بها، إلّا ما كان منها صادرا

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 455

على وجه الملكة، بحيث لا حاجة معها إلى التفات جديد أصلا، فضلا عن التكلّف و التشدّق الذي لا ينفكّ عنه غالبا أرباب هذه الصناعة، و للّه درّ من قال:

و آخر منهم بالقراءات قد بلي يغنّى بقول الشاطبي و حمزة

يلوّي بها شدقيه عند إمالةكأنّ بها من ميلها ريح لقوة

سادسها: حجاب العلم بمعنى العقائد التي استمرّ عليها أكثر الناس بالتعلّم من المحجوبين، و تقليد الآباء و أهل الضلال، و الرجوع الى تفاسير العامّة و بياناتهم، و تأويلهم المتشابهات على مقتضى آرائهم و أهوائهم الباطلة.

ثمّ إنّ هذه العقائد الباطلة ربما تصير راسخة في النفس بحيث

لا يكاد يلتفت معها الى غيرها، و قد تكون مسموعة متردّدة في الذهن بحيث يمنعه الالتفات إليها عن التوجّه إلى غيرها، أو الشوق الى تحصيله، بل ربّما يكون العلم ببعض الظواهر حجابا عن الالتفات إلى الحقائق و البواطن، و إن كان كلّ منهما حقّا و صدقا بالنسبة الى رتبته و مقامه، فلا ينبغي الجمود على شي ء من الظواهر، و إن كان حقّا منطبقا على القواعد العربيّة، لأنّه يؤدّى الى جحود الحقائق، و البواطن المقصودة.

و لا تظنّن أنّ الغرض من هذا الكلام تسهيل الأمر و جواز التصرف في الآيات القرآنيّة بحسب الأهواء الباطلة و الآراء الزائفة، إذ المقصود ترك الجمود، و مجانبة اللجاج و الجحود، و عدم الاقتصار على خصوص الظواهر المشهورة، أو بعض البواطن المأثورة، فإنّي أرى كثيرا من أهل هذا الزمان قد هجروا القرآن، و نبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا. فبئس ما يشترون، فاذا احتاجوا الى تفسير آية رجعوا الى ظواهر اللّغة العربيّة و التفاسير العاميّة، بل ربما تصرّفوا في معناها بقريحتهم البتراء، و بصيرتهم العمياء، من غير رجوع إلى

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 456

أخبار الأئمّة عليهم السّلام، و لا استضاءة من أنوار أهل العصمة، بل يردّونها بعد الاطّلاع عليها، معلّلين بمخالفة الظاهر.

و قد يرد عليهم في تفسير آية واحدة أخبار يظنّون اختلافها، فيعملون فيها قواعد الترجيح مع أنّه لا بأس بالجمع بينهما بحملها على وجوه التنزيل و التأويل.

و بالجملة قد أشرنا سابقا الى الميزان الكلّى في هذا الباب، و أنّه يلزم في جميع ذلك الرجوع الى الأئمّة الّذين هم الحجّاب و الأبواب مع ملازمة التقوى، و دوام الانقطاع، و الأنس التامّ بأصولهم و قواعدهم، و الاطّلاع على أخبارهم و

آثارهم، و الاقتباس من أشعّة أنوارهم، إلى غير ذلك ممّا مرّت الإشارة إليه.

و من الوظائف الباطنية: حسن النيّة و الإخلاص في القرائة، فإنّها من العبادات و الطاعات المندوب إليها، و صحّتها إنّما تكون بقصد التقرّب، و تجريد العمل من كلّ شوب، و حظّ نفساني، أو دنيوي، و النيّة روح الأعمال، و العمل بلا نيّة كالجسد الملقى بلا روح، بل ينبغي للبصير قصد العبوديّة، و تخليص النيّة في كل حركة و سكون حتّى في الأمور العادية و الحظوظ البدنيّة، كى تكون عاداته عبادات، و يتّصف بسلامة القلب.

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم».

لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات، فخلّص النيّة للّه في الأمور كلّها قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «1». «2»

______________________________

(1) الشعراء: 88- 89.

(2) مصباح الشريعة ص 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 457

بل ينبغي له أن يقصد في كلّ شي ء من الطاعات جميع الغايات المترتبة عليها،

«فإنّما لكلّ امرئ ما نوى، و إنّما الأعمال بالنيّات» «1»

و إن اختلفت غايات الأفعال باختلاف المراتب و الأحوال على اشتراك الجميع في الارتباط الى الحضرة القدسيّة.

كما يؤمي اليه

العلويّ: «ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» «2».

و

الجعفري: «العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه تعالى خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ طلبا للثواب، فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا اللّه حبّا له فتلك عبادة الأحرار» «3».

بل يستفاد منه و من غيره من الآيات و الأخبار جواز كون الباعث طلب الثواب أو المرضاة، أو الخوف، أو التعظيم، أو الحياء، أو الحبّ أو الغفران، أو الأهليّة،

أو التقرّب، أو الأنس، أو المناجاة، أو غير ذلك من المقاصد الكثيرة، و ربما تسمع في ضمن الآيات البحث عنها، و عن قول من توهّم منافاة قصد الخوف و الطمع للتقرّب، و عن سائر مباحث النيّة و بطلانها بالرّياء و العجب مقارنا و لا حقا كبطلانه في المقام بالتغنّى، و قصد اللهو و غيرهما.

بل يجب في المقام قصد التعيين أيضا لو وجبت بنذر، أو إجارة، أو شرط في ضمن عقد، أو إمهار، أو غيرها.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 70 ص 211.

(2) بحار الأنوار ج 70 ص 197.

(3) بحار الأنوار ج 70 ص 205 عن الأمالي للصدوق مع تفاوت في الألفاظ.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 458

و قد ظهر من جميع ما مرّ اعتبار قصد اللّفظ فيها، و في سائر، العبادات القوليّة من الدعاء، و الزيارة، و الذكر، و غيرها.

نعم، هل يعتبر فيها قصد الدّلالة و المدلول أم لا؟ و جهان قوّى أوّلهما كاشف الغطاء، و فيه خفاء، إذ لا يعتبر فيهما العلم بهما فضلا عن قصدهما تفصيلا أو إجمالا.

نعم لا يبعد مانعية قصد العدم، بل معه يمكن التأمّل في صدق الموضوع، و أمّا مجرّد عدم قصد المعنى فلا يقدح في الصدق، بل التوظيف و لذا قال رحمه اللّه في موضع آخر: إنّ كلّا من القراءة، و الذكر و الدعاء لا يخلو من ثلاثة أحوال:

لفظ مجرّد عن المعنى، و معنى مجرّد من اللّفظ، مقرون بالكلام النفسي، و جامع للأمرين، و الجميع مستحبّ لكنّها مرتّبة، فالمتقدّم فيها مفضول بالنسبة الى المتأخّر، و ان كان يمكن الجمع بين الكلامين بظهور الفرق بين قصد المعنى و لو اجمالا، و بين فهمه كما لا يخفى.

و من الوظائف أيضا: استشعار عظمة المتكلّم و

الكلام، و مقام التلاوة، فينبغي للقارى ء إذا أراد الشروع في التلاوة أن يحضر في قلبه شيئا من عظمة الخالق الحكيم، و القادر العليم، و العلي العظيم الّذي عجزت العقول عن إدراك شي ء من عظمته و جلاله، و انحسرت البصائر و الأبصار دون النظر الى سبحات وجهه و نور جماله، الطريق مسدود، و الطلب مردود، دليله آياته، و آياته مرآقه.

و شيئا من عظمة الكلام، فإنّه النور السّاطع، و الضياء اللّامع، و الشفاء النافع، و القول الجامع، و السحاب الهامع، و هو ربيع القلوب و مفتاح الغيوب، فيه منار الهدى، و مصابيح الدجى، ظاهره أنيق، و باطنه عميق، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، قد نزّله روح القدس من ربّ العالمين على قلب سيّد المرسلين،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 459

ليبشّر به المؤمنين، و ينذر به المنافقين، بعد أن كان مجرّدا في عالم الأنوار، مصونا عن مسّ الأغيار مرفوعا عن عالم الأكدار، فنزّله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه، مكسؤا بكسوة الألفاظ و العبارات، مملوّا بحار معانيها من كنوز الحقائق، و رموز الإشارات، حسبما مرّ تفصيل الكلام في حقيقته و كيفيّة نزوله في الأبواب المتقدّمة.

و شيئا من عظمة مقام التلاوة، فإنّه مقام وعر صعب، عزيز المنال، خارج عن إحاطة البيان و المقال، لأنّ العبد يجد فيه روح الاستيناس و الوصال، و يذوق فيه حلاوة مخاطبات ذي الجلال.

و لذا

قال الإمام في ضمن الخبر المقدّم ذكره: «فاذا شرب كأسا من هذا المشرب فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا، و لا على ذلك الوقت وقتا، بل يؤثره على كلّ طاعة و عبادة، لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة ... الخبر «1».

و

في «مجمع البيان»: عن النبي صلّى اللّه

عليه و آله قال: «من قرأ القرآن فظنّ أنّ أحدا أعطي أفضل ممّا أعطي، فقد حقّر ما عظمّ اللّه، و عظمّ ما حقّر اللّه «2».

و

في تفسير مولانا العسكري عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «حملة القرآن هم المخصوصون برحمة اللّه، المقرّبون عند اللّه، من والاهم فقد والى اللّه، و من عاداهم فقد عادى اللّه، يدفع اللّه عن مستمع القرآن بلوى الدّنيا، و عن قارئه بلوى الآخرة، و الّذى نفس محمد صلّى اللّه عليه و آله بيده لسامع آية من كتاب اللّه و هو معتقد ... الى أن قال: أعظم أجرا من ثبير ذهبا يتصدّق به، و لقارئ آية من كتاب اللّه معتقدا

______________________________

(1) الحجّة البيضاء ج 2 ص 249 عن مصباح الشريعة.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 16. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 460

أفضل ممّا دون العرش إلى أسفل التخوم «1».

الى غير ذلك ممّا مر من الأخبار المتقدّمة الدالّة على شرف القرآن و حملته.

ثمّ إنّ استشعار العظمة ربما يحمل صاحبه على تحمّل المشاقّ العظيمة و الأخطار الجسمية، بل ربما لا يشعر بها أصلا.

ففي «البحار» عن بعض تواريخ أسفار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه قصد قوما من أهل الكتاب قبل دخولهم في الذمّة، فظفر منهم بامرأة قريبة من زوجها، و عاد من سفره، و بات في طريقه، و أشار الى عمّار و عبّاد بن بشر أن يحرساه، فاقتسما الليلة قسمين، و كان لعبّاد بن بشر النصف الأوّل، و لعمّار بن ياسر النصف الثاني، فنام عمّار، و قام عبّاد يصلّي و قد تبعهم اليهودي يطلب امرأته أو يغتنم، فنظر الى عبّاد بن بشر يصلّي في موضع العبور فلم يعلم في ظلام الليل

هل هو شجرة أو دابّة، أو إنسان، فرماه بسهم فأثبته فيه فلم يقطع الصلاة، فرماه بآخر، فخفّف الصلاة و أيقظ عمّار، فرأى عمّار السّهام في جسد عبّاد فعاتبه و قال: هلّا أيقظتنى في أوّل سهم؟ فقال: كنت بدأت بسورة الكهف فكرهت أن أقطعها، و لو لا خوف أن يأتى على نفسي و يصل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أكون قد ضيّعت ثغرا من ثغور المسلمين لما خفّفت صلاتي و لو أتى على نفسي ... فدّع العدوّ عما أراده» «2».

و في تفسير الإمام عليه السّلام: خبر صلاة أبى ذرّ الغفاري و استشعاره عظمة الربّ فيها، و توكيل اللّه تعالى أسدا لحفظ قطيعة غنمه «3» على ما يأتى إنشاء اللّه تعالى

______________________________

(1) تفسير الإمام عليه السّلام ص 4- بحار الأنوار ج- 92 ص 182.

(2) بحار الأنوار ج 22 ص 116 عن الأمان من اخطار الأسفار و الأزمان ص 122.

(3) بحار الأنوار ج 22 ص 393 عن تفسير الامام عليه السّلام ص 26.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 461

في تفسير وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ من سورة البقرة.

و من الوظائف الباطنيّة: حسن الإصغاء إلى آيات القرآن و إشاراته قارئا و مستمعا، فإنّ القرائة لا تنافي الاستماع، و للتهيّؤ لحسن التدبر و القبول، و ذلك لأنّ القارئ إنّما يتلو كتاب اللّه و يحكيه على ما أنزله، لا أن ينشأوه من نفسه.

و لذا

قال مولانا الصادق عليه السّلام: «فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك و منشور ولايتك، و كيف تجيب أوامره و نواهيه، و كيف تمثّل حدوده» «1».

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام طويل في وصف المتقين: «أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن، يرتّلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم،

و يستثيرون به دواء دائهم «2»، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلّعت نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم، و إذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم» «3».

و اعلم أنّ القارئ حال قراءته متكلّم من وجه، و مستمع من وجه آخر، فمن الجهة الاولى لا بدّ له من حسن المخاطبة و استشعار حضور المخاطب، و من الجهة الثانية لا بدّ له من حسن الإصغاء و الاستماع.

و لذا

ورد من مولانا الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى الى موسى بن عمران: إذا وقفت بين يديّ فقف موقف الفقير الذليل، و إذا قرأت التوراة

______________________________

(1) المحجّة البيضاء ج 2 ص 249 عن مصباح الشريعة ص 13 و 14.

(2)

في بعض النسخ: و يستثيرون به تهييج احزانهم بكاء على ذنوبهم.

(3) نهج البلاغة خ 192- المجالس للصدوق 341. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 462

فأسمعنيها بصوت حزين» «1».

و

عن حفص، قال: «ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام، و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزنا، فكأنّه يخاطب إنسانا» «2».

و

روت العامّة و الخاصّة: أنّ مولانا الصادق عليه السّلام لحقته حالة في الصلاة عند القرائة حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا سرى عنه ذلك قيل له في ذلك؟ فقال عليه السّلام: «ما زلت أردّد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلّم بها» «3».

و من الوظائف: التواضع و الخشوع عند التلاوة بل في جميع الأحوال تعظيما للّه سبحانه، و إكراما للقرآن، بل ينبغي لحامل القرآن و قارئه ملازمتهما، و ملازمة سائر العبادات الشرعيّة، و الأخلاق الحسنة و الأحوال

الزكيّة.

ففي «الكافي» عن الصادق عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أحقّ الناس بالتخشّع في السّر و العلانية لحامل القرآن، ثم نادى بأعلى صوته: يا حامل القرآن تواضع به يرفعك اللّه و لا تعزّز به فيذلّك اللّه، يا حامل القران تواضع به يرفعك اللّه، و لا تعزّ فيه فيذلّك اللّه، يا حامل القرآن تزيّن به للّه يزينك اللّه به، و لا تزيّن به للنّاس فيشينك اللّه به، من ختم القرآن فكأنّما أدرجت النبوة بين جنبيه و لكنه لا يوحى إليه، و من جمع القرآن فنوله «4» لا يجهل مع من يجهل عليه و لا

______________________________

(1) الأصول من الكافي ص 594.

(2) أصول الكافي ص 594.

(3)

بحار الأنوار ج 84 ص 247 عن فلاح السائل ص 107 و ص 107 و فيه: «ما زلت اكرّر آيات القرآن حتى بلغت الى حال كأنّنى سمعتها مشافهة ممّن أنزلها.

(4) فنوله: أى حقّه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 463

يغضب فيمن يغضب عليه، و لا يحدّ فيمن يحدّ عليه، و لكنّه يعفو، و يصفح و يغفر و يحلم لتعظيم القران. الخبر «1».

أقول: و ذلك لأنّ الثواب و العقاب يضاعفان بشرف الفاعل و الفعل و مشخّصاته من الزمان و المكان و غيرهما.

و لذا

ورد: «أنّه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد «2».

و انزل في أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله اللّائى لسن كأحد من النساء في لزوم زيادة الاهتمام على الوظائف و الآداب: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا

لَها رِزْقاً كَرِيماً «3».

و

ورد: «أنّ الخير و الشرّ يضاعفان في ليلة الجمعة و يومها» «4».

بل و كذلك في سائر الأزمنة الشّريفة و أمكنتها من المشاهد و المساجد و غيرهما.

فحامل القرآن، و حافظه، و قارئه لا بدّ له من ملازمة التقوى و الخشوع و الانقياد للّه تعالى في جميع الأحوال و الاستمرار على الوظائف الشرعيّة في الأقوال و الأفعال القلبيّة و البدنيّة.

فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنّه لو

______________________________

(1) الأصول من الكافي ج 2 ص 442.

(2) أصول الكافي ج 1 ص 41.

(3) الأحزاب: 30- 31.

(4)

الخصال- 31- 32 و فيه: إنّ العمل يوم الجمعة يضاعف. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 464

خشع قلبه لخشعت جوارحه» «1».

و من الوظائف: استشعار الحزن و البكاء و التباكي، لما

روى عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بالحزن» «2».

و قد مرّ

من القدسيّات لموسى بن عمران: «إذا قرأت التورات فأسمعنيها بصوت حزين» «3».

و

أنّ موسى بن جعفر عليهما السّلام كانت قراءته حزنا «4».

و

روى أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أتى شبّانا من الأنصار، فقال: أريد أن أقرأ عليكم فمن بكى فله الجنّة، و من تباكى فله الجنّة «5».

و معنى نزول القرآن بالحزن نزوله على من أنزل عليه مقترنا به، حيث إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عند نزوله تأخذه الغشوة و الرقّة و الانقطاع الكلّى، و الرجوع الى المبدأ الأصلى.

أو نزوله لأجل الحزن، و لذا كان نزوله منجما مفرّقا لأجل التأثير و اجتلاب الحزن، قال اللّه سبحانه: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ

إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 84 ص 261 عن أسرار الصلاة.

(2) الأصول من الكافي ج 2 ص 598.

(3) المصدر ج 2 ص 598.

(4) أصول الكافي ج 2 ص 594.

(5) المجالس للصدوق ص 325.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 465

وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً «1».

و قال سبحانه: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «2».

و

قد روى الصدوق في «المجالس» و «ثواب الأعمال» عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتى شبّانا من الأنصار فقال: إنّى أريد أن أقرأ عليكم فمن بكى فله الجنّة، فقرأ آخر الزمر: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً «3» إلى آخر السورة، فبكى القوم جميعا إلّا شابّا، فقال: يا رسول اللّه قد تباكيت فما قطرت عيني، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّى معيد عليكم فمن تباكى فله الجنّة، فأعاد عليهم فبكى القوم، و تباكى الفتى فدخلوا الجنّة جميعا «4».

