زبدة التفاسير المجلد 7

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:الشریف الکاشاني، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان واسم المؤلف: زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشاني الشریف الکاشاني؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیة

تحرير الحالة: [ویرایش 2؟]

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 7

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیة؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

ISBN : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : الطبعة السابقة: مؤسسة التربية الإسلامية، 1378 (5 ج.)

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : کتابنامه

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن ق 10

المعرف المضاف: مؤسسة التربية الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP96/5/ک 2ز2 1381

تصنيف ديوي: 297/1726

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-26543

ص: 1

اشارة

زبدة التفاسير

تأليف

المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني قدس سره المتوفى سنة 988 ه_ . ق

الجزء السابع

تحقيق ونشر

مؤسّسة المعارف الإسلامية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

(59) سورة الحشر

اشارة

مدنيّة. و هي أربع و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأ سورة الحشر لم يبق جنّة، و لا نار، و لا عرش، و لا كرسيّ، و لا حجاب، و لا السماوات السبع، و لا الأرضون السبع، و الهوامّ، و الرياح، و الطير، و الشجر، و الدوابّ، و الشمس، و القمر، و الملائكة، إلّا صلّوا عليه، و استغفروا له، و إن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا».

و عن أبي سعيد المكاري، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ إذا أمسى الرحمن و الحشر، و كّل اللّه بداره ملكا شاهرا سيفه حتّى يصبح».

[سورة الحشر [59]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [1] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [2] وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي

ص: 5

الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ [3] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [4]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المجادلة بذكر حزب الشيطان و حزب اللّه تعالى، افتتح هذه السورة بقهره حزب الشيطان، و هم بنو النضير من اليهود، و ما نالهم من الخزي و الهوان، و نصرة حزبه من أهل الإيمان.

و بيان ذلك:

أنّ النبيّ لمّا قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا عليه و لا له. فلمّا ظهر يوم بدر قالوا: هو النبيّ المنعوت في التوراة، لا تردّ له راية.

فلمّا هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا و نكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكّة، فأتوا قريشا و حالفوهم و عاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد. ثمّ دخل أبو سفيان في أربعين، و كعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، و أخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار و الكعبة ثمّ رجع كعب بن الأشرف و أصحابه إلى المدينة.

و نزل جبرئيل فأخبر النبيّ بما تعاقد عليه كعب و أبو سفيان، و أمره بقتل كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري، و كان أخاه من الرضاعة. فخرج و معه سلكان بن سلامة، و ثلاثة من بني الحرث. و خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أثرهم على حمار مخطوم (1) بليف، و جلس في موضع ينتظر رجوعهم. فذهب محمد بن مسلمة مع القوم إلى قرب قصره، و أجلس قومه عند جدار، و ناداه: يا كعب. فانتبه و قال: من أنت؟

ص: 6


1- أي: مشدود بليف. و منه: الخطام، و هو حبل يجعل في عنق البعير.

قال: أنا محمد بن مسلمة أخوك، جئتك أستقرض منك دراهم، فإنّ محمدا يسألنا الصدقة، و ليس معنا الدراهم.

فقال كعب: لا أقرضك إلّا بالرهن.

قال: معي رهن، انزل فخذه.

و كانت له امرأة بنى بها تلك الليلة عروسا، فقالت: لا أدعك تنزل، لأنّي ارى حمرة الدم في ذلك الصوت. فلم يلتفت إليها، فخرج فعانقه محمّد بن مسلمة و هما يتحادثان، حتّى تباعدا من القصر إلى الصحراء. ثمّ أخذ رأسه و دعا بقومه. و صاح كعب، فسمعت امرأته و صاحت، و سمع بنو النضير صوتها، فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلا. و رجع القوم سالمين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا أسفر الصبح أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه بقتل كعب، ففرحوا. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحربهم، و السير إليهم. فسار بالناس حتّى نزل بهم، فتحصّنوا منه في الحصن.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: اخرجوا من أرض المدينة.

فقالوا: الموت أحبّ إلينا من ذاك.

فتنادوا بالحرب.

و قيل: استمهلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة أيّام ليتجهّزوا للخروج. فدسّ عبد اللّه بن أبيّ المنافق أصحابه إليهم: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، و لئن خرجتم لنخرجنّ معكم. فدربوا (1) على الأزقّة و حصّنوها. فحاصرهم إحدى و عشرين ليلة. فلمّا قذف اللّه الرعب في قلوبهم، و أيسوا من نصر المنافقين، طلبوا الصلح. فأبى عليهم إلّا الجلاء، على أن يحمل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم. فجلوا إلى الشام، إلى أريحا و أذرعات، إلّا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق و آل حييّ بن أخطب، فإنّهم .

ص: 7


1- أي: ضيّقوا أفواهها بالخشب و الحجارة.

لحقوا بخيبر، و لحقت طائفة بالحيرة. فنزلت فيهم:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مرّ تفسيره.

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: يهود بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ بأن سلّط اللّه المؤمنين عليهم، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإخراجهم من منازلهم و حصونهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلّق ب «أخرج». و هي اللام في قوله تعالى: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (1). و قولك: جئته لوقت كذا. و المعنى: أخرج الّذين كفروا في أوّل حشرهم من جزيرة العرب، إذ لم يصبهم هذا الذلّ قبل ذلك. أو في أوّل إجلائهم إلى الشام، و آخر حشرهم إجلاء عمر إيّاهم من خيبر إلى الشام. أو أوّل حشر الناس إلى الشام، و آخر حشرهم أنّهم يحشرون إليه عند قيام الساعة، فيدركهم هناك. أو أنّ نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب، فهذا هو الحشر الثاني. و عن عكرمة: من شكّ أنّ المحشر هاهنا- يعني: الشام- فليقرأ هذه الآية.

و قيل: معناه: أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم، لأنّه أوّل قتال قاتلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر.

ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لشدّة بأسهم و منعتهم، و وثاقة حصونهم، و كثرة عددهم و عدّتهم وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: أنّ حصونهم تمنعهم من بأس اللّه. و في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها و منعها إيّاهم. و في تصيير ضميرهم اسما ل «أنّ»، و إسناد الجملة إليه، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنّهم في عزّة و منعة لا يبالى معها بأحد يتعرّض لهم، أو يطمع في معازّتهم (2). و ليس ذلك في قولك: و ظنّوا أنّ حصونهم تمنعهم. و لذلك غيّر النظر؟

ص: 8


1- الفجر: 24.
2- عازّه معازّة: عارضه في العزّة.

فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي: عذابه. و هو الرعب و الاضطرار إلى الجلاء. و قيل:

الضمير للمؤمنين، أي: فأتاهم نصر اللّه. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لم يظنّوا و لم يخطر ببالهم، و هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرّة (1) و غيلة على يد أخيه. و ذلك ممّا أضعف قوّتهم، و فلّ من شوكتهم، و ثبّط المنافقين الّذين كانوا يتولّونهم عن مظاهرتهم، و سلب قلوبهم الأمن و الطمأنينة بما قذف فيها من الرعب، و ألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم، و يعينوا على أنفسهم، كما قال عزّ اسمه:

وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و أثبت فيها الخوف الّذي يرعبها، أي: يملؤها يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضنّا (2) بها على المسلمين، و احتياجا لهم إلى الخشب و الحجارة ليسدّوا بها أفواه الأزقّة، و إخراجا لما استحسنوا من آلاتها وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فإنّهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية و توسيعا لمجال القتال، فلا يبقى لهم بالمدينة دار، و لا منهم ديار. و عطفها على «أيديهم» من حيث إنّ تخريب المؤمنين مسبّب عن نقضهم، فكأنّهم استعملوا المؤمنين في التخريب. و الجملة حال، أو تفسير للرعب. و قرأ أبو عمرو: يخرّبون بالتشديد. و هو أبلغ، لما فيه من التكثير. و قيل: الإخراب: التعطيل، أو ترك الشي ء خرابا. و التخريب: الهدم.

فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتّعظوا بما دبّر اللّه و يسّر من أمر إخراجهم، و تسليط المسلمين عليهم من غير قتال، فلا تعتمدوا على غير اللّه.

و فيه دليل على أنّ القياس المنصوص العلّة حجّة لا مطلقا، من حيث إنّه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، مثلها في اشتراك العلّة، فحملها عليها في الحكم لما بينهما من العلّة المشتركة المقتضية له.

و قيل: وعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين أن يورثهم اللّه أرضهم و أموالهم بغير

ص: 9


1- أي: غفلة.
2- ضنّ بالشي ء: بخل.

قتال، و يريحوهم من جوارهم، فكان كما قال، فاستدلّوا بذلك على صدق الرسول.

وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ الخروج من أوطانهم على ما اقتضته حكمته لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل و السبي، كما فعل بإخوانهم بني قريظة وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف معناه: إنّهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من عذاب الدنيا، و ما كانوا بصدده من الفساد، و ما هو معدّ لهم في الآخرة. أو إلى الأخير. بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ خالفوهما وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبهم على مشاقّتهم أشدّ العقاب.

[سورة الحشر [59]: آية 5]

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ [5]

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين محاصرة حصونهم أمر بقطع نخيلهم و تحريقها، فنادوه: يا محمّد قد كنت تنهى عن الفحشاء، فما بالك تقطع النخل؟

و وقع في أنفس بعض المؤمنين شي ء من ذلك. فأنزل اللّه سبحانه:

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ محلّ «ما» نصب ب «قطعتم»، أي: أيّ شي ء قطعتم من نخلة. فعلة، و ياؤها عن واو، كالديمة. من اللون، و يجمع على ألوان. و المراد ضروب النخل و أنواعها. و قيل: من اللين. و معناها: النخلة الكريمة، مثل العجوة و البرنية. و جمعها: لين و أليان. و على هذا تخصيصها بالقطع ليكون غيظ اليهود أشدّ.

أَوْ تَرَكْتُمُوها الضمير ل «ما». و تأنيثه لأنّه مفسّر باللينة. قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علّة لمحذوف، أي: و فعلتم، أو و أذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه، و ضاعف لهم حسرة. و فيه دليل على جواز هدم ديار الكفّار، و قطع أشجارهم، زيادة لغيظهم.

ص: 10

[سورة الحشر [59]: الآيات 6 الى 10]

وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [6] ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [7] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [8] وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [9] وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [10]

روي: أنّ بعض المسلمين طلبوا القسمة في أموال بني النضير، فنزلت: وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ و ما أعاده عليه، بمعنى: صيّره له أو ردّه عليه، فإنّه كان حقيقا

ص: 11

بأن يكون له، لأنّه تعالى خلق الناس لعبادته، و خلق ما خلق لهم ليتوسّلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين. مِنْهُمْ من بني النضير، أو من جميع الكفرة فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ فما أجريتم على تحصيله. من الوجيف، و هو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ ما يركب من الإبل غلّب فيه كما غلّب الراكب على راكبه.

و المعنى: و ما تعبتم عليه بركض الخيل و الركاب و عدوهما، و إنّما مشيتم إليه على أرجلكم. و ذلك لأنّ قرى بني النضير كانت على ميلين من المدينة، فمشوا إليها رجالا غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه ركب حمارا، و قيل: جملا، و لم يجر قتال، و لذلك قسّم الفي ء بين المهاجرين، و لم يعط الأنصار منه شيئا، إلّا ثلاثة كانت بهم حاجة.

وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ و على ما في أيديهم، بقذف الرعب في قلوبهم. فالأمر فيه مفوّض إليه، يضعه حيث يشاء. يعني: أنّه لا يقسّم قسمة الغنائم الّتي قوتل عليها و أخذت عنوة و قهرا وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة، و تارة بغيرها.

ثمّ أمر رسوله أن يضع الفي ء حيث يضع الخمس من الغنائم، مقسوما على الأقسام الستّة، فقال:

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى من أموال الكفّار. و هذا بيان للأوّل، و لذلك لم يعطف عليه. فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى من أهل قرابته، و هم بنو هاشم وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ منهم، لأنّ التقدير: و لذي قرباه، و يتامى أهل بيته، و مساكينهم، و ابن السبيل منهم. و يؤيّده ما روى المنهال بن عمرو، عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: «قلت: قوله: «وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» قال: هم قربانا، و مساكيننا، و أبناء سبيلنا».

ص: 12

و قال فقهاء العامّة: هم يتامى الناس عامّة، و كذلك المساكين و أبناء السبيل.

و قد روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «كان أبي يقول: لنا سهم الرسول و سهم ذي القربى، و نحن شركاء الناس فيما بقي».

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «نحن قوم فرض اللّه طاعتنا، و لنا الأنفال، و لنا صفو المال».

يعني: ما كان يصطفى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من فره الدوابّ، و حسان الجواري، و الدرّة الثمينة، و الشي ء الّذي لا نظير له. و الشروط المعتبرة في الخمس و كيفيّة تقسيمه قد مرّ في سورة الأنفال.

كَيْ لا يَكُونَ أي: لئلّا يكون الفي ء الّذي حقّه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها. و قرأ هشام بالتاء. دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ما يتداوله الأغنياء و يدور بينهم، يتكاثرون به، فلا يصيب الفقراء منه، كما كان في الجاهليّة، فإنّ الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة، لأنّهم أهل الرئاسة و الدولة و الغلبة، و كانوا يقولون: من عزّ (1) بزّ. و هذا الخطاب للمؤمنين، دون الرسول و أهل بيته عليهم السّلام.

قال الكلبي: نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له: يا رسول اللّه خذ صفيّك و الربع، و دعنا و الباقي، فهكذا كنّا نفعل في الجاهليّة. فلمّا نزلت هذه الآية قالت الصحابة: سمعا و طاعة لأمر اللّه و أمر رسوله.

و قرأ هشام: دولة بالرفع، على «كان» التامّة، أي: كيلا يقع دولة جاهليّة.

وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ و ما أعطاكم من الفي ء، أو من الأمر فَخُذُوهُ لأنّه حلال لكم. أو فتمسّكوا به، لأنّه واجب الطاعة. وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ عن أخذه، أو عن إتيانه فَانْتَهُوا عنه وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه. و الأجود أن يكون الحكم عامّا في كلّ ما أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نهى عنه، و أمر الفي ء داخل في عمومه و إن نزل في آية الفي ء.

ص: 13


1- أي: من غلب سلب.

و روى زيد الشحّام، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما أعطى اللّه نبيّا من الأنبياء شيئا إلّا و قد أعطى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قال لسليمان: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (1).

و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».

و في هذه الآية دلالة على أنّ تدبير الأمّة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلى الأئمّة القائمين مقامه. و لهذا قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أموال خيبر، و منّ عليهم في رقابهم، و كذا منّ على أهل مكّة، و أجلى بني النضير و بني قينقاع، و أعطاهم شيئا من المال، و قتل رجال بني قريظة، و سبى ذراريهم و نساءهم، و قسّم أموالهم على المهاجرين، كما قال اللّه عزّ و جلّ:

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من «لِذِي الْقُرْبى و ما عطف عليه، فإنّ الرسول لا يسمّى فقيرا، لترفّعه عن هذه التسمية، و لقوله: «وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ فإنّ كفّار مكّة أخرجوهم و أخذوا أموالهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً حال مقيّدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بأنفسهم و أموالهم أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الّذين ظهر صدقهم في إيمانهم.

قال الزجّاج: بيّن سبحانه من المساكين الّذين لهم الحقّ بقوله: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ». ثمّ ثنّى سبحانه بوصف الأنصار و مدحهم، حتّى طابت أنفسهم عن الفي ء، فقال:

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ عطف على «المهاجرين». و المراد بهم الأنصار الّذين لزموا المدينة و الإيمان، و تمكّنوا فيهما. و قيل: المعنى: تبوّؤا دار الهجرة و دار الإيمان. فحذف المضاف من الثاني، و المضاف إليه من الأوّل، و عوّض عنه اللام. أو تبوّؤا الدار و أخلصوا الإيمان، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا. و قيل:

ص: 14


1- ص: 39.

سمّى المدينة بالدار و الإيمان، لأنّها دار الهجرة و مكان ظهور الإيمان. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين. و قيل: قبل إيمان المهاجرين. و المراد به أصحاب ليلة العقبة، و هم سبعون رجلا بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حرب الأحمر و الأبيض.

يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ و لا يثقل عليهم، لأنّهم أحسنوا إليهم، و أسكنوهم دورهم، و أشركوهم في أموالهم وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم حاجَةً ما يحملهم الاحتياج عليه، كالطلب و الحزازة و الحسد و الغيظ مِمَّا أُوتُوا ممّا أعطي المهاجرون من الفي ء و غيره. يعني: نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون، و لم تطمح إلى شي ء منه يحتاج إليه.

وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ و يقدّمون المهاجرين على أنفسهم، حتّى إنّ من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة و زوّجها من أحدهم وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ خلّة. من خصاص البيت، و هي فرجه. و الجملة في موضع الحال، أي: مفروضة خصاصتهم.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسّم أموال بني النضير على المهاجرين، و لم يعط الأنصار إلّا ثلاثة محتاجين: سماك بن خرشة، و سهل بن حنيف، و الحارث بن الصمة. و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم و دياركم، و شاركتموهم في هذه الغنيمة، و إن شئتم كانت لكم دياركم و أموالكم، و لم يقسّم لكم شي ء من الغنيمة. فقالت الأنصار: بل نقسّم لهم من أموالنا و ديارنا، و نؤثرهم بالغنيمة، و لا نشاركهم فيها. فنزلت هذه الآية.

وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ و من غلب ما أمرته به نفسه- من حبّ المال، و بغض الإنفاق- بتوفيق اللّه سبحانه و لطفه، و خالف هواها بمعونته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل، و الثواب الآجل.

و قيل: من لم يأخذ شيئا نهاه اللّه عنه، و لم يمنع شيئا أمره اللّه بأدائه، فقد وقي

ص: 15

شحّ نفسه.

و عن سعيد بن جبير: شحّ النفس هو أخذ الحرام و منع الزكاة.

وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف أيضا على المهاجرين، أي: هم الّذين هاجروا بعدهم حين قوي الإسلام. أو التابعون بإحسان. و هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة. و لذلك قيل: الآية قد استوعبت جميع المؤمنين.

يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ أي: لإخواننا السابقين في الدين وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا حقدا لهم لِلَّذِينَ آمَنُوا لطفا منك رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فحقيق بأن تجيب دعاءنا.

[سورة الحشر [59]: الآيات 11 الى 17]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [11] لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [12] لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [13] لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [14] كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [15]

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ

ص: 16

قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [16] فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [17]

و لمّا وصف سبحانه المهاجرين الّذين هاجروا الديار و الأوطان، ثمّ مدح الأنصار الّذين تبوّؤا الدار و الإيمان، ثمّ ذكر التابعين بإحسان، و ما يستحقّونه من النعيم في الجنان، عقّب ذلك بذكر المنافقين و ما أسرّوه من الكفر و العصيان، فقال:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يريد الّذين بينهم و بينهم أخوّة الكفر أو الصداقة و الموالاة لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ في قتالكم أو خذلانكم مساعدين لكم وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ في قتالكم أَحَداً أَبَداً أي: من رسول اللّه و المسلمين إن حملنا عليه. أو في خذلانكم و إخلاف ما وعدناكم من النصرة. وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ لنعاوننّكم وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدهم لليهود. يعني: لا يفعلون ذلك، كما قال:

لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ و كان كذلك، فإنّ ابن أبيّ و أصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثمّ أخلفوهم. و فيه دليل على صحّة النبوّة و إعجاز القرآن. وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي: على التقدير و الفرض، كقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1). فلا ينافي قوله: «لا يَنْصُرُونَهُمْ». لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي:

ليهز منّ اللّه اليهود ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لا ينفعهم نصرة المنافقين. أو ليهزمنّ المنافقون ثمّ لا ينصرون بعد ذلك، أي: يهلكهم اللّه و لا ينفعهم نفاقهم، لظهور كفرهم. إذ ضمير

ص: 17


1- الزمر: 65.

الفعلين يحتمل أن يكون لليهود أو للمنافقين.

ثمّ خاطب المؤمنين بقوله: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً مصدر للفعل المبنيّ للمفعول، أي: أشدّ مرهوبيّة في صدورهم. و هذا دلالة على نفاقهم، يعني: أنّهم يظهرون لكم في العلانية خوف اللّه و أنتم أهيب فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ فإنّ استبطان رهبتكم سبب لإظهار رهبة اللّه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة اللّه حتّى يخشوه حقّ خشيته، و يعلموا أنّه الحقيق بأن يخشى.

لا يُقاتِلُونَكُمْ اليهود و المنافقون، أي: لا يقدرون على مقاتلتكم جَمِيعاً مجتمعين متساندين إِلَّا كائنين فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب و الخنادق أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يرمونكم دون أن يصحروا لكم و يبارزوكم، لفرط رهبتهم. و قرأ ابن كثير و ابو عمرو: جدار. و أمال أبو عمرو فتحة الدال.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: ليست رهبتهم منكم لضعفهم و جبنهم، فإنّه يشتدّ بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، بل لقذف اللّه الرعب في قلوبهم، و تأييد اللّه و نصرته معكم. و لأنّ الشجاع يجبن، و العزيز يذلّ، إذا حارب اللّه و رسوله.

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين متّفقين في الظاهر وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرّقة، لافتراق دواعيهم و أهوائهم، و اختلاف آرائهم و مقاصدهم، لأنّ بينهم إحنا و عداوات، خذلانا و تخلية من اللّه، فلا يتعاضدون حقّ التعاضد، و لا يرمون عن قوس واحدة.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه صلاحهم، و أنّ تشتّت القلوب يوهن قواهم. و فيه تجسير للمؤمنين، و تشجيع لقلوبهم على قتالهم.

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: مثل اليهود كمثل أهل بدر أو بني قينقاع إن صحّ أنّهم أخرجوا قبل النضير. أو المهلكين من الأمم الماضية. قَرِيباً في زمان قريب. و انتصابه ب «مثل»، على تقدير: كوجود مثل. ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ سوء

ص: 18

عاقبة كفرهم في الدنيا، كالقتل و السبي و الإجلاء وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي: مثل المنافقين في إغوائهم اليهود على القتال، و وعدهم إيّاهم النصر، ثمّ متاركتهم و إخلافهم، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أغراه على الكفر بكيده إغراء الآمر المأمور.

و عن ابن عبّاس: هو عابد في بني إسرائيل اسمه برصيصا، عبد اللّه زمانا من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم، و يعوّذهم فيبرءون على يده. و أنّه أتي بامرأة في شرف قد جنّت، و كان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت، فلمّا استبان حملها قتلها و دفنها.

فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالّذي فعل الراهب، و أنّه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقيّة إخوتها رجلا رجلا، فذكر ذلك له.

فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: و اللّه لقد أتاني آت فذكر لي شيئا يكبر عليّ ذكره.

فذكر بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك و الناس فاستنزلوه، فأقرّ لهم بالّذي فعل، فأمر به فصلب.

فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان، فقال: أنا الّذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، أخلّصك ممّا أنت فيه؟

قال: نعم.

قال: اسجد لي سجدة واحدة.

فقال: كيف أسجد لك و أنا على هذه الحالة؟

فقال: أكتفي منك بالإيماء.

فأومى له بالسجود، فكفر باللّه، و قتل الرجل. فهو قوله: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ».

فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ أي: تبرّأ منه مخافة أن يشاركه في

ص: 19

العذاب، كما قال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ و لم ينفعه ذلك.

فَكانَ عاقِبَتَهُما عاقبة الفريقين الداعي و المدعوّ، من الشيطان و من أغواه من المنافقين و اليهود أَنَّهُما فِي النَّارِ أنّهما معذّبان في النار خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فضرب اللّه تعالى هذه القصّة لبني النضير حين اغترّوا بالمنافقين، ثمّ تبرّؤا منهم عند الشدّة و أسلموهم. و قيل: المراد بالإنسان أبو جهل، قال له إبليس يوم بدر: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ إلى قوله: إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ (1). قيل: أراد بالشيطان و الإنسان اسم الجنس لا المعهود، فإنّ الشيطان أبدا يدعو الإنسان إلى الكفر، ثمّ يتبرّأ منه وقت الحاجة.

[سورة الحشر [59]: الآيات 18 الى 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [18] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [19]

ثمّ رجع إلى موعظة المؤمنين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ من عمل صالح ينجيه، أو طالح يوبقه و يرديه لِغَدٍ ليوم القيامة.

سمّاه غدا لدنوّه، كاليوم الّذي يلي يومك. أو لأنّ الدنيا كيوم، و الآخرة كغده.

و تنكيره للتعظيم، و لإبهام أمره، كأنّه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمته. و أمّا تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة، كأنّه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد، أو الأوّل في أداء الواجبات، لأنّه مقرون

ص: 20


1- الأنفال: 48.

بالعمل، و الثاني في ترك المحارم، لاقترانه بما يجري مجرى الوعيد، و هو قوله:

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ تركوا أداء حقّ اللّه فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ فجعلهم ناسين لها بالخذلان حتّى لم يسمعوا ما ينفعها، و لم يفعلوا ما يخلّصها. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم. أو حرّمهم حظوظهم من الخير و الثواب. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق. و هم الكفّار المصرّون على كفرهم.

[سورة الحشر [59]: الآيات 20 الى 24]

لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [20] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [21] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [22] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [23] هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [24]

ثمّ بيّن سبحانه ضعة الكافرين و رفعة المؤمنين، فقال: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ أي: الّذين استمهنوا نفوسهم فاستحقّوا النار وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ و الّذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنّة. و احتجّ به أصحابنا و الشافعيّة على أنّ المسلم

ص: 21

لا يقتل بالكافر. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم.

ثمّ عظّم سبحانه حال القرآن و جلالة قدره، فقال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ تمثيل و تخييل، كما مرّ في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ (1). و لذلك عقّبه بقوله: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً متشقّقا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ إشارة إلى هذا المثل و إلى أمثاله الأخر، فإنّها في مواضع من التنزيل نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

و المعنى: لو كان الجبل ممّا ينزل عليه القرآن و يشعر به، مع غلظه و جفاء طبعه، و كبر جسمه، لخشع لمنزله، فانصدع من خشيته تعظيما لشأنه، فالإنسان أحقّ بهذا لو عقل الأحكام الّتي فيه. و المراد توبيخ الإنسان على عدم تخشّعه عند تلاوة القرآن، لقساوة قلبه، و قلّة تدبّره.

ثمّ أخبر سبحانه بربوبيّته و عظمته، فقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: هو المستحقّ للعبادة الّذي لا تحقّ العبادة إلّا له عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحسّ، من الجواهر القدسيّة و أحوالها وَ الشَّهادَةِ و ما حضر له و شاهد من الأجرام و أعراضها هُوَ الرَّحْمنُ المنعم على جميع خلقه فعلا و قوّة الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرّره للتأكيد و المبالغة الْمَلِكُ السيّد المالك لجميع الأشياء الّذي له التصرّف فيها على وجه ليس لأحد منعه منه. و قيل: هو الواسع القدرة. الْقُدُّوسُ البليغ في النزاهة عمّا يوجب نقصانا. و نظيره: السبّوح بناء و معنى. السَّلامُ ذو السلامة من كلّ نقص و آفة. أو الّذي سلم العباد من ظلمه. أو من عنده ترجى السلامة. و منه: دار السلام. مصدر وصف به للمبالغة في وصف كونه سليما من النقائص، أو في إعطائه السلامة.

الْمُؤْمِنُ واهب الأمن. أو الّذي أمن أولياؤه عذابه الْمُهَيْمِنُ الرقيب

ص: 22


1- الأحزاب: 72.

على كلّ شي ء، الحافظ له. و عن ابن عبّاس و الضحّاك و الجبائي: الأمين الّذي لا يضيع لأحد عنده حقّ. مفيعل من الأمن، قلبت همزته هاء. الْعَزِيزُ المنيع الّذي لا يرام، و لا يمتنع عليه مرام الْجَبَّارُ القاهر الّذي جبر خلقه على ما أراد. أي:

أجبره. أو الّذي جبر حال خلقه، بمعنى: أصلحه. الْمُتَكَبِّرُ الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة أو نقصانا. و قيل: المتكبّر عن ظلم عباده. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ يشركون به من الأصنام، إذ لا يشاركه في شي ء من ذلك.

هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته الْبارِئُ الموجد لها بريئا من التفاوت. أو المميّز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة. الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها و كيفيّاتها كما أراد لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى نحو: اللّه، الرحمن، الرحيم، القادر، العالم، الحيّ، القيّوم، و غيرها، فإنّها دالّة على محاسن المعاني يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: ينزّهه جميع الأشياء عن النقائص كلّها.

فالحيّ يصفه بالتنزيه، و الجماد يدلّ على تنزيهه. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات بأسرها، فإنّها راجعة إلى الكمال في القدرة و العلم.

عن أبي هريرة: سألت حبيبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن اسم اللّه الأعظم، فقال: «عليك بآخر الحشر، فأكثر قراءته».

فأعدت عليه فأعاد عليّ، فأعدت عليه فأعاد عليّ.

و روى أيضا سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسم اللّه الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة الحشر».

ص: 23

ص: 24

[60] سورة الممتحنة

اشارة

مدنيّة. و هي ثلاث عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون و المؤمنات له شفعاء يوم القيامة».

أبو حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه و نوافله، امتحن اللّه قلبه للإيمان، و نوّر له بصره، و لا يصيبه فقر أبدا، و لا جنون في بدنه و لا في ولده».

[سورة الممتحنة [60]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [1] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ

ص: 25

بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [2] لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [3]

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الحشر الكفّار و المنافقين، افتتح هذه السورة بذكر تحريم موالاتهم، و إيجاب معاداتهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ توصلون إليهم المودّة بالمكاتبة. و الباء مزيدة مؤكّدة للتعدّي، مثلها في وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1). أو ثابتة على أنّ مفعول «تلقون» محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول اللّه بسبب المودّة الّتي بينكم و بينهم.

و الجملة حال من فاعل «لا تتّخذوا». أو صفة ل «أولياء» جرت على غير من هي له.

و لا حاجة فيها إلى إبراز الضمير، لأنّه مشروط في الاسم دون الفعل.

روي: أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمدينة و هو يتجهّز لفتح مكّة، فقال لها: أ مسلمة جئت؟

قالت: لا.

قال: أ فمهاجرة جئت؟

قالت: لا.

قال: فما جاء بك؟

قالت: كنتم الأهل و الموالي و العشيرة، و قد ذهبت الموالي- يعني: قتلوا يوم بدر- فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني و تكسوني و تحملوني.

قال: فأين أنت من شبّان مكّة؟ و كانت مغنّية نائحة..

ص: 26


1- البقرة: 195.

قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر.

فحثّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليها بني عبد المطّلب، فكسوها و حمّلوها و زوّدوها.

فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، و أعطاها عشرة دنانير، و كساها بردا، و استحملها كتابا إلى أهل مكّة، نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة:

اعلموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريدكم، فخذوا حذركم.

فخرجت سارة. و نزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام و عمّارا و المقداد و أبا مرثد و عمر و طلحة و الزبير، و كانوا فرسانا، و قال: انطلقوا حتّى تأتوا روضة (1) خاخ، فإنّ بها ظعينة (2) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكّة، فخذوه منها و خلّوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدت و حلفت. فهمّوا بالرجوع، فقال عليّ عليه السّلام: و اللّه ما كذبنا و لا كذب رسول اللّه. و سلّ سيفه و قال:

أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك. فأخرجته من عقاص (3) شعرها.

و روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلّا أربعة، هي أحدهم.

فاستحضر رسول اللّه حاطبا و قال: ما حملك عليه؟

فقال: يا رسول اللّه ما كفرت منذ أسلمت، و لا غششتك منذ نصحتك، و لا أحببتهم منذ فارقتهم، و لكن كنت امرءا ملصقا في قريش، و روي: غريرا فيهم- أي: غريبا- و لم أكن من أنفسها، و كلّ من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكّة يحمون أهاليهم و أموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا، و قد علمت أنّ اللّه تعالى ينزل عليهم بأسه، و أنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه .

ص: 27


1- خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة. معجم البلدان 2: 335.
2- الظعينة: الزوجة أو المرأة ما دامت في الهودج أو عموما.
3- عقاص جمع عقيصة، و هي ضفيرة الشعر، أي: ما شدّته من شعرها في قفاها.

و قبل عذره.

فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق.

فقال: و ما يدريك يا عمر، لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم:

اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

فقال عمر: اللّه و رسوله أعلم.

فنهى اللّه سبحانه المؤمنين عن موالاتهم الكافرين، و أوجب معاداتهم إيّاهم، بقوله: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ».

وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ و هو حال من فاعل أحد الفعلين. و الحقّ الإسلام.

يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أي: من مكّة. و هو حال من «كفروا».

أو استئناف لبيان كفرهم و عتوّهم. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تعليل ل «يخرجون» أي:

يخرجونكم لإيمانكم باللّه. و فيه تغليب المخاطب، و الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، للدلالة على ما يوجب الإيمان.

إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ متعلّق ب «لا تتّخذوا» يعني: تتولّوا أعدائي إن كنتم خرجتم عن أوطانكم جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي علّة للخروج، و عمدة للتعليق. و جواب الشرط محذوف دلّ عليه «لا تتّخذوا». و المعنى: إن كان غرضكم في خروجكم و هجرتكم الجهاد و طلب رضائي، فأوفوا خروجكم حقّه من معاداتهم، و لا تلقوا إليهم بالمودّة، و لا تتّخذوهم أولياء.

تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بدل من «تلقون» أو استئناف. و معناه: أيّ طائل لكم في إسرار المودّة، أو الإخبار بسبب المودّة. وَ أَنَا أَعْلَمُ منكم بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ أي: و قد علمتم أنّ الإخفاء و الإعلان سيّان في علمي لا تفاوت بينهما، و أنا مطلع رسولي على ما تسرّون. و قيل: «أعلم» مضارع، و الباء مزيدة، و «ما» مصدريّة.

ص: 28

وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي: يفعل الاتّخاذ و الإسرار فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أخطأ طريق الحقّ و الصواب.

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً خالصي العداوة، و لا يكونوا لكم أولياء كما أنتم، و لا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ بما يسوؤكم، كالقتل و الشتم وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ و تمنّوا ارتدادكم. فإذن مودّة أمثالهم و مناصحتهم خطأ عظيم منكم، و مغالطة لأنفسكم.

و مجيئه بلفظ الماضي للإشعار بأنّهم ودّوا أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا و الدين جميعا، من قتل الأنفس، و تمزيق الأعراض، و ردّكم كفّارا.

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ قراباتكم وَ لا أَوْلادُكُمْ الّذين توالون المشركين لأجلهم، و تتقرّبون إليهم محاماة عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرّق بينكم و بين أقاربكم و أولادكم يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (1) الآية. فما لكم ترفضون حقّ اللّه اليوم لمن يفرّ منكم غدا. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

و قرأ حمزة و الكسائي بالتشديد و كسر الصاد و فتح الفاء. و ابن عامر: يفصّل على البناء للمفعول مع التشديد، و هو «بينكم». و عاصم: يفصل.

[سورة الممتحنة [60]: الآيات 4 الى 6]

قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ

ص: 29


1- عبس: 34.

[4] رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [5] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [6]

ثمّ ضرب سبحانه لهم إبراهيم عليه السّلام مثلا في ترك موالاة الكفّار، فقال: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ و هو اسم لما يؤتسى به، أي: ما تأتسون به و تتّخذونه سنّة تستنّون بها. و المعنى: قد كان فيهم مذهب حسن و طريق مرضيّ بأن يؤتسى به و يتبع أثره. فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ صفة ثانية. أو خبر «كان» و «لكم» لغو. أو حال من المستكن في «حسنة». أو صلة لها، لا ل «أسوة» لأنّها وصفت.

إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ ظرف لخبر «كان» إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ فلا نواليكم. جمع بري ء، كظريف و ظرفاء. وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي: بدينكم أو بمعبودكم، أو بكم و به، فلا نعتدّ بشأنكم و آلهتكم وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي: سبب العداوة و البغضاء بيننا و بينكم ليس إلّا كفركم باللّه، فما دام هذا السبب قائما كانت العداوة قائمة، حتّى إن أزالوه بالإيمان باللّه وحده انقلبت العداوة و البغضاء ألفة و محبّة.

إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في التربية لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله: «أسوة حسنة» فإنّ استغفاره لأبيه- أي: عمّه- الكافر ليس ممّا ينبغي أن يأتسوا به، فإنّه كان لموعدة وعدها إيّاه، فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للّه تبرّأ منه وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إذا أراد عقابك، و لا يمكنني دفع ذلك عنك. و هذا من تمام الاستثناء، و لا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه.

رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا فوّضنا أمرنا إليك وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا و إلى طاعتك مرجعنا

ص: 30

وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و إلى حكمك المرجع. و هذا المنادي متّصل بما قبل الاستثناء، أو أمر من اللّه للمؤمنين بأن يقولوه تتميما لما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم و بين الكفّار.

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن تسلّطهم علينا تخلية، فيفتنونا بعذاب لا نتحمّله وَ اغْفِرْ لَنا ما فرط منّا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغالب الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا الحكمة و الصواب. و من كان كذلك كان حقيقا بأن يجير المتوكّل، و يجيب الداعي و لا يخيبه.

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كرّره للمبالغة، و لمزيد الحثّ على التأسّي بإبراهيم و أتباعه. و أبدل قوله: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ إبدالا من «لكم»، فإنّه يدلّ على أنّه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسّي بهم، و أنّ تركه مؤذن بسوء العقيدة. و لذلك عقّبه بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإنّه جدير بأن يوعد به الكفرة، فإنّ معناه: و من يعرض عن هذا الاقتداء بإبراهيم و الأنبياء و المؤمنين، فإنّ اللّه هو الغنيّ عن ذلك، المحمود في جميع أفعاله، فلا يضرّه تولّيه، و لكنّه ضرّ نفسه.

[سورة الممتحنة [60]: الآيات 7 الى 9]

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [7] لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [8] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [9]

ص: 31

و لمّا نزل «لا تتّخذوا» تشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم و أبنائهم و جميع أقربائهم من المشركين و مقاطعتهم، فلمّا راى اللّه منهم الجدّ و الصبر على الوجه الشديد، و طول التمنّي للسبب الّذي يبيح لهم الموالاة و المواصلة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنّوه، فقال:

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً بتوفيق الإسلام.

و ذلك حين يسّر فتح مكّة أظفرهم اللّه بأمنيّتهم، فأسلم قومهم، و تمّ بينهم التحابب و التصافي. و «عسى» وعد من اللّه على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعلّ، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين.

و روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تزوّج أمّ حبيبة، فعند ذلك لانت عريكة أبي سفيان، و استرخت شكيمته في العداوة. و كانت أمّ حبيبة قد أسلمت و هاجرت مع زوجها عبد اللّه بن أبي جحش إلى الحبشة، فتنصّر و أرادها على النصرانيّة، فأبت و صبرت على دينها. و مات زوجها، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى النجاشي، فخطبها عليه السّلام، و ساق عنه إليها المهر أربعمائة دينار. و بلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقدع (1) أنفه.

وَ اللَّهُ قَدِيرٌ على تقليب القلوب من العداوة إلى المحبّة، و تسهيل أسباب المودّة وَ اللَّهُ غَفُورٌ لذنوب عباده رَحِيمٌ بهم إذا تابوا و أسلموا. أو غفور رحيم لما فرط منكم من موالاتهم من قبل، و لما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.

لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي:

لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء، لأنّ قوله: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من «الّذين».

وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ و تفضوا إليهم بالقسط، أي: العدل. و المعنى: لا ينهاكم اللّه

ص: 32


1- أي: لا يضرب أنفه و لا يكفّ.

عن مبرّة هؤلاء، و إنّما ينهاكم عن تولّي هؤلاء. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين.

و هذا أيضا رحمة لهم، لتشدّدهم و جدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته، بتيسير إسلام قومهم، حيث رخّص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين و إخراجهم من ديارهم.

و قيل: أراد بهم خزاعة، و كانوا صالحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أن لا يقاتلوه، و لا يعينوا عليه.

و عن مجاهد: هم النساء و الصبيان.

و قيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزّى و هي مشركة بهدايا، فلم تقبلها، و لم تأذن لها بالدخول، فنزلت. فأمرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تدخلها، و تقبل منها، و تكرمها، و تحسن إليها.

و قيل: إنّ المسلمين استأمروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يبرّوا أقرباءهم من المشركين، و ذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين، فنزلت هذه الآية.

و عن مجاهد: هي منسوخة بآية (1) القتال.

و الّذي عليه الإجماع أنّ برّ الرجل من يشاء من أهل الحرب- قرابة كان أو غير قرابة- ليس بمحرّم. و إنّما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة و الفطرة و الكفّارات، فلم يجوّزه أصحابنا، و العامّة اختلفوا فيه. و ناهيك بتوصية اللّه المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به، و يتحاموا ظلمهم، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ كمشركي مكّة، فإنّ رؤساءهم سعوا في إخراج المؤمنين، و أتباعهم عاونوا رؤساءهم على الإخراج أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من «الّذين» بدل الاشتمال،

ص: 33


1- التوبة: 5.

أي: ينهاكم اللّه عن أن تولّوهم و توادّوهم بالمكاتبة و غيرها من أسباب التوادّ.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و ينصرهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية في غير موضعها.

[سورة الممتحنة [60]: الآيات 10 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [10] وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [11]

عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا صالح بالحديبية مشركي مكّة، على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم، و من أتى أهل مكّة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو لهم و لم يردّوه عليه، و كتبوا بذلك كتابا و ختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلميّة مسلمة بعد الفراغ من الكتاب و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحديبية. فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم- و قال مقاتل: هو صيفي بن الراهب- في طلبها، و كان كافرا، فقال: يا محمّد اردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا، و هذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية بيانا لأنّ الشرط إنّما كان

ص: 34

في الرجال دون النساء.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ فاختبروهنّ بما يغلب على ظنّكم موافقة قلوبهنّ لسانهنّ في الإيمان اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ فإنّه المطّلع على ما في قلوبهنّ، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئنّ به النفس و يثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهنّ، فإنّ ذلك ممّا استأثر به علّام الغيوب، و أنّ ما يؤدّي إليه الامتحان من العلم كاف لكم في ذلك، و أنّ تكليفكم لا يعدوه.

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ العلم الّذي يمكنكم تحصيله، و هو الظنّ الغالب بالحلف و ظهور الأمارات. و إنّما سمّاه علما إيذانا بأنّه كالعلم في وجوب العمل به.

فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي: إلى أزواجهنّ الكفرة، لقوله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ و التكرار للمبالغة. أو الأولى لحصول الفرقة، و الثانية للمنع عن استئناف العقد. و فيه دلالة على وقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة، و إن لم يطلّق المشرك.

وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ما دفعوا إليهنّ من المهور. و ذلك لأنّ صلح الحديبية جرى على أنّ من جاءنا منكم رددناه، فلمّا تعذّر عليه ردّهنّ لورود النهي عنه لزمه ردّ المهر. فاستحلفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، و تزوّجها عمر.

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها المسلمون أَنْ تَنْكِحُوهُنَ فإنّ الإسلام حال بينهنّ و بين أزواجهنّ الكفّار إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ شرط إيتاء المهر في نكاحهنّ إيذانا بأنّ ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر، و إشعارا بأنّ المهر أجر البضع، و وجب على الامام أو نائبه أن يدفع إلى أزواجهنّ من بيت المال ما سلّموهنّ من المهور.

ثمّ نهى المؤمنين عن نكاح الكافرات بقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ

ص: 35

بما يعتصم به الكافرات من عقد و سبب. جمع عصمة. و المعنى: لا تكن بينكم و بينهنّ عصمة و لا علقة زوجيّة. و فيه دلالة على عدم جواز العقد على الكافرة، سواء كانت حربيّة أو ذمّيّة، لعموم لفظ الكوافر. وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ من مهور نسائكم اللاحقات بالكفّار وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا من مهور أزواجهم المهاجرات.

ذلِكُمْ إشارة إلى جميع ما ذكر في الآية حُكْمُ اللَّهِ و أمره يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ استئناف، أو حال من الحكم على حذف الضمير، أي: يحكمه اللّه. أو جعل الحكم حاكما على المبالغة. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بجميع الأشياء حَكِيمٌ فيما يفعل، و من ذلك شرع ما تقتضيه حكمته.

قال الحسن: كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر، و الكافرة تحت المسلم، فنسخته هذه الآية.

و روي: أنّه لمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين، و أبى المشركون أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهنّ المسلمين، فنزلت:

وَ إِنْ فاتَكُمْ و إن سبقكم و انفلت منكم شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أحد من أزواجكم. و إيقاع «شي ء» موقعه للتحقير و المبالغة في التعميم. أو شي ء من مهورهنّ. إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فجاءت عقبتكم: أي: نوبتكم من أداء المهر. شبّه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، و أداء أولئك مهور نساء هؤلاء اخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب و غيره. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ فآتوا أيّها الحكّام من فاتته امرأته من بيت المال أو الغنيمة مِثْلَ ما أَنْفَقُوا مثل مهر المهاجرة، و لا تؤتوه زوجها الكافر.

و قيل: معناه: إن غزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى- هي الغنيمة- فأتوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها.

ص: 36

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإنّ الإيمان به يقتضي التقوى منه.

قيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الإسلام ستّ نسوة: أمّ الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري. و فاطمة بنت أبي أميّة، كانت تحت عمر بن الخطّاب، و هي أخت أمّ سلمة.

و بروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. و عبدة بنت عبد العزّى بن نضلة، و زوجها عمرو بن عبد ودّ. و هند بنت أبي جهل، كانت تحت هشام بن العاص.

و كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر. فأعطاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مهور نسائهم من الغنيمة.

[سورة الممتحنة [60]: آية 12]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [12]

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة بيعة النساء، بعد أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البيعة من الرجال، فقال:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً من الأصنام و غيرها وَ لا يَسْرِقْنَ مال الأزواج و غيرهم وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ يريد و أد البنات و الإسقاط وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ

قيل: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. فكنّى

ص: 37

بالبهتان المفترى بين يديها و رجليها عن الولد الّذي تلصقه بزوجها كذبا، لأنّ بطنها الّذي تحمله فيه بين اليدين، و فرجها الّذي تلده به بين الرجلين.

وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ في حسنة تأمرهنّ بها. و التقييد بالمعروف- مع أنّ الرسول لا يأمر إلّا به- تنبيه على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقّي و الاجتناب.

قيل: هذا نهي عن النوح، و تمزيق الثياب، و جزّ الشعر، و شقّ الجيب، و خمش الوجه، و الدعاء بالويل. و الأصل أنّ المعروف كلّ ما دلّ العقل و السمع على وجوبه أو ندبه. و سمّي معروفا، لأنّ العقل يعترف به من جهة عظم حسنه.

فَبايِعْهُنَ إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء. وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ صفوح عنهنّ رَحِيمٌ منعم عليهنّ.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا فرغ يوم فتح مكّة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء و هو على الصفا، و كان عمر أسفل منه، و هند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفا أن يعرفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا.

فقالت هند: إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال. و ذلك أنّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام و الجهاد فقط.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تسرقن.

فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل ممسك، و إنّي أصبت من ماله هنات، فلا أدري أ يحلّ لي أم لا؟

فقال أبو سفيان: ما أصبت من شي ء فيما مضى و فيما غبر فهو لك حلال.

فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عرفها، فقال لها: فإنّك لهند بنت عتبة؟

قالت: نعم، فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه، عفا اللّه عنك.

ص: 38

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تزنين.

فقالت: أو تزني الحرّة؟

فتبسّم عمر بن الخطّاب لما جرى بينه و بينها في الجاهليّة.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تقتلنّ أولادكنّ.

فقالت: ربّيناهم صغارا، و قتلتموهم كبارا، فأنتم و هم أعلم. و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم بدر.

فضحك عمر حتّى استلقى. و تبسّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لمّا قال: و لا تأتين ببهتان.

قالت هند: و اللّه إنّ البهتان قبيح، و ما تأمرنا إلّا بالرشد و مكارم الأخلاق.

و لمّا قال: و لا يعصينك في معروف.

قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في شي ء.

و روى الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: أن لا يشركن باللّه شيئا، و ما مسّت يد رسول اللّه يد امرأة قطّ إلّا يد امرأة يملكها. رواه البخاري في الصحيح (1).

و روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده، ثمّ غمسن أيديهنّ فيه.

و قيل: إنّه كان يبايعهنّ من وراء الثوب. عن الشعبي.

و الوجه في بيعة النساء مع أنّهنّ لسن من أهل النصرة بالمحاربة: هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح من شأنهنّ في الدين و الأنفس و الأزواج، و كان ذلك في صدر الإسلام، و لئلّا ينفتق بهنّ فتق لما وضع من الأحكام، فبايعهنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسما لذلك.

ص: 39


1- صحيح البخاري 9: 99.

[سورة الممتحنة [60]: آية 13]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ [13]

روي: أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم.

فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني: اليهود. و قيل:

عامّة الكفّار.

قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ قد يئسوا من أن يكون لهم حظّ في الآخرة، لكفرهم بها، أو لعلمهم بأنّه لا حظّ لهم فيها، لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة، المؤيّد بالآيات كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ من موتاهم أن يبعثوا و يرجعوا أحياء، أو يثابوا، أو ينالهم خير منهم. و على الثاني وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على أنّ الكفر آيسهم.

و قيل: «مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» بيان للكفّار، أي: كما يئس الكفّار الّذين قبروا من خير الآخرة، لأنّهم تبيّنوا قبح حالهم و سوء منقلبهم.

ص: 40

[61] سورة الصفّ

اشارة

و تسمّى سورة الحواريّين، و سورة عيسى عليه السّلام. مدنيّة. و هي أربع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة عيسى عليه السّلام مصلّيا عليه، مستغفرا له ما دام في الدنيا، و هو يوم القيامة رفيقه».

أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الصفّ، و أدمن قراءتها في فرائضه و نوافله، صفّه اللّه تعالى مع ملائكته و أنبيائه المرسلين».

[سورة الصف [61]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [1] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [2] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [3] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [4]

و لمّا ختم اللّه سبحانه السورة بقطع موالاة الكفّار، افتتح هذه السورة بإيجاب

ص: 41

ذلك ظاهرا و باطنا، ثمّ بالأمر بالجهاد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مضى تفسيره.

روي: أنّ المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى اللّه لبذلنا أموالنا و أنفسنا، فأنزل اللّه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ (1).

فولّوا يوم أحد، فنزلت تعييرا لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ «لم» مركّبة من لام الجرّ و «ما» الاستفهاميّة. و الأكثر حذف ألفها مع حروف الجرّ، في قولك: بم، و فيم، و ممّ، و عمّ، و إلام، و علام، لكثرة استعمالهما في الكلام المستفهم عنه. و قد جاء استعمال الأصل قليلا. و الوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. و من أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف. و فيه معنى التعجّب.

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ إيثار المقت الّذي هو أشدّ البغض، و نصبه على التمييز، للدلالة على أنّ قولهم هذا مقت خالص كبير عند اللّه، بحيث يحقّر دونه كلّ عظيم، مبالغة في المنع عنه، لأنّه إذا ثبت كبر مقته عند اللّه فقد تمّ كبره و شدّته.

قيل: لمّا أخبر اللّه بثواب شهداء بدر، قالوا: لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا، ففرّوا يوم أحد و لم يفوا، فنزلت.

و قيل: كان الرجل يقول: قتلت و لم يقتل، و طعنت و لم يطعن، و ضربت و لم يضرب، و صبرت و لم يصبر.

و قيل: قد آذى المسلمين رجل و نكى فيهم، فقتله صهيب، و انتحل قتله آخر.

فقال عمر لصهيب: أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّك قتلته. فقال: إنّما قتلته للّه و لرسوله.

فقال عمر: يا رسول اللّه قتله صهيب. قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم. فنزلت .

ص: 42


1- الصفّ: 4.

في المنتحل.

و عن الحسن: نزلت في المنافقين. و نداؤهم بالإيمان على حسب ظاهر حالهم.

و الّذي يدلّ على أنّ المقت قد تعلّق بقول الّذين وعدوا الثبات في قتال الكفّار، فلم يفوا، قوله بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا مصطفّين، أو صافّين أنفسهم. مصدر وصف به. كَأَنَّهُمْ في تراصّهم و تلاصقهم من غير فرجة و لا خلل بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ رصّ بعضه إلى بعض. و هذا الكلام حال من المستكن في الحال الأولى. و الرصّ اتّصال بعض البناء بالبعض و استحكامه.

و قيل: يجوز أن يريد استواء نيّاتهم في الثبات حتّى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص.

و عن بعضهم: فيه دليل على فضل القتال راجلا، لأنّ الفرسان لا يصطفّون على هذه الصفة. و معنى محبّة اللّه إيّاهم أنّه يريد ثوابهم و منافعهم.

[سورة الصف [61]: آية 5]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [5]

ثمّ ذكر سبحانه حديث موسى عليه السّلام في صدق نيّته و ثبات عزيمته على الصبر في أذى قومه، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تكذيبهم إيّاه، فقال:

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ مقدّر ب: اذكر يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كانوا يؤذونه بأنواع الأذى، من انتقاصه و عيبه في نفسه بالرمي بالأدرة (1)، و جحود آياته،

ص: 43


1- الادرة: انتفاخ الخصية.

و عصيانه فيما تعود إليهم منافعه، و عبادتهم البقر، و طلبهم رؤية اللّه جهرة، و قولهم:

اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (1). فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (2).

و نسبة قتل هارون إليه، و التكذيب الّذي هو تضييع حقّ اللّه و حقّه.

وَ قَدْ تَعْلَمُونَ في موضع الحال تقريرا للإنكار. و «قد» لتحقيق العلم، أي:

تؤذونني عالمين علما يقينا. أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بما جئتكم من المعجزات.

و قضيّة علمكم بذلك و موجبه تعظيمي و توقيري، لا أن تؤذوني و تستهينوا بي، لأنّ من عرف اللّه و عظمته عظّم رسوله، علما بأنّ تعظيمه في تعظيم رسوله.

فَلَمَّا زاغُوا عن الحقّ أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بأن منع ألطافه عنهم، و خلّاهم و سوء اختيارهم، فصرفت قلوبهم عن قبول الحقّ و الميل إلى الصواب تخلية و خذلانا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يلطف بهم ليهتدوا، لأنّهم ليسوا من أهل اللطف، فلم يقبلوا الحقّ.

[سورة الصف [61]: الآيات 6 الى 9]

وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [6] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [7] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [8] هُوَ

ص: 44


1- الأعراف: 138.
2- المائدة: 24.

الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [9]

ثمّ عطف سبحانه قصّة عيسى على قصّة موسى، فقال: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ لم يقل: يا قوم كما قال موسى، لأنّه لا نسب له فيهم إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ في حال تصديقي لما تقدّمني مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً و في حال تبشيري بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي و العامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال، لا الجارّ، لأنّه لغو، إذ هو صلة للرسول، فلا يجوز أن يعمل شيئا، لأنّ حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها، و لكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمّن معنى فعل، فمن أين تعمل؟

اسْمُهُ أَحْمَدُ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المعنى: أنّ ديني التصديق بكتب اللّه و أنبيائه. فذكر أوّل الكتب المشهورة الّذي حكم به النبيّون و النبيّ الّذي هو خاتم النبيّين.

و لاسم أحمد معنيان:

أحدهما: أن يجعل مبالغة من الفاعل، أي: هو أكثر حمدا للّه من غيره.

و الآخر: أن يجعل مبالغة من المفعول، أي: يحمد بما فيه من الأخلاق و المحاسن أكثر ممّا يحمد غيره.

و صحّت الرواية عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ لي أسماء: أنا أحمد، و أنا محمد، و أنا الماحي الّذي يمحو اللّه بي الكفر، و أنا الحاشر الّذي يحشر الناس على قدمي، و أنا العاقب الّذي ليس

ص: 45

بعدي نبيّ». أورده البخاري في الصحيح (1).

و في هذه البشرى معجزة لعيسى عليه السّلام عند ظهور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أمر لأمّته أن يؤمنوا به عند مجيئه.

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ الإشارة إلى ما جاء به أو إليه.

و تسميته سحرا للمبالغة. و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي: هذا ساحر، على أنّ الإشارة إلى عيسى عليه السّلام.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ و أيّ الناس أشدّ ظلما؟ بمعنى: لا أحد أظلم ممّن يدعوه ربّه على لسان نبيّه إلى الإسلام الّذي له فيه سعادة الدارين، فيضع موضع إجابته إليه افتراء الكذب على اللّه، بقوله لكلامه الّذي هو دعاء عباده إلى الحقّ: هذا سحر مبين، لأنّ السحر كذب و تمويه.

و الاستفهام للإنكار. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الّذين ظلموا أنفسهم بفعل الكفر و المعاصي.

قال ابن جريج: هم الكفّار و المنافقون. و يدلّ عليه قوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا أي: يريدون أن يطفؤا كما جاء في سورة البراءة (2). و اللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها، كما زيدت في قولك: لا أبالك، تأكيدا لمعنى الإضافة في: لا أباك. أو يريدون الافتراء ليطفؤا نُورَ اللَّهِ يعني دينه: أو كتابه أو حجّته بِأَفْواهِهِمْ بأن طعنوا فيه بأنّه سحر مبين. مثّلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس ليطفئه. وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مبلغ غايته بنشره و إعلائه. و قرأ ابن كثير و حفص بالإضافة. وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إرغاما لهم.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى بالقرآن أو المعجزة وَ دِينِ الْحَقِ و الملّة

ص: 46


1- صحيح البخاري 4: 225.
2- البراءة: 32.

الحنيفيّة، و هي دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ ليعليه و يغلبه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على جميع الأديان المخالفة له. و الدين اسم الجنس. وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لما فيه من محض التوحيد و إبطال الشرك. و في هذه دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه سبحانه قد أظهر دينه على جميع الأديان بالاستعلاء و القهر و إعلاء الشأن، بحيث ما بقي من الأديان إلّا و هو مغلوب مقهور بدين الإسلام، كما وعده ذلك في حال الضعف و قلّة الأعوان.

و روى العيّاشي بالإسناد عن عمران بن ميثم، عن عباية أنّه سمع أمير المؤمنين عليه السّلام يقول حين تلاوة هذه الآية: «و الّذي نفسي بيده حتّى لا تبقى قرية إلّا ينادى فيها بشهادة أن لا إله إلّا اللّه بكرة و عشيّا».

[سورة الصف [61]: الآيات 10 الى 13]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [10] تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [11] يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [12] وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [13]

و لمّا قدّم ذكر الرسول عقّبه بذكر دعاء العباد إلى قبول قوله و نصرة دينه و العمل بشريعته، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قرأ ابن عامر: تنجّيكم بالتشديد.

ص: 47

ثمّ استأنف كلاما لبيان التجارة، كأنّهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ يعني: التجارة المنجية من عذاب أليم هو الجمع بين الإيمان و الجهاد المؤدّي إلى كمال عزّهم. و المراد به الأمر، و إنّما جي ء بلفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنّه امتثل، فهو يخبر عن إيمان و جهاد موجودين. و نظيره قول الداعي: غفر اللّه لك، و يغفر اللّه لك. جعلت المغفرة لقوّة الرجاء، كأنّها كانت و وجدت. و أيضا إيراد الأمر على صورة الخبر تلطّف في الاستدعاء إلى الإخلاص في الطاعة، فإنّ المعنى: هل ترغبون في تجارة منجية من العذاب؟

عن ابن عبّاس: أنّهم قالوا: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى اللّه لعملناه. فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء اللّه يقولون: ليتنا نعلم ما هي؟ فدلّهم اللّه تعالى على التجارة المذكورة بقوله: «تؤمنون». و هذا دليل على أنّ «تؤمنون» كلام مستأنف، و على أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف و تطلّع منها إليه، أوقع فيها و أقرب من قبولها له ممّا فوجئت به.

ذلِكُمْ أي: ما ذكر من الإيمان و الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أموالكم و أنفسكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم، إذ الجاهل لا يعتدّ بفعله. أو إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ، لأنّه إذا علمتم ذلك و اعتقدتموه أحببتم الإيمان و الجهاد فوق ما تحبّون أنفسكم و أموالكم.

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، أو لشرط أو استفهام دلّ عليه الكلام، تقديره: إن تؤمنوا و تجاهدوا، أو هل تقبلون أن أدلّكم يغفر لكم؟ و يبعد جعله جوابا ل «هل أدلّكم» كما قال الفرّاء، لأنّ مجرّد الدلالة لا توجب المغفرة. وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً مستطابة مستلذّة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ جنّات إقامة لا تبغون عنها حولا ذلِكَ أي: ما ذكر من

ص: 48

المغفرة و إدخال الجنّة الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لا ما يعدّه الناس فوزا، من طول البقاء و ولاية الدنيا.

روي: أنّه سأل الحسن عمران بن الحصين و أبا هريرة عن تفسير قوله:

«وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً». فقالا: سألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك، فقال: «قصر من لؤلؤ في الجنّة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوت حمراء، في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء، في كلّ بيت سبعون سريرا، على كلّ سرير سبعون فراشا من كلّ لون، على كلّ فراش امرأة من الحور العين، في كلّ بيت سبعون مائدة، على كلّ مائدة سبعون لونا من الطعام، في كلّ بيت سبعون وصيفا و وصيفة. فقال: يعطي اللّه المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه».

ثمّ بشّرهم بنعمة عاجلة مزيدا على الآجلة، فقال: وَ أُخْرى تُحِبُّونَها أي:

و لكم إلى هذه النعمة المذكورة- أعني: المغفرة و الثواب في الآجلة- نعمة اخرى عاجلة محبوبة إليكم. و في «تحبّونها» تعريض بأنّهم يؤثرون العاجل على الآجل.

و قيل: «اخرى» منصوبة بإضمار: يعطيكم أو تحبّون. أو مبتدأ خبره نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ و هو على الأوّل بدل أو بيان. و على قول النصب خبر محذوف. وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ عاجل. و هو فتح مكّة. و قال الحسن: فارس و الروم. و قيل: جميع فتوح الإسلام. وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على محذوف مثل: قل يا أيّها الّذين آمنوا و بشّر. أو على «تؤمنون» فإنّه في معنى الأمر، كأنّه قال: آمنوا و جاهدوا يثبكم اللّه و ينصركم أيّها المؤمنون، و بشّرهم يا رسول اللّه بما وعدتهم على الايمان و الجهاد آجلا و عاجلا.

[سورة الصف [61]: آية 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ

ص: 49

بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [14]

ثمّ حضّ المؤمنين على نصرة دينه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ و قرأ الحجازيّان و أبو عمرو بالتنوين و اللام، لأنّ المعنى: كونوا بعض أنصار اللّه كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ التشبيه محمول على المعنى. و المراد: كونوا أنصار اللّه، كما كان الحواريّون أنصار عيسى حين قال لهم. أو المراد: قل لهم كما قال عيسى للحواريّين: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» أي: من جندي متوجّها إلى نصرة اللّه؟ ليطابق قوله: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ

و الإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر، لما بينهما من الاختصاص. و الثانية إضافة الفاعل إلى المفعول. فمعنى «من أنصاري»: من الأنصار الّذين يختصّون بي، و يكونون معي في نصرة اللّه؟ و معنى «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ»:

نحن الّذين ينصرون اللّه. و لا يجوز أن يكون معنى الأوّل: من ينصرني مع اللّه، لأنّه لا يطابق الجواب.

و الحواريّون: أصفياء عيسى، فإنّ حواريّ الرجل صفيّه و خلصانه.

من الحور، و هو البياض الخالص. و قيل: كانوا قصّارين يحوّرون الثياب، أي: يبيّضونها. و نظير الحواريّ في زنته: الحواليّ، بمعنى: الكثير الحيل.

و قيل: كانوا يلبسون الثياب البيض. و هم أوّل من آمن به، و كانوا اثني عشر رجلا.

فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ به. و ذلك أنّه

ص: 50

لمّا رفع تفرّق قومه ثلاث فرق: فرقة قالت: كان اللّه، فارتفع. و فرقة قالت:

كان ابن اللّه، فرفعه إليه. و فرقة قالت: كان عبد اللّه و رسوله، فرفعه إليه، و هم المؤمنون. و اتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، و ظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتّى بعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين. و ذلك قوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ بالحجّة أو بالحرب فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ فصاروا غالبين. و عن مجاهد: بل أيّدوا في زمانهم على من كفر.

ص: 51

ص: 52

[62] سورة الجمعة

اشارة

مدنيّة. و هي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات، بعدد من أتى الجمعة و بعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين».

منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سبّح اسم ربّك الأعلى، و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين، فإذا فعل فكأنّما يعمل عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان جزاؤه و ثوابه على اللّه الجنّة».

[سورة الجمعة [62]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [1] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [2] وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [3] ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ

ص: 53

مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [4]

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [5]

و لمّا ختم سبحانه سورة الصفّ بالترغيب في عبادته و الدعاء إليها، و ذكر تأييد المؤمنين بالنصر و الظهور على الأعداء، افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك و على جميع الأشياء، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ينزّهه عن جميع النواقص كلّ شي ء من العلويّات و السفليّات الْمَلِكِ القادر على تصريف الأشياء بأيّ وجه أراد الْقُدُّوسِ كثير النظافة و النزاهة عن كلّ نقص الْعَزِيزِ الغالب الّذي لا يمتنع عليه شي ء الْحَكِيمِ العالم الّذي يضع الأشياء موضعها.

و بعد إثبات الألوهيّة و صفاتها اللازمة قال في بيان الرسالة و ما يتبعها: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ أي: في العرب، فإنّ الأمّي منسوب إلى أمّة العرب، لأنّهم كانوا لا يكتبون و لا يقرؤن من بين الأمم. و قيل: بدئت الكتابة بالطائف، أخذوها من أهل الحيرة، و أهل الحيرة من أهل الأنبار. و المعنى: بعث منهم رجلا أمّيّا في قوم أمّيّين.

و وجه النعمة في أنّه جعل النبوّة في أمّيّ: موافقته لما تقدّمت البشارة به في كتب الأنبياء السالفة، و لأنّه أبعد من توهّم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم الّتي تلاها و الكتب الّتي قرأها، فبذلك يعلم علما ضروريّا بأنّ ما يخبرهم به من أخبار الأمم الماضية و القرون الخالية على وفق ما في كتبهم

ص: 54

ليس ذلك إلّا بالوحي.

و قيل: منسوب إلى أمّ القرى، و هي مكّة.

رَسُولًا مِنْهُمْ من جملتهم، كقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ (1). فيعلمون نسبه و أحواله يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ آيات القرآن المشتملة على الحلال و الحرام و الحجّ و الأحكام، مع كونه أمّيّا مثلهم لم تعهد منه قراءة، و لم يعرف بتعلّم وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم من خبائث الشرك و أعمال الجاهليّة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ القرآن و الشريعة، أو معالم الدين من المنقول و المعقول، و لو لم يكن سواه معجزة لكفاه وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه، من الشرك و خبث الجاهليّة. و «إن» هي المخفّفة، و اللام تدلّ عليها. و هذا بيان لشدّة احتياجهم إلى نبيّ يرشدهم، و إزاحة لما يتوهّم أنّ الرسول تعلّم ذلك من معلّم.

و قال في المجمع: «و إنّما قال: «منهم» لأنّهم إذا أسلموا صاروا منهم، فإنّ المسلمين كلّهم يد واحدة على من سواهم، و أمّة واحدة و إن اختلفت أجناسهم، كما قال سبحانه: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2). و من لم يؤمن بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّهم ليسوا ممّن عناهم اللّه بقوله: وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ (3).

وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ عطف على «الأميّين»، أو المنصوب في «يعلّمهم» أي:

يعلّم آخرين. و هم الّذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين، فإنّ دعوته و تعليمه يعمّ الجميع من أبناء عصره و أبناء العصور الغوابر، لأنّ التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كلّه مستندا إلى أوّله، فكأنّه هو الّذي تولّى كلّ ما وجد فيه من الأوّلين و الآخرين. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يلحقوا بهم بعد و سيلحقون، من العجم و العرب.

ص: 55


1- التوبة: 128.
2- التوبة: 71.
3- مجمع البيان 10: 284.

و قيل: لمّا نزلت قيل: من هم يا رسول اللّه؟ فوضع يده على سلمان، ثمّ قال:

«لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء».

وَ هُوَ الْعَزِيزُ في تمكينه من هذا الأمر الخارق للعادة الْحَكِيمُ في اختياره و تعليمه من بين كافّة البشر.

ذلِكَ أي: ذلك الفضل الّذي أعطاه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و به امتاز عن أقرانه، و هو أن يكون نبيّ جميع العباد إلى آخر الدهر فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إعطاءه، و تقتضيه حكمته.

روى محمّد بن أبي عمير عن هشام بن سالم يرفعه قال: «جاء الفقراء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: يا رسول اللّه إنّ للأغنياء ما يتصدّقون، و ليس لنا ما نتصدّق.

و لهم ما يحجّون، و ليس لنا ما نحجّ. و لهم ما يعتقون، و ليس لنا ما نعتق.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كبّر اللّه مائة مرّة كان أفضل من عتق مائة رقبة. و من سبّح اللّه مائة مرّة كان أفضل من سياق مائة بدنة. و من حمد اللّه مائة مرّة كان أفضل من حملان (1) مائة فرس في سبيل اللّه يسرجها و يلجمها. و من هلّل اللّه مائة مرّة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلّا من زاد.

فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه، فرجع الفقراء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: يا رسول اللّه قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه. فقال رسول اللّه: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء».

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الّذي يستحقر دونه نعيم الدنيا و نعيم الآخرة.

ثمّ ضرب سبحانه مثلا لليهود الّذين تركوا العمل بالتوراة الّتي فيها الوعد ببعثة رسول اللّه و نعوته، فقال:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ علّموها و كلّفوا العمل بها. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي: لم يعملوا و لم ينتفعوا بها، فكأنّهم لم يحملوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً

ص: 56


1- الحملان: ما يحمل عليه من الدوابّ في الهبة خاصّة.

كتبا من العلم يتعب في حملها، و لا ينتفع بها. يعني: صفة اليهود- في أنّهم حملة التوراة و قرّاؤها، و حفّاظ ما فيها، ثمّ إنّهم غير عالمين بها، و لا منتفعين بآياتها، و ذلك أنّ فيها نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و البشارة به، و لم يؤمنوا به- كصفة الحمار، حمل كتبا من كتب العلم، فهو يمشي بها و لا يدري منها إلّا ما يمرّ بجنبيه و ظهره من الكدّ و التعب.

و «يحمل» حال، و العامل فيه معنى المثل. أو صفة، إذ ليس المراد من الحمار معيّنا، كقوله: و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني.

بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا أي: مثل الّذين كذّبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالّة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و يجوز أن يكون «الّذين» صفة للقوم، و المخصوص بالذمّ محذوفا، و هو: مثلهم. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: لا يفعل بهم من الألطاف الّتي يفعلها بالمؤمنين الّذين بها يهتدون. و قيل: لا يثيبهم و لا يهديهم إلى الجنّة.

[سورة الجمعة [62]: الآيات 6 الى 8]

قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [6] وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [7] قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [8]

و بعد تبيين إنكار اليهود ما في التوراة، سكّتهم بما كانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ (1)، و ألزمهم بقوله:

قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا تهوّدوا. من: هاد يهود إذا تهوّد.إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ

ص: 57


1- المائدة: 18.

أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي: إن كان قولكم «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» حقّا، و كنتم على ثقة منه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فتمنّوا من اللّه أن يميتكم و ينقلكم سريعا من دار البليّة إلى محلّ دار الكرامة الّتي أعدّها لأوليائه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم.

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم، و أنّهم غير واثقين بما يقولون، فقال: وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما قدّموا من الكفر و المعاصي وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيجازيهم على أعمالهم. و قد قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفسي بيده لا يقولها أحد منهم إلّا غصّ بريقه».

فلولا أنّهم كانوا مؤمنين بصدق رسول اللّه لتمنّوا، و لكنّهم علموا أنّهم لو تمنّوا لماتوا من ساعتهم و لحقهم الوعيد، فما تمالك أحد أن يتمنّى. و برواية اخرى عنه: «لو تمنّوا لماتوا عن آخرهم».

و هي إحدى المعجزات.

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ و لا تجسرون أن تتمنّوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لاحق بكم لا تفوتونه. و الفاء لتضمّن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. و يجوز أن يكون الموصول خبرا، ثمّ استؤنف: إنّه ملاقيكم. و الفاء للعطف، للدلالة على أنّ الفرار لا ينفع منه الموت، بل بمنزلة السبب في ملاقاته، فلا معنى للتعرّض للفرار، فكأنّه سبب الملاقاة، لأنّه لا يباعد منه. و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «كلّ امرئ لاق ما يفرّ منه، و الأجل مساق النفس، و الهرب منه موافاته».

ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ يعلم سرّكم و علانيتكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن يجازيكم عليه.

[سورة الجمعة [62]: الآيات 9 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [9] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ

ص: 58

فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [10] وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [11]

اعلم أنّ اللّه سبحانه أبطل قول اليهود في ثلاث: أحدها: افتخروا بأنّهم أولياء اللّه و أحبّاؤه، فكذّبهم في قوله: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ». و ثانيها: افتخروا بأنّهم أهل الكتاب، و العرب لا كتاب لهم، فشبّههم بالحمار يحمل أسفارا. و ثالثها:

افتخروا بالسّبت، و أنّه ليس للمسلمين مثله، فشرع اللّه لهم الجمعة، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي: أذّن لها. و وقت الأذان عند قعود الامام. و قد كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مؤذّن واحد، فكان إذا جلس على المنبر أذّن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة. ثمّ كان أبو بكر و عمر على ذلك إلى زمن عثمان، و كثر الناس و تباعدت المنازل، فزاد مؤذّنا آخر، فأمر بالتأذين الأوّل على داره الّتي تسمّى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذّن الثاني، فإذا نزل أقام للصلاة، و لم يعب ذلك عليه. و عند الإماميّة: الأذان الثاني حرام من جملة بدع عثمان.

و قوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان ل «إذا» و تفسير له. و إنّما سمّاه جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة. و كانت العرب قبل الإسلام تسمّيه العروبة. و قيل: سمّاه كعب بن لؤي، لاجتماع الناس فيه إليه.

و روي عن ابن سيرين: أنّ أهل المدينة جمّعوا قبل أن يقدم إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قبل أن تنزل سورة الجمعة، و قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كلّ سبعة أيّام، و للنصارى مثل ذلك، فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه، فنذكر اللّه فيه و نصلّي.

ص: 59

فقالوا: يوم السبت لليهود، و يوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين، و ذكّرهم و وعّظهم، فسمّوه يوم الجمعة، لاجتماعهم فيه. فأنزل اللّه آية الجمعة، فهي أوّل جمعة كانت في الإسلام.

و أمّا أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهي أنّه لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، و أقام بها يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس، و أسّس مسجدهم، ثمّ خرج يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، فخطب و صلّى الجمعة في دارهم.

فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فامضوا إليه مسرعين قصدا غير متثاقلين، فإنّ السعي دون العدو. و الذكر الخطبة. و قيل: الصلاة. و الأمر بالسعي إليها يدلّ على وجوبها.

وَ ذَرُوا الْبَيْعَ أي: اتركوا المعاملة و جميع ما يذهل عن ذكر اللّه، من شواغل الدنيا.

و إنّما خصّ البيع من بينها لأنّ يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم و بواديهم، و ينصبّون (1) إلى المصر من كلّ أوب، و وقت هبوطهم و اجتماعهم و اغتصاص الأسواق بهم إذا تعالى الضحى و دنا وقت الظهيرة، و حينئذ يتكاثر البيع و الشراء. فلمّا كان ذلك الوقت مظنّة الذهول بالبيع عن ذكر اللّه و المضيّ إلى المسجد، قيل لهم: بادروا إلى تجارة الآخرة، و اتركوا تجارة الدنيا، و اسعوا إلى ذكر اللّه الّذي لا شي ء أنفع منه و أربح. و قيل: سمّي جنس المعاملة بيعا تسمية للشي ء باسم أكثر أنواعها وقوعا.

ذلِكُمْ أي: السعي إلى ذكر اللّه خَيْرٌ لَكُمْ من المعاملة، فإنّ نفع الآخرة خير و أبقى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير و الشرّ الحقيقيّين، أو كنتم من أهل العلم.

و في الحديث: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: اعلموا أنّ اللّه تعالى قد افترض

ص: 60


1- أي: ينحدرون.

عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي، و لهم إمام عادل، استخفافا بها أو جحودا لها، فلا جمع اللّه شمله، و لا بارك في أمره. ألا و لا صلاة له، ألا و لا زكاة له، ألا و لا حجّ له، ألا و لا صوم له، الا و لا بركة له حتّى يتوب».

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، و فيه أدخل الجنّة، و فيه أهبط إلى الأرض، و فيه تقوم الساعة، و هو عند اللّه يوم المزيد».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتاني جبرئيل و في كفّه مرآة بيضاء، و قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربّك لتكون لك عيدا، و لأمّتك من بعدك، و هو سيّد الأيّام عندنا، و نحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ للّه في كلّ جمعة ستّمائة ألف عتيق من النّار».

و عن كعب: إنّ اللّه فضّل من البلدان مكّة، و من الشهور رمضان، و من الأيّام الجمعة.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من مات يوم الجمعة كتب اللّه له أجر شهيد، و وقي فتنة القبر».

و أيضا في الحديث: «إذا كان يوم الجمعة، قعدت الملائكة على أبواب المسجد، بأيديهم صحف من فضّة، و أقلام من ذهب، يكتبون الأوّل فالأوّل على مراتبهم».

و كانت الطرقات في أيّام السلف وقت السحر و بعد الفجر مختصّة بالمبكّرين إلى الجمعة، يمشون بالسرج.

و قيل: أوّل بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة.

و عن ابن مسعود: أنّه بكّر فرأى ثلاثة نفر سبقوه، فاغتمّ و أخذ يعاتب نفسه و يقول: أراك رابع أربعة، و ما رابع أربعة بسعيد.

و اعلم أنّ العلماء أجمعوا على اشتراط العدد في الجمعة، فقال الشافعي

ص: 61

و أحمد: أقلّهم أربعون. و أبو حنيفة: أربعة الامام أحدهم. و لم ينقل أصحاب مالك تقديرا. و أمّا أصحابنا فلهم قولان: أحدهما: سبعة، و الآخر خمسة. و هو قول الأكثر. و عليه أكثر الروايات المرويّة عن أهل البيت عليهم السّلام. و بواقي الشروط الواجبة في صلاة الجمعة و أحكامها مذكورة في كتب الفقه، فلا نطوّل الكلام بذكرها.

فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي: أدّيتم صلاة الجمعة و فرغتم منها، فإنّ اللام للعهد، أي: الصلاة الّتي تقدّم ذكرها، و هي الّتي وجب السعي إليها.

ثمّ أطلق لهم ما حظر عليهم لأجل الصلاة، من الانتشار و ابتغاء الربح بعد قضائها، فقال:

فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فتفرّقوا فيها وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ و اطلبوا الرزق في الشراء و البيع و غير ذلك. و هذا الأمر للإباحة. و احتجّ به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. و أقول: لا يبعد أن ينزّل هذا الأمر منزلة أحوال المكلّفين في وجوب الكسب و ندبه و إباحته. و في الحديث: «و ابتغوا من فضل اللّه ليس بطلب الدنيا، و إنّما هو عيادة مريض، و حضور جنازة، و زيارة أخ في اللّه».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الصلاة يوم الجمعة، و الانتشار يوم السبت».

و عن الحسن و سعيد بن جبير و مكحول: المراد بقوله: «وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» طلب العلم.

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً و اذكروه في مجامع أحوالكم على إحسانه إليكم بالتوفيق، و لا تخصّوا ذكره بالصلاة.

و قيل: و اذكروه في تجارتكم و أسواقكم، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ذكر اللّه في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه، كتب له ألف حسنة، و يغفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم يخطر على قلب بشر».

ص: 62

و قيل: المراد بالذكر هنا الفكر. و في الحديث: «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة».

و على هذا، فالمعنى: تفكّروا في صنائع اللّه و بدائعه، على تقدير المضاف، لأنّ التفكّر في ذاته تعالى منهيّ عنه، حيث

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تفكّروا في آلاء اللّه، و لا تتفكّروا في ذات اللّه».

و ذلك لعجز العقول البشريّة عن إدراك ذاته تعالى و حقيقته.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بخير الدارين.

روي: أنّ أهل المدينة أصابهم جوع و غلاء شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب يوم الجمعة، فقاموا إلى اشتراء الزيت بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا يسير. قيل: ثمانية، و أحد عشر، و اثنا عشر، و أربعون. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفس محمّد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم اللّه عليهم الوادي نارا».

و كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل و التصفيق، فنزلت:

وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ما ألهى عن ذكر اللّه انْفَضُّوا إِلَيْها انتشروا من عندك متوجّهين إلى التجارة. و إفراد التجارة بردّ الكناية، لأنّها المقصودة، فإنّ المراد من اللهو و الطبل الّذي كانوا يستقبلون به العير، و لهذا قدّمها عليه. و قيل: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها، و إذا رأوا لهوا انفضّوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. و الترديد للدلالة على أنّ منهم من انفضّ لمجرّد سماع الطبل و رؤيته. أو للدلالة على أنّ الانفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها و الانتفاع بها إذا كان مذموما، كان الانفضاض إلى اللهو أولى بذلك.

وَ تَرَكُوكَ قائِماً أي: على المنبر، أو في الصلاة. و يؤيّد الأوّل أنّه سئل عن ابن مسعود: أ كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب قائما؟ قال: أو ما تقرأ: «وَ تَرَكُوكَ قائِماً»؟.

قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ للمؤمنين من الثواب خَيْرٌ أحمد عاقبة، و أنفع خاتمة

ص: 63

مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ فإنّ ذلك محقّق مخلّد، بخلاف ما تتوهّمون من نفعهما.

قدّم التجارة أوّلا للترقّي، إذ التقدير أوّلا: انفضّوا إلى التجارة مع حاجتهم إليها، و ذلك مذموم، بل أبلغ من ذلك أنّهم انفضّوا إلى ما لا فائدة لهم فيه. و أخّر ثانيا، لأنّ تقديره: ما عند اللّه خير من اللهو، بل أبلغ من ذلك أنّه خير من التجارة المنتفع بها.

وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فتوكّلوا عليه، و اطلبوا الرزق منه، و لا تنفضّوا عن الرسول لطلب الرزق.

ص: 64

[63] سورة المنافقون

اشارة

مدنيّة. و هي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المنافقين برى ء من النفاق».

[سورة المنافقون [63]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [1] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [2] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [3]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الجمعة بما هو من علامات النفاق، من ترك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائما في الصلاة أو في الخطبة، و الاشتغال باللهو و طلب الارتفاق، افتتح هذه السّورة بذكر المنافقين، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ

ص: 65

شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم، فإنّ الشهادة إخبار عن علم من الشهود، و هو الحضور و الاطّلاع، و لذلك صدّق اللّه تعالى المشهود به و كذّبهم في الشهادة بقوله:

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ على الحقيقة، و كفى باللّه شهيدا وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ في قولهم: نشهد، و ادّعائهم فيه المواطاة، لأنّهم لم يعتقدوا ذلك. أو لأنّ قولهم لمّا خلا عن المواطاة لم يكن شهادة في الحقيقة، فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو إنّهم لكاذبون عند أنفسهم، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» كذب و خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. و لمّا كان الاكتفاء بقوله:

«نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» يوهم أنّ قولهم هذا كذب، وسّط بينهما قوله: «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» ليميط هذا الإيهام.

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ حلفهم الكاذب، أو شهادتهم هذه، فإنّها تجري مجرى الحلف في التوكيد، كقولك: أشهد باللّه و أعزم باللّه في موضع: أقسم جُنَّةً وقاية من القتل و السبي فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صدّا أو صدودا عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من نفاقهم و صدّهم النّاس عن سبيل اللّه أو صدودهم.

ذلِكَ إشارة إلى سوء عملهم، أي: ذلك القول الشاهد بأنّهم أسوأ الناس أعمالا. أو إلى حالهم المذكورة، من النفاق و الكذب و الاستجنان بالإيمان.

بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بسبب أنّهم نطقوا بكلمة الشهادة، و فعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ثُمَّ كَفَرُوا ثمّ ظهر كفرهم بعد ذلك و تبيّن بما اطّلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن حمير. و قولهم في غزوة تبوك: أ يطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى و قيصر؟ هيهات. و نحوه قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ (1) أي: ظهر كفرهم بعد أن أسلموا.

ص: 66


1- التوبة: 74.

و نحوه قوله: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ (1). و المعنى: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثمّ كفروا حيثما سمعوا من شياطينهم شبهة. أو نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، كقوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (2).

فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلانا و تخلية، فمنع اللطف و التوفيق منهم، لفرط عنادهم و جحودهم، مع ظهور الحقّ عندهم، حتّى تمرّنوا على الكفر فاستحكموا فيه، فجسروا فيه على كلّ عظيمة فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقيقة الإيمان، و لا يعرفون صحّته.

[سورة المنافقون [63]: آية 4]

وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [4]

روي: أنّ عبد اللّه بن أبيّ كان جسيما صبيحا فصيحا ذلق (3) اللسان، يحضر مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جمع من المنافقين في مثل صفته، و هم رؤساء المدينة، و كانوا يحضرون مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيستندون فيه، و لهم جهارة (4) المناظر و فصاحة الألسن، فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من حضر يعجبون بهياكلهم، و يسمعون إلى

ص: 67


1- التوبة: 66.
2- البقرة: 14.
3- لسان ذلق: طلق ذو حدّة.
4- الجهارة: حسن القدّ و المنظر.

كلامهم، فقال سبحانه:

وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لضخامتها و صباحتها. و الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ من يخاطب. وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لذلاقتهم و حلاوة كلامهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ حال من الضمير المجرور في «لقولهم» أي: تسمع لما يقولونه مشبّهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط، في كونهم أشباحا خالية عن العلم و النظر و الإيمان و إذاعة الخير.

و قيل: شبّهوا بالخشب. لأنّه إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظانّ الانتفاع، و ما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبّهوا به في عدم الانتفاع.

و يجوز أن يراد بالخشب المسنّدة: الأصنام المنحوتة من الخشب المسنّدة إلى الحيطان. شبّهوا بها في حسن صورهم و قلّة جدواهم.

و قرأ أبو عمرو و الكسائي و قنبل عن ابن كثير بسكون الشين على التخفيف، أو على أنّه كبدن جمع بدنة.

و قيل: الخشب جمع الخشباء، و هي الخشبة الّتي دعر (1) جوفها. شبّهوا بها في حسن المنظر و فساد الباطن.

يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ من نحو انفلات دابّة، أو إنشاد ضالّة، أو نداء مناد في العسكر، أو صيحة أحدهم بصاحبه عَلَيْهِمْ أي: واقعة عليهم و ضارّة لهم، لجبنهم و اتّهامهم. و قيل: كانوا على وجل من أن ينزل اللّه فيهم ما يهتك أستارهم، و يبيح دماءهم و أموالهم. ف «عليهم» ثاني مفعولي «يحسبون». و يجوز أن يكون صلته، و المفعول هُمُ الْعَدُوُّ. و على هذا يكون الضمير للكلّ. و جمعه بالنظر إلى الخبر. لكن ترتّب قوله: فَاحْذَرْهُمْ عليه يدلّ على أنّ الضمير للمنافقين.

ص: 68


1- دعر العود: نخر و فسد.

قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم، و طلب من ذاته أن يلعنهم و يخزيهم. أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحقّ؟ تعجّبا من جهلهم و ضلالتهم.

[سورة المنافقون [63]: الآيات 5 الى 8]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [5] سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [6] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [7] يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [8]

قال في الكشّاف: «روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين لقي بني المصطلق على المريسيع- و هو ماء لهم- و هزمهم و قتل منهم، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد- أجير لعمر يقود فرسه- و سنان الجهني- حليف لعبد اللّه بن أبيّ- و اقتتلا، فصرخ جهجاه: يا للمهاجرين، و سنان: يا للأنصار. فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين، و لطم سنانا.

فقال عبد اللّه لجعال: و أنت هناك. و قال: ما صحبنا محمّدا إلّا لنلطم، و اللّه ما مثلنا و مثلهم إلّا كما قيل: سمّن كلبك يأكلك. أما و اللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. عنى بالأعزّ نفسه، و بالأذلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 69

ثم قال لقومه: ما ذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم، و قاسمتموهم أموالكم. أما و اللّه لو أمسكتم عن جعال و ذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، و لأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد.

فسمع بذلك زيد بن أرقم و هو حدث، فقال: أنت و اللّه الذليل القليل المبغّض في قومك، و محمّد في عزّ من الرحمان و قوّة من المسلمين.

فقال عبد اللّه: اسكت فإنّما كنت ألعب.

فأخبر زيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول اللّه.

قال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب.

قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به أنصاريّا.

فقال: فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه.

و قال عليه السّلام لعبد اللّه: أنت صاحب الكلام الّذي بلغني؟

قال: و اللّه الّذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، و إنّ زيدا لكاذب.

فقال الحاضرون: يا رسول اللّه شيخنا و كبيرنا، لا تصدّق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم.

و روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لزيد: لعلّك غضبت عليه.

قال: لا.

قال: فلعلّه أخطأ سمعك.

قال: لا.

قال: فلعلّه شبّه عليك.

قال: لا.

و لمّا أراد عبد اللّه أن يدخل المدينة اعترضه ابنه حباب- و هو عبد اللّه بن

ص: 70

عبد اللّه، غيّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اسمه، و قال: إنّ حبابا اسم شيطان- و كان مخلصا، و قال لأبيه: وراءك و اللّه لا تدخلها حتّى تقول: رسول اللّه الأعزّ و أنا الأذلّ. فلم يزل حبيسا في يده حتّى أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتخليته.

و روي: أنّه قال له: لئن لم تقرّ للّه و رسوله بالعزّ لأضربنّ عنقك.

فقال: ويحك أفاعل أنت؟

قال: نعم.

فلمّا رأى منه الجدّ قال: أشهد أنّ العزّة للّه و لرسوله و للمؤمنين.

فقال رسول اللّه لابنه: جزاك اللّه عن رسوله و عن المؤمنين خيرا» (1).

و روي: أنّه لمّا بان كذب عبد اللّه قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول اللّه يستغفر لك. فلوى رأسه، ثمّ قال: أمرتموني أن أومن فآمنت، و أمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد. فنزلت فيه:

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ

عطفوها إعراضا و استكبارا عن ذلك. و قرأ نافع بتخفيف الواو. وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ يعرضون عن الاستغفار وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتذار.

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي: يتساوى الاستغفار لهم و عدم الاستغفار. و عن الحسن: أخبره سبحانه أنّهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم. لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لرسوخهم في كفرهم و إن أظهروا الإسلام إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مظنّة الاستصلاح، لانهماكهم في الكفر و النفاق.

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ أي: للأنصار لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ من المؤمنين المحتاجين حَتَّى يَنْفَضُّوا يتفرّقوا، يعنون فقراء المهاجرين وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بيده الأرزاق و القسم، فهو رازقهم منها و إن أبى أهل

ص: 71


1- الكشّاف 4: 541- 543.

المدينة أن ينفقوا عليهم وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ عبد اللّه و أضرابه لا يَفْقَهُونَ ذلك لجهلهم باللّه، فيهذّون (1) بما يزيّن لهم الشيطان.

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ من غزوة بني المصطلق لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يعنون أعزّهم بإنفاق الأموال مِنْهَا الْأَذَلَ يعنون رسول اللّه و المؤمنين وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ القوّة و الغلبة وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ و لمن أعزّه اللّه من رسوله و المؤمنين به. و هم الأخصّاء بذلك، كما أنّ المذلّة و الهوان للشيطان و ذويه من الكافرين و المنافقين.

و قيل: للّه العزّة بالربوبيّة، و لرسوله بالنبوّة، و للمؤمنين بالعبوديّة.

و قيل: عزّ اللّه خمسة: عزّ الملك و البقاء، و عزّ العظمة و الكبرياء، و عزّ البذل و العطاء، و عزّ الرفعة و العلاء، و عزّ الجلال و البهاء.

و عزّ الرسول خمسة: عزّ السبق و الابتداء، و عزّ الأذان و النداء، و عزّ تقدّمه على الأنبياء، و عزّ الاجتباء و الاصطفاء، و عزّ الظهور على الأعداء.

و عزّ المؤمنين خمسة: عزّ التأخير. بيانه: نحن الآخرون السابقون. و عزّ التيسير. بيانه: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ (2). يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ (3). و عزّ التبشير. بيانه: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (4). و عزّ التوقير. بيانه:

وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ (5). و عزّ التكثير. بيانه أنّهم أكثر الأمم.

وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ من فرط جهلهم و غرورهم.

ص: 72


1- أي: يلهجون و ينطقون.
2- القمر: 17.
3- البقرة: 185.
4- الأحزاب: 47.
5- آل عمران: 139.

و عن الحسن بن عليّ عليه السّلام: «أنّ رجلا قال له: إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها.

قال: ليس بتيه، و لكنّه عزّة. و تلا هذه الآية».

و لمّا نزلت هذه الآية لحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زيدا من خلفه فعرك (1) أذنه و قال:

«وفت أذنك يا غلام، إنّ اللّه صدّقك و كذّب المنافقين».

و روي: أنّ ابن أبيّ بعد نزول هذه الآية لم يلبث إلّا أيّاما قلائل حتّى مرض و مات.

[سورة المنافقون [63]: الآيات 9 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [9] وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [10] وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [11]

ثمّ أمر سبحانه المؤمنين بإنفاق الأموال في مرضاته، بعد أن ذمّ المنافقين على ترك الإنفاق، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ لا يشغلكم التصرّف في أموالكم، و السعي في تدبير أمرها، و التهالك على طلب النماء فيها بالتجارة و الاغتلال، و لا ابتغاء النتاج، و التلذّذ بها، و الاستمتاع بمنافعها. وَ لا أَوْلادُكُمْ و سروركم بهم،

ص: 73


1- أي: دلكه و حكّه.

و شفقتكم عليهم، و القيام بمؤنهم، و تسوية ما يصلحهم من معايشهم، في حياتكم و بعد مماتكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ و إيثاره عليها. قيل: هو الصلوات الخمس. و عن الحسن: جميع الفرائض. و قيل: القرآن. و عن الكلبي: الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و الأولى: جميع العبادات، فإنّها تذكرة للمعبود. و المراد نهيهم عن اللهو بها، و توجيه النهي إليها للمبالغة. و لذلك قال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: اللهو و الشغل فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في تجارتهم، لأنّهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.

وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ بعض أموالكم ادّخارا للآخرة. و المراد الإنفاق الواجب منه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي: يرى دلائله، و يعاين ما ييأس معه من الإمهال، و يضيق به الخناق، و يتعذّر عليه الإنفاق، و يفوت وقت القبول، فيتحسّر على المنع، و يعضّ أنامله على فقد ما كان متمكّنا منه فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي أمهلتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أمد غير بعيد فَأَصَّدَّقَ فأتصدّق وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالتدارك. و جزم «أكن» للعطف على موضع «فأصّدّق». كأنّه قيل: إن أخّرتني أصّدّق و أكن. و قرأ أبو عمرو: و أكون منصوبا، عطفا على: فأصّدّق.

و عن ابن عبّاس: تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة، و لا ينفع عمل.

و عنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكّي، و إذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربّه الكرّة فلا يعطاها.

و كذا عن الحسن: ما من أحد لم يزكّ و لم يصم و لم يحجّ إلّا سأل الرجعة.

وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً و لن يمهلها إِذا جاءَ أَجَلُها آخر عمرها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فمجاز عليه. و قرأ أبو بكر بالياء ليوافق ما قبله في الغيبة.

و المعنى: أنّهم إذا علموا أنّ تأخير الموت عن وقته ممّا لا سبيل إليه، و أنّه هاجم لا محالة، و أنّ اللّه عليم بأعمالهم، فمجاز عليها، من منع واجب و غيره، لم تبق إلّا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات، و الاستعداد للقاء اللّه.

ص: 74

[64] سورة التغابن

اشارة

مدنيّة. و قال ابن عبّاس: مكّيّة غير ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» إلى آخر السورة. و هي ثماني عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة».

ابن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة، و شاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثمّ لا تفارقه حتى يدخل الجنّة».

[سورة التغابن [64]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [1] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [2] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ

ص: 75

صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [3] يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [4]

و لمّا ختم سبحانه سورة المنافقين بذكر الأمر بالطاعة و النهي عن المعصية، افتتح هذه السورة ببيان حال المطيع و العاصي، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ بدلالتهما على كماله و استغنائه لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ قدّم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة، لأنّ الملك على الحقيقة له، لأنّه مبدئ كلّ شي ء و مبدعه، و القائم به و المهيمن عليه. و كذلك الحمد، لأنّ أصول النعم و فروعها منه.

و أمّا ملك غيره فتسليط منه و استرعاء، و حمده اعتداد بأنّ نعمة اللّه جرت على يده. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكلّ على سواء.

ثمّ شرع فيما ادّعاه، فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي: آت بالكفر و فاعل له وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ آت بالإيمان و فاعل له، كقوله: وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (1). و الدليل عليه قوله: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: عالم بكفركم و إيمانكم اللّذين هما من عملكم فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.

و المعنى: هو الّذي تفضّل عليكم بأصل النعم الّذي هو الخلق و الإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، و تكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين.

فما فعلتم مع تمكّنكم، بل تشعّبتم شعبا، و تفرّقتم أمما، فمنكم كافر و منكم مؤمن.

ص: 76


1- الحديد: 26.

و قدّم الكفر لأنّه الأغلب عليهم و الأكثر فيهم.

و قيل: هو الّذي خلقكم، فمنكم كافر بالخلق و هم الدهريّة، و منكم مؤمن به.

و لا يجوز حمل الكلام على أنّ اللّه سبحانه خلقهم مؤمنين و كافرين كما هو مذهب الأشاعرة، لأنّه لم يقل كذلك، بل أضاف الكفر و الإيمان إليهم و إلى فعلهم، و لذلك يصحّ الأمر و النهي، و الثواب و العقاب، و بعثة الأنبياء. على أنّ اللّه سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر و القبائح لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر و الضلال، و يؤيّده بالمعجزات، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. هذا و قد قال سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (1). و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلّ مولود يولد على الفطرة، و إنّما أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه».

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حكاية عن اللّه سبحانه: «خلقت عبادي كلّهم حنفاء».

و نحو ذلك من الأخبار كثير.

إن قيل: سلّمنا أنّ العباد هم الفاعلون للكفر، و لكن قد سبق في علم اللّه الحكيم أنّه إذا خلقهم لم يفعلوا إلّا الكفر، و لم يختاروا غيره، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ و هل خلق القبيح و خلق فاعل القبيح إلّا واحد؟ و هل مثله إلّا مثل من وهب سيفا باترا (2) لمن شهر بقطع السبيل و قتل النفس المحرّمة، فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذمّ الواهب للسيف و تعنيفه كما يذمّون القاتل؟

بل قصدهم باللوائم على الواهب أشدّ؟

قلنا: قد علمنا أنّ اللّه حكيم، عالم بقبح القبيح، عالم بغناه عنه، فقد علمنا أنّ أفعاله كلّها حسنة، و خلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسنا، و أن يكون له وجه حسن. و خفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها.

ص: 77


1- الروم: 30.
2- أي: قاطعا.

و يدلّ على حسن أفعاله قوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ بالحكمة البالغة و الغرض الصحيح، و هو أن جعلها مقارّ المكلّفين و مقابرهم، ليعلموا و يعملوا فيجازيهم وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فجعلكم أحسن الحيوان كلّه و أبهاه، بدليل أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى في سائر الصور، و من حسن صورته أنّه خلق منتصبا غير منكب، و زيّنه بصفوة أوصاف الكائنات، و خصّه بخلاصة خصائص المبدعات، و جعله أنموذج جميع المخلوقات. و لا ينافيه أنّ في جملتهم من هو مشوّه الصورة سمج الخلقة، لأنّ الحسن كغيره من المعاني على طبقات و مراتب، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بيّنا لا يخرج عن حدّ الحسن لا تستملح. ألا ترى أنّك قد تعجب بصورة و تستملحها، ثمّ ترى أملح و أعلى في مراتب الحسن، فينبو عن الأولى طرفك، و تستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها و تهالكك عليها. و قالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال، و البيان.

يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نبّه بعلمه ما في السّماوات و الأرض، ثمّ بعلمه ما يسرّه العباد و يعلنونه، ثمّ بعلمه ذوات الصدور، أن لا شي ء من الكلّيّات و الجزئيّات خاف عليه و لا عازب عنه، فحقّه أن يتّقى و يحذر، و لا يجترأ على شي ء ممّا يخالف رضاه.

و تكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. و كلّ ما ذكره بعد قوله: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، و إنكار أن يعصى الخالق و لا تشكر نعمته. فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق، و يجعله من جملته، و الخلق أعظم نعمة من اللّه على عباده، و الكفر أعظم كفران من العباد لربّهم.

و تقديم تقرير القدرة على العلم، لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته أوّلا و بالذات، و على علمه بما فيها من الإتقان و الاختصاص ببعض الأنحاء.

ص: 78

[سورة التغابن [64]: الآيات 5 الى 6]

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [5] ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [6]

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الأمم الماضية جوزوا بأعمالهم ترغيبا على الإيمان و أنواع الطاعات، و ترهيبا عن الكفر و سائر المعصيات، فقال: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيّها الكفّار نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح و هود و صالح عليهم السّلام فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ضرر كفرهم في الدنيا. و أصله الثقل. و منه: الوبيل لطعام يثقل على المعدة. و الوابل: المطر الثقيل الأمطار. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

ذلِكَ أي: المذكور من الوبال في الدنيا، و العذاب في العقبى بِأَنَّهُ بسبب أنّ الشأن و الحديث كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا أنكروا و تعجّبوا من أن يكون الرسل بشرا، و لم ينكروا أن يكون المعبود حجرا. و البشر يطلق على الواحد و الجمع. فَكَفَرُوا بالرسل وَ تَوَلَّوْا عن التدبّر في البيّنات وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ عن كلّ شي ء، فضلا عن طاعتهم. فأطلق ليتناول كلّ شي ء، و من جملته إيمانهم و طاعتهم. وَ اللَّهُ غَنِيٌ عن عبادتهم و غيرها حَمِيدٌ يدلّ على حمده كلّ مخلوق.

