زبدة التفاسير المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:الشریف الکاشاني، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان واسم المؤلف: زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشاني الشریف الکاشاني؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیة

تحرير الحالة: [ویرایش 2؟]

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 7

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیة؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

ISBN : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : الطبعة السابقة: مؤسسة التربية الإسلامية، 1378 (5 ج.)

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : کتابنامه

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن ق 10

المعرف المضاف: مؤسسة التربية الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP96/5/ک 2ز2 1381

تصنيف ديوي: 297/1726

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-26543

ص: 1

اشارة

زبدة التفاسير

تأليف

المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني قدس سره المتوفى سنة 988 ه_ . ق

الجزء السادس

تحقيق ونشر

مؤسّسة المعارف الإسلامية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

[38] سورة ص

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و ثمانون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة ص اعطي من الأجر بوزن كلّ جبل سخّره اللّه لداود حسنات، و عصمه اللّه أن يصرّ على ذنب، صغيرا أو كبيرا».

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة، اعطي من خير الدنيا و الآخرة، ما لم يعط أحد من الناس، إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب، و أدخله اللّه الجنّة، و كلّ من أحبّ من أهل بيته، حتّى خادمه الّذي يخدمه، و إن كان ليس في حدّ عياله، و لا في حدّ من يشفع له».

[سورة ص [38]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [1] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ [2] كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ [3] وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ [4]

أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ [5]

ص: 5

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة الصافّات بذكر القرآن و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنكار الكفّار لما دعاهم إليه، افتتح هذه السورة بالقرآن ذي الذكر، و الردّ عليهم أيضا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص قد ذكر في أوّل سورة البقرة أنّ إيراد حروف التهجّي في أوائل السور على سبيل التحدّي و التنبيه على الإعجاز. ثمّ أتبعه القسم محذوف الجواب، لدلالة التحدّي عليه. كأنّه قال: وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إنّه لكلام معجز. و يجوز أن تكون «ص» خبر مبتدأ محذوف، على أنّها اسم للسورة، كأنّه قال: هذه يعني: هذه السورة الّتي أعجزت العرب، و القرآن ذي الذكر. كما تقول: هذا حاتم و اللّه، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء و اللّه. و كذلك إذا أقسم بها، كأنّه قال: أقسمت بصاد و القرآن ذي الذكر إنّه لمعجز. و إذا جعلتها مقسما بها، و عطفت عليها: «وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كلّه، و أن تريد السورة بعينها. و معناه: أقسم بالسورة الشريفة، و القرآن ذي الذكر. كما تقول:

مررت بالرجل الكريم، و بالنسمة المباركة، و لا تريد بالنسمة غير الرجل.

و قيل: «صاد» رمز لصدق محمّد. و «الذكر» الشرف و الشهرة، كقولك: فلان مذكور. أو الذكرى و الموعظة. أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع و غيرها، كأقاصيص الأنبياء، و الوعد و الوعيد.

و ما كفر به من كفر بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: كفروا به فِي عِزَّةٍ أي:

استكبار عن قبول الحقّ وَ شِقاقٍ خلاف للّه و رسوله، و لذلك كفروا به. و التنكير فيهما للدلالة على شدّتهما.

ثمّ أوعدهم على كفرهم بالقرآن استكبارا و شقاقا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا استغاثة، أو توبة، أو استغفارا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ أي: و ليس الحين حين مناص. و «لا» هي المشبّهة ب «ليس» زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد، كما

ص: 6

زيدت على «ربّ» و «ثمّ». و تغيّر بزيادة التاء حكم «لا»، حيث لم تدخل إلّا على الأحيان. و لم يبرز إلّا اسمها أو خبرها، و امتنع بروزهما جميعا.

و قيل: هي النافية للجنس، أي: و لا حين مناص لهم. و قيل: للفعل، و النصب بإضماره، أي: و لا أرى حين مناص. و تقف الكوفيّة على التاء بالهاء كالأسماء، و البصريّة بالتاء كالأفعال.

و قيل: إنّ التاء مزيدة على «حين» لاتّصالها به في الإمام. و المناص: الملجأ.

من: ناصه ينوصه إذا فاته.

وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ بشر مثلهم، أو امّي من عدادهم وَ قالَ الْكافِرُونَ وضع فيه الظاهر موضع الضمير إظهارا للغضب عليهم و ذمّا لهم، و إشعارا بأنّ توغّلهم في الكفر و انهماكهم في الغيّ جسّرهم على هذا القول هذا ساحِرٌ فيما يظهره معجزة كَذَّابٌ فيما تقوّله على اللّه. و هل ترى كفرا أعظم و جهلا أبلغ من أن يسمّوا من صدّقه اللّه بوحيه كاذبا، و يتعجّبوا من التوحيد، و هو الحقّ الذي لا يصحّ غيره، و لا يتعجّبوا من الشرك، و هو الباطل الّذي لا وجه لصحّته أصلا؟! ثمّ بيّنوا تقوّله بقولهم: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن جعل الالوهيّة الّتي كانت لآلهتنا لواحد. و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبطل عبادة ما كانوا يعبدونه من الآلهة مع اللّه، و دعاهم إلى عبادة اللّه وحده. فتعجّبوا من ذلك، و قالوا: كيف جعل لنا إلها واحدا بعد ما كنّا نعبد آلهة؟

روي: أنّ عمر بن الخطّاب لمّا أظهر الإسلام شقّ على قريش و بلغ منهم، فاجتمع خمسة و عشرون نفسا من صناديدهم، منهم: الوليد بن المغيرة، و هو أكبرهم، و أبو جهل، و أبيّ و أميّة ابنا خلف، و عتبة و شيبة ابنا ربيعة، و النضر بن الحارث، و أتوا عند أبي طالب و قالوا: أنت شيخنا و كبيرنا، و قد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون: الّذين دخلوا في الإسلام، و جئناك لتقضي بيننا

ص: 7

و بين ابن أخيك.

فاستحضر أبو طالب رسول اللّه و قال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كلّ الميل على قومك.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ماذا يسألونني؟

قالوا: ارفضنا و ارفض ذكر آلهتنا ندعك و إلهك.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، أ معطيّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم؟

قالوا: نعم و عشرا، أي: نعطيكها و عشر كلمات معها.

فقال: قولوا لا إله إلّا اللّه.

فقاموا و قالوا: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» إِنَّ هذا هذا الّذي يقوله محمّد من أنّ الإله واحد لَشَيْ ءٌ عُجابٌ بليغ في العجب، فإنّه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا و ما نشاهده، من أنّ الواحد لا يفي علمه و قدرته بالأشياء الكثيرة.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استعبر ثمّ قال: «يا عمّ و اللّه لو وضعت الشمس في يميني، و القمر في شمالي، ما تركت هذا القول حتّى أنفذه، أو أقتل دونه». فقال له أبو طالب: امض لأمرك، فو اللّه لا أخذلك أبدا.

[سورة ص [38]: الآيات 6 الى 8]

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ [6] ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ [7] أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ [8]

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم

ص: 8

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سمعوا ما قال أبو طالب، قائلين بعضهم لبعض: أَنِ امْشُوا اخرجوا من هذا المجلس وَ اصْبِرُوا و اثبتوا عَلى آلِهَتِكُمْ على عبادتها، و تحمّلوا المشاقّ لأجلها، فإنّه لا حيلة لكم في دفع أمر محمّد. و «أن» هي المفسّرة، لأنّ الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول.

و قيل: المراد بالانطلاق الاندفاع في القول. «و امشوا» من: مشت المرأة إذا كثرت أولادها. و منه: الماشية، أي: أكثروا و اجتمعوا للتقوّل.

إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ هذا الأمر الّذي نراه- من زيادة أصحاب محمّد- من نوائب الزمان يراد بنا، فلا مردّ له، و لا انفكاك لنا منه. أو إنّ هذا الّذي يدّعيه من التوحيد، أو يقصده من الرئاسة و الترفّع على العرب و العجم، لشي ء يتمنّى، أو يريده كلّ أحد. أو إنّ دينكم يطلب ليؤخذ منكم.

ما سَمِعْنا بِهذا الّذي يدعونا إليه محمّد من التوحيد و خلع الأنداد من اللّه فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ في الملّة الّتي أدركنا عليها آباءنا، أو في ملّة عيسى الّتي هي آخر الملل، فإنّ النصارى يثلّثون و لا يوحّدون. و يجوز أن يكون حالا من «هذا»، و لا يتعلّق ب «ما سمعنا». و المعنى: أنّا لم نسمع من أهل الكتاب و لا من الكهّان أنّه يحدث التوحيد في الملّة الآخرة. إِنْ هذا ما هذا الّذي يقوله محمّد إِلَّا اخْتِلاقٌ كذب اختلقه.

ثمّ أنكروا أن يختصّ عليه السّلام بشرف النبوّة و الوحي من بين رؤسائهم، و ينزل عليه الكتاب دونهم، و هو مثلهم أو أدون منهم في الشرف و الرئاسة، فقالوا:

أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي: كيف أنزل على محمّد القرآن من بيننا، و ليس بأكبر سنّا منّا، و لا بأعظم شرفا؟ و هذا دليل على أنّ مبدأ تكذيبهم لم يكن إلّا الحسد، و قصور النظر على الحطام الدنيوي. و قرأ قالون بمدّ الأولى و تليين الثانية شبه واو. و كذلك ابن كثير و أبو عمرو، إلّا أنّهم يقصرونها.

ص: 9

ثمّ ردّ اللّه عليهم قولهم بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن أو الوحي، لميلهم إلى التقليد، و إعراضهم عن الدليل. و ليس في عقيدتهم ما يبتّون به من قولهم: «هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» «إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ».

ثمّ هدّدهم بقوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكّهم.

و المراد: أنّهم لا يصدّقون بالقرآن حتّى يمسّهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه.

[سورة ص [38]: الآيات 9 الى 15]

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [9] أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ [10] جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [11] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ [12] وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ [13]

إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ [14] وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [15]

ثمّ أجابهم عن إنكارهم نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ بل أعندهم خزائن رحمته و في تصرّفهم حتّى يصيبوا بها من شاؤا، و يصرفوها عمّن شاؤا، فيتخيّروا للنبوّة بعض صناديدهم، و يترفّعوا بها عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و ليس الأمر كذلك، فإنّ النبوّة عطيّة من اللّه يتفضّل بها على من يشاء من عباده، لا مانع له.

الْعَزِيزِ الغالب الّذي لا يغلب الْوَهَّابِ الّذي له أن يهب كلّ ما شاء على حسب المصالح، فيختار للنبوّة من يشاء من عباده. و نظيره قوله: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ

ص: 10

عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (1).

و لمّا أنكر عليهم التصرّف في نبوّته، بأن ليس عندهم خزائن رحمته الّتي لا نهاية لها، أردف ترشيحا لهذا المعنى أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما أي: ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الّذي هو جزء يسير من خزائنه، فمن أين لهم أن يتصرّفوا فيها؟

ثمّ تهكّم بهم غاية التهكّم، فقال: إن كان لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فليصعدوا في المعارج و الطرق الّتي يتوصّل بها إلى العرش حتّى يستووا عليه، و يدبّروا أمر العالم، فينزلوا الوحي إلى من يستصوبون. و السبب في الأصل هو الوصلة. و قيل: المراد بالأسباب السماوات، لأنّها أسباب الحوادث السفليّة.

ثمّ استصغرهم و استحقرهم عن هذا الأمر الجليل و الخطب العظيم، فقال:

جُنْدٌ ما «ما» مزيدة للتقليل، كقولك: أكلت شيئا ما، أي: هم جند قليل حقير جدّا هُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول. أو إشارة إلى مصارعهم ببدر. مَهْزُومٌ مكسور عمّا قريب مِنَ الْأَحْزابِ من الكفّار المتحزّبين على الرسل، و أنت منصور عليهم مظفّر غالب، فمن أين لهم التدابير الإلهيّة و التصرّف في الأمور الربّانيّة؟ فلا تبال بما يقولون.

ثمّ هدّدهم باستئصال الأحزاب المكذّبين المعاندين في سالف زمانهم، فقال:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء الكفّار قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ذو الملك الثابت بالأوتاد، كقوله:

و لقد غنوا فيها بأنعم عيشةفي ظلّ ملك ثابت الأوتاد مأخوذ من ثبات البيت المطنّب بأوتاده. أو ذو الجموع الكثيرة. سمّوا بذلك لأنّهم يشدّون ملكه، و يقرّون أمره. أو لأنّ بعضهم يشدّ بعضا، كالوتد يشدّ البناء. أو

ص: 11


1- الدّخان: 32.

لكثرة أوتاد خيامهم.

و قيل: نصب أربع سوار، و كان يمدّ يدي المعذّب و رجليه إليها، و يضرب عليها أوتادا، و يتركه حتّى يموت.

و قيل: كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض، و يرسل عليه الحيّات و العقارب.

و عن ابن عبّاس و قتادة و عطاء: أنّه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها.

وَ ثَمُودُ و هم قوم صالح وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ و أصحاب الغيضة (1). و هم قوم شعيب. و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر: ليكة.

و لمّا ذكر هؤلاء المكذّبين، أعلمنا أنّ مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب، فقال: أُولئِكَ أي: أولئك المكذّبون المعاندون الْأَحْزابُ هم المتحزّبون على الرسل الّذين جعل الجند المهزوم منهم.

ثمّ صرّح بما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام، فقال على أبلغ تأكيد:

إِنْ كُلٌ ما كلّ واحد من الأحزاب إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ كذّب جميع الرسل، لأنّهم إذا كذّبوا واحدا منهم فقد كذّبوهم جميعا. و يجوز أن يكون ذلك مقابلة الجمع بالجمع تسجيلا. و في تكرير التكذيب و إيضاحه بعد إبهامه، و التنويع في تكريره بالجملة الخبريّة أوّلا، و بالاستثنائيّة ثانيا، و ما في الاستثنائيّة من الوضع على وجه التوكيد و التخصيص، أنواع من المبالغة المسجّلة عليهم، باستحقاق أشدّ العقاب و أبلغه.

و لذلك رتّب عليه فَحَقَّ عِقابِ أي: فوجب أن أعاقبهم حقّ عقابهم.

وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي: و ما ينتظر قومك أو الأحزاب، فإنّهم كالحاضرين، لاستحضارهم بالذكر، أو حضورهم في علم اللّه إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى ما لَها مِنْ فَواقٍ من توقّف مقدار فواق. و هو ما بين جلستي الحالب

ص: 12


1- الغيضة: الأجمة، و مجتمع الشجر في مغيض الماء.

و رضعتي الراضع. يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (1).

و عن ابن عبّاس: ما لها من رجوع و ترداد. من: أفاق المريض إذا رجع إلى الصحّة. و فواق الناقة ساعة يرجع اللبن إلى الضرع. يريد: أنّها نفخة واحدة فحسب، لا تثنّى و لا تردّد. و قرأ حمزة و الكسائي بالضمّ. و هما لغتان.

[سورة ص [38]: الآيات 16 الى 20]

وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [16] اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [17] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ [18] وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [19] وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ [20]

روي: أنّه لمّا نزل فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ (2)، قالت قريش: زعمت يا محمّد أنّا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعجّل لنا كتبنا الّتي نقرؤها في الآخرة، استهزاء منهم بهذا الوعيد و تكذيبا به. فنزلت:

وَ قالُوا و قال هؤلاء الكفّار: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قسطنا من العذاب الّذي توعدنا به. أو الجنّة الّتي تعدها للمؤمنين. و هو من: قطّه إذا قطعه. فسمّي القسط القطّ، لأنّه قطعة من الشي ء. و منه قطّ الصحيفة الجائزة، لأنّه قطعة من القرطاس. و قد فسّر بهما، أي: عجّل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها. قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ

ص: 13


1- الأعراف: 34.
2- الحاقّة: 19 و 25.

و لمّا كانوا استعجلوا ذلك استهزاء قال: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من تكذيبك، فإنّ و بال ذلك يعود عليهم وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ و اذكر لهم قصّة داود، تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنّه مع علوّ شأنه و اختصاصه بعظائم النعم و المكرمات، و كمال زلفته عند اللّه سبحانه، لمّا زلّ زلّة من ترك الأولى، وبّخه الملائكة بالتمثيل و التعريض حتّى تفطّن فاستغفر ربّه و أناب، و وجد منه ما يحكي عن بكائه الدائم و غمّه الواصب (1)، و لا يزال مجدّدا للندم عليها، فما الظنّ بكم مع كفركم و فرط معاصيكم؟! أو تذكّر قصّته، و صن نفسك أن تزلّ فيما كلّفت من مصابرتهم و تحمّل أذاهم، فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهماله.

ذَا الْأَيْدِ ذا القوّة في الدين و العبادة. يقال: رجل أيد و ذو أيد و أياد، بمعنى ما يتقوّى به. و روي: أنّه يقوم نصف الليل، و يصوم نصف الدهر، كان يصوم يوما و يفطر يوما، و ذلك أشدّ الصوم.

و قيل: ذا القوّة على الأعداء و قهرهم. و ذلك لأنّه رمى بحجر من مقلاعه صدر رجل، فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله.

و قيل: معناه: ذا التمكين العظيم، و النعم الجليلة. و ذلك أنّه كان يبيت كلّ ليلة حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال.

إِنَّهُ أَوَّابٌ توّاب، رجّاع عن كلّ ما يكره اللّه إلى ما يحبّ. من: آب يؤوب إذا رجع. و هذا تعليل للأيد، و دليل على أنّ المراد به القوّة في الدين.

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ قد سبق (2) تفسير تسخير الجبال مع داود.

و «يسبّحن» حال وضع موضع: مسبّحات، لاستحضار الحال الماضية، و الدلالة على تجدّد التسبيح من الجبال حالا بعد حال.

ص: 14


1- أي: الدائم.
2- راجع ج 4 ص 343، ذيل الآية 79 من سورة الأنبياء.

بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وقت دخول الشروق. يقال: أشرقت الشمس و لمّا تشرق. من: أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق. و منه قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (1). و قول الجاهليّة: أشرق ثبير (2) كيما نغير، أي: و ادخل في الضوء لنغير. و يراد وقت صلاة الفجر، لانتهائه بالشروق.

و المعنى: يسبّحن اللّه إذا سبّح وقت الرواح و الصباح. و ذلك إمّا بأن خلق اللّه فيهنّ التسبيح، أو بنى فيها بنية يتأتّى منها التسبيح معجزة له عليه السّلام.

و كذلك قوله: وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً مجموعة إليه من كلّ جانب. و إنّما لم يقل: يحشرن، مع أنّ فيه المطابقة بين الحالين، لأنّ الحشر جملة أدلّ على القدرة منه مدرّجا.

و عن ابن عبّاس: كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، و اجتمعت إليه الطير فسبّحته، فذلك حشر الطير.

كُلٌّ لَهُ أي: كلّ واحد من الجبال و الطير لأجل داود- أي: لأجل تسبيحه- أَوَّابٌ رجّاع إلى التسبيح. و وضع الأوّاب موضع المسبّح، إمّا لأنّها كانت ترجّع التسبيح، و المرجّع رجّاع، لأنّه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع. و إمّا لأنّ الأوّاب- و هو التوّاب الكثير الرجوع إلى اللّه تعالى و طلب مرضاته- من عادته أن يكثر ذكر اللّه، و يديم تسبيحه و تقديسه.

و قيل: الضمير للّه، أي: كلّ منهما و من داود مرجّع للّه التسبيح. و الفرق بينه و بين «يسبّحن» أنّه يدلّ على الموافقة في التسبيح، و هذا يدلّ على المداومة عليها.

وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ و قوّيناه بالحرس و الجنود و كثرة العدد و العدّة و الهيبة، بأن قذفنا في قلوب قومه هيبته.

ص: 15


1- الحجر: 73.
2- ثبير: اسم جبل بمكّة.

روي: أنّ رجلا ادّعى عنده بقرة على آخر، و عجز عن إقامة البيّنة، فأوحي إليه في المنام: أن اقتل المدّعى عليه. فقال: هذا منام. فأعيد الوحي في اليقظة، فأعلم الرجل. فقال: صدقت، إنّ اللّه لم يأخذني بهذا الذنب، و لكن بأنّي قتلت أبا هذا غيلة، و أخذت البقرة. فقتله، فعظمت بذلك هيبته.

و قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم (1) يحرسونه.

وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوّة. أو كمال العلم و إتقان العمل.

و قيل: كلّ كلام وافق الحقّ فهو حكمة. وَ فَصْلَ الْخِطابِ و فصل الخصام بتمييز الحقّ عن الباطل. و هو بمعنى المفعول، أي: كلام مفصول بعضه من بعض. فمعنى فصل الخطاب: الكلام المخلص الّذي ينبّه من يخاطب به على المقصود من غير التباس عليه. و من فصل الخطاب أن لا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل و الوصل، و العطف و الاستئناف، و الإضمار و الإظهار، و الحذف و التكرار، و نحوها.

و يجوز أن يكون بمعنى الفاعل، كالصوم (2) و الزور. و المعنى: الكلام الفاصل بين الخطاب الّذي يفصل بين الصحيح و الفاسد، و الحقّ و الباطل، و الصواب و الخطأ.

و هو كلامه في القضايا و الحكومات و تدابير الملك. و سمّي به «أمّا بعد» لأنّه يفصل المقصود عمّا سبق مقدّمة له، من الحمد و الصلاة.

و قيل: هو الخطاب المتوسّط الّذي ليس فيه اختصار مخلّ، و لا إشباع مملّ.

كما جاء في وصف كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فصل، لا نزر، و لا هذر (3).

و عن عليّ عليه السّلام: «هو قوله: البيّنة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه».

روي: أنّه كان أهل زمان داود عليه السّلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوّجها إذا أعجبته. و كانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. و قد روي

ص: 16


1- أي: لابس اللأمة، و هي الدرع.
2- يقال: هو صوم، أي: صائم. و رجل زور، أي: زائر.
3- النزر: القليل. و الهذر: الكلام الردي ء الّذي لا يعبأ به.

أنّ الأنصار أيضا كانوا يواسون المهاجرين مثل ذلك. فاتّفق (1) أنّ عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له: أوريا، و قيل: هو أخوه، فأحبّها، فسأله النزول له عنها، فاستحى أن يردّه ففعل، فتزوّجها، و هي أمّ سليمان. فعوتب بأنّك مع عظم منزلتك، و ارتفاع مرتبتك، و كبر شأنك، و كثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلّا امرأة واحدة النزول، بل كان ملائم شأنك الرفيع مغالبة هواك، و قهر نفسك، و الصبر على ما امتحنت به. فعوتب على ذلك بنزول ملكين عليه، كما حكاه اللّه سبحانه، بعد أن أخبر أنّه أعطي الحكمة و فصل الخطاب.

[سورة ص [38]: الآيات 21 الى 26]

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [21] إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ [22] إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ

ص: 17


1- هذه الرواية رواها البيضاوي في (أنوار التنزيل 5: 17) و غيره من المفسّرين. وليت المفسّر قدّس سرّه لم يذكرها أصلا، لأنّها تتنافى و قداسة الأنبياء عليهم السّلام و عصمتهم، و تتضمّن أفحش الافتراء و الظلم على داود عليه السّلام، و نسبة الخلاعة و المجون و معاشقة حلائل الناس إليه، ممّا يتعاطاه الفسقة و المستهترين بحرمات اللّه تعالى. و في لفظ البيضاوي: فعشقها. مع أنّه روى ذيل هذه الرواية عن عليّ عليه السّلام: «أنّ من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة و ستّين». و ناهيك بهذا حكما قاطعا، و عقابا صارما، و هو إمام المتّقين، و أقضى الأمّة، على ما نطق به الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لعلّ جلد مائة و ستّين حدّ الفرية على الأنبياء. فالرواية أشبه ما تكون من خرافات الجهّال و الدجّالين، و أساطير القصّاص و المشعوذين. و رحم اللّه المفسّر، فما كان الأجدر و الأليق به أن يطوي عن ذكرها كشحا، و يتركها في قفص المهملات و الموضوعات.

[23] قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ [24] فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ [25]

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [26]

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ معنى الاستفهام التعجيب، و التشويق إلى استماعه، و التنبيه على موضع إخلاله ببعض ما كان ينبغي أن يفعله. و الخصم في الأصل مصدر يقع على الواحد و الجمع، كالضيف في قول اللّه تعالى: حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (1).

و المعنى: هل بلغك خبر الخصماء إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إذ تصعّدوا سور الغرفة، و هي مصلّاه. و السور الحائط المرتفع. و نظيره: تسنّمه إذا علا سنامه، و تفرّعه إذا علا فرعه (2).

و «إذ» متعلّق بمحذوف، أي: نبأ تحاكم الخصماء إذ تسوّروا. أو بالنبإ، على

ص: 18


1- الذاريات: 24.
2- الفرع من كلّ شي ء: أعلاه المتفرّع من أصله.

أنّ المراد به الواقع في عهد داود، و أنّ إسناد «أتى» إليه على حذف مضاف، أي:

قصّة نبأ الخصم. أو بالخصم، لما فيه من معنى الفعل. لا ب: أتى، لأنّ إتيانه الرسول عليه السّلام لم يكن حينئذ.

و «إذ» في قوله: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ بدل من الأولى، أو ظرف ل «تسوّروا» فَفَزِعَ مِنْهُمْ لأنّهم نزلوا عليه من فوق، في يوم الاحتجاب، و الحرس على الباب، لا يتركون من يدخل عليه. فإنّه كان جزّأ زمانه على أربعة أجزاء: يوما للعبادة، و يوما للقضاء، و يوما للوعظ، و يوما للاشتغال بخاصّته. فتسوّر عليه ملائكة على صورة الإنسان في يوم الخلوة.

قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان، على تسمية مصاحب الخصم خصما بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ و هو على الفرض و قصد التعريض إن كانوا ملائكة، و هو المشهور فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ و لا تجر في الحكومة بالميل لأحدنا على صاحبه. من الشطط، و هو مجاوزة الحدّ. وَ اهْدِنا و أرشدنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إلى وسط الطريق الّذي هو طريق العدل.

فقال أحد الخصمين له: إِنَّ هذا أَخِي في الدين أو الصحبة لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً هي الأنثى من الضأن. و قد يكنّى بها عن المرأة، و الكناية و التمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود. وَ لِيَ قرأ حفص بفتح الياء نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها ملّكنيها. و حقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي. و قيل: معناه: اجعلها كفلي، أي: نصيبي. وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ و غلبني في مخاطبته إيّاي محاجّة، بأن جاء بحجاج و جدال لم أقدر على ردّه. أو في مغالبته إيّاي في الخطبة. يقال: خطبت المرأة و خطبها هو فخاطبني خطابا، أي: غالبني في الخطبة فغلبني، حيث تزوّجها دوني.

قيل: إنّ الخصمين كانا من الإنس، و كانت الخصومة على الحقيقة بينهما، إمّا

ص: 19

كانا خليطين في الغنم، و إمّا كان أحدهما موسرا و له نسوان كثيرة من المهائر و السراري، و الثاني معسرا ما له إلّا امرأة واحدة، فاستنزله عنها.

قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ جواب قسم محذوف، قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه و تهجين طمعه. و لعلّه قال ذلك بعد اعتراف المدّعى عليه، أو على تقدير صدق المدّعي. و السؤال مصدر مضاف إلى مفعوله. و تعديته إلى مفعول آخر ب «إلى» لتضمّنه معنى الإضافة. كأنّه قال: بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال و الطلب.

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الّذين خلطوا أموالهم. جمع خليط.

لَيَبْغِي ليتعدّى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنّهم لا يظلم بعضهم بعضا وَ قَلِيلٌ ما هُمْ و هم قليل جدّا. و «ما» مزيدة للإبهام و التعجّب من قلّتهم. و المقصود من ذلك القول: الموعظة الحسنة، و الترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الّذين حكم لهم بالقلّة، و تكريه الظلم- الّذي أكثرهم عليه- إليهم، مع التأسّف على حالهم، و تسلية المظلوم عمّا جرى عليه من خليطه.

وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ابتليناه بترك الأولى، أو امتحنّاه بتلك الحكومة هل يتنبّه بها؟ و لمّا كان غلبة الظنّ كالعلم استعير له. و المعنى: و علم داود و أيقن أنّما اختبرناه و ابتليناه لا محالة. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لترك الأولى وَ خَرَّ راكِعاً ساجدا، على تسمية السجود ركوعا، لأنّه مبدؤه. أو خرّ للسجود راكعا، أي: مصلّيا، كأنّه أحرم بركعتي الاستغفار. وَ أَنابَ إليه. و قيل: سقط ساجدا للّه تعالى و رجع إليه.

و قد يعبّر عن السجود بالركوع.

و عن ابن مجاهد: مكث ساجدا أربعين يوما و ليلة، لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة، أو لحاجة لا بدّ منها. و لا يرقأ (1) دمعه حتّى نبت العشب من دمعه. و لم

ص: 20


1- أي: لا يجفّ و لا ينقطع.

يشرب ماء إلّا و ثلثاه دمع. و جهد نفسه راغبا إلى اللّه في العفو عنه، حتّى كاد يهلك.

و اشتغل بذلك عن الملك، حتّى و ثب ابن له يقال له: إيشا على ملكه، و دعا إلى نفسه، و اجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل.

فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي: ما استغفر عنه وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربة وَ حُسْنَ مَآبٍ مرجع في الجنّة. و لمّا غفر له حارب ابنه فهزمه. و قيل: إنّه نقش هذه الزلّة في كفّه حتّى لا ينساه.

و اختلف في أنّ استغفار داود من أيّ شي ء كان؟ فقيل: إنّه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى، و الخضوع له، و التذلّل بالعبادة و السجود. كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السّلام بقوله: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (1).

و أما قوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ فمعناه: أنّا قبلناه منه و أثبناه. و لمّا كان المقصود من الاستغفار و التوبة القبول، قيل في جوابه: غفرنا. و هذا قول من ينزّه الأنبياء عن جميع الذنوب، من الاماميّة و غيرهم.

و من جوّز على الأنبياء الصغائر قال: إنّ استغفاره كان لذنب صغير وقع منه.

و هو أنّ أوريا بن حيّان خطب امرأة، و كان أهلها أرادوا أن يزوّجوها منه، فبلغ داود جمالها، فخطبها أيضا فزوّجوها منه، و قدّموه على أوريا. فعوتب داود على حرصه على الدنيا، و على أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.

و قيل: إنّه خرج أوريا إلى بعض ثغوره فقتل، فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده، إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته، فعوتب على ذلك بنزول الملكين.

و قيل: إنّه كان في شريعته أنّ الرجل إذا مات و خلّف امرأة فأولياؤه أحقّ بها، إلّا أن يرغبوا عن التزوّج بها، فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوّج بها. فلمّا قتل أوريا خطب داود امرأته، و منعت هيبة داود و جلالته أولياءه أن يخطبوها،

ص: 21


1- الشعراء: 82.

فعوتب على ذلك.

و قيل: إنّ داود كان متشاغلا بالعبادة، فأتاه رجل و امرأة متحاكمين إليه، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها، و ذلك نظر مباح، فمالت نفسه إليها ميل الطباع، فعاد إلى عبادة ربّه، فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله، فعوتب.

و قيل: إنّه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبّت، و كان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها، و لا يحكم عليه قبل ذلك. و إنّما أنساه التثبّت في الحكم، فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة.

و أمّا ما ذكر في القصّة: أنّ داود كان كثير الصلاة، فقال: يا ربّ فضّلت عليّ إبراهيم فاتّخذته خليلا، و فضّلت عليّ موسى فكلّمته تكليما. فقال: يا داود إنّا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله، فإن شئت ابتليتك. فقال: نعم، يا ربّ فابتلني.

فبينا هو في محرابه ذات يوم، إذ وقعت حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة المحراب، فذهب ليأخذها، فاطّلع من الكوّة فإذا امرأة أوريا بن حيّان تغتسل، فهواها و همّ بتزوّجها، فبعث باوريا إلى بعض سراياه، و أمر بتقديمه أمام التابوت الّذي فيه السكينة، ففعل ذلك و قتل، فلمّا انقضت عدّتها تزوّجها و بنى بها، فولد له منها سليمان. فبينا هو ذات يوم في محرابه يقرأ الزبور، إذ دخل عليه رجلان، ففزع منهما. فقالا: «لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» إلى قوله: «وَ قَلِيلٌ ما هُمْ». فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثمّ ضحك.

فتنبّه داود على أنّهما ملكان، بعثهما اللّه إليه في صورة خصمين، ليبكّتاه على خطيئته.

فممّا (1) لا شبهة في فساد ذلك، فإنّه ممّا يقدح في العدالة. و كيف يجوز أن

ص: 22


1- خبر لقوله: و أمّا ما ذكر ...، في بداية الفقرة السابقة.

يكون أنبياء اللّه تعالى الّذين هم أمناؤه على وحيه، و سفراؤه بينه و بين خلقه، بصفة من لا يجوز قبول شهادته، و على حالة تنفّر عن الاستماع إليه و القبول منه؟! جلّ أنبياء اللّه عن ذلك.

و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لا اوتى برجل يزعم أن داود تزوّج امرأة أوريا، إلّا جلدته حدّين: حدّا للنبوّة، و حدّا للإسلام».

و برواية عنه عليه السّلام: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص، جلدته مائة و ستّين».

و هي حدّ الفرية على الأنبياء.

ثمّ ذكر سبحانه إتمام نعمته على داود، فقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها لتدبير أمور العباد من قبلنا بأمرنا، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد، و يملّكه عليها. و منه قولهم: خلفاء اللّه في أرضه. أو جعلناك خليفة ممّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحقّ. و فيه دليل على أنّ حاله بعد الإنابة و التوبة عن ترك الأولى بقيت على ما كانت عليه لم تتغيّر.

فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ أي: بحكم اللّه، إذ كنت خليفته وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى ما تهوى الأنفس من مخالفة الحقّ. و هو يؤيّد ما قيل: إنّ زلّته المبادرة إلى تصديق المدّعي، و تظليم الآخر قبل مسألته. فَيُضِلَّكَ أي: إن اتّبعت الهوى فيعدل الهوى بك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دلائله الّتي نصبها في العقول- أو في شرائعه بالوحي- على الحقّ.

إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعدلون عمّا أمرهم اللّه به لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا بسبب نسيانهم، أي: تركهم طاعات اللّه في الدنيا. و على هذا يكون قوله: يَوْمَ الْحِسابِ متعلّق ب «عذاب شديد». أولهم عذاب شديد بإعراضهم عن ذكر يوم القيامة. فيكون متعلّقا ب «نسوا».

ص: 23

[سورة ص [38]: الآيات 27 الى 29]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [27] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [28] كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [29]

ثمّ نبّه العباد على وجوب ملازمة الحقّ و مخالفة الهوى، بقوله: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا خلقا باطلا، أي: عبثا لا لغرض صحيح و حكمة بالغة، كما هو مقتضى الهوى. أو ذوي باطل، بمعنى: مبطلين عابثين، كقوله: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (1). أو عبثا، فوضع «باطلا» موضعه، كما وضعوا «هنيئا لك» موضع المصدر. بل خلقناهما بالحقّ الّذي هو مقتضى الدليل، من التوحيد و التدرّع بالشرع.

ذلِكَ إشارة إلى خلقهما باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: مظنونهم فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ بسبب هذا الظنّ الباطل.

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ «أم» منقطعة. و معنى الاستفهام فيها إنكار التسوية بين المؤمنين الصالحين و الكافرين المفسدين، الّتي دلّ على نفيها خلق السماوات و الأرض بالحقّ. و كذلك «أم» الّتي في قوله: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كأنّه أنكر التسوية أوّلا بين المؤمنين و الكافرين، ثمّ بين المتّقين من المؤمنين و المجرمين منهم.

و يجوز أن يكون تكريرا للإنكار الأوّل باعتبار وصفين آخرين يمنعان

ص: 24


1- الأنبياء: 16.

التسوية من الحكيم.

و المعنى: أنّه لو بطل الجزاء كما قال المشركون لاستوت عند اللّه أحوال من أصلح و أفسد، و اتّقى و فجر، و من سوّى بينهما كان سفيها و لم يكن حكيما.

و الآية تدلّ على صحّة القول بالحشر، فإنّ التفاضل بينهما إمّا أن يكون في الدنيا، و الغالب فيها عكس ما تقتضي الحكمة فيه، أو في غيرها، و ذلك يستدعي أن تكون دار اخرى يجازون فيها.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ نفّاع لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ليتفكّروا فيها، فيعرفوا ما يدبّر ظاهرها من التأويلات الصحيحة و المعاني الحسنة، فإنّ من اقتنع بظاهر المتلوّ، كان مثله كمثل من له لقحة (1) درور لا يحلبها، و مهرة نثور لا يستولدها.

و عن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد و صبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه و ضيّعوا حدوده، حتّى إنّ أحدهم ليقول: و اللّه لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا. و قد و اللّه أسقطه كلّه، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق و لا عمل. و اللّه ما هو بحفظ حروفه و إضاعة حدوده. و اللّه ما هؤلاء بالحكماء و لا الوزعة (2)، لا كثّر اللّه في الناس مثل هؤلاء. اللّهمّ اجعلنا من العلماء المتدبّرين، و أعذنا من القرّاء المتكبّرين.

[سورة ص [38]: الآيات 30 الى 40]

وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [30] إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ [31] فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ

ص: 25


1- اللقحة: الناقة الحلوب الغزيرة اللبن. و الدرور أيضا: الناقة الكثيرة الدرّ. و المهرة و المهر: ولد الفرس. و النثور: الكثيرة الولد.
2- الوزعة جمع الوازع، و هو الذي يكفّ عن الضرر، أو يزجر نفسه عن معاصي اللّه تعالى.

رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [32] رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ [33] وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [34]

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [35] فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [36] وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ [37] وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [38] هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ [39]

وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ [40]

ثمّ عطف سبحانه على قصّة داود حديث سليمان عليه السّلام، فقال: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي: نعم العبد سليمان، إذ ما بعده تعليل للمدح. و هو بيان حال سليمان. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى اللّه بالتوبة من ترك الأولى. أو مؤوّب للتسبيح مرجّع له.

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ظرف ل «أوّاب» أو ل «نعم» بِالْعَشِيِ بعد الظهر الصَّافِناتُ الصافن من الخيل: الّذي يقوم على ثلاث قوائم، و يضع طرف السنبك (1) الرابع على الأرض. و هو من الصّفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يكون إلّا في العراب (2) الخلّص. الْجِيادُ جمع جواد أو جود. و هو الّذي يسرع في

ص: 26


1- السنبك: طرف الحافر. و الحافر: هو للدابّة بمنزلة القدم للإنسان.
2- العراب من الخيل: ما كانت كرائم سالمة من الهجنة.

جريه واسع الخطو. و قيل: الّذي يجود في الركض. و قيل: جمع جيّد. وصف الخيل بالصفون و الجودة، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة و جارية. يعني: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنّة في مواقفها، و إذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها.

روي: أنّ سليمان عليه السّلام غزا دمشق و نصيبين، فأصاب ألف فرس. و قيل:

أصابها أبوه من العمالقة، فورثها منه فاستعرضها، فلم تزل تعرض عليه حتّى غربت الشمس، و غفل عن ورد من الذكر كان له وقت العشيّ.

و في روايات أصحابنا أنّه فاته العصر أوّل الوقت. و رووا عن قتادة و السدّي:

أنّ هذه الخيل شغلته عن صلاة العصر حتّى فات وقتها.

و عن الجبّائي: لم يفته الفرض، و إنّما فاته نفل كان يفعله آخر النهار، لاشتغاله بالخيل، فاغتمّ لما فاته، فاستردّها فعقرها تقرّبا للّه، و بقي مائة، فما بقي في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها. و قيل: لمّا عقرها أبدله اللّه خيرا منها.

و قال الحسن: كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة، و كان سليمان قد صلّى الصلاة الأولى، و قعد على كرسيّه، و الخيل تعرض عليه حتّى غابت الشمس.

فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي «أحببت» في الأصل متعدّ ب «على»، لأنّه بمعنى: آثرت، لكن لمّا أنيب مناب فعل يتعدّى ب «عن»، مثل: أنبت، عدّي تعديته. كأنّه قال: جعلت حبّ الخير نائبا أو مغنيا عن الطاعة. و قيل: هو بمعنى: تقاعدت. و نصبه على العلّية. و المفعول به محذوف، مثل: الخيل.

و الخير: المال الكثير، كقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً (1). و قوله: وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (2). و المراد به هاهنا الخيل الّتي شغلته. و يحتمل أنّه سمّاها خيرا لتعلّق الخير بها، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».

ص: 27


1- البقرة: 180.
2- العاديات: 8.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بفتح الياء.

حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي: غربت الشمس. شبّه غروبها بتواري الملك أو المخدّرة بحجابهما. و إضمارها من غير ذكر لدلالة العشيّ عليها. و قيل: الضمير للصافنات، أي: حتّى توارت بحجاب الليل، يعني: الظلام.

رُدُّوها عَلَيَ الضمير للصافنات. و عن عليّ عليه السّلام: «الخطاب للملائكة، و الضمير للشمس»

أي: قيل للملائكة: ردّوا الشمس لأصلّي العصر، فردّت الشمس فَطَفِقَ فأخذ يمسح السيف مَسْحاً بِالسُّوقِ جمع ساق، كالأسد جمع أسد وَ الْأَعْناقِ جمع العنق، أي بسوقها و أعناقها، أي: يقطعها. من قولهم: مسح علاوته، أي: ضرب عنقه. و مسح المجلّد الكتاب، إذا قطع أطرافه بسيفه. و قيل:

جعل يمسح بيده أعناقها و سوقها حبّا لها، ثمّ جعلها مسبّلة في سبيل اللّه.

و عن ابن كثير: بالسّوق على همز الواو، لضمّة ما قبلها، كمؤسى. و عن أبي عمرو: بالسّؤوق، كغؤور، مصدر: غارت الشمس.

عن ابن عبّاس: سألت عليّا عليه السّلام عن هذه الآية. فقال: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتّى فاتته الصلاة، فقال: ردّوها عليّ- يعني: الأفراس- و كان أربعة عشر، فأمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها، فسلبه اللّه ملكه أربعة عشر يوما، لأنّه ظلم بقتلها.

فقال عليّ عليه السّلام: كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم، لأنّه أراد جهاد العدوّ، حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر اللّه للملائكة: ردّوا الشمس عليّ، فردّت، فصلّى العصر في وقتها. و إنّ أنبياء اللّه لا يظلمون، و لا يأمرون بالظلم، لأنّهم معصومون مطهّرون.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ سليمان عليه السّلام قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، تأتي كلّ واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه، و لم يقل: إن شاء اللّه. فطاف

ص: 28

عليهنّ، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل. فو الّذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء اللّه، لجاهدوا فرسانا أجمعين».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه ولد له ابن، فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفكّ من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبّله. فعلم ذلك، فأشفق منهم عليه، فاسترضعه في المزن، و هو السحاب، فما أشعر به إلّا أن القي على كرسيّه ميّتا».

فتنبّه على ترك الأولى، بأن لم يتوكّل على اللّه، فاستغفر ربّه و تاب إليه. فأخبر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك ليتوكّل عليه، و لا يترك كلمة المشيئة في أمر من الأمور الّذي أراد فعله، فقال:

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ اختبرناه و ابتليناه، و شدّدنا المحنة عليه وَ أَلْقَيْنا و طرحنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً لا روح فيه ثُمَّ أَنابَ رجع إلى اللّه، و فزع إلى الصلاة و الدعاء على وجه الانقطاع إليه سبحانه. و هذا لا يقتضي أنّه وقع منه معصية صغيرة أو كبيرة، لأنّه عليه السّلام و إن لم يستثن ذلك لفظا، فلا بدّ من أن يكون قد استثناه ضميرا و اعتقادا، إلّا أنّه لمّا لم يذكر لفظة الاستثناء عوتب على ذلك، من حيث ترك ما هو مندوب إليه.

و قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة، و ملك بعد الفتنة عشرين سنة.

و ما قيل: من أنّ سليمان بلغه خبر صيدون، و هي مدينة في بعض الجزائر، و أنّ بها ملكا عظيم الشأن لا يقوى عليه، لتحصّنه بالبحر. فخرج إليه تحمله الريح حتّى أناخ بها بجنوده، فقتل ملكها، و أصاب بنتا له اسمها جرادة، من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه، و أسلمت و أحبّها. و كان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها، فأمر الشياطين فمثّلوا لها صورة أبيها، فكستها مثل كسوته، و كانت تغدو إليها و تروح مع ولائدها- أي: جواريها- يسجدن له، كعادتهنّ في ملكه. فأخبره آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة و ضرب المرأة، و خرج وحده إلى الفلاة باكيا، و فرش

ص: 29

له الرماد، فجلس عليه تائبا إلى اللّه متضرّعا.

و كانت له أمّ ولد اسمها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، و كان ملكه فيه. فوضعه عندها يوما، فتمثّل لها بصورته شيطان هو صاحب البحر، اسمه صخر، فقال: يا أمينة أعطني خاتمي. فأخذ الخاتم فتختّم به، و جلس على كرسيّ سليمان، فاجتمع عليه الجنّ و الإنس و الطير، و نفذ حكمه في كلّ شي ء.

و غيّر سليمان عن هيئته، فأتاها لطلب الخاتم فطردته، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته. فكان يدور على البيوت يتكفّف (1)، فإذا قال: أنا سليمان حثوا عليه التراب و سبّوه. ثمّ عمد إلى السمّاكين ينقل لهم السموك، فيعطونه كلّ يوم سمكتين. فمكث على ذلك أربعين يوما، عدد ما عبدت الصورة في بيته.

فأنكر آصف و عظماء بني إسرائيل حكم الشيطان. و سأل آصف نساء سليمان، فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها، و لا يغتسل من جنابة. و قيل: بل نفذ حكمه في كلّ شي ء إلّا فيهنّ.

ثمّ طار الشيطان، و قذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة. و كان سليمان يستطعم فلا يطعم، حتّى أعطته امرأة يوما حوتا، فشقّ بطنه فوجد خاتمه فيه، فتختّم و خرّ ساجدا، و رجع إليه الملك. و جاب (2) صخرة لصخر فجعله فيها، و سدّ عليه بأخرى، ثمّ أوثقهما بالحديد و الرصاص، و قذفه في البحر.

لقد أبى (3) عقول العلماء الراسخين في العلم قبوله، و قالوا: هذا من أباطيل اليهود، و الشياطين لا يتمكّنون من مثل هذه الأفاعيل. كيف و تسليط اللّه إيّاهم على عباده حتّى يقعوا في تغيير الأحكام، و على نساء الأنبياء حتّى يفجروا بهنّ،

ص: 30


1- أي: يستعطي الناس بكفّه.
2- جاب الصخرة: خرقها.
3- خبر لقوله: و ما قيل ...، في بداية القصّة.

و تمكينهم من التمثيل بصورة النبيّ، و من القعود على سريره، قبيح. و أيضا لا يجوز عقلا أن تكون النبوّة في الخاتم، و يسلبها عن النبيّ عند الخلع.

و أمّا اتّخاذ التماثيل، فيجوز أن تختلف فيه الشرائع. ألا ترى إلى قوله: مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ (1). و أمّا السجود للصورة، فلا يظنّ بنبيّ اللّه أن يأذن فيه. و إذا كان بغير علمه فلا عليه. و قوله: «وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» ناب و آب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّا و إباء ظاهرا.

قالَ على وجه الانقطاع إلى اللّه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ لا يتسهّل له و لا يكون، لعظمته مِنْ بَعْدِي أي: من دوني. و لا يستلزم منه الحسد و الحرص على الاستبداد بالنعم، حيث استعطى اللّه ما لا يعطيه غيره، لأنّه عليه السّلام كان ناشئا في بيت الملك و النبوّة، وارثا لهما. فأراد أن يطلب معجزة، فطلب على حسب ألفه (2) ملكا زائدا على الممالك، زيادة خارقة للعادة بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوّته قاهرا للمبعوث إليهم، و أن يكون معجزة تخرق العادات. فذلك معنى قوله: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي».

و قيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى أحد مثله، فلا يحافظ على حدود اللّه فيه.

و قيل: ملكا لا اسلبه و لا يقوم غيري فيه مقامي، كما سلبته مرّة و أقيم مقامي غيري.

و يجوز أن يقال: علم اللّه فيما اختصّه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، و علم أنّه لا يضطلع بأعبائه غيره، و أوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إيّاه، فاستوهبه بأمر من اللّه على الصفة الّتي على اللّه أنّه لا يضبطه عليها إلّا

ص: 31


1- سبأ: 13.
2- مصدر: ألف يألف ألفا.

هو وحده دون سائر عباده.

أو أراد أن يقول: ملكا عظيما، فقال: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي». و لا يقصد بذلك إلّا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل و المال، و ربّما كان للناس أمثال ذلك، و لكنّك تريد تعظيم ما عنده.

و كيف يكون نبيّ اللّه موصوفا بالصفات السيّئة الرديئة، من الحسد و الضنّة (1) و المنافسة، و الحال أنّ الغرض من بعثة الأنبياء تزكيتهم عن الأخلاق السيّئة المذمومة، و تعليمهم الأخلاق الحسنة المرضيّة؟! فكيف أمروا بما لم يتّصفوا به؟

و ما ذلك إلّا اعتقاد الزنادقة، و منهم الحجّاج لعنه اللّه حين قيل له: إنّك حسود، فقال:

أحسد منّي من قال: «هب لي ملكا». و من جرأته على اللّه و شيطنته أنّه قال: طاعتنا على العباد أوجب من طاعة اللّه عليهم، لأنّه شرط في طاعته فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2)، و أطلق طاعتنا فقال: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (3).

و تقديم الاستغفار على الاستيهاب جريا على عادة الأنبياء و الصالحين في مزيد اهتمامهم بأمر دينهم، و تقديمه على أمور دنياهم، و وجوب تقديم ما يجعل الدعاء بصدد الإجابة. و قرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي ما تشاء لمن تشاء.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أجاب دعاه بقوله: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذلّلناها لطاعته إجابة لدعوته تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً من الرخاوة، أي: ليّنة لا تزعزع. أو مطيعة لا تخالف إرادته، كالمأمور المنقاد. حَيْثُ أَصابَ حيث قصد و أراد. من قولهم:

أصاب الصواب فأخطأ الجواب. عن رؤبة: أنّ رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه

ص: 32


1- الضنّة: البخل.
2- التغابن: 16.
3- النساء: 59.

عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا و رجعا.

و عن الحسن: كان سليمان عليه السّلام يغدو من إيليا، و يقيل بقزوين، و يبيت بكابل.

و اعلم أنّ الآية لا تنافي قوله تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً (1)، لأنّ المراد أنّ اللّه تعالى جعلها عاصفة تارة و رخاء اخرى بحسب ما أراد سليمان. أو الرخاء كانت تحمل سريره لئلّا تضطرب، و العاصفة كانت تجريه على الهواء سريعا.

وَ الشَّياطِينَ عطف على الريح، أي: و سخّرنا له الشياطين أيضا كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ بدل الكلّ من الكلّ. روي: أنّهم كانوا يبنون لسليمان ما شاء من الأبنية الرفيعة، و بعضهم يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. و هو أوّل من استخرج الدرّ من البحر.

وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ عطف على «كلّ» داخل في حكم البدل.

كأنّه فصّل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقّة كالبناء و الغوص، و مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفّوا عن الشرّ. و عن السدّي: كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغلّلين في الأغلال. و الصفد: هو القيد. و سمّي به العطاء، لأنّه يرتبط به المنعم عليه. و فرّقوا بين فعليهما، فقالوا: صفده قيّده، و أصفده أعطاه، كوعده و أوعده، فإنّ الهمزة تكون للسلب.

هذا هذا الّذي أعطيناك عَطاؤُنا من الملك الّذي لا ينبغي لأحد من بعدك، و البسطة في المال و الرجال و سائر المنال، و التسلّط على ما لم يسلّط به غيرك فَامْنُنْ فأعط من شئت. من المنّة، و هي العطاء. أَوْ أَمْسِكْ امنع من شئت بِغَيْرِ حِسابٍ حال من المستكن في الأمر، أي: غير محاسب على منّه و إمساكه، لتفويض التصرّف فيه إليك. أو حال من العطاء. أو صلة له، و ما بينهما اعتراض. و المعنى: أنّه عطاء كثير لا يكاد يمكن حصره.

ص: 33


1- الأنبياء: 81.

و قيل: الإشارة إلى تسخير الشياطين. و المعنى: هذا التسخير عطاؤنا، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق، و أمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب، أي: لا حساب عليك في ذلك.

وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي: منزلته القربى. و هي النعمة الدائمة الباقية في الآخرة، مع ما له من الملك العظيم في الدنيا وَ حُسْنَ مَآبٍ و هو الجنّة.

[سورة ص [38]: الآيات 41 الى 44]

وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [41] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ [42] وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [43] وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [44]

ثمّ ذكر سبحانه قصّة أيّوب عليه السّلام، فقال: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ و هو ابن عيص بن رعوبك بن عنصو بن إسحاق صلوات اللّه عليهم. شرّفه سبحانه بإضافته إلى نفسه. و كان في زمن يعقوب بن إسحاق، و تزوّج ليا بنت يعقوب عليه السّلام. و المعنى: اذكر يا محمّد حال أيّوب في الصبر على الشدائد و اقتد به.

إِذْ نادى رَبَّهُ بدل اشتمال من «عبدنا»، و «أيّوب» عطف بيان له، أي: اذكر حين دعا أيّوب ربّه رافعا صوته يقول: يا ربّ، لأنّ النداء هو الدعاء بطريقة: يا فلان أَنِّي مَسَّنِيَ بأنّي مسّني. و قرأ حمزة بإسكان الياء و إسقاطها في الوصل.

الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ بتعب و مشقّة. و قرأ يعقوب: بنصب بفتحتين. و الباقون بضمّ النون و سكون الصاد، كالرشد و الرشد. و هما مترادفان. وَ عَذابٍ و ألم. و هذا حكاية لكلامه الّذي ناداه به، و لولا هي لقال: إنّه مسّه.

ص: 34

و المراد من تعبه و ألمه مرضه، و ما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب (1).

و قيل: النصب الضرّ في البدن، و العذاب في ذهاب الأهل و المال.

و إنّما نسبه إلى الشيطان، لما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، و يغريه على الجزع، فالتجأ إلى اللّه سبحانه في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه و ردّه بالصبر الجميل.

و عن مقاتل: يوسوسه بأن طال مرضك، و لا يرحمك ربّك.

و قيل: بأن يذكّره ما كان فيه من نعم اللّه، من الأهل و الولد و المال، ليزلّه بذلك.

و قيل: اشتدّ مرضه حتّى تجنّبه الناس، فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه، و يخرجوه من بين أيديهم، و يمنعوا امرأته الّتي تخدمه أن تدخل عليه.

فكان أيّوب يتأذّى بذلك و يتألّم منه، و لم يشك الألم الّذي كان من أمر اللّه تعالى.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّه دام ذلك سبع سنين.

و قالت الاماميّة: إنّه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها، لأنّ في ذلك تنفيرا. و أمّا المرض و الفقر و ذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه اللّه بذلك.

فأجاب اللّه تعالى دعاءه و قال: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اضرب برجلك الأرض.

فضربها، فنبعت عين. فقيل له: هذا هذا الموضع مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ فتغتسل به و تشرب منه، فيبرأ باطنك و ظاهرك.

و قيل: نبعت له عينان: حارّة و باردة، فاغتسل من الحارّة و شرب من الباردة، فذهب الداء من ظاهره و باطنه بإذن اللّه تعالى.

و قيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارّة فاغتسل منها، ثمّ باليسرى فنبعت باردة فشرب منها.

ص: 35


1- الوصب: المرض، و الوجع الدائم، و نحول الجسم.

وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن أحييناهم بعد موتهم وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ حتّى كان له ضعف ما كان.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ اللّه تعالى أحيا له أهله الّذين كانوا ماتوا قبل البليّة، و أحيا له أهله الّذين ماتوا و هو في البليّة».

رَحْمَةً مِنَّا لرحمتنا عليه وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ و لتذكير ذوي العقول الخالصة، لينتظروا الفرج بالصبر على البلاء و اللجأ إلى اللّه فيما يحيق بهم.

وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً عطف على «اركض» أي: و قلنا له ذلك. و الضغث:

الحزمة الصغيرة من الشماريخ (1) و الحشيش و ما أشبه ذلك. فَاضْرِبْ بِهِ دفعة واحدة وَ لا تَحْنَثْ في يمينك. و ذلك أنّ زوجته ليا بنت يعقوب- و قيل: رحمة بنت افرائيم بن يوسف- ذهبت لحاجة في مرضه، فأبطأت في الرجوع، فضاق صدر المريض، فحلف إن برى ء ضربها مائة ضربة، فحلّل اللّه يمينه بأهون شي ء عليه و عليها، لحسن خدمتها إيّاه و رضاه عنها.