و

في «العيون» بالإسناد، عن رجاء بن أبى ضحّاك من الرّضا عليه السّلام إنّه كان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنّة أو نار بكى و سأل اللّه الجنّة و تعوّذ به عن النار «5».

و من الوظائف الباطنية: التدبّر و التفكّر، فإنّه لا خير في ذكر من دون تفكّر، و لا تلاوة من دون التدبّر، قال اللّه سبحانه: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «6».

______________________________

(1) الإسراء: 106- 107- 108- 109.

(2) المائدة: 83.

(3) الزمر: 71.

(4) المجالس ص 325- ثواب الأعمال

ص 88.

(5) عيون الأخبار ص 310.

(6) سورة محمد (ص): 24.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 466

و هذه الأقفال هي أقفال الكفر و الشرك، و النفاق، و الجهل، و القسوة و متابعة الأهواء النفسانيّة، و الآراء الباطلة، و الإشتغال بالحظوظ الدنيويّة و الشهوات العاجلة البدنيّة، و صرف النظر عن شي ء من ذلك سيّما في حال القرائة، فإنّ هذه كلّها حجب و موانع عن حسن الإصغاء و التدبّر، فضلا عن التذكّر، قال اللّه تعالى: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «1».

و لذا خصّ التذكّر بعد ما عمّ التدبّر في قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «2».

فبعد التذكّر يتأثّر قلبه من كلّ آية من الآيات على ما هي عليه من بواعث الخوف الرّجاء، و إن قيل: إنّه مهما تمتّ معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه، فإنّ التضييق غالب على آيات القرآن فلا ترى ذكر المغفرة و الرحمة إلّا مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها، و لذا ذكر شروطا أربعة لنفى الخسران فيما استثناه في سورة العصر، و للمغفرة في قوله: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «3».

لكنّ الإنصاف أنّ ذلك كلّه إنّما هو بالنظر إلى أعمالنا القاصرة الناقصة المشوبة، و أمّا بالنظر الى فضله و رحمته فآيات الرّجاء كثيرة أيضا: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «4».

______________________________

(1) الإسراء: 45.

(2) ص: 29.

(3) طه: 82.

(4) يونس: 58.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 467

و لذا قدّم في أكثر الآيات أسباب المغفرة و البشارة بها.

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1».

بل اشتقّ من

المغفرة و الرّحمة لنفسه اسمين، و اقتصر على توصيف العذاب و جمع بين الأمرين في قوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «2».

و بالجملة لا بدّ أن يكون العبد دائما راجيا منه خائفا وجلا متردّدا.

قال مولانا الصّادق عليه السّلام: «إنّ لك قلبا و مسامع، و إنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يهدى عبدا فتح مسامع قلبه، و إذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «3». «4»

ثمّ إنّه قد يفرّق بين التدبّر و التفكّر بأنّ الأوّل تصرّف القلب بالنظر في عواقب الأمور، و الثاني تصرّفه بالنظر في الدّلائل، لكنّه لا يخفى أنّ لكلّ من اللفظين، مجموع الأمرين.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: «ألا لا خير في علم ليس فيه تفكّر، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه «5».

و

في «الكافي» عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السّلام يقول:

______________________________

(1) الحجر: 49- 50.

(2) النور: 21.

(3) سورة محمد (ص): 24.

(4) الأصول من الكافي ص 18- معاني الأخبار ص 67.

(5) بحار الأنوار ج 2 ص 48 عن معاني الأخبار. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 468

«آيات القرآن خزائن العلم، كلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر فيها «1».

و من الوظائف: التذكّر و التأثر، بأن يتأثّر قلبه يعد التفكّر و التدبّر بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات و مقتضياتها، فيكون له عند التلاوة أو الاستماع بحسب عبور كلّ آية من آياته، بل و كلمة من كلماته على مسامع قلبه، و مجامع فؤاده، و لبّه حال، و انتقال، و وجد، و

وجل يتّصف به قلبه من الخوف و الحزن، و الشوق، و الرجاء.

و ليس كلّما حصل التفكر حصل التذكّر، بل له شروط و آداب سابقة و مقارنة مرجعها بين الرجاء بفضله و رحمته، و الخوف من عدله، و نقمته، بحيث لو وزنا معا في قلبه لما رجّح أحدهما على الآخر، و لا ينبغي أن يغلب عليه الخشية التي هي أعلى من الخوف و أصغى منه على ما ستسمع.

و لذا قيل: ما أصبح اليوم عبد يتلو هذا القرآن يؤمن به إلّا كثر حزنه، و قلّ فرحه، و كثر بكاؤه و قلّ ضحكه، و كثر نصبه و شغله، و قلّت راحته و بطالته.

و قد مرّ في حسن الإصغاء

عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام ما ينبغي للقاري عند المرور بآية فيها تشويق أو تخويف «2».

و حاصل ما يستفاد منه و من غيره أنّ تأثّر العبد بالتلاوة هو أن يصير بعد التلاوة و مراعاة الوظائف المتقدّمة بصفة الآية المتلوّة، بأن يوجد أثرها على قلبه و قالبه من شوق، أو خوف، أو فرح، أو بكاء، أو تعظيم، أو حياء، أو حبّ، أو وجد، أو انبساط، أو غيرها.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 216 ح 22 عن عدّة الداعي.

(2) نهج البلاغة خ 191- المجالس للصدوق ص 341.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 469

فعند التوسيع و المغفرة و الرحمة و الفضل ينبسط قلبه و يستبشر حتى يظهر آثار البشارة على بشرته كأنّه يطير من الفرح، قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «1».

و عند الوعيد، و اشتراط المغفرة بالشروط يستشعر الخشية لما يعلم من نفسه من التقصير و العصيان، فيملأ قلبه خوفا، و يقشعرّ جلده وجلا، و يظنّ أنّ زفير جهنّم

و شهيقها بمسمع منه و منظر لقوّة يقينه، و إيمانه بالغيب، و هم الذين من خشيته مشفقون.

و

روى عن ابن عبّاس: «أنّ أبا بكر قال: يا رسول اللّه ما أسرع إليك الشيب؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله: شيّبتنى الهود، و الواقعة، و المرسلات، و عمّ يتساءلون «2».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّي لأعجب أنّي كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن «3».

و عند ذكر التوحيد و الصفات الجلاليّة و الحماليّة و أسماء اللّه الحسنى، و أمثاله العليا، يتحقّق في مقام الذلّة، و العبوديّة، و الاستكانة و التضرّع، و الخشوع كى يستعدّ لإشراق أشعّة أنوار الجلال، و يمرّ على وجوده نفحة من نفحات روح الوصال.

و ممّا ذكرناه يعلم الحال في الآيات المتعلّقة بحكايات أحوال الأمم السالفة ممّن نجى و ممّن هلك، و مقالات الكفّار، و مقامات الحبّ و الرضا نحو يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ «4» وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ «5»

______________________________

(1) التوبة: 124.

(2) المجالس ص 141- الخصال ج 1 ص 93.

(3) الأصول من الكافي ص 607.

(4) المائدة: 54.

(5) البقرة: 165.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 470

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ «1».

و بشارة اللقاء و غير ذلك ممّا يتعسّرا حصاؤه، و إنّما المعيار هو التحقّق في مقام القبول و الإقبال و تكّون الوجود بما يمرّ عليه من آيات ذي الجلال حتّى يتكرّر عليه الكسر و الصوغ مرّة بعد اخرى، و يستكمل وجوده عما كان عليه إلى ما هو أليق و أخرى.

و من الوظائف الباطنيّة: التخصيص بأن يقدّر، بل يعلم أنّه المقصود بكلّ خطاب في القرآن، و إن لم يكن تمام المقصود، فالخطابات العامّة شاملة له أيضا.

و أمّا الخطابات الخاصّة، و قصص الأوّلين و الأمثال، و

غيرها فليعلم أنّه ليس المقصود منها مجرّد المسامرة، بل العبرة، و التذكّر، و الالتفات الى أسباب الهلاك و النجاة، فإنّه ليس بين اللّه و بين أحد من خلقه قرابة، و لا رحم، و لا صداقة سابقة، و لا عهد، و لا ميثاق.

فلينظر في أنّ من نجى من الأمم السالفة بما نجى فليأخذ به، و في أنّ من هلك منهم بما هلك فليتجنّب عنه.

و ليتأمّل في الأمثال التي ضربها اللّه للنّاس لعلّهم يتفكّرون، و إن كان لا يعقلها إلّا العالمون، و ذلك لأنّ تلك الأمثال أمور حقيقيّة، و حقايق نورانيّة منزّلة في كسوة الأمثال المحسوسة تمثيلا للمعقول بالمحسوس، و تقريبا لأفهام الناس لعكوفهم على عالم الحسّ الظاهر، و إعراضهم عن عالم الأنوار و العقول، و مع

______________________________

(1) المائدة: 119- التوبة: 100.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 471

ذلك فقليلا ما يذكّرون، لأنّهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «1».

و بالجملة فلا بدّ من أن يخصّص نفسه بكلّ ما يتأهّل من خطاباته، و أوامره، و نواهيه، و وعده، و وعيده، و بشارته، و تخويفه، و قصصه، و أمثاله، و أحكامه.

و حينئذ فلا يتّخذ دراسة القرآن علما، بل قراءة كقرائة العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتدبّره، و يطّلع على ما فيه، و يعمل بمقتضاه.

و إن كان ظاهر الخطاب بغيرك فاعلم أنّ القرآن قد نزل بايّاك أعنى و اسمعي يا جارة، كما قال مولانا الصادق عليه السّلام «2».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام: «لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ء، و لكنّ القرآن يجرى أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض» «3».

و

ورد أيضا: «أنّ

القرآن غضّ طري لا يبلى أبدا» «4».

و

عن الصادق عليه السّلام: «القرآن عهد اللّه إلى خلقه، فينبغي للمرء المسلم أن ينظر الى عهده، و أن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية» «5».

و من الوظائف الباطنيّة: حسن الإجابة في المقامات الثلاثة، و هي

______________________________

(1) الروم: 7.

(2) تفسير الصافي في المقدّمة الرابعة عن تفسير العياشي.

(3) الصافي في المقدّمة الثالثة عن العيّاشى.

(4) مستدرك الوسائل ج 4 ص 237 مع تفاوت.

(5) الوسائل ج 4 ص 849.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 472

الأقوال، و الأفعال، و الأحوال.

أمّا الإجابة القوليّة فهي كثيرة جدّا، و قد أشير إلى كثير منها في الأخبار، كالتلبية عند النداء، و سؤال الرحمة، و الاستعاذة من النقم عند آية الوعد و الوعيد، و نفى الأنداد و الأضداد عند ذكر مقالة الكفّار، و غير ذلك.

فعن الصادق عليه السّلام قال: «ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتّل في قراءته، فإذا مرّ بآية فيها ذكر الجنّة، أو ذكر النار سأل اللّه الجنّة، و تعوّذ باللّه من النار، و إذا مرّ بيا أيّها الناس، و يا أيّها الذين آمنوا، يقول: لبّيك ربّنا» «1».

و في بعض الأخبار: «لبّيك اللهمّ لبّيك» سرّا.

و

عنه عليه السّلام: «ينبغي لمن قرأ القرآن إذا مرّ بآية من القرآن فيها مسألة، أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو، و يسأل العافية عن النّار، و من العذاب» «2».

و

في «مجمع البيان» عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ «3».

قال عليه السّلام: حقّ تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنّة و النار، يسأل في الاولى، و يستعيذ من الاخرى» «4».

بل يستحبّ ذلك و لو كان في الصلاة أيضا كما

رواه الحلبي في الصحيح

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص

170- الوسائل ج 4 ص 753.

(2) التهذيب ج 1 ص 218.

(3) البقرة: 121.

(4) الصافي ص 45 عن المجمع و العيّاشى. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 473

عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن الرّجل يكون مع الإمام، فيمرّ بالمسألة، أو بآية فيها ذكر جنّة أو نار، قال عليه السّلام: لا بأس بأن يسأل ذلك، و يتعوّذ من النار، و يسأل اللّه الجنّة» «1».

و

في «الكافي» عن جابر بن عبد اللّه قال: «لمّا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الناس سكتوا، فقال (ص): الجنّ أحسن جوابا منكم لمّا قرأت عليهم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا و لا بشي ء من آلاء ربّنا نكذّب» «2».

و

عن الصادق عليه السّلام: «و من قرأ سورة الرحمن فقال عند كلّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا بشي ء من الائك ربّ اكذّب، فإذا قرأها ليلا، ثمّ مات مات شهيدا، و إن قرأها نهارا ثم مات مات شهيدا «3».

و

قد ورد أيضا أن يقول بعد قراءة الحمد مطلقا، أو في خصوص الجماعة:

الحمد للّه ربّ العالمين «4».

و بعد ختم التوحيد أن يقول: كذلك اللّه ربي مرّة، أو مرّتين، أو ثلاث مرّات «5»

، على اختلاف الأخبار.

و بعد قراءة لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أن يقول: أعبد اللّه وحده.

و بعد قراءة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ أن يقول: ربّي اللّه و ديني الإسلام «6».

______________________________

(1) الوسائل ج 4 ص 754.

(2) نور الثقلين ج 5 ص 188 عن الكافي.

(3) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 187 عن ثواب الأعمال.

(4) نور الثقلين ج 1 ص 25 عن الكافي، و عيون الأخبار.

(5) نور الثقلين ج 5 ص 700.

(6) نور الثقلين ج 5 ص 686.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 474

و

روى:

«و ديني الإسلام» ثلاثا.

و

ورد أيضا: أن يقول بعد قراءة ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «1»:

كذب العادلون باللّه «2».

و أن يقول بعد قراءة سورة وَ التِّينِ بلى و نحن على ذلك من الشاهدين «3».

و أن يقول بعد قراءة سورة وَ الشَّمْسِ صدق اللّه و صدق رسوله «4».

و أن يقول بعد قراءة: أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «5»:

سبحانك اللّهم و بلى «6».

و أن يقول بعد قراءة آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «7»: اللّه خير، اللّه أكبر «8».

و أن يقول بعد قراءة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الى قوله: وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً «9»: اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر «10».

و أن يصلّي على النبيّ و آله بعد قراءة

______________________________

(1) سورة الأنعام: 1.

(2) بحار الأنوار ج 85 ص 34.

(3) نور الثقلين ج 5 ص 608.

(4) نور الثقلين ج 5 ص 575 ح 3.

(5) سورة القيامة: 40.

(6) بحار الأنوار ج 92 ص 219 ح 3.

(7) النمل: 59.

(8) البحار ج 85 ص 34 عن الذكرى.

(9) الإسراء: 111.

(10) البحار ج 85 ص 34 عن الذكرى. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 475

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» مفتتحا بقوله: لبّيك اللّهمّ لبّيك، إجابة للنّداء في الآية «2».

و أن يقول بعد قراءة قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ إلى وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «3»: آمنّا باللّه «4».

و أن يقول سرّا بعد قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «5»: سبحان اللّه الأعلى، أو «سبحان ربي الأعلى و بحمده» «6».

و نحوه بعد قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ «7».

إلى غير ذلك ممّا يستفاد من الأخبار.

بل ربما يستفاد منها الإذن في غير الموارد الخاصّة المنصوصة، لأنّه من جنس الاجابة المندوب إليه، كما يستفاد

من ملاحظة أخبار الباب.

بل و من

النبويّ المتقدّم حيث قال صلّى اللّه عليه و آله عتابا على أصحابه: «إنّ الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم ... إلخ» «8».

و من هنا يقوى القول باستحبابه مطلقا و لو في الصلاة.

و أمّا الإجابة الفعليّة فالمراد بها امتثال أوامر القرآن و نواهيه، و القيام

______________________________

(1) الأحزاب: 56.

(2) عيون الأخبار ج 2 ص 183.

(3) البقرة: 136.

(4) الخصال ج 2 ص 165.

(5) سورة الأعلى: 1.

(6) عيون الاخبار ج 2 ص 183.

(7) سورة الواقعة: 74.

(8) نور الثقلين ج 5 ص 188 عن الكافي.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 476

بوظائفه و سننه، فإنّ الإطاعة و الامتثال بمطلق الأوامر الشرعيّة و إن كانت مطلوبة لكلّ مكلّف إلّا أنّ أحقّ الناس بذلك إنّما حامل القرآن و حافظه، و قارئه لما سمعت من علوّ درجته و سمّو مقامه، بحيث لا ينبغي منه إلّا الإطاعة و العبوديّة و الانقياد.

و قد سمعت

من خبر «مصباح الشريعة» أنّ الصادق عليه السّلام قال: «فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك و منشور ولايتك، و كيف تجيب أوامره و نواهيه، و كيف تمتثل حدوده «1».

فأحقّ الناس بمتابعة منشور السلطان إنّما هو من يبتدئ بقرائته، و يلازم حفظه و حمله، و قد قال اللّه سبحانه: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ «2».

و من هنا ذكرنا سابقا أنّ الثواب و العقاب يضاعفان لقارئ القرآن بل قد سمعت

في النبويّ المتقدّم: «أنّ أحقّ الناس بالتخشع في السرّ و العلانية لحامل القرآن، و أنّ أحقّ الناس في السرّ و العلانيّة بالصلاة و الصوم لحامل القرآن» «3».

و

في «عقاب الأعمال» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «من تعلّم القرآن فلم يعمل به،

و آثر عليه حبّ الدنيا و زينتها استوجب سخط اللّه، و كان في الدرجة مع اليهود و النصارى الذين ينبذون كتاب اللّه وراء ظهورهم.

و من قرأ القرآن يريد به سمعته، و التماس الدنيا لقى اللّه تعالى يوم القيامة

______________________________

(1) محجّة البيضاء ج 2 ص 249 عن مصباح الشريعة ص 13- 14.

(2) البقرة: 41.

(3) الأصول من الكافي ج 2 ص 442. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 477

و وجهه عظم ليس عليه لحم، و زجّ القرآن في قفاه حتى يدخله النار، و يهوى فيها مع من يهوى.

و من قرأ القرآن و لم يعمل به حشره اللّه يوم القيامة أعمى، فيقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى «1»، فيؤمر به الى النار «2».