[سورة التغابن [64]: الآيات 7 الى 13]

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [7] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا

ص: 79

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [8] يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [10] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [11]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [12] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [13]

ثمّ حكى سبحانه ما يقوله الكفّار بقوله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أهل مكّة أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزعم ادّعاء العلم، و لذلك يتعدّى إلى مفعولين تعدّي العلم. قال: و لم أزعمك عن ذاك معزلا. (1) و قد قام مقامهما «أنّ» مع ما في حيّزه. قُلْ بَلى إثبات لما بعد «لن»، و هو البعث، أي: بلى تبعثون وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَ قسم أكّد به الجواب ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ بالمحاسبة و المجازاة وَ ذلِكَ البعث و الحشر عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل هيّن لا يصرفه عنه صارف، لقبول المادّة و حصول القدرة التامّة.

ص: 80


1- و صدره: و إنّ الّذي قد عاش يا أم مالك يموت و لم أزعمك ... يعني: أنّ كلّ حيّ و إن طال عمره يموت، و لم أظنّك يا أمّ مالك بمعزل عن الموت.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني: القرآن، فإنّه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره ممّا فيه شرحه و بيانه وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فمجاز عليه.

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف ل «تنبّؤنّ» أو ل «خبير» لما فيه من معنى الوعيد، كأنّه قيل: و اللّه معاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار: اذكر. و قرأ يعقوب: نجمعكم بالنون.

لِيَوْمِ الْجَمْعِ لأجل يوم يجمع فيه الأوّلون و الآخرون للحساب في الجزاء ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يغبن فيه بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء الّتي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، و نزول الأشقياء منازل السعداء الّتي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. و فيه تهكّم بالأشقياء، لأنّ نزولهم ليس بغبن.

و في حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلّا أري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرا. و ما من عبد يدخل النار إلّا أري مقعده من الجنّة لو أحسن، ليزداد حسرة».

و يوم التغابن بهذا المعنى مستعار من: تغابن القوم في التجارة. و اللام فيه للدلالة على أنّ التغابن الحقيقي في أمور الآخرة لعظمها و دوامها.

و قيل: تغابن تفاعل من الغبن، و هو أخذ شرّ و ترك خير، و هو المغبون، أو أخذ خير و ترك شرّ، فهو الغابن. فالمؤمن ترك حظّه من الدنيا، و أخذ حظّه من الآخرة، فترك ما هو شرّ له، و أخذ ما هو خير له، فكان غابنا. و الكافر ترك حظّه من الآخرة، و أخذ حظّه من الدنيا، فترك الخير و أخذ الشرّ، فكان مغبونا. فيظهر في ذلك اليوم الغابن و المغبون.

فعلى هذا؛ الآيتان المذكورتان بعد ذلك تفصيل للتغابن، و هما قوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً أي: عملا صالحا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ معاصيه وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبّدين فيها، و لا يفنى

ص: 81

ما هم فيه من النعيم أبدا. و قرأ نافع و ابن عامر بالنون فيهما. ذلِكَ الإشارة إلى مجموع الأمرين، و لذلك جعله الفوز العظيم بقوله: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنّه جامع للمصالح، من دفع المضارّ و جلب المنافع.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بحججنا و دلائلنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المآل و المرجع.

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلّا بتقديره و علمه و مشيئته، فكأنّه أذن للمصيبة أن تصيبه. أو إلّا بتخلية اللّه بينكم و بين من يريد فعلها.

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يصدّق به، و يرض بقضائه يَهْدِ قَلْبَهُ يلطف به و يشرحه، للازدياد من الطاعة و الخير، و الثبات عليه. و قيل: هو الاسترجاع عند حلول المصيبة. و عن مجاهد: إن ابتلي صبر، و إن ظلم غفر. و يجوز أن يكون المعنى: أنّ المؤمن واجد لقلبه مهتد إليه، كقوله: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ (1). و الكافر ضالّ عن قلبه بعيد منه.

وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ حتّى يعلم ما يؤثّر فيه اللطف من القلوب ممّا لا يؤثّر فيه، فيمنحه و يمنعه.

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ في جميع ما أمركم به وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في جميع ما آتاكم به فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن القبول منه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: فإن تولّيتم فلا بأس عليه، لأنّه لم يكتب عليه طاعتكم و تولّيكم، إذ وظيفته التبليغ و قد بلّغ.

ثمّ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التوكّل عليه و التقوّي به في أمره، حتّى ينصره على من كذّبه و تولّى عنه، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأنّ الإيمان يقتضي التوكّل عليه.

ص: 82


1- ق: 37.

[سورة التغابن [64]: آية 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [14]

عن ابن عبّاس و مجاهد: أنّ قوما أرادوا الهجرة عن مكّة فثبّطهم نساؤهم و أولادهم عنها، فقالوا: تنطلقون و تضيّعوننا، فرقّوا لهم و وقفوا. فلمّا هاجروا بعد ذلك و رأوا الّذين سبقوهم قد فقهوا في الدين، أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم و أولادهم.

و قيل: قالوا لهم: أين تذهبون و تدعون بلدكم و عشيرتكم و أموالكم؟ فغضبوا عليهم و قالوا: إن جمعنا اللّه في دار الهجرة لم نصبكم بخير. فلمّا هاجروا منعوهم الخير، فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ و «من» للتبعيض، أي: بعضا منهنّ بهذه الصفة وَ أَوْلادِكُمْ أي: بعضا منهم عَدُوًّا لَكُمْ يشغلكم عن طاعة اللّه. أو يخاصمكم في أمر الدين أو الدنيا.

فَاحْذَرُوهُمْ و لا تأمنوا غوائلهم وَ إِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم بترك المعاقبة وَ تَصْفَحُوا بالإعراض، و ترك التثريب عليها وَ تَغْفِرُوا بإخفائها، و تمهيد معذرتهم فيها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعاملكم بمثل ما عملتم، و يتفضّل عليكم.

[سورة التغابن [64]: الآيات 15 الى 18]

إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [15] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [16] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ

ص: 83

لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [17] عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [18]

و قيل: كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل و مال، فإذا أراد أن يغزوا تعلّقوا به و بكوا إليه و رقّقوه، فهمّ بأذاهم. فنزلت:

إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ بلاء و محنة، لأنّهم يوقعون في الإثم و العقوبة، و لا بلاء أعظم منهما. ألا ترى إلى قوله: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر محبّة اللّه و طاعته على محبّة الأموال و الأولاد و السعي لهم. و في الحديث: «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته».

و عن بعض السّلف: العيال سوس الطاعات.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه كان يخطب فجاء الحسن و الحسين و عليهما قميصان أحمران يعثران و يقومان، فنزل إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر فقال: صدق اللّه عزّ و جل إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ. رأيت هذين الصبيّين فلم أصبر عنهما. ثمّ أخذ في خطبته».

و عن ابن مسعود قال: لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، فإنّه ليس أحد منكم يرجع إلى مال و أهل و ولد إلّا و هو مشتمل على فتنة. و لكن ليقل:

اللّهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن.

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي: ابذلوا في تقواه جهدكم و طاقتكم. و لا تنافي بين هذا و بين قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1) لأنّ كلّ واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي، فمن فعل ذلك فقد اتّقى عقاب اللّه، لأنّ من لم يفعل قبيحا و لا أخلّ بواجب فلا عقاب عليه. إلّا أنّ في أحد الكلامين تبيينا أنّ التكليف لا يلزم العبد إلّا

ص: 84


1- آل عمران: 102.

فيما يطيق، و كلّ أمر أمر اللّه به فلا بدّ أن يكون مشروطا بالاستطاعة.

وَ اسْمَعُوا مواعظه وَ أَطِيعُوا أوامره وَ أَنْفِقُوا في وجوه الخير الّتي وجبت عليكم النفقة فيها خالصا لوجهه خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ نصب بمحذوف، تقديره:

ائتوا خيرا لأنفسكم، أي: افعلوا ما هو خير لها و أنفع. و هو تأكيد للحثّ على امتثال هذه الأوامر، و بيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال و الأولاد، و ما أنتم عاكفون عليه من حبّ الشهوات و زخارف الدنيا. و يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، أي: إنفاقا خيرا، أو خبرا ل «كان» مقدّرا جوابا للأوامر.

وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتّى يعطي حقّ اللّه من ماله فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ سبق تفسيره.

إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ بصرف الأموال فيما أمره لكم قَرْضاً حَسَناً مقرونا بإخلاص و طيب قلب يُضاعِفْهُ لَكُمْ يجعل لكم بالواحد عشرا إلى سبعمائة و أكثر. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب: يضعّفه. وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الإنفاق وَ اللَّهُ شَكُورٌ مجاز، أي: يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب، فيعطي الجزيل بالقليل. و كذلك قوله: حَلِيمٌ أي: يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسي ء، فلا يعاجلكم بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم.

عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ عالم السرّ و العلانية، لا يخفى عليه شي ء الْعَزِيزُ الغالب على ما سواه الْحَكِيمُ تامّ القدرة و العلم.

ص: 85

ص: 86

[65] سورة الطلاق

اشارة

مدنيّة بالإجماع. و هي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الطلاق و التحريم في فريضته أعاذه اللّه تعالى من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن، و عوفي من النار، و أدخله اللّه الجنّة بتلاوته إيّاهما و محافظته عليهما، لأنّهما للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الطلاق [65]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [1] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ

ص: 87

يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [2] وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً [3]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة التغابن بذكر النساء و التحذير منهنّ، افتتح هذه السورة بذكرهنّ و ذكر أحكامهنّ و أحكام فراقهنّ، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ناداه بهذا النداء تشريفا له، و تعليما لعباده كيف يحاورونه في أثناء محاوراتهم، و يذكرونه في خلال كلامهم.

و خصّ النداء و عمّ الخطاب بالحكم، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إمام أمّته و قدوتهم، كما يقال لرئيس القوم و كبيرهم: يا فلان افعلوا كيت و كيت، إظهارا لتقدّمه، و اعتبارا لترؤّسه، و نظرا إلى أنّه الّذي يصدرون عن رأيه، و لا يستبدّون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلّهم، و سادّا مسدّ جميعهم، فنداؤه كندائهم.

و عن الجبائي: تقديره: قل إذا طلّقتم. أو لأنّ الكلام معه، و الحكم يعمّهم.

و هذا أحسن الوجوه. و لا يلزم خروجه عن الحكم على هذا الوجه، لأنّه إنّما جعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آمرا تنزيها له عن فعل المكروه بغير داع يدعو إليه، فإنّ الطلاق من غير داع مكروه، لكونه خلاف النكاح المرغوب، و لما

رواه الثعلبي عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «تزوّجوا و لا تطلّقوا، فإنّ المطلّق يهتزّ منه العرش».

و عن ثوبان يرفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنّة».

و المعنى: إذا أردتم تطليقهنّ، على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة

ص: 88

الشارع فيه، كقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ (1) وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ (2).

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قتل قتيلا فله سلبه».

فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ أي: وقتها. و هو الطهر، فإنّ اللام في الأزمان للتأقيت، كأنّه قال: فطلّقوهنّ في طهرهنّ الّذي يحصينه من عدّتهنّ، و لا تطلّقوهنّ لحيضهنّ الّذي لا يعتددن به من زمان العدّة. فظاهره يدلّ على أنّ العدّة بالأطهار، كما هو مذهب أصحابنا و الشافعيّة، و مرويّ عن ابن عبّاس و ابن مسعود و الحسن و مجاهد و ابن سيرين و قتادة و الضحّاك و السدّي. و أنّ طلاق المعتدّة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر، و أنّه يحرم في الحيض من حيث إنّ الأمر بالشي ء يستلزم النهي عن ضدّه. و هذا يدلّ على عدم وقوعه، إذ النهي يستلزم الفساد عندنا، فإنّ النهي عن نفس الطلاق، و قد نقل عن المحقّقين أنّ النهي عن الشي ء نفسه أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد، كما حقّق في الأصول.

و روى البخاري عن سليمان بن حرب، و روى مسلم عن عبد الرحمان بن بشر عن بهز، و كلاهما عن شعبة، عن أنس بن سيرين، قال: «سمعت يقول: طلّق ابن عمر امرأته و هي حائض، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلّقها إن شاء» (3).

و في هذه الرواية دلالة على أنّه يشترط الطهر في الطلاق.

و الّذي يدلّ على أنّه يشترط أن يكون الطلاق في طهر لا يقربها الزوج فيه بجماع، ما

روى البخاري و مسلم عن قتيبة، عن ليث بن سعد، عن نافع، عن عبد اللّه بن عمر: «أنّه طلّق امرأته و هي حائض تطليقة واحدة، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن .

ص: 89


1- المائدة: 6.
2- الإسراء: 45.
3- صحيح البخاري 7: 52، صحيح مسلم 2: 1097 ذيل ح 12.

يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر، ثمّ تحيض عنده حيضة اخرى، ثمّ يمهلها حتّى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدّة الّتي أمر اللّه أن يطلّق لها النساء» (1).

و احتجّ الفقهاء من الجمهور على وقوع طلاق الحائض و إن كان حراما بهذين الحديثين، من حيث قوله: «مره فليراجعها» في الأوّل، و في الثاني أمر أن يراجعها، و المراجعة تدلّ على وقوع الطلاق.

و فيه نظر، فإنّه لا دلالة في ذلك، لأنّه كما يحتمل الأمر بالمراجعة وقوع الطلاق، يحتمل أيضا أن يراد بالمراجعة التمسّك بمقتضى العقد و بقاء الزوجيّة، فإنّ من طلّق طلاقا فاسدا و ظنّ أنّه واقع فاعتزل زوجته صحّ أن يقال له: راجعها.

فيكون المراد حينئذ المراجعة اللغويّة لا الاصطلاحيّة، يعني: بعد الطلاق. و من عدّ العدّة بالحيض- كما هو مذهب الحنفيّة- علّق اللام بمحذوف، مثل: مستقبلات لعدّتهنّ، أي: قبل عدّتهنّ، كقولك: أتيته لثلاث بقيت من المحرّم، أي: مستقبلا لها.

وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ و اضبطوها و أكملوها ثلاثة أقراء. و إنّما أمر بإحصاء العدّة لمراعاة حقّ المطلّقة فيها كالنفقة و السكنى، و مراعاة حقّ الزوج، كالرجعة و منعها من الزواج.

و اعلم أنّ عموم الأمر بالطلاق مخصوص بأمرين: أحدهما غير المدخول بها. و ثانيهما: الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طهر إلى آخر، أو خرج عنها في طهر لم يقربها فيه بجماع، فإنّ هاتين يصحّ طلاقهما من غير تحريم، و على ذلك إجماع أصحابنا و تظافر أخبارهم. و بواقي أحكام الطلاق و أنواعه مذكورة في كتب الفقه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في تطويل العدّة و الإضرار بهنّ، و غير ذلك من مخالفة

ص: 90


1- صحيح البخاري 7: 52، صحيح مسلم 2: 1093 ح 1.

ما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ من مساكنهنّ الّتي يسكنّها وقت الطلاق حتّى تنقضي عدّتهنّ. و المراد بيوت الأزواج. و أضيف إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى. و المعنى: لا تخرجوهنّ منها غضبا عليهنّ، و كراهة لمساكنتهنّ، أو لحاجة لكم إلى المساكن.

وَ لا يَخْرُجْنَ باستبدادهنّ و إن لم تخرجوهنّ. أمّا لو اتّفقا على الانتقال جاز، إذ الحقّ لا يعدوهما. و في الجمع بين النهيين دلالة على استحقاقها السكنى، و لزومها ملازمة مسكن الفراق.

و قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ مستثنى من الأوّل. و المعنى: إلّا أن يبذون (1) على أهل الأزواج، في أذيّتهنّ أهلهم و شتمهنّ إيّاهم، فإنّه كالنشوز، فيسقط حقّهنّ بذلك. أو إلّا أن يزنين، فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ. أو من الثاني، للمبالغة في النهي، و الدلالة على أنّ نفس خروجهنّ فاحشة. و الأحكام المذكورة في عدّة الطلاق الرجعي، بخلاف البائن، فإنّه يجوز خروجها و إخراجها.

ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ تلك الأحكام المذكورة أمور محدودة مقدّرة واجبة الوقوع، و أنّ مع مخالفتها يستحقّ الذمّ و العقاب، فقال:

وَ تِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأنّ يطلّق على غير ما أمر اللّه به فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بأن عرّضها للعقاب لا تَدْرِي أي: النفس، أو أنت أيّها النبيّ، أو أيّها المطلّق لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ بعد الطلاق أَمْراً و هو أن يقلّب قلبه من بغضها إلى محبّتها، و من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، و من عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها. و هو كالتعليل لعدم الإخراج و الخروج من البيوت. فالجملة المترجّية متعلّقة بالأمر بالتطليقة المذكورة و إحصاء العدّة. و المعنى: فطلّقوهنّ لعدّتهنّ، و أحصوا العدّة، لعلّكم ترغبون

ص: 91


1- البذاءة: الفحش و الكلام القبيح. تقول: بذا على القوم يبذو.

و تندمون فتراجعون.

و فيه دلالة على أنّ المراد بذلك الطلاق الرجعي لا البائن، و لهذا قال بعد ذلك: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي: شارفن آخر عدّتهنّ، فإنّ المراد ببلوغه مقاربته و مشارفة انقضائه، لا انقضاؤه، و إلّا لما كان للزوج رجوع فَأَمْسِكُوهُنَ فراجعوهنّ بِمَعْرُوفٍ بحسن عشرة و إنفاق مناسب، من النفقة و الكسوة و السكنى أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بإيفاء الحقّ و اتّقاء الضرار، مثل أن يراجعها ثمّ يطلّقها فيراجعها ثمّ يطلّقها و هكذا، تطويلا لعدّتها.

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ على الرجعة، أو الفرقة. و فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، و أن لا يتّهم في إمساكها، و لئلّا يموت أحدهما فيدّعي الآخر ثبوت الزوجيّة ليرث. و الأمر بالإشهاد للندب عند أبي حنيفة، كقوله: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ (1). و عند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب في الفرقة. و المرويّ عن أئمّتنا معناه: و أشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم. و هذا أليق بالظاهر، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمرا يقتضي الوجوب، و هو من شرائط صحّة الطلاق، بخلاف المراجعة.

وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ أيّها الشهود عند الحاجة لِلَّهِ خالصا لوجهه، بأن تقيموها لا للمشهود له و لا للمشهود عليه، و لا لغرض آخر من الأغراض، سوى إقامة الحقّ و القيام بالقسط، كقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (2).

ذلِكُمْ يريد الحثّ على الإشهاد و الإقامة، أو على جميع ما في الآية يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّه المنتفع به، و المقصود تذكيره ذلك اليوم.

ص: 92


1- البقرة: 282.
2- النساء: 135.

وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يطعه فيما يأمره و ينهاه، فيصبر على ضيقه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من الشدّة إلى الرخاء، و من الحرام إلى الحلال، و من النار إلى الجنّة وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ هذه الشرطيّة جملة معترضة مؤكّدة لما سبق، بالوعد على الاتّقاء عمّا نهى عنه صريحا أو ضمنا، من الطلاق في الحيض، و الإضرار بالمعتدّة، و إخراجها من المسكن، و تعدّي حدود اللّه، و كتمان الشهادة، و توقّع جعل على إقامتها، بأن يجعل اللّه له مخرجا ممّا في شأن الأزواج من المضايق و الغموم، فينفّس كربه، و يرزقه فرجا و خلفا من وجه لم يخطر بباله و لا يحتسبه، إن أوفى المهر و أدّى الحقوق و النفقات. أو بالوعد لعامّة المتّقين بالخلاص عن مضارّ الدارين، و الفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون. و يجوز أن يكون هذا الكلام جي ء به على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: «ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ».

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأها فقال: «مخرجا من شبهات الدنيا، و من غمرات الموت، و من شدائد يوم القيامة».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» فما زال يقرؤها و يعيدها».

و روي: أنّ سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدوّ، فشكا أبوه إلى رسول اللّه عن أسر ابنه و عن فاقته. فقال له: «اتّق اللّه و اصبر، و أكثر من قول: لا حول و لا قوّة إلّا باللّه». ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب و معه مائة من الإبل غفل عنها العدوّ فاستاقها. فنزلت هذه الآية. و في رواية: رجع و معه غنيمات و متاع.

وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و من يفوّض أمره إلى اللّه، و يثق بحسن تدبيره و تقديره فَهُوَ حَسْبُهُ كافيه. و في الحديث: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على اللّه».

ص: 93

و عن الربيع: إنّ اللّه قد قضى على نفسه أنّ من توكّل عليه كفاه، و من آمن به هداه، و من أقرضه جازاه، و من وثق به أنجاه، و من دعاه أجابه و لبّاه. و تصديق ذلك في كتاب اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ (1).

إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ (2). وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (3). وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (4) الآية.

إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ نافذ أمره، يبلغ ما يريد من قضاياه، و لا يفوته مراد.

و قرأ حفص بالإضافة. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً تقديرا و توقيتا، أو مقدارا، أو أجلا بحسب المصلحة لا يتأتّى تغييره. و هو بيان لوجوب التوكّل على اللّه، و تفويض الأمر إليه، لأنّه إذا علم أنّ كلّ شي ء من الرزق و نحوه لا يكون إلّا بتقديره و توقيته، لم يبق إلّا التسليم للقدر و التوكّل. و تقرير لما تقدّم من تأقيت الطلاق بزمان العدّة و الأمر بإحصائها، و تمهيد لما سيأتي من مقاديرها.

[سورة الطلاق [65]: الآيات 4 الى 5]

وَ اللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [4] ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [5]

ص: 94


1- التغابن: 11.
2- التغابن: 17.
3- آل عمران: 101.
4- البقرة: 186.

روي: أنّه لمّا نزل: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (1). قالوا: قد عرفنا عدّة ذوات الأقراء، فما عدّة اللائي لا يحضن؟ فنزلت:

وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم في عدّتهنّ، فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهنّ أم لعارض فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ.

و قيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة؟

فعدّتهنّ ثلاثة أشهر.

و الأوّل موافق لمذهب أكثر أصحابنا من كون الآيسة لا عدّة لها، لما

رواه جماعة منهم عبد الرحمان بن الحجّاج عن الصادق عليه السّلام: «ثلاث يتزوّجن على كلّ حال: الّتي لم تحض، و مثلها لا تحيض. قال: قلت: و ما حدّها؟ قال: إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين. و الّتي لم يدخل بها. و الّتي قد يئست من الحيض، و مثلها لا تحيض. قال: قلت: فما حدّها؟ قال: إذا كان لها خمسون سنة».

فعلى هذا يكون العدّة المذكورة- أعني: الأشهر الثلاثة- لمن هي في سنّ من تحيض، أو يقطع عنها الحيض لعارض، من مرض أو رضاع و غير ذلك، سواء كان ذلك الانقطاع مع الشكّ في سنّها أو لا معه، بل الشكّ في سبب الانقطاع، و هو المشار إليه بقوله: «إن ارتبتم». أو لا للشكّ، بل مع القطع بانقطاعه و الجزم بسببه.

و هو المشار إليه بقوله: وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بعد بسبب علّة معلومة من مرض أو غيره و مثلهنّ يحضن، فعدّتهنّ أيضا ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور عليه.

فعلى هذا يكون المراد بقوله: «وَ اللَّائِي يَئِسْنَ» أي: حصل لهنّ صفة الآيسات، و هو انقطاع الحيض، إمّا مع الريبة أو مع القطع، فعدّتهنّ ثلاثة أشهر. و لا يكون في الآية دليل على عدم العدّة على الآيسة و الصغيرة، و لا على وجودها.

نعم، الحقّ أن لا عدّة عليهما، لأنّ الحكمة في شرعيّتها العلم باستبراء الرحم، و هو منتف فيهما.

ص: 95


1- البقرة: 228.

و قال أكثر المفسّرين و السيّد المرتضى رحمه اللّه: إنّ الارتياب في وجوب العدّة لا في السنّ، كأنّه قيل: إن أشكل عليكم حكمهنّ و جهلتم كيف تعتدون. و إنّ المراد باللائي لم يحضن، أي: لم يبلغن سنّ الحيض، عدّتهنّ ثلاثة أشهر.

و احتجّوا بوجهين:

الأوّل: سبب النزول، و هو أنّ أبيّ بن كعب قال: يا رسول اللّه إنّ عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب: الصغار و الكبار و أولات الأحمال. فنزلت.

و الثاني: أنّه لو أراد ما ذكر الأصحاب من الشكّ في ارتفاع الحيض لقال: إن ارتبتنّ، لأنّ المرجع في الحيض إليهنّ.

و الجواب عن الأوّل: أنّه لو كان المراد ما ذكروه لقال: إن جهلتم، و لم يقل:

إن ارتبتم، لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك، لأنّ ابيّا لم يشكّ في عدّتهنّ، بل جهل.

و عن الثاني: أنّه إنّما أتى بالضمير مذكّرا لكون الخطاب مع الرجال بقوله:

«وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ». و لأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهنّ إلى رجالهنّ و إلى العلماء، فكان الخطاب لهم لا للنساء، لأنّهنّ يأخذن العلم منهم.

وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ أي: منتهى عدّتهنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ أي: مدّة وضع الحمل، فإنّ «أن» و الفعل في تقدير المصدر. و هذا لا خلاف أنّه في الطلاق.

و هل هو كذلك في الوفاة؟ بمعنى أنّه لو تقدّم الوضع على الأربعة أشهر و عشرا تكون العدّة منقضية لذلك أم لا؟ قال أصحابنا: لا، بل عدّتها أبعد الأجلين. و هو قول عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس. و قال الفقهاء الأربعة و الأوزاعي بالأوّل، محتجّين بعموم الآية.

احتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً (1). فقد دخلت تحت عامّين، و لا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد

ص: 96


1- البقرة: 234.

الأجلين. و لطريقة الاحتياط. و لاختصاص آية الوضع بالمطلّقات. و لو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة، لدخول المعصوم فيهم. فأدلّة الجمهور في مدّعاهم كانت مدخولة.

وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أحكامه فيراعي حقوقها يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يسهّل عليه أمره، و يوفّقه للخير في الدارين بميامن التقوى.

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من أحكام الطلاق و الرجعة و العدّة و غيرها أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أحكامه فيراعي حقوقها بالامتثال يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بالمضاعفة.

و خلاصة المعنى: أنّ من حافظ على الحقوق الواجبة عليه ممّا ذكر، من الإسكان، و ترك الضرار، و النفقة على الحوامل، و إيتاء أجر المرضعات، و غير ذلك، استوجب تكفير السيّئات و الأجر العظيم.

[سورة الطلاق [65]: الآيات 6 الى 7]

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [6] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [7]

ثمّ بيّن سبحانه حال المطلّقة في النفقة و السكنى، فقال: أَسْكِنُوهُنَ قال في الكشّاف: «هذا و ما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ

ص: 97

اللَّهَ كأنّه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدّات؟ فقيل: أسكنوهنّ» (1).

مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ «من» للتبعيض، و مبعّضها محذوف. و معناه: أسكنوهنّ مكانا من حيث سكنتم، أي: بعض مكان سكناكم. قال قتادة: إن لم يكن إلّا بيت واحد فأسكنها في بعض جوانبه. مِنْ وُجْدِكُمْ عطف بيان لقوله: «مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ». و الوجد: الوسع و الطاقة. و المعنى: ممّا تطيقونه.

وَ لا تُضآرُّوهُنَ في السكنى. يعني: لا تستعملوا معهنّ الضرار. لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهنّ، أو يشغل مكانهنّ، أو غير ذلك، حتّى تضطرّوهنّ فتلجأهنّ إلى الخروج.

و قيل: هو أن يراجعها إذا بقي من عدّتها يومان ليضيّق عليها أمرها.

و قيل: هو أن يلجئها إلى أن تفتدي منه.

وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فيخرجن من العدّة.

و اعلم أنّ وجوب السكنى للمطلّقات في الآية على الإجمال، من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا، لكن السنّة الشريفة بيّنت ذلك. فنقول: المطلّقة إن كانت رجعيّة فلها استحقاق الإنفاق و الإسكان. و إن كانت بائنة، قال أبو حنيفة لها أيضا النفقة و السكنى. و هو مرويّ عن عمر و ابن مسعود. و قال الشافعي: إنّ لها السكنى لا غير.

و قال الحسن و أبو ثور: إنّه لا سكنى لها و لا نفقة. و هو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّة عليهم السّلام. و أيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبي و الزهري. فيكون إطلاق الآية مخصوصا بالمطلّقة الرجعيّة.

و المطلّقة الحامل تستحقّ النفقة و السكنى إجماعا، بائنة كانت أو رجعيّة، لإطلاق الآية من غير تقييد. لكن اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن هل هي للحامل أو للحمل؟ فقيل: للحمل، إذ لو لاه لما كان لها شي ء، فقد دار الوجوب مع

ص: 98


1- الكشّاف 4: 558.

الحمل وجودا و عدما. و هو الأقوى. و قيل: للحامل بشرط الحمل. و تظهر الفائدة في عدم وجوب قضائها على الأوّل، و وجوبها على الجدّ.

و اعلم أنّ الحامل إذا وضعت و انقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد، و سقطت نفقتها، لخروج العدّة. فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث، و إلّا يجب على الأب أجرة رضاعه، لقوله: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ بعد انقطاع علقة النكاح فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ على الإرضاع وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ و ليأمر بعضكم بعضا، فإنّ الائتمار بمعنى التآمر، كالاشتوار بمعنى التشاور. يقال: ائتمر القوم إذا أمر بعضهم بعضا.

بِمَعْرُوفٍ بجميل في الإرضاع و الأجر. و هو المسامحة، و عدم مماكسة الأب، و عدم تعاسر الأمّ، لأنّه ولدهما معا، و هما شريكان فيه و في وجوب الإشفاق عليه، فلا يجوز لهما إرضاع الولد أقلّ من المقدّر الشرعي. و الخطاب للآباء و الأمّهات.

وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ تضايقتم و تماكستم في الإرضاع و الأجرة فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى امرأة اخرى. يعني: فستوجد مرضعة غير الأمّ ترضعه له، أي: للأب.

و المعنى: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمّه. و فيه طرف من معاتبة الأمّ على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك.

تريد: لن تبقى غير مقضيّة و أنت ملوم.

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي:

لينفق على المطلّقة و المرضعة كلّ من الموسر و المعسر ما بلغه وسعه، كما قال:

وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (1).

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي: إلّا وسعها. و فيه تطييب لقلب المعسر، و لذلك وعد له باليسر، فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً بعد ضيق سعة، و بعد

ص: 99


1- البقرة: 236.

فقر غنى، و بعد صعوبة الأمر سهولة عاجلا، بأن يفتح عليه أبواب الرزق، أو آجلا بأن يعطيه أجرا جزيلا و ثوابا جليلا.

[سورة الطلاق [65]: الآيات 8 الى 12]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [8] فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً [9] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً [10] رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً [11] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً [12]

و لمّا بيّن الأحكام الشرعيّة و أمر بالتقوى في مراعاة حقوقها، خوّف العباد على تركها، بذكر تعذيب الأمم الماضية لأجل عتوّهم و تمرّدهم عن امتثال الأحكام، فقال:

ص: 100

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ أعرضت عنه على وجه العتوّ و العناد فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء و المناقشة وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً منكرا. و المراد حساب الآخرة و عذابها. و التعبير بلفظ الماضي للتحقيق، كقوله: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ (1) وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ (2).

و نحو ذلك، فإنّ ما هو كائن لا محالة فكأن قد كان. و يجوز أن يكون المراد بالحساب استقصاء ذنوبهم، و إثباتها في صحائف الحفظة، و بالعذاب ما أصيبوا به عاجلا.

فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها ثقل عقوبة كفرها و شدّة معاصيها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً لا ربح فيه أصلا.

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرير للمبالغة، و بيان لما يوجب التقوى المأمور بها في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ يا أصحاب العقول الصافية، فلا تفعلوا مثل ما فعل أولئك، فينزل بكم ما نزل بهم.

ثمّ وصف أولي الألباب بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا خصّ المؤمنين بينهم بالذكر، لأنّهم المنتفعون بذلك دون الكفّار. ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يعني بالذكر جبرئيل، لكثرة ذكره، أو لنزوله بالذكر و هو القرآن، أو لأنّه مذكور في السماوات، أو في الأمم. أو ذا ذكر، أي: شرف.

أو محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لمواظبته على تلاوة القرآن، أو لتبليغه. و أبدل منه «رسولا» للبيان. و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

أو أراد بالذكر القرآن، و «رسولا» منصوب بمقدّر مثل: أرسل، و دلّ قوله: «أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» عليه. و قيل: عمل «ذكرا» في «رسولا» أي: أنزل اللّه إليكم ذكرا رسولا، أي: للرسالة.

ص: 101


1- الأعراف: 44 و 50.
2- الأعراف: 44 و 50.

يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ حال من اسم «اللّه» أو صفة «رسولا».

و المراد بالموصول في قوله: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الّذين آمنوا بعد إنزاله، أي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان و العمل الصالح، لأنّهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين، و إنّما آمنوا بعد الإنزال و التبليغ. أو ليخرج من علم أنّه مؤمن مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى الهدى. شبّه الكفر بالظلمات، لأنّه يؤدّي إلى ظلمة القبر و ظلمة القيامة و ظلمة جهنّم. و شبّه الإيمان بالنور، لأنّه يؤدّي إلى نور القيامة.

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قرأ نافع و ابن عامر: ندخله بالنون. قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً فيه تعجيب و تعظيم لما رزقوا من الثواب.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ و خبر وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ أي:

و خلق مثلهنّ في العدد من الأرض. و ما في القرآن آية تدلّ على أنّ الأرضين سبع إلّا هذه. و لا خلاف في السماوات أنّها سماء فوق سماء. و أمّا الأرضون فقال المحقّقون: إنّها سبع طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات، لأنّها لو كانت مصمتة لكانت أرضا واحدة. و في كلّ أرض خلق، خلقهم اللّه تعالى كما شاء.

و روى أبو صالح عن ابن عبّاس: أنّها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض، يفرّق بينهنّ البحار، و تظلّ جميعهنّ السماء. و اللّه سبحانه أعلم بصحّة ما استأثر بعلمه، و اشتبه على خلقه. و قد ذكر في الذاريات (1) رواية العيّاشي عن أبي الحسن عليه السّلام في كيفيّة وضع السماوات و الأرضين.

و قيل: بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام، و غلظ كلّ سماء كذلك.

ص: 102


1- راجع ج 6 ص 466، ذيل الآية 8 من سورة الذاريات.

و الأرضون مثل السماوات.

و عن ابن عبّاس: إنّ نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق؟ قال:

نعم. قال: فما الخلق؟ قال: إمّا ملائكة أو جنّ.

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ أي: يجري أمر اللّه و قضاؤه بينهنّ، و ينفذ حكمه فيهنّ.

و عن قتادة: في كلّ سماء و في كلّ أرض خلق من خلقه، و أمر من أمره، و قضاء من قضائه. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً علّة ل «خلق»، أو ل «يتنزّل»، أو لمضمر يعمّهما، مثل: فعل ما فعل. و لا شبهة أنّ كلّا منهما يدلّ على كمال قدرته و علمه.

ص: 103

ص: 104

[66] سورة التحريم

اشارة

مدنيّة. و هي اثنتا عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أعطاه اللّه توبة نصوحا».

[سورة التحريم [66]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [1] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [2] وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [3] إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [4] عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ

ص: 105

مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً [5]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ذكر في سورة الطلاق أحكام النساء في الطلاق و غيره، افتتح هذه السورة بأحكامهنّ.

و قد اختلف أقوال المفسّرين في سبب نزول هذه السورة.

فقيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى الغداة يدخل على أزواجه امرأة امرأة، و كان قد أهديت لحفصة بنت عمر بن الخطّاب عكّة (1) من عسل، و كانت إذا دخل عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسلّما حبسته و سقته منها. و إنّ عائشة أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرية حبشيّة عندها: إذا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حفصة فادخلي عليها، فانظري ماذا تصنع. فأخبرتها الخبر و شأن العسل. فغارت عائشة و أرسلت إلى صواحبها فأخبرتهنّ، و قالت: إذا دخل عليكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلن: إنّا نجد منك ريح المغافير، و هو صمغ العرفط (2) كريه الرائحة.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكره و يشقّ عليه أن يوجد منه ريح غير طيّبة، لأنّه يأتيه الملك.

قال: فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على سودة. قالت: فما أردت أن أقول ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ إنّي فرقت من عائشة فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الريح الّتي أجدها منك، أكلت المغافير؟ فقال: لا، و لكن حفصة سقتني عسلا. ثمّ دخل على امرأة امرأة، و هنّ يقلن له ذلك.

ثمّ دخل على عائشة، فأخذت بأنفها. فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أجد ريح .

ص: 106


1- العكّة: وعاء أصغر من القربة.
2- العرفط: شجر من العضاه. و الواحدة: عرفطة. و العضاه: كلّ شجر يعظم و له شوك.

المغافير، أكلتها يا رسول اللّه؟ قال: لا، بل سقتني حفصة عسلا. فقالت: جرست (1) إذا نحلها العرفط. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أطعمه أبدا. فحرّمه على نفسه.

و عن عطاء بن أبي مسلم: أنّ الّتي كانت تسقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العسل أمّ سلمة. و قيل: بل كانت زينب بنت جحش.

قالت عائشة: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش و يشرب عندها عسلا. فتواطأت أنا و حفصة أيّتنا دخل عليها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلتقل:

إنّي أجد منك ريح المغافير، أكلت المغافير. فدخل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، و لن أعود عليه فنزلت.

و عن قتادة و الشعبي و مسروق: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسّم الأيّام بين نسائه، فلمّا كان يوم حفصة قالت: يا رسول اللّه إنّ لي إلى أبي حاجة، فأذن لي أن أزوره.

فأذن لها. فلمّا خرجت أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى جاريته مارية القبطيّة، و كان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها. فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجهه يقطر عرقا.

فقالت حفصة: إنّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ثمّ وقعت عليها في يومي و على فراشي، أما رأيت لي حرمة و حقّا؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أليس هي جاريتي، قد أحلّ اللّه ذلك لي؟! اسكتي، فهي حرام عليّ، ألتمس بذلك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهنّ، و هو عندك أمانة.

فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرعت حفصة الجدار الّذي بينها و بين عائشة، فقالت: ألا أبشّرك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حرّم عليه أمته مارية، و قد أراحنا اللّه منها. و أخبرت عائشة بما رأت، و كانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه.

فطلّق حفصة، و اعتزل سائر نسائه تسعة و عشرين يوما، و قعد في مشربة أمّ إبراهيم

ص: 107


1- جرس الشي ء: لحسه بلسانه.

مارية حتّى نزلت آية التخيير.

و عن الزجّاج: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلا في يوم عائشة مع جاريته أمّ إبراهيم مارية القبطيّة، فوقفت حفصة على ذلك. فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تعلمي عائشة ذلك.

و حرّم مارية على نفسه. فأعلمت حفصة عائشة الخبر، و استكتمتها إيّاه. فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، و هو قوله: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني:

حفصة.

و لمّا حرّم مارية القبطيّة أخبر حفصة أنّه يملك من بعده أبو بكر ثمّ عمر تسلية لها. فعرّفها بعض ما أفشت من الخبر، و أعرض عن بعض، و هو أنّ أبا بكر و عمر يملكان بعدي.

و قريب من ذلك ما رواه العيّاشي بالإسناد عن عبد اللّه بن عطاء المكّي عن أبي جعفر عليه السّلام، إلّا أنّه زاد في ذلك: أنّ كلّ واحدة منهما حدّثت أباها بذلك، فعاتبهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمر مارية و ما أفشتا عليه من ذلك، و أعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر. فنزلت:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ

يعني: العسل، أو ما ملكت يمينك، و هي مارية تَبْتَغِي بهذا التحريم مَرْضاتَ أَزْواجِكَ تفسير ل «تحرّم»، أو حال من فاعله، أو استئناف لبيان الداعي إلى التحريم. و المعنى:

تطلب به رضا نسائك، و هو أحقّ أن تطلب مرضاته.

و ليس هذا بزلّة منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارتكاب ذنب صغير، كما زعم جار اللّه (1)، لأنّ تحريم الرجل أمته أو بعض ملاذّه بسبب أو غير سبب ليس بقبيح، و لا داخل في جملة الذنوب. و لا يمتنع أن يكون خرج هذا القول مخرج التوجّع له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ بالغ في إرضاء أزواجه في تلك المشقّة. و لو أنّ رجلا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهنّ

ص: 108


1- انظر الكشّاف 4: 564.

لجاز أن يقال له: لم فعلت ذلك و تحمّلت فيه المشقّة؟ و إن لم يفعل قبيحا. و لو قلنا:

إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عوتب على ذلك، لأنّ ترك التحريم كان أفضل من فعله، لم يمتنع، لأنّه يحسن أن يقال لتارك النفل: لم لم تفعله؟ و لم عدلت عنه؟ و لأنّ تطييب قلوب النساء ممّا لا تنكره العقول.

و اعلم أنّ العلماء اختلفوا فيمن قال لامرأته: أنت عليّ حرام. فقال مالك: هو ثلاث تطليقات.

و قال أبو حنيفة: إن نوى به الظهار فهو ظهار، و إن نوى الإيلاء فهو إيلاء، و إن نوى الطلاق فهو طلاق. و إن نوى ثلاثا كان ثلاثا، و إن نوى اثنتين فواحدة بائنة.

و إن لم يكن له نيّة فهو يمين.

و قال الشافعي: إن نوى الطلاق كان طلاقا، أو الظهار كان ظهارا، و إن لم يكن له نيّة فهو يمين.

و روي عن ابن مسعود و ابن عبّاس و عطاء: أنّه يمين.

و قال أصحابنا: إنّه لا يلزم به شي ء، إذ وجوده كعدمه. و هو قول مسروق.

و إنّما أوجب اللّه فيه الكفّارة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلف أن لا يقرب جاريته و لا يشرب الشراب المذكور، فأوجب اللّه عليه أن يكفّر عن يمينه، و يعود إلى استباحة ما كان حرّمه. و بيّن أنّ التحريم لا يحصل إلّا بأمر اللّه و نهيه، و لا يصير الشي ء حراما بتحريم منّا إلّا إذا حلفنا على تركه.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ عن الذنب، فضلا عن ترك الندب، فكيف يؤاخذ به؟

رَحِيمٌ إذا رجع عن الذنب، أو إلى ما هو الأولى.

قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ قد شرع لكم تحليلها، و هو حلّ ما عقدته بالكفّارة. و في هذا دلالة على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حلف، و لم يقتصر على قوله: هي عليّ حرام، لأنّ هذا القول ليس بيمين.

ص: 109

و عن مقاتل: أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكفّر عن يمينه و يراجع وليدته، فأعتق رقبة و عاد إلى مارية.

و عن الحسن: أنّه لم يكفّر، و إنّما هو تعليم للمؤمنين.

و قيل: معناه: شرع اللّه لكم الاستثناء.

وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ متولّي أموركم وَ هُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم، فيشرعه لكم الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله و أحكامه، فلا يأمركم و لا ينهاكم إلّا بما توجبه الحكمة. و قيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم.

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعني: حفصة حَدِيثاً تحريم مارية أو العسل، أو أنّ أبا بكر و عمر يملكان فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي: فلمّا أخبرت حفصة عائشة بالحديث و أفشته إليها وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ و أطلع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الحديث- أي: على إفشائه- على لسان جبرئيل عَرَّفَ بَعْضَهُ عرّف الرسول حفصة بعض ما فعلت وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ عن إعلام بعض تكرّما، و عملا بمكارم الأخلاق. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام. و قال الحسن: ما استقصى كريم قطّ.

و قرأ الكسائي بالتخفيف، على معنى: جازى عليه. من قولك للمسي ء:

لأعرفنّ لك ذلك، و قد عرفت ما صنعت. و منه: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ (1). و هذا كثير في القرآن. و كان جزاؤه تطليقه إيّاها، فطلّقها ثم راجعها بأمر اللّه. لكنّ المشدّد من باب إطلاق المسبّب على السبب، و المخفّف بالعكس.

و يؤيّد الأوّل قوله: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ بجميع الأمور الْخَبِيرُ بسرائر الصدور، فإنّه أوفق للإعلام.

ص: 110


1- النساء: 63.

إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ من التعاون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالإيذاء و التظاهر عليه، فقد حقّ عليكما التوبة، و وجب عليكما الرجوع إلى الحقّ. و الخطاب لحفصة و عائشة على الالتفات، للمبالغة في معاتبتهما. فقد روى البخاري في الصحيح عن ابن عبّاس قال: «قلت لعمر بن الخطّاب: من المرأتان اللّتان تظاهرتا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ قال: هما عائشة و حفصة» (1).

و يدلّ على حذف جزاء الشرط قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما مالت إلى الإثم، و زاغت عن مخالصة الرسول، و حبّ ما يحبّه، و كراهة ما يكرهه. من: صغت النجوم إذا مالت للغروب.

وَ إِنْ تَظاهَرا تتظاهرا عَلَيْهِ أي: تتعاونا بما يسوءه، من إفشاء سرّه و غيره. و قرأ الكوفيّون بالتخفيف.

فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وليّه و ناصره. و زيادة «هو» إيذان بأنّ نصرته عزيمة من عزائمه، و أنّه يتولى ذلك بذاته.

وَ جِبْرِيلُ قرن ذكر جبريل بذكره مفردا له من بين الملائكة، تعظيما له، و إظهارا لمكانته عنده، فإنّه رئيس الملائكة الكرّوبيّين وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ و من صلح العمل من المؤمنين. يعني: كلّ من آمن و عمل صالحا أتباعه و أعوانه.

ف «صالح» جنس، و لذلك عمّم بالإضافة، فأريد به الجمع، كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس، تريد الجنس. و كقولك: لا يفعله من صلح منهم. و يجوز أن يكون أصله: و صالحوا المؤمنين، فكتب بغير واو على اللفظ، لأنّ تلفّظ الواحد و الجمع فيه واحد، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخطّ.

و وردت الرواية من طريق الخاصّ و العامّ أنّ المراد بصالح المؤمنين

ص: 111


1- صحيح البخاري 6: 196.

أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه. و هو قول مجاهد.

و في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لقد عرّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا أصحابه مرّتين. أمّا مرّة فحيث قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. و أمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أخذ رسول اللّه بيد عليّ فقال: أيّها الناس هذا صالح المؤمنين» (1).

و قالت أسماء بنت عميس: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «و صالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب».

وَ الْمَلائِكَةُ على تكاثر عددهم و امتلاء السماوات من جموعهم بَعْدَ ذلِكَ بعد نصرة اللّه و ناموسه و صالح المؤمنين ظَهِيرٌ فوج مظاهر له، كأنّهم يد واحدة على من يعاديه. فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟

و مظاهرتهم من جملة نصرة اللّه. فكأنّه فضّل نصرته تعالى بهم و بمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى، لفضلهم على جميع خلقه.

عَسى رَبُّهُ أي: واجب منه، فإنّ «عسى» و «لعلّ» من اللّه واجب إِنْ طَلَّقَكُنَ يا معاشر أزواج النبيّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ على التغليب، أو تعميم الخطاب. و قرأ نافع و أبو عمرو: يبدله بالتخفيف. و ليس فيه ما يدلّ على أنّه لم يطلّق حفصة. و أزواج النبيّ قبل عصيانهنّ كنّ أخيار النساء، فلمّا آذين رسول اللّه و عصينه لم يبقين على تلك الصفة، فكان غيرهنّ من المطيعات لرسول اللّه و النازلات عن هواهنّ و رضاهنّ خيرا منهنّ.

و قد عرّض بذلك في قوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ مقرّات مخلصات، أو منقادات مصدّقات قانِتاتٍ مصلّيات، أو مواظبات على الطاعة، أو متذلّلات

ص: 112


1- شواهد التنزيل 2: 352 ح 996.

لأمر اللّه تائِباتٍ عن الذنوب عابِداتٍ متعبّدات، أو متذلّلات لأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سائِحاتٍ صائمات. سمّي الصائم سائحا، لأنّه يسيح بالنهار بلا زاد، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه. فشبّه به الصائم في إمساكه إلى أن يجي ء وقت إفطاره. أو مهاجرات.

ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً وسّط العاطف بينهما لتنافيهما، لا يجتمعن فيهما اجتماعهنّ في سائر الصفات، فلم يكن به بدّ من الواو. أو لأنّهما في حكم صفة واحدة، إذ المعنى: مشتملات على الثيّبات و الأبكار.

[سورة التحريم [66]: الآيات 6 الى 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [8] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [9]

و لمّا أدّب سبحانه نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أمر عقيبه المؤمنين بتأديب نسائهم

ص: 113

و ذرّيّتهم، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ احفظوها و امنعوها بترك المعاصي و فعل الطاعات وَ أَهْلِيكُمْ بالنصح و التأديب، و النهي عن القبائح، و الحثّ على أفعال الخير، ليتّصفوا بما اتّصفتم به من التقوى. و في الحديث: «رحم اللّه رجلا قال: يا أهلاه؛ صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم، لعلّ اللّه يجمعهم معه في الجنّة».

ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ نوعا من النار لا يتّقد إلّا بهما اتّقاد غيرها بالحطب. و عن ابن عبّاس: هي حجارة الكبريت، و هي أشدّ الأشياء حرّا إذا أوقد عليها. و قيل: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله.

عَلَيْها مَلائِكَةٌ تلي أمرها، و هم الزبانية غِلاظٌ شِدادٌ الأفعال. أو غلاظ الخلق، شداد الخلق، عظام الأجرام، أقوياء على الأفعال الشديدة. و هم الزبانية التسعة عشر و أعوانهم.

لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ فيما مضى. في محلّ النصب على البدل، أي: لا يعصون ما أمر اللّه، أي: أمره، كقوله: أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (1). أو لا يعصونه فيما أمرهم وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فيما يستقبل. أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر و التزامها، و يؤدّون ما يؤمرون به من غير توان و تثاقل. فالجملة الثانية غير الأولى.

و اعلم أنّ فسّاق المؤمنين و إن كانت دركاتهم فوق دركات الكفّار، فإنّهم مساكنون الكفّار في قرار واحد، فقيل للّذين آمنوا: قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الّذين أعدّت لهم هذه النار الموصوفة.

و يجوز أن يأمرهم بالتوقّي من الارتداد، و الندم على الدخول في الإسلام.

و أن يكون خطابا للّذين آمنوا بألسنتهم، و هم المنافقون. و يعضد ذلك قوله على

ص: 114


1- طه: 93.

أثره: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: يقال لهم ذلك عند دخولهم النار. و النهي عن الاعتذار لأنّه لا عذر لهم، أو لا ينفعهم الاعتذار.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً بالغة في النصح. و هو الخلوص لوجه اللّه. يقال: عسل ناصح إذا خلص من الشمع. و رجل ناصح الجيب، أي: نقيّ القلب. أو في النصاحة، و هي الخياطة، كأنّها تنصح- أي: ترفو- ما خرق الذنب و ترمّ خلله. وصفت به التوبة على الإسناد المجازي مبالغة. و حقيقة: صفة التائبين، و هو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، فيأتوا على طريقها متداركة للفرطات، ماحية للسيّئات. و ذلك أن يتوبوا على القبائح لقبحها، نادمين عليها، مغتمّين أشدّ الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنّهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع، موطّنين أنفسهم على ذلك.

و عن عليّ عليه السّلام: «أنّه سمع أعرابيّا يقول: اللّهمّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك.

فقال: إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذّابين. قال: و ما التوبة؟ قال: يجمعها ستّة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، و ردّ المظالم، و استحلال الخصوم، و أن تعزم على أن لا تعود، و أن تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربّيتها في المعصية، و أن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي».

و عن حذيفة: بحسب الرجل من الشرّ أن يتوب عن الذنب ثمّ يعود فيه.

و عن شهر بن حوشب: أن لا يعود و لو حزّ بالسيف و أحرق بالنار.

و يجوز أن يراد: توبة تنصح الناس، أي: تدعوهم إلى مثلها، لظهور اثرها في صاحبها، و استعماله الجدّ و العزيمة في العمل على مقتضياتها.

و يؤيّده ما روي عن السدّي أنّه قال: لا تصحّ التوبة إلّا بنصيحة النفس و المؤمنين، لأنّ من صحّت توبته أحبّ أن يكون الناس مثله.

ص: 115

و قرأ أبو بكر بضمّ النون. و هو مصدر بمعنى النصح، كالشكر و الشكور، و الكفر و الكفور. أو بمعنى النصاحة، كالثبات و الثبوت. تقديره: ذات نصوح. أو تنصح نصوحا. أو توبوا لنصح أنفسكم، على أنّه مفعول له.

قال معاذ بن جبل: يا رسول اللّه ما التوبة النصوح؟ قال: أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع.

و قال ابن مسعود: التوبة النصوح هي الّتي تكفّر كلّ سيّئة، و هو في القرآن.

ثمّ قرأ هذه الآية.

و قيل: إنّ التوبة النصوح هي الّتي يناصح الإنسان فيها نفسه بإخلاص الندم، مع العزم على أن لا يعود إلى مثله.

و قيل: هي أن يكون الذنب نصب عينيه، و لا يزال كأنّه ينظر إليه.

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذكر بصيغة الإطماع على عادة الملوك من الإجابة ب «عسى» و «لعلّ»، و وقوع ذلك منهم موقع القطع و البتّ. و إشعارا بأنّ العبد ينبغي أن يكون بين خوف و رجاء.

ثمّ عرّض بمن أخزاهم اللّه من أهل الكفر و الفسوق، و استحمد إلى المؤمنين على أنّه عصمهم من مثل حالهم، فقال:

يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَ ظرف ل «يدخلكم». وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف على النبيّ. و قيل: مبتدأ خبره نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ أي: على الصراط.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «يسعى أئمّة المؤمنين بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم، حتّى ينزلوهم منازلهم في الجنّة».

يَقُولُونَ إشفاقا إذا طفئ نور المنافقين، على عادة البشريّة، و إن كانوا معتقدين الأمن رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا و قال الحسن: اللّه متمّمه لهم، و لكنّهم يدعون

ص: 116

تقرّبا إلى اللّه، كقوله: وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (1)، و هو مغفور له. فلمّا كانت حالهم كحال المتقرّبين، حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة، سمّي تقرّبا.

و قيل: تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم، فيسألون إتمامه تفضّلا، كما قيل:

إنّ السابقين إلى الجنّة يمرّون مثل البرق على الصراط، و بعضهم كالريح، و بعضهم حبوا و زحفا، فأولئك الّذين يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا. وَ اغْفِرْ لَنا و استر علينا معاصينا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

و يؤيّد القول الأول قوله إثر ذلك: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَ الْمُنافِقِينَ بالحجّة وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ و استعمل الخشونة فيما تجاهدهم إذا بلغ الرفق نهايته و لم يؤثّر وَ مَأْواهُمْ و مآل الكفّار و المنافقين جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ جهنّم، أو مأواهم.

[سورة التحريم [66]: آية 10]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [10]

ثمّ مثّل اللّه عزّ و جلّ حال الكفّار- في أنّهم يعاقبون على كفرهم و عداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء و لا محاباة، و لا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم و بينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر، لأنّ عداوتهم لهم و كفرهم باللّه و رسوله قطع العلائق و بتّ الوصل، و جعلهم أبعد من الأجانب، و إن كان المؤمن الّذي يتّصل به الكافر نبيّا من أنبياء اللّه- بحال امرأة لوط و امرأة نوح لمّا نافقتا و خانتا الرسولين،

ص: 117


1- محمد: 19.

تعريضا لعائشة و حفصة إذ خانتا رسول اللّه و تظاهرتا عليه، فقال:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بيّنة لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ يريد به تعظيم نوح و لوط فَخانَتاهُما بالنفاق و تظاهرهما على الرسولين. فامرأة نوح قالت لقومه: إنّه مجنون مخبّط العقل.

و امرأة لوط دلّت على ضيفانه. و لا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور، لأنّه سمج في الطباع كلّها، نقيصة عند كلّ أحد، موجب لاستخفاف الزوج، و حطّ مرتبته و منزلته عن قلوب العباد، بخلاف الكفر، فإنّ الكفّار لا يستسمجونه، بل يستحسنونه و يسمّونه حقّا. و عن ابن عبّاس: ما بغت امرأة نبيّ قطّ.

فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلم يغن النبيّان عن امرأتيهما بحقّ الزواج إغناء مّا وَ قِيلَ لهما عند موتهما، أو يوم القيامة ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ مع سائر الداخلين من الكفرة الّذين لا وصلة بينهم و بين الأنبياء عليهم السّلام.

[سورة التحريم [66]: الآيات 11 الى 12]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [11] وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [12]

ثمّ مثّل حال المؤمنين- في أنّ وصلة الكافرين لا تضرّهم، و لا تنقص شيئا من ثوابهم و زلفاهم عند اللّه- بحال امرأة فرعون و منزلتها عند اللّه، مع كونها زوجة أعدى أعداء اللّه الناطق بالكلمة العظمى، فقال:

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ هي آسية بنت مزاحم. و قيل:

ص: 118

هي عمّة موسى عليه السّلام، آمنت حين سمعت بتلقّف عصا موسى الإفك، فعذّبها فرعون.

و عن أبي هريرة: أنّ فرعون وتّد امرأته بأربعة أوتاد، و استقبل بها الشمس، و أضجعها على ظهرها، و وضع رحى على صدرها. و قيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة، فدعت اللّه فرقى بروحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه.

إِذْ قالَتْ ظرف للمثل المحذوف رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ قريبا من رحمتك كمال قرب. أو في أعلى درجات المقرّبين. فعبّرت عن كمال القرب إلى العرش بقولها: عندك بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أي: في جنّات المأوى الّتي هي أقرب إلى العرش وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ من نفسه الخبيثة وَ عَمَلِهِ و فعله السي ء وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ من القبط التابعين له في الظلم.

و فيه دليل على أنّ الاستعاذة باللّه و الالتجاء إليه، و مسألة الخلاص منه عند المحن و النوازل، من سير الصالحين و سنن الأنبياء و المرسلين.

و قوله: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على «امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» تسلية للأرامل، فإنّه جمع في التمثيل بين الّتي لها زوج و الّتي لا زوج لها الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الرجال فَنَفَخْنا فِيهِ في فرجها مِنْ رُوحِنا من روح خلقناه بلا توسّط أصل وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها بصحفه المنزلة، أو بما أوحي إلى أنبيائه وَ كُتُبِهِ و ما كتب في اللوح. أو جنس الكتب المنزلة. و يدلّ عليه قراءة البصريّين و حفص:

و كتبه بالجمع.

وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ من عداد المواظبين على الطاعة. و التذكير للتغليب، و للإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين، حتّى عدّت من جملتهم أو من نسلهم. فتكون «من» ابتدائيّة. و المعنى: أنّها ولدت من القانتين، لأنّها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات اللّه عليهما.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كمل من الرجال كثير، و لم يكمل من النساء إلّا أربع:

ص: 119

آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و لا شبهة لأولي النهى أنّ في طيّ هذين التمثيلين تعريضا بحفصة و عائشة، و بما فرط منهما من التظاهر على رسول اللّه بما كرهه. و تحذير لهما على أغلظ وجه و أشدّه، لما في التمثيل من ذكر الكفر. و إشارة إلى أنّ من حقّهما أن تكونا في الإخلاص و الكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين. و أن لا تتّكلا على أنّهما زوجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين. و التعريض بحفصة أرجح، لأنّ امرأة لوط أفشت عليه، كما أفشت حفصة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و أسرار التنزيل و رموزه في كلّ باب بالغة من اللطف و الخفاء حدّا تدقّ عن تفطّن العالم، و تزلّ عن تبصّره.

ص: 120

[67] سورة الملك

اشارة

و تسمّى الواقية و المنجية، لأنّها تقي و تنجي قارئها من عذاب القبر. مكّيّة.

و هي إحدى و ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة «تبارك» فكأنّما أحيا ليلة القدر».

و عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وددت أنّ تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن».

و عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ سورة من كتاب اللّه ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت للرجل، فأخرجته يوم القيامة من النار، و أدخلته الجنّة، و هي سورة تبارك».

و عن ابن مسعود قال: إذا وضع الميّت في قبره يؤتى من قبل رجليه، فيقال له: ليس لكم عليه سبيل، لأنّه قد كان يقوم بسورة الملك. ثمّ يؤتى من قبل رأسه، فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل، لأنّه كان يقرأ بي سورة الملك.

و روى الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح، عن سدير الصيرفي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سورة الملك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، و هي مكتوبة في التوراة، سورة الملك. و من قرأها في ليلة فقد أكثر و أطاب، و لم يكتب من الغافلين. و إنّي لأركع بها بعد العشاء الآخرة و أنا جالس. و إنّ الّذي كان يقرؤها في

ص: 121

حياته في يومه و ليلته، إذا دخل عليه في قبره ناكر و نكير من قبل رجليه، قالت رجلاه لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد يقوم عليّ فيقرأ سورة الملك في كلّ يوم و ليلة. فإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل كان هذا العبد قد وعى سورة الملك. و إذا أتياه من قبل لسانه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد يقرأ في كلّ يوم و ليلة سورة الملك».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في المكتوبة قبل أن ينام لم يزل في أمان اللّه حتّى يصبح، و في أمانه يوم القيامة حتّى يدخل الجنّة إن شاء اللّه».

[سورة الملك [67]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [1] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [2] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [3] ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ [4]

و لمّا ختم سبحانه تلك السورة بأنّ الوصلة لا تنفع إلّا بالطاعة، و أصل الطاعة المعرفة و التصديق بالكلمات الإلهيّة، افتتح هذه السورة بدلائل المعرفة و آيات الربوبيّة، فقال:

ص: 122

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ تزايد و تعالى، و تعاظم عن صفات المخلوقين في صفاته و أفعاله. أو تكاثر خيره. من البركة، و هي كثرة الخير. الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ بقبضة قدرته التصرّف في الأمور كلّها كيف يشاء. و ذكر اليد مجاز عن الإحاطة بالملك و الاستيلاء عليه.

وَ هُوَ عَلى كُلِ كلّ ما يشاء قَدِيرٌ فيفعل كلّ ما تقتضيه حكمته و مصلحته.

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ قدّرهما. أو أوجد الحياة و أزالها حسبما قدّره.

و الحياة ما يصحّ بوجوده الإحساس. و قيل: ما يوجب كون الشي ء حيّا، و هو الّذي يصحّ منه أن يعلم و يقدر. و الموت عدم ذلك فيه. و معنى خلق الموت و الحياة: إيجاد ذلك المصحّح و إعدامه.

و المعنى: أنّه سبحانه أعطاكم الحياة الّتي تقدرون بها على العمل، و تستمكنون منه، و سلّط عليكم الموت الّذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأنّ وراءه البعث و الجزاء الّذي لا بدّ منه. و قدّم الموت على الحياة لقوله: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ (1). و لأنّه أدعى إلى حسن العمل، فإنّ أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدّم، لأنّه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهمّ. و لأنّه إلى القهر أقرب.

لِيَبْلُوَكُمْ ليعاملكم معاملة المختبر بالتكليف أيّها المكلّفون أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أصوبه و أخلصه، لأنّه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل. و كذلك إذا كان صوابا غير خالص. فالخالص أن يكون لوجه اللّه، و الصواب أن يكون على السنّة.

و جاء مرفوعا أنّ أبا قتادة قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قوله «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا». قال: «أتمّكم عقلا، و أشدّكم للّه خوفا، و أحسنكم فيما أمر اللّه به

ص: 123


1- البقرة: 28.

و نهى عنه نظرا، و إن كان أقلّكم تطوّعا».

و عن ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه تلا «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» إلى قوله:

«أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا». فقال: «يقول: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه».

و عن الحسن: أيّكم أزهد في الدنيا، و أترك لها.

و الجملة واقعة موقع ثاني المفعولين لفعل البلوى المتضمّن معنى العلم. فكأنّه قيل: ليعلمكم أيّكم أحسن عملا. و إذا قلت: علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملا.

و ليس هذا من باب التعليق، لأنّه إنّما يكون إذا وقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيّهما عمرو، و علمت أزيد منطلق. ألا ترى أنّه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين، بين أن يقع ما بعده مصدّرا بحرف الاستفهام و غير مصدّر به.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب الّذي لا يعجز من الانتقام ممّن أساء العمل الْغَفُورُ لمن تاب منهم، أو لمن أراد التفضّل عليه بإسقاط العقاب عنه.

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مطابقة بعضها فوق بعض. مصدر: طابقت النعل إذا خصفتها طبقا على طبق. و هذا وصف بالمصدر. أو طوبقت طباقا. أو ذات طباق. جمع طبق، كجبل و جبال. أو جمع طبقة، كرحبة و رحاب.

ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي: اختلاف و تناقض من طريق الحكمة، و هو عدم مناسبة بعض الأجزاء من بعض، و عدم تناسق بعضها إلى بعض في الإتقان و الإحكام و الانتظام، بل ترى أفعاله كلّها سواء في الحكمة.

و قرأ حمزة و الكسائي: من تفوّت. و معناهما واحد، كالتعاهد و التعهّد. و هو الاختلاف و عدم التناسب و الملائمة. من الفوت، فإنّ كلّا من المتفاوتين فات عنه بعض ما في الآخر.

ص: 124

و الجملة صفة ثانية ل «سبع» وضع فيها «خلق الرحمن» موضع الضمير للتعظيم، و الإشعار بأنّه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة و تفضّلا، و أنّ في إبداعها نعما جليلة لا تحصى. و الخطاب فيها للرسول، أو لكلّ مخاطب.

و قوله: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ متعلّق ب «ما ترى» على معنى التسبيب، أي: قد نظرت إليها مرارا فانظر إليها مرّة اخرى متأمّلا فيها، لتعاين ما أخبرت به من تناسبها و استقامتها و استجماعها ما ينبغي لها. و الفطور: الشقوق و الصدوع، جمع فطر. و المراد الخلل، من: فطره إذا شقّه. و منه: فطر ناب البعير، كما يقال: شقّ.

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي: رجعتين أخريين في ارتياد الخلل، لأنّ من نظر في الشي ء كرّة بعد اخرى بان له ما لم يكن بائنا. و المراد بالتثنية التكرير و التكثير، كما في: لبّيك و سعديك. تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض. و لذلك أجاب الأمر بقوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً بعيدا عن إصابة المطلوب و نيل المراد، كأنّه طرد عنه طردا بالصغار و التذلّل، كذلّة من طلب شيئا فلم يجده و أبعد عنه وَ هُوَ حَسِيرٌ كليل من طول المعاودة و كثرة المراجعة.

[سورة الملك [67]: الآيات 5 الى 12]

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [5] وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [6] إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ [7] تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [8] قالُوا بَلى

ص: 125

قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [9]

وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [10] فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ [11] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ [12]

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أقرب السماوات إلى الأرض بِمَصابِيحَ بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السّرج فيه. و التنكير للتعظيم. و لا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سماوات فوقها، إذ التزيين بإظهارها فيها.

وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ و جعلنا لها فائدة اخرى، و هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب الّتي تنفصل من نار الكواكب، لا أنّهم يرجمون بالكواكب أنفسها، لأنّها قارّة في الفلك على حالها. و ما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار، و النار ثابتة كاملة لا تنقص.

و قيل: معناه: و جعلناها رجوما و ظنونا لشياطين الإنس، و هم المنجّمون.

و الرجوم جمع رجم بالفتح. و هو مصدر سمّي به ما يرجم به.

وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من الشياطين و غيرهم عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ وصفه ب «بئس» و هو من صفات الذمّ، و العقاب حسن، لما في ذلك من الضرر الّذي يجب على كلّ عاقل أن يتّقيه غاية الجهد.

إِذا أُلْقُوا طرحوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً صوتا فظيعا كصوت الحمير، فيعظم بسماع ذلك عذابهم، لما يرد على قلوبهم من هوله وَ هِيَ تَفُورُ تغلي بهم

ص: 126

غليان المرجل (1) بما فيه.

تَكادُ تَمَيَّزُ تتفرّق مِنَ الْغَيْظِ من شدّة غضبها عليهم. و هو تمثيل لشدّة اشتعالها بهم. و يجوز أن يراد غيظ الزبانية. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أي: قال لهم الملائكة الموكّلون بالنار على وجه التوبيخ و التبكيت: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يخوّفكم بهذا العذاب.

قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا و لم نقبل منهم وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ ممّا تدعوننا إليه و تحذّروننا منه إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فكذّبنا الرسل، و أفرطنا في التكذيب حتّى نفينا الإنزال و الإرسال رأسا، و بالغنا في نسبتهم إلى الضلال. فالنذير إمّا بمعنى الجمع، لأنّه فعيل. أو مصدر مقدّر بمضاف، أي: أهل إنذار. أو منعوت به للمبالغة. أو الواحد، و الخطاب له و لأمثاله على التغليب. أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكلّ. أو على أنّ المعنى: قالت الأفواج قد جاء إلى كلّ فوج منّا رسول من اللّه فكذّبناهم و ضلّلناهم.

و قيل: الخطاب من كلام الزبانية للكفّار على إرادة القول. فيكون الضلال ما كانوا عليه في الدنيا، أو المراد عقابه الّذي يكونون فيه في الآخرة. فأرادوا بالضلال الهلاك، أو سمّوا عقاب الضلال باسمه.

وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث و تفتيش، اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات أَوْ نَعْقِلُ نتفكّر في حكمه و معانيه تفكّر المستبصرين ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ في عدادهم و جملتهم.

فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ حين لا ينفعهم. و الاعتراف إقرار عن معرفة. و الذنب لم يجمع، لأنّه في الأصل مصدر، أو المراد به الكفر.

فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فأسحقهم اللّه سحقا، أي: أبعدهم من رحمته.

ص: 127


1- المرجل: القدر.

و تغليب أصحاب السعير على الكائنين فيهم حيث لم يقل: فسحقا لهم و لأصحاب السعير، للإيجاز و المبالغة و التعليل، لأنّه يشعر بأنّ الدعاء عليهم لكونهم من أصحاب السعير. و قرأ الكسائي بضمّ الحاء.

و لمّا بيّن الوعيد عقّبه بالوعد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد. أو غائبين عنه، أو عن أعين الناس. أو بالمخفي منهم، و هو قلوبهم. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ تصغر دونه لذائذ الدنيا.

[سورة الملك [67]: الآيات 13 الى 14]

وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [13] أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [14]

روي: أنّ المشركين كانوا يتكلّمون فيما بينهم بأشياء، فيخبر اللّه به رسوله، فيقولون: أسرّوا قولكم لئلّا يسمعه إله محمّد، فنبّه اللّه على جهلهم بقوله:

وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإجهار و الإسرار. و معناه: ليستو عندكم إسراركم و إجهاركم في علم اللّه بهما. ثمّ علّله بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بالضمائر قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلّم به؟! ثمّ أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر و المسرّ و المجهر بقوله: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ألا يعلم السرّ و الجهر من أوجد الأشياء كلّها حسبما قدّرته حكمته وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ المتوصّل علمه إلى ما ظهر من خلقه و ما بطن. و يجوز أن يكون «من خلق» منصوبا بمعنى: ألا يعلم اللّه من خلقه و هو بهذه المثابة؟! و التقييد بهذه الحال يستدعي أن يكون ل «يعلم» مفعول ليفيد، لأنّك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق و هو اللطيف الخبير، لم يكن معنى صحيحا، لأنّ «ألا يعلم» معتمد على

ص: 128

الحال، و الشي ء لا يوقّت بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم و هو عالم، و لكن: ألا يعلم كذا و هو عالم بكلّ شي ء.

[سورة الملك [67]: آية 15]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ [15]

ثمّ عدّد سبحانه أنواع نعمه ممتنّا على عباده بذلك، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ليّنة يسهل لكم السلوك فيها فَامْشُوا فِي مَناكِبِها في جوانبها.

و هو مثل لفرط التذليل، فإنّ منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب و لا يتذلّل، فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشى في مناكبها، لم يبق شي ء لم يتذلّل.

و قيل: مناكبها جبالها. قال الزجّاج: معناه: سهّل لكم السلوك في جبالها، فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشى في مناكبها، لم يبق شي ء لم يتذلّل.

و قيل: مناكبها جبالها. قال الزجّاج: معناه: سهّل لكم السلوك في جبالها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ التذليل.

وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ممّا أنبت اللّه في الأرض و الجبال من الزروع و الأشجار حلالا، و التمسوا من نعم اللّه تعالى فيها وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ المرجع، فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم.

[سورة الملك [67]: الآيات 16 الى 18]

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ [16] أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [17] وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [18]

ثمّ هدّد سبحانه الكفّار، زاجرا لهم عن ارتكاب معصيته و الجحود لربوبيّته، فقال:

ص: 129

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ من ملكوته في السماء، لأنّها مسكن ملائكته، و ثمّ عرشه و كرسيّه و اللوح المحفوظ، و منها تنزل قضاياه و كتبه و أوامره و نواهيه. أو الملك الموكّل بعذاب العصاة. أو على زعم العرب، فإنّهم كانوا يعتقدون التشبيه، و أنّه في السماء، و أنّ الرحمة و العذاب ينزلان منه، و كانوا يدعونه من جهتها، فقيل لهم على حسب اعتقادهم: ء أمنتم من تزعمون أنّه في السماء و هو متعال عن المكان؟! و عن ابن كثير برواية قنبل: و أمنتم، بقلب الهمزة الأولى واوا، لانضمام ما قبلها. و آمنتم، بقلب الثانية ألفا. و هو قراءة نافع برواية ورش و أبي عمرو و رويس.

أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فيغيّبكم فيها إذا عصيتموه، كما فعل بقارون. و هو بدل من بدل الاشتمال. فَإِذا هِيَ تَمُورُ تضطرب. و المور التردّد في المجي ء و الذهاب. و ذلك بأن يحرّك الأرض عند الخسف بهم، حتّى تضطرب فوقهم و هم يخسفون فيها، حتّى تلقيهم إلى أسفل.

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي: ريحا ذات حجر، كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء. أو سحابا يمطر عليكم الحصباء.

فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي: إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري، و حينئذ لا ينفعكم العلم.

ثمّ سلّى رسوله، و هدّد قومه بقوله: وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم بإنزال العذاب و استئصالهم.

[سورة الملك [67]: الآيات 19 الى 22]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ [19] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ

ص: 130

الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ [20] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ [21] أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [22]

ثمّ نبّه سبحانه على قدرته على الخسف و إرسال الحجارة، فقال:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها، فإنّهنّ إذا بسطنها صففن قوادمها وَ يَقْبِضْنَ و يضممنها إذا ضربن بها جنوبهنّ وقتا بعد وقت، للاستظهار به على التحرّك. و لذلك عدل به إلى صيغة الفعل، للتفرقة بين الأصل في الطيران، و هو صفّ الأجنحة- لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، و الأصل في السباحة مدّ الأطراف و بسطها- و بين القبض الّذي هو طارى ء على البسط للاستعانة به على التحرّك، كما يكون من السابح.

ما يُمْسِكُهُنَ في الجوّ على خلاف الطبع إِلَّا الرَّحْمنُ الشامل رحمته كلّ شي ء، بأن خلقهنّ على أشكال و خصائص يتأتّى منها الجري في الهواء إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ يعلم كيف يخلق الغرائب و يدبّر العجائب.

أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ و هذا عديل لقوله:

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا» على معنى: أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع، فلم تعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف و إرسال حاصب؟ أم لكم هذا الّذي هو جند لكم ينصركم من دون اللّه إن أرسل عليكم عذابه؟ و يجوز أن تكون الإشارة إلى جميع الأوثان، لاعتقادهم أنّهم يحفظون من النوائب و يرزقون ببركة آلهتهم، فكأنّهم الجند الناصر

ص: 131

و الرازق. و نحوه قوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا (1). إلّا أنّه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم، إشعارا بأنّهم اعتقدوا هذا القسم.

و «من» مبتدأ، و «هذا» خبره، و «الّذي» بصلته صفته. و «ينصركم» وصف ل «جند» محمول على لفظه.

إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ لا معتمد لهم.

أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ أم من يشار إليه و يقال: «هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ» إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بإمساك المطر و سائر الأسباب المحصّلة للرزق بَلْ لَجُّوا تمادوا فِي عُتُوٍّ عناد وَ نُفُورٍ شراد عن الحقّ، لتنفّر طباعهم عنه.

أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى يقال: كببته فأكبّ. و هو من الغرائب و الشواذّ. و نحوه: قشع اللّه السحاب فأقشع. و التحقيق أنّهما من باب: أنفض (2)، بمعنى: صار ذا كبّ و ذا قشع. و ليسا مطاوعي: كبّ، بل المطاوع لهما: انكبّ و انقشع. و معنى «مكبّا»: منكّسا رأسه إلى الأرض، فهو لا يبصر الطريق، و لا من يستقبله، و لا ينظر أمامه و لا يمينه و لا شماله، فيعثر كلّ ساعة، و يخرّ على وجهه، لو عورة طريقه، و اختلاف أجزائه انخفاضا و ارتفاعا. فحاله نقيض حال من يمشي سويّا، و لذلك قابله بقوله: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مستويا قائما، يبصر الطريق و جميع جهاته، فيضع قدمه سالما من العثار و الخرور عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مستوي الأجزاء و الجهة.

و قيل: يراد الأعمى الّذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف (3)، فلا يزال ينكبّ على وجهه، و أنّه ليس كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي في الطريق،

ص: 132


1- الأنبياء: 43.
2- أنفض القوم: فني زادهم، و هلكت أموالهم.
3- اعتسف الطريق: ركبه على غير هداية. و اعتسف عن الطريق: مال عنه و عدل.

المهتدي له. و المراد تمثيل المشرك و الموحّد بالسالكين، و الدينين بالمسلكين.

و لعلّ الاكتفاء بما في الكبّ من الدلالة على حال المسلك بدون ذكر الطريق، للإشعار بأنّ ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمّى طريقا، كمشي المتعسّف في مكان متعاد (1) غير مستو.

و قيل: «فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا» هو الّذي يحشر على وجهه إلى النار، و «أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا» الّذي يحشر على قدميه إلى الجنّة.

و عن قتادة: الكافر أكبّ على المعاصي، فحشره اللّه يوم القيامة على وجهه.

و عن الكلبي: عني به أبو جهل بن هشام، و بالسويّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

حمزة بن عبد المطّلب.

[سورة الملك [67]: الآيات 23 الى 27]

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ [23] قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [24] وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [25] قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [26] فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [27]

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا المواعظ وَ الْأَبْصارَ لتنظروا صنائعه وَ الْأَفْئِدَةَ لتتفكّروا و تعتبروا قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: تشكرون شكرا قليلا. أو في زمان قليل

ص: 133


1- تعادى المكان: تفاوت و لم يستو.

تشكرون، باستعمالها فيما خلقت لأجلها. أو قليلا شكركم. فتكون «ما» مصدريّة.

قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ خلقكم فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ منها للجزاء.

وَ يَقُولُونَ خاطبين للنبيّ و المؤمنين مَتى هذَا الْوَعْدُ أي: الحشر، أو ما و عدوا من الخسف و الحاصب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ذلك الوعد.

قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي: علم وقته عِنْدَ اللَّهِ لا يطّلع عليه غيره وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ و الإنذار يكفي فيه العلم- بل الظنّ- بوقوع المحذّر منه.

ثمّ ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب و معاينته فقال: فَلَمَّا رَأَوْهُ أي:

الوعد، فإنّه بمعنى الموعود زُلْفَةً ذا زلفة، أي: قريبا منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ساءت الرؤية وجوههم، بأن علتها الكآبة، و غشيها الكسوف و القترة (1) و الاسوداد، كما يكون وجه من يقاد إلى القتل، أو يعرض على بعض العذاب وَ قِيلَ قيل: القائلون هم الزبانية هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تطلبون و تستعجلون به. تفتعلون من الدعاء. أو تدّعون أن لا بعث. فهو من الدعوى.

و عن بعض الزهّاد: أنّه تلاها في أول الليل في صلاته، فبقي يكرّرها و هو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر.

[سورة الملك [67]: الآيات 28 الى 30]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [28] قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [29] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [30]

ص: 134


1- القترة: الغبرة، أي: لون الغبار.

روي: أنّ كفّار مكّة كانوا يدعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على المؤمنين بالهلاك، فقال اللّه سبحانه: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أماتني وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا بتأخير آجالنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي: لا ينجيهم أحد من العذاب. قيل: و هو جواب لقولهم: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (1).

و تنقيح المعنى: أنّ اللّه سبحانه أمر رسوله بأن يقول للكافرين: نحن مؤمنون متربّصون لإحدى الحسنيين: إمّا أن نهلك كما تتمنّون، فننقلب إلى الجنّة، أو نرحم بالنصرة و الإدالة (2) للإسلام كما نرجو، فمن يجيركم و أنتم كافرون من عذاب النار؟

يعني: أنتم تطلبون لنا الهلاك الّذي هو استعجال للفوز و السعادة، و أنتم في أمر هو الهلاك الّذي لا هلاك بعده، و أنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه.

أو المعنى: إن أهلكنا اللّه بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم من النار؟ و إن رحمنا بالإمهال و الغلبة عليكم و قتلكم فمن يجيركم؟ فإنّ المقتول على أيدينا هالك. أو إن أهلكنا اللّه في الآخرة بذنوبنا و نحن مسلمون، فمن يجير الكافرين و هم أولى بالهلاك لكفرهم؟ و إن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له؟

قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ الّذي أدعوكم إليه مولي النعم كلّها آمَنَّا بِهِ للعلم بذلك وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا للوثوق عليه، و العلم بأنّ غيره بالذات لا يضرّ و لا ينفع.

و تأخير صلة «آمنّا» و تقديم صلة «توكّلنا» لأجل أنّ وقوع «آمنّا» تعريض بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم، كأنّه قيل: آمنّا و لم نكفر كما كفرتم. ثم قال: و عليه توكّلنا خصوصا، لم نتّكل على ما أنتم متّكلون عليه من رجالكم و أموالكم.

ص: 135


1- الطور: 30.
2- الإدالة: الغلبة.

فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ منّا و منكم. و قرأ الكسائي بالياء.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً غائرا في الأرض بحيث لا تناله الدلاء.

مصدر وصف به. فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ جار، أو ظاهر سهل المأخذ. قيل: إنّها تليت عند محمد بن زكريّا المتطبّب فقال: تجي ء به الفؤوس و المعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ باللّه من الجرأة على اللّه و على آياته.

ص: 136

[68] سورة القلم

اشارة

مكّيّة و هي اثنتان و خمسون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأ سورة ن وَ الْقَلَمِ أعطاه اللّه ثواب الّذين حسن أخلاقهم».

عليّ بن ميمون عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة «ن و القلم» في فريضة أو نافلة آمنه اللّه عزّ و جلّ من أن يصيبه في حياته فقر أبدا، و أعاذه إذا مات من ضمّة القبر إن شاء اللّه تعالى».

[سورة القلم [68]: الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ [1] ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [2] وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ [3] وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [4]

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ [5] بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [6] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [7]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الملك بذكر تكذيب الكفّار و وعيدهم، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن من أسماء الحروف. و يؤيّده سكونه و كتبته

ص: 137

بصورة الحرف. أو من أسماء السورة، مثل «حم» و «ص» و ما أشبه ذلك. و قد ذكرنا ذلك مع غيره من الأقوال في مفتتح سورة البقرة.

و قيل: اسم الحوت. و المراد به الجنس، أو البهموت، و هو الحوت الّذي عليه الأرضون.

و عن الحسن: هو الدواة، فإنّ بعض الحيتان يستخرج منه شي ء أشدّ سوادا من المداد يكتب به.

و عن ابن عبّاس و مجاهد و مقاتل و السدّي مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هو لوح من نور».

و في رواية عن ابن عبّاس: هو حرف من حروف الرحمن.

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «هو نهر في الجنّة قال اللّه له: كن مدادا فجمد، و كان أبيض من اللبن و أحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم: اكتب، فكتب القلم ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة».

و يؤيّده قوله عقيب ذلك:

وَ الْقَلَمِ هو الّذي خطّ به اللوح، أو الّذي يخطّ به في الدنيا. أقسم به لكثرة فوائده الّتي لا يحيط بها الوصف، إذ هو أحد لساني الإنسان، يؤدّي عنه ما في جنانه، و يبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه، و به تحفظ أحكام الدين، و به تستقيم أمور العالمين.

و قد قيل: إنّ البيان بيانان: بيان اللسان، و بيان البنان. و بيان اللسان تدرسه (1) الأعوام، و بيان الأقلام باق على مرّ الأيّام.

و قيل: إنّ قوام أمور الدين و الدنيا بشيئين: القلم و السيف، و السيف تحت القلم.

ص: 138


1- أي: يمحوه مرور الأعوام.

و أخفى ابن عامر و الكسائي و يعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتّصل، فإنّ النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتّصلت بها، و قد روي ذلك عن نافع و عاصم.

وَ ما يَسْطُرُونَ و ما يكتبون. و الضمير للقلم بالمعنى الأوّل على التعظيم، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس. و إسناد الفعل إلى الآلة، و إجراؤه مجرى أولي العلم، لإقامته مقامهم. أو لأصحابه المقدّر، و «ما» موصولة أو مصدريّة، كأنّه قيل:

و أصحاب القلم و مسطوراتهم، أو و سطرهم. أو للملائكة الحفظة، أي: و ما تكتبه الملائكة ممّا يوحى إليهم، و ما يكتبونه من أعمال بني آدم.

و جواب القسم قوله: ما أَنْتَ مبتدأ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ حال، و العامل فيها معنى النفي بِمَجْنُونٍ خبر المبتدأ. و حقيقة المعنى: انتفى عنك الجنون منعّما عليك بالنبوّة و حصافة (1) الرأي. و نظير ذلك: ما أنت بمجنون بحمد اللّه.

و قيل: عامل الحال «مجنون»، و الباء لا تمنع عمله فيما قبله، لأنّها مزيدة.

و فيه نظر من حيث المعنى، لأنّه يقيّد نفي الجنون، و المقصود نفيه مطلقا.

و المراد استبعاد ما كان ينسبه إليه كفّار مكّة من الجنون عداوة و حسدا، و أنّه من إنعام اللّه عليه بحصافة العقل و الشهامة الّتي يقتضيها التأهيل للنبوّة بمعزل عنه.

وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً على احتمال أعباء رسالتك و غصص تبليغك غَيْرَ مَمْنُونٍ مقطوع، كقوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (2). أو غير ممنون به عليك، لأنّه ثواب تستوجبه على عملك، و ليس بتفضّل ابتداء، و إنّما تمنّ الفواضل لا الأجور على الأعمال. و قال ابن عبّاس: ليس من نبيّ إلّا و له مثل أجر من آمن به و دخل في دينه.

ص: 139


1- حصف حصافة: كان جيّد الرأي محكم العقل.
2- هود: 108.

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ إذ تتحمّل من قومك ما لا يتحمّل أمثالك. و قيل:

هو الخلق الّذي أمره اللّه به في قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (1).

و عن عائشة: أنّ سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت:

كان خلقه القرآن، أ لست تقرأ القرآن قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (2). و قريب منه: أنّ معناه: إنّك متخلّق بأخلاق الإسلام، و متأدّب بآدابه.

و قيل: سمّي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. و يعضده ما

روي عنه أنّه قال: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».

و قال: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي».

و قال عليه السّلام: «إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل و صائم النهار».

و عن أبي الدرداء قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما شي ء أثقل في الميزان من خلق حسن».

و عن الرضا عليّ بن موسى عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «عليكم بحسن الخلق، فإنّ حسن الخلق في الجنّة لا محالة. و إيّاكم و سوء الخلق، فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة».

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أيّكم الّذي فتن بالجنون. و الباء مزيدة. أو بأيّكم الجنون، على أنّ المفتون مصدر، كالمعقول و المجلود. أو بأيّ الفريقين منكم المجنون، أ بفريق المؤمنين؟ أم بفريق الكافرين؟ أي: في أيّهما يوجد من يستحقّ هذا الاسم. و هذا تعريض بأبي جهل بن هشام و الوليد بن المغيرة و أضرابهما. و هذا كقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (3).

ص: 140


1- الأعراف: 199.
2- المؤمنون: 1
3- القمر: 6.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و هم المجانين على الحقيقة. و هم الذين ضلّوا عن سبيله. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الفائزين بكمال العقل، العاملين بموجبه. فيجازي كلّا بما يستحقّه و يستوجبه.

روي عن السيّد أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني رحمه اللّه، قال: حدّثنا أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه الشيرازي، قال:

حدّثنا أبو بكر الجرجرائي، قال: حدّثنا أبو أحمد البصري، قال: حدّثني عمرو بن محمد بن تركي، قال: حدّثنا محمد بن الفضل، قال: حدّثنا محمد بن شعيب، عن عمرو بن شمر، عن دلهم بن صالح، عن الضحّاك بن مزاحم، قال: لمّا رأت قريش تقديم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام و إعظامه له نالوا من عليّ و قالوا: قد افتتن به محمد.

فأنزل اللّه تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ

قسم أقسم اللّه به. ما أَنْتَ يا محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ يعني: القرآن. إلى قوله: بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و هم النفر الّذين قالوا ما قالوا. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (1).

[سورة القلم [68]: الآيات 8 الى 16]

فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [8] وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [9] وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ [10] هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [11] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [12]

عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [13] أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ [14] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [15] سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [16]

ص: 141


1- شواهد التنزيل 2: 359 ح 1006.

ثمّ قال سبحانه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تهييجا للتصميم على معاصاتهم: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ بتوحيد اللّه و بنبوّتك وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ لو تلين و تصانع، بأن تدع نهيهم عن الشرك، أو توافقهم فيه أحيانا فَيُدْهِنُونَ خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يدهنون، كقوله تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً (1). و لهذا رفع و لم ينصب بإضمار «أن» ليكون جواب التمنّي.

و المعنى: فهم يلاينونك بترك الطعن و الموافقة. كما روي أنّهم كانوا أرادوه على أن يعبد اللّه مدّة و آلهتهم مدّة، و يكفّوا عنه غوائلهم.

و الفاء للعطف، أي: ودّوا التداهن و تمنّوه، لكنّهم أخّروا ادّهانهم حتّى تدهن.

أو للسببيّة، أي: ودّوا لو تدهن، فهم يدهنون حينئذ. أو ودّوا ادّهانك، فهم الآن يدهنون طمعا في ادّهانك.

وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف في الحقّ و الباطل. و كفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. و مثله قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ (2). مَهِينٍ حقير الرأي. من المهانة، و هي القلّة و الحقارة. يريد القلّة في الرأي و التمييز. و عن ابن عبّاس: أي: كذّاب، لأنّ الكذّاب حقير عند الناس.

هَمَّازٍ عيّاب، طعّان. و عن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس.

مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث على وجه السعاية.

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع الناس عن الخير، من الإيمان و الإنفاق و العمل الصالح مُعْتَدٍ متجاوز في الظلم أَثِيمٍ كثير الآثام.

عُتُلٍ جاف، غليظ، شديد الخصومة بالباطل. من: عتله إذا قاده بعنف و غلظة.

ص: 142


1- الجنّ: 13.
2- البقرة: 224.

بَعْدَ ذلِكَ بعد ما عدّ من المعائب و النقائص زَنِيمٍ دعيّ ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب، أي: مولود على الزنا. من زنمتي الشاة، و هما المتدلّيتان من أذنها و حلقها، لأنّهما زائدتان. قال حسّان:

و أنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (1)

فلمّا كان الدعيّ زائدا في القوم ليس منهم فهو معلّق بغيرهم.

و قيل: هو الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسرا، و كان له عشرة من البنين، فكان يقول لهم و للحمته (2): من أسلم منكم منعته رفدي. و كان دعيّا في قريش ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده. و قيل: بغت أمّه، و لم يعرف حتّى نزلت هذه الآية.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه جعل جفاءه و دعوته أشدّ معايبه، لأنّه إذا جفا و غلظ طبعه قسا قلبه، و اجترأ على كلّ معصية. و النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها، و من ثمّ

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يدخل الجنّة ولد الزنا، و لا ولده، و لا ولد ولده».

و قيل: نزلت في الأخنس بن شريق، أصله من ثقيف، و عداده في زهرة.

أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ* إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: كذّب بآياتنا حينئذ، و نسبها إلى أحاديث الأوائل الّتي سطرت و كتبت لا أصل لها، لأنّه كان متموّلا مستظهرا بالمال و البنين من فرط غروره. و العامل في «أن كان» مدلول «قال» الّذي هو جواب «إذا»، و هو ما دلّت عليه الجملة من معنى التكذيب، لا نفسه، لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. و يجوز أن يكون علّة ل «لا تطع» أي: لا

ص: 143


1- لحسّان بن ثابت يخاطب الوليد بن المغيرة بأنّه زنيم، أي: معلّق في آل هاشم كزنمتي الشاة. فشبّهه بالزنمة و بالقدح المنفرد المعلّق خلف الراكب. انظر ديوان حسّان (طبعة دار صادر): 89.
2- اللحمة: القرابة.

تطع من هذه معايبه، لأن كان ذا مال و بنين، أي: ليساره و حظّه من الدنيا.

و قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب و أبو بكر: أ أن كان، على الاستفهام، غير أنّ ابن عامر برواية هشام جعل الهمزة الثانية بين بين، أي: أ لأن كان ذا مال كذّب، أو أ تطيعه لأن كان ذا مال.

سَنَسِمُهُ سنعلمه بالكيّ عَلَى الْخُرْطُومِ على الأنف. و قد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي أثره.

و قيل: هو عبارة عن أن يذلّه غاية الإذلال، كقولهم: جدع أنفه و رغم أنفه، فإنّ الوجه أكرم موضع في الجسد، و الأنف أكرم موضع من الوجه، لتقدّمه له، و لذلك جعلوه مكان العزّ و الحميّة، و اشتقّوا منه الأنفة، و قالوا: الأنف في الأنف. فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال و الإهانة، لأنّ السمة على الوجه شين و إذلال، فكيف بها على أكرم موضع منه. و في إيثار الخرطوم على الأنف استخفاف به و استهانة.

و قيل: معناه: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما عادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عداوة بان بها عنهم.

و قيل: إنّ الخرطوم الخمر، سمّيت به لأنّها تطير في الخياشيم. فالمعنى:

سنحدّه على شربها. و هو تعسّف.

[سورة القلم [68]: الآيات 17 الى 33]

إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ [17] وَ لا يَسْتَثْنُونَ [18] فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ [19] فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [20] فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ [21]

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [22] فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ [23] أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا

ص: 144

الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [24] وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ [25] فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [26]

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [27] قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ [28] قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [29] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [30] قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ [31]

عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ [32] كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [33]

إِنَّا بَلَوْناهُمْ بلونا أهل مكّة بالقحط و الجوع بدعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ يريد بستانا كان دون صنعاء بفرسخين، و كان لرجل صالح، و كان ينادي الفقراء وقت الصرام (1)، و يترك لهم ما أخطأه المنجل، و ألقته الريح، و ما بقي على البساط الّذي يبسط تحت النخلة، فيجتمع لهم شي ء كثير. فلمّا مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، فحلفوا: ليصر منّها وقت الصباح خفية عن المساكين، كما قال:

إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ليقطعنّها داخلين في الصباح مبكّرين وَ لا يَسْتَثْنُونَ و لا يقولون: إن شاء اللّه. و إنّما سمّاه استثناء، و إنّما هو شرط، لأنّه يؤدّي مؤدّى الاستثناء، من حيث إنّ معنى قولك: لأخرجنّ إن شاء اللّه، و لا أخرج إلّا أن يشاء اللّه، واحد. و لما فيه من الإخراج، غير أنّ المخرج به خلاف المذكور،

ص: 145


1- أي: القطع.

و المخرج بالاستثناء عينه.

فَطافَ عَلَيْها على الجنّة طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ مبتدأ منه وَ هُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الّذي صرم ثماره، أي: المقطوع بحيث لم يبق فيه شي ء. فعيل بمعنى مفعول.

و قيل: الصريم اسم الليل و النهار. سمّيا به لأنّ كلّا منهما ينصرم عن صاحبه.

فالمعنى: كالليل باحتراقها و اسودادها، أي: احترقت فاسودّت. أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس، أي: يبست و ذهبت خضرتها، و لم يبق منها شي ء. من قولهم: بيّض الإناء إذا فرّغه. و قيل: الصريم الرمال. سمّيت به لانقطاعها.

فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: نادى بعضهم بعضا حال كونهم داخلين في الصباح أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي: اخرجوا، أو بأن اخرجوا إليه غدوة. و تعدية الفعل ب «على» إمّا لتضمّنه معنى الإقبال، كقولهم: يغدى عليه بالجفنة و يراح، أي: فأقبلوا على حرثكم باكرين. أو لتشبيه الغدوّ للصرام بغدوّ العدوّ المتضمّن لمعنى الاستيلاء، كما يقال: غدا عليهم العدوّ. إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ قاطعين له.

فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ يتشاورون فيما بينهم. و خفت و خفي و خفد بمعنى الكتم. و منه: الخفدود للخفّاش. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ «أن» مفسّرة. و المراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول، أي: لا تمكّنوه من الدخول حتّى يدخل، كقولك: لا أرينّك هاهنا.

وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ و خرجوا غدوة قادرين على نكد- أي: على منع الخير- لا غير، عاجزين عن النفع. من: حاردت السنة، إذا لم يكن فيها مطر.

و حاردت الإبل، إذا منعت درّها.

و المعنى: أنّهم عزموا أن يتنكّدوا على المساكين و يحرموهم و هم قادرون على نفعهم، فغدوا بحال فقر و ذهاب مال لا يقدرون فيها إلّا على النكد و الحرمان.

ص: 146

و ذلك أنّهم طلبوا حرمان المساكين، فتعجّلوا الحرمان و المسكنة. أو و غدوا على محاردة جنّتهم و ذهاب خيرها قادرين على إصابة خيرها و منافعها، أي: غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع. أو لمّا قالوا: اغدوا على حرثكم و قد خبثت نيّتهم عاقبهم اللّه تعالى، بأن حاردت جنّتهم و حرموا خيرها، فلم يغدوا على حرث، و إنّما غدوا على حرد.

و «قادرين» على عكس الكلام للتهكّم، أي: قادرين على ما عزموا عليه من الصرام و حرمان المساكين. و على هذا «على حرد» ليس بصلة «قادرين».

و قيل: الحرد بمعنى الحرد، أي: لم يقدروا إلّا على حنق و غضب بعضهم على بعض، كقوله: يَتَلاوَمُونَ (1).

و قيل: الحرد القصر و السرعة. يقال: حردت حردك. قال:

أقبل سيل جاء من أمر اللّه يحرد حرد الجنّة المغلّة (2)

يعني: و غدوا قاصدين إلى جنّتهم بسرعة و نشاط، قادرين عند أنفسهم، يقولون: نحن نقدر على صرامها و زيّ (3) منفعتها عن المساكين.

و قيل: حرد علم للجنّة، أي: غدوا على تلك الجنّة قادرين على صرامها عند أنفسهم، أو مقدّرين أن يتمّ لهم مرادهم. من الصرام و الحرمان. كلّ ذلك نقلت عن الكشّاف (4).

فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا في بديهة وصولهم إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنّتنا، و ما هي بها بَلْ نَحْنُ أي: بعد ما تأمّلوا و عرفوا أنّها هي مَحْرُومُونَ حرمنا

ص: 147


1- القلم: 30.
2- يصف الشاعر سيلا بالكثرة. يقول: جاء سيل من عند اللّه، يسرع إسراع الجنّة المغلّة، أي: كثيرة الغلّة و الخير. و إسراع الجنّة- أي: البستان-: ظهور خيرها في زمن يسير.
3- زوى يزوي زيّا الشي ء: منعه.
4- الكشّاف 4: 590- 591.

خيرها، لجنايتنا على أنفسنا.

قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم رأيا و خيرهم. من قولهم: هو من سطة خيار قومه، و أعطني من سطات مالك. و منه. قوله تعالى: أُمَّةً وَسَطاً (1). و قيل: أوسطهم سنّا. أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ لو لا تذكرون اللّه و تتوبون إليه من خبث نيّتكم.

و قد روي: أنّه قال أوسطهم حين عزموا على ذلك: اذكروا اللّه و انتقامه من المجرمين، و توبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، و سارعوا إلى حسم شرّها قبل حلول النقمة. فعصوه، فعيّرهم. و الدليل عليه قوله: قالُوا اعترافا بظلمهم في منع المعروف سُبْحانَ رَبِّنا نزّهناه عن الظلم، فلم يفعل بنا ما فعله ظلما إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فتكلّموا بما كان يدعوهم إلى التكلّم به على أثر مقارفة الخطيئة، و لكن بعد خراب البصرة.

و قيل: المراد بالتسبيح الاستثناء، لتشاركهما في معنى التعظيم للّه، لأنّ الاستثناء تفويض إليه، و التسبيح تنزيه له، و كلّ واحد من التفويض و التنزيه تعظيم.

و عن الحسن: هو الصلاة. كأنّهم كانوا يتوانون في الصلاة، و إلّا لنهتهم عن الفحشاء و المنكر، و لكانت لهم لطفا في أن يستثنوا و لا يحرموا.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا، فإنّ منهم من أشار بذلك، و منهم من استصوبه، و منهم من سكت راضيا، و منهم من أنكره.

قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود اللّه. و الويل: المكروه الشديد الشاقّ على النفس.