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: سبب صدور هذا الحلف من أيّوب أنّ إبليس لقيها في صورة طبيب، فدعته لمداواة أيّوب. فقال: أداويه بشرط أنّه إذا برى ء قال:

أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه. قالت: نعم. فأشارت إلى أيّوب بذلك، فحلف ليضربنّها. و هذه رخصة باقية في الحدود إلى الآن.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّه قد أتي بمخدج- أي: ناقص البدن- قد خبث بأمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خذوا عثكالا (2) فيه مائة شمراخ، فاضربوه بها ضربة».

و روى العيّاشي بإسناده أنّ عبّاد المكّي قال: قال لي سفيان الثوري: إنّي أرى لك من أبي عبد اللّه منزلة، فاسأله عن رجل زنى و هو مريض، فإن أقيم الحدّ عليه خافوا أن يموت، ما تقول فيه؟ قال: فسألته فقال لي: «هذه المسألة من تلقاء.

ص: 36


1- الشماريخ جمع الشمراخ، و هو الغصن عليه تمر أو عنب.
2- العثكال: هو في النخل بمنزلة العنقود في الكرم.

نفسك، أو أمرك به إنسان؟ فقلت: إنّ سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها. فقال:

إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتي برجل قد استسقى بطنه، و بدت عروق فخذيه، و قد زنى بامرأة مريضة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ، و ضربه به ضربة و ضربها به ضربة، و خلّى سبيلهما. و ذلك قوله تعالى: «وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ».

إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه في النفس و الأهل و المال. و لا يخلّ به شكواه إلى اللّه من الشيطان، فإنّه لا يسمّى جزعا، كتمنّي العافية و طلب الشفاء. مع أنّه قال ذلك خيفة على قومه، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم، كما كان يوسوس إليه أنّه لو كان نبيّا لما ابتلي بمثل ما ابتلي به. و أيضا أراد بذلك القول القوّة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق عضو غير مؤف إلّا القلب و اللسان.

و روي: أنّه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنّه لم يخالف لساني قلبي، و لم يتّبع قلبي بصري، و لم يهبّني (1) ما ملكت يميني، و لم آكل إلّا و معي يتيم، و لم أبت شبعان و لا كاسيا و معي جائع أو عريان. فكشف اللّه عنه.

نِعْمَ الْعَبْدُ أيّوب إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى اللّه، منقطع إليه، مقبل بشراشره عليه.

[سورة ص [38]: الآيات 45 الى 48]

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ [45] إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [46] وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [47] وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ [48]

ص: 37


1- أي: لم يهيّجني و لم ينشطني. من: هبّ الرجل: نشط و أسرع. و هبّت الريح: هاجت.

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم حديث الأنبياء الصابرين على البلوى، فقال:

وَ اذْكُرْ يا محمّد لأمّتك عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ليقتدوا بهم في حميد أفعالهم و كريم خلالهم، فيستحقّوا بذلك حسن الثناء في الدنيا و جزيل الثواب في العقبى، كما استحقّ هؤلاء الأنبياء.

و قرأ ابن كثير: عبدنا، فوضع الجنس موضع الجمع، على أنّ إبراهيم وحده- لمزيد شرفه- عطف بيان له، ثمّ عطف ذرّيّته على: عبدنا.

أُولِي الْأَيْدِي اولي القوّة في الطاعة وَ الْأَبْصارِ و اولي البصيرة في الدين. أو المعنى: اولي الأعمال الجليلة و العلوم الشريفة. و لمّا كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلّبت، فقيل في كلّ عمل: هذا ممّا عملت أيديهم، و إن كان عملا لا يتأتّى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمّال جذما (1) لا أيدي لهم.

و فيه تعريض بأنّ الّذين لا يعملون أعمال الآخرة، و لا يجاهدون في اللّه، و لا يفكّرون أفكار ذوي الديانات، و لا يستبصرون، في حكم الزمنى (2) الّذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم، و المسلوبي العقول الّذين لا استبصار لهم.

إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي: جعلناهم خالصين لنا بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها. يعني: بسبب هذه الخصلة أخلصناهم. أو أخلصناهم بتوفيقهم لها، و اللطف بهم في اختيارها.

ثمّ فسّر هذه الخصلة الخالصة بقوله: ذِكْرَى الدَّارِ تذكيرهم الآخرة، و ترغيبهم فيها، و تزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء و ديدنهم. و إنّما قال:

خلوصهم في الطاعة بسبب التذكير، لأنّ مطمح نظرهم فيما يأتون و يذرون جوار اللّه و الفوز بلقائه، و ذلك في الآخرة.

ص: 38


1- أي: مقطوعي الأيدي.
2- أي: المبتلين بالزمانة و تعطيل القوى.

و قيل: ذكرى الدار: الثناء الجميل في الدنيا، و لسان الصدق الّذي ليس لغيرهم.

و إطلاق الدار للإشعار بأنّها الدار الحقيقيّة، فإنّ الدنيا معبر و ممرّ لا مقرّ، فإطلاق الدار عليها مجاز. يعني: إنّما همّهم ذكر الدار، لا غيرها من ذكر الدنيا.

و أضاف نافع و هشام «بخالصة» إلى «ذكرى» للبيان، أو لأنّه مصدر بمعنى الخلوص، فأضيف إلى فاعله.

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا بحسب ما سبق في علمنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ لمن المختارين من بين أمثالهم الْأَخْيارِ العاملون فعل الخيرات. جمع خير، كشرّ و أشرار. و قيل: جمع خيّر أو خير على تخفيفه، كأموات في جمع ميّت أو ميت.

وَ اذْكُرْ أيضا لأمّتك إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ و هو ابن أخطوب. استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثمّ استنبئ. و الظاهر أنّه اسم عجمي، فدخل عليه اللام، كما في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا.

و قرأ حمزة و الكسائي: و الليسع، بإدخال حرف التعريف على ليسع، تشبيها بالمنقول، من: ليسع، فيعل من اللسع.

وَ ذَا الْكِفْلِ ابن عمّ يسع، أو بشر بن أيّوب. و في نبوّته و لقبه اختلاف.

فقيل: فرّ إليه مائة نبيّ من بني إسرائيل من القتل، فآواهم و كفلهم. و قيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلّي كلّ يوم مائة صلاة الجنّة. وَ كُلٌ التنوين عوض من المضاف إليه. و المعنى: و كلّهم مِنَ الْأَخْيارِ.

[سورة ص [38]: الآيات 49 الى 64]

هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [49] جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [50] مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ [51]

ص: 39

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ [52] هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ [53]

إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ [54] هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [55] جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ [56] هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ [57] وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [58]

هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ [59] قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ [60] قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [61] وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ [62] أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ [63]

إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [64]

هذا إشارة إلى ما تقدّم من أمورهم ذِكْرٌ ذكر جميل و شرف لهم. أو نوع من الذكر، و هو القرآن.

و في الكشّاف: «لمّا أجرى ذكر الأنبياء و أتمّه، و هو باب من أبواب التنزيل، و نوع من أنواعه، و أراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، و هو ذكر الجنّة و أهلها، و ما أعدّ لهم فيها، قال: هذا ذكر» (1).

ثمّ قال: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع حسن جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان

ص: 40


1- الكشّاف 4: 100.

ل «حسن مآب». و هو من الأعلام الغالبة، لقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ (1). و العدن: بمعنى الإقامة و الخلود. و انتصب عنها مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ على الحال. و العامل فيها ما في معنى المتّقين من معنى الفعل. كأنّه قيل:

جنّات عدن استقرّت للمتّقين، حال كونها مفتّحة لهم الأبواب، فيجدون أبوابها مفتوحة حين يرونها، و لا يحتاجون إلى الوقوف عند أبوابها حتّى يفتح. و في «مفتّحة» ضمير الجنّات. و «الأبواب» بدل من الضمير، تقديره: مفتّحة هي الأبواب، كقولك: ضرب زيد اليد و الرجل. و هو من بدل الاشتمال.

مُتَّكِئِينَ فِيها مستندين فيها إلى المساند، جالسين جلسة الملوك يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ أي: يتحكّمون في ثمارها و شرابها، فإذا قالوا لشي ء منها: أقبل، حصل عندهم.

و اعلم أنّ «متّكئين» و «يدعون» حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في «لهم»، لا من «المتّقين» للفصل. و الأظهر أنّ «يدعون» استئناف لبيان حالهم فيها، و «متّكئين» حال من ضمير «يدعون». و الاقتصار على الفاكهة للإشعار بأنّ مطاعمهم لمحض التلذّذ، فإنّ التغذّي للتحلّل، و لا تحلّل ثمّة.

وَ عِنْدَهُمْ في هذه الجنان زوجات قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ، راضيات بهم، ما لهنّ في غيرهم رغبة. و القاصر: نقيض المادّ. يقال: فلان قاصر طرفه عن فلان، و مادّ عينه إلى فلان. أَتْرابٌ لدات (2) لأزواجهنّ، أي: يكون أسنانهنّ كأسنانهم، لأنّ التحابّ بين الأقران أثبت. و اشتقاقه من التراب، فإنّه يمسّهم في وقت واحد.

و عن مجاهد: أي: متساويات في مقدار الشباب و الحسن، لا يكون لواحدة

ص: 41


1- مريم: 61.
2- اللدات جمع اللدة: الترب، و هو الذي ولد معك أو تربّى معك. يقال: هو لدتي، أي: تربي.

على صاحبتها فضل في ذلك، و لا تكون فيهنّ عجوز و لا صبيّة.

هذا هذا الّذي ذكرنا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجل هذا اليوم، فإنّ الحساب علّة الوصول إلى الجزاء. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالياء (1) ليوافق ما قبله.

إِنَّ هذا هذا الّذي ذكرنا لَرِزْقُنا عطاؤنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع.

و لمّا بيّن سبحانه أحوال أهل الجنّة و ما أعدّ لهم من جزيل الثواب، عقّبه ببيان أحوال أهل النار، و ما لهم من أليم العقاب و عظيم العذاب، فقال:

هذا أي: هذا ما ذكرناه للمتّقين. أو الأمر هذا، أو هذا كما ذكر، أو خذ هذا. ثمّ ابتدأ فقال: وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ للّذين طغوا على اللّه و كذّبوا رسله عنادا لَشَرَّ مَآبٍ و هو ضدّ مآب المتّقين جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها فيصيرون صلاء لها. و الجملة الفعليّة حال من «جهنّم»، و العامل فيها ما في «للطاغين» من معنى الاستقرار. فَبِئْسَ الْمِهادُ المهد و المفترش. فشبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الّذي يفترشه النائم. و المخصوص بالذمّ محذوف، و هو «جهنّم»، لقوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ (2).

هذا أي: العذاب هذا فَلْيَذُوقُوهُ و يجوز أن يكون «هذا» بمنزلة:

وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (3) أي: فليذوقوا هذا. ثمّ ابتدأ فقال: حَمِيمٌ أي: هو ماء في غاية الحرارة وَ غَسَّاقٌ ما يغسق من صديد أهل النار. من: غسقت العين إذا سال دمعها.

و عن كعب: عين في جهنّم يسيل إليها سمّ كلّ ذات حمة. و عن ابن عبّاس و ابن مسعود: الغسّاق: الزمهرير.

ص: 42


1- أي: يوعدون.
2- الأعراف: 41.
3- البقرة: 41.

و قيل: الحميم يحرق لشدّة حرّه، و الغسّاق يحرق لغاية برده.

و قيل: لو قطرت قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، و لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق.

و عن الحسن: الغسّاق عذاب لا يعلمه إلّا اللّه، إنّ الناس أخفوا للّه طاعة، فأخفى لهم ثوابا في قوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (1). و أخفوا معصية، فأخفى لهم عقوبة.

و قرأ حفص و حمزة و الكسائي: و غسّاق بتشديد السين. و فيه مبالغة.

وَ آخَرُ أي: مذوق، أو عذاب آخر. و قرأ البصريّان: و اخرى، أي:

و مذوقات، أو أنواع عذاب أخر مِنْ شَكْلِهِ من مثل هذا المذوق، أو العذاب في الشدّة. و توحيد الضمير على تأويل: لما ذكر. أو لأنّه راجع إلى الشراب الشامل للحميم و الغسّاق، أو إلى الغسّاق. أَزْواجٌ أجناس متشابهة في الشدّة و الفظاظة.

و هذا خبر ل «آخر». أو صفة له، أو للثلاثة. و جمعه على قراءة «أخر» ظاهر. و على قراءة «آخر» لأنّ المراد منه ضروب و أنواع. أو مرتفع بالجار، و الخبر محذوف، مثل: لهم أزواج.

و لمّا دخل رؤساء الطاغين و قادة الضالّين النار، ثمّ يدخلها أتباعهم، فيقول بعضهم مع بعض، أو يقول الخزنة لهم: هذا فَوْجٌ المراد أتباع مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قد اقتحموا النار معكم، أي: دخلوا النار في صحبتكم و قرانكم. و الاقتحام: ركوب الشدّة و الدخول فيها. و القحمة: الشدّة. يعني: أنّهم لمّا اقتحموا معهم الضلالة، اقتحموا معهم العذاب.

لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء من المتبوعين على أتباعهم. أو صفة ل «فوج». أو حال، أي: مقولا فيهم لا مرحبا، أي: لا نالوا سعة و كرامة. إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ

ص: 43


1- السجدة: 17.

داخلون النار لازموها بأعمالهم مثلنا.

قالُوا يقول الأتباع لهم بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ لا نلتم رحبا وسعة أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ قدّمتم العذاب أو الصلى لَنا أي: بإغوائكم إيّانا على ما قدّم العذاب لنا، من العقائد الزائغة و الأعمال القبيحة الّتي أوجبت لنا هذا العذاب فَبِئْسَ الْقَرارُ فبئس المقرّ جهنّم. و على تقدير أن يكون «لا مرحبا بهم» من كلام الخزنة معناه: يقول الأتباع: هذا الّذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحقّ به منّا، لإغوائكم إيّانا، و تسبّبكم فيما نحن فيه من العذاب.

قالُوا أي: الأتباع أيضا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا من سبّب لنا هذا العذاب بالإضلال و الإغواء فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا، أي: ذا ضعف فِي النَّارِ و ذلك أن يزيد على عذابه ضعفا مثله، فيصير ضعفين، أحدهما: لكفرهم باللّه، و الآخر:

لدعائهم إيّانا إلى الكفر. و نحوه قوله تعالى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ (1).

رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ (2). و قيل: عذابا ضعفا: حيّات و أفاعي.

وَ قالُوا أي: الطاغون ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ من الأراذل الّذين لا خير فيهم و لا جدوى، لأنّهم كانوا على خلاف ديننا أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا صفة اخرى ل «رجالا». يعنون فقراء المسلمين الّذين يسترذلونهم في الدنيا، و يسخرون بهم.

و قرأ الحجازيّان و ابن عامر بهمزة الاستفهام، على أنّه إنكار على أنفسهم، و تقريع لها في الاستسخار منهم. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي: سخريّا بالضمّ. و قد

ص: 44


1- الأحزاب: 68.
2- الأعراف: 38.

سبق مثله في المؤمنين (1).

أَمْ زاغَتْ مالت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ فلا نراهم. و «أم» متّصلة معادلة ل «ما لنا لا نرى» على أنّ المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم. كأنّهم قالوا: أ ليسوا هاهنا، أم زاغت عنهم أبصارنا.

أو ل «اتّخذناهم» (2) على القراءة الثانية، بمعنى: أيّ الأمرين فعلنا بهم؟

الاستسخار منهم أم تحقيرهم؟ فإنّ زيغ الأبصار كناية عنه، على معنى إنكارهما على أنفسهم.

و عن الحسن: كلّ ذلك قد فعلوا، اتّخذوهم سخريّا، و زاغت عنهم أبصارهم محقّرة لهم.

أو منقطعة (3). و المراد الدلالة على أنّ استرذالهم و الاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم و قصور أنظارهم على رثاثة حالهم.

عن مجاهد: نزلت في أبي جهل و الوليد بن المغيرة و نظرائهما، يقولون: ما نرى عمّارا و خبابا و صهيبا و بلالا، الّذين كنّا نعدّهم في الدنيا من جملة الّذين يفعلون الشرّ و القبيح، و لا يفعلون الخير.

و روى العيّاشي بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «إنّ أهل النار يقولون:

ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يعنونكم لا يرونكم في النار، لا يرون و اللّه أحدا منكم في النار».

إِنَّ ذلِكَ الّذي حكيناه عنهم لَحَقٌ لا بدّ أن يتكلّموا به. ثمّ بيّن ما هو، فقال: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و هو بدل من «لحقّ». أو خبر محذوف، أي: هو تخاصمهم. شبّه تقاولهم و ما يجري بينهم من السؤال و الجواب بما يجري بين

ص: 45


1- المؤمنون: 110.
2- عطف على قوله: معادلة ل «ما لنا لا نرى» قبل سطرين، أي: معادلة ل «اتّخذناهم».
3- عطف على قوله: متّصلة معادلة، قبل سبعة أسطر.

المتخاصمين من نحو ذلك. و لأنّ قول الرؤساء: «لا مرحبا بهم» و قول أتباعهم: «بل أنتم لا مرحبا بكم» من باب الخصومة. فسمّى التقاول كلّه تخاصما لأجل اشتماله على ذلك.

[سورة ص [38]: الآيات 65 الى 85]

قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [65] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [66] قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ [67] أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [68] ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [69]

إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [70] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [71] فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [72] فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [73] إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ [74]

قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [75] قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [76] قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [77] وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ [78] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [79]

قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [80] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [81] قالَ فَبِعِزَّتِكَ

ص: 46

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [82] إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [83] قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ [84]

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [85]

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال تقريرا لألوهيّته و وحدانيّته: قُلْ يا محمّد للمشركين إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أنذركم عذاب اللّه وَ ما مِنْ إِلهٍ يحقّ العبادة إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الّذي لا يقبل الشركة و الكثرة في ذاته الْقَهَّارُ لكلّ شي ء.

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا منه خلقها، و إليه أمرها الْعَزِيزُ الّذي لا يغلب إذا عاقب. و هو مع ذلك الْغَفَّارُ الّذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن التجأ إليه. يعني: أنذركم عقوبة من هذه صفته، فإنّ مثله حقيق بأن يخاف عقابه، كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه. و في الآية تقرير للتوحيد، و وعد و وعيد للموحّدين و المشركين.

قُلْ هُوَ أي: ما أنبأتكم به من أنّي أنذر من عقوبة من كان موصوفا بهذه الصفات، و أنّه واحد في الوهيّته. و قيل: ما بعده من نبأ آدم. نَبَأٌ عَظِيمٌ لا يعرض عن مثله إلّا غافل شديد الغفلة أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ لتمادي غفلتكم، فإنّ العاقل لا يعرض عن مثله، كيف و قد قامت عليه الحجج الواضحة. أمّا على التوحيد فما مرّ. و أمّا على النبوّة فقوله: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فإنّ الإخبار عن تقاول الملائكة و ما جرى بينهم، على ما ورد في الكتب المتقدّمة، من غير سماع و مطالعة كتب، لا يتصوّر إلّا بالوحي.

و «إذ» متعلّق ب «علم». أو بمحذوف، إذ التقدير: ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم.

ص: 47

إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: لأنّما أنا نذير. يعني: ما يوحى إليّ إلّا للإنذار، فحذف اللام و انتصب بإفضاء الفعل إليه. كأنّه لمّا نبّه على أنّ الوحي يأتيه، بيّن بذلك ما هو المقصود به تحقيقا لقوله: إنّما أنا منذر. و يجوز أن يرتفع «أنّما» بإسناد «يوحى» إليه، أي: ما يوحى إليّ إلّا أن أنذر و أبلّغ، و لا أفرط في ذلك، أي: ما اومر إلّا بهذا الأمر وحده، و ليس إليّ غير ذلك.

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ بدل من «إِذْ يَخْتَصِمُونَ» مبيّن له، فإنّ القصّة الّتي دخلت عليها «إذ» مشتملة على تقاول الملائكة و إبليس في خلق آدم، و استحقاقه للخلافة و السجود، على ما مرّ في سورة البقرة (1). غير أنّها اختصرت اكتفاء بذلك، و اقتصارا على ما هو المقصود منها، و هو إنذار المشركين على استكبارهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم.

و من الجائز أن يكون مقاولة اللّه إيّاهم بواسطة ملك، فكأنّ المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسّط، فصحّ أنّ التقاول كان بين الملائكة و آدم و إبليس، و هم الملأ الأعلى. و المراد بالاختصام التقاول، على ما سبق. و أن يفسّر الملأ الأعلى بما يعمّ اللّه و الملائكة.

فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدّلت خلقته، بأن تمّمت أعضاءه، و صوّرته على وجه الكمال وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي و أحييته بنفخ الروح فيه. و إضافته إلى نفسه لشرفه و طهارته. فَقَعُوا لَهُ فخرّوا له ساجِدِينَ تكرمة و تبجيلا له. و قد مرّ الكلام فيه في البقرة (2).

ص: 48


1- راجع ج 1 ص 120- 130.
2- راجع ج 1 ص 120- 142، ذيل الآيات 30- 38 من سورة البقرة.

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ذكر «كلّ» للإحاطة، و «أجمعون» للاجتماع. فأفادا معا أنّهم سجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلّا سجد، و أنّهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات.

إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ تعظّم وَ كانَ و صار مِنَ الْكافِرِينَ باستنكاره أمر اللّه، و استكباره عن المطاوعة. أو كان منهم في علم اللّه. و إبليس و إن لم يكن من الملائكة بل من الجنّ، إلّا أنّه قد أمر بالسجود معهم، فغلّبوا عليه في قوله: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ». ثمّ استثني كما استثني الواحد منهم استثناء متّصلا. و تفصيل ذلك أيضا قد مرّ في البقرة.

قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ تولّيت خلقه بنفسي من غير توسّط، كأب و أمّ. و التثنية لما في خلقه من مزيد القدرة. و قد سبق أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلّب العمل باليدين على سائر الأعمال الّتي تباشر بغيرهما، حتّى قيل في عمل القلب: هو ممّا عملت يداك، و حتّى قيل لمن لا يدين له: فعلت يداك كذا و كذا، و حتّى لم يبق فرق بين قولك: هذا ممّا عملته يداك، و هذا ممّا عملته. و إطلاق لفظ اليد على القدرة و القوّة و القوّة في كلام العرب شائع.

و ترتيب الإنكار على قوله: «لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» للإشعار بأنّه المستدعي للتعظيم، أو بأنّه الّذي تشبّث به في تركه، و هو لا يصلح مانعا، إذ للسيّد أن يستخدم بعض عبيده لبعض، سيّما و له مزيد اختصاص.

أَسْتَكْبَرْتَ تكبّرت من غير استحقاق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ممّن علا و استحقّ التفوّق. و قيل: استكبرت الآن، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين؟

قالَ أي: أجاب إبليس بإظهار المانع أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ثمّ استدلّ على المانع بقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي: لو كان مخلوقا من نار

ص: 49

لما سجدت له، لأنّه مثلي، فكيف أسجد لمن هو أدنى؟ لأنّه من طين، و النار تغلب الطين و تأكله. و أيضا النار جسم لطيف نورانيّ، و الطين جسم كثيف ظلماني. و هذه الجملة جرت مجرى عطف البيان من الجملة الأولى.

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها من الجنّة، أو من السماء. و قيل: من الخلقة الّتي أنت فيها، لأنّه كان يفتخر بخلقته، فغيّر اللّه خلقته فاسودّ بعد ما كان أبيض، و قبح بعد أن كان حسنا، و أظلم بعد ما كان نورانيّا. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مرجوم مطرود من الرحمة و محلّ الكرامة. و أصل الرجم: الرمي بالحجارة.

وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ليس معناه: أنّ لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثمّ تنقطع. و كيف تنقطع، و قد قال اللّه سبحانه: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (1). بل المعنى: أنّ عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة الدنيويّة، فكأنّها انقطعت.

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فأخّرني إلى يوم يحشرون للحساب.

و هو يوم القيامة. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخّرين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الوقت الّذي تقع فيه النفخة الأولى. و يومه: اليوم الذي وقتها جزء من أجزائه.

فالإضافة هي إضافة الكلّ إلى جزئه. و معنى «المعلوم» أنّه معلوم عند اللّه معيّن لا يستقدم و لا يستأخر.

قالَ فَبِعِزَّتِكَ فبسلطانك و قهرك على جميع خلقك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: بني آدم كلّهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصوا قلوبهم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر بفتح اللام، أي: الّذين أخلصهم اللّه تعالى لطاعته، و عصمهم من الضلالة.

ص: 50


1- الأعراف: 44.

قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ أي: فأحقّ الحقّ و أقوله. و قيل: الحقّ الأوّل اسم اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (1). أو الحقّ الّذي هو نقيض الباطل. و نصبه بحذف حرف القسم. و على هذا قوله: «وَ الْحَقَّ أَقُولُ» معترض بين القسم و جوابه، و هو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي: من جنسك، ليتناول الشياطين وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من الناس، إذ الكلام فيهم. أو من الثقلين. أَجْمَعِينَ تأكيد لضمير «منهم»، أو الكاف في «منك»، أولهما معا.

و معناه: لأملأنّ جهنّم من الشياطين المتبوعين أجمعين. أو التابعين من الناس أو الثقلين جميعا. أو من جميع المتبوعين و جميع التابعين. و الجملة تفسير للحقّ المقول.

و قرأ عاصم و حمزة برفع الأوّل على الابتداء، أي: الحقّ يميني أو قسمي، أو الخبر، أي: أنا الحقّ.

[سورة ص [38]: الآيات 86 الى 88]

قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [86] إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [87] وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [88]

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن أو تبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ من مال تعطونيه وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتّصفين بما ليسوا من أهله. و ما عرفتموني قطّ متصنّعا، و لا مدّعيا ما ليس عندي، حتّى أنتحل النبوّة و أتقوّل القرآن.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، و يقول ما لا يعلم».

ص: 51


1- النور: 25.

و روى البخاري في الصحيح عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: «يا أيّها الناس من علم شيئا فليقل به، و من لم يعلم فليقل: اللّه أعلم، فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: اللّه أعلم، فإنّ اللّه تعالى قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» (1).

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة و نصيحة من اللّه لِلْعالَمِينَ للثقلين، أوحي إليّ فأنا أبلّغه. و قيل: ما القرآن إلّا شرف لمن آمن به. وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي: صدق خبر ما فيه من الوعد و الوعيد بإتيان ذلك بَعْدَ حِينٍ بعد الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام. و فيه تهديد.

ص: 52


1- صحيح البخاري 6: 156.

[39] سورة الزمر

اشارة

و تسمّى أيضا سورة الغرف. و هي مكّيّة كلّها. و قيل: سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة: «قُلْ يا عِبادِيَ ...» إلى آخرهنّ، كما سيجي ء.

و قيل: غير آية «قُلْ يا عِبادِيَ». و آيها خمس و سبعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع اللّه رجاءه، و أعطاه ثواب الخائفين الّذين خافوا اللّه تعالى».

و روى هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الزمر أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة، و أعزّه بلا مال و لا عشيرة، حتّى يهابه من يراه، و حرّم جسده على النار. و يبني له في الجنّة ألف مدينة، في كلّ مدينة ألف قصر، في كلّ قصر مائة حوراء، و له مع ذلك عينان تجريان، و عينان نضّاختان، و جنّتان مدهامّتان، و حور مقصورات في الخيام».

[سورة الزمر [39]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [1] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [2] أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [3] لَوْ

ص: 53

أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [4]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [5]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة «ص» بذكر القرآن، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر محذوف. أو مبتدأ، خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ و هو على الأوّل صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند اللّه.

أو خبر ثان، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، هذا من اللّه. أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة. و الظاهر أنّ الكتاب على الأوّل السورة. و المعنى: هذا إنزال السورة على محمّد شيئا فشيئا. و على الثاني القرآن، أي: إنزال القرآن على التدريج من اللّه المتعالي عن المثل و الشبه، الحكيم في أفعاله و أقواله. وصف نفسه هنا بالعزّة تحذيرا من مخالفة كتابه، و بالحكمة إعلاما بأنّه يحفظه حتّى يصل إلى المكلّفين من غير تغيير لشي ء منه.

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ ملتبسا بالأمر الحقّ، أي: بالدين الصحيح.

أو بسبب إثبات الحقّ و إظهاره و تفصيله.

فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً ممحّضا لَهُ الدِّينَ من الشرك، بالتوحيد و تصفية السرّ. و تقديم الجارّ لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام، كما في قوله: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي: ألا هو الّذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنّه المتفرّد بصفات الألوهيّة، و الاطّلاع على الأسرار و الضمائر.

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يحتمل المتّخذين، و هم الكفرة. و الضمير راجع إلى الموصول. و المتّخذين، و هم الملائكة و عيسى و الأصنام. و الضمير راجع

ص: 54

إلى المشركين. و لم يجر ذكرهم لدلالة الميثاق عليهم. و الراجع إلى «الّذين» محذوف. و المعنى: و الّذين اتّخذهم المشركون أولياء.

و على الأوّل الموصول مبتدأ، خبره ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى بإضمار القول، أو إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ و هو متعيّن على الثاني. و على هذا يكون القول المضمر بما في حيّزه حالا، أي: قائلين ذلك. أو بدلا من الصلة، فلا يكون له محلّ من الإعراب، كما أنّ المبدل منه كذلك.

فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين، بإدخال المحقّين الجنّة، و المبطلين النار، مع الحجارة الّتي نحتوها و عبدوها من دون اللّه، فيعذّبهم بها حيث يجعلهم و إيّاها حصب جهنّم. و الضمير للكفرة و مقابليهم، أعني: المسلمين. و قيل: لهم و لمعبوديهم، فإنّهم يرجون شفاعتهم و هم يلعنونهم.

و قيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات و الأرض؟ أقرّوا و قالوا: اللّه. فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى اللّه زلفى. فالضمير في «بينهم» عائد إليهم و إلى المسلمين. و المعنى: أنّ اللّه يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ على اللّه و على رسوله كَفَّارٌ جاحد للوحدانيّة عنادا و لجاجا. و المراد بمنع الهداية: منع اللطف، تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، و أنّهم في علم اللّه من الهالكين. أو المراد عدم هدايتهم إلى طريق الجنّة، أو عدم الحكم بهدايته إلى الحقّ.

و من جملة كذبهم على اللّه قولهم: الملائكة بنات اللّه، و قول النصارى:

المسيح ابن اللّه، و قول اليهود: عزير ابن اللّه. و لذلك عقّبه محتجّا عليهم بقوله: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما زعموا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ إذ لا موجود سواه إلّا و هو مخلوقه، لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين، و وجوب استناد ما عدا الواجب إليه. و من البيّن أنّ المخلوق لا يماثل الخالق، فيقوم مقام الولد له.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ فإنّ الألوهيّة الحقيقيّة تتبع الوجوب المستلزم للوحدة الذاتيّة، و هي تنافي المماثلة فضلا عن التوالد الّذي يتوقّف على التجانس، لأنّ كلّ واحد من المثلين مركّب من الحقيقة المشتركة

ص: 55

و التعيين المخصوص، و القهّاريّة المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد.

ثمّ استدلّ على ذلك بقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ أي: لم يخلقهما باطلا لغير غرض صحيح، بل خلقهما للغرض الحكمي.

يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ أي: يغشي كلّ واحد منهما الآخر، بأن يجعلهما خلفة يذهب هذا و يغشي مكانه هذا، و إذا غشى مكانه كأنّه يلفّه عليه لفّ اللباس على اللابس. يقال: كار العمامة على رأسه إذا لفّه و لواه. أو يغيّبه به، كما يغيّب الملفوف باللفافة عن مطامح الأبصار. أو يجعله كارّا عليه كرورا متتابعا، تتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض.

وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى بأن أجراهما على وتيرة واحدة وفق المشيئة، لوقت معلوم في الشتاء و الصيف. و هو منتهى دورهما، أو منقطع حركته.

أَلا هُوَ الْعَزِيزُ القادر على كلّ ممكن، الغالب على كلّ شي ء الْغَفَّارُ حيث لم يعاجل بالعقوبة، و لم يسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة و عموم المنفعة.

فسمّى الحلم مغفرة. و من قدر على خلق السماوات و الأرض، و تسخير الشمس و القمر، و إدخال الليل في النهار، فهو منزّه عن اتّخاذ الولد و الشريك، فإنّ ذلك من صفة المحتاجين.

[سورة الزمر [39]: آية 6]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [6]

ثمّ استدلّ استدلالا آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوءا به من خلق الإنسان، لأنّه أقرب و أكثر دلالة و أعجب، فقال:

ص: 56

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هو آدم عليه السّلام ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني: حوّاء، من ضلع من أضلاعه. و قيل: من فضل طينته. و في خلق الإنسان ثلاث دلالات:

خلق آدم أوّلا من غير أب و أمّ. ثمّ خلق حوّاء من ضلعه الأسفل الّذي هو أقصر الأضلاع. ثمّ تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.

و «ثمّ» للعطف على محذوف هو صفة «نفس»، مثل: خلقها. أو على معنى «واحدة» أي: من نفس وحدت، ثمّ جعل منها زوجها، فشفّعها بها. أو على «خلقكم» لتفاوت ما بين الآيتين، فإنّ الأولى عادة مستمرّة دون الثانية. فهو من التراخي في الحال و المنزلة، لا من التراخي في الوجود.

و قيل: أخرج من ظهره ذرّيّته كالذرّ، ثمّ خلق حوّاء منه. و هذا ضعيف.

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ و قضى لكم أو قسم، فإنّ قضاياه و قسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح كلّ كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة، كأشعّة الشمس و الأمطار، فإنّها لا تعيش إلّا بالنبات، و النبات لا يقوم إلّا بالماء، و هو نازل من السماء، فكأنّه أنزل الأنعام منها. و هذا كقوله: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً (1) و لم ينزل اللباس، و لكن أنزل الماء الّذي هو سبب القطن و الصوف، و اللباس يكون منهما. فكذلك الأنعام تكون بالنبات، و النبات يكون بالماء.

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكر أو أنثى، من الإبل و البقر و الضأن و المعز. و الزوج: اسم لواحد يكون معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد و وتر. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ بيان لكيفيّة خلق ما ذكر من الأناسيّ و الأنعام، إظهارا لما فيها من عجائب القدرة، غير أنّه غلّب أولي العقل، أو خصّهم بالخطاب، لأنّهم المقصودون خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ حيوانا سويّا، من بعد عظام مكسوّة لحما، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من

ص: 57


1- الأعراف: 26.

بعد علق، من بعد نطف فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن، و الرحم، و المشيمة. و قيل:

الصلب، و الرحم، و البطن.

ذلِكُمُ أي: الّذي هذه أفعاله اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحقّ لعبادتكم، الّذي يملك التصرّف فيكم لَهُ الْمُلْكُ على جميع المخلوقات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.

[سورة الزمر [39]: آية 7]

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [7]

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم، فإنّكم المحتاجون إليه، لاستضراركم بالكفر، و استنفاعكم بالإيمان وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فكيف يخلق الكفر، كما زعمت الأشاعرة وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي: يرض الشكر لكم، لأنّه سبب فلا حكم. فإذن ما كره كفركم و لا رضي شكركم إلّا لكم و لصلاحكم، لا لأنّ منفعة ترجع إليه، فإنّه الغنيّ الّذي لا يجوز عليه الحاجة.

و قرأ ابن كثير و نافع في رواية و أبو عمرو و الكسائي بإشباع ضمّة الهاء، لأنّها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرّك، فصارت مثل: له. و عن أبي عمرو و يعقوب إسكانها. و هو لغة فيها.

و اعلم أنّ منطوق هذا أوضح دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد، لأنّه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا به لعبده، لأنّ الرضا بالفعل ليس إلّا ما ذكرناه. ألا ترى أنّه يستحيل أن نريد من غيرنا شيئا، و يقع منه على ما نريده، فلا نكون راضين به! أو أن نرضى شيئا، و لم نرده البتّة. و لقد تمحّل بعض

ص: 58

الغواة ليثبت للّه ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: هذا من العامّ الّذي أريد به الخاصّ، و ما أراد إلّا عباده الّذين عناهم في قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ (1).

و تفصيل المبحث ذكره النيشابوري في تفسيره بهذه العبارة: «قال المعتزلة في قوله: «وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» دليل على أنّ الكفر ليس بقضائه، و إلّا لكان راضيا به. و أجاب الأشاعرة: بأنّه قد علم من اصطلاح القرآن أنّ العباد المضاف إلى اللّه أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال: وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ (2). عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ (3). فمعنى الآية: و لا يرضى لعباده المخلصين الكفر، و هذا ممّا لا نزاع فيه. أو نقول: سلّمنا أنّ كفر الكافر ليس برضا اللّه تعالى، بمعنى أنّه لا يمدحه عليه، و لا يترك اللوم و الاعتراض، إلّا أنّا ندّعي أنّه بإرادته، و ليس في الآية دليل على إبطاله» (4). انتهى كلامه.

و أقول: ضعف الجوابين ظاهر:

أما أولا: فلأنّ النيشابوري قال بعد هذا القول بورقة في آية ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ (5): «إنّه قد مرّ أنّ العباد في القرآن إذا كان مضافا إلى ضمير اللّه اختصّ بأهل الإيمان عند أهل السنّة. و عندي لا مانع من التعميم هاهنا» (6). فظهر من كلامه القدح في الاصطلاح، و التعميم في العباد.

و ذكر بعد هذا الكلام بورقتين في تفسير الآية الكريمة: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (7) ما يعضده، حيث جوّز التعميم، و قدّم

ص: 59


1- الحجر: 42.
2- الفرقان: 63.
3- الإنسان: 6.
4- غرائب القرآن 5: 616.
5- الزمر: 16 و 53.
6- غرائب القرآن 5: 616.
7- الزمر: 16 و 53.

ما حقّه التقديم، قائلا: «ثمّ إن قلنا: العباد عامّ، فالإسراف على النفس يعمّ الشرك.

و لا نزاع أنّ عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة و الإيمان. و إن قلنا:

العباد المضاف في عرف القرآن مختصّ بالمؤمنين، فالإسراف إمّا بالصغائر، و لا خلاف في أنّها مكفّرة ما اجتنب الكبائر. و إمّا بالكبائر، و حينئذ يبقى النزاع بين الفريقين، فالمعتزلة شرطوا التوبة، و الأشاعرة العفو» (1).

و أمّا ثانيا: فلأنّه لا معنى لإرادة اللّه شيئا لا يرضى به كما مضى، فثبت أنّ الكفر ليس بقضائه، و أنّه أراد الإيمان من كلّ عباده. و الحمد للّه على حسن التوفيق و هداية الطريق.

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و لا تحمل حاملة ثقل اخرى، أي: لا يؤاخذ بالذنب إلّا من يرتكبه و يفعله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ مصيركم فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ما عملتموه بالمحاسبة و المجازاة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.

[سورة الزمر [39]: الآيات 8 الى 9]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [8] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [9]

ص: 60


1- غرائب القرآن 6: 10.

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ لأنّه حين الاضطرار زال ما ينازع العقل في الدلالة على أنّ مبدأ الكلّ منه ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أعطاه. من الخول، و هو التعهّد، من قولهم: هو خائل مال و خال مال، إذا كان متعهّدا له حسن القيام به.

و منه: ما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة.

أو من الخول، و هو الافتخار. يقال: خال يخول إذا اختال و افتخر.

نِعْمَةً مِنْهُ من اللّه، كالصّحة و الثروة و الأمن نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أي: الضرّ الّذي كان يدعو اللّه إلى كشفه. أو ربّه الّذي كان يتضرّع إليه. ف «ما» بمعنى «من» كما في قوله: وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (1). مِنْ قَبْلُ من قبل النعمة وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أي: سمّى له أمثالا في توجيه عبادته إليها من الأصنام و الأوثان لِيُضِلَ ليضلّ الناس عَنْ سَبِيلِهِ عن دينه.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ورويس بفتح الياء، أي: يضلّ هو عن الدين. يعني:

أنّ نتيجة جعله للّه أندادا ضلاله عن سبيل اللّه أو إضلاله.

قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أمر تهديد. و فيه إشعار بأنّ الكفر نوع تشهّ لا سند له. و إقناط للكافر من التمتّع في الآخرة. و لذلك علّله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على سبيل الاستئناف للمبالغة. و هذا من باب الخذلان و التخلية. كأنّه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان و الطاعة، فمن حقّك أن لا تؤمر به بعد ذلك، و تؤمر بتركه، مبالغة في خذلانه و تخليته و شأنه، لأنّه لا مبالغة في الخذلان أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به. و نظيره في المعنى قوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ (2).

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ «أم» متّصلة بمحذوف، تقديره: أ هذا الكافر الّذي

ص: 61


1- الليل: 3.
2- آل عمران: 197.

ذكر وصفه خير «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ» أي: قائم بوظائف الطاعات، دائم على رسوم العبادات آناءَ اللَّيْلِ ساعاته. و قرأ الحجازيّان و حمزة بتخفيف الميم، أي:

أمّن هو قانت للّه كمن جعل له أندادا؟! ساجِداً تارة في الصلاة وَ قائِماً اخرى فيها. و هما حالان من ضمير «قانت». يعني: من صلّى صلاة الليل و يقنت في الوتر. و هو دعاء المصلّي قائما. و في الحديث: «أفضل الصلاة طول القنوت».

يَحْذَرُ الْآخِرَةَ عذابها وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي: يتردّد بين الخوف و الرجاء. و هما في موضع الحال، أو استئناف للتعليل.

ثمّ نفى استواء الفريقين باعتبار القوّة العلميّة، بعد نفي استوائهما باعتبار القوّة العمليّة، على وجه أبلغ، لمزيد فضل العلم، فقال:

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ و أراد بالّذين يعلمون العاملين من علماء الديانة، فكأنّه جعل من لا يعمل غير عالم. و فيه ازدراء عظيم بالّذين يقتنون العلوم، ثمّ لا يقتنون و يفتنون، ثمّ يفتنون بالدنيا، فهم عند اللّه جهلة، حيث جعل القانتين هم العالمين المتقنين.

و قيل: هذا تقرير للأوّل على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون و الجاهلون، لا يستوي القانتون و العاصون.

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ بأمثال هذه البيانات.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «نحن الّذين يعلمون، و عدوّنا الّذين لا يعلمون، و شيعتنا أولو الألباب».

[سورة الزمر [39]: الآيات 10 الى 16]

قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [10]

ص: 62

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [11] وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [12] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [13] قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [14]

فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [15] لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [16]

قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عقاب ربّكم بلزوم طاعته و اجتناب معاصيه. و فيه دلالة على أنّ الإيمان يبقى مع المعصية.

ثمّ قال في مكافأة اتّقائهم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مثوبة جميلة غير مكتنهة بالوصف في الآخرة. و هي الخلود في الجنّة. و قد علّق السدّي الظرف ب «حسنة». و معناه: لهم في هذه الدنيا ثناء حسن، و ذكر جميل، و صحّة و سلامة و عافية.

وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسّر عليه التوفّر على الإحسان في وطنه، فليهاجر إلى حيث يتمكّن منه. يعني: لا عذر للمفرّطين في الإحسان البتّة، حتّى إن اعتلوا بأوطانهم و بلادهم، و أنّهم لا يتمكّنون فيها من التوفّر على الإحسان و صرف الهمم إليه، فعليهم التحوّل إلى بلاد أخر، و الاقتداء بالأنبياء الصالحين في مهاجرتهم

ص: 63

إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم و طاعة إلى طاعتهم.

و قيل: نزلت في الّذين كانوا في بلاد المشركين، فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها (1).

و قيل: هي أرض الجنّة. يعني: أرض الجنّة واسعة، فاطلبوها بالأعمال الصالحة.

إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاقّ الطاعة، من احتمال البلاء، و مهاجرة الأوطان و العشائر و الأصدقاء أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أجرا لا يهتدي إليه حساب الحسّاب. و قيل: بغير مكيال و لا ميزان.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه ينصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفّون أجورهم بالموازين، و يؤتى بأهل الصدقة فيوفّون أجورهم بالموازين، و يؤتى بأهل الحجّ فيوفّون أجورهم بالموازين، و يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان، و يصبّ عليهم الأجر صبّا. قال اللّه تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حتّى يتمنّى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريظ ممّا يذهب به أهل البلاء من الفضل».

و روى العيّاشي أيضا بالإسناد عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا نشرت الدواوين، و نصبت الموازين، لم ينصب لأهل البلاء ميزان، و لم ينشر لهم ديوان. ثمّ تلا هذه الآية».

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ موحّدا له وَ أُمِرْتُ بذلك لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لأجل أن أكون مقدّمهم في الدنيا و الآخرة، لأن قصب السبق في الدين بالإخلاص. أو لأن أكون من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي في قولي و فعلي جميعا، و لا تكون صفتي صفة الملوك الّذين

ص: 64


1- النساء: 97.

يأمرون بما لا يفعلون. أو أكون أوّل من خالف قريشا في خلع الأصنام و حطمها. أو أكون أوّل الّذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما.

و الأمران المذكوران ليسا بواحد، لاختلاف جهتيهما. و بيان ذلك: أنّ الأمر بالإخلاص و تكليفه شي ء، و الأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شي ء.

و إذا اختلف وجها الشي ء و صفتاه، نزّل بذلك منزلة شيئين مختلفين، فعطف الأمر الثاني على الأوّل، لمغايرته إيّاه بتقييده بالعلّة. و فيه إشعار بأنّ العبادة المقرونة بالإخلاص و إن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها، فهي أيضا تقتضيه، لما يلزمها من السبق في الدين.

و يجوز أن تجعل اللام مزيدة، كما في: أردت لأن أفعل، كأنّها زيدت عوضا من ترك الأصل- الّذي هو المصدر- إلى ما يقوم مقامه، كما عوّض السين في:

اسطاع، عوضا من ترك الأصل الّذي هو: أطوع. و الدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فيكون أمرا بالتقدّم في الإخلاص، و البدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به.

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص، و الميل إلى ما أنتم عليه من الشرك و الرياء عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه.

قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أمر بالإخبار عن إخلاصه، و أن يكون مخلصا له دينه، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة و الإخلاص، خائفا عن المخالفة من العقاب، قطعا لأطماعهم. و لذلك رتّب عليه قوله: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ تهديدا و خذلانا لهم. فمنطوق هذه الآية غير منطوق قوله: إِنِّي أُمِرْتُ

ص: 65


1- يونس: 72 و 104.
2- يونس: 72 و 104.

أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فلا يلزم التكرير.

قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران، الجامعين لوجوهه و أسبابه الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها بسبب الضلال وَ أَهْلِيهِمْ و خسروهم بالإضلال كما خسروا أنفسهم بالضلال يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يدخلون النار بدل الجنّة.

و قيل: و خسروا أهليهم، لأنّهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، و إن كانوا من أهل الجنّة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم، فلا ينتفعون بأنفسهم، و لا يجدون في النار أهلا كما كان لهم في الدنيا أهل، فقد فاتتهم المنفعة بأنفسهم و أهليهم.

و عن ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى جعل لكلّ إنسان في الجنّة منزلا و أهلا، فمن عمل بطاعته كان له ذلك، و من عصاه دفع منزله إلى من أطاع. فذلك قوله. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (1) الآية.

أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مبالغة في خسرانهم، حيث استأنف الجملة، و صدّرها بحرف التنبيه، و وسّط الفصل بين المبتدإ و الخبر، و عرّف الخسران، و وصفه بالمبين.

ثمّ شرح كمال خسرانهم بقوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أي: أطباق و سرادقات (2) مِنَ النَّارِ و دخانها وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ من النار، هي ظلل للآخرين، فإنّ النار أدراك ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الّذي يخوّفهم به، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه يا عِبادِ فَاتَّقُونِ و لا تتعرّضوا لما يوجب سخطي. و هذه نصيحة بالغة، و عظة بليغة من اللّه سبحانه.

ص: 66


1- المؤمنون: 10.
2- سرادقات جمع سرادق: الفسطاط الّذي يمدّ فوق صحن البيت، أو الخيمة.

[سورة الزمر [39]: الآيات 17 الى 20]

وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ [17] الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [18] أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [19] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ [20]

و بعد ذكر التوعّد شرع في الوعد لمن اجتنب عن الشرك و سائر المعاصي، فقال: وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان. فعلوت منه، كالرحموت و الملكوت بمعنى الرحمة الواسعة و الملك المبسوط، إلّا أنّ فيها قلبا بتقديم اللام على العين، فإنّ أصله الطغيوت أو الطغووت. و هي لمبالغة المصدر. و فيها مبالغات:

التسمية بالمصدر، كأنّ عين الشيطان طغيان، و البناء بناء المبالغة، و القلب. و هو للاختصاص، و لذلك اختصّ بالشيطان. و المراد بها هنا الجمع. و المعنى: كلّ من دعا إلى عبادة غير اللّه من شياطين الجنّ و الإنس.

أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال من الطاغوت، أي: اجتنبوا عبادتها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ و أقبلوا إليه بشراشرهم عمّا سواه لَهُمُ الْبُشْرى بالثواب على ألسنة الرسل، أو الملائكة عند حضور الموت و حين يحشرون، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ (1).

ص: 67


1- الحديد: 12.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنتم هم، و من أطاع جبّارا فقد عبده».

فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وضع فيه الظاهر موضع ضمير «الَّذِينَ اجْتَنَبُوا» للدلالة على مبدأ اجتنابهم، و أنّهم نقّاد في الدين، يميّزون بين الحقّ و الباطل، و الحسن و الأحسن، و الفاضل و الأفضل. فإذا اعترضهم أمران: واجب و ندب، اختاروا الواجب. و كذلك اختاروا الندب على المباح، و العفو على القصاص، و الإغضاء على الانتصار، و الإخفاء على الإبداء، حراصا على ما هو أقرب عند اللّه و أكثر ثوابا، لقوله: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (1) وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2). و يدخل تحته المذاهب، و اختيار أثبتها و أقواها.

و قيل: معناه: يستمعون القرآن و غيره فيتّبعون القرآن.

روي عن أبي الدرداء قال: لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما واحدا:

الظمأ بالهواجر، و السجود في جوف الليل، و مجالسة أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقى طيّب التمر.

و عن ابن عبّاس: هو الرجل يجلس مع القوم، فيسمع الحديث فيه محاسن و مساوئ، فيحدّث بأحسن ما سمع، و يكفّ عمّا سواه.

قيل: هاتان الآيتان في ثلاث نفر كانوا يقولون في الجاهليّة: لا إله إلّا اللّه:

عمرو بن نفيل، و أبو ذرّ الغفاري، و سلمان الفارسي.

أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لدينه وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ من العقول السليمة عن منازعة الوهم و العادة. و في ذلك دلالة على أنّ الهداية تحصل بفعل اللّه و قبول النفس لها.

أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ جملة شرطيّة معطوفة على محذوف دلّ عليه سوق الكلام. تقديره: أ أنت مالك أمرهم؟ فمن حقّ عليه

ص: 68


1- البقرة: 237 و 271.
2- البقرة: 237 و 271.

العذاب فأنت تنقذه؟ فكرّرت الهمزة لتأكيد الإنكار و الاستبعاد. و وضع «مَنْ فِي النَّارِ» موضع الضمير لذلك، و للدلالة على أنّ من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه، لامتناع الخلف فيه، و أنّ اجتهاد الرسول في دعائهم إلى الايمان سعي في إنقاذهم من النار.

و يجوز أن يكون «أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ» جملة مستأنفة للدلالة على ذلك، و للإشعار بالجزاء المحذوف. تقديره: أ فمن حقّ عليه كلمة العذاب فأنت تخلّصه؟ أو كمن وجبت له الجنّة. و المراد بكلمة العذاب قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ (1) الآية. و إنّما قال ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحرصه على إسلام المشركين. و المعنى: إنّك لا تقدر على إدخال الإسلام في قلوبهم قسرا، فلا عليك إذا لم يؤمنوا. و هذا كقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ (2) الآية.

ثمّ بيّن سبحانه ما أعدّ للمؤمنين، كما بيّن ما أعدّه للكفّار، فقال:

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ علالي (3) بعضها فوق بعض مَبْنِيَّةٌ بنيت بناء المنازل على الأرض. و هذا في مقابلة قوله: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ». تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: من تحت الغرف، فإنّ النظر من الغرف إلى الخضر و المياه أشهى و ألذّ وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكّد، لأنّ قوله: «لهم غرف» في معنى الوعد، كأنّه قال: وعد اللّه وعدا لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ لأنّ الخلف نقص، و هو على اللّه محال.

روى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ أهل الجنّة ليتراءون الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدرّيّ في الأفق، من المشرق أو

ص: 69


1- السجدة: 13.
2- الكهف: 6.
3- علالي جمع علّيّة، و هي: بيت منفصل عن الأرض ببيت و نحوه.

المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.

قال: و الّذي نفسي بيده لرجال آمنوا باللّه و صدّقوا المرسلين».

[سورة الزمر [39]: الآيات 21 الى 22]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [21] أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [22]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الدعاء إلى التوحيد، عقّبه بذكر دلائل التوحيد، فقال مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان المراد جميع المكلّفين:

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر فَسَلَكَهُ فأدخله و أجراه يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ عيونا و مجاري و مسالك كائنة فيها كالعروق في الأجساد.

و هو جمع الينبوع. أو مياه نابعات فيها، إذ الينبوع جاء للنابع. فنصبها على الحال.

ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ صنوفه من البرّ و الشعير و الأرز و غيرها.

يقال: هذا لون من الطعام. أو كيفيّاته من حمرة و خضرة و صفرة و غيرها. ثُمَّ يَهِيجُ يتمّ جفافه، لأنّه إذا تمّ جفافه حان له أن يثور عن منابته و يذهب فَتَراهُ مُصْفَرًّا من يبسه ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتا.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لتذكيرا بأنّه لا بدّ من صانع حكيم دبّره و سوّاه. أو بأنّه مثل الحياة الدنيا، فلا تغترّ بها لِأُولِي الْأَلْبابِ لأولي العقول السليمة في معرفة الصانع المحدث للعالم، إذ لا يتذكّر به غيرهم.

و لمّا ذكر أدلّة التوحيد الّتي إذا تفكّر فيها متفكّر، انشرح صدره، و اطمأنّت

ص: 70

نفسه إلى التوحيد بلج (1) اليقين، قال عقيب ذلك:

أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أ فمن عرف اللّه أنّه من أهل اللطف به، بنصب الأدلّة و إزاحة العلّة، حتّى انشرح صدره و وسع قلبه لقبول الإسلام بيسر، فثبت عليه و تمكّن فيه فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: المعرفة و الاهتداء إلى الحقّ، كمن لا لطف له، فهو حرج الصدر قاسي القلب. و نور اللّه هو لطفه، لأنّ به يعرف الحقّ، كما بالنور تعرف أمور الدنيا.

و قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية، فقيل: يا رسول اللّه كيف انشراح الصدر؟

قال: «إذا دخل النور القلب انشرح و انفسح. فقيل: يا رسول اللّه فما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، و التجافي عن دار الغرور، و التأهّب للموت قبل نزوله».

و دلّ على حذف خبر «من»: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ من أجل ذكره و بسببه. يعني: إذا ذكر اللّه عندهم أو آياته اشمأزّت قلوبهم و ازدادت قساوة، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (2). و هذا المعنى أبلغ من أن يكون «عن» مكان «من»، لأنّ القاسي من أجل الشي ء أشدّ تأبّيا عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر، و لهذا آثر «من» على «عن». و للمبالغة في وصف أولئك بالقبول و هؤلاء بالامتناع، ذكر شرح الصدر، و أسنده إلى اللّه، و قابله بقساوة القلب، و أسنده إليهم.

أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يظهر ضلالهم للناظر بأدنى نظر. و الآية نزلت في حمزة و عليّ و أبي لهب و ولده.

ص: 71


1- بلج الحقّ بلجا: وضح و ظهر.
2- التوبة: 125.

[سورة الزمر [39]: الآيات 23 الى 24]

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [23] أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [24]

روي: أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملّوا ملّة فقالوا: حدّثنا. فنزلت: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ

يعني: القرآن. و في الابتداء باسم اللّه، و بناء «نزّل» عليه، تأكيد للإسناد إليه تعالى، و أنّه من عنده، و أنّ مثله لا يجوز أن يصدر إلّا عنه، و تفخيم للمنزل، و استشهاد على مزيّة حسنه، و تنبيه على أنّه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث.