و من قرأ القرآن ابتغاء وجه اللّه و تفقّها في الدين كان له من الثواب مثل جميع ما يعطى الملائكة و الأنبياء، و المرسلون «3».

و من تعلّم القرآن يريد به رياء و سمعة ليماري به السفهاء و يباهي به العلماء، و يطلب به الدنيا بدّد اللّه عزّ و جلّ عظامه يوم القيامة، و لم يكن في النار أشدّ عذابا منه، و ليس نوع من العذاب إلّا و يعذّب به من شدّة غضب اللّه عليه و سقطه «4».

و من تعلّم القرآن و تواضع في العلم و علّم عباد اللّه و هو يريد ما عند اللّه لم يكن في الجنّة أحد أعظم ثوابا منه، و لا أعظم منزلة منه، و لم يكن في الجنّة منزل، و لا درجة رفيعة و لا نفيسة إلّا كان له منها أوفر النصيب و أشرف المنازل «5».

و

في النبويّ أيضا: «إنّ في جهنّم واديا

يستغيث أهل النار كلّ يوم سبعين

______________________________

(1) طه: 126.

(2) مقام الأعمال ص 45 و ص 47.

(3) وسائل الشيعة ج 4 ص 838.

(4) عقاب الأعمال ص 52.

(5) بحار الأنوار ج 76 ص 373 عن ثواب الأعمال. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 478

ألف مرّه منه ... فقيل: لمن يكون هذا العذاب؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: لشارب الخمر من أهل القرآن و تارك الصلاة «1».

و

عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديث المناهي قال: «من قرأ القرآن ثمّ شرب عليه حراما، أو آثر عليه حبّ الدنيا و زينتها استوجب عليه سخط اللّه إلّا أن يتوب، ألا و أنّه إن مات على غير توبة حاجّة يوم القيامة فلا يزايله إلّا مدحوضا «2».

و

في الخطبة العلوية: «و تعلّموا القرآن فإنّه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور، و أحسنوا تلاوته فإنّه أحسن القصص، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة له ألزم، و هو عند اللّه ألوم «3».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و أمّا الإجابة الحاليّة: فهي التخلّق بأخلاق القرآن، و إن كان لا يستطيع غير من نزل عليه و أهل بيته عليهم السّلام على ذلك كما هو حقّه لأنّه كان خلقه صلّى اللّه عليه و آله حتّى وصفه اللّه العظيم بالعظمة فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «4».

إلّا أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، و أخذ القليل خير من ترك الكثير و قد ورد: أنّ المؤمنين قد خلقوا في ذواتهم و كينوناتهم من أشعّة أنوار محمّد و آل محمّد عليهم السّلام، فلهم رشحة من رشحات صفاتهم.

______________________________

(1) بحار

الأنوار ج 79 ص 148 عن جامع الأخبار.

(2) البحار ج 92 ص 180 عن أمالى الصدوق ص 256.

(3) نهج البلاغة ص 164 و منه الوسائل ج 4 ص 825 ح 7.

(4) القلم: 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 479

و لذا ورد الأمر بالتخلّق بأخلاق اللّه، و بأخلاق الروحانيّين، بل هو مفتاح لكنوز القرآن، و مصباح يتجلّى به خفايا المعاني و البيان.

ففي العلويّ كما عن المسيح النورانى ما معناه: «ليس العلم في السماء فينزل عليكم، و لا في تخوم الأرض فيصعد إليكم، و لكنّه مجبول في قلوبكم بأخلاق اللّه يظهركم».

و قد ورد في تفسير قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ «1»: أنّ المراد بقوّة في الأبدان و القلوب، فالقوّة في الأبدان هي الأفعال، و الأعمال التي منها الأقوال حسبما سمعت، و في القلوب هي الملكات و الأخلاق الحسنة، و الأحوال الجميلة التي مرجعها إلى التخلّق عن الرذائل، و التحلّى بأنواع الفضائل.

و هذا هو المراد باختلاط القرآن باللّحم و الدّم فيما

روى عن مولانا الصادق عليه السّلام أنّه قال: «من قرأ القرآن و هو شابّ مؤمن اختلط القرآن بلحمه و دمه، و جعله اللّه مع السفرة الكرام البردة، و كان القرآن حجيزا «2» عنه يوم القيامة يقول: يا ربّ إنّ كلّ عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم «3» عطائك، قال: فيكسوه اللّه العزيز الجبّار حلّتين من حلل الجنّة، و يوضع على رأسه تاج الكرامة، ثمّ يقول له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا ربّ قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، قال: فيعطى الأمن بيمينه، و الخلد بيساره، ثمّ يدخل الجنّة، فيقال له: اقرأ آية فاصعد درجة، ثم يقال له: هل بلّغنا به

______________________________

(1) البقرة: 63.

(2) في البحار: حجيجا عنه.

(3) في البحار: كريم عطاياك. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 480

تفسير الصراط المستقيم ج 2 519

و أرضيناك؟ فيقول: نعم «1».

و

روى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لابن مسعود: «اقرأ عليّ، قال: فافتتحت سورة النساء، فلمّا بلغت فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» رأيت عينيه تذرفان من الدّمع فقال لي: حسبك «3».

و ذلك لاستغراق تلك الحالة لنفسه بالكلّية.

و

روى أنّه جاء إليه صلّى اللّه عليه و آله واحد ليعلّمه القرآن، فانتهى الى قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «4» فقال الرجل يكفيني هذا و انصرف، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: انصرف الرجل و هو فقيه «5».

و ذلك إنّما كان لتأثّره و حسن إجابته، و استعداده للعمل.

و قد تحصّل لك ممّا سمعت أنّ لكلّ جزء من أجزاء وجود الإنسان وظيفة في قراءة القرآن، فوظيفة اللّسان هو الترتيل، و حسن البيان، و وظيفة الأركان المبادرة إلى الامتثال للتحقّق بكمال الإذعان، و وظيفة العقل تفسير المعاني و إدراك البرهان، و وظيفة الجنان هو الاستبشار و زيادة الإيمان، و وظيفة الفؤاد الذي هو أعلى مشاعر الإنسان هو الشهود و العيان، و الاستيناس بمناجاة الملك المنّان.

و من الوظائف الباطنيّة: التبرّي من حوله و قوّته، لأنّه يعلم أنّه لا يملك

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 187 ح 9 عن ثواب الأعمال ص 91.

(2) النساء: 41.

(3) جامع الأخبار و الآثار ج 1 ص 291 عن تيسير المطالب.

(4) سورة الزلزال: 7.

(5) بحار الأنوار ج 92 ص 107.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 481

لنفسه نفعا و

لا ضرا، و لا يستطيع موتا، و لا حياة، و لا نشورا، بل الفضل كلّه بيد اللّه يؤتيه من يشاء، فلا يلتفت إلى نفسه أصلا، فضلا عن أفعاله، و أحواله، و طاعاته التي هي كلّها تقصير، و قصور، خالية من النّور و السرور، فليتّهم نفسه في كلّ حال، و ليتدارك ما فات عنه من الفضائل و تزكية الأعمال، و ليتوسّل في كلّ ذلك إلى النبيّ محمّد و آله خير آل مستشفعا بهم صلوات اللّه عليهم إلى اللّه ذي العزّ و الجلال، و ليكن بما ورد عنهم عليهم السّلام في تفسير الآيات من الأخبار و الآثار، فإنّها مفاتيح كنوز الأسرار، و لوامع الأنوار، و ليتّعظ بها قلبه بالانبساط و الانزجار الذين هما ثمرة البشارة و الإنذار.

و من الوظائف: الترقّي بحسب تدرّج الأحوال إلى درجات الكمال و الاستغراق في مقام التوجّه و الإقبال للوصول إلى الأنس بمناجات ذي الجلال.

و قد يقال: إنّ درجات القرآن ثلاث:

أدناها: أن يقدّر العبد كأنّه يقرأ على اللّه تعالى واقفا بين يديه، و هو ناظر اليه، و مستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير الثناء و السؤال، و التضرّع و الابتهال.

و أوسطها: أن يشهد بقلبه كأنّه سبحانه يخاطبه بألطافه، و يناجيه بانعامه و إحسانه، و هو مقام الحياء و التعظيم له و الإصغاء إليه و الفهم منه.

و أعلاها: أن يرى في الكلام و المتكلّم الصّفات، فلا ينظر الى قلبه، و لا إلى قراءته، و لا إلى تعلّق الإنعام به من حيث إنّه منعم عليه، بل يقتصر همّه على المتكلّم، و يوقف فكره عليه و يستغرق في مشاهدته.

و هذه درجة المقرّبين، و عنه

أخبر مولانا الصّادق عليه السّلام حيث قال: «لقد

تفسير الصراط المستقيم، ج 2،

ص: 482

تجلّى اللّه تعالى لخلقه في كلامه و لكنّهم لا يصبرون» «1».

و

عنه عليه السّلام أيضا و قد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قيل له في ذلك، فقال عليه السّلام: «ما زلت أردّد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلّم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته «2».

ففي مثل هذه الدرجة تعظيم الحلاوة، و بهذا الترقّى يكون العبد ممتثلا لقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ «3».

و بمشاهدة المتكلّم دون ما عداه يكون ممتثلا لقوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «4»، فإنّ رؤية غير اللّه معه شرك خفيّ لا يخلص منه إلّا برؤيته وحده.

ثمّ إنّ المراد بالتجلّى المذكور في الخبر هو التجلّى الفعليّ بصفة التكلّم الّتي هي من صفات الأفعال، فمن أدرك بظهوره له به فقد عرف نفسه، و من عرفها فقد فقدها: لأنّه لا يتجلّى له حينئذ إلّا الواجب الحقّ، و القيّوم المطلق الذي بفيضه قامت السّماوات و الأرض، و حينئذ يندكّ بل إنيّته و لا يقدر على الاستقرار، و لذا يخرّ مغشيّا عليه، كما كان يعرض كثيرا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و للأئمّة المعصومين عليهم السّلام على ما هو معلوم من أحوالهم في آناء الليل و أطراف النّهار.

بل الغشوة العارضة له عند نزول الوحي و الإلهام، و سماع الكلام من الملك العلّام على ما مرّت الإشارة إليه، و الى ما

قاله مولانا الصادق عليه السّلام لمّا سئل عن

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 107.

(2) مستدرك الوسائل ج 4 ص 107 عن فلاح السائل ص 107.

(3) الذاريات: 50.

(4) الذاريات: 51. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 483

تلك الغشية التي عرضت للنبي صلّى اللّه عليه و آله

تارة، هل كان عروضها عند هبوط جبريل عليه السّلام؟ فقال عليه السّلام: لا، إنّ جبريل عليه السّلام كان إذا أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يدخل عليه حتى يستأذنه، فإذا دخل قعد بين يديه قعدة العبد، و إنّما ذلك عند مخاطبة اللّه عزّ و جلّ إيّاه بغير ترجمان و واسطة «1».

أقول: و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «2».

بل ربما تعرّض له عليه السّلام تلك الحالة بالسّماع من البشر المؤدّي إليها أحيانا

ففي «المجمع» عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سمع قارئا يقرأ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَ جَحِيماً «3» الآيات فصعق عليه صلوات اللّه «4».

لكنّه ينبغي أن يعلم أنّ هذه الدرجة ليست سهلة التناول لكلّ طالب، فلا يصدّق بنيلها كلّ مدّع، و إن ادّعاها بعض أرباب التكلّف من أهل التصوف، بل ربما يشتعل في قلوبهم نيران محبّة المرد، و مشاهدة الوجوه الحسان، أو لغير ذلك من الرّياء، و طلب الدّنيا، و اغترار النّاس و نحوها من أغراضهم الباطلة، فيتغنّون بالقرآن، و يتّخذونها من المزامير و الملاهي، و يرجعون به ترجيّع الملاعب اللاهي، بل ربما يسمع منهم زفير و شهيق، و يجتمع الزبد في أشداقهم كالصديد المغليّ على نار ذات الحريق.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 18 ص 260 عن كمال الدين ص 51.

(2) سورة النمل: 6.

(3) المزمّل: 12.

(4) مجمع البيان ج 10 ص 380.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 484

و

قد حذّرنا مولانا الصادق عليه السّلام منهم بقوله: «إيّاكم و لحون «1» أهل الفسق و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه شأنهم «2».

و

قد مرّ شرح الخبر.

و

في «الكافي» و «المجالس» للصدوق عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: إنّ قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتى ترى أن أحدهم لو قطّعت يداه و رجلاه لم يشعر بذلك؟ فقال عليه السّلام: سبحان اللّه ذاك من الشيطان، ما بهذا أمروا «3»، إنّما هو اللّين، و الرقّة و الدمعة، و الرجل «4».

______________________________

(1) لحن في قراءته اى طوب بها.

(2) الكافي ج 2 ص 614 باب ترتيل القرآن ح 3.

(3)

في الكافي: «ما بهذا نعتوا» و فسرّ بأنّ اللّه تعالى لم يصف المؤمنين في كتابه بتلك الأوصاف بل وصفهم باللين و الرقّة و الوجل.

(4) الكافي ج 2 ص 616 باب فيمن يظهر الغشية عند قراءة القرآن ح 1.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 485

الباب الثالث عشر

في أحكام القراءة

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 487

القرائة تتّصف بكل من الأحكام الخمسة عدى الإباحة لكونها عبادة، فالواجب منها قد يكون بأصل الشرع كما في الصّلاة و في خطبة الجمعة و العيدين، و قد يكون لعارض كالإجارة، و النذر، و شبهه.

و المحرّم منها ما كان مشتملا على الغناء، أو مؤذيا للمصلّين، أو مفوّتا لعبادة واجبة، أو بلسان مغصوب كلسان العبد مع منع مولاه، أو الأجير مع منع مستأجره، أو وجوب الإشتغال بغيرها، أو كانت عزيمة في فريضة، أو على وجه الإهانة و الاستخفاف، أو موجبة للضرر لترك تقيّة، و نحوه، أو القران بين السورتين، و العزائم للجنب و أختيه، كما أنّ قراءة غير العزائم للثلاثة مكروهة مطلقا، أو ما زاد منه على سبع أو سبعين آية.

و

روى أيضا: أنّه لا ينبغي قراءة القرآن من سبعة: الراكع، و السّاجد، و في الكنيف، و في الحمّام، و

الجنب، و النفساء، و الحائض «1».

و المندوب ما عدا ذلك و ربما يتأكّد استحباب القرائة في بعض الأمكنة كالبيوت، و المساجد، و مكّة المعظّمة.

ففي «الكافي» بالإسناد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «نورّوا بيوتكم بتلاوة القرآن، و لا تتخذوها قبورا، كه فعلت اليهود و النصارى، صلّوا في الكنائس و البيع و عطّلوا بيوتهم، فإنّ البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره و اتّسع أهله و أضاء

______________________________

(1) الخصال ج 2 ص 357 ح 42. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 488

لأهل السماء، كما تضي ء نجوم السماء لأهل الدنيا» «1».

و

فيه، عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: البيت الّذي يقرء فيه القرآن، و يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تكثر بركته، و تحضر الملائكة و تهجره الشياطين، و يضي ء لأهل السّماء كما تضي ء الكواكب لأهل الأرض، و إنّ البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن، و لا يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تقلّ بركته، و تهجره الملائكة، و تحضره الشياطين «2».

و

فيه، عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه في حديث قال عليه السّلام: «كان يجمعنا فيأمرنا بالذّكر حتى تطلع الشمس، و يأمر بالقرائة من كان يقرأ منّا، و من كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر، و البيت الّذي يقرأ فيه القرآن، و يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تكثر بركته «3».

و

فيه، عنه عليه السّلام قال: «إنّ البيت إذا كان فيه المسلم يتلوا القرآن يتراءى لأهل السماء كما يتراءى لأهل الدّنيا الكوكب الدرّى في السّماء «4».

و

في خبر آخر: «إنّ الدار إذا تلي فيها كتاب اللّه كان لها نور ساطع في السماء تعرف من بين الدور «5».

و

في «عدّة الداعي» عن الرّضا عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم

السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «اجعلوا لبيوتكم نصيبا من القرآن، فإنّ البيت إذا قرئ فيه القرآن يسرّ على أهله، و كثر خيره، و كان سكّانه في زيادة، و إذا لم يقرأ فيه القرآن ضيّق على

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 200 ح 17 عن عدّة الداعي ص 211.

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 85 أبواب قراءة القرآن الباب (17) ح 2 من أصول الكافي ص 596.

(3) الوسائل ج 4 ص 850 ح 2 عن أصول الكافي ص 530.

(4) الوسائل ج 4 ص 849 و ص 850 ح 1 عن أصول الكافي ص 596.

(5)

الوسائل ج 4 ص 851 ح 6 عن رجال الكشي ص 144 و فيه: (و الدّار). تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 489

أهله، و قلّ خيره، و كان سكّانه في نقصان «1».

و

ورد عنهم عليهم السّلام: «إنّما بنيت المساجد للقرآن» «2».

و

عن أبى جعفر عليه السّلام أنّه قال: «من ختم القرآن بمكّة من جمعة الى جمعة، أو أقلّ من ذلك أو أكثر و ختمه في يوم جمعة، كتب اللّه له من الأجر و الحسنات من أوّل جمعة كانت في الدنيا إلى آخر جمعة تكون فيها، و إن ختمه في سائر الأيّام فكذلك «3».

و ربّما يتأكّد استحباب القرائة في بعض الأزمنة كشهر رمضان، و الليالي، و في الصباح و المساء، و غيرها.

ففي «الكافي» عن أبى جعفر عليه السّلام قال: «لكلّ شي ء ربيع، و ربيع القرآن شهر رمضان «4».

و

فيه، و في «ثواب الإعمال»: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع الى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن، فيكتب له مكان كلّ آية يقرأها عشر حسنات، و تمحى

عنه عشر سيّئات «5».

و

فيهما، و «المعاني» و «المجالس» عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، و من قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، و من قرأ مائة آية كتب من القانتين، و من قرأ مأتي آية كتب من

______________________________

(1)

الوسائل ج 4 ص 850 ح 5 عن عدّة الداعي ص 212 و فيه: (تيسّر على اهله).

(2)

بحار الأنوار ج 83 ص 363 عن التهذيب ج 3 ص 359 و فيه: (إنّما نصبت المساجد).

(3) وسائل الشيعة ج 4 ص 852 ح 1 عن أصول الكافي ص 597.

(4) الوسائل ج 4 ص 853 ح 2 عن أصول الكافي ص 606.