فتابوا و ندموا و رجعوا إلى اللّه، ثمّ قالوا: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها لعلّ اللّه يخلّف علينا، و يولينا خيرا من الجنّة الّتي هلكت ببركة التوبة و الاعتراف بالخطيئة. و قد روي: أنّهم لمّا تابوا ابدلوا خيرا منها. و عن ابن مسعود: بلغني أنّهم أخلصوا و عرف اللّه منهم الصدق، فأبدلهم بها جنّة يقال لها: الحيوان، فيها عنب

ص: 148


1- البقرة: 143.

يحمل البغل منه عنقودا.

إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ راجون العفو، طالبون منه الخير. و «إلى» لانتهاء الرغبة، أو لتضمّنها معنى الرجوع.

كَذلِكَ الْعَذابُ مثل ذلك العذاب الّذي بلونا به أهل مكّة و أصحاب الجنّة العذاب في الدنيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أشدّ و أعظم منه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لاحترزوا عمّا يؤدّيهم إلى العذاب.

[سورة القلم [68]: الآيات 34 الى 45]

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [34] أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [35] ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [36] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ [37] إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ [38]

أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ [39] سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [40] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [41] يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [42] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ [43]

فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [44] وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [45]

ص: 149

و لمّا ذكر سبحانه ما أعدّه في الآخرة للكافرين، عقّبه بذكر ما وعده للمتّقين، فقال:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: في الآخرة، أو في جوار القدس جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنّات ليس فيها إلّا التنعّم الخالص.

روي: أنّ المجرمين كانوا يقولون: إن صحّ أنّا نبعث كما يزعم محمّد و من معه لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالا منهم كما نحن عليه في الدنيا. فأنكر اللّه تعالى ذلك عليهم بقوله: أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي: لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء و الثواب.

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ التفات فيه تعجّب من حكمهم، و تهجين و توبيخ لهم، و استبعاد له، و إشعار بأنّ هذا من اختلال فكرهم و اعوجاج رأيهم. و معناه: أيّ شي ء يحملكم على تفضيل الكفّار حتّى صار سببا لإصراركم على الكفر؟ و لا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء و الأعداء في دار الجزاء، فضلا عن تفضيل الأعداء على الأولياء.

أَمْ لَكُمْ كِتابٌ من السماء فِيهِ تَدْرُسُونَ تقرءون. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ إنّ لكم ما تختارونه و تشتهونه. يقال: تخيّر الشي ء و اختاره، أخذ خيره.

و نحوه: تنخّله و انتخله (1) إذا أخذ من خوله. و أصل الكلام: تدرسون أنّ لكم ما تتخيّرون، بفتح «أنّ» لأنّه المدروس، فلمّا جي ء باللام كسرت. و يجوز أن يكون حكاية للمدروس، كقوله: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ (2) أو استئنافا.

أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا عهود مؤكّدة بالأيمان بالِغَةٌ متناهية في التوكيد.

ص: 150


1- تنخّل و انتخل الشي ء: صفّاه و اختاره و أخذ أفضله.
2- الصافّات: 78- 79.

يقال: لفلان عليّ يمين بكذا، إذا ضمنته منه و حلفت له على الوفاء به. يعني: أم ضمنّا منكم و أقسمنا لكم بأيمان مغلّظة متناهية في التوكيد.

إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلّق بالمقدّر في «لكم» أي: ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة، لا نخرج عن عهدتها حتّى نحكّمكم في ذلك اليوم و أعطيناكم ما تحكمون.

أو ب «بالغة» أي: أيمان تبلغ ذلك اليوم و تنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم.

فقوله: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم، لأنّ معنى «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا»: أم أقسمنا لكم.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلزاما للكفرة بما قالوه:

سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ أي: قائم به و بالاحتجاج لصحّته، كما يقوم الزعيم المتكلّم عن القوم المتكفّل بأمورهم.

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ناس يشاركونهم في هذا القول، و يوافقونهم عليه، و يذهبون مذهبهم فيه فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم. يعني: أن أحدا لا يسلّم لهم هذا، و لا يساعدهم عليه، كما أنّه لا كتاب لهم ينطق به، و لا عهد لهم به عند اللّه، و لا زعيم لهم يقوم به.

و قد نبّه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبّثوا به من عقل أو نقل يدلّ عليه، لاستحقاق أو وعد أو محض تقليد على الترتيب، تنبيها على مراتب النظر، و تزييفا لما لا سند له.

و قيل: المعنى: أم لهم شركاء- يعني: الأصنام- يجعلونهم مثل المؤمنين في الآخرة؟ كأنّه لمّا نفى أن تكون التسوية من اللّه، نفى بهذا أن تكون ممّا يشركون اللّه به.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ناصب الظرف «فليأتوا». أو إضمار: اذكر. أو

ص: 151

التقدير: يوم يكشف عن ساق كان كيت و كيت، فحذف للتهويل البليغ. و المعنى:

يوم يشتدّ الأمر و يصعب الخطب، فإنّ كشف الساق مثل في ظهور اشتداد الأمر و صعوبة الخطب. و أصله: تشمير المخدّرات عن سوقهنّ (1) في الهرب. و تشمير الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجدّ فيه، فيشمّر عن ساقه. قال حاتم:

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّهاو إن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

فاستعير عن الساق في موضع الشدّة من غير كشف الساق حقيقة، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، و لا يد ثمّ و لا غلّ، و إنّما هو مثل في البخل.

و أمّا من شبّه فلقلّة نظره في علم البيان. و الّذي غرّه حديث ابن مسعود:

«يكشف الرحمن عن ساقه، فأمّا المؤمنون فيخرّون سجّدا، و أمّا المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا، كأنّ فيها سفافيد» (2). و معناه: يشتدّ أمر الرحمان و يتفاقم هوله، و هو الفزع الأكبر يوم القيامة. و ليس معنى حديثه على ظاهره، لأنّ هذا موافق لمذهب المشبّهة الّذين كانوا من أعاظم الكفّار و الملاحدة. و أيضا على هذا الوجه الظاهر من حقّ الساق أن تعرّف، لأنّها ساق مخصوصة معهودة عنده، و هي ساق الرحمن.

أو معنى الآية: يوم يكشف عن أصل الأمر و حقيقته بحيث يصير عيانا.

مستعار من ساق الشجر و ساق الإنسان. و تنكيره للتهويل أو للتعظيم. كأنّه قيل:

يشتدّ الخطب يوم يقع أمر فظيع هائل و شدّة عظيمة.

وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ أي: يقال لهم: اسجدوا على وجه التوبيخ على تركهم السجود في الدنيا إن كان اليوم يوم القيامة، أو يدعون إلى الصلوات إن كان وقت النزع فَلا يَسْتَطِيعُونَ لذهاب وقته، أو زوال القدرة عليه.

ص: 152


1- جمع: ساق.
2- سفافيد جمع سفّود، و هي: حديدة يشوى عليها اللحم.

و قيل: معناه: أنّ شدّة الأمر و صعوبة حال ذلك اليوم تدعوهم إلى السجود، و إن كانوا لا ينتفعون به، و ليس أنّهم يؤمرون به. و هذا كما يفزع الإنسان إلى السجود إذا أصابه هول من أهوال الدنيا.

و عن ابن مسعود: تعقم أصلابهم، أي: تردّ عظاما بلا مفاصل، لا تنثني عند الرفع و الخفض، فلا يستطيعون السجود. و في الحديث: «تبقى أصلابهم طبقا واحدا»

أي: فقارة واحدة.

خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تلحقهم ذلّة. ثمّ علّل ذلك بقوله: وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ في الدنيا، أو زمان الصحّة وَ هُمْ سالِمُونَ سالموا الأصلاب و المفاصل، متمكّنون منه، مزاحوا العلل فيه. يعني: أنّهم كانوا يؤمرون بالصلاة في الدنيا فلم يفعلوا.

و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «في هذه الآية أفحم القوم، و دخلتهم الهيبة، و شخصت الأبصار، و بلغت القلوب الحناجر، لما رهقهم من الندامة و الخزي و المذلّة، و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون، أي: يستطيعون الأخذ بما أمروا به، و الترك لما نهوا عنه، و لذلك ابتلوا».

ثمّ قال تسلية لرسوله و تهديدا للمكذّبين: فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ كله إليّ، فإنّي أكفيكه. و المعنى: حسبي مجازيا لمن يكذّب بالقرآن، فلا تشغل قلبك بشأنه، و توكّل عليّ في الانتقام منه. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سندينهم من العذاب درجة درجة، بالإمهال و إدامة الصحّة و ازدياد النعمة، فإنّ استدراج اللّه العصاة أن يرزقهم الصحّة و النعمة، فيجعلوا رزق اللّه ذريعة إلى ازدياد الكفر و المعاصي، ثمّ يجزيهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ من الجهة الّتي لا يشعرون أنّه استدراج، و هو الإنعام عليهم، لأنّهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين، و هو سبب لهلاكهم.

وَ أُمْلِي لَهُمْ أمهلهم ليزدادوا إثما. و لا شبهة أنّ الصحّة و الرزق و المدّ في

ص: 153

العمر إحسان من اللّه و إفضال، يوجب عليهم الشكر و الطاعة، و لكنّهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم، فلمّا تدرّجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لا يدفع بشي ء. و سمّي إنعامه و تمكينه كيدا، كما سمّاه استدراجا، لأنّه في صورة الكيد، حيث كان سببا للتورّط في الهلكة.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة، فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج».

[سورة القلم [68]: الآيات 46 الى 50]

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [46] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [47] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ [48] لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ [49] فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [50]

ثمّ خاطب سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال على وجه التوبيخ للكفّار، عطفا على قوله: «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ».

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على الإرشاد فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ من غرامة مُثْقَلُونَ بحملها، فيعرضون عنك.

أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اللوح، أو المغيّبات فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ما يحكمون به، و يستغنون به عن علمك، أي: لم تطلب منهم على الهداية و التعليم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم، فيثبّطهم ذلك عن الإيمان.

و لمّا كان عدم انقيادهم لك لا يكون إلّا لفرط عنادهم و توغّلهم في مكابرتهم و لجاجهم فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ و هو إمهالهم، و تأخير نصرتك عليهم وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ يعني: يونس عليه السّلام في استعجال عقاب قومه إِذْ نادى ربّه في

ص: 154

بطن الحوت، و هو قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (1). وَ هُوَ مَكْظُومٌ مملوء غيظا. من: كظم السقاء إذا ملأه. و المعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر و المغاضبة، فتبتلي ببلائه.

لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لو لا أن أدركته رحمة من ربّه، من إجابة دعائه، و قبول توبته عن ترك الأولى، و تخليصه من بطن الحوت. و حسن تذكير الفعل للفصل. لَنُبِذَ بِالْعَراءِ بالأرض العارية الخالية عن الأشجار وَ هُوَ مَذْمُومٌ مليم مطرود عن الرحمة و الكرامة. و هو حال يعتمد عليها الجواب، لأنّها المنفيّة دون النبذ، لأنّه كان واقعا. و لو كان بغير اعتماد لكان النبذ منفيّا، لكنّه واقع.

يعني: أنّ حاله كانت على خلاف الذمّ حين نبذ بالعراء، و لو لا توبته لكانت حاله على الذمّ.

فَاجْتَباهُ رَبُّهُ بأن جمعه إليه، و قرّبه بالتوبة عليه، كما قال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (2). أو بأن ردّ الوحي إليه. أو استنبأه إن صحّ أنّه لم يكن نبيّا قبل هذه الواقعة. فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الكاملين في الصلاح، بأن عصمه من أن يفعل ما تركه أولى. أو من الأنبياء. و الآية نزلت حين همّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يدعو على ثقيف. و قيل: بأحد حين حلّ به ما حلّ، فأراد أن يدعو على المنهزمين.

[سورة القلم [68]: الآيات 51 الى 52]

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [51] وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [52]

و روي: أنّه كان في بني أسد عيّانون (3)، فأراد بعضهم أن يعين رسول اللّه، و كان الرجل منهم يتجوّع ثلاثة أيّام، فلا يمرّ به شي ء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله

ص: 155


1- الأنبياء: 87.
2- طه: 122.
3- العيّان: الشديد الإصابة بالعين.

إلّا عانه و صرعه. فأراد بعض العيّانين على أن يقول في رسول اللّه بمثل هذا القول، فقال له حين قراءته: لم أر كاليوم رجلا مثله، فعصمه اللّه. فنزلت:

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ بأن يصيبوك بالعين. «و إن» هي المخفّفة، و اللام دليلها. و في الحديث: «إنّ العين لتدخل الرجل القبر، و الجمل القدر».

و يكون ذلك من خصائص بعض النفوس، فإنّه غير ممتنع أن يكون اللّه تعالى أجرى العادة بصحّة ذلك لضرب من المصلحة، و عليه إجماع المفسّرين، و جوّزه العقلاء، فلا مانع منه.

و جاء في الخبر: «أنّ أسماء بنت عميس قالت: يا رسول اللّه إن بني جعفر تصيبهم العين أ فأسترقي لهم؟ قال: نعم، فلو كان شي ء يسبق القدر لسبقه العين».

و عن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية.

و قرأ نافع: ليزلقونك. من: زلقته فزلق، كحزنته فحزن.

لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي: القرآن. و عن الزجّاج: معنى الآية: أنّهم من شدّة تحديقهم و حدّة نظرهم إليك شزرا (1) بعيون العداوة و البغضاء، بحيث يكادون يزلّون قدمك، أو يهلكونك عند تلاوة القرآن و الدعاء إلى التوحيد، حسدا على ما أوتيت من النبوّة و الكتاب. من قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني و يكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع و الأكل لفعله. وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ حيرة في أمره و تنفيرا عنه، و إلّا فقد علموا أنّه أعقلهم.

و لمّا نسبوا الجنون إليه لأجل القرآن، بيّن أنّه ذكر عامّ، لا يدركه و لا يتعاطاه إلّا من كان أكمل الناس عقلا و أمتنهم رأيا، فقال: وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ذكر عامّ و موعظة تامّة، فكيف يجنّن من جاء بمثله؟!

ص: 156


1- شزر الرجل و إليه: نظر إليه بجانب عينه مع إعراض أو غضب.

[69] سورة الحاقّة

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة الحاقّة حاسبه اللّه حسابا يسيرا».

و روى جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أكثروا من قراءة الحاقّة، فإنّ قراءتها في الفرائض من الإيمان باللّه و رسوله، و لم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى اللّه».

[سورة الحاقة [69]: الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ [1] مَا الْحَاقَّةُ [2] وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [3] كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ [4]

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [5] وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [6] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [7] فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [8] وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ [9]

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [10]

ص: 157

و لمّا ذكر في آخر سورة القلم حديث القيامة و وعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بذكر القيامة أيضا و أحوال أهل النار، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ أي: الساعة. أو الحالة الّتي يحقّ وقوعها، و يجب مجيئها. أو الّتي تقع فيها حواقّ الأمور، من الحساب و الثواب و العقاب. أو الّتي تحقّ فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة. من قولك: لا أحقّ هذا، أي: لا أعرف حقيقته. جعل الفعل لها. و هو لأهلها، على الإسناد المجازي. و هي مبتدأ خبرها مَا الْحَاقَّةُ و أصله: ما هي؟ أي: أيّ شي ء هي؟ على التعظيم لشأنها و التهويل لها. فوضع الظاهر موضع المضمر، لأنّه أهول لها.

ثمّ زاد في تهويلها، فقال: وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي: أيّ شي ء أعلمك ما هي؟ أي: أنّك لا تعلم كنهها، فإنّها أعظم من أن تبلغها دراية أحد. و «ما» مبتدأ و خبره «أدراك»، معلّق عنه لتضمّنه معنى الاستفهام. قال الثوري: يقال للمعلوم: و ما أدريك، و لما ليس بمعلوم: و ما يدريك، في جميع القرآن. و إنّما قال لمن يعلمها:

و ما أدراك، لأنّه إنّما يعلمها بالصفة.

و لمّا ذكرها و فخّمها أتبع ذلك ذكر من كذّب بها، و ما حلّ بهم بسبب التكذيب، تذكيرا لأهل مكّة، و تخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم، فقال:

كَذَّبَتْ ثَمُودُ قوم صالح وَ عادٌ قوم هود بِالْقارِعَةِ بالحالة الّتي تقرع الناس بالأفزاع و الأهوال، و الأجرام و السماء بالانفطار و الانشقاق، و الأرض و الجبال بالدكّ و النسف، و النجوم بالطمس و الانكدار. و وضعت موضع الضمير لتدلّ على معنى القرع في الحاقّة زيادة في وصف شدّتها.

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ بالواقعة المجاوزة للحدّ في الشدّة، و هي الصاعقة أو الرجفة. و عن قتادة: بعث اللّه عليهم صيحة فأهمدتهم، أي: فأماتتهم، لتكذيبهم بالقارعة.

ص: 158

و ما قيل: معناه: بسبب طغيانهم بالتكذيب و غيره، على أنّها مصدر كالعافية، لا يطابق قوله: وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي: شديدة الصوت، أو البرد من الصرّ، كأنّها الّتي كرّر فيها البرد و كثر، فهي تحرق لشدّة بردها عاتِيَةٍ شديدة العصف عتت على عاد، فما قدروا على ردعها بحيلة، من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة، فإنّها كانت تنزعهم من مكامنهم و تهلكهم. أو كأنّها عتت على خزّانها، فلم يستطيعوا ضبطها. أو على عاد، فلم يقدروا على ردّها.

و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أرسل اللّه سفينة من ريح إلّا بمكيال، و لا قطرة من مطر إلّا بمكيال، إلّا يوم عاد و يوم نوح، فإنّ الماء يوم نوح طغا على الخزّان، فلم يكن لهم عليه سبيل.

ثمّ قرأ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ (1) الآية. و إنّ الريح يوم عاد عتت على الخزّان، فلم يكن لهم عليها سبيل. ثمّ قرأ: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. و لعلّها عبارة عن الشدّة و الإفراط فيها.

و كذا روي عن الزهري: أنّه ما يخرج من الريح شي ء إلّا عليها خزّان يعلمون قدرها و عددها وكيلها، حتّى كانت الّتي أرسلت على عاد فاندفق منها، فهم لا يعلمون قدرها غضبا للّه، فلذلك سمّيت عاتية.

سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلّطها عليهم بقدرته. و هو استئناف أو صفة جي ء به لنفي ما يتوهّم من أنّها كانت من اتّصالات فلكيّة، إذ لو كانت لكان هو المقدّر لها و المسبّب. سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً متتابعات، فإنّ هبوبات الرياح ما سكنت ساعة حتّى أتت عليهم و أهلكتهم جميعا. جمع حاسم، كشهود و قعود. تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم، في إعادة الكيّ على الداء كرّة بعد كرّة حتّى ينحسم. يقال: حسمت الدابّة إذا تابعت كيّها بعد كيّ. أو نحسات

ص: 159


1- الحاقّة: 11.

حسمت كلّ خير و استأصلته. أو قاطعات قطعت دابرهم. و يجوز أن يكون مصدرا كالشكور و الكفور، منتصبا على العلّة بمعنى: قطعا، أي: سخّرنا عليهم للاستئصال، أو المصدر لفعله المقدّر حالا، أي: تحسمهم حسوما، بمعنى:

تستأصل استئصالا.

و هي كانت أيّام العجوز من صبيحة أربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر. و إنّما سمّيت عجوزا، لأنّها عجز الشتاء، أي: آخره. و هذه الأيّام ذات برد و رياح شديدة.

و لها أسماء مشهورة. لليوم الأوّل: الصنّ. و للثاني: الصنّبر. و للثالث: الوبر. و للرابع:

مطفئ الجمر. و للخامس: مكفئ الظعن. و قيل: السادس: الآمر. و السابع:

المؤتمر. و الثامن: المعلّل. أو لأنّ عجوزا من عاد توارت في سرب، فانتزعتها الريح في الثامن فأهلكتها، فانقطع العذاب فيه.

فَتَرَى الْقَوْمَ إن كنت حاضرهم فِيها في مهابّها، أو في الليالي و الأيّام صَرْعى هلكى مصروعين. جمع صريع. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أصول نخل خاوِيَةٍ متأكّلة الأجواف فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ من بقيّة، أو من نفس باقية، أو بقاء.

وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ و من تقدّمه. و قرأ البصريّان و الكسائي: و من قبله، أي: و من عنده من أتباعه. و يؤيّده قراءة عبد اللّه و أبيّ: و من معه. وَ الْمُؤْتَفِكاتُ قرى قوم لوط. و المراد أهلها. بِالْخاطِئَةِ بالخطإ، أو بالفعلة، أو بالأفعال ذات الخطأ.

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي: فعصى كلّ أمّة رسولها فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً زائدة في الشدّة، كما زادت أعمالهم في القبح. يقال: ربا الشي ء يربو إذا زاد. قال اللّه تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ (1).

ص: 160


1- الروم: 39.

[سورة الحاقة [69]: الآيات 11 الى 12]

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [11] لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [12]

ثمّ بيّن سبحانه قصّة نوح عليه السّلام، فقال: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ جاوز حدّه المعتاد، أو طغا على خزّانه، و ذلك في الطوفان حَمَلْناكُمْ أي: آباءكم و أنتم في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ في سفينة نوح. و لمّا كانوا من نسل المحمولين الناجين كان حمل آبائهم منّة عليهم، لأنّ نجاتهم سبب ولادتهم.

لِنَجْعَلَها لَكُمْ لنجعل الفعلة، و هي إنجاء المؤمنين و إغراق الكافرين تَذْكِرَةً عظة و عبرة دالّة على قدرة الصانع و حكمته، و كمال قهره و رحمته، و تتذكّرون بها نعم اللّه تعالى، و تشكرونه عليها، و تتفكّرون فيها، فتعرفون كمال قدرته وَ تَعِيَها و تحفظها. و الوعي أن تحفظ الشي ء في نفسك، و الإيعاء أن تحفظه في غيرك، كما تقول: أوعيت الشي ء في الظرف. أُذُنٌ واعِيَةٌ حافظة لما جاء من عند اللّه. أو سامعة قابلة ما سمعت ممّا يجب سماعها، بتذكّره و إشاعته، و التفكّر فيه و العمل بموجبه.

و قرأ نافع: أذن بالتخفيف و التنكير، للدلالة على قلّتها، فإنّ تنكير الواحد يدلّ على القلّة. و لتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم. و للدلالة على أنّ الأذن الواحدة إذا وعت فهي السواد الأعظم عند اللّه، و أنّ ما سواها لا يبالي اللّه تعالى بهم و إن ملأوا ما بين الخافقين.

و روى الطبري بإسناده عن مكحول أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهم اجعلها أذن عليّ. ثمّ قال عليّ عليه السّلام: فما سمعت شيئا من رسول اللّه فنسيته» (1).

ص: 161


1- تفسير الطبري 29: 35.

و كذا

روى بإسناده عن عكرمة عن بريدة الأسلمي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ: «يا عليّ إنّ اللّه تعالى أمرني أن أدنيك و لا أقصيك، و أن أعلّمك و أن تعي، و حقّ على اللّه أن تعي» (1).

و عن أبي عمرو عثمان بن خطّاب المعمّر المعروف بأبي الدنيا الأشجّ قال:

«سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: لمّا نزلت «وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سألت اللّه عزّ و جلّ أن يجعلها أذنك يا عليّ».

و نقل الزمخشري أيضا في الكشّاف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه قال لعليّ عليه السّلام عند نزول هذه الآية: سألت اللّه أن يجعلها أذنك يا عليّ. قال عليّ عليه السّلام: فما نسيت شيئا بعد، و ما كان لي أن أنسى» (2).

[سورة الحاقة [69]: الآيات 13 الى 18]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [13] وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [14] فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [15] وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [16] وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [17]

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [18]

و لمّا بالغ في تهويل القيامة، و ذكر مآل المكذّبين بها، تفخيما لشأنها و تنبيها على إمكانها، عاد إلى شرحها، فقال:

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أي: لا يتثنّى في وقتها. فلا ينافيها النفختان: نفخة الصعق، و نفخة الحشر. و إنّما حسن إسناد الفعل إلى المصدر لتقييده.

ص: 162


1- تفسير الطبري 29: 35- 36. و لكن رواه عن عبد اللّه بن رستم عن بريدة.
2- الكشّاف: 4: 600.

و حسن تذكيره للفصل. و المراد بها النفخة الأولى الّتي عندها خراب العالم. و به رواية عن ابن عبّاس.

وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ رفعت من أماكنها بمجرّد القدرة الكاملة، أو بتوسّط زلزلة أو ريح عاصفة فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة حتّى تندقّ و تصير كثيبا مهيلا و هباء منبثّا. و الدكّ أبلغ من الدقّ. و قيل:

فبسطتا بسطة واحدة، فصارتا أرضا لا عوج فيها و لا أمتا، لأنّ الدكّ سبب للتسوية.

و لهذا قيل: ناقة دكّاء للّتي لا سنام لها، و أرض دكّاء للمتّسعة المستوية. و منه:

الدكّان.

فَيَوْمَئِذٍ فحينئذ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ نزلت النازلة، و هي القيامة وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ انفرج بعضها من بعض لنزول الملائكة فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ضعيفة مسترخية ساقطة القوّة جدّا، فتصير بمنزلة الصوف في الوهي و الضعف بعد ما كانت محكمة متقنة.

وَ الْمَلَكُ و الجنس المتعارف بالملك. و هو أعمّ من الملائكة. ألا ترى أنّ قولك: ما من ملك إلّا و هو شاهد، أعمّ من قولك: ما من ملائكة.

عَلى أَرْجائِها جوانبها. جمع رجا مقصورا. يعني أنّها تنشقّ- و هي مسكن الملائكة- فينضوون (1) إلى أطرافها و ما حولها من حافّاتها.

قال في الأنوار: «و لعلّه تمثيل لخراب السماء بخراب البنيان، و انضواء أهلها إلى أطرافها و حواليها. و إن كان على ظاهره فلعلّ هلاك الملائكة أثر ذلك» (2).

وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ فوق الملائكة الّذين هم على الأرجاء يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ثمانية أملاك، لما روي مرفوعا أنّهم اليوم اربعة، فإذا كان يوم القيامة

ص: 163


1- انضوى إليه: انضمّ و أوى إليه.
2- أنوار التنزيل 5: 148.

أيّدهم اللّه بأربعة آخرين، فيكونون ثمانية.

و عن الضحّاك: ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عدّتهم إلّا اللّه.

و روي: ثمانية أملاك، أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، و العرش فوق رؤوسهم، و هم مطرقون مسبّحون.

و قيل: بعضهم على صورة الإنسان، و بعضهم على صورة الأسد، و بعضهم على صورة الثور، و بعضهم على صورة النسر.

و روي: ثمانية أملاك في خلق الأوعال (1)، ما بين أظلافها (2) إلى ركبها مسيرة سبعين عاما.

و عن شهر بن حوشب: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللّهمّ و بحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. و أربعة يقولون: سبحانك اللّهمّ و بحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك.

و عن الحسن: اللّه أعلم كم هم؟ أ ثمانية أم ثمانية آلاف؟

و يجوز أن تكون الثمانية من الروح، أو من خلق آخر. فهو القادر على كلّ خلق. سبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض و من أنفسهم و ممّا لا يعلمون.

و قال صاحب الأنوار: «و لعلّه أيضا تمثيل لعظمته بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العامّ. و على هذا قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ تشبيها للمحاسبة بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحوالهم» (3). و الصحيح أنّه لا للتمثيل بل للتحقيق.

ص: 164


1- الأوعال جمع الوعل: تيس الجبل له قرنان قويّان. و التيس: الذكر من المعز و الظباء و الوعول.
2- أظلاف جمع ظلف. و هو لما اجترّ من الحيوانات- كالبقرة و الجمل- بمنزلة الحافر للفرس.
3- أنوار التنزيل 5: 148.

و قال في الكشّاف: «و روي أنّ في يوم القيامة ثلاث عرضات: ثنتان منها معاذير و جدال و احتجاج و توبيخ، و الثالثة منها تطيّر الصحف في الأيدي، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه، و الهالك كتابه بشماله» (1).

و هذا و إن كان بعد النفخة الثانية، لكن لمّا كان اليوم اسما لزمان متّسع تقع فيه النفختان و الصعقة و النشور و الحساب، و إدخال أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، صحّ جعله ظرفا للكلّ.

لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ سريرة على اللّه حتّى يكون العرض للاطّلاع عليها.

و إنّما المراد منه إفشاء الحال، و المبالغة في العدل. أو على الناس، كما قال اللّه تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (2). و قرأ حمزة و الكسائي بالياء للفصل.

[سورة الحاقة [69]: الآيات 19 الى 37]

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [19] إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [20] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [21] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [22] قُطُوفُها دانِيَةٌ [23]

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [24] وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [25] وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ [26] يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ [27] ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [28]

هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [29] خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [30]

ص: 165


1- الكشّاف 4: 602.
2- الطارق: 9.

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [31] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ [32] إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [33]

وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [34] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ [35] وَ لا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ [36] لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ [37]

ثمّ فصّل حال المكلّفين في ذلك اليوم، فقال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ لأهل القيامة تبجّحا و فرحا هاؤُمُ تعالوا اقْرَؤُا كِتابِيَهْ لعلمه بأنّه ليس فيه إلّا الطاعات، فلا يستحي أن ينظر فيه غيره. و «هاء» اسم ل «خذ». و فيه لغات أجودها: هاء يا رجل، و هاء يا امرأة، و هاؤما يا رجلان أو امرأتان، و هاؤم يا رجال، و هاؤنّ يا نسوة. و مفعوله محذوف. و «كتابيه» مفعول «اقرأوا» لأنّه أقرب العاملين. و لأنّ أصله: هاؤم كتابي اقرؤا كتابي، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه.

و نظيره: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. و لأنّه لو كان مفعول «هاؤم» لقيل: اقرؤه، إذ الأولى إضماره حيث أمكن. و الهاء فيه و في «حسابيه» و «ماليه» و «سلطانيه» للسكت، تثبت في الوقف، و تسقط في الوصل. و استحبّ الوقف، لثباتها في الامام.

إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي: علمت. و إنّما أجرى الظنّ مجرى العلم، لأنّ الظنّ الغالب يقام مقام العلم في العادات و الأحكام. و لعلّه عبّر عنه بالظنّ إشعارا بأنّه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات الّتي لا تنفكّ عنها العلوم النظريّة غالبا.

فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ في حالة من العيش ذات رضا، أي: منسوبة إليه،

ص: 166

كالتامر و اللابن (1)، على النسبة بالصيغة، فإنّ النسبة نسبتان: نسبة بالحروف، و نسبة بالصيغة، أو جعل الفعل لها مجازا، و هو لصاحبها، و ذلك لكونها صافية عن الشوائب، دائمة مقرونة بالتعظيم.

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المكان، لأنّها في السماء. أو رفيعة الدرجات. أو رفيعة الأبنية و الأشجار.

قُطُوفُها جمع قطف، و هو ما يجتنى بسرعة. و القطف بالفتح المصدر.

دانِيَةٌ يتناولها القاعد و النائم.

و عن عطاء بن يسار، عن سلمان قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يدخل الجنّة أحدكم إلّا بجواز بسم اللّه الرّحمن الرّحيم: هذا كتاب من اللّه لفلان بن فلان، أدخلوه جنّة عالية قطوفها دانية».

كُلُوا وَ اشْرَبُوا بإضمار القول. و جمع الضمير للمعنى. هَنِيئاً أكلا و شربا هنيئا. أو هنئتم هنيئا على المصدر. بِما أَسْلَفْتُمْ بما قدّمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية من أيّام الدنيا. و عن مجاهد: أيّام الصيام، أي: كلوا و اشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل و الشرب لوجه اللّه.

و روي أنّه تعالى يقول: «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة، و غارت أعينكم، و خمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، و كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيّام الخالية».

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ لما يرى من قبح العمل و سوء العاقبة يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ* وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ* يا لَيْتَها يا ليت الموتة الّتي متّها كانَتِ الْقاضِيَةَ القاطعة لأمري، فلم أبعث بعدها، و لم ألق ما ألقى. أو يا ليت هذه الحالة كانت الموتة الّتي قضت عليّ، لأنّه رأى تلك الحالة أبشع و أمرّ ممّا ذاقه

ص: 167


1- أي: ذو التمر و اللبن.

من مرارة الموت و شدّته، فتمنّاه عندها. أو يا ليت حياة الدنيا كانت الموتة، و لم أخلق فيها حيّا.

ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ مالي من المال و التبع من عذاب اللّه شيئا. و «ما» نفي، و المفعول محذوف. أو استفهام إنكار مفعول ل «أغنى» أي: أيّ شي ء أغنى عنّي ما كان لي من اليسار؟

هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ملكي و تسلّطي على الناس، فبقيت فقيرا ذليلا. و عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في الأسود بن عبد الأشدّ، أي: ضلّت عنّي حجّتي الّتي كنت أحجّ بها في الدنيا و بطلت.

و قرأ حمزة: عنّي، مالي، عنّي، سلطاني، بحذف الهاء في الوصل. و الباقون بإثباتها في الحالين.

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يقول لخزنة النار: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أوثقوه بالغلّ، و هو أن تشدّ إحدى يديه و رجليه إلى عنقه بجامعة.

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثمّ لا تصلّوه إلّا الجحيم، و هي النار العظمى، لأنّه كان يتعظّم على الناس. يقال: صلى النار، و صلّاه النار.

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً أراد بذلك الوصف بالطول، كما قال:

إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً (1). يريد مرّات كثيرة.

قال نوف البكالي: كلّ ذراع سبعون باعا، و الباع أبعد ممّا بينك و بين مكّة، و كان في رحبة الكوفة.

و قال سويد بن نجيح: إنّ جميع أهل النار في تلك السلسلة، و لو أنّ حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها.

فَاسْلُكُوهُ فأدخلوه فيها، بأن تلفّوها على جسده، و هو فيما بينها مرهق

ص: 168


1- التوبة: 80.

مضيّق عليه لا يقدر على حركة.

و تقديم السلسلة كتقديم الجحيم للدلالة على التخصيص، و الاهتمام بذكر أنواع ما يعذّب به. و «ثمّ» لتفاوت ما بين الغلّ و التصلية بالجحيم، و ما بينها و بين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدّة.

ثمّ علّل ذلك العذاب الأليم و العقاب العظيم على طريقة الاستئناف مبالغة بقوله: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ كأنّه قيل: ما له يعذّب هذا العذاب الشديد؟

فأجيب بأنّه لم يكن يوحّد اللّه في دار التكليف، و لا يصدّق به. و ذكر العظيم للإشعار بأنّه المستحقّ للعظمة، فمن تعظّم فيها استوجب ذلك.

وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ و لا يحثّ على بذل طعام المسكين.

يعني: أنّه يمنع الناس عن أداء الزكاة و سائر الحقوق الواجبة، فضلا عن أن يبذل من ماله.

و فيه دليلان قويّان على عظم الجرم في حرمان المسكين: أحدهما: عطفه على الكفر، و جعله قرينا له. و الثاني: ذكر الحضّ دون الفعل، ليعلم أنّ تارك الحضّ بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل. و تخصيص الأمرين بالذكر، لأنّ الكفر باللّه أقبح العقائد، و البخل و قسوة القلب أشنع الرذائل. و فيه دليل على تكليف الكفّار بالفروع.

و عن أبي الدرداء: أنّه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، و كان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أ فلا نخلع نصفها الآخر؟

و قيل: هو منع الكفّار عن قولهم: أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ (1).

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ قريب يحميه و يدفع عنه العذاب وَ لا طَعامٌ و لا له اليوم طعام إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ غسالة أهل النار، و ما يسيل من أبدانهم من الصديد و الدم. فعلين من الغسل.

ص: 169


1- يس: 47.

و قيل: إنّ أهل النار طبقات: فمنهم من طعامه الغسلين، و منهم من طعامه الزقّوم، و منهم من طعامه الضريع، لأنّه قال في موضع آخر: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (1).

و قيل: يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، فعبّر عنه بعبارتين.

و قيل: يجوز أن يكون المراد: ليس لهم طعام إلّا من ضريع، و لا شراب إلّا من غسلين، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا.

لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا. من: خطئ الرجل إذا تعمّد الذنب، لا من الخطأ المضادّ للصواب.

و قال في المجمع: «و الفرق بين الخاطئ و المخطئ: أنّ المخطئ قد يكون من غير تعمّد، و الخاطئ: المذنب المتعمّد، الجائر عن الصراط المستقيم» (2). و عن ابن عبّاس: هم المشركون.

[سورة الحاقة [69]: الآيات 38 الى 52]

فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ [38] وَ ما لا تُبْصِرُونَ [39] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [40] وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ [41] وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ [42]

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [43] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [44] لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [45] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [46] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [47]

وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ

ص: 170


1- الغاشية: 6.
2- مجمع البيان: 10: 348.

[48] وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ [49] وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ [50] وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [51] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [52]

فَلا أُقْسِمُ لظهور الأمر و استغنائه عن التحقيق بالقسم. أو فأقسم، و «لا» مزيدة. أو فلا ردّ، لإنكارهم البعث، و «أقسم» مستأنف. بِما تُبْصِرُونَ* وَ ما لا تُبْصِرُونَ أي: بجميع الأشياء على الشمول و الإحاطة، لأنّها لا تخرج من قسمين: مبصر و غير مبصر.

و قيل: الدنيا و الآخرة، و الأجسام و الأرواح، و الإنس و الجنّ، و الخلق و الخالق، و النعم الظاهرة و الباطنة.

و جواب القسم إِنَّهُ إنّ القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ أي: يقوله و يتكلّم به على وجه الرسالة من عند اللّه و تبليغه عن اللّه، فإنّ الرسول لا يقول عن نفسه كَرِيمٍ على اللّه، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: جبرئيل.

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ كما تزعمون تارة قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ تصدّقون، لفرط عنادكم. و القلّة في معنى العدم، أي: لا تؤمنون البتّة، كما تقول لمن لا يزورك: قلّ ما تأتينا، و أنت تريد: لا تأتينا أصلا.

وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تدّعون أخرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تذكّرا قليلا، أي:

لا تذكرون أصلا، فلذلك يلتبس الأمر عليكم. و قرأ ابن كثير و يعقوب و ابن عامر بالياء فيهما. و ذكر الإيمان مع نفي الشاعريّة، و التذكّر مع نفي الكاهنيّة، لأنّ عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا معاند، بخلاف مباينته للكهانة، فإنّه يتوقّف على تذكّر أحوال الرسول و معاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة و معاني أقوالهم.

و فيه تنبيه على أنّ المراد ب «رسول كريم» محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ المعنى: على

ص: 171

إثبات أنّه رسول، لا شاعر و لا كاهن.

تَنْزِيلٌ هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ نزّله على لسان جبرئيل.

ثمّ أوعدهم على التكذيب، فقال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي:

افترى علينا بعض الأقوال المفتراة، فإنّ التقوّل افتعال القول، لأنّ فيه تكلّفا من المفتعل. و سمّى الأقوال المتقوّلة- أي: المفتراة- أقاويل تحقيرا لها و تصغيرا بها، كأنّها جمع أفعولة من القول، كالأضاحيك و الأعاجيب. و المعنى: و لو ادّعى علينا شيئا لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي: لأخذنا بيمينه.

ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي: نياط قلبه بضرب عنقه. و هو حبل الوريد إذا قطع مات صاحبه. و هو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، و هو أن يأخذ القتّال بيمينه و يكفحه (1) بالسيف و يضرب به جيده. و خصّ اليمين عن اليسار، لأنّ القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا أحد أخذ بيساره، و إذا أراد أن يوقعه في جيده و أن يكفحه بالسيف- و هو أشدّ على المصبور، لنظره إلى السيف- أخذ بيمينه. و قيل: اليمين بمعنى القوّة.

فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ عن القتل حاجِزِينَ دافعين، أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك و يدفعه عنه. أو عن محمد، أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل و تحولوا بينه و بينه. و وصف «أحد» ب «حاجزين» لأنّه في معنى الجماعة. و هو اسم يقع في النفي العامّ، مستويا فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث. و منه قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (2). و الخطاب للناس.

وَ إِنَّهُ و إنّ القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ لأنّهم المنتفعون به وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ

ص: 172


1- كفح العدو: واجهه و استقبله.
2- البقرة: 285.

مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فنجازيهم على تكذيبهم وَ إِنَّهُ و إنّ القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ إذا رأوا ثواب المصدّقين به وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي: و إنّ القرآن لليقين حقّ اليقين، كقولك: هو العالم حقّ العالم. و الإضافة للبيان. و المعنى: لعين اليقين، و محض اليقين.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فسبّح اللّه بذكر اسمه العظيم، تنزيها له عن الرضا بالتقوّل عليه، و شكرا على ما أوحى إليك.

ص: 173

ص: 174

[70] سورة المعارج

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و أربعون آية.

عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأ سورة «سأل سائل» أعطاه اللّه ثواب الّذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون، و الّذين هم على صلواتهم يحافظون».

و عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من أدمن قراءة «سأل سائل» لم يسأله اللّه يوم القيامة عن ذنب عمله، و أسكنه جنّته مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة المعارج [70]: الآيات 1 الى 18]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [1] لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ [2] مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ [3] تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [4]

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [5] إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً [6] وَ نَراهُ قَرِيباً [7] يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [8] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [9]

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [10] يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ

ص: 175

يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [11] وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ [12] وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [13] وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ [14]

كَلاَّ إِنَّها لَظى [15] نَزَّاعَةً لِلشَّوى [16] تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى [17] وَ جَمَعَ فَأَوْعى [18]

و لمّا ختم سورة الحاقّة بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ضمّن «سأل» معنى: دعا، فعدّي تعديته، كأنّه قيل: دعا داع بعذاب واقع على نفسه. من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه و طلبه. و منه قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ (1).

و عن ابن عبّاس: السائل النضر بن الحارث، فإنّه قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2). و قيل: أبو جهل: فإنّه قال: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ (3) سأله استهزاء. و قيل: هو الرسول، استعجل بعذابهم.

و قرأ نافع و ابن عامر: سال. و هو إمّا من السؤال على لغة قريش. يقولون:

سلت تسال، و هما يتسالان. أو يكون من السيلان. و المعنى: اندفع عليهم وادي عذاب فذهب بهم و أهلكهم. و مضيّ الفعل لتحقّق وقوعه، إمّا في الدنيا، و هو قتل بدر، أو في الآخرة، و هو عذاب النار.

و عن قتادة: سأل سائل عن عذاب اللّه على من ينزل و بمن يقع؟ فنزلت.

ص: 176


1- الدخان: 55.
2- الأنفال: 32.
3- الشعراء: 187.

و على هذا، «سأل» مضمّن معنى: عنى و اهتمّ.

و قال السيّد أبو الحمد: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازي، قال: حدّثنا أبو بكر الجرجرائي، قال: حدّثنا أبو أحمد البصري، قال: حدّثنا محمّد بن سهل، قال: حدّثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار، قال:

حدّثنا محمد بن أيّوب الواسطي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمّد الصادق، عن آبائه صلوات اللّه عليهم، قال: «لمّا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام يوم غدير خم و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النعمان بن الحرث الفهري، فقال: أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه، و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصلاة و الصوم و الزكاة، فقبلناها. ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه. فهذا شي ء منك، أو أمر من عند اللّه؟

قال: و اللّه الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من اللّه.

فولّى نعمان بن الحرث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله. فأنزل اللّه تعالى:

«سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»» (1).

لِلْكافِرينَ صفة اخرى ل «عذاب»، أي: بعذاب واقع كائن للكافرين. أو متعلّق بالفعل، أي: دعا للكافرين بعذاب واقع. أو صلة ل «لواقع» أي: بعذاب نازل لأجلهم. و على قول قتادة: كلام مبتدأ جواب للسائل، أي: هو للكافرين. لَيْسَ لَهُ دافِعٌ يردّه.

مِنَ اللَّهِ متّصل ب «واقع» أي: واقع من عنده. أو ب «دافع» بمعنى: ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته، و أوجبت الحكمة وقوعه. ذِي الْمَعارِجِ ذي

ص: 177


1- شواهد التنزيل 2: 381 ح 1030.

المصاعد. و هي الدرجات العالية و المراتب الرفيعة الّتي يعطيها الأنبياء و الأولياء في الجنّة. أو المراد: مواضع عروج الملائكة في السماوات، فإنّ الملائكة يعرجون فيها. و منه: ليلة المعراج، لأنّه عرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء فيها. أو الدرجات الّتي يصعد فيها الكلم الطيّب و العمل الصالح، أو يترقّى فيها المؤمنون في سلوكهم.

ثمّ وصف المصاعد و بعد مداها في العلوّ و الارتفاع، فقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ و قرأ الكسائي بالياء وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي:

ارتفاع تلك المعارج بحيث لو قدرت الملائكة قطعها في زمان لكان في زمان مقدّر بخمسين الف سنة من سنيّ الدنيا.

و قيل: معناه: تعرج الملائكة و الروح إلى عرشه في يوم كان مقداره كمقدار خمسين ألف سنة، من حيث إنّهم يقطعون فيه ما يقطعه الإنسان فيها لو فرض. لا أنّ ما بين أسفل العالم و أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة، لأنّ ما بين مركز الأرض و مقعّر السماء الدنيا- على ما قيل- مسيرة خمسمائة عام، و ثخن كلّ واحد من السماوات السبع و الكرسيّ و العرش كذلك. و حيث قال فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ (1) يريد به زمان عروجهم من الأرض إلى محدّب السماء الدنيا.

و قيل: معناه: إنّ أوّل نزول الملائكة إلى الدنيا، و أمره و نهيه، و قضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء- و هو القيامة- هذه المدّة. فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة، لا يدري كم مضى و كم بقي، و إنّما يعلمها اللّه عزّ و جلّ.

و قيل: في «يوم» متعلّق ب «واقع» أو «سال» إذا جعل من السيلان. و المراد به يوم القيامة. و استطالته إمّا لشدّته على الكفّار، أو لكثرة ما فيه من الحالات و المحاسبات، أو لأنّه على الحقيقة كذلك. و الروح جبرئيل. و إفراده لفضله. أو خلق أعظم من الملائكة، هم حفظة على الملائكة، كما أنّ الملائكة حفظة على الناس.

ص: 178


1- السجدة: 5.

و قد روي: «أنّ فيه خمسين موطنا، كلّ موطن ألف سنة، و ما قدر ذلك على المؤمنين إلّا كما بين الظهر و العصر».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه: «لو ولي الحساب يوم القيامة غير اللّه لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، و اللّه سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة واحدة».

و عنه أيضا قال: «لا ينتصف ذلك اليوم حتّى يقبل أهل الجنّة في الجنّة، و أهل النار في النار».

و روى أبو سعيد الخدري قال: «قيل: يا رسول اللّه ما أطول هذا اليوم؟ فقال:

و الّذي نفس محمد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا».

و قوله: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا متعلّق ب «سأل» لأنّ سؤال الكفرة كان عن استهزاء أو تعنّت، و ذلك ممّا يضجر الرسول، أو سؤاله كان عن تضجّر و استبطاء للنصر. أو ب «سال» لأنّ المعنى: قرب وقوع العذاب، فاصبر صبرا جميلا لا يشوبه استعجال و اضطراب قلب، فقد شارفت الانتقام.

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ الضمير للعذاب الواقع، أو ليوم القيامة فيمن علّق «في يوم» ب «واقع» أي: يرون العذاب أو يوم القيامة بَعِيداً عن الإمكان، أي: يستبعدونه على جهة الإحالة وَ نَراهُ قَرِيباً منه، أو من الوقوع، هيّنا في قدرتنا، غير بعيد عنّا و لا متعذّر.

يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ظرف ل «قريبا» أي: قريب عذاب الكافرين في يوم. أو لمضمر دلّ عليه «واقع» أي: يقع العذاب في يوم. أو بدل من «في يوم» فيمن علّقه ب «واقع». و المهل (1): المذاب في مهل، كالفلزّات بالكسر و تشديد الزاء

ص: 179


1- المهل: اسم يجمع معدنيّات الجواهر، كالفضّة و الحديد و الصفر. و المهل: الرفق و التؤدة. و المعنى: المذاب برفق و تؤدة.

المعجمة. و هي ما نبعته (1) الكير ممّا يذاب من جواهر الأرض، كالفضّة المذابة.

و عن ابن عبّاس: المهل درديّ (2) الزيت.

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المصبوغ ألوانا، لأنّ الجبال مختلفة الألوان، فإذا بسّت و طيّرت في الجوّ أشبهت العهن المنفوش إذا طيّرته الريح.

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً و لا يسأل قريب قريبا عن حاله و لا يكلّمه، لأنّ بكلّ أحد ما يشغله عن المساءلة. و عن ابن كثير: و لا يسأل على بناء المفعول، أي:

لا يطلب من حميم حميم، أو لا يسأل منه حاله.

و قيل: معناه: أنّه لا يحتاج إلى سؤاله، لأنّه يكون لكلّ علامة يعرف بها.

فعلامة الكافرين سواد الوجوه و زرقة العيون، و علامة المؤمنين نضارة اللون و بياض الوجوه.

يُبَصَّرُونَهُمْ أي: يبصّر الأحماء الأحماء، فلا يخفون عليهم.

فجمع الضميرين لعموم الحميم. و هذا كلام مستأنف، كأنّه لمّا قال: «وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» قيل: لعلّه لا يبصره، فقيل: يبصّرونهم، و لكنّهم لتشاغلهم لم يتمكّنوا من تساؤلهم، لا للخفاء أو لما يغني عنه من مشاهدة الحال، كبياض الوجه و سواده. و يجوز أن يكون صفة ل «حميما» أي: حميما مبصّرين معرّفين إيّاهم.

و قيل: معناه: يعرّف المؤمنون أعداءهم على حالهم من العذاب، فيشمتوا بهم و يسرّون.

و قيل: يعرّف أتباع الضلالة رؤساءهم.

و قيل: الضمير للملائكة، فقد تقدّم ذكرهم، أي: يعرّفهم الملائكة و يجعلون

ص: 180


1- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: نفخته. و الكير: زقّ ينفخ فيه الحدّاد.
2- الدرديّ من الزيت و نحوه: الكدر الراسب في أسفله.

بصراء بهم، فيسوقون فريقا إلى الجنّة و فريقا إلى النار.

يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ حال من أحد الضميرين. أو استئناف يدلّ على أنّ اشتغال كلّ مجرم بنفسه بحيث يتمنّى أن يفتدي من العذاب.

بِبَنِيهِ بأولاده الّذين هم أعزّ الناس عليه و أحبّهم.

وَ صاحِبَتِهِ و زوجته الّتي كانت سكنا له، و ربما آثرها على أبويه وَ أَخِيهِ الّذي كان ناصرا له و معينا.

و قرأ نافع و الكسائي بفتح ميم يومئذ، على البناء للإضافة إلى غير متمكّن.

و محصّل معنى الآية: أنّ كلّ مجرم يتمنّى أن يدفع عن نفسه العذاب بافتداء أقرب الناس عنده و أعلقهم بقلبه، فضلا أن يهتمّ بحاله و يسأل عنها.

وَ فَصِيلَتِهِ و عشيرته الأدنون الّذين فصل عنهم الَّتِي تُؤْوِيهِ تضمّه انتماء إليها في النسب، أو لياذا بها في النوائب و الشدائد.

وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين، أو الخلائق كلّهم ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على «يفتدي» أي: يودّ لو يفتدي ثمّ لو ينجيه الافتداء، أو من في الأرض. و «ثمّ» لاستبعاد الإنجاء. يعني: يتمنّى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده و بذلهم في فداء نفسه، ثمّ ينجيه ذلك، و هيهات أن ينجيه.

كَلَّا ردع عن الودادة، و دلالة على أنّ الافتداء لا ينجيه من العذاب إِنَّها الضمير للنار، و ذكر العذاب دالّ عليها. أو مبهم يفسّره لَظى فهو خبر، أو بدل. أو للقصّة، و «لظى» مبتدأ خبره نَزَّاعَةً لِلشَّوى و هو اللهب الخالص.

و قيل: علم للنار منقول من اللظى، بمعنى اللهب.

و قرأ حفص: نزّاعة، بالنصب على الاختصاص للتهويل، أو الحال المؤكّدة، أو المتنقّلة على أنّ «لظى» بمعنى: متلظّية.

و الشوى: الأطراف. أو جمع شواة. و هي جلدة الرأس. و المعنى: تنزع

ص: 181

الأطراف و تقطعها، أو الجلد و اللحم، فلا تترك لحما و لا جلدا، ثمّ تعاد ثمّ تنزع، و هكذا.

و قال الكلبي: يعني: تأكل الدماغ كلّه ثمّ يعود كما كان، ثمّ تأكل.

تَدْعُوا أي: تدعو النار إلى نفسها. مجاز عن جذبها و إحضارها لمن فرّ عنها. و المعنى: لا يفوت هذه النار كافر، فكأنّها تدعوه فيجيبها كرها. و قيل: تدعو المنافقين و الكافرين بلسان فصيح، ثمّ تلتقطهم التقاط الحبّ. فيجوز أن يخلق اللّه فيها كلاما، كما يخلقه في جلودهم و أيديهم و أرجلهم، و كما خلقه في الشجرة.

و قيل: «تدعو»: تهلك، من قولهم: دعاه اللّه إذا أهلكه. فالمعنى: تهلك النار مَنْ أَدْبَرَ عن الحقّ وَ تَوَلَّى عن الطاعة.

وَ جَمَعَ و جمع المال فَأَوْعى فجعله في وعاء و كنزه حرصا و تأميلا، و لم يؤدّ الزكاة و سائر الحقوق، و تشاغل به عن الدين، و زها باقتنائه و تكبّر.

[سورة المعارج [70]: الآيات 19 الى 35]

إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [19] إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً [20] وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [21] إِلاَّ الْمُصَلِّينَ [22] الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [23]

وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [24] لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ [25] وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [26] وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [27] إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [28]

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [29] إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

ص: 182

[30] فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ [31] وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ [32] وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ [33]

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [34] أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [35]

إِنَّ الْإِنْسانَ أراد به الناس، بقرينة الاستثناء بعد خُلِقَ هَلُوعاً شديد الحرص، سريع الجزع عند مسّ المكروه، كثير المنع عن الخير المقدّر شرعا.

و أصل الهلع: السرعة، من قولهم: ناقة هلواع أو هلواعة، أي: سريعة السير. و في الصحاح: «الهلع: أفحش الجزع. و قد هلع- بالكسر- فهو هلع و هلوع. و قد جاء

في الحديث: «من شرّ ما أوتي العبد شحّ هالع، و جبن خالع» أي: يجزع فيه و يحزن، كما يقال: يوم عاصف و ليل نائم. ثمّ قال: و قد هلوعت، أي: أسرعت.

و ذئب هلع بلع. فالهلع من الحرص، و البلع من الابتلاع. و الهالع: النعام السريع في مضيّه. و النعامة هالعة» (1).

و عن أحمد بن يحيى أنّه قال: قال لي محمد بن عبد اللّه بن طاهر: ما الهلع؟

فقلت: قد فسّره اللّه، و لا يكون تفسير أبين من تفسيره. و هو قوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ناله الضرّ من المرض و الفقر جَزُوعاً يظهر شدّة الجزع وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ السعة من المال مَنُوعاً يبالغ في المنع و الإمساك.

و الأوصاف الثلاثة أحوال مقدّرة. و المعنى: أنّ الإنسان لإيثاره الجزع و المنع، و تمكّنهما منه، و رسوخهما فيه، كأنّه مجبول عليهما مطبوع، و كأنّه أمر خلقيّ و ضروريّ غير اختياري، كقوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ (2). و الدليل عليه

ص: 183


1- الصحاح 3: 1308.
2- الأنبياء: 37.

أنّه حين كان في البطن و المهد لم يكن به هلع. و لأنّه ذمّ، و اللّه تعالى لا يذمّ فعله.

و الدليل عليه أنّه سبحانه استثنى المؤمنين الكاملين الّذين جاهدوا أنفسهم، و حملوها على المكاره في الطاعات، و ظلفوها (1) عن الشهوات، حتّى لم يكونوا جازعين و لا مانعين، فقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي:

مواظبون على أدائها، و لا يشتغلون عنها بشي ء من الشواغل.

وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكوات و الأخماس و سائر حقوق الناس لِلسَّائِلِ الّذي يسأل وَ الْمَحْرُومِ الّذي لا يسأل تعفّفا عنه، فيحسب غنيّا فيحرم.

وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ بيوم الجزاء، تصديقا بأعمالهم، و هو أن يتعب نفسه في الطاعة، و يصرف ماله طمعا في المثوبة الأخرويّة، و لذلك ذكر يوم الدين.

وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ لا يؤمن حلوله بمستحقّيه.

و قيل: معناه: يخافون أن لا تقبل حسناتهم، و يؤخذون بسيّئاتهم. و ذلك لأنّ المكلّف لا يعلم هل أدّى الواجب كما أمر به؟ و هل انتهى عن المحظور على ما نهي عنه؟ فهذا اعتراض يدلّ على أنّه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب اللّه، و إن بالغ في طاعته، بل يكون بين الخوف و الرجاء.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ المتجاوزون عن حدود اللّه. و قد سبق (2) تفسير هذه الآيات الثلاث في سورة المؤمنين.

ص: 184


1- ظلف نفسه عن الشي ء: منعها من أن تفعله و كفّ عنه.
2- راجع ج 4 ص 426، ذيل الآية 5- 7 من سورة المؤمنون.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ حافظون. و قرأ ابن كثير: لأمانتهم.

وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ يعني: لا يخفون و لا ينكرون ما علموه من حقوق اللّه و حقوق العباد. و خصّها من بينها إبانة لفضلها، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق و تصحيحها، و في صرفها تضييعها و إبطالها. و قرأ يعقوب و حفص:

بشهاداتهم، لاختلاف الأنواع.

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيراعون شرائطها و أركانها، و يكملون فرائضها و سننها. فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة، و المحافظة إلى أحوالها. و وصفهم بها أوّلا و آخرا باعتبارين، للدلالة على فضلها و إنافتها على غيرها.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ قوله: «عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» في النوافل، و هذه الآية في الفرائض و الواجبات».

و روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه قال: «أولئك اصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا».

و في نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى، من الجملة الاسميّة، و تقديم الضمير، و جمع الصفات، و غير ذلك، و الإتيان بما هو العلّة و السبب في البعض.

أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ معظّمون مبجّلون بما يفعل بهم من إعطاء الثواب العظيم و الأجر الجزيل.

[سورة المعارج [70]: الآيات 36 الى 44]

فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ [36] عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [37] أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ [38] كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [39] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ [40]

عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [41] فَذَرْهُمْ

ص: 185

يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [42] يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [43] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [44]

روي: أنّ المشركين كانوا يحتفّون حول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلقا حلقا و فرقا فرقا، يستمعون و يستهزءون بكلامه، و يقولون: إن دخل هؤلاء الجنّة، كما يقول محمد فلندخلنّها قبلهم، فنزلت:

فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ حولك مُهْطِعِينَ مسرعين نحوك، مادّي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ فرقا شتّى.

جمع عزة. و أصلها عزوة، من العزو، كأنّ كلّ فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الاخرى، فهم مفترقون. و قيل: كان المستهزؤن خمسة أرهط.

أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بلا إيمان. و هو إنكار لقولهم: لو صحّ ما يقوله لنكون فيها أفضل حظّا منهم كما في الدنيا.

كَلَّا ردع لهم عن هذا الطمع. ثمّ علّل ذلك بقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي: إنّهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس، فمن لم يستكمل بالإيمان و الطاعة، و لم يتخلّق بالأخلاق المكتسبة، لم يستعدّ لدخولها. أو إنّكم مخلوقون من أجل ما تعلمون. و هو تكميل النفس بالعلم و العمل، فمن لم يستكملها لم يتبوّأ في منازل الكاملين.

فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي:

نهلكهم و نأتي بخلق أمثل منهم. و قيل: معناه: نعطي محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدلهم، و هو خير منهم، و هم الأنصار. وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين في كلّ ما أردنا. و هذا عطف

ص: 186

على جواب القسم.

و يفهم من هذا الكلام إنكارهم البعث، من حيث إنّه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، و ذلك قوله: «خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» أي: من النطف. و بالقدرة على أن يهلكهم و يبدّل ناسا خيرا منهم. و أنّه تعالى ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه، لا يعجزه شي ء. و الغرض أنّ من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة، و هم ينكرون ذلك عنادا و لجاجا مع علمهم بذلك.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَ يَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ مرّ تفسيره في آخر سورة الطور (1).

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً من القبور مسرعين. جمع سريع.

كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ شي ء منصوب للعبادة، أو إلى علم نصب لهم يُوفِضُونَ يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. و قرأ ابن عامر و حفص: نصب بضمّ النون و الصاد. و الباقون بفتح النون و سكون الصاد.

خاشِعَةً ذليلة خاضعة أَبْصارُهُمْ لا يرفعونها لذلّتهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تغشاهم مذلّة. و قد مرّ (2) تفسيره أيضا. ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ به في الدنيا فلا يصدّقون به و يجحدونه، و قد شاهدوه في تلك الحال.

ص: 187


1- راجع ج 6 ص 497، ذيل الآية [45] من سورة الطور.
2- راجع ص 153، ذيل الآية [43] من سورة القلم.

ص: 188

[71] سورة نوح

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأ سورة نوح عليه السّلام، كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوح عليه السّلام».

أبو عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر و يقرأ كتابه، فلا يدع أن يقرأ سورة: «إنّا أرسلنا نوحا». فأيّ عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة، أسكنه اللّه مساكن الأبرار، و أعطاه ثلاث جنان مع جنّته كرامة من اللّه، و زوّجه مائتي حوراء و أربعة آلاف ثيّب إن شاء اللّه».

[سورة نوح [71]: الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [1] قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [2] أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ [3] يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [4]

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً [5]

ص: 189

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً [6] وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [7] ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً [8] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً [9]

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [10] يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [11] وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً [12] ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [13] وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [14]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المعارج بوعيد أهل التكذيب، افتتح هذه السورة بذكر قصّة نوح و قومه و ما نالهم بالتكذيب، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ بأن أنذرهم، فحذف الجارّ و أوصل الفعل. و هي «أن» الناصبة للفعل. و المعنى: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر، أي: بالأمر بالإنذار. و يجوز أن تكون مفسّرة، لتضمّن الإرسال معنى القول. و التقدير: قلنا له: أنذرهم. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب الآخرة، أو الطوفان.

قالَ يا قَوْمِ أضافهم إلى نفسه، فكأنّه قال: أنتم عشيرتي يسوءني ما يسوءكم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ مرّ في الشعراء (1) نظيره. و في «أن» يحتمل الوجهان.

ص: 190


1- راجع ج 5 ص 38، ذيل الآية [108]

يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، و هو ما سبق، فإنّ الإسلام يجبّه، فلا يؤاخذكم به في الآخرة. و لمّا كانت ذنوبهم الّتي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق، لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح، قيّد سبحانه الغفران ب «من» التبعيضيّة.

وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو أقصى ما قدّر لكم بشرط الإيمان و الطاعة.

مثل: ان قضى اللّه أنّ قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة، و إن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة. فقيل لهم: آمنوا يؤخّركم إلى وقت سمّاه اللّه و ضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه، و هو الوقت الأطول تمام الألف. و فيه دلالة على ثبوت أجلين.

ثمّ أخبر أنّه لو جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخّر كما يؤخّر هذا الوقت، و لم تكن فيه حيلة أصلا، فقال:

إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي: الأجل الأطول الأقصى الّذي قدّره اللّه إِذا جاءَ و حلّ في الوقت المقدّر لا يُؤَخَّرُ عن وقته، فبادروا في أوقات الإمهال و التأخير لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لو كنتم من أهل العلم و النظر لعلمتم ذلك. و فيه أنّهم لانهماكهم في حبّ الحياة كأنّهم شاكّون في الموت.

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى عبادتك و خلع الأنداد من دونك لَيْلًا وَ نَهاراً أي: دائما من غير فتور، مستغرقا به الأوقات كلّها فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً نفارا عن الإيمان و الطاعة من فرط العناد، و إدبارا عنّي. و إسناد الزيادة إلى الدعاء على السببيّة، كقوله: فَزادَتْهُمْ إِيماناً (1).

وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي: ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم بسببه. فذكر المسبّب الّذي هو حظّهم ليكون أقبح، لإعراضهم عنه.

ص: 191


1- التوبة: 124.

جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي: سدّوا أسماعهم عن استماع الدعوة وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ تغطّوا بها لئلّا يروني. و التعبير بصيغة الطلب للمبالغة، كأنّهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو تغشّيهم لئلّا يبصروه، كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين اللّه. و قيل: لئلّا يعرفهم. و يعضده قوله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ (1).

وَ أَصَرُّوا و أكبّوا على الكفر و المعاصي. مستعار من: أصرّ الحمار على العانة إذا صرّ (2) أذنيه و أقبل عليها يكدمها و يطردها، للإقبال على المعاصي و الإكباب عليها. وَ اسْتَكْبَرُوا عن اتّباعي اسْتِكْباراً عظيما، أي: أخذتهم العزّة من اتّباعي و طاعتي. و في ذكر المصدر تأكيد و دلالة على فرط استكبارهم و عتوّهم.

قيل: إنّ الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له: احذر هذا لا يغوينّك، فإنّ أبي قد ذهب بي إليه و أنا مثلك، فحذّرني مثل ما حذّرتك.

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي: دعوتهم مرّة بعد اخرى و كرّة بعد أولى، على أيّ وجه أمكنني. و قد فعل نوح عليه السّلام كما يفعل الّذي يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، في الابتداء بالأهون، و الترقّي في الأشدّ فالأشدّ. فافتتح بالمناصحة في السرّ، فلمّا لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة، فلمّا لم تؤثّر ثلّث بالجمع بين الإسرار و الإعلان. و معنى «ثمّ» الدلالة على تباعد الأحوال، لأنّ الجهار أغلظ من الإسرار، و الجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

و «جهارا» منصوب ب «دعوتهم» نصب المصدر، لأنّ الدعاء أحد نوعيه

ص: 192


1- هود: 5.
2- العانة: القطيع من حمر الوحش. صرّ الفرس أذنه: سوّاها و نصبها للاستماع. و كدم كدما: عضّ بمقدّم فمه.

الجهار، فنصب به نصب القرفصاء (1) ب: قعد، لكونها أحد أنواع القعود. أو لأنّه أراد ب «دعوتهم» جاهرتهم. و يجوز أن يكون صفة لمصدر: دعا، أي: دعاء جهارا، أي:

مجاهرا به. أو مصدرا في موضع الحال، أي: مجاهرا.

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي: اطلبوا منه المغفرة على كفركم و معاصيكم إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً للتائبين. أمرهم بالاستغفار الّذي هو التوبة عن الكفر و المعاصي.

و كأنّهم لمّا أمرهم بالعبادة قالوا: إن كنّا على حقّ فلا نتركه، و إن كنّا على باطل فكيف يقبلنا و يلطف بنا من عصيناه. فأمرهم بما يجبّ معاصيهم، و يجلب إليهم المنح.

و قيل: لمّا طالت دعوتهم، و تمادى إصرارهم، حبّس اللّه عنهم القطر أربعين سنة، و روي سبعين، و أعقم أرحام نسائهم، فوعدهم بالمطر و الخصب على الاستغفار عمّا كانوا عليه، فقال:

يُرْسِلِ السَّماءَ المظلّة، لأنّ المطر منها ينزل إلى السحاب. أو السحاب.

أو المطر، من قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم (2).

عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدرور. و يستوي في مفعال المذكّر و المؤنّث، كقولهم:

رجل أو امرأة معطار و متفال. و الآية سبب مشروعيّة الاستغفار في الاستسقاء.

وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين من أنواع الثمار وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً قدّم نوح عليه السّلام إليهم الموعد بما هو أبلغ و أوقع في نفوسهم و أحبّ إليهم، من المنافع الحاضرة و الفوائد العاجلة، ترغيبا في الإيمان و بركاته،

ص: 193


1- القرفصاء: هي أن يجلس الرجل على أليتيه و يلصق فخذيه ببطنه و يحتبي بيديه، أو يجلس على ركبتيه و يلصق بطنه بفخذيه. يقال: قعد القرفصاء، أي: قعد على الهيئة المذكورة.
2- و عجزه: رعيناه و إن كانوا غضابا

و الطاعة و نتائجها من خير الدارين. كما قال: وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ (1).

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ (2). وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ (3). وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ (4).

و عن الحسن: أنّ رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر اللّه. و شكا إليه آخر الفقر، و آخر قلّة النسل، و آخر قلّة ريع أرضه. فأمرهم كلّهم بالاستغفار. فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا و يسألون أنواعا، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار. فتلا هذه الآية.

و روى عليّ بن مهزيار، عن حمّاد بن عيسى، عن محمد بن يوسف، عن أبيه، قال: «سأل رجل أبا جعفر عليه السّلام و أنا عنده فقال له: جعلت فداك إنّي كثير المال، و ليس يولد لي ولد، فهل من حيلة؟ قال: نعم، استغفر ربّك سنة في آخر الليل مائة مرّة، فإن ضيّعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار، فإنّ اللّه يقول: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» إلى آخره».

ثمّ قال نوح لقومه على وجه التبكيت: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي: لا تأملون له توقيرا، أي: تعظيما لمن عبده و أطاعه، فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمه إيّاكم في دار الثواب. و «للّه» بيان للموقّر، و لو تأخّر لكان صلة للوقار. أو لا تعتقدون له عظمة، فتخافوا عصيانه. و المعنى: لا تعظّمون اللّه حقّ تعظيمه، فتعبدوه حقّ عبادته. و إنّما عبّر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظنّ مبالغة. و عن ابن

ص: 194


1- الصفّ: 13.
2- الأعراف: 96.
3- المائدة: 66.
4- الجنّ: 16.

عبّاس: لا تخافون للّه عاقبة، لأنّ العاقبة حال استقرار الأمور و ثبات الثواب و العقاب. من: وقر إذا ثبت و استقرّ.

وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً حال مقرّرة للإنكار، من حيث إنّها موجبة للرجاء.

كأنّه قال: مالكم لا تؤمنون باللّه و الحال هذه، فإنّها حال موجبة للإيمان به، لأنّه خلقكم تارات، أي: تارة بعد تارة و حالة بعد حالة، بأن خلقكم أوّلا عناصر، ثمّ مركّبات تغذّى بها الإنسان، ثمّ نطفا، ثمّ علقا، ثمّ مضغا، ثمّ عظاما و لحما، ثمّ أنشأكم خلقا آخر، و هو إيلاج الروح إلى البدن، فإنّه يدلّ على أنّه يعيدكم تارة اخرى فيعطيكم الثواب، و على أنّه تعالى عظيم القدرة تامّ الحكمة.

و قيل: معناه: خلقكم صبيانا، ثمّ شبّانا، ثمّ شيوخا.

و قيل: خلقكم مختلفين في الصفات، أغنياء و فقراء، و زمنى و أصحّاء، و طوالا و قصارا. و الآية محتملة للجميع.

[سورة نوح [71]: الآيات 15 الى 20]

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [15] وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [16] وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [17] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [18] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً [19]

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً [20]

ثمّ أتبع ذلك ما يؤيّده من آيات الآفاق، فقال: أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طبقا فوق طبق وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي: في السماوات. و هو في السماء الدنيا، و إنّما نسب إليهنّ لما بينهنّ من الملابسة، من حيث إنّها طباق، فجاز أن يقال: فيهنّ كذا، و إن لم يكن في جميعهنّ، كما يقال: في المدينة كذا، و هو

ص: 195

في بعض نواحيها.

وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره. فمثّلها به لأنّها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض، كما يزيلها السراج عمّا حوله. و القمر ليس كذلك، و إنّما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس. و مثله قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً (1). و الضياء أقوى من النور.

و عن ابن عبّاس و ابن عمر: أنّ الشمس و القمر وجوههما ممّا يلي السماء، و ظهورهما ممّا يلي الأرض.

وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أنشأكم منها. فاستعير الإنبات للإنشاء، كما يقال: زرعك اللّه للخير. و كانت هذه الاستعارة أدلّ على الحدوث و التكوّن من الأرض، لأنّهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات. و منه قيل للحشويّة: النابتة و النوابت، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أوّليّة لهم فيه.

و أصله: أنبتكم إنباتا فنبتّم نباتا، فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزاميّة.

ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً بالحشر. و أكّده بالمصدر كما أكّد به الأوّل، دلالة على أنّ الإعادة محقّقة كالإبداء. فكأنّه قال: يخرجكم حقّا و لا محالة.

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مبسوطة تتقلّبون عليها كما يتقلّب الرجل على بساطه لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً واسعة. جمع فجّ. و «من» لتضمّن الفعل معنى الاتّخاذ.

عدّد اللّه سبحانه هذه الضروب من النعم، فنبّههم سبحانه أوّلا على النظر في أنفسهم، لأنّها أقرب منظور فيه منهم. ثمّ على النظر في العالم و ما سوّى فيه من

ص: 196


1- يونس: 5.

العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته و علمه، من السماوات و الأرض و الشمس و القمر، امتنانا عليهم، و تنبيها لهم على استحقاق خالقها للعبادة خالصة من كلّ شرك و ندّ، و دلالة لهم على أنّه عالم بمصالحهم، و مدبّر لهم على ما تقتضيه الحكمة، فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر و الجحود.

[سورة نوح [71]: الآيات 21 الى 28]

قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً [21] وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [22] وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً [23] وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً [24] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً [25]

وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [26] إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً [27] رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً [28]

قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً و اتّبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترّين بأولادهم، بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم و هلاكهم في الآخرة. و فيه أنّهم إنّما اتّبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال و الأولاد، و أدّت إلى الخسار. و أجرى ذلك مجرى

ص: 197

صفة لازمة لهم و سمة يعرفون بها، تحقيقا له و تثبيتا، و إبطالا لما سواه.

و قرأ ابن كثير و الكسائي و البصريّان: و ولده بالضمّ و السكون، على أنّه لغة، كالحزن و الحزن، أو جمع كالأشد.

وَ مَكَرُوا عطف على «لم يزده». و الضمير ل «من». و جمعه للمعنى. مَكْراً كُبَّاراً كبيرا في الغاية، فإنّه أبلغ من: كبار، و هو أكبر من: كبير. و نحوه: طوال و طوّال. و مكرهم: احتيالهم في الدين، و كيدهم لنوح، و تحريش السفلة على أذاه، و صدّهم عن الميل إليه.

وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي: عبادتها وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا كانت هذه أكبر أصنامهم، و أعظمها عندهم، و أشهرها بينهم، فخصّوها بعد قولهم: «لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ». ثمّ قالوا: وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً أي: لا تذرنّ هؤلاء أيضا خصوصا. و قرأ نافع: ودّا بالضمّ. و منع صرف «يغوث» و «يعوق» للعلميّة و العجمة.

قيل: هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم و نوح، فلمّا ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم و أشوق إلى العبادة، ففعلوا. فلمّا مات أولئك قال لمن بعدهم: إنّهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، و قد انتقلت إلى العرب.

و كان ودّ لكلب، و سواع لهمدان، و يغوث لمذحج، و يعوق لمراد، و نسر لحمير.

و لهذا سمّيت العرب بعبد ودّ و عبد يغوث.

و قال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل، و سواع على صورة امرأة، و يغوث على صورة أسد، و يعوق على صورة فرس، و نسر على صورة نسر.

و روى ابن عبّاس: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، و يحول بينه و بين الكفّار لئلّا يطوفوا بقبره. فقال لهم إبليس: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم، و يزعمون أنّهم بنو آدم دونكم، و إنّما هو جسد، و أنا أصوّر لكم مثله تطيفون به.

فنحت خمسة أصنام، و حملهم على عبادتها. و هي: ودّ، و سواع، و يغوث، و يعوق،

ص: 198

و نسر. فلمّا كان أيّام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام، فطمّها التراب، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. فاتّخذت قضاعة ودّا، فعبدوها بدومة الجندل، ثمّ توارثها بنوه الأكابر حتّى صارت إلى كلب، فجاء الإسلام و هو عندهم. و أخذ بطنان من طيّ يغوث، فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثمّ إنّ بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم، ففرّوا به إلى بني الحرث بن كعب. و أمّا يعوق فكان لكهلان، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتّى صار إلى همدان. و أمّا نسر فكان لخثعم يعبدونه. و أمّا سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه.

و روي عن عطاء و قتادة و الثمالي: أنّ أوثان قوم نوح صارت إلى العرب، فكان ودّ بدومة الجندل، و سواع برهاط لهذيل. و كان يغوث لبني غطيف من مراد، و كان يعوق لهمدان، و كان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، و كان اللات لثقيف. و أمّا العزى فلسليم و غطفان و جشم و نضر و سعد بن بكر. و أمّا مناة فكانت لقديد. و أمّا أساف و نائلة و هبل فلأهل مكّة. و كان أساف حيال الحجر الأسود. و كانت نائلة حيال الركن اليماني. و كان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا.

وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء، أو للأصنام، كقوله تعالى: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً (1) وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا عطف على «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي» على حكاية كلام نوح عليه السّلام بعد: «قال». و معناه: قال: ربّ إنّهم عصوني، و قال: لا تزد الظالمين إلّا ضلالا، أي: قال هذين القولين. و هما في محلّ النصب، لأنّهما مفعولا «قال». كقولك: قال زيد: نودي للصلاة و صلّ في المسجد، تحكي قوليه معطوفا أحدهما على صاحبه.

و أراد نوح بالضلال أن يخذلوا و يمنعوا الألطاف، لتصميمهم على الكفر، و وقوع اليأس من إيمانهم. و ذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء

ص: 199


1- إبراهيم: 36.

بخلافه. فكأنّه قال: إلّا منعا من الطاعات، عقوبة لهم على رسوخهم في الكفر و عتوّهم و عنادهم.

و يجوز أنّه عليه السّلام أراد الضلال في ترويج مكرهم و مصالح دنياهم، لا في أمر دينهم. أو الضياع و الهلاك، كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (1).

فاستجاب اللّه سبحانه دعاءه، و أهلكهم جميعا بالإغراق، كما حكاه سبحانه عنه بقوله: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من أجل خطيئاتهم الكثيرة و ذنوبهم العظيمة. و «ما» مزيدة للتأكيد و التفخيم. و قرأ أبو عمرو: ممّا خطاياهم. أُغْرِقُوا بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً عذاب الآخرة. و تقديم «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» لبيان أنّه لم يكن إغراقهم بالطوفان فإدخالهم النار إلّا من أجل خطيئاتهم. و لهذا أكّد هذا المعنى بزيادة «ما».

و الفاء التعقيبيّة لبيان عدم الاعتداد بما بين الإغراق و الإدخال، لاقترابه، و لأنّه كائن لا محالة. أو لأنّ المسبّب كالمتعقّب للسبب و إن تراخى عنه، لفقد شرط أو وجود مانع. أو أريد عذاب القبر، فإنّ من مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع و الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. و عن الضحّاك: و كانوا يغرقون من جانب، و يحترقون من جانب.

و تنكير النار للتعظيم، أو لأنّ اللّه أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النيران.

فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تعريض لهم باتّخاذ آلهة من دون اللّه لا تقدر على نصرهم. و تهكّم بهم، كأنّه قال: فلم يجدوا لهم من دون اللّه آلهة ينصرونهم و يمنعونهم من عذاب اللّه، كقوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا (2).

وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً نازل دار، أي: لا تدع منهم أحدا إلّا أهلكته. و هو من الأسماء المستعملة في النفي العامّ. يقال: ما بالدار

ص: 200


1- القمر: 47.
2- الأنبياء: 43.

ديّار و ديّور، كقيّام و قيّوم. و هو فيعال من الدار و الدور. و أصله: ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيّد و ميّت. لا فعّال، و إلّا لكان دوّارا.

إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ عن دينك وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً إلّا من سيفجر و يكفر بعد البلوغ. فوصفهم بما يصيرون إليه،

كقوله عليه الصلاة و السّلام: «من قتل قتيلا فله سلبه».

و علمه عليه السّلام بذلك لما جرّبهم و استقرى أحوالهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، فعرف شيمهم و طباعهم. و كان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه كما ذكر و يقول: احذر هذا، فإنّه كذّاب، و إنّ أبي حذّرنيه، فيموت الكبير و ينشأ الصغير على ذلك. و أيضا قد أخبره اللّه عزّ و جلّ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ (1).

و اعلم أنّ صبيانهم غرقوا لا على وجه العقاب، و لكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الهلاك. و كم منهم من يموت بالحرق و الغرق، و كان ذلك زيادة في عذاب الآباء و الأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون.

و عن الحسن: أنّه سئل عن ذلك، فقال: علم اللّه براءتهم فأهلكهم بغير عذاب.

و عن مقاتل و الربيع و عطاء: أنّ اللّه أعقم أرحام نسائهم، و أيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة، فلم يكن معهم صبيّ حين أغرقوا.

ثمّ دعا عليه السّلام لنفسه و للمؤمنين و المؤمنات، فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ لملك بن متوشلح و شمخا بنت أنوش، و كانا مؤمنين وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي.

و قيل: مسجدي. و قيل: سفينتي.

مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ إلى يوم القيامة. خصّ أوّلا من يتّصل به، لأنّهم أولى و أحقّ بدعائه، ثمّ عمّ المؤمنين و المؤمنات. وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا.

ص: 201


1- هود: 36.

ص: 202

[72] سورة الجنّ

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة الجنّ اعطي بعدد كلّ جنّيّ و شيطان صدّق بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذّب به عتق رقبة».

حنان بن سدير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أكثر قراءة «قل أوحي إليّ» لم يصبه في الحياة الدنيا شي ء من أعين الجنّ، و لا من نفثهم، و لا من سحرهم، و لا من كيدهم، و كان مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقول: يا ربّ لا أريد بهم بدلا، و لا أريد بدرجتي حولا».

[سورة الجن [72]: الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [1] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [2] وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً [3] وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً [4]

وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً [5] وَ أَنَّهُ

ص: 203

كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [6] وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً [7] وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً [8] وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [9]

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [10] وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [11] وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً [12] وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً [13] وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً [14]

وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [15] وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [16] لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [17]

و لمّا تقدّم في سورة نوح عليه السّلام اتّباع قومه أكابرهم، افتتح هذه السورة اتّباع الجنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ إنّما ذكره على لفظ ما لم يسمّ فاعله

ص: 204

تفخيما و تعظيما، فإنّ اللّه سبحانه أوحى إليه، و جبرئيل عليه السّلام أنزل عليه أَنَّهُ اسْتَمَعَ بالفتح، لأنّه فاعل «أوحي» نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ النفر ما بين الثلاثة و العشرة.

و قيل: كانوا من الشيصبان. و هم أكثر الجنّ عددا، و عامّة جنود إبليس منهم. و الجنّ أجسام عاقلة خفيّة يغلب عليهم الناريّة أو الهوائيّة على صورة مخصوصة، بخلاف صورة الناس و الملائكة، فإنّ الملك مخلوق من النور، و الانس من الطين، و الجنّ من النار. و قيل: نوع من الأرواح المجرّدة. و قيل: نفوس بشريّة مفارقة عن أبدانها.

و فيه دلالة على أنّه عليه السّلام ما رءاهم و لم يقرأ عليهم، و إنّما اتّفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر اللّه به رسوله.

فَقالُوا أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (1) إِنَّا بالكسر، لأنّه مبتدأ محكيّ بعد القول سَمِعْنا قُرْآناً كتابا عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه و دقّة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز عن الإتيان بمثله. و هو مصدر وضع موضع العجيب للمبالغة.

يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحقّ و الصواب، من التوحيد و الإيمان بكلّ ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. و لمّا كان الإيمان به إيمانا باللّه و بوحدانيّته و براءة من الشرك قالوا: وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي: لن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان.

و في هذا دلالة على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مبعوثا إلى الجنّ و الإنس. و على أنّ الجنّ عقلاء مخاطبون، و بلغات العرب عارفون. و على أنّهم يميّزون بين المعجز و غيره.

و أنّهم دعوا قومهم إلى الإسلام، و أخبروهم بإعجاز القرآن. و أنّه كلام اللّه، لأنّ كلام العباد لا يتعجّب منه.

و روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: ما قرأ

ص: 205


1- الأحقاف: 29.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الجنّ و ما رآهم، بل انطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء بشهاب ثاقب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء، و أرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلّا من شي ء حدث، فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها. فمرّ النفر الّذين أخذوا نحو تهامة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، و هو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الّذي حال بيننا و بين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم و قالوا:

إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنّا به و لن نشرك بربّنا أحدا. فأوحى اللّه تعالى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قل أوحي إليّ أنّه استمع نفر من الجنّ» (1). و رواه البخاري (2) و مسلم أيضا في الصحيح.

و عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد اللّه بن مسعود: من كان منكم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الجنّ؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة و نحن بمكّة، فقلنا: اغتيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو استطير. فانطلقنا نطلبه من الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول اللّه أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك. فقال لنا: إنّه أتاني داعي الجنّ فذهبت و أقرأتهم القرآن. فذهب بنا فأرانا آثارهم و آثار نيرانهم. فأمّا أن يكون صحبه منّا أحد فلم يصحبه.

و قيل: كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين رآهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فآمنوا به و أرسلهم إلى سائر الجنّ.

وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قراءة ابن كثير و البصريّان بالكسر، على أنّه من

ص: 206


1- التفسير الوسيط 4: 361.
2- صحيح البخاري 6: 199، صحيح مسلم 1: 331 ح 149.

جملة المحكيّ بعد القول. و كذا ما بعده، إلّا قوله: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا (1) وَ أَنَّ الْمَساجِدَ (2) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ (3) فإنّها من جملة الموحى به. و وافقهم نافع و أبو بكر إلّا في قوله: «وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ» على أنّه استئناف أو مقول. و فتح الباقون الكلّ إلّا ما صدّر بالفاء، على أنّ ما كان من قولهم فمعطوف على محلّ الجارّ و المجرور في «آمنّا به» كأنّه قيل: صدّقناه أنّه تعالى جدّ ربّنا، أي: عظمته. من قولك:

جدّ فلان في عيني إذا عظم. و منه قول أنس بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة جدّ في أعيننا، أي: عظم. أو سلطانه، أو غناه. مستعار من الجدّ الّذي هو الدولة و البخت، لما يقال: الملوك و الأغنياء هم المجدودون. و المعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة و الولد، لعظمته أو لسلطانه أو لغناه.

و قوله: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً بيان لوصفه بالتعالي.

قال الربيع بن أنس: إنّه قال: ليس للّه تعالى جدّ، و إنّما قالته الجنّ بجهالة، فحكاه سبحانه كما قالت.

و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا جاهلنا، إبليس أو مردة الجنّ عَلَى اللَّهِ شَطَطاً قولا ذا شطط، و هو البعد و المجاوزة عن الحدّ في الظلم و غيره. و منه: أشطّ في السوم إذا أبعد فيه. أو هو في نفسه شطط، لفرط ما أشطّ فيه، و هو نسبة الصاحبة و الولد إلى اللّه تعالى. فاعترفوا بأنّ إبليس كان يخرج عن الحدّ في إغواء الخلق و دعائهم إلى الضلالة.

ثمّ اعتذروا عن اتّباعهم السفيه في ذلك، بظنّهم أنّ أحدا لا يكذب على اللّه، فقالوا:

وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً نصب على المصدر، لأنّه نوع من القول. أو الوصف لمحذوف، أي: قولا مكذوبا فيه. و من قرأ: أن لن تقوّل

ص: 207


1- الجنّ: 16 و 18- 19.
2- الجنّ: 16 و 18- 19.
3- الجنّ: 16 و 18- 19.

جعله مصدرا، لأنّ التقوّل لا يكون إلّا كذبا.

و المعنى: كان في ظنّنا أنّ أحدا من الثقلين لن يكذب على اللّه و لن يفتري عليه ما ليس بحقّ، من اتّخاذ الشريك معه و الصاحبة و الولد، فكنّا نصدّقهم فيما أضافوا إليه من ذلك، حتّى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم و افتراؤهم.

و في هذا دلالة على أنّهم كانوا مقلّدين، حتّى سمعوا الحجّة و انكشف لهم الحقّ، فرجعوا عمّا كانوا عليه. و فيه إشارة إلى بطلان التقليد في التوحيد، و وجوب اتّباع الدليل.

وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ و ذلك لأنّ الرجل كان إذا أمسى بقفر قال: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. يريد كبير الجنّ.

فإذا سمعوا بذلك استكبروا و قالوا: سدنا الجنّ و الإنس. و كان هذا منهم على حسب اعتقادهم أنّ الجنّ يحفظهم. و عن مقاتل: أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من اليمن، ثمّ بنو حنيفة، ثمّ فشا في العرب.

فَزادُوهُمْ فزادوا الجنّ باستعاذتهم بهم رَهَقاً كبرا و عتوّا و طغيانا. أو فزاد الجنّ الإنس غيّا، بأن أضلّوهم لاستعاذتهم بهم. و الرهق في الأصل غشيان المحارم.

وَ أَنَّهُمْ و أنّ الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيّها الجنّ. و هو من كلام الجنّ يقوله بعضهم لبعض. أو استئناف كلام من اللّه. و من فتح «أنّ» فيهما جعلهما من الموحى به. و الضمير في «وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا» للجنّ. و الخطاب لكفّار قريش، أي: ظنّ الجنّ كما ظننتم أيّها الكفّار أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً هذا سادّ مسدّ مفعولي «ظنّوا».

وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ طلبنا بلوغ السماء و استماع كلام أهلها. و اللّمس مستعار من المسّ للطلب، لأنّ الماسّ طالب متعرّف. يقال: لمسه و التمسه و تلمّسه، كطلبه و اطّلبه و تطلّبه. و نحوه: الجسّ. يقال: جسّوه بأعينهم و تجسّسوه.

ص: 208

فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً حرّاسا. اسم جمع، كالخدم بمعنى الخدّام شَدِيداً أي:

قويّا. و لو ذهب إلى معناه الجمعيّ لقيل: شدادا. و هم الملائكة يمنعونهم عنها.

وَ شُهُباً جمع شهاب. و هو شي ء مضي ء متولّد من النار.

وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ مقاعد خالية عن الحرس و الشهب، أو صالحة للترصّد و الاستماع. و «للسمع» صلة ل «نقعد» أو صفة ل «مقاعد». فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً شهابا راصدا له و لأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم. أو ذوي شهاب راصدين بالرجم، على أنّه اسم جمع للراصد. و هم الملائكة الّذين يرجمونهم بالشهب، و يمنعونهم من الاستماع.

و اعلم أنّ بعضهم قالوا: إنّ الرجم لم يكن في الجاهليّة أصلا، و حدث بعد مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو إحدى آياته. و الأصحّ أنّه كان قبل المبعث، و لكنّ الشياطين كانت تسترقّ في بعض الأحوال، فلمّا بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثر الرجم و زاد زيادة ظاهرة، حتّى تنبّه لها الإنس و الجنّ، و منع الاستراق رأسا.

و عن البلخي: أنّ الشهب كانت لا محالة فيما مضى من الزمان، غير أنّه لم يكن يمنع بها الجنّ عن صعود السماء، فلمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منع بها الجنّ منه.

و عن معمر قلت للزهري: أ كان يرمى بالنجوم في الجاهليّة؟ قال: نعم. قلت:

أ رأيت قوله: «وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ»؟ فقال: غلظت الرجمة و شدّد أمرها حين بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في قوله: «ملئت» دليل على أنّ الحادث هو المل ء و الكثرة. و كذلك قوله:

«نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ» أي: كنّا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس و الشهب، و الآن ملئت المقاعد كلّها. و هذا سبب ما حملهم على الضرب في البلاد حتّى عثروا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و استمعوا قراءته. يقولون: لمّا حدث هذا الحادث من كثرة الرجم و منع الاستراق، قلنا: ما هذا إلّا لأمر أراده اللّه بأهل الأرض.

ص: 209

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً خيرا و رحمة، و لو ببعث نبيّ عظيم الشأن.

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ المؤمنون الأبرار وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ أي: قوم دون ذلك، فحذف الموصوف. و هم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه. أو أرادوا الطالحين. كُنَّا طَرائِقَ ذوي طرائق و مذاهب متفرّقة مختلفة. أو كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. أو كنّا في طرائق مختلفة. أو كانت طرائقنا طرائق، على حذف المضاف الّذي هو الطرائق، و إقامة الضمير المضاف إليه مقامه. قِدَداً متفرّقة مختلفة. جمع القدّة. من: قدّ، كالقطعة من: قطع. و وصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطيع و التفرّق.

وَ أَنَّا ظَنَنَّا علمنا، فإنّ الظنّ بمعنى اليقين شائع في كلامهم أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ كائنين في الأرض أينما كنّا فيها وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هاربين منها إلى السماء. و قيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، و لن نعجزه هربا إن طلبنا.

وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى القرآن آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ فهو لا يخاف، أي: فهو غير خائف، لأنّ الكلام في تقدير مبتدأ و خبر دخلت الفاء عليه، و لو لا ذلك لقيل: لا يخف. و الفائدة في رفع الفعل و تقدير مبتدأ قبله أنّه إذا فعل ذلك فكأنّه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالّا على تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة، و أنّه هو المختصّ بذلك دون غيره. بَخْساً أي: جزاء بخس، و هو النقص في الجزاء وَ لا رَهَقاً و لا جزاء رهق، و هو وصول الذلّة، لأنّه لم يبخس هذا المؤمن أحدا حقّا، و لم يرهق ظلم أحد، فلا يخاف جزاءهما.

و فيه دلالة على أنّ من حقّ من آمن باللّه أن يجتنب المظالم. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم و دمائهم و أموالهم».

و يجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس، بل يجزى الجزاء الأوفى، و لا أن ترهقه ذلّة، من قوله عزّ و جلّ:

ص: 210

وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ (1).

وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ المنقادون لأوامر اللّه وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحقّ، و هو الإيمان و الطاعة فَمَنْ أَسْلَمَ انقاد لأوامره فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً توخّوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب.

وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً توقد بهم كما توقد بالحطب. و عن سعيد بن جبير: أنّ الحجّاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل.

فقال القوم: ما أحسن ما قال. حسبوا أنّه يصفه بالقسط و العدل. فقال الحجّاج: يا جهلة إنّه سمّاني ظالما مشركا، و تلا لهم قوله: «وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» و قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (2).

و قد زعم من لا يرى للجنّ ثوابا أنّ اللّه عزّ و علا أوعد قاسطيهم و ما وعد مسلميهم. و كفى به وعدا أن قال: «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً». فذكر سبب الثواب و موجبه، و اللّه أعدل من أن يعاقب القاسط و لا يثيب الراشد.

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «أن» مخفّفة من الثقيلة، و هو من جملة الموحى به.

و ضمير الجمع للجنّ. و المعنى: و أوحي إليّ أنّ الشأن لو استقام الجنّ عَلَى الطَّرِيقَةِ أي: الطريقة المثلى، و هي طريقة الإسلام، أي: لو ثبت أبو الجنّ- و هو الجانّ- على ما كان عليه من عبادة اللّه و الطاعة، و لم يستكبر عن السجود لآدم، و لم يكفر، و تبعه ولده على الإسلام، و استقاموا على الهدى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ماء كثيرا غزيرا من السماء، أي: لأنعمنا عليهم، و لوسّعنا رزقهم. و ذكر الماء الغدق و هو الكثير، لأنّه أصل المعاش و سعة الرزق، و لعزّة وجوده بين العرب.

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم كيف يشكرون ما خوّلوا منه، أي: لنعاملهم معاملة

ص: 211


1- يونس: 27.
2- الأنعام: 1.

المختبر في شدّة التعبّد، بتكليف الانصراف عمّا تدعو شهواتهم إليه، و في ذلك المحنة الشديدة، و المثوبة على قدر المشقّة في الصبر عمّا تدعو إليه الشهوة.

و يجوز أن يكون معناه: و أن لو استقام الجنّ الّذين استمعوا على طريقتهم الّتي كانوا عليها قبل الإسماع، و لم ينتقلوا عنها إلى الإسلام، لوسّعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنفتنهم فيه، أي: لتكون النعمة سببا في اتّباعهم شهواتهم، و وقوعهم في الفتنة، و ازديادهم إثما، أو لنعذّبهم في كفران النعمة.

و قيل: ضمير الجمع راجع إلى الإنس. و عن مقاتل: أراد به مشركي مكّة، أي: لو آمنوا و استقاموا على طريقة الإيمان لأسقيناهم ماء كثيرا، و ذلك بعد ما رفع عنهم القطر سبع سنين.

و عن أبي بصير قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أخبرني عن قول اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا (1). قال: هو و اللّه ما أنتم عليه، و لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا».

و عن بريد العجلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «معناه: لأفدناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمّة».

و قيل: راجع إلى الجنّ و الإنس كليهما.

وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ عن عبادته، أو موعظته، أو وحيه يَسْلُكْهُ يدخله. و قرأ غير الكوفيّين بالنون. عَذاباً صَعَداً شاقّا يعلو المعذّب و يغلبه.

مصدر وصف به. و الأصل: نسلكه في عذاب، كقوله: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (2).

فعدّي إلى مفعولين، إمّا بحذف الجارّ و إيصال الفعل، كقوله: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ (3). و إمّا بتضمينه معنى: ندخله.

ص: 212


1- فصّلت: 30.
2- المدّثّر: 42.
3- الأعراف: 155.

[سورة الجن [72]: الآيات 18 الى 28]

وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [18] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [19] قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً [20] قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً [21] قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [22]

إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [23] حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً [24] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [25] عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [26] إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [27]

لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً [28]

و عن سعيد بن جبير: قالت الجنّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف لنا أن نأتي المسجد و نشهد معك الصلاة و نحن ناؤون عنك؟ فنزلت:

وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ

أي: أوحي إليّ أنّ المساجد كلّها للّه مختصّة به فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فلا تعبدوا فيها غيره.

و قيل: معناه: و لأنّ المساجد للّه فلا تدعوا، على أنّ اللام متعلّقة ب «لا

ص: 213

تدعوا» أي: فلا تدعوا مع اللّه أحدا في المساجد، لأنّها للّه خاصّة و لعبادته. و الأولى أن يكون المراد بالمخاطبين الجنّ و الإنس جميعا.

و عن قتادة: كان اليهود و النصارى إذا دخلوا بيعهم و كنائسهم أشركوا باللّه، فأمرنا أن نخلص للّه الدعوة إذا دخلنا المساجد.

و قيل: المساجد أعضاء السجود السبعة، على أنّ المراد النهي عن السجود لغير اللّه. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أمرت أن أسجد على سبعة آراب (1)، و هي: الجبهة و الأنف، و اليدان، و الركبتان، و أصابع الرجلين».

و روي: أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الرضا عليهم السّلام عن قوله: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ». فقال: «هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها».

و قيل: المراد المسجد الحرام، لأنّه قبلة المساجد، و لهذا ورد بلفظ الجمع.

و منه قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (2).

و قيل: المساجد جمع المسجد، و هو مصدر ميمي. و المعنى: السجدات كلّها للّه.

و قيل: المراد بالمساجد الأرض كلّها، لأنّها جعلت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسجدا، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا».

وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و إنّما ذكر بلفظ العبد، لأنّ التقدير:

و أوحي إليّ أنّه لمّا قام عبد اللّه. فلمّا كان واقعا في كلام رسول اللّه عن نفسه، جي ء به على ما يقتضيه التواضع و التذلّل. و للإشعار بما هو المقتضي لقيامه، أعني:

العبوديّة. يَدْعُوهُ يعبده. يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجنّ فاستمعوا لقراءته. كادُوا كاد الجنّ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً متراكمين من ازدحامهم عليه

ص: 214


1- الآراب جمع الإرب: العضو.
2- البقرة: 114.

تعجّبا ممّا رأوا من عبادته، و اقتداء أصحابه به قائما و راكعا و ساجدا، فسمعوا من قراءته. أو كاد الإنس و الجنّ يكونون عليه مجتمعين لإبطال أمره.

و عن قتادة: تلبّدت الإنس و الجنّ على هذا الأمر ليطفؤه، فأبى اللّه إلّا أن ينصره و يظهره على من ناواه.

و من قرأ «و إنّه» بالكسر جعله من كلام الجنّ، قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم، حاكين ما رأوا من صلاته و ازدحام الصحابة عليه في ائتمامهم به.

و اللبد جمع لبدة، و هو ما تلبّد بعضه على بعض، كلبدة الأسد. و عن ابن عامر برواية هشام: لبدا بضمّ اللام، جمع لبدة، و هي لغة.

قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي: قال عبد اللّه للجنّ عند ازدحامهم متعجّبين: ليس ما ترون من عبادتي اللّه و رفضي الإشراك باللّه بأمر يتعجّب منه، إنّما يتعجّب ممّن يدعو غير اللّه و يجعل له شركاء. أو قال للمتظاهرين عليه: إنّما أدعو ربّي. يريد: ما أتيتكم بأمر منكر، إنّما أعبد ربّي وحده، و لا أشرك به أحدا، و ليس ذلك ممّا يوجب إطباقكم على مقتي و عداوتي. أو قال الجنّ لقومهم ذلك حكاية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قرأ عاصم و حمزة: قل، على الأمر للنبيّ، ليوافق قوله: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً و لا نفعا. أو غيّا و لا رشدا. و المعنى: لا أستطيع أن أضرّكم و أن أنفعكم، إنّما الضارّ و النافع اللّه. أو لا أستطيع أن أقسركم على الغيّ و الرشد، إنّما القادر على ذلك اللّه عزّ و جلّ.

قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أراد بي سوءا، من مرض أو موت أو غيرهما وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملتجأ يؤوى إليه. و أصله: المدّخل، من اللحد.

و قيل: محيصا و معدلا.

إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من قوله: «لا أملك» فإنّ التبليغ إرشاد و إنفاع،

ص: 215

و ما بينهما اعتراض مؤكّد لنفي الاستطاعة من نفسه و بيان عجزه. أو من «ملتحدا».