كِتاباً مُتَشابِهاً بدل من «أحسن» أو حال منه. و تشابهه: تشابه أبعاضه في الإعجاز، و تجاوب النظم، و صحّة المعنى و إحكامه، و بناؤه على الحقّ و الصدق، و الدلالة على المنافع العامّة، لاشتماله على جميع ما يحتاج إليه المكلّف، من التنبيه على أدلّة التوحيد و العدل، و بيان أحكام الشرع، و غير ذلك من المواعظ و قصص الأنبياء، و الترغيب و الترهيب.

مَثانِيَ جمع مثنّى، بمعنى المردّد و المكرّر. أو مثنى. وصف به «كتابا» مع أنّه جمع باعتبار تفاصيله، من الأقاصيص و الأحكام و المواعظ المكرّرة. و هذا كقولك: القرآن سور و آيات و أسباع و أخماس، و الإنسان: عظام و عروق و أعصاب.

أو جعل تمييزا من «متشابها» كقولك: رجلا حسنا شمائل. فالمعنى: كتابا متشابهة مثانيه.

ص: 72

و فائدة التكرير في أقاصيصه و أحكامه و مواعظه ركزها في القلوب و غرسها في الصدور، فإنّ النفوس أنفر شي ء عن حديث الوعظ و النصيحة، فما لم يكرّر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها و لم يعمل عمله. و من ثمّ كانت عادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكرّر عليهم ما كان يعظ به، و ينصح ثلاث مرّات و سبعا، ليركّزه في قلوبهم و يغرسه في صدورهم.

تَقْشَعِرُّ تتقبّض تقبّضا شديدا مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وقف شعرهم خوفا ممّا فيه من الوعيد. و هو مثل في شدّة الخوف. و تركيبه من حروف القشع، و هو الأديم اليابس، بزيادة الراء ليصير رباعيّا، و يدلّ على معنى زائد، كتركيب القمطر من القمط، و هو الشدّ. و يجوز أن يريد اللّه سبحانه به التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، و أن يريد التحقيق.

و المعنى: أنّهم إذا سمعوا بالقرآن و بآيات وعيده، أصابتهم خشية شديدة تقشعرّ منها جلودهم.

ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ بالرحمة و عموم المغفرة.

و الاقتصار على ذكر اللّه من غير ذكر الرحمة، للإشعار بأنّ أصل أمره الرحمة و الرأفة، و إن سبقت رحمته غضبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كلّ شي ء من صفاته إلّا كونه رؤوفا رحيما.

و تعدية «تلين» ب «إلى» لتضمّنه معنى السكون و الاطمئنان. فكأنّه قيل:

سكنت و اطمأنّت إلى ذكر اللّه، أي: بعد اقشعرار جلودهم منه، إذا ذكروا اللّه و رحمته وجوده بالمغفرة، لانت جلودهم و قلوبهم، و زال عنها ما كان بها من الخشية و القشعريرة.

و ذكر الجلود وحدها أوّلا، ثمّ قران القلوب بها ثانيا، لدلالة الخشية الّتي محلّها القلوب عليها، فهي في حكم الذكر. فكأنّه قيل: تقشعرّ جلودهم من آيات

ص: 73

الوعيد، و تخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا اللّه و مبنى أمره على الرأفة و الرحمة، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، و بالقشعريرة لينا في جلودهم.

روي عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللّه، تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها».

و عن قتادة: هذا نعت لأولياء اللّه، نعتهم اللّه بأن تقشعرّ جلودهم، و تطمئنّ قلوبهم إلى ذكر اللّه. و لم ينعتهم بذهاب عقولهم، و الغشيان عليهم، إنّما ذلك في أهل البدع، و هو من الشيطان.

ذلِكَ أي: ذلك الكتاب هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ يوفّق به بنصب الأدلّة و إزاحة العلّة مَنْ يَشاءُ هدايته من عباده المتّقين الطالبين طريق الفوز و النجاة، كما قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1) وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ من يخذله من أهل العناد و الفجور، بسبب عناده و فرط فجوره فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخرجهم من الضلال.

أو ذلك الكائن من الخشية و الرجاء هدى اللّه، أي: أثر هداه، و هو لطفه.

فسمّاه هدى، لأنّه حاصل بالهدى. يهدي بهذا الأثر من يشاء من عباده. يعني: من صحب أولئك و رءاهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغّبا لهم في الاقتداء بسيرتهم و سلوك طريقتهم. «وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» و من لم يؤثّر فيه ألطافه، لقسوة قلبه و إصراره على فجوره «فَما لَهُ مِنْ هادٍ» من مؤثّر فيه بشي ء قطّ.

أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ يجعله درقة (2) يقي به نفسه، لأنّه يكون يداه مغلولة إلى عنقه، فلا يقدر أن يتّقي إلّا بوجهه سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن هو آمن منه. فحذف الخبر كما حذف في نظائره المذكورة غير مرّة.

و تنقيح المعنى: أنّ الإنسان إذا لقي مخوفا من المخاوف استقبله بيده، و طلب

ص: 74


1- البقرة: 2.
2- في هامش النسخة الخطّية: «الدّرقة: التّرس الّذي يتّخذ من الجلود. منه».

أن يقي بها وجهه، لأنّه أعزّ أعضائه عليه. و الّذي يلقى في النّار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيّأ له أن يتّقي النار إلّا بوجهه الّذي كان يتّقي المخاوف بغيره، وقاية له و محاماة عليه. و قيل: المراد بالوجه الجملة، تسمية للشي ء بأشرف أجزائه.

وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي: لهم. فوضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم، و إشعارا بالموجب لما يقال لهم، و هو ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: قال لهم خزنة النار، ذوقوا و بال ما كنتم تعملون. و الواو للحال، و «قد» مقدّرة.

[سورة الزمر [39]: الآيات 25 الى 28]

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [25] فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [26] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [27] قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [28]

ثمّ وعد كفّار قريش بذكر الأمم المكذّبة الماضية، و استئصالهم بالعذاب العاجل، و صليهم بالعذاب الآجل، فقال:

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بآيات اللّه و جحدوا رسله فَأَتاهُمُ الْعَذابُ عاجلا مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة الّتي لا يخطر ببالهم أنّ الشرّ يأتيهم منها. يعني:

بينا هم آمنون رافهون إذ فوجؤا بالعذاب من مأمنهم.

فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ الذلّ و الصغار فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالمسخ و الخسف و القتل و السبي و الإجلاء، و ما أشبه ذلك من نكال اللّه وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدّ لهم أَكْبَرُ لشدّته و دوامه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لو كانوا من أهل العلم و النظر لعلموا ذلك و اعتبروا به.

ص: 75

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ أي: بيّنّا بيانا بليغ الوضوح فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتدبّرون فيتّعظوا به.

قُرْآناً عَرَبِيًّا حال مؤكّدة من «هذا». و الاعتماد فيها على الصفة، كقولك:

جاءني زيد رجلا صالحا و إنسانا عاقلا. و يجوز أن ينتصب على المدح. غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: لا اختلال فيه بوجه مّا، بريئا من التناقض و الاختلاف قطعا و رأسا.

و في إيثار «غير ذي عوج» على: غير معوجّ و على: «مستقيما» فائدتان:

إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج قطّ، كما قال: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1). و الثانية:

ليدلّ على أنّ استقامته من حيث المعنى، فإنّ لفظ العوج مختصّ بالمعاني دون الأعيان.

و قيل: العوج: الشكّ و اللبس، استشهادا بقوله:

و قد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله و قول غير مكذوب

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتّقوا معاصي اللّه. و هذا علّة اخرى مرتّبة على الأولى.

[سورة الزمر [39]: آية 29]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [29]

ثمّ مثّل حال من يثبت آلهة شتّى، و ما يلزمه من سوء العواقب، و من يتّخذ اللّه وحده إلها، و ما يتبعه من حسن الخواتيم، فقال:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا بدل من «مثلا» فِيهِ صلة قوله: شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ من التشاكس بمعنى الاختلاف. و هذا مثل المشرك. وَ رَجُلًا سَلَماً أي: خالصا لِرَجُلٍ و هذا مثل الموحّد. و قرأ نافع و ابن عامر و الكوفيّون: سلما

ص: 76


1- الكهف: 1.

بفتحتين، مصدر: سلم، نعت به. أو على حذف المضاف، أي: ذا سلامة و خلوص لرجل من غير شركة. و تخصيص الرجل لأنّه أفطن للضرّ و النفع.

و توضيح المعنى: أن اضرب يا محمّد لقومك مثلا، فقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف و تنازع، كلّ واحد منهم يدّعي أنّه عبده، فهم يتجاذبونه و يتعاورونه (1) في مهن شتّى و مشاغل كثيرة، و إذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحيّر في أمره، و قد تشعّبت الهموم قلبه، و توزّعت أفكاره، و لا يدري أيّهم يرضى بخدمته، و على أيّهم يعتمد في حاجاته. و في رجل قد سلم لمالك واحد، و خلص له، فهو معتمد على المالك فيما يصلحه من صنوف الخدمة، فهمّه واحد، و قلبه مجتمع، أيّ هذين العبدين أحسن حالا و أحمد شأنا؟

روى الحاكم أبو الحسن الحسكاني بالإسناد عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «أنا ذلك الرجل السالم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» (2).

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي خالد، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الرجل السلم لرجل عليّ حقّا و شيعته».

هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا صفة أو حالا. و نصبه على التمييز. و وحّد لأنّه جنس.

و المعنى: هل يستوي هذان الرجلان صفة و شبها في حسن العاقبة و حصول المنفعة، أي: لا يستويان، فإنّ الخالص لمالك واحد يستحقّ من معونته و حياطته ما لا يستحقّه صاحب الشركاء المختلفين في أمره.

الْحَمْدُ لِلَّهِ كلّ الحمد للّه الواحد الّذي لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنّه المنعم بالذات، و المالك على الإطلاق، أي: يجب أن يكون الحمد و العبادة متوجّها إليه وحده، فقد ثبت أنّه لا إله إلّا هو.

ص: 77


1- تعاور القوم الشي ء: تعاطوه و تداولوه.
2- شواهد التنزيل 2: 176 ح 807.

و قيل: معناه: احمدوا اللّه المستحقّ للشكر و الثناء على هذا المثل الّذي علّمكموه، فأزال به للمؤمنين الشبهة، و أوضح لهم الدلالة الهادية. أو احمدوا اللّه حيث لطف بكم حتّى عبدتموه وحده، و أخلصتم له الإيمان و التوحيد، فهي النعمة السابغة.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيشركون به غيره من فرط جهلهم.

[سورة الزمر [39]: الآيات 30 الى 35]

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [31] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ [32] وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [33] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [34]

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [35]

روي: أنّ المشركين كانوا يتربّصون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موته، فأخبر سبحانه أنّ الموت يعمّهم، فلا معنى للتربّص و شماتة الباقي بالفاني، فقال:

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أي: إنّك و إيّاهم و إن كنتم أحياء، فإنّكم بصدد الموت و في عداد الموتى، لأنّ ما هو كائن فكأن قد كان.

و الفرق بين الميّت و المائت: أنّ الميّت صفة لازمة كالسيّد، و أمّا المائت فصفة حادثة. تقول: زيد مائت غدا، كما تقول: سائد غدا، أي: سيموت و سيسود.

ص: 78

و إذا قلت: زيد ميّت، فكما تقول: حيّ، في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم و الثبوت.

ثُمَّ إِنَّكُمْ على تغليب المخاطب على الغيّب يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فتحتجّ عليهم بأنّك كنت على الحقّ في التوحيد، و كانوا على الباطل في التشريك، و اجتهدت في الإرشاد و التبليغ، و لجّوا في التكذيب و العناد، و يعتذرون بالأباطيل الّتي لا طائل تحته، بأن يقول الأتباع: أطعنا سادتنا و كبراءنا، و يقول السادات: أغوتنا الشياطين و آباؤنا الأقدمون.

و قيل: المراد به اختصام الجميع، فإنّ الكفّار يخاصم بعضهم بعضا، حتّى يقال لهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ (1). و المؤمنون الكافرين، يبكّتونهم بالحجج. و أهل القبلة يكون بينهم الخصام.

و قال أبو سعيد الخدري: كنّا نقول: ربّنا واحد، و نبيّنا واحد، و ديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلمّا كان يوم صفّين، و شدّ- يعني: حمل- بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.

و عن ابن عمر: كنّا نرى أنّ هذه الآية أنزلت فينا و في أهل الكتابين، و قلنا:

كيف نختصم نحن و نبيّنا واحد و كتابنا واحد، حتّى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعلمت أنّها فينا نزلت.

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين، فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بإضافة الولد و الشريك إليه وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ بالأمر الّذي هو الصدق بعينه. و هو ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. إِذْ جاءَهُ من غير توقّف و تفكرّ في أمره، و اهتمام بتمييز بين حقّ و باطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون.

ثمّ هدّد سبحانه من هذه صفته بأن قال: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ الهمزة للتقرير، أي: يكفيهم ذلك مجازاة لأعمالهم. و اللام للعهد، أي: لهؤلاء الّذين

ص: 79


1- ق: 28.

كذبوا على اللّه و كذّبوا بالصدق. أو لجنس الكفرة. و استدلّ به على تكفير المبتدعة، فإنّهم يكذّبون بما علم صدقه. و هو ضعيف، لأنّه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجي ء الرسول به بالتكذيب بلا تفكّر فيه و تمييز.

وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جاء بالحقّ و آمن به.

و المراد هو و من تبعه، لقوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ كما في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (1). أو المراد جنس الرسل و المؤمنين.

و قيل: الّذي جاء بالصدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و صدّق به عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و هذا منقول عن مجاهد. و رواه الضحّاك عن ابن عبّاس. و هو المرويّ عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من الثواب و أنواع النعيم في الجنّة عِنْدَ رَبِّهِمْ ينالونه من جهته ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم.

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا خصّ الأسوأ للمبالغة، فإنّه إذا كفّر كان غيره أولى بذلك. أو للإشعار بأنّهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنّهم مقصّرون مذنبون، و أنّ ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم. و يجوز أن يكون من قبيل إضافة الشي ء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل. فيكون الأسوأ بمعنى السيّ ء، كقولهم: الناقص و الأشجّ أعدلا بني مروان، يعني: عمر بن عبد العزيز و محمّد بن الخليفة عدلان من بينهم.

وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ و يعطيهم ثوابهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ فتعدّ لهم محاسن أعمالهم بأحسنها، في زيادة الأجر و عظمه، لفرط إخلاصهم فيها.

و المعنى: يجزيهم ثوابهم بالفرائض و النوافل. فهي أحسن أعمالهم، لأنّ المباح و إن كان حسنا فلا يستحقّ به ثواب و لا مدح.

ص: 80


1- المؤمنون: 49.

[سورة الزمر [39]: الآيات 36 الى 37]

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [36] وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ [37]

روي: أنّ قريشا قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّا نخاف أن تخبّلك آلهتنا، لعيبك إيّاها. فنزلت: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ

استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات.

و العبد رسول اللّه. و يحتمل الجنس. و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي بالجمع. و فسّر بالأنبياء. وَ يُخَوِّفُونَكَ يعني: قريشا بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: الأوثان الّتي اتّخذوها آلهة من دونه.

و قيل: إنّه بعث خالدا ليكسر العزّى بالفأس، فقال له سادنها: أحذّركها، فإنّ لها شدّة، أي: حملة لا يقوم لها شي ء. فعمد إليها خالد فهشم أنفها. فقال اللّه عزّ و جل:

أليس اللّه بكاف نبيّه أن يعصمه من كلّ سوء، و يدفع عنه كلّ بلاء في مواطن الخوف؟ فنزّل تخويف خالد منزلة تخويفه، لأنّه الآمر له بما خوّف عليه. و فيه تهكّم بهم، لأنّهم خوّفوه بما لا يقدر على نفع و لا ضرّ. أو أليس اللّه بكاف أنبياءه؟

و لقد قالت أممهم نحو ذلك، فكفاهم اللّه. و ذلك قول هود: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ (1).

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بالتخلية و الخذلان حتّى غفل عن كفاية اللّه له فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى الرشاد. أو من يضلل اللّه عن طريق الجنّة بكفره و فرط عناده و معاصيه فليس له هاد يهديه إليه. أو من وصف و حكم بأنّه ضالّ فليس له من يسمّيه هاديا.

ص: 81


1- هود: 54.

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ أي: من يهده اللّه فاهتدى فلا يقدر أحد على صرفه عنه. أو من يهده إلى طريق الجنّة فلا أحد يضلّه عنها، إذ لا رادّ لفعله، كما قال: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ غالب قاهر منيع لا يقدر أحد على مغالبته ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه. و فيه و عيد لقريش، و وعد للمؤمنين بأنّه ينتقم لهم منهم و ينصرهم عليهم.

[سورة الزمر [39]: الآيات 38 الى 42]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [38] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [39] مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [40] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [41] اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [42]

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

ص: 82

لوضوح البرهان على تفرّده بالخالقيّة قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بعد ما تحقّقتم أنّ خالق العالم هو اللّه تعالى إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ فيكشفنه أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فيمسكنها عليّ.

و قرأ أبو عمرو: كاشفات ضرّه .... ممسكات رحمته، بالتنوين و نصب «ضرّه و رحمته» على الأصل.

و إنّما فرض المسألة في نفسه دونهم، لأنّهم خوّفوه معرّة (1) الأوثان، فامر بأن يقرّرهم أوّلا بأنّ خالق العالم هو اللّه تعالى وحده، ثم يقول لهم بعد التقرير: فإن أرادني خالق العالم الّذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر، أو غير ذلك من النوازل، أو رحمة من صحّة أو غنى أو نحوهما، هل هؤلاء اللّاتي خوّفتموني إيّاهنّ كاشفات على ضرّه، أو ممسكات رحمته؟ حتّى إذا ألقمهم الحجر و قطعهم فلا يجيبوا بكلمة.

و إنّما قال: «كاشفات .... و ممسكات» على التأنيث، بعد قوله: «وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ»، ليضعّفها و يعجّزها زيادة تضعيف و تعجيز عن كشف الضرّ و إمساك الرحمة، لأنّ الأنوثة من باب اللين و الرخاوة، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة و الصلابة. كأنّه قال: الإناث اللّاتي هنّ اللات و العزّى و مناة أضعف ممّا تدعون لهنّ و أعجز. و فيه تهكّم أيضا.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سألهم فسكتوا، فنزل: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ

كافيا في إصابة الخير و دفع الضرّ، إذ تقرّر بهذا التقرير أنّه القادر الّذي لا مانع لما يريده من خير أو شرّ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم بأنّ النفع و الضرّ منه.

ثمّ هدّدهم بقوله: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالاتكم الّتي أنتم عليها، من العداوة الّتي تمكّنتم منها، و على قدر جهدكم و طاقتكم في إهلاكي.

و الأمر للتهديد. و المكانة اسم للمكان، استعير للحال، كما استعير «هنا» و «حيث»

ص: 83


1- المعرّة: المساءة و الإثم.

من المكان للزمان. و قرأ أبو بكر: مكاناتكم. إِنِّي عامِلٌ أي: على مكانتي، فحذف للاختصار، و المبالغة في الوعيد، و الإشعار بأنّ حاله لا يقف، فإنّه تعالى يزيده كلّ يوم قوّة و نصرة. فلذلك توعّدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين، فقال:

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإنّ خزي أعدائه دليل غلبته، و قد أخزاهم اللّه يوم بدر وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم. و هو عذاب النار.

إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لأجلهم، فإنّه، مناط مصالحهم في معاشهم و معادهم، و لا حاجة لي إلى ذلك، فإنّي أنا الغنيّ بِالْحَقِ متلبّسا به، و ليس فيه شي ء من الباطل رأسا فَمَنِ اهْتَدى فمن اختار الهدى فَلِنَفْسِهِ أي: فقد نفع به نفسه وَ مَنْ ضَلَ و من اختار الضلالة فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فقد ضرّها، فإنّ و باله لا يتخطّاها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ و ما وكّلت عليهم لتجبرهم على الهدى، فإنّ التكليف مبنيّ على الاختيار دون الإجبار، و إنّما أمرت بالبلاغ و قد بلّغت، و جزاء أعمالهم على الّذي يقدر على إماتتهم و إحيائهم و حفظ أعمالهم، و هو اللّه سبحانه.

كما قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أي: يقبضها عن الأبدان، بأن يقطع تعلّقها عنها، و تصرّفها فيها ظاهرا و باطنا عند موتها، أي: موت أبدانها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها و يقبضها عن الأبدان، و يقطع تعلّقها عنها و تصرّفاتها في النوم. فالنوم شبيه بالموت. و منه قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ (1) حيث لا يميّزون و لا يتصرّفون، كما أنّ الموتى كذلك فَيُمْسِكُ الأنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ الحقيقي، و لا يردّها إلى البدن إلى يوم القيامة. و قرأ حمزة و الكسائي: قضي، بضمّ القاف و كسر الضاد، و الموت بالرفع. وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى أي: الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت مضروب لموته، و هو غاية جنس الإرسال.

ص: 84


1- الأنعام: 60.

و قريب منه ما روي عن ابن عبّاس: أنّ في بني آدم نفسا و روحا بينهما مثل شعاع الشمس. فالنفس الّتي بها العقل و التمييز، و الروح الّتي بها النفس و الحياة، فيتوفّيان عند الموت، و تتوفّى النفس وحدها عند النوم.

و روى العيّاشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن ثابت أبي المقدام، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء، و بقيت روحه في بدنه، و صار بينهما سبب كشعاع الشمس. فإن أذن اللّه في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، و إن أذن اللّه في ردّ الروح أجابت النفس الروح. و هو قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الآية».

إِنَّ فِي ذلِكَ من التوفّي و الإمساك و الإرسال لَآياتٍ دالّة على كمال قدرته و حكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يجيلون أفكارهم في كيفيّة تعلّقها بالأبدان، و توفّيها عنها بالكلّيّة حين الموت، و إمساكها باقية لا تفنى بفنائها، و الحكمة في توفّيها عن ظواهرها، و إرسالها حينا بعد حين إلى توفّي آجالها.

[سورة الزمر [39]: الآيات 43 الى 44]

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ [43] قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [44]

أَمِ اتَّخَذُوا بل اتّخذت قريش. و الهمزة للإنكار. مِنْ دُونِ اللَّهِ من دون إذنه شُفَعاءَ تشفع لهم عند اللّه، حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا أي: أ يشفعون و لو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً قطّ حتّى ملكوا الشفاعة وَ لا يَعْقِلُونَ و لا عقل لهم، لأنّهم جمادات، فلا يقدرون و لا يعلمون.

ص: 85

قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لا يستطيع أحد شفاعته إلّا بإذنه. ثمّ قرّر ذلك فقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّه مالك الملك كلّه، لا يملك أحد أن يتكلّم في أمره دون إذنه و رضاه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، و لا يكون الملك في ذلك اليوم إلّا له، فله ملك الدنيا و الآخرة.

[سورة الزمر [39]: آية 45]

وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [45]

ثمّ أخبر سبحانه عن سوء اعتقادهم و شدّة عنادهم، فقال: وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي: إذا أفرد اللّه بالذكر و لم يذكر معه آلهتهم، بأن قيل: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له اشْمَأَزَّتْ انقبضت و نفرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: آلهتهم، سواء ذكر اللّه معهم أم لم يذكر إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها، و نسيانهم حقّ اللّه إلى هواهم فيها. و لقد بالغ في الأمرين حتّى بلغ الغاية فيهما، فإنّ الاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا حتّى تنبسط بشرة الوجه، و الاشمئزاز أن يمتلئ غمّا و غيظا يظهر الانقباض في أديم الوجه.

و العامل في «إذا ذكر» المفاجأة، تقديره: وقت ذكر الّذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار.

[سورة الزمر [39]: آية 46]

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [46]

و لمّا بيّن أدلّة التوحيد بالطريق المذكور فلم ينظروا فيها، أمر نبيّه أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقّونه، فقال:

ص: 86

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يا خالقهما و منشئهما عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ يا عالم ما غاب علمه عن جميع الخلق، و عالم ما شهدوه و علموه.

يعني: ألتجئ إلى اللّه بالدعاء، فإنّه القادر على الأشياء، و العالم بالأحوال كلّها أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فأنت وحدك تقدر أن تحكم بينهم يوم القيامة أو الدنيا فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في أمر دينهم و دنياهم، و تفصل بينهم بالحقّ في الحقوق و المظالم، فاحكم بيني و بين قومي بالحقّ. و فيه وصف لحالهم، و إعذار له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تسلية له، و بشارة للمؤمنين بالظفر و النصر، و وعيد للمشركين، لأنّه سبحانه إنّما أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به للإجابة لا محالة.

و عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: إنّي لأعرف موضع آية لم يقرأها أحد قطّ، فسأل اللّه تعالى شيئا إلّا أعطاه، و قرأ هذه الآية.

و عن الربيع بن خثيم- و كان قليل الكلام-: أنّه أخبر بقتل الحسين عليه السّلام- و سخط على قاتله- و قالوا: الآن يتكلّم، فما زاد على أن قال: آه أوقد فعلوا؟ و قرأ هذه الآية. و روي: أنّه قال على أثره: قتل من كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجلسه في حجره، و يضع فاه على فيه.

[سورة الزمر [39]: الآيات 47 الى 48]

وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [47] وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [48]

ثمّ أخبر سبحانه عن وقوع العذاب الأليم و العقاب العظيم بالكفّار، و عن إقناط كلّي لهم من الخلاص، فقال:

ص: 87

وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ زيادة عليه لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ و قد مضى تفسيره وَ بَدا لَهُمْ و ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ من الخلاص. و هذا وعيد لهم لا كنه لفظاعته و شدّته. و هو نظير قوله في الوعد: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (1).

و المعنى: و ظهر لهم من سخط اللّه و عذابه ما لم يكن قطّ في حسابهم، و لم يحدّثوا به نفوسهم.

و قيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هي سيّئات.

و عن سفيان الثوري: أنّه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء.

و جزع محمّد بن المنكدر عند موته فقيل له: فقال: أخشى آية من كتاب اللّه، و تلاها، ثمّ قال: أنا أخشى أن يبدوا لي من اللّه في ذلك ما لم أحتسبه.

وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا «ما» موصولة، أي: جزاء سيّئات أعمالهم. أو مصدريّة، أي: سيّئات كسبهم حين تعرض صحائفهم، و كانت خافية عليهم، كقوله:

أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ (2). أو أراد بالسيّئات أنواع العذاب الّتي يجازون بها على ما كسبوا. فسمّاها سيّئات، كما قال: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (3).

وَ حاقَ بِهِمْ و أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ جزاء هزئهم بما ينذرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ممّا كانوا ينكرونه و يكذّبون به.

[سورة الزمر [39]: الآيات 49 الى 52]

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [49] قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ

ص: 88


1- السجدة: 17.
2- المجادلة: 6.
3- الشورى: 40.

قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [50] فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ [51] أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [52]

ثمّ أخبر عن مناقضتهم و تعكيسهم في التسبّب، بأنّهم يشمئزّون عن ذكر اللّه وحده، و يستبشرون بذكر الآلهة، مع أنّهم في حالة الضرّ كانوا يدعون اللّه وحده و يذرون آلهتهم. فقال عطفا على قوله: «وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ»:

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا أي: دعا من اشمأزّ عن ذكره دون من استبشر بذكره. و ما بين المعطوف و المعطوف عليه اعتراض مؤكّد لإنكار ذلك عليهم. و السبب في عطف هذه الآية بالفاء السببيّة، و عطف مثلها في أوّل السورة (1) بالواو: أنّ هذه وقعت تعكيسا في التسبّب.

ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أعطيناه نِعْمَةً من الصحّة و السعة في الرزق و غير ذلك، تخويلا صادرا مِنَّا تفضّلا، فإنّ التخويل مختصّ بالتفضّل، يقال:

خوّلني إذا أعطاك على غير جزاء قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ على علم منّي بوجوه كسبه، كما قال قارون: عَلى عِلْمٍ عِنْدِي (2) يعني: الكيمياء. أو على علم من اللّه بي و استحقاقي. و الهاء ل «ما» إن جعلت موصولة. و إن جعلت كافّة فللنعمة. و تذكيره ذهابا إلى المعنى، لأنّ معنى قوله: «نعمة منّا» شيئا

ص: 89


1- الزمر: 8.
2- القصص: 78.

من النعمة و قسما منها.

ثمّ ردّ ما قاله بقوله: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: امتحان و اختبار له أ يشكر أم يكفر؟ لنجازي بحسبها. و تأنيث الضمير باعتبار لفظ النعمة أو الخبر. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك. و هو دليل على أنّ الإنسان للجنس.

قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الهاء لقوله: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» لأنّها كلمة أو جملة أو مقالة. «وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قارون و قومه، حيث قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي و رضي له قومه، فكأنّهم قالوها. و يجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا و يجمعون منه.

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء سيّئات أعمالهم، أو جزاء أعمالهم.

و سمّاه سيّئة لأنّه في مقابلة أعمالهم السيّئة، رمزا إلى أنّ جميع أعمالهم سيّئة.

وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتوّ مِنْ هؤُلاءِ المشركين. و «من» للبيان أو للتبعيض.

سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا كما أصاب أولئك. و قد أصابهم، فإنّهم قحطوا سبع سنين، و قتل ببدر صناديدهم. وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين، بأن يعجزوا اللّه بالخروج من قدرته.

أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ حيث حبس عنهم الرزق سبعا، ثمّ بسط لهم سبعا، بحسب ما يعلم من المصلحة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لدلالات واضحات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بذلك.

[سورة الزمر [39]: الآيات 53 الى 59]

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [53] وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ

ص: 90

وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [54] وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [55] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [56] أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [57]

أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [58] بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [59]

روي: أنّ أهل مكّة قالوا: يزعم محمّد أنّ من عبد الوثن و قتل النفس بغير حقّ لم يغفر له، فكيف نغفر و لم نهاجر، و قد عبدنا الأوثان و قتلنا الأنفس؟! فنزلت:

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ

أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي و التوغّل فيها. و قد مرّ (1) من قبل في هذه السورة- حيث فسّرنا قوله تعالى: «وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ»- قول الفاضل النيشابوري في تعميم العباد و تخصيصه في هذه الآية، و نعيده هنا لتحقيق المقام. قال: «ثمّ إن قلنا: العباد عامّ فالإسراف على النفس يعمّ الشرك، و لا نزاع أنّ عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة و الإيمان. و إن قلنا: العباد المضاف في عرف القرآن مختصّ بالمؤمنين، فالإسراف إمّا بالصغائر، و لا خلاف في أنّها مكفّرة ما اجتنب الكبائر.

ص: 91


1- راجع ص 58 ذيل الآية [7] من هذه السورة.

و إمّا بالكبائر و حينئذ يبقى النزاع بين الفريقين، فالمعتزلة شرطوا التوبة، و الأشاعرة العفو» (1).

لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرته إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً يعني: بشرط التوبة. و قد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه، لأنّ القرآن في حكم كلام واحد، و لا يجوز فيه التناقض. فإن مات الموحّد الفاسق من غير توبة فهو في مشيئته، إن شاء عذّبه بعدله، و إن شاء غفر له بفضله، كما قال: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (2). إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة و إفادة الحصر.

و اعلم أنّ في الآية اثني عشر شيئا يدلّ كلّ واحد منها على الرجاء على مغفرة جميع الذنوب:

الأوّل: إضافة العباد إلى ذاته المستلزمة للرحمة و الشفقة.

و الثاني: إيثار «أسرفوا» على: عصوا، فإنّ ذكر العصيان مشعر على القهر.

و الثالث: إيثاره على: أخطأوا، فإنّ «أسرفوا» مشتمل على رفق العتاب دون الإخطاء.

و الرابع: النهي عن القنوط من رحمته المستلزم لتحريم اليأس من المغفرة.

الخامس: تعليله بأنّ اللّه يغفر الذنوب.

السادس: وضع اسم اللّه موضع الضمير، ليكون إسناد المغفرة إلى صريح اسمه.

السابع: استيعاب المغفرة بجميع الذنوب، بإيراد صيغة الجمع المحلّى باللام، لا ببعض غير بعض.

ص: 92


1- غرائب القرآن 6: 10.
2- النساء: 48.

الثامن: تأكيده بلفظ «جميعا».

التاسع: إيراد كلمة «إنّ» المفيدة للتأكيد.

العاشر: إيراد ضمير الفصل بين الاسم و الخبر الّذي يفيد الحصر.

الحادي عشر: تقديم المغفرة على الرحمة، لشدة عنايته بها.

الثاني عشر: ختم الآية بالرحمة دون بواقي الصفات.

روي عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما أحبّ أنّ لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية. فقال رجل يا رسول اللّه: و من أشرك؟ فسكت ساعة، ثمّ قال: ألا و من أشرك، ثلاث مرّات».

و على هذا يكون مخصوصا بشرط الإيمان.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «ما في القرآن آية أوسع رحمة من «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» الآية».

قيل: إنّ الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يسلم، و خاف أن لا تقبل توبته. فلمّا نزلت الآية أسلم. فقيل: يا رسول اللّه هذه له خاصّة أو للمسلمين عامّة؟ فقال: «بل للمسلمين عامّة».

و في سبب نزولها دلالة على أنّ المغفرة مشروطة بالتوبة. و كذا يدلّ عليها أنّه سبحانه دعا عباده إلى التوبة بعد هذه الآية، و أمرهم بالإنابة، فقال: وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ و ارجعوا إليه من الشرك و المعاصي وَ أَسْلِمُوا لَهُ و انقادوا له بالطاعة، و أخلصوا له العمل مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ عند نزول العذاب بكم. فذكر الإنابة على أثر المغفرة، لئلّا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، و يرتكب المعصية اتّكاء على ظاهر الآية المتقدّمة.

وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من الحلال و الحرام، و الأمر و النهي، و الوعد و الوعيد. فمن أتى بالمأمور به، و ترك المنهيّ عنه، فقد اتّبع أحسن ما أنزل.

أو اتّبعوا الواجبات و المندوبات الّتي هي الطاعات دون المباحات. و قيل: المراد

ص: 93

العزائم دون الرخص، أو الناسخ دون المنسوخ. و هذا مثل قوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (1). مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً فجأة وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه، أي: لا تعرفون وقت نزوله بكم فتتداركوا.

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول. و تنكير «نفس» لأنّ القائل بعض الأنفس، و هي نفس الكافر. و يجوز أن يراد نفس متميّزة من الأنفس، إمّا بفرط لجاج في الكفر و شدّة عناد في الطغيان، أو بعذاب عظيم و عقاب أليم. أو يراد به التكثير. يا حَسْرَتى يا ندامتي عَلى ما فَرَّطْتُ بما قصّرت. و «ما» مصدريّة، مثلها في بِما رَحُبَتْ (2). و المعنى: على تقصيري. فِي جَنْبِ اللَّهِ في جانبه، أي: في حقّه، و هو طاعته. و قيل: في ذاته، على تقدير مضاف كالطاعة. و قيل: في قربه و جواره، و هو الجنّة. يقال: فلان في جنب فلان، أي: في قربه و جواره. و منه قوله تعالى: وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (3). فيكون المعنى: على ما فرّطت في طلب جواره و قربه.

و روى العيّاشي: بالإسناد عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «نحن جنب اللّه».

وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ و إنّي كنت لمن المستهزئين بالقرآن و النبيّ و المؤمنين. و محلّ «إن كنت» نصب على الحال، كأنّه قال: فرّطت و أنا ساخر، أي:

فرّطت في حال سخريّتي.

و روي: أنّه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه و فسق، و أتاه إبليس و قال له: تمتّع من الدنيا ثمّ تب، فأطاعه، و كان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك

ص: 94


1- الزمر: 18.
2- التوبة: 25.
3- النساء: 36.

الموت في ألّذ ما كان، فقال: يا حسرتى على ما فرّطت في جنب اللّه، ذهب عمري في طاعة الشيطان، و أسخطت ربّي، فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل اللّه خبره في القرآن.

أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالإرشاد إلى الحقّ لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ من الشرك و المعاصي. و لا يخلو: إمّا أن يريد به الهداية بالإلجاء، أو بالألطاف، أو بالوحي. و الأوّل خارج عن المصلحة و الحكمة، لمنافاته التكليف الّذي هو مدار الشرع عليه. و الآخران قد حصلا لكنّه لم ينظر إليه و أعرض عنه، لأجل اشتغاله بالدنيا و الأباطيل.

أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة و العمل. و «أو» للدلالة على أنّه لا يخلو من هذه الأقوال تحيّرا و تعلّلا بما لا طائل تحته، كما حكى عنهم الثعلّل بإغواء الرؤساء و الشياطين و نحو ذلك. و نحوه: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ (1).

فردّ اللّه عليه قوله: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي» المتضمّن معنى النفي، فقال: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي أي: قد هديت بالوحي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ عن قبولها وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ و آثرت الكفر على الإيمان، و الضلالة على الهدى.

و تذكير الخطاب على المعنى. فهذه الآية جواب قوله: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي»، و حقّها أن تذكر متّصلة به، لكن فصل بينهما، لأنّ تقديمه يفرّق القرائن الثلاث، و تأخير المردّد يخلّ بالنظم المطابق للواقع، لأنّه يتحسّر على التفريط في الطاعة، ثمّ يتعلّل بفقد الهداية، ثمّ يتمنّى الرجعة. فكان الصواب ما جاء عليه. و هو أنّه حكى أقوال النفس على ترتيبها و نظمها، ثمّ أجاب من بينها عمّا اقتضى الجواب.

ص: 95


1- إبراهيم: 21.

[سورة الزمر [39]: آية 60]

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [60]

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يجوز عليه، و هو متعال عنه. فأضافوا إليه الولد و الشريك، و قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا (1).

و قالوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ (2). و قالوا: وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها (3). و لا يبعد عنهم قوم ينسبون القبائح إليه، و يجوّزون أن يخلق خلقا لا لغرض، و يؤلم لا لعوض، و يكلّف ما لا يطاق، و يجسّمونه بكونه مرئيّا معاينا مدركا بالحاسّة، و يثبتون له قدما و يدا و جنبا، و يجعلون معاني قدماء، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدّة، أو بما يتخيّل عليها من ظلمة الجهل. و الجملة حال، إذ الظاهر أن «ترى» من رؤية البصر. و اكتفى فيها بالضمير عن الواو. و يحتمل أن يكون من رؤية القلب. فهو مفعول ثان ل «ترى».

أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقام لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان و الطاعة.

و الاستفهام تقرير، لأنّهم يرون كذلك.

و روى العيّاشي بإسناده عن خثيمة قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من حدّث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما، فإن صدق علينا فإنّما يصدق على اللّه و على رسوله، و إن كذب علينا فإنّما يكذب على اللّه و على رسوله، لأنّا إذا حدّثنا لا

ص: 96


1- يونس: 18.
2- الزخرف: 20.
3- الأعراف: 28.

نقول: قال فلان و قال فلان، بل إنّما نقول: قال اللّه و قال رسول اللّه. ثمّ تلا هذه الآية: «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ». ثمّ أشار خثيمة إلى أذنيه، فقال: صمّتا إن لم أكن سمعته».

و عن سورة بن كليب قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية فقال: «كلّ إمام انتحل إمامة ليست له من اللّه. قلت: و إن كان علويّا؟ قال: و إن كان علويّا. قلت:

و إن كان فاطميّا؟ قال: و إن كان فاطميّا».

[سورة الزمر [39]: آية 61]

وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [61]

و لمّا أخبر سبحانه عن حال الكفّار، عقّبه بذكر حال الأتقياء الأبرار، فقال:

وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا معاصيه بِمَفازَتِهِمْ بسبب فلاحهم. مفعلة من الفوز. يقال: فاز بكذا، إذا أفلح به و ظفر بمراده منه. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ (1)، أي: بمنجاة منه. و قرأ الكوفيّون غير حفص بالجمع، تطبيقا له بالمضاف إليه. و الباء صلة ل «ينجّي»، أو لقوله: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ المكروه و الشدّة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و هو حال، أو استئناف لبيان المفازة.

كأنّه قيل: و ما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسّهم السوء، أي: ينجّيهم بنفي السوء و الحزن عنهم، و النجاة من أعظم الفلاح. و سبب نجاتهم العمل الصالح. و لهذا فسّر ابن عبّاس المفازة بالأعمال الحسنة، من قبيل تسمية المسبّب باسم السبب. و لا شبهة أنّ العمل الصالح سبب الفلاح، و هو دخول الجنّة.

ص: 97


1- آل عمران: 188.

[سورة الزمر [39]: الآيات 62 الى 63]

اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ [62] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [63]

و لمّا ذكر الوعد و الوعيد بيّن أنّه القادر على كلّ شي ء بقوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ محدث كلّ شي ء و مبدعه وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ مدبّر حافظ يتولّى التصرّف فيه.

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يملك أمرها و لا يتمكّن من التصرّف فيها غيره. و هو كناية عن قدرته و حفظه لهما. و فيها مزيد دلالة على الاختصاص، لأنّ الخزائن لا يدخلها و لا يتصرّف فيها إلّا من بيده مفاتيحها.

و لا واحد لها من لفظها. و قيل: جمع مقليد أو مقلاد، من: قلدته إذا ألزمته.

و قيل: جمع إقليد معرّب اكليد على الشذوذ، كمذاكير. فالتعريب أحالها عربيّة.

و سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن المقاليد فقال: «تفسيرها: لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر، و سبحان اللّه و بحمده، و أستغفر اللّه، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، هو الأوّل و الآخر، و الظاهر و الباطن، بيده الخير، يحيي و يميت، و هو على كلّ شي ء قدير».

و المعنى على هذا: أنّ للّه هذه الكلمات، يوحّد بها و يمجّد، و هي مفاتيح خير السماوات و الأرض، من تكلّم بها أصابه.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ متّصل بقوله: «وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا». و المعنى: و ينجّي اللّه المتّقين بمفازتهم، و الّذين كفروا هم الخاسرون. و ما بينهما اعتراض للدلالة على أنّه هو خالق الأشياء كلّها، و مهيمن على العباد، مطّلع على أفعالهم، فلا يخفى عليه شي ء من أعمالهم، و ما

ص: 98

يستحقّون عليها من الجزاء.

و حقّ النظم أن يقال: و يحشر الّذين كفروا إلى النار. لكن غيّر للتصريح بالوعد و التعريض بالوعيد، قضيّة للكرم.

و على التفسير الثاني متّصل بقوله: «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ». على معنى: أنّ من له المقاليد يليق بأن يؤمن به و بآياته، لينال خير الدارين. فمن كفر به يكون خاسرا، لأنّهم يخسرون على أنفسهم الجنّة و نعيمها، و يصلون النار و سعيرها.

و على هذا التفسير: المراد بآيات اللّه كلمات توحيده و تمجيده. و تخصيص الخسار بهم، لأنّ غيرهم ذو حظّ من الثواب و الرحمة.

[سورة الزمر [39]: الآيات 64 الى 66]

قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [64] وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [65] بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [66]

قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ منصوب ب «أعبد» أي: أ فغير اللّه أعبد بعد هذه الدلائل و المواعيد؟ و قوله: «تأمرونّي» اعتراض. و معناه: أ فغير اللّه أعبد بأمركم؟ و ذلك حين قال له المشركون عقيب ذلك: استلم بعض آلهتنا و نؤمن بإلهك، لفرط غباوتهم. و يجوز أن ينتصب بما دلّ عليه «تأمرونّي أعبد» لأنّه بمعنى:

تعبدونني و تقولون لي اعبد. على أنّ أصله: تأمرونني أن أعبد، فحذف «أن» و رفع الفعل، كقوله: ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى (1).

و قرأ ابن عامر: تأمرونني، بإظهار النونين على الأصل. و نافع بحذف الثانية، فإنّها تحذف كثيرا.

ص: 99


1- لطرفة بن العبد. و عجزه: و أن أشهد اللذّات هل أنت مخلّدي

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطعا لطمع الكفّار فيما قالوا له: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الرسل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ كلام على سبيل فرض المحال، و الأمر المحال يصحّ فرضه لغرض من الأغراض.

ألا ترى إلى قوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (1). يعني: على سبيل الإلجاء، و لن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه، و وجود الصارف عنه. و الغرض هاهنا من هذا الفرض تهييج الرسل، و إقناط المرسلين عنهم، و إشعار على تهديد الأمّة على الإشراك. و إفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد. و اللام الأولى موطّئة للقسم المحذوف، و الثانية للجواب. و هذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين، أعني: جوابي القسم و الشرط.

و إطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم، لأنّ شركهم أقبح. ألا ترى إلى قوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ (2). و أن يكون على التقييد بالموت، كما صرّح به في قوله: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ (3). و ليس فيه ما يدلّ على صحّة القول بالإحباط على ما يذهب إليه أهل الوعيد، لأنّ المعنى فيه: أنّ من أشرك في عبادة اللّه غيره- من الأصنام و غيرها- وقعت عبادته على وجه لا يستحقّ عليها الثواب به. و لأجل ذلك وصفها بأنّها محبطة، إذ لو كانت العبادة خالصة لوجه اللّه لاستحقّ عليها الثواب.

و عطف الخسران عليه من عطف المسبّب على السبب.

ثمّ ردّ ما أمروه به من استلام بعض آلهتهم بقوله: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ كأنّه قال:

لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد اللّه. فحذف الشرط، و جعل

ص: 100


1- يونس: 99.
2- الإسراء: 75.
3- البقرة: 217.

تقديم المفعول عوضا منه. وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك. و فيه إشارة إلى موجب اختصاص العبادة له.

[سورة الزمر [39]: آية 67]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [67]

و لمّا كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حقّ معرفته، و قدّره في نفسه حقّ تقديره، عظّمه حقّ تعظيمه، قيل: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي:

ما قدروا عظمته في أنفسهم حقّ عظمته، حيث جعلوا له شركاء، و وصفوه بما لا يليق به.

ثمّ قال: وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تنبيها على عظمته، و حقارة الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته، و دلالة على أنّ تخريب العالم أهون شي ء عليه، على طريقة التمثيل و التخييل، من غير اعتبار القبضة و اليمين حقيقة و لا مجازا.

و القبضة المرّة من القبض، كقوله: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ (1).

أطلقت بمعنى القبضة، و هي المقدار المقبوض بالكفّ، تسمية بالمصدر، أو بتقدير:

ذات قبضة.

و تأكيد الأرض بالجميع لأنّ المراد بها الأرضون السبع، أو جميع أبعاضها البادية (2) و الغائرة.

و الطيّ: ضدّ النشر، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ

ص: 101


1- طه: 96.
2- البادية: الصحراء. و الغائرة: ما انحدر و اطمأن من الأرض.

لِلْكُتُبِ (1).

و ذكر اليمين مبالغة في الاقتدار، لأنّ معظم القدرة يصدر منه. و هذا كما قال:

أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (2) أي: ما كانت تحت قدرتكم. و ليس على معناه الحقيقي، إذ ليس الملك يختصّ باليمين دون الشمال و سائر الجسد.

و كذلك حكم ما

يروي: «أنّ حبرا من الأحبار جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

يا أبا القاسم إنّ اللّه تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، و الأرضين على أصبع، و الجبال على أصبع، و الشجر على أصبع، و سائر الخلق على أصبع. ثمّ يهزّهنّ فيقول: أنا الملك، أين المتكبّرون و الجبّارون؟ فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعجّبا ممّا قال، ثمّ قرأ تصديقا له: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (3).

و إنّما ضحك أفصح العرب و تعجّب، لأنّه لم يفهم منه إلّا ما يفهمه علماء البيان، من غير تصوّر إمساك و لا أصبع و لا هزّ و لا شي ء من ذلك، و لكن فهمه وقع أوّل شي ء و آخره على الزبدة و الخلاصة الّتي هي الدلالة على القدرة الباهرة، و أنّ الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأذهان و لا تكتنهها الأوهام، هيّنة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلّا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل.

و لا ترى بابا في علم البيان أدقّ و لا ألطف من هذا الباب، و لا أنفع و أعون على تعاطي تأويل المشتبهات، من كلام اللّه تعالى في القرآن و سائر الكتب السماويّة و كلام الأنبياء.

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ما أبعد من هذه قدرته و عظمته، و ما أعلاه عن إشراكهم. أو عمّا يضاف إليه من الشركاء.

ص: 102


1- الأنبياء: 104.
2- النساء: 3.
3- انظر صحيح البخاري 6: 157.

[سورة الزمر [39]: الآيات 68 الى 70]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [68] وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [69] وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ [70]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني: المرّة الأولى. و هو قرن ينفخ فيه إسرافيل. و وجه الحكمة في ذلك أنّها علامة جعلها اللّه تعالى ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف، فشبّه ذلك بما يتعارفوه من بوق الرحيل و النزول.

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ خرّوا ميّتا، أو مغشيّا عليهم من شدّة تلك الصيحة. يقال: صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة.

إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، فإنّهم لا يموتون بهذه الصيحة بعد. و قيل: حملة العرش.

و عن ابن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه سأل جبرئيل عن هذه الآية من الّذي لم يشأ اللّه أن يصعقهم؟ قال: هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش».

ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى نفخة اخرى. و هي تدلّ على أنّ المراد بالأولى نفخة واحدة، كما نصّ به في مواضع (1) أخر. و قال قتادة: إنّ ما بين النفختين أربعين سنة.

فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم. أو متوقّفون في مكانهم لتحيّرهم يَنْظُرُونَ حال من ضمير «قيام». و المعنى: يقلّبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين، أو ينتظرون ما يفعل بهم. و في ذكر «إذا» المفاجأة إخبار عن سرعة إيجادهم. يعني: إذا

ص: 103


1- الحاقّة: 13.

نفخ النفخة الثانية أعادهم اللّه تعالى عقيب ذلك دفعة يقومون من قبورهم أحياء.

وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل. سمّاه نورا، لأنّه يزيّن البقاع و يظهر الحقوق، كما سمّى الظلم ظلمة. و ترى الناس يقولون للملك العادل:

أشرقت الآفاق بعدلك، و أضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. و في الحديث: «الظلم ظلمات يوم القيامة».

و أضاف اسمه إلى الأرض، لأنّه يزيّنها حيث ينشر فيها عدله، و ينصب فيها موازين قسطه، و يحكم بالحقّ بين أهلها. و لعمري إنّك لا ترى أزين للبقاع من العدل، و لا أعمر لها منه. أو المراد نور خلق فيها بلا توسّط أجسام مضيئة، و لذلك أضافه إلى نفسه.

وَ وُضِعَ الْكِتابُ للحساب و الجزاء. من: وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه. أو صحائف الأعمال الّتي كتبتها الملائكة على بني آدم توضع في أيديهم ليقرأوا منها أعمالهم. و اكتفي باسم الجنس عن الجمع. و قيل: اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف.

وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ للأمم و عليهم، من الملائكة و الأوصياء و خيار المؤمنين. و قيل: المستشهدون في سبيل اللّه، فإنّهم عدول الآخرة، يشهدون على الأمم بما شاهدوا. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين العباد بِالْحَقِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب، على ما جرى به الوعد.

وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي: جزاء ما عملت، على حذف المضاف وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شي ء من أفعالهم.

[سورة الزمر [39]: الآيات 71 الى 75]

وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ

ص: 104

لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [71] قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [72] وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [73] وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [74] وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [75]

ثمّ فصّل التوفية بقوله: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا و يساقون سوقا في عنف و هوان إِلى جَهَنَّمَ كما يفعل بالأسارى إذا سيقوا إلى حبس أو قتل زُمَراً أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض، على تفاوت أقدامهم في الضلالة و الشرارة.

و هي جمع زمرة. و اشتقاقها من الزّمر، و هو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه. أو من قولهم: شاة زمرة: قليلة الشعر، و رجل زمر: قليل المروءة، فإنّ كلّ زمر قليل بالنسبة إلى كلّ الزمر.

حَتَّى إِذا جاؤُها انتهوا إلى جهنّم فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها. و هي سبعة أبواب، لقوله: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ (1) الآية. و «حتّى» هي الّتي تحكي بعدها

ص: 105


1- الحجر: 44.

الجمل. و الجملة المحكيّة بعدها هي الشرطيّة. و قرأ الكوفيّون: فتحت بتخفيف التاء.

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا و توبيخا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ حججه و ما يدلّ على معرفته وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: لقاء وقتكم هذا. و هو وقت دخولهم النار، لا يوم القيامة. و قد جاء استعمال اليوم و الأيّام مستفيضا في أوقات الشدّة.

قالُوا بَلى أتونا و تلوا علينا وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي:

كلمة اللّه بالعذاب علينا. و هي قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (1) لسوء أعمالنا، كما قالوا: غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (2). فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب، و هو الكفر و الضلال. و المعنى: وجب العقاب على من كفر باللّه، لأنّه أخبر بذلك، و علم من يكفر و يوافي بكفره، فقطع على عقابه، فلم يكن شي ء يقع منه خلاف ما علمه و أخبر به، فصار كوننا في جهنّم موافقا لما أخبره به تعالى و لما علمه. و وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على اختصاص تلك الكلمة بالكفرة.

قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس. و المخصوص بالذمّ مخصوص سبق ذكره، و هو جهنّم. و لا ينافي إشعاره بأنّ مثواهم في النار لتكبّرهم عن الحقّ أن يكون دخولهم فيها، لأنّ كلمة العذاب حقّت عليهم، فإنّ تكبّرهم و سائر مقابحهم مسبّبة عنه.

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ يساقون إسراعا بهم إلى دار الكرامة

ص: 106


1- هود: 119.
2- المؤمنون: 106.

و الرضوان، كما يفعل بمن يشرّف و يكرّم من الوافدين على بعض الملوك، فشتّان بين سوقهم و سوق أهل النار. و قيل: سيق مراكبهم، إذ لا يذهب بهم إلّا راكبين.

و يجوز أن يكون ذكر السوق هاهنا على وجه الزواج و المقابلة لسوق الكافرين إلى النار. زُمَراً على تفاوت مراتبهم في الشرف و علوّ الطبقة.

حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها و هي ثمانية، كما نقل عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ في الجنّة ثمانية أبواب، منها باب يسمّى باب الريّان، لا يدخله إلّا الصائمون». رواه البخاري و مسلم في الصحيحين (1).

و حذف جواب «إذا» للدلالة على أنّ لهم حينئذ من الكرامة و التعظيم ما لا يحيط به الوصف. و لم يحذف الواو لتكون «فتحت» جزاء الشرط، للدلالة على أنّ أبواب الجنّة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين. و قرأ الكوفيّون: فتحت بالتخفيف.

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها عند استقبالهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلمتم من الآفات، إذ لا يعتريكم بعد مكروه طِبْتُمْ طابت أنفسكم بدخول الجنّة. أو طبتم بالعمل الصالح في الدنيا، و طابت أعمالكم الصالحة و زكت. أو طهرتم من دنس المعاصي.

و روي: أنّهم إذا قربوا من الجنّة يردون على عين من الماء فيغتسلون بها، و يشربون منها، فيطهّر اللّه أجوافهم، فلا يكون بعد ذلك منهم حدث و أذى، و لا تتغيّر ألوانهم، فيقول الملائكة لهم: طبتم.

فَادْخُلُوها خالِدِينَ مقدّرين الخلود فيها. و الفاء للدلالة على أنّ الطهارة عن المعصية سبب لدخولهم و خلودهم. فما هي إلّا دار الطيّبين و مثوى الطاهرين، لأنّها دار طهّرها اللّه من كلّ دنس، و طيّبها من كلّ قذر، فلا يدخلها إلّا مناسب لها، موصوف بصفتها. فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة، و ما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة، إلّا أن يهب لنا الوهّاب الكريم، و يوفّقنا الغفّار الرحيم، توبة نصوحا

ص: 107


1- صحيح البخاري 4: 145، صحيح مسلم 2: 808 ح 166.

تنقّي (1) أنفسنا من درن الذنوب، و تميط و ضر هذه القلوب. و حينئذ لا يمنع دخول العاصي بعفوه المطهّر للذنوب المكفّر للمعاصي.

وَ قالُوا إذا دخلوها اعترافا بنعم اللّه تعالى عليهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ على ألسنة الرسل بالبعث و الثواب وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الّذي استقرّوا فيه على الاستعارة، فإنّ إيراثها هاهنا بمعنى تمليكها. يعني: يمكّننا من التصرّف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. و قيل: ذكر الإيراث لأنّهم ورثوها عن أهل النار. نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي: يتبوّأ كلّ منّا في أيّ مقام أراده من جنّته الواسعة. و في الحديث: أقلّ منازل المؤمن فيها على سعة الدنيا سبع مرّات.

فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنّة.

وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ أي: و من عجائب أمور الآخرة أنّك ترى الملائكة حَافِّينَ محدقين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «من» لابتداء الحفوف. و قيل: مزيدة، أي:

حوله. يُسَبِّحُونَ ينزّهون اللّه عمّا لا يليق به بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ملتبسين بحمده.

و الجملة حال ثانية، أو مقيّدة للأولى.

و المعنى: ذاكرين له بوصفي جلاله و إكرامه، متلذّذين به لا متعبّدين. و فيه إشعار بأنّ منتهى درجات العلّيين، و أعلى لذائذهم، هو الاستغراق في صفات الحقّ. و قد عظّم اللّه سبحانه أمر القضاء في الآخرة بنصب العرش، و قيام الملائكة حوله معظّمين له سبحانه و مسبّحين، كما أنّ السلطان إذا أراد الجلوس للمظالم يفعل كذلك تعظيما لأمره، و إن استحال كونه عزّ و علا على العرش، و الجلوس على العرش من صفات الأجسام، تعالى اللّه عن ذلك.

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ فصل بين الخلق بإدخال بعضهم النار و بعضهم الجنّة. أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فإنّ الملائكة

ص: 108


1- أي: تنظّف. و الدرن: الوسخ. و تميط أي: تذهب. و الوضر: الوسخ.

و إن كانوا معصومين جميعا، لكن يفاضل بين مراتبهم على حسب مراتبهم في عبادتهم. بِالْحَقِ قضاء بالحقّ و العدل وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: على ما قضي بيننا بالحقّ. و القائلون هم المؤمنون من المقضيّ بينهم، أي: المؤمنون قالوا: الحمد للّه على قضائه بيننا، و إنزال كلّ منّا منزلته الّتي هي حقّه. أو القائلون الملائكة. و طيّ ذكرهم لتعيّنهم و تعظيمهم.

و قيل: إنّه من كلام اللّه تعالى. فقال في ابتداء الخلق: الحمد للّه الّذي خلق السماوات و الأرض. و قال بعد إفناء الخلق و بعثهم، و استقرار أهل الجنّة في الجنّة:

الحمد للّه ربّ العالمين. فوجب الأخذ بأدبه في ابتداء كلّ أمر بالحمد و ختمه بالحمد.

ص: 109

ص: 110

[40] سورة المؤمن

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و ثمانون آية.

روى أبو بريرة الأسلمي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة، فليقرأ الحواميم في صلاة الليل».

أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الحواميم ديباج القرآن».

ابن عبّاس قال: لكلّ شي ء لباب، و لباب القرآن الحواميم.

ابن مسعود قال: إذا وقعت في «آل حم» وقعت في روضات دمثات (1)، أتأنّق فيهنّ.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة حم المؤمن، لم يبق روح نبيّ و لا صدّيق و لا مؤمن إلّا صلّوا عليه، و استغفروا له».

و روى أبو بشير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الحواميم ريحان القرآن، فاحمدوا اللّه و اشكروه بحفظها و تلاوتها. و إنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم، فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر (2) و العنبر. و إنّ اللّه ليرحم تاليها و قارئها، و يرحم جيرانه و أصدقاءه و معارفه، و كلّ حميم أو قريب له. و إنّه في القيامة يستغفر له العرش و الكرسيّ و ملائكة اللّه المقرّبون».

ص: 111


1- الدمث و الدمث: المكان الليّن السهل. و أرض دمثاء: ليّنة سهلة.
2- أي: طيّب الريح.

و روى أبو الصباح عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ حم المؤمن في كلّ ثلاث، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و ألزمه التقوى، و جعل الآخرة خيرا له من الدنيا».

[سورة غافر [40]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم [1] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [2] غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [3]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة الزمر بذكر الملائكة و الجنّة و النار، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال جلّ و عزّ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم قد مضى ذكر الأقوال في الحروف المقطّعة في مفتتح سورة البقرة.

و قال القرظي: ها هنا أقسم اللّه سبحانه بحلمه و ملكه، لا يعذّب من عاذ به، و قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا من قلبه.

و عن عطاء الخراساني: هو افتتاح أسمائه: حليم، حميد، حيّ، حكيم، حنّان، ملك، مجيد، مبدئ، معيد.

و عن الكلبي: معناه: حمّ أي: قضي في اللوح المحفوظ ما هو كائن من الحقائق و كتب فيه.

و أمال ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر ألف «حا» إمالة محضة. و نافع برواية و رش و أبو عمرو بين بين. و غيرهم فتحها.

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يحتمل أن يكون تخصيص الوصفين،

ص: 112

لما في القرآن من الإعجاز و الحكم الدالّ على كمال القدرة الكاملة و الحكمة البالغة.

غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ صفات أخر لتحقيق ما في القرآن من الترغيب و الترهيب، و الحثّ على ما هو المقصود منه. و الإضافة فيها حقيقيّة، لأنّه لم يرد بها زمان مخصوص من ماض و مضارع، بل إنّما أريد ثبوت ذلك و دوامه، فكان حكمها حكم: إله الخلق و ربّ العرش. فيوافق موصوفها، لإفادتها التعريف.

و «شديد العقاب» و إن كان في تقدير النكرة- أعني: شديد عقابه، لا ينفكّ من هذا- و لكن يؤول إلى: الشديد عقابه، فحذف اللام ليزاوج ما قبله و ما بعده لفظا. و قد غيّروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج.

أو أبدال (1). و جعل «شديد العقاب» وحده بدلا مشوّش للنظم.

و توسيط الواو بين الأوّلين لإفادة الجمع بين محو الذنوب و قبول التوبة.

أو لتغاير الوصفين، إذ ربما يتوهّم الاتّحاد. أو لتغاير موقع الفعلين، لأنّ الغفر هو الستر، فيكون لذنب باق، و ذلك لمن لم يتب، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

و التّوب مصدر، كالتوبة. و هو و الثّوب و الأوب أخوات في معنى الرجوع.

و قيل: جمع التوبة. و الطّول: التفضّل بترك العقاب المستحقّ. يقال: طال عليه و تطوّل إذا تفضّل. و في توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: «غافر الذنب» لمن قال: لا إله إلّا اللّه.

«شديد العقاب» لمن لم يقل: لا إله إلّا اللّه. «ذي الطول» ذي الغنى عمّن لم يقل.

ص: 113


1- عطف على قوله: صفات أخر ...، في بداية الفقرة السابقة.

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: هو الموصوف بهذه الصفات دون غيره، و لا يستحقّ العبادة سواه، فيجب الإقبال الكلّي على عبادته إِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع للجزاء، فيجازي المطيع و العاصي. و المعنى: أنّ الأمور تؤول إلى حيث لا يملك أحد النفع و الضرّ و الأمر و النهي غيره تعالى، و ذلك يوم القيامة.

[سورة غافر [40]: الآيات 4 الى 6]

ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [4] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ [5] وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [6]

و لمّا حقّق أمر التنزيل سجّل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن، فقال: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: لإدحاض الحقّ، لقوله: وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ (1) إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فإنّ الجدال فيه لحلّ مشكلاته، و استنباط حقائقه، و إيضاح ملتبساته، و قطع تشبّث أهل الزيغ به، وردّ مطاعنهم فيه، فمن أعظم الطاعات. و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ جدالا في القرآن كفر»

بالتنكير، فإنّ إيراده منكّرا تمييز بين جدال و جدال.

و لمّا كان الكفّار مشهودا عليهم من قبل اللّه بالكفر، و الكافر لا أحد أشقى منه

ص: 114


1- المؤمن: 5.

عند اللّه، وجب على من تحقّق ذلك أن لا ترجّح أحوالهم في عينه، و لا يغرّه إقبالهم في دنياهم بوسيلة المكاسب المربحة. و لهذا عطف ذلك على بيان مجادلتهم بالفاء العاطفة، فقال:

فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي: إمهالهم في دنياهم، و تقلّبهم في بلاد الشام و اليمن بالتجارات المربحة، لأنّهم مأخوذون عمّا قريب بكفرهم أخذ من قبلهم، كما قال:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ و الّذين تحزّبوا على الرسل و ناصبوهم، كعاد و ثمود مِنْ بَعْدِهِمْ بعد قوم نوح وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ليتمكّنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب و قتل. من الأخذ بمعنى الأسر.

وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ليزيلوه به فَأَخَذْتُهُمْ يعني: أنّهم قصدوا أخذ رسولهم، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم بالإهلاك. ثمّ قرّر ذلك فقال تعجيبا: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنّكم تمرّون على ديارهم، فتعاينون أثر ذلك.

وَ كَذلِكَ حَقَّتْ أي: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: وعيده، أو قضاؤه بالعذاب عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بكفرهم أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ لأنّ علّة واحدة- و هي الكفر- تجمعهم أنّهم من أصحاب النار. و هذا بدل من «كلمة ربّك» بدل الكلّ على إرادة اللفظ، أي: وجب أنّهم أصحاب النار. أو الاشتمال على إرادة المعنى.

[سورة غافر [40]: الآيات 7 الى 9]

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ

ص: 115

تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [7] رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [8] وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال المؤمنين، و أنّه يستغفر لهم الملائكة مع عظم منزلتهم عند اللّه، فحالهم بخلاف أحوال من تقدّم ذكرهم من الكفّار، فقال:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ على عواتقهم امتثالا لأمر اللّه وَ مَنْ حَوْلَهُ من الملائكة المطيفين. و هم الكرّوبيّون سادة طبقات الملائكة. و حملهم العرش و حفيفهم حوله مجاز عن حفظهم و تدبيرهم له. أو كناية عن فرط قربهم من ذي العرش، و مكانتهم عنده، و توسّطهم في نفاذ أمره.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى، و رؤوسهم قد خرقت العرش، و هم خشوع لا يرفعون طرفهم».

و أيضا

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تتفكّروا في عظم ربّكم، و لكن تفكّروا فيما خلق اللّه من الملائكة».

فإنّ خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل، زاوية من زوايا العرش على كاهله، و قدماه في الأرض السفلى، و قد مرق (1) رأسه من سبع سماوات. و إنّه ليتضاءل من عظمة اللّه حتّى يصير كأنّه الوصع (2).

و في الحديث: «إنّ اللّه تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا و يروحوا بالسلام .

ص: 116


1- أي: خرج.
2- الوصع: طائر أصغر من العصفور.

على حملة العرش، تفضيلا لهم على سائر الملائكة».

و قيل: خلق اللّه العرش من جوهرة خضراء، و بين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.

و قيل: حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة، يطوفون به مهلّلين مكبّرين. و من ورائهم سبعون ألف صفّ قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، رافعين أصواتهم بالتهليل و التكبير. و من ورائهم مائة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلّا و هو يسبّح بما لا يسبّح به الآخر.

و عن مجاهد: بين الملائكة و بين العرش سبعون حجابا من نور.

يُسَبِّحُونَ ينزّهونه عمّا يصفه به هؤلاء المجادلون، ملتبسين بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: يذكرون اللّه بمجامع الثناء، من صفات الجلال و الإكرام. و جعل التسبيح أصلا و التحميد حالا، لأنّ الحمد مقتضى حالهم، لإيجاد اللّه إيّاهم، و توفيقهم في العبادة، دون التسبيح.

وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أخبر عنهم بالإيمان لإظهار شرفه و فضله و الترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في مواضع من كتابه بالصلاح، لإظهار شرفه. و لمّا وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أنّ إيمانهم و إيمان من في الأرض و كلّ من غاب عن ذلك المقام سواء، في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر و الاستدلال لا غير. و أنّه لا طريق إلى معرفته إلّا هذا. و أنّه منزّه عن صفات الأجسام و الأجرام.

و زعم الزمخشري (1) و العلّامة الرازي (2) أنّ في الآية ردّا على المجسّمة، كما أورده النيشابوري في تفسيره قائلا: «قال في الكشّاف: فيه تكذيب المجسّمة، فإنّ الأمر لو كان كما زعموا لكان الملائكة يشاهدونه، فلا يوصفون بالإيمان، لأنّه لا

ص: 117


1- الكشّاف 4: 152.
2- التفسير الكبير 27: 32- 33.

يوصف بالإيمان إلّا الغائب، فعلم أنّ إيمانهم كإيمان أهل الأرض و الكلّ سواء، في أنّ إيمانهم بطريق النظر و الاستدلال.

و استحسن هذا الكلام الامام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتّى ترحّم عليه، و قال: «لو لم يكن في كتابه إلّا هذه النكتة لكفى به فخرا و شرفا».

و أنا أقول: لا نسلّم أنّ الإيمان لا يكون إلّا بالغائب، و إلّا لم يكن الإيمان بالنبيّ وقت تحدّيه و بالقرآن. و إن شئت فتأمّل قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (1). فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله: «بالغيب» فائدة. على أنّه يحتمل أن يشاهد الربّ و ينكر كونه ربّا و إلها. و يمكن أن يكون محمول الشي ء محجوبا عن ذلك الشي ء. فمن أين يلزم تكذيب المجسّمة؟

و زعم الإمام فخر الدين أنّ في الآية دلالة اخرى على إبطال قول أهل التجسيم أنّ الإله على العرش، فإنّه لو كان كما زعموا- و حامل الشي ء حامل لكلّ ما على ذلك الشي ء- لزم أن يكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له، و الحافظ أولى بالإلهيّة من المحفوظ.

قلت: لا شكّ أنّ هذه مغالطة، جاز الحمل لأجل العظمة و إظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم، كيف يلزم منه ذلك؟! و هل يزعم عاقل أنّ الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه» (2).

انتهى كلامه المصرّح بتخطئتهما. و الحقّ أنّهما زلقا و عثرا، سيّما الرازي، فإنّه خبط خبط عشواء، و ركب متن عمياء، و إن ذيّل النيشابوري كلامه بقوله: «و إنّما ذكرت ما ذكرت لكونه واردا على كلام الإمامين، مع وفور فضلهما و بعد غورهما، لا لأنّي مائل في المسألة إلى غير معتقدهما».

ص: 118


1- البقرة: 3.
2- غرائب القرآن للنيسابوري 6: 23.

و لأجل أنّ المشاركة في الإيمان توجب النصح و الشفقة و إن تخالفت الأجناس، لأنّها أقوى المناسبات، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (1)، يطلب الملائكة من اللّه المغفرة لأهل الإيمان من الثقلين، كما قال عزّ اسمه:

وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا كأنّه قيل: و يؤمنون به و يستغفرون لمن في مثل حالهم و صفتهم من أهل الأرض، و إن تباعدت الأماكن بينهم و بين الثقلين. فبين قوله:

«وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» غاية التناسب و التجانس.

رَبَّنا أي: يقولون ربّنا. و هذا بيان ل «يستغفرون» مرفوع المحلّ مثله.

وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً أي: وسعت رحمتك و علمك، فأزيل الكلام عن أصله، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة و العلم. و أخرجا منصوبين على التمييز، للإغراق في وصفه بالرحمة و العلم، كأنّ ذاته رحمة و علم واسعان كلّ شي ء.

و تقديم الرحمة على العلم، لأنّها المقصودة بالذات هاهنا.

فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ للّذين علمت منهم التوبة و اتّباع سبيل الحقّ. و هو دين الإسلام. فما بعد الفاء مشتمل على حديث الرحمة و العلم، لا الغفران وحده. فيطابق قوله: «وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً».

وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ و احفظهم عنه. و هو تصريح بعد إشعار، للتأكيد و الدلالة على شدّة العذاب. و الفائدة في استغفارهم لهم و هم تائبون صالحون موعودون: زيادة الكرامة و الثواب. أو الدلالة على أنّ إسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من اللّه تعالى، إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج إلى مسألتهم، بل كان يفعله اللّه سبحانه لا محالة.

رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إيّاها على ألسن الرسل وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على «هم» الأوّل، أي: أدخل هؤلاء

ص: 119


1- الحجرات: 10.

معهم ليتمّ سرورهم. أو الثاني، لبيان عموم الوعد. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الملك الّذي لا يغلب، و لا يمتنع عليه مقدور الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة، و من ذلك الوفاء بالوعد.

وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ العقوبات. أو جزاء السيّئات، فحذف المضاف. و هذا تعميم بعد تخصيص، أو مخصوص بمن صلح. و الوقاية منها: التكفير، أو قبول التوبة. أو المعاصي نفسها في الدنيا. و على هذا، معنى قوله: وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ من تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة. كأنّهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبّب. و على الأوّل: و من تق العقوبات أو جزاء المعاصي يوم القيامة فقد رحمته. وَ ذلِكَ يعني: الرحمة، أو الوقاية، أو مجموعهما هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[سورة غافر [40]: الآيات 10 الى 12]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ [10] قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [11] ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [12]

ثمّ عاد الكلام إلى من تقدّم ذكرهم من الكفّار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ أي: يناديهم الملائكة يوم القيامة، فيقولون لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: لمقت اللّه أنفسكم أشدّ ممّا تمقتون اليوم و أنتم في النار من مقتكم أنفسكم الأمّارة بالسوء. و المقت: أشدّ البغض. فوضع في موضع أبلغ الإنكار و أشدّه.

ص: 120

و عن الحسن: لمّا رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا:

«لمقت اللّه».

و قيل: معناه: لمقت اللّه إيّاكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى:

يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (1).

إِذْ تُدْعَوْنَ ظرف. و عامله فعل دلّ عليه المقت الأوّل، لا هو، لأنّه أخبر عنه، و قد فصل بينه و بين الظرف خبره، أعني «أكبر»، فلا يجوز. و لا المقت الثاني، لأنّ مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة. فالمعنى: مقتكم اللّه حين كان الأنبياء يدعونكم إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ فتأبون قبوله، و تختارون عليه الكفر. أو تعليل للحكم، و زمان المتقين واحد.

ثمّ حكى سبحانه عن الكفّار الّذين تقدّم وصفهم بعد حصولهم في النار، بأنّهم قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إماتتين، بأن خلقتنا أمواتا أولا، ثمّ صيّرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا، فإنّ الإماتة جعل الشي ء عادم الحياة ابتداء، فيصحّ أن يسمّى خلقهم أمواتا إماتة، كما يصحّ أن تقول: سبحان من صغّر البعوض و كبّر الفيل، و تقول للحفّار: ضيّق فم الركيّة (2) و وسّع أسفلها، و ليس ثمّ نقل من كبر إلى صغر، و لا من صغر إلى كبر، و لا من ضيق إلى سعة، و لا من سعة إلى ضيق، و إنّما أردت الإنشاء على تلك الصفات. و السبب في صحّته أنّ الصغر و الكبر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجّح لأحدهما، و كذلك الضيق و السعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين و هو متمكّن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه.

وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الإحياءة الأولى، و إحياءة البعث. و ناهيك تفسيرا لذلك

ص: 121


1- العنكبوت: 25.
2- الركيّة: البئر ذات الماء.

قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (1). و كذا عن ابن عبّاس و أئمّة التفسير.

و عن السدّي: أنّ المراد بالإماتتين: الّتي بعد حياة الدنيا، و الّتي بعد حياة القبر. و لزمه إثبات ثلاث إحياءات: إحياءة في ظهر الأرض، و إحياءة في القبر للسؤال، و إحياءة للحشر. و هو خلاف ما في القرآن، إلّا أن يتمحّل فيجعل حياة القبر غير معتدّ بها، لقلّة زمانها.

و مقصودهم من هذا القول اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه و لم يكترثوا به، و لذلك تسبّبوا بقولهم: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فإنّ اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا و إنكارهم البعث. و تبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى، لأنّ من لم يخش العاقبة توسّع في المعاصي. فلمّا رأوا الإماتة و الإحياء تكرّرا عليهم، علموا بأن اللّه قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم الّتي اقترفوها من إنكار البعث و ما تبعه من معاصيهم.

فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ نوع خروج سريع أو بطي ء من النار مِنْ سَبِيلٍ طريق فنسلكه. و ذلك إنّما يقولونه من فرط قنوطهم تعلّلا و تحيّرا. و لذلك أجيبوا بقوله: ذلِكُمْ الّذي أنتم فيه من أنّه لا سبيل لكم إلى خروج من سبيل بِأَنَّهُ بسبب أنّه إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ متّحدا. أو توحّد وحده، فحذف الفعل و أقيم مقامه في الحاليّة. كَفَرْتُمْ بالتوحيد وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ المستحقّ للعبادة، حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الْعَلِيِ القادر على كلّ شي ء، ليس فوقه من هو أقدر منه، أو من يساويه في مقدوره. و نقلت هذه اللفظة من علوّ المكان إلى علوّ الشأن، و لذلك جاز وصفه سبحانه بذلك، كما يقال: استعلى فلان عليه بالقوّة و بالحجّة. الْكَبِيرِ

ص: 122


1- البقرة: 28.

العظيم في صفاته الّتي لا يشاركه فيها غيره، و من أن يشرك به و يسوّى به بعض مخلوقاته.

[سورة غافر [40]: الآيات 13 الى 17]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ [13] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [14] رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [15] يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [16] الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [17]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ مصنوعاته الدالّة على توحيده و كمال قدرته، من الريح و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و الشمس و القمر و النجوم، و سائر ما في السماوات و الأرض وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أسباب رزق، كالمطر، مراعاة لمعاشكم.

وَ ما يَتَذَكَّرُ و ما يعتبر و يتّعظ بالآيات الّتي هي كالمركوزة في العقول، لظهورها المغفول عنها، للانهماك في التقليد و اتّباع الهوى إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الإنكار و العناد بالإقبال عليها و التفكّر فيها، فإنّ المعاند لا سبيل إلى تذكّره و اتّعاظه، و الجازم بشي ء لا ينظر فيما ينافيه.

ثمّ قال لمن ينيب: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك وَ لَوْ كَرِهَ

ص: 123

الْكافِرُونَ إخلاصكم، و شقّ عليهم.

رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ خبران آخران لقوله: «هو». أو خبران لمبتدأ محذوف، للدلالة على علوّ صمديّته، من حيث المعقول و المحسوس الدالّ على تفرّده في الألوهيّة، فإنّ من ارتفعت درجات كماله و مراتب عزّته و ملكوته بحيث لا يحيط العقل بكنهه، و كان العرش الّذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته، لا يصحّ أن يشرك به.

و قيل: معناه: رافع درجات مراتب المخلوقات من الأنبياء و الأولياء في الجنّة. أو درجات ثوابه الّتي ينزلها أولياءه في الجنّة.

يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ خبر رابع للدلالة على أنّ الروحانيّات أيضا مسخّرات لأمره. و المراد بالروح الوحي. و تسميته بالروح لأنّه يحيي القلوب من موت الكفر. و «من» لابتداء الغاية. يعني: يلقي الوحي الّذي مبدؤه من أمره.

أو بيانيّة. و المعنى: هو يلقي الوحي الّذي هو أمره بالخير.

عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ على قلب من يشاء ممّن يراه أهلا للنبوّة. يقال:

ألقيت عليه كذا، أي: فهّمته لِيُنْذِرَ غاية الإلقاء. و المستكين فيه للّه، أو ل «من»، أو ل «الروح». أي: لينذر اللّه بالروح، أو الملقى عليه به، أو الروح. يَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة، فإنّ فيه تتلاقى الأرواح و الأجساد، و أهل السماء و الأرض. أو المعبودون و العبّاد. أو العمّال و الأعمال.

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون من قبورهم. أو ظاهرون لا يسترهم شي ء، من جبل أو أكمة (1) أو بناء، لأنّ الأرض يومئذ تكون قاعا صفصفا. أو لا عليهم ثياب، بل إنّما هم عراة مكشوفون، كما

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحشرون عراة حفاة.

ص: 124


1- الأكمة: التلّ، أو الموضع الّذي يكون أكثر ارتفاعا ممّا حوله.

غرلا»(1). أو ظاهرة نفوسهم، لا تحجبهم غواشي الأبدان الكثيفة. أو أعمالهم و سرائرهم.

لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ من أعيانهم و أعمالهم. و هذا تقرير لقوله:

«هم بارزون»، و إزاحة لنحو ما يتوهّم في الدنيا. يعني: أنّهم كانوا يتوهّمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان و الحجب أنّ اللّه لا يراهم، و تخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز و الانكشاف إلى حال لا يتوهّمون فيها مثل ما كانوا يتوهّمونه. قال اللّه تعالى: وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (2).

لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيقرّ المؤمنون و الكافرون لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و هذا حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم، و لما يجاب به. و معناه: أنّه ينادي مناد فيقول:

لمن الملك اليوم. فيجيبه أهل المحشر: للّه الواحد القهّار.

و قيل: يجمع اللّه الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء، كأنّها سبيكة فضّة لم يعص اللّه فيها قطّ، فأوّل ما يتكلّم به أن ينادي مناد: لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار.

و قال القرظي: يقول اللّه تعالى ذلك بين النفختين حين يفني الخلائق كلّها، ثمّ يجيب نفسه، لأنّه بقي وحده.

و يضعّف هذا القول، إذ بيّن أنّه يقول ذلك يوم التلاق، يوم يبرز العباد فيه من قبورهم. و إنّما خصّ ذلك اليوم بأنّ له الملك فيه، لأنّه قد ملك العباد بعض الأمور في الدنيا، و لا يملك أحد شيئا ذلك اليوم. أو حكاية لما دلّ عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب و ارتفاع الوسائط، و أمّا حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.

و لمّا قرّر أنّ الملك للّه وحده في ذلك اليوم، عدّد نتائج ذلك بقوله: الْيَوْمَ

ص: 125


1- غرل جمع أغرل، و هو الصبي الذي لم يختن.
2- فصلت: 22.

تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يجزي المحسن بإحسانه، و المسي ء بإساءته. و تحقيقه:

أنّ النفوس تكتسب بالعقائد و الأعمال هيئات توجب لذّتها و ألمها، لكنّها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق و أدركت لذّتها و ألمها.

و في الحديث: «إنّ اللّه تعالى يقول: أنا الملك، أنا الديّان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنّة أن يدخل الجنّة، و لا لأحد من أهل النار أن يدخل النار، و عنده مظلمة حتّى أقضيه منه. و تلا هذه الآية».

لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب و زيادة العذاب إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ إذ لا يشغله شأن عن شأن، فيصل إليهم ما يستحقّونه سريعا في وقت واحد، و هو أسرع الحاسبين. و عن ابن عبّاس: إذا أخذ في حسابهم لم يقل (1) أهل الجنّة إلّا فيها، و لا أهل النار إلّا فيها.

[سورة غافر [40]: الآيات 18 الى 20]

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ [18] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ [19] وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [20]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخوّف المكلّفين يوم القيامة، فقال: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي: القيامة سمّيت بها لأزوفها، أي: قربها. و يجوز ان يريد بيوم الآزفة وقت الخطّة الآزفة، و هي مشارفتهم دخول النار. إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ فإنّها

ص: 126


1- من: قال يقيل قيلولة: نام في القائلة، أي: في منتصف النهار.

ترتفع عن مقارّها فتلتصق بحلوقهم، فلا هي تخرج فيموتوا، و لا ترجع إلى موضعها فيتنفّسوا و يتروّحوا، و لكنّها معترضة كالشجا (1).

كاظِمِينَ ممتلئين غمّا و خوفا. حال من أصحاب القلوب على المعنى، لأنّ المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. و يجوز أن يكون حالا من القلوب، أي: حال كون القلوب كاظمة على غمّ و كرب فيها مع بلوغها الحناجر.

و إنّما جمع جمع السلامة، لأنّه وصفها بالكظم الّذي هو من أفعال العقلاء، كما قال:

رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (2). و قال: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (3). أو من مفعول «أنذرهم» على أنّه حال مقدّرة، أي: أنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم، كقوله:

فَادْخُلُوها خالِدِينَ (4).

ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ قريب مشفق وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ أي: شفيع يشفع، فإنّ المطاع مجاز في المشفع، لأنّ حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر، في أنّها لا تكون إلّا لمن فوقك، فلو كان المطاع على حقيقته لكان اللّه مطيعا، و المطيع يكون أدنى مرتبة، تعالى اللّه عن ذلك. و الضمائر إن كانت للكفّار- و هو الظاهر- كان وضع الظالمين موضع ضميرهم، للدلالة على اختصاص ذلك بهم، و أنّه لظلمهم.

و اعلم أنّ معنى قوله: «وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» نفي الشفاعة و الطاعة معا، لا نفي الطاعة دون الشفاعة. كما تقول: ما عندي كتاب يباع. فهو محتمل نفي البيع وحده، و أنّ عندك كتابا إلّا أنّك لا تبيعه، و نفيهما جميعا، بأن لا كتاب عندك، و لا كونه مبيعا. لأنّ الشفعاء هم أولياء اللّه، و أولياء اللّه لا يحبّون و لا يرضون إلّا من أحبّه اللّه

ص: 127


1- الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه.
2- يوسف: 4.
3- الشعراء: 4.
4- الزمر: 73.

و رضيه، و أنّ اللّه لا يحبّ الظالمين، فلا يحبّونهم، و إذا لم ينصروهم و لم يشفعوا لهم. قال اللّه تعالى: وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (1). و قال: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (2). و لأنّ الشفاعة لا تكون إلّا في زيادة التفضّل، و أهل التفضّل و زيادته إنّما هم أهل الثواب، بدليل قوله: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (3). و عن الحسن:

و اللّه ما يكون لهم شفيع البتّة.

و الفائدة في ذكر الصفة و نفيها- مع أنّ الغرض حاصل بذكر الشفيع و نفيه فقط- إقامة انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة، لأن الصفة لا تتأتّى بدون موصوفها، فيكون ضمّها إليه إزالة لتوهّم وجود الموصوف. بيانه: إنّك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، و لا معي سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس و فقد السلاح علّة مانعة من الركوب و المحاربة. كأنّك تقول:

كيف يتأتّى منّي الركوب و المحاربة و لا فرس لي و لا سلاح معي؟ فكذلك قوله:

«وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» معناه: كيف يتأتّى التشفيع و لا شفيع؟

يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي: النظرة الخائنة، كالنظرة الثانية إلى غير المحرم، و استراق النظر إليه، على أن تكون صفة للنظرة. أو خيانة الأعين، على أن تكون مصدرا بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة. و لا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأنّه لا يساعد عليه قوله: وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ من الضمائر.

و الجملة خبر خامس، للدلالة على أنّها ما من خفيّ إلّا و هو متعلّق العلم و الجزاء، مثل «يلقي الروح»، و لكن «يلقي الروح» قد علّل بقوله: «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ». ثمّ استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: «وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ»، فبعد

ص: 128


1- البقرة: 270.
2- الأنبياء: 28.
3- النساء: 173.

لذلك عن أخواته.

وَ اللَّهُ و الّذي هذه صفاته يَقْضِي يفصل بين الخلائق بِالْحَقِ فيوصل كلّ ذي حقّ إلى حقّه، لأنّه المالك الحاكم على الإطلاق، المستغني عن الجور، فلا يقضي بشي ء إلّا و هو حقّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ تهكّم بهم، لأنّ الجماد لا يقال فيه إنّه يقضي أو لا يقضي. و قرأ نافع و هشام بالتاء، على الالتفات، أو إضمار: قل.

إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ فيسمع المسموعات الْبَصِيرُ يبصر المبصرات.

و هذا تقرير لعلمه بخائنة الأعين و ما تخفي الصدور، و قضائه بالحقّ. و وعيد لهم على ما يقولون و يفعلون. و تعريض بحال ما يدعون من دونه من الأصنام، و أنّها لا تسمع و لا تبصر. و هاتان الصفتان إذا أطلقتا على اللّه يرجعان إلى كونه حيّا عالما بجميع المسموعات و المبصرات، لاستغنائه عن آلتي السمع و البصر.

[سورة غافر [40]: الآيات 21 الى 22]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ [21] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [22]

ثمّ نبّههم سبحانه على أن ينظروا في حال الأمم المكذّبة الخالية نظر اعتبار و تفكّر، فقال:

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مآل حال الّذين كذّبوا الرسل قبلهم، كعاد و ثمود كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة و تمكّنا.

ص: 129

و إنّما جي ء بالفصل بين معرفة و غير معرفة، و حقّه أن يقع بين معرفتين، لمضارعة «افعل من» للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه، فأجري مجراه. و قرأ ابن عامر:

أشدّ منكم بالكاف. وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ مثل القلاع و المدائن الحصينة. و قيل:

المعنى: و أكثر آثارا، كقوله: متقلّدا سيفا و رمحا (1)، أي: و حاملا رمحا، لأنّ الرمح لا يتقلّد. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ يمنع العذاب عنهم.

ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الباهرات، و الأحكام الواضحات فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أهلكهم عقوبة على كفرهم إِنَّهُ قَوِيٌ قادر على الانتقام منهم، متمكّن ممّا يريده غاية التمكّن شَدِيدُ الْعِقابِ لا يؤبه بعقاب دون عقابه.

[سورة غافر [40]: الآيات 23 الى 28]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ [23] إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ [24] فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [25] وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [26] وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [27]

وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ

ص: 130


1- صدره: و رأيت زوجك في الوغى متقلّدا ....

بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [28]

ثمّ ذكر قصّة موسى و فرعون لينظروا فيها نظر اعتبار، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني: المعجزات وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة ظاهرة. و العطف لتغاير الوصفين، أو لإفراد بعض المعجزات كالعصا، تقديما لشأنه.

إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ كان موسى عليه السّلام رسولا إلى كافّتهم، إلّا أنّه خصّ فرعون و هامان و قارون بالذكر، لأنّ فرعون رئيسهم، و كان هامان وزيره، و قارون صاحب كنوزه، و الباقون تبع لهم فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ يعنون: موسى عليه السّلام.

و فيه تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بيان لعاقبة من هو أشدّ من الّذين كانوا من قبلهم بطشا و أقربهم زمانا.

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ بالنبوّة مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي: أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أوّلا، كي يصدّوا عن مظاهرة موسى وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع. يعني: أنّهم باشروا قتلهم أوّلا فما أغنى عنهم، و نفذ قضاء اللّه بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني. و وضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم، و الدلالة على العلّة.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي اتركوني أَقْتُلْ مُوسى كانوا يكفّونه عن قتله، و يقولون: إنّه ليس الّذي تخافه، و هو أقلّ من ذلك و أضعف، و ما هو إلّا بعض السحرة، و مثله لا يقاوم إلّا ساحرا مثله، و لو قتلته أدخلت الشبهة على الناس أنّك عجزت عن معارضته بالحجّة.

و الظاهر أنّ فرعون كان قد استيقن أنّه نبيّ، و أنّ ما جاء به آيات و ما هو

ص: 131

بسحر، و لكنّه كان فيه خبّ (1) و جربزة، و كان قتّالا سفّاكا للدماء في أهون شي ء، فكيف لا يقتل من أحسّ منه بأنّه هو الّذي يثلّ (2) عرشه و يهدم ملكه؟! و لكنّه كان يخاف إن همّ بقتله لا يتيسّر له و يعاجل بالهلاك.

و قوله: وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه و من دعوته ربّه.

و كان قوله: «ذروني أقتل موسى» تمويها على قومه، و إيهاما أنّهم هم الّذين يكفّونه، و ما كان يكفّه إلّا ما في نفسه من هول الفزع.

إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتي و عبادة الأصنام، لقوله: وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ (3) أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ما يفسد دنياكم من التفاتن (4) و التهارج الّذي يذهب معه الأمن، و تتعطّل المزارع و المكاسب و المعايش، و يهلك الناس قتلا و ضياعا، إن لم يقدر أن يبدلّ دينكم بالكلّيّة.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و ابن عامر (5) بالواو، على معنى الجمع. و ابن كثير و ابن عامر و الكوفيّون غير حفص بفتح الياء و الهاء و رفع «الفساد».

وَ قالَ مُوسى أي: لقومه لمّا سمع كلام فرعون إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ عن الإذعان للحقّ. و هو أقبح استكبار و أدلّه على دناءة صاحبه و مهانة نفسه، و على فرط ظلمه.

ثمّ قال لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنّه إذا اجتمع في الرجل التجبّر و التكذيب

ص: 132


1- الخبّ: الخديعة. و رجل خبّ: خدّاع.
2- أي: يهدم و يسقط.
3- الأعراف: 127.
4- أي: الوقوع في الفتنة و التحارب. و التهارج: القتال و المهارشة.
5- أي: و أن يظهر ....

بالجزاء، و قلّة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة و الجراءة على اللّه و عباده، و لم يترك معصية عظيمة إلّا ارتكبها. و صدّر الكلام ب «إنّ» تأكيدا و إشعارا على أنّ السبب المؤكّد في دفع الشرّ هو العياذ باللّه. و خصّ اسم الربّ، لأنّ المطلوب هو الحفظ و التربية. و إضافته إليه و إليهم حثّا لهم على اقتدائهم به، فيعوذوا به عياذه، لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة. و لم يسمّ فرعون، و ذكر و صفا يعمّه و غيره، لتعميم الاستعاذة، و الدلالة على الحامل له على هذا القول.

و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي: عدتّ- فيه و في الدخان (1)- بالإدغام.

و عن نافع مثله.

و لمّا قصد فرعون قتل موسى و عظه المؤمن من آله، كما قال عزّ اسمه:

وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و كان قبطيّا ابن عمّ لفرعون، آمن بموسى سرّا.

و قيل: «من» متعلّق بقوله: يَكْتُمُ إِيمانَهُ من آل فرعون على وجه التقيّة. اسمه سمعان، أو حبيب، أو خربيل. و قيل: حزبيل.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «التقيّة من ديني و دين آبائي». و «لا دين لمن لا تقيّه له».

و «التقيّة ترس اللّه في أرضه، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل».

و قال ابن عبّاس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره، و غير امرأة فرعون، و غير المؤمن الّذي أنذر موسى، و هو الّذي جاء من أقصى المدينة.

أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أ تقصدون قتله أَنْ يَقُولَ لأن يقول، أو وقت أن يقول، من غير رؤية و تأمّل في أمره رَبِّيَ اللَّهُ وحده. و هو في الدلالة على الحصر مثل:

صديقي زيد. و فيه إنكار منه عظيم، و تبكيت شديد. كأنّه قال: أ ترتكبون الفعلة الشنعاء الّتي هي قتل نفس محرّمة، و ما لكم علّة قطّ في ارتكاب قتلها إلّا كلمة الحقّ الّتي نطق بها، و هي قوله: «ربّي اللّه»؟!

ص: 133


1- الدخان: 20.

وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ المتكثّرة على صدقه، من المعجزات و الاستدلالات، أي: لم يحضر لتصحيح قوله بيّنة واحدة، و لكن بيّنات عدّة مِنْ رَبِّكُمْ أضافه إليهم بعد ذكر البيّنات احتجاجا عليهم، و استدراجا لهم إلى الاعتراف به.

ثمّ أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم من باب الاحتياط، فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ يعود عليه، و لا يتخطّاه و بال كذبه، فيحتاج في دفعه إلى قتله وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه إن تعرّضتم له.

و فيه مبالغة في التحذير، و إظهار للإنصاف و المداراة و التلطّف و عدم التعصّب، كقوله: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (1). فجاء بما علم أنّه أقرب إلى تسليمهم لقوله، و أدخل في تصديقهم له و قبولهم منه، و لذلك قدّم كونه كاذبا. ثمّ قال: «بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»، و لم يقل: يصبكم جميع الّذي يعدكم، مع أنّ موسى نبيّ صادق لا بدّ لما يعدهم أن يصيبهم كلّه. و المراد بالبعض: عذاب الدنيا، و هو بعض مواعيده. كأنّه خوّفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ احتجاج ثالث. و معناه: لو كان موسى مسرفا كذّابا لما هداه اللّه إلى ما يدّعي من النبوّة، و لما عضده بتلك المعجزات.

و يحتمل أن يكون معناه: أنّ من خذله اللّه و أهلكه و لم يستقم له أمر فلا حاجة لكم إلى قتله. و لعلّه أراد به المعنى الأوّل، و خيّل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم، و عرّض به لفرعون بأنّه مسرف كذّاب لا يهديه اللّه سبيل الصواب و طريق النجاة. و يجوز أن يكون ذلك ابتداء كلام من اللّه تعالى.

ص: 134


1- سبأ: 24.

[سورة غافر [40]: الآيات 29 الى 35]

يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ [29] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [30] مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [31] وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ [32] يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [33]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ [34] الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [35]

ثمّ ذكّرهم مؤمن من آل فرعون ما هم فيه من الملك ليشكروا اللّه تعالى على ذلك بالإيمان به، فقال:

يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ عالين على الناس غالبين فِي الْأَرْضِ أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ عذابه إِنْ جاءَنا أي: فلا تفسدوا

ص: 135

أمركم، و لا تعرّضوا لبأس اللّه بقتله، فإنّه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد. و إنّما أدرج نفسه في الضميرين، لأنّه كان منهم في القرابة، و ليريهم أنّه معهم و مساهمهم فيما ينصح لهم.

قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ ما أشير عليكم إِلَّا ما أَرى لنفسي، و أستصوبه من قتله وَ ما أَهْدِيكُمْ و ما أعلمكم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ إلّا ما علمت من طريق الصواب. و لا أدّخر منه شيئا، و لا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر. يعني: أنّ قلبي و لساني متواطئان على ما أقول لكم. و قد كذب لعنه اللّه، فإنّه كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى، و لكنّه كان يتجلّد، و لولا استشعاره لم يستشر أحدا، و لم يقف الأمر على الإشارة.

وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ في تكذيبه. و التعرّض له مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مثل أيّام الأمم الماضية. يعني: وقائعهم. و جمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم، فإنّه لم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار.

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ مثل جزاء ما كانوا عليه دائبا- أي: دائما- من الكفر و إيذاء الرسل، و لا يفترون عنه ساعة وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط عليه السّلام وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني: أنّ تدميرهم كان عدلا و قسطا، فلا يعاقبهم بغير ذنب، و لا يخلّي الظالم منهم بغير انتقام. و هو أبلغ من قوله: وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (1)، من حيث جعل المنفيّ إرادة الظلم، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدا كان عن الظلم أبعد. و في هذا أوضح دليل على فساد قول المجبّرة القائلة بأنّ كلّ ظلم يكون في العالم فهو بإرادة اللّه تعالى.

ثمّ حذّرهم من عذاب الآخرة أيضا، فقال: وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يوم القيامة ينادي بعضهم بعضا للاستغاثة، أو يتصايحون بالويل و الثبور. أو

ص: 136


1- فصّلت: 46.

يتنادى أصحاب الجنّة و أصحاب النار، كما حكى في الأعراف في قوله: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ (1) وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ (2).

يَوْمَ تُوَلُّونَ عن الموقف مُدْبِرِينَ منصرفين عنه إلى النار. و قيل:

فارّين عنها. ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمكم من عذابه وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ خذلانا و تخلية، لفرط عناده. أو عن طريق الجنّة. فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه.

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب، على أنّ فرعونه فرعون موسى، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد. أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب.

أقام فيهم نبيّا عشرين سنة. مِنْ قَبْلُ من قبل موسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، فشككتم فيها فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍ فلم تزالوا شاكّين كافرين مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ضمّا إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده. أو جزما بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشكّ في رسالته، حكما من عند أنفسكم من غير برهان منكم على تكذيب الرسل.

كَذلِكَ مثل ذلك الضلال، أي: الخذلان يُضِلُّ اللَّهُ يخذل اللّه في العصيان لفرط العناد مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مفرط فيه مُرْتابٌ شاكّ فيما تشهد به البيّنات، لغلبة الوهم و الانهماك في التقليد.

الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بدل من الموصول الأوّل، لأنّه بمعنى الجمع، فكأنّه قال: كلّ مسرف بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجّة، بل إمّا بتقليد أو بشبهة داحضة أَتاهُمْ كَبُرَ فيه ضمير «من». و إفراده للفظ، كما جمع البدل منه للمعنى. و ليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة، و على المعنى اخرى. مَقْتاً تمييز عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا و يجوز أن يكون مبتدأ خبره «كبر» على حذف مضاف، أي:

و جدال الّذين يجادلون كبر مقتا. أو خبره «بغير سلطان» و فاعل «كبر» كَذلِكَ

ص: 137


1- الأعراف: 44 و 50.
2- الأعراف: 44 و 50.

أي: كبر مقتا مثل ذلك الجدال. فيكون قوله: يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم. و الطبع بمعنى الخذلان و التخلية، كما مرّ غير مرّة.

و قرأ أبو عمرو و ابن ذكوان: قلب بالتنوين، على وصفه بالتكبّر و التجبّر، لأنّه منبعهما، كقولهم: رأت عيني، و سمعت أذني. أو على حذف مضاف، أي: كلّ ذي قلب متكبّر.

[سورة غافر [40]: الآيات 36 الى 40]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [36] أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ [37] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ [38] يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ [39] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [40]

ثمّ بيّن سبحانه ما موّه به فرعون على قومه، لمّا وعظه المؤمن، و خوّفه من قتل موسى، و انقطعت حجّته، فقال:

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً بناء مكشوفا عاليا مشيّدا بالآجرّ.

من: صرح الشي ء إذا ظهر، أي: بناء ظاهرا لا يخفى على الناظر. لَعَلِّي أَبْلُغُ

ص: 138

الْأَسْبابَ الطرق. و كلّ ما أوصلك إلى شي ء فهو سبب إليه.

أَسْبابَ السَّماواتِ بيان لها. و في إبهامها ثمّ إيضاحها تفخيم لشأنها، و تشويق للسامع إلى معرفتها، فإنّه لمّا كان بلوغها أمرا عجيبا، أراد أن يورده على نفس متشوّفة (1) إليه، ليعطيه السامع حقّه من التعجّب، فأبهمه ليشوّف إليه نفس هامان.

ثمّ أوضحه فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى عطف على «أبلغ». و قرأ حفص بالنصب، على جواب الترجّي. و لعلّه أراد أن يبني له رصدا في موضع عال، يرصد منه أحوال الكواكب، الّتي هي أسباب سماويّة تدلّ على الحوادث الأرضيّة، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال اللّه إيّاه؟! أو أن يرى فساد قول موسى، بأنّ إخباره من إله السماء يتوقّف على اطّلاعه و وصوله إليه، و ذلك لا يتأتّى إلّا بالصعود إلى السماء، و هو ممّا لا يقوى عليه الإنسان. و ذلك لجهله باللّه، و كيفيّة استنبائه.

وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً في دعوى الرسالة وَ كَذلِكَ و مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الرشاد. و مزيّنه هو الشيطان بوسوسته، كقوله: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ (2). أو اللّه على وجه التخلية، فإنّه مكّن الشيطان و أمهله. و مثله: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (3).

و قرأ الحجازيّان و الشامي و أبو عمرو: و صدّ، على أنّ فرعون صدّ الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات و الشبهات. و يؤيّده وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ

ص: 139


1- تشوّف إلى الشي ء: تطلّع إليه.
2- النمل: 24 و 4.
3- النمل: 24 و 4.

في خسار و هلاك.

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر نصيحة مؤمن آل فرعون، فقال: وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يعني: مؤمن آل فرعون. و قيل: موسى عليه السّلام. يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ بالدلالة سَبِيلَ الرَّشادِ سبيلا يصل سالكه إلى المقصود.

و فيه تعريض بأنّ ما عليه فرعون و قومه سبيل الغيّ. و تكرّر النداء لزيادة تنبيه لهم، و إيقاظ عن سنة الغفلة، و أنّهم قومه و عشيرته، و هم فيما يوبقهم، و هو يعلم وجه خلاصهم، و نصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزّن لهم و يتلطّف بهم، و يستدعي بذلك أن لا يتّهموه، و أن يتنبّهوا على أنّ سرورهم سروره، و غمّهم غمّه، و ينزلوا على تنصيحه لهم. كما كرّر إبراهيم عليه السّلام في نصيحة أبيه: يا أَبَتِ (1).

فلأجل ذلك كرّر النداء مرّة اخرى بقوله: يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ تمتّع يسير، لسرعة زوالها.

ثمّ ذكّرهم تعظيم الآخرة و الاطّلاع على حقيقتها، و أنّها هي الوطن الحقيقي و المستقرّ الأصلي. و ذكر الأعمال سيّئها و حسنها، و عاقبة كلّ منهما، ليثبّط عمّا يتلف، و ينشط لما يزلف، فقال:

وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها عدلا من اللّه. و فيه دليل على أنّ الجنايات تغرم بمثلها. وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير و موازنة بالعمل، بل أضعافا مضاعفة، فضلا منه و رحمة. و تقسيم العمّال، و جعل الجزاء جملة اسميّة مصدّرة باسم الاشارة، و تفضيل الثواب، لتغليب الرحمة. و جعل العمل عمدة و الإيمان حالا، للدلالة على أنّه شرط في اعتبار العمل، و أنّ ثوابه أعلى من ذلك.

ص: 140


1- مريم: 42- 45.

[سورة غافر [40]: الآيات 41 الى 46]

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [41] تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ [42] لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ [43] فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [44] فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ [45]

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [46]

ثمّ وازى بين الدعوتين: دعوته إلى دين اللّه الّذي ثمرته النجاة، و دعوتهم إلى اتّخاذ الأنداد الّذي عاقبته النار، فقال:

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ من النار بالإيمان باللّه وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ إلى الشرك الّذي يوجب النار. وبّخهم بذلك على ما يقابلون به نصحه.

و عطفه على النداء الثاني، لأنّه داخل على ما هو بيان لما قبله. و لم يعطف الثاني على الأوّل، لأنّ ما بعده أيضا تفسير لما أجمل فيه تصريحا أو تعريضا.

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بدل أو بيان فيه تعليل. و الدعاء كالهداية في التعدية ب «إلى» و اللام. فيقال: دعاه إلى كذا و دعا له، كما يقال: هداه إلى الطريق و هدى له.

ص: 141

وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ بربوبيّته عِلْمٌ المراد بنفي العلم نفي المعلوم. كأنّه قال: و أشرك به ما ليس بإله، و ما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلها. و فيه إشعار بأنّ الألوهيّة لا بدّ لها من برهان، فاعتقادها لا يصحّ إلّا عن إيقان. وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ المستجمع لصفات الألوهيّة، من كمال القدرة و الغلبة، و ما يتوقّف عليه من العلم و الإرادة، و التمكّن من المجازاة، و القدرة على التعذيب و الغفران.

لا جَرَمَ لا ردّ لما دعاه إليه قومه. و «جرم» فعل بمعنى: حقّ، و فاعله أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ أي: حقّ و وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا، لأنّها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيّتها. أو عدم دعوة مستجابة. أو عدم استجابة دعوة لها.

و قيل: «جرم» بمعنى: كسب، من قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا (1). و فاعله مستكن في «تدعونني» أي:

كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له. بمعنى: ما حصل من ذلك إلّا ظهور بطلان دعوته.

و قيل: «لا جرم» نظير: لا بدّ، فعل من الجرم بمعنى القطع، كما أنّ بدّا فعل من التبديد، و هو التفريق. و المعنى: لا قطع لبطلان دعوى ألوهيّة الأصنام، أي: لا تزال باطلة، لا ينقطع ذلك في وقت مّا فينقلب حقّا. و يؤيّده قولهم: لا جرم أنّه يفعل، فإنّه لغة فيه، كالرشد و الرشد.

وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: وجب أنّ مرجعنا و مصيرنا إلى اللّه بالموت، فيجازي كلّا بما يستحقّه وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ و وجب أنّ المسرفين في الضلالة و الطغيان، كالإشراك و سفك الدماء. و قيل: الّذين غلب شرّهم خيرهم. هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها.

ص: 142


1- المائدة: 2.

ثمّ قال لهم على وجه التخويف و الوعظ: فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ صحّة ما أقول لكم من النصيحة إذا حصلتم في العذاب بكفركم. ثمّ أظهر إيمانه بقوله:

وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كلّ سوء. و الأمر: اسم جنس. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بأحوالهم و بما يفعلونه من الطاعة و المعصية.

و هذا جواب توعّدهم المفهوم من قوله: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا صرف اللّه عنه شدائد مكرهم، و ما همّوا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم، فنجا مع موسى حتّى عبر البحر وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ بفرعون و قومه. و استغنى بذكرهم عن ذكره، للعلم بأنّه أولى بذلك. و قيل: بطلبة المؤمن من قومه، فإنّه فرّ إلى جبل، فبعث فرعون بطائفة فوجدوه يصلّي و الوحوش صفوف حوله، فرجعوا رعبا، فقتلهم.

سُوءُ الْعَذابِ الغرق، أو القتل، أو النار.

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا جملة مستأنفة. أو «النار» خبر محذوف، و «يعرضون» استئناف للبيان. أو بدل من «سوء العذاب»، و «يعرضون» حال من النار، أو من الآل. و المراد بعرضهم على النار إحراقهم بها. من قولهم:

عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به. و ذلك لأرواحهم، كما روى ابن مسعود:

أنّ أرواحهم في أجواف طيور سود، تعرض على النار بكرة و عشيّا إلى يوم القيامة.

و ذكر الوقتين يحتمل التخصيص و التأبيد. و فيه دليل على بقاء النفس و عذاب القبر.

و عن نافع، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشيّ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، و إن كان من أهل النار فمن النار. فيقال: هذا مقعدك حتّى يبعثك اللّه يوم القيامة». أورده البخاري (1) و مسلم في الصحيح. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ذلك في البرزخ.

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي: هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم:

ص: 143


1- صحيح البخاري 2: 124. صحيح مسلم 4: 2199 ح 65.

أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ يا آل فرعون (1) أَشَدَّ الْعَذابِ عذاب جهنّم، فإنّه أشدّ ممّا كانوا فيه. أو أشدّ عذاب جهنّم.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: أدخلوا، على أمر الملائكة بإدخالهم النار.

[سورة غافر [40]: الآيات 47 الى 52]

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ [47] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [48] وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [49] قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [50] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [51]

يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [52]

ثمّ ذكر سبحانه ما يجري بين أهل النار من الحجاج، فقال: وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ و اذكر لقومك وقت تخاصمهم فيها. و يحتمل عطفه على «غدوّا».

ثمّ فصّل التخاصم بقوله: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ و هم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا و هم الرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أتباعا، كخدم جمع خادم. أو ذوي

ص: 144


1- هذا التفسير على قراءة: ادخلوا.

تبع، على إضمار مضاف، بمعنى: أتباع. أو وصف بالمصدر تجوّزا. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ بالدفع أو الحمل، فإنّه يلزم الرئيس الدفع أو الحمل عن أتباعه و المنقادين لأمره. و «نصيبا» مفعول به لما دلّ عليه «مغنون عنّا» من معنى الدفع أو الحمل. أو مصدر، كشيئا في قوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً (1). و «من» صلة «مغنون».

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌ التنوين عوض عن المضاف إليه. و التقدير:

كلّنا. يعني: نحن و أنتم. فِيها في النّار، فكيف نغني عنكم؟! و لو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا. و «كلّ فيها» مبتدأ و خبر في موضع رفع بأنّه خبر «إنّ». و المعنى: إنّا مجتمعون في النار. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ بأن أدخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، و لا معقّب لحكمه. أو بأن لا يتحمّل أحد عن أحد، و أنّه يعاقب من أشرك به و عبد معه غيره لا محالة.

وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ أي: المتبوعون و الأتباع لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ لقوّام تعذيب أهل النار. و وضع جهنّم موضع الضمير للتهويل، أو لبيان محلّهم فيها، إذ يحتمل أن تكون جهنّم أبعد دركاتها قعرا، من قولهم: بئر جهنّام بعيدة القعر، و فيها أعتى الكفّار و أطغاهم، فلعلّ الملائكة الموكّلين بعذاب أولئك أقرب إجابة للدعوة، لزيادة قربهم من اللّه، فلهذا تعمّدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم. ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً قدر يوم مِنَ الْعَذابِ شيئا من العذاب. و يجوز أن يكون المفعول «يوما» بحذف المضاف، و «من العذاب» بيانه.

قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بالحجج و الدلالات الواضحة على صحّة التوحيد و النبوّات. أرادوا به إلزامهم للحجّة، و توبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء، و تعطيلهم أسباب الإجابة.

ص: 145


1- آل عمران: 10.

قالُوا بَلى جاءتنا الرسل و البيّنات، فكذّبناهم و جحدنا نبوّتهم.

قالُوا فَادْعُوا أنتم فإنّا لا نجترئ فيه، أو لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم.

و فيه إقناط لهم عن الإجابة، و دلالة على الخيبة، فإنّ الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكافر؟! كما قال: وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع لا يجاب.

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالحجّة و الظفر و النصرة و الغلبة، و الانتقام لهم من الكفرة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي: في الدارين، و إن غلبوا في الدنيا في بعض الأحيان امتحانا من اللّه، فالعاقبة لهم، فإنّه يتيح اللّه من يقتصّ من أعدائهم، كما نصر يحيى بن زكريّا- لمّا قتل- حين قتل به سبعون ألفا. فهم لا محالة منصورون في الدنيا. و الأشهاد جمع شاهد، كصاحب و أصحاب. و المراد بهم من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس، من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين.