(5) وسائل الشيعة ج 4 ص 851 ح 1 عن أصول الكافي ص 597 و ثواب الأعمال ص 57. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 490

الخاشعين، و من قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين و من قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، و من قرأ ألف آية كتب له قنطار «1».

و

في «المجالس»: خمسون ألف قنطار، و القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، و المثقال أربعة و عشرون قيراطا، أصغرها مثل جبل أحد، و أكبرها ما بين السماء و الأرض «2».

و

روى الشيخ بالإسناد عن الرّضا عليه السّلام قال: «ينبغي للرّجل إذا أصبح أن يقرأ بعد التعقيب خمسين آية «3».

و

في «الأمالى» لابن الشيخ بالإسناد عن بكر بن عبد اللّه: أنّ عمر دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو موقوذ «4» أو محموم، فقال: يا رسول اللّه: ما أشدّ وعكك «5»، أو حمّاك؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله له: ما منعني ذلك أن قرأت

اللّيلة ثلاثين سورة منها السبع الطول، فقال: يا رسول اللّه غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر، و أنت تجتهد هذا الاجتهاد؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله: أ فلا أكون عبدا شكورا «6».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مرّت إلى بعضها الإشارة.

و يستحبّ قراءة القرآن على كلّ حال و في كل زمان.

ففي «الكافي» و «المحاسن» عن الصادق عليه السّلام في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام

______________________________

(1) الوسائل ج 4 ص 852 ح 2 عن الكافي ص 597.

(2) الوسائل ج 4 ص 852 عن المجالس ص 36.

(3) الوسائل ج 4 ص 849 ح 3 من التهذيب ج 1 ص 174.

(4) الموقوذ: الشديد المرض.

(5) الوعك (بفتح الواو و سكون العين المهملة): ألم الحمّى.

(6) وسائل الشيعة ج 4 ص 844 ح 19 عن أمالي ابن الشيخ ص 257. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 491

قال: و عليك بقرائة القرآن على كل حال» «1».

و

في «عدّة الداعي» عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: قال اللّه تعالى: «من شغل بقرائة القرآن عن مسألتى أعطيته أفضل ثواب الشاكرين «2».

و

في «المجالس» عن الصادق عليه السّلام، قال: «عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنة على عدد آيات القرآن فاذا كان يوم القيامة يقال: لقارئ القرآن:

اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية رقى درجة «3».

و

في «المجمع» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل العبادة قراءة القرآن «4».

و قد مرّ في الأبواب المتقدمة أخبار كثيرة تدلّ على ذلك فلاحظ.

و يستحبّ الحلّ و الارتحال، و فسرّ بفتح القرآن و ختمه.

ففي «الكافي» عن الزهري قال: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: أيّ الأعمال أفضل؟ قال عليه السّلام: الحالّ المرتحل،

قلت: و ما الحالّ المرتحل؟ قال عليه السّلام: فتح القرآن و ختمه، فكلّما جاء بأوله ارتحل بآخره «5».

و عن الصادق عليه السّلام في «معاني الاخبار» مثله، إلّا و فيه: «كلّما حلّ في أوّله ارتحل في آخره» «6».

و

في «ثواب الأعمال» عن الصّادق عليه السّلام: أنّه قيل له: يا بن رسول اللّه أيّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 4 ص 839 ح 1 عن روضة الكافي ص 162.

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 844 ح 20 عن عدّة الداعي ص 211.

(3) الوسائل ج 4 ص 842 ح 10 عن المجالس ص 216.

(4) مجمع البيان ج 1 ص 15.

(5) أصول الكافي ص 594.

(6) معاني الأخبار ص 58. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 492

الرّحال «1» خير؟ قال عليه السّلام: الحالّ المرتحل، قيل: يا بن رسول اللّه، و ما الحالّ المرتحل؟ قال عليه السّلام: الفاتح الّذى يفتح القرآن و يختمه، فله عند اللّه دعوة مستجابة «2».

أقول: قال ابن الأثير في «النهاية»: سئل أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: الحالّ المرتحل، قيل: و ما ذاك؟ قال: الخاتم المفتتح.

ثم قال: هو الذي يختم القرآن بتلاوته، ثم يفتتح التلاوة من أوّله، شبّهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحلّ فيه، ثم يفتتح سيره أى يبتدأ به، و كذلك قرّاء مكّة إذا ختموا القرآن بالتلاوة ابتدأوا و قرءوا الفاتحة، و خمس آيات من أوّل سورة البقرة الى قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثمّ يقطعون القرائة، و يسمّون فاعل ذلك الحالّ المرتحل، أى إنّه ختم القرآن و ابتدأ بأوّله، و لم يفصل بينهما بزمان.

و قيل: أراد بالحالّ المرتحل الغازي الّذي لا يرجع عن غزو إلّا عقّبه بآخر «3».

و مثله في «مجمع البحرين» باختصار.

و هذا الحكم مشهور بين العامّة أيضا فتوى و

رواية، سيّما بين قرّائهم.

ففي «التيسير» بعد حكاية التكبير عن ابن كثير، قال: فاذا كبّر في آخر سورة الناس قرأ فاتحة الكتاب و خمس آيات من أوّل سورة البقرة على عدد

______________________________

(1) في الوسائل ج 4 ص 843: (أيّ الرجال خير).

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 842 ح 9 عن ثواب الأعمال ص 57.

(3) نهاية ابن الأثير ج 1 ص 430 في حرف الحاء بعده اللّام.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 493

الكوفيّين الى قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» ثمّ دعا بدعاء الختمة، و هذا يسمّى الحالّ المرتحل.

قال: و في جميع ما قدّمناه أحاديث يرويها العلماء يؤيّد بعضهم بعضا تدلّ على صحّة ما فعله ابن كثير.

و مثله في «نظم الشاطبية» و «طيبة النشر» و في «شرح الأخير»: إنّ قوله:

«حلّا و ارتحالا» إشارة إلى

الحديث المرفوع: «أفضل الأعمال الى اللّه الحالّ المرتحل»

الّذى إذا ختم القرآن عاد فيه، ثمّ حكى فعل ابن كثير، قال: و له في فعله هذا دلائل من آثار مرويّة وردت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة و التابعين و من بعدهم.

الى غير ذلك من كلماتهم المتّفقة على هذا المعنى، إلّا أنّ فيه عندي إشكالا لم أر من تنّبه عليه، و هو أنّ ظاهر الخبرين المرويّين في «الكافي» «2» و «ثواب الأعمال» «3» من طرقنا هو أنّ الحالّ المرتحل هو الذي يفتح القرآن و يأخذ في قراءته و يستمرّ على ذلك مراعيا للترتيب حتّى يختمه، و الظّاهر أنّ المراد أنّ قراءته ليست غير منظّمة، بحيث كلّما بدأ قرأ من موضع فربّما يتكرّر منه قراءة بعض الآيات، و ربّما لا يتّفق منه قراءة بعضها أصلا، بل ينبغي أن يكون اهتمامه

بالختمة التي بها عند اللّه تعالى دعوة مستجابة، و لعلّ

قوله في الخبر الأول: «فتح القرآن و ختمه و كلّما جاء بأوّله ارتحل بآخره»

صريح في ذلك، و كذا الخبر الثاني، فالحال هو المفتتح بالقرائة، و المرتحل هو الفارغ عنه بالاختتام.

______________________________

(1) البقرة: 5.

(2) أصول الكافي ص 594.

(3) ثواب الأعمال ص 57.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 494

و أمّا ما رواه ابن الأثير في «النهاية»، و المرفوع المتقدّم «1» عن «شرح طيبة النشر» فالمراد منهما ان لم يكن ذلك على تقدير صحّة الخبر هو الحثّ و الترغيب على الاستكثار من القرائة و المواظبة عليها بحيث كلّما فرغ عن ختمة شرع في اخرى.

و اين هذا ممّا قدّره ابن كثير و اختلفه و افتراه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم تبعه فيه بعض من تأخّر عنه على غرّة و غفلة، مع أنّ الأخبار ساطعة الأنوار فيما ذكرناه من الحثّ على الانتظام و الاستكثار.

و يؤيّد ما ذكرناه ما يحكى عن الزمخشري في «الفائق» أنّه قال بعد نقل الخبر: أراد بالحالّ المرتحل المواصل لتلاوة القرآن الّذى يختمه ثم يفتتحه، شبّهه بالمسفار الذي لا يقدم على أهله فيحلّ إلّا أنشأ سفرا آخر فيرتحل.

بل قد تأمّل بعض العامّة في صحّة الخبر، و في كون المراد ذلك، و في كون التفسير عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ففي «إبراز المعاني في شرح حرز الأمانى»: أنّ طرق رواية هذا الخبر كلّها تنتهي الى صالح «2» المرّى و هو و إن كان عبدا صالحا، لكنّه ضعيف عند أهل الحديث.

قال البخاري في «تاريخه»: منكر الحديث، و قال النسائي: متروك.

و على تقدير صحته فقد اختلف في تفسيره:

فقيل: المراد به ما ذكره القرّاء.

______________________________

(1) المراد به:

«أفضل الأعمال الحال

المرتحل» رواه في كنز العمال ح 15/ 95 ح 43649.

(2) هو صالح بن بشير، ابو بشر المرّى الواعظ البصري المتوفّى (173)- ميزان الاعتدال ج 2 ص 289.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 495

و قيل: هو إشارة الى تتابع الغزو و ترك الإعراض عنه فلا يزال في حلّ و ارتحال، و هذا ظاهر اللفظ، إذ هو حقيقة في ذلك، و على ما أوّل به القرّاء يكون مجازا.

ثم قال: و قد رووا التفسير فيه مدرجا في الحديث، و لعلّه من بعض رواته.

ثمّ حكى عن ابن قتيبة تفسير الخبر بالوجهين، و ساق الكلام في ترجيح الثاني، و أنّ الخبر ضعيف، فلا ينبغي أن تغتّر بقول مكّى إنّه صحيح، و أنّ التفسير غير منسوب في كثير من طرق الخبر الى النبي صلّى اللّه عليه و آله بل روى الأهوازى، و غيره هذا الخبر بعينه، و لم ينسب التفسير اليه.

إلى أن قال: و لو صحّ هذا الحديث و التفسير لكان معناه الحثّ على الاستكثار من قراءة القرآن و المواظبة عليها، فكلّما فرغ من ختمة شرع في اخرى، اى انّه لا يصرف عن القرآن بعد ختمه، بل تكون القرآن دأبه و ديدنه.

و

في رواية أخرى خرّجها الأهوازى في «الإيضاح»: الحالّ المرتحل الّذى إذا ختم القرآن رجع فيه

، ثمّ ذكر أنّ ابن كثير قد انفرد بهذا الفعل الذي هو التكبير، و زيادة الحمد و الآيات من البقرة الى وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1».

بل عن ابن غلبون «2»: أنّه من طريق البزّى وحده، و لم يفعل هذا قنبل و لا غيره من القرّاء.

بل قد حكى عن أحمد بن حنبل نفيه رأسا. انتهى ملخّصا.

______________________________

(1) البقرة: 5.

(2) هو ابو الحسن طاهر بن أبى التطّيب عبد المنعم

بن عبيد اللّه بن غلبون الحلبي نزيل مصر و المتوفى بها سنة (399)- تقريب النشر ص 12.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 496

و قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ الظاهر من أخبار الباب هو ما مرّت إليه الإشارة من المعنيين المتقدمين.

نعم

قد حكى من طريق العامّة عن أبي بن كعب: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ افتتح من الحمد، ثمّ قرأ من البقرة إلى وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» ثمّ دعا بدعاء الختمة، ثمّ قام.

بل المحكيّ عن الجزري أنّه صار العمل على هذا في أمصار المسلمين حتّى لا يكاد واحد يختم ختمة إلّا و شرع في اخرى، سواء ختم ما شرع فيه أم لم يختمه، نوى ختمه أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنّة الختم، و يسمّون من يفعل هذا الحالّ المرتحل، أى الذي يحلّ في قراءة آخر الختمة و ارتحل الى ختمة اخرى.

و عكس بعض أصحابنا هذا التفسير كالسخاوى، و غيره، فقالوا: الحالّ الّذي يحلّ في ختمة عند فراغه من اخرى، قال: و الأوّل أظهر، و هو الّذي يدلّ عليه تفسير الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: قد سمعت أنّ الأوفق بل الظاهر من أخبار الأئمّة عليهم السّلام الذين هم حملة الوحي و خزّان العلم هو المعنى الّذى مرت إليه الإشارة، بل يعضده ما سمعت من الزمخشري و غيره.

و ممّا ينبغي أن يعلم أنّه يجب تعلّم القرآن و تعليمه كفاية، و يستحبّ عينا أما الأوّل: لحفظ الشريعة، و بقاء المعجزة، و توقّف استنباط الأحكام عليه في الجملة، مع أنّه من المصالح المهمّة الّتى يجب القيام عليها كفاية، مضافا إلى

______________________________

(1) البقرة: 5.

تفسير

الصراط المستقيم، ج 2، ص: 497

اطلاق الأوامر الّتى ظاهرها الوجوب، و الحمل على الوجوب الكفائي أقرب إلى الحقيقة من الحمل على الاستحباب.

هذا مضافا الى ظهور الإجماع عليه، كالإجماع على الثاني الذي هو استحبابهما عينا، مع أنّ الاخبار به مستفيضة.

ففي النبوي: «خياركم من تعلّم القرآن و علّمه» «1».

و

في العلويّ: «تعلّموا القرآن فإنّه ربيع القلوب» «2».

و

عن أبي جعفر عليه السّلام في خبر سعد المتقدم بتمامه: «تعلّموا القرآن» «3».

و

عن الصادق عليه السّلام: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم القرآن أو يكون في تعليمه» «4».

و

في «مجمع البيان» عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: ما من رجل علّم ولده القرآن إلّا توجّ اللّه أبويه يوم القيامة بتاج الملك، و كسيا حلّتين لم ير الناس مثلهما» «5».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قال المعلّم للصّبي: قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال الصّبى: بسم اللّه الرحمن الرحيم، كتب اللّه سبحانه براءة للصّبى، و برائة لأبويه، و براءة للمعلّم من النار «6».

و

في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تعلّموا القرآن،

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 92 ص 186 ح 2 عن أمالى الطوسي ج 1 ص 367.

(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 825 ح 7 عن نهج البلاغة.

(3) الأصول من الكافي ج 2 ص 596.

(4) الكافي ج 2 ص 607 ح 3- و عنه الوسائل ج 4 ص 824 ح 4.

(5) مجمع البيان ج 1 ص 9- و عنه الوسائل ج 4 ص 825 ح 8.

(6) المجمع ج 1 ص 18- و عنه الوسائل ج 4 ص 826 ح 16. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 498

فإنّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل

شاحب اللون، فيقول له: أنا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك، و أظمأت هو أجرك، و أجففت ريقك، و أسبلت دمعك ... إلى أن قال: فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، و يعطى الأمان بيمينه، و الخلد في الجنان بيساره، و يكسى حلّتين، ثمّ يقال له: اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية صعد درجة، و يكسى أبواه حلّتين إن كانا مؤمنين، ثمّ يقال لهما:

هذا لما علّمتما القرآن» «1».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مرّت إليها الإشارة في الباب الثاني.

و من الأمور التي ينبغي أن يعلم أيضا استحباب حفظ القرآن عن ظهر القلب كلّا أو بعضا، و لو مع مقاساة الشدّة و تحمّل المشاقّ.

ففي «المجمع» عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ القرآن حتّى يستظهره و يحفظه أدخله اللّه الجنّة، و شفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت له النار» «2».

و

عنه عليه السّلام قال: «حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنّة يوم القيامة» «3».

و

في «الكافي» عن الصّادق عليه السّلام قال: «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة» «4».

و

فيه، و في «ثواب الأعمال» عنه عليه السّلام قال: «من شدّد عليه في القرآن كان له أجران، و من يسّر عليه كان مع الأوّلين» «5».

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 603.

(2) مجمع البيان ج 1 ص 16- و عنه الوسائل ج 4 ص 826 ح 14.

(3) مجمع البيان ج 1 ص 16.

(4) الكافي ج 2 ص 603 ح 2.

(5) الكافي ج 2 ص 606 ح 2- ثواب الأعمال ص 125 ح 1 و عنهما الوسائل ج 4 ص 833 ح 3.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 499

و

فيهما، عنه عليه السّلام قال: «إنّ الّذى يعالج «1»

القرآن و يحفظه بمشقّة منه و قلّة حفظه له أجران» «2».

اعلم أنّه

قد روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في «مصباح المتهجد»: أنّه من أراد حفظ القرآن فليصلّ أربع ركعات ليلة الجمعة يقرأ في الاولى: فاتحة الكتاب و سورة يس، و في الثانية: الحمد، و الدخان، و في الثالثة: الحمد و الم تنزيل (السجدة)، و في الرابعة: الحمد، و تبارك الذي بيده الملك، فاذا فرغ من التشهّد حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استغفر للمؤمنين، و قال: اللهمّ ارحمني بترك المعاصي أبدا ما أبقيتني، و ارحمني من أن أتكلّف طلب ما لا يعنيني، و ارزقني حسن النظر فيما يرضيك عنّي، أللهمّ يا بديع السماوات و الأرض، ذا الجلال و الإكرام، و العزّة التي لا ترام، أسئلك يا اللّه، يا رحمن، بجلالك و نور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علّمتنيه، و ارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عنّي و أسألك أن تنوّر بكتابك بصري، و تطلق به لساني، و تفرّج به قلبي، و تشرح به صدري، و تستعمل به بدني، و تقوّيني على ذلك و تعينني عليه، فإنّه لا يعينني على الخير غيرك، و لا يوفّق له إلّا أنت «3».

و من الوظائف: أنّه بعد تعلّمه، أو حفظه، كلّا، أو بعضا لا ينبغي تركه تركا يؤدّي إلى النسيان.

ففي «الكافي» بالإسناد عن يعقوب الأحمر، قال: قلت: جعلت فداك إنّه أصابتنى هموم، و أشياء لم يبق شي ء من الخير إلّا و قد تفلّت منّى منه طائفة،

______________________________

(1) عالج الشي ء: زواله.

(2) الكافي ج 2 ص 606 ح 1- ثواب الأعمال ص 137.

(3) مصباح المتهجد ص 184 و عنه البحار ج

89 ص 288 ح 3. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 500

حتى القرآن لقد تفلّت منّى طائفة منه.

قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن، ثم قال عليه السّلام: إنّ الرجل لينسى السورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتى تشرف عليه من درجة من بعض الدّرجات فتقول: السلام عليك، فيقول: و عليك السلام من أنت؟ فتقول: أنا سورة كذا و كذا، ضيّعتني و تركتني، أما لو تمسّكت بى بلغت بك هذه الدرجة ...

الخبر «1».

و قد مرّ أيضا أنّ الأخبار الدالّة بظاهرها على حرمة الترك المؤدّي إلى النسيان

كالمرويّ في «الفقيه» و «عقاب الأعمال» عن الصّادق عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ألا و من تعلّم القرآن ثمّ نسيه لقى اللّه يوم القيامة مغلولا يسلّط اللّه بكلّ آية منها حيّة تكون قرينة الى النار إلّا أن يغفر له «2».

فلعلّه محمول على ترك العمل به، أو على التّرك الناشئ من التهاون و الاستخفاف به.

و يؤيّده أنّ

في «عقاب الأعمال»: «ثمّ نسيه متعمّدا»

، على ما فسرّ في الأخبار.

و يؤيّده أيضا نفى الحرج عنه

في قول الصادق عليه السّلام لسعيد بن عبد اللّه الأعرج، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يقرأ القرآن ثمّ ينساه، ثمّ يقرأه ثمّ

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 608 ح 6- منه الوسائل ج 4 ص 846 ح 4.

(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 12- عقاب الأعمال ص 332. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 501

ينساه، أ عليه فيه حرج؟ فقال عليه السّلام: لا «1».

و

للهيثم بن عبيد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قرأ القرآن ثم نسيه، فرددت

عليه ثلاثا، أ عليه فيه حرج؟ فقال عليه السّلام: لا «2».

و أمّا

النبويّ المرويّ عن طرق الفريقين: «من تعلّم القرآن ثم نسيه لقى اللّه تعالى و هو أجذم» «3».

فقد اختلفوا في معناه: فقيل: إنّه مقطوع اليد، من جذم الرجل (بكسر الذال المعجمة): إذا صار أجذم اى مقطوع اليد.

و مثله

العلوي: «من نكث بيعته لقي اللّه تعالى و هو أجذم، ليست له يد» «4».

و هذا هو المحكّي عن أبي عبيد، و اعترضه ابن قتيبة بأنّ العقوبات من اللّه سبحانه لا تكون إلّا وفقا للذّنوب و بحسبها، و اليد لا مدخل لها في نسيان القرآن.

و قال: الأجذم هاهنا الذي ذهبت أعضاؤه كلّها، يقال: رجل أجذم و مجذوم إذا فتّت أعضاؤه من الجذام و هو الداء المعروف.

و اعترض «5» بأنّ قضيّة الموافقة عقوبة الزاني بفرجه و القاذف بلسانه.

و بأنّ الجذام غير مشتق من الجذم الّذى هو القطع، و إلّا لوجب كلّ داء يقطع الجسد و يفرّق أوصاله كالجدري، و الأكله يسمّى جذاما، و يسمّى المبتلى به

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 633 ح 24.

(2) الكافي ج 2 ص 608 ح 5.

(3) أمالي السيّد المرتضى ج 1 ص 5 و عنه مستدرك الوسائل ج 4 ص 263.

(4) بحار الأنوار ج 2 ص 267.

(5) المعترض هو ابن الأنبارى محمد بن القاسم المتوفى (328)، قال: معنى الحديث أنّه لقي اللّه و هو أجذم الجمّة لا لسان لا يتكلّم و لا حجّة في يده- البحار ج 2 ص 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 502

أجذم، و هو باطل.

مع أنّ الجوهري ذكر أنّه مشتقّ من جذم الرجل (بضمّ الجيم) فهو مجذوم، و لا يقال: أجذم.

و قال الفيّومى: قالوا: و لا يقال فيه من هذا المعنى:

فهو أجذم وزان أحمر.

و قيل «1»: معناه لقيه خالي اليد من الخير، صفرها من الثواب، فكنّى باليد عما تحتويه و تشتمل عليه من الخير.

و قيل: معناه لقيه منقطع السبب، يدلّ عليه قوله: «القرآن سبب بيد اللّه و سبب بأيديكم، فمن نسيه فقد قطع سببه.

و التخصيص في العلويّ المتقدّم بذكر اليد لخصوص البيعة الّتى تباشرها اليد من بين الأعضاء «2».

و قال السيّد المرتضى رضى اللّه عنه بعد الاعتراض على المعنيين الأوّلين ببعض ما سمعت، و غيره ممّا لا يخلو عن تأمّل: إنّه عليه السّلام أراد المبالغة في وصفه بالنقصان عن الكمال، و قد ما كان فيه بالقرآن من الزينة و الجمال.

قال: و التشبيه له بالأجذم من حسن التشبيه و عجيبه، لأنّ اليد من الأعضاء الشريفة الّتى لا يتمّ كثير من التصرفات و لا يوصل الى كثير من المنافع إلّا بها، ففاقدها يفقد ما كان فيه من الكمال، و تفوتها المنافع و المرافق الّتى كان يجعل يده ذريعة الى تناولها، و هذه حال ناسى القرآن و مضيّعه بعد حفظه، لأنّه

______________________________

(1) قائله ابن الأعرابي محمّد بن زياد المتوفى (230).

(2) بحار الأنوار ج 2 ص 268.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 503

يفقد ما كان لابسا له من الجمال و مستحقّا له من الثواب «1».

أقول: أمّا اشتقاقه من الجذام، ففيه مع بعده، أنّه مردود بنصّ أهل اللّغة على خلافه و هجر استعماله كما مرّ عن الجوهري و الفيّومى.

نعم في «القاموس»: جذم كعني (أي بضم الجيم و كسر الذال المعجمة) فهو مجذوم و مجذّم و أجذم، و وهم الجوهري في منعه.

و لكنّه غير صالح للمعارضة لما مرّ، و لو مع تقديم الشهادة على الإثبات، لأنّه فرع التكافؤ، سلّمنا لكنّه لا بدّ

عن الشذوذ و الندرة.

و أمّا المعاني المتقدّمة فلا يبعد الحمل عليها و لو على جهة الاجتماع، فإنّ الكلمة من محمّد و آله صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين لتنصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج، سيّما مع عدم تعاند المعاني في المقام، بل و تناسبها، فإنّه يمكن أن يراد أنّه يلقى اللّه تعالى مقطوع اليد أى قليل الحظّ من الثواب، فاقد الخير و البهجة، فائت الزينة و الكمال.

نعم، قد يقال: إنّ في هذا الحديث سرّا يتّضح بالحديث الآخر الّذي تواتر نقله

عنه صلّى اللّه عليه و آله من طرق الفريقين: «إنّى تارك فيكم الثقلين: أحدهما كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض».

فلمّا شبّه الكتاب بالحبل الّذى يتعلّق به و يجعل سببا للتوقّي الى المراتب، و التوقّي عن المعاطب، عبّر عن تاركه و الغافل عنه بالأجذم، و إنّما يخيّل اليه بكلمة الأجذم الشنعة و اللّفظ المستكره لأنّه إذا انقطع الحبل لم يكن تمسّك، و إذا كانت اليد جذماء أيضا لم يمكن التمسّك، فأراد بذلك أنّ عدم حصول التمسّك

______________________________

(1) أمالى المرتضى ج 1 ص 5.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 504

و الإمساك إنّما هو لأمر راجع الى اليد الممسكة لا إلى الحبل، فإنّ الممدود من السماء الى الأرض و هو القرآن باق بحاله.

و يمكن أن يكون المراد من النسيان ترك العمل بما فيه من ولاية آل محمّد عليهم السّلام، كقوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ «1»، فيلقى اللّه تعالى حينئذ مقطوع اليد عن التشبّت بحبل ولائهم عليهم السّلام فإنّهم حبل اللّه المتين الّذي أمرنا بالتمسك به.

و من أحكام القراءة: أنّه يستحب ختم القرآن في ثلاث و صاعدا إلى شهر، مع الاهتمام في إيثار الترتيل و

حسن التدبّر و سائر الوظائف على كثرة القراءة.

ففي «العيون» بالإسناد عن إبراهيم بن العبّاس، قال: ما رأيت الرّضا عليه السّلام سئل عن شي ء قطّ إلّا علمه، و لا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوّل إلى وقته و عصره، و كان المأمون يمتحنه بالسّئوال عن كلّ شي ء فيجيب فيه، و كان كلامه كلّه، و جوابه، و تمثّله انتزاعات من القرآن، و كان يختمه في كلّ ثلاث و يقول عليه السّلام: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت، و لكنّى ما مررت بآية قطّ إلّا فكّرت فيها، و في أيّ شي ء أنزلت، و في أي وقت، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة «2».

و

في «الإقبال» للسيّد ابن طاوس رحمة اللّه عليه: عن وهب بن حفص، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته: الرّجل في كم يقرأ القرآن؟

______________________________

(1) الانعام: 44.

(2) العيون ج 2 ص 180 ح 4، الأمالى ص 525 ح 14، و عنهما البحار ج 49 ص 90 ح 3، و ج 92 ص 204 ح 1. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 505

قال عليه السّلام: في ستّ فصاعدا، قلت: في شهر رمضان؟

قال عليه السّلام: في ثلاث و صاعدا «1».

و

عن ابن قولويه باسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر» «2».

و مثله في «الكافي» عنه عليه السّلام بعد ما قيل له: «أقرأ القرآن في ليلة» «3».

و

فيه بالإسناد: عن حسين بن خالد، عنه عليه السّلام قال: قلت له: «كم أقرا القرآن؟ قال عليه السّلام: اقرأه أخماسا، أقرأه أسباعا، أما إنّ عندي مصحفا مجزّءا أربعة عشر جزءا «4».

و

فيه: عن عليّ بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير

أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر، فقال له: جعلت فداك أقرأ القرآن في ليلة؟ قال عليه السّلام: لا، فقال: ففي ليلتين؟ فقال: لا، حتّى بلغ ستّ ليال، فأشار بيده و قال: ها، ثم قال عليه السّلام: يا أبا محمّد انّ من كان قبلكم من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ القرآن في شهر و أقلّ، إنّ القرآن لا يقرا هذرمة، و لكن يرتّل ترتيلا، إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها و تعوّذت باللّه من النار، فقال أبو بصير: أقرأ القرآن في رمضان في ليلة؟

فقال عليه السّلام: لا، فقال: في ليلتين؟ فقال عليه السّلام: لا، فقال: في ثلاث؟ فقال عليه السّلام: ها! و أومأ بيده، نعم، إنّ شهر رمضان لا يشبهه شهر من الشهور، له حقّ و حرمة، أكثر

______________________________

(1) إقبال الأعمال ص 110 و عنه الوسائل ج 4 ص 864 ح 9.

(2) الإقبال ص 110 عن ابن قولويه.

(3) الكافي ج 2 ص 617 ح 1.

(4) الكافي ج 2 ص 617 ح 3. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 506

من الصلاة ما استطعت «1».

و مثله عنه بطريق آخر، و زاد بعد قوله: ترتيلا: «و إذا مررت فيها ذكر الجنّة فقف عندها و سل اللّه الجنّة» «2».

و

فيه: عن عليّ بن المغيرة، عن أبى الحسن عليه السّلام قال: قلت له: إنّ أبي سأل جدّك عليه السّلام عن ختم القرآن في كلّ ليلة، فقال له جدّك: في كلّ ليلة، فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدّك: في شهر رمضان فقال له أبي نعم ما استطعت، فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثمّ ختمته بعد أبي، فربما زدت و ربما نقصت على

قدر فراغي و شغلي و نشاطي، و كسلى، فاذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ختمة: و لعليّ عليه السّلام اخرى، و لفاطمة عليهما السّلام أخرى، ثمّ للأئمّة عليهم السّلام حتّى انتهيت إليك، فصيّرت لك واحدة، منذ صرت في هذه الحال، فأيّ شي ء لي بذلك؟ قال عليه السّلام: لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة، قلت: اللّه أكبر فلي بذلك؟ قال عليه السّلام: نعم، ثلاث مرّات «3».

أقول: و قد استدلّ به على استحباب إهداء ثواب القراءة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و الأئمّة عليهم السّلام و إلى المؤمنين من الأحياء و الأموات، و لا بأس بذلك، سيّما بعد الاعتضاد بالاعتبار، و بعموم ما دلّ على من عمل من المسلمين من ميّت عملا صالحا أضعف اللّه له أجره للّذى يفعله و للميّت، و خصوص ما دلّ على إهداء خصوص السّور لأهل القبور، و لمن يريد صلته من الأموات.

بل

في «دعوات» الرّاوندى: عن ابن عبّاس: أنّ رجلا ضرب خباء على

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 618 ح 5 و عنه الوسائل ج 4 ص 862 ح 3.

(2) الكافي ج 2 ص 617 ح 2 و عنه الوسائل ج 4 ص 862 ح 4.

(3) الكافي ج 2 ص 618 ح 4. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 507

قبر، و لم يعلم أنّه قبر، فقرأ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فسمع صالحا يقول:

هي المنجية، فذكر ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «هي المنجية من عذاب القبر» «1».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من دخل المقابر و قرأ سورة يس خفّف اللّه عنهم يومئذ، و كان له بعدد من فيها حسنات» «2».

و

أمّا الإهداء للأحياء فلا بأس به بعد دلالة الخبر المتقدّم عليه في الجملة.

بل و

عن «مشكاة الأنوار» و «عدّة الداعي» عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ما يمنع أحدكم أن يبرّ والديه حيّين و ميّتين، يصلّى عنهما، و يتصدّق عنهما، و يصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، و له مثل ذلك فيزيده اللّه ببرّه خيرا كثيرا» «3».

و من أحكام القرآن: أنّه يستحبّ تصحيح المصحف من الأغلاط مادّة و هيئة إذا كان ملكا له، أو مأذونا من مالكه، و لو بالفحوى، أو شاهد الحال بل يستحبّ تصحيح المصاحف الموقوفة للموقوف عليهم، أو بإذنهم إذا لم يؤدّ إلى تضييع الخطوط، أو الورقة بالمحو، و المزق، و الخرق.

و هل يجوز إثبات الساقط أو الممحوّ منها بالخطّ الذي دونها في الحسن؟

الأقرب الجواز، إلّا أن يكون بعيدا عن مجانسته جدّا أو بالغا في الرّدائة بحيث لا يكاد يقرأ.

و منها: أنّه يستحبّ اتّخاذ المصحف في البيت و تعليقه فيه، من غير أن يترك القرائة منه.

______________________________

(1) الدعوات ص 279 ح 811 و عنه البحار ج 82 ص 64 ح 8.

(2) مجمع البيان ج 8 ص 413.

(3) بحار الأنوار ج 74 ص 46 ح 7 عن الكافي ج 2 ص 159 مع تفاوت.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 508

في «الكافي» و «ثواب الأعمال» عن الصادق عليه السّلام، قال: «إنّه ليعجبني أن يكون في البيت المصحف يطرد اللّه عزّ و جلّ به الشياطين» «1».

و

في «قرب الإسناد» عن الباقر عليه السّلام، قال: «يستحبّ أن يعلّق المصحف في البيت، و يتّقى به من الشياطين، قال: و يستحبّ أن لا يترك من القرائة فيه» «2».

و

في «الكافي»: عن الصادق عليه السّلام قال: «ثلاثة يشكون إلى اللّه عزّ و جلّ:

مسجد خراب

لا يصلّى فيه أهله، و عالم بين جهّال، و مصحف معلّق قد وقع عليه الغبار، لا يقرأ فيه» «3».

و من أحكام القرآن: حرمة بيعة و شرائعه، صرّح جماعة من الأصحاب بحرمتها، بل مطلق نقله، و انتقاله بالعقود المعاوضية، كلّا أو بعضا، و لو ورقة منه، أو آية، أو كلمة.

و هو فتوى «النهاية»، و «السرائر» و «الشرائع» و «الدروس»، و «جامع المقاصد»، و غيرها، بل عن «نهاية الأحكام» منع الصحابة عنه.

و الأصل فيه أخبار مستفيضة ظاهرة، أو صريحة في تحريم بيعه.

و فيها كما في الفتاوى أنّه إنّما يباع الجلد و الورق، و غيرهما من الآلات.

ففي «الكافي» عن عبد الرحمن بن سليمان، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ المصاحف لن تشترى، فاذا اشتريت فقل: إنّما أشترى منك

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 613 ح 2- ثواب الأعمال ص 129 ح 1.

(2) قرب الاسناد ص 42 و عنه البحار ج 92 ص 195 ح 2.

(3) الكافي ج 2 ص 613 ح 3. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 509

الورق و ما فيه من الأدم و حليته و ما فيه من عمل يدك بكذا و كذا «1».

قيل: و لعلّ المراد ما عملت يده ممّا عدا الكتابة.

و

عن سماعة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تبيعوا المصاحف، فإنّ بيعها حرام، قلت: فما تقول في شرائها؟ فقال عليه السّلام: اشتر منه الدفتين، و الحديد «2»، و الغلاف، و إيّاك أن تشترى منه الورق و فيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراما، و على من باعه حراما «3».

و لعلّ المراد في الخبر الأوّل حال التجرّد، أو خصوص الأجزاء المجرّدة من كتابة القرآن، و في الثاني ما اشتمل عليه،

و لذا قيل: إنّ

قوله: «و فيه القرآن»

يعنى تجعله المقصود بالشراء، فيلزم التحريم.

و

عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها، فقال عليه السّلام: لا تشتر كتاب اللّه، و لكن اشتر الحديد، و الجلود، و الدفتين، و قل: أشتر هذا منك بكذا و كذا «4».

و

عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألته عن شراء المصاحف، فقال عليه السّلام: إذا أردت أن تشترى فقل: أشترى منك ورقه و أديمه و عمل يديك بكذا و كذا «5».

أقول: و الّذى يظهر من أخبار الباب بالتأمّل وفاقا لبعض أجلّة المحققين

______________________________

(1) فروع الكافي ج 5 ص 121 و عنه الوسائل ج 17 ص 158.

(2) الحديد الذي يعلّق على جلد المصحف ليغلق و يقفل كما هو المشهود في زماننا (تعليقات الغفاري على الكافي).

(3) الوسائل ج 17/ 160 عن التهذيب ج 7 ص 231.

(4) فروع الكافي ج 5 ص 121 ح 1 و عنه الوسائل ج 17 ص 158.