و معناه: لن أجد من دونه منجا إلّا أن أبلّغ عنه ما أرسلني به. و قيل: «إلّا» بمعنى: إن لا، أي: إن لا أبلّغ بلاغا. و ما قبله دليل الجواب.

و قوله: وَ رِسالاتِهِ عطف على «بلاغا». كأنّه قيل: لا أملك إلّا التبليغ و الرسالات. و «من اللّه» صفة «بلاغا» لا صلته، لأنّ صلته «عن» كقوله: بلّغوا عنّي.

و المعنى: إلّا أن أبلّغ بلاغا كائنا من اللّه، فأقول: قال اللّه كذا و كذا، ناسبا قوله إليه، و أن أبلّغ رسالاته و أحكامه الّتي أرسلني بها من غير زيادة و لا نقصان.

و قيل: أراد بالبلاغ توحيد اللّه و عدله، و ما يجوز عليه و ما لا يجوز، إذ الكلام فيه. و أراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع.

و لمّا بيّن سبحانه أنّه لا ملجأ من عذابه إلّا طاعته، عقّبه بوعيد من قارف معصيته، فقال:

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأمر بالتوحيد، إذ الكلام فيه فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً جمعه للمعنى.

حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ في الدنيا، كوقعة بدر. أو في الآخرة. و الغاية لقوله: «يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» بالمعنى الثاني. أو لمحذوف دلّ عليه الحال، من استضعاف الكفّار للنبيّ، و عصيانهم له، و استقلالهم لعدده. كأنّه قال: لا يزال على ما هم عليه حتّى إذا رأوا ما يوعدون. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً هو أم هم.

و لمّا سمع المشركون «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ» قالوا: متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له، فقال اللّه سبحانه:

قُلْ إِنْ أَدْرِي ما أدري أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ متوقّع في كلّ ساعة أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً مهلة و غاية تطول مدّتها. يعني: قل لهم إنّه كائن لا محالة،

ص: 216

و لكن لا أدري وقته.

عالِمُ الْغَيْبِ هو عالم الغيب فَلا يُظْهِرُ فلا يطلع عَلى غَيْبِهِ أي:

على الغيب المخصوص به علمه أَحَداً من عباده إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعلم بعضه حتّى يكون له معجزة. و «من» بيان ل «من».

قال صاحب الكشّاف: «معناه: أنّه لا يطلع على الغيب إلّا المرتضى الّذي هو مصطفى للنبوّة خاصّة، لا كلّ مرتضى. و في هذا إبطال للكرامات، لأنّ الّذين تضاف إليهم و إن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل. و قد خصّ اللّه الرسل من بين المرتضين بالاطّلاع على الغيب و إبطال الكهانة و التنجيم، لأنّ أصحابهما أبعد شي ء من الارتضاء و أدخله في السخط» (1). انتهى كلامه.

و الجواب عن إبطال ظهور الكرامات من الأولياء بتخصيص الإظهار على الغيب بما يكون بغير توسّط البشر، كما هو المتبادر، أو بتخصيص الرسول بالملائكة.

و المعنى: لا يظهر الغيب أوّلا إلّا على الرسل أو على الملائكة، و هم يطلعون الأنبياء و الأولياء ثانيا بإذنه. فكرامات الأولياء على المغيّبات إنّما يكون تلقّيا من الرسول أو الملائكة، كاطّلاعنا على أحوال الآخرة بتوسّط الأنبياء. و لا ريب أنّ فشوّ معجزات الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم، و اشتهار كراماتهم بحيث لا ينكرها أحد إلّا أعدى معاديهم و أعند معانديهم، يهدم أساس هذا الإبطال. و بديهة العقل قاضية على أنّ في قوله: «لا كلّ مرتضى» تعريضا له إلى قدوة الأولياء و مرتضى الأوصياء، و مظهر العجائب و مظهر الغرائب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه و آله، و هذا مستلزم للعناد و البغض. نعوذ باللّه من شرور الاعتقادات الفاسدة، و الآراء الباطلة، و الأقوال المضلّة.

ص: 217


1- الكشّاف 4: 632- 633.

فَإِنَّهُ فإنّ اللّه سبحانه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يدخل من بين يدي من ارتضى للرسالة وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً حرسا من الملائكة يحرسونه و يحفظونه من الشياطين، يطردونهم عنه، و يعصمونه من وساوسهم و تخاليطهم. و عن الضحّاك: ما بعث نبيّ إلّا و معه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبّهوا بصورة الملك.

لِيَعْلَمَ النبيّ الموحى إليه أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا جبريل مع خواصّ الملائكة النازلين بالوحي، كما جرت عادة الملوك بأن يضمّوا إلى الرسول جماعة من خواصّهم تشريفا له. و هذا كما روي أنّ سورة الأنعام نزلت و معه سبعون ألف ملك.

و عن سعيد بن جبير: ما نزل جبرئيل بشي ء من الوحي إلّا و معه أربعة من الملائكة حفظة. أو ليعلم اللّه أن قد أبلغ الأنبياء. يعني: ليتعلّق علمه به موجودا. رِسالاتِ رَبِّهِمْ محروسة من التغيير. و على التفسير الثاني؛ و حدّ الضمير أوّلا على اللفظ في قوله: «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ». ثمّ جمع على المعنى، كقوله: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (1).

وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ بما عند الرسل من الحكم و الشرائع، لا يفوته منها شي ء، و لا ينسى منها حرفا، فهو مهيمن عليها حافظ لها وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً حتّى القطر و الرمل و ورق الأشجار و زبد البحر، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه و كلامه؟ و نصب «عددا» على الحال، أي: و ضبط كلّ شي ء معدودا محصورا.

أو على المصدر في معنى: إحصاء.

ص: 218


1- الجنّ: 23.

[73] سورة المزّمّل

اشارة

مكّيّة. و قيل: مدنيّة. و قيل: بعضها مكّيّ، و بعضها مدنيّ. و هي ثماني عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المزّمّل دفع عنه العسر في الدنيا و الآخرة».

منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة المزّمّل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل، كان له الليل و النهار شاهدين مع السّورة، و أحياه اللّه حياة طيّبة، و أماته ميتة طيّبة».

[سورة المزمل [73]: الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [1] قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً [2] نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً [3] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [4]

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [5] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً [6] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً [7] وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً [8] رَبُّ

ص: 219

الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [9]

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً [10] وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً [11] إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَ جَحِيماً [12] وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً [13] يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً [14]

و لمّا ختم اللّه سورة الجنّ بذكر الرسل، افتتح هذه السورة بذكر نبيّنا خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أصله: المتزمّل، و هو الّذي تزمّل في ثيابه، أي: تلفّف بها، فأدغم التاء في الزاي. و نحوه: المدّثّر في المتدثّر.

سمّي به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تهجينا لما كان عليه، فإنّه كان نائما، أو مرتعدا ممّا دهشه من بدء الوحي، متزمّلا في قطيفة، و ذلك قبل التبليغ، و لمّا بلّغ خوطب بالنبيّ و الرسول.

و قيل: دخل على خديجة، و قد جئث (1) فرقا و خوفا أوّل ما أتاه جبرئيل على صورته الأصليّة، و بوادره (2) ترعد، فقال: زمّلوني زمّلوني، و حسب أنّه عرض له، فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبرئيل: يا أيّها المزّمّل.

أو تحسينا (3) له، إذ روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي متلفّفا بمرط (4) مفروش على عائشة، فأمر بأن يدوم على ذلك و يواظب عليه.

ص: 220


1- جئث جأثا: فزع.
2- البوادر جمع البادرة: اللحمة بين المنكب و العنق.
3- عطف على قوله: تهجينا، قبل ستّة أسطر.
4- المرط: كساء من صوف و نحوه يؤتزر به. كلّ ثوب غير مخيط.

و عن عائشة: أنّها سئلت ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا، نصفه عليّ و أنا نائمة، و نصفه عليه و هو يصلّي. فسئلت: ما كان؟ قالت:

و اللّه ما كان خزّا، و لا قزّا (1)، و لا مرعزّى، و لا إبريسما، و لا صوفا، كان سداه (2) شعرا، و لحمته و برا.

أو تشبيها (3) له في تثاقله بالمتزمّل، لأنّه لم يتمرّن بعد في قيام الليل. أو من:

تزمّل الزمل إذا تحمّل الحمل، أي: الّذي تحمّل أعباء النبوّة.

قُمِ اللَّيْلَ أي: قم إلى الصلاة في الليل، أو داوم عليها إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ و الاستثناء من الليل. و «نصفه» بدل من «قليلا».

و قلّته بالنسبة إلى الكلّ. و التخيير بين ثلاث: قيام النصف بتمامه، و الناقص منه كالثلث، و الزائد عليه كالثلثين.

أو «نصفه» بدل من «الليل»، و الاستثناء منه. كأنّه قال: قم أقلّ من نصف الليل. و الضمير في «منه» و «عليه» للأقلّ من النصف كالثلث. فيكون التخيير بينه و بين الأقلّ منه كالربع، و الأكثر منه كالنصف. فكأنّه قيل: قم أقلّ من نصف الليل، أو قم أنقص من ذلك الأقلّ أو أزيد منه قليلا. فيكون التخيير فيما وراء النصف، لأنّ الأقلّ من نصف الليل و الناقص منه قليلا و الزائد عليه قليلا كلّه وراء النصف، و ما وراء النصف لا يصل إلى النصف، فإمّا أن يكون بين النصف و الثلث، كالثلثين و نصف السدس مثلا، أو أقرب إلى الثلث، أو أقرب إلى النصف، أو للنصف.

ص: 221


1- القزّ: ما يسوّى منه الإبريسم أو الحرير. و المرعزّى: الزغب الّذي تحت شعر العنز، الليّن من الصوف.
2- السدى من الثوب: ما مدّ من خيوطه، و اللحمة: ما سدّي به بين سدى الثوب، أي: ما نسج عرضا، و هو خلاف سداة.
3- عطف على قوله: تهجينا، قبل عشرة أسطر.

و المعنى: التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقلّ من نصف الليل على البتّ، و بين أن يختار أحد الأمرين، و هما: النقصان من النصف، و الزيادة عليه. أو الاستثناء من أعداد الليل، فإنّه عامّ، و التخيير بين قيام النصف و الناقص عنه و الزائد عليه.

و قال في المجمع: «و قيل: معناه: قم نصف الليل إلّا قليلا من الليالي، و هي ليالي العذر، كالمرض و غلبة النوم و علّة العين و نحوها» (1).

و اعلم أنّ للأصحاب خلافا في أنّ القيام في الليل عليه و على أمّته في بدو الإسلام فرض أو نفل؟ و عن عائشة: أنّ اللّه جعله تطوّعا بعد أن كان فرضا.

و قيل: كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ثمّ نسخ بهنّ إلّا ما تطوّعوا به بنذر و شبهه.

و عن الحسن: كان قيام ثلث الليل فريضة على الناس، و كانوا على ذلك سنة.

و قيل: كان واجبا، و إنّما وقع التخيير في المقدار ثمّ نسخ بعد عشرة سنين.

و عن الكلبي: كان يقوم الرجل حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف و الثلث و الثلثين. و منهم من قال: كان نفلا، بدليل التخيير في المقدار، و لقوله تعالى:

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (2).

و الأصحّ أنّ التهجّد واجب عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينسخ أبدا. و النافلة في الآية بمعنى فريضة زائدة على الفرائض اليوميّة. و أمّا على أمّته فنسخ وجوبه و بقي استحبابه.

و الروايات المأثورة عن أئمّتنا صلوات عليهم مصرّحة بذلك.

وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اقرأه على تؤدة، بتبيين الحروف و إشباع الحركات،

ص: 222


1- مجمع البيان 10: 377.
2- الإسراء: 79.

بحيث يتمكّن السامع من عدّها. من قولهم: ثغر رتل إذا كان مفلّجا (1).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: الترتيل: حفظ الوقوف، و أداء الحروف.

و سئلت عائشة عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها. و «ترتيلا» تأكيد في إيجاب الأمر به، و أنّه ما لا بدّ منه للقارى ء.

و عن أبي حمزة قال: قلت لابن عبّاس: إنّي رجل في قراءتي و في كلامي عجلة. فقال ابن عبّاس: لأن أقرأ البقرة أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن كلّه.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «معناه: بيّنه بيانا، و لا تهذّه (2) هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن اقرع به القلوب القاسية، و لا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة».

و روي عن أمّ سلمة أنّها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقطع قراءته آية آية.

و عن قطرب: المراد به تحزين القرآن، أي: اقرأه بصوت حزين. و يعضده ما

رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في هذا قال: «هو أن تتمكّث فيه، و تحسّن به صوتك».

و عن ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق، و رتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها».

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا سنوحي عليك قولا يثقل عليك و على أمّتك.

يعني: القرآن، فإنّه لما فيه من التكاليف الشاقّة ثقيل على المكلّفين، سيّما على الرسول، إذ كان عليه أن يتحمّلها و يحمّلها أمّته. و عن ابن زيد: هو و اللّه ثقيل مبارك، و كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة. و الجملة اعتراض يسهّل

ص: 223


1- المفلّجة من الأسنان: المنفرجة.
2- هذّ الشي ء: قطعه سريعا. و هذّ الحديث: سرده.

مشقّة التكليف عليه بالتهجّد، فإنّ الليل وقت السبات و الراحة و الهدوء، فلا بدّ لمن أحياه من مضادّة لطبعه و مجاهدة لنفسه.

و قيل: معناه: رصين، لرزانة لفظه و متانة معناه. أو ثقيل على المتأمّل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفية للسرّ و تجريد للنظر. أو ثقيل في الميزان، أو على الكفّار و الفجّار. أو ثقيل تلقّيه،

لقول عائشة: رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم (1) عنه، و إنّ جبينه ليرفضّ (2) عرقا.

و عن ابن عبّاس: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه و تربّد (3) له جلده.

و قيل: كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتغيّر حاله عند نزول الوحي و يعرق، و إذا كان راكبا يبرك راحلته و لا يستطيع المشي.

و سأل الحرث بن هشام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، و هو أشدّ عليّ، فيفصم عنّي، و قد وعيت ما قال. و أحيانا يتمثّل الملك رجلا، فأعي ما يقول.

إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ إنّ النفس الّتي تنشأ من مضجعها إلى العبادة. من: نشأ من مكانه إذا نهض. أو قيام الليل، على أنّ الناشئة مصدر من: نشأ إذا قام و نهض، على فاعلة، كالعاقبة. و يدلّ عليه ما روي عن عبيد بن عمير قلت لعائشة: رجل قام من أوّل الليل أ تقولين له: قام ناشئة؟ قالت: لا، إنّما الناشئة القيام بعد النوم. ففسّرت الناشئة بالقيام عن المضجع، أو العبادة الّتي تنشأ بالليل، أي: تحدث. أو ساعات الليل، لأنّها تحدث واحدة بعد اخرى. أو ساعاتها الأول، من: نشأت إذا ابتدأت.

و عن عليّ بن الحسين: «أنّه كان يصلّي بين المغرب و العشاء و يقول: أما سمعتم قول اللّه تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ» هذه ناشئة الليل».

ص: 224


1- أي: يقلع عنه.
2- ارفضّ العرق: سال و ترشّش.
3- تربّد اللون: تغيّر.

هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً كلفة، أو ثبات قدم. و قرأ أبو عمرو و ابن عامر: وطاء، أي:

مواطأة يواطئ قلبها لسانها، إن أردت النفس. أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه، إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات. أو أشدّ موافقة لما يراد من الخشوع و الإخلاص. أو أثقل و أغلظ على المصلّي من صلاة النهار، من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر».

وَ أَقْوَمُ قِيلًا و أسدّ مقالا، و أثبت قراءة، لحضور القلب و هدوء الأصوات.

إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا تقلّبا في مهمّاتك و شواغلك من تبليغ الرسالة، و دعوة الخلق، و تعليم الفرائض و السنن، و إصلاح المعيشة لنفسك و عيالك.

فعليك بالتهجّد، فإنّ مناجاة الحقّ تستدعي فراغا.

و قال صاحب المجمع: «و في هذا دلالة على أنّه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم و التعلّم، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحتاج إلى التعليم أكثر ممّا يحتاج الواحد منّا إليه، ثمّ لم يرض سبحانه منه أن يترك حظّه من قيام الليل» (1).

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و دم على ذكره ليلا و نهارا. و ذكر اللّه يتناول كلّ ما يذكر به، من تسبيح و تهليل و تحميد و صلاة و قراءة و دراسة علم.

و قيل: معناه: اقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم في ابتداء صلاتك، توصلك بركة قراءتها إلى ربّك، و تقطعك من كلّ ما سواه.

وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا و انقطع إليه بالعبادة، و جرّد نفسك عمّا سواه. و لهذه الرمزة و مراعاة الفواصل وضع «تبتيلا» موضع: تبتّلا. و قال في الكشّاف: «معنى تبتّل: بتّل نفسه، فجي ء به على معناه مراعاة لحقّ الفواصل» (2). و عن ابن عبّاس:

معناه: أخلص له إخلاصا.

ص: 225


1- مجمع البيان 10: 379.
2- الكشّاف 4: 639.

و روى محمد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ التبتّل هنا رفع اليدين في الصلاة».

و في رواية أبي بصير قال: «هو رفع يدك إلى اللّه، و تضرّعك إليه».

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ خبر محذوف، أي: هو ربّ العالم بما فيه، و المتصرّف فيما بينهما، و المدبّر لما بينهما. أو مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: ربّ المشرقين لا أحد يحقّ له العبادة سواه. و قرأ ابن عامر و الكوفيّون غير حفص و يعقوب بالجرّ على البدل من «ربّك». و قيل: بإضمار حرف القسم، و جوابه «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ».

فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا حفيظا للقيام بأمرك، و اعتمد عليه، و فوّض أمرك إليه.

و هذا مسبّب عن التهليل، فإنّ توحّده بالألوهيّة يقتضي أن توكّل إليه الأمور.

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من التكذيب و الأذى، و النسبة إلى السحر و الكهانة وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم و تداريهم، و لا تكافئهم، و تكل أمرهم إلى اللّه، كما قال مهدّدا للكفّار:

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ و الّذين يكذّبونك فيما تدعوهم إليه، من التوحيد و إخلاص العبادة و وقوع البعث و الجزاء. و نصبه على أنّه مفعول معه. و المعنى:

دعني و إيّاهم، و كل إليّ أمرهم، فإنّ بي غنية عنك في مجازاتهم، فلا تشغل نفسك بمجازاتهم. أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعّم. يريد صناديد قريش. و قيل:

نزلت في المطعمين ببدر، و هم عشرة، ذكرناهم في الأنفال (1). وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زمانا أو إمهالا قليلا. و هذا أيضا وعيد، و لم يكن إلّا يسيرا حتّى كانت وقعة بدر.

ثمّ علّل الأمر المذكور بقوله: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا جمع النكل، و هو القيد الثقيل

ص: 226


1- راجع ج 3 ص 38، ذيل الآية 36 من سورة الأنفال.

وَ جَحِيماً هو اسم من أسماء جهنّم. و قيل: يعني: نارا عظيمة، و لا يسمّى القليل به.

وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب في الحلق، فلا يدخل و لا يخرج، كالزقّوم و الضريع. و روى حمران بن أعين عن عبد اللّه بن عمر: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمع قارئا يقرأ هذه فصعق.

وَ عَذاباً أَلِيماً و نوعا آخر من العذاب مؤلما لا يعرف كنهه إلّا اللّه تعالى.

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ تضطرب و تتزلزل شديدا. ظرف لما في «لَدَيْنا أَنْكالًا» من معنى الفعل. وَ الْجِبالُ و ترجف الجبال معها، و تضطرب بمن عليها وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً رملا مجتمعا. فعيل بمعنى مفعول. من: كثبت الشي ء إذا جمعته.

مَهِيلًا سائلا منثورا. من: هيل هيلا إذا نثر. يعني: أنّ الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل.

[سورة المزمل [73]: الآيات 15 الى 19]

إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً [15] فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً [16] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [17] السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [18] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً [19]

ثمّ أكّد سبحانه الحجّة على قريش فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا يا أهل مكّة شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد عليكم يوم القيامة بتكذيبكم و كفركم كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني: موسى. و لم يعيّنه، لأنّ المقصود لم يتعلّق به.

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ عرّفه لسبق ذكره فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ثقيلا

ص: 227

شديدا، مع كثرة جنوده وسعة ملكه. من قولهم: طعام وبيل غير مستمرئ لثقله.

و منه: الوابل للمطر العظيم القطر.

ثمّ حذّرهم اللّه سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون و قومه، فقال: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ أنفسكم إِنْ كَفَرْتُمْ بقيتم على الكفر يَوْماً عذاب يوم. أو فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة؟ و يجوز أن يكون مفعولا ل «كفرتم» على تأويل: فكيف تتّقون اللّه إن جحدتم يوم القيامة و الجزاء؟ لأنّ التقوى هو خوف عقاب اللّه.

يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من شدّة هوله. جمع أشيب. و هذا على التمثيل و الفرض، كما يقال: يوم يشيب النواصي، و هذا أمر يشيب منه الوليد. و أصله: أن الهموم الشديدة تضعف القوى فتسرع بالشيب. و يجوز أن يكون وصفا لليوم بالطول.

السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ التذكير على تأويل السقف. و الباء للآلة، كالباء في:

فطرت العود بالقدوم (1). بمعنى: أنّ السماء على عظمها و إحكامها تنفطر بشدّة، كما ينفطر الشي ء بما يفطر به. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا الضمير للّه، أو لليوم و إن لم يجر له ذكر، لكونه معلوما، على إضافة المصدر إلى المفعول.

إِنَّ هذِهِ أي: هذه الآيات الموعدة تَذْكِرَةٌ موعظة فَمَنْ شاءَ أن يتّعظ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا إلى ثواب ربّه طريقا يتقرّب إليه بسلوك التقوى و الخشية.

[سورة المزمل [73]: آية 20]

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا

ص: 228


1- القدوم: آلة للنحت و النجر.

ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [20]

روي: أنّ التهجّد كان واجبا على التخيير المذكور، فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طائفة من المؤمنين معه يقومون في الليل للتهجّد، فشقّ ذلك عليهم، فكان الرجل يصلّي الليل كلّه مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام، فخفّف اللّه ذلك عنهم بقوله:

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي: أقلّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ استعار الأدنى للأقلّ، لأنّ الأقرب إلى الشي ء أقلّ بعدا منه، فإنّ المسافة بين الشيئين إذا دنت قلّ ما بينهما من الأحياز، و إذا بعدت كثر ذلك. و قرأ هشام: ثلثي الليل بسكون اللام. و ابن كثير و الكوفيّون: نصفه و ثلثه بالنصب، عطفا على «أدنى». و المعنى: أنّك تقوم في بعض الليالي أقلّ من ثلثيها، و في بعضها النصف، و في بعضها الثلث.

وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ و يقوم ذلك طائفة من أصحابك. روى أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس: في قوله: «وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ»: عليّ و أبو ذرّ (1).

ص: 229


1- شواهد التنزيل 2: 387 ح 1036.

وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلّا اللّه، فإنّ تقديم اسمه مبتدأ مبنيّا عليه «يقدّر» يشعر بالاختصاص. و يؤيّده قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: لن تحصوا تقدير الأوقات، و لن تستطيعوا ضبطها بالتعديل و التسوية، إلّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط فَتابَ عَلَيْكُمْ عن الجبائي: معناه:

جعله تطوّعا بعد أن كان فرضا. و قيل: معناه: فلم يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب.

و قيل: فخفّف عليكم هذا التكليف. و الكلّ عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر، و رفع التبعة فيه، كرفع التبعة عن التائب.

فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فصلّوا ما تيسّر عليكم من صلاة الليل. عبّر عن الصلاة بالقرآن كما عبّر عنها بسائر أركانها. ثمّ نسخ ذلك أيضا بالصلوات الخمس.

و قيل: فاقرؤا القرآن بعينه كيفما تيسّر عليكم. و من قال: المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة، فهو محمول على الاستحباب عند الأكثر دون الوجوب.

و قال بعضهم: هو محمول على الوجوب، لأنّ القارئ يقف على إعجاز القرآن و ما فيه من دلائل التوحيد و إرسال الرسل. و لا يلزم حفظ القرآن، لأنّه من القرب المستحبّة المرغّب فيها.

ثمّ اختلفوا في القدر الّذي تضمّنه هذا الأمر من القراءة. فقال سعيد بن جبير:

خمسون آية. و قال ابن عبّاس: مائة آية. و عن الحسن قال: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن. و قال كعب: من قرأ مائة آية في ليلة كتب من القانتين. و قال السدّي: مائتا آية. و قال جويبر: ثلث القرآن، لأنّ اللّه يسّره على عباده. و على مذهب أصحابنا لا تجب القراءة إلّا في الصلوات الواجبة، و في غيرها مندوبة.

ثمّ بيّن حكمة اخرى مقتضية للترخيص و التخفيف، فقال مستأنفا: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ يسافرون فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ

ص: 230

اللَّهِ للتجارة، أو لتحصيل العلم. قال عبد اللّه بن مسعود: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه، كان عند اللّه بمنزلة الشهداء. ثمّ قرأ: «وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ».

وَ آخَرُونَ و منكم قوم آخرون يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيقتضي التخفيف عنهم أيضا فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ كرّره مبالغة في القراءة، و لهذا يؤكّد استحبابها.

و روي عن الرضا عليه السّلام، عن أبيه، عن جدّه قال: «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السرّ».

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة وَ آتُوا الزَّكاةَ الواجبة وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يريد به الأمر بسائر الإنفاقات في سبيل الخير، أو بأداء الزكاة على أحسن وجه، و الترغيب فيه بوعد العوض، كما صرّح به في قوله: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ من طاعة بدنيّة أو ماليّة تَجِدُوهُ تجدوا ثوابه عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً لكم من التقصير و الشحّ وَ أَعْظَمَ أَجْراً أفضل ثوابا من الّذي تؤخّرونه إلى الوصيّة عند الموت. أو من متاع الدنيا تخلّفونه بعد موتكم. و «خيرا» ثاني مفعولي «تجدوه». و هو تأكيد، أو فصل، لأنّ «أفعل من» كالمعرفة، و لذلك يمتنع من حرف التعريف.

وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في مجامع أحوالكم، فإنّ الإنسان لا يخلو من تفريط إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ستّار لذنوبكم، صفوح عنكم رَحِيمٌ بكم، منعم عليكم.

ص: 231

ص: 232

[74] سورة المدّثّر

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المدّثّر اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بمحمّد و كذّب به بمكّة».

محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ في الفريضة سورة المدّثّر كان حقّا على اللّه أن يجعله مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في درجته، و لا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا».

[سورة المدثر [74]: الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [1] قُمْ فَأَنْذِرْ [2] وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ [3] وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ [4]

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ [5] وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [6] وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [7] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [8] فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [9]

عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [10]

و لمّا أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر المزّمّل بالصلاة و غيرها، أمره في مفتتح

ص: 233

هذه السورة بالإنذار عن ترك المأمورات، فأمره أن يبدأ بنفسه ثمّ بالناس، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ و هو لابس الدثار.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني و شمالي فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء و الأرض- يعني: الملك الّذي ناداه- فرعبت و رجعت إلى خديجة فقلت: دثّروني دثّروني، فنزل جبرئيل و قال: «يا أيّها المدّثّر».

و لذلك قيل: هي أوّل سورة نزلت.

و عن الزهري: أوّل ما نزل سورة «اقرأ باسم ربّك» إلى قوله: «ما لم يعلم».

فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و جعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبرئيل فقال: إنّك نبيّ اللّه. فرجع إلى خديجة و قال: دثّروني و صبّوا عليّ ماء باردا. فنزل: «يا أيّها المدّثّر».

و قيل: سمع من قريش ما كرهه، فاغتمّ فتغطّى بثوبه مفكّرا كما يفعل المغموم، فنزل.

و قيل: المراد المتدثّر بالنبوّة و الكمالات النفسانيّة. أو المختفي، فإنّه كان بحراء كالمختفي فيه، على سبيل الاستعارة.

قُمْ من مضجعك، أو قم قيام عزم و جدّ فَأَنْذِرْ أطلق الإنذار للتعميم.

و المعنى: فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد. أو قدّر بمفعول دلّ عليه قوله:

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1) أي فحذّر قومك من عذاب اللّه إن لم يؤمنوا. و الأوّل أولى. و يؤيّده قوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً (2).

وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ و خصّص ربّك بالتكبير. و هو وصفه بالكبرياء اعتقادا و قولا.

روي: أنّه لمّا نزل قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّه أكبر، فكبّرت خديجة و فرحت، و أيقنت

ص: 234


1- الشعراء: 214.
2- سبأ: 28.

أنّه الوحي، و ذلك لأنّ الشيطان لا يأمر بذلك.

و قد يحمل على تكبير الصلاة، و هو في مفتتح الصلوات الواجبة واجب، و في غيرها مستحبّ. و الفاء فيه و فيما بعده لإفادة معنى الشرط، كأنّه قال: مهما يكن من شي ء فلا تدع تكبيره. و تقديم هذا الأمر على الأوامر الآتية، للدلالة على أنّ المقصود الأوّل من الأمر بالقيام أن يكبّر ربّه عن الشرك و التشبيه، فإنّ أوّل ما يجب معرفة الصانع، و أوّل ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه عن جميع النواقص و العيوب.

وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ من النجاسات، فإنّ التطهير شرط في الصلاة، محبوب في غيرها. و ذلك بغسلها، أو بحفظها عن النجاسة، كتقصيرها مخافة جرّ الذيول فيها.

و لهذا

قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «معناه: فثيابك فقصّر».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: غسل الثياب يذهب الهمّ و الحزن، و هو طهور للصلاة، و تشمير (1) الثياب طهور لها، و قد قال اللّه تعالى: «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ» أي: فشمّر».

و هو أوّل ما أمر به من رفض العادات المذمومة، فإنّ عادتهم في الجاهليّة جرّ الذيول على الأرض مرحا و تكبّرا.

أو طهّر نفسك من الأخلاق الذميمة و الأفعال الدنيئة. يقال للرجل إذا كان صالحا: إنّه لطاهر الثياب، و طاهر الجيب و الأردان و الذيل. فهو وصف له بالنقاء من المعايب و مدانس الأخلاق. و إذا كان فاجرا يقال: إنّه لخبيث الثياب و الذيل. و ذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان و يشتمل عليه، فكنّي به عنه. فيكون أمرا باستكمال القوّة العمليّة، بعد أمره باستكمال القوّة النظريّة و الدعاء إليه.

أو فطهّر دثار النبوّة عمّا يدنّسه من الحقد و الضجر و قلّة الصبر.

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي: فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدّي إليه من الشرك و غيره من المآثم. و المعنى: الثبات على هجره، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بريئا منه.

ص: 235


1- شمّر الثوب عن ساقيه: رفعه.

و قيل: معناه: أخرج حبّ الدنيا عن قلبك، لأنّه رأس كلّ خطيئة. و قرأ يعقوب و حفص: و الرّجز بضمّ الراء. و هو لغة، كالذّكر.

وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ و لا تعط عطيّة مستكثرا. نهي عن الاستغزار، و هو أن يهب شيئا و هو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب. و منه:

الحديث: «المستغزر يثاب من هبته».

و فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون نهيا خاصّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ اللّه اختار له أشرف الآداب و أحسن الأخلاق. و هذا مرويّ عن ابن عبّاس، و قتادة، و مجاهد، و الضحّاك، و النخعي.

و الثاني: أن يكون نهي تنزيه لا تحريم له و لأمّته.

و قال الحسن و الربيع بن أنس: معناه: لا تمنن حسناتك على اللّه تعالى مستكثرا، أي: رائيا لها كثيرا، فينقصك ذلك عند اللّه.

و عن ابن زيد: لا تمنن ما أعطاك اللّه من النبوّة و القرآن، مستكثرا به الأجر من الناس لأجل التبليغ.

و عن أبي مسلم: هذا نهي عن الربا المحرّم.

و قيل: لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيته، فإنّ المنّ يكدّر الصنيعة.

وَ لِرَبِّكَ و لوجهه، أو أمره فَاصْبِرْ فاستعمل الصبر. أو فاصبر على مشاقّ التكاليف و أذى المشركين. و عن النخعي: فاصبر على عطيّتك. كأنّه وصله بما قبله، و جعله صبرا على العطاء من غير استكثار.

فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ في الصور. فاعول من النقر بمعنى التصويت. و أصله:

القرع الّذي هو سبب الصوت. و اختلف في أنّها النفخة الأولى الّتي هي أوّل الشدّة

ص: 236

الهائلة العامّة، أم الثانية الّتي عندها يحيي اللّه الخلق جميعا يوم القيامة، و تسمّى صيحة الساعة. و الفاء للسببيّة، كأنّه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم نفخ الصور الّذي يلقون في يومه عاقبة أمرهم، و تلقى عاقبة صبرك عليه.

و «إذا» ظرف لما دلّ عليه قوله: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الْكافِرِينَ فإنّ معناه: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين. و «ذلك» إشارة إلى وقت النقر. و هو مبتدأ، خبره «يوم عسير». و «يومئذ» بدله. كأنّه قيل: فيوم النقر يوم عسير. أو ظرف لخبره، إذ التقدير: فذلك الوقت وقت وقوع يوم عسير. غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيد يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه، و يشعر بيسره على المؤمنين، ليجمع بين وعيد الكافرين و زيادة غيظهم، و بشارة المؤمنين و تسليتهم.

و يجوز أن يراد أنّه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسّر العسير من أمور الدنيا.

[سورة المدثر [74]: الآيات 11 الى 30]

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [11] وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً [12] وَ بَنِينَ شُهُوداً [13] وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً [14] ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ [15]

كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً [16] سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [17] إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ [18] فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ [19] ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ [20]

ثُمَّ نَظَرَ [21] ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ [22] ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ [23] فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ [24] إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [25]

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [26] وَ ما

ص: 237

أَدْراكَ ما سَقَرُ [27] لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ [28] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [29] عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [30]

و روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزل عليه حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ (1) قام إلى المسجد و الوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلمّا فطن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية.

فانطلق الوليد حتّى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: و اللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ، و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة (2)، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق (3)، و إنّه ليعلو و ما يعلى. ثمّ انصرف إلى منزله.

فقالت قريش: صبأ (4) و اللّه الوليد، و اللّه لتصبأنّ قريش كلّهم. و كان يقال للوليد: ريحانة قريش.

فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه. فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا.

فقال له: مالي أراك حزينا يا ابن أخي؟

قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك، فيزعمون أنّك زيّنت كلام محمد.

فقام مع أبي جهل حتّى أتى مجلس قومه فقال: تزعمون أنّ محمّدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟

قالوا: اللّهمّ لا.

ص: 238


1- غافر: 1- 3.
2- الطلاوة: الحسن و البهجة.
3- غدق المكان: ابتلّ بالغدق و خصب. و الغدق: الماء الكثير.
4- أي: خرج من دين إلى دين آخر.

قال: تزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟

قالوا: اللّهمّ لا.

قال: تزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قطّ؟

قالوا: اللّهمّ لا.

قال: أ تزعمون أنّه كذّاب؟ فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟

قالوا: اللّهمّ لا. و كان يسمّى الصادق الأمين قبل النبوّة من صدقه.

فقالت قريش للوليد: فما هو؟

فتفكّر في نفسه ثمّ نظر و عبس فقال: ما هو إلّا ساحر. أما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله و ولده و مواليه، فهو ساحر. و ما الّذي يقوله إلّا سحر يأثره عن مسيلمة و عن أهل بابل. ففرحوا بقوله. فقال سبحانه تهديدا للوليد:

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً

حال من الياء، أي: ذرني وحدي معه، فإنّي أجزيك في الانتقام منه عن كلّ منتقم، فأكفيكه. أو من التاء، أي: و من خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو من العائد المحذوف، أي: من خلقته فريدا لا مال له و لا ولد، فإنّه كان ملقّبا بالوحيد، فسمّاه اللّه به تهكّما، و تغييرا له عن الغرض الّذي كانوا يؤمّونه- من مدحه و الثناء عليه بأنّه وحيد قومه، لرئاسته و يساره و تقدّمه في الدنيا- إلى وجه الذمّ و العيب، و هو أنّه خلق وحيدا لا مال له و لا ولد، فآتاه اللّه ذلك، فكفر بنعمة اللّه و أشرك به، و استهزأ بدينه. أو أراد أنّه وحيد و لكن في الشرارة، أو عن أبيه، لأنّه كان زنيما (1).

وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا، أو ممدّا بالنماء. من: مدّ النهر و مدّ نهره آخر. قيل: كان له الضرع و الزرع و التجارة. و عن ابن عبّاس: هو ما كان له بين مكّة و الطائف من صنوف الأموال. و قيل: الممدود الكثير الّذي لا تنقطع غلّته عنه

ص: 239


1- الزنيم: الدعيّ، أي: اللاحق بقوم ليس منهم.

سنة حتّى يدرك غلّة سنة أخرى، فهو ممدود على الأيّام. و كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا و شتاء، و ما بين مكّة إلى الطائف من الإبل المؤبّلة (1)، و الخيل المسوّمة، و النعم المرحّلة (2)، و المستغلّات الّتي لا تنقطع غلّتها، و الجواري و العبيد، و العين الكثيرة. و عن مجاهد: كان له مائة ألف دينار. و قيل: ألف ألف.

وَ بَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكّة يتمتّع بلقائهم و يستأنس بهم، لا يشتغل قلبه بغيبتهم، و لا يحزن لفراقهم. و لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش، لأنّهم مكفيّون، لوفور نعمة أبيهم، فاستغنوا عن التكسّب و طلب المعاش بأنفسهم. و لا يحتاج هو أن يرسلهم في مصالحه، لكثرة خدمه. أو يشهدون معه في المحافل و المجامع، لوجاهتهم و اعتبارهم. أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه.

و عن مجاهد: كان له عشرة بنين. و قيل: ثلاثة عشر. و قال مقاتل: سبعة:

الوليد بن الوليد، و خالد، و عمارة، و هشام، و العاص، و قيس، و عبد شمس. أسلم منهم ثلاثة: خالد، و هشام، و عمارة.

وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً و بسطت له الرئاسة و الجاه العريض. و منه قولهم: أدام اللّه تأييدك و تمهيدك، يريدون زيادة الجاه و الحشمة. و كان الوليد من وجهاء قريش و صناديدهم، و لذلك لقّب ريحانة قريش و الوحيد بسبب استحقاق الرئاسة و التقدّم.

ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ على ما أعطيته. و هو استبعاد و استنكار لطمعه، إمّا لأنّه لا مزيد على ما أوتي سعة و كثرة، أو لأنّه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم و معاندة المنعم. و قيل: إنّه كان يقول: إن كان محمّد صادقا فما خلقت الجنّة إلّا لي.

و لذلك قال: كَلَّا ردعا له عن الطمع و قطع رجائه. ثمّ علّل الردع على سبيل الاستئناف بقوله: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي: عاند آيات المنعم و كفّر بذلك نعمته،

ص: 240


1- أي: المتّخذة و المقتناة، أو المجتمعة.
2- المرحّل من النعم: الّذي شدّ عليه الرّحل.

و الكافر لا يستحقّ المزيد. روي: أنّه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله حتّى هلك.

سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقّة المصعد. و هو مثل لما يلقى من الشدائد الّتي لا يطاق. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي فيه كذلك أبدا».

و عنه أيضا: «يكلّف أن يصعد عقبة من النار كلّما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، و إذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت».

و عن الكلبي: هو جبل من صخرة ملساء في النار يكلّف أن يصعدها، حتّى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، تمّ يكلّف أن يصعدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، و يضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة.

ثمّ علّل للوعيد المذكور، أو بيّن عناده و وصف أشكاله الّتي تشكّل بها بقوله:

إِنَّهُ فَكَّرَ فيما يخيّل طعنا في القرآن وَ قَدَّرَ في نفسه ما يقول فيه و هيّأه فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تقديره استهزاء به. أو لأنّه أصاب أقصى ما يمكن أن يقال عليه. من قولهم: قتله اللّه ما أشجعه، أي: بلغ في الشجاعة مبلغا يحقّ بأن يحسد و يدعو عليه حاسده بذلك. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة. و «ثمّ» للدلالة على أنّ الثانية أبلغ من الأولى. و فيما بعد على أصلها الّذي هو العطف، أعني: قوله: ثُمَّ نَظَرَ معطوفا على «قدّر». و الدعاء اعتراض بينهما، أي: نظر في أمر القرآن مرّة أخرى.

ثُمَّ عَبَسَ قطّب وجهه لمّا لم يجد فيه مطعنا و لم يدر ما يقول. أو نظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قطّب في وجهه. وَ بَسَرَ لم يقل: ثمّ بسر، لأنّه جار مجرى التأكيد من المؤكّد، لأنّه إتباع ل «عبس» ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحقّ، أو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اسْتَكْبَرَ عن اتّباعه فَقالَ إِنْ هذا ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى

ص: 241

و يتعلّم. و قيل: معناه: تؤثره النفوس و تختاره لحلاوته فيها. و الفاء للدلالة على أنّه لمّا خطرت هذه الكلمة بباله تفوّه بها من غير تلبّث و تفكّر.

إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكيد للجملة الأولى، و لهذا لم يعطف عليها. و لو كان القرآن سحرا أو من كلام البشر- كما قاله الملعون- لأمكن السحرة أن يأتوا بمثله، أو قدر قريش مع فصاحتهم على الإتيان بسورة مثله.

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ سأدخله جهنّم. هذا بدل من «سأرهقه». وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ تفخيم لشأنها. و قوله: لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ بيان لذلك، أو حال من «سقر».

و العامل فيها معنى التعظيم. و المعنى: لا تبقي شيئا يلقى فيها إلّا أهلكته، و إذا هلك لم تذره هالكا حتّى يعاد. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ مسودّة لأعالي الجلد. قيل: تلفح (1) الجلد لفحة فتدعه أشدّ سوادا من الليل. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي: يلي أمرها و يتسلّط على أهلها تسعة عشر ملكا. و قيل: صنفا من الملائكة.

قال فخر الدين الرازي: «الوجه في تخصيص هذا العدد أنّ اختلال النفوس البشريّة في النظر و العمل بسبب القوى الحيوانيّة. و هي تسعة عشر: خمس هي الحواسّ الظاهرة، و خمس هي الحواسّ الباطنة، و اثنتان: الغضبيّة و الشهويّة، و سبعة هي القوى الطبيعيّة، و هي: الجاذبة، و الماسكة، و الهاضمة، و الدافعة، و الغاذية، و النامية، و المولّدة. و مجموعها تسعة عشر. و هي الزبانية الواقعة على باب جهنّم البدن، و على وفق هذا العدد زبانية جهنّم الآخرة» (2).

و قال بعضهم: إنّ لجهنّم سبع دركات، ستّ منها لأصناف الكفّار، و كلّ صنف يعذّب بترك الاعتقاد و الإقرار و العمل أنواعا من العذاب تناسبها، و على كلّ نوع ملك أو صنف يتولّاه. و واحدة لعصاة الأمّة، يعذّبون فيها بترك العمل تعذيبا يناسبه،

ص: 242


1- لفحت النار فلانا: أصابته و أحرقته.
2- التفسير الكبير 30: 203.

و يتولّاه ملك أو صنف. و لا يبعد أنّهم يعذّبون بعدد الركعات اليوميّة الّتي كانوا يتركونها.

و قيل: إنّ تسعة عشر جامع لأكثر القليل من العدد و أقلّ الكثير منه، لأنّ العدد آحاد و عشرات و مئات و ألوف، فأقلّ العشرات عشرة، و أكثر الآحاد تسعة. و اللّه أعلم.

[سورة المدثر [74]: الآيات 31 الى 37]

وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ [31] كَلاَّ وَ الْقَمَرِ [32] وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [33] وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [34] إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ [35]

نَذِيراً لِلْبَشَرِ [36] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [37]

روي: أنّه لمّا نزلت «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم؛ أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر، و أنتم الدّهم (1) الشجعان، أ فيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟! فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة

ص: 243


1- الدّهم: العدد الكثير.

على ظهري، و سبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين. فنزلت:

وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي: و ما جعلنا الموكّلين بالنار رجالا من جنسكم، بل ما جعلناهم إلّا ملائكة ليخالفوا جنس المعذّبين من الثقلين، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة و الرقّة، و لا يستروحون إليهم. و لأنّهم أقوى الخلق بأسا، و أشدّهم غضبا للّه، و أقواهم بطشا. و عن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنّم أكثر من ربيعة و مضر. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كأنّ أعينهم البرق، و كأنّ أفواههم الصياصي (1)، يجرّون أشعارهم، لأحدهم مثل قوّة الثقلين، يسوق أحدهم الأمّة و على رقبته جبل، فيرمي بهم في النار، و يرمي بالجبل عليهم».

وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: و ما جعلنا عددهم إلّا العدد الّذي اقتضى فتنتهم، أي: محنة و تشديدا لهم في التكليف، و هو التسعة عشر. فعبّر بالأثر- أعني: الفتنة- عن المؤثّر، أعني: تسعة عشر، فوضع «فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» موضع «تسعة عشر» تنبيها على أنّ الأثر لا ينفكّ منه. و افتتانهم به: استقلالهم، و استهزاؤهم به، و استبعادهم أن يتولّى هذا العدد القليل- الناقص واحدا من عقد العشرين- تعذيب أكثر الثقلين.

لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي: ليكتسبوا اليقين بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدق القرآن لمّا رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً بالإيمان به و إن خفي وجه الحكمة عليهم. كأنّه قيل: و لقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان أهل الكتاب، لأنّ عدّتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنّه منزل من اللّه. و لأجل ازدياد المؤمنين إيمانا، لتصديقهم بذلك كما صدّقوا بسائر ما أنزل، و لما رأوا من تسليم

ص: 244


1- الصياصي جمع الصيصية: الحصون.

أهل الكتاب و تصديقهم أنّه كذلك.

وَ لا يَرْتابَ و لئلّا يرتاب الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ أي: في ذلك.

و هو تأكيد للاستيقان و زيادة الإيمان، و نفي لما يعرض المتيقّن حيثما عراه شبهة، و تعريض بحال من عداهم. كأنّه قال: و لتخالف حالهم حال الشاكّين المرتابين من أهل النفاق و الكفر.

وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ و نفاق. فيكون إخبارا بمكّة عمّا سيكون في المدينة بعد الهجرة، كسائر الإخبارات بالغيوب. فالآية لا تخالف كون السورة مكّيّة.

وَ الْكافِرُونَ الجازمون في التكذيب. و اللام هاهنا لام العاقبة، أي: عاقبة أمر المنافقين و الكافرين أن يقولوا: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أيّ شي ء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ و المعنى: أيّ شي ء أراد بهذا العدد العجيب؟ و أيّ غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين و مرادهم إنكاره من أصله، و أنّه ليس من عند اللّه، و أنّه لو كان من عند اللّه لما جاء بهذا العدد الناقص.

كَذلِكَ مثل ذلك المذكور من الإضلال و الهدى يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني: يفعل فعلا حسنا مبنيّا على الحكمة و الصواب، فيراه المؤمنون حكمة و يذعنون له، لاعتقادهم أنّ أفعال اللّه كلّها حسنة و حكمة، فيزيدهم إيمانا، و ينكره الكافرون و يشكّون فيه، فيزيدهم كفرا و ضلالا، و أضاف الهدى و الضلال إلى نفسه، لأنّ سبب ذلك التكليف، و هو من جهته. كأنّه قال: يكلّف الخلق بهذه المحنة و الاختبار ليظهر الضلال و الهدى.

وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جموع خلقه، و ما عليه كلّ جند من العدد الخاصّ، بأن يكون بعضها على عقد كامل، و بعضها على عدد ناقص، و ما في اختصاص كلّ جند بعدده من الحكمة إِلَّا هُوَ إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات و الاطّلاع

ص: 245

على حقائقها و صفاتها، و ما يوجب اختصاص كلّ واحد منها بما يخصّه من كمّ و كيف و اعتبار و نسبة، فإنّه لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات و الأرضين، و أيّام السنة و الشهور، و البروج و الكواكب، و أعداد النصب و الحدود و الكفّارات و الصلوات في الشريعة إلّا هو.

و المعنى: و ما يعلم جنود ربّك لفرط كثرتها إلّا هو، فلا يعزّ عليه تتميم الخزنة عشرين، و لكن له في هذا العدد حكمة لا تعلمونها و هو يعلمها.

و قيل: هذا جواب لقول أبي جهل: أما لربّ محمّد أعوان إلّا تسعة عشر.

وَ ما هِيَ متّصل بوصف سقر. و هي ضميرها، أو ضمير الآيات الّتي ذكرت فيها، أو ضمير عدّة الزبانية أو السورة، أي: و ما سقر، أو و ما الآيات المذكورة، أو و ما عدّة الخزنة أو السورة. إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي: تذكرة لهم.

كَلَّا ردع لمن أنكرها، أو إنكار أن يتذكّر الكفّار بها وَ الْقَمَرِ أقسم به لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه و غروبه و مسيره و زيادته و نقصانه وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي (1): أدبر، ك: قبل بمعنى: أقبل. و قيل: هو من: دبر الليل النهار إذا خلفه.

و قرأ نافع و يعقوب و حمزة و حفص: إذ أدبر. وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أضاء و أنار.

إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ لإحدى البلايا و الدواهي الكبر. و إنّما جمع كبرى على كبر إلحاقا لفعلى بفعلة، تنزيلا للألف منزلة التاء، كما ألحقت قاصعاء بقاصعة فجمعت على قواصع، كأنّها جمع فاعلة. و معنى كونها إحداهنّ: أنّها من بينهنّ واحدة في العظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، و هي إحدى النساء.

و الجملة جواب القسم، أو تعليل ل «كلّا». و القسم معترض للتأكيد.

نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي: لإحدى الكبر إنذارا لهم. و نصبه بالتمييز، كما تقول:

هي إحدى النساء عفافا. و قيل: هي حال عمّا دلّت عليه الجملة، أي: كبرت منذرة.

ص: 246


1- هذا التفسير على قراءة: دبر.

لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بدل من «للبشر» أي: نذيرا للمتمكّنين من السبق إلى الخير و التخلّف عنه، الّذين إن شاؤا تقدّموا ففازوا، و إن شاؤا تأخّروا فهلكوا. أو «أن يتقدّم» في موضع الرفع بالابتداء، و «لمن شاء» خبر مقدّم عليه، كقولك: لمن توضّأ أن يصلّي. و معناه: لمن شاء التقدّم و السبق إلى الخير أو التأخّر و التخلّف عنه أن يتقدّم أو يتأخّر. و هو كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ (1).

و روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه قال: «كلّ من تقدّم إلى ولايتنا تأخّر عن سقر، و كلّ من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر».

[سورة المدثر [74]: الآيات 38 الى 56]

كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [38] إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ [39] فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ [40] عَنِ الْمُجْرِمِينَ [41] ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [42]

قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [43] وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [44] وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ [45] وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [46] حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ [47]

فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [48] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [49] كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ [50] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [51] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [52]

كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ

ص: 247


1- الكهف: 29.

[53] كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ [54] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [55] وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [56]

كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من طاعة أو معصية رَهِينَةٌ مرهونة عند اللّه غير مفكوك. مصدر، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنّه قال: كلّ نفس بما كسبت رهن، أي:

مرهونة محبوسة مطالبة. و لو كانت صفة لقيل: رهين، لمساواة فعيل بمعنى المفعول في التذكير و التأنيث.

إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنّهم فكّوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحقّ. و روي عن عليّ عليه السّلام أنّه فسّرهم بالأطفال، لأنّهم لا أعمال لهم يرتهنون بها.

و عن ابن عبّاس: هم الملائكة. و عن الباقر عليه السّلام: «هم نحن و شيعتنا».

فِي جَنَّاتٍ لا يكتنه وصفها. و هي حال من «أَصْحابَ الْيَمِينِ» أو من ضميرهم في قوله: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي: يسأل بعضهم بعضا حال كونهم ساكنين في جنّات عن حال المجرمين و عن ذنوبهم الّتي استحقّوا بها النار. أو يسألون غيرهم عن حالهم، كقولك: تداعيناه، أي: دعوناه.

و قوله: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بجوابه حكاية قول المسؤولين عنهم، لأنّ المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم و بين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقر قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلّا أنّ الكلام جي ء به على الحذف و الاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. فلا يقال: كيف طابق قوله: «ما سلككم» و هو سؤال للمجرمين قوله: «يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ» و هو سؤال عنهم، و إنّما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ و المراد بالصلاة الصلاة الواجبة كما لا يخفى.

ص: 248

وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ما يجب إعطاؤه من الزكوات و الأخماس و الكفّارات. و فيه دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، فإنّ الخوض هو الشروع في الباطل و ما لا ينبغي.

وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أخّره لتعظيمه، أي: و كنّا بعد ذلك كلّه مكذّبين بالقيامة، كقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا (1) الآية.

حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ الموت و مقدّماته. و الغرض من هذا التساؤل- مع أنّ المؤمنين عالمون بذلك- توبيخ لهم و تحسير. و أيضا ليكون حكاية ذلك في كتابه تذكرة للسامعين.

فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لو شفعوا لهم جميعا من الملائكة و النبيّين و غيرهم، لأنّ الشفاعة لمن ارتضاه، و هم مسخوط عليهم، فما تنفعهم شفاعة الملك و الجنّ و الإنس كما نفعت الموحّدين. و قد صحّت الرواية عن عبد اللّه بن مسعود قال: يشفع نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رابع أربعة: جبرئيل، ثمّ إبراهيم، ثمّ موسى أو عيسى، ثمّ نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا يشفع أحد أكثر ممّا يشفع فيه نبيّكم، ثمّ النبيّون، ثمّ الصدّيقون، ثمّ الشهداء. و يبقى قوم في جهنّم فيقال لهم: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» إلى قوله: «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ». قال ابن مسعود: فهؤلاء الّذين يبقون في جهنّم.

و عن الحسن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يقول الرجل من أهل الجنّة يوم القيامة: أي ربّ عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفّعني فيه. فيقول:

اذهب فأخرجه من النار. فيذهب فيتجسّس في النار حتّى يخرجه منها».

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ من أمّتي سيدخل اللّه بشفاعته الجنّة أكثر من مضر».

فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي: معرضين عن التذكير، و هو العظة.

ص: 249


1- البلد: 17.

يعني: القرآن، أو ما يعمّه من المواعظ. و «معرضين» حال، كقولك: مالك قائما.

و المعنى: لا شي ء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن و نفروا عنه.

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ شديدة النفار، كأنّها تطلب النفار من نفوسها في جمعها للنفار و حملها عليه. و قرأ ابن عامر بفتح الفاء. و المعنى: يطلب منها النفار.

فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ شبّههم في إعراضهم و نفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة فرّت من قسورة، أي: أسد. فعولة من القسر، و هو القهر و الغلبة. و في وزنه حيدرة من أسماء الأسد. و عن الضحّاك و مجاهد: القسورة الرماة الّذين يتصيّدونها.

و في تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة، و تهجين لحالهم بيّن، كما في قوله:

كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (1) و شهادة عليهم بالبله و قلّة العقل. و لا ترى مثل نفار حمير الوحش و اطّرادها في العدو إذا رابها رائب، و لذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل و شدّة سيرها بالحمر و عدوها إذا وردت ماء حال شدّة العطش.

روي: أنّهم اقترحوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنادا: لن نتّبعك حتّى تأتي كلّا منّا بكتب من السماء عنوانها: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان اتّبع محمدا. فنزلت:

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً

قراطيس تنشر و تقرأ، كالكتب الّتي يتكاتب بها. أو كتبا كتبت في السماء، و نزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشّرة على أيديها، غضّة رطبة لم تطو بعد. و نحوه قوله تعالى: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ (2). و قوله: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ (3) الآية.

و قيل: قالوا: إن كان محمد صادقا فلتصبح عند رأس كلّ رجل منّا صحيفة

ص: 250


1- الجمعة: 5.
2- الإسراء: 93.
3- الأنعام: 7.

فيها براءته و أمنه من النار.

و قيل: كانوا يقولون: بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه و كفّارته، فأتنا بمثل ذلك. و هذا من الصحف المنشّرة بمعزل، إلّا أن يراد بالصحف المنشّرة الكتابات الظاهرة المكشوفة.

كَلَّا ردع عن اقتراحهم الآيات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة، لا لامتناع إيتاء الصحف.

كَلَّا ردع عن إعراضهم عن التذكرة إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ و أيّ تذكرة، أي: تذكرة بليغة كافية. و الضمير للتذكرة. و تذكيره لأنّها في معنى التذكير و الذكر. أو القرآن.

فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فمن شاء أن يذكره و يجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه.

وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ذكرهم، بأن يقسرهم على الذكر و يلجئهم إليه، لأنّهم مطبوع على قلوبهم، معلوم للّه تعالى أنّهم لا يؤمنون اختيارا.

و قيل: معناه: إلّا أن يشاء اللّه من حيث أمر به و نهى عن تركه، و وعد الثواب على فعله، و أوعد العقاب إن لم يفعله، فكانت مشيئته سابقة، أي: لا تشاءون إلّا و اللّه قد شاء ذلك. و قرأ نافع: تذكرون بالتاء.

هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتّقيه عباده، و يخافوا عقابه، فيؤمنوا و يطيعوا وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا و أطاعوا.

و روي مرفوعا عن أنس قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلا هذه الآية فقال: «قال اللّه سبحانه: أنا أهل أن اتّقى فلا يجعل معي إله، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له».

و قيل: معناه: هو أهل أن يتّقى عقابه، و أهل أن يعمل له بما يؤدّي مغفرته.

ص: 251

ص: 252

[75] سورة القيامة

اشارة

مكّيّة. و هي أربعون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة القيامة شهدت أنا و جبرئيل له يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بيوم القيامة، و جاء و وجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أدمن قراءة لا أقسم، و كان يعمل بها، بعثها اللّه يوم القيامة معه في قبره في أحسن صورة، تبشّره و تضحك في وجهه حتّى يجوز الصراط و الميزان».

[سورة القيامة [75]: الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [1] وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [2] أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [3] بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [4]

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [5] يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [6] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ [7] وَ خَسَفَ الْقَمَرُ [8] وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ [9] يَقُولُ

ص: 253

الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ [10] كَلاَّ لا وَزَرَ [11] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [12] يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ [13] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [14]

وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ [15]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المدّثّر بذكر القيامة و أنّ الكافر لا يؤمن بها، افتتح هذه السورة بذكر القيامة و ذكر أهوالها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قد شاع في كلام العرب إدخال «لا» النافية على فعل القسم للتأكيد.

و قيل: «لا» ردّ على الّذين أنكروا البعث و النشور، فكأنّه قال: لا كما تظنّون، ثمّ ابتدأ القسم فقال: أقسم بيوم القيامة إنّكم مبعوثون.

و قيل: معناه: لا أقسم بيوم القيامة، لظهورها بالدلائل العقليّة و السمعيّة. و قد سبق الكلام في ذلك في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (1).

و قرأ قنبل: لأقسم بغير ألف بعد اللام. و كذلك روي عن البزّي، على أنّ اللام لتأكيد القسم، أو على تقدير: لأنا أقسم، فخفّف.

وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ بالنفس المتّقية الّتي تلوم النفوس المقصّرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها. أو النفس الّتي تلوم نفسها في الدنيا و تقول له:

ماذا فعلت؟ و لم قصّرت؟ و إن اجتهدت في الطاعة، فتكون مفكّرة في العواقب أبدا، و الفاجر لا يفكّر في أمر الآخرة. أو النفس المطمئنّة اللائمة للنفس الأمّارة. أو بالجنس، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ليس من نفس برّة و لا فاجرة إلّا و تلوم نفسها

ص: 254


1- الواقعة: 75.

يوم القيامة، إن عملت خيرا قالت: كيف لم أزدد، و إن عملت شرّا قالت: ليتني لم أفعل».

أو نفس آدم عليه السّلام، فإنّها لم تزل تتلوّم على ما خرجت به من الجنّة. و ضمّها إلى يوم القيامة، لأنّ المقصود من إقامتها مجازاتها.

و جواب القسم محذوف، تقديره: إنّكم تبعثون، أو لتبعثنّ. و يدلّ على حذفه قوله: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ صورته الاستفهام، و معناه الإنكار. و المراد الجنس.

و إسناد الفعل إليه لأنّ فيهم من يحسب. أو الّذي نزل فيه، لما

روي أنّ عديّ بن أبي ربيعة ختن (1) الأخنس بن شريق- و هما اللّذان كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول فيهما:

اللّهمّ اكفني جاري السّوء- سال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أمر القيامة، و قال: يا محمّد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون و كيف أمره؟ فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك يا محمد، و لم أرض به أو يجمع اللّه العظام. فنزلت فيه «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ».

أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد تفرّقها، أي: لن نعيده إلى ما كان أوّلا عليه خلقا جديدا بعد أن صار رفاتا مختلطا بالتراب، و بعد ما سفّتها الرياح و طيّرتها في أباعد الأرض. فكنّى عن البعث بجمع العظام.

بَلى إيجاب بعد النفي، و هو الجمع. فكأنّه قال: بلى نجمعها. قادِرِينَ حال من فاعل الفعل الّذي قدّرناه بعد «بلى» عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بجمع سلامياته (2)، و ضمّ بعضها إلى بعض كما كانت أوّلا، مع صغرها و لطافتها، فكيف بكبار العظام؟! أو على أن نسوّي بنانه. أي: أصابعه الّتي هي أطرافه، و آخر ما يتمّ به خلقه.

و عن ابن عبّاس و قتادة معناه: بلى نجمعها و نحن قادرون على أن نسوّي أصابع يديه و رجليه، أي: نجعلها مستوية شيئا واحدا، كخفّ البعير و حافر الحمير،

ص: 255


1- الختن: زوج الابنة، أو كلّ من كان من قبل المرأة مثل الأب و الأخ.
2- السلاميات جمع السلامى: كلّ عظم مجوّف من صغار العظام، مثل عظام الأصابع.

لا نفرّق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا ممّا يعمل بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل و الأنامل، من فنون الأعمال و القبض و البسط و التأتّي لما يريد من الحوائج، و لكنّا مننّا عليه بالأنامل ليكمل بها المنفعة، و يتهيّأ له القبض و البسط و الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة و غيرها.

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ عطف على «أ يحسب». فيجوز أن يكون مثله استفهاما، و أن يكون إيجابا، على أن يكون للإضراب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو إلى موجبه. لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، و فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه.

و عن سعيد بن جبير: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة، يقول: سوف أتوب سوف أتوب، حتّى يأتيه الموت على شرّ أحواله و أسوأ أعماله.

يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ استبعادا لقيام الساعة. أو استهزاء. و نحوه:

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ (1).

ثمّ قال سبحانه ردّا عليه: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحيّر فزعا. من: برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. و قرأ نافع بالفتح. و هو لغة. أو من البريق. يعني:

لمع من شدّة شخوصه. وَ خَسَفَ الْقَمَرُ و ذهب ضوؤه، أو ذهب بنفسه وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ حيث يطلعهما اللّه من المغرب. و لا ينافيه الخسوف، فإنّه مستعار للمحاق.

و قيل: و جمعا في ذهاب الضوء. و قيل: يجمعان أسودين مكوّرين (2)، كأنّهما ثوران عقيران (3) في النار. و قيل: يجمعان ثمّ يقذفان في البحر، فيكون نار اللّه

ص: 256


1- الملك: 25.
2- كوّرت الشمس: جمع ضوؤها و لفّ كما تلفّ العمامة، أو اضمحلّت و ذهبت.
3- أي: معقوران قطعت قوائمهما بالسيف.

الكبرى.

و لمن حمل ذلك على أمارات الموت أن يفسّر الخسوف بذهاب ضوء البصر، و الجمع باستتباع الروح- الّتي هي بمنزلة القمر- الحاسّة- الّتي هي بمنزلة الشمس- في الذهاب. أو بوصوله إلى من كان يقتبس منه نور العقل من سكّان القدس.

و تذكير الفعل لتقدّمه، و تغليب المعطوف.

يَقُولُ الْإِنْسانُ المكذّب بالقيامة يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أين الفرار؟ أو مكان الفرار. و قال الزجّاج: المفرّ بالفتح: الفرار، و المفرّ بالكسر: مكان الفرار. و المعنى:

يقول ذلك قول الآيس من وجدانه المتمنّي.

كَلَّا ردع عن طلب المفرّ لا وَزَرَ لا ملجأ و لا مهرب لهم. و كلّ ما التجأت إليه من جبل أو غيره و تخلّصت به فهو وزرك. و منه: الوزير الّذي يلجأ إليه في الأمور. و اشتقاقه من الوزر، و هو الثقل.

إِلى رَبِّكَ إليه وحده يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ استقرار العباد، أي: لا يقدرون أن يستقرّوا إلى غيره. أو إلى حكمه استقرار أمرهم، لا يحكم فيها غيره، كقوله:

لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ (1). أو إلى مشيئته موضع قرارهم من جنّة أو نار، فيدخل من يشاء الجنّة و من يشاء النار، على وفق حكمته.

يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ بما قدّم من عمل عمله، و بما أخّر منه لم يعمله. أو بما قدّم من عمل الخير و الشرّ، و بما أخّر من سنّة حسنة أو سيّئة عمل بها بعده. أو بما قدّم من مال تصدّق به، و بما أخّر فخلّفه. و عن ابن عبّاس: بما قدّم من المعاصي، و بما أخّر من الطاعات. و عن مجاهد: بأوّل عمله و آخره. و نحوه:

فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ (2).

ص: 257


1- غافر: 16.
2- المجادلة: 6.

بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ حجّة بيّنة على أعمالها، لأنّه شاهد بها. وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله:

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً (1). أو عين بصيرة بها، فلا يحتاج إلى الإنباء، لأنّه شاهد عليها بما عملت، لأنّ جوارحه تنطق بذلك: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (2). فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يسرّ سيّئا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و اللّه سبحانه يقول: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية».

و عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية ثمّ قال: «ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس خلاف ما يعلم اللّه منه؟».

و عن زرارة سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: «ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال:

«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ».

وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ و لو جاء بكلّ ما يمكن أن يعتذر به لمن ينفعه ذلك.

جمع معذار، و هو العذر. أو جمع معذرة على غير قياس، فإنّ قياسه: معاذر. أو ليس بجمع معذرة، و إنّما هو اسم جمع لها. و نحوه: المناكير في المنكر. و عن الضحّاك:

و لو أرخى ستوره. و قال: المعاذير الستور، واحدها معذار. و هي لغة طائيّة، لأنّه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. و المعنى على هذا القول: و إن أسبل الستور ليخفي ما يعمل، فإنّ نفسه شاهدة.

ص: 258


1- النمل: 13.
2- النور: 24.

[سورة القيامة [75]: الآيات 16 الى 21]

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [16] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [17] فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [18] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [19] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [20]

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ [21]

عن ابن عبّاس: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه، و لم يصبر إلى أن يتمّه جبرئيل، لحبّه إيّاه، و حرصه على أخذه و ضبطه مخافة أن ينفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه و سمعه، حتّى يقضى إليه وحيه، ثمّ يقفّيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه، فقال:

لا تُحَرِّكْ بِهِ

بالقرآن لِسانَكَ قبل أن يتمّ وحيه لِتَعْجَلَ بِهِ لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ معاذيرك في هذا غير مسموعة، لأنّ نفسك بصيرة على أنّ علينا أن نؤيّدك في حفظ القرآن، و نحفظك أن ينفلت منك شي ء منه.

ثمّ قال معلّلا للنهي عن العجلة و الاعتذار فيها بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك حتّى تحفظه وَ قُرْآنَهُ و إثبات قراءته في لسانك، فلا تخف فوت شي ء منه.

فَإِذا قَرَأْناهُ بلسان جبرئيل عليك فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قراءته مقفّيا له فيها.

و طمأن نفسك أنّه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ بيان ما أشكل عليك شي ء من معانيه. كأنّه كان يعجل في الحفظ و السؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحراص على العلم. و نحوه:

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (1).

عن ابن عبّاس قال: كان

ص: 259


1- طه: 114.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد هذا إذا نزل عليه جبرئيل أطرق، فإذا ذهب قرأ.

و هو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، و اعتراض بما هو تأكيد للتوبيخ على حبّ العجلة، لأنّ العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهمّ الأمور الدينيّة، ففي الأمور الدنياويّة الموجبة لترك الاهتمام بالآخرة بطريق الأولى.

كَلَّا ردع للرسول عن عادة العجلة، و إنكار لها عليه، و حثّ على الأناة و التؤدة. و قد بالغ في ذلك بإتباعه قوله: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ فعمّم الخطاب إشعارا بأنّ بني آدم لفرط عجلتهم كأنّهم مطبوعون على الاستعجال. و المعنى: بل أنتم يا بني آدم تعجلون في كلّ شي ء، و من ثمّ تحبّون العاجلة.

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ فتعملون للدنيا لا للآخرة، جهلا منكم. و قيل: «كلّا» ردع للإنسان المذكور في صدر السورة عن الاغترار بالعاجل. و المراد به الجنس. فجمع الضمير للمعنى. و يؤيّده قراءة ابن كثير و ابن عامر و البصريّين بالياء في الفعلين. و المعنى: لا تتدبّرون القرآن و ما فيه من البيان، بل تحبّون الدنيا الدنيّة السريعة الزوال، و تذرون الآخرة الّتي هي دار القرار من غير زوال و لا انتقال.

[سورة القيامة [75]: الآيات 22 الى 40]

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [22] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [23] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [24] تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [25] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [26]

وَ قِيلَ مَنْ راقٍ [27] وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ [28] وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [29] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [30] فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى [31]

ص: 260

وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى [32] ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى [33] أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [34] ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [35] أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [36]

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [37] ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى [38] فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [39] أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [40]

ثمّ بيّن سبحانه حال الناس في الآخرة، فقال: وُجُوهٌ أي: وجوه المؤمنين المستحقّين للثواب. و المراد أنفسهم، تسمية الكلّ باسم أشرف أجزائه.

و يسمّونه أيضا بالرأس و الرقبة. يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ناعمة بهيّة متهلّلة من نضرة النعيم.

إِلى رَبِّها أي: إلى رحمته و نعيم جنّته ناظِرَةٌ بحيث تغفل عمّا سواها، و لذلك قدّم المفعول. روي ذلك التفسير عن جماعة من علماء المفسّرين من الصحابة و التابعين. فحذف المضاف في «ربّها» و أقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله: وَ جاءَ رَبُّكَ (1) أي: أمر ربّك.

و قيل: معنى الناظرة: المنتظرة و المتوقّعة. من قولهم: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقّع و الرجاء. فالمعنى: أنّهم لا يتوقّعون النعمة و الكرامة إلّا من ربّهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون و لا يرجون إلّا اللّه.

ص: 261


1- الفجر: 22.

و هذا المعنى مرويّ عن مجاهد و الحسن و سعيد بن جبير و الضحّاك. و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام.

و ما قيل: إنّ النظر بمعنى الانتظار لا يدعى ب «إلى». يأباه قول شعرائهم في أشعارهم. و كفى في ردّ هذا القول قول أكابر الصحابة- الّذين من جملتهم الامام المعصوم عليه السّلام- أنّ معنى ناظرة: منتظرة.

و قيل: «إلى» اسم، و هو واحد الآلاء الّتي هي النعم. و المعنى: نعمة ربّها ناظرة.

و لا يجوز أن يكون المعنى: تنظر إلى ربّها خاصّة لا تنظر إلى غيره، على مقتضى تقديم المفعول، كما في قوله: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (1) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (2). أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (3). وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (4). عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (5). و كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص؟ فإنّه معلوم أنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، من أنواع نعم الجنّة، و مشاهدتهم المعذّبين في النار. فالاختصاص بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على المعنيين الأوّلين.

و أيضا كلّ منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة و اللحاظ، و اللّه تعالى منزّه عن أن يشار إليه بالعين، كما جلّ سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع.

و أيضا الرؤية بالحاسّة لا تتمّ إلّا بالمقابلة و التوجّه، و اللّه يتعالى عن

ص: 262


1- القيامة: 12.
2- القيامة: 30.
3- الشورى: 53.
4- البقرة: 245.
5- هود: 88.

ذلك بالاتّفاق.

و أيضا فإنّ رؤية الحاسّة لا تتمّ إلّا باتّصال الشعاع بالمرئيّ، و اللّه منزّه عن اتّصال الشعاع به. على أنّ النظر لا يفيد الرؤية في اللغة، فإنّه إذا علّق بالعين أفاد طلب الرؤية، كما أنّه إذا علّق بالقلب أفاد طلب المعرفة، بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول متناقضا. و قولهم: ما زلت أنظر إليه حتّى رأيته. و الشي ء لا يجعل غاية لنفسه، فلا يقال: ما زلت أراه حتّى رأيته.

و لأنّا نعلم الناظر ناظرا بالضرورة، و لا نعلمه رائيا بالضرورة، بدلالة أنّا نسأله: هل رأيت أم لا؟

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ شديدة العبوس. و الباسل أبلغ من الباسر، لكنّه غلب في الشجاع إذا اشتدّ كلوحه (1).

تَظُنُ تتوقّع أربابها أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ داهية تكسر فقار الظهر، كما توقّعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كلّ خير.

كَلَّا ردّ عن إيثار الدنيا على الآخرة. كأنّه قيل: ارتدّوا عن حبّ الدنيا و اختيارها على الآخرة، و تنبّهوا على ما بين أيديكم من الموت الّذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، و تنتقلون إلى الآجلة الّتي تبقون فيها مخلّدين. فذكّرهم صعوبة الموت الّذي هو أوّل مراحل الآخرة، فقال: إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ إذا بلغت النفس العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين و شمال. و المراد أعالي الصدر. و إضمارها من غير ذكر لدلالة الكلام عليها.

وَ قِيلَ مَنْ راقٍ أي: قال من حضر المحتضر من أهله بعضهم لبعض: من يرقيه و يداويه من طبيب شاف ما به من الرقية؟ أو قال ملائكة الموت: أيّكم يرقى بروحه؟ ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ من الرقيّ.

ص: 263


1- كلح وجهه كلوحا: عبس و تكشّر.

وَ ظَنَ و علم المحتضر أَنَّهُ الْفِراقُ أنّ الّذي نزل به فراق الدنيا المحبوبة من أجل الأهل و الولد و المال. و جاء في الحديث: «أنّ العبد ليعالج كرب الموت و سكراته، و مفاصله يسلّم بعضها على بعض و يقول: عليك السّلام تفارقني و أفارقك إلى يوم القيامة».

وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ و التوت ساقه بساقه عند علز الموت (1)، فلا يزال يمدّ إحدى رجليه و يرسل الأخرى، و يلفّ إحداهما بالأخرى، فلا يقدر على تحريكهما.

و قال قتادة: ماتت رجلاه فلا تحملانه، و قد كان عليهما جوّالا.

و عن ابن عبّاس: التوت شدّة فراق الدنيا بشدّة خوف الآخرة، فإنّ الساق مثل في الشدّة.

و عن سعيد بن المسيّب: هما ساقاه حين تلفّان في أكفانه.

إِلى رَبِّكَ إلى حكمه يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ سوقه، أو موضع سوقه. و قيل:

يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر اللّه تعالى به، إن كان من أهل الجنّة فإلى علّيّين، و إن كان من أهل النار فإلى سجّين.

فَلا صَدَّقَ ما يجب تصديقه، من التوحيد و الرسالة و البعث. أو فلا صدّق ماله، بمعنى: فلا زكّاه. وَ لا صَلَّى ما فرض عليه. و الضمير فيهما للإنسان المذكور في أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ (2). و قيل: نزلت في أبي جهل.

وَ لكِنْ كَذَّبَ باللّه و رسوله وَ تَوَلَّى عن الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر في مشيه افتخارا بذلك. من المطّ بمعنى المدّ، فإنّ المتبختر يمدّ خطاه. فيكون أصله: يتمطّط، بمعنى: يتمدّد. أو من المطا، و هو الظهر، فإنّه يلويه.

ص: 264


1- علز الموت: القلق و الهلع اللّذان يأخذان المحتضر، أو هو كالرعدة تأخذه.
2- القيامة: 36.

أَوْلى لَكَ فَأَوْلى بمعنى: ويل لك، فإنّه دعاء عليه بأن يليه ما يكره.

و أصله: أولاك اللّه ما تكرهه. و اللام مزيدة كما في رَدِفَ لَكُمْ (1). أو أولى لك الهلاك. و قيل: أفعل، من الويل بعد القلب، كأدنى من أدون. أو فعلى من: آل يئول، بمعنى: عقباك النار.

ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى يتكرّر ذلك عليك مرّة بعد اخرى. و قد جاءت الرواية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى . فقال أبو جهل: بأيّ شي ء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي. فأنزل اللّه سبحانه كما قال له رسول اللّه.

و قيل: معناه: أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر، فأولى لك في القبر، ثمّ أولى لك يوم القيامة، فأولى لك في النار. و أدخل «ثمّ» للتراخي بين الدنيا و الآخرة.

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ جنس الإنسان، أو أبو جهل أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مهملا لا يكلّف و لا يجازى. و الهمزة للإنكار، أي: لا ينبغي أن يظنّ ذلك. و هو يتضمّن تكرير إنكاره للحشر و الدلالة عليه، من حيث إنّ الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن و النهي عن القبائح، و التكليف لا يتحقّق إلّا بالمجازاة، و هي قد لا تكون في الدنيا، فتكون في الآخرة.

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى يصبّ في الرحم. و قرأ حفص: يمنى بالياء.

ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فقدّر و عدل خلقه و صورته و أعضاءه الباطنة و الظاهرة في بطن أمّه. و قيل: معناه: فسوّى بعد الولادة إنسانا كامل القوّة و الفطنة.

فَجَعَلَ مِنْهُ من المنيّ، أو من الإنسان الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى هذا استدلال آخر بالإبداء على الإعادة، فإنّه سبحانه أخبر أنّه لم يخلق

ص: 265


1- النمل: 72.

الإنسان من المنيّ، و لم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملا، بل لا بدّ من غرض في ذلك، و هو التعريض للثواب بالتكليف فيه، و لا يتصوّر الثواب و العوض إلّا في دار لا تكليف فيه، و هي الآخرة. و لذلك رتّب عليه قوله: أَ لَيْسَ ذلِكَ أي: ذلك الّذي أنشأ هذا الإنشاء بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي: على الإعادة.

عن البراء بن عازب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأها قال: «سبحانك بلى». و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و في الآية دلالة على صحّة القياس العقلي، فإنّه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى.

ص: 266

[76] سورة الإنسان

اشارة

و تسمّى سورة الدهر، و سورة الأبرار. و هي مدنيّة. و قيل: إنّها مدنيّة إلّا قوله:

وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (1) فإنّه مكّيّ. و قيل: مكّيّة كلّها. و قيل: إنّ قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (2) إلى آخر السورة مكّيّ، و الباقي مدنيّ. و الصحيح الأوّل، كما سنبيّنه إن شاء اللّه تعالى في أثناء السورة. و هي إحدى و ثلاثون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على اللّه تعالى جنّة و حريرا».

و قال أبو جعفر عليه السّلام: «من قرأ سورة هل أتى في كلّ غداة خميس، زوّجه اللّه من الحور العين مائة عذراء و أربعة آلاف ثيّب، و كان مع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الإنسان [76]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [1] إِنَّا

ص: 267


1- الإنسان: 24.
2- الإنسان: 23.

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [2] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً [3]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة القيامة بأن دلّ على صحّة البعث بخلق الإنسان من نطفة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ استفهام تقرير و تقريب، و لذلك فسّر ب «قد». و أصله: أهل، بدليل قوله: أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم (1).

فالمعنى: قد أتى على الإنسان، أي: أتى عليه قبل زمان قريب. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ طائفة محدودة من الزمان الممتدّ غير المحدود لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً بل كان شيئا منسيّا غير مذكور بالانسانيّة- كالعنصر و التراب و الطين- إلى أن نفخ فيه الروح.

و الجملة حال من «الإنسان» كأنّه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو وصف ل «حين» بحذف الراجع، تقديره: لم يكن شيئا مذكورا فيه.

و عن حمران بن أعين قال: سألنا الصادق عليه السّلام عنه فقال: «كان شيئا مقدورا، و لم يكن مكوّنا».

و عن سعيد الحدّاد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان مذكورا في العلم، و لم يكن مذكورا في الخلق».

و فيه دلالة على أنّ المعدوم معلوم و إن لم يكن مذكورا، و على أنّ المعدوم يسمّى شيئا. و المراد بالإنسان آدم عليه السّلام. و هو أوّل من سمّي به، فإنّه أتى عليه أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا، لا في السماء و لا في الأرض، بل كان جسدا ملقى من

ص: 268


1- لزيد الخيل الّذي سمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زيد الخير. و صدره: سائل فوارس يربوع بشدّتنا. و يربوع: أبو حيّ. و السفح: أصل الجبل المنسطح. و القاع: المستوي من الأرض. و الأكم: التلول المرتفعة. واحده: أكمة. و المعنى: راجعهم و اسألهم عن قوّتنا أهل ...

طين قبل أن ينفخ فيه الروح. و روى عطاء عن ابن عبّاس: أنّه تمّ خلقه بعد عشرين و مائة سنة.

فبيّن أوّلا خلقه، ثمّ ذكر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجملة المستأنفة لبيان كيفيّة خلقهم، فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي: جنس بني آدم مِنْ نُطْفَةٍ و قيل: المراد بالإنسان الأوّل أيضا الجنس. و المعنى: قد أتى عليه حين من الدهر قبل الولادة لا يعرف و لا يذكر بالإنسانيّة، بل كان عنصرا و ترابا و نباتا و نطفة. ثمّ فصّل و بيّن خلقه بقوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ». فوضع الظاهر موضع المضمر، للعناية بذكر اسمه صريحا في بيان كيفيّة خلقه. و هذا تقرير على ألطف الوجوه. فيقول: أيّها المنكر للصانع و قدرته أليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا ثمّ ذكرت؟ و كلّ واحد يعلم من نفسه أنّه لم يكن موجودا ثمّ وجد، فإذا تفكّر في ذلك علم أنّ له صانعا صنعه و محدثا أوجده.

و قيل: المراد بالإنسان الأوّل العلماء، لأنّهم كانوا لا يذكرون، فصيّرهم اللّه سبحانه بالعلم مذكورين بين الخاصّ و العامّ في حياتهم و بعد مماتهم.

و ورد في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أنّ المراد بالإنسان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،

على أنّ الاستفهام بمعنى النفي، أي: ما مرّ زمان على الإنسان أنّه ليس مذكورا فيه.

على معنى: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام مذكور في كلّ زمان، معروف عند كلّ قوم.

و يؤيّد ذلك ما

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا عليّ كنت مع الأنبياء سرّا، و معي جهرا». و كيف لا يكون مذكورا في جميع الأزمنة و الأحيان، و قد كتب اسمه مع اسم اللّه عزّ و جلّ و اسم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، على ساق العرش و على سرادقاته (1) و أستار الجنّة، قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بأربعة عشر ألف سنة. و في رواية اخرى: بأربعة و عشرين ألف سنة.

ص: 269


1- سرادقات جمع سرادق، و هي الخيمة، أو الفسطاط الّذي يمدّ فوق صحن البيت.

و قد ورد في الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «مكتوب على ساق العرش: لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه، أيّدته بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام و نصرته».

و ورد أيضا في تفسير الاماميّة: أنّ الدليل على صحّة ما ذكر أنّ المراد بالإنسان عليّ صلوات اللّه عليه، أنّ الألف و اللام في قوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» للعهد، فهو إشارة إلى الإنسان الأوّل. و لمّا ذكر أن الإنسان الثاني خلقه من نطفة، علم أنّ الإنسان الأوّل لا يكون المراد به آدم عليه السّلام، إذ ليس خلقه من النطفة.

و أيضا قد اشتهر غاية الشهرة عند المفسّرين أنّ هذه السورة نزلت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين، و سبب نزولها مذكور عند الخاصّ و العامّ، كما سنذكره إن شاء اللّه، فطريق المناسبة يقتضي أن تكون هذه السورة معنونة بذكر اسمه الشريف. فأراد سبحانه بالإنسان الأوّل عليّا عليه السّلام، ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة خلقه بقوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ».

أَمْشاجٍ أخلاط. جمع مشج أو مشيج. من: مشجت الشي ء إذا خلطته.

و وصف النطفة به، لأنّ المراد بها مجموع منيّ الرجل و المرأة، و كلّ واحد منهما مختلف الأجزاء في الرّقة و القوام و الخواصّ، و لذلك يصير كلّ جزء منهما مادّة عضو.

و قيل: مختلفة الألوان، فإنّ ماء الرجل أبيض، و ماء المرأة أصفر، فإذا اختلطا اخضرّا. و عن ابن عبّاس و الضحّاك و الكلبي و مجاهد: نطفة الرجل بيضاء و حمراء، و نطفة المرأة خضراء و صفراء، فهي مختلفة الألوان.

و قيل: مختلفة الأطوار، فإنّ النطفة تصير علقة ثمّ مضغة إلى تمام الخلقة.

و قيل: مفرد، كبرمة (1) أعشار و برد أكياش. و هما لفظان مفردان غير جمعين،

ص: 270


1- البرمة: القدر من الحجر. و الأعشار جمع العشر: القطعة من كلّ شي ء إذا جزّئ إلى عشر قطع. و لم يذكر أكياش في اللغة. و إنّما ذكره الزمخشري في الكشّاف 4: 666، و لعلّ المفسّر أخذه منه.

و لذلك وقعتا صفتين للمفردين.

و قوله: نَبْتَلِيهِ في موضع الحال، أي: مبتلين له، بمعنى: مريدين اختباره، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، تريد: قاصدا به الصيد غدا.

أو ناقلين له من حال إلى حال، فاستعير له الابتلاء. و عن ابن عبّاس: نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثمّ علقة.

فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ليتمكّن من مشاهدة الدلائل و استماع الآيات.

فهو كالمسبّب من الابتلاء، و لذلك عطف بالفاء على قوله: «نبتليه»، و رتّب عليه قوله:

إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي: بنصب الدلائل و إنزال الآيات إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً حالان من الهاء. و «إمّا» للتفصيل أو التقسيم، أي: مكّنّاه و أقدرناه في حالتيه جميعا. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلّة السمع و العقل، و قد كان معلوما منه أنّه يؤمن أو يكفر، لإلزام الحجّة. أو مقسوما إليهما، بعضهم شاكر بالاهتداء و الأخذ فيه، و بعضهم كفور بالإعراض عنه. أو من السبيل. و وصفه بالشكر و الكفر مجاز، أي: و عرّفناه السبيل، إمّا سبيلا شاكرا، و إمّا كفورا، كقوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (1).

و عن الزجّاج: معناه: ليختار إمّا السعادة و إمّا الشقاوة. و المراد: إمّا أن يختار بحسن اختياره الشكر للّه و الاعتراف بنعمه، فيصيب الحقّ، و إمّا أن يكفر نعم اللّه و يجحد إحسانه، فيكون ضالّا عن الصواب، فأيّهما اختار جوزي عليه بحسبه.

و هذا كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ (2).

و في الآية دلالة على أنّ اللّه قد هدى جميع خلقه، لأنّ اللفظ عامّ، و إن كان

ص: 271


1- البلد: 10.
2- الكهف: 29.

سبب نزوله خاصّا. و لم يقل: كافرا ليطابق قسيمه، محافظة على الفواصل، و إشعارا بأنّ الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا، و إنّما المؤاخذ به التوغّل فيه.

و اعلم أنّ في وصف كيفيّة خلق الإنسان على التفسير الأخير بأمور شاهدة له و لغيره من سائر أفراد الإنسان، تنبيها على أنّ جميع أفراد بني آدم في أصل خلقتهم متساوون، لا مزيّة و لا فضل لهم فيه، و إنّما فضّل بعضهم بالدرجات العليّة و المراتب الرضيّة على بعض بوسيلة امتثال أوامر اللّه و انقياد أحكام رسوله لا غير.

[سورة الإنسان [76]: الآيات 4 الى 22]

إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً [4] إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً [5] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً [6] يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [7] وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً [8]

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً [9] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [10] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً [11] وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً [12] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً [13]

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً [14] وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا [15] قَوارِيرَا

ص: 272

مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً [16] وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً [17] عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً [18]

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً [19] وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً [20] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [21] إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [22]

و لمّا ذكر سبحانه السبيلين أتبعهما الوعد و الوعيد، فقال:

إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ بها يقادون وَ أَغْلالًا بها يقيّدون وَ سَعِيراً بها يحرقون. و تقديم وعيدهم و قد تأخّر ذكرهم، لأنّ الإنذار أهمّ و أنفع، و تصدير الكلام و ختمه بذكر المؤمنين أحسن. و قرأ نافع و الكسائي و أبو بكر: سلاسلا، ليكون مناسبا ل «أغلالا».

إِنَّ الْأَبْرارَ جمع برّ، كربّ و أرباب. أو بارّ، كشاهد و أشهاد. و هو المطيع للّه، المحسن في أفعاله. و قال الحسن: هم الّذين لا يؤذون الذرّ (1)، و لا يرضون الشرّ.

و قيل: هم الّذين يقضون الحقوق الواجبة و النافلة. يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ من خمر.

و هي في الأصل القدح تكون فيه. و «من» لابتداء الغاية. و المعنى: الكأس مبدأ شربهم و أوّل غايته. كانَ مِزاجُها ما يمزج بها كافُوراً ماء كافور. و هو اسم

ص: 273


1- الذرّ: النمل.

عين في الجنّة، ماؤها في بياض كافور الجنّة و رائحته و برده، يخلق فيها رائحة الكافور و برده و بياضه، فكأنّها مزجت بالكافور. و ليس المراد كافور الدنيا.

عَيْناً بدل من «كافورا» إن جعل اسم ماء. و على القول الأخير بدل من محلّ «من كأس» على تقدير مضاف، كأنّه قيل: يشربون خمرا خمر عين. أو نصب على الاختصاص، أو بفعل يفسّره قوله: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ الباء للإلصاق، و متعلّقها محذوف، تقديره: ملتذّا أو ممزوجا بها عباد اللّه. و قيل: الباء مزيدة، أو بمعنى «من» لأنّ الشرب مبتدأ منها. و المراد ب «عباد اللّه» الأولياء. و إضافتهم إلى اللّه تشريفا و تبجيلا لهم.

يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يجرونها حيث شاؤا إجراء سهلا. و عن مجاهد: أنهار الجنّة تجري بغير أخدود، فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خطّ خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع، و يجري بغير تعب. و قد أجمع أهل البيت عليهم السّلام و موافقوهم و كثير من مخالفيهم أنّ المراد بالأبرار المنعوتين بهذه النعوت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام. فالآية و ما بعدها متعيّنة فيهم.

و قال صاحب مجمع البيان (1): «و قد روى الخاصّ و العامّ أن الآيات من هذه السورة- و هي قوله: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ» إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً»- نزلت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و جارية لهم تسمّى فضّة. و هو المرويّ عن ابن عبّاس و مجاهد و أبي صالح» (2).

و القصّة طويلة. جملتها

أنّهم قالوا: مرض الحسن و الحسين عليهما السّلام فعادهما جدّهما صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجوه العرب، و قالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا. فنذر صوم ثلاثة أيّام للّه إن شفاهما اللّه سبحانه. و نذرت فاطمة عليها السّلام، و كذلك فضّة.

ص: 274


1- مجمع البيان 10: 404- 406.
2- مجمع البيان 10: 404.

فبرءا، و ليس عندهم شي ء، فاستقرض عليّ عليه السّلام ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ- و روي: أنّه أخذها ليغزل له صوفا- و جاء به إلى فاطمة عليها السّلام، فطحنت صاعا منها، فاختبزته خمسة أقراص على عددهم. و صلّى عليّ عليه السّلام المغرب، و قرّبته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم و يسألهم، فأعطوه، و لم يذوقوا إلّا الماء. فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا و طحنته و اختبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام، فإذا يتيم بالباب يستطعم فأعطوه، و لم يذوقوا إلّا الماء. فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته و اختبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام، فإذا أسير بالباب يستطعم، فأعطوه. فلمّا كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم، أتى عليّ عليه السّلام، و معه الحسن و الحسين عليهما السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بهما ضعف، فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نزل جبرئيل بسورة «هل أتى».

و في رواية عطاء عن ابن عبّاس: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام آجر نفسه ليستقي نخلا بشي ء من شعير ليلة حتّى أصبح، فلمّا أصبح و قبض الشعير طحن ثلثه، فجعلوا منه شيئا ليأكلوه يقال له: الحريرة (1)، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام. ثمّ عمل الثلث الثاني، فلمّا تمّ إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه. ثمّ عمل الثلث الثالث، فلمّا تمّ إنضاجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه، و طووا يومهم ذلك. ذكره الواحدي في تفسيره (2).

و ذكر عليّ بن إبراهيم أنّ أباه حدّثه عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان عند فاطمة شعير فجعلوه عصيدة، فلمّا أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين، فقال المسكين: رحمكم اللّه. فقام عليّ عليه السّلام فأعطاه ثلثها.

فلم يلبث أن جاء يتيم، فقال اليتيم: رحمكم اللّه. فقام عليّ عليه السّلام فأعطاه الثلث. ثمّ جاء أسير، فقال الأسير: رحمكم اللّه. فأعطاه عليّ الثلث الباقي، و ما ذاقوها. فأنزل

ص: 275


1- الحريرة: الحساء المطبوخ من الدقيق و الدسم و الماء.
2- الوسيط 4: 400- 401.

اللّه سبحانه الآيات فيهم، و هي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك للّه عزّ و جلّ» (1).

و في هذا دلالة على أنّ السورة مدنيّة.

و قال أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني الحسن بن الحسن أبو عبد اللّه بن الحسن أنّها مدنيّة، نزلت في عليّ عليه السّلام و فاطمة عليها السّلام السورة كلّها.

و حدّثنا السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني، قال: أنبأنا الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني، قال: حدّثنا أبو نصر المفسّر، قال:

حدّثني عمّي أبو حامد إملاء، قال: حدّثنا الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمد المقري، قال: حدّثنا محمد بن يزيد السلمي، قال: حدّثنا يزيد بن موسى، قال:

أنبأنا عمرو بن هارون، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبّاس قال:

أوّل ما أنزل بمكّة: اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن و القلم، ثمّ المزّمّل، ثمّ المدّثّر، ثمّ تبّت، ثمّ إذا الشمس كوّرت، ثمّ سبّح اسم ربّك الأعلى، ثمّ و الليل إذا يغشى، ثمّ و الفجر، ثمّ و الضحى، ثمّ ألم نشرح، ثم و العصر، ثمّ و العاديات، ثمّ إنّا أعطيناك الكوثر، ثمّ ألهكم التكاثر، ثمّ أ رأيت، ثمّ الكافرون، ثمّ ألم تر كيف، ثمّ قل أعوذ بربّ الفلق، ثمّ قل أعوذ بربّ الناس، ثمّ قل هو اللّه أحد، ثمّ و النّجم، ثمّ عبس، ثمّ إنّا أنزلناه، ثمّ و الشمس، ثمّ البروج، ثمّ و التين، ثمّ لإيلاف، ثمّ القارعة، ثمّ القيامة، ثمّ الهمزة، ثمّ و المرسلات، ثمّ ق، ثمّ البلد، ثمّ الطّارق، ثمّ اقتربت السّاعة، ثمّ ص، ثمّ الأعراف، ثمّ قل أوحي، ثمّ يس، ثمّ الفرقان، ثمّ الملائكة، ثمّ كهيعص، ثمّ طه، ثمّ الواقعة، ثمّ الشعراء، ثمّ النمل، ثمّ القصص، ثمّ بني إسرائيل، ثمّ يونس، ثمّ هود، ثمّ يوسف، ثمّ الحجر، ثمّ الأنعام، ثمّ الصّافّات، ثمّ لقمان، ثمّ القمر، ثمّ سبأ، ثمّ الزمر، ثمّ حم المؤمن، ثمّ حم السجدة، ثمّ حمعسق، ثمّ الزخرف، ثمّ الدخان، ثمّ الجاثية، ثمّ الأحقاف، ثمّ الذاريات، ثمّ الغاشية، ثمّ الكهف، ثمّ النحل، ثمّ نوح، ثمّ

ص: 276


1- تفسير القمّي 2: 398.

إبراهيم، ثمّ الأنبياء، ثمّ المؤمنون، ثمّ ألم تنزيل، ثمّ الطور، ثمّ الملك، ثمّ الحاقّة، ثمّ ذو المعارج، ثمّ عمّ يتساءلون، ثمّ النازعات، ثمّ انفطرت، ثمّ انشقّت، ثمّ الروم، ثمّ العنكبوت، ثمّ المطفّفين. فهذه ما أنزلت بمكّة خمس (1) و ثمانون سورة.

ثمّ أنزلت بالمدينة: البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ الرعد، ثمّ الرحمن، ثمّ هل أتى، ثمّ الطلاق، ثمّ لم يكن، ثمّ الحشر، ثمّ إذا جاء نصر اللّه، ثمّ النور، ثمّ الحجّ، ثمّ المنافقون، ثمّ المجادلة، ثمّ الحجرات، ثمّ التحريم، ثمّ الجمعة، ثمّ التغابن، ثمّ سورة الصفّ، ثمّ سورة الفتح، ثمّ سورة المائدة، ثمّ التوبة. فهذه ثمان و عشرون سورة.

و قد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبّاس في كتاب الإيضاح. و زاد فيه: و كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة، ثمّ يزيد اللّه ما يشاء بالمدينة.

و بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن البصري: أنّ أوّل ما أنزل اللّه من القرآن بمكّة على الترتيب: اقرأ باسم ربّك، و ن، و المزّمّل. إلى قوله: و ما أنزل بالمدينة: ويل للمطفّفين، و البقرة، و الأنفال، و آل عمران، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان إلى آخره.

و بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال: «سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما أنزلت من .

ص: 277


1- كذا في شواهد التنزيل 2: 409- 410 ذيل ح 1062. و لكنّ السور المكّية المذكورة في الرواية ستّ و ثمانون. و هو الصحيح، إذ أنّها مع الثمان و العشرين المدنيّة تكون مائة و أربع عشرة سورة عدد سور القرآن الكريم.

السماء. فأوّل ما نزل عليه بمكّة: فاتحة الكتاب، ثمّ اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن. إلى أن قال: و أوّل ما أنزل بالمدينة: سورة البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ الرعد، ثمّ سورة الرحمن، ثمّ هل أتى إلى قوله: فهذا ما أنزل بالمدينة.

ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: جميع سور القرآن مائة و أربع عشرة سورة، و جميع آيات القرآن ستّة آلاف آية و مائتا آية و ستّ و ثلاثون آية، و جميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف و واحد و عشرون ألف حرف و مائتان و خمسون حرفا، لا يرغب في تعلّم القرآن إلّا السعداء، و لا يتعهّد قراءته إلّا أولياء الرحمن».

أقول: قد اتّسع نطاق الكلام في هذا الباب حتّى كاد يخرج عن أسلوب الكتاب، و ربّما نسبنا به إلى الإطناب، و لكنّ الغرض فيه أنّ بعض أهل العصبيّة قد طعن في هذه القصّة، بأن قال: هذه السورة مكّيّة، فكيف يتعلّق بها ما كان بالمدينة؟

و استدلّ بذلك على أنّها مخترعة، جرأة على اللّه، و عداوة لأهل بيت رسوله.

فأحببت إيضاح الحقّ في ذلك، و إيراد البرهان في معناه، و كشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه. على أنّه كما ترى يحتوي على السرّ المخزون و الدرّ المكنون من هذا العلم الّذي يستضاء بنوره و يتلألأ بزهوره، و هو معرفة ترتيب السور في التنزيل، و حصر عددها على الجملة و التفصيل. اللّهمّ أمدّنا بتأييدك، و أيّدنا بتوفيقك، فأنت الرجاء و الأمل، و على فضلك المعوّل و المتّكل». انتهى كلام صاحب المجمع.

و روى أيضا صاحب الكشّاف عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه: «أنّ الحسن و الحسين مرضا، فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك. فنذر عليّ و فاطمة و فضّة- جارية لهما- إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام. فشفيا و ما معهم شي ء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث

ص: 278

أصوع من شعير. فطحنت فاطمة صاعا، و اختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة.

فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلّا الماء، و أصبحوا صياما. فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه. و وقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّ عليه السّلام بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم. و قام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها و غارت عيناها، فساءه ذلك. فنزل جبرئيل عليه السّلام و قال: خذها يا محمّد هنّأك اللّه في أهل بيتك، فأقرأه السورة» (1).

و مثل ذلك روى البيضاوي في تفسيره (2). و نعم ما قيل:

إلى م ألام و حتّى متى أعاتب في حبّ هذا الفتى

فهل زوّجت فاطم غيره و في غيره هل أتى هل أتى؟

و قوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف ببيان ما رزقوه لأجله، كأنّه سئل عنه فأجيب بذلك. و هو أبلغ في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات، لأنّ من وفى بما أوجبه على نفسه للّه كان أوفى بما أوجبه اللّه عليه.

وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ شدائده مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا غاية الانتشار. من: استطار الحريق و الفجر. و هو أبلغ من: طار، كما أنّ استنفر أبلغ من: نفر. و فيه إشعار بحسن عقيدتهم و اجتنابهم عن المعاصي.

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ حبّ الطعام، أي: مع اشتهائه و الحاجة إليه.

ص: 279


1- الكشّاف 4: 670.
2- أنوار التنزيل 5: 165.

و نحوه قوله تعالى: وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ (1). لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (2). أو الإطعام للّه. و عن الفضيل بن عياض: على حبّ اللّه. مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً يعني: أسارى الكفّار.

عن الحسن: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين و الثلاثة، فيؤثره على نفسه.

و عند عامّة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفّار في دار الإسلام، و لا يصرف إليهم الواجبات كالزكوات.