ثمّ أخبر سبحانه عن ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بدل من الأوّل. و عدم نفع المعذرة لأنّها باطلة، أو لأنّه لم يؤذن لهم فيعتذروا. و قرأ غير الكوفيّين و نافع بالتاء. وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ البعد من الرحمة وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ سوء دار الآخرة. و هو عذابها.

[سورة غافر [40]: الآيات 53 الى 55]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ [53] هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [54] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ [55]

ثمّ ذكر حسن عاقبة موسى و قومه و نجاتهم من فرعون، فقال: وَ لَقَدْ

ص: 146

آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدي به في الدين، من المعجزات و صحف التوراة و الشرائع، بعد استئصال آل فرعون وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ و تركنا عليهم بعده ذلك التوراة هُدىً هداية يعرفون بها معالم دينهم وَ ذِكْرى و تذكرة لهم بها و عبرة. أو هاديا و مذكّرا. لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول السليمة.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على تحمّل أذى قومه، فإنّ الصبر مفتاح الفرج، و لكلّ عسر يسر، و لكلّ نازلة حسن عاقبة، كعواقب أمور موسى بعد تحمّل المشاقّ من آل فرعون، فقال:

فَاصْبِرْ على أذى المشركين في تكذيبهم إيّاك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرة الرسل حَقٌ واجب عليه ثابت لا يخلفه. و استشهد بموسى و ما آتاه من أسباب الهدى و النصرة على فرعون و جنوده، و إبقاء آثار هداه في بني إسرائيل. فاللّه ناصرك كما نصرهم، و مظهرك على الدين كلّه، و مبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض و مغاربها.

وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ و أقبل على أمر دينك، و تدارك فرطاتك- كترك الأولى- بالاستغفار، فإنّه تعالى كافيك في النصر و إظهار الأمر. و مثل هذا تعبّد من اللّه سبحانه لنبيّه، لكي يزيد في الدرجات، و ليصير سنّة لمن بعده. وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ و دم على التسبيح و التحميد لربّك. و قيل: من زوال الشمس إلى الليل، و من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. و عن ابن عبّاس: يريد الصلوات الخمس. و قيل: صلّ لهذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكّة ركعتين بكرة و ركعتين عشيّا.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «قال اللّه عزّ و جل: يا ابن آدم اذكرني بعد الغداة ساعة، و بعد العصر ساعة، أكفك ما أهمّك».

ص: 147

[سورة غافر [40]: الآيات 56 الى 60]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [56] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [57] وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ [58] إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [59] وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [60]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ في دفعها بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجّة أَتاهُمْ عامّ في كلّ مجادل مبطل، و إن نزلت في مشركي مكّة و اليهود حين قالوا:

سيخرج صاحبنا المسيح بن داود- يريدون الدجّال- و يبلغ سلطانه البرّ و البحر، و تسير معه الأنهار، و هو آية من آيات اللّه، فيرجع إلينا الملك. فسمّى اللّه تمنّيهم ذلك كبرا، و نفى أن يبلغوا متمنّاهم، و قال: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إلّا تكبّر عن الحقّ، و تعظّم عن التفكّر و التعلّم. أو إرادة التقدّم و الرئاسة. ما هُمْ بِبالِغِيهِ ببالغي موجب الكبر و مقتضيه. و هو الرئاسة أو النبوّة. أو ببالغي دفع الآيات.

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه من كيد من يحسدك و يبغي عليك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ بما تعمل و يعملون. فهو ناصرك عليهم، و عاصمك من شرّهم.

ص: 148

و لمّا كانت مجادلتهم في آيات اللّه مشتملة على إنكار البعث، و هو أصل المجادلة و مدار المخاصمة، فاحتجّ بخلق السماوات و الأرض، لأنّهم كانوا مقرّين بأنّ اللّه خالقهما، فقال:

لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فمن قدر على خلقهما مع عظمهما من غير أصل، و وقوفهما بغير عمد، قدر على خلق الإنسان مع مهانته وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنّهم لا ينظرون و لا يتأمّلون، لفرط غفلتهم و اتّباعهم أهواءهم. يعني: أنّهم إذا أقرّوا بأنّ اللّه تعالى خلق السماوات و الأرض، فكيف أنكروا قدرته على إحياء الموتى؟! و لكنّهم أعرضوا عن التدبّر، فحلّوا محلّ الجاهل الّذي لا يعلم شيئا.

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ الغافل المتكبّر و العاقل المستبصر، أي: لا يستوي من أهمل نفسه و من تفكّر فعرف الحقّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ أي: المحسن و المسي ء، في الكرامة و الإهانة، و الهدى و الضلال. فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، و هي فيما بعد البعث.

و زيادة لفظة «لا» في «المسي ء» لأنّ المقصود نفي مساواة المسي ء للمحسن فيما له من الفضل و الكرامة. و العاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى و البصير، لتغاير الوصفين في المقصود، أو الدلالة بالصراحة و التمثيل.

قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي: تذكّرا قليلا يتذكّرون. أو قليلا تذكّرهم. و الضمير للناس، أو الكفّار. و قرأ الكوفيّون بالتاء، على تغليب المخاطب، أو الالتفات، أو أمر الرسول بالمخاطبة.

إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها لا شكّ في مجيئها، لوضوح الدلالة على جوازها، و إجماع الرسل على الوعد بوقوعها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بها، لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسّون به.

ص: 149

وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي اعبدوني. و عن الحسن- و قد سئل عنها-: اعملوا و أبشروا، فإنّه حقّ على اللّه أن يستجيب للّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و يزيدهم من فضله.

و عن الثوري أنّه قيل له: ادع اللّه. فقال: إنّ ترك الذنوب هو الدعاء.

و في الحديث: «إذا شغل عبدي طاعتي عن الدعاء، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».

و عن النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الدعاء هو العبادة. ثمّ قرأ:

«وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي».

أَسْتَجِبْ لَكُمْ أثب لكم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين. و قرأ ابن كثير و أبو بكر بضمّ الياء و فتح الخاء.

و عن ابن عبّاس: وحّدوني أغفر لكم. و هذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثمّ للعبادة بالتوحيد.

و يجوز أن يريد الدعاء و الاستجابة على ظاهرهما، و يريد ب «عبادتي» دعائي، لأنّ الدعاء باب من العبادة، و من أفضل أبوابها. و يصدّقه قول ابن عبّاس:

«أفضل العبادة الدعاء». و على هذا؛ استجابته مشروط باقتضاء المصلحة.

و عن كعب: أعطى اللّه هذه الأمّة ثلاث خلال لم يعطهنّ إلّا نبيّا مرسلا. كان يقول لكلّ نبيّ: أنت شاهدي على خلقي. و قال لهذه الأمّة: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ (1). و كان يقول: ما عليك من حرج. و قال لها: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (2). و كان يقول: ادعني أستجب لك. و قال لها: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».

و على القول الأخير؛ الآية دالّة على عظم قدر الدعاء عند اللّه تعالى، و على

ص: 150


1- البقرة: 143.
2- المائدة: 6.

فضل الانقطاع إليه. و قد روي عن معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

جعلني اللّه فداك ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعا، كان أحدهما أكثر صلاة، و الآخر أكثر دعاء، فأيّهما أفضل؟ قال: كلّ حسن. قلت: قد علمت، و لكن أيّهما أفضل؟ قال: أكثرهما دعاء. أما تسمع قول اللّه تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» إلى آخر الآية. و قال: هي العبادة الكبرى».

و روى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا في هذه الآية قال: «هو الدعاء. و أفضل العبادة الدعاء».

و روى حنان بن سدير، عن أبيه، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أيّ العبادة أفضل؟ قال: ما من شي ء أحبّ إلى اللّه من أن يسأل و يطلب ما عنده. و ما أحد أبغض إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يستكبر عن عبادته، و لا يسأل ما عنده.»

[سورة غافر [40]: الآيات 61 الى 63]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [61] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [62] كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [63]

ثمّ ذكر ما يدلّ على توحيده، فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ و هو ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني لِتَسْكُنُوا فِيهِ لتستريحوا فيه، بأن خلقه باردا مظلما ليؤدّي إلى ضعف المحرّكات و هدوء الحواسّ وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي:

مضيئا تبصرون فيه مواضع حاجاتكم. و إسناد الإبصار إلى النهار مجاز، لأنّ الإبصار في الحقيقة لأهل النهار، فعدل إلى المجاز مبالغة، و لذلك لم يقل: لتبصروا

ص: 151

فيه، ليقابل قوله: «لتسكنوا».

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لا يوازيه فضل. و للإشعار بهذا المعنى- الّذي هو مفاد تنكير الفضل- لم يقل: لمفضّل أو لمتفضّل. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم، و إغفالهم مواقع النعم. و تكرير الناس، و عدم الاكتفاء بالضمير، لتخصيص الكفران بالناس، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (1). إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (2). إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (3).

ذلِكُمُ المخصوص بهذه الأفعال المقتضية للألوهيّة و الربوبيّة اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ من السماوات و الأرض و ما بينهما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة تخصّص اللاحقة السابقة و تقرّرها، أي: هو الجامع لهذه الأوصاف، من الإلهيّة و الربوبيّة، و خلق كلّ شي ء و إنشائه بحيث لا يمتنع عليه شي ء، و الوحدانيّة الّتي لا ثاني له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف و من أيّ وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، مع وضوح الدلالة على توحيده؟! كَذلِكَ مثل ما أفك و صرف هؤلاء يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: يؤفك عن الحقّ كلّ من جحد بآيات اللّه و لم يتأمّلها، و لم يكن همّه طلب الحقّ و خشية العاقبة. و هم من تقدّمهم من أكابرهم و رؤسائهم، فإنّهم هم الّذين صرفوهم عن الحقّ.

[سورة غافر [40]: الآيات 64 الى 68]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ

ص: 152


1- الحجّ: 66.
2- العاديات: 6.
3- إبراهيم: 34.

[64] هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [65] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [66] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [67] هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [68]

ثمّ ذكر سبحانه استدلالا آخر بأفعال أخر مخصوصة على توحيده، فقال:

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً أي: قبّة. و منه: أبنية العرب لمضاربهم، لأنّ السماء في منظر العين كقبّة مضروبة على وجه الأرض. وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن خلقكم منتصبي القامة، بادي البشرة، متناسبي الأعضاء و التخطيطات، متهيّئين لمزاولة الصنائع و اكتساب الكمالات. قيل لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان.

و عن ابن عبّاس: خلق ابن آدم قائما معتدلا، يأكل بيده، و يتناول بيده، و كلّ ما خلق اللّه غيره يتناول بفيه.

وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اللذائذ، فإنّه ليس شي ء من الحيوان له طيّبات المآكل و المشارب مثل ما خلق اللّه سبحانه لابن آدم، فإنّ أنواع اللذّات و الطيّبات الّتي خلقها اللّه تعالى لهم- من الثمار و فنون النبات و اللحوم و غير ذلك- ممّا لا

ص: 153

يحصى كثرة.

ذلِكُمُ أي: فاعل هذه الأشياء اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فإنّ كلّ ما سواه مربوب؛ مفتقر بالذات، معرض للزوال.

هُوَ الْحَيُ المتفرّد بالحياة الذاتيّة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته و صفاته فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة، من الشرك و الرياء. قائلين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عن ابن عبّاس: من قال لا إله إلّا اللّه فليقل على أثرها: الحمد للّه ربّ العالمين.

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج العقليّة و الآيات السمعيّة، فإنّها مقوّية لأدلّة العقل، و مؤكّدة لها، و مضمّنة ذكرها، نحو قوله تعالى: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (1). و أشباه ذلك من التنبيهات على أدلّة العقل. و لا شبهة أنّ تناصر الأدلّة العقليّة و السمعيّة أقوى في إبطال مذهبهم، و إن كانت أدلّة العقل وحدها كافية.

وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أن أنقاد له. أو أخلص له ديني.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أطفالا.

و التوحيد لإرادة الجنس، أو على تأويل كلّ واحد منكم ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ يتعلّق اللام فيه بمحذوف تقديره: ثمّ يبقيكم لتبلغوا. و كذا في قوله: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً و يجوز عطفه على «لتبلغوا». و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص و هشام:

شيوخا بضمّ الشين. وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة. أو قبل بلوغ الأشدّ. أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. وَ لِتَبْلُغُوا أي: و يفعل ذلك لتبلغوا أَجَلًا مُسَمًّى هو وقت الموت. و قيل: يوم القيامة. وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من الحجج و العبر.

هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ يحييكم و يميتكم. فأوّلكم من تراب، و آخركم إلى

ص: 154


1- الصافّات: 95- 96.

تراب. فَإِذا قَضى أَمْراً فإذا أراده فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فإنّما يكوّنه من غير كلفة و لا معاناة، و لا مدّة و لا عدّة، و من غير أن يتعذّر بل يتعسّر عليه. فهو بمنزلة ما يقال له: كن فيكون، لأنّه سبحانه يخاطب المعدوم بالتكوّن. و الفاء الأولى للدلالة على أنّ ذلك نتيجة ما سبق من قدرته على الإحياء و الإماتة، و سائر أفعاله المحكمة المتقنة، من حيث إنّه يقتضي قدرة ذاتيّة غير متوقّفة على العدد و الموادّ.

كأنّه قال: فلذلك الاقتدار الذاتي إذا قضى أمرا كان أهون شي ء و أسرعه.

[سورة غافر [40]: الآيات 69 الى 76]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ [69] الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [70] إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [71] فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [72] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ [73]

مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ [74] ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [75] ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [76]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ في إبطالها و دفعها أَنَّى يُصْرَفُونَ أين يقلبون عن التصديق به؟ و لو كانوا يخاصمون في آيات اللّه بالنظر في صحّتها و الفكر فيها، لما ذمّهم اللّه تعالى. و كرّر (1) ذمّ المجادلة لتعدّد المجادل، أو

ص: 155


1- في الآية 35 و 56 و 69.

المجادل فيه، أو للتوكيد.

ثمّ وصفهم بالتكذيب فقال: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بالقرآن، أو بجنس الكتب السماويّة وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب، أو الوحي و الشرائع فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ جزاء تكذيبهم، فيعرفون أنّ ما دعوتهم إليه حقّ، و ما ارتكبوه ضلال و فساد.

إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ظرف ل «يعلمون» إذ المعنى على الاستقبال، و إن كان «إذ» للمضيّ. و التعبير عن الاستقبال بلفظ المضيّ لتيقّنه، فلا يكون ذلك مثل قولك: سوف أصوم أمس. وَ السَّلاسِلُ عطف على الأغلال. أو مبتدأ خبره يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ و العائد محذوف، تقديره: يسحبون- أي: يجرّون- بها في الماء الحارّ الّذي قد انتهت حرارته. و هو على الأوّل حال.

ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي: يقذفون و توقد بهم في جميع جوانبهم. من:

سجر التنّور إذا ملأه بالوقود. و منه: السجير للصديق، كأنّه سجر بالحبّ، أي:

ملي ء. و المعنى: أنّهم في النار، فهي محيطة بهم، و هم مسجورون بالنار، مملوءة بها أجوافهم. و منه: قوله: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (1). و المراد:

تعذيبهم بأنواع من العذاب، و ينقلون من بعضها إلى بعض.

ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عن عيوننا، فلا نراهم لننتفع بهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً بل تبيّن لنا أنّا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم، كقولك: حسبت أنّ فلانا شي ء، فإذا هو ليس بشي ء، إذا لم تر عنده خيرا.

كَذلِكَ مثل ضلال آلهتهم عنهم يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ يضلّهم عن آلهتهم، حتّى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا. أو المعنى: كما أضلّ اللّه أعمال هؤلاء و أبطل ما كانوا يؤمّلونه، كذلك يفعل بجميع من يتديّن بالكفر، فلا ينتفعون

ص: 156


1- الهمزة: 6- 7.

بشي ء من أعمالهم.

و قيل: يضلّ الكافرين عن طريق الجنّة و الثواب، كما أضلّهم عمّا اتّخذوه إلها، بأن صرفهم عن الطمع في نيل منفعة من جهتها.

و الآية لا تنافي تفسير قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (1) بأنّهم مقرونون بآلهتهم، لجواز أن يضلّوا عنهم حين وبّخوا و قيل لهم:

أينما كنتم تشركون من دون اللّه فيغيثوكم و يشفعوا لكم، و أن يكونوا معهم في سائر الأوقات.

ذلِكُمْ الإضلال بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ و هو الشرك و الطغيان وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسّعون في الفرح تبطّرا و تكبّرا، و العدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.

ثمّ حكى سبحانه عن هؤلاء الكفّار أنّه يقال لهم: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ الأبواب السبعة المقسومة لكم في قوله تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (2) خالِدِينَ فِيها مقدّرين الخلود فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحقّ جهنّم. و كان مقتضى النظم: فبئس مدخل المتكبّرين، كما تقول: زر بيت اللّه فنعم المزار، و لكن لمّا كان الدخول المقيّد بالخلود سبب الثواء- أي: الإقامة- عبّر بالمثوى. و إنّما أطلق عليه اسم «بئس» مع كونه حسنا، لأنّ الطبع ينفر عنه كما ينفر العقل عن القبيح.

[سورة غافر [40]: آية 77]

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [77]

ص: 157


1- الأنبياء: 98.
2- الحجر: 44.

و بعد تهديد الكفّار أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على مقاساته أذيّتهم، فقال:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصر لأنبيائه، و الانتقام من أعدائه حَقٌ كائن لا محالة. أو ما وعد اللّه به المؤمنين على الصبر- من الثواب في الجنّة- حقّ لا شكّ فيه.

فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ في حياتك. أصله: إن نرك. و «ما» مزيدة لتأكيد الشرطيّة، و لذلك لحقت النون الفعل، و لا تلحق مع «إن» وحدها بدون «ما»، فلا يقال: إن تكرمنّي أكرمك، و لكن: إمّا تكرمنّي أكرمك. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ و هو القتل و الأسر. و إنّما قال: «بعض الّذي» لأنّ المعجّل من عذابهم في الدنيا هو بعض ما يستحقّونه.

أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة، فننتقم منهم أشدّ الانتقام، و لا يفوتوننا. و نحوه قوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ* أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (1). و هو جواب «نتوفّينّك». و جواب «نرينّك» محذوف، مثل: فذاك. و يجوز أن يكون جوابا لهما، بمعنى: إن نعذّبهم في حياتك أو لم نعذّبهم، فإنّا نعذّبهم في الآخرة أشدّ العذاب. و يدلّ على شدّته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.

[سورة غافر [40]: آية 78]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ [78]

ص: 158


1- الزخرف: 41- 42.

روي: أنّ المشركين قد اقترحوا بالمعجزات عنادا بعد ظهور ما يغنيهم عنها، فقال سبحانه تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أخبارهم وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ذكرهم، إذ على المشهور عدد الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و المذكور قصصهم أشخاص معدودة.

و قيل: إنّ عددهم ثمانية آلاف نبيّ، أربعة آلاف من بني إسرائيل، و أربعة آلاف من غيرهم.

وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بمعجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و أمره، فإنّ المعجزات عطايا قسّمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها و الاستبداد بإتيان المقترح بها.

فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا أو الآخرة قُضِيَ بِالْحَقِ بإنجاء المحقّ و تعذيب المبطل وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ المعاندون باقتراح الآيات، فأنكروها و سمّوها سحرا. و المبطل بمعنى صاحب الباطل، أو الّذي يخسر الجنّة، و يدخل في النار بدلا منها.

[سورة غافر [40]: الآيات 79 الى 81]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ [79] وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [80] وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [81]

ثمّ عدّد سبحانه نعمه على خلقه فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ من الإبل و البقر و الغنم لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ فإنّ من جنسها ما يؤكل كالغنم، و منها

ص: 159

ما يؤكل و يركب، كالإبل و البقر.

و قيل: المراد بالأنعام هاهنا الإبل خاصّة، لأنّها الّتي تركب و يحمل عليها في أكثر العادات.

وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كالألبان و الجلود و الأوبار و الأصواف و الأشعار وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بأن تركبوها و تبلغوا المواضع الّتي تقصدونها بحوائجكم بالمسافرة عليها وَ عَلَيْها في البرّ وَ عَلَى الْفُلْكِ في البحر تُحْمَلُونَ

و إنّما قال: «وَ عَلَى الْفُلْكِ» و لم يقل: في الفلك، للمزاوجة. أو لأنّ معنى الإيعاء (1) و معنى الاستعلاء كلاهما مستقيم، لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها. فلمّا صحّ المعنيان صحّت العبارتان، كما قال: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (2).

و لم يقل: و لتأكلوا، ليكون موافقا لما قبله و ما بعده في التعليل، كما هو مقتضى النظم، لأنّ الركوب قد يكون في الحجّ و الغزو، و في بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم. و هذه أغراض دينيّة إمّا واجبة أو مندوبة ممّا يتعلّق به إرادة الحكيم. و أمّا الأكل و إصابة المنافع فمن جنس المباح الّذي لا يتعلّق به أمره، لأنّ الأمر لا يكون إلّا بما فيه ترجيح من واجب أو ندب، و المباح إنّما يكون مساوي الطرفين لا رجحان فيهما أصلا في نظر الشرع. فلأجل ذلك الفرق أورد الغرض في الركوب، و ترك في الأكل. أو للفرق بين العين و المنفعة.

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ دلالة الدالّة على كمال قدرته و فرط رحمته فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ جاءت على اللغة المستفيضة المشهورة. و قولك: فأيّة آيات اللّه، قليل، لأنّ

ص: 160


1- أوعيت الزاد و المتاع في الوعاء، إذا جعلته في الوعاء و أدخلته فيه.
2- هود: 40.

التفرقة بين المذكّر و المؤنّث في الأسماء غير الصفات- نحو: حمار و حمارة- غريب، و هي في «أيّ» أغرب، لإبهامه. و المعنى: أيّ آية من تلك الآيات تُنْكِرُونَ فإنّها لظهورها لا تقبل الإنكار. و هو ناصب «أيّ»، إذ لو قدّرته متعلّقا بضميره كان الأولى رفعه.

[سورة غافر [40]: الآيات 82 الى 85]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [82] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [83] فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [84] فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [85]

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الّذين جحدوا آيات اللّه، و أنكروا أدلّته الدالّة على توحيده: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ ما بقي منهم من القصور و المصانع و نحوهما.

و قيل: آثار أقدامهم في الأرض، لعظم أجرامهم. فَما أَغْنى عَنْهُمْ نافية، أو استفهاميّة منصوبة ب «أغنى»، أي: أيّ شي ء أغنى عنهم؟! ما كانُوا يَكْسِبُونَ موصولة، أو مصدريّة مرفوعة به، أي: مكسوبهم، أو كسبهم.

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات فَرِحُوا

ص: 161

بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و استحقروا علم الرسل. و المراد بالعلم عقائدهم الزائغة و شبههم الداحضة، كقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ (1). و هو قولهم: لا نبعث و لا نعذّب. وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى (2). وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (3). و كانوا يفرحون بذلك، و يدفعون به البيّنات و علم الأنبياء، كما قال عزّ و جلّ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (4). و سمّاها علما على زعمهم تهكّما بهم.

أو (5) العلوم الطبيعيّة و الفلسفة و التنجيم، و علوم الدهريّين من بني يونان.

و كانوا إذا سمعوا بوحي اللّه دفعوه، و صغّروا علم الأنبياء إلى علمهم.

و عن سقراط: أنّه سمع بموسى عليه السّلام، و قيل له: لو هاجرت إليه. فقال: نحن قوم مهذّبون، فلا حاجة إلى من يهذّبنا.

أو علمهم بأمور الدنيا، و معرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (6). ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ (7). فلمّا جاءهم الرسل بعلوم الديانات- و هي أبعد شي ء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، و ذمّ الملاذّ و الشهوات- لم يلتفتوا إليها، و صغّروها و استهزؤا بها، و اعتقدوا أنّه لا علم أنفع و أجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.

أو علم الأنبياء. و فرحهم به ضحكهم منه و استهزاؤهم به. و يؤيّده وَ حاقَ

ص: 162


1- النمل: 66.
2- فصّلت: 50.
3- الكهف: 36.
4- الروم: 32.
5- عطف على قوله: و المراد بالعلم عقائدهم ...، في بداية الفقرة السابقة.
6- الروم: 7.
7- النجم: 30.

و حلّ و نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ جزاء ما كانوا به يَسْتَهْزِؤُنَ

و قيل: الفرح أيضا للرسل، فإنّهم لمّا رأوا تمادي جهل الكفّار و سوء عاقبتهم، فرحوا بما أوتوا من العلم، و شكروا اللّه عليه، و حاق بالكافرين جزاء جهلهم و استهزائهم.

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدّة عذابنا. و منه قوله تعالى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ (1).

قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون أصنامهم.

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا لامتناع قبوله حينئذ، لأنّ فعل الملجأ لا يقبل، و لا يستحقّ به المدح. و لذلك قال: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ» بمعنى: لم يصحّ و لم يستقم. و لم يقل: فلم ينفعهم إيمانهم.

و ترادف هذه الفاءات، أمّا في قوله: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ» فلأنّه نتيجة قوله:

«كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ». و أمّا في قوله: «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» فجار مجرى البيان و التفسير لقوله: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ». كقولك: رزق زيد المال، فمنع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء. و قوله «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» تابع لقوله «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ». كأنّه قال: فكفروا، فلمّا رأوا بأسنا آمنوا. و كذلك: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ» تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس اللّه.

سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي: سنّ اللّه ذلك سنّة ماضية في العباد.

و المراد الطريقة المستمرّة من فعله بأعدائه الجاحدين. و هي من المصادر المؤكّدة.

وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي: وقت رؤيتهم البأس. اسم مكان استعير للزمان.

ص: 163


1- الأعراف: 165.

ص: 164

[41] سورة حم السجدة «فصّلت»

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ حم السجدة اعطي بعدد كلّ حرف منها عشر حسنات».

و روى ذريح المحاربي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره و سرورا، و عاش في هذه الدنيا محمودا مغبوطا».

[سورة فصلت [41]: الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم [1] تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [2] كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [3] بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [4]

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [5] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [6] الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [7]

ص: 165

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المؤمن بذكر المنكرين لآيات اللّه، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم إن جعل اسما للسورة كان مبتدأ، و خبره تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و إن جعل تعديدا للحروف، ف «تنزيل» خبر محذوف.

أو مبتدأ، لتخصّصه بالصفة، و خبره كِتابٌ و هو على الأوّلين بدل منه، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. و قد تقدّم (1) القول فيه.

و قيل في وجه الاشتراك في افتتاح هذه السور السبع ب «حم» و تسميتها به:

إنّها مصدّرة ببيان الكتاب، متشاكلة في النظم و المعنى. و إضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم، للدلالة على أنّه مناط المصالح الدينيّة و الدنيويّة.

فُصِّلَتْ آياتُهُ ميّزت باعتبار اللفظ، و جعلت تفاصيل في معان مختلفة، من أحكام و أمثال و مواعظ و وعد و وعيد و غير ذلك.

قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح أو الحال من «فصّلت». و فيه امتنان بسهولة قراءته و فهمه.

لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصّلة المبيّنة بلسانهم العربيّ المبين، لا يلتبس عليهم شي ء منه. أو لأهل العلم و النظر.

و هو صفة اخرى ل «قرآنا». أو صلة ل «تنزيل» أو ل «فصّلت» أي: تنزيل من اللّه لأجلهم، أو فصّلت آياته لهم. و الأجود أن يكون صفة، لوقوعه بين الصفات.

و المعنى: قرآنا عربيّا كائنا لقوم يعلمون.

بَشِيراً للعاملين به وَ نَذِيراً للمخالفين له فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبّره و قبوله فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمّل و طاعة، فكأنّهم لا يسمعونه رأسا. من قولك: تشفّعت إلى فلان فلم يسمع قولي. و لقد سمعه، و لكنّه لمّا لم يقبله و لم يعمل

ص: 166


1- راجع ص 54، ذيل الآية 1 من سورة الزمر.

بمقتضاه فكأنّه لم يسمعه.

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية جمع كنان، و هو الغطاء مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ صمم. و أصله الثقل. وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ يمنعنا عن التواصل. «من» لإفادة أنّ الحجاب ابتدأ منّا و ابتدأ منك، بحيث استوعب المسافة المتوسّطة، و لم يبق فراغ.

و هذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه و اعتقادهم، كأنّها في غلف و أغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله: وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ (1). و مجّ أسماعهم له، كأنّ بها صمما عنه. و امتناع مواصلتهم و موافقتهم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. يعني: لأجل تباعد المذهبين كأنّ بينهم و ما هم عليه، و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما هو عليه، حجابا ساترا و حاجزا منيعا من جبل و نحوه.

فَاعْمَلْ على دينك، أو في إبطال أمرنا إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا، أو في إبطال أمرك. قيل: إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه و بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا محمد أنت من ذلك الجانب و نحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك و مذهبك، إنّنا عاملون على ديننا و مذهبنا.

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لست ملكا و لا جنّيّا لا يمكنكم التلقّي منه، و لا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول و الأسماع، و إنّما أدعوكم إلى التوحيد و الاستقامة في العمل، و قد يدلّ عليهما دلائل العقل و شواهد النقل.

فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستقيموا في أفعالكم متوجّهين إليه. أو فاستووا إليه بالتوحيد و الإخلاص، غير ذاهبين يمينا و شمالا، و لا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان وَ اسْتَغْفِرُوهُ و توبوا إليه ممّا أنتم عليه من سوء العقيدة و العمل.

ثمّ هدّدهم على ذلك بقوله: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من فرط جهالتهم

ص: 167


1- البقرة: 88.

و استخفافهم باللّه تعالى الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم، و عدم إشفاقهم على الخلق، و حرصهم على حبّ الدنيا، و ذلك من أعظم الرذائل، و أقرب الأسباب إلى، الكفر.

و فيه دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع، و حثّ شديد على أداء الزكاة، و تخويف بليغ من منعها، حيث جعله مقرونا بالكفر.

و عن عطاء عن ابن عبّاس أنّ معناه: لا يفعلون ما يزكّي أنفسهم، و هو الإيمان و الطاعة.

وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ حال مشعرة بأنّ امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا و إنكارهم الآخرة، فإنّ المال أحبّ الأشياء إلى الإنسان، فإذا بذله في سبيل اللّه دلّ ذلك على ثباته في الدين و صدق نيّته.

و عن الفرّاء: أن ذكر الزكاة في هذا الموضع لأجل أنّ قريشا كانت تطعم الحاجّ و تسقيهم، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة فصلت [41]: الآيات 8 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [8] قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ [9] وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [10]

ثمّ عقّب ما ذكره من وعيد الكافرين بذكر الوعد للمؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ لا يمنّ به عليهم. من المنّ، و أصله القطع، من: مننت الحبل إذا قطعته.

ص: 168

و قيل: نزلت في المرضى و الهرمى و الزمنى، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون.

قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ بتحقيق الهمزتين، أو الثانية بين بين، أو بألف بينهما. و الاستفهام للتعجيب. و المعنى: كيف تستجيزون أن تكفروا بمن خلق الأرضين السبع فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين. أو نوبتين، بأن خلق في كلّ نوبة ما خلق في أسرع ما يكون.

و يحتمل أن يكون المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة، و من خلقها في يومين أنّه خلق لها أصلا مشتركا، ثمّ خلق لها صورا بها صارت أنواعا، و كفرهم به إلحادهم في ذاته و صفاته.

وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أمثالا و أشباها، و لا يصحّ أن يكون له ندّ ذلِكَ الّذي خلق الأرض في يومين رَبُّ الْعالَمِينَ خالق جميع ما وجد من الممكنات و مربّيها، و مالك التصرّف فيهم.

وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثابتات. استئناف غير معطوف على «خلق» للفصل بما هو خارج عن الصلة. مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها ليظهر ما فيها من وجوه الاستبصار، و تكون منافعها معرّضة للطلّاب، حاضرة لمحصّليها.

و ليبصر أنّ الأرض و الجبال أثقال على أثقال، كلّها مفتقرة إلى ممسك لا بدّ لها منه، و هو ممسكها عزّ و علا بقدرته. و لو كانت تحتها كالأساطين لاستقرّت الأرض عليها، أو كانت مركوزة فيها كالمسامير لمنعت من الميدان. و أيضا لفاتت الفوائد المذكورة.

وَ بارَكَ فِيها و أكثر خيرها و أنماها، بأن خلق فيها أنواع النباتات و الحيوانات وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أرزاق أهلها و معايشهم و ما يصلحهم، بأن عيّن لكلّ نوع ما يصلحه و يعيش به. أو أقواتا تنشأ منها، بأن خصّ حدوث كلّ

ص: 169

قوت بقطر من أقطارها.

فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ في تتمّة أربعة أيّام من حين ابتداء الخلق. فاليومان الأوّلان داخلان فيها، كما تقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيّام، و إلى الكوفة في خمسة عشر، أي: في تتمّة خمسة عشر. و لم يقل: في يومين كما في الأوّل، للإشعار باتّصالهما باليومين الأوّلين، و التصريح على الفذلكة لمدّة خلق اللّه الأرض و ما فيها.

سَواءً أي: استوت سواء، بمعنى استواء. و الجملة صفة «أيّام». و يدل عليه قراءة يعقوب بالجرّ. و المعنى: أربعة أيّام كاملة مستوية بلا زيادة و لا نقصان.

و قيل: حال من الضمير في «أقواتها» أي: قدّر الأقوات في الأرض حال كون الأرض مستوية في هذا الحكم.

لِلسَّائِلِينَ متعلّق بمحذوف تقديره: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض و ما فيها؟ أو ب «قدّر» أي: قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها، المحتاجين إليها من المقتاتين.

و إنّما خلق الأرض و ما فيها في هذه المدّة على التأنّي و التدريج، مع أنّه كان قادرا على إيجادها لحظة واحدة، ليعلم أنّ من الصواب التأنيّ في الأمور، و ترك الاستعجال فيها، كما

في الحديث: «التأنّي من الرحمن، و العجلة من الشيطان».

و ليعلم بذلك أنّها صادرة عن قادر مختار عالم بالمصالح و بوجوه الأحكام، إذ لو صدرت عن مطبوع أو موجب لحصلت في حالة واحدة.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد و الاثنين، و خلق الجبال يوم الثلاثاء، و خلق الشجرة و الماء و العمران و الخراب يوم الأربعاء. فتلك أربعة أيّام. و خلق يوم الخميس السماوات، و خلق يوم الجمعة الشمس و القمر و النجوم و الملائكة و آدم».

ص: 170

[سورة فصلت [41]: الآيات 11 الى 14]

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [11] فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [12] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ [13] إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [14]

و لمّا بيّن خلق الأرض و ما فيها، ذكر خلق السماوات، فقال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قصد نحوها. من قولهم: استوى إلى مكان كذا، إذا توجّه إليه توجّها لا يلوي على غيره. و هو من الاستواء الّذي هو ضدّ الاعوجاج. و نحوه قولهم: استقام إليه و امتدّ إليه. و منه قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ (1).

و المعنى: ثمّ دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض و ما فيها، من غير صارف يصرفه عن ذلك. و الظاهر أنّ «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقين، لا للتراخي في المدّة، لقوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (2). و دحوها متقدّم على خلق الجبال من فوقها.

وَ هِيَ دُخانٌ ظلمانيّ. قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات و الأرض على

ص: 171


1- فصّلت: 6.
2- النازعات: 30.

الماء، فأخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء و علا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثمّ فتقها فجعلها أرضين، ثمّ خلق السماء من الدخان المرتفع.

و يحتمل أنّه أراد بالدخان مادّتها و الأجزاء المتصغّرة الّتي تركّبت منها.

فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من التأثير و التأثّر، و أبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة و الكائنات المتنوّعة. و المعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل و الوصف، أي: ائتي يا أرض مدحوّة قرارا و مهادا لأهلك، و ائتي يا سماء مقبّبة سقفا لهم. أو ائتيا في الوجود، على أنّ الخلق السابق بمعنى التقدير.

و قيل: إتيان السماء حدوثها، و إتيان الأرض أن تصير مدحوّة.

و يجوز أن يكون المعنى: لتأت كلّ واحدة منكما صاحبتها الإتيان الّذي أريده و تقتضيه حكمتي و تدبيري، من كون الأرض قرارا للسماء، و كون السماء سقفا للأرض.

طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي: شئتما ذلك أو أبيتما. و المراد إظهار كمال قدرته، و وجوب وقوع مراده، لا إثبات الطوع و الكره لهما. و هما مصدران وقعا موقع الحال، أي: طائعين أو كارهين.

قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين بالذات. و الأظهر أنّ المراد تصوير تأثير قدرته فيهما، و تأثّرهما بالذات عن قدرته، من غير أن يحقّق شي ء من الخطاب و الجواب. و نحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقّني؟ قال الوتد: سل من يدقّني فلم يتركني. أو تمثيلهما بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع، كقوله: «كن فيكون». فمعنى إتيانهما و امتثالهما: أنّه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، و وجدتا كما أرادهما، و كانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع. فهو من المجاز الّذي يسمّى التمثيل. و ما قيل: إنّه تعالى خاطبهما و أقدرهما على الجواب

ص: 172

إنّما يتصوّر على الوجه الأوّل و الأخير لا المتوسّط، لأنّ الإقدار فرع الوجود.

و إنّما قال: «طائعين» و لم يقل: طائعتين على اللفظ، أو طائعات على المعنى، لأنّهما سماوات و أرضون، باعتبار كونهما مخاطبتين، فتكونا كقوله:

وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (1).

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فخلقهنّ خلقا إبداعيّا، و أتقن أمرهنّ. و الضمير للسماء على المعنى، أو مبهم. و «سبع سموات» حال على الأوّل، و تمييز على الثاني. فِي يَوْمَيْنِ قيل: خلق السماوات يوم الخميس، و الشمس و القمر و النجوم يوم الجمعة. وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها شأنها و ما يتأتّى منها، بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا. و قيل: أوحى إلى أهلها بأوامره.

وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ فإنّ الكواكب كلّها ترى كأنّها تتلألأ عليها وَ حِفْظاً و حفظناها من الآفات أو من المسترقة حفظا. و قيل: مفعول له على المعنى، كأنّه قال: و خصّصنا السماء الدّنيا بمصابيح زينة و حفظا. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ البالغ في القدرة و العلم.

فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مهلكة تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم. أو فحذّرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنّه صاعقة. مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ.

إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ حال من «صاعِقَةِ عادٍ». و لا يجوز جعله صفة ل «صاعقة»، أو ظرفا ل «أنذرتكم»، لفساد المعنى. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أتوهم من جميع جوانبهم، و اجتهدوا بهم من كلّ جهة. أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عمّا جرى فيه على الكفّار، و من جهة المستقبل بالتحذير عمّا أعدّ لهم في الآخرة. و كلّ من اللفظين يحتملهما. أو من قبلهم و من بعدهم، إذ قد بلغهم خبر

ص: 173


1- يوسف: 4.

المتقدّمين، و أخبرهم هود و صالح عن المتأخّرين، داعيين إلى الإيمان بهم أجمعين.

و يحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة، كقوله تعالى: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ (1).

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بأن لا تعبدوا. أو أي: لا تعبدوا. أو مخفّفة من الثقيلة، أصله: بأنّه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن و الحديث قولنا لكم: لا تعبدوا.

قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً برسالته فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم كافِرُونَ إذ أنتم بشر مثلنا، لا فضل لكم علينا.

[سورة فصلت [41]: الآيات 15 الى 18]

فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [15] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ [16] وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [17] وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [18]

فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فتعظّموا فيها على أهلها بغير استحقاق وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً اغترارا بقوّتهم و شوكتهم. قيل: كان من قوّتهم أنّ الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده. أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ

ص: 174


1- النحل: 112.

مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة، فإنّه قادر بالذات، مقتدر على ما لا يتناهى، قويّ على ما لا يقدر عليه أحد غيره وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعرفون أنّها حقّ فينكرونها. و هو عطف على «فاستكبروا».

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة تهلك بشدّة بردها. من الصرّ، و هو البرد الّذي يصرّ، أي: يجمع. أو شديدة الصوت في هبوبها. من الصرير. فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ جمع نحسة، من: نحس نحسا، نقيض: سعد سعدا. و قرأ الحجازيّان و البصريّان بالسكون، على التخفيف، أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر.

و قيل: كنّ آخر الشوّال، من الأربعاء إلى الأربعاء. و ما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء.

لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أضاف العذاب إلى الخزي- و هو الذلّ- على قصد وصفه به، من إضافة الموصوف إلى الصفة، لقوله: وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى و هو في الأصل صفة المعذّب، و إنّما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة. وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم.

وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فدللناهم على الحقّ، بنصب الحجج و إرسال الرسل فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الضلالة على الهدى، و الكفر على الإيمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ صاعقة من السماء فأهلكتهم. و إضافتها إلى العذاب و وصفه بالهون للمبالغة، أو بحذف المضاف، أي: ذي الهون، و هو الهوان- أي: العذاب- الّذي يهينهم. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة و الكفر.

وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ من تلك الصاعقة.

[سورة فصلت [41]: الآيات 19 الى 24]

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [19] حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [20]

ص: 175

وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [21] وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [22] وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [23]

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [24]وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ و قرأ نافع: نحشر، بالنون المفتوحة و ضمّ الشين، و نصب «أعداء». فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم لئلّا يتفرّقوا.

و هو عبارة عن كثرة أهل النار.

حَتَّى إِذا ما جاؤُها إذا حضروها. و «ما» مزيدة لتأكيد اتّصال الشهادة بالحضور. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بأن ينطقها اللّه، أو يظهر عليها آثارا تدلّ على ما اقترف بها، فينطق بلسان الحال.

وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا سؤال توبيخ أو تعجّب. و لعلّ المراد بالجلود النفس الحيوانيّة. قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ أي: ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شي ء. أو ليس نطقنا بعجب من قدرة اللّه الّذي أنطق كلّ حيّ. و لو أوّل الجواب و النطق بدلالة الحال بقي الشي ء عامّا في الموجودات الممكنة. وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود، و أن يكون استئنافا.

ص: 176

وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ أي:

كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، و ما ظننتم أنّ أعضاءكم تشهد عليكم بها، فما استترتم عنها. و فيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقّق أنّه لا يمرّ عليه حال إلا و هو عليه رقيب. وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

وَ ذلِكُمْ إشارة إلى ظنّهم هذا. و هو مبتدأ، و قوله: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ خبران له. و يجوز أن يكون «ظنّكم» بدلا، و «أرداكم» خبرا.

فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المنزلين.

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ لا خلاص لهم عنها وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا يسألوا العتبى. و هي الرجوع إلى ما يحبّون. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين إليها.

و نظيره قوله تعالى حكاية: أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (1).

[سورة فصلت [41]: الآيات 25 الى 29]

وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ [25] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [26] فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [27] ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما

ص: 177


1- إبراهيم: 21.

كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [28] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [29]

وَ قَيَّضْنا أي: قدّرنا لَهُمْ للكفرة قُرَناءَ أخدانا (1) من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، و هو القشر. و قيل: أصل القيض البدل.

و منه: المقايضة للمعاوضة. فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا و اتّباع الشهوات وَ ما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة و إنكاره. فدعوهم إلى التكذيب به، و أن لا جنّة و لا نار، و لا بعث و لا حساب.

وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: كلمة العذاب فِي أُمَمٍ في جملة أمم بالخسران و الهلاك. و هو حال من الضمير المجرور في «عليهم». قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و قد عملوا مثل أعمالهم إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب. و الضمير لهم و للأمم.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ و عارضوه بالهذيان. أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوّشوه على القارئ. يقال: لغي يلغى، و لغا يلغو، إذا هذى.

لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي: تغلبونه على قراءته.

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامّة الكفّار وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء سيّئات أعمالهم. و قد سبق مثله.

ذلِكَ إشارة إلى الأسوأ، مبتدأ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره النَّارُ عطف بيان للجزاء، أو خبر محذوف لَهُمْ فِيها في النار دارُ الْخُلْدِ فإنّها دار إقامتهم.

و هو كقولك: في هذه الدار دار سرور، و تعني بالدار عينها، على أنّ المقصود هو

ص: 178


1- أخدان جمع خدن، و هو الحبيب و الصاحب.

الصفة. جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ينكرون الحقّ. أو يلغون، و ذكر الجحود الّذي هو سبب اللغو.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعني: شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة و العصيان. و قيل: هما إبليس و قابيل، فإنّهما سنّا الكفر و القتل.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر و السوسي: أرنا بالتخفيف، كفخذ في فخذ. و قرأ الدوري باختلاس (1) كسرة الراء.

نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما انتقاما منهما. و قيل: نجعلهما في الدرك الأسفل. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ مكانا، أو ذلّا.

[سورة فصلت [41]: الآيات 30 الى 36]

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [30] نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ [31] نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [32] وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [33] وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ

ص: 179


1- اختلس القارئ الحركة: لم يبلّغها. و يقابله الإشباع. و هو تبليغ الحركة حتّى تصير حرف مدّ.

[34] وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [35] وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [36]

و لمّا ذكر سبحانه و عيد الكفّار، عقّبه بذكر الوعد للمؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ اعترافا بربوبيّته، و إقرارا بوحدانيّته ثُمَّ اسْتَقامُوا ثبتوا على الإقرار و مقتضياته، من فعل الأعمال الصالحة، و ترك الأفعال السيّئة. و «ثمّ» لتراخي الاستقامة عن الإقرار في الرتبة و فضلها عليه، من حيث إنّ الإقرار مبدأ الاستقامة، أو لأنّها عسر قلّما تتبع الإقرار.

و عن عليّ عليه السّلام معناه: «أدّوا الفرائض بعد الإقرار».

و قال سفيان بن عبد اللّه الثقفي: «قلت: يا رسول اللّه أخبرني بأمر أعتصم به.

قال: قل: ربّي اللّه ثمّ استقم. قال: فقلت: ما أخوف ما تخاف عليّ. فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلسان نفسه فقال: هذا».

و عن أنس قال: قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية ثمّ قال: «قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم. فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها».

و روى محمّد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الاستقامة، فقال: هي و اللّه ما أنتم عليه».

تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت، و في القبر، و إذا قاموا من قبورهم أَلَّا تَخافُوا ما تقدمون عليه وَ لا تَحْزَنُوا على ما خلّفتم. و الخوف: غمّ يلحق لتوقّع المكروه. و الحزن: غمّ يلحق لوقوعه، من فوات نافع أو حصول ضارّ. و المعنى: إنّ اللّه كتب لكم الأمن من كلّ غمّ، فلن تذوقوه أبدا. و «أن» مصدريّة، أو مخفّفة مقدّرة بالباء. و أصله: بأنّه لا تخافوا. أو مفسّرة. وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا على لسان الرسل.

ص: 180

نَحْنُ معاشر الملائكة أَوْلِياؤُكُمْ أنصاركم و أحبّاؤكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نتولّى إيصال الخيرات إليكم من قبل اللّه تعالى، و نلهمكم الحقّ، و نحملكم على الخير، بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة وَ فِي الْآخِرَةِ بالشفاعة و الكرامة، حيثما يتعادى الكفرة و قرناؤهم، و لا نفارقكم إلى أن ندخلكم الجنّة وَ لَكُمْ فِيها في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من اللذائذ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ما تتمنّون. من الدعاء بمعنى الطلب. و هو أعمّ من الأوّل.

نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ حال من «ما تدّعون» للإشعار بأنّ ما يتمنّون بالنسبة إلى ما يعطون ممّا لا يخطر ببالهم كالنزل، أي: كرزق النزيل، و هو الضيف.

وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا صورته صورة الاستفهام، و المراد به النفي. و تقديره:

و ليس أحد أحسن قولا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ إلى عبادته وَ عَمِلَ صالِحاً فيما بينه و بين ربّه وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المستسلمين لأمر اللّه تعالى، المنقادين لطاعته. و ليس الغرض أنّه تكلّم بهذا الكلام، بل المراد أنّه اتّخذ دين الإسلام مذهبه، كما تقول: هذا قول فلان، و المراد مذهبه.

و الآية عامّة في كلّ من جمع بين هذه الثلاث، و هي: أن يكون موحّدا، معتقدا لدين الإسلام، عاملا بالخير، داعيا إليه. و ما هم إلّا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل و التوحيد، الدعاة إلى دين اللّه.

و عن ابن عبّاس: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: في المؤذّنين.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الدعاء إلى الدّين من أعظم الطاعات و أجلّ الواجبات. و الداعي يجب أن يكون عاملا بعلمه، ليكون الناس إلى القبول منه أقرب، و إليه أسكن.

وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ في الجزاء و حسن العاقبة. و «لا» الثانية

ص: 181

مزيدة لتأكيد النفي. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ادفع السيّئة حيث اعترضتك بالحسنة الّتي هي أحسن منها، على أنّ المراد بالأحسن الزائد مطلقا. أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات. و مثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه، و الّتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمّك فتمدحه، و يقتل و لدك فتفتدي ولده من يد عدوّه.

و إنّما لم يقل: فادفع، لأنّه أخرجه مخرج الاستئناف، على أنّه جواب من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة. و لهذا آثر «أحسن» على الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.

و عن ابن عبّاس: «الّتي هي أحسن» الصبر عند الغضب، و الحلم عند الجهل، و العفو عند الإساءة.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ الحسنة التقيّة، و السيّئة الإذاعة».

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي: إذا فعلت ذلك صار عدوّك المشاقّ مثل الوليّ الشفيق و الحميم الشقيق.

وَ ما يُلَقَّاها و ما يلقّى هذه السجيّة الّتي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فإنّها تحبس النفس عن الانتقام وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير و كمال النفس. و قيل: الحظّ العظيم الجنّة.

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ و إن يصبك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نخس. شبّه به وسوسته، لأنّها تبعث الإنسان على ما لا ينبغي، كالدفع بما هو أسوأ. و جعل النزغ نازغا، على طريقة: جدّ جدّه. أو أريد به نازغ، وصفا للشيطان بالمصدر للمبالغة.

و المعنى: و إن صرفك الشيطان عمّا وصّيت به من الدفع بالّتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرّه، و لا تطعه، و امض على شأنك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك الْعَلِيمُ بنيّتك، أو بصلاحك.

ص: 182

[سورة فصلت [41]: الآيات 37 الى 42]

وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [37] فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ [38] وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [39] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [40] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [41]

لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [42]

ثمّ ذكر دلالات التوحيد فقال: وَ مِنْ آياتِهِ أي: حججه الدالّة على وحدانيّته، و أدلّته على صفاته الّتي باين به جميع خلقه اللَّيْلُ بذهاب الشمس عن بسيط الأرض وَ النَّهارُ بطلوعها على وجهها، و تقديرهما على وجه مستقرّ، و تدبيرهما على نظام مستمرّ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ و ما اختصّا به من النور، و ما ظهر فيهما من التدبير في المسير، و التصريف في فلك التدوير.

لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ و إن كان فيهما منافع كثيرة، لأنّهما مخلوقان

ص: 183

مأموران مثلكم وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ الضمير للأربعة المذكورة، فإنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، يقال: الأقلام بريتها و بريتهنّ. أو لمّا قال: «و من آياته» كنّ في معنى الآيات، فقيل: «خلقهنّ». و المقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنّهما من عداد ما لا يعلم. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن كنتم تقصدون بعبادتكم اللّه كما تزعمون فاسجدوا له، فإنّ السجود أخصّ العبادات.

و الآية نزلت في ناس منهم كانوا يسجدون للشمس و القمر، كالصابئين في عبادتهم الكواكب، و يزعمون أنّهم يقصدون بالسجود لهما السجود للّه، فنهوا عن هذه الواسطة، و أمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه اللّه خالصا إن كانوا إيّاه يعبدون، و كانوا موحّدين غير مشركين.

و هذا موضع السجود عندنا و عند الشافعي، للأمر به. و عند أبي حنيفة الآية الاخرى، لأنّها من تمام المعنى.

فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا و لم يمتثلوا ما أمروا به، و أبوا إلّا الواسطة، فدعهم و شأنهم فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة. و هذا عبارة عن الزلفى و مزيّة المكانة و الكرامة.

يُسَبِّحُونَ لَهُ ينزّهونه عن الأنداد بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي: دائما، لقوله: وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملّون.

وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على ربوبيّته أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة متطامنة. مستعار من الخشوع بمعنى التذلّل. و صفها بالهمود في قوله تعالى:

وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً (1). و هو خلاف وصفها بالاهتزاز و الربوّ في قوله: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تزخرفت بالنبات، كأنّها بمنزلة المختال في زيّه وَ رَبَتْ و انتفخت به إِنَّ الَّذِي أَحْياها بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من الإحياء و الإماتة.

ص: 184


1- الحجّ: 5.

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون عن الاستقامة فِي آياتِنا يقال: ألحد الحافر و لحد، إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شقّ. فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحّة و الاستقامة، و الطعن فيها، و إلقاء المزخرفات، و فعل المكاء (1) و الصفير في أثناء قراءتها. لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فنجازيهم على إلحادهم.

أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ و هم الملحدون أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ من عذاب اللّه. و هم المؤمنون المطيعون. و الاستفهام للتقرير، أي:

لا يستويان أصلا. قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا مبالغة في إحماد حال المؤمنين. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يخفى عليه شي ء منها.

ثمّ أخبر عنهم مهجّنا لهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا بعد إذ جاءَهُمْ بدل من قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا». أو مستأنف. و خبر «إنّ» محذوف، مثل: معاندون، أو يجازون بكفرهم. و عن أبي عمرو بن العلاء النحويّ:

أنّ خبره أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (2). و المراد بالذكر القرآن، لأنّهم- لكفرهم به- طعنوا فيه و حرّفوا تأويله. وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ كثير النفع، عديم النظير، أو منيع محميّ بحماية اللّه من التغيير و التبديل.

لا يَأْتِيهِ لا يتطرّق إليه الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ و هذا مثل، كأنّ الباطل لا يتطرّق إليه، و لا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتّى يصل إليه و يتعلّق به. أو المراد:

ليس في إخباره عمّا مضى باطل، و لا في إخباره عمّا يكون .

ص: 185


1- مكا مكاء: صفر بفيه.
2- فصّلت: 44.

في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها. و هذا القول مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: إنّ الباطل الشيطان. و معناه: لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا، أو يزيد فيه باطلا. و الطاعنون المبطلون و إن كانوا يطعنون فيه و يتأوّلونه بالباطل، لكنّ اللّه حماه عن تعلّق باطلهم به، بأن قيّض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم و إفساد أقاويلهم، فلم يخلّوا طعن طاعن إلّا ممحوقا، و لا قول مبطل إلّا مضمحلّا. و نحوه قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (1).

تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ أيّ حكيم حَمِيدٍ يحمده كلّ مخلوق بما ظهر عليه من نعمه.

[سورة فصلت [41]: آية 43]

ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ [43]

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تكذيب المبطلين، فقال: ما يُقالُ لَكَ أي: ما يقول لك كفّار قومك إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إلّا مثل ما قال لهم كفّار قومهم.

و قيل: معناه: ما يقول اللّه لك إلّا مثل ما قال لهم، و هو الأمر بالدعاء إلى الحقّ في عبادة اللّه و لزوم طاعته، فهذا القرآن موافق لما قبله من الكتب. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لذو رحمة سابغة لأنبيائه وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لأعدائهم. و هو على الثاني يحتمل أن يكون مقول القول. يعني: أنّ حاصل ما أوحي إليك و إليهم وعد المؤمنين بالمغفرة، و وعيد الكافرين بالعقوبة. فمن حقّه أن يرجوه أهل طاعته، و يخافه أهل معصيته.

ص: 186


1- الحجر: 9.

[سورة فصلت [41]: آية 44]

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [44]

روي: أنّ المعاندين لفرط تعنّتهم كانوا يقولون: هلّا نزّل عليك القرآن بلغة العجم. فنزلت: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا الضمير للذكر لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ بيّنت بلسان نفقهه ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌ أ كلام أعجميّ و مخاطب عربيّ؟

و الهمزة للإنكار. و الأعجميّ يقال للّذي لا يفهم كلامه.

و هذا قراءة أبي بكر و حمزة و الكسائي. و قرأ قالون و أبو عمرو بالمدّ و التسهيل. و ورش بالمدّ و إبدال الثانية ألفا. و ابن كثير و ابن ذكوان و حفص بتسهيل الثانية بغير مدّ. و هشام: أعجميّ، على الإخبار.

و المعنى: إنّ القوم غير طالبين للحقّ، و إنّما يتّبعون أهواءهم الباطلة و آراءهم الزائغة. فآيات اللّه على أيّ طريقة جاءتهم كانوا غير منفكّين عن التعنّت فيها، مقترحين غيرها، لفرط العناد و اللجاج.