(5) الوسائل ج 17 ص 159 ح 6 عن التهذيب ج 6 ص 365.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 510

كصاحب الجواهر و غيره، بل و لظاهر الأكثر على ما تسمع أنّ النهى نهى تعظيم لا نهى تحريم، و ذلك لأنّ قضيّة تعظيم كتاب اللّه و كلامه أن لا يساوم في معرض البيع و الشراء، و لا يشترى بآيات اللّه ثمنا قليلا، بل يجعل البيع الصوري بالنسبة الى الجلد، و الغلاف، و غيرهما ممّا يتعلّق به، و إن كان المقصود الأصلى هو الكتابة، بل يتفاوت البذل باختلافها في مراتب الجودة.

و بالجملة قضيّة الأصول و الإطلاقات و العموم جواز بيعه، بل عليه السيرة القطعيّة في سائر الأعصار

و الأمصار، و إن اشتهر بين أهل العرف من جهة حسن الأدب تسمية بيعه أو ثمنه هديّة.

بل

في خبر عنبسة الورّاق، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف، فإن نهيتني لم أبعها؟ فقال عليه السّلام: أ لست تشترى ورقا و تكتب فيه؟

قلت: بلى و أعالجها، قال عليه السّلام: لا بأس بها «1».

بل و لعلّ فيه إشارة إلى إثبات المقتضى لجواز البيع و نفى المانع عنه، و ذلك أنّ كلّا من الورق و المداد الذي يكتب به كانا قبل الكتابة ملكا له، و مجرّد الكتابة غير موجب لخروج شي ء منهما عن ملكه، و لا لخروجهما عن قابليّة الانتقال، سواء قلنا إنّ المكتوب و هو النقوش الواقعة على سطح الورق من الأعيان الّتى يكون بإزائها جزء من الثمن كما هو الأظهر، أو قلنا: إنّها من الأعراض و الصفات الّتى تزيد بها قيمة الورق.

هذا مضافا الى أنّ ما يحرم بيعه أو نقله مطلقا إمّا أن يكون هو خصوص النقوش، أو النقوش بمحالّها من الورق، أو الورق المنقوش باعتبار موضع

______________________________

(1) الوسائل ج 17 ص 159 عن الكافي ج 5 ص 122 ح 4.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 511

الكتابة أو مطلقا، و هو على الوجوه كلّها ملك للبايع قبل البيع، و أمّا بعده فإن بقي على ملكه فهو كما ترى لاستلزامه الشركة و توقّف جواز التصرّف فيه على إذنه، و غيره ممّا لا يلتزم به أحد، و إن انتقل إلى المشترى بجزء من الثمن فهو المطلوب، أو تبعا، أو مجانّا، أو قهرا فهو خلاف المقصود، بل لا أرى أحدا يلتزم بنفي خيار العيب و الغبن، و خلاف الوصف إذا اشتمل على أغلاط، و سقطات

كثيرة، أو اختلاف في خطّ، أو مخالفة للوصف أو غير ذلك، كما لا ينبغي أن يلتزم أحد بأنّ خطّ المصحف لا يدخل في الملك شرعا.

نعم الذي يظهر من الأخبار كراهة البيع الصوري بالنسبة اليه، تعظيما لكتاب اللّه تعالى، كما علّق عليه النهى في الأخبار، و أما صحّته فلا ينبغي التأمّل فيها بعد ما سمعت من السيرة القطعيّة و غيرها و إطلاق الفتاوى في مقام شرائط البيع و غيره، حتّى في مسألة بيع المصحف من الكافر الظاهر في جواز بيعه من المسلم من غير تقييد بالآلات.

مضافا الى ما

في خبر عبد الرحمن بن أبى عبد اللّه، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ أمّ عبد اللّه بن الحارث أرادت أن تكتب مصحفا فاشترت ورقا من عندها و دعت رجلا فكتب لها على غير شرط، فأعطته حين فرغ خمسين دينارا، و انّه لم تبع المصاحف إلّا حديثا» «1».

لظهوره في كون السيرة حاصلة في زمانه عليه السّلام أيضا، و إن كانت فيه إشارة الى حسن الأدب للسلف الصّالح حيث كانوا لا يشارطون الاجرة على الكتابة.

كما أشير إليه أيضا مع دلالته على المطلوب من وجهين، أو وجوه

في خبر

______________________________

(1) الوسائل ج 17 ص 160 ح 10 عن التهذيب ج 6 ص 366. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 512

روح بن عبد الرحيم قال: سألت الصادق عليه السّلام من شراء المصاحف و بيعها، فقال عليه السّلام: إنّما كان يوضع الورق عند المنبر، و كان ما بين المنبر و الحائط قدر ما تمرّ الشاة، أو رجل منحرف، قال: فكان الرّجل يأتى فيكتب من ذلك، ثمّ إنّهم اشتروا بعد، قلت: فما ترى في ذلك؟ فقال لي: أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه، قلت: فما

ترى أن أعطي على كتابته أجرا؟ قال عليه السّلام: لا بأس، و لكن هكذا كانوا يصنعون «1».

و

خبر أبى بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع المصاحف و شرائها، فقال عليه السّلام: إنّما كان يوضع عند القامة «2» و المنبر، قال: و كان بين الحائط و المنبر قيد «3» ممّر شاة أو رجل منحرفا، فكان الرّجل يأتى و يكتب البقرة، و يجي ء آخر و يكتب السورة، كذلك كانوا ثمّ اشتروا بعد ذلك، قلت: فما ترى في ذلك؟

فقال عليه السّلام: أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه «4».

حيث إنّ الاقتصار في الصدر الأوّل على الكتابة دون البيع و الشراء إنّما كان للتعظيم، ثمّ استمرّت الطريقة على المعاملة.

و قوله بعد السؤال عمّا جرت السيرة عليه من شراءه:

«أن اشترى أحبّ إليّ من أن أبيعه»

كالصّريح في جوازهما، و إن كان بذل الثمن بإزائه أحبّ إليه من أخذه به.

______________________________

(1) الوسائل ج 17 ص 159 ح 4 عن الكافي ج 5 ص 121 ح 3.

(2) قال المحدّث الكاشاني في الوافي: أراد بالقامة الحائط فإنّ حائط مسجد الرّسول (ص) كان قدر قامة.

(3) القيد: القدر- الصحاح- قيد ج 2 ص 529.

(4) الوافي ج 3 ص 38- الوسائل ج 17 ص 160 عن التهذيب ج 6 ص 366.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 513

و بالجملة لا ينبغي للفقيه التأمّل في الجواز مع الكراهة، و ان اختلفت شدّة و ضعفا بالنسبة الى البيع و الشّراء، حسبما يدلّ عليه الخبران، مضافا الى شهادة الإعتبار بذلك.

بل قد يقال: بكراهة بيع غير المصحف أيضا من الكتب المشتملة على بعض الآيات قلّت أو كثرت.

بل و كتب الحديث المشتملة على أخبار أولياء اللّه الذين كلامهم كلام اللّه تعالى.

بل و كتب

اللّغة سيّما المشتملة على تفسير لغات الكتاب و السنّة، و أولى منها التفاسير و ان لم يشتمل على تمام الآية.

و كذا كتب الفقه المشتملة على الآيات و الأخبار، و الخطب سهل بعد ما سمعت، و التعظيم و الإكرام مطلوب في كلّ مقام.

هذا كلّه بالنسبة إلى بيعه من المسلمين، و أمّا بيعه من أعداء الدين فالمشهور بين المتأخّرين عدم جواز بيعه من الكافر و لو على الوجه الّذى يجوز بيعه من المسلم، لفحوى ما دلّ على عدم تملّك الكافر للمسلم، من الآية و الخبر، و انّ الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.

مضافا إلى فحاوي ما دلّ على وجوب التعظيم للشعائر، خصوصا القرآن، و حرمة الإهانة به، و نفى السلطنة و السبيل لهم، و أنّ في تملّكهم له إهانة للإسلام، و أهله.

بل قد يلحق به أبعاضه و كلماته المتّصلة المتفرّقة، بل المقطّعة المكتوبة بالحروف، أو الرقوم الهنديّة، أو الخطوط المختلفة الغريبة جوهريّة و عرضيّة،

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 514

و لو بالانطباع و العكس، و منسوخ الحكم و غيره، و تمام الكلام فيه و في سائر الفروع في الفقه.

و منها: أنّه يكره تذهيبه بمعنى استعمال الذّهب المحلول في جداوله، و مفتتحات سوره و كتابة أعشاره، و أخماسه، و أجزائه، و أعلام آياته، و وقوفه، و اختلافات قراءاته، و وجوه إعرابه، و بين سطوره، و أطراف صفحاته.

لموثّق سماعة، قال: سألته عن رجل يعشّر المصاحف بالذّهب، فقال عليه السّلام: لا يصلح، قال: إنّها معيشتي، فقال عليه السّلام: إنّك إن تركته للّه جعل اللّه لك مخرجا «1».

و ربما يقال بالحرمة نظرا الى نفى الصلاحيّة في الخبر الظاهر في الحرمة و الفساد و على ما هو أظهر الأقوال فيه.

و فيه: أنّه مع

تسليمه ينبغي الخروج عنه، و لو لشهرة الفتوى و ظاهر الأخبار.

كخبر محمّد بن الورّاق، قال: عرضت على أبي عبد اللّه عليه السّلام كتابا فيه قرآن معشّر بالذهب، و كتب بآخره سورة بالذهب، فأريته إيّاه، فلم يعجب فيه شيئا إلّا كتابة القرآن بالذهب، فإنّه قال عليه السّلام: لا يعجبني أن يكتب القرآن إلّا بالسّواد كما كتب أوّل مرّة «2».

و فيه أيضا دلالة على استحباب كتابته بالسّواد، دون غيره.

______________________________

(1)

الوسائل ج 17 ص 162 ح 1 عن التهذيب ج 6 ص 366 و فيه: إنّه معيشتي.

(2) الكافي ج 2 ص 629 ح 8- التهذيب ج 6 ص 367 ح 177 و الوسائل عنهما ج 17 ص 162 ح 2.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 515

و

خبر آخر: «لا بأس بتحلية المصاحف و السيوف بالذهب و الفضة» «1».

و نفى البأس صريح في نفى التحريم، و إن استفيدت الكراهة منه، أو من غيره على ما مرّ.

بل و ممّا

روى في كتاب «المختصر» للحسن بن «2» سليمان، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في علامات ظهور القائم عجلّ اللّه تعالى فرجه قال: «يكون ذلك إذا رفع العلم، و ظهر الجهل، و كثر القرّاء، و قلّ العمل و حليت المصاحف، و زخرفت المساجد» «3».

______________________________

(1)

الوسائل ج 5 ص 105 عن الكافي ج 6 ص 475 ح 3 و فيه: «ليس بتحلية المصاحف و السيوف بالذهب و الفضّة بأس».

(2) الحسن بن سليمان بن خالد الحلّى المجاز من الشهيد الأوّل سنة (757)- الذريعة ج 20 ص 182.

(3) بحار الأنوار ج 51 ص 70 عن كمال الدين ج 1 ص 361- 364.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 517

الباب الرابع عشر

في جملة من الفوائد الّتى ينبغي التنبيه عليها

تفسير الصراط المستقيم، ج 2،

ص: 519

و هي أمور:

الأوّل: أنّ القرآن شفاء من كلّ داء.

لا ريب في أنّ القرآن بجميع معانيه، و بطونه، و إشاراته، و لطائفه و حقائقه شفاء من العيوب النفسيّة، و الأمراض القلبيّة الّتى هي الجهالات و الضلالات، و الانحرافات، و متابعة الأهواء النفسانيّة، و الوساوس الشيطانيّة، و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1».

و

روى العيّاشى عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: «إنّما الشفاء في علم القرآن لقوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ «2» لأهله لا شكّ فيه و لا مرية» «3».

و

في تفسير الإمام عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ هذا القرآن هو النور المبين، و الحبل المتين، و العروة الوثقى، و الدرجة العلياء، و الشفاء الأشفى، و الفضيلة الكبرى، و السعادة العظمى، من استضاء به نوّره اللّه، و من عقد به أموره عصمه اللّه، و من تمسّك به أنقذه اللّه، و من لم يفارق أحكامه رفعه اللّه، و من استشفى به شفاه اللّه، و من آثره على ما سواه هداه اللّه، و من طلب الهدى في غيره أضلّه اللّه».

و قد مرّ كثير من الأخبار المتعلّقة بالمقام في الباب الثاني.

______________________________

(1) الإسراء: 82.

(2) الإسراء: 82.

(3) تفسير الامام ص 203 و عنه البحار ج 92 ص 31 ح 34.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 520

تفسير الصراط المستقيم ج 3 5

و كما أنّ باطنه و معانيه، و علمه، و العمل به شفاء من الأمراض الباطنيّة كذلك ألفاظه و حروفه شفاء من الأمراض البدنيّة، ففي معانيه شفاء الروح و الجنان بنور العلم و الإيمان، و في ألفاظه

شفاء الأبدان، و قوّة الأركان، بل و في كلّ من الأمرين كلّ من الأمرين، و لذا يجوز بل يستحبّ الاستشفاء به من الأمراض الظاهرة و الباطنة.

و أمّا ما

في «البصائر» عن الحارث «1» النصرى قال: رأيت على بعض صبيانهم تعويذا، فقلت: جعلني اللّه فداك أما يكره تعويذ القرآن يعلّق على الصبيّ؟ قال عليه السّلام: «إنّ ذا ليس بذا، إنّما ذا من ريش الملائكة، إنّ الملائكة تطأ فرشنا، و تمسح رؤس صبياننا» «2».

فلا دلالة فيه على الكراهة تقريرا، و لا فحوى كما لا يخفى، سيّما بعد تظافر الأخبار على الجواز، بل على الاستحباب.

ففي «طبّ الأئمّة»: عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رقية العقرب و الحيّة و النشرة و رقية المجنون و المسحور الذي يعذّب؟ فقال:

يا بن سنان لا بأس بالرقية و العوذة و النشرة إذا كانت من القرآن، و من لم يشفه فلا شفاه اللّه تعالى، و هل شي ء أبلغ في هذه الأشياء من القرآن، أو ليس اللّه يقول:

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «3»؟ أليس يقول اللّه جلّ ثناؤه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «4»؟ سلونا نعلّمكم و نوقفكم على قوارع القرآن لكلّ داء «5».

______________________________

(1) هو الحارث بن المغيرة النصرى البصري الموثّق الراوي عن الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السّلام.

(2) بحار الأنوار ج 26 ص 354 ح 12 عن البصائر ص 26.

(3) الإسراء: 82.

(4) الحشر: 21.

(5) بحار الأنوار ج 95 ص 4 عن طبّ الأئمّة ص 48.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 521

و

عنه عليه السّلام في الرّجل تكون به العلّة فيكتب له القرآن فيعلّق عليه أو يكتب

له فيغسله و يشربه، قال: لا بأس به كلّه «1».

و

عنه عليه السّلام: «لا بأس بالتعويذ أن يكون على الصبيّ و المرأة» «2».

و

عن الحلبي، قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السّلام هل نعلّق شيئا من القرآن و الرّقى على صبياننا؟ فقال عليه السّلام: نعم إذا كان في أديم تلبسه الحائض، و إذا لم تكن في أديم لم تلبسه المرأة «3».

و

سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن التعويذ يعلّق على الصبيان، فقال عليه السّلام: علّقوا ما شئتم إذا كان فيه ذكر اللّه تعالى «4».

و

عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام: أ يتعوّذ بشي ء من هذه الرقى؟ قال عليه السّلام: لا، إلّا من القرآن، إنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: إنّ كثيرا من الرقى و التمائم من الإشراك «5».

و

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ كثيرا من التمائم شرك» «6».

أقول: و ذلك لما فيه من التوسّل بغير اللّه، و لو بالأرقام و الخطوط و اللّغات التي لا معرفة بها لعامّة الناس، و قد بقي كثير منها عند ضعفة الناس، و غثائهم و عوامّهم و نسوانهم، بل عند الأحبار، و الرهبان، و القسّيسين، و غيرهم ممّن يرجع إليهم ضعفة الناس في ذلك، فإنّ منهم من كان يفزع في مهمّات أموره الى صور الكواكب و هياكلها، و منهم من يستمدّ من روحانيّاتها و قويها، و الملائكة

______________________________

(1) البحار ج 95 ص 5 ح 6 عن طبّ الائمّة ص 49.

(2) البحار ج 95 ص 5 ح 7 عن طبّ الائمّة ص 49.

(3) بحار الأنوار ج 95 ص 5 ح 8 عن طبّ الأئمّة ص 49.

(4) البحار ج 94 ص 192 ح 2 عن قرب الاسناد ص 52.

(5) البحار ج 95 ص 5

ح 3 عن طبّ الائمّة ص 48.

(6) البحار ج 95 ص 5 ح 4 عن طبّ الائمّة ص 49.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 522

الموكّلين بها.

و منهم من يستمدّ من النور و الظلمة.

و منهم من يرجع الى الأرواح الظلمانيّة، و القوى الناسوتيّة.

و منهم من يرى التأثير في قوى الحروف و الألفاظ و الأشكال و الأعداد، و تمزيج القوى السالفة بالصور العالية.

و عبدة الأصنام كانوا يرجعون الى أصنامهم و يتقربون بها.

و بالجملة كان الناس في الجاهليّة على فرق شتّى في الإلحاد و الكفر و الشرك و قد بقيت عندهم كثير من الآداب و العادات و الرسوم الّتى تنتهي إليها عند التأمّل فلا تغفل.

قال ابن الأثير في «النهاية»: قد تكرّر ذكر الرقية، و الرقا، و الرّقى، و الاسترقاء في الحديث، و الرقية: العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمّى، و الصرع، و غير ذلك من الآفات، و قد جاء في بعض الأحاديث جوازها، و في بعضها النهى عنها، و الأحاديث في القسمين كثيرة.

و وجه الجمع بينهما، أنّ الرقى يكره منها ما كان بغير اللّسان العربي، و بغير أسماء اللّه و صفاته و كلامه في كتبه المنزلة، و أن يعتقد أنّ الرقيات نافعة لا محالة فيتّكل عليها، و إيّاها أراد

بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما توكّل من استرقى» «1».

و لا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوّذ بالقرآن و أسماء اللّه تعالى و الرقى المرويّة. و لذا

قال صلّى اللّه عليه و آله للذي رقى بالقرآن و أخذ عليه أجرا: «من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حقّ» «2».

و

كقوله صلّى اللّه عليه و آله في حديث جابر: «اعرضوها عليّ فعرضناها، فقال (ص): «لا

______________________________

(1) الإتحاف ج 9 ص 389.