و عن أبي سعيد الخدري و عطاء و سعيد بن جبير: هو الأسير المؤمن. و يدخل فيه المملوك و المسجون. و في الحديث: «غريمك أسيرك، فأحسن إلى أسيرك».

و عن أبي سعيد الخدري أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلّا أطعمه اللّه من ثمار الجنّة، و ما من مسلم كسا أخاه على عري إلّا كساه اللّه من خضر الجنّة، و من سقى مسلما على ظمأ سقاه اللّه من الرحيق».

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة القول بلسان الحال، بيانا و كشفا عن اعتقادهم و صحّة نيّتهم و إن لم يقولوا شيئا. أو المقال، إزاحة لتوهّم المنّ، و منعا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأنّ ذلك منقّص للأجر. و الأوّل أقرب إلى الإخلاص، و أبعد من الرياء. و قد روي عن مجاهد: أما إنّهم ما تكلّموا به، و لكن علمه اللّه منهم فأثنى عليهم. لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً أي: شكرا، فإنّ الكفور و الشكور مصدران، كالكفر و الشكر.

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا فلذلك نحسن إليكم، أو لا نطلب المكافأة منكم يَوْماً عذاب يوم عَبُوساً وصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن

ص: 280


1- البقرة: 177.
2- آل عمران: 92.

يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم، فكأنّه قيل: يعبس فيه وجوه الأشقياء. و روي: أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. و أن يشبّه في شدّته و ضرره بالأسد العبوس، أو بالشجاع الباسل.

قَمْطَرِيراً شديد العبوس، كالّذي يجمع ما بين عينيه. من: اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها، و جمعت قطريها (1). مشتقّ من القطر، و الميم مزيدة.

فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بسبب خوفهم و تحفّظهم عنه وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً أي: أعطاهم بدل عبوس الفجّار و حزنهم نضرة في الوجوه و سرورا في القلوب. و هذا يدلّ على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله.

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على أداء الواجبات، و اجتناب المحرّمات، و إيثار الأموال، و ما يؤدّي إليه من الجوع و العري جَنَّةً بستانا يأكلون منه هنيئا وَ حَرِيراً يلبسونه بهيّا.

مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ حال من ضمير «جزاهم»، أو صفة ل «جنّة».

و الأرائك جمع الأريكة، و هي السرير. لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً يحتملهما، و أن يكون حالا من المستكن في «متّكئين». و المعنى: أنّه يمرّ عليهم فيها هواء معتدل، لا حرّ شمس يحمي، و لا شدّة برد تؤذي. و في الحديث: «هواء الجنّة سجسج (2)، لا حرّ و لا قرّ».

و عن ثعلب: الزمهرير: القمر في لغة طي ء.

و أنشد:

و ليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها و الزمهرير ما زهر (3)

ص: 281


1- القطر: الناحية و الجانب.
2- يوم سجسج: إذا لم يكن فيه حرّ مؤذ و لا برد شديد.
3- أي: و ربّ ليلة قد تراكم ظلامها و اختلط، قطعتها بالسير، و الحال أنّ الزمهرير ما ظهر و ما أضاء.

و المعنى: أنّ الجنّة ضياء، فلا يحتاج فيها إلى شمس و لا قمر.

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها حال أيضا من ضمير «جزاهم». و دخلت الواو للدلالة على أنّ الأمرين مجتمعان لهم، كأنّه قيل: و جزاهم جنّة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ و القرّ، و دنوّ الضلال عليهم. أو صفة اخرى ل «جنّة» معطوفة على ما قبلها. أو عطف على «جنّة» أي: و جنّة اخرى دانية، على أنّهم وعدوا جنّتين، كقوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (1) لأنّهم وصفوا بالخوف في قولهم: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا (2). و المعنى: أفياء أشجار الجنّة قريبة منهم.

وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا معطوفة على «دانية». و المعنى: و دانية عليهم ظلالها، و مذلّلة قطوفها. أو حال من «دانية» أي: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، بأن تجعل ذللا سهل التناول لا يمتنع على قطّافها كيف شاؤا. أو تجعل خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيرا.

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ و أباريق بلا عروة. جمع كوب.

كانَتْ قَوارِيرَا* قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ هو من «يكون» في قوله: كُنْ فَيَكُونُ (3) أي: تكوّنت قوارير بتكوين اللّه، تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، و هما: صفاء الزجاجة و شفيفها، و بياض الفضّة و لينها.

و المعنى: أنّ أصلها مخلوق من فضّة، و هي مع بياض الفضّة و حسنها في صفاء القوارير و شفيفها، فاجتمع لها بياض الفضّة و صفاء القارورة، فيرى من خارجها ما في داخلها.

و قيل: معنى «قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» مع أنّها من زجاج: أنّ الشي ء إذا قاربه شي ء

ص: 282


1- الرحمن: 46.
2- الإنسان: 10.
3- البقرة: 117.

و اشتدّت ملابسته له قيل: إنّه من كذا، و إن لم يكن منه في الحقيقة.

و «قوارير» الثانية بدل من الأولى. و قد نوّن «قوارير» من نوّن «سلاسلا».

و ابن كثير الأولى، لأنّها رأس الآية.

قَدَّرُوها تَقْدِيراً صفة ل «قوارير» أي: قدّروها في أنفسهم، فجاءت مقاديرها و أشكالها كما تمنّوه. أو قدّروها بأعمالهم الصالحة، فجاءت على حسبها.

أو قدّر الطائفون بها- المدلول عليهم بقوله: «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ»- شرابها على قدر اشتهائهم. و هو ألذّ للشارب، لكونه على قدر حاجته، لا يفضل عنها و لا ينقص.

و عن مجاهد: لا تفيض و لا تغيض.

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ما يشبه الزنجبيل في الطعم.

و كانت العرب يستلذّون و يستطيبون الشراب الممزوج به.

عَيْناً فِيها نصبه إمّا على البدل من «زنجبيلا»، أو «كأسا» بتقدير المضاف، كأنّه قيل: و يسقون فيها كأسا كأس عين في الجنّة. أو على الاختصاص.

تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا لسلاسة انحدارها في الحلق، و سهولة مساغها. يقال: شراب سلسل و سلسال و سلسبيل. و لذلك حكم بزيادة الباء حتّى صارت الكلمة خماسيّة.

و دلّت على غاية السلاسة، كما قال الزجّاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. و المعنى: أنّها في طعم الزنجبيل، و ليس فيه لذعه (1)، و لكن نقيض اللذع، و هو السلاسة.

و قيل: أصله: سل سبيلا، فسمّيت به، كتأبّط شرّا، لأنّه لا يشرب منها إلّا من سأل اللّه إليها سبيلا بالعمل الصالح.

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ دائمون إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً من صفاء ألوانهم، و انبثاثهم في مجالسهم للخدمة، و انعكاس شعاع بعضهم

ص: 283


1- أي: حدّته.

إلى بعض. و قيل: شبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنّه أحسن و أكثر ماء.

وَ إِذا رَأَيْتَ ليس له مفعول ملفوظ و لا مقدّر، لأنّه عامّ. و المعنى: و إذا أوجدت الرؤية، و إذا رميت ببصرك أينما وقع. ثَمَ أي: في الجنّة رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً واسعا. و في الحديث: «أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه».

و عن الصادق عليه السّلام: «معناه: رأيت نعيما لا يزول و لا يفنى».

و قيل: الملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم و تحيّتهم بالسلام. و قيل: هو أنّهم لا يريدون شيئا إلّا قدروا عليه. هذا، و للعارف أكبر من ذلك، و هو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك و خفايا الملكوت، فيستضي ء بأنوار قدس الجبروت.

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ أي: يعلوهم ثياب الحرير الخضر مارقّ منها و ما غلظ. و إستبرق معرّب، و أصله: استبره. و نصب «عاليهم» على الحال من «هم» في «عليهم» أو في «حسبتهم» أي: يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. أو من «ملكا كبيرا» على تقدير مضاف، أي: و أهل ملك كبير، أي: رأيت أهل نعيم و ملك عاليهم ثياب.

و قرأ حمزة و نافع: عاليهم بالرفع على أنّه خبر و «ثياب» مبتدأ، أي: ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. و قرأ ابن عامر و أبو عمرو برفع «خضر» و جرّ «إستبرق». و قرأ ابن كثير و حفص بالعكس. و قرأ حمزة و الكسائي: خضر و إستبرق بالجرّ.

وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ عطف على «وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ». و لا يخالفه قوله:

أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ (1) لإمكان أنّهم يسوّرون بالجنسين، إمّا على المعاقبة، و إمّا على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحليّ و تجمع بينها. و ما أحسن بالمعصم أن

ص: 284


1- الكهف: 31.

يكون فيه سواران: سوار من ذهب، و سوار من فضّة. و يجوز أن يكون بالتبعيض، فإنّ حليّ أهل الجنّة تختلف باختلاف أعمالهم، فلعلّه تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حليّا و أنوارا تتفاوت تفاوت الذهب و الفضّة. و يمكن أن تكون الجملة حالا من الضمير في «عاليهم» بإضمار «قد». و على هذا يجوز أن يكون هذا للخدم، و ذلك للمخدومين.

وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً نوعا آخر من الشراب يفوق على النوعين المتقدّمين، و لذلك أسند سقيه إلى اللّه عزّ و جلّ. و وصفه بالطهور مبالغة، ليدلّ على أنّه ليس برجس كخمر الدنيا، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل، و ليست الدار دار تكليف. أو لأنّه لم يعصر فتمسّه الأيدي الوضرة (1)، و تدوسه الأقدام الدنسة، و لم يجعل في الدنان و الأباريق الّتي لم يعن بتنظيفها. أو لأنّه لا يئول إلى النجاسة، لأنّه يرشّح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك.

و قيل: طهوريّته من حيث إنّه يطهّر شاربه عن الرذائل الخسيسة، و الميل إلى اللذّات الحسيّة، و الركون إلى ما سواه، فيتجرّد شاربه بالتوجّه التامّ إليه، ملتذّا به فارغا عن غيره. و هذا منتهى درجات الصدّيقين، و لأجل أنّ هذا أعظم نعم الجنّة ختم به ثواب الأبرار.

إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً على إضمار القول، أي: يقال لأهل الجنّة: إنّ هذا.

و هذا إشارة إلى ما عدّ من ثوابهم. وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي: مجازى عليه غير مضيّع، فإنّ الشكر هاهنا مجاز عن الإثابة التامّة.

[سورة الإنسان [76]: الآيات 23 الى 31]

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً [23] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [24] وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً [25] وَ مِنَ

ص: 285


1- أي: الوسخة. من: وضر وضرا، كان وسخا، فهو: وضر.

اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [26] إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [27]

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً [28] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً [29] وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [30] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [31]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالصبر عن التأذّي من أقوال الكفّار و أفعال الأشرار، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا مفرّقا منجّما لحكمة اقتضته. و تكرير الضمير مع «أنّ» فيه تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص اللّه بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه إذا كان هو المنزّل لم يكن تنزيله على أيّ وجه إلّا حكمة و صوابا. كأنّه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرّقا منجّما إلّا أنا لا غيري، و قد عرفتني حكيما فاعلا لكلّ ما أفعله بدواعي الحكمة. و لقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافّة و المصابرة، و سأنزل عليك الأمر بالانتقام و القتال بعد حين.

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الصادر عن الحكمة الّتي من جملتها تعليقه الأمور بالمصالح، و تأخير نصرك على كفّار مكّة و غيرهم وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أي: كلّ واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه، و من الغالي في الكفر الداعي لك إليه، فإنّهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم و لا كفر، فنهي أن لا يساعدهم على الاثنين دون الثالث.

ص: 286

و روي: أنّهم مع إفراطهم في العداوة و الإيذاء له و لمن معه، يدعونه إلى أنّه يرجع عن أمره، و يبذلون له أموالهم، و تزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فأمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على الإيذاء، و نهي عن إطاعة الكفرة فيما يرتكبون من المآثم و يدعونه إليه.

و قيل: الآثم: عتبة، و الكفور: الوليد، لأنّ عتبة كان ركّابا للمآثم، متعاطيا لأنواع الفسوق. و كان الوليد غاليا في الكفر، شديد الشكيمة في العتوّ. و إنّما قال:

«أو» و لم يقل بالواو العاطفة، ليكون نهيا عن إطاعتهما جميعا، لأنّه لو قال: و لا تطعهما، لجاز أن يطيع أحدهما، و إذا قيل: و لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما عن طاعتهما جميعا أنهى، كما إذا نهي أن يقول لأبويه: أفّ، علم أنّه منهيّ عن ضربهما على طريق الأولى.

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً أوّل النهار وَ أَصِيلًا و عشيّا، و هو أصل الليل.

و المعنى: أقبل على شأنك من ذكر اللّه و الدعاء إليه و تبليغ الرسالة صباحا و مساء، أي: دائما، فإنّ اللّه ناصرك و مؤيّدك و معينك. أو دم على صلاة الفجر و الظهر و العصر، فإنّ الأصيل يتناول وقتيهما.

وَ مِنَ اللَّيْلِ للتبعيض، لأنّه لم يأمره بقيام الليل كلّه. و المعنى: و بعض الليل فَاسْجُدْ لَهُ فصلّ له. يعني: صلاة المغرب و العشاء. و تقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة و الخلوص.

وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا و تهجّد له طائفة طويلة من الليل: ثلثيه، و نصفه، و ثلثه. و قيل: يريد التطوّع بعد المكتوبة. و يؤيّد الأوّل ما

روي عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية و قال: «ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل».

إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يؤثرون اللذّات و المنافع العاجلة في دار الدنيا، كقوله: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (1) وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ أمامهم، أو

ص: 287


1- الأعلى: 16.

خلف ظهورهم، لا يعبئون به يَوْماً ثَقِيلًا عسيرا، و شديدا هوله. مستعار من الشي ء الثقيل الشاقّ الباهظ لحامله. و نحوه: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1). و هو كالتعليل لما أمر به و نهى عنه. و المعنى: أنّهم لا يؤمنون به و لا يعملون له.

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ و أحكمنا ربط مفاصلهم و عظامهم بالأعصاب الّتي توصل بعضها ببعض، فإنّ الأسر الربط و التوثيق. و منه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ (2)، و هو الإسار. و فرس مأسور الخلق، و ترس مأسور بالعقب، أي:

مربوط. و لو لا إحكامه إيّاها على هذا النظام لما أمكن العمل بها و الانتفاع منها.

و قيل: معناه: كلّفناهم و شددناهم بالأمر و النهي كيلا يجاوزوا حدود اللّه، كما يشدّ الأسير بالقيد لئلّا يهرب.

وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا و إذا أردنا أهلكناهم و بدّلنا أمثالهم في الخلقة و شدّة الأسر. يعني: النشأة الثانية، و لذلك جي ء ب «إذا». أو بدّلنا غيرهم ممّن يطيع، و لكن نبقيهم إتماما للحجّة. و على هذا؛ حقّه أن يجي ء ب «إن» لا ب «إذا» لأنّه غير محقّق، كقوله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (3) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ (4)، لكن جي ء ب «إذا» لتحقّق القدرة و القوّة الداعية.

إِنَّ هذِهِ إشارة إلى السورة أو الآيات القريبة تَذْكِرَةٌ تذكير يتذكّر به أمر الآخرة فَمَنْ شاءَ فمن اختار الخير لنفسه اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ إلى رضا ربّه سَبِيلًا تقرّب إليه بالطاعة و التوسّل إليه بالعبادة.

وَ ما تَشاؤُنَ أيّها المعاندون المكذّبون اتّخاذ الطريق إلى مرضاة اللّه

ص: 288


1- الأعراف: 187.
2- القدّ: السير يقدّ من جلد.
3- محمد: 36.
4- إبراهيم: 19.

اختيارا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلّا وقت مشيئة اللّه أن يقسركم و يجبركم، و لا ينفعكم ذلك حينئذ، لزوال التكليف الاختياري المنوط به الثواب و العقاب. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: يشاؤن بالياء. و ليس المعنى: أنّه سبحانه يشاء كلّ ما يشاء العباد من المعاصي و المباحات و غيرها، لأنّ الدلائل الواضحة قد دلّت على أنّه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح، و يتعالى عن ذلك، و قد قال سبحانه: وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (1).

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بأحوالهم و ما يكون منهم حَكِيماً حيث خلقهم مع علمه بهم.

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ من الطالبين سبيل الخير فِي رَحْمَتِهِ في جنّته بالهداية و التوفيق للطاعة وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً نصب «الظالمين» بفعل يفسّره «أعدّ لهم» مثل: أوعد و كافأ، فيطابق الجملة المعطوف عليها. و هذه القراءة المتواترة أولى من قراءة ابن مسعود: و للظّالمين، و قراءة ابن الزبير: و الظّالمون بالابتداء، لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة و المعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.

ص: 289


1- غافر: 31.

ص: 290

[77] سورة المرسلات

اشارة

مكّيّة. و هي خمسون آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأ سورة و المرسلات كتب أنّه ليس من المشركين».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأها عرّف اللّه بينه و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة المرسلات [77]: الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [1] فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً [2] وَ النَّاشِراتِ نَشْراً [3] فَالْفارِقاتِ فَرْقاً [4]

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً [5] عُذْراً أَوْ نُذْراً [6] إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ [7] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [8] وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ [9]

وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ [10] وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [11] لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ [12] لِيَوْمِ الْفَصْلِ [13] وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [14]

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [15]

ص: 291

و لمّا ختم سبحانه سورة هل أتى بذكر القيامة و ما أعدّ فيها للظالمين، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْمُرْسَلاتِ أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهنّ عُرْفاً نصب على العلّة، أي: للأمر بالمعروف الحسن عقلا و شرعا. أو على الحال، بمعنى المتتابعة، من عرف الدابّة و الضبع. يقال: جاؤا عرفا واحدا. و هم عليه كعرف الضبع، إذا تألّبوا عليه، أي: اجتمعوا عليه. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً فعصفن في امتثال أمره عصف الرياح في الهبوب.

وَ النَّاشِراتِ نَشْراً و بطوائف منهنّ نشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي. أو نشرن الشرائع في الأرض. أو نشرن النفوس الموتى بالكفر و الجهل بما أوحين من العلم. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ففرقن بين الحقّ و الباطل.

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً فألقين إلى الأنبياء ذكر الأحكام الشرعيّة.

أو أقسم بآيات القرآن المرسلة بكلّ معروف إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فعصفن سائر الكتب و الأديان بالنسخ، و نشرن آثار الهدى و الحكم في المشرق و المغرب، ففرقن بين الحقّ و الباطل، فألقين ذكر الحقّ فيما بين العالمين.

أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحقّ، و نشرن أثر ذلك الاستكمال في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحقّ بذاته و الباطل في نفسه، فيرون كلّ شي ء هالكا إلّا وجهه، فألقين ذكرا بحيث لا يكون في القلوب و الألسنة إلّا ذكر اللّه.

أو برياح عذاب أرسلن متتابعة فعصفن، و رياح رحمة نشرن السحاب في الجوّ ففرقن بينه، كقوله: وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً (1). أو بسحائب أو أمطارها نشرن الموات، ففرقن بين من يشكر للّه و بين من يكفر، كقوله:

لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً

ص: 292


1- الروم: 48.

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (1). فألقين ذكرا، أي: تسبّبن له، فإنّ العاقل إذا شاهد هبوب الرياح و منافعها، أو السحائب و آثارها، ذكر اللّه تعالى و تذكّر كمال قدرته.

عُذْراً أَوْ نُذْراً مصدران ل: عذر إذا محا الإساءة، و أنذر إذا خوّف، كالكفر و الشكر. أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة، و نذير بمعنى الإنذار. أو بمعنى العاذر و المنذر. و نصبهما على الأوّلين بالعلّيّة، أي: عذرا للمحقّين الّذين يعتذرون إلى اللّه بتوبتهم و استغفارهم، أو نذرا للمبطلين الّذين يغفلون عن شكر منعهم و يجحدونه.

أو بالبدل من «ذكرا» على أنّ المراد به الوحي، أو ما يعمّ التوحيد و الشرك و الإيمان و الكفر. و على الأخير بالحاليّة، بمعنى: عاذرين أو منذرين. و قرأهما حمزة و أبو عمرو و الكسائي و حفص بالتخفيف.

و جواب القسم إِنَّما تُوعَدُونَ أي: إنّ الّذي توعدونه من مجي ء القيامة لَواقِعٌ كائن لا محالة.

فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ محيت و محقت ذواتها، أي: ذهب بنورها، ثمّ تنشر ممحوقة النور.

وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ صدعت و فتحت فكانت أبوابا.

وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ قلعت من أماكنها، كالحبّ ينسف بالمنسف. و نحوه قوله تعالى: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (2) وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (3). و قيل:

أخذت بسرعة من أماكنها. من: انتسفت الشي ء إذا اختطفته.

وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ عيّن وقت حضورهم فيه للشهادة على الأمم. أو بلغوا ميقاتهم الّذي كانوا ينتظرونه، و هو يوم القيامة. و قرأ أبو عمرو: وقّتت على الأصل.

ص: 293


1- الجنّ: 16- 17.
2- الواقعة: 5.
3- المزّمّل: 14.

لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي: يقال: لأيّ يوم أخّرت الرسل، و ضرب الأجل لجمعهم؟ و فيه تعظيم لليوم، و تعجيب من هوله. و يجوز أن يكون ثاني مفعولي «أقّتت» على أنّه بمعنى: أعلمت.

لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل، أي: اليوم الّذي يفصل فيه بين الخلائق وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ و من أين تعلم كنهه و لم تر مثله؟

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: بذلك اليوم. و «ويل» في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله، عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات الهلاك و دوامه للمدعوّ عليه. و نحوه: سَلامٌ عَلَيْكُمْ (1). و «يومئذ» ظرفه أو صفته. و إنّما خصّ الوعيد بمن جحد يوم القيامة و كذّب به، لأنّ التكذيب به يتبعه خصال المعاصي كلّها و إن لم تذكر معه.

[سورة المرسلات [77]: الآيات 16 الى 40]

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [16] ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [17] كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [18] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [19] أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [20]

فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ [21] إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [22] فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [23] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [24] أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [25]

أَحْياءً وَ أَمْواتاً [26] وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً [27] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [28] انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ

ص: 294


1- الأنعام: 54.

تُكَذِّبُونَ [29] انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [30]

لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [31] إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [32] كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ [33] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [34] هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [35]

وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [36] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [37] هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ [38] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [39] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [40]

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بالمكذّبين الأوّلين تهديدا لمشركي مكّة، فقال: أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ بالعذاب في الدنيا، كقوم نوح و عاد و ثمود حين كذّبوا رسلهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي: ثمّ نحن نتبعهم نظراءهم، ككفّار مكّة كَذلِكَ مثل ذلك الفعل الشنيع نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ بكلّ من أجرم. يعني: نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأوّلين، و نسلك بهم سبيلهم، لأنّهم كذّبوا مثل تكذيبهم.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات اللّه و أنبيائه، فليس بتكرير. و كذا إن أطلق التكذيب، لأنّ الويل الأول لعذاب الآخرة، و هذا للإهلاك في الدنيا. مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب، كما مرّ في سورة الرحمن.

أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ نطفة قذرة ذليلة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ هو الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ إلى مقدار معلوم من الوقت قدّره اللّه للولادة و حكم به، و هو تسعة أشهر أو ما دونها أو ما فوقها فَقَدَرْنا على خلقته كيف يكون، قصيرا أم طويلا، ذكرا أم أنثى. أو فقدّرناه. و يدلّ عليه قراءة نافع و الكسائي بالتشديد،

ص: 295

و قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (1). فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن عليه. و لا يخفى أنّ في خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواسّ الصحيحة و العقل الشريف و التمييز و النطق من ماء ضعيف، أعظم الاعتبار و أبين الحجّة على أنّ له صانعا قادرا مدبّرا حكيما، و الجاحد لذلك كالمكابر لبداهة العقول. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على ذلك، أو على الإعادة.

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً كافتة. اسم لما يكفت، أي: يضمّ و يجمع، كالضمام و الجماع لما يضمّ و يجمع. يقال: هذا الباب جماع الأبواب. أو مصدر نعت به. أو جمع كافت، كصائم و صيام. أو جمع كفت، و هو الوعاء.

أَحْياءً وَ أَمْواتاً منتصبان على المفعوليّة، كأنّه قيل: كافتة أحياء و أمواتا، أي: جامعة إيّاهما. أو بفعل مضمر يدلّ عليه «كفاتا»، و هو: تكفت. و المعنى:

تكفت أحياء على ظهرها، و أمواتا في بطنها. و تنكيرهما للتفخيم، كأنّه قيل: تكفت أحياء لا يعدّون، و أمواتا لا يحصرون. أو لإفادة التبعيض، لأنّ أحياء الإنس و أمواتهم بعض الأحياء و الأموات. أو على الحاليّة من مفعول «كفاتا» المحذوف، و هو الإنس، لأنّه قد علم أنّها كفات الإنس. أو منتصبان ب «نجعل» على المفعوليّة، و «كفاتا» حال. و المعنى: نجعلها ما ينبت و ما لا ينبت حال كونها كافتة لهما.

وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ جبالا ثوابت طوالا وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً بخلق الأنهار و المنابع فيها. و تنكير الثلاثة للتفخيم، و إشعارا بأنّ فيها ما لم يعرف و لم ير، لأنّ في السماء جبالا، قال اللّه تعالى: مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ (2). و فيها ماء فرات أيضا، بل هي معدنه و مصبّه. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم.

ص: 296


1- عبس: 19.
2- النور: 43.

انْطَلِقُوا أي: يقال لهم: انطلقوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من العذاب انْطَلِقُوا خصوصا. و عن يعقوب: انطلقوا، على الإخبار من امتثالهم للأمر، لأنّهم مضطرّون إليه لا يستطيعون امتناعا منه. إِلى ظِلٍ أي: ظلّ دخان جهنّم، كقوله:

وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (1). ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يتشعّب لعظمه، كما ترى الدخان العظيم يتفرّق تفرّق الذوائب.

و قيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفّار كالسّرادق، و يتشعّب من دخانها ثلاث شعب، فتظلّهم حتّى يفرغ من حسابهم، و المؤمنون في ظلّ العرش.

و خصوصيّة الثلاث إمّا لأنّ حجاب النفس عن أنوار القدس: الحسّ، و الخيال، و الوهم. أو لأنّ المؤدّي إلى العذاب هو القوّة الواهمة الحالّة في الدماغ، و الغضبيّة الّتي في يمين القلب، و الشهويّة الّتي في يساره. و لذلك قيل: شعبة تقف فوق الكافر، و شعبة عن يمينه، و شعبة عن يساره.

لا ظَلِيلٍ أي: غير مانع من الأذى بستره عنه. و مثله: الكنين. فالظليل من الظلّة، و هي السترة، و الكنين من الكنّ (2). و فيه تهكّم بهم و تعريض بأن ظلّهم غير ظلّ المؤمنين، و ردّ لما أوهم لفظ الظلّ. وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ في محلّ الجوّ، أي: غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا. و هو ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر و أصفر و أخضر. يعني: أنّهم إذا استظلّوا بذلك الظلّ لم يدفع عنهم حرّ اللهب.

ثمّ وصف النار بقوله: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ و هو ما يتطاير من النار في الجهات، أي: كلّ شرارة كالقصر من القصور في عظمها. و قيل: هو جمع قصرة، و هي الشجرة العظيمة الغليظة، نحو: جمرة و جمر. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ جمع

ص: 297


1- الواقعة: 43.
2- الكنّ: البيت، وقاء كلّ شي ء و ستره.

جمال. أو جمالة جمع جمل، فإنّ الشرار بما فيه من الناريّة يكون أصفر. و قيل:

سود، لأنّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة. و الأوّل تشبيه في العظم، و هذا في اللون و الكثرة و التتابع و الاختلاط و سرعة الحركة.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: جمالة. و عن يعقوب: جمالات بالضمّ، جمع جمالة، و هي الحبل الغليظ من حبال السفينة، شبّهه بها في امتداده و التفافه.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه العقوبات.

هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي: بما يستحقّ، فإنّ النطق بما لا ينفع كلا نطق. أو بشي ء أصلا من فرط الدهشة و الحيرة. و هذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة طويل ذو مواطن و مواقيت، ينطقون في وقت و لا ينطقون في وقت، و لذلك ورد الأمران في القرآن.

و عن قتادة قال: جاء رجل إلى عكرمة فقال: أ رأيت قول اللّه تعالى: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ» و قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (1). فقال: إنّها مواقف، فأمّا موقف منها فتكلّموا و اختصموا، ثمّ ختم على أفواههم و تكلّمت أيديهم و أرجلهم، فحينئذ لا ينطقون.

وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عطف على «يؤذن» منخرط في سلك النفي.

و المعنى: و لا يكون لهم إذن و اعتذار عقيبه. و لو نصب لكان مسبّبا عنه لا محالة.

و يدلّ هذا على أنّ عدم اعتذارهم لعدم الإذن. و أوهم ذلك أنّ لهم عذرا لكن لا يؤذن لهم فيه. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذا الخبر.

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحقّ و المبطل جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ تقرير و بيان للفصل، لأنّه إذا كان يوم الفصل بين السعداء و الأشقياء و بين الأنبياء و أممهم، فلا بدّ

ص: 298


1- الزمر: 31.

من جمع الأوّلين و الآخرين حتّى يقع ذلك الفصل بينهم.

فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ إن كانت لكم حيلة. و هذا تقريع على كيدهم لدين اللّه و للمؤمنين في الدنيا، و تسجيل عليهم بعجزهم و استكانتهم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إذ لا حيلة لهم في التخلّص من العذاب.

[سورة المرسلات [77]: الآيات 41 الى 45]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ [41] وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ [42] كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [43] إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [44] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [45]

ثمّ ذكر سبحانه أحوال المؤمنين، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ عن الشرك، لأنّهم في مقابلة المكذّبين فِي ظِلالٍ من أشجار الجنّة وَ عُيُونٍ جارية بين أيديهم في غير أخدود (1)، لأنّ ذلك أمتع لهم وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ يتمنّون. يعني: مستقرّون في أنواع الترفّه.

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً خالصا من التكدّر و الأذى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و الأمر في موضع الحال من ضمير المتّقين، في الظرف الّذي هو «في ظلال» أي:

هم مستقرّون في ظلال، مقولا لهم ذلك. و هذا الأمر للإباحة.

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في العقيدة. هذا ابتداء إخبار من اللّه تعالى. أو يقال لهم ذلك أيضا.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأنّه يمحّض لهم العذاب المخلّد، و لخصومهم الثواب المؤبّد.

ص: 299


1- الأخدود: الحفرة المستطيلة.

[سورة المرسلات [77]: الآيات 46 الى 50]

كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [46] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [47] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [48] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [49] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [50]

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المكذّبين، فقال: كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا في الدنيا قَلِيلًا أي: تمتّعا قليلا، أو زمانا قليلا، فإنّ الموت كائن لا محالة إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ حال من المكذّبين، أي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك في الآخرة، إيذانا بأنّهم كانوا في الدنيا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك، تذكيرا لهم بحالهم السمجة، و بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم. و يجوز أن يكون ذلك كلاما مستأنفا خطابا للمكذّبين في الدنيا، دلالة على أنّ كلّ مجرم ما له إلّا الأكل و التمتّع أيّاما قلائل، ثمّ البقاء في الهلاك أبدا. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بما ذكر.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا اخشعوا للّه و تواضعوا له و اخضعوا، بقبول وحيه و اتّباع دينه، و اطرحوا هذا الاستكبار و النخوة لا يَرْكَعُونَ لا يمتثلون ذلك، و يصرّون على استكبارهم.

و قيل: المراد الأمر بالصلاة أو بالركوع فيها، إذ روي أنّها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، أي: لا نركع، فإنّها مسبّة علينا. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا خير في دين ليس فيه ركوع و لا سجود. و استدلّ به على أنّ الأمر للوجوب، و أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

و قيل: هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بذلك.

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به. يعني: أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آية مبصرة و معجزة باهرة، مشتملة على الحجج الواضحة و المعاني الشريفة، فحين لم يؤمنوا به فبأيّ كتاب بعده يؤمنون؟!

ص: 300

[78] سورة النبأ

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ عمّ يتساءلون سقاه اللّه برد الشراب يوم القيامة».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من قرأ عمّ يتساءلون لم يخرج سنته- إذا كان يدمنها في كلّ يوم- حتّى يزور البيت الحرام».

[سورة النبإ [78]: الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ [1] عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [2] الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [3] كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ [4]

ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ [5] أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [6] وَ الْجِبالَ أَوْتاداً [7] وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [8] وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [9]

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً [10] وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [11] وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [12] وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً [13] وَ أَنْزَلْنا مِنَ

ص: 301

الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً [14]

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً [15] وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً [16]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة المرسلات بذكر القيامة و وعيد المكذّبين بها، افتتح هذه السورة بذكرها و ذكر دلائل القدرة على البعث و الإعادة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله: عن ما، على أنّه حرف جرّ دخل على «ما» الاستفهاميّة، فحذف الألف تخفيفا، لكثرة استعماله. و مثله:

فيم، و بم، و لم، و إلى م، و على م، و متى م، و في هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه، كأنّه لفخامته خفي جنسه، فيسأل عنه. و المعنى: عن أيّ شي ء يتساءلون. و نحوه ما في قولك: زيد ما زيد؟ جعلته لانقطاع قرينه و عدم نظيره كأنّه شي ء خفي عليك جنسه، فتسأل عن جنسه و تفحص عن جوهره، كما تقول: ما العنقاء و ما الغول؟ تريد: أيّ شي ء هو من الأشياء؟ هذا أصله، ثمّ جرّد عن التفخيم حتّى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية. و الضمير لأهل مكّة، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، أو يسألون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين عنه استهزاء، كقولهم:

يتداعونهم و يتراءونهم، أي: يدعونهم و يرونهم.

و قوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان للشأن المفخّم. أو صلة «يتساءلون» و «عمّ» متعلّق بمضمر مفسّر به، كشي ء يبهم ثمّ يفسّر، كأنّه قال: عمّ يتساءلون؟ يتساءلون عن النبأ العظيم. و يدلّ عليه قراءة ابن كثير و يعقوب: عمّه، بهاء السكت للوقف، ثمّ الابتداء بقوله: «يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ».

الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بجزم النفي و بالشكّ فيه، فإنّه كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث، و منهم من يشكّ.

و قيل: الضمير للمسلمين و الكافرين جميعا. و كانوا جميعا يسألون عنه، أمّا

ص: 302

المسلم فليزداد خشية و استعدادا، و أمّا الكافر فليزداد استهزاء.

و قيل: المتساءل عنه القرآن. و قيل: نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و روي بالأسانيد الصحيحة في تفسير أهل البيت صلوات اللّه عليهم أنّ النبأ العظيم عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه. و قد روى علقمة: أنّ يوم صفّين لمّا التقى الصفّان برز رجل من عسكر الشام شاكي السلاح، و كأنّه من قرّاء الشام، و قرأ عمّ يتساءلون بدل الرجز، فوددت أن أبارزه. فقال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه:

مكانك. فتوجّه بنفسه الشريف نحوه، فلمّا قرب إليه قال عليه السّلام: أتعرف النبأ العظيم؟

فقال الشامي: لا. فقال عليه السّلام: و اللّه العظيم إنّي أنا النبأ العظيم الّذي فيّ اختلفتم، و على ولايتي تنازعتم، و عن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم، و ببغيكم هلكتم بعد ما بسيفي عن الكفر نجوتم، و يوم الغدير قد علمتم علمتم علمتم، و يوم القيامة تعلمون ما عملتم.

ثمّ علا بسيفه و رمى برأسه.

كَلَّا ردع عن التساؤل إنكارا و استهزاء سَيَعْلَمُونَ وعيد لهم بأنّهم سيعلمون أنّ ما يتساءلون عنه و يضحكون منه حقّ واقع لا ريب فيه.

ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك مبالغة. و «ثمّ» للإشعار بأنّ الوعيد الثاني آكد. و قيل: الأوّل في الدنيا، و الثاني في القيامة. أو الأوّل للبعث، و الثاني للجزاء في جهنّم. و روى ابن عامر: ستعلمون بالتاء، على تقدير:

قل لهم: ستعلمون.

ثمّ ذكّرهم ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه الدالّة على كمال قدرته، ليستدلّوا بذلك على صحّة البعث و الجزاء، و ما أخبروا به من أحوال المعاد، و ليعلموا بهذه الأفعال العجيبة الشأن أنّ الحكيم لا يفعل فعلا عبثا، كما يستلزم من إنكارهم البعث، أو من إنكارهم نزول القرآن المشتمل على مصالح الدارين، أو النبوّة المتضمّنة لإرشاد العباد، أو نصب الإمام المعصوم الحافظ لشريعة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أنّه

ص: 303

عابث في كلّ ما فعل، فقال:

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً فراشا أو وطاء و قرارا مهيّئا للتصرّف فيه من غير تعب و أذيّة وَ الْجِبالَ أَوْتاداً أي: أرسيناها (1) بالجبال لئلّا تميد بأهلها، كما يرسى البيت بالأوتاد.

وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ذكرا و أنثى حتّى يصحّ منكم التناسل، و يتمتّع بعضكم ببعض.

وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قطعا عن الإحساس و الحركة، استراحة للقوى الحيوانيّة، و إزاحة لكلالها. و قيل: موتا، لأنّ النوم أحد التوفّيين. و منه: المسبوت للميّت. و أصله القطع أيضا.

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء، و إخفاء ما لا يحبّ الاطّلاع عليه من كثير من الأمور.

وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وقت معاش تتقلّبون في حوائجكم لتحصيل ما تعيشون به. و قيل: حياة تنبعثون فيها عن نومكم.

وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً سبع سماوات محكمة قويّة الخلق، لا يؤثّر فيها مرور الدهور و كرور الأزمان.

وَ جَعَلْنا للعالم سِراجاً وَهَّاجاً متلألئا وقّادا. يعني: الشمس. من:

توهّجت النار إذا أضاءت. أو بالغا في الحرارة. من الوهج، و هو الحرّ.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ من السحائب إذا أعصرت، أي: قربت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد. و منه: أعصرت الجارية إذا قربت أن تحيض.

و عن مجاهد: من الرياح الّتي حان لها أن تعصر السحاب، أو من الرياح

ص: 304


1- أي: أثبتناها.

ذوات الأعاصير. و إنّما جعلت مبدأ للإنزال، لأنّها تنشئ السحاب و تدرّ أخلافه.

و قد جاء في الحديث: «أنّ اللّه تعالى يبعث الرياح، فتحمل الماء من السماء إلى السحاب».

فعلى هذا؛ الإنزال منها ظاهر.

و عن الحسن و قتادة: هي السماوات. و تأويله: أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنّ السماوات يعصرن، أي: يحملن على العصر.

ماءً ثَجَّاجاً منصبّا بكثرة. يقال: ثجّه و ثجّ بنفسه. و في الحديث: «أفضل الحجّ العجّ و الثجّ» أي: رفع الصوت بالتلبية، و صبّ دماء الهدي.

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ما يقتات به من نحو الحنطة و الشعير وَ نَباتاً و ما يعتلف به من التبن و الحشيش، كما قال: كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ (1).

وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً و بساتين ملتفّة أشجارها بعضها ببعض. قال صاحب الكشّاف: «و لا واحد له، كالأوزاع و الأخياف (2). و قيل: الواحد لفّ. و قال صاحب الإقليد: أنشدني الحسن بن عليّ الطوسي:

جنّة لفّ و عيش مغدق و ندامى كلّهم بيض زهر

و زعم ابن قتيبة أنّه: لفّاء، و لفّ، ثمّ ألفاف. و ما أظنّه واجدا له نظيرا من نحو:

خضر و أخضار، و حمر و أحمار. و لو قيل: هو جمع ملتفّة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها» (3). انتهى كلامه. و أقول: يمكن أن يكون جمع لفيف، حملا على نحو: أشراف و شريف.

[سورة النبإ [78]: الآيات 17 الى 30]

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [17] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [18] وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [19] وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ

ص: 305


1- طه: 54.
2- الأوزاع: الجماعات. و الأخياف: المختلفون. يقال: هم إخوة أخياف، أي: أمّهم واحدة و الآباء شتّى.
3- الكشّاف 4: 687.

سَراباً [20] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [21]

لِلطَّاغِينَ مَآباً [22] لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [23] لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً [24] إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً [25] جَزاءً وِفاقاً [26]

إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً [27] وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [28] وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً [29] فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً [30]

ثمّ ذكر سبحانه الإعادة و البعث تنبيها على أنّ الصنائع العجيبة تدلّ على صحّة البعث، فقال:

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ في علم اللّه، أو في حكمه مِيقاتاً حدّا تؤقّت به الدنيا و تنتهي عنده. أو حدّا للخلائق ينتهون إليه.

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل، أو عطف بيان ليوم الفصل فَتَأْتُونَ من القبور إلى المحشر أَفْواجاً أمما كلّ أمّة مع إمامهم. و قيل: جماعات مختلفة.

و في الحديث عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منزل أبي أيّوب الأنصاري، فقال معاذ: يا رسول اللّه أ رأيت قول اللّه تعالى: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً»؟ فقال: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور، ثمّ أرسل عينيه و قال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي: بعضهم على صورة القردة، و بعضهم على صورة الخنازير، و بعضهم منكّسون: أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، و بعضهم عميا، و بعضهم صمّا بكما، و بعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم، يتقذّرهم أهل

ص: 306

الجمع، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلّبون على جذوع من نار، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف، و بعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الّذين على صورة القردة فالقتّات (1) من الناس. و أمّا الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت. و أمّا المنكّسون على وجوههم فآكلة الربا. و أمّا العمي فالّذين يجورون في الحكم. و أمّا الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم. و أمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصّاص الّذين خالف قولهم أعمالهم. و أمّا الّذين قطعت أيديهم و أرجلهم فهم الّذين يؤذون الجيران. و أمّا المصلّبون على جذوع من النار فالسّعاة بالناس إلى السلطان. و أمّا الّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتّبعون الشهوات و اللذّات، و منعوا حقّ اللّه في أموالهم. و أمّا الّذين يلبسون الجباب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء».

وَ فُتِحَتِ السَّماءُ و شقّت شقوقا كثيرة. و قرأ الكوفيّون بالتخفيف. فَكانَتْ أَبْواباً أي: كثرة أبوابها المفتّحة لنزول الملائكة، فصارت من كثرة الشقوق كأنّ الكلّ أبواب مفتّحة، كقوله: وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً (2) أي: كأنّ كلّها عيون تنفجر لكثرتها. و على قراءة التخفيف معناه: فصارت ذات أبواب. و قيل: الأبواب الطرق و المسالك، أي: تكشط (3) فينفتح مكانها، و تصير طرقا لا يسدّها شي ء.

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ في الهواء كالهباء فَكانَتْ سَراباً مثل سراب، أي:

تصير شيئا كلا شي ء، لتفتّت أجزائها و انبثاث جواهرها، فإذا ترى على صورة الجبال و لم تبق على حقيقتها.

ص: 307


1- القتّات: النمّام. و قيل: هو الّذي يستمع أحاديث الناس من حيث لا يعلمون.
2- القمر: 12.
3- كشط الشي ء: رفع عنه شيئا قد غطّاه.

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفّار، أو خزنة الجنّة المؤمنين، ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها. كالمضمار، فإنّه الموضع الّذي تضمّر (1) فيه الخيل. أو محدّة في ترصّد الكفرة لئلّا يشذّ منها واحد.

و قيل: الطريق المعلم الّذي يرتصدون فيه.

لِلطَّاغِينَ مَآباً مرجعا و مأوى لابِثِينَ فِيها و قرأ حمزة و روح: لبثين.

و هو أبلغ و أقوى، لأنّ اللابث من وجد منه اللبث، و لا يقال: لبث إلّا لمن شأنه اللبث، كالّذي يجثم (2) بالمكان لا يكاد ينفكّ منه. أَحْقاباً حقب بعد حقب، كلّما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية. و لا يكاد يستعمل الحقب و الحقبة إلّا حيث يراد تتابع الأزمنة و تواليها. و الاشتقاق يشهد لذلك. ألا ترى إلى حقيبة الراكب و الحقب الّذي وراء التصدير، فإنّ الحقيبة حبل يشدّ به الرحل إلى بطن البعير، و التصدير: الحزام، و هو في صدر البعير.

و ما قيل عن قتادة: أنّ الحقب ثمانون سنة من سنيّ الآخرة. و عن الحسن:

سبعون ألف سنة، كلّ يوم من تلك السنين ألف سنة ممّا تعدّون. و عن مجاهد: أنّ الحقب ثلاثة و أربعون حقبا، كلّ حقب سبعون خريفا، كلّ خريف سبعمائة سنة، كلّ سنة ثلاثمائة و ستّون يوما، و كلّ يوم ألف سنة. و عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا، و الحقب بضع و ستّون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستّون يوما، كلّ يوم ألف سنة ممّا تعدّون».

لا يدلّ (3) على تناهي تلك الأحقاب، لجواز أن يكون المراد أحقابا مترادفة

ص: 308


1- ضمّر الفرس: صيّره ضامرا، و ذلك بأن يربطه و يكثر ماءه و علفه حتّى يسمن، ثمّ يقلّل ماءه و علفه مدّة و يركضه في الميدان حتّى يهزل.
2- جثم الرجل: تلبّد بالأرض، أي: لزمها و لزق بها و أقام فيها.
3- خبر لقوله: و ما قيل ... في بداية الفقرة السابقة.

كلّما مضى حقب لحقه آخر. و إن دلّ فمن قبيل المفهوم، فلا يعارض المنطوق الدالّ على خلود الكفّار.

و عن حمران قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية، فقال: هذه في الّذين يخرجون من النار». و روي عن الأحول مثله.

و لو جعل قوله: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً* إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً حالا من المستكن في «لابثين»، أو نصب «أحقابا» ب «لا يذوقون»، احتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلّا حميما و غسّاقا، ثمّ يبدّلون بعد الأحقاب جنسا آخر من العذاب.

و يجوز أن يكون من: حقب عامنا، إذا قلّ مطره و خيره. و حقب فلان إذا أخطأه الرزق، فهو حقب، و جمعه أحقاب. فينتصب حالا عنهم. يعني: لابثين فيها حقبين. و قوله: «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً» تفسير له، و الاستثناء منقطع. يعني:

لا يذوقون فيها بردا و روحا ينفّس عنهم حرّ النار، و لا شرابا يسكّن من عطشهم، و لكن يذوقون فيها حميما و غسّاقا.

و قيل: البرد النوم. و المراد بالغسّاق ما يغسق، أي: يسيل من صديدهم.

و قيل: الزمهرير. و هو مستثنى من البرد، إلّا أنّه أخّر ليتوافق رؤوس الآي. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بتشديد السين.

جَزاءً وِفاقاً أي: جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقا لها.

وصف بالمصدر. أو وافقها وفاقا.

ثمّ بيّن ما وافقه هذا الجزاء، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً أي: فعلنا ذلك بهؤلاء الكفّار لأنّهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا. و المعنى: كانوا لا يؤمنون بالبعث و لا بأنّهم محاسبون.

وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بما جاءت به الأنبياء. و قيل: بالقرآن. كِذَّاباً تكذيبا.

و فعّال بمعنى التفعيل مطّرد شائع في كلام الفصحاء.

ص: 309

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً مصدر ل «أحصيناه» فإنّ الإحصاء و الكتبة يتشاركان في معنى الضبط و التحصيل. أو لفعل مقدّر. أو حال بمعنى: مكتوبا في اللوح، أو في صحف الحفظة. و المعنى: إحصاء معاصيهم، كقوله: أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ (1). و الجملة اعتراض.

و قوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً مسبّب عن كفرهم بالحساب و تكذيبهم بالآيات. و زيادته باعتبار أنّ كلّ عذاب يأتي بعد الوقت الأوّل فهو زائد عليه. و ناهيك ب «لن نزيدكم»، و بدلالته على أنّ ترك الزيادة كالمحال الّذي لا يدخل تحت الصحّة، و بمجيئها على طريقة الالتفات، شاهدا على أنّ الغضب قد بلغ غاية البلوغ. و في الحديث: «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار».

[سورة النبإ [78]: الآيات 31 الى 40]

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً [31] حَدائِقَ وَ أَعْناباً [32] وَ كَواعِبَ أَتْراباً [33] وَ كَأْساً دِهاقاً [34] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً [35]

جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [36] رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً [37] يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً [38] ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [39] إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [40]

ص: 310


1- المجادلة: 6.

ثمّ عقّب سبحانه وعيد الكفّار بالوعد للمتّقين، فقال: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الّذين يتّقون باجتناب الشرك و المعاصي مَفازاً فوزا و ظفرا بالبغية. أو موضع فوز.

و قيل: نجاة ممّا فيه أولئك. أو موضع نجاة منه. و يؤيّد الأوّل تفسير المفاز بالبدليّة اشتمالا أو بعضا.

حَدائِقَ بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة وَ أَعْناباً تخصيص بعد تعميم، لمزيّتها على سائر الفواكه.

وَ كَواعِبَ نساء فلكت (1) و تكعّبت ثديهنّ. و هنّ النواهد. أَتْراباً لدات، أي: مستويات في السنّ و الخلقة و الصورة حتّى يكنّ متشاكلات. و عن الجبائي:

أترابا على مقدار أزواجهنّ في الحسن و الصورة و السنّ.

وَ كَأْساً دِهاقاً مترعة مملوءة. من: أدهق الحوض إذا ملأه. و عن سعيد بن جبير معناه: متتابعة على شاربيها.

لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنّة لَغْواً ما لا فائدة فيه وَ لا كِذَّاباً و لا تكذيب بعضهم لبعض. و قرأ الكسائي بالتخفيف، أي: كذبا أو مكاذبة.

جَزاءً مِنْ رَبِّكَ بمقتضى وعده. مصدر مؤكّد منصوب بمعنى قوله: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً». كأنّه قال: جازى المتّقين بمفاز. عَطاءً بدل من «جزاء». و قيل:

منتصب به نصب المفعول به، أي: جزاهم عطاء حِساباً صفة بمعنى: كافيا. من:

أحسبه الشي ء إذا كفاه حتّى قال: حسبي. و قيل: على حسب أعمالهم.

رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا بدل من «ربّك». و قد رفعه الحجازيّان و أبو عمرو على الابتداء.

الرَّحْمنِ صفة له، أي: من ربّهما المنعم على خلقه مؤمنهم و كافرهم. إلّا

ص: 311


1- فلك ثدي الجارية: استدار. و تكعّبت الجارية: نهد ثديها، أي: ارتفع مكانه و انتبر و أشرف.

في قراءة ابن عامر و عاصم و يعقوب برفع «الرحمن» وحده، على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الرّحمن، أو مبتدأ خبره لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً. و على قراءة الحجازيّين «لا يملكون» خبر «ربّ السموات». أو خبره «الرحمن» و «لا يملكون» خبر بعد خبر.

و ضمير الجمع لأهل السماوات و الأرض، أي: لا يملكون خطابه و الاعتراض عليه في أمر الثواب و العقاب، لأنّهم مملوكون له على الإطلاق، فلا يستحقّون عليه اعتراضا في الزيادة و النقص. أو لا يملكون أن يخاطبوه بشي ء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلّا أن يأذن لهم فيه، كما قال تقريرا و توكيدا لذلك:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ظرف ل «لا يملكون» أو ل «يتكلّمون».

و الروح: ملك موكّل على الأرواح، أو جنسها، أو جبرئيل. و عن ابن عبّاس:

ملك أعظم من الملائكة و أشرف منهم، و أقرب من ربّ العالمين، ما خلق اللّه بعد العرش خلقا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّا، و قامت الملائكة كلّهم صفّا، فيكون عظم خلقه مثل صفّهم.

و عن وهب: أنّ جبرئيل واقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ ترتعد فرائصه، يخلق اللّه عزّ و جلّ من كلّ رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي اللّه عزّ و جلّ منكّسوا رؤوسهم ساكتين، فإذا أذن اللّه لهم في الكلام قالوا: لا إله إلّا أنت.

و ذلك معنى قوله: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الكلام وَ قالَ صَواباً أي: شهد بالتوحيد. أو إلّا لمن أذن له في الشفاعة، فيشفع لمن ارتضى لا لغيره، لقوله: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (1).

و ملخّص المعنى: أنّ هؤلاء الّذين هم أفضل الخلائق و أشرفهم و أقربهم من اللّه، إذا لم يقدروا أن يتكلّموا بين يديه بما يكون صوابا- كالشفاعة لمن ارتضى- إلّا

ص: 312


1- الأنبياء: 28.

بإذنه، فكيف يملكه غيرهم بغير إذنه؟ و هذا ردّ لزعم المشركين أنّ آلهتهم شفعاؤهم، كما حكاه سبحانه عنهم أنّ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ (1).

و روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن هذه الآية فقال:

نحن و اللّه المأذون لهم يوم القيامة و القائلون بالصواب. قال: جعلت فداك؛ ما تقولون؟ قال: نمجّد ربّنا، و نصلّي على نبيّنا، و نشفع لشيعتنا، فلا يردّنا ربّنا». رواه العيّاشي مرفوعا.

و على هذا؛ المراد بالروح أرواح الأنبياء و الأوصياء. و يؤيّده ما

ورد في الحديث: «أنّ الروح خلق من خلق اللّه ليسوا بالملائكة، بل على صورة بني آدم، و هم يأكلون».

ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ الكائن لا محالة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ إلى ثوابه و قرب منزلته لديه مَآباً مرجعا بالإيمان و الطاعة، فقد أزيحت العلل، و أوضحت السبل، و بلّغت الرسل.

ثمّ هدّد سبحانه كفّار مكّة بقوله: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يعني: عذاب الآخرة. و قربه لتحقّقه، فإنّ كلّ ما هو آت قريب، و لأنّ مبدأه الموت يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ يرى ما قدّمه من خير أو شرّ.

و قيل: ينتظر جزاء ما قدّمه، فإن قدّم الطاعة انتظر الثواب، و إن قدّم المعصية انتظر العذاب. و المرء عام.

و قيل: هو الكافر، لقوله: «إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ». فمعنى «ما قَدَّمَتْ يَداهُ» هو الشرّ، كقوله: وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (2). ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ (3). وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ

ص: 313


1- يونس: 18.
2- الأنفال: 50- 51.
3- الأنفال: 50- 51.

الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (1). ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ (2). بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (3).

و «ما» موصولة منصوبة ب «ينظر». يقال: نظرته بمعنى: نظرت إليه. و الراجع من الصلة محذوف. أو استفهاميّة منصوبة ب «قدّمت» أي: ينظر أيّ شي ء قدّمت يداه؟

و على القول بأنّ المراد بالمرء هو الكافر يكون قوله: وَ يَقُولُ الْكافِرُ وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة الذمّ. و المعنى: إنّا أنذرناكم عذابا في يوم ينظر الكافر عقوبة عقيدته الفاسدة و أعماله القبيحة، و يقول تحسّرا في ذلك اليوم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً في الدنيا، فلم أخلق، و لم أكلّف، فلا أعاد، و لا أحاسب، و لا أعاقب.

أو في هذا اليوم، فلم أبعث. و قيل: يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثمّ تردّ ترابا، فيودّ الكافر حالها.

و عن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم، و حشر الدوابّ و البهائم و الوحوش، ثمّ يجعل القصاص بين الدّوابّ، حتّى يقتصّ للشاة الجمّاء (4) من الشاة القرناء الّتي نطحتها.

و قال مجاهد: يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة.

و قال المقاتلان: إنّ اللّه يجمع الوحوش و الهوامّ و الطير و كلّ شي ء غير الثقلين، فيقول: من ربّكم؟ فيقولون: الرحمن الرحيم. فيقول لهم الربّ بعد ما يقضي بينهم حتّى يقتصّ للجمّاء من القرناء: إنّا خلقناكم و سخّرناكم لبني آدم، و كنتم مطيعين أيّام حياتكم، فارجعوا إلى الّذي كنتم فكونوا ترابا، فتكون ترابا. فإذا التفت

ص: 314


1- الحجّ: 9- 10.
2- الحجّ: 9- 10.
3- الجمعة: 7.
4- أي: الّتي لا قرن لها.

الكافر إلى شي ء صار ترابا يتمنّى، فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا على صورة الخنزير أرزق كرزقه، و كنت اليوم- أي: في الآخرة- ترابا.

و قيل: المراد بالكافر إبليس، لمّا يرى آدم و ولده و ثوابهم يتمنّى أن يكون الشي ء الّذي احتقره حين قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (1).

ص: 315


1- الأعراف: 12.

ص: 316

[79] سورة النازعات

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة و النازعات لم يكن حبسه و حسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتّى يدخل الجنّة».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأها لم يمت إلّا ريّان، و لم يبعثه اللّه إلّا ريّان».

[سورة النازعات [79]: الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً [1] وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً [2] وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً [3] فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً [4]

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [5] يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ [6] تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [7] قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [8] أَبْصارُها خاشِعَةٌ [9]

يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [10] أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [11] قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [12] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [13] فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [14]

ص: 317

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة النبأ بذكر أحوال القيامة و أهوالها، افتتح هذه السورة بمثله، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ النَّازِعاتِ أقسم سبحانه بملائكة الموت حين ينزعون أرواح الكفّار من أبدانهم غَرْقاً أي: إغراقا في النزع، فإنّهم ينزعونها من أقاصي الأبدان، من أناملها و أظفارها و جلودها. أو نفوسا غرقة في الأجساد.

وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ينشطون، أي: يخرجون أرواح المؤمنين برفق، كما ينشط العقال من يد البعير. من: نشط الدلو من البئر إذا أخرجها.

وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً يسبحون في إخراجها سبح الغوّاص الّذي يخرج الشي ء من أعماق البحر.

فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فيسبقون بأرواح الكفّار إلى النار، و بأرواح المؤمنين إلى الجنّة.

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فيدبّرون أمر عقابهم و ثوابهم، بأن يهيّؤها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام و اللذّات.

و قيل: النزع و النشط لملائكة الموت، و البواقي لطوائف من الملائكة يسبحون في مضيّها، أي: يسرعون فيه، فيسبقون إلى ما أمروا به، فيدبّرون أمرا من أمور العباد ممّا يصلحهم في دنياهم أو دينهم كما رسم لهم.

و قد ورد أنّ جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت و إسرافيل يدبّرون أمور الدنيا.

أمّا جبرئيل فموكّل بالرياح و الجنود. و أمّا ميكائيل فموكّل بالقطر و النبات. و أمّا ملك الموت فموكّل بقبض الأنفس. و أمّا إسرافيل فهو يتنزّل بالأمر.

أو الكلّ صفات أنفس الغزاة أو أيديهم، تنزع القسيّ بإغراق السهام، و ينشطون بالسهم للرمي، و يسبحون في البرّ و البحر، فيسبقون إلى حرب العدوّ بالعدو التمام، فيدبّرون أمرها.

ص: 318

أو صفات خيلهم، فإنّها تنزع في أعنّتها نزعا، بأن تجذب العنان عن يد فارسها، و تغرق في نزع الأعنّة لطول أعناقها، لأنّها عراب. و الّتي تخرج في دار الإسلام إلى دار الكفر، من قولك: ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد، و تسبح في جريها فتسبق إلى العدوّ، فتدبّر أمر الظفر. و إسناد التدبير إليها لأنّها من أسبابه.

أو صفات النفوس الفاضلة حال المفارقة، فإنّها تنزع أنفسها عن الأبدان غرقا، أي: نزعا شديدا لتشوّق المفارقة، فتنشط إلى عالم الملكوت و تسبح فيه، فتسبق إلى حظائر القدس فتصير لشرفها و قوّتها من المدبّرات. أو حال سلوكها، فإنّها تنزع عن الشهوات، فتنشط إلى عالم القدس، فتسبح في مراتب الارتقاء، فتسبق إلى الكمالات حتّى تصير من المكمّلات.

و عن ابن عبّاس: أنّ نفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج. و ذلك أنّه ما من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت، فيرى موضعه فيها و أزواجه من الحور العين، فنفسه تنشط أن تخرج.

أو صفات النجوم، فإنّها تنزع من المشرق إلى المغرب. و إغراقها في النزع أن تقطع الفلك كلّه حتّى تنحطّ في أقصى المغرب، و تنشط من برج إلى برج- أي:

تخرج- و يسجن في الفلك، فيسبق بعضها في السير، لكونه أسرع حركة، فتدبّر أمرا نيط بها، كاختلاف الفصول، و تقدير الأزمنة، و ظهور مواقيت العبادات، و علم الحساب. و لمّا كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسريّة- أي: لغيرها- و حركاتها من برج إلى برج ملائمة- أي: لنفسها- سمّى الأولى نزعا و الثانية نشطا.

و القول الأوّل منقول عن عليّ عليه السّلام و مقاتل و سعيد بن جبير.

و على التقادير؛ المقسم عليه محذوف، و هو: لتبعثنّ أو لتقومنّ الساعة. و إنّما حذف ليدلّ عليه قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ و هو منصوب بجواب القسم. و المراد بالراجفة الأجرام الساكنة الّتي تشتدّ حركتها حينئذ، كالأرض و الجبال، لقوله

ص: 319

تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ (1). أو الواقعة الّتي ترجف الأجرام و يشتدّ اضطرابها عندها.

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ الواقعة التابعة للأولى. و هي انشقاق السماء و انتثار الكواكب، فإنّهما أثر الراجفة. و يجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (2) أي: القيامة الّتي يستعجلها الكفرة استبعادا لها، فهي الرادفة لهم لاقترابها. و الجملة في موضع الحال، أي: ترجف تابعتها الرادفة.

و إنّما جعل «يوم ترجف» ظرفا للمضمر الّذي هو «لتبعثنّ»، و لا يبعثون عند النفخة الأولى، لأنّ المعنى: لتبعثنّ في الوقت الواسع الّذي يقع فيه النفختان، و هم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، و هو وقت النفخة الاخرى. و دلّ على أنّ اليوم هو الوقت الواسع، أنّ اليوم زمان الرجفة المقيّدة بكونها متبوعة بالرادفة، فيكون الزمان واسعا للأمرين. فهي لا تنافي قوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (3).

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ شديدة الاضطراب. من الوجيف، بمعنى شديد السرعة. وصفت بما يحدث بحدوثها، و هي النفخة الأولى.

أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي: أبصار أصحابها ذليلة من الخوف، و لذلك أضافها إلى القلوب، فإنّها قلقة غير هادئة و ساكنة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة. و رفع «قلوب» بالابتداء، و «واجفة» صفتها، و خبرها قوله: «أَبْصارُها خاشِعَةٌ». فهو

ص: 320


1- المزّمّل: 14.
2- النمل: 72.
3- الزمر: 68.

كقوله: وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ (1).

يَقُولُونَ يقول منكروا البعث أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ في الحالة الأولى. يعنون الحياة بعد الموت. من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي: طريقه الّتي جاء فيها فحفرها، أي: أثّر فيها بمشيه فيها. جعل أثر قدميه حفرا، كما قيل:

حفرت أسنانه حفرا، إذا أثّر الأكال في أسناخها (2). و الخطّ المحفور في الصخر. أو على النسبة، أي: منسوبة إلى الحفر، كقوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ (3). أو تشبيه القابل بالفاعل، كقولهم: نهارك صائم، أي: وقع فيها الحفر.

أَ إِذا قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: إذا، على الخبر كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً بالية، أي: البالي الأجوف جدّا بحيث إن تمرّ فيها الريح يسمع له نخير. و قرأ الحجازيّان و الشامي و حفص و روح: نخرة (4). و هي أبلغ. و نصب «إذا» بمحذوف تقديره: أ إذا كنّا عظاما نردّ و نبعث.

قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها.

و المعنى: أنّها إن صحّت فنحن إذا خاسرون، لتكذيبنا بها. و هو استهزاء منهم.

فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ متعلّق بمحذوف، أي: لا يستصعبوها، فما هي- أي: النفخة الثانية- إلّا صيحة واحدة. يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على اللّه عزّ و جلّ، فإنّها سهلة هيّنة في قدرته جدّا، فتحدث في أسرع زمان.

فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. و الساهرة الأرض البيضاء المستوية. سمّيت بذلك لأنّ السراب يجري فيها.

ص: 321


1- البقرة: 221.
2- أسناخ السنّ: منبتها و أصولها. و الواحدة: سنخ.
3- القارعة: 7.
4- و القراءة الاخرى: ناخرة.

من قولهم: عين ساهرة للّتي يجري ماؤها. و في ضدّها نائمة. أو لأنّ سالكها يسهر فلا ينام خوف الهلكة. و عن قتادة: هي اسم جهنّم.

[سورة النازعات [79]: الآيات 15 الى 26]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [15] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [16] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [17] فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [18] وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [19]

فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى [20] فَكَذَّبَ وَ عَصى [21] ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [22] فَحَشَرَ فَنادى [23] فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [24]

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى [25] إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [26]

و لمّا تقدّم ذكر المكذّبين للأنبياء المنكرين للبعث، عقّبه بحديث موسى و تكذيب قومه إيّاه، و ما قاساه من الشدائد تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و وعدا له بالنصر، و حثّا إيّاه على الصبر اقتداء بموسى، و تحذيرا لقومه أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، و عظة لهم، و تأكيدا للحجّة عليهم، فقال:

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: أليس قد أتاك حديثه فيسلّيك على تكذيب قومك، و تهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم؟! و الهمزة للتقرير. إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اسم واد. و قد مرّ (1) بيانه مفصّلا في سورة طه.

ص: 322


1- راجع ج 4 ص 227، ذيل الآية [12] من سورة طه.

اذْهَبْ على إرادة القول، أي: قال اللّه تعالى له: اذهب إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى تجاوز الحدّ في الاستعلاء و التمرّد.

فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى هل لك الميل إلى أن تتطهّر من الكفر و الطغيان؟

يقال: هل لك في كذا؟ و هل لك إلى كذا؟ كما يقال: هل ترغب فيه؟ و هل ترغب إليه؟ و معناه: العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ أمره سبحانه أن يقول له الكلام الرقيق الليّن ليستدعيه بالتلطّف في القول، و يستنزله بالمداراة من عتوّه، كما أمر بذلك في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً (1). و قرأ الحجازيّان و يعقوب:

تزكّى بالتشديد.

وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ و أرشدك إلى معرفة اللّه، و أنبّهك عليه فتعرفه فَتَخْشى بأداء واجباته المأمورة و ترك محرّماته المنهيّة، إذ الخشية بعد المعرفة، و قد قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (2) أي: العلماء العرفاء به.

و ذكر الخشية لأنّها ملاك الأمر، فإنّ من خشي اللّه أتى منه كلّ خير، و من أمن اجترأ على كلّ شرّ. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من خاف أدلج (3)، و من أدلج بلغ المنزل».

و هذا كالتفصيل، لقوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً (4).

فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي: فذهب فأراه المعجزة الكبرى، و هي قلب العصا حيّة، فإنّها كان المقدّم و الأصل، و الآيات الاخرى كالتبع لها. أو مجموع معجزاته، فإنّها باعتبار دلالتها كالآية الواحدة.

فَكَذَّبَ بموسى و الآية الكبرى، فسمّاهما ساحرا و سحرا وَ عَصى و عصى اللّه بعد ما علم صحّة الأمر، و أنّ الطاعة قد وجبت عليه.

ص: 323


1- طه: 44.
2- فاطر: 28.
3- أدلج القوم: ساروا الليل كلّه أو في آخره.
4- طه: 44.

ثُمَّ أَدْبَرَ عن الطاعة يَسْعى ساعيا في إبطال أمره. أو أدبر بعد ما رأى الثعبان مرعوبا مسرعا في مشيه. عن الحسن: كان رجلا طيّاشا خفيفا.

فَحَشَرَ فجمع السحرة، كقوله: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (1).

فَنادى بنفسه في المجمع الّذي اجتمعوا فيه معه، أو أمر مناديا فنادى من قبله.

و الأصحّ أنّه قام فيهم خطيبا.

فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي: لا ربّ فوقي، أو أعلى من كلّ من يلي أمركم.

و قيل: معناه: أنا الّذي أنال بالضرر من شئت، و لا ينالني غيري. و كذب اللعين، إنّما هذه صفة اللّه الّذي خلقه و خلق جميع الخلائق. و قيل: إنّه جعل الأصنام أربابا فقال: أنا ربّكم و ربّها.

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى أخذا منكّلا لمن رآه أو سمعه، في الآخرة بالإحراق، و في الدنيا بالإغراق. أو مصدر مؤكّد، كوعد اللّه، و صبغة اللّه. تقديره:

نكّل اللّه به نكال الآخرة و الأولى. أو أخذه اللّه على نكال كلمته الآخرة، و هي هذه، و كلمته الأولى، و هي قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي (2). أو للتنكيل في الدارين للكلمتين.

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه كان بين الكلمتين أربعون سنة».

و عن وهب، عن ابن عبّاس قال: قال موسى عليه السّلام: يا ربّ إنّك أمهلت فرعون أربعمائة سنة و هو يقول: أنا ربّكم الأعلى، و يجحد رسلك، و يكذّب بآياتك.

فأوحى اللّه تعالى إليه أنّه كان حسن الخلق سهل الحجاب، فأحببت أن أكافيه.

و روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال جبرئيل عليه السّلام: قلت: يا ربّ تدع فرعون و قد قال: أنا ربّكم الأعلى؟ فقال: إنّما يقول .

ص: 324


1- الشعراء: 53.
2- القصص: 38.

هذا مثلك من يخاف الفوت».

إِنَّ فِي ذلِكَ الّذي فعل بفرعون حين كذّب و عصى لَعِبْرَةً لعظة لِمَنْ يَخْشى لمن كان من شأنه الخشية.

[سورة النازعات [79]: الآيات 27 الى 33]

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [27] رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [28] وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها [29] وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [30] أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها [31]

وَ الْجِبالَ أَرْساها [32] مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ [33]

و لمّا قدم سبحانه ما أتى به موسى، و ما قابله به فرعون، و ما عوقب به في الدارين، عظة لمن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تحذيرا لهم من المثلات، خاطب عقيب ذلك منكري البعث، فقال:

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ أصعب خَلْقاً أَمِ السَّماءُ أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم و في تقديركم أم السماء؟ و هما في قدرة اللّه على السواء. ثمّ بيّن كيف خلقها فقال: بَناها.

ثمّ فسّر البناء بقوله: رَفَعَ سَمْكَها أي: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، أو الذاهب في سمت العلوّ رفيعا مسيرة خمسمائة عام فَسَوَّاها فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت و لا فطور أصلا. أو فتمّمها بما علم أنّه صلاحها و كمالها، من الكواكب و التداوير الّتي ليست بشاملة على الأرض و غين ها. من قولهم: سوّى فلان أمره إذا أصلحه.

وَ أَغْطَشَ لَيْلَها أظلمه. من: غطش الليل إذا أظلم، كقولك: ظلم و أظلمه.

ص: 325

و يقال أيضا: أغطش الليل، كما يقال: أظلم. فجاءا متعدّيين و لازمين. وَ أَخْرَجَ ضُحاها و أبرز ضوء شمسها، لقوله: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) يريد النهار.

و قولهم: وقت الضحى للوقت الّذي تشرق فيه الشمس و يقوم سلطانها. و إنّما أضاف الليل و الضحى إلى السماء، لأنّهما يحدثان بحركتها، و لأنّ الليل ظلّها، و الضحى الشعاع المنبثّ في جوّها.

وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ بعد خلق السماء دَحاها بسطها و مهّدها للسكنى.

قال ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى دحا الأرض بعد السماء و إن كانت الأرض خلقت قبل السماء، و كانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها. و قال مجاهد و السدّي: معناه:

و الأرض مع ذلك دحاها، كما قال: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (2) أي: مع ذلك.

أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بتفجير العيون وَ مَرْعاها و رعيها. و هو في الأصل موضع الرعي. و المراد ما يأكل الناس و الأنعام، من الثمار و الأشجار و الحبوب و سائر النباتات. و استعير الرعي للإنسان، كما استعير الرتع في قوله: يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ (3).

وَ الْجِبالَ أَرْساها أثبتها. و تجريد «أخرج» عن العاطف لوجهين:

أحدهما: أن يكون معنى «دحاها»: بسطها و مهّدها للسكنى. ثمّ فسّر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتّي سكناها، من تسوية أمر المأكل و المشرب، و إمكان القرار عليها، و السكون بإخراج الماء و المرعى، و إرساء الجبال، و إثباتها أوتادا لها حتّى تستقرّ و يستقرّ عليها.

و الثاني: أن يكون «أخرج» حالا بإضمار «قد» كقوله:أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ

ص: 326


1- الشمس: 1.
2- القلم: 13.
3- يوسف: 12.

صُدُورُهُمْ (1).

مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ أي: خلق ما ذكر تمتيعا لكم. أو متّع اللّه بذلك تمتيعا لكم و لمواشيكم.

[سورة النازعات [79]: الآيات 34 الى 41]

فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [34] يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى [35] وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [36] فَأَمَّا مَنْ طَغى [37] وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا [38]

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [39] وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [40] فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [41]

و لمّا دلّ سبحانه بهذه الأشياء على صحّة البعث، وصف يومه بقوله: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الداهية الّتي تطمّ، أي: تعلو و تغلب على سائر الدواهي الْكُبْرى الّتي هي أكبر الطامّات. و هي القيامة، لطمومها على كلّ هائلة، أي: ما من طامّة إلّا و فوقها طامّة، و القيامة فوق كلّ طامّة، فهي الداهية العظمى. و قيل: هي النفخة الثانية، أو الساعة الّتي يساق فيها أهل الجنّة إلى الجنّة، و أهل النار إلى النار.

و جواب «فإذا» محذوف، تقديره: فوقع ما لا يدخل تحت الوصف. و يدلّ عليه قوله: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ما عمله من خير و شرّ، بأن يراه مدوّنا في صحيفته، و كان قد نسيها من فرط الغفلة أو طول المدّة. و هو بدل من «إذا جاءت». و «ما» موصولة أو مصدريّة.

وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ و أظهرت لِمَنْ يَرى لكلّ راء بحيث لا تخفى على

ص: 327


1- النساء: 90.

أحد. فَأَمَّا مَنْ طَغى تجاوز الحدّ الّذي حدّه اللّه له، و ارتكب المعاصي العظيمة حتّى كفر وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا انهمك فيها، و لم يستعدّ للآخرة بالعبادة و تهذيب النفس. و الإيثار إرادة الشي ء على طريقة التفضيل له على غيره. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى مأواه. و اللام فيه سادّة مسدّ الإضافة، للعلم بأنّ صاحب المأوى هو الطاغي.

وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ مقام مساءلة ربّه عمّا يجب عليه فعله أو تركه وَ نَهَى النَّفْسَ النفس الأمّارة بالسوء عَنِ الْهَوى عن اتّباع الشهوات و زجرها عنه، و ضبطها بالصبر و التوطين على إيثار الخير، لعلمه بأنّه مرد فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ليس له سواها مأوى.

[سورة النازعات [79]: الآيات 42 الى 46]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [42] فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [43] إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها [44] إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [45] كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [46]

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ استهزاء و إنكارا أَيَّانَ مُرْساها متى إرساؤها. أي: إقامتها و إثباتها، بأن يقيمها اللّه و يثبتها و يكوّنها. أو منتهاها و مستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه و تستقرّ فيه.

فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها في أيّ شي ء أنت من أن تذكر وقتها لهم، أي: ما أنت من ذكرها لهم و تبيين وقتها في شي ء، فإنّ ذكرها لا يزيدهم إلّا غيّا، و وقتها ممّا استأثره اللّه بعلمه. و روي: أنّه لم يزل رسول اللّه يذكر الساعة يسأل عنها حتّى نزلت. فهو على هذا تعجّب من كثرة ذكره لها، كأنّه قيل: في أيّ شغل و اهتمام أنت

ص: 328

من ذكرها و السؤال عنها. و المعنى: أنّهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها و تسأل عنها.

و قيل: «فيم» إنكار لسؤالهم. و «أَنْتَ مِنْ ذِكْراها» مستأنف، معناه: أنت ذكر من ذكراها، أي: علامة من أشراطها، فإنّ إرسالك خاتما للأنبياء أمارة من أماراتها.

فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها و مشارفتها، و وجوب الاستعداد لها. و لا معنى لسؤالهم عنها.

ثمّ قال: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي: لم تبعث لتعلّمهم وقت الساعة الّذي لا فائدة لهم في علمه، و إنّما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف هولها، و يكون إنذارك لطفا له في الخشية منها. و عن أبي عمرو: منذر بالتنوين، و الإعمال على الأصل.

و كلاهما يصلحان للحال و الاستقبال، فإذا أريد الماضي فليس إلّا الإضافة، كقولك:

هو منذر زيد أمس.

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا أي: في الدنيا. و قيل: في القبور. إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي: عشيّة يوم أوضحاه. و أضاف الضحى إلى العشيّة لما بينهما من الملابسة، لاجتماعهما في نهار واحد. و إنّما لم يقل: إلّا عشيّة أو ضحى، للدلالة على أنّ مدّة لبثهم كأنّها لم تبلغ يوما كاملا، و لكن ساعة منه: عشيّته أو ضحاه، فلمّا ترك اليوم أضافه إلى عشيّته، فهو كقوله تعالى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ (1).

ص: 329


1- الأحقاف: 35.

ص: 330

[80] سورة عبس

اشارة

مكّيّة. و هي اثنان و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة و وجهه ضاحك مستبشر».

و روى معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة عبس و تولّى و إذا الشمس كوّرت كان تحت جناح اللّه في الجنان، و في ظلّ اللّه و كرامته في جنانه، و لا يعظم ذلك على ربّه عزّ و جلّ».

[سورة عبس [80]: الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَ تَوَلَّى [1] أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [2] وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [3] أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى [4]

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [5] فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [6] وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى [7] وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى [8] وَ هُوَ يَخْشى [9]

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [10] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ [11] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [12] فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ [13] مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [14]

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ [15] كِرامٍ بَرَرَةٍ [16]

ص: 331

و لمّا ختم اللّه عزّ و جلّ سورة النازعات بذكر إنذار من يخشى القيامة، افتتح هذه السورة بذكر إنذاره قوما يرجو إسلامهم و إعراضه عمّن يخشى.

و سبب نزول هذه السورة أنّه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابن أمّ مكتوم- و أمّ مكتوم أمّ أبيه لأمّه، و اسمه عبد اللّه بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ- و عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صناديد قريش: عتبة و شيبة ابنا ربيعة، و أبو جهل بن هشام، و العبّاس بن عبد المطّلب، و أميّة بن خلف، و الوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه أقرئني و علّمني ممّا علمك اللّه. و كرّر ذلك و هو لا يعلم تشاغله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بالقوم. فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطع ابن أمّ مكتوم كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،؟؟؟ الصناديد: إنّما أتباعه العميان و العبيد، و عبس و أعرض عنه على القوم الّذين يكلّمهم. فعاتبه اللّه سبحانه بنزول هذه السورة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* عَبَسَ و قبض وجهه وَ تَوَلَّى و أعرض بوجهه أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى لأن جاءه هذا الأعمى. منصوب المحلّ ب «تولّى» أو ب «عبس» على اختلاف المذهبين. و ذكر الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقوم، و الدلالة على أنّه أحقّ بالرأفة و الرفق. أو لزياد العتاب و الإنكار، كأنّه قال: عبس و تولّى لكونه أعمى، و كان يجب أن يزيده لعما تعطّفا و ترأّفا و تقريبا و ترحيبا. و لأجل ذلك أيضا التفت عن الغيبة إلى الخطاب كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه، ثمّ يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجها له بالعتاب و التوبيخ، فقال:

وَ ما يُدْرِيكَ أي: و أيّ شي ء يجعلك داريا، أي: عالما بحال هذا الأعمى لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتطهّر من الآثام بما يتلقّف منك. و فيه إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية؟

غيره.

ص: 332

أَوْ يَذَّكَّرُ يتّعظ بما يعلّمه من مواعظ القرآن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى فتنفعه موعظتك، و تكون له لطفا في بعض الطاعات. و المعنى: إنّك لا تدري ما هو مترقّب منه من تزكّ أو تذكّر، و لو دريت لما فرط منك ذلك. قالوا: و في هذا لطف من اللّه عظيم لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ لم يخاطبه في باب العبوس، فلم يقل: عبست، فلمّا جاوز العبوس عاد إلى الخطاب و قال: و ما يدريك.

و قيل: الضمير في «لعلّه» للكافر، أي: إنّك طمعت في أن يتزكّى بالإسلام، أو يتذكّر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحقّ، و لذلك أعرضت عن غيره، فما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن. و قرأ عاصم بالنصب جوابا ل «لعلّ»، كقوله: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى (1).

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى بكثرة الأموال و الخدم و الحشم فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى تتعرّض بالإقبال عليه. و المصاداة: المعارضة. و أصله: تتصدّى. و قرأ ابن كثير و نافع: تصدّى.

وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى و ليس عليك باس في أن لا يتزكّى بالإسلام، حتّى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض. أو أيّ شي ء يلزمك إن لم يسلم، فإنّه ليس عليك إلّا البلاغ.

وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يسرع طالبا للخير وَ هُوَ يَخْشى يخشى اللّه، أو يخشى أذيّة الكفّار في إتيانك، أو عثرة الطريق، لأنّه أعمى لا قائد له فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل. يقال: لها عنه و التهى و تلهّى. و لعلّ ذكر التصدّي و التلهّي للإشعار بأنّ العتاب على اهتمام قلبه بالغنيّ و تلهّيه عن الفقير. و في تكرير ضمير الخطاب إفادة الاختصاص. و معناه: مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدّى للغنيّ و يتلهّى عن الفقير.

ص: 333


1- غافر: 37.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن مكتوم، و يقول إذا رآه:

مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي. و يقول له: هل لك من حاجة؟ و استخلفه على المدينة مرّتين.

و قال أنس: رأيته يوم القادسيّة- و هو يوم فتح المدائن بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و عليه درع، و له راية سوداء.

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأى عبد اللّه بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا و اللّه لا يعاتبني اللّه فيك أبدا».

و روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما عبس بعدها في وجه فقير قطّ، و لا تصدّى لغنيّ. و لقد تأدّب الناس بأدب اللّه و رسوله في هذا تأدّبا حسنا،

فقد روي عن سفيان الثوري:

أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

و اعلم أنّ علم الهدى قدّس اللّه روحه أنكر أن يكون المعاتب في هذه الآيات هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قال في تنزيه الأنبياء: «ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. و فيها ما يدلّ على أن المعنيّ بها غيره، لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع الأعداء المباينين، فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء و يتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة.

و يؤيّد هذا القول قوله سبحانه في وصفه عليه السّلام: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (1).

و قوله: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (2). فالظاهر أنّ قوله: «عبس و تولّى» المراد به غيره. و قد روي عن الصادق عليه السّلام أنّها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجاء ابن أمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه، فحكى اللّه سبحانه ذلك و أنكره عليه.

ص: 334


1- القلم: 4.
2- آل عمران: 159.

فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنبا أم لا؟

فالجواب: أنّ العبوس و الانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنبا. فيجوز أن يكون عاتب اللّه سبحانه بذلك نبيّه ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، و ينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، و يعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه.

و قال الجبائي: في هذا دلالة على أنّ الفعل يكون معصية فيما بعد، لمكان النهي. فأمّا في الماضي فلا يدلّ على أنّه كان معصية قبل أن ينهى عنه، و اللّه سبحانه لم ينبّهه إلّا في هذا الوقت.

و قيل: إنّ ما فعله الأعمى كان نوعا من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلّا أنّه كان يجوز أن يتوهّم أنّه إنّما أعرض عنه لفقره، و أقبل عليهم لرئاستهم تعظيما لهم، فعاتبه اللّه سبحانه على ذلك» (1) انتهى كلامه.

و أنا أقول: ما

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأى عبد اللّه بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا و اللّه لا يعاتبني اللّه فيك أبدا»

لا يدلّ على أنّ العابس و المتولّي عن الأعمى هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لجواز أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت الآيات في معاتبة الرجل المذكور فيما فعل بالأعمى عرف حال الأعمى و مكانته عند اللّه، فقال ذلك إجلالا و تعظيما له، و زجرا لنفسه عن أن يصدر منه ما صدر من الرجل المذكور.

كَلَّا ردع عن المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله. و المعنى: انزجر عن مثل ذلك، و لا تعد لذلك. و في هذا الردع دلالة على أنّه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل، و أمّا الماضي فلمّا لم يتقدّم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية. إِنَّها

ص: 335


1- تنزيه الأنبياء: 118- 119.

تَذْكِرَةٌ موعظة يجب الاتّعاظ بها و العمل بموجبها.

فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ حفظه، أو اتّعظ به. و الضميران للقرآن، أو للعتاب المذكور. و تأنيث الأوّل لتأنيث خبره. و يحتمل أن يكون الضمير الأوّل راجعا إلى المواعظ المذكورة، و الثاني إلى «تذكرة». و تذكيره لأنّ التذكرة في معنى الذكر. و في هذا دلالة على أنّ العبد قادر على الفعل مخيّر فيه.

فِي صُحُفٍ مثبتة فيها. صفة ل «تذكرة»، أو خبر ثان، أو خبر لمحذوف.

مُكَرَّمَةٍ عند اللّه مَرْفُوعَةٍ في السماء، أو مرفوعة المقدار مُطَهَّرَةٍ منزّهة عن أيدي الكفرة أو الشياطين، لا يمسّها إلّا أيدي ملائكة مطهّرين بِأَيْدِي سَفَرَةٍ أي: كتبة من الملائكة الّذين ينتسخون الكتب المنزلة على الأنبياء من اللوح. أو من الأنبياء الّذين ينتسخونها من الوحي.

و قيل: المراد بالصحف اللوح. و جمعها باعتبار أنواع الحكم و فنون الوقائع فيه.

و قيل: السفرة القرّاء من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكتبونها و يقرءونها. أو سفراء يسفرون بالوحي بين اللّه و رسله. من السفر على الأوّل، و السفارة على الثاني.

و التركيب للكشف. يقال: سفرت المرأة إذا كشفت وجهها.

و يؤيّد الأوّل قوله تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (1). و ما نقل عن مقاتل أنّ القرآن كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة، ثمّ ينزل به جبرئيل عليه السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

كِرامٍ أعزّاء على اللّه. أو متعطّفين على المؤمنين، يكلّمونهم و يستغفرون لهم. و قيل: كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها. بَرَرَةٍ أتقياء.

ص: 336


1- الأعلى: 18.

[سورة عبس [80]: الآيات 17 الى 23]

قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [17] مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ [18] مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [19] ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [20] ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ [21]

ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [22] كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ [23]

ثمّ ذكر سبحانه المكذّبين بالقرآن، فقال: قُتِلَ الْإِنْسانُ أهلك و لعن. دعاء عليه بأشنع الدعوات، لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا و فظائعها. ما أَكْفَرَهُ تعجّب من إفراطه في كفران اللّه و نعمته. و هو مع قصره يدلّ على سخط عظيم و ذمّ بليغ.

قال صاحب الكشّاف: «و لا ترى أسلوبا أغلظ منه، و لا أخشن مسّا، و لا أدلّ على سخط، و لا أبعد شوطا في المذمّة، مع تقارب طرفيه، و لا أجمع للأئمّة على قصر متنه» (1).

و اللام إشارة إلى كلّ كافر. و عن الضحّاك: هو أميّة بن خلف. و قيل: عتبة بن أبي لهب، إذ قال: كفرت بربّ النجم إذا هوى.

ثمّ بيّن وصف حاله من ابتداء حدوثه إلى أن انتهى، و ما هو مغمور فيه من أصول النعم و فروعها، و ما هو غارز فيه رأسه من الكفران و الغمط و قلّة الالتفات، إلى ما يتقلّب فيه، و إلى ما يجب عليه من القيام بالشكر، فقال:

مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ الاستفهام للتحقير، أي: أيّ شي ء حقير مهين خلقه؟

و لذلك أجاب عنه بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ فهيّأه لما يصلح له و يختصّ به من الأعضاء و الأشكال. أو فقدّره أطوارا إلى أن تمّ خلقته.

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثمّ سهّل مخرجه من بطن أمّه، بأن فتح فوهة (2) الرحم،

ص: 337


1- الكشّاف 4: 703.
2- فوهة الشي ء و فوّهته: فمه.

و ألهمه أن ينتكس. أو ذلّل له سبيل الخير و الشرّ بإقداره و تمكينه، كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ (1). و عن ابن عبّاس: بيّن له السبيلين. و نصب «السبيل» بفعل يفسّره الظاهر، للمبالغة في التيسير. و تعريفه باللام دون الإضافة للإشعار بأنّه سبيل عامّ. و فيه- على المعنى الأخير- إيماء بأنّ الدنيا طريق و المقصد غيرها. و لذلك عقّبه بقوله:

ثُمَّ أَماتَهُ عدّ الإماتة في النعم، لأنّ الإماتة وصلة في الجملة إلى الحياة الأبديّة و اللذّات الخالصة فَأَقْبَرَهُ فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، و لم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع و الطير كسائر الحيوان. يقال: قبر الميّت إذا دفنه، و أقبره إذا أمره أن يقبره و مكّنه منه.

ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أنشأه النشأة الأخرى. و في «إذا شاء» إشعار بأنّ وقت النشور غير متعيّن في نفسه، و إنّما هو موكول إلى مشيئته.

كَلَّا ردع للإنسان عمّا هو عليه لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لم يقض بعد- مع تطاول الزمان و امتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية- ما أمره اللّه بأسره حتّى يخرج من جميع أوامره، إذ لا يخلو أحد من تقصير مّا.

[سورة عبس [80]: الآيات 24 الى 32]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [24] أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [25] ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [26] فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا [27] وَ عِنَباً وَ قَضْباً [28]

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً [29] وَ حَدائِقَ غُلْباً [30] وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا [31] مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ [32]

ص: 338


1- الإنسان: 3.

و لمّا عدّد النعم الذاتيّة أتبعه ذكر النعم الخارجيّة، و هي ما يحتاج إليه في التعيّش، فقال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ مطعمه الّذي يعيش به، و يتفكّر كيف دبّرنا أمره من أسباب التعيّش.

ثمّ استأنف بيان كيفيّة إحداث الطعام بقوله: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني:

الغيث. و قرأ الكوفيّون بالفتح (1) على البدل من «طعامه» بدل الاشتمال.

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي: بالنبات. أو بالكراب (2) على البقر. و حينئذ أسند الشقّ إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب.

فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا جنس الحبوب الّتي يتقوّت بها، كالحنطة و الشعير وَ عِنَباً خصّه لكثرة منافعه وَ قَضْباً يعني: الرطبة. و المقضاب: أرضه.

سمّيت بمصدر: قضبه إذا قطعه، لأنّها تقضب مرّة بعد اخرى.

وَ زَيْتُوناً يعصر عنه الزيت وَ نَخْلًا جمع نخلة وَ حَدائِقَ غُلْباً يحتمل أن يجعل كلّ حديقة غلباء. فيريد تكاثفها و كثرة أشجارها و عظمها، كما تقول: حديقة ضخمة. و أن يجعل شجرها غلبا، أي: عظاما غلاظا. و الأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير.

وَ فاكِهَةً و سائر ألوان الفواكه وَ أَبًّا و مرعى. من: أبّ إذا أمّ، لأنّه يؤمّ و ينتجع (3). و الأبّ و الأمّ أخوان. أو من: أبّ لكذا إذا تهيّأ له، لأنّه متهيّئ للرعي. أو فاكهة يابسة تؤبّ للشتاء. و نقل في الكشّاف (4) عن أبي بكر أنّه سئل عن الأبّ، فقال: أيّ سماء تظلّني، و أيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا علم لي به.

ص: 339


1- أي: بفتح همزة: أنّا.
2- كرب الأرض كرابا: قلّبها و حرثها.
3- في هامش الخطّية: «النجعة بالضمّ: طلب الكلأ في موضعه. منه».
4- الكشّاف 4: 704.

و عن عمر: أنّه قرأ هذه الآية فقال: كلّ هذا قد عرفنا، فما الأبّ؟ ثمّ رفض (1) عصا كانت بيده و قال: هذا لعمر اللّه التكلّف. ثمّ قال: اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، و ما لا فدعوه.

مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ تمتيعا لكم و لمواشيكم، فإنّ الأنواع المذكورة بعضها طعام و بعضها علف.

[سورة عبس [80]: الآيات 33 الى 42]

فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [33] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [34] وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ [35] وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ [36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [37]

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ [38] ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [39] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ [40] تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [41] أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [42]

و لمّا بيّن النشأة الأولى و توابعها ذكر أحوال النشأة الآخرة، فقال: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي: النفخة. يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له. وصفت النفخة بها مجازا، لأنّ الناس يصخّون لها، أي: يصيحون. و عن ابن عبّاس: سمّيت بذلك، لأنّها تصخّ الآذان، أي: تبالغ في إسماعها حتّى تكاد تصمّها.

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ لاشتغاله بشأنه، و علمه بأنّهم لا ينفعونه. و قيل: للحذر من مطالبتهم بما قصّر في حقّهم. فيقول الأخ:

ص: 340


1- رفض الشي ء: رماه و تركه.

لم تواسني بمالك. و الأبوان: قصّرت في برّنا. و الصاحبة: أطعمتني الحرام، و فعلت و صنعت كذا و كذا. و البنون: لم تعلّمنا و لم ترشدنا. و بدأ بالأخ ثمّ بالأبوين، لأنّهما أقرب منه، ثمّ بالصاحبة و البنين، لأنّهم أقرب و أحبّ. كأنّه قيل: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته و بنيه.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أمر عظيم يشغله عن الأقرباء، و يصرفه عنهم، و يكفيه في الاهتمام به، أي: ليس فيه فضل لغيره، لما هو فيه من الأمر الّذي قد اكتنفه و ملأ صدره، فصار كالغنيّ عن الشي ء في أمر نفسه لا ينازع إليه.

و روي عن عطاء بن يسار، عن سودة زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يبعث الناس حفاة عراة غرلا (1)، يلجمهم العرق، و يبلغ شحمة الآذان.

قالت: قلت: يا رسول اللّه؛ وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟! قال: شغل الناس عن ذلك، و تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكلّ امرئ يومئذ شأن يغنيه».

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مضيئة. من: أسفر الصبح إذا أضاء. و عن ابن عبّاس: من قيام الليل، لما روي من الحديث: «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار». و عن الضحّاك: من آثار الوضوء. و قيل: من طول ما اغبرّت في سبيل اللّه.

ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ لما ترى من النعيم.

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار و كدورة، كالدخان يعلوها تَرْهَقُها قَتَرَةٌ يعلوها و يغشاها سواد و ظلمة. و لا ترى أوحش من اجتماع الغبرة و السواد في الوجه، كما ترى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت.

أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الّذين جمعوا إلى الكفر الفجور، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة.

ص: 341


1- غرل الصبيّ: لم يختن. فهو أغرل. و الجمع: غرل.

ص: 342

[81] سورة التكوير

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و عشرون آية. و منهم من يقول: سورة التكوير.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» أعاذه اللّه أن يفضحه حين تنشر صحيفته».

ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أحبّ أن ينظر إليّ يوم القيامة فليقرأ «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»».

و روى أبو بكر قال: قلت: يا رسول اللّه أسرع إليك الشيب! قال: «شيّبتني سورة هود، و الواقعة، و المرسلات، و عمّ يتساءلون، و إذا الشمس كوّرت».

و روي: أنّ عليّا عليه السّلام لمّا غسّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجد في لحيته شعرات بيضا، و ما لا يظهر إلّا بعد التفتيش لا يكون شيبا.

فعلى هذا؛ فالمراد

بقوله: «شيّبتني هذه السورة»

أنّه لو كان أمر يشيب منه إنسان لشبت.

[سورة التكوير [81]: الآيات 1 الى 21]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [1] وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [2] وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [3] وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ [4]

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [5]

ص: 343

وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [6] وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [7] وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [8] بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [9]

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [10] وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ [11] وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ [12] وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [13] عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [14]

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [15] الْجَوارِ الْكُنَّسِ [16] وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [17] وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [18] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [19]

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [20] مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [21]

و لمّا ختم سبحانه سورة عبس بذكر القيامة و أهوالها، افتتح هذه السورة أيضا بذكر علاماتها و أحوالها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ لفّت. من: كوّرت العمامة إذا لففتها. أو بمعنى: رفعت، لأنّ الثوب إذا أريد رفعه لفّ و طوي. و نحوه قوله تعالى:

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ (1). و عن ابن عبّاس و مجاهد: لفّ ضوؤها فذهب انبساطه في الآفاق و زال أثره فأظلمت، ثمّ يحدث اللّه تعالى ضياء للعباد غيرها. و عن الربيع و أبي صالح: ألقيت و طرحت عن فلكها. من: طعنه فكوّره إذا ألقاه مجتمعا.

و التركيب للإدارة و الجمع. و ارتفاع الشمس بفعل يفسّره ما بعدها أولى، لأنّ «إذا» الشرطيّة تطلب الفعل.

ص: 344


1- الأنبياء: 104.

وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ انقضّت، أي: تساقطت و تناثرت. و هذا مثل قوله:

وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (1). إلّا أنّ في الأوّل يذهب ضوؤها ثم تتناثر. و عن الجبائي: أظلمت، من: كدرت الماء فانكدر. و يروى: أنّ الشمس و النجوم تطرح في جهنّم ليراها من عبدها

، كما قال: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (2).

وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض و أبعدت. أو في الجوّ تسيير السحاب، كقوله: وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (3).

وَ إِذَا الْعِشارُ النوق اللواتي أتى على حملهنّ عشرة أشهر، ثمّ هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة. جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء. و هي أنفس ما تكون عند أهلها و أعزّها عليهم. عُطِّلَتْ تركت مهملة بلا راع، لاشتغالهم بأنفسهم. و قيل: العشار السحائب عطّلت من المطر. حكي ذلك عن الجبائي، و أبي عمرو. و قال الأزهري: لا أعرف هذا في اللغة.

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ جمعت من كلّ جانب. أو بعثت للقصاص ثمّ ردّت ترابا، فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم و إعجاب بصورته، كالطاووس و نحوه. و قال قتادة: يحشر كلّ شي ء- حتّى الذباب- للقصاص. و عن ابن عبّاس:

حشرها موتها. من قولهم إذا أجحفت السنة بالناس: حشرتهم، أي: أماتتهم.

وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أحميت. أو ملئت بتفجير عذبها على مالحها، و مالحها على عذبها، فيرتفع البرزخ بينهما حتّى يعود بحرا واحدا. من: سجّر التنّور إذا ملأه بالحطب ليحميه. و عن ابن عبّاس: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار.

و عن الحسن: يذهب ماؤها، فلا تبقى فيها قطرة. و عن الجبائي: ملئت من القيح

ص: 345


1- الانفطار: 2.
2- الأنبياء: 98.
3- النمل: 88.

و الصديد الّذي يسيل من أبدان أهل النار في النار. و قيل: أراد بحار جهنّم، لأنّ بحور الدنيا قد فنيت. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و روح بالتخفيف.

وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قرنت بالأجساد. أو كلّ منها قرنت بشكلها من أهل النار، و بشكلها من أهل الجنّة. أو بكتابها و عملها. أو نفوس المؤمنين بالحور، و نفوس الكافرين بالشياطين. و قيل: يقرن الغاوي بمن أغواه، من إنسان أو شيطان.

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ المدفونة حيّة. من: و أد يئد، مقلوب من: آد يؤد إذا أثقل.

قال اللّه تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما (1) لأنّه إثقال بالتراب سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ تبكيتا لوائدها، كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسى عليه السّلام: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (2). و إنّما قيل: «قتلت» بناء على أنّ الكلام إخبار عنها. و لو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل: قتلت. و كانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم من أجلهنّ. و كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه، فنلحق البنات بهنّ، فيقولون: إنّهنّ أحقّ بهنّ.

و في الكشّاف: «كان الرجل في الجاهليّة إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبّة من صوف أو شعر، ترعى له الإبل و الغنم في البادية. و إن أراد قتلها تركها حتّى إذا كانت سداسيّة- أي: بلغت قامتها ستّة أشبار- فيقول لأمّها: طيّبيها و زيّنيها حتّى أذهب بها إلى أحمائها، و قد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثمّ يدفعها من خلفها، و يهيل عليها التراب حتّى تستوي البئر بالأرض» (3).

و عن ابن عبّاس: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفيرة فتمخّضت على

ص: 346


1- البقرة: 255.
2- المائدة: 116.
3- الكشّاف 4: 708.

رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، و إن ولدت ابنا حبسته.

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني: صحف الأعمال، فإنّها تطوى عند الموت ثمّ تنشر وقت الحساب. و عن قتادة: صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك ثمّ تنشر يوم القيامة، فلينظر رجل ما يملى في صحيفته. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يحشر الناس حفاة عراة، كما مرّ في السورة السابقة. فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال:

شغل الناس يا أمّ سلمة. قالت: و ما شغلهم؟ قال: نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ و مثاقيل الخردل».

و قيل: «نشرت» بمعنى: فرّقت بين أصحابها. و قيل: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنّة عالية، و تقع صحيفة الكافر في يده في سموم و حميم. و معناه: مكتوب فيهما ذلك. و هي صحف غير صحف الأعمال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي بالتشديد، للمبالغة في النشر، أو لكثرة الصحف، أو لشدّة التطاير.

وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قلعت و أزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة.

وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أوقدت إيقادا شديدا. و قرأ نافع و ابن عامر برواية ابن ذكوان و حفص و رويس بالتشديد. و قيل: سعّرها غضب اللّه و خطايا بني آدم.

وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قربت من المتّقين، كقوله: وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (1) ليزدادوا سرورا، و يزداد أهل النار حسرة.

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب «إذا» و عاملها. و المعنى: إذا كانت هذه الأشياء علمت في ذلك الوقت كلّ نفس ما وجدت حاضرا من عملها، كما قالوا:

أحمدته، أي: وجدته محمودا.