لا يقال: كيف يقال عربيّ و الحال أنّ الآية نزلت في أمّة العرب؟

لأنّا نقول: مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب و المكتوب إليه، لا على أنّ المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض، و لا يوصل به ما يخيّل غرضا آخر. ألا تراك تقول- و قد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة-: اللباس طويل و اللابس قصير. و لو قلت: و اللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة و فضول قول، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس و أنوثته، و إنّما وقع في غرض غيرهما.

ص: 187

قُلْ هُوَ أي: القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً إلى الحقّ وَ شِفاءٌ لما في الصدور من كلّ شكّ و شبهة. سمّي اليقين شفاء، كما سمّي الشكّ مرضا في قوله:

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (1). وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مبتدأ خبره فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ على تقدير: هو في آذانهم ثقل وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى و ذلك لتصامّهم عن سماعه، و تعاميهم عمّا يريهم من الآيات. و من جوّز العطف على عاملين عطف قوله:

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً أي: هو للّذين لا يؤمنون في آذانهم و قر. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: انّهم لا يقبلونه، و لا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في شدّة إعراضهم عنه، مثل من يصاح به من مسافة بعيدة لا يسمع من مثلها الصوت، فلا يسمع النداء.

[سورة فصلت [41]: الآيات 45 الى 46]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [45] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [46]

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن جحود قومه له و إنكارهم لنبوّته بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق و التكذيب، كما اختلف في القرآن، فلا تحزن و لا تبخع (2) نفسك عليهم حسرات وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ و هي العدة بالقيامة، و فصل الخصومة في ذلك اليوم. أو تقدير الآجال. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا باستئصال المكذّبين قبل انقضاء آجالهم. و مثل ذلك قوله تعالى:

ص: 188


1- البقرة: 10.
2- بخع نفسه: نهكها و كاد يهلكها من غضب أو غمّ.

وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى (1). و قوله: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ (2). وَ إِنَّهُمْ و إنّ اليهود، أو الّذين لا يؤمنون مطلقا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من التوراة، أو القرآن مُرِيبٍ موجب للاضطراب و قلق النفس، موقع لهم الريبة، و هي أفظع الشك و أبلغه.

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ نفعه، لأنّ ثواب ذلك و اصل إليه قطعا وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضرّه، لأنّ عقابه يلحق به دون غيره وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله، بأن يعذّب غير المسي ء، و غير ذلك.

و إنّما قال بصيغة المبالغة، مع أنّه لا يظلم مثقال ذرّة، للإشعار بأنّ من فعل الظلم و إن قلّ- و هو عالم بقبحه، و بأنّه غنيّ عنه- لكان ظلّاما.

و قيل: هذا على طريق الجواب لمن زعم أنّه يظلم العباد، فيأخذ أحدا بذنب غيره، و يثيبه بطاعة غيره، و لا شكّ أنّ ذلك غاية الظلم و نهاية التعدّي.

[سورة فصلت [41]: الآيات 47 الى 48]

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ [47] وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [48]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه العالم بوقت القيامة دون غيره، فقال: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: قل ذلك لهم إذا سألوا عنها، إذ لا يعلمها إلّا هو وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها من أوعيتها. جمع كمّ بالكسر، و هو وعاء الثمرة. و قرأ نافع و ابن عامر

ص: 189


1- النحل: 61.
2- القمر: 46.

و حفص: من ثمرات بالجمع، لاختلاف الأنواع.

و «ما» نافية. و «من» الأولى زائدة للاستغراق. و يحتمل أن تكون موصولة معطوفة على «الساعة». و «من» مبيّنة، بخلاف قوله: وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ بمكان، أي: ما يحدث شي ء من خروج ثمرة، و لا حمل حامل، و لا وضع واضع إِلَّا بِعِلْمِهِ إلّا مقرونا بعلمه واقعا حسب تعلّقه به. فيعلم سبحانه قدر الثمار و أجزاءها و كيفيّتها، من طعومها و روائحها و ألوانها. و يعلم ما في بطون الحبالى، و أنواع انتقاله من حال إلى حال، و كيفيّته من الطول و القصر و الوسط، و من الخداج (1) و التمام، و الذكورة و الأنوثة، و الحسن و القبح.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ ينادي المشركين أَيْنَ شُرَكائِي أضافهم إليه تعالى على زعمهم. و بيانه في قوله: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (2) و فيه تهكّم و تقريع.

قالُوا آذَنَّاكَ أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ من أحد يشهد لهم بالشركة، إذ تبرّأنا عنهم لمّا جاءنا، فما منّا اليوم إلّا من هو موحّد لك. فيكون السؤال عنهم للتوبيخ. أو من أحد يشاهدهم، لأنّهم ضلّوا عنّا.

و قيل: هو قول الشركاء، أي: ما منّا من شهيد يشهد لهم بأنّهم كانوا محقّين فيما أضافوا إلينا من الشركة.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما أي: آلهة غير اللّه كانُوا يَدْعُونَ يعبدون مِنْ قَبْلُ في الدنيا، أي: لا يرونهم، أو لا ينفعونهم، فكأنّهم ضلّوا عنهم على التفسير الأخير وَ ظَنُّوا و أيقنوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب من عذاب اللّه. و الظنّ معلّق عنه بحرف النفي.

ص: 190


1- الخداج: كلّ نقصان في شي ء.
2- القصص: 62.

[سورة فصلت [41]: الآيات 49 الى 52]

لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ [49] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [50] وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [51] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [52]

ثمّ بيّن سبحانه طريقتهم المذمومة في الدنيا بقوله: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ لا يملّ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة في النعمة وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيقة فيها فَيَؤُسٌ شديد اليأس قَنُوطٌ من فضل اللّه و رحمته. و قد بولغ فيه من طريقين: بناء فعول، و من طريق التكرير. و القنوط: أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل و ينكسر، أي: يقطع الرجاء من فضل اللّه و روحه.

و هذه صفة الكافر، لقوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (1).

وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي: إذا فرّجنا عنه بصحّة بعد مرض، أو سعة بعد ضيق لَيَقُولَنَّ هذا لِي حقّي أستحقّه، لما لي من الفضل و أعمال البرّ. أو هذا لي لا يزول عنّي. و نحوه قوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ

ص: 191


1- يوسف: 87.

قالُوا لَنا هذِهِ (1).

وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً تقوم وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي: و لئن قامت- على طريق التوهّم- كان لي عند اللّه الحالة الحسنى من الكرامة. و ذلك لاعتقاده أنّ ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفكّ عنه، أو لقياس أمر الآخرة على أمر الدنيا. و عن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا:

وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى و يقول في الآخرة: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (2). و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة.

فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فلنخبرنّهم بِما عَمِلُوا بحقيقة أعمالهم، و لنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها من أنّهم يستوجبون عليها كرامة عند اللّه. و ذلك أنّهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس، و طلبا للافتخار و الاستكبار لا غير. و كانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى و الصحّة، و أنّهم محقوقون بذلك وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد متراكم، لا يمكنهم التفصّي عنه.

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر، و أبطرته النعمة حتّى كأنّه لم يلق بؤسا قطّ، فنسي المنعم وَ نَأى بِجانِبِهِ عطفه. و هذا عبارة عن الانحراف، كما قالوا: ثنّى عطفه، و تولّى بركنه. فالمعنى: انحرف عنه تكبّرا و تجبّرا عن الاعتراف بنعم اللّه تعالى، و أعرض و تباعد عنه تكبّرا و تعظّما. أو الجانب مجاز عن النفس، كالجنب في قوله فِي جَنْبِ اللَّهِ (3). فكأنّه قال: و نأى بنفسه، كقولهم في المتكبّر:

ذهب بنفسه، و ذهبت به الخيلاء كلّ مذهب.

وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الضرّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير. مستعار ممّا له عرض متّسع، للإشعار بكثرته و استمراره، كما استعير الغلظ لشدّة العذاب. و هو أبلغ من

ص: 192


1- الأعراف: 131.
2- النبأ: 40.
3- الزمر: 56.

الطويل، إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنّك بطوله؟! قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ أي: القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ من غير نظر و اتّباع دليل مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي: من أضلّ منكم.

فوضع الموصول موضع الصلة شرحا لحالهم، و تعليلا لمزيد ضلالهم.

و توضيح المرام في هذا المقام: أنّ اللّه سبحانه أمر حبيبه بأن يقول لأهل الشرك: إنّ ما أنتم عليه من إنكار القرآن و تكذيبه ليس بأمر صادر عن حجّة قاطعة حصلتم منها على اليقين و ثلج (1) الصدور، و إنّما هو قبل النظر و اتّباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند اللّه و أن لا يكون من عنده. و أنتم لم تنظروا و لم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقّا و قد كفرتم به؟ فأخبروني من أضلّ منكم و أبعد في المشاقّة و المناصبة في أمر الحقّ، فأهلكتم بذلك أنفسكم؟

[سورة فصلت [41]: الآيات 53 الى 54]

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [53] أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ [54]

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ يعني: ما أخبرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به من الحوادث الآتية، و آثار النوازل الماضية، و ما يسّر اللّه له و لأمّته من الفتوح و الظهور على الجبابرة و الأكاسرة، و تغليب قليلهم على كثيرهم، و تسليط ضعافهم على أقويائهم، و نشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، و بسط دولته في الشرق و الغرب على وجه خارق للعادة.

ص: 193


1- أي: ارتياحها و اطمئنانها.

وَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما ظهر فيها بين أهل مكّة، و ما حلّ بهم من عجائب الصنع الدالّة على كمال قدرته. و الاستقراء يطلعك- في التواريخ و الكتب المدوّنة في مشاهد أهل الإسلام و أيّامهم- على عجائب، بحيث لا ترى وقعة من وقائعهم إلّا علما من أعلام اللّه و آية من آياته، يقوى معها اليقين، و يزداد بها الإيمان.

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ الضمير للقرآن أو الرسول، أي: يظهر لهم أنّ دين الإسلام هو دين الحقّ الّذي لا يحيد (1) عنه إلّا مكابر حسّه، مغالط نفسه.

و عن عطاء معنى الآية: سنريهم حججنا و دلائلنا على التوحيد في آفاق العالم و أقطار السماء و الأرض، من الشمس و القمر و النجوم و النباتات و الأشجار و الجبال، و في أنفسهم ما فيها من لطائف الصنع و بدائع الحكم الّتي بيّنت جملة منها في علم التشريح، حتّى يظهر لهم أنّ اللّه هو الحقّ. و ما الثبات و الاستقامة إلّا صفة الحقّ و الصدق، كما أنّ الاضطراب و التزلزل صفة الفرية و التزوير، و أنّ للباطل ريحا تخفق ثمّ تسكن، و دولة تظهر ثمّ تضمحلّ.

أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أو لم يكف ربّك. و الباء مزيدة للتأكيد، كأنّه قيل: أو لم تحصل الكفاية به. و معنى كفايته سبحانه هاهنا: أنّه بيّن للناس ما فيه كفاية، من الدلالة على توحيده و تصحيح نبوّة رسله. و لا تكاد تزاد الباء في الفاعل إلا مع «كفى». أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ بدل منه. و المعنى: أو لم يكفك أنّه تعالى على كلّ شي ء شهيد محقّق له، فيحقّق أمرك بإظهار الآيات الموعودة، كما حقّق سائر الأشياء الموعودة.

و محصول المعنى: أنّ هذا الموعود من إظهار آيات اللّه في الآفاق و في أنفسهم سيرونه و يشاهدونه، فيتبيّنون عند ذلك أنّ القرآن تنزيل عالم الغيب الّذي هو على كلّ شي ء شهيد، أي: مطّلع مهيمن، يستوي عنده غيبه و شهادته. فيكفيهم

ص: 194


1- أي: لا يميل عنه.

ذلك دليلا على أنّه حقّ، و أنّه من عنده، و لو لم يكن كذلك لما قوي هذه القوّة، و لما نصر حاملوه هذه النصرة. أو المعنى: أو لم يكف الإنسان رادعا عن المعاصي أنّه تعالى مطّلع على كلّ شي ء، لا يخفى عليه خافية.

أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ شكّ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ لقاء مجازاة ربّهم يوم البعث أَلا كلمة تنبيه إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ عالم بجمل الأشياء و تفاصيلها، ظواهرها و بواطنها، مقتدر عليها، لا يفوته شي ء منها، فهو مجازيهم على كفرهم.

ص: 195

ص: 196

[42] سورة حم عسق

اشارة

و تسمّى سورة الشورى أيضا. مكّيّة. و عن ابن عبّاس و قتادة: إلّا أربع آيات نزلت بالمدينة: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1). قال ابن عبّاس:

و لمّا نزلت هذه الآية قال رجل: و اللّه ما أنزل اللّه هذه الآية. فأنزل اللّه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (2). ثمّ إنّ الرجل تاب و قدم فنزل: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إلى قوله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (3).

و عدد آيها ثلاث و خمسون.

أبيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة حم عسق كان ممّن يصلّي عليه الملائكة، و يستغفرون له و يسترحمون».

و روى سيف بن عميرة، عن أبي عبد اللّه قال: «من قرأ حم عسق بعثه اللّه تعالى يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر، حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ فيقول:

عبدي أدمنت قراءة حم عسق و لم تدر ما ثوابها، أما لو دريت ما هي و ما ثوابها لما مللت من قراءتها، و لكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنّة، و له فيها قصر من ياقوتة حمراء أبوابها و شرفها و درجها، منها يرى ظاهرها من باطنها، و باطنها من ظاهرها.

و له فيها حوراوان من الحور العين، و ألف جارية، و ألف غلام من الولدان المخلّدين الّذين وصفهم اللّه تعالى».

ص: 197


1- الشورى: 23 و 24.
2- الشورى: 23 و 24.
3- الشورى: 25- 26.

[سورة الشورى [42]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم [1] عسق [2] كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [3] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [4]

تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [5] وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [6]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة السجدة بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم عسق لعلّهما اسمان للسورة، و لذلك فصل بينهما، و عدّا آيتين. و إن كانا اسما واحدا فالفصل ليطابق سائر الحواميم.

و قيل: إنّما فضّلت هذه السورة من بين سائر الحواميم ب «عسق»، لأنّ جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به إلّا هذه، فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب، لأنّه اسم من أسماء القرآن. و هو معنى قول قتادة، فإنّه قال: هو اسم القرآن.

و قيل: إنّ هذه السورة انفردت بأنّ معانيها أوحيت إلى سائر الأنبياء، فلذلك خصّت بهذه التسمية.

و قال عطاء: هي حروف مقطّعة منبئة عن حوادث الزمان. فالحاء من حرب، و الميم من تحويل ملك، و العين من عدوّ مقهور، و السين من الاستئصال بسنين

ص: 198

كسنيّ يوسف، و القاف من قدرة اللّه عزّ و جلّ و قهّاريّته على الجبابرة في الأرض.

و قال النيشابوري في تفسيره: «قيل: رموز إلى فتن كان عليّ عليه السّلام يعرفها.

و قيل: الحاء حكم اللّه، و الميم ملكه، و العين علمه، و السّين سناؤه، و القاف قدرته.

و قيل: الحاء حرب عليّ و معاوية، و الميم ولاية المروانيّة، و العين ولاية العبّاسيّة، و السين ولاية السفيانيّة، و القاف قدرة المهديّ. و هذه الأقاويل ممّا لا معوّل عليها.

و قال أهل التصوّف: حاء حبّه، و ميم محبوبيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عين عشقه إلى سيّده، و قاف قربه إلى سيّده، أقسم أنّه يوحي إليه و إلى سائر الأنبياء من قبله، أنّه محبوبه في الأزل، و بتبعيّته خلق الكائنات» (1).

و باقي الأقوال في ذلك مذكورة في أوّل البقرة.

كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني، أو مثل ذلك الوحي أوحى اللّه إليك و إلى الرسل من قبلك.

يعني: أنّ اللّه تعالى كرّر هذه المعاني في القرآن و في جميع الكتب السماويّة، لما فيها من التنبيه البليغ و اللطف العظيم لعباده من الأوّلين و الآخرين.

و عن عطاء، عن ابن عبّاس قال: ما من نبيّ أنزل اللّه عليه الكتاب، إلّا أنزل عليه معاني هذه السورة بلغاتهم.

و إنّما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية، للدلالة على استمرار الوحي، و أنّ إيحاء مثله عادة اللّه سبحانه.

و قرأ ابن كثير: يوحى بالفتح، على أنّ «كذلك» مبتدأ، و «يوحى» خبره المسند إلى ضميره، أي: مثل ذلك يوحى. أو مصدر، و «يوحى» مسند إلى «إليك»،

ص: 199


1- غرائب القرآن للنيسابوري 6: 67.

أي: إيحاء مثل إيحاء هذه السورة يوحى إليك.

و «اللّه» مرفوع بما دلّ عليه «يوحى». كأنّ قائلا قال: من الموحي؟ فقيل:

اللّه. كقراءة السلمي وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (1)، على البناء للمفعول و رفع «شركاؤهم»، على معنى: زيّنه لهم شركاؤهم.

و «العزيز الحكيم» صفتان له، مقرّرتان لعلوّ شأن الموحى به، أي: القرآن نزل من القادر الّذي لا يغالب، المحكم لأفعاله، كما مرّ في السورة السابقة.

أو بالابتداء (2)، كما مرّ في قراءة «نوحي» بالنون. و «العزيز» و ما بعده أخبار.

أو «العزيز الحكيم» صفتان له، و قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ خبران له. و على الوجوه الأخر استئناف مقرّر لعزّته و حكمته.

تَكادُ السَّماواتُ و قرأ نافع و الكسائي بالياء يَتَفَطَّرْنَ أي: يتشقّقن من علوّ شأن اللّه و عظمته. و يدلّ عليه مجيئه بعد قوله: «الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ». و قيل: من دعائهم له ولدا، كقوله: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ (3).

و قرأ البصريّان و أبو بكر: ينفطرن. و الأوّل أبلغ، لأنّه مطاوع: فطّر.

مِنْ فَوْقِهِنَ أي: يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانيّة. و تخصيصها على الأوّل، لأنّ أعظم الآيات و أدلّها على علوّ شأنه من فوق السماوات، و هي العرش و الكرسي و صفوف الملائكة القائلين بالتسبيح و التقديس حول العرش، و ما لا يعلم كنهه إلّا اللّه تعالى من آثار ملكوته العظمى. و على الثاني، ليدلّ على الانفطار من تحتهنّ بالطريق الأولى. و قيل: الضمير للأرض.

وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ بالسعي فيما

ص: 200


1- الأنعام: 137.
2- عطف على قوله: بما دلّ عليه، قبل خمسة أسطر.
3- مريم: 90.

يستدعي مغفرتهم، من استدعاء الحلم منه تعالى، و إعداد الأسباب المقرّبة إلى الطاعة. و هذا المعنى يعمّ المؤمن و الكافر. بل لو فسّر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقّع عمّ الحيوان، بل الجماد. و الأصحّ أنّ المراد بهم المؤمنون، لقوله:

وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا (1). و حكايته عنهم: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ (2). فالمراد بالاستغفار الشفاعة.

أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إذ ما من مخلوق إلّا و هو ذو حظّ من رحمته.

و الآية على الأوّل (3) زيادة تقرير لعظمته. فكأنّه قيل: تكاد السماوات يتفطّرن هيبة من جلاله، و احتشاما من كبريائه، و الملائكة الّذين هم مل ء السبع الطباق، و حافّون حول العرش صفوفا بعد صفوف، يداومون- خضوعا لعظمته- على عبادته و تسبيحه و تحميده، و يستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته.

و على الثاني (4)؛ دلالة على تقدّسه عمّا نسب إليه. فكأنّه قيل: يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، و الملائكة يوحّدون اللّه و ينزّهونه عمّا لا يجوز عليه من الصفات الّتي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه الّتي علم أنّهم عندها يستعصمون، مختارين غير ملجئين، و يستغفرون لمؤمني أهل الأرض الّذين تبرّؤا من تلك الكلمة و من أهلها. أو يطلبون من ربّهم أن يحلم عن أهل الأرض، و لا يعاجلهم بالعقاب، لما عرفوا في ذلك من المصالح، و حرصا على نجاة الخلق، و طمعا في توبة الكفّار و الفسّاق منهم.

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء و أندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب

ص: 201


1- غافر: 7.
2- غافر: 7.
3- أي: على قراءة: يتفطّرن.
4- أي: على قراءة: ينفطرن.

على أحوالهم و أعمالهم، لا يفوته منها شي ء، فيجازيهم بها وَ ما أَنْتَ يا محمّد عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بموكّل بهم، أو بموكل و مفوّض إليك أمرهم، و لا قسرهم على الإيمان، بل إنّما أنت منذر فحسب، فلا يضيقنّ صدرك بتكذيبهم إيّاك. و فيه تسلية له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة الشورى [42]: الآيات 7 الى 9]

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [7] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [8] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [9]

وَ كَذلِكَ الإشارة إلى مصدر: يوحي، أي: مثل ذلك الإيحاء البيّن المفهم أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أو إلى معنى الآية المتقدّمة من أنّ اللّه هو الرقيب عليهم و ما أنت برقيب عليهم و لكن نذير لهم، فإنّ هذا المعنى كرّره اللّه في كتابه في مواضع جمّة.

فيكون الكاف مفعولا به ل «أوحينا»، و قوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا حالا منه، أي: أوحيناه إليك و هو قرآن عربيّ بيّن لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، و لا تتجاوز حدّ الإنذار.

لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أهل امّ القرى. و هي مكّة. وَ مَنْ حَوْلَها من العرب وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة يجمع فيه الخلائق، أو الأرواح و الأشباح، أو العمّال و الأعمال. يقال: أنذرته كذا، و أنذرته بكذا. و قد عدّي الأوّل- أعني «لِتُنْذِرَ

ص: 202

أُمَّ الْقُرى - إلى المفعول الأوّل، و الثاني- و هو قوله: «وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ»- إلى المفعول الثاني. فحذف ثاني مفعولي الأوّل، و أوّل مفعولي الثاني، للتهويل و إيهام التعميم.

لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محلّ له فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي: يجمعون في الموقف أوّلا ثمّ يفرّقون. و التقدير: منهم فريق. و الضمير للمجموعين، لدلالة الجمع عليه، فإنّه في معنى: يوم جمع الخلائق.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي: مؤمنين كلّهم على القسر و الإكراه، كقوله: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (1). و قوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (2). و الدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله:

أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3). و إدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله، دليل على أنّ اللّه وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. فالمعنى:

و لو شاء ربّك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان.

وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ مشيئة حكمة. فكلّفهم و بنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته، و هم المرادون بمن يشاء. و تغيير المقابلة لأجل ذلك، أو للمبالغة في الوعيد، إذ الكلام في الإنذار. ألا ترى أنّه وضعهم في مقابلة الظالمين، و ترك الظالمين بغير وليّ و لا نصير في عذابه، بقوله: وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ أي: يدعهم بغير من يتولّى أمرهم و ينصرهم.

أَمِ اتَّخَذُوا أم منقطعة. و معنى الهمزة فيها للإنكار، أي: بل اتّخذوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ كالأصنام فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ هو الّذي يجب أن يتولّى وحده، و يعتقد أنّه المولى و السيّد. و ذكر الفاء لأنّه جواب شرط محذوف، كأنّه قيل بعد إنكار كلّ

ص: 203


1- السجدة: 13.
2- يونس: 99.
3- يونس: 99.

وليّ سواه: إن أرادوا وليّا بحقّ فاللّه الوليّ بالحقّ، لا وليّ سواه.

وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية، أي: و من شأن هذا الوليّ أنّه يحيي الموتى للمجازاة، قادر على كلّ من الإحياء و الإماتة و غير ذلك. فهو الحقيق بأن يتّخذ وليّا، دون من لا يقدر على شي ء.

[سورة الشورى [42]: الآيات 10 الى 12]

وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ [10] فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [11] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [12]

ثمّ حكى اللّه سبحانه قول رسوله للمؤمنين، فقال: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ أنتم و الكفّار فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ من أمر من أمور الدنيا أو الدين فَحُكْمُهُ فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إِلَى اللَّهِ يميّز بين المحقّ و المبطل بالنصر، أو بالإثابة و المعاقبة.

و قيل: و ما اختلفتم فيه من تأويل متشابه فارجعوا إلى المحكم من كتاب اللّه، و إلى الظاهر من سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: و ما تنازعتم من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول اللّه، و لا تؤثروا على حكومته حكومة غيره، كقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

ص: 204

وَ الرَّسُولِ (1).

و قيل: و ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم الّتي لا تتّصل بتكليفكم، و لا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: اللّه أعلم، كمعرفة الروح. قال اللّه تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (2).

ذلِكُمُ الحاكم بينكم اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ردّ كيد أعداء الدين، و في سائر مجامع الأمور وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في كفاية شرّهم، و غيرها من المعضلات.

فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خبر آخر ل «ذلكم». أو مبتدأ خبره جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء لتسكنوا إليها وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي: خلق للأنعام من جنسها أزواجا. أو خلق لكم من الأنعام أصنافا، أو ذكورا و إناثا. يَذْرَؤُكُمْ يكثّركم. يقال: ذرأ اللّه الخلق: بثّهم و كثّرهم. من الذرء، و هو البثّ. و في معناه: الذرو و الذرّ. و الضمير راجع إلى المخاطبين و الأنعام، مغلّبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب ممّا لا يعقل. فِيهِ في جعل الناس و الأنعام أزواجا ليكون بينهم توالد. و إيثار «فيه» على: به، لإفادة أنّ هذا التدبير كالمنبع و المعدن للبثّ و التكثير.

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ أي: شي ء يزاوجه و يناسبه. و المراد من مثله ذاته، كما في قولهم: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، و هم يريدون نفيه عن ذاته على قصد المبالغة في نفيه، فسلكوا به طريق الكناية، لأنّهم إذا نفوه عمّن يناسبه و يسدّ مسدّه، و يكون على أخصّ أوصافه، فقد نفوه عنه بطريق أولى.

فإذا علم أنّه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كاللّه شي ء، و بين

ص: 205


1- النساء: 59.
2- الإسراء: 85.

قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» إلّا ما تعطيه الكناية من فائدتها، فكأنّهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد، و هو نفي المماثلة عن ذاته. و نحوه قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ (1)، فإنّ معناه: بل هو جواد من غير تصوّر يد و لا بسطها، لأنّهما وقعتا عبارة عن الجود، لا يقصدون شيئا آخر، حتّى إنّهم استعملوها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل و من لا مثل له.

و من قال: الكاف فيه زائدة، لعلّه عنى أنّه يعطي معنى: ليس مثله، غير أنّه أكّد لما ذكرناه. و قيل: مثله صفته، أي: ليس كصفته صفة.

وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي: العالم بكلّ ما يسمع و يبصر.

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خزائنها يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسّع و يضيّق على وفق مشيئته إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيفعله على ما ينبغي. فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه، و إلّا أفقره.

[سورة الشورى [42]: الآيات 13 الى 15]

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [13] وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [14] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ

ص: 206


1- المائدة: 64.

أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [15]

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أي: شرع لكم من الدين، دين نوح و محمّد عليهما السّلام، و من بينهما من أرباب الشرائع، و هو الأصل المشترك فيما بينهم.

ثمّ فسّر الشرع الّذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ و هو الإيمان بما يجب تصديقه، من توحيد اللّه و كتبه و رسله و حججه و يوم الجزاء، و سائر ما يكون الرجل بإقامته مؤمنا. و لم يرد الشرائع الّتي هي مصالح للأمم على حسب أحوالها من فروعات الإسلام، فإنّها مختلفة متفاوتة. قال اللّه تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً (1). و محلّه النصب على البدل من مفعول «شرع». أو الرفع على الاستئناف. كأنّه قيل: و ما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. أو الجرّ على البدل من هاء «به».

وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ و لا تختلفوا في هذا الأصل كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم و شقّ عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ يجتلب إلى ما تدعوهم. أو إلى الدين بالتوفيق و التسديد. مَنْ يَشاءُ من ينفع فيهم توفيقه، و يجدي عليهم لطفه، من أصحاب الاسترشاد وَ يَهْدِي إِلَيْهِ بالإرشاد و التوفيق مَنْ يُنِيبُ من يقبل إليه.

ص: 207


1- المائدة: 48.

وَ ما تَفَرَّقُوا يعني: الأمم السالفة. و قيل: أهل الكتاب، لقوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (1). إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: العلم بأن التفرّق ضلال متوعّد عليه على ألسنة الأنبياء. أو العلم بمبعث الرسول، أو أسباب العلم من الرسل و الكتب و غيرهما، فلم يلتفتوا إليها بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة، أو طلبا للدنيا.

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بالإمهال إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة، أو آخر أعمارهم المقدّرة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المبطلين حين افترقوا، لعظم ما اقترفوا وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: أهل الكتاب الّذين كانوا في عهد الرسول، أو المشركين الّذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من الكتاب، لا يعلمونه كما هو، أو لا يؤمنون به حقّ الإيمان. أو من القرآن.

مُرِيبٍ مقلق، أو مدخل في الريبة.

و قيل: كان الناس أمّة واحدة مؤمنين، بعد أن أهلك اللّه أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلمّا مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم، و ذلك حين بعث اللّه إليهم النبيّين مبشّرين و منذرين، و جاءهم العلم، و إنّما اختلفوا للبغي بينهم.

فَلِذلِكَ فلأجل ذلك التفرّق، و لما حدث بسببه من تشعّب الكفر شعبا. أو لأجل ذلك الكتاب، أو العلم الذي أوتيته. فَادْعُ إلى الاتّفاق على الملّة الحنيفيّة القديمة. أو للاتّباع لما أوتيت فادع. و على هذا يجوز أن تكون اللام في موضع «إلى» لإفادة الصلة، فإنّه يفيد معنى كون ما دخل عليه اللام معمولا متقدّما، فكأنّه قال: ادع إلى الاتّباع، لأنّه يقال: دعا إليه.

وَ اسْتَقِمْ على الدعوة كَما أُمِرْتَ كما أمرك اللّه وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المختلفة الباطلة.

وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أيّ كتاب صحّ أنّ اللّه أنزله. يعني:

ص: 208


1- آل عمران: 19.

الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لا كالكفّار الّذين آمنوا ببعض و كفروا ببعض، كقوله:

وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله: هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا (1).

وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في تبليغ الحكومات و الشرائع. و الأوّل إشارة إلى كمال القوّة النظريّة، و هذا إشارة إلى كمال القوّة العمليّة.

اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ خالق الكلّ و متولّي أمره. و إنّما قال ذلك لأنّ المشركين قد اعترفوا بأنّ اللّه هو الخالق. لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و كلّ مجازى بعمله، و لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، فلا يضرّنا إصراركم على الكفر. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ لا حجاج بمعنى: لا خصومة، إذ الحقّ قد ظهر، و لم يبق للمحاجّة مجال، و لا للخلاف مبدأ، سوى العناد، فلا حاجة إلى المحاجّة.

اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة، فيفصل بيننا، و ينتقم لنا منكم وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مرجع الكلّ لفصل القضاء.

و هذه محاجزة في مواقف المقاولة لا المقاتلة، و متاركة بعد ظهور الحقّ و قيام الحجّة و الإلزام. فليس في الآية ما يدلّ على متاركة الكفّار رأسا، حتّى تكون منسوخة بآية القتال (2).

[سورة الشورى [42]: الآيات 16 الى 20]

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [16] اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [17] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا

ص: 209


1- النساء: 150- 151.
2- التوبة: 29.

يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [18] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [19] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [20]

و لمّا تقدّم ظهور الحجّة و انقطاع المحاجّة، عقّبه بذكر من يحاجّ بالباطل، فقال: وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ في دينه مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ من بعد ما استجاب له الناس و دخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهليّة، كقوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً (1).

و قيل: نزلت في اليهود و النصارى كانوا يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، و نبيّنا قبل نبيّكم، و نحن خير منكم.

و قيل: من بعد ما استجاب اللّه لرسوله، و أظهر دينه بنصره يوم بدر. أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب، بأن أقرّوا بنبوّته و استفتحوا به.

حُجَّتُهُمْ أي: ما سمّوه حجّة على اعتقادهم داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ زائلة باطلة وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ لمعاندتهم وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ على كفرهم.

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ جنس الكتاب بِالْحَقِ ملتبسا بالحقّ، مقترنا به، بعيدا من الباطل. أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة، أو بالواجب من التحليل و التحريم، و غير ذلك من العقائد و الأحكام. وَ الْمِيزانَ و الشرع الّذي توزن به الحقوق، و يسوّى بين الناس. أو العدل. و معنى إنزاله: أنّه أمر به في كتبه المنزلة.

ص: 210


1- البقرة: 109.

و قيل: الّذي توزن به الأجناس. و إنزاله الوحي بإعداده و الأمر به في الكتب السماويّة.

وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ إتيانها، فاتّبع الكتاب، و اعمل بالشرع، و واظب على العدل، قبل أن يفاجئك اليوم الّذي توزن فيه أعمالك و توفى جزاؤك.

و قيل: تذكير القريب لأنّه بمعنى: ذات قرب، أو لأنّ الساعة بمعنى البعث.

يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استهزاء وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون من مجيئها، مع اعتنائهم بها، لتوقّع الثواب وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ الكائن لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ يجادلون فيها، فيخاصمون في مجيئها على وجه الإنكار لها. من المرية، أي: يدخلهم المرية و الشكّ. أو من: مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها بشدّة للحلب، لأنّ كلّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدّة. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحقّ، لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة اللّه، و لدلالة الكتاب المعجز على أنّها آتية، و لشهادة العقول على أنّه لا بدّ من دار جزاء. فالبعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ برّ بهم بصنوف من البرّ بحيث لا تبلغها الأفهام. أو عالم بخفيّات الأمور و الغيوب، فيوصل النعمة إلى العباد من وجه يدقّ إدراكه، بأن يعطيهم النعم الّتي لا يترقّبونها، و يصرف الآفات عنهم، و يدخل السرور و الملاذّ إليهم، بحيث خفي أسبابها عنهم، و غير ذلك من الألطاف الّتي لا يوقف على كنهها لغموضها.

يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أي: يرزقه كما يشاء، فيخصّ كلّا من عباده بنوع من البرّ على ما اقتضته حكمته. يعني: كلّهم مبرورون بحيث لا يخلو أحد من برّه، إلّا أنّ البرّ أصناف، و له أوصاف، و القسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا

ص: 211

الحكمة و التدبير، فيطير (1) لبعض العباد صنف من البرّ لم يطر مثله لآخر، و يصيب هذا حظّ له وصف ليس ذلك الوصف لحظّ صاحبه. فمن قسّم له منهم ما لم يقسّم للآخر فقد رزقه، كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر، على أنّه أصابه بنعمة اخرى لم يرزقها صاحب الولد. أو معناه: يوسع الرزق على من يشاء. يقال: فلان مرزوق، إذا وصف بسعة الرزق.

و قيل: معناه: يرزق من يشاء في خفض و دعة، و من يشاء في كدّ و تعب.

و كلّ من يرزقه اللّه من ذي روح، فهو ممّن يشاء أن يرزقه.

وَ هُوَ الْقَوِيُ الباهر القدرة الْعَزِيزُ المنيع الغالب الّذي لا يغلب.

مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ثوابها، أو العمل الّذي يوجب ثوابها. شبّهه بالزرع من حيث إنّه فائدة تحصل بعمل الدنيا، و لذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة.

و الحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض. و يقال للزرع الحاصل منه أيضا. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها. أو نوفّقه في عمله، فضوعفت حسناته. فسمّى ما يعمله العامل ممّا يبغي به الفائدة و الزكاء حرثا على المجاز.

وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها شيئا منها، لا ما يريده و يبتغيه. و هو رزقه الّذي قسمنا له. وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ الأعمال بالنيّات، و لكلّ امرئ ما نوى.

و قيل: معناه من قصد بالجهاد وجه اللّه فله سهم الغانمين و الثواب في الآخرة، و من قصد به الغنيمة لم يحرم ذلك، و حصل له سهمه من الغنيمة، و لكن لا نصيب له من الثواب في الآخرة.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من كانت نيّته الآخرة جمع اللّه شمله،.

ص: 212


1- أي: يقسم، من: أطار المال: قسمه.

و جعل غناه في قلبه، و أتته الدنيا و هي راغمة. و من كانت نيّته الدنيا فرّق اللّه عليه أمره، و جعل الفقر بين عينيه، و لم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له».

و عن الحسن: من كان يعمل للآخرة نال الدنيا و الآخرة، و من عمل للدنيا فلا حظّ له في الآخرة، لأنّ الأعلى لا يجعل تبعا للأدون.

[سورة الشورى [42]: الآيات 21 الى 23]

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [21] تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [22] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [23]

و لمّا أخبر سبحانه أنّ من يطلب الدنيا بأعماله فلا حظّ له في الآخرة، قال:

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ بل ألهم شركاء. و الهمزة للتقريع و التقرير. و شركاؤهم شياطينهم.

شَرَعُوا لَهُمْ بالتزيين مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك، و إنكار البعث، و العمل للدنيا.

و قيل: شركاؤهم أوثانهم. و إضافتها إليهم لأنّهم متّخذوها شركاء للّه، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة، و تارة إلى اللّه. و إسناد الشرع إليها لأنّها سبب ضلالتهم

ص: 213

و افتتانهم بما تديّنوا به، فكأنّها شارعة لهم دين الكفر، كما قال إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ (1). أو صور من سنّه لهم، كما قيل: إنّ جمشيد أخذ تماثيل مصوّرة بصورته، فأرسلها إلى الأقاليم ليعظّموها.

وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي: القضاء السابق بتأجيل الجزاء، أو العدّة بأنّ الفصل يكون يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين و المؤمنين، أو المشركين و شركائهم وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

تَرَى الظَّالِمِينَ في القيامة مُشْفِقِينَ خائفين خوفا شديدا أرقّ (2) قلوبهم مِمَّا كَسَبُوا من السيّئات وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي: و باله لا حق بهم، و واصل إليهم، لا بدّ لهم منه، أشفقوا أولم يشفقوا وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في أطيب بقاعها و أنزهها، فإنّ الروضة الأرض الخضرة بحسن النبات و الأشجار المثمرة المورقة المونقة لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: ما يشتهونه ثابت لهم عند ربّهم ذلِكَ إشارة إلى ما للمؤمنين هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الّذي يصغر عنده ما لغيرهم في الدنيا.

ذلِكَ الَّذِي ذلك الثواب الّذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: يبشّرهم اللّه به، فحذف الجارّ ثمّ العائد. أو ذلك التبشير الّذي يبشّره اللّه عباده، ليستعجلوا بذلك السرور في الدنيا.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي: يبشر، من بشره. و من شدّد الشين أراد به التكثير، و من خفّفها فلأنّه يدلّ على القليل و الكثير.

روي: أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أ ترون محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على ما أتعاطاه من

ص: 214


1- إبراهيم: 36.
2- أي: ألانه.

التبليغ و البشارة أَجْراً نفعا منكم إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إلّا أن تودّوا أهل قرابتي. و لم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. و يجوز أن يكون منقطعا، أي: لا أسألكم أجرا قطّ، و لكن أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم، و لا تؤذوهم.

و لم يقل: إلّا مودّة القربى، أو إلّا المودّة للقربى، بل قال: إلّا المودّة في القربى، لإفادة أنّهم جعلوا مكانا للمودّة و مقرّا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة، و لي فيهم هوى و حبّ شديد. تريد: أحبّهم، و هم مكان حبّي و محلّه. و ليست «في» بصلة للمودّة، كاللام إذا قلت: إلّا المودّة للقربى، بل هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك: المال في الكيس. و تقديره: إلّا المودّة ثابتة في القربى و متمكّنة فيها. و القربى مصدر كالزلفى و البشرى، بمعنى القرابة. و المراد: في أهل القربى، كما فسّرنا به.

روي عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّها لمّا نزلت قيل: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال:

«عليّ، و فاطمة، و ابناهما».

قال النيشابوري في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث: «و لا ريب أنّ هذا فخر عظيم و شرف تامّ. و يؤيّده ما

روي عن عليّ عليه السّلام: شكوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسد الناس لي، فقال: «أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا، و ذرّيّتنا خلف أزواجنا» (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي و آذاني في عترتي.

و من اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطّلب، و لم يجازه عليها، فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة».

ص: 215


1- غرائب القرآن 6: 74.

و قال النيشابوري: إنّه كان يقول: «فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها».

و ثبت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّا و الحسن و الحسين،

و إذا كان كذلك وجب علينا محبّتهم، لقوله: فَاتَّبِعُوهُ (1). و كفى شرفا لآل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فخرا ختم التشهّد بذكرهم، و الصلاة عليهم في كلّ صلاة» (2). انتهى كلامه.

و ورد من طرق الخاصّة و العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، و من تخلّف عنها غرق».

فنحن نركب سفينة حبّ آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لنتخلّص في بحر التكليف و ظلمة الجهالة من أمواج الشبه و الضلالة.

و روي: أنّ الأنصار قالوا: فعلنا و فعلنا، كأنّهم افتخروا. فقال عبّاس: لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأتاهم في مجالسهم، فقال: «يا معشر الأنصار الم تكونوا أذلّة فأعزّكم اللّه بي؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: ألم تكونوا ضلّالا فهداكم اللّه بي؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: أ فلا تجيبونني؟ يعني: لم لم تفتخروا أنتم أيضا؟

قالوا: ما نقول يا رسول اللّه؟

قال: ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أولم يكذّبوك فصدّقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟

قال: فما زال يقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى جثوا على الركب و قالوا: أموالنا و ما في أيدينا للّه و لرسوله». فنزلت الآية.

ص: 216


1- الأنعام: 153.
2- غرائب القرآن 6: 74.

و روى الزمخشري و الثعلبي في تفسيريهما أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من مات على حبّ آل محمد مات شهيدا، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة اللّه، ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا، ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة» (1).

و قيل: لم يكن بطن من بطون قريش إلّا و بين رسول اللّه و بينهم قربى، فلمّا كذّبوه و أبوا أن يبايعوه نزلت. و المعنى: إلّا أن تودّوني في القربى، أي: في حقّ القربى و من أجلها، كما تقول: الحبّ في اللّه و البغض في اللّه، بمعنى: في حقّه و من أجله. يعني: أنّكم قومي و أحقّ من أجابني و أطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حقّ القربى، و لا تؤذوني، و لا تهيّجوا عليّ.

و قيل: أتت الأنصار رسول اللّه بمال جمعوه و قالوا: يا رسول اللّه قد هدانا اللّه بك، أنت ابن أختنا و تعروك نوائب و حقوق و مالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت، وردّه.

و قيل: «القربى» التقرّب إلى اللّه، أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة و تعليم الشريعة أجرا، إلّا أن تحبّوا اللّه و رسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة و العمل الصالح.

ص: 217


1- الكشّاف 4: 220- 221.

و القول الأوّل منقول عن عليّ بن الحسين، و سعيد بن جبير، و عمرو بن شعيب، و جماعة كثيرة. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و في شواهد التنزيل مرفوعا إلى أبي امامة الباهلي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى، و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة. فأنا أصلها، و عليّ فرعها، و فاطمة لقاحها، و الحسن و الحسين ثمارها، و أشياعنا أوراقها. فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، و من زاغ عنها هوى. و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام، حتّى يصير كالشنّ (1) البالي، ثمّ لم يدرك محبّتنا، أكبّه اللّه في النار على منخريه. ثمّ تلا: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً الآية» (2).

و روي عن عليّ عليه السّلام قال: «فينا في آل حم آية، لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن. ثمّ قرأ هذه الآية».

وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً و من يكتسب طاعة سيّما حبّ آل الرسول نَزِدْ لَهُ فِيها في الحسنة حُسْناً بمضاعفة الثواب إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أذنب شَكُورٌ لمن أطاع، بتوفية الثواب و التفضّل عليه بالزيادة، فإنّ الشكور في صفة اللّه مجاز للاعتداد بالطاعة، و توفية ثوابها، و التفضّل على المثاب.

و عن السدّي: أنّها- أي: الحسنة- المودّة لآل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و صحّ عن الحسن بن عليّ أنّه عليه السّلام خطب الناس فقال في خطبته: «أنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم، فقال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».

ص: 218


1- الشنّ: القربة البالية الصغيرة.
2- شواهد التنزيل 2: 203 ح 837.

و روى إسماعيل بن عبد الخالق، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّها نزلت فينا أهل البيت أصحاب الكساء».

و الظاهر العموم في أيّ حسنة كانت، إلّا أنّها لمّا ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى، دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولا أوّليّا، و كان سائر الحسنات لها توابع.

[سورة الشورى [42]: الآيات 24 الى 26]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [24] وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [25] وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [26]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى بل أ يقولون افترى محمّد عَلَى اللَّهِ كَذِباً بدعوى النبوّة أو القرآن. ف «أم» منقطعة، و الهمزة للتوبيخ. كأنّه قيل: أ يتمالكون أن ينسبوا مثل الرسول إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على اللّه الّذي هو أعظم الفري و أفحشها؟

فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ استبعاد للافتراء عن مثله، مع الإشعار على أنّه إنّما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربّه، فأمّا من كان ذا بصيرة و معرفة فلا. و كأنّه قال: إن يشأ اللّه يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتّى تفتري عليه الكذب، فإنّه لا يجترئ على افتراء الكذب على اللّه إلّا من كان في مثل حالهم.

ص: 219

و عن قتادة: معنى «يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» ينسك القرآن، و يقطع عنك الوحي.

يعني: لو حدّث نفسك بأن تفتري على اللّه كذبا لطبع اللّه على قلبك، و لأنساك القرآن. و هذا كقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1).

و قيل: «يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» يربط عليه بالصبر، حتّى لا يشقّ عليك أذاهم.

وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ استئناف لنفي الافتراء عمّا يقوله، بأنّه لو كان مفترى لمحقه، إذ من عادته تعالى محو الباطل و إثبات الحقّ بوحيه أو بقضائه، كقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ (2). يعني: لو كان مفتريا كما تزعمون لكشف اللّه افتراءه و محقه، و قذف بالحقّ على باطله فدمغه. و يجوز أن يكون عدة لرسول اللّه بأنّه يمحو الباطل الّذي هم عليه من البهتان و التكذيب، و تثبيت الحقّ الّذي أنت عليه بالقرآن و بقضائه الّذي لا مردّ له من نصرك عليهم.

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في صدرك و صدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. و سقوط الواو من «يمح» في بعض المصاحف لاتّباع اللفظ، كما في قوله: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ (3) و سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (4).

وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عمّا تابوا عنه و إن عظمت معاصيهم. فكأنّه قال: من نسب محمّدا إلى الافتراء ثمّ تاب قبلت توبته و إن جلّت معصيته. و القبول يعدّى إلى مفعول ثان ب «من» و «عن»، لتضمّنه معنى الأخذ و الإبانة. يقال: قبلت منه الشي ء، و قبلته عنه. فمعنى قبلته منه: أخذته منه، و جعلته مبدأ قبولي و منشأه. و معنى قبلته عنه: عزلته و أبنته عنه. و التوبة أن يرجع عن

ص: 220


1- الزمر: 65.
2- الأنبياء: 18.
3- الإسراء: 11.
4- العلق: 18.

القبيح، و عن الإخلال بالواجب، بالندم عليهما، و العزم على أن لا يعاود.

و روى جابر: أنّ أعرابيّا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: اللّهمّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك، و كبّر. فلمّا فرغ من صلاته قال له عليّ عليه السّلام: «يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، و توبتك تحتاج إلى التوبة.

فقال: يا أمير المؤمنين و ما التوبة؟

قال: اسم يقع على ستّة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، و لتضييع الفرائض الإعادة، و ردّ المظالم، و إذابة النفس في الطاعة كما ربّيتها في المعصية، و إذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كلّ ضحك ضحكته».

وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ عن الكبائر إذا تيب عنها، و عن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. أو يعفو عن الكبائر و الصغائر مطلقا لمن يشاء تفضّلا. وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من خير و شرّ، فيجازيهم على ذلك، و يتجاوز عنهم على مقتضى حكمته. و قرأ حمزة و حفص و الكسائي: ما تفعلون بالتاء.

وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: يستجيب اللّه لهم، فحذف اللام كما حذف في وَ إِذا كالُوهُمْ (1). و المراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة، فإنّها كدعاء و طلب لما يترتّب عليها. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أفضل الدعاء الحمد للّه».

أو يستجيبون اللّه بالطاعة إذا دعاهم إليها. وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما سألوا و استحقّوا من الثواب و استوجبوا له.

و روي عن ابن عبّاس: أنّ معنى «وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا» أن يشفّعهم في إخوانهم. «وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» يشفّعهم في إخوان إخوانهم.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله في قوله:

وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن أحسن إليهم في الدنيا».

ص: 221


1- المطفّفين: 3.

وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الثواب و التفضّل.

[سورة الشورى [42]: الآيات 27 الى 29]

وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [27] وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [28] وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ [29]

و لمّا بيّن سبحانه أنّه يزيد المؤمنين من فضله، أخبر عقيبه أنّ الزيادة في الأرزاق في الدنيا تكون على حسب المصالح، فقال:

وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ لبغى بعضهم على بعض استيلاء و استعلاء. أو لتكبّروا و أفسدوا فيها بطرا، فإنّ الغنى مبطرة مأشرة (1). و كفى بحال قارون عبرة. و هذا على الغالب. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أخوف ما أخاف على أمّتي زهرة الدنيا و كثرتها».

و أصل البغي طلب التجاوز عن الاقتصاد فيما يتحرّى كمّيّة و كيفيّة.

وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ بتقدير ما يَشاءُ كما اقتضته مشيئته إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ عليم بخفايا أمرهم و جلايا حالهم بَصِيرٌ بما يصلحهم و ما يفسدهم في عواقب أمورهم. فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم و أقرب إلى جمع شملهم، فيفقر و يغني، و يمنع و يعطي، و يقبض و يبسط، كما توجبه الحكمة الربّانيّة. و لو أغناهم جميعا لبغوا، و لو أفقرهم جميعا لهلكوا.

ص: 222


1- الأشر: البطر. و البطر: التكبّر عن الحقّ و عدم قبوله.

قيل: نزلت في قوم من أهل الصفّة تمنّوا سعة الرزق و الغنى. قال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت، و ذلك أنّا نظرنا إلى أموال بني قريظة و النضير و بني قينقاع فتمنّيناها.

و قيل: نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، و إذا أجدبوا انتجعوا. و لا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقلّ، و مع البسط أكثر و أغلب، فلو عمّ البسط لغلب البغي حتّى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن، فلأجل ذلك الفقراء أكثر من الأغنياء.

روى أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عن جبرئيل، عن اللّه عزّ و جلّ: «إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم، و لو صححته لأفسده. و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصحّة، و لو أسقمته لأفسده. و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى، و لو أفقرته لأفسده.

و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر، و لو أغنيته لأفسده. و ذلك أنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم.

و متى قيل: نحن نرى كثيرا ممّن يوسّع عليه الرزق يبغي في الأرض.

قلنا: إذا علمنا على الجملة أنّه سبحانه يدبّر أمور عباده بحسب ما يعلم من مصالحهم، فلعلّ هؤلاء كان يستوي حالهم في البغي، وسّع عليهم أو لم يوسّع. أو لعلّهم لو لم يوسّع عليهم لكانوا أسوأ حالا في البغي، فلذلك وسّع عليهم. و اللّه أعلم بتفاصيل أحوالهم.

ثمّ بيّن حسن نظره بعباده، فقال: وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ المطر الّذي يغيثهم من الجدب، و لذلك خصّ بالنافع. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم بالتشديد.

مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أيسوا منه. و وجه إنزاله بعد القنوط: أنّه أدعى إلى شكر الآتي به و تعظيمه، و المعرفة بموقع إحسانه. وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي: يفرّق و يبسط بركات الغيث و منافعه، و ما يحصل به من الخصب في كلّ شي ء، من السهل و الجبل و النبات

ص: 223

و الحيوان وَ هُوَ الْوَلِيُ الّذي يتولّى عباده بإحسانه و نشر رحمته الْحَمِيدُ المستحقّ للحمد على ذلك.

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّها بذاتها و صفاتها تدلّ على وجود صانع قادر حكيم وَ ما بَثَّ فِيهِما مجرور أو مرفوع عطفا على «السموات» أو «خلق» مِنْ دابَّةٍ من حيّ، على إطلاق اسم المسبّب على السبب. أو ممّا يدبّ على الأرض. و ما يكون في أحد الشيئين يصدق أنّه فيهما في الجملة، كقوله تعالى:

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (1). و إنّما يخرج من الملح. فلا يقال: لم قيل فيهما «من دابّة» و الدوابّ في الأرض وحدها؟ و أيضا يجوز أن يكون للملائكة عليهم السّلام مشي مع الطيران، فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسي. و لا يبعد أيضا أن يخلق في السماوات حيوانا يمشي فيها مشي الأناسي على الأرض. سبحان الّذي خلق ما نعلم و ما لا نعلم من أصناف الخلق.

وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ حشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم إِذا يَشاءُ في أيّ وقت يشاء قَدِيرٌ متمكّن منه. و «إذا» كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع. قال اللّه تعالى: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (2).

[سورة الشورى [42]: الآيات 30 الى 35]

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [30] وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [31] وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [32] إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ

ص: 224


1- الرحمن: 22.
2- الليل: 1.

رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [33] أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [34]

وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [35]

و لمّا بيّن سبحانه عظيم نعمه على العباد، بيّن بعده أنّه لا يعاقبهم إلّا على معاصيهم، فقال:

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ من بلوى في نفس أو مال فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فبسبب معاصيكم. و ذكر الفاء بناء على تضمين «ما» معنى الشرط. و لم يذكرها نافع و ابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببيّة. وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب، فلا يعاقب عليها. و الآية مخصوصة بالمجرمين. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من اختلاج عرق و لا خدش عود و لا نكبة حجر إلّا بذنب».

و أمّا ما أصاب غيرهم، من الأنبياء و سائر المعصومين من الأئمّة، و من الأطفال و المجانين، فلأسباب أخر، منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه.

و عن بعضهم: من لم يعلم أنّ ما وصل إليه من الفتن و المصائب باكتسابه، و أنّ ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربّه إليه.

و عن بعض آخر: العبد ملازم للجنايات في كلّ أوان، و جناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه، لأنّ جناية المعصية من وجه، و جناية الطاعة من وجوه، و اللّه يطهّر عبده من جناياته بأنواع من المصائب، ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، و لو لا عفوه و رحمته لهلك في أوّل خطوة.

و عن عليّ عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من عفي عنه في الدنيا عفي عنه في الآخرة، و من عوقب في الدنيا لم تثنّ عليه العقوبة في الآخرة».

ص: 225

و عنه عليه السّلام: «هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن».

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فائتين، أي: لا تعجزونني حيث ما كنتم، فلا تسبقونني هربا في الأرض عمّا قضي عليكم من المصائب وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍ متولّ بالرحمة يحرسكم عنها وَ لا نَصِيرٍ يدفعها عنكم.

وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال الطوال.

قالت الخنساء:

و إن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار

إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ و قرأ نافع وحده: الرياح فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ ثوابت لا تجري عَلى ظَهْرِهِ ظهر البحر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على بلاء اللّه شَكُورٍ لنعمائه. و هما صفتا المؤمن المخلص، فجعلهما كناية عنه، فإنّه هو الّذي و كل همّته و حبس نفسه على النظر في آيات اللّه و التفكّر فيها. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الإيمان نصفان: نصف صبر، و نصف شكر».

أَوْ يُوبِقْهُنَ عطف على «يسكن» لأنّ أصل الكلام: أو يرسلها فيوبقهنّ، أي: يهلكهنّ بإرسال الريح العاصفة المغرقة، لأنّه قسيم «يسكن»، فاقتصر على المقصود.

و خلاصة المعنى: أنّه سبحانه إن يشأ يبتل المسافرين في البحر بإحدى بليّتين: إمّا أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر و يمنعهنّ من الجري، و إمّا أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهنّ إغراقا. و المراد إهلاك أهلها، لقوله: بِما كَسَبُوا من المعاصي وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ عطف على «يوبقهنّ». و أصل الكلام: أو يرسله عاصفة فيوبق ناسا بذنوبهم، و ينج ناسا على طريق العفو منهم.

وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا عطف على علّة مقدّرة، مثل: لينتقم منهم و يعلم. و نحوه في العطف على التعليل المذكور غير عزيز في القرآن. أو على

ص: 226

الجزاء. و نصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستّة، نحو: إن تأتني آتك و أعطيك.