(2)

مصنّف ابن أبي شيبة ج 7 ص 412. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 523

بأس بها إنّما هي مواثيق» «1».

كأنّه صلّى اللّه عليه و آله خاف أن يقع فيها شي ء ممّا كانوا يتلفّظون به و يعتقدونه من الشرك في الجاهليّة، و ما كان بغير اللسان العربي ممّا لا يعرف له ترجمة، و لا يمكن الوقوف عليه فلا يجوز استعماله.

و أمّا

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا رقية إلّا من عين أو حمة «2»» «3»

فمعناه لا رقية أولى و أنفع، كما

قيل: لا فتى الّا عليّ عليه السّلام.

و قد أمر صلّى اللّه عليه و آله غير واحد من أصحابه بالرقية، و سمع بجماعة يرقون فلم ينكر عليهم.

و أمّا الحديث الآخر في صفة أهل الجنّة الذين يدخلونها بغير حساب:

«الذين لا يسترقون و لا يكتوون، و على ربّهم يتوكّلون» «4».

فهذا من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شي ء من علائقها، و تلك درجة لا يبلغها إلّا الخواصّ، و أمّا العوامّ فمرخصّ لهم في التداوى و المعالجات «5».

أقول: و ذلك بأنّ يكون الاعتماد فيها على اللّه سبحانه الذي جعل فيها تلك الآثار، كالاصطلاء بالنار، ثمّ بأن يرى الآثار منه سبحانه من دون الوسائط و إن كان الإفاضة منه سبحانه عند دعاء العبد، أو توسّله بتلك الأمور، بل بالدعاء أيضا من جهة محض العبوديّة و الذلّة، و إظهار الانقياد و الطاعة، مع أنّ الإغماض الكلّي عن المقاصد أو عن التوسّل إليها بمثل هذه الأمور، ثمّ بعدها مراتب أخر

______________________________

(1) مجمع الزوائد ج 5 ص 111.

(2) سنن أبى داود ح 3884- و سنن الترمذي ح 2057.

(3) مجمع الزوائد ج 10 ص 406.

(4) نهاية ابن الأثير ج 2 ص 254- 255.

(5)

نهاية ابن الأثير ج 2 ص 254- 255.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 524

سنشير إليها في تفسير الآيات المتعلّقة بالدعاء إنشاء اللّه تعالى.

و كيف كان فقد ورد في كثير من الأخبار الاستشفاء و الاسترقاء بكثير من الآيات.

ففي «الكافي» عن الأصبغ بن نباته عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال: و الّذى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالحقّ، و أكرم أهل بيته ما من شي ء يطلبونه «1» من حرز، أو غرق، أو سوق، أو إفلات دابّة من صاحبها، أو ضالّة، أو آبق الّا و هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسئلني منه.

قال: فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عمّا يؤمن من الحرق و الغرق فقال عليه السّلام: اقرأ هذه الآيات: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «2» وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «3»، فمن قرأها فقد أمن الحرق و الغرق، قال: فقرأها رجل، فاضطرمت النار في بيوت جيرانه، و بيته وسطها، فلم يصبه شي ء.

ثم قال إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ دابّتى استصعبت عليّ، و أنا منها على وجل، فقال: اقرأ في اذنها اليمنى: وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «4» فقرأها فذلّت له دابّته.

و قام إليه رجل آخر، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أرضى أرض مسبعة، و إنّ السّباع تغشى منزلي و لا تجوز حتى تأخذ فريستها «5»، فقال: اقرأ:

______________________________

(1) في المصدر: تطلبونه.

(2) سورة الأعراف: 196.

(3) سورة الزمر: 67.

(4) آل عمران: 83.

(5) الفريسة (بفتح الفاء) ما تفترسه و تصتاده السبع. تفسير الصراط المستقيم،

ج 2، ص: 525

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «2» فقرأهما الرّجل فاجتنبته السباع.

ثمّ قام اليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ في بطني ماء أصفر «3»، فهل من شفاء؟ فقال: نعم بلا درهم و لا دينار، و لكن أكتب على بطنك: آية الكرسي.

و تغسلها و تشربها و تجعلها ذخيرة في بطنك، فتبرأ بإذن اللّه عزّ و جلّ، ففعل الرّجل، فبرئ بإذن اللّه.

ثم قام إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عن الضالّة، فقال: اقرأ يس في ركعتين، و قل: يا هادي الضالّة ردّ عليّ ضالّتي، ففعل، فردّ اللّه عزّ و جلّ عليه ضالّته.

ثمّ قام إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عن الآبق، فقال: اقرأ:

أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فقالها الرّجل فرجع إليه الآبق.

ثم قام إليه الآخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنى عن السّرق، فإنّه لا يزال قد يسرق لي الشي ء بعد الشي ء، ليلا، فقال عليه السّلام: اقرأ إذا أويت إلى فراشك: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً

______________________________

(1) التوبة: 128.

(2) التوبة: 129.

(3) هي الصغراء التي تدفع من

المثانة ممزوجة بالبول. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 526

«1».

ثم قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من يأت بأرض قفر فقرأ هذه الآية: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «2» حرسته الملائكة و تباعدت عنه الشياطين.

قال: فمضى الرّجل، فاذا هو بقرية خراب فبات فيها، فلم يقرأ هذه الآية فتغشّاه الشيطان، فإذا هو أخذ بخطمه «3»، فقال له صاحبه: أنظره و استيقظ الرجل، فقرأ الآية، فقال الشيطان لصاحبه، أرغم اللّه أنفك أحرسه الآن حتى يصبح، فلمّا أصبح رجع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره، و قال له: رأيت في كلامك الشفاء و الصدق، و مضى بعد طلوع الشمس فاذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعا في الأرض «4».

قسّم ابن فهد في «عدّة الداعي» هذا الباب من القرآن الى ثلاثة أقسام:

الاستشفاء، و الاستكفاء، و ما يتعلّق بإجابة الدعاء.

و روى في الأوّل

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه شك اليه رجل وجعا في صدره، فقال (ص): استشف بالقرآن فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «5». «6»

______________________________

(1) الإسراء: 110- 111.

(2) الأعراف: 54.

(3) الخطم بفتح الخاء: أنف الإنسان، منقار الطائر.

(4) أصول الكافي ج 2 من الطبع الحديث ص 624- 626.

(5) سورة يونس: 57.

(6) عدّة الداعي ص 274- الكافي ج 2 ص 600.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 527

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «شفاء أمّتي في ثلاث آيات من كتاب اللّه عزّ و جلّ، أو لعقة «1» من عسل، أو شرطه حجّام» «2».

و

عن الباقر عليه السّلام:

«من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شي ء» «3».

و

عن أبي الحسن عليه السّلام: «من قرأ آية الكرسي على مريض، أو محموم، كانت عليه الحمّى بردا و سلاما، و من كتبها في مهد مرتضع عند منامه لم يخف الفالج، و من قرأها دبر كلّ صلاة لم يضرّه ذو حمة» ..، و من قرأها عند كل فرض حفظه اللّه من كلّ خصم له» «4».

و في القسم الثاني

روى عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: «من استكفى بآية من القرآن من المشرق الى المغرب كفى إذا كان له يقين» «5».

و

عنه عليه السّلام: «يا مفضّل احتجز من الناس كلّهم ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و ب قل هو اللّه أحد، اقرأها عن يمينك، و عن شمالك، و من بين يديك، و من خلفك، و من فوقك، و من تحتك، و إذا دخلت على سلطان جائر حين تنظر اليه فاقرأها ثلاث مرّات، و اعقد بيدك اليسرى ثمّ لا تفارقها حتّى تخرج من عنده «6».

ثمّ ذكر للحفظ من السرّاق: يقرأ حين يأوى إلى فراشه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «7» إلى آخر السورة ثمّ يقول:

______________________________

(1) اللعقة (بضم اللام و سكون العين): ما يؤخذ بالملعقة أو بالأصبع.

(2) عدة الداعي ص 274 و عنه البحار ج 92 ص 176 ح 5.

(3) الكافي ج 2 ص 626 و عنه الوسائل ج 4 ص 874 ح 3.

(4) عدة الداعي ص 274.

(5) عدة الداعي ص 275 و عنه البحار ج 92 ص 176 ح 2.

(6) عدة الداعي ص 275 و عنه البحار ج 92 ص 351 ح 22.

(7) الإسراء: 110- 111. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 528

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ

«1».

و

عنهم عليه السّلام: «من قرأ هاتين الآيتين حين يأخذ مضجعه لم يزل في حفظ اللّه تعالى من كلّ شيطان مريد و جبّار عنيد الى أن يصبح» «2».

و

أنّ قراءة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ على ما يدخّر و يخبأ حرز له» «3».

و

أنّ قراءة آية السخرة و هي إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... الى آخرها «4» حرز عن الشياطين كما في الخبر المتقدّم «5».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة، و آية الكرسي و آيتين بعدها، و ثلاث آيات من آخر السورة لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه شيطان، و لا ينسى القراءة» «6».

و

عن الصادق عليه السّلام: «من دخل على سلطان يخافه فقرأ عند ما قابله:

«كهيعص» و يضمّ بيده اليمنى كلّما قرأ حرفا ضمّ أصبعا، ثمّ يقرأ: «حمعسق» و يضمّ أصابع يده اليسرى كذلك، ثمّ يقرأ: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً «7» و يفتحها في وجهه كفى شرّه» «8».

و

عن أبي الحسن عليه السّلام: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آيد من القرآن من حيث

______________________________

(1) البقرة: 7.

(2) عدّة الداعي ص 275 ح 3 و عنه البحار ج 92 ص 282 ح 3.

(3) عدّة الداعي ص 275 ح 4 و عنه البحار ج 92 ص 329 ح 9.

(4) الأعراف: 54.

(5) العدّة ص 275 و عنه البحار ج 92 ص 276 ح 2.

(6) الكافي ج 2 ص 621 ح 5- العدّة ص 276 ح 6.

(7) طه: 111.

(8) عدّة الداعي ص 276 ح 7 و عنه البحار ج 92 ص 284 ح 2. تفسير الصراط

المستقيم، ج 2، ص: 529

شئت، ثم قل: أللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد، و ادفع عنّي البلاء، ثلاث مرّات» «1».

و

عن الرّضا عن أبيه عن مولانا الصّادق عليهم السّلام للاحتجاب عن الأعداء و الكفّار، و لسلامة النفس و المال: ثلاث آيات: آية في النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «2».

و آية في الكهف: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً «3».

و آية في الجاثية: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ «4».

قال الكسروي «5»: فعلّمتها رجلا من أهل همدان كانت الديلم أسرته فمكث فيهم عشر سنين، ثم ذكر الثلاث الآيات، قال: فجعلت أمرّ على محالّهم و على مراصدهم فلا يرونى، و لا يقولون شيئا، حتى إذا خرجت الى أرض الإسلام.

قال أبو المنذر: و علّمتها قوما خرجوا في سفينة من الكوفة الى بغداد، و خرج معهم سبع سفن، فقطع على ستّ و سلمت السفينة التي قرئ فيها هذه الآيات.

______________________________

(1) عدّة الداعي ص 276 ح 8.

(2) النحل: 57.

(3) الكهف: 108.

(4) الجاثية: 23.

(5) هو أبو عمران موسى بن عمران الكسروي. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 530

و روى أيضا أنّ الرجل المسئول عنه هذه الآيات هو الخضر عليه السّلام «1».

و لحلّ المربوط يكتب في رقعة و يعلّق عليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما

تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «2»، ثمّ يكتب سورة النصر ثمّ يكتب: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «3» ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «4» فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ «5» قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي «6» وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً «7» كذلك حلّلت فلان بن فلانة عن فلانة بنت فلانة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «8». «9» و في القسم الثالث: أى ما يتعلّق بإجابة الدعاء، ما يأتى في فضائل الحمد.

و

في بعض الروايات: أنّ الدعاء بعد قراءة الجحد عشر مرّات عند طلوع

______________________________

(1) عدة الداعي ص 277 ح 9.

(2) الفتح: 1- 2.

(3) الروم: 21.

(4) المائدة: 23.

(5) القمر: 11- 12.

(6) طه: 25- 28.

(7) الكهف: 99.

(8) التوبة: 28- 29.

(9) عدّة الداعي ص 277. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 531

الشمس من يوم الجمعة مستجاب «1».

و

أنّ من قرأ ماية آية من أيّ آي القرآن شاء، ثم قال: يا اللّه، سبع مرّات، فلو دعاها على صخرة لفلقها اللّه تعالى «2».

ثمّ

روى ابن فهد في خواصّ القرآن المتفرقّة عن الصّادق عليه السّلام: «ما من عبد يقرأ آخر الكهف «3» إلّا

تيقّظ في الساعة الّتى يريد» «4».

و

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ هذه الآية: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... الآية و سطع له نور الى المسجد الحرام، حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتى يصبح» «5».

أقول: خواصّ الآيات القرآنيّة و منافعها المأثورة عن النبيّ و الائمّة عليهم الصلاة و السلام فضلا عن غيرها ممّا ذكره المجرّبون كثيرة جدّا منفردة بتصانيف جمّة و لعلّنا نشير الى كثير ممّا وجدنا منه من الأخبار في مطاوى هذا التفسير مع الإشارة الى خواصّ السورة و غيرها إنشاء اللّه تعالى.

الأمر الثاني ممّا ينبغي التنبيه عليه: أنّه لأيّ علّة يخالف خطّ القرآن لغيره في القواعد و الرسوم.

لا يخفى أنّ الأصل في كلّ كلمة في أيّ لغة من اللّغات أن تكتب بصورة لفظها على تقدير الابتداء بها و الوقوف عليها، إلّا أنّ كثيرا من الكلمات في الخطّ العربي ليست جارية على الأصل الذي هو متابعة اللّفظ، و قد يحذف من الكتابة ما يثبت في اللفظ، كالألف من (اللّه) و (الرحمن)، و اللام في مفردات الموصولة

______________________________

(1) العدّة ص 278 ح 2 و عنه البحار ج 89 ص 361.

(2) العدّة ص 27 ح 3- و البحار ج 92 ص 176 عن المكارم ص 390.

(3) في الكافي بعد كلمة (الكهف): عند النوم.

(4) الكافي ج 2 ص 632 ص 21- العدّة ص 280 ح 12.

(5) الفقيه ج 1 ص 470 ح 1355- العدّة ص 282 ح 19.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 532

دون تثنيتها.

و قد يثبت في الكتابة ما ليس في اللّفظ كالالف بعد واو الجمع المتطرّفة، و الواو في (عمرو) و أولئك) و (أولو الألباب).

و ربما و صلوا حرفا بحرف نحو بما، و

ممّا.

و ربّما أبدلوا حرفا من حرف مع إبقاء صورة الأصل كلام التعريف المبدلة عند الحروف المعدودة.

و ربما يكتب الكلمة بالواو و الياء، و يكون اللفظ بالألف، كالصّلاة و الزكاة، فيقرأ في التلفظ: الصلاة و الزكاة، و كذا (حتّى)، و (إلى)، و (على)، و (متى)، و (موسى)، و (عيسى) و (يحيى).

الى غير ذلك ممّا تعرّض له المتصدّون لذلك في علم الخطّ الذي لا يهمّنا التعرّض له، و إنّما المقصود في المقام: أنّه لمّا عمّت البليّة على أمّة خير البريّة، و كان ما كان ممّا لست أذكره،

جلس مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في بيته مشتغلا بجمع القرآن و تأليفه بوصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله فلمّا جمعه كما انزل و لم يكن يعلم ذلك غيره أتى به إلى الناس فقال لهم: هذا كتاب اللّه انزل، فقال بعضهم: لا حاجة لنا إليك و لا الى قرآنك،

و كان القرآن عندهم يومئذ متفرّقا في الأكتاف و الأخشاب و الألواح، و كان عند بعضهم السّورة و السّورتان أو أقل أو أكثر، إلى أن أمروا زيد بن ثابت بجمعه، و كتب عثمان في أيّام خلافته نسخا منه بخطّه الذي يخالف رسم الخطّ و القواعد العربية، مثل كتابة الألف بعدوا و المفردة، و عدمها بعدوا و الجمع، و مثل كتابة التاء من كلمة واحدة كرحمة، و نعمة، مدوّرة في بعض المواضع، و مطولّة في بعضها، و كتابة اللّام الجارّة، و (إن) مشدّدة أو مخفّفة، و (عن) و غيرها موصولة بما بعدها و مفصولة عنها الى غير ذلك ممّا أفردوه بالتصنيف.

بل قد روت العامّة أنّ عثمان لمّا علم أنّ فيما كتبه من القرآن لحنا كثيرا قال:

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 533

أرى فيه شيئا

من لحن ستقيمه العرب بألسنتها «1».

فوا عجبا هل كان هذا اللّحن من اللّه، أو من رسوله، أو أنّ الخليفة لم يعلم كيفيّة الكتابة و القراءة فأخطأ فيهما، و التمس من العرب إقامتها بألسنتها، و من هنا اختلفت كلماتهم في الجواب عن الخبر، فردّه بعضهم «2» بالضعف و عدم الثبوت.

و أوّله آخرون بأنّ المراد اشتمال القرآن على الإشارات و الرموز الّتى سيطّلع عليها الآخرون.

و قال ثالث: إنّ معنى الخبر: أرى فيه مواضع من الرسم الاصطلاحي في صورة خطّ يخالف اللفظ لو قرأت لكان لحنا.

و الكلّ كما ترى.

و ذكروا أيضا: أنّه كتب عثمان مصحفا لنفسه، و نسخ منه أربعة نسخ و سيّرها إلى الكوفة و البصرة و الشام، و أبقى مصحفا منها بالمدينة و هو المعتبر عندهم بالمدني العام، و يعبّرون عن النسخة الاولى بالمصحف الإمام.

و قيل: سيّر نسخة خامسة إلى مكّة، و سادسة إلى البحرين، و سابعة إلى اليمن.

و كان المصاحف خالية عن النقط، و التشديد، و الإعراب، و كانت هذه المصاحف أيضا مختلفة، كما عن الجزري الشافعي، و غيرهم من علمائهم، و صرّح به بعض فضلائهم في شرح أرجوزة مؤلفة في اختلاف الرسم و ذكروا الاختلافات الواقعة بين المصاحف مع التنبيه على ما في مصحف إمامهم.

______________________________

(1) كنز العمّال ج 2 ص 586.