ص: 347


1- ق: 31.

و قيل: علمت ما أحضرته من خير و شرّ. و إحضار الأعمال مجاز، لأنّها لا تبقى. و المعنى: أنّه لا يشذّ عنها شي ء، فكأنّ كلّها حاضرة.

و قيل: المراد صحائف الأعمال.

و إنّما صحّ ذلك و المذكور في سياق «إذ» اثنتا عشرة خصلة، ستّ منها في مبادئ قيام الساعة قبل فناء الدنيا، و ستّ بعده، لأنّ المراد زمان متّسع شامل لها و لمجازاة النفوس على أعمالها. و «نفس» في معنى العموم، كقولهم: تمرة خير من جرادة. كأنّه قيل: علمت كلّ نفس.

و عن ابن مسعود: أنّ قارئا قرأها عنده، فلمّا بلغ «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» قال: و انقطاع ظهرياه.

فَلا أُقْسِمُ قد ذكرنا اختلاف العلماء فيه غير مرّة بِالْخُنَّسِ بالكواكب الرواجع. من: خنس إذا تأخّر. ألا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوّله.

و هي ما سوى النيّرين من السيّارات. و لذلك وصفها بقوله: الْجَوارِ السيّارات في أفلاكها الْكُنَّسِ الغيّب تحت ضوء الشمس. من: كنس الوحشيّ إذا دخل كناسه، و هو بيته المتّخذ من أغصان الشجر.

و عن عليّ عليه السّلام: «هي الدّراري الخمسة: زحل، و مشتري، و مرّيخ، و عطارد، و زهرة».

تجري مع الشمس و القمر، و ترجع حتّى تخفى تحت ضوء الشمس.

فخنوسها: رجوعها. و كنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس.

و قيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، و تكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها، كالوحش في كنسها.

وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أدبر ظلامه. يقال: عسعس الليل و سعسع إذا أدبر.

قال العجاج:

حتّى إذا الصبح لها تنفّسا

و انجاب عنها ليلها و عسعسا

ص: 348

و قيل: عسعس إذا أقبل ظلامه. فهو من الأضداد.

وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي: طلع و ظهرت إضاءته. و لمّا كان إقبال الصبح مع إقبال روح و نسيم، جعل ذلك نفسا له على المجاز، فقيل: تنفّس الصبح.

و جواب القسم قوله: إِنَّهُ أي: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ على ربّه.

يعني: جبرئيل عليه السّلام، فإنّه قاله عن اللّه تعالى. و قيل: إنّما أضافه إلى جبرئيل، لأنّ اللّه تعالى قال له: ائت محمّدا و قل له كذا.

ثمّ وصف جبرئيل عليه السّلام بقوله: ذِي قُوَّةٍ كقوله: شَدِيدُ الْقُوى (1). و لمّا كانت حال المكانة على حسب حال الممكّن قال: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أي: عند مالك العرش و خالقه و مدبّره مَكِينٍ ذي مكانة و رفعة، ليدلّ على عظم منزلته و مكانته و علوّ مرتبته.

مُطاعٍ في ملائكته ثَمَ إشارة إلى الظرف المذكور، أعني: عند ذي العرش. و يحتمل اتّصاله بما قبله و ما بعده، على معنى: أنّه عند اللّه مطاع في ملائكته المقرّبين، يصدرون عن أمره، و يرجعون إلى رأيه. قالوا: و من طاعة الملائكة لجبرئيل أنّه أمر خازن الجنّة ليلة المعراج حتّى فتح لمحمّد أبوابها، فدخلها و رأى ما فيها، و أمر خازن النار ففتح له عنها حتّى نظر إليها. أو عند اللّه.

أَمِينٍ على الوحي إلى أنبيائه.

و في الحديث: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل عليه السّلام: ما أحسن ما أثنى عليك ربّك «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ». فما كانت قوّتك؟ و ما كانت أمانتك؟ قال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مدائن لوط، و هي أربع مدائن، في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتّى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج و نباح الكلاب، ثمّ هويت بهنّ فقلبتهنّ. و أمّا أمانتي؛ فإنّي لم أومر بشي ء فعدوته إلى غيره».

ص: 349


1- النجم: 5.

[سورة التكوير [81]: الآيات 22 الى 29]

وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [22] وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [23] وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [24] وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [25] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [26]

إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [27] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [28] وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [29]

ثمّ خاطب الكفّار، فقال: وَ ما صاحِبُكُمْ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِمَجْنُونٍ كما تبهته (1) الكفرة. و هذا أيضا من جواب القسم، أقسم اللّه عزّ اسمه أنّ القرآن نزل به جبرئيل، و أنّ محمّدا ليس على ما يرميه به أهل مكّة من الجنون. و الاستدلال بذلك على فضل جبرئيل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث عدّ فضائل جبرئيل، و اقتصر في محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على نفي الجنون. ضعيف جدّا، إذ المقصود منه نفي قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ (2) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ (3). لا تعداد فضلهما و الموازنة بينهما.

وَ لَقَدْ رَآهُ و لقد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل عليه السّلام على صورته الأصليّة الّتي خلقه اللّه عليها بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ بمطلع الشمس الأعلى.

وَ ما هُوَ و ما محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى الْغَيْبِ على ما يخبر به، من رؤية جبرئيل و الوحي إليه، و غير ذلك من الغيوب. بِضَنِينٍ بمتّهم. من الظنّة، و هي التهمة. و قرأ نافع و عاصم و حمزة و ابن عامر: بضنين. من الضنّ، و هو البخل، أي:

ص: 350


1- أي: تتّهمه بما ليس فيه.
2- النحل: 103.
3- سبأ: 8.

لا يبخل بالتبليغ، فيزوي (1) بعضه غير مبلّغه، أو يسأل تعليمه فلا يعلّمه. و هو في مصحف عبد اللّه بالظاء، و في مصحف أبيّ بالضاد. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ بهما.

و إتقان الفصل بين الضاد و الظاء واجب، و معرفة مخرجيهما ممّا لا بدّ منه للقارى ء، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين، و إن فرّقوا ففرقا غير صواب. و بينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافّة اللسان، و ما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره. و أمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان و أصول الثنايا العليا. و لو استوى الحرفان لما ثبت في هذه الكلمة قراءتان، و لما اختلف المعنى و الاشتقاق و التركيب.

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ بقول بعض المسترقة للسمع، و بوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة. و هو نفي لقولهم: إنّه لكهانة و سحر.

ثمّ بكّتهم اللّه سبحانه، فقال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر الرسول و القرآن، كقولك لتارك الجادّة اعتسافا: أين تذهب؟ فمثّلت حالهم بحاله في تركهم الحقّ، و عدولهم عنه إلى الباطل.

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ تذكير لِلْعالَمِينَ لا مطلقا، بل لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بتحرّي الحقّ و ملازمة الصواب. فهذا بدل من «للعالمين». و إنّما أبدلوا منهم لأنّ الّذين شاؤا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنّه لم يوعظ به غيرهم، و إن كانوا موعظين جميعا.

وَ ما تَشاؤُنَ الاستقامة يا من يشاؤها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ إلّا بتوفيق اللّه مالك الخلق كلّهم و بلطفه. أو و ما تشاؤنها أنتم يا من لا يشاؤها إلّا بقسر اللّه و إلجائه. و لكن لا يفعل، لأنّه إنّما يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقّوا الثواب، فلا يريد أن يحملكم عليه.

ص: 351


1- أي: يمنع.

ص: 352

[82] سورة انفطرت

اشارة

و تسمّى سورة الانفطار أيضا. مكّيّة. و هي تسع عشرة آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأها أعطاه اللّه من الأجر يعدد كلّ قبر حسنة، و بعدد كلّ قطرة مائة حسنة، و أصلح اللّه شأنه يوم القيامة».

و روى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من قرأ هاتين السورتين: إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقّت، و جعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة و النافلة، لم يحجبه من اللّه حجاب، و لم يحجزه من اللّه حاجز، و لم يزل ينظر إلى اللّه و ينظر اللّه إليه حتّى يفرغ من حساب الناس».

[سورة الانفطار [82]: الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [1] وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [2] وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [3] وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [4]

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ [5] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [6] الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [7] فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [8] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ

ص: 353

[9] وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [10] كِراماً كاتِبِينَ [11] يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [12] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [13] وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [14]

يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [15] وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [16] وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ [17] ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ [18] يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [19]

و لمّا كانت السورة المتقدّمة في ذكر أهوال القيامة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك ليتّصل بها اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انشقّت وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ تساقطت متفرّقة. قال ابن عبّاس: سقطت سودا لا ضوء لها.

وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتح بعضها إلى بعض، فزال البرزخ بينها، فاختلط العذب بالمالح، و صار الكلّ بحرا واحدا. و روي: أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية. و هو معنى التسجير عند الحسن.

وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ بحثت و قلب ترابها و أخرج موتاها. و قيل: إنّه مركّب من «بعث» مع راء مضمومة إليه. و نظيره: بحثرت لفظا و معنى. و قيل لبراءة (1):

المبعثرة، لأنّها بعثرت أسرار المنافقين.

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ من حسنة أو سيّئة وَ أَخَّرَتْ من سنّة يستنّ بها

ص: 354


1- أي: لسورة البراءة.

بعده. و هو جواب «إذا» و عاملها.

و عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: ما قدّمت من خير أو شرّ، و ما أخّرت من سنّة حسنة استنّ بها بعده، فله أجر من اتّبعه من غير أن ينقص من أجورهم شي ء، أو سنّة سيّئة عمل بها بعده، فعليه وزر من عمل بها، و لا ينقص من أوزارهم شي ء.

و يؤيّد هذا القول ما

جاء في الحديث: «أن سائلا قام على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسأل، فسكت القوم، ثمّ إنّ رجلا أعطاه، فأعطاه القوم أيضا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من استنّ خيرا فاستنّ به فله أجوره و مثل أجور من اتّبعه غير منتقص من أجورهم، و من استنّ شرّا فاستنّ به فعليه وزره و مثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم».

قال: فتلا حذيفة بن اليمان: «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ». و تفصيل ذلك تقدّم (1) في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ.

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أيّ شي ء خدعك و جرّأك على عصيانك بربّك. و إنّما وصف ذاته بين الصفات بالكرم في بيان إنكار الاغترار به، و إنّما يغترّ بالكريم- كما

يروى عن عليّ عليه السّلام أنّه صاح بغلام له كرّات فلم يلبّه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك، و أمني من عقوبتك.

فاستحسن جوابه و أعتقه.

و قد قالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه- للمبالغة في المنع عن الاغترار، فإنّ محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم، و تسوية الموالي و المعادي و المطيع و العاصي، فكيف إذا انضمّ إليه صفة القهر و الانتقام. و للإشعار بما به يغرّه الشيطان، فإنّه يقول له: افعل ما شئت، فربّك كريم لا يعذّب أحدا، و لا يعاجل بالعقوبة. و للدلالة على أنّ كثرة كرمه تستدعي الجدّ في طاعته، لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه.

فملخّص المعنى: أنّ حقّ الإنسان أن لا يغترّ بتكرّم اللّه عليه، حيث خلقه

ص: 355


1- راجع ص 257، ذيل الآية [13] من سورة القيامة.

حيّا لينفعه، و بتفضّله عليه بذلك، حتّى يطمع- بعد ما مكّنه و كلّفه، فعصى و كفر النعمة المتفضّل بها- أن يتفضّل عليه بالثواب و طرح العقاب، اغترارا بالتفضّل الأوّل، فإنّه منكر خارج من حدّ الحكمة. و لهذا

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلاها: «غرّه جهله».

و قال الحسن: غرّه و اللّه شيطانه الخبيث، أي: زيّن له المعاصي، و قال له:

افعل ما شئت، فربّك الكريم الّذي تفضّل عليك بما تفضّل به أوّلا، و هو متفضّل عليك آخرا، حتّى ورّطه.

و قيل للفضيل بن عياض: إن أقامك اللّه يوم القيامة و قال لك: «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» ماذا تقول؟ قال: أقول: غرّتني ستورك المرخاة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كم مغرور بالستر عليه، و مستدرج بالإحسان إليه».

و قال يحيى بن معاذ: لو أقامني اللّه بين يديه فقال: ما غرّك بي؟ قلت: غرّني بك برّك بي سابقا و آنفا.

و عن بعضهم قال: غرّني حلمك.

و عن أبي بكر الورّاق: غرّني كرم الكريم.

و هذه الأقوال على سبيل الاعتراف بالخطإ في الاغترار بالستر. و ليس باعتذار كما يظنّه الطمّاع، و يظنّ به قصّاص الحشويّة، و يروون عن شيوخهم إنّما قال: «بربّك الكريم» دون سائر صفاته، ليلقّن عبده الجواب حتّى يقول: غرّني كرم الكريم.

ثمّ ذكر سبحانه صفة ثانية لذاته، مقرّرة لربوبيّته، مبيّنة لكرمه الّذي يقتضي امتثال أمره و نهيه، فقال:

الَّذِي خَلَقَكَ من نطفة، و لم تك شيئا فَسَوَّاكَ فجعلك سويّا سالم الأعضاء لتكون معدّة لمنافعها فَعَدَلَكَ فصيّرك معتدلا متناسب الأعضاء من غير

ص: 356

تفاوت فيه. فلم يجعل إحدى اليدين أطول، و لا إحدى العينين أوسع، و لا بعض الأعضاء أبيض، و لا بعضها أسود، و لا بعض الشعر فاحما، و بعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائما لا كالبهائم.

و قرأ الكوفيّون: فعدلك بالتخفيف. و فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون بمعنى: عدّل مشدّدا، أي: فعدّل بعض أعضائك ببعض حتّى اعتدلت.

و الثاني: فصرفك. من: عدله عن الطريق. يعني: فعدلك عن خلقة غيرك، و خلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الحيوانات. أو فعدلك إلى بعض الأشكال و الهيئات.

فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ الجارّ متعلّق ب «ركّبك». و «ما» مزيدة.

و المعنى: وضعك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته و حكمته، من الصور المختلفة في الحسن و القبح، و الطول و القصر، و الذكورة و الأنوثة، و الشبه ببعض الأقارب و خلاف الشبه. أو بمحذوف، أي: ركّبك حاصلا في أيّ صورة شاء. و قيل: «ما» شرطيّة، و «ركّبك» جوابها، و الظرف صلة «عدلك». و يكون في «أيّ» معنى التعجّب، أي: فعدلك في صورة عجيبة. ثمّ قال: «ما شاءَ رَكَّبَكَ» أي: ركّبك ما شاء من التراكيب. يعني: تركيبا حسنا. و لمّا كانت الجملة بيانا لقوله «فعدلك» لم يعطف على ما قبلها.

كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم اللّه. و المعنى: ارتدعوا عن الاغترار بكرم اللّه الّذي هو موجب للشكر و الطاعة، إلى عكسهما الّذي هو الكفر و المعصية. ثمّ قال:

بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم. و المراد بالدين الجزاء أو دين الإسلام، أي: لا يصدّقون بالثواب و العقاب، أو بالإسلام.

و هو شرّ من الطمع المنكر.

ص: 357

ثمّ حقّق تكذيبهم بالجزاء، و ردّ ما يتوقّعون من التسامح و الإهمال، فقال:

وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ أي: إنّكم تكذّبون بالجزاء اغترارا بالتسامح، و قد وكّل عليكم الملائكة الحافظون أعمالكم المكرّمون عند اللّه يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ فيكتبون أعمالكم لتجاوزوا بها. و في تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء، و أنّه عند اللّه من جلائل الأمور، و لو لا ذلك لما وكّل بضبط ما يحاسب عليه و يجازي به الملائكة الكرام الحفظة.

و فيه إنذار و تهويل و تشوير (1) للعصاة، و لطف للمؤمنين. و عن الفضيل: أنّه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من آية على الغافلين. و في الآية دلالة على أنّ أفعال العباد حادثة من جهتهم، و أنّهم المحدثون لها دونه تعالى، و إلّا فلا يصحّ قوله: «ما تفعلون».

ثمّ بيّن ما يكتبون لأجله بقوله: إِنَّ الْأَبْرارَ المحسنين المطيعين للّه في الدنيا لَفِي نَعِيمٍ و هو الجنّة وَ إِنَّ الْفُجَّارَ الكفّار المكذّبين لَفِي جَحِيمٍ و هو العظيم من النار يَصْلَوْنَها يلزمونها و يقاسون حرّها يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ لخلودهم فيها.

و قيل: معناه: و ما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم، إذ كانوا يجدون سموم جهنّم في القبور.

و قيل: أخبر اللّه تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة الّتي يحفظ فيها عمله، و حال الآخرة الّتي يجازى فيها، و حال البرزخ، و هو قوله: «وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ».

ثمّ قال تعجّبا و تفخيما لشأن يوم الجزاء: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ أي: أمر يوم القيامة، بحيث لا تدرك دراية كلّ دار كنهه في الهول و الشدّة، و كيفما تصوّرته

ص: 358


1- شوّر به: أخجله.

فهو فوق ذلك و على أضعافه.

ثمّ كرّر ذلك القول بقوله: ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ لزيادة التهويل.

ثمّ قرّر شدّة هوله و فخامة أمره إجمالا، فقال: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي: لا تستطيع دفعا عنها و لا نفعا لها بوجه مّا. و نصب الظرف بإضمار:

يدانون، لأنّ «الدين» يدلّ عليه. أو بإضمار: اذكر. و يجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكّن، و هو في محلّ الرفع. و رفعه نافع و ابن كثير و البصريّان، على البدل من «يوم الدين» أو على الخبر لمحذوف. وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ لا أمر يومئذ في الجزاء و العفو إلّا للّه وحده.

روى عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكّام، فلم يبق حاكم إلّا اللّه».

و المعنى: أنّ اللّه قد ملّك في الدنيا كثيرا من الناس أمورا و أحكاما، و في القيامة لا أمر لسواه و لا حكم. و لا ينافي ذلك شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّها لا تكون إلّا بأمره تعالى و بإذنه، فهي من تدابيره.

ص: 359

ص: 360

[83] سورة المطفّفين

اشارة

و تسمّى سورة التطفيف. مكّيّة. و قال ابن عبّاس و قتادة: مدنيّة إلّا ثماني آيات منها، و هي: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى آخر السورة. و هي ستّ و ثلاثون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأها سقاه اللّه من الرحيق المختوم يوم القيامة».

و روى صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كانت قراءته في الفريضة ويل للمطفّفين، أعطاه اللّه الأمن يوم القيامة من النار، و لا تراه و لا يراها، و لا يمرّ على جسر جهنّم، و لا يحاسب يوم القيامة».

[سورة المطففين [83]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [1] الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [2] وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [3] أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [4]

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [5] يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [6]

و لمّا ختم سبحانه سورة الانفطار بذكر القيامة و ما أعدّ فيها للأبرار و الفجّار،

ص: 361

بيّن في هذه السورة أيضا ذكر أحوال الناس في القيامة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ التطفيف البخس في الكيل و الوزن، لأنّ ما يبخس شي ء طفيف، أي: حقير.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوه.

و قيل: قدمها و بها رجل يعرف بأبي جهينة، و معه صاعان: يكيل بأحدهما لغيره، و يكتال بالآخر لنفسه.

و قيل: كان أهل المدينة تجّارا يطفّفون، و كانت بياعاتهم المنابذة (1) و الملامسة (2) و المخاطرة (3)، فنزلت فيهم. فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقرأها عليهم، و قال: «خمس بخمس. قيل: يا رسول اللّه و ما خمس بخمس؟ قال: ما نقض العهد قوم إلّا سلّط اللّه عليهم أعداءهم، و ما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر، و ما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، و ما طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات و أخذوا بالسنين، و لا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر».

و عن عليّ عليه السّلام أنّه مرّ برجل يزن الزعفران و قد أرجح، فقال له: «أقم الوزن بالقسط، ثمّ أرجح بعد ذلك ما شئت».

كأنّه أمره بالتسوية أوّلا ليعتادها، و يفصل الواجب من النفل.

و عن ابن عبّاس: إنّكم معشر الأعاجم و ليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم:

المكيال، و الميزان. و خصّ الأعاجم لأنّهم يجمعون الكيل و الوزن جميعا. و قيل:

كان أهل مكّة يزنون، و أهل المدينة يكيلون.

ص: 362


1- كان في الجاهليّة يحضر الرجل قطيع الغنم، فينبذ الحصاة و يقول لصاحب الغنم: إنّ ما أصاب الحجر فهو لي بكذا، و كانوا يدعون هذا البيع: بيع المنابذة.
2- الملامسة في البيع أن تقول: إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي فقد وجب البيع بكذا.
3- خاطره على كذا: راهنه.

و عن ابن عمر: أنّه كان يمرّ بالبائع فيقول له: اتّق اللّه و أوف الكيل، فإنّ المطفّفين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن، حتّى إنّ العرق ليلجمهم.

و عن عكرمة: أشهد أنّ كلّ كيّال و وزّان في النار. فقيل له: إنّ ابنك كيّال أو وزّان. فقال: أشهد أنّه في النار.

و عن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممّن رزقه في رؤوس المكاييل و ألسن (1) الموازين.

الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي: اكتالوا لأنفسهم من الناس حقوقهم يَسْتَوْفُونَ يأخذونها وافية. و لمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرّهم و يتحامل فيه عليهم، أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. و يجوز أن يتعلّق «على» ب «يستوفون»، و يقدّم المفعول على الفعل لإفادة التخصيص، أي: يستوفون على الناس خاصّة، فأمّا أنفسهم فيستوفون لها. و إنّما لم يذكر: اتّزنوا، كما قال: «أَوْ وَزَنُوهُمْ» لأنّ المطفّفين كانوا لا يأخذون ما يكال و يوزن إلّا بالمكاييل دون الموازين، لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء و السرقة، لأنّهم يدعدعون (2) و يحتالون في المل ء، و إذا أعطوا كالوا و وزنوا، لتمكّنهم من البخس في النوعين جميعا.

وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم يُخْسِرُونَ ينقصون. يقال: خسر الميزان و أخسره. فحذف الجارّ و أوصل الفعل، كقوله: و لقد جنيتك أكمؤا و عساقلا (3). بمعنى: جنيت لك. أو كالوا مكيلهم و موزونهم، فحذف

ص: 363


1- لسان الميزان: شي ء في قائمة الميزان- و هي الّتي تعلّق بها كفّتاه- يشبه اللسان.
2- دعدع المكيال: هزّه ليسع الشي ء.
3- أكمو جمع كم ء: جنس فطر من فصيلة الكمئيّات، يعيش تحت الأرض، لونه يميل إلى الغبرة، يهيّأ منه طعام لذيذ. و العسقل: جزء من ساق نباتيّة أو من جذر نباتي، يحتوي على موادّ غذائيّة مكتنزة. و الجمع: العساقل.

المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه.

و لا يحسن جعل الضمير المنفصل تأكيدا للمتّصل، و هو واو الضمير، لأنّه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله، إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ و الدفع، لا في المباشرة و عدمها، فإنّ معناه حينئذ: إذا أخذوا من الناس استوفوا، و إذا تولّوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا. و هو كلام متنافر غير ملائم لما قبله.

و المعنى الأوّل و إن كان يستدعي إثبات الألف بعد الواو، لكن رسم المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخطّ. و يمكن أن يقال: إنّ الواو وحدها هاهنا معطية معنى الجمع، و إنّما تكتب هذه الألف تفرقة بين واو الجمع و غيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، و هو يدعو. و لمّا كان المعنى هاهنا كافيا في التفرقة بينهما، لم يحتج إلى إثبات الألف.

أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ فإنّ من ظنّ ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح، فكيف بمن تيقّنه! و فيه إنكار و تعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنّهم لا يخطرون ببالهم و لا يخمّنون تخمينا أنّهم مبعوثون و محاسبون على مقدار الذرة و الخردلة. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ عظمه لعظم ما يكون فيه.

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم. نصب ب «مبعوثون»، أو بدل من الجارّ و المجرور. لِرَبِّ الْعالَمِينَ لحكمه. و لا شبهة أنّ في هذا الإنكار و التعجيب، و ذكر الظنّ، و وصف اليوم بالعظم، و قيام الناس فيه للّه خاضعين، و وصف ذاته بربّ العالمين، مبالغات في المنع عن التطفيف و تعظيم إثمه.

و عن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحبّ أن يوفى لك، و اعدل كما تحبّ أن يعدل لك.

و عن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.

و عن ابن عمر: أنّه قرأ هذه السورة، فلمّا بلغ قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ

ص: 364

لِرَبِّ الْعالَمِينَ» بكى نحيبا، و امتنع من قراءة ما بعده.

و روي: أنّ أعرابيّا قال لعبد الملك بن مروان: لقد سمعت ما قال اللّه تعالى في المطفّفين. أراد بذلك: أنّ المطفّف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الّذي سمعت به، فما ظنّك بنفسك و أنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل و لا وزن!!

[سورة المطففين [83]: الآيات 7 الى 17]

كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [7] وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ [8] كِتابٌ مَرْقُومٌ [9] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [10] الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [11]

وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [12] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [13] كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [14] كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [15] ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [16]

ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [17]

كَلَّا ردعهم عمّا كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن ذكر البعث و الحساب، و نبّههم على أنّه ممّا يجب أن يتاب عنه و يندم عليه. ثمّ أتبعه وعيد الفجّار على العموم، فقال: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ما يكتب من أعمالهم، أو كتابة أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ علم لديوان الشرّ الّذي دوّن اللّه فيه جميع أعمال الفجرة من الشياطين و الثقلين، كما قال:

وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ أي: ليس ذلك ممّا كنت تعلمه أنت و لا قومك كِتابٌ مَرْقُومٌ مسطور بيّن الكتابة. أو معلم يعلم من رآه أنّه لا خير فيه. و المعنى:

ص: 365

أنّ ما كتب من أعمال الفجّار مثبت في ذلك الديوان. فعّيل من السجن، و هو الحبس و التضييق. نقل من هذا الوصف و لقّب به الكتاب، لأنّه سبب الحبس في جهنّم، فهو من قبيل تسمية السبب باسم المسبّب. أو لأنّه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش (1) مظلم، و هو مسكن إبليس و ذرّيّته، استهانة به، و ليشهده الشياطين المدحورون، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. تسمية للحالّ باسم المحلّ.

و قيل: اسم مكان على تقدير مضاف، تقديره: ما كتاب السجّين، أو محلّ كتاب مرقوم، فحذف المضاف.

و على التقديرين؛ فلا منافاة بين الآية و بين ما روي عن شمر بن عطيّة أنّه جاء ابن عبّاس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول اللّه تعالى: «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ». قال: إنّ روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثمّ يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل تحت سبع أرضين، حتّى ينتهى بها إلى سجّين، و هو موضع جند إبليس. و ما

روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ سجّين جبّ في جهنّم مفتوح، و الفلق جبّ في جهنّم مغطّى».

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لمن كذّب بالجزاء و البعث و لم يصدّقه الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ صفة مخصّصة، أو موضحة، أو ذامّة، كقولك: فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث.

وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ متجاوز عن النظر، غال في التقليد، حتّى استقصر قدرة اللّه و علمه، فاستحال منه الإعادة أَثِيمٍ كثير الإثم، منهمك في الشهوات الرديّة المردية، بحيث أشغلته عمّا وراءها، و حملته على الإنكار.

إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم الّتي كتبوها و لا أصل لها. و ذلك من فرط جهله و إعراضه عن الحقّ، فلا تنفعه شواهد النقل، كما لا تنفعه

ص: 366


1- مكان وحش: أي: قفر.

دلائل العقل.

كَلَّا ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول. ثمّ بيّن ما أدّى بهم إلى هذا القول، فقال: بَلْ رانَ من الرين، و هو ركوب الصدأ على شي ء. و قرأ حفص: بل ران، بإظهار اللام. و الإدغام أجود. و المعنى: بل ركب و غلب كما يركب الصدأ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: حبّ ما كانوا يعملون من المعاصي و الانهماك فيها، فعمي عليهم معرفة الحقّ و الباطل، فإنّ كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات، فإذا كان العبد يصرّ على الكبائر، و يسوّف التوبة حتّى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير و لا يميل إليه، كما

قال عليه السّلام: «إنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه».

و عن الحسن: الذنب بعد الذنب حتّى يسودّ القلب.

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: إنّ الرجل ليذنب الذنب فتنكت على قلبه نكتة سوداء، ثمّ يذنب الذنب فتنكت نكتة اخرى، حتّى يصير قلبه على لون الشاة السوداء.

و روى العيّاشي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما من عبد مؤمن إلّا و في قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع إلى الخير أبدا، و هو قوله تعالى: «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ».

كَلَّا ردع عن كسب العمل الرائن على قلوبهم إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ تمثيل للاستخفاف بهم و إهانتهم، لأنّه لا يؤذن على الملوك إلّا للوجهاء المكرّمين لديهم، و لا يحجب عنهم إلّا الأدنياء المهانون عندهم. و عن عليّ عليه السّلام: «محرومون عن ثوابه و كرامته».

و عن ابن عبّاس و قتادة: محجوبون عن

ص: 367

رحمته و إحسانه.

ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد أن منعوا من الثواب و الكرامة لَصالُوا الْجَحِيمِ يصلونها و يلزمونها أبدا، و لا يغيبون عنها أصلا.

ثُمَّ يُقالُ يقول لهم الزبانية توبيخا و تقريعا هذَا الَّذِي فعل بكم من العذاب الأليم و العقاب العظيم ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في دار التكليف.

[سورة المطففين [83]: الآيات 18 الى 28]

كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [18] وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ [19] كِتابٌ مَرْقُومٌ [20] يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [21] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [22]

عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ [23] تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [24] يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ [25] خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [26] وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ [27]

عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [28]

كَلَّا ردع عن التكذيب. أو تكرير للأوّل، ليعقّب بوعد الأبرار كما عقّب الأوّل بوعد الفجّار، إشعارا بأنّ التطفيف فجور و الإيفاء برّ. و قيل: معناه: حقّا. إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ ما كتب من أعمالهم. لَفِي عِلِّيِّينَ علم لديوان الخير الّذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة و صلحاء الثقلين. منقول من جمع علّيّ، فعّيل من العلوّ، كسجّين من السجن. سمّي به إمّا لأنّه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنّة.

و إمّا لأنّه مرفوع في السماء السابعة تحت العرش حيث يسكن الكرّوبيّون، تكريما

ص: 368

له و تعظيما.

وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تعظيم لشأن هذا الكتاب. ثمّ قال: كِتابٌ مَرْقُومٌ مكتوب فيه طاعاتهم و ما تقرّ به أعينهم و يوجب سرورهم، بضدّ كتاب الفجّار يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يحضرونه فيحفظونه، أو يشهدون على ما فيه يوم القيامة.

و عن ابن عبّاس: هو لوح من زبرجدة خضراء، معلّق تحت العرش، أعمالهم مكتوبة فيه.

و روي: أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلّونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه من سلطانه أوحى إليهم: إنّكم الحفظة على عبدي، و أنا الرقيب على ما في قلبه، و إنّه أخلص عمله، فاجعلوه في علّيّين، فقد غفرت له. و إنّها لتصعد بعمل العبد فيزكّونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي، و أنا الرقيب على ما في قلبه، و إنّه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجّين.

إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ يحصلون في ملاذّ و أنواع نعم الجنّة عَلَى الْأَرائِكِ على الأسرّة (1) في الحجال. جمع الأريكة، و هي السرير. يَنْظُرُونَ إلى ما يسرّهم من مناظر الجنّة، و إلى ما أولاهم اللّه من النعمة و الكرامة، و إلى أعدائهم يعذّبون في النار.

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعّم و بريقه، كما ترى في وجوه الأغنياء و أهل الثروة. قال عطاء: و ذلك لأنّ اللّه قد زاد في جمالهم و ألوانهم مالا يصفه واصف. و قرأ يعقوب: تعرف على بناء المفعول، و نضرة بالرفع.

يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ شراب خالص لا غشّ فيه مَخْتُومٍ* خِتامُهُ مِسْكٌ

ص: 369


1- الأسرّة جمع: السرير. و الحجال جمع الحجلة. و هي: بيت يزيّن بالثياب و الأسرّة و الستور.

أي: يختم أوانيه من الأكواب و الأباريق بمسك مكان الطينة في الدنيا. و قيل: مختوم أي: ممنوع من أن يمسّه يد حتّى يفكّ ختمه للأبرار. و قرأ الكسائي: خاتمه بفتح التاء، أي: ما يختم به و يقطع.

و عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة: معناه: مقطعه رائحة المسك إذا شرب.

يعني: إذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. و قيل: يمزج بالكافور، و يختم مزاجه بالمسك.

و عن أبي الدرداء قال: هو شراب أبيض مثل الفضّة يختمون به شرابهم. و لو أنّ رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيبها.

ثمّ أمر سبحانه بالترغيب فيه بوسيلة الأعمال الصالحة، فقال: وَ فِي ذلِكَ يعني: الرحيق، أو النعيم فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرتغب المرتغبون، أي:

يرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة اللّه. و عن مقاتل: فليتنازع المتنازعون. و في الحديث: «من صام للّه في يوم صائف سقاه اللّه على الظّمأ من الرحيق المختوم».

و في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا عليّ من ترك الخمر للّه سقاه اللّه من الرحيق المختوم».

وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ علم لعين بعينها. سمّيت تسنيما- الّذي هو مصدر:

سنّمه إذا رفعه- إمّا لأنّها أرفع شراب في الجنّة، و إمّا لأنّها تأتيهم من فوق، على ما روي: أنّها تجري في الهواء متسنّمة فتنصبّ في أوانيهم. و هو أشرف شراب الجنّة.

عَيْناً نصب على المدح. و عند الزجّاج على الحال من «تسنيم».

يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ فإنّهم يشربونها صرفا، لأنّهم لا يشتغلون بغير اللّه. و تمزج لسائر أهل الجنّة. و الكلام في الباء كما في يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ (1).

ص: 370


1- الإنسان: 6.

[سورة المطففين [83]: الآيات 29 الى 36]

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [29] وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [30] وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [31] وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [32] وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ [33]

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [34] عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ [35] هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [36]

و لمّا ذكر الوعد للأبرار بيّن الوعيد للفجّار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني:

رؤساء قريش و مترفيهم، كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و أشياعهم كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ استهزاء بفقراء المؤمنين، من عمّار و صهيب و خبّاب و بلال و نظرائهم.

و عن مقاتل و الكلبي و أبي صالح عن ابن عبّاس: أنّه جاء عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع- أرادوا به عليّا عليه السّلام- فضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل عليّ عليه السّلام إلى رسول اللّه: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ».

وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ مرّ المؤمنون بهؤلاء الفجّار يَتَغامَزُونَ يغمز بعضهم بعضا، و يشيرون بأعينهم و حواجبهم.

وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ متلذّذين بالسخريّة منهم. و قر حفص: فكهين (1) مبالغة.

ص: 371


1- و القراءة الاخرى: فاكهين.

وَ إِذا رَأَوْهُمْ و إذا رأوا المؤمنين قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي: نسبوهم إلى الضلال.

وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون عليهم أعمالهم، و يشهدون برشدهم و ضلالهم، فكيف يطغون عليهم؟! و هذا تهكّم بهم، أو هو من جملة قول الكفّار. يعني: أنّهم إذا رأوا المسلمين قالوا: «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ»، و إنّهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكارا لصدّهم إيّاهم عن الشرك و دعائهم إلى الإسلام، أو عن النفاق، و جدّهم في ذلك.

فَالْيَوْمَ أي: يوم القيامة الّذي يجازي اللّه فيه كلّ أحد وفق عمله الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حين يرونهم أذلّاء مغلوبين في النار، كما ضحك الكفّار منهم في الدنيا.

و قيل: يفتح لهم باب إلى الجنّة فيقال لهم: أخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا، فيضحك المؤمنون منهم.

عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من «يضحكون» أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم و إلى ما هم فيه من الهوان و الصغار بعد العزّة و الكبر، و من ألوان العذاب بعد النعيم و الترفّه، و هم على الأرائك آمنون.

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ هل أثيبوا؟ و الاستفهام للتقرير. ما كانُوا يَفْعَلُونَ من السخريّة بالمؤمنين في الدنيا. يقال: ثوّبه و أثابه إذا جازاه. فاستعمل لفظ الثواب في العقوبة، لأنّ الثواب في أصل اللغة الجزاء الّذي يرجع إلى العامل بعمله، و إن كان في العرف اختصّ بالجزاء بالنعيم على الأعمال الصالحة، فاستعمل هنا على أصله.

و قيل: لأنّه جاء في مقابلة ما فعل بالمؤمنين، أي: هل ثوّب الكفّار كما ثوّب المؤمنون؟

و هذا القول يكون من قبل اللّه تعالى، أو تقوله الملائكة للمؤمنين، تنبيها لهم على أنّ الكفّار جوزوا على كفرهم و استهزائهم بالمؤمنين ما استحقّوه من العذاب، ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم.

ص: 372

[84] سورة انشقّت

اشارة

و تسمّى سورة الانشقاق. مكّيّة. و هي خمس و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة انشقّت أعاذه اللّه تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره».

[سورة الانشقاق [84]: الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [1] وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ [2] وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [3] وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ [4]

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ [5] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [6] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [7] فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً [8] وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [9]

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [10] فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً [11] وَ يَصْلى سَعِيراً [12] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً [13] إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [14]

بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً [15]

ص: 373

و لمّا ختم اللّه سورة المطفّفين بذكر أحوال القيامة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فاتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ تصدّعت و انفرجت بالغمام، كقوله تعالى: وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ (1). و عن عليّ عليه السّلام: «تنشقّ من المجرّة».

و هي طريق ممتدّ في السماء. و انشقاقها من آيات القيامة.

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها و استمعت له، أي: انقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها، انقياد المطواع الّذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له و أذعن و لم يأب و لم يمتنع، كقوله: أَتَيْنا طائِعِينَ (2). وَ حُقَّتْ و جعلت حقيقة بالاستماع و الانقياد. يقال: حقّ بكذا، فهو محقوق و حقيق به. يعني: هي حقيقة بأن تنقاد و لا تمتنع. و معناه: الإيذان بأنّ القادر بالذات يجب أن يتأتّى له كلّ مقدور، و يحقّ ذلك.

وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ بسطت. من: مدّ الشي ء فامتدّ. و هو أن تزال جبالها و آكامها و كلّ أمت (3) فيها، حتّى تمتدّ و تنبسط و يستوي ظهرها، كما قال تعالى:

قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (4). و عن ابن عبّاس: مدّت مدّ الأديم العكاظي، لأنّ الأديم إذا مدّ زال كلّ انثناء فيه و أمت و استوى. أو من: مدّه بمعنى:

أمدّه، أي: زيدت سعة و بسطة.

وَ أَلْقَتْ و رمت ما فِيها ما في جوفها ممّا دفن فيها من الأموات و الكنوز، كقوله: وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (5) وَ تَخَلَّتْ و خلت غاية الخلوّ،

ص: 374


1- الفرقان: 25.
2- فصّلت: 11.
3- الأمت: المكان المرتفع.
4- طه: 106- 107.
5- الزلزلة: 2.

حتّى كأنّها تكلّفت في الخلوّ أقصى جهدها، فلم يبق شي ء في باطنها، كما يقال:

تكرّم الكريم و ترحّم الرحيم، إذا بلغا جهدهما في الكرم و الرحمة، و تكلّفا فوق ما في طبعهما.

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها في إلقاء ما في بطنها و تخلّيها وَ حُقَّتْ للإذن. و ليس هذا بتكرير، لأنّ الأوّل في صفة السماء، و الثاني في صفة الأرض. و هذا كلّه من أشراط الساعة و جلائل الأمور الّتي تكون فيها. و تكرير «إذا» لاستقلال كلّ من الجملتين بنوع من القدرة. و جوابه محذوف، للتهويل بالإبهام، أو الاكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير و الانفطار.

و قيل: الجواب: لاقى الإنسان كدحه، فإنّه مدلول قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ خطاب لجميع المكلّفين إِنَّكَ كادِحٌ جاهد في أعمال الخير و الشرّ، و كادّ و ساع فيها بالمشقّة العظيمة إِلى رَبِّكَ و هو الموت و ما بعده من الأحوال الممثّلة باللقاء كَدْحاً جهدا يؤثّر فيك. من: كدح جلده إذا خدشه. فَمُلاقِيهِ فملاق له لا محالة، و لا مفرّ لك منه. و قيل: الضمير للكدح.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سهلا هيّنا، و لا يعترض بما يسوءه و يشقّ عليه، و لا يناقش فيه كما يناقش أصحاب الشمال.

و عن عائشة: هو أن يعرّف ذنوبه ثمّ يتجاوز عنه. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من يحاسب يعذّب. فقيل: يا رسول اللّه فسوف يحاسب حسابا يسيرا. قال: ذلكم العرض، من نوقش في الحساب عذّب».

وَ يَنْقَلِبُ بعد الفراغ من الحساب إِلى أَهْلِهِ إلى عشيرته المؤمنين، أو فريق المؤمنين، أو أهله في الجنّة من الحور العين مَسْرُوراً ناعما لا يهمّه أمر الآخرة أصلا.

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي: يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.

ص: 375

قيل: تغلّ يمناه إلى عنقه، و تجعل يسراه وراء ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. و قيل: تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يتمنّى الثبور و يقول: يا ثبوراه، و هو الهلاك.

وَ يَصْلى سَعِيراً و يدخل النار و يعذّب بها. و قرأ الحجازيّان و الشامي و الكسائي: و يصلّى، كقوله: وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (1).

إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ فيما بين ظهرانيّهم، أو معهم، على أنّهم كانوا جميعا مسرورين. يعني: أنّه كان في الدنيا مَسْرُوراً مترفا، بطرا، مستبشرا بالمال و الجاه، فارغا عن الآخرة، كعادة الفجّار الّذين لا يهمّهم أمر الآخرة، و لا يفكّرون في العواقب، و لم يكن كئيبا حزينا متفكّرا، كعادة الصلحاء و المتّقين، و حكاية اللّه عنهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (2).

إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لن يرجع إلى اللّه تعالى تكذيبا بالمعاد، فارتكب المآثم، و انهمك فيها. يقال: لا يحور و لا يحول، أي: لا يرجع و لا يتغيّر. قال لبيد:

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (3)، أي: يرجع. عن ابن عبّاس: ما كنت أدري ما معنى «يحور» حتّى سمعت أعرابيّة تقول لبنيّة لها: حوري، أي: ارجعي.

بَلى إيجاب لما بعد «لن» أي: بلى ليحورنّ إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً عالما بأعماله، فلا يهمله، بل يرجعه و يجازيه عليها. قيل: نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشدّ و أخيه الأسود بن عبد الأشدّ.

ص: 376


1- الواقعة: 94.
2- الطور: 26.
3- و صدره: و ما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه. أي: ليس حال المرء و حياته و موته بعد ذلك، إلّا كحال الشهاب و ضوئه، يصير رمادا بعد إضاءته.

[سورة الانشقاق [84]: الآيات 16 الى 25]

فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [16] وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ [17] وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [18] لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [19] فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [20]

وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [21] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [22] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ [23] فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [24] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [25]

فَلا أُقْسِمُ سبق بيانه غير مرّة بِالشَّفَقِ بالحمرة الّتي ترى في أفق المغرب بعد غروب الشمس، و بسقوطه يخرج وقت المغرب و يدخل وقت العتمة.

و سمّيت به لرقّتها. و منه: الشفقة على الإنسان، أي: رقّة القلب عليه.

وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ و ما جمعه و ستره و أوى إليه، من الدوابّ و غيرها.

و ذلك أنّ الليل إذا أقبل أوى كلّ شي ء إلى مأواه. يقال: وسقه فاتّسق و استوسق.

و نظيره في وقوع افتعل و استفعل مطاوعين: اتّسع و استوسع، فإنّهما مطاوعان ل «وسع». أو طرده إلى أماكنه. من الوسيقة، و هي من الإبل كالرفقة من النّاس.

وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ اجتمع و تمّ بدرا في أربع عشرة.

و جواب القسم لَتَرْكَبُنَ الخطاب لجنس الإنسان طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حالا بعد حال مطابقة لأختها في الشدّة و الهول. و روي مرفوعا: شدّة بعد شدّة: حياة، ثمّ موتا، ثمّ بعثا، ثمّ جزاء.

و «عن طبق» صفة ل «طبقا» أي: طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في «لتركبنّ» أي: لتركبنّ مجاوزين لطبق.

ص: 377

و أصل الطبق ما طابق غيره. يقال: ما هذا بطبق كذا، أي: لا يطابقه. و منه قيل للغطاء: الطبق. و أطباق الثرى: ما تطابق منه. ثمّ قيل للحال المطابقة لغيرها:

طبق، كما في الآية.

و يجوز أن يكون جمع طبقة، و هي المرتبة، من قولهم: هو على طبقات.

و منه: طبق الظهر لفقاره، الواحدة: طبقة. فالمعنى: لتركبنّ أحوالا بعد أحوال، هي طبقات في الشدّة، بعضها فوق بعض. و هي: الموت، و مواطن القيامة و أهوالها. أو هي و ما قبلها من الدواهي.

و قيل: أمرا بعد أمر، و رخاء بعد شدّة، و فقرا بعد غنى، و غنى بعد فقر، و صحّة بعد سقم، و سقما بعد صحّة.

و قيل: نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظما، ثمّ خلقا آخر، ثمّ جنينا، ثمّ وليدا، ثمّ رضيعا، ثمّ فطيما (1)، ثمّ يافعا، ثمّ ناشئا، ثمّ مترعرعا، ثمّ حزوّرا (2)، ثمّ مراهقا، ثمّ محتلما، ثمّ بالغا، ثمّ أمرد، ثمّ طارا، ثمّ باقلا (3)، ثمّ مسيطرا، ثمّ مطرخما، ثمّ مختطّا (4)، ثمّ صملّا (5)، ثمّ ملتحيا، ثمّ مستويا، ثمّ مصعدا، ثمّ مجتمعا.

و الشابّ يجمع ذلك كلّه. ثمّ ملهوزا (6)، ثمّ كهلا، ثمّ أشمط (7)، ثمّ شيخا، ثمّ أشيب، ثمّ حوقلا (8)، ثمّ صفتانا (9)، ثمّ همّا، ثمّ هرما، ثمّ ميّتا. فيشتمل الإنسان من كونه

ص: 378


1- الفطيم: الولد إذا فصل عن الرضاع.
2- الحزور و الحزوّر: الغلام إذا اشتدّ و قوي.
3- بقل وجه الغلام: خرج شعره. فهو: باقل.
4- اختطّ الغلام: نبت عذاره.
5- الصملّ: الشديد الخلق.
6- لهزه الشيب: خالطه. فهو: ملهوز.
7- شمط شمطا: خالط بياض رأسه سواد. فهو: أشمط.
8- الحوقل: الشيخ المسنّ.
9- الصفتّان: الجسيم الشديد.

نطفة إلى أن يموت على سبعة و ثلاثين حالا.

و قيل: معناه: لتركبنّ منزلة عن منزلة، و طبقة عن طبقة. و ذلك أنّ من كان على صلاح دعاه ذلك إلى صلاح فوقه، و من كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأنّ كلّ شي ء يجرّ إلى شكله.

و قيل: لتركبنّ سنن من قبلكم من الأوّلين و أحوالهم. و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام. و المعنى: أنّه يكون فيكم ما كان فيهم، و يجري عليكم ما جرى عليهم، حذو القذّة بالقذّة.

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: لتركبنّ بالفتح، على أنّه خطاب الإنسان باعتبار اللفظ.

و عن مجاهد و الكلبي: الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، على معنى: لتركبنّ حالا شريفة و مرتبة عالية بعد حال و مرتبة، في القرب من اللّه و رفعة المنزلة عنده. أو طبقا من أطباق السماء بعد طبق في ليلة المعراج. و المعنى: طبقا مجاوزا لطبق.

و روى البخاريّ (1) في الصحيح عن مجاهد، عن ابن عبّاس، أنّه كان يقرأ:

لتركبنّ بالياء. قال: يعني نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حالا بعد حال.

فَما لَهُمْ لكفّار قريش لا يُؤْمِنُونَ بيوم القيامة وَ إِذا قُرِئَ عطف على «لا يؤمنون» أي: فما لهم إذا قرئ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ لا يخضعون و لا يستكينون، أي: ما الّذي يصرفهم عن الخضوع و الاستكانة عند تلاوة القرآن، أو عن أن يسجدوا لتلاوة القرآن، لما

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (2)

فسجد هو و من معه من المؤمنين، و قريش تصفق فوق رؤوسهم و تصفر، فنزلت.

و عن أبي هريرة: أنّه سجد فيها و قال: و اللّه ما سجدت فيها إلّا بعد أن رأيت رسول

ص: 379


1- صحيح البخاري 6: 208.
2- العلق: 19.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسجد فيها.

و باتّفاق أصحابنا السجدة هنا مستحبّة.

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي: بالقرآن وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ بما يجمعون في صدورهم و يضمرون من الكفر و الحسد و العداوة. أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء، و يدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب. و أصل الإيعاء:

جعل الشي ء في وعاء. و القلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل. و في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام: «هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها».

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ استهزاء بهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء منقطع أو متّصل. و المراد: من تاب و آمن منهم. لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ مقطوع عليهم، لأنّ نعيم الآخرة غير منقطع. أو ممنون به عليهم.

و اعلم أنّ في قوله: «لا يؤمنون» و «لا يسجدون» دلالة على أنّ الإيمان و السجود فعلهم، لأنّ الحكيم لا يقول: مالك لا تؤمن و لا تسجد لمن يعلم أنّه لا يقدر على الإيمان و السجود، و لو وجد ذلك لما كان من فعله. و يدلّ قوله: «لا يسجدون» على أنّ الكفّار مخاطبون بالعبادات.

ص: 380

[85] سورة البروج

اشارة

مكّيّة. و هي اثنتان و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأها أعطاه اللّه من الأجر بعدد كلّ يوم جمعة و كلّ يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات».

يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و السماء ذات البروج في فرائضه- فإنّها سورة النبيّين- كان محشره و موقفه مع النبيّين و المرسلين».

[سورة البروج [85]: الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [1] وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [2] وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ [3] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [4]

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ [5] إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ [6] وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [7] وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [8] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [9]

ص: 381

و لمّا ختم سبحانه سورة الانشقاق بذكر المؤمنين، افتتح هذه السورة أيضا بذكر المؤمنين من أصحاب الأخدود، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ البرج بمعنى القصر.

و أصل التركيب للظهور. و المراد: المنازل العالية، و هي منازل الشمس و القمر و الكواكب. و هي اثنا عشر برجا، يسير القمر في كلّ برج منها يومين و ثلاثا، و تسير الشمس في كلّ برج شهرا. أو منازل القمر، و هي ثمانية و عشرون، سمّيت بها على التشبيه بالقصور. أو عظام الكواكب، سمّيت بروجا لظهورها. أو أبواب السماء، فإنّ النوازل تخرج منها.

وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ لمجازاة الخلائق. و هو يوم القيامة باتّفاق جميع المفسّرين. وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ أي: و شاهد في ذلك اليوم و مشهود فيه. و المراد:

من يشهد فيه من الخلائق كلّهم، و ما أشهد و أحضر في ذلك اليوم من عجائبه.

و تنكيرهما للإبهام في الوصف، أي: و شاهد و مشهود لا يكتنه و صفهما. أو المبالغة في الكثرة، كأنّه قيل: ما أفرطت كثرته من شاهد و مشهود.

و قد اضطربت أقاويل المفسّرين فيهما. فعن ابن عبّاس:

الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم عرفة. و روي ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و سمّي يوم الجمعة شاهدا، لأنّه يشهد على كلّ عامل بما عمل فيه. و في الحديث: «ما طلعت الشمس على يوم و لا غربت أفضل منه، و فيه ساعة لا يوافقها من يدعو اللّه فيها بخير إلّا استجاب اللّه له، و لا استعاذ من شرّ إلّا أعاذه منه».

و يوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحجّ، و تشهده الملائكة.

و عن بعضهم: الشاهد يوم النحر، و المشهود يوم عرفة.

و عن سعيد بن المسيّب:

الشاهد محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المشهود يوم القيامة. و هو المرويّ عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام.

ص: 382

و روي: أنّ رجلا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإذا رجل يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: فسألته عن الشاهد و المشهود. فقال: نعم، الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم عرفة. فجزته إلى آخر يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فسألته عن ذلك.

فقال: نعم، الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم النحر. فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار، و هو يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت: أخبرني عن شاهد و مشهود.

فقال: نعم، أمّا الشاهد فمحمّد، و أمّا المشهود فيوم القيامة. أما سمعته سبحانه يقول:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (1). و قال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (2). فسألت عن الأوّل، فقالوا: ابن عبّاس. و سألت عن الثاني، فقالوا: ابن عمر. و سألت عن الثالث، فقالوا: الحسن بن عليّ عليهما السّلام.

أو الشاهد يوم عرفة، و المشهود يوم القيامة. و عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أكثروا الصّلاة عليّ يوم الجمعة، فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة، و إنّ أحدا لا يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتّى يفرغ منها. قال: فقلت: و بعد الموت؟ قال: إنّ اللّه حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبيّ اللّه حيّ يرزق».

و عن عكرمة: الشاهد الملك يشهد على ابن آدم، و المشهود يوم القيامة. ثمّ تلا هاتين الآيتين: وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ (3). وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (4).

و عن الجبائي: الشاهد الحفظة الّذين يشهدون على الناس، و المشهود هم

ص: 383


1- الأحزاب: 45.
2- هود: 103.
3- ق: 21.
4- هود: 103.

الّذين يشهدون عليهم.

و عن الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمّة، و المشهود سائر الأمم، لقوله:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ (1) الآية.

و قيل: الشاهد الحجر الأسود، و المشهود الحاجّ.

و قيل: الشاهد الأيّام و الليالي، و المشهود بنو آدم. و عن الحسن: ما من يوم إلّا و ينادي: إنّي يوم جديد، و إنّي على ما يعمل فيّ شهيد، فاغتنمني، فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة.

و قيل: الشاهد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المشهود سائر الأمم.

و قيل: الشاهد الأنبياء، و المشهود محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. بيانه: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ إلى قوله: فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (2).

و قيل: الشاهد هو اللّه، و المشهود لا إله إلّا اللّه. بيانه: قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ (3).

و قيل: الشاهد الخلق، و المشهود الحقّ، كقوله:

و للّه في كلّ تحريكة

و في كلّ تسكينة شاهد

و في كلّ شي ء له آية

تدلّ على أنّه واحد

و قيل: بالعكس، لقوله: وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (4).

و قيل: عيسى و أمّته، لقوله تعالى: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ (5).

ص: 384


1- النور: 24.
2- آل عمران: 81.
3- آل عمران: 18.
4- آل عمران: 98.
5- المائدة: 117.

و على التقادير؛ قوله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ جواب القسم على تقدير: لقد قتل. و الأظهر أنّه دليل جواب محذوف، كأنّه قيل: إنّهم ملعونون- يعني: كفّار مكّة- كما لعن أصحاب الأخدود، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين، و تصبيرهم على أذاهم، و تذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب و إلحاق أنواع الأذى و صبرهم و ثباتهم، حتّى يأنسوا بهم، و يصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، و يعلموا أنّ كفّارهم عند اللّه بمنزلة أولئك المعذّبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقّاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، كما قيل: قتل أصحاب الأخدود. و هو دعاء عليهم، كقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (1).

و الأخدود، الخدّ، و هو الشقّ في الأرض. و نحوه: الخقّ و الأخقوق بناء و معنى. و منه: فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان (2).

و روى مسلم في الصحيح عن هدّاب بن خالد، عن حمّاد بن مسلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر، فلمّا مرض الساحر قال: إنّي قد حضر أجلي، فادفع إليّ غلاما أعلّمه السحر، فدفع إليه غلاما. و كان يختلف إليه، و بين الساحر و الملك راهب، فمرّ الغلام بالراهب، فأعجبه كلامه و أمره. و كان يطيل عنده القعود، فإذا أبطأ عن الساحر ضربه، و إذا أبطأ عن أهله ضربوه. فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: يا بنيّ إذا استبطأك الساحر فقل: حبسني أهلي، و إذا استبطأك أهلك فقل:

حبسني الساحر.

فبينما هو ذات يوم إذا بالناس قد حبستهم دابّة عظيمة فظيعة، فقال: اليوم أعلم أمر الساحر أفضل أم أمر الراهب. فأخذ حجرا فقال: اللّهمّ إن كان أمر الراهب

ص: 385


1- عبس: 17.
2- الجرذ: نوع من الفار. و الجمع: الجرذان.

أحبّ إليك فاقتل هذه الدابّة. فرمى فقتلها، و مضى الناس. فأخبر بذلك الراهب، فقال: أي: بنيّ إنّك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدلّ عليّ.

قال: و جعل يداوي الناس، فيبرئ الأكمه و الأبرص و يشفي من الأدواء.

فبينما هو كذلك إذ عمي جليس للملك، فأتاه و حمل إليه مالا كثيرا، فقال: اشفني و لك ما هاهنا.

فقال: إنّي لا أشفي أحدا، و لكنّ اللّه يشفي، فإن آمنت باللّه دعوت اللّه فشفاك.

قال: فآمن، فدعا اللّه له فشفاه. فذهب فجلس إلى الملك فقال: يا فلان من شفاك؟

قال: ربّي.

قال: أنا.

قال: لا، ربّي و ربّك اللّه.

قال: و لك ربّ غيري؟

قال: نعم، ربّي و ربّك اللّه. فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الغلام. فبعث إلى الغلام فقال: لقد بلغ من أمرك أن تشفي الأكمه و الأبرص.

قال: ما أشفي أحدا، و لكنّ اللّه ربّي يشفي.

قال: و لك ربّ غيري؟

قال: نعم، ربّي و ربّك اللّه. فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الراهب. فوضع المنشار عليه فأنشره حتّى وقع شقّاه. و قال للغلام: ارجع عن دينك. فأبى، فأرسل معه نفرا و قال: اصعدوا به جبل كذا و كذا، فإن رجع عن دينه و إلّا فدهدهوه (1) من ذروته.

ص: 386


1- دهده الحجر: دحرجه.

قال: فعلوا به الجبل. فقال: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت.

قال: فرجف بهم الجبل، فتدهدهوا أجمعون، و نجا الغلام و جاء إلى الملك.

فقال: ما صنع أصحابك؟

قال: كفانيهم اللّه.

فأرسل به مرّة اخرى، قال: انطلقوا به فلجّجوه (1) في البحر، فإن رجع و إلّا فغرّقوه. فانطلقوا به في قرقور (2)، فلمّا توسّطوا به البحر قال: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت.

قال: فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، و نجا و جاء حتّى قام بين يدي الملك.

فقال: ما صنع أصحابك؟

قال: كفانيهم اللّه.

ثمّ قال: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به، اجمع الناس ثمّ اصلبني على جذع، ثمّ خذ سهما من كنانتي، ثمّ ضعه على كبد (3) القوس، ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام، فإنّك ستقتلني.

قال: فجمع الناس و صلبه، ثمّ أخذ سهما من كنانته، فوضعه على كبد القوس و قال: بسم اللّه ربّ الغلام و رمى، فوقع السهم في صدغه و مات.

فقال الناس: آمنّا بربّ الغلام.

فقيل له: أ رأيت نزل بك ما كنت تخاف من عبادة اللّه. فأمر بأخاديد فخدّدت على أفواه السكك، ثمّ أضرمها نارا، فقال: من رجع عن دينه فدعوه، و من أبى

ص: 387


1- أي: اذهبوا به إلى لجّة البحر. و هي: معظم الماء.
2- القرقور: السفينة الطويلة أو الصغيرة.
3- كبد القوس: ما بين طرفي علاقتها.

فأقحموه فيها. فجعلوا يقتحمونها. و جاءت امرأة معها صبيّ، فتقاعست (1) أن تقع فيها. فقال لها الصبيّ يا أمّه اصبري، فإنّك على الحقّ، فاقتحمت. و قيل: قال لها:

قعي و لا تنافقي. و قيل: قال الصبيّ: ما هي إلّا غميضة (2)، فصبرت» (3).

و قال ابن المسيّب: كنّا عند عمر بن الخطّاب إذ ورد عليه أنّهم احتفروا فوجدوا ذلك الغلام و هو واضع يده على صدغه، فكلّما مدّت يده عادت إلى صدغه، فكتب عمر: واروه حيث وجدتموه.

و روى سعيد بن جبير قال: لمّا انهزم أهل اسفندهان قال عمر بن الخطّاب: ما هم يهود و لا نصارى، و لا لهم كتاب، و كانوا مجوسا. فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:

بلى قد كان لهم كتاب، و لكنّه رفع. و ذلك أنّ ملكا لهم سكر فوقع على ابنته- أو قال: على أخته- فلمّا أفاق قال لها: كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ قالت له:

المخرج أن تجمع أهل مملكتك، و تخبرهم أنّك ترى نكاح البنات، و تأمرهم أن يحلّوه. فجمعهم فأخبرهم، فأبوا أن يتابعوه. فقالت له: ابسط فيهم السوط، فلم يقبلوا. فقالت له: ابسط فيهم السيف، فلم يقبلوا. فأمرته بالأخاديد و إيقاد النيران، و طرح من أبى فيها. فخدّ لهم أخدودا في الأرض، و أوقد فيه النيران، و عرّضهم عليها، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، و من أجاب خلّى سبيله.

و قال الحسن: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا ذكر عنده أصحاب الأخدود تعوّذ باللّه من جهد البلاء.

و روى العيّاشي بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أرسل عليّ عليه السّلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود، فأخبره بشي ء، فقال عليّ عليه السّلام:

ص: 388


1- تقاعس عن الأمر: تأخّر.
2- الغميضة تصغير الغمضة، أي: انطباق الجفن.
3- صحيح مسلم 4: 2299 ح 73.

ليس كما ذكرت، و لكن سأخبرك عنهم، إنّ اللّه بعث رجلا حبشيّا نبيّا- و هم حبشة- فكذّبوه، فقاتلهم فقتلوا أصحابه و أسروه و أسروا أصحابه، ثمّ بنوا له حيرا (1)، ثمّ ملؤه نارا، ثمّ جمعوا الناس، فقالوا: من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار. فجعل أصحابه يتهافتون في النار.

فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر، فلمّا هجمت على النار هابت و رقّت على ابنها. فناداها الصبيّ: لا تهابي و ارمي بي و بنفسك في النار، فإنّ هذا في اللّه قليل.

فرمت بنفسها في النار و صبيّها، و كان ممّن يكلّم في المهد.

و قال مقاتل: كان أصحاب الأخدود ثلاثة: واحد بنجران، و الآخر بالشام، و الآخر بفارس، حرّقوا بالنار. أمّا الّذي بالشام فهو أنطياخوس الرومي. و أمّا الّذي بفارس فهو بخت نصّر. و أمّا الّذي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس. فأمّا من كان بفارس و الشام فلم ينزل اللّه تعالى فيهما قرآنا، و أنزل في الّذي كان بنجران.

و ذلك أنّ رجلين مسلمين ممّن يقرآن الإنجيل، أحدهما بأرض تهامة، و الآخر بنجران اليمن، آجر أحدهما نفسه في عمل يعمله، فجعل يقرأ الإنجيل، فرأت ابنة المستأجر النور يضي ء من قراءة الإنجيل، فذكرت ذلك لأبيها، فرمق (2) حتّى رآه، فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتّى أخبره بدين الإسلام، فتابعه مع سبعة و ثمانين إنسانا من رجل و امرأة. و هذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء.

فسمع يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبّع الحميري، فخدّ لهم في الأرض و أوقد فيها، فعرّضهم على اليهوديّة، فمن أبى قذفه في النار، و من رجع عن دين عيسى لم يقذفه فيها. و إنّ امرأة جاءت و معها ولد صغير لا يتكلّم، فلمّا قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت. فقال لها: يا أمّاه إنّي أرى

ص: 389


1- الحير: الحمى، أو شبه الحظيرة.
2- رمقه: لحظه لحظا خفيفا، أطال النظر إليه.

أمامك نارا لا تطفأ. فلمّا سمعت من ابنها ذلك قذفها في النار، فجعلها اللّه و ابنها في الجنّة.

و روي: أنّه أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد. و قيل: سبعين ألفا.

و ذكر أنّ طول الأخدود أربعون ذراعا، و عرضه اثنا عشر ذراعا.

النَّارِ بدل اشتمال من الأخدود ذاتِ الْوَقُودِ وصف لها بأنّها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها، من الحطب الكثير و أبدان الناس.

إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ أي: على ما يدنو منها من حافّات الأخدود قاعدون.

و عن مجاهد: كانوا قعودا على الكراسيّ عند الأخدود. و الظرف متعلّق ب «قتل» أي:

لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها.

وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنّهم لم يقصروا فيما أمروا به من تعذيب المؤمنين. أو يشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (1).

وَ ما نَقَمُوا و ما عابوا و ما أنكروا مِنْهُمْ من المؤمنين إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ استثناء على طريقة قوله:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ ذكر سبحانه أوصافه الّتي يستحقّ بها أن يؤمن به و يعبد، و هو قوله:

الْعَزِيزِ الغالب القادر الّذي يخشى عقابه الْحَمِيدِ المنعم.

الَّذِي يجب الحمد على نعمته، و يرجى ثوابه. و قرّر ذلك بقوله: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرّف فيهما و ما بينهما وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ وعيد لهم. يعني: أنّه عليم بما فعلوا، و هو مجازيهم عليه.

ص: 390


1- النور: 24.

[سورة البروج [85]: الآيات 10 الى 16]

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [10] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [11] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [12] إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ [13] وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [14]

ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [15] فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [16]

و لمّا كان سبحانه متصرّفا في جميع ما سواه، و عالم بكلّه، فكلّ من فيهما يحقّ عليه أن يؤمن به و يعبده و يخشع له. فما نقموا منهم هو الحقّ الّذي لا ينقمه إلّا مبطل منهمك في الغيّ، مستحقّ لانتقام اللّه منه بعذاب لا يعدله عذاب، كما قال:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بلوهم، بأن أحرقوهم و عذّبوهم بالنار ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا من فعلهم ذلك، و من الشرك الّذي كانوا عليه فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أنواع عذابه- كالزقّوم و الغسلين و المقامع- بكفرهم وَ لَهُمْ مع ذلك عَذابُ الْحَرِيقِ نار اخرى عظيمة زائدة في الإحراق. يعني: أنّ للفاتنين عذابين في الآخرة: لكفرهم، و لفتنتهم. أو المعنى: لهم عذاب جهنّم في الآخرة، و لهم عذاب الحريق في الدنيا، لما روي أنّ النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.

و عن الربيع بن أنس: لمّا ألقوا في النار نجّى اللّه المؤمنين من النار، و أخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفّار فأحرقتهم.

و يجوز أن يريد الّذين فتنوا المؤمنين، أي: بلوهم بالأذى على العموم، و المؤمنين: المفتونين عموما.

ثمّ بشّر المؤمنين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي

ص: 391

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ النجاة العظيم و النفع الخالص، إذ الدنيا و ما فيها تصغر دونه. و قيل: إنّما وصفه بالكبير لأنّ نعيم العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له من داخلي الجنّة، لما في ذلك من الإجلال و الإكرام و التبجيل و التعظيم.

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ مضاعف عنفه، فإنّ البطش أخذ بعنف، فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف و تفاقم. و هو بطشه بالجبابرة و الظلمة شديدا جدّا، و أخذهم بالعذاب الأليم انتقاما.

إِنَّهُ وعد الكفرة بأنّه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم، إذ لم يشكروا نعمة الإبداء هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ يبدئ الخلق ثمّ يعيده. دلّ باقتداره على الإبداء و الإعادة على شدّة بطشه. و عن ابن عبّاس معناه: يبدئ البطش بالكفرة في الدنيا، و يعيده في الآخرة. و ذلك لأنّ ما قبله يقتضيه.

وَ هُوَ الْغَفُورُ لمن تاب، أو تفضّلا الْوَدُودُ المحبّ لمن أطاع، أي:

الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا.

ذُو الْعَرْشِ مالكه و مدبّره الْمَجِيدُ العظيم في ذاته و صفاته، فإنّه واجب الوجود، تامّ القدرة و الحكمة. و قرأ حمزة بالجرّ صفة ل «ربّك» أو للعرش.

و مجده: علوّه و عظمته.

فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ خبر مبتدأ محذوف. و إيراد صيغة المبالغة للدلالة على أنّ ما يريد و يفعل في غاية الكثرة.

[سورة البروج [85]: الآيات 17 الى 22]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ [17] فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ [18] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ [19] وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [20] بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [21]

فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [22]

ص: 392

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التأذّي من قومه بذكر قصّة فرعون و ثمود، فقال:

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ الّذين تجنّدوا على أنبياء اللّه فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ أبدلهما من الجنود لأنّ المراد بفرعون هو و قومه، كما في قوله: مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ (1) و المعنى: قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل و ما حاق بهم، فتسلّ و اصبر على تكذيب قومك، و حذّرهم مثل ما أصابهم.

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك فِي تَكْذِيبٍ أي: تكذيب لا يخلصون عنه أصلا. فمعنى الإضراب: أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء، لأنّهم سمعوا بقصصهم و بما جرى عليهم، و رأوا آثار هلاكهم، و لم يعتبروا و كذّبوا أشدّ من تكذيبهم.

وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي: عالم بجميع أحوالهم، و قادر عليهم، و هم لا يعجزونه. و الإحاطة بهم من ورائهم مثل لعدم فوتهم، كما لا يفوت المحاط المحيط.

بَلْ هُوَ بل هذا الّذي كذّبوا به قُرْآنٌ مَجِيدٌ كتاب شريف، جليل القدر، وحيد في النظم و المعنى بين الكتب السماويّة فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ من التحريف، و من وصول الشياطين إليه. و قرأ نافع بالرفع صفة للقرآن.

و عن ابن عبّاس و مجاهد: أنّ اللوح المحفوظ من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء و الأرض، و عرضه ما بين المشرق و المغرب.

و عن مقاتل: اللوح عن يمين العرش. و عن أنس: في جبهة إسرافيل.

ص: 393


1- يونس: 83.

ص: 394

[86] سورة الطارق

اشارة

مكّيّة. و هي سبع عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطاه اللّه بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات».

المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان قراءته في الفريضة بالسماء و الطارق، كان له يوم القيامة عند اللّه جاه و منزلة، و كان من رفقاء النبيّين و أصحابهم في الجنّة».

[سورة الطارق [86]: الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ [1] وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ [2] النَّجْمُ الثَّاقِبُ [3] إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [4]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [5] خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [6] يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ [7] إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [8] يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [9]

فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ [10]

و لمّا ختم سبحانه سورة البروج بالوعيد، افتتح هذه السورة بمثله، و أكّد ذلك

ص: 395

بأنّ أعمال الخلق محفوظة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ و الكوكب البادي بالليل.

و هو في الأصل لسالك الطريق. و اختصّ عرفا بالآتي ليلا، ثمّ استعمل للبادي فيه.

أو الكوكب الذي يطرق الجنّي، أي: يصكّه.

روي: أنّ أبا طالب كان عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانحطّ نجم، فامتلأ ماثمّ نورا، فجزع أبو طالب و قال: أيّ شي ء هذا؟ فقال عليه السّلام: «هذا نجم رمي به، و هو آية من آيات اللّه». فعجب أبو طالب، فنزلت: «وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ».

وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضي ء، كأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، كما قيل: درّيّ، لأنّه يدرأ الظلام، أي: يدفعه. و المراد جنس النجوم، أو جنس الشهب الّتي يرجم بها، أو كوكب معهود بالثقب، و هو زحل.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه أراد أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له، لما عرف فيه من عجيب القدرة و لطيف الحكمة، و أن ينبّه على ذلك، فجاء بما هو صفة مشتركة بينه و بين غيره، و هو الطارق. ثمّ قال: «وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ». ثمّ فسّره بقوله:

«النَّجْمُ الثَّاقِبُ». كلّ هذا إظهارا لفخامة شأنه، كما قال: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (1).

و جواب القسم قوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفاصلة، و «ما» زائدة. و المعنى: أنّ الشأن كلّ نفس لعليها مهيمن رقيب، و هو اللّه تعالى، كقوله: وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (2). وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (3).

ص: 396


1- الواقعة: 75- 76.
2- الأحزاب: 52.
3- النساء: 85.

و قيل: ملك يحفظ عملها، و يحصي عليها ما تكسب من خير و شرّ.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و كلّ بالمؤمن مائة و ستّون ملكا يذبّون عنه، كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب. و لو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».

و قرأ ابن عامر و حمزة: لمّا بالتشديد، على أنّها بمعنى «إلّا» و «إن» نافية.

و المعنى: ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ.

و لمّا ذكر أنّ على كلّ نفس حافظا، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في مبدئه و أوّل أمره و نشأته، ليعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته، فلا يملي على حافظه إلّا ما يسرّه في عاقبته، فقال:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ من أيّ شي ء خلقه اللّه. فأجاب بقوله: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ذي دفق في الرحم، كاللّابن (1) و التامر. أو الإسناد مجازيّ، و الدفق في الحقيقة لصاحبه، أي: دافق صاحبه. قال الفرّاء: و أهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول. و هذا وقع في كثير من كلامهم، نحو: سرّ كاتم، و همّ ناصب. و الدفق: صبّ فيه دفع. و المراد: الممتزج من الماءين في الرحم.

و اتّحادهما حين ابتدئ في خلقه، و لهذا لم يقل: ماءين. و يدلّ على أنّ المراد ماءان قوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ صلب الرجل و ترائب المرأة، و هي عظام صدرها حيث تكون القلادة. و قيل: العظم و العصب من الرجل، و اللحم و الدم من المرأة.

و لو صحّ أنّ النطفة تتولّد من فضل الهضم الرابع، و تنفصل من جميع الأعضاء حتّى تستعدّ لأن يتولّد منها مثل تلك الأعضاء، و مقرّها عروق ملتفّ بعضها بالبعض عند البيضتين، فالدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها، و لذلك تشبهه، و يسرع

ص: 397


1- أي: ذي اللبن و التمر.

الإفراط في الجماع بالضعف فيه، و له خليفة، و هي النخاع، و هو في الصلب، و شعب كثيرة نازلة إلى الترائب، و هما أقرب إلى أوعية المنيّ، فلذلك خصّا بالذكر.

إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ لبيّن القدرة. و تقديم الجارّ للتخصيص. و الضمير للخالق. و يدلّ عليه «خلق».

و عن الضحّاك: إنّه على ردّ الإنسان ماء كما كان قادر.

و قال مقاتل بن حيّان: يقول اللّه تعالى: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، و من الشباب إلى الصبا، و من الصبا إلى النطفة.

و الأصحّ القول الأوّل. و يؤيّده أنّه حكى البعث بعده بقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ظرف للرجع. و المعنى: هو القادر على الرجع في يوم تختبر تلك السرائر. و المراد لازم الاختبار، فكأنّه قيل: يتعرّف و يتميّز كلّ ما أسرّ في القلوب من العقائد و سائر الضمائر، و ما أخفي من الأعمال، حتّى يظهر ما طاب منها و ما خبث. يعني: خيرها من شرّها، و مقبولها من مردودها.

روي مرفوعا عن أبي الدرداء: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ضمن اللّه خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم رمضان، و الغسل من الجنابة. و هي السرائر الّتي قال اللّه تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ».

و قيل: يظهر اللّه أعمال كلّ أحد لأهل القيامة، حتّى يعلموا على أيّ شي ء أثابه، و يكون فيه زيادة سرور لهم، و إن يكن من أهل العقوبة يظهر عمله ليعلموا على أيّ شي ء عاقبه، و يكون في ذلك زيادة غمّ له.

و روي عن ابن عمر أنّه قال: يبدئ اللّه يوم القيامة كلّ سرّ، و يكون زينا في الوجوه، و شينا في الوجوه.

فَما لَهُ لهذا الإنسان المنكر للبعث مِنْ قُوَّةٍ من منعة في نفسه يمتنع بها وَ لا ناصِرٍ يمنعه.

ص: 398

[سورة الطارق [86]: الآيات 11 الى 17]

وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ [11] وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [12] إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [13] وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ [14] إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً [15]

وَ أَكِيدُ كَيْداً [16] فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [17]

ثمّ ذكر قسما آخر تأكيدا لوقوع البعث، فقال: وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ترجع في كلّ دورة إلى الموضع الّذي تتحرّك عنه. و أكثر المفسّرين على أنّ الرجع المطر، سمّي به كما سمّي أوبا، لأنّ اللّه يرجعه وقتا فوقتا، أو لأنّ العرب يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من البحار ثمّ يرجعه إلى الأرض. و على هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب. أو أرادوا التفاؤل، فسمّوه رجعا و أوبا، ليرجع و يؤب.

وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ما تتصدّع عنه الأرض من النبات. أو الشقّ بالنبات و العيون.

إِنَّهُ إنّ القرآن، أو إنّ الوعد بالبعث لَقَوْلٌ فَصْلٌ فاصل بين الحقّ و الباطل، كما قيل له: إنّه الفرقان.

وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ فإنّه جدّ كلّه، و من حقّه أن يكون مهيبا في الصدور، معظّما في القلوب، يترفّع به قارئه و سامعه أن يلمّ بهزل أو يتفكّه بمزاح، و أن يلقى ذهنه إلى أنّ جبّار السماوات يخاطبه فيأمره و ينهاه، و يعده و يوعده، حتّى إن لم يستفزّه الخوف و لم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل، فقد نعى اللّه على المشركين ذلك في قوله: وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (1).

إِنَّهُمْ يعني: أهل مكّة يَكِيدُونَ كَيْداً يعملون المكايد في إطفاء نوره

ص: 399


1- النجم: 60- 61.

و إبطاله وَ أَكِيدُ كَيْداً و أقابلهم بكيدي، في استدراجي لهم، و انتقامي منهم من حيث لا يحتسبون، و تدبيري ما ينقص مكايدهم و تدابيرهم أمرهم من حيث لا يعلمون.

فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ فلا تشتغل بالانتقام منهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إمهالا يسيرا. و التكرير و تغيير البنية لزيادة التسكين منه و التصبير.

ص: 400

[87] سورة الأعلى

اشارة

مكّيّة عند ابن عبّاس، و مدنيّة عند الضحّاك. و هي تسع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطاه اللّه من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله اللّه على إبراهيم و موسى و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: «كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحبّ هذه السورة «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى». و أوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى، ميكائيل».

و عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأ «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» قال: «سبحان ربّي الأعلى». و كذلك روي عن عليّ عليه السّلام. و روى جرير عن الضحّاك أنّه كان يقول ذلك. و كان يقول: من قرأها فليفعل ذلك.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت».

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي حميصة، عن عليّ عليه السّلام، قال: «صلّيت خلفه عشرين ليلة، فليس يقرأ إلّا «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى». و قال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، و إنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى و إبراهيم الّذي وفّى».

ص: 401

[سورة الأعلى [87]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [1] الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [2] وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [3] وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى [4]

فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [5]

و لمّا ختم سبحانه سورة الطارق بذكر الوعيد و التهديد للكفّار، افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى و قدرته على ما يشاء، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى نزّه اسمه عمّا لا يصحّ فيه، من المعاني الّتي هي الإلحاد في أسمائه بالتأويلات الزائغة، مثل أن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الّذي هو القهر و الاقتدار على كلّ شي ء، لا بمعنى العلوّ في المكان و الاستواء على العرش حقيقة، كما هو مذهب المشبّهة. و من إطلاقه على غيره راعما أنّهما فيه سواء، كعبدة الأصنام. و من أن يصان عن الابتذال و الذكر لا على وجه الخشوع و التعظيم. و يجوز أن يكون الأعلى صفة للربّ، و الاسم باعتبار المسمّى.

و عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: «لمّا نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (1) قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجعلوها في ركوعكم. فلمّا نزلت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» قال:

اجعلوها في سجودكم. و كانوا يقولون في الركوع: اللّهمّ لك ركعت، و في السجود:

اللّهمّ لك سجدت».

الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى خلق كلّ شي ء فسوّى خلقه، بأن جعل له ما به يتأتّى كماله من الإحكام و الاتّساق، على وجه يدلّ على أنّه صادر من قدير

ص: 402


1- الحاقّة: 52.

عليم و صانع حكيم.

وَ الَّذِي قَدَّرَ قدّر أجناس الأشياء و أنواعها و أشخاصها و أفعالها و آجالها.

و قرأ الكسائي: قدر بالتخفيف. فَهَدى فوجّهه إلى أفعاله طبعا أو اختيارا، بخلق الميول و الإلهامات، فعرّفه وجه الانتفاع به. كما يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، و قد ألهمها اللّه أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغضّ يردّ إليها بصرها، فربما كانت في برّيّة بينها و بين الريف مسيرة أيّام، فتطوي تلك المسافة على طولها و على عماها، حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحكّ بها عينيها، و ترجع باصرة بإذن اللّه تعالى.

و إلهامات البهائم و الطيور و هو امّ الأرض باب واسع لا يحيط به وصف واصف. و من ذلك أنّه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمّه، و هدى الفرخ حتّى طلب الرزق من أبيه و أمّه، و سائر الدوابّ و الطيور حتّى فزع كلّ منهم إلى أمّه. و ما صدر من النحل من صنعة البيوت المسدّسة و المثمّنة و غيرهما من الأشكال، على وجه يعجز عنه المهندسون العالمون في صنائعهم المحسّنة اللطيفة البديعة العجيبة، كاف في تأمّل أولي الألباب و الأبصار ليهتدوا إلى اللّه العزيز الحكيم.

و هدايات اللّه للإنسان من نصب الدلائل و إنزال الآيات- إلى ما لا يحدّ من مصالحه، و ما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته و أدويته، و في أبواب دنياه و دينه، فسبحان ربّي الأعلى و بحمده.

وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أنبت ما ترعاه الحيوانات فَجَعَلَهُ بعد خضرته غُثاءً يابسا هشيما أَحْوى أسود. و قيل: هو حال من المرعى، أي: أخرجه حال كونه أحوى، أي: أسود من شدّة خضرته و ريّه، فجعله غثاء، أي: يابسا بعد حويّه، أي: شدّة خضرته. فسبحان من دبّر هذا التدبير، و قدّر هذا التقدير. و قيل:

إنّه مثل ضربه اللّه تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

ص: 403

[سورة الأعلى [87]: الآيات 6 الى 19]

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [6] إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى [7] وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [8] فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى [9] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى [10]

وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى [11] الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى [12] ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى [13] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [14] وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [15]

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [16] وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [17] إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [18] صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى [19]

ثمّ بشّر نبيّه بإعطاء آيات هادية بيّنة في الإعجاز بقوله: سَنُقْرِئُكَ على لسان جبرئيل، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة. فَلا تَنْسى فلا تنساه أصلا من قوّة الحفظ، مع أنّك أمّيّ، ليكون ذلك آية اخرى لك. مع أنّ الإخبار به عمّا يستقبل و وقوعه كذلك أيضا من الآيات.

و قيل: نهي، و الألف للفاصلة، كقوله: السَّبِيلَا (1). و المعنى: فلا تغفل من قراءته و تكريره فتنساه.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ نسيانه، بأن يذهب به عن حفظك برفع حكمه و تلاوته، كقوله: أَوْ نُنْسِها (2) فإنّ الإنساء نوع من النسخ.

و قيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقّنه جبرئيل، فقال: لا تعجل، فإنّ جبرئيل

ص: 404


1- الأحزاب: 67.
2- البقرة: 106.

مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكرّرة إلى أن تحفظه، ثمّ لا تنساه إلّا أن يشاء اللّه.

و قيل: الغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء اللّه. و لا يقصد استثناء شي ء. و هو من استعمال القلّة في معنى النفي.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى ما ظهر من أحوالكم و ما بطن، فيعلم ما هو مصلحة لكم في دينكم و مفسدة فيه. أو يعلم جهرك يا محمّد بالقراءة مع جبرئيل، و ما دعاك إليه من مخافة التفلّت و النسيان، فيعلم ما فيه صلاحك و أمّتك من إبقاء أو إنساء.

وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معطوف على «سَنُقْرِئُكَ». و قوله: «إِنَّهُ يَعْلَمُ» اعتراض.

و المعنى: سنوفّقك للطريقة الّتي هي أيسر و أسهل في حفظ الوحي. و قيل: للشريعة السمحة الّتي هي أيسر الشرائع و أسهلها مأخذا. و قيل: نوفّقك لعمل الجنّة. و لمّا كان التيسير متضمّنا لمعنى التوفيق قال: «نيسّرك»، لا: نيسّر لك.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، و ما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلّا عتوّا و طغيانا. و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتلظّى حسرة و تلهّفا، و يزداد جدّا في تذكيرهم و حرصا عليه،

فقيل له: وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (1). فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ (2). ثمّ قيل له: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى و ذلك بعد إلزام الحجّة بتكرير التذكير.

و قيل: ظاهر الآية شرط، و معناه ذمّ للمذكّرين، و إخبار عن حالهم، و استبعاد لتأثير الذكرى فيهم، و تسجيل عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ

ص: 405


1- ق: 45.
2- الزخرف: 89.

المكّاسين (1) إن سمعوا منك، قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، و أنّه لن يكون كذلك.

سَيَذَّكَّرُ سيتّعظ و ينتفع بها مَنْ يَخْشى يخشى اللّه و سوء العاقبة، بأن يتفكّر فيها فيعلم حقيقتها، فيقوده النظر إلى اتّباع الحقّ. فأمّا هؤلاء فغير خاشين و لا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك.

وَ يَتَجَنَّبُهَا و يتجنّب الذكرى الْأَشْقَى الكافر، لأنّه أشقى من الفاسق.

أو الّذي هو أشقى من الكفرة، لتوغّله في جحوده و إنكاره، و حقده و شدّة غضبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة.

الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى نار جهنّم. و الصغرى: نار الدنيا،

فإنّه عليه السّلام قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم».

أو ما في الدرك الأسفل من أطباق النار، فإنّ ناره أحرّ و أشدّ من نار أطباق أخر.

ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَ لا يَحْيى حياة تنفعه، بل صارت حياته وبالا عليه، و مشقّة يتمنّى زوالها، لما فيها من فنون العقاب و ألوان العذاب. و لهذا ذكر «ثمّ» للدلالة على أنّ التردّد بين الحياة و الموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى تطهّر من الكفر و المعصية. و قيل: من الزكاء بمعنى النماء. و المعنى: من نشأ و نما في التقوى. و قيل: تطهّر للصلاة، أو أدّى الزكاة، كتصدّق من الصدقة.

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وحّده بقلبه و لسانه فَصَلَّى بذلك الاسم الصلوات الخمس، لقوله: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (2). و عن ابن عبّاس: معناه: ذكر معاده

ص: 406


1- المكّاس: من يأخذ المكس. و المكس: دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهليّة.
2- طه: 14.

و موقفه بين يدي ربّه، فصلّى له. و عن الضحّاك: و ذكر اسم ربّه في طريق المصلّى، فصلّى صلاة العيد. و عن عليّ عليه السّلام: تصدّق بالفطر، «وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ» كبّر يوم العيد، فصلّى صلاته.

و متى قيل: على هذا القول كيف يصحّ أن تكون السورة مكّيّة، و لم يكن هناك صلاة عيد و لا زكاة فطرة؟

قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكّة و ختمت بالمدينة.

و عند أكثر علمائنا أنّ المراد بالذكر هنا الأذان و الإقامة، استنادا إلى روايات واردة عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الأشقين على طريقة الالتفات، أو على إضمار قل:

بَلْ تُؤْثِرُونَ تختارون الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة، فلا تفعلون ما تفلحون به. و قيل: هو عامّ في المؤمن و الكافر، بناء على الأعمّ الأغلب في أمر الناس.

قال عبد اللّه بن مسعود: إنّ الدنيا اخضرّت لنا، و عجّل لنا طعامها و شرابها و نساؤها و لذّتها و بهجتها، و إنّ الآخرة نعتت لنا و زويت عنّا، فأخذنا بالعاجل و تركنا الآجل.

وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ أفضل في نفسها وَ أَبْقى و أدوم، فإنّ نعيمها ملذّ بالذات، خالص عن الغوائل، لا انقطاع له.

إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى الإشارة إلى ما سبق من قوله: «قد أفلح» إلى قوله: «و أبقى»، فإنّه جامع أمر الديانة، و خلاصة الكتب المنزلة. و المعنى: أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى بدل من الصحف الأولى.

ص: 407

و روي عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول اللّه كم الأنبياء؟

قال: مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون ألفا.

قلت: يا رسول اللّه كم المرسلون منهم؟

قال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر، و بقيّتهم أنبياء.

قلت: أ كان آدم نبيّا؟

قال: نعم، كلّمه اللّه و خلقه بيده. يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود، و صالح، و شعيب، و نبيّك.

قلت: يا رسول اللّه كم أنزل اللّه من كتاب؟

قال: مائة و أربعة كتب، منها: على آدم عشر صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على أخنوخ- و هو إدريس- ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشر صحائف، و التوراة، و الإنجيل، و الزبور، و الفرقان».

و قيل: إنّ في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه.

و قيل: إنّ كتب اللّه سبحانه كلّها أنزلت في شهر رمضان.

ص: 408

[88] سورة الغاشية

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها حاسبه اللّه حسابا يسيرا».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من أدمن قراءة «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» في فريضة أو نافلة، غشّاه اللّه رحمته في الدنيا و الآخرة، و أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

[سورة الغاشية [88]: الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [1] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [2] عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [3] تَصْلى ناراً حامِيَةً [4]

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [5] لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ [6] لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [7]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة، و أنّها خير من الدنيا، افتتح هذه السورة أيضا ببيان أحوال الآخرة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ الداهية الّتي تغشى الناس بشدائدها، و تلبسهم أهوالها. يعني: يوم القيامة، من قوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ

ص: 409

الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ (1). أو النار من قوله: وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (2) وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ (3).

وُجُوهٌ أي: صواحبها يَوْمَئِذٍ يوم إذ غشيت خاشِعَةٌ ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تعمل في النار عملا تتعب فيه، كجرّ السلاسل و الأغلال، و خوضها في النار خوض الإبل في الوحل، و الصعود و الهبوط في تلالها و وهادها.

و قيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، و التذّت بها و تنعّمت، و نصبت في أعمال لا ينفعها في الآخرة.

و قيل: عملت و نصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة، من قوله:

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ (4). وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (5).

أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ (6).

و قيل: هم أصحاب الصوامع. و معناه: أنّها خشعت للّه، و عملت و نصبت في أعمالها، من الصوم الدائب (7) و التهجّد الواصب.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كلّ ناصب لنا و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ».

تَصْلى ناراً تدخلها. قيل: المصلّي عند العرب أن يحفروا حفيرا، فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثمّ يعمدوا إلى شاة فيدسّوها وسطه. فأمّا ما يشوى فوق

ص: 410


1- العنكبوت: 55.
2- إبراهيم: 50.
3- الأعراف: 41.
4- الفرقان: 23.
5- الكهف: 104.
6- آل عمران: 22.
7- الدائب: الدائم المستمرّ. و التهجّد الواصب: الدائم المواظب على القيام به.

الجمر، أو على المقلى (1)، أو في التنّور، فلا يسمّى مصلّيا. و قرأ أبو عمرو و يعقوب و أبو بكر تصلى، من: أصلاه اللّه. حامِيَةً متناهية في الحرّ.

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ متناهية في الحرّ، كقوله: وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (2) قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا، هذا شرابهم.

و قال أبو الدرداء: إنّ اللّه يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم اللّه ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة و لا مريئة، كلّما أدنوه من وجوههم سلخ وجوههم و شواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، فذلك قوله: وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (3).

لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ يبيس الشبرق. و هو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، و هو سمّ قاتل. و قيل: شجرة ناريّة تشبه الضريع، كما نقل.

و عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الضريع شي ء يكون في النار يشبه الشوك، أمرّ من الصبر، و أنتن من الجيفة، و أشدّ حرّا من النار، سمّاه اللّه الضريع».

و إنّما قال: «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ». و في الحاقّة: وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (4) و ظاهر الكلامين تناف، لأنّ العذاب ألوان، و المعذّبون طبقات، فمنهم أكلة الزقّوم، و منهم أكلة الغسلين، و منهم أكلة الضريع. لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ

ص: 411


1- المقلى: وعاء يقلى- أي: ينضج- فيه الطعام.
2- الرحمن: 44.
3- محمد صلى الله عليه و آله و سلم: 15.
4- الحاقة: 36.

مَقْسُومٌ (1). أو المراد: إنّما طعامهم ممّا تتحاماه الإبل و تعافه، لضرّه و عدم نفعه.

و هذا إشارة إلى أنواع طعام جهنّم، من الضريع و الزقّوم و الغسلين.

روي: أنّ المشركين لمّا سمعوا هذه الآية قالوا: إن إبلنا لتسمن على الضريع.

و كذبوا في ذلك، لأنّ الإبل لا ترعاه كما علمت. فقال سبحانه تكذيبا لهم:

لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي: لا يسمن أحدا، و لا يدفع جوعا. و هذا مرفوع المحلّ أو مجروره على وصف: طعام أو ضريع. و المعنى: طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنّما هو ضريع غير مسمن و لا مغن من جوع.

و قيل: أراد اللّه سبحانه بهذه الآية أن لا طعام لهم أصلا، لأنّ الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، لأنّ الطعام ما أشبع أو أسمن، و هو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظلّ إلّا الشمس، تريد: نفي الظلّ على التوكيد.

[سورة الغاشية [88]: الآيات 8 الى 16]

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ [8] لِسَعْيِها راضِيَةٌ [9] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [10] لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [11] فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ [12]

فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [13] وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ [14] وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ [15] وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [16]

ثمّ وصف أهل الجنّة بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ذات بهجة و حسن، أو متنعّمة في أنواع اللذّات لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ رضيت بعملها لمّا رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة و الثواب لسعيها.

ص: 412


1- الحجر: 44.

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ عليّة المحلّ أو القدر لا تَسْمَعُ فِيها يا مخاطب، أو الوجوه. و قرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير و أبو عمرو و رويس. و بالتاء نافع.

لاغِيَةً لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو، فإنّ أهل الجنّة لا يتكلّمون إلّا بالذكر و الحكم، و حمد اللّه على ما رزقهم من النعيم الدائم.

فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يجري ماؤها و لا ينقطع. يريد عيونا في غاية الكثرة، كقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ (1). فهي اسم جنس. و التنوين للتعظيم. فلكلّ إنسان في قصره من الجنّة عين جارية من كلّ شراب يشتهيه.

فِيها سُرُرٌ ألواحها من ذهب مكلّلة بالزبرجد و الدرّ و الياقوت مَرْفُوعَةٌ رفيعة السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربّه من الملك و النعيم الدائم. أو رفيعة القدر.

وَ أَكْوابٌ جمع كوب. و هو إناء من ذهب و فضّة لا عروة له. مَوْضُوعَةٌ بين أيديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو على حافّات العيون معدّة للشرب.

وَ نَمارِقُ جمع نمرقة بالفتح و الضمّ، و هي الوسادة مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة (2) و استند إلى اخرى.

وَ زَرابِيُ و بسط عراض فاخرة. و قيل: هي الطنافس (3) الّتي لها خمل رقيق.

جمع زربية. مَبْثُوثَةٌ مبسوطة، أو مفرّقة في المجالس.

[سورة الغاشية [88]: الآيات 17 الى 26]

أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [17] وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [18] وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [19] وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

ص: 413


1- التكوير: 14.
2- المسورة: متّكأ من جلد.
3- الطنافس جمع الطنفسة: البساط، الحصير.

سُطِحَتْ [20] فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [21]

لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [22] إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ [23] فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ [24] إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ [25] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [26]

و لمّا نعت اللّه سبحانه الجنّة و ما فيها عجب من ذلك أهل الضلال، فبيّن سبحانه أفعاله العجيبة الغريبة الدالّة على كمال القدرة، الموجبة لفعل كلّ ما أراد من الصنائع العظيمة العجيبة، فقال:

أَ فَلا يَنْظُرُونَ نظر اعتبار إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ خلقا عجيبا دالّا على كمال قدرته و حسن تدبيره، حيث خلقها لجرّ الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل، ناهضة بالحمل، منقادة لمن اقتادها، و لو كان قائدها غير إنسان، كما حكي أنّ فارة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها و هي تتبعها حتّى دخلت الجحر، فجرّت الزمام فقرّبت فمها من جحر الفار. طوال الأعناق لتنوء بالأوقار (1)، ترعى كلّ نابت في البراري و المفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، و تحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتّى لها قطع البراري و المفاوز. مع ما لها من منافع أخر، و لذلك خصّت بالذكر لبيان الآيات المنبثّة في الحيوانات الّتي هي أشرف المركّبات و أكثرها صنعا، و لأنّها أعجب ما عند العرب من هذا النوع.

و قيل: المراد بها السحاب على طريق التشبيه و المجاز، لأنّ الإبل ليست من أسماء السحاب حقيقة، كالغمام و المزن و الرباب و الغيم و الغين و غير ذلك.

وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد، مع ما في خلقها من صنائع القدرة

ص: 414


1- الأوقار جمع الوقر: الحمل الثقيل.

و بدائع الفطرة، من الشمس و القمر و الكواكب، و علّق بها منافع الخلق و أسباب معايشهم.

وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ فهي راسخة لا تميل و لا تزول، و لولاها لمادت الأرض بأهلها.

وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ بسطت حتّى صارت مهادا للمتقلّب عليها.

و وجه حسن ذكر الإبل مع السماء و الجبال و الأرض: أنّ هذه الأشياء غالبا في مناظر العرب و مطاع (1) نظرهم في أوديتهم و بواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم.

و ملخّص المعنى: أ فلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط و المركّبات، ليتحقّقوا كمال قدرة الخالق، فلا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول و يؤمنوا به، و يستعدّوا للقائه؟ و لذلك عقّب به أمر المعاد، و رتّب عليه الأمر بالتذكير، فقال: فَذَكِّرْ أي: لا ينظرون، فذكّرهم و لا تلحّ عليهم إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي: فلا عليك إن لم ينظروا و لم يتذكّروا، إذ ما عليك إلّا البلاغ، كقوله: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ (2).

لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بمتسلّط يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم و تجبرهم عليه، كقوله: وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ (3). و عن الكسائي بالسين على الأصل، و حمزة بالإشمام.

إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ الاستثناء منقطع. و المعنى: لست بمستول عليهم، و لكن من تولّى عن الذكر و كفر باللّه فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ الّذي هو عذاب جهنّم.

ص: 415


1- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: و مطمح.
2- الشورى: 48.
3- ق: 45.

و قيل: متّصل، فإنّ جهاد الكفّار و قتلهم تسلّط. و كأنّه أوعدهم الجهاد في الدنيا و عذاب النار في الآخرة.

و قيل: هو استثناء من قوله: «فذكّر» أي: فذكّر إلّا من انقطع طمعك من إيمانه و تولّى، فاستحقّ العذاب الأكبر. و ما بينهما اعتراض.

إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ رجوعهم بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر.

و تقديم الخبر للتخصيص و المبالغة في الوعيد. كأنّه قال: إنّ إيابهم ليس إلّا إلى الجبّار المقتدر على الانتقام، و إنّ حسابهم ليس بواجب إلّا عليه، و هو الّذي يحاسب على النقير و القطمير. و معنى الوجوب الوجوب في الحكمة.

ص: 416

[89] سورة الفجر

اشارة

مكّيّة. و هي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها في ليال عشر غفر اللّه له، و من قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة».

و روى داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن عليّ عليه السّلام، من قرأها كان مع الحسين بن عليّ عليه السّلام يوم القيامة في درجته من الجنّة».

[سورة الفجر [89]: الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْفَجْرِ [1] وَ لَيالٍ عَشْرٍ [2] وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ [3] وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [4]

هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [5] أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ [6] إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [7] الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [8] وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ [9]

وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ [10] الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ [11] فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ [12] فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [13] إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [14]

ص: 417

و لمّا ختم سورة الغاشية بأنّ إياب الخلق إليه و حسابهم عليه، افتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى حين أقسم أنّه بالمرصاد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْفَجْرِ أقسم بمطلق الصبح في الأيّام، كما أقسم في قوله: وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (1). أو بمطلق فلقه، كقوله: وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (2). أو بصلاة الفجر، أو بفجر يوم النحر، أو بفجر عرفة، أو فجر أوّل ذي الحجّة، أو فجر أوّل المحرّم. و الأوّل أشمل و أعمّ، و منقول عن عكرمة و الحسن و الجبائي، و رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

وَ لَيالٍ عَشْرٍ عشر ذي الحجّة، على ما نقل عن مجاهد و الضحّاك و ابن عبّاس و الحسن و قتادة و السدّي. و لذلك فسّر الفجر بفجر عرفة أو النحر. و قيل:

عشر رمضان الأخير. و لأنّها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، وقعت منكّرة من بين ما أقسم به. و لو عرّفت بلام العهد، لأنّها ليال معلومة معهودة، لم تستقلّ بمعنى الفضيلة الّذي في التنكير، فإنّ التنكير للتعظيم و التفخيم. و لأنّ الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز و التعمية، فيوهم أنّ المراد جنس العشرات لا العشرات المعيّنة المطلوبة.

وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ أي: و الأشياء كلّها، شفعها و وترها. أو الخلق، لقوله:

وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ (3) و الخالق، لأنّه فرد.

و من فسّرهما بشفع هذه الليالي و وترها، و بالعناصر و الأفلاك و البروج و السيّارات. أو شفع الصلوات و وترها. أو بيومي النحر و عرفة، لأنّها تاسع أيّامها

ص: 418


1- المدّثر: 34.
2- التكوير: 18.
3- الذاريات: 49.

و ذلك عاشرها، فقد روي مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلى أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

أو الوتر آدم، شفّع بزوجته. أو الشفع الأيّام، و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده، و هو يوم القيامة. أو الشفع عليّ و فاطمة عليهما السّلام، و الوتر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو الصفا و المروة، و الوتر البيت. فلعلّه (1) أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لما قبلها، أو أكثر منفعة موجبة للشكر.