و قرأ نافع و ابن عامر بالرفع على الاستئناف. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ملجأ يلجؤن إليه من العذاب.

[سورة الشورى [42]: الآيات 36 الى 43]

فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [36] وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [37] وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [38] وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [39] وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [40]

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [41] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [42] وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [43]

ثمّ خاطب سبحانه من تقدّم وصفهم، فقال: فَما أُوتِيتُمْ أيّها المشركون مِنْ شَيْ ءٍ من الغنى و البسطة فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتّعون به مدّة حياتكم ثمّ تموتون فيبقى عنكم، أو يهلك المال قبل موتكم وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة

ص: 227

خَيْرٌ وَ أَبْقى من هذه المنافع لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لخلوص نفعه و دوامه. و «ما» الأولى موصولة تضمّنت معنى الشرط، من حيث إنّ إيتاء ما أوتوا سبب للتمتّع بها في الحياة الدنيا، فجاءت الفاء في جوابها، بخلاف الثانية.

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ عطف على «لِلَّذِينَ آمَنُوا» أي:

و ما عند اللّه خير و أبقى للمؤمنين المتوكّلين على ربّهم، المجتنبين الآثام الكبيرة، و الأعمال الفاحشة، و الأفعال القبيحة شرعا و عقلا وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ ممّا يفعل بهم من الظلم يَغْفِرُونَ يتجاوزون عنه. و الإتيان ب «هم» و إيقاعه مبتدأ، و إسناد «يغفرون» إليه، للدلالة على أنّهم الأخصّاء بالمغفرة في حال الغضب. و مثله «هم ينتصرون» (1). و قرأ حمزة و الكسائي: كبير الإثم. و عن ابن عبّاس: «كبير الإثم» هو الشرك. و المراد بالمغفرة ما يتعلّق بالإساءة إلى نفوسهم، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين. فأمّا ما يتعلّق بحقوق اللّه و الحدود الواجبة، فليس للإمام تركها و لا العفو عنها، فلا يجوز له العفو عن المرتدّ و عمّن جرى مجراه.

ثمّ زاد سبحانه في صفاتهم بقوله: وَ الَّذِينَ أي: و للّذين اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الإيمان به و طاعته، فاستجابوا له بالإيمان و الإطاعة و إقامة الصلوات الخمس.

و كانوا إذا أرادوا أمرا قبل الإسلام و قبل قدوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اجتمعوا و تشاوروا ثمّ عملوا عليه، فأثنى اللّه عليهم بقوله: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ذو شورى، لا ينفردون برأي حتّى يتشاوروا و يجتمعوا عليه، و ذلك من فرط تدبّرهم و تيقّظهم في الأمور. و هي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، و هو المفاوضة في الكلام ليظهر الحقّ.

و عن الضحّاك: هو تشاور الأنصار حين سمعوا بظهور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ورود

ص: 228


1- الشورى: 39.

النقباء عليه، حتّى اجتمعوا في دار أبي أيّوب على الإيمان به و النصرة له.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشاد».

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الخير.

وَ الَّذِينَ و للّذين إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ممّن بغى عليهم، على ما جعله اللّه لهم من القوّة و التسلّط، كراهة التذلّل. و هو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمّهات الفضائل. كما نقل عن النخعي أنّه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفسّاق. و المعنى: أنّه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، فإذا قال: أخزاك اللّه، قال: أخزاك اللّه، من غير أن يعتدي. و هو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإنّه ينبئ عن عجز المغفور، و الانتصار عن مقاومة الخصم. و الحلم عن العاجز محمود، و عن المتغلّب مذموم، لأنّه إجراء و إغراء على البغي.

ثمّ عقّب وصفهم بالانتصار بقوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها للمنع عن التعدّي. و سمّي الثانية سيّئة للازدواج، أو لأنّها تسوء من تنزل به. فَمَنْ عَفا عمّاله المؤاخذة به وَ أَصْلَحَ بينه و بين عدوّه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عدة مبهمة تدلّ على عظم الموعود إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المبتدئين بالسيّئة، و المتجاوزين في الانتقام.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على اللّه أجر فليقم. قال: فيقوم خلق، فيقال لهم: ما أجركم على اللّه؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمّن ظلمنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بإذن اللّه».

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ لنفسه و انتصف بَعْدَ ظُلْمِهِ أي: بعد ما ظلم، فإنّه من إضافة المصدر إلى المفعول فَأُولئِكَ إشارة إلى معنى «من» دون لفظه ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة و المعاقبة.

ص: 229

إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: الإثم و العقاب عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدؤنهم بالإضرار وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ يطلبون ما لا يستحقّونه تجبّرا عليهم أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على ظلمهم و بغيهم.

وَ لَمَنْ صَبَرَ على الظلم و الأذى وَ غَفَرَ و لم ينتصر إِنَّ ذلِكَ إنّ ذلك الصبر و التجاوز منه، فحذف كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، للعلم به لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من ثابت الأمور الّتي أمر اللّه بها، فلم تنسخ.

و قيل: عزم الأمور هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب و الأجر.

و يحكي: أنّ رجلا سبّ رجلا في مجلس الحسن البصري، و كان المسبوب يكظم، و يعرق فيمسح العرق، ثمّ قام فتلا هذه الآية. فقال الحسن: عقلها و اللّه و فهمها إذ ضيّعها الجاهلون.

[سورة الشورى [42]: الآيات 44 الى 48]

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [44] وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ [45] وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [46] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [47] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ

ص: 230

حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ [48]

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يخذله اللّه و يخلّيه بينه و بين نفسه فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ من ناصر يتولّاه من بعد خذلان اللّه إيّاه وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ حين يرونه، فذكر بلفظ الماضي تحقيقا يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ أي: إلى رجعة إلى الدنيا.

وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار قبل دخولهم فيها. و يدلّ عليه العذاب.

خاشِعِينَ متذلّلين متقاصرين مِنَ الذُّلِ ممّا يلحقهم من الذلّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ أي: يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم خفيّ ضعيف بمسارقة، كالمصبور (1) ينظر إلى السيف. و هكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، و يملأ عينيه منها.

وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ في الحقيقة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالتعريض للعذاب المخلّد، و تفويتهم الانتفاع بنعيم الجنّة وَ أَهْلِيهِمْ و أولادهم و أزواجهم و أقاربهم، لا ينتفعون بهم يَوْمَ الْقِيامَةِ إمّا أن يتعلّق ب «خسروا»، و يكون من قول المؤمنين في الدنيا. أو يتعلّق ب «قال» أي: يقولون إذا رأوا عظيم ما نزل بالظالمين يوم القيامة أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ المقيم: الدائم الذي لا زوال له. هذا تمام كلامهم، أو تصديق من اللّه لهم.

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ ممّا عبدوه و أطاعوه في المعصية نصّار يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يخذله تخلية فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى، أو النجاة.

ص: 231


1- المصبور: المحبوس للقتل.

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أجيبوا داعي ربّكم- يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- فيما دعاكم إليه و رغّبكم فيه من المصير إلى طاعته مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا يردّه بعد ما حكم به. و «من» صلة ل «مردّ». و قيل: صلة «يأتي» أي: من قبل أن يأتي يوم من اللّه لا يقدر أحد على ردّه ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ مفرّ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ إنكار لما اقترفتموه، أي: لا تقدرون أن تنكروا شيئا منه، لأنّه مدوّن في صحائف أعمالكم، و تشهد عليه ألسنتكم و جوارحكم.

فَإِنْ أَعْرَضُوا أعرض الكفّار، أي: عدلوا عمّا دعوتهم إليه فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا، أي: مأمورا بحفظهم لئلّا يخرجوا عمّا دعوتهم إليه، كما يحفظ الراعي غنمه لئلّا يتفرّقوا، فلا تحزن لإعراضهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ليس عليك إلّا إيصال المعنى إلى أفهامهم، و البيان لما فيه رشدهم، و قد بلّغت.

وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي: إذا أوصلنا إليه نعمة، من الصحّة و الغنى و الأمن فَرِحَ بِها بطرا أو أشرا. و أراد بالإنسان الجنس لا الواحد، لقوله:

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من المرض و الفقر و المخاوف بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أيدي المجرمين فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفران، ينسى النعمة رأسا، و يذكر البليّة و يعظّمها، و لا يتأمّل سببها. و هذا و إن اختصّ بالمجرمين، لكن جاز إسناده إلى الجنس، لغلبتهم و اندراجهم فيه.

و تصدير الشرطيّة الأولى ب «إذا» و الثانية ب «أن» لأنّ إذاقة النعمة محقّقة، من حيث إنّها عادة مقتضاة بالذات، بخلاف إصابة البليّة. و إقامة علّة الجزاء مقامه، و وضع الظاهر موضع المضمر في الثانية، للدلالة على أنّ هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، كما قال: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (1). إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (2).

ص: 232


1- إبراهيم: 34.
2- العاديات: 6.

[سورة الشورى [42]: الآيات 49 الى 50]

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [49] أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [50]

و لمّا ذكر إذاقة الإنسان الرحمة و إصابته بضدّها، أتبع ذلك أنّ له الملك، و أنّه يقسّم النعمة و البلاء كيف أراد وفق الحكمة و المصلحة، فقال:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرّف فيهما و فيما بينهما بما تقتضيه الحكمة، فله أن يقسّم النعمة بين العباد كيف يشاء يَخْلُقُ ما يَشاءُ من أنواع الخلق من غير مجال اعتراض. ثمّ قال إبدالا من «يخلق» إبدال البعض: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ من خلقه إِناثاً فلا يولد له ذكر وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فلا يولد له أنثى.

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً أو يجمع لهم بين البنين و البنات. تقول العرب:

زوّجت إبلي، أي: جمعت بين صغارها و كبارها. وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لا يلد و لا يولد له.

و تنقيح المعنى: أنّه سبحانه يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة، فيهب لبعض إمّا صنفا واحدا من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جميعا، و يعقم آخرين.

و لعلّ تقديم الإناث لأنّها أكثر لتكثير النسل. أو لأنّ مساق الآية للدلالة على أنّ الواقع ما يتعلّق به مشيئة اللّه، لا مشيئة الإنسان و الإناث كذلك. أو لأنّ الكلام في البلاء، و العرب تعدّهنّ بلاء. أو لتطييب قلوب آبائهنّ. و لمّا أخّر الذكور لذلك، تدارك تأخيرهم و هم أحقّاء بالتقديم بتعريفهم، لأنّ التعريف تنويه و تشهير.

و يحتمل أن يكون تأخير الذكور ثمّ تعريفهم لرعاية الفواصل.

ص: 233

ثمّ قدّم الذكران على الإناث لإعطاء كلا الجنسين حقّه من التقديم، للإشعار بأنّ تقديمهنّ أوّلا لم يكن لتقدمهنّ، و لكن لمقتض آخر، فقال: ذُكْراناً وَ إِناثاً كما قال: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى (1) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (2).

و تغيير العاطف في ذكر تزويج الذكران و الإناث، لأنّه قسيم المشترك بين القسمين. و لم يحتج إليه الرابع (3)، لإفصاحه بأنّه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدّمة.

إِنَّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد قَدِيرٌ على تكوين ما يصلحهم.

قيل: نزلت في الأنبياء صلوات اللّه و سلامه عليهم، حيث وهب لشعيب و لوط إناثا، و لإبراهيم ذكورا، و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكورا و إناثا، و جعل يحيى و عيسى عقيمين.

[سورة الشورى [42]: الآيات 51 الى 53]

وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [51] وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [52] صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [53]

ص: 234


1- الحجرات: 13.
2- القيامة: 39.
3- و هو قوله تعالى: وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً باعتباره الجملة الرابعة في الآية الشريفة.

ثمّ ذكر ما كان أجلّ النعم المذكورة، و هي النبوّة، فقال: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ و ما صحّ لأحد من البشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً إلّا أن يوحي إليه وحيا، أي:

كلاما خفيّا يدرك بسرعة. و هو عبارة عن الإلهام، أي: قذف المعنى و إلقاؤه في القلب يقظة أو نوما، كما أوحى إلى أمّ موسى عليه السّلام، و إلى إبراهيم عليه السّلام في ذبح ولده.

و عن مجاهد: أوحى اللّه الزبور إلى داود عليه السّلام في صدره.

أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي: إلّا أن يكلّمه من ورائه، كما يكلّم الملك بعض خواصّه و هو من وراء الحجاب، فيسمع صوته و لا يرى شخصه. و منه الأحاديث المعراجيّة. أو يسمع الكلام الّذي يخلق في الأجسام الجماديّة، كما اتّفق لموسى عليه السّلام في الطور.

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي: إلّا أن يرسل ملكا من الملائكة فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ فيوحي الملك إلى الأنبياء ما يشاء اللّه، أي: يبلّغ وحيه على وفق ما أمره، كجبرئيل أرسل إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و اعلم أنّ «وحيا» و ما عطف عليه منتصب بالمصدر، لأنّ «وحيا» نوع من الكلام كما فسّرنا به، و «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» صفة كلام محذوف، و المعطوف و المعطوف عليه واقعان موقع الحال. و التقدير: و ما صحّ أن يكلّم أحدا إلّا موحيا، أو مسمعا من وراء الحجاب، أو مرسلا. و الإرسال أيضا نوع من الكلام، كما تقول:

لا أكلّمه إلّا جهرا و إلّا إخفاتا، لأنّ الجهر و الإخفات ضربان من الكلام. و قرأ نافع:

أو يرسل برفع اللام.

إِنَّهُ عَلِيٌ عن الإدراك بالأبصار و سائر صفات المخلوقين حَكِيمٌ يفعل ما تقتضيه حكمته من التكلّم بأحد الأنحاء الثلاثة.

و روي: أنّ اليهود قالت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا تكلّم اللّه و تنظر اليه إن كنت نبيّا، كما كلّمه موسى و نظر إليه، فإنّا لن نؤمن لك حتّى تفعل ذلك؟ فقال: «لم ينظر موسى

ص: 235

إلى الله» فنزلت.

و عن عائشة: من زعم أنّ محمّدا رأى ربّه فقد أعظم على اللّه الفرية. ثمّ قالت: أولم تسمعوا ربّكم يقول: فتلت هذه الآية.

وَ كَذلِكَ و مثل ما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يعني: ما أوحي إليه. و سمّاه روحا، لأنّ القلوب تحيا به كما يحيا الجسد بالروح.

و قيل: جبرئيل. و المعنى: أرسلناه إليك بالوحي.

و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «هو ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يصعد إلى السماء، و إنّه لفينا».

ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ أي: الإيمان بما لا طريق إليه إلّا السمع من فروع الإسلام، فإنّه ما كان له فيه علم حتّى كسبه بالوحي، كالعلم بالصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ و غيرها. لا الإيمان الذي منشأه العقل، كالعلم بالصانع و صفاته و غيره من الأحكام العقليّة.

وَ لكِنْ جَعَلْناهُ أي: الروح، أو الكتاب، أو الإيمان نُوراً لأنّه طريق النجاة نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالتوفيق و اللطف، فإنّ من لا لطف له- لفرط عناده و التوغّل في مكابرته- فلا هداية له وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الإسلام.

صِراطِ اللَّهِ بدل من الأوّل الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ بارتفاع الوسائط و التعلّقات، فلا يملك ذلك غيره يوم القيامة. و فيه وعد و وعيد للمطيعين و المجرمين.

ص: 236

[43] سورة الزخرف

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و ثمانون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الزخرف كان ممّن يقال له يوم القيامة: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (1) ادخلوا الجنّة بغير حساب».

و عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «من أدمن قراءة حم الزخرف آمنه اللّه في قبره من هو امّ الأرض، و من ضمّة القبر، حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ، ثمّ جاءت حتّى تكون هي الّتي تدخله الجنّة بأمر اللّه سبحانه».

[سورة الزخرف [43]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم [1] وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ [2] إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [3] وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [4]

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [5]

ص: 237


1- الزخرف: 68.

و لمّا ختم اللّه تعالى سورة حم عسق بذكر القرآن و الوحي، افتتح هذه السورة بذلك، أيضا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أقسم بالقرآن على أنّه جعله قرآنا عربيّا. و هو من الأيمان الحسنة البديعة، لتناسب القسم و المقسم عليه، و كونهما من واد واحد. و نظيره قول أبي تمام: و ثناياك إنّها إغريض (1). و هو البرد.

و لعلّ إقسام اللّه بالقرآن من حيث إنّه معجز مبيّن لطرق الهدى و ما تحتاج إليه الأمّة في أبواب الديانة. أو أنّه بيّن للعرب ما يدلّ على أنّه تعالى صيّره قرآنا عربيّا.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا معانيه، لأنّه بلغتهم و أساليبهم. و يجوز أن يكون «جعلنا» بمعنى: خلقنا. و حينئذ «قرآنا عربيّا» حال من الضمير. و «لعلّ» مستعار لمعنى الإرادة ليلاحظ معناها و معنى الترجّي. و المعنى: خلقناه عربيّا غير عجميّ إرادة أن تعقله العرب، و لئلّا يقولوا: لو لا فصّلت آياته.

و في هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لأنّ المجعول هو المحدث بعينه.

وَ إِنَّهُ عطف على «إنّا» فِي أُمِّ الْكِتابِ في اللوح المحفوظ، فإنّه أصل الكتب السماويّة، فإنّها كلّها تنسخ منه، و كتب فيه ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

و قرأ حمزة و الكسائي: أمّ الكتاب بالكسر. لَدَيْنا محفوظا عندنا عن التغيير لَعَلِيٌ رفيع الشأن في الكتب، لكونه معجزا من بينها حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة.

أو محكم لا ينسخه غيره.

و اعلم أنّ «في امّ الكتاب» متعلّق ب «عليّ» و اللام لا تمنعه. أو حال منه، و «لدينا» بدل منه، أو حال من «أمّ الكتاب».

ص: 238


1- و عجزه: و لآل نوّار أرض و ميض. و النوّار: نور الشجر. و الوميض: شديد البريق و اللمعان.

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ فننحّيه و نبعّده عنكم. مجاز من قولهم: ضرب الغرائب- أي: الإبل الغريبة- عن الحوض. و منه قول الحجّاج: و لأضربنّكم ضرب غرائب الإبل. و الفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، أي: القرآن. و صَفْحاً مصدر من غير لفظه. فإنّ تنحية الذكر عنهم إعراض. أو مفعول له. أو حال بمعنى: صافحين. و أصله: أن تولّي الشي ء صفحة عنقك. و قيل:

إنّه بمعنى الجانب. فيكون ظرفا، كما تقول: ضعه جانبا، و امش جانبا. و المراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب.

أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي: لأن كنتم. و هو في الحقيقة علّة مقتضية لترك الإعراض عنهم. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي: إن بالكسر، على أنّ الجملة شرطيّة مخرجة للمحقّق مخرج المشكوك استجهالا لهم، و ما قبلها دليل الجزاء. و ذلك كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقّي، و هو عالم بذلك، و لكنّه يخيّل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحقّ، فعل من له شكّ في الاستحقاق مع وضوحه، استجهالا له.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 6 الى 14]

وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ [6] وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [7] فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [8] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [9] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [10]

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [11]

ص: 239

وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ [12] لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [13] وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ [14]

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن استهزاء قومه بقوله: وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ في الأمم الماضية وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ حكاية حال ماضية مستمرّة. يعني: من الأمم الخالية كفرت بالأنبياء و سخرت منهم، لفرط جهلهم، و استهزأت بهم كما استهزأ قومك بك، أي: فلم نضرب عنهم صفحا لاستهزائهم برسلهم، بل كرّرنا الحجج و أعدنا الرسل.

فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ أي: من القوم المسرفين من قومك، لأنّه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبرا عنهم بَطْشاً قوّة و منعة، فلا يغترّ هؤلاء المشركون بالقوّة و النجدة وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ و سلف في القرآن قصّتهم العجيبة الّتي حقّها أن تسير مسير المثل لغرابته. و فيه وعد للرسول، و وعيد لهم. يعني: لمّا أهلكوا أولئك بتكذيبهم رسلهم و عملهم القبيح، فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سألت قومك مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ القادر الّذي لا يقهر الْعَلِيمُ بمصالح العباد. لعلّ ذلك لازم مقولهم، أو ما دلّ عليه إجمالا، أقيم مقامه تقريرا لإلزام الحجّة عليهم. فكأنّهم قالوا: اللّه، كما حكى عنهم في مواضع أخر. و معناه: لينسبنّ خلقها إلى الّذي هذه أوصافه.

و هذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ اعترفوا بأنّ اللّه خالق السماوات و الأرض، ثمّ عبدوا معه غيره، و أنكروا قدرته على البعث. و يجوز أن يكون هذا مقولهم، و ما بعده استئناف.

ص: 240

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً فتستقرّون فيها. و قرأ الحرميّان و أبو عمرو و ابن عامر: مهادا. وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا تسلكونها لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً غيثا بِقَدَرٍ بمقدار ينفع و لا يضرّ، بأن يسلم معه البلاد و العباد فَأَنْشَرْنا بِهِ فأحيينا بذلك المطر بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جافّة يابسة، بإخراج النبات و الأشجار و الزروع. و تذكير الميّت لأنّ البلدة بمعنى البلد و المكان. كَذلِكَ مثل ذلك الإخراج و الإنشار تُخْرَجُونَ تنشرون من قبوركم. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بفتح التاء و ضمّ الراء.

وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أصناف المخلوقات، فمن الحيوان الذكر و الأنثى، و من غيره ممّا هو كالمقابل، كالحلو و المرّ، و الرطب و اليابس، و غير ذلك وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ما تركبونه، على تغليب المتعدّي بنفسه- و هو الركوب على الأنعام- على المتعدّي بغيره، و هو الركوب على السفينة، إذ يقال: ركبت الدابّة، و ركبت في السفينة. أو المخلوق للركوب على المصنوع له. أو الغالب على النادر. و لذلك قال:

لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي: ظهور ما تركبون. و هو الفلك و الأنعام. و جمعه للمعنى. ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مقاومين في القوّة. من: أقرن الشي ء إذا أطاقه. و أصله: وجده قرينته، إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف.

وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: راجعون. و اتّصاله بذلك لأنّ الركوب للتنقّل، و النقلة العظمى هو الانقلاب إلى اللّه في مركب الجنازة. أو لأنّه مخطر نفسه، فكم

ص: 241

من راكب دابّة عثرت به أو شمست (1) أو تقحمّت، أو طاح من ظهرها فهلك. فكان من حقّ الراكب أن لا ينسى عند الركوب يوم هلاكه و منقلبه إلى اللّه، حتّى يكون مستعدّا للقاء اللّه بإصلاحه من نفسه، و الحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم اللّه و هو غافل عنه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم اللّه. فإذا استوى على الدابّة قال: الحمد للّه على كلّ حال، سبحان الّذي سخّر لنا هذا إلى قوله:

لمنقلبون، و كبّر ثلاثا، و هلّل ثلاثا. و إذا ركب في السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (2).

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ذكر النعمة أن تقول: الحمد للّه الّذي هدانا للإسلام، و علّمنا القرآن، و منّ علينا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و تقول بعده:

سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا الآية».

و عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام: «أنّه رأى رجلا ركب دابّة فقال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا. فقال عليه السّلام: أ بهذا أمرتم؟ فقال: و بم أمرنا؟ قال: أن تذكروا نعمة ربّكم».

كان قد أغفل التحميد فنبّهه عليه. و هذا من حسن مراعاتهم لآداب اللّه، و محافظتهم على دقيقها و جليلها. جعلنا اللّه من المقتدين بهم، و السائرين بسيرتهم.

فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات، فكيف بالنظر في لطائف الديانات؟

[سورة الزخرف [43]: الآيات 15 الى 25]

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [15] أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ [16] وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ

ص: 242


1- شمس الفرس: منع ظهره، و كان لا يمكّن أحدا من ركوبه، و لا يكاد يستقرّ. و تقحّم الفرس براكبه: ألقاه على وجهه.
2- هود: 41.

لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ [17] أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ [18] وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ [19]

وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [20] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [21] بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [22] وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [23] قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [24]

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [25]

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الكفّار الّذين تقدّم ذكرهم، فقال: وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً. هذا متّصل بقوله: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» أي: و لئن سألتهم عن خالق السماوات و الأرض ليعترفنّ به، و قد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده ولدا، فقالوا: الملائكة بنات اللّه، فوصفوه بصفات المخلوقين. و سمّاه جزءا كما سمّي

ص: 243

بعضا، لأنّه بضعة من الوالد. و في هذه التسمية دلالة على استحالة الولد على الواحد الحقّ في ذاته. و قرأ أبو بكر جزءا بضمّتين.

إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ظاهر الكفران. و من ذلك نسبة الوالد إلى اللّه، لأنّها من فرط الجهل به و التحقير لشأنه، و هو أصل الكفران.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم قولهم، فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ معنى الهمزة في «أم» الإنكار و التعجّب من شأنهم و التجهيل لهم، حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءا، حتّى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخسّ ممّا اختير لهم و أبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشّر أحدهم بها اشتدّ غمّه به، كما قال:

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا بالجنس الّذي جعله له مثلا و شبها، إذ الولد لا بدّ و أن يماثل الوالد. و المعنى: أنّهم نسبوا إليه هذا الجنس، و من حالهم أنّ أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا صار وجهه أسود في الغاية، لما يعتريه من الكآبة و فرط الغمّ وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوء قلبه من الكرب غيضا و تأسّفا. و في ذلك دلالات على فساد ما قالوه. و تنكير «بنات» و تعريف «البنين»، و تقديمهنّ في الذكر، لما مرّ في قوله: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (1).

ثمّ وبّخهم بما افتروه، فقال: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي: أو جعلوا له، أو اتّخذ من يتربّى في الزينة و الترفّه، يعني: البنات وَ هُوَ فِي الْخِصامِ في المخاصمة غَيْرُ مُبِينٍ أي: ليس عندهنّ بيان، و لا يأتين ببرهان يحججن به من يخاصمنه، لضعف عقولهنّ، و نقصانهنّ عن فطرة الرجال، و ضعف رأيهنّ. فهذا مقرّر لما يدّعيه من نقصان العقل و ضعف الرأي.

و يجوز أن يكون «من» مبتدأ محذوف الخبر، أي: أو من هذا حالة ولده.

ص: 244


1- الشورى: 49.

و «في الخصام» متعلّق ب « «مبين». و إضافة «غير» إليه لا تمنعه، لما عرفت.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: ينشّأ، أي: يربّى.

و عن قتادة: قلّما تكلّمت امرأة فأرادت أن تتكلّم بحجّتها إلّا تكلّمت بالحجّة عليها.

و فيه أنّه جعل النش ء في الزينة و النعومة من المعايب و المذامّ، و أنّه من صفة ربّات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك و يأنف منه.

ثمّ بيّن كفرا آخر تضمّنه مقالتهم الشنيعة، فقال: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي: جعلوا أكمل العباد و أكرمهم على اللّه تعالى أنقصهم رأيا و أخسّهم صنفا. فهم جمعوا في كفرة ثلاث كفرات، و ذلك أنّهم نسبوا إلى اللّه الولد، و نسبوا إليه أخسّ النوعين، و جعلوه من الملائكة الّذين هم أكرم عباد اللّه على اللّه، و استحقروهم و استخفّوا بهم.

و قرأ الحجازيّان و ابن عامر و يعقوب: عند الرحمن، على تمثيل زلفاهم و اختصاصهم.

ثمّ ردّ ذلك عليهم بقوله: أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ أحضروا خلق اللّه إيّاهم فشاهدوهم إناثا، فإنّ ذلك ممّا لا يعلم إلّا بالمشاهدة. و هو تجهيل و تهكّم بهم.

يعني: أنّهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإنّ اللّه تعالى لم يضطرّهم إلى علم ذلك، و لا تطرّقوا إليه باستدلال، و لا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم، فلم يبق إلّا أن يشاهدوا خلقهم، فيخبروا عن هذه المشاهدة. و هذا كقوله: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (1).

و عن نافع: أشهدوا على افعلوا، بضمّ الهمزة و سكون الشين، و قبلها همزة الاستفهام مفتوحة، ثمّ تخفّف الثانية بين بين. و آأشهدوا، بمدّة بينهما برواية قالون.

ص: 245


1- الصافّات: 150.

سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ الّتي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم وَ يُسْئَلُونَ أي: عنها يوم القيامة. و هذا وعيد.

وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ أي: لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عَبَدْناهُمْ و ذلك لزعمهم الباطل أنّ عبادتهم بمشيئة اللّه ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: لا يعلمون صحّة ما يقولون، فقولهم باطل، لأنّه لم يصدر عن علم إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ كاذبون، كما يقول إخوانهم المجبّرة. و لا دليل على أنّهم قالوه مستهزئين لا جادّين، ليكونوا عند المجبّرة مؤمنين، و ادّعاء ما لا دليل عليه باطل. على أنّ اللّه قد حكى عنهم على سبيل الذمّ و الشهادة بالكفر: أنّهم جعلوا له من عباده جزءا، و أنّه اتّخذ بنات و أصفاهم بالبنين، و أنّهم جعلوا الملائكة المكرّمين إناثا، و أنّهم عبدوهم.

و أيضا لو كانت هذه الكلمة الّتي نطقوا بها هزءا، لم يكن لقوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ معنى.

و لمّا بين أقوالهم الزائغة، و نفى أن يكون لهم بذلك علم من طريق العقل، أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل، فقال:

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بذلك الكتاب متمسّكون. و معلوم أنّهم لم يمكنهم ادّعاء أنّ اللّه تعالى أنزل بذلك كتابا، فعلم أنّ ذلك من تخرّصهم.

و لمّا لم يكن لهم على ذلك حجّة عقليّة و لا نقليّة، جنحوا إلى تقليد آبائهم الجهلة، كما حكى اللّه سبحانه عنهم بقوله: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي:

ملّة و طريقة تؤمّ، أي: تقصد، كالرحلة للمرحول إليه وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ

ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أنّ التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، و أنّ مقدّميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه، فقال:

وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ في مجمع من الناس مِنْ نَذِيرٍ أي:

ص: 246

نذيرا، لأنّ «من» زائدة إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها متنعّموها الّذين أترفتهم النعمة، أي:

أبطرتهم، فلا يحبّون إلّا الشهوات و الملاهي إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ تخصيص المترفين إشعار بأنّ التنعّم و حبّ البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد. و قوله: «عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» خبر ل «إنّ»، أو الظرف صلة ل «مقتدون».

ثمّ قال للنذير: قالَ لهم أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ أي: أ تتّبعون آباءكم و لو جئتكم بِأَهْدى بدين أهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من دين آبائكم. و هو حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير. و فيه حسن التلطّف في الاستدعاء إلى الحقّ، و هو أنّه لو كان ما يدّعونه حقّا و هدى، و كان ما جئتكم به من الحقّ أهدى منه، كان أوجب أن يتّبع و يرجع إليه. و يجوز أن يكون ذلك خطابا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و يؤيّد الأوّل أنّه قرأ ابن عامر و حفص: قال.

و قوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أيّها المرسلون كافِرُونَ أي: إنّا ثابتون على دين آبائنا، لا ننفكّ عنه و إن جئتنا بما هو أهدى. و هذا إقناط للنذير من أن ينظروا أو يتفكّروا فيه.

ثمّ ذكر سبحانه ما فعل بهم، فقال: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأنبياء اللّه و الجاحدين لهم، فلا تبال بتكذيبهم. و في هذا إشارة إلى أنّ العاقبة المحمودة تكون لأهل الحقّ و المصدّقين لرسل اللّه.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 26 الى 35]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [26] إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [27] وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

ص: 247

[28] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ [29] وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ [30]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [31] أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [32] وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [33] وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ [34] وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [35]

ثمّ دلّ على بطلان التقليد بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ و اذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرّأ أشرف آبائهم عن التقليد و تمسّك بالدليل، حيث قال لِأَبِيهِ أي:

لعمّه الّذي هو بمنزلة أبيه في تربيته وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ بري ء من عبادتكم أو معبودكم من الأصنام و الكواكب. مصدر نعت به، و لذلك استوى فيه الواحد و المتعدّد، و المذكّر و المؤنّث.

إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي منصوب على أنّه استثناء منقطع، كأنّه قال: لكن أعبد

ص: 248

الّذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي: سيثبّتني على الهداية على الاستقبال، كما هداني في الماضي و الحال. أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني إليه. و يحتمل أن يكون مجرورا بدلا من المجرور ب «من»، على أنّه استثناء متّصل. و ذلك لأنّهم- كما قيل- كانوا يعبدون اللّه مع أوثانهم. و أن تكون «إلّا» صفة بمعنى غير، على أن «ما» في «ما تعبدون» موصوفة، تقديره: إنّني براء من آلهة تعبدونها غير الّذي فطرني.

فهو نظير قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (1).

وَ جَعَلَها و جعل إبراهيم أو اللّه كلمة التوحيد كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذرّيّته، فيكون فيهم أبدا من يوحّد اللّه و يدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحّده و تاب عمّا هو عليه.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الكلمة هي الامامة إلى يوم القيامة».

و عن السدّي: أنّ المراد بالذرّيّة هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على قريش، و هم من أعقاب إبراهيم، فقال:

بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي: هؤلاء المعاصرين من قريش وَ آباءَهُمْ بالمدّ في العمر و النعمة، و لم أعاجلهم بالعقوبة لكفرهم، فاغترّوا بذلك، و شغلوا بالتنعّم و اتّباع الشهوات و طاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ دعوة التوحيد أو القرآن وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بما له من المعجزات البيّنة. أو مبين للتوحيد بالحجج و الآيات.

وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ لينبّههم عن غفلتهم قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ أي: زادوا شرارة، فضمّوا إلى شركهم معاندة الحقّ و الاستخفاف به، فسمّوا القرآن سحرا و كفروا به، و استحقروا الرسول.

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين:

ص: 249


1- الأنبياء: 22.

مكّة و الطائف عَظِيمٍ بالجاه و المال، كالوليد بن المغيرة المخزومي من مكّة، و عروة بن مسعود الثقفي، و حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، و عتبة بن أبي ربيعة من مكّة، و كنانة بن عبد ياليل من الطائف. و كان الوليد يقول: لو كان حقّا ما يقول محمّد لنزل هذا القرآن عليّ أو على أبي مسعود الثقفي، فإنّ الرسالة منصب عظيم لا يليق إلّا بعظيم. و لم يعلموا أنّها رتبة روحانيّة تستدعي عظم النفس بالتحلّي بالفضائل و الكمالات القدسيّة، لا التزخرف بالزخارف الدنيويّة.

فردّ اللّه سبحانه ذلك عليهم، فقال إنكارا و تجهيلا و تعجيبا من تحكّمهم:

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي: النبوّة نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هم عاجزون عن تدبيرها، و هي خويصّة (1) أمرهم و ما يصلحهم في دنياهم، و لو وكلهم إلى أنفسهم و ولّاهم تدبير أمرهم لضاعوا و هلكوا. فإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنيّة في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنّك بهم في أن يدبّروا أمر النبوّة الّتي هي أعلى المراتب الإنسيّة، و رحمة اللّه الكبرى، و رأفته العظمى، و ما يتبعها من الفوز و الفلاح في دار السلام.

إن قيل: المراد بالمعيشة ما يعيشون به من المنافع، فمنهم من يعيش بالحلال، و منهم من يعيش بالحرام، فإذن قد قسّم اللّه الحرام كما قسّم الحلال.

فأجيب بأن اللّه قسّم لكلّ عبد معيشته، و هي مطاعمه و مشاربه و ما يصلحه من المنافع، و أذن له في تناولها، و لكن كلّفه أن يسلك في تناولها الطريق الّتي شرعها، فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالا، و سمّاها رزق اللّه، و إذا لم يسلكها تناولها حراما، و ليس له أن يسمّيها رزق اللّه. فاللّه تعالى قاسم المعايش و المنافع، و لكنّ العباد يكسبونها صفة الحرام بسوء تناولهم، و هو عدولهم عمّا شرعه اللّه إلى ما لم يشرعه.

ص: 250


1- أي: الّذين يختصّ بهم. و هي تصغير خاصّة.

وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ بأن أوقعنا بينهم التفاوت في الرزق و غيره، فجعلنا منهم أقوياء و ضعفاء، و أغنياء و محاويج، و موالي و خدما لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ليتسخّر بعضهم بعضا في أشغالهم و حوائجهم، فيحصل بينهم تآلف و تضامّ ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع، و لا لنقص في المقتر وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ يعني: النبوّة و ما يتبعها خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا.

ثمّ أخبر سبحانه عن هوان الدنيا عليه، و قلّة مقدارها عنده، فقال:

وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لولا كراهة أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفّار في سعة و تنعّم لحبّهم الدنيا، فيجتمعوا عليه لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ بدل من «لمن» بدل الاشتمال. و يجوز أن يكون علّة، مثل اللامين في قولك: و هبت له ثوبا لقميصه، أي: لأجل قميصه. سُقُفاً جمع سقف. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: سقفا، اكتفاء بجمع البيوت. مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ و مصاعد. جمع معرج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون السطوح، لحقارة الدنيا وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً أي: من فضّة. حذفت اكتفاء بذكرها أوّلا. عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ

وَ زُخْرُفاً و زينة، عطف على «سقفا». أو ذهبا، عطف على محلّ «من فضّة». و في معناه

قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو وزنت الدنيا عند اللّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء».

و إنّما لم يوسع الدنيا على المسلمين ليرغب الكفّار في الإسلام، لأنّ التوسعة عليهم مفسدة أيضا، لما تؤدّي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا لا محض القربة، فكانت الحكمة فيما دبّر، حيث جعل في الفريقين أغنياء و فقراء، و غلّب الفقر على الغنى.

وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة.

و قرأ عاصم و حمزة و هشام بخلاف عنه: لمّا بالتشديد، بمعنى «إلّا»، و «إن» نافية.

ص: 251

وَ الْآخِرَةُ و الجنّة الباقية عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصّة لهم. و في الآية دلالة على اللطف، و أنّه تعالى لا يفعل المفسدة و ما يدعو إلى الكفر، و إذا لم يفعل ما يؤدّي إلى الكفر فلأن لا يفعل الكفر و لا يريده أولى.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 36 الى 39]

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [36] وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [37] حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [38] وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [39]

و لمّا تقدّم ذكر الوعد للمتّقين، عقّبه بذكر الوعيد لمن هو على ضدّ صفتهم، فقال:

وَ مَنْ يَعْشُ يتعام و يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي: يعرف أنّه الحقّ ثمّ يتجاهل و يتغابى (1)، كقوله: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (2). و ذلك لفرط اشتغاله بالمحسوسات و انهماكه في الشهوات. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً نقدّر له، بمعنى: نخذله و نخلّ بينه و بين الشيطان، كقوله: وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ (3) فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يوسوسه و يغويه دائما. و قرأ يعقوب بالياء، على إسناده إلى ضمير الرحمان.

وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ جمع الضمير للمعنى، إذ المراد جنس العاشي

ص: 252


1- أي: يتغافل.
2- النمل: 14.
3- فصّلت: 25.

و الشيطان المقيّض له. و المعنى: أنّ الشياطين المقيّضين ليصدّون العاشين عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الّذي من حقّه أن يسبل وَ يَحْسَبُونَ و يحسب العاشون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أنّهم على الهدى فيتّبعونهم.

حَتَّى إِذا جاءَنا أي: العاشي. و قر الحجازيّان و ابن عامر و أبو بكر:

جاءانا، أي: العاشي و الشيطان قالَ أي: العاشي للشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ بعد المشرق من المغرب، و المغرب من المشرق. فلمّا غلّب المشرق، و جمع المفترقين بالتثنية، أضاف البعد إليهما. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت.

وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي: ما أنتم عليه من تمنّي مباعدة القرين إِذْ ظَلَمْتُمْ إذ صحّ أنّكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا. بدل من اليوم. أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ لأنّ حقّكم أن تشتركوا أنتم و شياطينكم في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه، و هو الكفر. و يجوز أن يسند الفعل إليه، بمعنى: و لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب، كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه، لتعاونهم في تحمّل أعبائه، و تقسّمهم لشدّته و عنائه، و ذلك أنّ كلّ واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 40 الى 45]

أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [40] فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [41] أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [42] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [43] وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ [44]

وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [45]

ص: 253

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يجدّ و يجتهد و يكدّ روحه في دعاء قومه، و هم لا يزيدون على دعائه إلّا تصميما على الكفر و تماديا في الغيّ، فأنكر سبحانه عليه بقوله: أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إنكار و تعجّب من أن يكون هو الّذي يقدر على هدايتهم، بعد تمرّنهم على الكفر و استغراقهم في الضلال، بحيث صار عشاهم (1) عمى مقرونا بالصم وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين.

و فيه إشعار بأنّ الموجب لذلك تمكّنهم في ضلال لا يخفى، فلا يضيقنّ صدرك تصميمهم على الكفر، فإنّه لا يقدر على هدايتهم إلّا اللّه وحده على سبيل الإلجاء و القسر، كقوله: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (2).

و لمّا وصفهم بشدّة الشكيمة بالكفر و الضلال، أتبعه شدّة الوعيد بعذاب الدنيا و الآخرة، فقال:

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ «ما» مزيدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكّدة.

و المعنى: فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم، و نشفي صدور المؤمنين منهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بأشدّ الانتقام في الآخرة. كقوله: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (3).

أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أو إن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب.

و قرأ يعقوب برواية رويس: أو نرينك، بإسكان النون. و كذا: نذهبن. فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لا يفوتوننا.

قال الحسن و قتادة: إنّ اللّه أكرم نبيّه بأن لم يره تلك النقمة، و لم ير في أمّته

ص: 254


1- عشي يعشى عشا: ساء بصره بالليل و النهار.
2- فاطر: 22.
3- غافر: 77.

إلّا ما قرّت به عينه. و قد كان بعده عليه و آله السلام نقمة شديدة. و قد روي أنه صلوات اللّه عليه و آله أري ما تلقى أمّته بعده، فما زال منقبضا، و لم ينبسط ضاحكا حتّى لقي اللّه تعالى.

و روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «إنّي لأدناهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع بمنى، حتّى قال: لألفينّكم ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض. و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنّني في الكتيبة الّتي تضاربكم. ثمّ التفت إلى خلفه فقال: أو عليّ أو عليّ، ثلاث مرّات. فرأينا أنّ جبرائيل غمزه، فأنزل اللّه على أثر ذلك: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» بعليّ بن أبي طالب».

و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أري الانتقام منهم، و هو ما كان من نقمة اللّه من المشركين يوم بدر بعد أن أخرجوه من مكّة، فقد أسر منهم و قتل مع قلّة أصحابه و ضعف منّتهم (1)، و كثرة الكفّار و شدّة شوكتهم.

ثمّ أمره سبحانه بالتمسّك بالقرآن، فقال: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ فكن متمسّكا بما أوحينا إليك من الآيات و الشرائع و بالعمل به إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج له، و لا يحيد عنه إلّا ضالّ شقيّ. فزد كلّ يوم صلابة في المحاماة على دين اللّه، و لا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شي ء من اللين و الرخاوة في أمرك.

وَ إِنَّهُ و إنّ الّذي أوحي إليك لَذِكْرٌ لشرف لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ أي: عنه يوم القيامة، و عن قيامكم بحقّه، و عن تعظيمكم له، و شكركم على أن رزقتموه و خصصتم به من بين العالمين.

وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال، لإحالته، بل في الكلام مضاف مقدّر، تقديره: و اسأل أممهم و علماء دينهم.

فإذا سألهم فكأنّه سأل الأنبياء. و قرأ ابن كثير و الكسائي بتخفيف الهمزة. أَ جَعَلْنا

ص: 255


1- المنة: القوة.

مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ و هل جاءت في ملّة من مللهم؟

و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جمع له تسعون نبيّا- منهم موسى و عيسى- ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم، و قيل له: سلهم، فلم يشكّ و لم يسأل.

و قيل: السؤال مجاز عن النظر في أديانهم و الفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قطّ في ملّة من ملل الأنبياء؟ و كفاه نظرا و فحصا نظره في كتاب اللّه المعجز المصدّق لما بين يديه، و إخبار اللّه فيه بأنّهم لا يعبدون إلّا اللّه. و هذه الآية كافية في نفسها، لا حاجة إلى غيرها. و السؤال الواقع مجازا عن النظر، حيث لا يصحّ السؤال على الحقيقة، كثير منه مساءلة الشعراء الديار و الرسوم و الأطلال. و منه قول من قال: سل الأرض من شقّ أنهارك، و غرس أشجارك، و جنى ثمارك؟ فإنّها إن لم تجبك حوارا (1) أجابتك اعتبارا. و القول الأوّل قول أكثر المفسّرين.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 46 الى 56]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [46] فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [47] وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [48] وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ [49] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [50]

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا

ص: 256


1- أي: مخاطبة بالنطق، و مجاوبة للكلام.

قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ [51] أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ [52] فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [53] فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [54] فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ [55]

فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ [56]

و لمّا تقدّم سؤال الرسول عن أحوال الرسل و ما جاؤا به، اتّصل به- استشهادا بصحّة دعوته إلى التوحيد- حديث موسى و عيسى، لأنّ أهل الكتابين إليهما ينتسبون، فذكر قصّتهما مع أمّتهما تصديقا لنبيّه في دعواه، فقال:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي: أشراف قومه. و خصّهم بالذكر و إن كان مرسلا أيضا إلى غيرهم، لأنّ من عداهم تبع لهم. فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أرسلني إليكم.

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا و أظهرها عليهم إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي: فاجئوا وقت ضحكهم استهزاء بها أوّل ما رأوها و لم يتأمّلوا فيها.

وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلّا و هي بالغة أقصى درجات الإعجاز، بحيث يحسب الناظر فيها أنّها أكبر ممّا يقاس إليها من الآيات. و المراد وصف الكلّ بالكبر. يعني: أنّ الآيات موصوفات بفرط الكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه. و كذلك الأشياء الّتي تتلاقى في الفضل، كقولك: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض. أو إلّا و هي مختصّة بنوع من الإعجاز مفضّلة على غيرها بذلك الاعتبار. فلا

ص: 257

يقال: إنّ هذا الكلام متناقض، لأنّ معناه: ما من آية من التسع إلّا و هي أكبر من كلّ واحدة منها، فتكون واحدة منها فاضلة و مفضولة في حالة واحدة.

وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالسنين و الطوفان و الجراد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي:

على وجه يرجى رجوعهم.

وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ نادوه بذلك في تلك الحال لشدّة شكيمتهم و فرط حماقتهم. أو لأنّهم كانوا يسمّون العالم الماهر ساحرا، لاستعظامهم السحر، فلم يكن صفة ذمّ. ادْعُ لَنا رَبَّكَ فيكشف عنّا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده عندك من النبوّة كما زعمت. أو من أن يستجيب دعوتك. أو أن يكشف العذاب عمّن اهتدى. أو بما عهد عندك فوفيت به، و هو الإيمان و الطاعة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ

و قال بعضهم (1) في تطبيق تسميتهم موسى بالساحر مع قولهم: «إنّنا لمهتدون»: إنّ قولهم هذا وعد منويّ إخلافه، و عهد معزوم على نكثه، كما دلّ عليه قوله: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعاء موسى إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فاجئوا نكث عهدهم بالاهتداء. فما كانت تسميتهم إيّاه بالساحر بمنافية لقولهم: «إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ».

و في هذا تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ المعنى: اصبر يا محمد على أذى قومك، فإنّ حالك معهم كحال موسى مع قومه، فيؤول أمرك إلى الاستعلاء على قومك كما آل أمره إلى ذلك.

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ جعلهم محلّا لندائه و موقعا له. و المعنى: نادى فرعون بنفسه في مجامع قومه عند عظماء القبط، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم، ثمّ ينشر عنه في جموع القبط، فكأنّه نودي به بينهم. أو أمر بالنداء في مجامعهم من نادى بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللصّ، إذا أمر بقطعه.

قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ أنهار النيل. و معظمها أربعة

ص: 258


1- الكشّاف 4: 257.

أنهر: نهر الملك، و نهر طولون، و نهر دمياط، و نهر تنّيس. تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت قصري، أو سريري، أو أمري، أو بين يديّ في جناني. و الواو إمّا عاطفة ل «هذه الأنهار» على «ملك مصر» و «تجري» حال منها. أو «هذه» مبتدأ، و «الأنهار» صفتها، و «تجري» خبرها. أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذا الملك العظيم، و شدّة قوّتي و تسلّطي، و ضعف موسى.

أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه المملكة و البسطة مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير لا يستعدّ للرئاسة. من المهانة، و هي: القلّة. و قيل: المهين الفقير الّذي يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج إليه، ليس له من يكفيه أمره. وَ لا يَكادُ يُبِينُ الكلام، لما به من العقدة الّتي في لسانه، فكيف يصلح للرسالة؟ يريد: أنّه ليس معه من العدد و آلات الملك و السياسة ما يعتضد به. و هو في نفسه مخلّ بما ينعت به الرجال من الفصاحة. و كانت الأنبياء أبيناء (1) بلغاء.

و عن الحسن: كانت العقدة زالت عن لسانه حين أرسله اللّه، كما قال مخبرا عن نفسه: وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (2)، ثمّ قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (3).

و لكن لم يعلم قومه بذلك، فعيّره بما كان في لسانه قبل.

و قيل: كان في لسانه لثغة (4)، فرفعها اللّه تعالى و بقي فيه ثقل مّا.

و «أم» منقطعة، و الهمزة للتقرير، إذ قدّم أسباب فضله، من ملك مصر و جري الأنهار تحته، و نادى بذلك في مجامعهم و قال: أنا خير. كأنّه يقول: أثبت عندكم و استقرّ أنّي أنا خير؟ أو متّصلة، على إقامة المسبّب مقام السبب. و المعنى: أ فلا تبصرون، أم تبصرون فتعلمون أنّي خير منه؟ فوضع موضع: تبصرون، قوله: «أنا

ص: 259


1- أبيناء جمع بيّن، من: بان الشي ء: اتّضح، مثل: هيّن و أهيناء.
2- طه: 27 و 36.
3- طه: 27 و 36.
4- اللثغة: النطق بالسين كالثاء، أو بالراء كالغين، إلى غير ذلك. أو ثقل اللسان بالكلام.

خير».

و لمّا وصف نفسه بالملك و العزّة، و وازن بينه و بين موسى عليه السّلام، و وصفه بالضعف و قلّة الأعضاد، اعترض فقال:

فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي: فهلّا إن كان صادقا ألقى اللّه عليه مقاليد الملك و سوّده و سوّره، إذ كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه و طوّقوه بطوق من ذهب. و أساور (1) جمع أسورة، جمع سوار. و قرأ يعقوب و حفص: أسورة. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مقرونين يعينونه، أو يصدّقونه. من: قرنته به فاقترن. أو متقارنين، من: اقترن بمعنى: تقارن.

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فطلب منهم الخفّة، و حملهم على أن يخفّوا له في مطاوعته. أو فاستخفّ أحلامهم. فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.

فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا بالإفراط في العناد و العصيان. منقول من: أسف إذا اشتدّ غضبه. انْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي: لمّا أفرطوا في المعاصي و العدوان، فاستوجبوا أن لا نحلم عنهم، فنعجّل لهم عذابنا و انتقامنا. و معنى غضبه على العصاة إرادة عقابهم، كما أن رضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الّذي يستحقّونه على طاعاتهم. و قيل: معناه آسفوا رسلنا، لأنّ الأسف بمعنى الحزن لا يجوز على اللّه تعالى. فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ في اليمّ، ما نجا منهم أحد.

فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفّار يقتدون بهم في استحقاق مثل عذابهم. مصدر نعت به. أو جمع سالف، كخدم و خادم. و قرأ حمزة و الكسائي بضمّ السين و اللام جمع سليف، كرغيف و رغف، أو سالف كصابر و صبر، أو سلف كخشب و خشب. و المعنى: و جعلناهم متقدّمين إلى النار. وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ عبرة

ص: 260


1- أي: في قراءة: أساور.

لهم. أو حديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل يحدّثون به.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 57 الى 62]

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [57] وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [58] إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ [59] وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [60] وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [61]

وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [62]

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ على قريش إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (1) امتعضوا (2) من ذلك امتعاضا شديدا.

فقال عبد اللّه بن الزبعرى: يا محمد أ خاصّة لنا و لآلهتنا، أم لجميع الأمم؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هو لكم و لآلهتكم و لجميع الأمم.

فقال: خصمتك و ربّ الكعبة، أ لست تزعم أنّ عيسى بن مريم نبيّ و تثني عليه خيرا و على أمّه؟ و قد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، و عزير يعبد، و الملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم.

ص: 261


1- الأنبياء: 98.
2- امتعض من الأمر: غضب منه و شقّ عليه.

ففرحوا و ضحكوا، و سكت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (1). ثمّ نزلت:

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا

أي: مثلا ضربه ابن الزبعرى إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ من هذا المثل يَصِدُّونَ يضجّون فرحا و ضحكا، لظنّهم أنّ الرسول صار ملزما به.

و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالضمّ من الصدود، أي: يصدّون عن الحقّ و يعرضون عنه. و قيل: هما لغتان، نحو يعكف و يعكف.

وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي: آلهتنا خير عندك أم عيسى، فإن كان عيسى في النار فلتكن آلهتنا معه ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ما ضربوا هذا المثل إلّا لأجل الجدل و الغلبة، لا لتمييز الحقّ من الباطل بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شداد الخصومة، حراص على اللجاج، كقوله تعالى: قَوْماً لُدًّا (2).

و لا شبهة أنّ قوله: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (3) ما أريد به إلّا الأصنام. و كذلك

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هو لكلم و لآلهتكم و لجميع الأمم»

إنّما قصد به الأصنام، و محال أن يقصد به الأنبياء و الملائكة. إلّا أنّ ابن الزبعرى لخداعه و خبث دخلته (4)، لمّا رأى كلام اللّه و رسوله محتملا لفظه وجه العموم، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغا، فصرف معناه إلى الشمول و الإحاطة بكلّ معبود غير اللّه، على طريق فرط الجدال و حبّ المكابرة و المغالبة، و توقّح (5) في ذلك، فتوقّر رسول

ص: 262


1- الأنبياء: 101.
2- مريم: 97.
3- الأنبياء: 98.
4- الدخلة: باطن الأمر.
5- أي: قلّ حياؤه و أظهر الوقاحة.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أجاب عنه ربّه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى (1). فدلّ به على أنّ الآية خاصّة في الأصنام. على أنّ ظاهر قوله: «وَ ما تَعْبُدُونَ» لغير العقلاء.

و قيل: لمّا سمعوا قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (2) قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنّهم عبدوا آدميّا و نحن نعبد الملائكة، فنزلت. و قوله:

«أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ» على هذا القول تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأنّ المراد بهم الملائكة.

و قيل: لمّا نزلت: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ» قالوا: ما يريد محمّد بهذا إلّا أن نعبده، و أنّه يستأهل أن يعبد و إن كان بشرا، كما عبدت النصارى المسيح و هو بشر.

فالضمير في «أم هو» لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و غرضهم بالموازنة بينه و بين آلهتهم السخريّة به و الاستهزاء.

و روى سادة أهل البيت عليهم السّلام عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «جئت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ ثمّ قال: يا عليّ مثلك في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، و أبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، و اقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم و ضحكوا و قالوا: يشبّهه بالأنبياء و الرسل. فنزلت الآية.

إِنْ هُوَ و ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ كسائر العبيد أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوّة و خلقه من غير أب وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أمرا عجيبا لهم، بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم، و صيّرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر. و هو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.

ثمّ قال سبحانه دالّا على كمال قدرته، و على أنّه لا يفعل إلّا الأصلح: وَ لَوْ

ص: 263


1- الأنبياء: 101.
2- آل عمران: 59.

نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم يا رجال مَلائِكَةً كما ولدنا عيسى من غير أب، لقدرتنا على عجائب الأمور و بدائع الفطر. أو لجعلنا بدلا منكم ملائكة فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يخلفونكم في الأرض، بأن أهلكناكم و جعلنا الملائكة بدلكم سكّان الأرض يعمرونها و يعبدون اللّه.

و المعنى: أنّ حال عيسى و إن كانت عجيبة، فاللّه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك. و أنّ الملائكة مثلكم، من حيث إنّها ذوات ممكنة و أجسام حادثة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا، و ذات القديم متعالية عن الحدوث و الإمكان، فمن أين لهم استحقاق الألوهيّة و الانتساب إلى اللّه سبحانه؟

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ و إنّ عيسى، أي: نزوله من السماء شرط من أشراطها، يعلم منه دنوّها. فسمّى الشرط علما لحصول العلم به. أو إحياؤه الموتى يدلّ على قدرة اللّه على النشر الّذي هو أوّل ساعات القيامة. و الأوّل أكثر و أشهر.