(2) قال ابن الأنبارى: حديث عثمان لا يصحّ لأنّه غير متصل، و محال أن يؤخّر عثمان شيئا ليصلحه من بعده- تفسير ابن تيمية ج 5 ص 207.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 534

و اختلفوا أيضا في أنّ المصحف الإمام هل كان موجودا عندهم أم لا، فحكوا عن أبي عبيدة القاسم بن سلّام في كتابه المؤلّف في القرآن: أنّ بعض الأمراء أخرج لي من خزانته مصحف

عثمان المرسوم بخطّه لعلوّ منزلتي و رتبتي عنده، و كان ذلك المصحف في حجره حين أصيب، و رأيت آثار الدم في مواضع منه.

الأمر الثالث: في سجدات القرآن، و هي خمس عشرة:

منها أربع عزائم يجب فيها السجود إجماعا من الإماميّة بل و غيرهم من الامّة، و نصّا مستفيضا من الأئمّة عليهم السّلام، و هو بين آمر بالسجدة عندها، و مشتمل على إطلاق العزيمة الظاهرة، بل الصريحة في الواجب عليها.

ففي خبر أبى بصير عن الصادق عليه السّلام: «إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد» «1».

و

في صحيح أبي عبيدة الحذّاء: «إذا قرأ أحدكم السجدة من العزائم فليقل في سجوده: «سجدت لك تعبّدا و رقّا لا مستكبرا عن عبادتك و لا مستنكفا و لا متعظّما، بل أنا عبد ذليل خائف مستجير» «2».

و

في صحيح داود بن سرحان عنه عليه السّلام: «إنّ العزائم الأربع: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و وَ النَّجْمِ و تنزيل السجدة، و حم، السجدة» «3».

و

في «مجمع البيان» عن ابن سنان، عنه عليه السّلام قال: «العزائم: الم تنزيل، و حم السجدة، و النجم إذا هوى، و إقرا باسم ربك، و ما عداها في جميع القران مسنون

______________________________

(1) التهذيب ج 1 ص 219.

(2) الكافي ج 3 ص 328.

(3) بحار الأنوار ج 92 ص 40 ح 1 عن الخصال ج 1 ص 120. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 535

و ليس بمفروض» «1».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة في وجوبها للأربع الّتى لا ينبغي التأمّل معها في أصل الحكم سيّما بعد الإجماع عليه بل الضرورة.

فلا ينبغي الإصغاء الى وسوسة بعض المتأخرين في ثبوت أصل الحكم لضعف الدليل دلالة، و لا الى تكلّف من استدلّ له بصيغة الأمر الظاهرة

في الوجوب فيما عدى (الم) منها، أمّا فيها فبحصر المؤمن بآياته بمن إذا ذكرها سجد، المقتضى لسلب الإيمان عند عدم السجود.

إذا التصدّي لمثل هذا الاستدلال فضلا عن الإطناب فيه بالقيل و القال بعد ظهور الحال لا يليق بالمحصلين فضلا عن أهل الكمال.

و محلّ السجود في الجميع بعد إتمام الآية، حتى في حم السجدة، إجماعا منّا «2»، و توهّم الخلاف فيها في غير محلّه على ما تسمعه في محلّه إنشاء اللّه.

و أما غير العزائم فإحدى عشر:

1- الأعراف عند قوله تعالى: وَ لَهُ يَسْجُدُونَ آية: 206.

2- الرعد عند قوله تعالى: وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ 15.

3- النحل عند قوله تعالى: وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 50.

4- الإسراء عند قوله تعالى: وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً: 109.

5- مريم عند قوله تعالى: خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا: 58.

6- الحجّ عند قوله تعالى: يَفْعَلُ ما يَشاءُ: 18.

7- الحجّ عند قوله تعالى: وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ: 77.

______________________________

(1) مجمع البيان ج 10 ص 516 و عنه البحار ج 85 ص 169.

(2) قال المحقّق في المعتبر: قال الشيخ في الخلاف: موضع السجدة في حم السجدة عند قوله: «و اسجدوا للّه» و قال في «المبسوط»: «ان كنتم إياه تعبدون» و الأول أولى.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 536

8- الفرقان عند قوله تعالى: وَ زادَهُمْ نُفُوراً: 60.

9- النمل عند قوله تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 26.

10- ص عند قوله تعالى: وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ 24.

11- الانشقاق عند قوله تعالى: وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ 22.

و هذا التفصيل و إن خلت عنها خصوص الأخبار، إلّا أنّك قد سمعت فيما رواه الطبرسي: «إنّ ما عداها (اى الأربع العزائم) في جميع القرآن مسنون» «1».

و

عن مستطرفات «السرائر»: كان

عليّ بن الحسين عليهما السّلام يعجبه أن يسجد في كلّ سورة فيها سجدة» «2».

و

عن «العلل» بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ أبي عليه السّلام ما ذكر للّه تعالى نعمة عليه إلّا سجد، و لا قرأ آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ فيها سجدة إلّا سجد ... الى أن قال: فسمّي السجّاد لذلك «3».

الى غير ذلك من الفحاوى و الظواهر، فضلا عن الإطلاقات و العمومات، سيّما مع ما قرّر في محلّه من التسامح في أدلّة السنن و الكراهة.

و لعلّه لما سمعت ذهب ابن بابويه الى استحباب السجدة في كل آية فيها سجدة حتّى في مثل يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي «4».

و تبعه في ذلك كاشف الغطاء، و ليس ببعيد عندي، لما سمعت من عموم المعتبرة المتقدّمة، و غيرها.

______________________________

(1) مجمع البيان ج 10 ص 516.

(2) السرائر ص 496 و عنه البحار ج 85 ص 170.

(3) علل الشرائع ج 1 ص 222 و عنه البحار ج 85 ص 171.

(4) آل عمران: 43.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 537

و حملها على السجدات المعروفة لا شاهد عليه، مضافا إلى أنّه مردود بظاهر العموم، فالأقرب استحبابها في سورة التوبة: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ

112.

و في سورة البقرة: وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ: 125.

و في سورة الحجّ: وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ: 26.

و في الزمر: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً: 9.

إلى غير ذلك من المواضع.

و أمّا أحكام سجدة التلاوة و كيفيّتها فهي بتفاصيلها و أدلّتها مذكورة في الفقه.

الأمر الرابع: في الاستخارة بالقرآن و غيره.

الإستخارة على ما في «القاموس» و «النهاية» و «المصباح» طلب الخير من اللّه تعالى، من باب الاستفعال، من خار اللّه تعالى في الأمر يخير خيرة، بسكون الياء، و خيرا، و

خيرة كعنب و عنبة: جعل له فيه الخير، أو هداه إليه بالإلهام من عنده، أو إرشاد من غيره، و الخيرة بسكون الياء و تحريكها اسم من الإختيار أيضا.

و ما يقال من أنّ الإستخارة هي الدعاء فكأن المراد أنّه طلب الخيرة بالتوسّل إلى اللّه تعالى بالدعاء و الصلاة و غيرهما.

و الأخبار على الحثّ و الترغيب اليه و كراهة تركه كثيرة جدّا:

فعن الصادق عليه السّلام: أنّه قال: «ما أبالى إذا استخرت اللّه على أيّ طرفىّ وقعت، قال: و كان أبي يعلّمني الإستخارة كما يعلّمني السورة من القرآن «1».

______________________________

(1) فتح الأبواب ص 148- بحار الأنوار ج 88 ص 223 و فيه بعد ذكر الحديث: قوله: (على ايّ طرفيّ) أى طرفي الراحة و البلاء، أو الحياة و الموت، أو الأمر الذي أتردد فيه.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 538

و

عنه عليه السّلام، قال: ما استخار اللّه عبد مؤمن إلّا خار له و إن وقع ما يكره «1».

و

عنه عليه السّلام: «من دخل في أمر بغير استخارة، ثم ابتلي لم يؤجر» «2».

و

عنه عليه السّلام: قال: قال اللّه عزّ و جلّ: «إنّ من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال: لا يستخيرني» «3».

بل

ورد عنهم عليه السّلام: «أنّ من استخار اللّه مرّة واحدة، و هو راض بما صنع اللّه به، خار اللّه له حتما» «4».

و ورد أنّه ينبغي أن يكون الإستخارة وترا، كما

في النبوي: «من استخار فليوتر» «5». «6»

و ينبغي أيضا أن تكون خيرة في عافية كما

عن الصادق عليه السّلام: أنّه قال: «و لتكن استخارتك في عافية فإنّه ربما خير للرجل في قطع يده، و موت ولده، و ذهاب ماله» «7».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة فيها بمعانيها المختلفة:

منها: طلب الخيرة من اللّه تعالى بمعنى

أن يسأل اللّه تعالى في دعاءه أن يجعل الخير، و البركة، و التوفيق له في الأمر الّذى يريده.

و منها: أن يسأل اللّه تعالى تيسر ما يريده من الأمر بعد تعيينه.

و منها: أن يطلب العزم على ما فيه الخيرة عند الترديد في الأمر.

______________________________

(1)

فتح الأبواب ص 149 و فيه: و إن وقع فيما يكره

- بحار الأنوار ج 88 ص 224.

(2) فتح الأبواب ص 135- البحار ج 88 ص 223.

(3) فتح الأبواب ص 132- بحار الأنوار ج 88 ص 222 عن المقنعة و فتح الأبواب.

(4) المحاسن ص 598- فتح الأبواب ص 257 و فيه: و هو راض به.

(5) أوتر الشي ء: جعله وترا اى فردا.

(6) المحاسن ص 599- بحار الأنوار ج 88 ص 262 عن المحاسن.

(7) فتح الأبواب ص 232- الكافي ج 3 ص 472- تهذيب الأحكام ج 3 ص 181.

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 539

و منها: أن يطلب تعرّف ما فيه الخيرة.

و في كلّ منها كيفيّات و آداب، و وظائف كثيرة من الغسل و الصلاة و الدعاء و غير ذلك، مذكورة في كتب الأخبار و الأدعية و الفقه.

و للاستخارة بمعنى الأخير (اى طلب تعرّف ما فيه الخير) وجوه كثيرة من الاستخارة بالمصحف، و ذات الرقاع الستّ، و الرقعتين المشتملتين على (لا) و (نعم)، أو (افعل) و (لا تفعل) في بندقتين، و القبض على السبحة مطلقا، أو خصوص الحسينيّة، أو القبض على الكفّ من الحصى، أو الحبوب أو غيرها، و لكلّ منها طرق مذكورة في مواضعها إلّا أنّ المقصود بالذكر في المقام هو الإستخارة بالمصحف الّتى ورد فيها

عن الصادق عليه السّلام في خبر اليسع «1» القمى: «افتح المصحف فانظر الى الأوّل ما ترى فيه فخذ به إنشاء اللّه

تعالى «2».

و ضعفه سندا مدفوع باشتهار العمل به بين الإماميّة، و إمكان الاعتضاد بالعمومات المتقدّمة، مع أنّه ربما يشاهد في كثير من الاستخارات سيّما بالمصحف الشريف شبه الإلهام، بل انّه عندي جزء من أجزاء النبوّة التي اختصّ بها سيّد الأنام، أو بقيّة ممّا تركه آل محمّد و علي عليهم السّلام فإنّي رأيت كثيرا المطابقة التامّة بين مفاد الآية فوق الصفحة مع الأمر الّذي أستخير له، بل لو شئت لقلت: إنّ بعض محبّيهم عليهم السّلام كثيرا ما يطلب منه الاستخارة من غير اطّلاع له على المقصد،

______________________________

(1) هو اليسع بن عبد اللّه القمى روى عن الصادق عليه السّلام، و روى الحسن بن الجهم، و هو على ما صرّح به غير واحد من أرباب التراجم مجهول، انظر معجم رجال الحديث ج 20 رقم (13702).

(2)

التهذيب ج 1 ص 340 و رواه المجلسي قدّس سرّه في بحار الأنوار ج 88 ص 243 عن كتاب الغايات ... عن أبى على اليسع بن عبد اللّه القمى عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: انظر إذا قمت الى الصلاة فإنّ الشيطان أبعد، يكون من الإنسان إذا قام الى الصلاة أيّ شي ء يقع في قلبك فخذ به، و افتح المصحف فانظر الى أوّل ما ترى فيه فخذ به ان شاء اللّه. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 540

و لكن بالتأمّل في آية الاستخارة فقط يحصل له العلم بالمقصد و بعاقبة الأمر فيكون مطابقا لما في ضمير السائل من السؤال، و لما ينتهى الأمر إليه في المآل.

فلا يلتفت الى ما عن الحلي من الاقتصار في الإستخارة على ذات الصلاة و الدعاء، ثم فعل ما يقع في القلب، و لا يلتفت إلى التشديد في الإنكار على الاستخارة بغيرها،

من الرقاع، و البنادق، و القرعة، بل المصحف أيضا.

نظرا إلى ما أغنانا ظهور الأمر عن التعرّض له و التصدّى للجواب عنه.

كما لا يصغي الى ما ربما يستشكل في خصوص الإستخارة بالمصحف

للمرويّ في «الكافي» عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لا تتفأل بالقرآن» «1».

إذ فيه مع ضعفه في نفسه، و عدم مقاومته لما مرّ عموما و خصوصا أنّه ربما ينفى التعارض بينهما رأسا بظهور الفرق بين التفأل و الإستخارة كما صرّح به غير واحد من الأجلّة.

حيث إنّ المراد بالتفأل هو استكشاف الأمور المستقبلة و استبانة الأمر فيها وجودا و عدما، و إن لم يتعلّق بأفعال المكلّفين و لم يدخل تحت قدرتهم كشفاء المريض، و موته، و وجدان الضّالّة و عدمه، و قدوم المسافر، و حصول الغناء، و التوفيق للحجّ، و نحوها ممّا يؤول الى استعجال تعرّف ما في الغيب الّذى ورد النهى عنه و عن الحكم به لغير أهله.

و لكن المراد بالاستخارة طلب معرفة الرّشد في الأمر الّذى يراد فعله أو تركه مع الترديد و عدم الجزم، استشارة منه سبحانه كما

ورد: «تشاور ربّك» «2».

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 629- و بحار الأنوار ج 88 ص 244 عن الكافي.

(2)

مكارم الأخلاق ص 367 و فيه: قال الصادق عليه السّلام: إذا أردت أمرا فلا تشاور فيه أحدا حتى تشاور ربّك، قال: و كيف أشاور ربّي؟ قال: تقول: أستخير اللّه، مائة مرّة ثم تشاور الناس فإنّ اللّه يجرى لك الخيرة على لسان من أحبّ. تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 541

بل قيل: إنّه قد يعارض عن النهى المذكور في الرّواية ما يحكى عن ابن «1» طاوس في «كتاب الاستخارات» من أنّه ذكر للتفال بالقرآن بالمعنى المذكور وجوها يستبعد، بل يمتنع

عدم وصول نصوص فيها إليه، بل ظاهر بعض عبارته أو صريحها وقوفه على ذلك.

فإنّ منها: أنّه يصلّى صلاة جعفر، و يدعو بدعائها، ثمّ يأخذ المصحف، و ينوي فرج ال محمد بدءا و عودا، ثمّ يقول: أللهمّ إن كان في قضائك و قدرك أن تفرّج عن وليّك و حجّتك في خلقك في عامنا هذا و في شهرنا هذا فأخرج لنا رأس آية من كتابك نستدلّ بها على ذلك، ثمّ يعدّ سبع ورقات، و يعدّ عشرة أسطر من ظهر الورقة السابعة، و ينظر ما رأيته في الحادي عشر من السطور، ثمّ يعيد الفعل ثانيا لنفسه- فإنّه تتبيّن حاجته إنشاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّه بيّن معنى قوله: (في عامنا هذا) أنّ العلم بالفرج عن وليّه حينئذ يتوقّف على أمور كثيرة، فيكون كل وقت يدعى له بذلك في عامي هذا و شهري هذا يفرّج اللّه من تلك الأمور الكثيرة فيسمّى ذلك فرجا.

و ذكر أيضا عن بدر «2» بن يعقوب في صفة الفأل بالمصحف بثلاث روايات من غير صلاة، فقال: تأخذ المصحف و تدعو فتقول: أللّهمّ إن كان من قضائك و قدرك أن تمنّ على أمّة نبيّك بظهور وليّك و ابن بنت نبيّك فعجّل ذلك و سهّله

______________________________

(1) هو السيّد الجليل أبو القاسم على بن موسى بن طاوس الحلّى المولود سنة (589) و المتوفّى سنة (664)- الذريعة ج 2 ص 343، و كتابه في الاستخارات هو «فتح الأبواب بين ذوي الألباب و بين ربّ الأرباب».

(2) ترجم له الأستاذ الكبير المجيز في الرّواية قدّس سرّه في طبقات الشيعة في المائة السابعة ص 24 فقال: بدر الأعجمي الشيخ الصالح، نزيل بغداد في أيام المستنصر (م 640) و قد توسّط رضى الدين على بن

طاوس له عند الخليفة فرسم له خمسين دينارا، ذكر تفصيله في الباب الخامس من «فرج المهموم».

تفسير الصراط المستقيم، ج 2، ص: 542

و يسرّه و كمّله، و أخرج لي اية أستدلّ بها على أمر فأئتمر، أو نهى فأنتهى أو ما تريد الفأل فيه- في عافية.

ثمّ تعدّ سبع أوراق، ثمّ تعدّ في الوجهة الثانية من الورقة السابعة ستّة أسطر، و تتفأل بما يكون في السطر السابع».

و قال في رواية اخرى: إنّه يدعو بالدعاء، ثمّ يفتح المصحف الشريف و يعدّ سبع قوائم، و يعدّ ما في الوجهة الثانية من الورقة السابعة، و ما في الوجهة الاولى من الورقة الثامنة من لفظ اسم اللّه جلّ جلاله، ثمّ يعدّ قوائم بعدد لفظ (اللّه)، ثمّ يعدّ من الوجهة الثانية من القائمة الّتى ينتهى العدد إليها، و من غيرها ممّا يأتى بعدها سطورا بعدد لفظ اسم (اللّه) جلّ جلاله، و يتفأل بآخر سطر من ذلك «1».

تمّت مقدّمة تفسير الصراط المستقيم و سيليها إن شاء اللّه تعالى تفسير فاتحة الكتاب

______________________________

(1) فتح الأبواب ص 277- ص 279 و نقله المجلسي في بحار الأنوار ج 88 ص 241.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين الّذي منّ على الفقير المذنب الرّاجي عفوه و صفحة أن وفقني لتحقيق هذا الكتاب و أرجوه التوفيق لتحقيق التفسير بمنّه و كرمه.

- العبد الذليل غلام رضا بن علي أكبر مولانا البروجردي-

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.