و قرأ حمزة و الكسائي: و الوتر، بفتح الواو. و هما لغتان، كالحبر و الحبر.

وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ إذا يمضي، كقوله: وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (2). و أصله: يسري، حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا. و قد خصّه نافع و أبو عمرو بالوقف. و التقييد بذلك لما في التعاقب من قوّة الدلالة على كمال القدرة و وفور النعم.

هَلْ فِي ذلِكَ الإقسام، أو المقسم به قَسَمٌ حلف، أو محلوف به لِذِي حِجْرٍ يعتبره و يعظم بالإقسام به، و يؤكّد به ما يريد تحقيقه. و الحجر: العقل. سمّي به لأنّه يحجر عمّا لا ينبغي، كما سمّي عقلا و نهية و حصاة من الإحصاء، و هو الضبط. و في هذا تعظيم و تأكيد لما وقع به القسم.

و المعنى: أنّ من كان ذا لبّ علم أنّ ما أقسم اللّه به من هذه الأشياء فيه عجائب و دلائل على توحيد اللّه، توضح عن عجائب صنعه و بدائع حكمته.

و المقسم عليه محذوف، و هو: ليعذّبنّ. يدلّ عليه قوله: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و فيه تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالأمم السابقة لمّا كفرت باللّه و بأنبيائه، و كانت أطول أعمارا و أشدّ قوّة. و عاد قوم ثمود، سمّوا باسم أبيهم، كما سمّي بنو هاشم باسمه. و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

ص: 419


1- خبر لقوله: و من فسّرهما ...، في بداية الفقرة.
2- المدّثر: 33.

إِرَمَ عطف بيان ل «عاد» إيذانا بأنّهم عاد الأولى القديمة. و هذا على تقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو أهل إرم، إن صحّ أنّه اسم بلدتهم. و قيل: سمّي أوائلهم- و هم عاد الأولى- بإرم اسم جدّهم، و من بعدهم سمّوا عادا الأخيرة. و منع صرفه للعلميّة و التأنيث، باعتبار القبيلة أو البلدة. ذاتِ الْعِمادِ ذات البناء الرفيع، أو القدود (1) الطوال. و منه قولهم: رجل معمد إذا كان طويلا. و رجل طويل العماد، أي:

القامة. أو ذات الرفعة و الثبات.

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة اخرى ل «إرم». و الضمير لها، سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة. و المعنى: لم يخلق مثل عاد في جميع بلاد الدنيا عظم أجرام و قوّة. فقد روي أنّ طول الرجل منهم كان أربعمائة ذراع، و كان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم. أو لم يخلق مثل مدينة إرم في جميع بلاد الدنيا.

و قيل: كان لعاد ابنان: شدّاد و شديد، فملكا و قهرا، ثمّ مات شديد فخلص الأمر لشداد، و ملك المعمورة، و دانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنّة و سمّاها إرم، فلمّا تمّ سار إليها بأهله، فلمّا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا.

و عن عبد اللّه بن قلابة: أنّه خرج في طلب إبله فوقع عليها. و قصّة ذلك مفصّلا على ما روى وهب بن منبّه: أنّ عبد اللّه بن قلابة خرج يوما في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن إذ هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، و حول الحصن قصور كثيرة و أعلام طوال.

فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله، فنزل عن دابّته و عقلها، و سلّ سيفه و دخل من باب الحصن. فلمّا دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم

ص: 420


1- القدود جمع القدّ: قدر الشي ء و تقطيعه.

منهما، و البابان مرصّعان بالياقوت الأبيض و الأحمر. فلمّا رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، و إذا هو قصور، كلّ قصر فوقه غرف مبنيّة بالذهب و الفضّة و اللؤلؤ و الياقوت، و أساطينها من الزبرجد و الياقوت، و مصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة يقابل بعضها بعضا، مفروشة كلّها باللآلئ و بنادق من مسك و زعفران.

فلمّا رأى الرجل ما رأى، و لم ير فيها أحدا هاله ذلك. ثمّ نظر إلى الأزقّة فإذا هو بشجر في كلّ زقاق منها قد أثمرت تلك الأشجار، و تحت الأشجار أنهار مطّردة، يجري ماؤها من قنوات من فضّة، كلّ قناة أشدّ بياضا من الشمس.

فقال الرجل: و الّذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحقّ ما خلق اللّه مثل هذه في الدنيا، و إنّ هذه هي الجنّة الّتي وصفها اللّه تعالى في كتابه. فحمل معه من لؤلؤها و من بنادق المسك و الزعفران، و لم يستطع أن يقلع من زبرجدها و لا من ياقوتها شيئا.

و خرج و رجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه، و علم الناس أمره. فلم يزل ينمو أمره حتّى بلغ معاوية خبره، فأرسل في طلبه حتّى قدم عليه، فقصّ عليه القصّة. فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلمّا أتاه قال له: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب و فضّة؟

قال: نعم، أخبرك بها و بمن بناها، إنّما بناها شدّاد بن عاد. فأمّا المدينة فإرم ذات العماد الّتي وصفها اللّه تعالى في كتابه، و هي «الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ».

قال معاوية: فحدّثني حديثها.

فقال: إنّ عادا الأولى ليس بعاد قوم هود، و إنّما هود و قوم هود ولد ذلك.

و كان عاد له ابنان: شدّاد و شديد، فهلك عاد فبقيا و ملكا، و قهرا البلاد و أخذاها عنوة. ثمّ هلك شديد و بقي شدّاد، فملك وحده، و دانت له ملوك الأرض، فدعته نفسه إلى بناء مثل الجنّة عتوّا على اللّه سبحانه. فأمر بصنعة تلك المدينة إرم ذات

ص: 421

العماد، و أمر على صنعتها مائة قهرمان، مع كلّ قهرمان ألف من الأعوان. و كتب إلى كلّ ملك في الدنيا أن يجمع له ما في بلاده من الجواهر. و كان هؤلاء القهارمة أقاموا في بنيانها في ثلاثمائة سنة، و كان عمره تسعمائة سنة، فلمّا فرغوا منها جعلوا عليها حصنا، و جعلوا حول الحصن ألف قصر.

ثمّ سار الملك إليها في جنده و وزرائه، فلمّا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث اللّه عزّ و جلّ عليه و على من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، و لم يبق منهم أحد. و سيدخلها في زمانك رجل من المسلمين، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، و على عنقه خال، يخرج في طلب إبل له في تلك الصحاري. و الرجل عند معاوية، فالتفت كعب إليه و قال: هذا و اللّه ذاك الرجل.

وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ قطعوا صخر الجبال و اتّخذوا فيها بيوتا و منازل، لقوله: وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً (1) بِالْوادِ وادي القرى. قيل: أوّل من نحت الجبال و الصخور و الرخام ثمود، و بنوا ألفا و سبعمائة مدينة كلّها من الحجارة.

وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ لكثرة جنوده و مضاربهم الّتي كانوا يضربونها بالأوتاد إذا نزلوا. أو لتعذيبه بالأوتاد، كما روي عن ابن مسعود و مجاهد: كان يشدّ الرجل بأربعة أوتاد على الأرض إذا أراد تعذيبه، و يتركه حتّى يموت. قال: وتّد امرأته آسية بأربعة أوتاد، ثمّ جعل على ظهرها رحى عظيمة حتّى ماتت. و كذا فعل بماشطة ابنته. و قد مرّ بيانه في سورة ص (2).

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ صفة للمذكورين: عاد و ثمود و فرعون. أو ذمّ منصوب أو مرفوع. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ بالكفر و الظلم على العباد.

ص: 422


1- الشعراء: 149.
2- راجع ج 6 ص 11، ذيل الآية 12 من سورة ص.

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ما خلط لهم من أنواع العذاب. و أصله:

الخلط. و إنّما سمّي به الجلد المضفور الّذي يضرب به، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض. و قيل: شبّه بالسوط ما أحلّ بهم من العذاب العظيم في الدنيا، إشعارا بأنّه القياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب، كالسوط إذا قيس إلى السيف.

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ المكان الّذي يترقّب فيه الرصد. مفعال من: رصده، كالميقات من: وقته. و هو تمثيل لإرصاد اللّه تعالى العصاة بالعقاب بحيث إنّهم لا يفوتونه.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد».

و روي عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: إنّ على جسر جهنّم سبع مجالس يسأل العبد عنه، أوّلها عن شهادة أن لا إله إلّا اللّه، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني.

فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث. فيسأل عن الزكاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع. فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تامّا جاز إلى الخامس.

فيسأل عن الحجّ، فإن جاء به تامّا جاز إلى السادس. فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع. فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها، و إلّا يقال: انظروا فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنّة.

[سورة الفجر [89]: الآيات 15 الى 26]

فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [15] وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ [16] كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [17] وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [18] وَ تَأْكُلُونَ

ص: 423

التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا [19] وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا [20] كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [21] وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [22] وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى [23] يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [24]

فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ [25] وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ [26]

ثمّ وصل بقوله: «لَبِالْمِرْصادِ» قوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ كأنّه قيل: إنّ اللّه تعالى لا يريد من الإنسان إلّا الطاعة و السعي للعاقبة، و هو مرصد بالعقوبة للعاصي، فأمّا الإنسان فلا يريد ذلك، و لا يهمّه إلّا العاجلة و ما يلذّه و ينعمه فيها، لأنّه إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ اختبره بالغنا و اليسر فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ بالجاه و المال فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ بما أعطاني، إترافا و التذاذا و مرحا و اختيالا بلا مقابلته بالشكر.

و هذا خبر المبتدأ الّذي هو الإنسان. و الفاء لما في «أمّا» من معنى الشرط.

و الظرف المتوسّط في تقدير التأخير. كأنّه قيل: فأمّا الإنسان فقائل: ربّي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام. و كذا قوله: وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إذ التقدير:

و أمّا الإنسان وقت ما ابتلاه بالفقر و التقتير، ليوازن قسيمه، فإنّ حقّ التوازن أن يقابل الواقعان بعد «أمّا» و «أمّا»، كما تقول: أمّا الإنسان فكفور، و أمّا الملك فشكور. أمّا إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك، و أمّا إذا أسأت إليه فهو مسي ء إليك. فعلم أنّ قوله: «وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ» في تقدير: و أمّا الإنسان إذا ابتلاه، أي:

وقت ابتلائه بالفقر.

ص: 424

فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ لقصور نظره و سوء فكره، فإنّ التقتير قد يؤدّي إلى كرامة الدارين، إذ التوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء و الانهماك في حبّ الدنيا، و لذلك ذمّه على قوليه و ردعه عنه بقوله: كَلَّا مع أنّ ظاهر قوله الأوّل مطابق ل «فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ» فإنّ كلّ واحد من التوسعة و التقتير اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أ يشكر أم يكفر؟ فإذا قدر عليه رزقه فقد اختبر حاله أ يصبر أم يجزع؟

فالحكمة فيهما واحدة. و نحوه قوله تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً (1).

و لمّا كان قوله: «ربّي أكرمن» على قصد خلاف ما صحّحه اللّه عليه، لأنّ قصده إلى أنّ اللّه أعطاه ما أعطاه إكراما له، مستحقّا مستوجبا على عادة افتخارهم و جلالة أقدارهم عندهم، كقوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ (2). و إنّما أعطاه اللّه على وجه التفضّل من غير استيجاب منه له، و لا سابقة ممّا لا يعتدّ اللّه إلّا به، و هو التقوى، دون الأنساب و الأحساب الّتي كانوا يفتخرون بها، و يرون استحقاق الكرامة من أجلها. فأنكر قوله: «ربّي أكرمن» و ذمّه عليه.

و أيضا ينساق الإنكار و الذمّ من قوله: «ربّي أكرمن» إلى قوله: «ربّي أهانن».

يعني: أنّه إذا تفضّل اللّه عليه بالخير و أكرم به اعترف بتفضّل اللّه و إكرامه، و إذا لم يتفضّل اللّه عليه سمّى ترك التفضّل هوانا، و ليس بهوان. و لهذا لم يقل: فأهانه و قدر رزقه، كما قال: فأكرمه و نعّمه.

و توضيحه: أنّ إكرام اللّه لعبده بإنعامه عليه متفضّلا من غير سابقة. و أمّا التقتير فليس بإهانة، لأنّ الإخلال بالتفضّل لا يكون إهانة، و لكن تركا للكرامة، و قد يكون المولى مكرما لعبده و مهينا، و غير مكرم و مهين. و إذا أهدى لك زيد هديّة قلت: أكرمني بالهديّة. و لا تقول: أهانني و لم يكرمني، إذا لم يهد لك.

ص: 425


1- الأنبياء: 35.
2- القصص: 78.

و قرأ ابن عامر و الكوفيّون «أكرمن» و «أهانن» بغير الياء في الوقف و الوصل. و عن أبي عمرو مثله. و وافقهم نافع في الوقف. و قرأ ابن عامر و الكوفيّون بالتشديد.

ثمّ بيّن سبحانه أسوأ فعله الّذي يستحقّ به الهوان، فقال: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أي: بل فعلهم أسوأ من قولهم، و أدلّ على تهالكهم على المال، و هو أنّ اللّه يكرمهم بكثرة المال، و هم لا يكرمون اليتيم بالتفقّد و المبرّة. و خصّ اليتيم لأنّه لا كافل لهم يقوم بأمرهم، و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنّة».

و أشار بالسبّابة و الوسط.

وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ و لا يحثّون أهلهم على طعام المسكين فضلا عن غيرهم. و قرأ الكوفيّون: و لا تحاضّون، أي: لا يحثّ بعضهم بعضا على طعامه.

وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ذا لمّ، أي: جمع بين الحلال و الحرام، فإنّهم كانوا لا يورّثون النساء و الصبيان، و يأكلون أنصباءهم من الميراث. أو تأكلون ما جمعه المورّث من حلال و حرام عالمين بذلك، فتجمعون في الأكل بين حرامه و حلاله.

و يجوز أن يذمّ الوارث الّذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أن يعرق جبينه، فيسرف في إنفاقه، و يأكله أكلا واسعا، جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة و الأشربة و الفواكه، كما يفعل الورّاث البطّالون.

وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا شديدا مع الحرص و الشره و منع الحقوق.

و قرأ أبو عمرو: «لا يكرمون» إلى قوله: «و يحبّون» بالياء.

كَلَّا ردع لهم عن ذلك و إنكار لفعلهم. ثمّ أتى بالوعيد و ذكر تحسّرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة، فقال: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا دكّا بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدكّ، فكسر و دقّ كلّ شي ء على ظهرها، من جبال و تلال

ص: 426

و أبنية و أشجار و غير ذلك، فلم يبق عليها شي ء حتّى صارت هباء منبثّا.

وَ جاءَ رَبُّكَ أي: ظهرت آيات قدرته، و آثار قهره و هيبته. فمثّل ذلك بحال السلطان إذا حضر بنفسه، ظهر بحضوره من آثار الهيبة و السياسة ما لا يظهر بحضور وزرائه و خواصّه و جميع عساكره. و قيل: جاء أمر ربّك و قضاؤه و محاسبته. و قيل:

معناه: و زالت الشبهة و ارتفع الشكّ، كما يرتفع عند مجي ء الشي ء الّذي كان يشكّ فيه. و ليس المعنى على ظاهره، لقيام البراهين القاهرة و الدلائل الباهرة على أنّه سبحانه ليس بجسم، فجلّ و تقدّس عن المجي ء و الذهاب.

وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا بحسب منازلهم و مراتبهم. يعني: تنزل ملائكة كلّ سماء، فيصطفّون صفّا بعد صفّ محدقين بالجنّ و الإنس.

و قال الضحّاك: أهل كلّ سماء إذا زلزلوا يوم القيامة كانوا صفّا محيطين بالأرض و بمن فيها، فيكونون سبع صفوف.

و قيل: معناه: مصطفّين كصفوف الناس في الصلاة، يأتي الصفّ الأوّل، ثمّ الصفّ الثاني، ثمّ الصفّ الثالث، ثمّ على هذا الترتيب، لأنّ ذلك أشبه بحال الاستواء من التشويش. فالتعديل أولى في الأمور.

وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كقوله: وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ (1).

روي مرفوعا عن أبي سعيد الخدري: «أنّها لمّا نزلت تغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عرف في وجهه، حتّى اشتدّ على أصحابه، فأخبروا عليّا عليه السّلام، فجاء فاحتضنه من خلفه، و قبّله بين عاتقيه. ثمّ قال: يا نبيّ اللّه بأبي أنت و أمّي ما الّذي حدث اليوم؟ و ما الّذي غيّرك؟

فتلا عليه الآية. فقال عليّ عليه السّلام: كيف يجاء بها؟ قال: يجي ء بها سبعون ألف ملك، يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع. ثمّ أتعرّض لجهنّم فتقول: مالي و مالك يا محمّد، فقد حرّم اللّه لحمك عليّ، فلا يبقى

ص: 427


1- النازعات: 36.

أحد إلّا قال: نفسي نفسي، و إنّ محمّدا يقول: ربّ أمّتي أمّتي».

يَوْمَئِذٍ بدل من «إذا دكّت». و العامل فيها يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي: يتذكّر معاصيه. أو يتّعظ، لأنّه يعلم قبحها فيندم عليها. وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي: و من أين له منفعة الذكرى؟ على تقدير مضاف، لئلّا يناقض ما قبله.

يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي: لحياتي هذه، و هي حياة الآخرة. أو وقت حياتي في الدنيا أعمالا صالحة، كقوله: جئته لعشر ليال خلون من رجب.

و هذا أبين دليل على أنّ الاختيار كان في أيدي المكلّفين، و معلّقا بقصدهم و إرادتهم، و أنّهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات، مجبرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء و البدع، و إلّا فما معنى التحسّر؟

فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ الضمير للّه، أي: لا يتولّى عذاب اللّه و وثاقه يوم القيامة سواه، إذ الأمر كلّه للّه في ذلك اليوم. أو للإنسان، أي:

لا يعذّب أحد من الزبانية مثل ما يعذّبه الإنسان، و لا يوثق بالسلاسل و الأغلال وثاق أحد منهم، لتناهيه في كفره و عناده. و قرأهما الكسائي و يعقوب على بناء المفعول، و الضمير للإنسان. و قيل: هو أبيّ بن خلف، أي: لا يعذّب أحد مثل عذابه، و لا يوثق أحد مثل وثاقه. و المعنى: لا يحمّل عذاب الإنسان أحد، كقوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (1).

[سورة الفجر [89]: الآيات 27 الى 30]

يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [27] ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [28] فَادْخُلِي فِي عِبادِي [29] وَ ادْخُلِي جَنَّتِي [30]

و بعد ذكر الوعيد بيّن الوعد للأبرار، فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ على

ص: 428


1- الأنعام: 164.

إرادة القول، أي: قال اللّه لها، كما كلّم موسى عليه السّلام. أو قاله على لسان ملك. و هي الّتي اطمأنّت بذكر اللّه، فإنّ النفس تترقّى في سلسلة الأسباب و المسبّبات إلى الواجب لذاته، فتستقرّ دون معرفته، و تستغني به عن غيره. أو المطمئنّة إلى الحقّ الّتي سكّنها ثلج اليقين، فلا يخالجها شكّ. و هي النفس المؤمنة الموقنة المصدّقة بالبعث. أو الآمنة الّتي لا يستفزّها خوف و لا حزن. و يؤيّد هذا التفسير قراءة أبيّ بن كعب: يا أيّتها النفس الآمنة المطمئنّة.

ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ إلى أمره، أو موعده بالموت. و هذا الخطاب إمّا عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنّة. راضِيَةً بما أوتيت مَرْضِيَّةً عند اللّه.

فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة عبادي الصالحين، و انتظمي في سلكهم وَ ادْخُلِي جَنَّتِي معهم، أو في زمرة المقرّبين، فتستضي ء بنورهم، فإنّ الجواهر القدسيّة كالمرايا المتقابلة. أو ادخلي في أجساد عبادي الّتي فارقت عنها، و ادخلي دار ثوابي الّتي أعدّت لك.

قيل: نزلت في حمزة بن عبد المطّلب. و قيل: في خبيب بن عديّ الّذي صلبه أهل مكّة، و جعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللّهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك. فحوّل اللّه وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوّلها. و الظاهر العموم.

ص: 429

ص: 430

[90] سورة البلد

اشارة

مكّيّة. و هي عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطاه اللّه الأمن من غضبه يوم القيامة».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان قراءته في الفريضة «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ» كان في الدنيا معروفا أنّه من الصالحين، و كان في الآخرة معروفا أنّ له من اللّه مكانا، و كان من رفقاء النبيّين و الشهداء و الصّالحين».

[سورة البلد [90]: الآيات 1 الى 20]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [1] وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [2] وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ [3] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [4]

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [5] يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً [6] أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [7] أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [8] وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ [9]

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [10] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [11] وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ [12] فَكُّ رَقَبَةٍ [13] أَوْ

ص: 431

إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [14]

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ [15] أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [16] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [17] أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [18] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ [19]

عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ [20]

و لمّا ختم اللّه سورة الفجر بذكر النفس المطمئنّة، بيّن في هذه السورة وجه الاطمينان، و أنّه النظر في طريق معرفة اللّه تعالى، و أكّد ذلك بالقسم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ بمكّة وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أقسم سبحانه بالبلد الحرام، و قد قيّده بحلول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه، إظهارا لمزيد فضله، و إشعارا بأنّ شرف المكان بشرف أهله.

و قيل: «حلّ» أي: مستحلّ تعرّضك فيه، كما يستحلّ تعرّض الصيد في غير الحرم. كما روي عن شرحبيل معناه: يحرّمون أن يقتلوا بها صيدا، و يعضدوا بها شجرة، و يستحلّون إخراجك و قتلك.

و فيه تثبيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة، و تعجيب من حالهم في عداوته.

و مثل ذلك مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، فإنّه قال: «كانت قريش تعظّم البلد، و تستحلّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه، فقال سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ». يريد: أنّهم استحلّوك فيه، فكذّبوك و شتموك، و كانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه، و يتقلّدون لحاء (1) شجر الحرم، فيأمنون بتقليدهم إيّاه، فاستحلّوا

ص: 432


1- اللحاء: قشر العود أو الشجرة.

من رسول اللّه ما لم يستحلّوا من غيره، فعاب اللّه ذلك عليهم بقوله: «وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ».

أو سلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقسم ببلده، على أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد. و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله: «و أنت حل بهذا البلد». يعني:

و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام، كما يستحلّ الصيد في غير الحرم.

أو اعترض بينهما، بأن وعده فتح مكّة تتميما للتسلية و التنفيس عنه، فقال:

«وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ». يعني: و أنت حلّ به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر.

و ذلك أنّ اللّه فتح عليه مكّة و أحلّها له، و ما فتحت على أحد قبله و لا أحلّت له، فأحلّ ما شاء و حرّم ما شاء. و من ذلك قتل ابن خطل و هو متعلّق بأستار الكعبة، و مقيس بن صبابة، و غيرهما. و حرّم دار أبي سفيان. ثمّ

قال: «إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات و الأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي، و لن تحلّ لأحد بعدي، و لم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار. فلا يعضد شجرها، و لا يختلى (1) خلاها، و لا ينفر صيدها، و لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد، أي: معرّف».

فقال العبّاس: يا رسول اللّه إلّا الإذخر، فإنّه لقيوننا (2) و قبورنا و بيوتنا. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إلّا الإذخر».

و نظير قوله: «و أنت حلّ» في معنى الاستقبال قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (3). و مثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام و العطاء: أنت مكرم

ص: 433


1- اختلى العشب: جزّه و قطعه. و الخلى: العشب.
2- القيون جمع القين: الحدّاد.
3- الزمر: 30.

محبوّ. و هو في كلام اللّه أوسع، لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة.

و كفاك دليلا قاطعا على أنّه للاستقبال، و أنّ تفسيره بالحال محال، أنّ السورة بالاتّفاق مكّيّة، و أين الهجرة عن وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟

وَ والِدٍ عطف على «هذا البلد». و الوالد آدم، أو إبراهيم، أو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ ما وَلَدَ ذرّيته، أو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو ذرّيّته الطاهرة. قيل: أقسم اللّه عزّ اسمه ببلد رسوله الّذي هو مسقط رأسه، و حرم أبيه إبراهيم، و منشأ أبيه إسماعيل، و بمن ولده و به. و التنكير للتعظيم. و إيثار «ما» على «من» لمعنى التعجّب، كما في قوله: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ (1) أي: أيّ شي ء وضعت. يعني: موضوعا عجيب الشأن. و قيل:

المراد كلّ والد و ولده. و التنكير للتكثير.

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ تعب و مشقّة. من: كبد الرجل كبدا فهو أكبد، إذا وجعت كبده و انتفخت، فاتّسع فيه حتّى استعمل في كلّ تعب و مشقّة. و منه اشتقّت المكابدة. و الإنسان لا يزال في شدائد، مبدؤها ظلمة الرحم و ضيقه، و منتهاها الموت و ما بعده. و هو تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا كان يكابده من قريش، كما عرفت.

و الضمير في أَ يَحْسَبُ لبعضهم الّذي كان النبيّ يكابد منه أكثر، أو يغترّ بقوّته، كأبي الأشدّ بن كلدة، فإنّه كان يبسط تحت قدميه أديم عكاظيّ، فيقوم عليه و يقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلّا قطعا و يبقى موضع قدميه. و قيل: الوليد بن المغيرة، أو كلّ أحد منهم. و المعنى: أ يظنّ هذا الصنديد القويّ في قومه المستضعف للمؤمنين أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أن لن تقوم قيامة، و لن يقدر أحد على الانتقام منه، و على مكافأته بما هو عليه. و الهمزة للإنكار، أي: لا يظنّنّ ذلك.

ثمّ ذكر ما يقوله في ذلك الوقت، فقال عزّ اسمه: يَقُولُ في وقت الانتقام

ص: 434


1- آل عمران: 36.

منه أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً كثيرا. من: تلبّد الشي ء إذا اجتمع. و المراد: ما أنفقه رياء و سمعة و مفاخرة، أو معاداة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و عن مقاتل: قائله: الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف. و ذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأمره أن يكفّر.

فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات و النفقات منذ دخلت في دين محمّد.

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حين كان ينفق رئاء الناس و افتخارا بينهم، أو بعد ذلك فيسأله عنه. يعني: أنّ اللّه يراه فيجازيه، أو يجده فيحاسبه عليه.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما وَ لِساناً يترجم به عن ضمائره وَ شَفَتَيْنِ يستر بهما فاه، و يستعين بهما على النطق و الأكل و الشرب و النفخ و غيرها.

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ طريقي الخير و الشرّ. و عن ابن المسيّب و الضحّاك:

أنّهما الثديان. و أصله: المكان المرتفع. و روي: أنّه قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ ناسا يقولون في قوله: «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» إنّهما الثديان. فقال: لا، هما الخير و الشرّ».

و ارتفاعهما باعتبار ظهورهما و بروزهما في الحسن و القبح، كبروز المكان المرتفع.

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي: فلم يشكر تلك الأيادي و النعم باقتحام العقبة، و هو الدخول تكلّفا في أمر شديد. من القحمة بمعنى الشدّة. و العقبة: الطريق في الجبل.

و لمّا كان في فكّ الرقبة و إطعام الأقارب و المساكين مجاهدة النفس و معاناتها، فسّر بها استعارة في قوله: وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي: إنّك لم تدر كنه صعوبتها و كنه ثوابها عند اللّه. و هذا اعتراض بين المفسّر و المفسّر.

فَكُّ رَقَبَةٍ تخليصها من رقّ أو غيره. و في الحديث: «إنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دلّني على عمل يدخلني الجنّة. فقال: تعتق النسمة، و تفكّ الرقبة. قال:

أو ليسا سواء؟ قال: لا، اعتقاقها: أن تنفرد بعتقها، و فكّها: أن تعين في تخليصها من

ص: 435

قود أو غرم».

و عن الشعبي: في رجل عنده فضل نفقة، أ يضعه في ذي قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من فكّ رقبة فكّ اللّه بكلّ عضو منها عضوا منه من النار».

و أيضا يدلّ على أفضليّته تقديمه على قوله: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ذي مجاعة. من: سغب إذا جاع. و وصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويّون في قولهم: همّ ناصب، أي: ذو نصب.

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ذا قربى. من: قرب في النسب. يقال: فلان ذو قرابتي و ذو مقربتي. و فيه حثّ على تفضيل ذوي القربى المحتاجين على الأجانب في الإطعام.

أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ من: ترب إذا افتقر. و معناه: التصق بالتراب لغاية احتياجه و افتقاره. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «في قوله: «ذا متربة» الّذي مأواه المزابل».

و في الحديث عن معاذ بن جبل قال: «قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله اللّه يوم القيامة من باب من أبواب الجنّة، لا يدخلها إلّا من فعل مثل ما فعل».

و عن جابر بن عبد اللّه قال: «قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان».

و روى محمد بن عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: إنّ لي ابنا شديد العلّة. قال: مره يتصدّق بالقبضة من الطعام بعد القبضة، فإنّ اللّه يقول: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ». و قرأ الآيات».

و معنى الآية: أنّ الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضيّ النافع عند اللّه، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء و الفخار، فيكون مثله كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ (1) الآية.

ص: 436


1- آل عمران: 117.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي: فكّ رقبة أو أطعم، على الإبدال من «اقتحم».

و اعلم أنّ «لا» الداخلة على «اقتحم» و إن كانت غير متكرّرة لفظا، لكن متكرّرة معنى، لأنّ معنى «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ»: فلا فكّ رقبة، و لا أطعم مسكينا. ألا ترى أنّه فسّر اقتحام العقبة بذلك. فلا يقال: إنّه قلّ ما تقع «لا» على الماضي إلّا مكرّرة، فما لها لم تكرّر في الكلام الأفصح؟

ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عطفه على «اقتحم» أو «فكّ» ب «ثمّ» لتباعد الإيمان عن العتق و الإطعام في الرتبة و الفضيلة، لا في الوقت، لاستقلاله، و اشتراط سائر الطاعات به، فلا يثبت عمل صالح إلّا به، فهو السابق المقدّم على غيره، و الأصل في كلّ طاعة، و الأساس في كلّ خير.

وَ تَواصَوْا أوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ على الإيمان و الثبات عليه.

أو بالصبر عن المعاصي، و على الطاعات و المحن الّتي يبتلي بها المؤمن وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ بالرحمة، بأن يكونوا متراحمين متعاطفين. أو بما يؤدّي إلى رحمة اللّه تعالى.

أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين، أو اليمن، بمعنى: الميامين على أنفسهم.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ الشمال، أو الشؤم، بمعنى:

المشائيم عليهم. و لتكرير ذكر المؤمنين باسم الإشارة، و الكفّار بالضمير، شأن لا يخفى.

عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة، فلا يفتح لهم باب، و لا يخرج عنها غمّ، و لا يدخل فيها روح آخر الأبد. من: أوصدت الباب إذا أطبقته و أغلقته. و قرأ أبو عمرو و حمزة و حفص بالهمزة، من: آصدته بمعناه.

ص: 437

ص: 438

[91] سورة الشمس

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها فكأنّما تصدّق بكلّ شي ء طلعت عليه الشمس و القمر».

معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أكثر قراءة و الشمس و ضحاها، و الليل إذا يغشى، و الضحى، و ألم نشرح، في يومه أو ليلته، لم يبق شي ء بحضرته إلّا شهد له يوم القيامة، حتّى شعره و بشرته و لحمه و دمه و عروقه و عصبه و عظامه، و جميع ما أقلّت الأرض منه. و يقول الربّ تبارك و تعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، و أجزتها له، انطلقوا به إلى جناني حتّى يتخيّر منها حيث ما أحبّ، فأعطوه إيّاها من غير منّ منّي، و لكن رحمة و فضلا منّي، فهنيئا هنيئا لعبدي».

[سورة الشمس [91]: الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها [1] وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها [2] وَ النَّهارِ إِذا جَلاَّها [3] وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [4]

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها [5] وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها [6] وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها [7] فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [8]

ص: 439

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [9]

وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [10] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [11] إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها [12] فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها [13] فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها [14]

وَ لا يَخافُ عُقْباها [15]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة البلد بذكر النار المؤصدة، بيّن في هذه السورة أنّ النجاة منها لمن زكّى نفسه، و أكّده بأن أقسم عليه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها قد تقدّم أنّ اللّه سبحانه له أن يقسم بماء شاء من خلقه، تنبيها على عظيم قدرته و كثرة الانتفاع بخلقه. و لمّا كان قوام العالم من الحيوان و النبات بطلوع الشمس و غروبها، أقسم بها و بضحاها، و هو امتداد ضوئها، و انبساط إشراقها، و قيام سلطانها. و لذلك قيل: وقت الضحى، و كأنّ وجهه شمس الضحى. و قيل: الضحوة ارتفاع النهار، و الضحى فوق ذلك.

و الضحاء- بالفتح و المدّ- إذا امتدّ النهار و قرب أن ينتصف.

وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها تبعها فأخذ من ضوئها، و سار خلفها. أو تلا طلوعه طلوعها أوّل الشهر. أو تلا طلوعه عند غروبها ليلة البدر، آخذا من نورها. و قيل:

إذا استدار فتلاها في الضياء و النور.

وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها جلّى الشمس، فإنّها تتجلّى تمام الانجلاء إذا انبسط النهار، فكأنّه مجلّيها. و قيل: إذا جلّى الظلمة، أو الدنيا، أو الأرض، و إن لم يجر ذكرها، كقولهم: أصبحت باردة، يردون: الغداة، و أرسلت المطر، يريدون: السماء.

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها يغشى الشمس فيغطّي ضوءها، أو الآفاق، أو الأرض.

ص: 440

و اعلم أنّ واو القسم مطّرح معها إبراز الفعل إطّراحا كلّيّا، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل و أضمر. فكانت الواو قائمة مقام الفعل، و الباء سادّة مسدّهما معا، و الواوات العواطف نوائب عن هذه الواو. فهنّ عوامل عمل الفعل و الجارّ جميعا، كما تقول: ضرب زيد عمرا و بكر خالدا، فترفع بالواو و تنصب، لقيامها مقام «ضرب» الّذي هو عاملهما، من غير لزوم عطف على عاملين مختلفين، و هما: واو القسم و فعله، كما في قولك: مررت أمس بزيد، و اليوم عمرو. و إمّا أن تجعلهنّ للقسم، فتقع فيما اتّفق الخليل و سيبويه على استكراهه، لأنّه محتاج إلى حرف العطف.

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها أي: من رفعها على وجه الاتّساق و الانتظام. و إنّما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفيّة. كأنّه قيل: و السماء، و القادر العظيم القدرة الّذي بناها. و لذلك أفرد ذكره. و كذا الكلام في قوله: وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها أي: و الحكيم الباهر الحكمة الّذي بسط الأرض، و سوّى أعضاء النفس على أعدل وجه.

و جعل الماءات مصدريّة يجرّد الفعل عن الفاعل، و يخلّ بنظم قوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها.

و تنكير «نفس» للتكثير، كما في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ (1). أو للتعظيم.

و المراد: نفس آدم. و الإلهام بالفجور و التقوى إفهامهما، و تعريف حالهما بأنّ أحدهما حسن و الآخر قبيح، ليفعل الطاعة و يذر المعصية. أو التمكين من اختيار ما شاء منهما، بدليل قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أنماها بالعلم بالمعارف الإلهيّة و الأعمال الصالحة، فإنّ التزكية الإنماء و الإعلاء بالتقوى. و هو جواب القسم.

و حذف اللام للطول. و لعلّه لمّا أراد به الحثّ على تكميل النفس و المبالغة فيه، أقسم

ص: 441


1- التكوير: 14.

عليه بما يدلّهم على العلم بوجود الصانع، و وجوب ذاته، و كمال صفاته، الّذي هو أقصى درجات القوّة النظريّة، و يذكّرهم عظائم آلائه، ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه، الّذي هو منتهى كمالات القوّة العمليّة.

وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها نقصها و أخفاها بالجهالة و الفسوق. من التدسية، و هي النقص و الإخفاء بالفجور. و أصل دسّى: دسّس، كتقضّى و تقضّض. و سئل ابن عبّاس عنه فقال: أ تقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (1) وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (2).

و جاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأ هذه الآية «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها». وقف ثمّ قال: اللّهمّ آت نفسي تقواها، أنت وليّها و مولاها، و زكّها أنت خير من زكّاها».

و روى زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في قوله: «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها» قال: «بيّن لها ما تأتي و ما تترك». و في قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» قال: «قد أفلح من أطاع، و قد خاب من عصى».

و أمّا قول من زعم أنّ الضمير في «زكّى» و «دسّى» للّه تعالى، و ضمير التأنيث راجع إلى «من» لأنّه في معنى النفس، فمن تعكيس القدريّة الّذين يورّكون (3) على اللّه قدرا هو بري ء منه و متعال عنه، و يحيون لياليهم في تمحّل (4) فاحشة ينسبونها إليه.

و قيل: قوله: «قد أفلح» استطراد بذكر أحوال النفس.

و جواب القسم محذوف، تقديره: ليدمدمنّ اللّه على كفّار مكّة لتكذيبهم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السّلام، حيث قال:

ص: 442


1- الأعلى: 14.
2- طه: 111.
3- ورّك الذنب عليه: حمله عليه، و اتّهمه به.
4- تمحّل الشي ء: احتال في طلبه.

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها بسبب طغيانها، كما تقول: ظلمني بجرأته على اللّه.

أو بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى، كقوله: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (1). و أصله:

طغيا، من الطغيان. فصلوا بين الاسم و الصفة في فعلى من بنات الياء، بأن قلبوا الياء واوا في الاسم، و تركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزيي.

إِذِ انْبَعَثَ حين قام. ظرف ل «كذّبت» أو طغوى. أَشْقاها أشقى ثمود.

و هو قدار بن سالف. أو هو و من عاونه على قتل الناقة، فإن أفعل التفضيل إذا أضفته صلح للواحد و الجمع. و فضل شقاوتهم لتولّيهم العقر و قد صحّت الرواية بالإسناد

عن عثمان بن صهيب، عن أبيه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال:

قلت: لا أعلم يا رسول اللّه. قال: الّذي يضربك على هذه، و أشار إلى يافوخه» (2).

و عن عمّار بن ياسر قال: «كنت أنا و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في غزوة العسرة نائمين في صور (3) من النخل، و دقعاء (4) من التراب، فو اللّه ما أنبهنا إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحرّكنا برجله، و قد تترّبنا من تلك الدقعاء. فقال: ألا أحدّثكما بأشقى الناس؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه. قال: أحيمر ثمود الّذي عقر الناقة، و الّذي يضربك بالسيف يا عليّ على هذه- و وضع يده على قرنه (5)- حتّى تبلّ منها هذه، و أخذ بلحيته».

فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ أي: ذروا ناقة اللّه، و احذروا عقرها

ص: 443


1- الحاقّة: 5.
2- اليافوخ: فراغ بين عظام الجمجمة في مقدّمتها و أعلاها، لا يلبث أن تلتقي فيه العظام.
3- الصور: النخل الصغير.
4- الدقعاء: التراب، الأرض لانبات بها.
5- أي: رأسه.

وَ سُقْياها فلا تزووها (1) عنها. و هي شربها من الماء. فنصب على التحذير، كقوله: الأسد الأسد، و الصبيّ الصبيّ.

فَكَذَّبُوهُ فيما حذّرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فأطبق عليهم العذاب. و هو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة، إذا ألبسها الشحم. بِذَنْبِهِمْ بسببه. و فيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب، فعلى كلّ مذنب أن يعتبر و يحذر. فَسَوَّاها فسوّى الدمدمة بينهم أو عليهم، فلم يفلت منهم صغير و لا كبير. أو سوّى ثمود بالأرض، أو في الإهلاك.

وَ لا يَخافُ عُقْباها الواو للحال. و المعنى: فسوّى اللّه الدمدمة بينهم حال كونه لا يخاف عاقبة الدمدمة، أي: عاقبة ما فعله بهم من إطباق العذاب عليهم. أو عاقبة إهلاك ثمود و تبعتها، فيبقي بعض الإبقاء، لأنّ أحدا لا يقدر على معارضته و الانتقام منه. و هذا كقوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (2).

و قرأ نافع و ابن عامر: فلا يخاف، على العاطفة التعقيبيّة.

ص: 444


1- زوى الشي ء: نحّاه و منعه.
2- الأنبياء: 23.

[92] سورة الليل

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطاه اللّه حتّى يرضى، و عافاه من العسر، و يسّر له اليسر».

[سورة الليل [92]: الآيات 1 الى 21]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى [1] وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى [2] وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [3] إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [4]

فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى [5] وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى [6] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [7] وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى [8] وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى [9]

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [10] وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [11] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [12] وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى [13] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [14]

لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى [15] الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى [16] وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [17] الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى

ص: 445

[18] وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى [19]

إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [20] وَ لَسَوْفَ يَرْضى [21]

و لمّا قدّم في سورة الشمس بيان حال المؤمن و الكافر، أتبعه سبحانه بمثل ذلك في هذه السورة، فاتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي: يغشى الشمس، كقوله:

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (1). أو النهار، كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ (2). أو كلّ ما يواريه بظلامه، كقوله: إِذا وَقَبَ (3).

وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل، أو تبيّن و انكشف بطلوع الشمس. و هما أعظم النعم، إذ لو كان الدهر كلّه ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم، و لو كان كلّه ضياء لما انتفعوا بسكونهم و راحتهم، فلذلك كرّر سبحانه ذكر الليل و النهار في السورتين.

وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى و القادر العظيم القدرة الّذي خلق من ماء واحد صنفي الذكر و الأنثى، من كلّ نوع له توالد. أو آدم و حوّاء. و قيل: «ما» مصدريّة، أي: و خلقهما. و جاز إضمار اسم اللّه، لأنّه معلوم لانفراده بالخلق، إذ لا خالق سواه.

قيل: إنّ اللّه لم يخلق خلقا من ذوي الأرواح ليس بذكر و لا أنثى. و الخنثى و إن أشكل أمره عندنا، فهو عند اللّه غير مشكل، بل معلوم بالذكورة أو الأنوثة.

إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة. جمع شتيت. يعني:

أعمالكم مختلفة، فعمل للجنّة، و عمل للنار.

ص: 446


1- الشمس: 4.
2- الأعراف: 54.
3- الفلق: 3.

روى الواحدي بالإسناد المتّصل المرفوع عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، و كان الرجل إذا جاء فيدخل الدار فيصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتّى يأخذ التمرة من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتّى يخرج التمرة من فيه.

فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أخبره بما يلقى من صاحب النخلة. فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اذهب. و لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صاحب النخلة. فقال: تعطيني نخلتك المائلة الّتي فرعها في دار فلان و لك بها نخلة في الجنّة؟ فقال له الرجل: لي نخل كثير، و ما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها.

قال: ثمّ ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول اللّه: يا رسول اللّه أ تعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة إن أنا أخذتها؟

قال: نعم.

فذهب الرجل و لقي صاحب النخلة فساومها منه. فقال له: أشعرت أنّ محمدا أعطاني بها نخلة في الجنّة، فقلت له: يعجبني تمرتها، و إنّ لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها؟

فقال له الآخر: أ تريد بيعها؟

قال: لا إلّا أن أعطى بها ما لا أظنّه أعطى.

قال: فما مناك؟

قال: أربعون نخلة.

فقال الرجل: جئت بعظيم، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة. ثمّ سكت عنه. فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة.

فقال له: أشهد إن كنت صادقا. فمرّ إلى أناس فدعاهم، فأشهد له بأربعين

ص: 447

نخلة. ثمّ ذهب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إنّ النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى صاحب الدار، فقال له: النخلة لك و لعيالك» (1).

و عن عطاء قال: اسم الرجل أبو الدحداح. فأنزل اللّه تعالى هذه السورة في شأنه، و أقسم بعظم نعمه «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى».

ثمّ فصّل تشتّت المساعي بقوله: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي: أعطى ماله للّه تعالى.

يعني: أبا الدحداح. وَ اتَّقى اللّه و لم يعصه وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى بالكلمة الحسنى، و هي ما دلّت على حقّ، ككلمة التوحيد. أو بالملّة الحسنى، و هي ملّة الإسلام. أو بالمثوبة الحسنى، و هي الجنّة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فسنهيّئه للخلّة الّتي تؤدّي إلى يسر و راحة، كدخول الجنّة. من: يسّر الفرس إذا هيّأه للركوب بالسرج و اللجام. و منه

قوله عليه السّلام: «كلّ ميسّر لما خلق له».

و المعنى: فسنلطف به و نوفّقه، حتّى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه و أهونها. من قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ (2).

وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بما أمر به. يعني: صاحب النخلة. وَ اسْتَغْنى و زهد فيما عند اللّه، حتّى كأنّه مستغن عنه فلم يتّقه. أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى. فهو في مقابلة «و اتّقى». وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى بإنكار مدلولها فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى للخلّة المؤدّية إلى العسر و الشدّة، كدخول النار. يعني: فسنخذله و نمنعه الألطاف، حتّى تكون الطاعة أعسر شي ء عليه و أشدّه. من قوله: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ (3).

و قيل: سمّي طريقة الخير باليسرى، لأنّ عاقبتها اليسر، و طريقة الشرّ بالعسرى، لأنّ عاقبتها العسر. و المعنى: فسنهديهما للطريقين في الآخرة.

ص: 448


1- الوسيط 4: 502.
2- الأنعام: 125.
3- الأنعام: 125.

وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ نفي، أو استفهام إنكار إِذا تَرَدَّى هلك. تفعّل من الردى. أو تردّى في حفرة القبر، أو قعر جهنّم.

إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى إنّ الإرشاد إلى الحقّ واجب علينا بنصب الدلائل و بيان الشرائع، كقوله: وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ (1). فأمّا الاهتداء فإليكم.

وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء. أو ثواب الاهتداء للمهتدين في الدارين، كقوله: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (2). أو نستغني عن اهتدائكم، لأنّ لنا الآخرة و الأولى، فلا يضرّنا ترككم الاهتداء.

فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى تتلهّب لا يَصْلاها لا يلزمها مقاسيا شدّتها إِلَّا الْأَشْقَى إلّا الكافر، و هو صاحب النخلة، فإنّ الفاسق و إن دخلها لا يلزمها، بل يخرج عنها بالآخرة لإيمانه. و لذلك سمّاه أشقى، فكأنّ النار لم تخلق إلّا له، و وصفه بقوله:

الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أي: كذّب الحقّ، و أعرض عن الطاعة. و قيل: المراد ب «ناراً تَلَظَّى» طبقة مخصوصة بعينها للأشقى، لا كلّ طبقات النار. و يدلّ عليه التنكير الّذي يدلّ على عظمها و انفرادها من بين طبقاتها.

إن قلت: هذا لا يناسب قوله: «وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» لأنّه قد علم أنّ أفسق المسلمين يجنّب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصّة.

قلت: هذا المعنى من حيث المفهوم، و المفهوم عندنا ليس بحجّة.

وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الّذي اتّقى الشرك و المعاصي. و هو أبو الدحداح، فإنّه لا يدخلها، فضلا عن أن يدخلها و يصلاها.

ص: 449


1- النحل: 9.
2- العنكبوت: 27.

الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يصرفه في مصارف الخير، لقوله: يَتَزَكَّى فإنّه بدل من «يؤتي» أو حال من فاعله. من الزكاء، أي: يطلب أن يكون عند اللّه زاكيا، لا يريد به رياء و لا سمعة.

وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى فيقصد بإيتائه مجازاتها إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى استثناء منقطع، لأنّه مستثنى من غير جنسه، و هو النعمة، أي: ما لأحد عنده نعمة لكن ابتغاء وجه ربّه. أو متّصل عن محذوف، مثل: لا يؤتي ماله إلّا ابتغاء وجه ربّه، لا لمكافأة نعمة. و نصبه بالعلّيّة.

وَ لَسَوْفَ يَرْضى وعد بالثواب الّذي يرضيه و يقرّ عينه.

روى العيّاشي عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: الآيات محمولة على عمومها في كلّ من يعطي حقّ اللّه من ماله، و كلّ من يمنع حقّه.

ص: 450

[93] سورة الضحى

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها كان ممّن يرضاه اللّه، و لمحمّد أن يشفع له، و له عشر حسنات بعدد كلّ يتيم و سائل».

[سورة الضحى [93]: الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الضُّحى [1] وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى [2] ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى [3] وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [4]

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [5] أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [6] وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى [7] وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى [8] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [9]

وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [10] وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [11]

و لمّا ختم سبحانه سورة الليل بأنّ الأتقى يعطيه من الثواب ما به يرضى، افتتح هذه السورة بأنّه يرضي نبيّه بما يؤتيه يوم القيامة من الكرامة و الزلفى، فقال:

ص: 451

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الضُّحى و وقت ارتفاع الشمس. و تخصيصه لأنّ النهار يقوى فيه. أو لأنّ فيه كلّم موسى ربّه، و القي السحرة سجّدا، لقوله: وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (1). أو النهار كلّه. و يؤيّده قوله: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى (2) في مقابلة بَياتاً (3).

وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى سكن أهله فيه، و سكتوا عن أصواتهم. أو ركد و استقرّ ظلامه. من: سجا البحر إذا سكنت أمواجه. و تقديم الليل في السورة المتقدّمة باعتبار الأصل، و تقديم النهار هاهنا باعتبار الشرف.

و جواب القسم ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ ما قطعك قطع المودّع. و التوديع مبالغة في الودع، لأنّ من ودّعك مفارقا فقد بالغ في تركك. وَ ما قَلى و ما أبغضك. و حذف المفعول استغناء بذكره من قبل، و مراعاة للفواصل.

و عن ابن عبّاس: أنّ الوحي تأخّر عنه خمسة عشر يوما. و عن ابن جريج:

اثني عشر. و عن مقاتل: أربعين، لتركه الاستثناء كما مرّ في سورة الكهف (4)، من

أنّ اليهود سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذي القرنين و أصحاب الكهف، فقال: سأخبركم غدا، و لم يقل: إن شاء اللّه، فقال المشركون: إنّ محمّدا ودّعه ربّه و قلاه.

و قيل: إنّ أمّ جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمّد إنّ شيطانك قد تركك.

فقال سبحانه ردّا عليهم- بعد أن أقسم بأعظم آياته على ذاته-: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى .

و لمّا بيّن أنّه تعالى لا يزال يواصله بالوحي و الكرامة في الدنيا، و عدّ له ما هو أعلى و أجلّ من ذلك في الآخرة، فقال:

ص: 452


1- طه: 59.
2- الأعراف: 97- 98.
3- الأعراف: 97- 98.
4- راجع ج 4 ص 100، ذيل الآية 24 من سورة الكهف.

وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى فإنّها باقية خالصة عن الشوائب، و هذه فانية مشوبة بالمضارّ. و قيل: المعنى: و لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنّك لا تزال تتصاعد في الرفعة و الكمال، من الفتوح و النصرة و العزّة.

ثمّ وعد وعدا شاملا لما أعطاه في الدارين، من كمال النفس، و ظهور الأمر، و إعلاء الدين، و لما ادّخر له ممّا لا يعرف كنهه سواه، فقال:

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى هذا موعد شامل لما أعطاه اللّه في الدنيا، من الظفر و النصرة على أعدائه يوم بدر، و يوم فتح مكّة، و دخول الناس في الدين أفواجا، و الغلبة على قريظة و النضير و إجلائهم، و بثّ عساكره و سراياه في بلاد العرب، و استيلاء المسلمين على بلاد الشرك، و إظهار دينه على جميع الأديان، و رفعة صيته في المشرق و المغرب، و قذف الرعب في قلوب أهل الشرق و الغرب، و فشوّ الدعوة. و في الآخرة؛ من السبق و التقدّم على جميع أنبياء اللّه و رسله، و شهادة أمّته على سائر الأمم، و رفع درجات المؤمنين من أمّته، و إعلاء مراتبهم بشفاعته، و غير ذلك من الكرامات السنيّة الّتي لا يعلمها إلّا اللّه.

قال ابن عبّاس: له في الجنّة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك، في كلّ قصر ما ينبغي من الأزواج و الخدم، و ما يشتهي على أتمّ الوصف.

و روى حرث بن شريح، عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة أنّه قال: يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه عزّ و جلّ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ (1) الآية، و إنّا أهل البيت نقول: إنّ أرجى آية في كتاب اللّه: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى . و هي و اللّه الشفاعة ليعطينّها في أهل لا إله إلّا اللّه حتّى يقول:

ربّ رضيت.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على عليّ و فاطمة و عليهما.

ص: 453


1- الزمر: 53.

كساء من ثلّة (1) الإبل، و هي تطحن بيدها، و ترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أبصرها، فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل اللّه عليّ: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ».

و عن زيد بن عليّ: إنّ من رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يدخل أهل بيته الجنّة.

و عن الصادق عليه السّلام: «رضا جدّي أن لا يبقى في النار موحّد».

و اعلم أنّ اللام للابتداء، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ. و التقدير:

و لأنت سوف يعطيك. لا للقسم، فإنّها لا تدخل على المضارع إلّا مع النون المؤكّدة.

و الجمع بين حرفي التوكيد و التأخير، للدلالة على أنّ العطاء كائن لا محالة و إن تأخّر لحكمة.

ثمّ عدّد ما أنعم عليه في الماضي، تنبيها على أنّه كما أحسن إليه فيما مضى يحسن إليه فيما يستقبل، فقال:

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً من الوجود الّذي بمعنى العلم، و «يتيما» مفعوله الثاني، أي: ألم يعلمك يتيما؟ و ذلك أنّ أباه مات و هو جنين قد أتت عليه ستّة أشهر، و ماتت أمّه و هو ابن ثماني سنين. فَآوى بأن كفلك عمّك أبو طالب، و عطفه اللّه عليك، فأحسن تربيتك. و سئل الصادق عليه السّلام: لم أوتم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أبويه؟ فقال:

«لئلّا يكون لمخلوق عليه حقّ».

و قيل: معناه: ألم يجدك واحدا لا مثل لك في شرفك و فضلك، فآواك إلى نفسه، و اختصّك برسالته؟ من قولهم: درّة يتيمة، إذا لم يكن لها مثل.

و قال الماوردي: «فآواك أي: جعلك مأوى للأيتام بعد أن كنت يتيما، و كفيل الأنام بعد أن كنت مكفولا» (2).

ص: 454


1- الثلّة: الصوف و الشعر و الوبر.
2- النكت و العيون 6: 294.

وَ وَجَدَكَ ضَالًّا غير مهتد إلى علم الحكم و الأحكام، كقوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ (1) وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (2) فَهَدى فعلّمك بالوحي و الإلهام، و التوفيق للنظر.

و قيل: وجدك ضالّا في الطريق فهدى، فأزال ضلالك عن جدّك أو عمّك، لما

روي: أنّه ضلّ في صباه في بعض شعاب مكّة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطّلب.

و قيل: حين فطمته حليمة بنت أبي ذؤيب، لمّا أرضعته و فطمته ثمّ أرادت ردّه على جدّه جاءت به حتّى قربت من مكّة، فضلّ في الطريق، فطلبته جزعة، و كانت تقول: إن لم أره لأرمينّ نفسي من شاهق، و جعلت تصيح: وا محمّداه.

قالت: فدخلت مكّة على تلك الحال فرأيت شيخا متوكّئا على عصاه، فسألني عن حالي، فأخبرته. فقال: لا تبكينّ فأنا أدلّك على من يردّه عليك. و أشار إلى هبل صنمهم الأعظم، و دخل البيت، و طاف بهبل، و قبّل رأسه، و قال: يا سيّداه لم تزل منّتك جسيمة، ردّ محمّدا على هذه السعديّة.

قالت: فتساقطت الأصنام لمّا تفوّه باسم محمّد، و سمع صوت: إنّ هلاكنا على يدي محمّد، فخرج و أسنانه تصطكّ. و خرجت إلى عبد المطّلب و أخبرته بالحال، فخرج و طاف بالبيت و دعا اللّه سبحانه، فنودي و أشعر بمكانه. فأقبل عبد المطّلب و تلقّاه ورقة بن نوفل في الطريق، فبينما هما يسيران إذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان و يلعب بالورق، فقال عبد المطّلب: فداك نفسي، و حمله و ردّه إلى مكّة. و هذه الرواية مرويّة عن كعب.

و روي عن سعيد بن المسيّب: أنّه خرج مع عمّه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل

ص: 455


1- الشورى: 52.
2- يوسف: 3.

به عن الطريق، فجاء جبرئيل فنفخ إبليس نفخة رفع بها إلى الحبشة، و ردّه إلى القافلة، فمنّ اللّه عليه بذلك.

وَ وَجَدَكَ عائِلًا فقيرا ذا عيال فَأَغْنى بما حصل لك من الربح في التجارة بمال خديجة، أو بما أفاء عليك من الغنائم.

قال عليه الصلاة و السّلام: «جعل رزقي تحت ظلّ رمحي».

و قيل: قنّعك و أغنى قلبك.

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في قوله: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى قال: «فردا لا مثل لك في المخلوقين، فآوى الناس إليك. و وجدك ضالّا، أي: ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. و وجدك عائلا تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك».

و تعداد هذه النعم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لتذكيره لشكر منعمه، و ترغيبه فيه، ليستحقّ الشاكر المزيد.

ثمّ أوصاه سبحانه باليتامى و الفقراء، فقال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تغلبه على ماله و حقّه لضعفه، كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى. و عن مجاهد: لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما.

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مسح على رأس يتيم كان له بكلّ شعر يمرّ على يده نور».

و في الحديث: «لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته، و يضع يده على رأسه، إلّا كتب اللّه له بكلّ شعرة حسنة، و محا عنه بكلّ شعرة سيّئة، و رفع له بكلّ شعرة درجة».

و قال عليه السّلام: «أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنّة، إذا اتّقى اللّه عزّ و جلّ». و أشار بالسبابة و الوسطى.

و عنه عليه السّلام قال: «إنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ لبكائه عرش الرحمن، فيقول اللّه

ص: 456

لملائكة: يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الّذي غيّب أبوه في التراب؟ فتقول الملائكة: أنت أعلم. فيقول اللّه تعالى: يا ملائكتي فإنّي أشهدكم أنّ لمن أسكنه و أرضاه أن أرضيه يوم القيامة».

وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ فلا تزجره و لا تردّه. و في الحديث عن أنس بن مالك قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أتاك سائل على فرس باسط كفّيه فقد أوجب الحقّ و لو بشقّ تمرة».

و قيل: المراد بالسائل طالب العلم. و المعنى: علّم من يسألك كما علّمك اللّه الشرائع، و كنت غير عالم بها. و الأصحّ الأعمّ.

وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإنّ التحدّث بها شكرها. و قيل: المراد بالنعمة النبوّة، و التحدّث بها تبليغها. و عن الصادق عليه السّلام: «فحدّث بما أعطاك اللّه و فضّلك و رزقك؛ و أحسن إليك، و قرّبك إليه».

ص: 457

ص: 458

[94] سورة الشرح

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مغتمّا ففرّج عنه».

[سورة الشرح [94]: الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [1] وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [2] الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [3] وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [4]

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [5] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [6] فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [7] وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [8]

و روى أصحابنا عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم أنّ «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة، لتعلّق إحداهما بالأخرى، و جمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة.

و كذلك القول في سورة «ألم تر كيف» و «لإيلاف قريش». و السياق يدلّ على ذلك، لأنّه قال: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إلى آخرها، ثمّ قال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ألم نفسحه حتّى وسع مناجاة الحقّ، و أعباء النبوّة، و تبليغ الرسالة، و دعوة الثقلين جميعا، و حفظ القرآن

ص: 459

و شرائع الإسلام. أو حتّى احتمل المكاره الّتي يتعرّض لك بها كفّار قومك و غيرهم.

أو فسحناه بما أودعنا فيه من العلوم و الحكم، و أزلنا عنه ضيق الجهل. أو بما يسّرنا لك تلقّي الوحي بعد ما كان يشقّ عليك.

و عن ابن عبّاس قال: «سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقيل: يا رسول اللّه أ ينشرح الصدر؟

قال: نعم. فقالوا: يا رسول اللّه و هل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الإعداد للموت قبل نزول الموت».

و معنى الاستفهام إنكار نفي الشرح، فأفاد إثبات الشرح. فكأنّه قيل: شرحنا لك صدرك. و لذلك عطف عليه وَ وَضَعْنا و حططنا عَنْكَ وِزْرَكَ عبأك الثقيل.

الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ الّذي حمله على النقيض، و هو صوت الانتقاض و الانفكاك لثقله. و هذا مثل لما كان يثقل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يغمّه، من ترك الأولى قبل النبوّة، أو من جهله بالأحكام و الشرائع، أو من تهالكه على إسلام أولي العناد من قومه، أو العجز عن إرشادهم، أو من إصرارهم و تعدّيهم في إيذائه حين دعاهم إلى الإسلام، أو ثقله على أعباء النبوّة. و معنى وضعه عنه: أن أعطي الثواب على الندم على ترك الأولى، أو علّم الشرائع، أو مهّد عذره بعد ما بلغ و بلغ، أو خفّف عنه أعباء النبوّة.

إن قيل: إنّ السورة مكّيّة نزلت قبل أن يعلي اللّه كلمة أهل الإسلام.

قلنا: إنّه سبحانه لمّا بشّره بأن يعلي دينه على الدين كلّه و يظهره على أعدائه، كان بذلك واضعا عنه ثقل غمّه بما كان يلحقه من أذى قومه، و مبدّلا عسره يسرا، فإنّه يثق بأنّ وعد اللّه حقّ.

وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بالنبوّة و غيرها، و أيّ رفع! مثل أن قرن اسمه باسمه تعالى في كلمتي الشهادة، خصوصا في الأذان و الإقامة و التشهّد و على المنابر،

ص: 460

و جعل طاعته طاعته في قوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ (1). وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (2). و صلّى عليه في ملائكته، و أمر المؤمنين بالصلاة عليه، و خاطبه بالألقاب، كرسول اللّه و نبيّ اللّه. و منه: ذكره في كتب الأوّلين، و الأخذ على الأنبياء و أممهم أن يؤمنوا به.

و في الحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذه الآية قال: «قال لي جبرئيل: قال اللّه تعالى: إذا ذكرت ذكرت معي».

و في هذا يقول حسّان بن ثابت يمدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أغرّ عليه للنبوّة خاتم من اللّه مشهور يلوح و يشهد

و ضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد

و شقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود و هذا محمّد

و إنّما زاد ذلك ليكون إبهاما قبل إيضاح، فيفيد المبالغة، فإنّه لمّا قيل: «ألم نشرح لك» فهم أنّ ثم مشروحا، ثمّ قيل: «صدرك» فأوضح ما علم مبهما. و كذلك «لك ذكرك» و «عنك وزرك».

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ كضيق الصدر، و الوزر المنقض للظهر، و ضلال القوم و إيذائهم يُسْراً كالشرح، و الوضع، و التوفيق للاهتداء و الطاعة. فلا تيأس من روح اللّه إذا عراك ما يغمّك. و تنكيره للتعظيم، كأنّه قيل: إنّ مع العسر يسرا عظيما و أيّ يسر. و معنى المصاحبة المفهومة من «مع» المبالغة في معاقبة اليسر للعسر.

و المعنى: إنّ اللّه يصيبهم بيسر بعد العسر الّذي كانوا فيه بزمان قريب جدّا. فقرّب اليسر المترقّب حتّى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية، و تقوية للقلوب.

فاتّصاله به اتّصال المتقاربين.

ص: 461


1- النساء: 13.
2- المائدة: 92.

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد، لتقرير معناه في النفوس، و تمكينه في القلوب. أو استئناف وعدة بأنّ العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة،

كقوله عليه السّلام: «إنّ للصائم فرحتين: فرحة عند الإفطار، و فرحة عند لقاء الربّ».

و عليه قوله عليه السّلام: «لن يغلب عسر يسرين».

و قوله عليه السّلام: «و الّذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر».

و ما رواه عطاء عن ابن عبّاس: قال اللّه تعالى: خلقت عسرا واحدا، و خلقت يسرين، فإنّ مع العسر يسرا و إنّ مع العسر يسرا. فإنّ العسر معرّف فلا يتعدّد، سواء كان للعهد- و هو العسر الّذي كانوا فيه- فهو هو، أو للجنس الّذي يعلمه كلّ أحد فهو هو أيضا. و «يسرا» منكر، فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأوّل.

و لمّا عدّد سبحانه عليه نعمه السالفة، و وعده الآنفة، بعثه على الشكر و الاجتهاد في العبادة و النصب فيها، و أن يواصل بين بعضها و بعض، و يتابع و يحرص على أن لا يخلّي وقتا من أوقاته منها، فقال:

فَإِذا فَرَغْتَ من التبليغ فَانْصَبْ في العبادة شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة، و وعدناك من النعم الآتية. و عن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة. و عن ابن عبّاس:

فإذا فرغت من الصلاة فاجتهد بالدعاء في دبرها.

و هذا مرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و عن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.

وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ بالسؤال، و لا تسأل غيره، فإنّه القادر وحده على الإعانة و الإغاثة.

ص: 462

[95] سورة التين

اشارة

مختلف فيها. و هي ثماني آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطاه اللّه خصلتين: العافية و اليقين، ما دام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه اللّه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم».

و عن البراء بن عازب قال: «سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ في المغرب التين و الزيتون، فما رأيت إنسانا أحسن قراءة منه». رواه مسلم في الصحيح (1).

و روى شعيب العقرقوفي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و التين في فرائضه و نوافله أعطي من الجنّة حيث يرضى».

[سورة التين [95]: الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ [1] وَ طُورِ سِينِينَ [2] وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [3] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [4]

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [5] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [6] فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [7] أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [8]

ص: 463


1- صحيح مسلم 1: 339 ح 177. و فيه: أحسن صوتا منه.

و لمّا أمر اللّه سبحانه بالرغبة إليه في خاتمة سورة الانشراح، افتتح هذه السورة بذكر أنّه الخالق المستحقّ للعبادة، بعد أن أقسم عليه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ خصّهما من بين الثمار بالقسم، لأنّ التين فاكهة طيّبة لا فضل له إلّا القليل جدّا، و غذاء لطيف سريع الهضم، و دواء كثير النفع، فإنّه يليّن الطبع، و يحلّل البلغم، و يطهّر الكليتين، و يزيل رمل المثانة، و يفتح سدد الكبد و الطحال، و يسمّن البدن. و روي: أنّه أهدي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طبق من تين، فأكل منه و قال لأصحابه: «كلوه، فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنّة لقلت: هذه، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم، فكلوها، فإنّها تقطع البواسير، و تنفع من النقرس».

و الزيتون فاكهة و إدام و دواء، و له دهن لطيف كثير المنافع، مع أنّه قد ينبت حيث لا دهنيّة فيه، كالجبال. و مرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيبا و استاك به و قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيب الفم، و يذهب بالحفرة». و سمعته يقول: «هي سواكي و سواك الأنبياء قبلي».

و قيل: المراد بهما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانيّة: طور تينا و طور زيتا، لأنّهما منبتا التين و الزيتون.

و قيل: التين الجبل الّذي عليه دمشق، و الزيتون الجبل الّذي عليه بيت المقدس.

و قيل: التين مسجد دمشق، و الزيتون بيت المقدس.

و عن ابن عبّاس: التين مسجد نوح الّذي بني على الجوديّ، و الزيتون بيت المقدس.

و قيل: التين المسجد الحرام، و الزيتون المسجد الأقصى.

و قيل: التين جبال ما بين حلوان و همدان، و الزيتون جبال الشام، لأنّها

ص: 464

منابتهما، كأنّه قيل: و منابت التين و الزيتون.

وَ طُورِ سِينِينَ يعني: الجبل الّذي ناجى عليه موسى عليه السّلام ربّه. و سينين و سيناء اسمان للموضع الّذي هو فيه. و أضيف الطور- و هو الجبل- إلى سينين، و هي البقعة. و هو سينون أيضا. و مثله: يبرون، في جواز الإعراب بالواو و الياء، و الإقرار على الياء، و تحريك النون بحركات الإعراب.

وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أي: الآمن. من: أمن الرجل أمانة فهو أمين. و أمانته أن يحفظ من دخله، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. و يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، من: أمنه، لأنّه مأمون الغوائل، كما وصف بالأمين في قوله: حَرَماً آمِناً (1) بمعنى: ذي أمن.

و لمّا كان منبت التين و الزيتون مهاجر إبراهيم و مولد عيسى و منشأه، و الطور المكان الّذي نودي منه موسى، و مكّة مكان البيت الّذي هو هدى للعالمين، و مولد رسول اللّه و مبعثه، و كلّها مواضع خير و بركة و سكنى الأنبياء، أقسم اللّه تعالى بها على أنّه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يريد به الجنس فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ تعديل، بأن خصّ بانتصاب القامة، و حسن الصورة، و تسوية الأعضاء، و استجماع خواصّ الكائنات و سائر الممكنات.

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي: ثمّ كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويّة السويّة، أن رددناه أسفل من سفل خلقا و تركيبا، يعني: أقبح من قبح صورة و أشوهه خلقة، و هم أصحاب النار. أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثمّ رددناه بعد ذلك التقويم و التحسين أسفل من سفل في حسن الصورة و الشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوّس ظهره بعد اعتداله، و ابيضّ شعره بعد

ص: 465


1- القصص: 57.

سواده، و تشنّن (1) جلده، و كلّ سمعه و بصره، و تغيّر كلّ شي ء منه. فمشيه دليف (2)، و صوته خفات، و قوّته ضعف، و شهامته خرف، و هو أرذل العمر. و على هذا؛ السافلون هم الضعفاء و الزمنى و الأطفال و الشيخ الكبير، و هو أسفل هؤلاء جميعا.

و على التفسير الأوّل إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء متّصل ظاهر الاتّصال. و على الثاني منقطع. يعني: و لكنّ الّذين كانوا صالحين من الهرمى.

فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم في هذه الحالة، و صبرهم على ابتلاء اللّه بالشيخوخة و الهرم، و على مقاساة المشاقّ، و القيام بالعبادة، على تخاذل نهوضهم. و روي: «أنّ المؤمن لا يردّ إلى الخرافة و إن عمّر عمرا طويلا».

و عن عكرمة: إذا ردّ من المؤمنين إلى أرذل العمر، كتب له كصالح ما كان يعمل في شبابه، و ذلك أجر غير ممنون.

و عن ابن عبّاس: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. و ذلك قوله: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ». قال: إلّا الّذين قرءوا القرآن.

و في الحديث عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المولود حتّى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه، فإن عمل سيّئة لم يكتب عليه، و لا على والديه.

فإذا بلغ الحنث، و جرى عليه القلم، أمر اللّه الملكين اللّذين معه يحفظانه و يسدّدانه.

فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه اللّه من البلايا الثلاث: الجنون، و الجذام، و البرص. و إذا بلغ خمسين سنة خفّف اللّه حسابه. فإذا بلغ ستّين رزقه اللّه الإنابة إليه فيما يجب. فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السماء. فإذا بلغ ثمانين كتب اللّه حسناته،

ص: 466


1- تشنّن الجلد: يبس و تشنّج.
2- أي: متقارب الخطوة في المشي.

و تجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ تسعين غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و شفّعه في أهل بيته، و كان اسمه أسير اللّه في الأرض. فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا، كتب اللّه له بمثل ما كان يعمل في صحّته من الخير، و إن عمل سيّئة لم تكتب عليه».

و أقول: إنّما لا تكتب عليه السيّئة لزوال عقله، و نقصان تمييزه في ذلك الوقت.

فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ فأيّ شي ء يكذّبك يا محمّد دلالة أو نطقا بعد ظهور هذه الدلائل بِالدِّينِ بالجزاء. و قيل: «ما» بمعنى «من». و قيل: الخطاب للإنسان على الالتفات. و المعنى: أنّ خلق الإنسان من نطفة، و تقويمه بشرا سويّا، و تدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل و يستوي، ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر، لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق، و أنّ من قدر من الإنسان على هذا كلّه لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك أيّها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع؟

ثمّ حقّق ما سبق بقوله: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أليس الّذي فعل ذلك من الخلق و الردّ بأحكم الحاكمين صنعا و تدبيرا؟ و من كان كذلك كان قادرا على الإعادة و الجزاء، على ما مرّ مرارا. و هذا وعيد للكفّار بأنّه يحكم عليهم بما هم أهله.

ص: 467

ص: 468

[96] سورة العلق

اشارة

مكّيّة. و هي تسع عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها فكأنّما قرأ المفصّل كلّه».

محمد بن حسّان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ في يومه أو ليلته «اقرأ باسم ربّك» ثمّ مات في يومه أو في ليلته مات شهيدا، و بعثه اللّه شهيدا و أحياه، و كان كمن ضرب بسيفه في سبيل اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة العلق [96]: الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [1] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [2] اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ [3] الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [4]

عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [5] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [6] أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [7] إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى [8]

و لمّا ختم سبحانه سورة التين بذكر اسمه، افتتح هذه السورة بذكر اسمه أيضا، فقال:

ص: 469

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي: اقرأ القرآن مفتتحا باسمه تعالى، أو مستعينا به الَّذِي خَلَقَ أي: الّذي منه الخلق، لا خالق سواه. و على هذا لا يقدّر للخلق مفعول. و يجوز أن يقدّر و يراد: الّذي خلق كلّ شي ء، فيتناول كلّ مخلوق، لأنّه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.

ثمّ أفرد ما هو أشرف و أظهر صنعا و تدبيرا، و أدلّ على وجوب العبادة المقصودة من القراءة، فقال:

خَلَقَ الْإِنْسانَ أي: الّذي خلق الإنسان. فأبهم أوّلا، ثمّ فسّر تفخيما لخلقه، و دلالة على عجيب فطرته. مِنْ عَلَقٍ جمعه لأنّ الإنسان في معنى الجمع، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (1). و لمّا كان أوّل الواجبات معرفة اللّه تعالى نزّل أوّلا ما يدلّ على وجوده و كمال قدرته و حكمته.

اقْرَأْ تكرير للمبالغة. أو الأوّل مطلق، و الثاني للتبليغ، أو في الصّلاة.

و لعلّه لمّا قيل له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ». فقال: ما أنا بقارئ.

فقيل له: اقرأ. فإنّ أكثر المفسّرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن، في أوّل يوم نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو قائم على حراء، علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة. و قيل: أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاتحة الكتاب.

وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الزائد الكرم على كلّ كريم، فإنّه ينعم على عباده النعم الّتي لا تحصى، و يحلم عنهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، مع كفرهم و جحودهم لنعمه، و ركوبهم المناهي، و اطّراحهم الأوامر. و يقبل توبتهم، و يتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم. فما لكرمه غاية و لا أمد، فكأنّه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلميّة تكرّم حيث قال: الأكرم.

الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي: علّم الخطّ بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من نصب الدلائل، و إنزال الآيات، و سائر أمور الدين و الشرائع و الأحكام. فدلّ على

ص: 470


1- العصر: 2.

كمال كرمه بأنّه علّم عباده ما لم يعلموا، و نقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. و نبّه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة الّتي لا يحيط بها إلّا هو، فإنّه ما دوّنت العلوم، و لا قيّدت الحكم، و لا ضبطت أخبار الأوّلين و مقالاتهم، و لا كتب اللّه المنزلة إلّا بالكتابة، و لو لا هي لما استقامت أمور الدين و الدنيا. و لو لم يكن على دقيق حكمة اللّه و لطيف تدبيره دليل إلّا أمر القلم و الخطّ لكفى به. فعدّد سبحانه في هذه الآيات الشريفة مبدأ أمر الإنسان و منتهاه، إظهارا لما أنعم عليه، من أن نقله من أخسّ المراتب إلى أعلاها، تقريرا لربوبيّته، و تحقيقا لأكرميّته.

كَلَّا ردع لمن كفر بنعمة اللّه بطغيانه و إن لم يذكر، لدلالة الكلام عليه إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى بكثرة عشيرته و أمواله و قوّته. و هذا مفعوله الثاني، لأنّه بمعنى: علم، أي: علم نفسه مستغنيا. و من خصائص أفعال القلوب أن يكون فاعله و مفعوله الأوّل ضميرين لواحد. و لو كان الرؤية بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين لواحد.

ثمّ خاطب الإنسان على الالتفات تهديدا و تحذيرا من عاقبة الطغيان، فقال:

إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أي: إلى حكمه و جزائه الرجوع، فإنّه مصدر كالبشرى.

[سورة العلق [96]: الآيات 9 الى 19]

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى [9] عَبْداً إِذا صَلَّى [10] أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى [11] أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى [12] أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى [13]

أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [14] كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [15] ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [16] فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [17] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [18]

كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ [19]

ص: 471

روي: أنّ أبا جهل لفرط جهله و عتوّه قال: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالّذي يحلف به لو رأيت محمّدا ساجدا لأطأنّ على رقبته. فقيل له: ها هو ذلك يصلّي. فانطلق ليطأ على رقبته، فنكص على عقبيه.

فقيل له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هولا و أجنحة، و هي أجنحة الملائكة. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا». فأنزل اللّه سبحانه:

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً

يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذا صَلَّى لفظ العبد و التنكير للمبالغة في تقبيح النهي، و الدلالة على كمال عبوديّة المنهيّ. و معنى «أ رأيت» هاهنا تعجيب للمخاطب.

ثمّ كرّر هذه اللفظة مرّتين للتأكيد في التعجيب، فقال: أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ العبد المنهيّ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى بالإخلاص و التوحيد و الاتّقاء عن الشرك.

و الشرطيّة المفعول الثاني ل «رأيت» الأوّل. و الثاني تكرير للمبالغة، و ليس له عمل.

و جواب الشرط محذوف، تقديره: إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأنّ اللّه يرى؟ و إنّما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني، و هو قوله:

أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ أبو جهل وَ تَوَلَّى عن الإيمان أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى يراه و يطّلع على هداه و ضلاله، فيجازيه على حسب ذلك. و هذا وعيد له.

و قيل: المعنى: أخبرني عمّن ينهى عبدا من عبادنا عن الصلاة، إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة اللّه، أو كان آمرا بالتقوى كما يعتقده، و كذلك إن كان على التكذيب للحقّ، و التولّي عن الدين الصحيح كما نحن نقول، ألم يعلم بأنّ اللّه يرى أحواله فيجازيه؟

و قيل: الخطاب في الثانية مع الكافر، فإنّه تعالى كالحاكم الّذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرّة و الآخر اخرى. و كأنّه قال: يا كافر أخبرني إن كان

ص: 472

صلاته هدى، و دعاؤه إلى اللّه أمرا بالتقوى، أ تنهاه؟ و لعلّه ذكر الأمر بالتقوى في التعجيب و التوبيخ، و لم يتعرّض له في النهي، لأنّ النهي كان عن الصّلاة و الأمر بالتقوى، فاقتصر على ذكر الصّلاة، لأنّه دعوة بالفعل. أو لأنّ نهي العبد إذا صلّى يحتمل أن يكون لها و لغيرها، و عامّة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة و غيره بالدعوة.

كَلَّا ردع للناهي لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عمّا هو فيه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذنّ بناصيته، و لنسحبنّه بها إلى النار. و السفح: القبض على الشي ء و جذبه بشدّة. و كتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، و الاكتفاء باللام عن الإضافة، للعلم بأنّ المراد بالناصية ناصية المذكور. و في الأخذ بالناصية إهانة و استخفاف كما لا يخفى.

ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ بدل من الناصية. و إنّما جاز وصفها بالكذب و الخطأ، و هما لصاحبها، على الإسناد المجازي للمبالغة.

روي: أنّ أبا جهل مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يصلّي فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: أ تهدّدني و أنا أكثر أهل الوادي ناديا، فنزلت:

فَلْيَدْعُ نادِيَهُ

أي: أهل ناديه ليعينوه. و هو المجلس الّذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون.

سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ليجرّوه إلى النار. و هو في كلام العرب: الشرط. واحدها:

زبنية، كعفرية. من الزبن، و هو الدفع. يقال: زبنت الناقة إذا ضربت بثفنات (1) رجلها عند الحلب. فالزبن بالثفنات، و الركض بالرجل، و الخبط باليد. و ناقة زبون: تضرب حالبها و تدفعه. و حرب زبون: تزبن الناس، أي: تصدمهم و تدفعهم.

ص: 473


1- الثفنة من البعير: ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ و غلظ، كالركبتين. و جمعها: ثفنات.

و قيل: زبنيّ على النسب، كأنّه نسب إلى الزبن، ثمّ غيّر للنسب، كقولهم:

أمسيّ. و أصلها: زبانيّ، فقيل: زبانية على تعويض التاء عن الياء. و المراد: ملائكة العذاب، سمّوا بذلك لدفعهم أهل النار إليها. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو دعا أبا جهل ناديه لأخذته الزبانية».

كَلَّا ردع لأبي جهل لا تُطِعْهُ و اثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (1) وَ اسْجُدْ و دم على سجودك. يريد: الصلاة.

وَ اقْتَرِبْ و تقرّب إلى ربّك. و في الحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد».

و السجود هنا فرض، و هو من العزائم.

روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «العزائم: ألم تنزيل، و حم السجدة، و النجم إذا هوى، و اقرأ باسم ربّك. و ما عداها في جميع القرآن مسنون، و ليس بمفروض».

ص: 474


1- القلم: 8.

[97] سورة القدر

اشارة

مختلف فيها. و هي خمس آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان، و أحيا ليلة القدر».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من قرأ «إنّا أنزلناه» في فريضة من الفرائض نادى مناد: يا عبد اللّه قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل».

سيف بن عميرة عن رجل، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ «إنّا أنزلناه» يجهر بها كان كشاهر سيفه في سبيل اللّه، و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه، و من قرأها عشر مرّات مرّت على محو ألف ذنب من ذنوبه».

[سورة القدر [97]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [1] وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ [2] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [3] تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [4]

سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [5]

و لمّا أمر سبحانه بالسجود و التقرّب إليه في خاتمة سورة العلق، افتتح هذه

ص: 475

السورة بذكر ليلة القدر، و أنّ التقرّب فيها إلى اللّه يزيد على التقرّب إليه في سائر الليالي و الأيّام، فكأنّه قال: اقترب إليه في سائر الأوقات، خصوصا في ليلة القدر.

و قال أبو مسلم: لمّا أمره بقراءة القرآن في سورة العلق، بيّن في هذه السورة أنّ إنزاله في ليلة القدر، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير للقرآن. فخّمه من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن أسند إنزاله إليه، و جعله مختصّا به دون غيره، كجبرئيل.

و الثاني: إضماره من غير ذكر اسمه الظاهر، شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح.

و الثالث: إنزاله في أشرف الزمان و أفضل الأوان، و هو ليلة القدر.

ثمّ فخّم شأن هذه الليلة، و نبّه على عظيم قدرها و شرف محلّها بقوله: وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي: لم تبلغ درايتك غاية فضلها و منتهى علوّ قدرها. و هذا حثّ على العبادة فيها.

ثمّ فسّر تعظيمها بقوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي: قيام ليلة القدر و العمل فيها خير من قيام ألف شهر. و لمّا جعل الخير الكثير في ليلة القدر، كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير و البركة ما يكون في هذه الليلة. و إنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها. أو أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة، ثمّ كان جبرئيل ينزله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجوما في ثلاث و عشرين سنة.

و قيل: معناه: أنزلناه في فضل ليلة القدر. و تسميتها بذلك لشرف قدرها، أو لتقدير الأمور فيها، لقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (1). و عن أبي بكر الورّاق: لأنّ من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر. و قال بعضهم: لأنّ للطاعات

ص: 476


1- الدخان: 4.

فيها قدرا عظيما و ثوابا جزيلا. و قيل: لأنّه أنزل فيها ملك ذو قدر، كتابا ذا قدر، من عند ملك ذي قدر، إلى رسول ذي قدر، لأجل أمّة ذات قدر.

و ذكر «ألف» إمّا للتكثير، أو لما

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر إسرائيليّا لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك، و تقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة القدر، هي خير من مدّة غزوة هذا الغازي.

و قيل: إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتّى يعبد اللّه ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحقّ بأن يسمّوا عابدين من أولئك العبّاد.

و اختلفوا في أنّها أيّة ليلة؟ فذهب قوم إلى أنّها إنّما كانت على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ رفعت. و جاءت الرواية عن أبي ذرّ أنّه قال: «قلت: يا رسول اللّه ليلة القدر هي شي ء يكون على عهد الأنبياء، ينزّل اللّه فيها الملائكة، فإذا قبضوا رفعت؟

قال: لا بل هي إلى يوم القيامة».

و قيل: إنّها في ليالي السنة كلّها. و من علّق طلاق امرأته على ليلة القدر لم يقع إلى مضيّ السنة. و هو مذهب أبي حنيفة. و في بعض الروايات عن ابن مسعود: أنّه قال: من يقم الحول كلّه يصبها. فبلغ ذلك عبد اللّه بن عمر فقال:

رحم اللّه أبا عبد الرحمن، أما إنّه علم أنّها في شهر رمضان، و لكنّه أراد أن لا يتّكل الناس.

و جمهور العلماء على أنّها في شهر رمضان في كلّ سنة. ثم اختلفوا في أيّ ليلة هي منه؟ فقيل: هي أوّل ليلة منه. عن ابن زيد العقيلي. و قيل: هي ليلة سبع عشرة منه. عن الحسن. و روي: أنّها ليلة الفرقان

، و في صبيحتها التقى الجمعان.

و الصحيح أنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان. و هو مذهب الشافعي.

و روي مرفوعا: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان».

و عن عليّ عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان».

ص: 477

قال: «و كان إذا دخل العشر الأواخر دأب (1) و أدأب أهله».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، و اجتنب النساء، و أحيا الليل، و تفرّغ للعبادة».

ثمّ اختلفوا في أنّها أيّة ليلة منه؟ فقيل: إنّها ليلة إحدى و عشرين. و هو مذهب أبي سعيد الخدري، و اختيار الشافعي.

قال أبو سعيد الخدري: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت هذه الليلة ثمّ أنسيتها، و رأيتني أسجد في ماء و طين، فالتمسوها في العشر الأواخر، و التمسوها في كلّ وتر». قال: فأبصرت عيناي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انصرف و على جبهته و أنفه أثر الماء و الطين من صبيحة إحدى و عشرين. أورده البخاري في الصحيح (2).

و قيل: هي ليلة ثلاث و عشرين منه.

عن عبد اللّه بن عمر قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إنّي رأيت في النوم كأنّ ليلة القدر هي ليلة سابعة تبقى. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث و عشرين، فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث و عشرين».

قال معمّر: و كان أيّوب يغتسل ليلة ثلاث و عشرين، و يمسّ طيبا.

و سأل عمر بن الخطّاب أصحاب رسول اللّه فقال: قد علمتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في ليلة القدر: «اطلبوها في العشر الأواخر وترا».

ففي أيّ الوتر ترون؟ فأكثر القوم في الوتر.

قال ابن عبّاس: فقال لي: ما لك لا تتكلّم يا بن عبّاس؟! فقلت: رأيت اللّه أكثر ذكر السبع في القرآن، فذكر السماوات سبعا، و الأرضين سبعا، و الطواف سبعا، و الجمار سبعا، و ما شاء اللّه من ذلك، خلق الإنسان من سبعة، و جعل رزقه في سبعة.

ص: 478


1- أي: جدّ و تعب.
2- صحيح البخاري 3: 60 و 62.

فقال: كلّ ما ذكرت عرفت، فما قولك: خلق الإنسان من سبعة، و جعل رزقه في سبعة؟

فقلت: خلق: الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ (1). ثمّ قرأت: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إلى قوله: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (2). فما أراها إلّا ليلة ثلاث و عشرين لسبع بقين.

فقال عمر: عجزتم أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الّذي لم يجتمع شؤون (3) رأسه.

قال: و قال عمر: وافق رأيي رأيك. ثمّ ضرب منكبي فقال: ما أنت بأقلّ القوم علما.

و روى العيّاشي بإسناده عن زرارة، و عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن ليلة القدر. قال: في ليلتين: ليلة ثلاث و عشرين، و إحدى و عشرين. فقلت: أفرد لي إحداهما. فقال: و ما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما.

و عن شهاب بن عبد ربّه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني بليلة القدر.

قال: ليلة إحدى و عشرين، و ليلة ثلاث و عشرين».

و عن حمّاد بن عثمان، عن حسّان بن أبي علي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ليلة القدر. قال: اطلبها في تسع عشرة، و إحدى و عشرين، و ثلاث و عشرين».

و في كتاب من لا يحضره الفقيه عن عليّ بن أبي حمزة قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك الليلة الّتي يرجى فيها ما يرجى

ص: 479


1- المؤمنون: 12- 14.
2- عبس: 25- 31.
3- شؤون الرأس: موصل أو ملتقى قبائل الرأس. و قبائل الرأس: قطعه المشعوب بعضها إلى بعض.

أيّ ليلة هي؟

فقال: هي ليلة إحدى و عشرين، و ثلاث و عشرين.

قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟

فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب.

قال: فقلت: فربما رأينا الهلال عندنا، و جاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك في أرض اخرى.

فقال: ما أيسر أربع ليال فيما تطلب فيها.

قلت: جعلت فداك؛ ليلة ثلاث و عشرين ليلة الجهني (1)؟

قال: إنّ ذلك ليقال.

قلت: جعلت فداك؛ إنّ سليمان بن خالد روى أنّ في تسع عشرة يكتب وفد الحاجّ.

فقال: يا أبا محمّد يكتب وفد الحاجّ في ليلة القدر، و المنايا و البلايا و الأرزاق و ما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في إحدى و ثلاث، و صلّ في كلّ واحدة منهما مائة ركعة، و أحيهما إلى النور- أي: الصبح- و اغتسل فيهما.

قال: قلت: فإن لم أقدر على ذلك و أنا قائم؟

قال: فصلّ و أنت جالس.

قلت: فإن لم أستطع.

قال: فعلى فراشك.

قلت: فإن لم أستطع.

فقال: لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشي ء من النوم، إنّ أبواب السماء تفتح في شهر رمضان، و تصفد (2) الشياطين، و تقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر شهر

ص: 480


1- يأتي في الصفحة التالية توضيحه نقلا عن الشيخ الصدوق رحمه اللّه.
2- صفد الأسير: أوثقه و قيّده بالحديد و غيره.

رمضان، كان يسمّى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المرزوق» (1).

و في رواية عبد اللّه بن بكير عن زرارة عن أحدهما قال: «سألته عن الليالي الّتي يستحبّ فيها الغسل في شهر رمضان. قال: ليلة تسع عشرة، و ليلة إحدى و عشرين، و ليلة ثلاث و عشرين، و هي ليلة الجهني. و حديثه: أنّه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث و عشرين».

قال الشيخ أبو جعفر رحمه اللّه (2): و اسم الجهني عبد اللّه بن أنيس الأنصاري.

و قيل: إنّها ليلة سبع و عشرين. عن أبيّ بن كعب و عائشة.

و روي عن ابن عبّاس و ابن عمر قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تحرّوها ليلة سبع و عشرين.

و عن زرّ بن حبيش قال: قلت لأبي: يا أبا المنذر من أين علمت أنّها ليلة سبع و عشرين؟ قال: بالآية الّتي أنبأنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: تطلع الشمس غداتئذ، كأنّها طست ليس لها شعاع.

و قال بعضهم: إنّ اللّه قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان، فلمّا بلغ السابعة و العشرين أشار إليها فقال: هي.

و قيل: إنّها ليلة تسع و عشرين. و روي عن أبي بكر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «التمسوها في العشر الأواخر، في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة».

و الفائدة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في العبادة، و يحيوا جميع ليالي رمضان طمعا في إدراكها، كما أنّ اللّه سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، و اسمه الأعظم في الأسماء، و ساعة الإجابة في ساعات الجمعة.

و ورد في فضل هذه الليلة روايات كثيرة. منها: ما روي عن ابن عبّاس، عن .

ص: 481


1- الفقيه 2: 102 ح 459.
2- الفقيه 2: 104 ذيل ح 461.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إذا كان ليلة القدر تنزّل الملائكة الّذين هم سكّان سدرة المنتهى، و منهم جبرئيل. فينزل جبرئيل و معه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، و لواء على بيت المقدس، و لواء في المسجد الحرام، و لواء على طور سيناء. و لا يدع فيها مؤمنا و لا مؤمنة إلّا سلّم عليه، إلّا مدمن الخمر، و آكل لحم الخنزير، و المتضمّخ (1) بالزعفران».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتّى يضي ء فجرها، و لا يستطيع فيها على أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، و لا ينفذ فيه سحر ساحر».

و روى الحسن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في ليلة القدر: «إنّها ليلة سمحة، لا حارّة و لا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع».

تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها و هو جبرئيل. أفرد بالذكر لمزيّة شرفه و فضله بينهم. و قيل: خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ من أجل كلّ أمر قدّر في تلك الليلة من المصالح الدينيّة و الدنيويّة.

سَلامٌ هِيَ ما هي إلّا سلامة، أي: لا يقدّر اللّه فيها إلّا السلامة و الخير، و يقضي في غيرها السلامة و البلاء. أو ما هي إلّا سلام، لكثرة ما يسلّمون فيها على المؤمنين، لما روي: «أنّه لا يلقون مؤمنا و لا مؤمنة إلّا سلّموا عليه في تلك الليلة».

حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. و قرأ الكسائي بالكسر، على أنّه كالمرجع، أو اسم زمان على غير قياس، كالمشرق.

ص: 482


1- تضمّخ بالطيب: تلطّخ به.

[98] سورة البيّنة

اشارة

و تسمّى سورة البريّة، و سورة القيامة. مختلف فيها. و هي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها كان يوم القيامة مع خير البريّة مسافرا و مقيما».

و عن أبي الدرداء قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو يعلم الناس ما في «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» لعطّلوا الأهل و المال و تعلّموها. فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ فقال: لا يقرؤها منافق أبدا، و لا عبد في قلبه شكّ في اللّه عزّ و جلّ.

و اللّه إنّ الملائكة المقرّبين ليقرؤنها منذ خلق اللّه السماوات و الأرض، لا يفترون عن قراءتها. و ما من عبد يقرؤها بليل إلّا بعث اللّه ملائكة يحفظونه في دينه و دنياه، و يدعون له بالمغفرة و الرحمة. فإن قرأها نهارا، أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار، و أظلم عليه الليل».

فقال رجل من قيس غيلان: زدنا يا رسول اللّه من هذا الحديث، فداك أبي و أمّي.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تعلّموا «عَمَّ يَتَساءَلُونَ». و تعلّموا «ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ». و تعلّموا «وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ». و تعلّموا «وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ». فإنّكم لو تعلمون ما فيهنّ لعطّلتم ما أنتم فيه و تعلّمتموهنّ، و تقرّبتم إلى اللّه بهنّ، فإنّ اللّه يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك باللّه. و اعلموا أنّ «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» تجادل عن صاحبها يوم القيامة،

ص: 483

و تستغفر له من الذنوب».

أبو بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة «لم يكن» كان بريئا من الشرك، و أدخل في دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعثه اللّه تعالى مؤمنا، و حاسبه حسابا يسيرا».

[سورة البينة [98]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [1] رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [2] فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [3] وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [4]

وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [5]

و روي: أنّ الكفّار من أهل الكتاب و عبدة الأصنام كانوا يقولون قبل مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ننفكّ ممّا نحن عليه من ديننا، و لا نتركه حتّى يبعث النبيّ الموعود الّذي هو مكتوب في التوراة و الإنجيل و الزبور، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فلمّا بيّن سبحانه في سورة القدر أنّ القرآن حجّة، حكى اللّه في هذه السورة ما كانوا يقولون حجّة عليهم، و توبيخا و إلزاما لهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود و النصارى، فإنّهم كفروا بالإلحاد في صفات اللّه تعالى. و «من» للتبيين.

ص: 484

وَ الْمُشْرِكِينَ و عبدة الأصنام مُنْفَكِّينَ عمّا كانوا عليه من دينهم. أو الوعد باتّباع الحقّ إذا جاءهم الرسول. و معنى انفكاك الشي ء من الشي ء أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفكّ من مفصله. و المعنى: أنّهم متشبّثون بدينهم لا يتركونه حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ إلّا عند مجي ء المبيّن للحقّ. و التاء للمبالغة. أو مجي ء المعجزة البيّنة، و هي القرآن الّذي هو المعجزة.

و قوله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بدل من البيّنة بنفسه أو بتقدير مضاف، و هو الوحي، و تقديره: وحي رسول من اللّه. أو مبتدأ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً خبره.

و على البدليّة صفته. و الرسول و إن كان أمّيّا، لكنّه لمّا تلا مثل المسطور في الصحف كان كالتالي لها. و قيل: المراد جبرئيل، فإنّه التالي للصحف المطهّرة المنتسخة في اللوح. و كون الصحف مطهّرة أنّ الباطل لا يأتيها، أو أنّها لا يمسّها إلّا المطهّرون.

فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحقّ.

وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عمّا كانوا عليه، بأن تفرّقوا فرقا مختلفة:

كافرة، و مؤمنة، و متردّدة بين الكفر و الإيمان إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ إلّا وقت مجي ء البيّنة. فتفرّقوا، فمنهم من آمن، و منهم من أنكر، و منهم من عرف و عاند و أصرّ على الكفر، و منهم من تردّد في دينه. و المعنى: و ما تفرّقوا عن الحقّ إلّا بعد مجيئه، فنقضوا ما يعدّون من اجتماع الكلمة و الاتّفاق على الحقّ إذا جاءهم الرسول. فيكون كقوله: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1). و إفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم و بين المشركين للدلالة على شناعة حالهم، و أنّهم لمّا تفرّقوا مع علمهم كان غيرهم أولى بذلك.

وَ ما أُمِرُوا أي: في كتبهم بما فيها إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ أي: إلّا لأجل أن يعبدوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لا يشركون به حُنَفاءَ مائلين عن العقائد الزائغة

ص: 485


1- البقرة: 89.

وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ على طريقة الإسلام وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ على وجه تعيّن في الإسلام وَ ذلِكَ الّذي تقدّم ذكره دِينُ الْقَيِّمَةِ دين الملّة القيامة.

دلّت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر، لأنّ فيها تصريحا بأنّه سبحانه إنّما خلق الخلق ليعبدوه مخلصا عن الشرك. و على وجوب النيّة في الطهارة، إذ أمر اللّه بالعبادة على وجه الإخلاص، و لا يمكن الإخلاص إلّا بالنيّة و القربة. و الطهارة عبادة، فلا تجزي بغير نيّة، خلافا لبعض العامّة.

[سورة البينة [98]: الآيات 6 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [6] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [7] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [8]

ثمّ ذكر سبحانه حال الفريقين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: يوم القيامة، أو في الحال، لملابستهم ما يوجب ذلك. و اشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه، فيمكن أن يختلف، لتفاوت كفرهما. أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ الخليقة. و قرأ نافع:

البريئة بالهمزة، على الأصل.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ* جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فيها مبالغات: تقديم المدح، و ذكر الجزاء المؤذن بأنّ ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، و الحكم عليه بأنّه من «عند ربّهم»، و جمع جنّات، و تقييدها إضافة و وصفا بما يزداد لها نعيما، و تأكيد

ص: 486

الخلود بالتأبيد.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما قدّموا من الطاعات المخلصة. استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم. وَ رَضُوا عَنْهُ لأنّه بلّغهم أقصى أمانيّهم ذلِكَ أي:

المذكور من الجزاء و الرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فإنّ الخشية ملاك الأمر، و الباعث على كلّ خير.

و في كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني رحمه اللّه قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب عليّ عليه السّلام، قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: «قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا مسنده إلى صدري، فقال: يا عليّ ألم تسمع قول اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هم أنت و شيعتك. و موعدي و موعدكم الحوض، إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين». (1)

و فيه عن مقاتل بن سليمان، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس: في قوله: «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» قال: نزلت في عليّ و أهل بيته عليهم السّلام. (2)

ص: 487


1- شواهد التنزيل 2: 459 ح 1125.
2- شواهد التنزيل 2: 473 ح 1146.

ص: 488

[99] سورة الزلزال

اشارة

مدنيّة. و هي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة، و أعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن».

و عن أنس بن مالك: «سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من أصحابه فقال: يا فلان هل تزوّجت؟ قال: لا، و ليس عندي ما أتزوّج به. قال: أليس معك «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»؟

قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال: أليس معك «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ»؟ قال: بلى.

قال: ربع القرآن. قال: أليس معك «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ»؟ قال: بلى. قال: ربع القرن.

ثمّ قال: تزوّج تزوّج تزوّج».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تملّوا من قراءة إذا زلزلت، فإنّ من كانت قراءته في نوافله لم يصبه اللّه بزلزلة أبدا، و لم يمت بها و لا بصاعقة و لا بآفة من آفات الدنيا، فإذا مات أمر به إلى الجنّة، فيقول اللّه سبحانه: عبدي أبحتك جنّتي، فاسكن منها حيث شئت و هويت، لا ممنوع و لا مدفوع عنه».

[سورة الزلزلة [99]: الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [1] وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [2] وَ قالَ

ص: 489

الْإِنْسانُ ما لَها [3] يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [4]

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [5] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [6] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [7] وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [8]

و لمّا ختم سبحانه سورة البيّنة ببيان حال المؤمنين و الكافرين، افتتح هذه السورة ببيان وقت ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إضافة الزلزال إلى الأرض لإفادة أنّ المراد زلزالها الّذي تستوجبه في حكمة اللّه و مشيئته، و هو الزلزال الشديد الّذي ليس بعده. و نحوه: قولك: أكرم التقيّ إكرامه، و أهن الفاسق إهانته.

تريد: ما يستوجبانه من الإكرام و الإهانة. أو زلزالها كلّه، و جميع ما هو ممكن منه، بخلاف الزلازل المعهودة الّتي تختصّ ببعض الأرض. فتكون الإضافة للتنبيه على شدّتها. و ذلك عند النفخة الأولى أو الثانية.

وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ما في جوفها من الدفائن أو الأموات. جمع ثقل، و هو متاع البيت.

وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها أي: ما للأرض زلزلت هذه الزلزلة الشديدة، و لفظت ما في بطنها من الدفائن و الأموات أحياء؟! فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا (1). و قيل: هذا قول الكافر، لأنّه كان لا يؤمن بالبعث، فأمّا المؤمن فيقول: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (2).

يَوْمَئِذٍ منصوب بمثل: اذكر. أو بدل من «إذا»، و ناصبها قوله: تُحَدِّثُ

ص: 490


1- يس: 52.
2- يس: 52.

أَخْبارَها أي: تحدّث الخلق أخبارها. فحذف المفعول الأوّل، لأنّ المقصود ذكر تحديثها الأخبار، لا ذكر الخلق، تعظيما لليوم. و تحديث الأرض مجاز عن إحداث اللّه فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتّى ينظر من يقول: ما لها؟

إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت؟ و لم لفظت الأموات؟ و أنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه و يحذّرون منه.

و قيل: ينطقها اللّه على الحقيقة، و تخبر بما عمل عليها من خير و شرّ، كما

في الحديث أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أ تدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال:

أخبارها أن تشهد على كلّ عبد و أمة بما عمل على ظهرها، و تقول: عمل كذا و كذا يوم كذا و كذا. فهذا أخبارها».

و على هذا؛ يجوز أن يكون اللّه تعالى أحدث الكلام فيها.

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي: تحدّث بسبب إيحاء ربّك لها، بأن أحدث فيها ما دلّت على الأخبار، أو أنطقها بها. و يجوز أن يكون بدلا من «أخبارها» إذ يقال:

حدّثته كذا و بكذا. و اللام بمعنى «إلى»، أو على أصلها، إذ لها في ذلك تشفّ من العصاة. و عن أبي سعيد الخدري: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان،

فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «لا يسمعه جنّ و لا إنس و لا حجر إلّا يشهد له».

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ من مخارجهم، من القبور إلى الموقف أَشْتاتاً متفرّقين بحسب مراتبهم، بيض الوجوه آمنين، و سود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتا، يتفرّق بهم طريقا الجنّة و النار. لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ جزاء أعمالهم.

ثمّ فصّل إراءة الأعمال بقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي: ير ما يستحقّ عليه من الثواب.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و قرأ هشام بإسكان الهاء. و «من» الأولى

ص: 491

مخصوصة بالسعداء، و الثانية بالأشقياء، لقوله: «أشتاتا». و الذرّة: النملة الصغيرة، أو الهباء (1).

و يمكن أن يستدلّ بها على بطلان الإحباط، لأنّ الظاهر يدلّ على أنّه لا يفعل أحد شيئا من طاعة اللّه أو معصيته إلّا و يجازى عليها، و ما يقع محبطا لا يجازى عليه. و ليس لهم أن يقولوا: إنّ الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة. و ذلك لأنّ الآية مخصوصة بالإجماع، فإنّ التائب معفوّ عنه بلا خلاف. و عندهم أنّ من شرط المعصية الّتي يؤاخذ بها أن لا تكون صغيرة، فجاز لنا أيضا أن نشترط فيها أن لا تكون ممّا يعفو اللّه عنه.

ص: 492


1- الهباء: الغبار، دقائق التراب منثورة على وجه الأرض.

[100] سورة العاديات

اشارة

مدنيّة. و قيل: مكّيّة. و هي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من بات بالمزدلفة و شهد جمعا».

سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و العاديات و أدمن قراءتها، بعثه اللّه مع أمير المؤمنين عليه السّلام يوم القيامة خاصّة، و كان في حجره و رفقائه».

و اعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها، لما فيها من ذكر القيامة و الجزاء، اتّصال النظير بالنظير.

[سورة العاديات [100]: الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً [1] فَالْمُورِياتِ قَدْحاً [2] فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً [3] فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً [4]

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً [5] إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [6] وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [7] وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [8] أَ فَلا

ص: 493

يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ [9]

وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [10] إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحا. و هو صوت أنفاسها و أجوافها عند العدو. و نصبه بفعله المحذوف، أي: يضبحن أو تضبح ضبحا. أو بالعاديات، لأنّها تدلّ بالالتزام على الضابحات. أو حال بمعنى: ضابحات.

فَالْمُورِياتِ فالّتي توري النار، أي: تنقدح من حوافرها قَدْحاً قدحن قدحا. أو قادحات صاكّات بحوافرها الحجارة، فإنّ الإيراء إخراج النّار. و القدح:

الصكّ. يقال: قدح الزند فأورى. و انتصب «قدحا» بما انتصب به «ضبحا».

فَالْمُغِيراتِ يغير أهلها على العدو صُبْحاً أي: وقته ذكر الصبح، لأنّهم كانوا يسيرون إلى العدوّ ليلا، فيأتونهم صبحا.

فَأَثَرْنَ بِهِ عطف على الفعل الّذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى:

و اللاتي عدون، فأورين، فأغرن، فأثرن به، أي: فهيّجن بذلك الوقت، أي: وقت العدو نَقْعاً غبارا.

فَوَسَطْنَ بِهِ فتوسّطن بذلك الوقت، أو بالعدو، أو بالنقع، أي: ملتبسات به. يقال: وسطه بمعنى: توسّطه. جَمْعاً من جموع الأعداء.

عن مقاتل: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سريّة إلى حيّ من كنانة، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء، فتأخّر رجوعهم، فقال المنافقون: قتلوا جميعا، فأخبر اللّه تعالى عنها بقوله: وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً.

و قيل: نزلت السورة لمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام إلى ذات السلاسل، فأوقع بهم. و ذلك بعد أن بعث إليهم مرارا غيره من الصحابة، فرجع كلّ منهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 494

و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل، قال: «و سمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل، لأنّه أسر منهم و قتل و سبى، و شدّ أسراهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل. و لمّا نزلت السورة خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الناس فصلّى بهم الغداة، و قرأ فيها و العاديات، فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم، إنّ عليّا قد ظفر بأعداء اللّه، و بشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. فقدم عليّ عليه السّلام بعد أيّام بالأسارى و الغنائم».

و في رواية عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: بينما أنا في الحجرة جالس إذ أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحا، فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل اللّه، ثمّ تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم و يورون نارهم. فانفتل (1) عنّي و ذهب إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هو تحت سقاية زمزم، فسأله عن العاديات ضبحا.

فقال: سألت عنها أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عبّاس، فقال: إنّها الخيل حين تغير في سبيل اللّه. قال: اذهب فادعه لي. فلمّا وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، و اللّه إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر، و ما كان معنا إلّا فرسان: فرس للزبير، و فرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل؟ بل «الْعادِياتِ ضَبْحاً» الإبل، من عرفة إلى مزدلفة، و من مزدلفة إلى منى. قال ابن عبّاس: فرغبت عن قولي، و رجعت إلى الّذي قاله عليّ عليه السّلام.

و على هذا؛ فالمراد بالضبح الضبع. قال في الصحاح: «عن أبي عبيدة:

ضبحت الخيل ضبحا، مثل: ضبعت، و هو السير» (2). ثمّ قال: «ضبعت الإبل تضبع ضبعا، إذا مدّت أضباعها في سيرها، و هي أعضادها. و الناقة ضابع. و الضبع: أن يهوي بحافره إلى عضده» (3).

و المراد بالموريات أنّ أصحابها يورون نارهم في عرفة و جمع و منى.

ص: 495


1- أي: انصرف. من: فتل وجهه عنهم، أي: صرفه.
2- الصحاح 1: 385، و 3: 1247.
3- الصحاح 1: 385، و 3: 1247.

و قال عكرمة: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به.

و عن محمد بن كعب: هي النيران بجمع. و عنه أيضا: يريد بقوله: «فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً» الإبل ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى. و السنّة أن لا ترتفع بركبانها حتّى تصيح. و الإغارة سرعة السير. و منه قولهم: أشرق (1) ثبير كيما نغير.

و عنه أيضا المراد بقوله: «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» يريد جمع منى.

و التفسير الأوّل قول أكثر المفسّرين. و يحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ، الموريات بأفكارهنّ أنوار المعارف، و المغيرات على الهوى و العادات إذا ظهر لهنّ مثل أنوار القدس، فأثرن به شوقا، فوسطن به جمعا من جموع العلّيّين.

و على التقادير جواب القسم إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ لكفور. من: كند النعمة كنودا. و منه سمّي كندة، لأنّه كند أباه ففارقه. أو لعاص، بلغة كندة. أو لبخيل، بلغة بني مالك.

وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ إنّ الإنسان على كنوده لَشَهِيدٌ يشهد على نفسه، و لا يقدر أن يجحده، لظهور أمره عليه. و قيل: إنّ اللّه على كنوده لشهيد. فيكون وعيدا.

وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لأجل حبّ المال، من قوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً (2).

لَشَدِيدٌ لبخيل. يقال: فلان شديد و متشدّد. أو لقويّ مبالغ فيه.

أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ بعث ما فِي الْقُبُورِ من الموتى وَ حُصِّلَ جمع محصّلا في الصحف، أو ميّز ما فِي الصُّدُورِ من خير أو شرّ. و تخصيصه لأنّه الأصل. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ و هو يوم القيامة لَخَبِيرٌ عالم بما أعلنوا و ما أسرّوا، فيجازيهم عليه. و إنّما قال «ما» ثمّ «بهم» لاختلاف شأنهم في الحالين.

ص: 496


1- تبير: جبل بمكّة. و المعنى: ليشرق شعاع الشمس على ثبير حتّى نغير على الأعداء.
2- البقرة: 180.

[101] سورة القارعة

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأها ثقّل اللّه بها ميزانه يوم القيامة».

عمرو بن ثابت عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ القارعة آمنه اللّه من فتنة الدجّال أن يؤمن به، و من قيح جهنّم يوم القيامة».

و اعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها اتّصال النظير بالنظير، لأنّ كلتيهما في ذكر القيامة.

[سورة القارعة [101]: الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ [1] مَا الْقارِعَةُ [2] وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [3] يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [4]

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [5] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [6] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [7] وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [8] فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [9]

وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ [10] نارٌ حامِيَةٌ [11]

ص: 497

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْقارِعَةُ اسم من أسماء القيامة، لأنّها تقرع القلوب بالفزع، و تقرع أعداء اللّه بالعذاب.

ثمّ عظّم شأنها و هوّل أمرها بقوله: مَا الْقارِعَةُ أيّ شي ء القارعة وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ أي: لا تعلم حقيقة أمرها و كنه وصفها على التفصيل، و إنّما تعلمها على الإجمال. و قد سبق مزيد البحث فيها في الحاقّة (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّها متى تكون، فقال: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ نصب بمضمر دلّت عليه القارعة، أي: تقرع يوم يكون الناس كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ في كثرتهم و ذلّتهم و حقارتهم و انتشارهم و اضطرابهم، لفزعهم عند البعث، فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة. و هذا مثل قوله: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (2). و سمّي الفراش فراشا لتفرّشه و انتشاره على أنحاء مختلفة.

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المصبغ ألوانا، لأنّها ألوان الْمَنْفُوشِ المندوف، لتفرّق أجزائها و تطايرها في الجوّ.

فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بأن ترجّحت مقادير أنواع حسناته. جمع موزون، و هو العمل الّذي له وزن و خطر عند اللّه. أو جمع ميزان. و ثقلها: رجحانها. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ذات رضا، أي: مرضيّة.

وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها، أو ترجّحت سيّئاته على حسناته. و القول في تحقيق الوزن و الميزان و الاختلاف في ذلك قد مرّ في الأعراف (3). فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فمأواه النار. و هي مأخوذة من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه، لأنّه إذا هوى- أي: سقط و هلك- فقد هوت أمّه ثكلا

ص: 498


1- راجع ص 158.
2- القمر: 7.
3- راجع ج 2 ص 496، ذيل الآية 9 من سورة الأعراف.

و حزنا. فكأنّه قيل: و أمّا من خفّت موازينه فقد هلك.

و قيل: هي من أسماء طبقة النار العميقة، لهويّ أهل النار فيها مهوى بعيدا، كما

روي: «يهوى فيها سبعين خريفا»

أي: فمأواه النار البعيدة العمق جدّا. و قيل للمأوى أمّ على التشبيه، لأنّ الأمّ مأوى الولد و مفزعه.

و عن قتادة: «فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنّم، لأنّه يطرح فيها منكوسا.

ثمّ قال تفخيما لأمرها: وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ الضمير للهاوية. و الهاء للسكت.

و قد أجيز إثباتها مع الوصل، لأنّها ثابتة في المصحف. و قرأ حمزة بغير الهاء حين الوصل. نارٌ حامِيَةٌ ذات حمى شديدة الحرارة.

ص: 499

ص: 500

[102] سورة التكاثر

اشارة

مختلف فيها. و هي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من قرأها لم يحاسبه اللّه بالنعيم الّذي أنعم عليه في دار الدنيا، و أعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية».

شعيب العقرقوفي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة «ألهاكم التكاثر» في فريضة كتب له ثواب و أجر مائة شهيد، و من قرأها في نافلة كان له ثواب خمسين شهيدا، و صلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة».

و عن درست عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» عند النوم وقي فتنة القبر».

[سورة التكاثر [102]: الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [1] حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [2] كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [3] ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [4]

كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [5] لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [6] ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [7] ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [8]

ص: 501

و لمّا أخبر سبحانه في سورة القارعة عن صفة القيامة، ذكر في هذه السورة من شغلته عنها زخارف الدنيا و التفاخر بها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلْهاكُمُ شغلكم عن طاعة اللّه و عن ذكر الآخرة.

و أصله الصرف إلى اللهو. منقول من: لهى إذا غفل. التَّكاثُرُ التباهي بكثرة الأموال و الأولاد و التفاخر.

حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي: إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات. عبّر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكّما، فإنّ الزيارة الحقيقيّة لم تكن موجودة.

روي: أنّ بني عبد مناف و بني سهم تفاخروا بكثرة عدد الأقارب و العشائر، فكثّرهم بنو عبد مناف. فقال بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهليّة، فعادّونا بالأحياء و الأموات، فكثّرهم بنو سهم.

و قيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان و هذا قبر فلان عند تفاخرهم. و المعنى: ألهاكم ذلك التكاثر- و هو ممّا لا يعنيكم، و لا يجدي عليكم في دنياكم و آخرتكم- عمّا يعنيكم من أمر الدين الّذي هو أهمّ و أعنى من كلّ مهمّ.

و إنّما حذف الملهيّ عنه- و هو ما يعنيهم من أمر الدين- للتعظيم و المبالغة.

و قيل: معناه: ألهاكم التكاثر بالأموال و الأولاد إلى أن متّم و قبرتم، مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا عمّا هو أهمّ لكم، و هو السعي لأخراكم. فيكون زيارة القبر عبارة عن الموت.

كَلَّا ردع و تنبيه على أنّ العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همّه و معظم سعيه للدنيا، فإنّ عاقبة ذلك و بال و حسرة و سَوْفَ تَعْلَمُونَ خطأ رأيكم إذا عاينتم ما قدّامكم من أهوال الآخرة. و هو إنذار ليخافوا و ينتبهوا من غفلتهم.

ص: 502

ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكرير لتأكيد الردع و الإنذار عليهم. و في «ثمّ» دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل و أشدّ، كما تقول للمنصوح:

أقول لك ثمّ أقول لك لا تفعل. أو الأوّل عند الموت أو في القبر، و الثاني عند النشور.

عن زرّ بن حبيش عن عليّ عليه السّلام قال: «ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» إلى قوله: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» يريد في القبر «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» بعد البعث».

ثمّ كرّر التنبيه لمزيد الإيقاظ عن رقدة الجهل و الغفلة، فقال: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين- أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور الّتي وكلتم بعلمها هممكم- لشغلكم علم ذلك عن غيره، أو لفعلتم ما يوجب فوزكم ممّا لا يوصف و لا يكتنه، و لكنّكم ضلّال جهلة. فحذف الجواب للتفخيم. و لا يجوز أن يكون قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جوابا، لأنّه محقّق الوقوع.

فهو جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد، و أوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه، و قد مرّ ما في إيضاح الشي ء بعد إبهامه من تفخيمه و تعظيمه. و قرأ ابن كثير و الكسائي بضمّ التاء.

ثُمَّ لَتَرَوُنَّها كرّره معطوفا ب «ثمّ» تغليظا في التهديد و زيادة في التهويل. أو الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، و الثانية إذا وردوها. عَيْنَ الْيَقِينِ أي: الرؤية الّتي هي نفس اليقين، فإنّ علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.

ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ الّذي ألهاكم. قيل: الخطاب مخصوص بالكفّار. و قيل: بكلّ من ألهاه دنياه عن دينه. و المراد بالنعيم ما يشغله عن العلوم المفروضة الدينيّة و الأعمال الواجبة الشرعيّة، للقرينة، فإنّ من تمتّع بنعمة اللّه و أرزاقه الّتي لم يخلقها إلّا لعباده- لقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ

ص: 503

لِعِبادِهِ (1) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (2)- و تقوّى بها على دراسة العلم و القيام بالعمل، و كان ناهضا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل. و قيل: يعمّ كلّ متنعّم، إذ كلّ يسأل عن شكره.

و عن قتادة: إنّ اللّه سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه.

و عن عكرمة: النعيم: الصحّة و الفراغ. و يعضده ما

رواه ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة، و الفراغ».

و عن عبد اللّه بن مسعود و مجاهد:

هو الأمن و الصحّة. و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: يسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه الحديث، و هو قوله: «ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسدّ بها جوعته، أو بيت يكنّه من الحرّ و البرد».

و روي: أنّ بعض الصحابة أضاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جماعة من أصحابه، فوجدوا عنده تمرا و ماء باردا فأكلوا، فلمّا خرجوا قال: «هذا من النعيم الّذي تسألون عنه».

و روى العيّاشي بإسناده في حديث طويل قال: «سأل أبو حنيفة أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك؟

قال: القوت من الطعام، و الماء البارد.

فقال: لئن أوقفك اللّه يوم القيامة بين يديه حتّى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها و شربة شربتها، ليطولنّ وقوفك بين يديه.

قال: فما النعيم؟.

ص: 504


1- الأعراف: 32.
2- البقرة: 57.

قال: نحن أهل البيت النعيم الّذي أنعم اللّه بنا على العباد، و بنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، و بنا ألّف اللّه بين قلوبهم و جعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، و بنا هداهم اللّه للإسلام، و هي النعمة الّتي لا تنقطع، و اللّه سائلهم عن حقّ النعيم الّذي أنعم به عليهم، و هو النبيّ و عترته عليهم السّلام».

ص: 505

ص: 506

[103] سورة العصر

اشارة

مكّيّة. و هي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأها ختم اللّه له بالصبر، و كان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و العصر في نوافله بعثه اللّه يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنّه، قريرة عينه، حتّى يدخل الجنّة».

[سورة العصر [103]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعَصْرِ [1] إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [2] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ [3]

و لمّا ختم اللّه السورة المتقدّمة بوعيد من ألهاه التكاثر، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، و هو أنّ الإنسان لفي خسر إلّا المؤمن الصالح، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْعَصْرِ أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله: وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (1). و هي صلاة العصر،

لقوله عليه السّلام: «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله».

و لأنّ التكليف في أدائها أشقّ، لتهافت الناس في تجاراتهم

ص: 507


1- البقرة: 238.

و مكاسبهم آخر النهار. و قال عليه السّلام: «أفضل الأعمال أحمزها».

أو بوقت العشيّ، و هو الطرف الأخير من النهار، لما في ذلك من الدلالة على وحدانيّة اللّه تعالى بإدبار النهار و إقبال الليل، و ذهاب سلطان الشمس، كما أقسم بالضحى، و هو الطرف الأوّل من النهار، لما فيه من حدوث سلطان الشمس و إقبال النهار، و أهل الملّتين يعظّمون هذين الوقتين.

أو بعصر النبوّة، أو بالدهر، لاشتماله على أصناف الأعاجيب، و للتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.

إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إنّ الناس لفي خسران في مساعيهم، و صرف أعمارهم في معايشهم. و التعريف للجنس. و التنكير للتعظيم و التكثير.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنّهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا و فازوا بالحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، بخلاف من عداهم، فإنّهم بالتجارة الدنيويّة الفانية وقعوا في الخسارة و الشقاوة.

وَ تَواصَوْا بِالْحَقِ بالأمر الثابت الّذي لا يصحّ إنكاره، من اعتقاد أو عمل عقلا و نقلا. و هو كتوحيد اللّه و طاعته، و اتّباع كتبه و رسله، و الزهد في الدنيا، و الرغبة في الآخرة.

وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ عن المعاصي، أو على الحقّ، أو على ما يبلو اللّه به عباده. و هذا من عطف الخاصّ على العامّ للمبالغة، إلّا أن يخصّ العمل بما يكون مقصورا على كماله. و لعلّه سبحانه إنّما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود، و إشعارا بأنّ ما عدا ما عدّ يؤدّي إلى خسر و خفض حظّ، أو تكرّما، فإنّ الإبهام في جانب الخسر كرم.

و في هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن. ألا ترى أنّها مع قلّة حروفها تدلّ على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين علما و عملا. و في وجوب التواصي بالحقّ و الصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الدعاء إلى التوحيد و العدل، و أداء الواجبات، و الاجتناب عن المقبّحات.

ص: 508

[104] سورة الهمزة

اشارة

مكّيّة. و هي تسع آيات بالإجماع.

و في حديث أبيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من استهزأ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ» في فرائضه نفت عنه الفقر، و جلبت عليه الرزق، و تدفع عنه ميتة السوء».

[سورة الهمزة [104]: الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [1] الَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ [2] يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ [3] كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [4]

وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ [5] نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [6] الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [7] إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [8] فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [9]

و لمّا أجمل سبحانه في سورة العصر أنّ الإنسان لفي خسر، فصّل في هذه السورة تلك الجملة، فقال:

ص: 509

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمز: الكسر، كالهزم.

و منه: الهزيمة. و اللمز: الطعن، كاللهز. يقال: لمزه و لهزه: طعنه. فشاعا في الكسر من أعراض الناس و الطعن فيهم. و عن سعيد بن جبير و قتادة: الهمزة: المغتاب، و اللمزة: الطعّان. و عن ابن زيد: الهمزة: الّذي يهمز الناس بيده و يضربهم، و اللمزة:

الّذي يلمزهم بلسانه و بعينه. و عن الحسن و عطاء: الهمزة: الّذي يطعن في الوجه بالعيب، و اللمزة: الّذي يغتاب عند الغيبة. و بناء فعلة على الاعتياد، فلا يقال:

ضحكة و لعنة إلّا للمكثر المتعوّد.

و نزولها في الأخنس بن شريق، فإنّه كان مغتابا، و له أربعة آلاف دينار.

و قيل: عشرة آلاف. و قيل: في الوليد بن المغيرة و اغتيابه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

في اميّة بن خلف. و يجوز أن يكون السبب خاصّا و الوعيد عامّا، ليتناول كلّ من باشر ذلك القبيح.

الَّذِي جَمَعَ مالًا من غير حلّه. بدل من «كلّ». أو ذمّ منصوب أو مرفوع.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بالتشديد، للتكثير. و هو مطابق لقوله: وَ عَدَّدَهُ و عدّه مرّة بعد اخرى، و أحصاه مرارا لكثرة حبّه له. أو جعله عدّة للنوازل. أو جمع و عدّد ماله و قومه الّذين ينصرونه. من قولك: فلان ذو عدد و عدد، إذا كان له عدد وافر من الأنصار و ما يصلحهم. فطوّل حبّ المال و الأهل أمله، و منّاه الأماني البعيدة، حتّى أصبح لفرط غفلته و طول أمله يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ تركه خالدا في الدنيا لا يموت أبدا، فأحبّه كما يحبّ الخلود. فعمل عمل من لا يظنّ الموت، من تشييد البنيان الموثق بالصخر و الآجرّ، و غرس الأشجار، و عمارة الأرض و غيرها. و فيه تعريض بأنّ المخلّد هو السعي للآخرة.

كَلَّا ردع له عن حسبانه لَيُنْبَذَنَ ليطرحنّ. من: النبذ بمعنى الطرح.

فِي الْحُطَمَةِ في النار الّتي من شأنها أن تحطم كلّ ما يطرح فيها. و يقال للرجل

ص: 510

الأكول: إنّه لحطمة، لكسره المأكولات. و عن مقاتل: و هي تحطم العظام، و تأكل اللحوم، حتّى تهجم على القلوب.

ثمّ قال تفخيما لأمرها: وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ما النار الّتي لها هذه الخاصّية نارُ اللَّهِ تفسير لها الْمُوقَدَةُ أي: النار الّتي أوقدها اللّه، و ما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي: تعلو أوساط القلوب، و تشتمل عليها. و تخصيصها بالذكر لأنّ الفؤاد ألطف ما في البدن، و أشدّه تألّما بأدنى أذى يمسّه، فكيف إذا أطلعت عليه نار جهنّم و استولت عليه؟! أو لأنّها محلّ العقائد الزائغة، و النيّات الخبيثة، و منشأ الأعمال القبيحة.

إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ مطبقة. من: أوصدت الباب إذا أطبقته.

قال:

تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي و من دونها أبواب صنعاء مؤصدة

فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي: موثّقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر (1) الّتي تقطر فيها اللصوص. أو المعنى: توصد عليهم الأبواب، و تمدّد على الأبواب العمد، استيثاقا في استيثاق. و ذلك لتأكيد يأسهم من الخروج، و تيقّنهم بحبس الأبد. و قرأ الكوفيّون غير حفص بضمّتين.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ الكفّار و المشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار، و يقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا، و ما نحن و أنتم إلّا سواء. قال: فيأنف لهم الربّ تعالى، فيقول للملائكة: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء اللّه. ثمّ يقول للنبيّين:

اشفعوا، فيشفعون لمن شاء اللّه. ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء اللّه.

و يقول اللّه: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي، فيخرجون كما يخرج الفراش.

قال: ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: ثمّ مدّت العمد، فأوصدت عليهم، و كان و اللّه الخلود».

ص: 511


1- المقاطر جمع المقطرة: الفلق. و هي: خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المسجونين.

ص: 512

[105] سورة الفيل

اشارة

مكّيّة. و هي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «من قرأها عافاه اللّه أيّام حياته من القذف و المسخ».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ في فرائضه «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ» شهد له يوم القيامة كلّ سهل و جبل و مدر بأنّه كان من المصلّين، و ينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له أو عليه، أدخلوا عبدي الجنّة و لا تحاسبوه، فإنّه ممّن أحبّه و أحبّ عمله. و من أكثر قراءة «لإيلاف قريش» بعثه اللّه يوم القيامة على مركب من مراكب الجنّة، حتّى يقعد على موائد النور يوم القيامة».

[سورة الفيل [105]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [1] أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [2] وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [3] تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [4]

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [5]

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الهمزة ما أعدّ من العذاب لمن عاب الناس

ص: 513

و اغتابهم و ركن إلى الدنيا، بيّن في هذه السورة ما فعله بأصحاب الفيل من عذاب الاستئصال، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو و إن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها، و سمع بالتواتر أخبارها، فكأنّه رآها. و إنّما قال: «كيف» و لم يقل: «ما» لأنّ المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم اللّه و قدرته، و عزّة نبيّه، و شرف رسوله، فإنّها من الإرهاصات (1)، إذ روي عن أكثر العلماء أنّها وقعت في السنة الّتي ولد فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و عن عائشة: رأيت قائد الفيل و سائسه بمكّة أعميين مقعدين يستطعمان.

و قصّتها: أنّ ملك اليمن قصد هدم الكعبة، و هو أبرهة بن الصباح الأشرم.

و قيل: كنيته أبو يكسوم. قال الواقدي: هو صاحب أصحمة النجاشي، جدّ النجاشي الّذي كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: أقبل تبّع (2) حتّى نزل على المدينة، فنزل بوادي قبا، فحفر بها بئرا تدعى اليوم بئر الملك. قال: و بالمدينة إذ ذاك يهود و الأوس و الخزرج، فقاتلوه، و جعلوا يقاتلونه بالنهار فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة. فاستحيا و أراد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح، و خرج إليه من اليهود بنيامين القرظي.

فقال له احيحة: أيّها الملك نحن قومك.

و قال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها و لو جهدت.

قال: و لم؟

قال: لأنّها منزل نبيّ من الأنبياء يبعثه اللّه من قريش.

ص: 514


1- أي: من المبشّرات و المنبئات بمجي ء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
2- التبّع: لقب ملوك اليمن.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان من مكّة على ليلتين بعث اللّه عليه ريحا قصفت يديه و رجليه، و شنجت جسده، فأرسل إلى من معه من اليهود فقال: ويحكم ما هذا الّذي أصابني؟

قالوا: حدّثت نفسك بشي ء؟

قال: نعم. و ذكر ما أجمع عليه من هدم البيت و إصابة ما فيه.

قالوا: ذلك بيت اللّه الحرام، و من أراده هلك.

قال: ويحكم و ما المخرج ممّا دخلت فيه؟

قالوا: تحدّث نفسك بأن تطوف به، و تكسوه، و تهدي له. فحدّث نفسه بذلك، فأطلقه اللّه. ثمّ سار حتّى دخل مكّة، فطاف بالبيت، و سعى بين الصفا و المروة، و كسا البيت.

و ذكر الحديث في نحره بمكّة، و إطعامه الناس، ثمّ رجوعه إلى اليمن، و قتله، و خروج ابنه إلى قيصر، و استغاثته به فيما فعل قومه بأبيه، و أنّ قيصر كتب له إلى النجاشيّ، و أنّ النجاشي بعث له ستّين ألفا، و استعمل عليهم روزبه حتّى قاتلوا حمير قتلة أبيه، و دخلوا صنعاء فملكوها و ملكوا اليمن.

و كان في أصحاب روزبه رجل يقال له: أبرهة، و هو أبو يكسوم. فقال لروزبه: أنا أولى بهذا الأمر منك، و قتله مكرا، و أرضى النجاشيّ.

ثمّ إنّه بنى كنيسة بصنعاء، و سمّاه القلّيس، و جعل فيها قبابا من ذهب، و أمر أهل مملكته بالحجّ إليها، يضاهي (1) بذلك البيت الحرام، و أراد أن يصرف إليها الحاجّ. و إنّ رجلا من بني كنانة خرج حتّى قدم اليمن، فنظر إليها ثمّ قعد فيها ليلا، يعني: لحاجة الإنسان. فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ عليّ بهذا، و نصرانيّتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاجّ أبدا. و قيل: أجّجت رفقة

ص: 515


1- أي: يشابه و يشاكل.

من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقتها. فحلف: ليهدمنّ الكعبة. فخرج و معه فيل اسمه: محمود، و كان قويّا عظيما، و اثنا عشر فيلا غيره. و قيل: ثمانية. و قيل: كان معه ألف فيل. و كان وحده، و أذّن في قومه بالخروج و من اتّبعه من أهل اليمن، و كان أكثر من اتّبعه منهم عكّ و الأشعرون و خثعم.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حجّ بيته الّذي بناه، فتلقّاه رجل من الحمس (1) من بني كنانة فقتله.

فازداد بذلك حنقا، و حثّ السير و الانطلاق، و طلب من أهل الطائف دليلا، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له: نفيل، فخرج بهم يهديهم حتّى إذا كانوا بالمغمس نزلوه، و هو من مكّة على ستّة أميال، فبعثوا مقدّماتهم إلى مكّة. فخرجت قريش عباديد (2) في رؤوس الجبال، و قالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم. و لم يبق بمكّة غير عبد المطّلب بن هاشم، أقام على سقايته، و غير شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت. فجعل عبد المطّلب يأخذ بعضادتي الباب ثمّ يقول:

لا همّ إنّ المرء

يمنع رحله فامنع حلالك (3)

لا يغلبنّ صليبهم

و محالهم (4) عدوا محالك

إن كنت تاركهم و كعبتنا

فأمر ما بدا لك

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

ثمّ إنّ مقدّمات أبرهة أصابت نعما لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطّلب بن هاشم. فلمّا بلغه ذلك خرج حتّى انتهى إلى القوم، و كان حاجب

ص: 516


1- الحمس جمع الأحمس، و هو المشتدّ الصلب في القتال، و الشجاع.
2- أي: خرجوا متفرّقين. و العباديد الفرق من الناس.
3- أي: سكّان حرمك الّذين حلّوا فيه.
4- المحال: الكيد، المكر، الشدّة و القوّة.

أبرهة رجلا من الأشعرين، و كانت له بعبد المطّلب معرفة، فاستأذن له على الملك، و قال له: أيّها الملك جاءك سيّد قريش الّذي يطعم إنسها في الحيّ، و وحوشها في الجبل. فقال: ائذن له. و كان عبد المطّلب رجلا جسيما جميلا، فلمّا رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته، و كره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره فجلس على الأرض، و أجلس عبد المطّلب معه. ثمّ قال: ما حاجتك؟

قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدّمتك.

فقال أبو يكسوم: و اللّه لقد رأيتك فأعجبتني، ثمّ تكلّمت فزهدت فيك.

فقال: و لم أيّها الملك؟

قال: لأنّي جئت إلى بيت عزّكم و منعتكم من العرب، و فضلكم في الناس، و عصمتكم و شرفكم عليهم، و دينكم الّذي تعبدون، فجئت لأكسره، و أصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلّمتني في إبلك، و لم تطلب إليّ في بيتكم.

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك أنا أكلّمك في مالي، و لهذا البيت ربّ هو يمنعه، لست أنا منه في شي ء.

فراع ذلك أبا يكسوم، و أمر بردّ إبل عبد المطّلب عليه. ثمّ رجع، و أمست ليلتهم تلك ليلة كالحة (1) نجومها، كأنّها تكلمهم (2)، لاقترابها منهم، فأحسّت نفوسهم بالعذاب. و خرج دليلهم حتّى دخل الحرم و تركهم. و قام الأشعرون و خثعم فكسروا رماحهم و سيوفهم، و برئوا إلى اللّه أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك أخبث ليلة. ثمّ أدلجوا (3) بسحر، فبعثوا فيلهم و قدّموه يريدون أن يصبحوا بمكّة،

ص: 517


1- أي: مستترة في الغمامة، مطموسا ضوءها. و هو استعارة تمثيليّة مركّبة، يصف ليلتهم تلك و بؤسها بوجه كالح، أي عبوس، كأنّ نجوم الليل من شدّة الدواهي كالحة.
2- أي: تجرحهم. من: كلم الرجل: جرحه.
3- أدلج القوم: ساروا الليل كلّه، أو في آخره.

فوجّهوه إلى مكّة، فكانوا كلّما وجّهوه إلى الحرم برك (1)، فضربوه فتمرّغ و لم يبرح.

ثمّ إنّهم أقبلوا على الفيل فقالوا: لك اللّه أن لا نوجّهك إلى مكّة. فانبعث، فوجّهوه إلى اليمن راجعا، فتوجّه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقا حتّى إذا ردّوه إلى مكانه الأوّل ربض (2)، فلمّا رأوا ذلك عادوا إلى القسم. فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتّى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة من جانب اليمن. فالتفت إليها عبد المطّلب و هو يدعو عليهم، فقال: و اللّه إنّها لطير غريبة، ما هي بنجديّة و لا تهاميّة. فجعلت ترميهم، و كلّ طائر في منقاره حجر، و في رجليه حجران، و إذا رمت بذلك مضت و طلعت اخرى، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه، و لا عظم إلّا أوهاه و ثقبه.

و ثاب (3) أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلّما قدم أرضا انقطع له فيها إرب (4)، حتّى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شي ء إلّا أباده. فلمّا قدمها تصدّع صدره و انشقّ بطنه، فهلك. و لم يصب من خثعم و الأشعرين أحد.

قال: و كان عبد المطّلب يرتجز و يدعو على الحبشة، يقول:

يا ربّ لا أرجو لهم سواكايا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكاإنّهم لن يقهروا قواكا

قال: و لم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك.

و روى العيّاشي بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أرسل

ص: 518


1- برك البعير استناخ، و هو: أن يلصق صدره بالأرض. تمرّغ الحيوان: رشّ اللعاب من فيه. و تمرّغ في التراب: تقلّب.
2- ربضت الدابّة: بمعنى: بركت الإبل.
3- ثاب ثوبا: عاد.
4- الإرب: العضو. و جمعه: آراب.

اللّه على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطّاف أو نحوه، في منقاره حجر مثل العدسة».

مخطّطة بحمرة كالجزع (1) الظفاري. و قيل: كانت أكبر من العدسة، و أصغر من الحمّصة.

و قال عبد اللّه بن مسعود: صاحت الطير فرمتهم بالحجارة، فبعث اللّه ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، و إن وقع على رأسه خرج من دبره، فلم يزل بهم حتّى أتت عليهم. قال:

فأفلت الرجل منهم، فجعل يخبر الناس بالقصّة، فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا منها، فقال: هذا هو منها. قال: فحاذى فطرحه على رأسه فخرج من دبره.

و قال عبيد بن عمير الليثي: لمّا أراد اللّه أن يهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنّها الخطاطيف (2)، كلّ طير منها معه ثلاثة أحجار، ثمّ جاءت حتّى صفّت على رؤوسهم، ثمّ صاحت و ألقت ما في أرجلها و مناقيرها، فما من حجر وقع منها على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، و إن وقع على رأسه خرج من دبره، و إن وقع على شي ء من جسده خرج من الجانب الآخر.

و عن عكرمة عن ابن عبّاس، قال: دعا اللّه الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلمّا حاذت بهم رمتهم، فما بقي أحد منهم إلّا أخذته الحكّة، فكان لا يحكّ إنسان منه جلده إلّا تساقط لحمه. قال: و كانت الطير نشأت من قبل البحر، لها خراطيم الطيور و رؤوس السباع، لم تر قبل ذلك و لا بعده.

و عن ابن عبّاس: لها خراطيم كخراطيم الطير، و أكفّ كأكفّ الكلاب. و عن الربيع: لها أنياب كأنياب السباع. و قيل: طير خضر لها مناقير صفر. و قيل: طير سود

ص: 519


1- الجزع: خرز فيه سواد و بياض. و ظفار مدينة ببلاد عمان.
2- الخطاطيف جمع الخطّاف: طائر يشبه السنونو، طويل الجناحين، قصير الرجلين، أسود اللون.

بحريّة، تحمل في مناقيرها و أكفّها الحجارة.

و روي: أنّ عبد المطّلب قبل ظهور الطيور عرض على أبرهة ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى، فلمّا استأصلوا بحجارة الطيور احتوت أهل مكّة على أموالهم، و جمع عبد المطّلب من جواهرهم و ذهبهم الجورّ (1)- أي: المال الكثير استعارة- و كان سبب يساره.

و عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن الطير، فقال: حمام مكّة منها. و قيل:

جاءت عشيّة ثمّ صبّحتهم.

و عن عكرمة: من أصابته جدّرته. و هو أوّل جدريّ ظهر.

و حكى اللّه سبحانه هذه القصّة إجمالا، تنبيها لقريش، و تهديدا لهم، فقال:

أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تعطيل الكعبة و تخريبها فِي تَضْلِيلٍ في تضييع و إبطال.

يقال: ضلّل كيده إذا جعله ضالّا ضائعا. و نحوه قوله تعالى: وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (2). و قيل لامرئ القيس: الملك الضليل، لأنّه ضلّل ملك أبيه، أي: ضيّعه.

يعني: أنّهم كادوا البيت أوّلا ببناء القلّيس، و أرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاجّ إليه، فضلّل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، و كادوه ثانيا بإرادة هدمه، فضلّل بإرسال الطير عليهم، كما قال:

وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ جماعات. جمع إبالة، و هي الحزمة الكبيرة.

شبّهت بها الجماعة من الطير في تضامّها. و قيل: لا واحد لها، كعباديد (3) و شماطيط.

تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ من طين مطبوخ متحجّر، كما يطبخ الآجرّ.

معرّب سنك كل. و قيل: من السّجل، و هو الدلو الكبير. أو الإسجال، و هو الإرسال.

ص: 520


1- الجورّ: الكثير الّذي جاوز الحدّ و العادة.
2- غافر: 25.
3- العباديد و الشماطيط: الفرق من الناس.

أو من السجلّ. و معناه: من جملة العذاب المكتوب المدوّن. كأنّه علم للديوان الّذي كتب فيه عذاب الكفّار، كما أنّ سجّينا علم لديوان أعمالهم.

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع وقع فيه الأكال، و هو أن يأكله الدود.

أو كتبن أكلته الدوابّ وراثته (1). أو أكل حبّه فبقي صفرا منه.

ص: 521


1- راث الفرس: مثل: تغوّط الرجل.

ص: 522

[106] سورة قريش

اشارة

مكّيّة. و هي أربع آيات.

و في حديث أبيّ: «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من طاف بالكعبة و اعتكف بها».

و روى العيّاشي بإسناده عن المفضّل بن صالح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

سمعته يقول: «لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة، إلّا الضحى و ألم نشرح، و ألم تر كيف و لإيلاف قريش».

و عن أبي العبّاس عن أحدهما عليهما السّلام قال: «ألم تر كيف فعل ربّك، و لإيلاف قريش سورة واحدة».

و روي: أنّ أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه.

و قال عمرو بن ميمون الأزدي: صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطّاب، فقرأ في الأولى و التين و الزيتون، و في الثانية ألم تر كيف و لإيلاف قريش.

[سورة قريش [106]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [1] إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ [2] فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ [3] الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [4]

ص: 523

و لمّا ذكر سبحانه عظيم نعمته على أهل مكّة بما صنعه بأصحاب الفيل، قال عقيب ذلك:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لِإِيلافِ قُرَيْشٍ متعلّق بقوله: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ». و الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: أنّ نعم اللّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ أي: الرحلة في الشتاء إلى اليمن- لأنّها بلدة حارّة- و في الصيف إلى الشام، لأنّها بلدة باردة، فيمتارون و يتّجرون. و كانوا في رحلتيهم آمنين، لأنّهم أهل حرم اللّه و ولاة بيته، فلا يتعرّض لهم، و غيرهم يتخطّفون و يغار عليهم.

أو بمحذوف (1)، مثل: اعجبوا. أو بما قبله، كالتضمين في الشعر، و هو أن يتعلّق معنى البيت بالّذي قبله تعلّقا لا يصحّ إلّا به. و المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. و يؤيّده أنّهما في مصحف أبيّ سورة واحدة.

و المعنى: أنّه أهلك الحبشة الّذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيّبوهم زيادة تهيّب، و يحترموهم فضل احترام، حتّى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، فلا يجترئ أحد عليهم.

و الإيلاف من قولهم: آلفت المكان أولفه إيلافا إذا ألفته، فأنا مؤلف.

و قريش ولد النضر بن كنانة. منقول من تصغير قرش، و هو دابّة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، فلا تطاق إلّا بالنار. فشبّهوا بها، لأنّها تأكل و لا تؤكل، و تعلو و لا تعلى.

و عن معاوية: أنّه سأل ابن عبّاس لم سمّيت قريش؟ قال: لدابّة تكون في البحر من أعظم دوابّه، يقال لها: قريش، لا تمرّ بشي ء من الغثّ و السمين إلّا أكلته.

و صغّر الاسم للتعظيم.

ص: 524


1- عطف على قوله: متعلّق بقوله ...، في بداية الفقرة السابقة.

و قيل: من القرش، و هو الكسب، لأنّهم كانوا كسّابين بتجاراتهم و ضربهم في البلاد، و لم يكونوا أصحاب ضرع و لا زرع.

و أطلق الإيلاف ثمّ أبدل المقيّد عنه، تفخيما لأمر الإيلاف، و تذكيرا بعظيم النعمة فيه. و قرأ ابن عامر: لإلاف، بغير ياء بعد الهمزة. و نصب «رحلة» بأنّه مفعول به ل «إيلافهم»، كما نصب «يتيما» ب «إطعام» (1).

و روي: أنّ أوّل من حمل الميرة (2) من الشام، و رحّل إليها الإبل، هاشم بن عبد مناف.

فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ بالرحلتين. و التنكير للتعظيم، أي: أطعمهم بالرحلتين: من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، حتّى كانوا يأكلون فيه الجيف و العظام المحرقة و الأرواث وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ خوف أصحاب الفيل. أو خوف التخطّف في بلدهم و مسايرهم. و قيل: خوف الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم. و قيل: كلّ ذلك بدعاء إبراهيم على نبيّنا و عليه السّلام.

ص: 525


1- البلد: 14- 15.
2- الميرة: الطعام الّذي يدّخره الإنسان.

ص: 526

[107] سورة أ رأيت

اشارة

و تسمّى سورة الماعون. مكّيّة، مختلف فيها. و هي سبع آيات.

و في حديث أبيّ: «من قرأ هذه السورة غفر اللّه له إن كان للزكاة مؤدّيا».

عمرو بن ثابت عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ «أ رأيت الّذي يكذّب بالدين» في فرائضه و نوافله قبل اللّه صلاته و صيامه، و لم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا».

[سورة الماعون [107]: الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [1] فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [2] وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [3] فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [4]

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [5] الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ [6] وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ [7]

و لمّا ذكر سبحانه نعمته على قريش، عجّب في هذه السورة من تكذيبهم مع عظيم النعمة عليهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَ رَأَيْتَ استفهام في معنى التعجّب، أي: هل عرفت الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ بالجزاء أو الإسلام من هو؟ إن لم تعرفه فَذلِكَ الَّذِي

ص: 527

يَدُعُّ الْيَتِيمَ يدفعه دفعا عنيفا بجفوة و أذى، و يردّه ردّا قبيحا بزجر و خشونة. و هو أبو جهل، كان وصيّا ليتيم فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه. أو أبو سفيان، نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه. أو الوليد بن المغيرة. أو منافق بخيل.

وَ لا يَحُضُ و لا يبعث أهله و غيرهم عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ على بذله، لعدم اعتقاده بالجزاء، و لذلك رتّب الجملة على تكذيب الجزاء بالفاء. يعني: أنّه لو آمن بالجزاء و أيقن بالوعيد لخشى اللّه و عقابه، و لم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه علم أنّه مكذّب.

ثمّ وصل به قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ كأنّه قال: إذا كان الأمر كذلك فويل للمصلّين الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي: تاركوها مع أنّها عماد الدين، لقلّة مبالاتهم بها حتّى تفوتهم. أو لا يصلّونها كما صلّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل ينقرونها نقرا من غير حفظ أركانها و شرائطها و آدابها، من خشوع و إخبات.

و قيل: يريد المنافقين الّذين لا يرجون لها ثوابا إن صلّوا، و لا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتّى يذهب وقتها، فإذا كانوا مع المؤمنين صلّوها رياء، و إذا لم يكونوا معهم لم يصلّوا.

و عن أبي أسامة، عن زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ». قال: «هو الترك لها، و التواني عنها».

و عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «هو التضييع لها».

الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليها، فإنّ المراآة مفاعلة من الإراءة، و المرائي يري الناس عمله، و هم يرونه الثناء عليه و الإعجاب به. و عن بعضهم: أنّه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر و أطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. و إنّما قال هذا لأنّه توسّم فيه الرياء و السمعة. على أنّ اجتناب الرياء صعب إلّا على المرتاضين بالإخلاص. و من ثمّ

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الرياء

ص: 528

أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح (1) الأسود».

وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ الزكاة. أو ما يتعاوره الناس بينهم في العادة، من الفأس و القدر و الدلو و المقدحة، و نحوها من ماء و نار و ملح. و روي ذلك مرفوعا.

و قد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار، و قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. و الحاصل أنّ الفاء جزائيّة.

و المعنى: إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين، و الموجب للذمّ و التوبيخ، فالسهو عن الصلاة الّتي هي عماد الدين، و الرياء الّذي هو شعبة من الكفر، و منع الزكاة الّتي هي قنطرة الإسلام، أحقّ بذلك. و لذلك رتّب عليها الويل.

و قيل: المعنى: فويل لهم. فوضع صفتهم موضع ضميرهم، لأنّهم كانوا مع التكذيب و ما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين، غير مزكّين أموالهم. و على هذا؛ إنّما جمع الضمير لأنّ المراد بالموصول الجنس.

و الفرق بين «عن صلاتهم» و «في صلاتهم»: أنّ معنى «عن» أنّهم ساهون عنها سهو ترك لها و قلّة التفات إليها، و ذلك فعل الكفّار و المنافقين أو الفسقة من المسلمين. و معنى «في» أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة الشيطان، و ذلك لا يكاد يخلو منه مسلم، و من ثمّ أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. و عن أنس:

الحمد للّه على أن لم يقل: في صلاتهم.

و اعلم أنّ المكلّف لا يكون مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة. فمن حقّ الفرائض الإعلان بها و تشهيرها،

لقوله عليه السّلام: «و لا غمّة (2) في فرائض اللّه»

لأنّها إعلام الإسلام و شعائر الدين، و لأنّ تاركها يستحقّ الذمّ و المقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار. و إن كان تطوّعا فحقّه أن يخفى، لأنّه ممّا لا يلام بتركه و لا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا، و إنّما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح. و كذلك البحث في الزكاة.

ص: 529


1- المسح: البلاس يقعد عليه، و الكساء من شعر.
2- أي: لا ستر و لا و إخفاء.

ص: 530

[108] سورة الكوثر

اشارة

مختلف فيها. و هي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «من قرأها سقاه اللّه من أنهار الجنّة، و أعطي من الأجر بعدد كلّ قربان قرّبه العباد في يوم عيد و يقرّبون، من أهل الكتاب و المشركين».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» في فرائضه و نوافله، سقاه اللّه يوم القيامة من الكوثر، و كان محدّثه عند محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أصل طوبى».

[سورة الكوثر [108]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [1] فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ [2] إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [3]

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الماعون تاركي الصلاة و مانعي الزكاة، ذكر في هذه السورة الحافظين على الصلاة بشرائطها، و المعطين للزكاة، فتكون مقابلة للسورة المتقدّمة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الخير المفرط الكثرة بحيث

ص: 531

لا غاية لكثرته، من خير الدارين الّذي لم يعطه أحد غيرك. فاجتمعت لك الغبطتان السنيّتان على الوجه الأكمل الأتمّ، فإنّ زنة فوعل موضوعة للمبالغة جدّا.

و قيل: الكوثر نهر في الجنّة. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأها حين أنزلت عليه فقال: «أ تدرون ما الكوثر؟ إنّه نهر في الجنّة و وعدنيه ربّي، فيه خير كثير». ثمّ قال في صفته: «أحلى من العسل، و أشدّ بياضا من اللبن، و أبرد من الثلج، و ألين من الزبد، حافّتاه الزبرجد، و أوانيه من فضّة، عدد نجوم السماء. لا يظمأ من شرب منه أبدا. أوّل وارديه فقراء المهاجرين، الدنسوا الثياب، الشعث الرؤوس، الّذين لا يزوّجون المنعّمات، و لا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم و حاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على اللّه لأبّره». أي: لو سأل اللّه أجابه.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهر في الجنّة أعطاه اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عوضا من ابنه».

و روى مسلم في الصحيح عن أنس: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى (1) إغفاء، ثمّ رفع رأسه متبسّما. فقلت: ما أضحكك يا رسول اللّه؟

قال: أنزلت عليّ آنفا سورة. فقرأ الكوثر، ثمّ قال: أ تدرون ما الكوثر؟ قلنا: اللّه و رسوله أعلم. قال: فإنّه نهر و وعدنيه عليه ربّي خيرا كثيرا، هو حوضي ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء. فيختلج (2) القرن منهم، فأقول: يا ربّ إنّهم من أمّتي. فقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (3).

و عن عكرمة: الكوثر النبوّة و القرآن. و قيل: كثرة الأصحاب و الأشياع.

و قيل: هو الشفاعة.

ص: 532


1- أي: نعس و نام نومة خفيفة.
2- أي: يجتذب و ينتزع. و القرن: الجماعة و الأمّة.
3- صحيح مسلم 1: 300 ح 53.

و عن ابن عبّاس: أنّه فسّر الكوثر بالخير الكثير. فقال له سعيد بن جبير: إنّ ناسا يقولون: هو نهر في الجنّة. فقال: هو من الخير الكثير.

و قيل: كثرة ذرّيّته من ولد فاطمة عليها السّلام حتّى لا يحصى عددهم. و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في العاص بن وائل السهمي. و ذلك أنّه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم و تحدّثا، و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلمّا دخل العاص قالوا من الّذي كنت تحدّث؟ قال:

ذلك الأبتر. و كان قد توفّي قبل ذلك عبد اللّه ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو من خديجة، و كانوا يسمّون من ليس له ابن ابتر، فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر و صنبورا، و هو الّذي لا عقب له. و اللفظ محتمل للكلّ، فيجب أن يحمل على جميع ما ذكر من الأقوال.

فَصَلِّ لِرَبِّكَ فدم على الصلاة خالصا لوجه اللّه الّذي أعزّك بإعطائه إيّاك الخير الكثير في الدارين، و صانك من منن الخلق، خلاف الساهي عنها المرائي فيها، شكرا لإنعامه، فإنّ الصلاة جامعة لأقسام الشكر وَ انْحَرْ البدن الّتي هي خيار الأموال، و تصدّق على المحاويج للّه تعالى، خلافا لهم في النحر للأوثان، و لمن يدعهم و يمنع عنهم الماعون.

و عن عطيّة: صلاة الفجر بجمع، و النحر بمنى. عن عطاء و عكرمة و قتادة:

صلاة العيد و النحر بمنى. و الأولى أن يكون جنس الصلاة و النحر.

و قيل: معناه: صلّ لربّك الصلاة المكتوبة، و استقبل القبلة بنحرك. و تقول العرب: منازلنا تتناحر، أي: هذا ينحر هذا، يعني: يستقبله.

و ما

روى العامّة عن عليّ عليه السّلام أنّ معناه: ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة.

فممّا لا يصحّ عنه، لأنّ جميع عترته الطاهرة قد رووه عنه بخلاف ذلك، و هو أنّ معناه: ارفع يديك إلى النحر في الصلاة.

ص: 533

و عن عمر بن يزيد قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في قوله: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ» هو رفع يديك حذاء وجهك». و روى عنه عبد اللّه بن سنان مثله.

و عن جميل قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ». فقال: أشار بيده هكذا، يعني: استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة».

و عن حمّاد بن عثمان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: ما النحر؟ فرفع يده إلى صدره فقال: هكذا، ثمّ رفعها فوق ذلك فقال: هكذا. يعني: استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة».

و روي عن مقاتل بن حيّان، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لمّا نزلت هذه السورة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل: ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي؟ قال: ليست بنحيرة، و لكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت، و إذا ركعت، و إذا رفعت رأسك من الركوع، و إذا سجدت، فإنّ صلاتنا و صلاة الملائكة في السماوات السبع هكذا، و إنّ لكلّ شي ء زينة، و إنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة».

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رفع الأيدي من الاستكانة. قلت: و ما الاستكانة؟ قال:

ألا تقرأ هذه الآية فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (1). أورده الثعلبي و الواحدي (2) في تفسيريهما.

إِنَّ شانِئَكَ إنّ من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم هُوَ الْأَبْتَرُ الّذي لا عقب له و لا له عاقبة خير، إذ لا يبقى له نسل و لا حسن ذكر، و أمّا أنت فتبقى ذرّيّتك الطيّبة، و حسن صيتك على المنائر و المنابر، و على لسان كلّ عالم و ذاكر إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر اللّه و يثنّى بذكرك، و لك في الآخرة ما لا يدخل تحت

ص: 534


1- المؤمنون: 76.
2- الوسيط 4: 562.

الوصف، فمثلك لا يقال له: أبتر، إنّما الأبتر هو شانئك المنسيّ في الدنيا و الآخرة، و إن ذكر ذكر باللعن.

و في هذه السورة دلالات على صدق نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّة نبوّته:

أحدها: أنّه أخبر عمّا في نفوس أعدائه من أنّ محمّدا ليس له عقب، فيموت عن قريب، و نستريح منه، و يدرس دينه، و ينقطع أمره. و لم يكن بلغه ذلك، فكان مطابقا لما أخبر.

و ثانيها: أنّه قال: «أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ». فانظر كيف انتشر دينه، و علا أمره، و كثرت ذرّيّته، حتّى صار نسبه أكثر من كلّ نسب، و لم يكن شي ء من ذلك في تلك الحال.

و ثالثها: أنّ جميع فصحاء العرب و العجم قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها، مع تحدّيه إيّاهم بذلك، و حرصهم على بطلان أمره منذ بعث صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى يوم الناس هذا، و هذا غاية الإعجاز.

و رابعها: أنّه سبحانه وعده بالنصر على أعدائه، و أخبره بسقوط أمرهم، و انقطاع دينهم و أعقابهم، فكان المخبر على ما أخبر به.

ص: 535

ص: 536

[109] سورة الكافرون

اشارة

مختلف فيها. و هي ستّ آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فكأنّما قرأ ربع القرآن، و تباعدت عنه مردة الشياطين، و برى ء من الشرك، و يعافى من الفزع الأكبر».

و عن جبير بن مطعم قال: «قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تحبّ يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة و أكثرهم زادا؟ قلت: نعم، بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه. قال: فاقرأ هذه السور الخمس: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ».

فافتتح قراءتك ب «بسم الله الرحمن الرحيم». قال جبير: و كنت غير كثير المال، و كنت أخرج مع من شاء اللّه أن أخرج، فأكون أكبرهم همّة و أمثلهم زادا حتّى أرجع من سفري ذلك.

و عن فروة بن نوفل الأشجعيّ، عن أبيه، أنّه أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «جئت يا رسول اللّه لتعلّمني شيئا أقوله عند منامي. قال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ثمّ نم على خاتمتها، فإنّها براءة من الشرك».

شعيب الحدّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان أبي يقول: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ربع القرآن. و كان إذا فرغ منها قال: أعبد اللّه وحده، أعبد اللّه وحده».

و عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا قلت: «لا أَعْبُدُ ما

ص: 537

تَعْبُدُونَ»» فقل: و لكنّي أعبد اللّه مخلصا له ديني. فإذا فرغت منها فقل: ديني الإسلام، ثلاث مرّات».

و عن الحسين بن أبي العلاء قال: من «قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» في فريضة من الفرائض غفر اللّه له و لوالديه و ما ولدا، و إن كان شقيّا محي من ديوان الأشقياء، و كتب في ديوان السعداء، و أحياه اللّه سعيدا، و أماته شهيدا، و بعثه شهيدا».

[سورة الكافرون [109]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [1] لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [2] وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [3] وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ [4]

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [5] لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ [6]

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الكوثر أنّ أعداءه عابوه بأنّه أبتر، فردّ عليهم ذلك، و ذكر في هذه السورة أنّهم سألوه المداهنة، فأمره بالبراءة منهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يعني: كفرة مخصوصين، قد علم اللّه منهم أنّهم لا يؤمنون. فاللام للعهد. روي: أنّ رهطا من قريش قالوا: يا محمّد هلمّ فاتّبع ديننا و نتّبع دينك، تعبد آلهتنا سنة، و نعبد إلهك سنة. فقال: معاذ اللّه أن أشرك باللّه غيره. فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك و نعبد إلهك. فنزلت: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ».

لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي: فيما يستقبل، فإنّ «لا» لا تدخل إلّا على مضارع بمعنى الاستقبال، كما أنّ «ما» لا تدخل إلّا على مضارع بمعنى الحال. ألا ترى أنّ

ص: 538

«لن» تأكيد فيما ينفيه «لا». و قال الخليل في «لن» إنّ أصله: لا أن. فالمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منّي من عبادة آلهتكم.

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ فاعلون العبادة ما أَعْبُدُ ما أطلب منكم من عبادة إلهي، أي: فيما يستقبل، لأنّه في قران «لا أعبد».

وَ لا أَنا عابِدٌ و ما كنت قطّ عابدا فيما سلف ما عَبَدْتُّمْ يعني: لم تعهد منّي عبادة صنم في الجاهليّة، فكيف ترجى منّي عند فشوّ الإسلام؟! وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ و ما أنتم عبدتم في وقت مّا ما أَعْبُدُ ما أنا على عبادته. و يجوز أن تكونا تأكيدين على طريقة أبلغ. و إنّما لم يقل: ما عبدت، ليطابق «ما عبدتم» لأنّهم كانوا موسومين قبل المبعث بعبادة الأصنام، و هو لم يكن حينئذ موسوما بعبادة اللّه. و إنّما قال «ما» دون «من» لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أعبد الباطل، و لا تعبدون الحقّ. أو للمطابقة، فإنّ معبودهم من غير ذوي العقول.

و قيل: إنّها مصدريّة، أي: لا أعبد عبادتكم، و لا تعبدون عبادتي. و قيل: الأوليان بمعنى الّذي، و الأخريان مصدريّتان.

لَكُمْ دِينُكُمْ الّذي أنتم عليه لا تتركونه، من الإشراك وَ لِيَ دِينِ الّذي أنا عليه من التوحيد، لا أرفضه. يعني: أنّي نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحقّ و النجاة، فإن لم تقبلوا منّي و لم تتّبعوني فاتركوني على ما أنا فيه من التوحيد، و لا تدعوني إلى الشرك. فليس فيه إذن في الكفر، و لا منع عن الجهاد، ليكون منسوخا بآية (1) القتال. اللّهمّ إلّا إذا فسّر بالمتاركة و تقرير كلّ من الفريقين الآخر على دينه.

و قد فسّر الدين بالحساب و الجزاء و الدعاء و العبادة. و قرأ نافع و حفص و هشام بفتح الياء.

روي: أنّه لمّا نزلت هذه السورة غدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المسجد الحرام، و فيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم، فأيسوا.

ص: 539


1- التوبة: 5 و 29.

ص: 540

[110] سورة النصر

اشارة

مدنيّة. و هي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأها فكأنّما شهد مع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكّة».

و روى كرام الخثعمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ» في نافلة أو فريضة نصره اللّه على جميع أعدائه، و جاء يوم القيامة و معه كتاب ينطق، قد أخرجه اللّه من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنّم، و من النار، و من زفير جهنّم، يسمعه بأذنيه، فلا يمرّ على شي ء يوم القيامة إلّا بشّره، و أخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنّة».

[سورة النصر [110]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ [1] وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [2] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [3]

و لمّا ختم اللّه سبحانه السورة المتقدّمة بذكر الدين، افتتح هذه السورة بظهور الدين، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ و إغاثته، أي: إظهاره إيّاك على

ص: 541

أعدائك. و منه: نصر اللّه الأرض، أغاثها. وَ الْفَتْحُ و فتح مكّة. و قيل: المراد جنس نصر اللّه المؤمنين، و فتح سائر بلاد الشرك عليهم. و إنّما عبّر عن الحصول بالمجي ء تجوّزا، للإشعار بأنّ المقدّرات متوجّهة من الأزل إلى أوقاتها المعيّنة لها، فيقرب المقدّر من الوقت شيئا فشيئا، و قد قرب النصر من وقته، فكن مترقّبا لوروده، مستعدّا لشكره. و الأكثر على القول الأوّل.

و كان فتح مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة آلاف من المهاجرين و الأنصار و طوائف العرب، و أقام بها خمس عشرة ليلة.

ثمّ خرج إلى هوازن، و هم أهل حنين، و حين دخلها وقف على باب الكعبة، ثمّ قال: لا إله إلّا اللّه، وحده لا شريك له، صدق وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده. ثمّ قال: يا أهل مكّة ما ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فأعتقهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ بايعوه على الإسلام.

و عن ابن مسعود قال: دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده و يقول: جاء الحقّ و ما يبدئ الباطل و ما يعيد، جاء الحقّ و زهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى مكّة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت صورة إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام و في أيديهما الأزلام، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قاتلهم اللّه أما و اللّه لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.

وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ حال على أنّ «رأيت» بمعنى: أبصرت. أو مفعول ثان على أنّه بمعنى: علمت. فِي دِينِ اللَّهِ في ملّة الإسلام الّتي لا دين له يضاف إليه غيرها، لقوله: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (1) أَفْواجاً جماعات كثيفة، أي: كانت تدخل في الإسلام قبيلة بعد قبيلة، كأهل مكّة و الطائف

ص: 542


1- آل عمران: 85.

و هوازن و سائر قبائل العرب، بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا و اثنين اثنين.

و عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه: أنّه بكى ذات يوم، فقيل له. فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: دخل الناس في دين اللّه أفواجا، و سيخرجون منه أفواجا.

و قيل: أراد بالناس أهل اليمن.

قال أبو هريرة: لمّا نزلت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«اللّه أكبر جاء نصر اللّه و الفتح، و جاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، و الفقه يمان، و الحكمة يمانيّة». و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أجد نفير ربّكم من قبل اليمن».

و عن الحسن: لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكّة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: أما إذ ظفر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأهل الحرم فليس به يدان، و قد كان اللّه أجارهم من أصحاب الفيل و عن كلّ من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال.

و تفصيل قصّة فتح مكّة مذكور في سورة الفتح (1)، فلتطلب هناك.

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فتعجّب لتيسير اللّه ما لم يخطر ببالك و بال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، حامدا له عليه زيادة في عبادته و الثناء عليه، لزيادة إنعامه عليك. أو فصلّ له حامدا على نعمه.

روي: أنّه لمّا دخل مكّة بدأ بالمسجد، فدخل الكعبة و صلّى ثمان ركعات. أو فنزّهه عمّا كانت الظلمة يقولون فيه، حامدا له على أن صدق وعده. أو فأثن على اللّه بصفات الجلال، حامدا له على صفات الإكرام.

وَ اسْتَغْفِرْهُ هضما لنفسك، و استقصارا لعملك، و استدراكا لما فرط منك من الالتفات إلى غيره. و عنه عليه السّلام: «إنّي لأستغفر اللّه في اليوم و الليلة مائة مرّة».

و قيل: استغفره لأمّتك. و تقديم التسبيح على الحمد، ثمّ الحمد على الاستنفار، على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئا إلّا و رأيت اللّه قبله.

إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً لمن استغفره مذ خلق المكلّفين. و روي: أنّه كان يكثر قبل .

ص: 543


1- راجع ج 6 ص 371.

موته أن يقول: «سبحانك اللّهمّ و بحمدك، أستغفرك و أتوب إليك».

و قيل: الأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين، من الجمع بين الطاعة و الاحتراس من ترك الأولى، و ليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمّته. و لأنّ الاستغفار من التواضع للّه و هضم النفس، فهو عبادة في نفسه.

و عن أمّ سلمة قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالآخرة لا يقوم و لا يقعد و لا يجي ء و لا يذهب إلّا قال: سبحان اللّه و بحمده، أستغفر اللّه و أتوب إليه. فسألناه عن ذلك. فقال: إنّي أمرت بها، ثمّ قرأ «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ».

و روي: أنّه لمّا قرأها على أصحابه استبشروا، و بكى العبّاس. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما يبكيك يا عمّ. قال: نعيت إليك نفسك. فقال: إنّه لكما تقول. فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكا مستبشرا.

و قيل: إنّ ابن عبّاس هو الّذي قال ذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا».

و روي: أنّه لمّا نزلت خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «إنّ عبدا خيّره اللّه بين الدنيا و بين لقاء ربّه، فاختار لقاء اللّه».

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه دعا فاطمة عليهما السّلام فقال: «يا بنتاه، إنّه نعيت إليّ نفسي.

فبكت. فقال: لا تبكي، فإنّك أوّل أهلي لحوقا بي».

ص: 544

[111] سورة أبي لهب

اشارة

و تسمّى سورة المسد. مكّيّة. و هي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأها رجوت أن لا يجمع اللّه بينه و بين أبي لهب في دار واحدة».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا قرأتم «تبّت» فادعوا على أبي لهب، فإنّه كان من المكذّبين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بما جاء به من عند اللّه».

[سورة المسد [111]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ [1] ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ [2] سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ [3] وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [4]

فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [5]

و لمّا ذكر سبحانه في سورة النصر وعده بالنصر و الفتح، بيّن في هذه السورة ما كفاه اللّه من أمر أبي لهب، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* تَبَّتْ هلكت، أو خسرت. من التباب، و هو خسران يؤدّي إلى الهلاك. و منه قولهم: أ شابّة أم تابّة؟ أي: هالكة من الهرم. يَدا

ص: 545

أَبِي لَهَبٍ بن عبد المطّلب عمّ النبيّ. و المراد نفسه، كقوله: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1). و قيل: معناه: صفرت يداه من كلّ خير.

و إنّما خصّتا لما

روي أنّه عليه السّلام لمّا نزل عليه وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (2) رقى الصفا و قال: «يا صباحاه، فاجتمع إليه الناس من كلّ أوب. فقال: يا بني عبد المطّلب، يا بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أ كنتم مصدّقيّ؟

قالوا: نعم. قال: فإنّي نذير بين يدي الساعة».

فقال أبو لهب: تبّا لك أ لهذا دعوتنا؟

و أخذ حجرا ليرميه، فنزلت. و قيل: المراد بهما دنياه و أخراه.

و إنّما كنّاه و التكنية تكرمة، لاشتهاره بكنيته دون اسمه، لحسنه و إشراق وجهه، و كانت وجنتاه كأنّهما تلتهبان. أو لأنّ اسمه عبد العزّى، فاستكره ذكره. أو لأنّه لمّا كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله. أو ليجانس قوله: «ذات لهب». أو ليتهكّم به و بافتخاره بذلك. و قرأ ابن كثير بإسكان الهاء.

وَ تَبَ إخبار بعد إخبار. و التعبير بالماضي لتحقّق وقوعه، كقوله:

جزاني جزاه اللّه شرّ جزائه جزاء الكلاب العاويات و قد فعل

أو الأوّل إخبار عمّا كسبت يداه، و الثاني عن عمل نفسه.

روي: أنّه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقّا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي و ولدي. فردّ اللّه تعالى عليه ذلك القول بقوله: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ إمّا نفي لإغناء المال عنه حين نزل به التباب، أو استفهام إنكار، و محلّها النصب وَ ما كَسَبَ موصولة أو مصدريّة، أي: و ما كسبه. يعني: مكسوبه أو و كسبه بماله، من النتائج و الأرباح، و الوجاهة و الأتباع و الخدم. أو عمله الّذي ظنّ أنّه ينفعه. أو ولده عتبة.

ص: 546


1- البقرة: 195.
2- الشعراء: 214.

و حكي: أنّ بني أبي لهب احتكموا إلى ابن عبّاس فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع، فغضب ابن عبّاس فقال: أخرجوا عنّي الكسب الخبيث. و منه:

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، و إنّ ولده من كسبه».

و قد افترس أسد عتبة في طريق الشام و قد أحدق به العير. و مات أبو لهب بالعدسة- و هي بثرة (1) تخرج بالإنسان- بعد وقعة بدر بأيّام معدودة، و ترك ثلاثا حتّى أنتن، ثمّ استأجروا بعض السودان حتّى دفنوه. فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.

سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ اشتعال. يريد نار جهنّم. و في هذا دلالة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّة نبوّته، لأنّه أخبر بأنّ أبا لهب يموت على كفره، و كان كما قال.

و قال صاحب المجمع: «و إذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة؟ و هل كان يقدر على الإيمان؟ و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر اللّه سبحانه بأنّه سيصلى نارا ذات لهب.

فالجواب: أنّ الإيمان يلزمه، لأنّ تكليف الإيمان ثابت عليه، و إنّما توعّده اللّه بشرط أن لا يؤمن. ألا ترى إلى قوله سبحانه في قصّة فرعون آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ (2). و في هذا دلالة على أنّه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه، و لهذا خصّ ردّ التوبة عليه بذلك الوقت. و أيضا فلو قدّرنا

أنّ أبا لهب سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: لو آمنت هل أدخل النار؟ لكان عليه السّلام يقول له: لا، و ذلك لعدم الشرط» (3).

وَ امْرَأَتُهُ عطف على المستكن في «سيصلى» أي: سيصلاها هو و امرأته، و هي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان حَمَّالَةَ الْحَطَبِ صفتها. و المراد

ص: 547


1- البثرة: خراج صغير، كالدمّلة.
2- يونس: 91.
3- مجمع البيان 10: 560.

حطب جهنّم، فإنّها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تحمل زوجها على إيذائه. أو حزمة الشوك، لما روي أنّها كانت تحمل حزمة من الشوك و الحسك (1) فتنثرها بالليل في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: كانت تمشي بالنميمة. و يقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم نائرة الخصومة، و يورّث الشرّ.

و قرأ عاصم بالنصب على الشتم. و هذه القراءة أحسن، لأنّها قد توسّل بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجميل: من أحبّ شتم أمّ جميل.

و يجوز أن يكون قوله: «امرأته» مرفوعا بالابتداء، و خبره فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي: ممّا مسد، أي: فتل من الحبال فتلا شديدا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. و منه: رجل ممسود الخلق، أي: مجدوله (2). و على الأوّل فالظرف موضع الحال. و هو تصوير لها بصورة الحطّابة الّتي تحمل الحزمة و تربطها في جيدها، تحقيرا لشأنها، أو بيانا لحالها في نار جهنّم، حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنّم من شجر الزقّوم و الضريع، و في جيدها سلسلة من النار، كما يعذّب كلّ مجرم بما يجانس حاله في جرمه.

و عن ابن عبّاس: في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا، تدخل من فيها، و تخرج من دبرها، و تدار على عنقها في النار.

و يروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لمّا نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أمّ جميل بنت حرب و لها ولولة، و في يدها فهر (3)، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالس في المسجد.

ص: 548


1- الحسك: نبات شائك.
2- يقال: رجل مجدول، أي: لطيف القصب محكم الفتل. و القصب جمع القصبة: الخصلة الملتوية من الشعر.
3- الفهر: حجر رقيق تسحق به الأدوية.

و معه أبو بكر. فلمّا رآها أبو بكر قال: يا رسول اللّه قد أقبلت، و أنا أخاف أن تراك.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّها لن تراني، و قرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (1). فوقفت على أبي بكر، و لم تر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: يا أبا بكر أخبرت أنّ صاحبك هجاني.

فقال: لا و ربّ الكعبة ما هجاك. قال: فولّت و هي تقول: قريش تعلم أنّي بنت سيّدها.

و يروى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما زال ملك يسترني عنها».

ص: 549


1- الإسراء: 45.

ص: 550

[112] سورة الإخلاص

اشارة

مكّيّة. و قيل: مدنيّة. و سمّيت سورة الإخلاص، لأنّه ليس فيها إلّا التوحيد، و كلمة التوحيد تسمّى كلمة الإخلاص.

و قيل: إنّما سمّيت بذلك، لأنّ من تمسّك بما فيها اعتقادا و إقرارا كان مؤمنا مخلصا.

و قيل: لأنّ من قرأها على سبيل التعظيم أخلصه اللّه من النار، أي: أنجاه منها.

و تسمّى أيضا سورة الصّمد. و تسمّى أيضا بفاتحتها. و تسمّى أيضا نسبة الربّ. و روي في الحديث: «لكلّ شي ء نسبة، و نسبة اللّه سورة الإخلاص».

و في الحديث أيضا: «أنّه كان يقول لسورتي «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» المقشقشتان». سمّيتا بذلك لأنّهما تبرّئان من الشرك و النفاق.

يقال:

تقشقش المريض من مرضه إذا أفاق و برى ء. و قشقشه: أبرأه، كما يقشقش الهناء (1) الجرب.

و عدد آيها أربع.

في حديث أبيّ: «من قرأها فكأنّما قرأ ثلث القرآن، و اعطي من الأجر عشر

ص: 551


1- الهناء: القطران. و هو: سيّال دهني يتّخذ من بعض الأشجار، كالصنوبر. و الجرب: داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكّة شديدة.

حسنات، بعدد من آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر».

و عن أبي الدرداء، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أ يعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في كلّ ليلة؟ قلت: يا رسول اللّه من يطيق ذلك؟ قال: اقرؤا «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»».

و عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة بورك عليه.

و من قرأها مرّتين بورك عليه، و على أهله. فإن قرأها ثلاث مرّات بورك عليه، و على أهله، و على جميع جيرانه. فإن قرأها اثنتي عشرة مرّة بني له اثنا عشر قصرا في الجنّة. فتقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا. فإن قرأ مائة مرّة كفّر عنه ذنوب خمس و عشرين سنة، ما خلا الدماء و الأموال. فإن قرأها أربعمائة مرّة كفّر عنه ذنوب أربعمائة سنة. فإن قرأها ألف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه في الجنّة، أو يرى له».

و عن سهل بن سعد الساعدي قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فشكا إليه الفقر و ضيق المعاش. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد، و إن لم يكن فيه أحد فسلّم و اقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة واحدة. ففعل الرجل، فأدرّ اللّه عليه رزقا حتّى أفاض على جيرانه».

السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى على سعد بن معاذ، فلمّا صلّى عليه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك- و فيهم جبرئيل- يصلّون عليه. فقلت: يا جبرئيل بم استحقّ صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءة «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قائما، و قاعدا، و راكبا، و ماشيا، و ذاهبا، و جائيا».

منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مضى به يوم واحد، فصلّى فيه بخمس صلوات، و لم يقرأ فيها ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، قيل: يا عبد اللّه لست من المصلّين».

إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مضت له جمعة و لم يقرأ

ص: 552

فيها ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثمّ مات مات على دين أبي لهب».

هارون بن خارجة، عنه عليه السّلام قال: «من أصابه مرض أو شدّة، فلم يقرأ في مرضه أو شدّته ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثمّ مات في مرضه أو في تلك الشدّة الّتي نزلت به، فهو من أهل النار».

أبو بكر الحضرمي، عنه عليه السّلام قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر، فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فإنّ من قرأها جمع له خير الدنيا و الآخرة، و غفر له و لوالديه و ما ولدا».

عبد اللّه بن حجر قال: «سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إحدى عشرة مرّة في دبر الفجر، لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب، و أرغم أنف الشيطان».

إبراهيم بن مهزم، عمّن سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: «من قدّم «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» بينه و بين كلّ جبّار منعه اللّه منه. و من يقرؤها بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله، رزقه اللّه خيره و منعه شرّه». و قال: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن حيث شئت، ثمّ قل: اللّهمّ اكشف عنّي البلاء، ثلاث مرّات».

عيسى بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مائة مرّة حين يأخذ مضجعه، غفر اللّه له ذنوب خمسين سنة».

[سورة الإخلاص [112]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [1] اللَّهُ الصَّمَدُ [2] لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ [3] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [4]

ص: 553

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ذمّ أعداء أهل التوحيد في السورة المتقدّمة، ذكر في هذه السورة بيان التوحيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الضمير للشأن، كقولك: هو زيد منطلق. و ارتفاعه بالابتداء، و خبره الجملة. و لا حاجة إلى العائد، لأنّها هي هو، فحكم هذه الجملة حكم المفرد. أو لما سئل عنه، أي: الّذي سألتم عنه هو اللّه، إذ روي أنّ قريشا قالوا: يا محمّد صف لنا ربّك الّذي تدعونا إليه. يعني: الّذي سألتموني وصفه هو اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال. و على هذا قوله: «أحد» بدل، أو خبر ثان. و أصله: وحد. يدلّ على مجامع صفات الجلال، كما دلّ لفظ اللّه على مجامع صفات الكمال، إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزّها بالذات عن أنحاء التركيب و التعدّد، و ما يستلزم أحدهما، كالجسميّة و التحيّز و المشاركة في الحقيقة و خواصّها، كوجوب الوجود، و القدرة الذاتيّة، و الحكمة التامّة المقتضية للألوهيّة.

و قيل: إنّما قال «أحد»، و لم يقل: واحد، لأنّ الواحد يدخل في الحساب، و يضمّ إليه آخر. و أمّا الأحد فهو الّذي لا يتجزّأ، و لا ينقسم في ذاته، و لا في معنى صفاته بحسب الاعتبار. و يجوز أن يجعل للواحد ثانيا، و لا يجوز أن يجعل للأحد ثانيا. ألا ترى إنّك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان. و لو قلت:

لا يقاومه أحد، لم يجز أن يقاومه اثنان و لا أكثر. فهو أبلغ.

و قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام في معنى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»: «أي: قل: أظهر ما أوحينا إليك و ما أنبأناك به، بتأليف الحروف الّتي قرأناها عليك، ليهتدي بها من ألقى السمع و هو شهيد».

«و «هو» اسم مكنيّ مشار إلى غائب. فالهاء تنبيه عن معنى ثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ، كما أنّ «هذا» إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ.

و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك، فقالوا: هذه

ص: 554

آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الّذي تدعو إليه حتّى ندركه، فأنزل اللّه سبحانه «قُلْ هُوَ». فالهاء تثبيت للثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواسّ، و أنّه يتعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواسّ».

و حدّثني أبي عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «رأيت الخضر عليه السّلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلّا هو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال لي: يا عليّ علّمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر».

قال: «و قرأ عليه السّلام يوم بدر «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فلمّا فرغ قال: يا هو، يا من لا هو إلّا هو، اغفر لي و انصرني على القوم الكافرين. و كان يقول ذلك يوم صفّين و هو يطارد. فقال له عمّار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: اسم اللّه الأعظم و عماد التوحيد: اللّه لا إله إلّا هو. ثمّ قرأ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ (1) و آخر الحشر. ثمّ نزل فصلّى أربع ركعات قبل الزوال».

قال: «و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّه معناه: المعبود الّذي يأله فيه الخلق، و يؤله إليه اللّه، المستور عن إدراك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات».

قال الباقر عليه السّلام: «اللّه معناه: المعبود الّذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته و الإحاطة بكيفيّته.

و يقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر في الشي ء فلم يحط به علما.

و وله إذا فزع إلى شي ء. قال: و الأحد: الفرد المتفرّد. و الأحد و الواحد بمعنى المتفرّد الّذي لا نظير له. و التوحيد: الإقرار بالوحدة، و هو الانفراد. و الواحد: المباين الّذي لا ينبعث من شي ء، و لا يتّحد بشي ء. و من ثمّ قالوا: إنّ بناء العدد من الواحد، و ليس الواحد من العدد، لأنّ العدد لا يقع على الواحد، بل يقع على الاثنين. فمعنى قوله

ص: 555


1- آل عمران: 18.

«اللَّهُ أَحَدٌ» أي: المعبود الّذي يأله الخلق عن إدراكه و الإحاطة بكيفيّته، فرد بإلهيّته، متعال عن صفات خلقه».

اللَّهُ الصَّمَدُ فعل بمعنى المفعول، أي: السيّد المصمود إليه في الحوائج.

من: صمد إليه إذا قصد. و هو الموصوف به على الإطلاق، فإنّه يستغني عن غيره مطلقا، و كلّ ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته.

و قال الباقر عليه السّلام: «حدّثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن عليّ عليه السّلام أنّه قال: الصمد: الّذي قد انتهى سؤدده. و الصمد: الدائم الّذي لم يزل و لا يزال.

و الصمد: الّذي لا يأكل و لا يشرب».

أراد بذلك أنّه الحيّ الّذي لا يحتاج إلى شي ء أصلا.

و تعريفه لعلمهم بصمديّته، بخلاف أحديّته. و تكرير لفظ «اللّه» للإشعار بأنّ من لم يتّصف به لم يستحقّ الألوهيّة. و إخلاء الجملة عن العاطف، لأنّها كالنتيجة للأولى، أو الدليل عليها.

و قال أبو البختري وهب بن وهب: حدّثني الصادق جعفر بن محمد، عن الباقر، عن أبيه عليهم السّلام: «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ عليهما السّلام يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد؛ فلا تخوضوا في القرآن، و لا تجادلوا فيه، و لا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، و إنّ اللّه سبحانه قد فسّر الصمد بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ».

لَمْ يَلِدْ لأنّه لم يجانس حتّى تكون من جنسه صاحبة فيتوالدا، كما قال:

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ (1). و لم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة و الفناء عليه. و لعلّ الاقتصار على لفظ الماضي لوروده ردّا على من

ص: 556


1- الأنعام: 101.

قال: الملائكة بنات اللّه أو المسيح ابن اللّه، أو ليطابق قوله: وَ لَمْ يُولَدْ لأنّ كلّ مولود محدث و جسم، و هو قديم لا أوّل لوجوده، و ليس بجسم.

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي: و لم يكن أحد يكافئه- أي: يماثله- من صاحبة أو غيرها. و يجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفيا للصاحبة. و كان الأصل أن يؤخّر الظرف الّذي هو لغو غير مستقرّ، و قد نصّ سيبويه على امتناع تقديمه، لكن لمّا كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم، تقديما للأهمّ.

و يجوز أن يكون حالا من «أحد». و لعلّ ربط الجمل الثلاث بالعطف لأنّ المراد منها نفي أقسام المكافأة، فهي كجملة واحدة منبّهة عليها بالجمل.

و قرأ حمزة و يعقوب و نافع في رواية: كفؤا بالتخفيف. و حفص كفوا، بالحركة و قلب الهمزة واوا.

و لاشتمال هذه السورة- مع قصرها- على جميع المعارف الإلهيّة، و الردّ على من ألحد فيها، جاء في الحديث أنّها تعدل ثلث القرآن، فإنّ مقاصده محصورة في بيان العقائد و الأحكام و القصص. و من عدلها بكلّه اعتبر المقصود بالذات من ذلك، فإنّ هذه السورة إنّما هي في بيان الأوّل، لأنّها مشتملة على صفاته الجلال و الكمال، فإنّ قوله: «هُوَ اللَّهُ» إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء و فاطرها. و في طيّ ذلك وصفه بأنّه قادر عالم، لأنّ الخلق يستدعي القدرة و العلم، لكونه واقعا على غاية إحكام و اتّساق و انتظام. و في ذلك وصفه بأنّه حيّ سميع بصير. و قوله: «أحد» وصف بالوحدانيّة و نفي الشركاء. و قوله: «الصمد» وصف بأنّه ليس إلّا محتاجا إليه، و إذا لم يكن إلّا محتاجا إليه فهو غنيّ. و في كونه غنيّا مع كونه عالما أنّه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح، و علمه بغناه عنه. و قوله: «وَ لَمْ يُولَدْ» وصف بالقدم و الأوّليّة. و قوله: «لَمْ يَلِدْ» نفي للشبه و المجانسة. و قوله: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» تقرير لذلك، و بتّ للحكم به.

ص: 557

و عن عبد خير قال: سأل رجل عليّا عليه السّلام عن تفسير هذه السورة فقال: «قل هو اللّه أحد بلا تأويل عدد، الصمد بلا تبعيض بدد، لم يلد فيكون والدا، و لم يولد فيكون إلها مشاركا، و لم يكن له من خلقه كفوا أحد».

و قال بعض العرفاء المحقّقين: إنّا وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص، و التقلّب، و الكثرة، و العدد، و كونه علّة، أو معلولا، و الأشكال، و الأضداد. فنفى اللّه سبحانه عن صفته نوع الكثرة و العدد بقوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». و نفى التقلّب و النقص بقوله: «اللَّهُ الصَّمَدُ». و نفى العلّة و المعلول بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ». و نفى الأشكال و الأضداد بقوله: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». فحصلت الوحدانيّة البحت.

و روى عمران بن الحصين: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث سريّة و استعمل عليها عليّا عليه السّلام، فلمّا رجعوا سألهم عن عليّ عليه السّلام. فقالوا كلّ خير، غير أنّه كان يقرأ بنا في صلاته «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». فقال: يا عليّ لم فعلت هذا؟ قال: لحبّي «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أحببتها حتّى أحبّك اللّه عزّ و جلّ».

و يروى: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقف عند كلّ آية من هذه السورة.

و روى الفضيل بن يسار قال: «أمرني أبو جعفر عليه السّلام أن أقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

و أقول إذا فرغت منها: كذلك اللّه ربّي، ثلاثا».

ص: 558

[113] سورة الفلق

اشارة

مدنيّة في أكثر الأقوال. و قيل: مكّيّة. و هي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» فكأنّما قرأ جميع الكتب الّتي أنزلها اللّه على الأنبياء».

و عن عقبة بن عامر، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنزلت عليّ آيات لم ينزل مثلهنّ:

المعوّذتان». أورده مسلم في الصحيح (1).

و عنه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يا عقبة ألا أعلّمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن؟ قلت: بلى يا رسول اللّه. فعلّمني المعوذّتين، ثم قرأ بهما في صلاة الغداة. و قال لي: اقرأهما كلّما قمت و نمت».

أبو عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من أوتر بالمعوذّتين و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قيل له: يا عبد اللّه أبشر فقد قبل اللّه و ترك».

[سورة الفلق [113]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [1] مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ [2] وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ [3] وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ [4]

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [5]

ص: 559


1- صحيح مسلم 1: 558 ح 265.

و لمّا ذمّ اللّه سبحانه أعداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سورة تبّت، ثمّ ذكر التوحيد في سورة «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» رغما عليهم، ذكر الاستعاذة منهم في هاتين السورتين، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ما يفلق عنه، أي: يفرّق عنه، كالفرق. فعل بمعنى مفعول. و هو في الأصل يعمّ جميع الممكنات، فإنّه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد عنها، سيّما ما يخرج من أصل، كالعيون من الجبال، و الأمطار من السحاب، و النبات من الأرض، و الأولاد من الأرحام، و الحبّ من النوى، و غير ذلك. و يختصّ عرفا بالصبح، فإنّ الليل يفرق عنه. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، و من فرق الصبح. و لذلك فسّر به. و تخصيصه لما فيه من تغيّر الحال، و تبدّل وحشته بالليل بسرور النور، و محاكاة فاتحة يوم القيامة، و الإشعار بأنّ من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم، قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه. و لفظ الربّ هنا أوقع من سائر أسمائه، لأنّ الإعاذة من مصالح الربوبيّة.

و قيل: هو واد في جهنّم، أوجبّ فيها. و عن بعض الصحابة: أنّه قدم الشام فرأى دور أهل الذمّة، و ما هم فيه من خفض العيش، و ما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالي، أ ليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: و ما الفلق؟ قال: بيت في جهنّم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه.

مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ من شرّ خلقه. و شرّهم: ما يفعله المكلّفون، من المعاصي و المآثم. و مضارّة بعضهم بعضا، من ظلم و بغي و قتل و ضرب و شتم، و غير ذلك. و ما يفعله غير المكلّفين منه، من الأكل و النهش (1) و اللدغ و العضّ الصادرة من السباع و الحشرات. و غير ذلك من أنواع الضرر، كالإحراق بالنار، و الإغراق بالماء، و القتل بالسمّ، و الهدم، و السقوط من المواضع المرتفعة. و خصّ عالم الخلق بالاستعاذة عنه

ص: 560


1- نهشه: تناوله بفمه ليعضّه، فيؤثّر فيه و لا يجرحه.

لانحصار الشرور فيه، فإنّ عالم الأمر خير كلّه.

وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ ليل إذا اعتكر (1) و اختلط ظلامه. من قوله: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ (2). و أصله: الامتلاء. يقال: غسقت العين، إذا امتلأت دمعا. و غسقت الجراحة: امتلأت دما. و قيل: السيلان. و غسق الليل انصباب ظلامه. و غسق العين سيلان دمعها. إِذا وَقَبَ دخل ظلامه في كلّ شي ء. و تخصيصه مع دخوله تحت قوله: «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» لأنّ انبثاث المضارّ فيه أكثر، و التحرّز منه أصعب. و لذلك قيل: الليل أخفى للويل. و قولهم: أغدر الليل، لأنّه إذا أظلم كثر فيه الغدر.

و قيل: المراد به القمر، فإنّه يكسف فيغسق. و وقوبه: دخوله في الكسوف.

و يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيّات. و وقبه: ضربه و نقبه.

وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ و من شرّ النفوس، أو الجماعات، أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط و ينفثن عليها و يرقين. و النفث: النفخ مع ريق.

و تخصيصه لما

روي أنّ لبيد بن أعصم اليهودي سحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ دسّ ذلك في بئر ذروان لبني زريق. و في رواية أنّ بناته سحرن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ دسسن ذلك في البئر المذكور. فمرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبينا هو نائم إذ أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، و الآخر عند رجليه، فأخبراه بذلك، و أنّه في بئر ذروان في جفّ طلعة تحت راعوفة. و الجفّ: قشر الطلع (3). و الراعوفة: حجر في أسفل البئر يقوم عليها الماتح (4). فانتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعث عليّا عليه السّلام و الزبير و عمّار فنزحوا.

ص: 561


1- اعتكر الليل: اشتدّ سواده.
2- الإسراء: 78.
3- الطلع من النخل: شي ء يخرج كأنّه نعلان مطبقان و الحمل بينهما منضود.
4- أي: ما يستخرج به الماء. من: متح الماء: نزعه.

ماء تلك البئر، ثمّ رفعوا الصخرة و أخرجوا الجفّ، فإذا فيه مشاطة (1) رأس و أسنان من مشطة، و إذا فيه معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر. فنزلت هاتان السورتان. فجعل كلّما يقرأ آية انحلّت عقدة، و وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خفّة فقام، فكأنّما أنشط من عقال. و جعل جبرئيل عليه السّلام يقول: بسم اللّه أرقيك، من شرّ كلّ شي ء يؤذيك، من حاسد و عين، و اللّه تعالى يشفيك. و رووا ذلك عن عائشة و ابن عبّاس.

و هذا لا يجوز، لأنّ من وصف بأنّه مسحور فقد خبل عقله، و قد أبى اللّه سبحانه ذلك في قوله: وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا (2). و لكن يمكن أن يكون اليهوديّ أو بناته- على ما روي- اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه، فأطلع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما فعلوه من التمويه حتّى استخرج، و كان ذلك دلالة على صدقه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم؟ و لو قدروا على ذلك لقتلوه و قتلوا كثيرا من المؤمنين، مع شدّة عداوتهم لهم.

فمعنى الاستعاذة من شرّهنّ: إمّا بأن يستعاذ من عملهنّ الّذي هو صنعة السحر، و من إثمهنّ في ذلك. أو يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ، و ما يخدعنهم به من باطلهنّ. أو يستعاذ ممّا يصيب اللّه به من الشرّ عند نفثهنّ.

و يجوز أن يراد بهنّ النساء الكيّادات، من قوله: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (3) تشبيها لكيدهنّ بالسحر و النفث في العقد. أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرّضهنّ لهم و عرضهنّ محاسنهنّ، كأنّهنّ يسحرنهم بذلك.

و قيل: المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل. مستعار من تليين

ص: 562


1- المشاطة: ما يسقط من الشعر عند مشطه.
2- الفرقان: 8- 9.
3- يوسف: 28.

العقد بنفث الريق ليسهل حلّها. و إفرادها بالتعريف، لأنّ كلّ نفّاثة شرّيرة، بخلاف كلّ غاسق و حاسد.

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ إذا أظهر حسده و عمل بمقتضاه، فإنّه لا يعود ضرر منه قبل ذلك. إلى المحسود، بل يخصّ به لاغتمامه بسروره. و تخصيصه مع دخوله في قوله: «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» لأنّه العمدة في إضرار الإنسان بل الحيوان غيره.

و يجوز أن يراد بالغاسق ما يخلو عن النور كالجمادات، و ما يضاهيه كالقوى.

و بالنفّاثات النباتات، فإنّ قواها النباتيّة من حيث إنّها تزيد في طولها و عرضها و عمقها، كأنّها تنفث في العقد الثلاث. و بالحاسد الحيوان، فإنّه إنّما يقصد غيره غالبا طمعا فيما عنده. و لعلّ إفرادها من عالم الخلق لأنّها الأسباب القريبة للمضرّة.

قال بعضهم: إنّ اللّه سبحانه جمع الشرور في هذه السورة و ختمها بالحسد ليعلم أنّه أخسّ الطبائع. نعوذ باللّه منه.

و روى أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من رأى شيئا يعجبه فقال: اللّه اللّه ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه، لم يضرّ شيئا».

و روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان كثيرا مّا يعوّذ الحسن و الحسين عليهما السّلام بهاتين السورتين.

ص: 563

ص: 564

[114] سورة الناس

اشارة

مدنيّة. و قيل: مكّيّة. و هي مثل سورة الفلق، لأنّها إحدى المعوّذتين. و هي ستّ آيات.

الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اشتكى شكوى شديدة، و وجع وجعا شديدا، فأتاه جبرئيل و ميكائيل، فقعد جبرئيل عند رأسه، و ميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرئيل ب «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»، و عوّذه ميكائيل ب «أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ»».

أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «جاء جبرئيل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو شاك، فرقاه بالمعوّذتين و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». و قال: بسم اللّه أرقيك، و اللّه يشفيك، من كلّ داء يؤذيك، خذها فلتهنيك».

[سورة الناس [114]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [1] مَلِكِ النَّاسِ [2] إِلهِ النَّاسِ [3] مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ [4]

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [5] مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ [6]

ص: 565

و لمّا كانت الاستعاذة في السورة المتقدّمة من المضارّ البدنيّة، و هي تعمّ الإنسان و غيره، و الاستعاذة في هذه السورة من الأضرار الّتي تعرض للنفوس البشريّة، عمّم الإضافة ثمّ، و خصّصها بالناس هاهنا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ و لمّا كانت الاستعاذة وقعت من شرّ الموسوس في صدور الناس، فكأنّه قيل: أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربّهم الّذي يملك أمورهم و يستحقّ عبادتهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيّدهم و مخدومهم و والي أمرهم.

مَلِكِ النَّاسِ* إِلهِ النَّاسِ عطف بيان له، فإنّ الربّ قد لا يكون ملكا، و الملك قد لا يكون إلها. و الإله خاصّ لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان.

و قيل: ليس في «الناس» تكرار، لأنّ المراد بالأوّل: الأجنّة، و لهذا قال:

«بِرَبِّ النَّاسِ»، لأنّه يربّيهم. و بالثاني: الأطفال، و لذلك قال: «مَلِكِ النَّاسِ» لأنّه يملكهم. و بالثالث: البالغون المكلّفون، و لذلك قال: «إِلهِ النَّاسِ»، لأنّهم يعبدونه.

و بالرابع: العلماء، لأنّ الشيطان يوسوس إليهم. و لا يريد الجهّال، لأنّ الجاهل يضلّ بجهله، و إنّما يوقع الوسوسة في قلب العالم، كما قال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ (1).

و قيل: في هذا النظم دلالة على أنّه حقيق بالإعادة، قادر عليها، غير ممنوع عنها. و إشعار على مراتب الناظر في المعارف، فإنّه يعلم أوّلا بما يرى عليه من النعم الظاهرة و الباطنة أنّ له ربّا. ثمّ يتغلغل في النظر حتّى يتحقّق أنّه غنيّ عن الكلّ، و ذات كلّ شي ء له، و مصارف أمره منه، فهو الملك الحقّ. ثمّ يستدلّ به على أنّه المستحقّ للعبادة لا غير. و تدرّج في وجوه الاستعاذة كما يتدرّج في الاستعاذة المعتادة، تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات، إشعارا بعظم الآفة

ص: 566


1- طه: 120.

المستعاذ منها. و تكرير «الناس» لما في الإظهار من مزيد البيان، و الإشعار بشرف الإنسان.

مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أي: الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. و أمّا المصدر فبالكسر، كالزلزال. و المراد به الموسوس، و هو الشيطان، سمّي بفعله مبالغة. أو المراد ذو الوسواس. و الوسوسة هي الصوت الخفيّ. و منه: وسواس الحليّ.

الْخَنَّاسِ الّذي عادته أن يخنس، أي: يتأخّر إذا ذكر الإنسان ربّه.

روي عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربّه خنس الشيطان و ولّى، فإذا غفل وسوس إليه.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الشيطان واضع خطمه (1) على قلب ابن آدم، فإذا ذكر اللّه خنس، و إذا نسي التقم قلبه».

و روى العيّاشي بإسناده عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مؤمن إلّا و لقلبه في صدره أذنان: أذن ينفث فيها الملك، و أذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس، فيؤيّد اللّه المؤمن بالملك. و هو قول اللّه تعالى: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (2).

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ إذا غفلوا عن ذكر ربّهم. و ذلك كالقوّة الوهميّة، فإنّها تساعد العقل في المقدّمات، فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست و أخذت توسوسه و تشكّكه. و محلّ «الّذي» الجرّ على الصفة، أو النصب، أو الرفع على الذمّ.

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ بيان للوسواس، أو ل «الّذي» على أنّ الشيطان ضربان:

ص: 567


1- الخطم: الأنف.
2- المجادلة: 22.

جنّيّ و إنسيّ، كما قال: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ (1). و يجوز أن يكون متعلّقا ب «يوسوس». و معناه: ابتداء الغاية، أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنّة و الناس.

و الحمد للّه ربّ العالمين، أوّلا و آخرا، و باطنا و ظاهرا، على توفيقي و تيسيري في تتميم زبدة التفاسير، مع وجازة ألفاظه، و غزارة معانيه، و نكات دقيقة، و أسرار لطيفة، على وفق الطريقة الحنيفيّة الإماميّة، و الملّة البيضاء الاثني عشريّة.

اللّهمّ اجعل جدّي و اجتهادي في جميع الزبدة و الخلاصة من تفاسير كتابك العزيز، و كدّي و سعيي في ضمّ ما انتشر من معانيه، على وفق مذهب الحقّ و طريق الصدق، باللفظ الوجيز، ذريعة إلى درك رضوانك، و وصلة إلى الاتّصال بأوليائك و أصفيائك في جنانك، و توسّلا إلى شفاعة سيّد الأخيار، و عترته الأبرار.

اللّهمّ اغفر لنا ذنوبنا، و إسرافنا في أمرنا، و ثبّت أقدامنا يوم التناد، بحقّ نبيّك النبيه المصطفى، و وليّك الوليه المرتضى، و أولادهما المعصومين الأمجاد.

و وقع الفراغ من تسويده في منتصف شهر ذي القعدة الحرام، سنة سبع و سبعين و تسعمائة، على يد مؤلّفه و مسوّده أفقر عباد اللّه الملك اللطيف، ابن شكر اللّه فتح اللّه الشريف، كساهما اللّه الملك المنّان جلابيب الرضوان، و سقاهما شآبيب الغفران، بحقّ النبيّ المنيف، و الوليّ العريف.

ص: 568


1- الأنعام: 112.

فهرس الموضوعات

الصورة

ص: 569

الصورة

ص: 570

الصورة

ص: 571

الصورة

ص: 572

الصورة

ص: 573

الصورة

ص: 574

الصورة

ص: 575

الصورة

ص: 576

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.