و أورد مسلم في الصحيح قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم:

تعال صلّ بنا. فيقول: لا إنّ بعضكم على بعض أمراء، تكرمة من اللّه لهذه الأمّة» (1).

و في الحديث أيضا: «ينزل عيسى على ثنيّة بالأرض المقدّسة يقال لها:

أفيق، و عليه ممصرتان، أي: حلّتان، و شعر رأسه دهين، و بيده حربة، و بها يقتل الدجّال. فيأتي بيت المقدس و الناس في صلاة الصبح و الإمام يؤمّ بهم، فيتأخّر الإمام، فيقدّمه عيسى و يصلّي خلفه على شريعة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ يقتل الخنازير، و يكسر الصليب، و يخرب البيع و الكنائس، و يقتل النصارى إلّا من آمن به».

و عن الحسن: الضمير للقرآن، فإنّ فيه الإعلام بالساعة و الدلالة عليها. و في حديث آخر: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم».

ص: 264


1- صحيح مسلم 1: 137 ح 156.

فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكّنّ فيها. من المرية، و هي الشكّ. وَ اتَّبِعُونِ و اتّبعوا هداي، أو شرعي، أو رسولي. و قيل: هو قول الرسول، أمر أن يقول:

اتّبعوني هذا أي: هذا الّذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في «و إنّه» للقرآن. صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضلّ سالكه. و قرأ أبو عمرو: فاتّبعوني.

وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن المتابعة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بانت عداوته لكم، إذ أخرج أباكم من الجنّة، و نزع عنه اللباس، و عرّضكم للبليّة.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 63 الى 66]

وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [63] إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [64] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [65] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [66]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال عيسى عليه السّلام حين بعثه اللّه نبيّا، فقال: وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، أو بآيات الإنجيل، أو بالشرائع الواضحات قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالإنجيل، أو بالشريعة وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ و هو ما يكون من أمر الدين، لا ما يتعلّق بأمر الدنيا، فإنّ الأنبياء لم يبعثوا لبيانه، و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ فيما أبلغه عنه.

ثمّ بيّن ما أمرهم بالطاعة فيه بقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ كأنّه قال: ما أمركم هو اعتقاد التوحيد و التعبّد بالشرائع هذا إشارة إلى مجموع

ص: 265

الأمرين صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يفضي بكم إلى الجنّة. و هذا من تتمّة كلام عيسى، أو استئناف من اللّه يدلّ على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزّبة بعد عيسى مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى، أو اليهود و النصارى من بين قومه المبعوث هو إليهم فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المتحزّبين مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هو يوم القيامة.

هَلْ يَنْظُرُونَ هل ينظر قريش، أو الّذين ظلموا إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من «الساعة». و المعنى: ما ينظرون إلّا إتيان الساعة بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ غافلون عنها، لاشتغالهم بأمور الدنيا، و إنكارهم لها.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 67 الى 73]

الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [67] يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [68] الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ [69] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ [70] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [71]

وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [72] لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ [73]

الْأَخِلَّاءُ الأحبّاء يَوْمَئِذٍ متعلّق ب «عدوّ» في قوله: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: يتعادون يومئذ، لأنّه ينقطع فيه كلّ خلّه بين المتخالّين في غير ذات اللّه، و ينقلب عداوة و مقتا، لأنّه ظهر عليهم في ذلك اليوم أنّ ما كانوا يتخالّون له صار

ص: 266

سببا للعذاب إِلَّا الْمُتَّقِينَ إلّا خلّة المتصادقين في اللّه، فإنّها لمّا كانت في اللّه تبقى نافعة أبد الآباد، بل تصير زائدة إذا رأوا ثواب التحابّ في اللّه و التباغض في اللّه.

و قيل: «إلّا المتّقين» إلّا المجتنبين أخلّاء السوء. و قيل نزلت: في أبيّ بن خلف و عقبة بن أبي معيط.

ثمّ حكى عمّا ينادى به المتّقون المتحابّون في اللّه يومئذ بقوله: يا عِبادِ أي: يقال لهم: يا عبادي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من فوات الثواب. و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و حفص بحذف الياء من: عباد.

ثمّ وصف المنادون بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صدّقوا بدلائلنا و حججنا و اتّبعوها. و هو منصوب المحلّ، لأنّه صفة منادى مضاف. وَ كانُوا مُسْلِمِينَ حال من الواو، أي: الّذين آمنوا مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا.

غير أنّ هذه العبارة آكد و أبلغ.

قيل: إذا بعث اللّه الناس فزع كلّ أحد، فينادي مناد: يا عبادي، فيرجوها الناس كلّهم. ثمّ يتبعها: الّذين آمنوا، فييأس الناس منها غير المسلمين.

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات تُحْبَرُونَ تسرّون سرورا بحيث يظهر حباره- أي: أثره- على وجوهكم، كقوله: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (1). أو تزيّنون، من الحبر، و هو حسن الهيئة. قال الزجّاج:

تكرمون إكراما يبالغ فيه. و الحبرة المبالغة فيما وصف بجميل.

يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ بقصاع- جمع صحفة- مأخوذة مِنْ ذَهَبٍ فيها ألوان الأطعمة وَ أَكْوابٍ كيزان لا عرى لها. جمع كوب. و هو كوز لا عروة له. وَ فِيها و في الجنّة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من أنواع النعم المشروبة

ص: 267


1- المطفّفين: 24.

و المطعومة و المشمومة و الملبوسة و غيرها. و قرأ نافع و ابن عامر و حفص: تشتهيه على الأصل.

وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ما تلذّه العيون بالنظر إليه. و إنّما أضاف الالتذاذ إلى الأعين، و إنّما المتلذّذ في الحقيقة هو الإنسان، لأنّ المناظر الحسنة سبب من أسباب اللذّة، فإضافة اللّذة إلى الموضع الّذي يلتذّ الإنسان به أحسن، لما في ذلك من البيان مع الإيجاز. و قد جمع اللّه تعالى بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعم لم يزيدوا على ما انتظمتاه.

وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ فإنّ كلّ نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ و خوف الزوال، و مستعقب للتحسّر في ثاني الحال.

وَ تِلْكَ الإشارة إلى الجنّة المذكورة وقعت مبتدأ، خبره الْجَنَّةُ. و قوله:

الَّتِي أُورِثْتُمُوها صفتها. أو «الجنّة» صفة «تلك» و «الّتي» خبرها، أو صفة «الجنّة» و الخبر بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و على هذا تتعلّق الباء بمحذوف لا ب «أورثتموها» كما في الظروف الّتي تقع أخبارا، تقديره: حاصلة بما كنتم. و على الوجه الأوّل تتعلّق ب «أورثتموها». و شبّهت الجنّة في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. و عن ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، و المؤمن يرث جنّة الكافر. و هذا كقوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (1).

لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها بعضها تَأْكُلُونَ لكثرتها و دوام نوعها. و لعلّ تخصيص التنعّم بالمطاعم و الملابس، و تكريره في القرآن، و هو حقير بالإضافة إلى سائر نعائم الجنّة، لما كان بهم من الشدّة و الفاقة في الدنيا. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا ينزع رجل في الجنّة من ثمرها إلّا نبت مكانها مثلاها».

ص: 268


1- المؤمنون: 10.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 74 الى 80]

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ [74] لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [75] وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [76] وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [77] لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [78]

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ [79] أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [80]

ثمّ أخبر سبحانه عن أحوال أهل النار، فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الكاملين في الإجرام. و هم الكفّار، لأنّه جعل قسيم المؤمنين بالآيات، و حكى عنهم ما يخصّ بالكفّار، و هو قوله: فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر «إنّ». أو «خالدون» خبر، و الظرف متعلّق به.

لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفّف. من: فترت عنه الحمّى إذا سكنت قليلا.

و التركيب للضعف. وَ هُمْ فِيهِ في العذاب مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة. و عن الضحّاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثمّ يردم عليه، فيبقى فيه خالدا لا يرى و لا يرى.

و لمّا بيّن سبحانه ما يفعله بالمجرمين، بيّن أنّه لم يظلمهم بذلك، فقال: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ على أنفسهم بما جنوا عليها من العذاب. مرّ مثله غير مرّة. و «هم» فصل عند البصريّين، عماد عند الكوفيّين.

وَ نادَوْا يا مالِكُ هو خازن جهنّم لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: سل ربّك أن يقضي علينا، أي: يميتنا حتّى نتخلّص من هذا العذاب. مأخوذ من: قضى عليه إذا

ص: 269

أماته. و منه قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ (1). و هو لا ينافي إبلاسهم، لأنّهم معذّبون أزمنة متطاولة و أحقابا ممتدّة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، و علمهم أنّه لا فرج لهم، و يغوّثون (2) أوقاتا لشدّة ما بهم.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يلقى على أهل النار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا. فيدعون: يا مالك ليقض علينا ربّك».

قالَ أي: قال اللّه، أو مالك إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لا خلاص لكم بموت و لا غيره.

لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ بالإرسال و الإنزال. و هو تتمّة الجواب إن كان في «قال» ضمير اللّه، و إلّا فجواب منه. فكأنّه تعالى تولّى جوابهم بعد جواب مالك.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ معاشر الخلق لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما في اتّباعه من إتعاب النفس و إدءاب (3) الجوارح، و لألفتكم بالباطل فكرهتم مفارقته. عن ابن عبّاس: إنّما يجيبهم بهذا الجواب بعد ألف سنة.

أَمْ أَبْرَمُوا إضراب عن الكلام السابق، أي: ما سمعوا هذا القول بسمع القبول، بل أحكموا أَمْراً من كيدهم و مكرهم بالرسول، و لم يقتصروا على كراهة الحقّ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا بهم في مجازاة ما أبرموا من كيدهم، كقوله: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (4).

أَمْ يَحْسَبُونَ بل أ يظنّ هؤلاء الكفّار أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ حديث أنفسهم بذلك، أو تحديثهم غيرهم في مكان خال وَ نَجْواهُمْ و تناجيهم، أي: ما تكلّموا به فيما بينهم بَلى نسمعهما و نطّلع عليهما وَ رُسُلُنا و الحفظة مع ذلك

ص: 270


1- القصص: 15.
2- أي: يقولون: وا غوثاه.
3- أدأب إدآبا: أتعب.
4- الطور: 42.

لَدَيْهِمْ ملازمة لهم يَكْتُبُونَ ذلك.

و عن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه، و أبداها للّذي لا يخفى عليه شي ء في السماوات، فقد جعله أهون الناظرين إليه، و هو من علامات النفاق.

[سورة الزخرف [43]: الآيات 81 الى 89]

قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [81] سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [82] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [83] وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [84] وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [85]

وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [86] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [87] وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [88] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [89]

قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ أي: صحّ ذلك و ثبت ببرهان صحيح توردونه، و حجّة واضحة تدلون بها فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي: أنا أوّل من يعظّم ذلك الولد، و أسبقكم إلى طاعته و الانقياد له، كما يعظّم الرجل ولد الملك، فإنّ النبيّ يكون أعلم باللّه.

ص: 271

و هذا كلام وارد على سبيل الفرض و التمثيل لغرض، و هو المبالغة في نفي الولد على أبلغ الوجوه. و ذلك أنّه علّق العبادة بكينونة الولد، و هي محال في نفسها، فكان المعلّق بها محالا مثلها. فهو في صورة إثبات كينونة الولد و العبادة، و في معنى نفيهما، على أبلغ الوجوه و أقواها. و نظيره أن يقول العدليّ للمجبّر: إن كان اللّه خالقا للكفر في القلوب، و معذّبا عليه عذابا سرمدا، فأنا أوّل من يقول: هو شيطان و ليس بإله.

فمعنى هذا الكلام و ما وضع له أسلوبه و نظمه: نفي أن يكون اللّه خالقا للكفر، و تنزيهه عن ذلك و تقديسه، على طريق المبالغة فيه من الوجه الّذي ذكرنا. مع الدلالة على سماجة المذهب و ضلاله الذاهب إليه، و الشهادة القاطعة بإحالته، و الإفصاح عن نفسه بالبراءة منه، و غاية النفار و الاشمئزاز من ارتكابه.

و قد تمحّل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف، الملي ء بالنكت و الفوائد المستقلّة بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه. فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أوّل الآنفين من أن يكون له ولد. من: عبد يعبد إذا اشتدّ أنفه، فهو عبد و عابد.

و قيل: «إن» نافية، أي: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل من قال بذلك و عبد و وحّد.

و قرأ حمزة و الكسائي: ولد، بالضمّ و سكون اللام.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن ذلك فقال: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ عن كونه ذا ولد، فإنّ هذه الأجسام لكونها أصولا ذات استمرار تبرّأت عمّا يتّصف به سائر الأجسام من توليد المثل، فما ظنّك بمبدعها و خالقها؟! ثمّ خاطب نبيّه على وجه التهديد للكفّار، فقال: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في

ص: 272

باطلهم وَ يَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ و هو دلالة على أنّ قولهم هذا جهل و اتّباع هوى، و أنّهم مطبوع على قلوبهم خذلانا و تخلية، كقوله:

اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (1). و إيعاد بالشقاء الأبدي في العاقبة.

و لمّا بيّن سبحانه وحدانيّته عقّبه تأكيدا لها قوله: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي: مستحقّ لأن يعبد فيهما. و الظرف متعلّق به، لأنّه بمعنى المعبود، أو متضمّن معناه، كقولك: هو حاتم في البلد، على تضمين معنى الجواد الّذي شهر به، كأنّك قلت: هو جواد في البلد.

و الراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف، لطول الصلة بمتعلّق الخبر و العطف عليه. و يجوز أن يكون «في السماء» صلة «الّذي» و «إله» خبر مبتدأ محذوف، على أنّ الجملة بيان للصلة، و أنّ كونه في السماء على سبيل الإلهيّة و الربوبيّة، لا على معنى الاستقرار. و فيه نفي الآلهة السماويّة و الأرضيّة، و اختصاصه باستحقاق الألوهيّة.

و كرّر لفظ «إله» لأمرين، أحدهما: التأكيد، ليتمكّن المعنى في النفس.

و الثاني: لأنّ المعنى: هو إله في السماء يجب على الملائكة عبادته، و إله في الأرض يجب على الإنس و الجنّ عبادته.

وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله الْعَلِيمُ بمصالح عباده. و هذا كالدليل على وحدانيّته في الألوهيّة.

ثمّ نزّه ذاته عن الشركة بقوله: وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كالهواء، أي: جلّ عن أن يكون له ولد أو شبيه من له التصرّف في السماوات و الأرض و فيما بينهما، بلا دافع و لا منازع. أو دامت بركته. وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ العلم بالساعة الّتي تقوم القيامة فيها، لأنّه لا يعلم وقته على التعيين غيره

ص: 273


1- فصّلت: 40.

وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، فيجازي كلّا على قدر عمله. و قرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و عاصم بالتاء، على الالتفات للتهديد.

وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ كما زعموا أنّهم شفعاؤهم عند اللّه. و هي مسألة الطالب العفو عن غيره و إسقاط العقاب عنه. إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ و هو توحيد اللّه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ و هو يعلم ما يشهد به عن بصيرة و إخلاص.

و توحيد الضمير ثمّ جمعه باعتبار اللفظ و المعنى. و الاستثناء متّصل إن أريد بالموصول كلّ ما عبد من دون اللّه، لاندراج الملائكة و المسيح فيه. و منفصل إن خصّ بالأصنام.

روي: أنّ النضر بن الحارث و نفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمد حقّا فنحن نتولّى الملائكة، و هم أحقّ بالشفاعة لنا منه. فنزلت الآية.

فالمعنى: أنّهم يشفعون للمؤمنين بإذن اللّه. و فيه دلالة على أنّ حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب و المعرفة.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سألت العابدين، أو المعبودين مَنْ خَلَقَهُمْ من أخرجهم من العدم إلى الوجود لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذّر المكابرة فيه من فرط ظهوره فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟! وَ قِيلِهِ و قول الرسول. عن الأخفش: أنّ نصبه للعطف على سِرَّهُمْ (1) أي: أم يحسبون أنّا لا نسمع قوله. و عنه أيضا: أنّه منصوب بإضمار فعله، أي: و قال قيله. و عن الزجّاج: أنّه معطوف على محلّ السَّاعَةِ (2) كما تقول: عجبت من ضرب زيد و عمرا. و جرّه عاصم و حمزة عطفا على لفظ «الساعة». يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ

قال صاحب الكشّاف بعد نقل هذه الأقوال: «و الّذي قالوه ليس بقويّ في

ص: 274


1- الزخرف: 80 و 85.
2- الزخرف: 80 و 85.

المعنى، مع وقوع الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، و مع تنافر النظم. و أقوى من ذلك و أوجه أن يكون الجرّ و النصب على إضمار حرف القسم و حذفه. و يكون قوله: «إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» جواب القسم. كأنّه قيل:

و أقسم بقيله يا ربّ إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون و إقسام اللّه بقيله رفع منه، و تعظيم لدعائه و التجائه إليه» (1).

فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأعرض عن دعوتهم آيسا عن إيمانهم، و ودّعهم (2) و تاركهم وَ قُلْ سَلامٌ تسلّم (3) منكم و متاركة. و قيل: معناه: قل ما تسلم به من شرّهم و أذاهم. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و عيد من اللّه لهم، و تسلية للرسول. و قرأ نافع و ابن عامر بالتاء، على أنّه من المأمور بقوله.

و هذه الآية منسوخة بآية السيف (4). و قيل: معناه: فاصفح عن سفههم، و لا تقابلهم بمثله. فلا يكون منسوخا.

ص: 275


1- الكشّاف 4: 268.
2- ودّع فلانا: هجره.
3- تسلّم منه: تبرّأ.
4- التوبة: 5 و 29.

ص: 276

[44] سورة الدخان

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة غفر له».

أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك».

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له».

أبو امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة و يوم الجمعة، بنى اللّه له بيتا في الجنّة».

و روى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الدخان في فرائضه و نوافله، بعثه اللّه من الآمنين يوم القيامة، و أظلّه تحت ظلّ عرشه، و حاسبه حسابا يسيرا، و اعطي كتابه بيمينه».

[سورة الدخان [44]: الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم [1] وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ [2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [3] فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [4]

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا

ص: 277

مُرْسِلِينَ [5] رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [6] رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [7] لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [8] بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [9]

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [10] يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ [11] رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [12] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ [13] ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [14]

إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ [15] يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [16]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الزخرف بالوعيد و التهديد، افتتح هذه السورة أيضا بمثل ذلك في الإنذار بالعذاب الشديد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ القرآن. و الواو للقسم إن جعلت «حم» تعديدا للحروف، أو اسما للسورة، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف. و للعطف إن كانت «حم» مقسما بها. و الجواب قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ أي: في ليلة القدر. و قيل: هي ليلة النصف من شعبان. و لها أربعة أسماء:

الليلة المباركة، و ليلة البراءة، و ليلة الصكّ، و ليلة الرحمة. و قيل: في تسميتها بها: إنّ البندار- أي: من في يده الخراج- إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك اللّه عزّ و جلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.

و معنى إنزال القرآن فيها: أنّ اللّه سبحانه ابتدأ فيها إنزاله، أو أنزل فيها جملة

ص: 278

إلى السماء الدنيا من اللوح الّذي يكون في السماء السابعة، ثمّ أنزله على رسول اللّه نجوما نجوما.

و معنى المباركة: الكثيرة الخير. و من بركتها إنزال القرآن فيها، فإنّ نزوله سبب للمنافع الدينيّة و الدنيويّة. و لو لم يوجد فيها إلّا إنزاله لكفى به بركة. قيل: بدأ في استنساخ القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، و وقع الفراغ في ليلة القدر.

إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف يبيّن المقتضي للإنزال. و كذا قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فإنّ كونها مفرّق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة، يستدعي أن ينزّل فيها القرآن الّذي هو من عظائمها. و يجوز أن يكون صفة «لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» و ما بينهما اعتراض.

و قيل: في ليلة القدر تدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، و نسخة الحروب إلى جبرائيل، و كذلك الزلازل و الصواعق و الخسف، و نسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب الدنيا، و هو ملك عظيم، و نسخة المصائب إلى ملك الموت.

و قيل: يعطى كلّ عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، و على القلوب هيبته.

و قيل: بركة هذه الليلة في أنّها مختصّة بخمس خصال:

تفريق كلّ أمر حكيم.

و فضيلة العبادة فيها.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة، أرسل اللّه إليه مائة ملك: ثلاثون يبشّرونه بالجنّة، و ثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، و ثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، و عشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان».

و نزول الرحمة.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه يرحم أمّتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب».

ص: 279

و حصول المغفرة.

قال عليه السّلام: «إنّ اللّه يغفر لجميع المسلمين في هذه الليلة، إلّا لكاهن، أو ساحر، أو مشاحن (1)، أو مدمن خمر، أو عاقّ للوالدين، أو مصرّ على الزنا».

و ما أعطي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تمام الشفاعة. و ذلك أنّه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته، فاعطي الثلث منها. ثمّ سأل ليلة الرابع عشر، فاعطي الثلثين. ثمّ سأل ليلة الخامس عشر، فاعطي الجميع، إلّا من شرد عن اللّه شراد البعير. و من عادة اللّه في هذه الليلة أن يزيد ماء زمزم زيادة ظاهرة.

و القول الأكثر أنّ المراد بالليلة المباركة ليلة القدر، لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (2). و لمطابقة قوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» لقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (3). و قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (4). و ليلة القدر في أكثر الأقوال في شهر رمضان.

و هذا أصحّ القولين، لأنّه منقول عن ابن عبّاس و قتادة و ابن زيد، و مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا. و هو مزيد تفخيم للأمر. و يجوز أن يكون حالا من «كلّ»، أو «أمر»، أو من ضميره المستكن في «حكيم»، لأنّه موصوف. أو حالا من أحد ضميري «أنزلناه»، يعني: آمرين أو مأمورا. و أن يراد به ما يقابل النهي، وقع مصدرا ل «يفرق»، لأنّ الأمر و الفرقان واحد، من حيث إنّه إذا حكم بالشي ء و كتبه فقد أمر به و أوجبه. أو مصدر لفعله مضمرا، من حيث إنّ الفرق به، أي: أمرنا أمرا

ص: 280


1- المشاحن: المباغض الشديد العداوة.
2- القدر: 1 و 4.
3- القدر: 1 و 4.
4- البقرة: 185.

من لدنّا.

إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من «إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» أي: إنّا أنزلنا القرآن لأنّ من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا.

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لأجل الرحمة عليهم. و وضع الربّ موضع الضمير، إشعارا بأنّ الربوبيّة تقتضي الرحمة على المربوبين، فإنّه أعظم أنواع التربية. أو علّة ل «يفرق» أو «أمرا». و «رحمة» مفعول به. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يسمع أقوال العباد الْعَلِيمُ و يعلم أحوالهم. و هو بما بعده تحقيق لربوبيّته، و إيذان بأنّها لا تحقّ إلّا لمن هذه صفاته.

رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما خبر آخر، أو استئناف. و قرأ الكوفيّون بالجرّ بدلا من «ربّك». إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم.

أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها؟ فقلتم: اللّه، علمتم أنّ الأمر كما قلنا، كما تقول: إنّ هذا إنعام زيد الّذي تسامع الناس بكرمه و اشتهر و إسخاؤه، إن بلغك حديثه و حدّثت بقصّته. و فائدة الشرطيّة التنبيه للمخاطب بأنّ من حقّك أن تكون عالما به، و لا تكون غافلا عن مثله. أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك.

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا يستحقّ العبادة غيره، إذ لا خالق سواه يُحْيِي وَ يُمِيتُ كما تشاهدون رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ

ثمّ ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي: إقرارهم غير صادر عن علم و تيقّن، و لا عن جدّ و حقيقة، بل قول مخلوط بهزء و لعب.

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ فانتظرهم في هذا اليوم. و يجوز أنّه منصوب بأنّه مفعول به. يقال: رقبته و ارتقبته، نحو: نظرته و انتظرته، أي: انتظر يوم تأتي السماء بِدُخانٍ مُبِينٍ أي: يوم شدّة و مجاعة، فإنّ الجائع يرى بينه و بين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره. أو لأنّ الهواء يظلم عام القحط، لقلّة الأمطار و كثرة

ص: 281

الغبار. أو لأنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخانا، و قد قحطوا حتّى أكلوا جيف الكلاب و عظامها.

و يروى أنّه قيل لابن مسعود: إنّ قاصّا عند أبواب كندة يقول: إنّه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق. فقال: من علم علما فليقل به، و من لم يعلم فليقل: اللّه أعلم، فإنّ من علم الرجل أن يقول لشي ء لا يعلمه: اللّه أعلم. ثمّ قال: ألا و سأحدّثكم أنّ قريشا لمّا استعصت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا عليهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. فأصابهم الجهد حتّى أكلوا الجيف و العلهز (1). و كان الرجل يرى بين السماء و الأرض الدخان، و كان يحدّث الرجل فيسمع كلامه و لا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان و نفر معه، و ناشدوه اللّه و الرحم، و واعدوه إن دعا لهم و كشف عنهم أن يؤمنوا، فلمّا كشف عنهم رجعوا إلى شركهم.

و إسناد الإتيان إلى السماء لأنّها تكفّ الأمطار الّتي هي سبب الغبار الّذي يشبهه الدخان. أو المراد يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قال: «أوّل الآيات الدخان، و نزول عيسى، و نار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر». قال حذيفة: ما الدخان يا رسول اللّه؟ فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الآية و قال: «يملأ ما بين المشرق و المغرب، يمكث أربعين يوما و ليلة. أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام. و أمّا الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه و أذنيه و دبره».

و روي أيضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة، يدخل في أسماع الكفرة، حتّى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ (2)..

ص: 282


1- العلهز: طعام كانوا يتّخذونه من الدم و وبر البعير في زمن المجاعة.
2- الحنيذ: المشويّ.

و يعتري المؤمن منه كهيئة الزكام. و تكون الأرض كلّها كبيت أو قد فيه خصاص» (1).

يَغْشَى النَّاسَ يحيط بهم. في محلّ الجرّ على أنّه صفة للدخان. و قوله:

هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: قائلين ذلك رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ منصوب المحلّ بفعل مضمر، و هو: يقولون. و «يقولون» منصوب على الحال. إِنَّا مُؤْمِنُونَ وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى من أين لهم و كيف يتذكّرون بهذه الحالة وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بيّن لهم ما هو أعظم من كشف الدخان، و هو ما ظهر على رسول اللّه من الآيات الباهرة و المعجزات الظاهرة.

ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ فلم يذّكّروا وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ فقال بعضهم: يعلّمه عداس، غلام أعجميّ لبعض ثقيف. و قال آخرون: إنّه مجنون.

إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ بدعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه لمّا دعا رفع القحط قَلِيلًا كشفا قليلا، أو زمانا قليلا، و هو ما بقي من أعمارهم إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر غبّ الكشف. و من فسّر الدخان بما هو من الأشراط قال: إذا جاء الدخان غوّث (2) الكفّار بالدعاء، فيكشفه اللّه عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدّون لا يتمهّلون. و من فسّره بما في يوم القيامة أوّله بالشرط. و التقدير: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم القيامة، أو يوم بدر. ظرف لفعل دلّ عليه إِنَّا مُنْتَقِمُونَ لا ل «منتقمون» فإنّ «إنّ» تحجزه عنه. أو بدل من «يوم تأتي». و البطش هو شدّة الألم.

[سورة الدخان [44]: الآيات 17 الى 24]

وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ [17] أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [18] وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ

ص: 283


1- الخصاص: الفرج في البناء و ما شاكله.
2- أي: قالوا: وا غوثاه.

بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [19] وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [20] وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [21]

فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [22] فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [23] وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [24]

ثمّ شبّه حالهم بحال المعاندين الّذين كانوا من قبلهم، فقال: وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ امتحنّاهم بالإمهال و توسيع الرزق عليهم، ليشكروا على ما أنعمنا عليهم و يطيعونا، فبدّلوا الشكر بالكفران، و عصوا أمرنا بالثبات على الكفر وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللّه، أو على المؤمنين، أو في نفسه، لشرف نسبه و فضل حسبه، لأنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا من سراة قومه و كرامهم.

أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ بأن أدّوهم إليّ، و أرسلوهم معي. و هم بنو إسرائيل، كقوله تعالى: أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (1). و لا تعذّبهم. أو بأن أدّوا إليّ حقّ اللّه، من الإيمان و قبول الدعوة يا عباد اللّه. و يجوز أن تكون «أن» مخفّفة، أي: و جاءهم بأنّ الشأن أدّوا إليّ. أو مفسّرة، لأنّ مجي ء الرسول متضمّن لمعنى القول، لأنّه لا يجيئهم إلّا مبشّرا و نذيرا و داعيا إلى اللّه. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ غير متّهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان اللّه إيّاه على وحيه. و هو علّة الأمر.

وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ و لا تتكبّروا عليه. بالاستهانة بوحيه و رسوله.

و «أن» كالأولى في وجهيها. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة يظهر الحقّ معها. و هذا علّة للنهي. و لذكر الأمين مع الأداء، و السلطان المبين مع العلاء،

ص: 284


1- الشعراء: 17.

شأن لا يخفى.

فلمّا قال ذلك توعّدوه بالقتل و الرجم، فقال: وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ التجأت إليه توكّلا عليه أَنْ تَرْجُمُونِ أن تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني.

و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي: عتّ بالإدغام (1).

وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل منّي، و اقطعوا أسباب الوصلة عنّي. أو فخلّوني و اتركوني لا عليّ و لا لي، و لا تتعرّضوا لي بسوء، فإنّه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم.

فَدَعا رَبَّهُ بعد ما كذّبوه و يئس من أن يؤمنوا به أَنَّ هؤُلاءِ بأنّ هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ و هو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به، و لذلك سمّاه دعاء.

قيل: كان دعاؤه: اللّهمّ عجّل لهم ما يستحقّونه بإجرامهم. و قيل. هو قوله:

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (2). و ما دعا عليهم إلّا بعد أن أذن له في ذلك.

فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي: فقال: أسر. أو قال: إن كان الأمر كذلك فأسر ببني إسرائيل. و قرأ ابن كثير و نافع بوصل الهمزة، من: سرى. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتّبعكم فرعون و جنوده إذا علموا بخروجكم.

وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً مفتوحا ذا فجوة واسعة. أو ساكنا على هيئته، قارّا على حاله، من انتصاب الماء، و كون الطريق يبسا بعد ما جاوزته، و لا تضربه بعصاك، و لا تغيّر منه شيئا ليدخله القبط، و يطمع فرعون في دخوله. فقد روي: أنّ موسى عليه السّلام لمّا جاوز البحر أراد أن يضربه بعصا فينطبق كما ضربه فانفلق، فقال سبحانه: اتركه يا موسى. إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي: سيغرقهم اللّه.

ص: 285


1- أي: بإدغام الذال في التاء.
2- يونس: 85.

[سورة الدخان [44]: الآيات 25 الى 29]

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ [25] وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ [26] وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [27] كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [28] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ [29]

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم بعد إهلاكهم، فقال: كَمْ تَرَكُوا كثيرا تركوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ محافل مزيّنة و منازل حسنة. و عن ابن عبّاس: منابر الخطباء. وَ نَعْمَةٍ أي: تنعّم كانُوا فِيها فاكِهِينَ متنعّمين كما يتنعّم الآكل بأنواع الفواكه.

كَذلِكَ مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. أو الأمر كذلك. وَ أَوْرَثْناها عطف على الفعل المقدّر، أو على «تركوا». و إيراث النعمة تصييرها إلى الثاني بعد الأول بغير مشقّة، كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة. فلمّا كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم، كان ذلك إيراثا من اللّه لهم. قَوْماً آخَرِينَ لبسوا منهم في شي ء من قرابة و لا دين و لا ولاء. و هم بنو إسرائيل، كانوا متسخّرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم اللّه على أيديهم، و أورثهم ملكهم و ديارهم. و قيل:

غيرهم، لأنّهم لم يعودوا إلى مصر.

فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ مجاز عن عدم المبالاة بهلاكهم، و عدم الاعتداد بوجودهم، كما قالت العرب على سبيل التمثيل و التخييل، مبالغة في وجوب البكاء و الجزع على موت رجل خطير و تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء و الأرض، و بكته الريح و أظلمت له الشمس، في نقيض ذلك. و منه ما

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه، إلّا بكت عليه

ص: 286

السماء و الأرض».

و كذلك يروى عن ابن عبّاس: أنّ المؤمن ليبكي عليه مصلّاه، و موضع عبادته، و مصعد عمله، و مهبط رزقه.

و عن السدّي: لمّا قتل الحسين بن عليّ عليه السّلام بكت السماء عليه، و بكاؤها حمرة أطرافها.

و روى زرارة بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «بكت السماء على يحيى بن زكريّا و على الحسين بن عليّ عليه السّلام أربعين صباحا، و لم تبك إلّا عليهما. قلت: فما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء».

و قيل: تقديره: فما بكت عليهم أهل السماء و الأرض، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.

وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر، بل عوجلوا بالعقوبة.

[سورة الدخان [44]: الآيات 30 الى 42]

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ [30] مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ [31] وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [32] وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ [33] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ [34]

إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [35] فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [36] أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ [37] وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [38] ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [39]

إِنَّ يَوْمَ

ص: 287

الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [40] يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ [41] إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [42]

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ من استعباد فرعون و قتله أبناءهم مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من «العذاب» على حذف المضاف، أي: عذاب فرعون. أو على جعل فرعون نفس العذاب، لإفراطه في التعذيب. أو حال من «المهين» يعني: واقعا من جهته. إِنَّهُ كانَ عالِياً متكبّرا متغلّبا مِنَ الْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في العتوّ و الشرارة. و هو خبر ثان، أي: كان متكبّرا مسرفا. أو حال من الضمير في «عاليا» أي: كان رفيع الطبقة في الإسراف حال كونه من بينهم.

وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ اخترنا بني إسرائيل بالنجاة عن الغرق، و إعطاء التوراة، و كثرة الأنبياء منهم عَلى عِلْمٍ عالمين بأنّهم أحقّاء بذلك. أو مع علم منّا بأنّهم يزيغون في بعض الأحوال. عَلَى الْعالَمِينَ على عالمي زمانهم وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق البحر، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السلوى ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ نعمة جليّة، أو اختبار ظاهر.

إِنَّ هؤُلاءِ يعني: كفّار قريش، لأنّ الكلام فيهم. و قصّة فرعون و قومه مسوقة للدلالة على أنّهم مثلهم في الإصرار على الضلالة، و الإنذار عن مثل ما حلّ بهم. لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي: إذا قيل لهم: إنّكم تموتون موتة يتعقّبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقّبتها حياة، قالوا: إن هي إلّا موتتنا الأولى، أي: ما الموتة الّتي من شأنها أن يتعقّبها حياة إلّا الموتة الأولى للحياة الدنيويّة دون الموتة الثانية وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين. يقال: أنشر اللّه الموتى و نشرهم إذا بعثهم.

فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول و المؤمنين، أي:

ص: 288

فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربّكم ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم، ليكون دليلا على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة و بعث الموتى حقّ.

و قيل: كانوا يطلبون من المؤمنين أن يدعوا اللّه فينشر لهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه، فإنّه كان كبيرهم و مشاورهم في النوازل و معاظم الشؤن.

و لمّا تركوا الحجّة، و عدلوا إلى الشبهة جهلا، عدل سبحانه في إجابتهم إلى الوعيد و الوعظ، فقال:

أَ هُمْ خَيْرٌ أ مشركو قريش خير في القوّة و المنعة و العدد و العدد أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ هو تبّع الحميري. و كان مؤمنا و قومه كافرين، و لذلك ذمّهم دونه. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أدري أ كان تبّع نبيّا أو غير نبيّ».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تسبّوا تبّعا، فإنّه كان قد أسلم».

و عن ابن عبّاس: كان نبيّا. و قيل: نظر ابن عبّاس إلى قبرين بناحية حمير فقال: هذا قبر رضوى، و قبر حبى بنت تبّع، و لا تشركان باللّه شيئا. و قيل: هو الّذي كسا البيت.

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ تبّع قال للأوس و الخزرج، كونوا ها هنا حتّى يخرج هذا النبيّ. أما أنا فلو أدركته لخدمته و خرجت معه».

و هو الّذي سار بالجيوش، و حيّر الحيرة، و بنى سمرقند. و قيل: هدمها ثمّ بناها. و كان إذا كتب قال: بسم اللّه الّذي ملك برّا و بحرا، و ضحّا (1) و ريحا. و سمّي تبّعا لكثرة أتباعه من الناس. و قيل: لأنّه تبع من قبله من ملوك اليمن. و اسمه أسعد أبو كرب. و قيل لملوك اليمن: التبابعة، كما قيل: الأقيال، لأنّهم يتقيّلون، أي:

يتبعون. و سمّي الظلّ تبعا، لأنّه يتبع الشمس.

وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود أَهْلَكْناهُمْ استئناف بمآل قوم تبّع

ص: 289


1- الضحّ: الشمس.

و الّذين من قبلهم، هدّد به كفّار قريش. أو حال بإضمار «قد». أو خبر من الموصول إن استؤنف به. إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ كافرين. فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك. و هذا بيان للجامع المقتضي للإهلاك.

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما و ما بين الجنسين لاعِبِينَ لاهين، بل خلقناهما لغرض حكمي، و هو أن ننفع المكلّفين بذلك و نعرّضهم للثواب. و هو دليل على صحّة الحشر، كما مرّ في سورة الأنبياء (1) و غيرها.

ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ إلّا بسبب الحقّ الّذي اقتضاه الدليل، من الإيمان و الطاعة، أو البعث و الجزاء. أو بالأمر و النهي، و التمييز بين المحسن و المسي ء.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ صحّة ما قلناه، لعدولهم عن النظر فيه و الاستدلال على صحّته.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ فصل الحقّ عن الباطل. أو المحقّ عن المبطل بالجزاء. أو فصل الرجل عن أقاربه و أحبّائه. مِيقاتُهُمْ وقت موعدهم أَجْمَعِينَ و هو يوم القيامة.

و لمّا ذكر سبحانه أنّ يوم الفصل ميقات الخلق يحشرهم فيه، بيّن أيّ يوم هو، فقال:

يَوْمَ لا يُغْنِي بدل من «يوم الفصل» أو صفة ل «ميقاتهم». أو ظرف لما دلّ عليه «الفصل» لا له، للفصل. تقديره: يفصل الحقّ من الباطل يوم لا يدفع عذاب اللّه. مَوْلًى هو الصاحب الّذي من شأنه أن يتولّى معونة صاحبه على أموره، من قريب و حليف و غيرهما ممّن هذه صفته عَنْ مَوْلًى أيّ مولى كان شَيْئاً من الإغناء، أي: قليلا منه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير ل «مولى» الأوّل باعتبار المعنى، لأنّه في المعنى كثير، لتناول اللفظ على الإبهام و الشياع كلّ مولى.

ص: 290


1- الأنبياء: 16.

إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ رحمة بالعفو عنه و قبول الشفاعة فيه، من فسّاق أهل الإيمان. و شفعاؤهم الأنبياء و الأوصياء و صلحاء المؤمنين. و محلّه الرفع على البدل من الواو، أي: لا يمنع من العذاب إلّا من رحمه اللّه. أو النصب على الاستثناء. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ لا ينصر منه من أراد تعذيبه الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه.

[سورة الدخان [44]: الآيات 43 الى 50]

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [43] طَعامُ الْأَثِيمِ [44] كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [45] كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [46] خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ [47]

ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ [48] ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [49] إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [50]

ثمّ وصف سبحانه ما يفصل به بين الفريقين، فقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ قد سبق تفسيره في سورة الصّافّات (1). و قد مرّ فيها أيضا أنّ ابن الزبعرى قال: إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد و التمر التزقّم، فدعا أبو جهل بتمر و زبد و قال: تزقّموا، فإنّ هذا هو الّذي يخوّفكم به محمّد. فنزلت: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ». طَعامُ الْأَثِيمِ الفاجر الكثير الآثام. و المراد به الكافر، لدلالة ما قبله و ما بعده عليه.

كَالْمُهْلِ و هو ما يمهل في النار حتّى يذوب، من النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضّة. و قيل: درديّ (2) الزيت. يَغْلِي فِي الْبُطُونِ إذا حصلت في أجواف أهل النار. و قرأ ابن كثير و حفص و رويس بالياء، على أنّ الضمير للطعام أو الزقّوم لا للمهل، إذ الأظهر أنّ الجملة حال من أحدهما، لأنّ المهل إنّما ذكر للتشبيه

ص: 291


1- راجع ج 5 ص 554- 555، ذيل الآية: 62 من سورة الصافّات.
2- الدرديّ من الزيت و نحوه: الكدر الراسب في أسفله.

به في الذوب كَغَلْيِ الْحَمِيمِ غليانا مثل غلي الحميم. و هو الماء الحارّ الّذي انتهى غليانه.

ثمّ يقال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ فجرّوه. و العتل: الأخذ بمجامع الشي ء و جرّه بقهر. و عن مجاهد: جرّوه على وجهه. و قرأ الحجازيّان و ابن عامر و يعقوب بالضمّ. و هما لغتان. إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه. سمّي وسط الشي ء سواء، لاستواء المسافة بينه و بين أطرافه المحيطة به. و السواء العدل.

ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ كان أصله: يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم، لأنّ الحميم حقيقة هو المصبوب لا عذابه. فقيل استعارة: يصبّ من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم للمبالغة. ثمّ أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف. و زيد «من» للدلالة على أنّ المصبوب بعض هذا النوع، فيكون أهول و أهيب.

و عن مقاتل: إنّ خازن النار يمرّ به على رأسه، فيذهب رأسه عن دماغه، و يقول له استهزاء و تقريعا على ما كان عليه من التعزّز و التكرّم على قومه: ذُقْ أي: ذق هذا العذاب الشديد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ على قومك، أو على زعمك.

و روي: أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بين جبليها- يعني: جبلي أبي قبيس و ثور- أعزّ و لا أكرم منّي، فو اللّه ما تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا.

و قيل: إنّك أنت الذليل المهين، إلّا أنّه قيل على هذا الوجه للاستخفاف به.

و قرأ الكسائي: أنّك بالفتح، أي: ذق لأنّك، أو عذاب أنّك. و عن الحسن بن علي عليه السّلام: أنّه قرأ بفتح «أنّك» على المنبر.

[سورة الدخان [44]: الآيات 51 الى 59]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [51] فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ [52] يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ [53] كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [54]

ص: 292

يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ [55]

لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [56] فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [57] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [58] فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [59]

إِنَّ هذا أي: إنّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكّون و تمارون فيه.

و بعد ذكر وعيد الكافرين المعاندين، وعد المؤمنين المطيعين، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ في موضع القيام. و المراد المكان. و هو من الخاصّ الّذي وقع مستعملا في معنى العموم، أي: في جميع الأمكنة و إن لم يكن ثمّة قيام. و قرأ نافع و ابن عامر بضمّ الميم. و هو موضع الإقامة. أَمِينٍ يأمن صاحبه عن الآفة و الانتقال. من قولك: أمن الرجل أمانة فهو أمين. و هو ضدّ الخائن. فوصف به المكان استعارة، لأنّ المكان المخيف كأنّما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.

فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ بدل من «مقام» جي ء به للدلالة على نزاهته، و اشتماله على ما يستلذّ به من المآكل و المشارب.

يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ خبر ثان. أو حال من الضمير في الجارّ و المجرور. أو استئناف. و السندس ما رقّ من الحرير. و الإستبرق ما غلظ منه. و هو تعريب استبر. و إذا عرّب خرج من أن يكون عجميّا، لأنّ معنى التعريب أن يجعل عربيّا بالتصرّف فيه، و تغييره عن منهاجه، و إجرائه على أوجه الإعراب، فلا يلزم أن يقع في القرآن العربيّ المبين لفظ أعجميّ. و قيل: هو مشتقّ من البراقة. فعربيّ محض. مُتَقابِلِينَ في مجالسهم، ليستأنس بعضهم ببعض. و قيل: متقابلين بالمحبّة، لا متدابرين بالبغضة.

كَذلِكَ الأمر كذلك. أو آتيناهم مثل ذلك. وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ

ص: 293

قرنّاهم بهنّ. و لذلك عدّي بالباء. و الحور جمع الحوراء، بمعنى البيضاء.

و العين جمع العيناء، بمعنى عظيمة العينين. و اختلف في أنّهنّ نساء الدنيا أو غيرهنّ.

يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يطلبون و يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، لا يتخصّص شي ء منها بمكان و لا زمان آمِنِينَ من نفادها و مضرّتها.

لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى بل يحيون فيها دائما. و الاستثناء منقطع أو متّصل. و الضمير للآخرة. و الموت أوّل أحوالها. أو الجنّة، و المؤمن يشاهدها عنده، فكأنّه فيها. أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي و امتناع الموت، فكأنّه قال: لا يذوقون فيها الموت إلّا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل.

فهو من باب التعليق بالمحال. و شبّه الموت بالطعام الّذي يذاق و يتكرّه عند المذاق، ثمّ نفى أن يكون ذلك في الجنّة.

و إنّما خصّهم بأنّهم لا يذوقون الموت، مع أنّ جميع أهل الآخرة لا يذوقون الموت، لما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنّة، فأمّا من يكون فيما هو كالموت في الشدّة، فإنّه لا يطلق له هذه الصفة، لأنّه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة.

وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ و صرف عنهم عذاب النار. و هذه الآية مختصّة بمن لا يستحقّ دخول النار فلا يدخلها، أو بمن استحقّ النار فتفضّل اللّه عليه بالعفو فلم يدخلها. و يجوز أن يكون المراد: و وقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد، أو على الوجه الّذي يعذّب عليه الكفّار. و على أحد هذه الوجوه؛ ليس للمعتزلة أن يتمسّكوا بها على أنّ الفاسق الملّي لا يخرج من النار، لأنّه يكون قد وقي النار.

فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: أعطوا كلّ ذلك عطاء و تفضّلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنّه خلاص عن المكاره، و فوز بالمطالب.

ص: 294

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ سهّلناه حيث أنزلناه بلغتك. و هو فذلكة للسورة.

و معناها: ذكّرهم بالكتاب المبين. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إرادة أن يفهمه قومك، فيتذكّروا ما فيه من الأمر و النهي و الوعد و الوعيد. فلمّا لم يتذكّروا به فَارْتَقِبْ فانتظر ما يحلّ بهم من عذاب اللّه إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ما يحلّ بك، متربّصون بك الدوائر.

ص: 295

ص: 296

[45] سورة الجاثية

اشارة

و تسمّى أيضا سورة الشريعة، لقوله فيها: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ (1).

و هي مكّيّة. و آيها سبع و ثلاثون آية، كوفي.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ حم الجاثية ستر اللّه عورته، و سكّن روعته عند الحساب».

و روى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، و لا يسمع زفير جهنّم و لا شهيقها، و هو مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الجاثية [45]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم [1] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [2] إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [3] وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [4]

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [5]

ص: 297


1- الجاثية: 18.

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الدخان بذكر القرآن، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم إن جعلتها اسما مبتدأ، و خبرها تَنْزِيلُ الْكِتابِ احتجت إلى إضمار مثل: تنزيل حم. و إن جعلتها تعديدا للحروف، كان «تنزيل» مبتدأ خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ القادر الّذي لا يغالب الْحَكِيمِ العالم الّذي أفعاله كلّها حكمة و صواب. و على الأوّل الجارّ صلة للتنزيل.

و قيل: «حم» مقسم به، و «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» صفته، و جواب القسم إِنَّ فِي السَّماواتِ و هو يحتمل أن يكون على ظاهره الذوات. و أن يكون المعنى: إنّ في خلق السماوات وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لدلالات واضحات على أنّ لهما مدبّرا صانعا قادرا عالما لِلْمُؤْمِنِينَ المنتفعين بالآيات.

و يؤيّد الاحتمال الثاني قوله: وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ عطف على «خلقكم». و لا يحسن عطفه على الضمير المجرور، لأنّهم استقبحوا أن يقال:

مررت بك و زيد، و هذا أبوك و عمرو.

و لا شبهة أنّ في بثّ الدوابّ و تنوّعها و منافعها، و المقاصد المطلوبة منها في المعاش آياتٌ دلائل على وجود الصانع المختار لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون علم اليقين بالتفكّر و التدبّر. و رفعه محمول على محلّ «إنّ» و اسمها.

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب بالنصب حملا على الاسم، كقولك: إنّ زيدا في الدار و عمرا في السوق، أو عمرو في السوق.

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ و في ذهاب الليل و النهار و مجيئهما على وتيرة واحدة. أو في اختلاف حالهما من الطول و القصر. أو في اختلافهما في أنّ أحدهما نور و الآخر ظلمة.

وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ من مطر. و سمّاه رزقا لأنّه سببه. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها.

وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ باختلاف جهاتها و أحوالها. و قرأ حمزة و الكسائي:

ص: 298

و تصريف الريح. آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيه القراءتان. و يلزمهما العطف على عاملين مختلفين، و هما: «في» و الابتداء، أو «إنّ». و هذا على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه. و قد أباه سيبويه. فتوجيه الآية عنده أن يكون على إضمار: في، أو ينصب «آيات» على الاختصاص، أو يرفع بإضمار: هي.

و لعلّ اختلاف الفواصل لاختلاف الآيات في الدقّة و الظهور، فإنّ معنى الآيات الثلاث أن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات و الأرض النظر الصحيح علموا أنّها مصنوعة، و أنّه لا بدّ لها من صانع، فآمنوا باللّه و أقرّوا. فإذا نظروا في خلق أنفسهم، و تنقّلها من حال إلى حال، و هيئة إلى هيئة، و في خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان، ازدادوا إيمانا و أيقنوا، و انتفى عنهم اللبس.

فإذا نظروا في سائر الحوادث الّتي تتجدّد في كلّ وقت، كاختلاف الليل و النهار، و نزول الأمطار، و حياة الأرض بها بعد موتها، و تصريف الرياح جنوبا و شمالا، و قبولا و دبورا، عقلوا و استحكم علمهم، و خلص يقينهم.

[سورة الجاثية [45]: الآيات 6 الى 11]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ [6] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [7] يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [8] وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [9] مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [10]

هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [11]

ص: 299

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلّة، عقّب. ذلك بالوعيد لمن أعرض عنها و لم يتفكّر فيها، فقال:

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي: تلك الآيات دلائله الّتي نصبها للمكلّفين نَتْلُوها عَلَيْكَ حال، و عاملها معنى الإشارة بِالْحَقِ ملتبسين به، أو ملتبسة به فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي: بعد آياته. و تقديم اسم «اللّه» للمبالغة و التعظيم، كما في قولك: أعجبني زيد و كرمه، تريد: أعجبني كرم زيد. أو بعد حديث اللّه، و هو القرآن، كقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (1). و آياته دلائله المتلوّة، أو القرآن.

و العطف لتغاير الوصفين، فإنّ الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيّن الحقّ من الباطل، و الآيات هي الأدلّة الفاصلة بين الصحيح و الفاسد. و قرأ الحجازيّان و حفص و أبو عمرو و روح: يؤمنون بالياء، ليوافق ما قبله.

وَيْلٌ كلمة وعيد يتلقّى بها الكفّار و مستحقّو العذاب. و قيل: هو واد سائل من صديد جهنّم. لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذّاب. و يطلق ذلك على من يكثر كذبه، أو يعظم كذبه، و إن كان في خبر واحد، ككذب مسيلمة في ادّعاء النبوّة أَثِيمٍ كثير الآثام.

يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ آيات القرآن الّتي فيها الحجّة تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ يقيم على كفره مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات، مزدريا لها، معجبا بما عنده. و «ثمّ» للاستبعاد و الإصرار بعد سماع الآيات، كقوله: يرى غمرات الموت ثمّ يزورها (2).

و ذلك أنّ غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه و يطلب الفرار عنها، و أمّا

ص: 300


1- الزمر: 23.
2- لجعفر بن علبة الحارثي. و صدره: لا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرّةيرى غمرات .......... و ابن حرّة كناية عن الكريم. و الغمّاء: الداهية. و غمرات الموت: شدائده، كأحوال المعركة الشديدة. و عطف ب «ثمّ» لما في لقاء الأهوال و الغمرات و زيارتها بعد رؤيتها من الاستبعاد.

زيارتها و الإقدام على مزاولتها فأمر مستبعد. فمعنى «ثمّ» الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعد ما رآها و عاينها شي ء يستبعد في العادات و الطباع. و كذلك آيات اللّه الواضحة الناطقة بالحقّ، من تليت عليه و سمعها، كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها، و استكباره عن الإيمان بها.

كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي: كأنّه، فخفّفت و حذف ضمير الشأن. و الجملة في موضع الحال، أي: يصرّ مثل غير السامع. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره.

و البشارة للتهكّم، أو على الأصل، فإنّها ما يظهر أثره على البشرة مهما كان، و إن غلب استعماله في السرور.

قيل: نزلت في النضر بن الحارث، و ما كان يشتري من أحاديث الأعاجم، و يشغل الناس بها عن استماع القرآن. و الآية عامّة في كلّ من كان مضارّا لدين اللّه.

وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً و إذا بلغه شي ء من آياتنا و علم أنّه منها اتَّخَذَها هُزُواً لذلك العلم، من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء، و ليري العوام أنّه لا حقيقة لها، كما فعله أبو جهل حين سمع قوله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ (1).

أو كما فعله النضر بن الحارث حين كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس. و الضمير ل «آياتنا». و لم يقل: اتّخذه راجعا إلى «شيئا»- كما هو مقتضى الظاهر- إشعارا بأنّه إذا سمع كلاما و علم أنّه من الآيات، بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلّها، و لم يقتصر على ما سمعه، لفرط العناد و التوغّل في اللجاج. أو الضمير راجع إلى «شيئا» و تأنيثه لأنّه بمعنى الآية.

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ من قدّامهم، لأنّهم متوجّهون إليها.

أو من خلفهم، لأنّها بعد آجالهم، فإنّ الوراء اسم للجهة الّتي يواريها الشخص من خلف أو قدّام. وَ لا يُغْنِي و لا يدفع عَنْهُمْ ما كَسَبُوا من الأموال و الأولاد

ص: 301


1- الدخان: 43- 44.

شَيْئاً من عذاب اللّه وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي: الأصنام وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يتحمّلونه.

هذا هُدىً الإشارة إلى القرآن، أي: هذا القرآن كامل في الهداية، كما تقول: زيد رجل، تريد: كامل في الرجوليّة. و يدلّ عليه قوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي: القرآن لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ و قرأ ابن كثير و يعقوب و حفص برفع «أليم». و الرجز أشدّ العذاب.

[سورة الجاثية [45]: الآيات 12 الى 13]

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [12] وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [13]

ثمّ نبّه سبحانه خلقه على وجه الدلالة على توحيده، فقال:

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب، و لا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره و أنتم راكبوها وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ و لتطلبوا بركوبها في أسفاركم من الأرباح، بالتجارة و غوص اللآلئ و الجواهر و صيد اللحم الطريّ، و غير ذلك من المنافع وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم.

وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس، و القمر، و النجوم، و المطر، و الثلج، و البرد، و غير ذلك وَ ما فِي الْأَرْضِ من الجمادات، و النباتات، و الحيوانات جَمِيعاً خلقها جميعا لانتفاعنا بها، فهي مسخّرة لنا من حيث إنّا ننتفع بها على الوجه الّذي نريده مِنْهُ حال من «ما» أي: كائنة منه، حاصلة من

ص: 302

عنده. يعني: أنّه مكوّنها و موجدها بقدرته و حكمته، ثمّ مسخّرها لخلقه. و يجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هي جميعا منه. أو خبر ل «ما في السموات»، و «سخّر لكم» تكرير للتأكيد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في صنائعه.

[سورة الجاثية [45]: الآيات 14 الى 15]

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [14] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [15]

و لمّا بيّن وحدانيّته و علمه و حكمته، خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا حذف المقول لدلالة الجواب عليه. و المعنى: قل لهم اغفروا يغفروا، أي: يصفحوا. لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لا يتوقّعون وقائعه بأعدائه. من قولهم: أيّام العرب لوقائعهم. أو لا يأملون الأوقات الّتي وقّتها اللّه لنصر المؤمنين و ثوابهم و وعدهم بها. قيل: إنّها منسوخة بآية القتال (1). لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ علّة للأمر. و القوم هم المؤمنون، أو الكافرون، أو كلاهما. فيكون التنكير للتعظيم، أو التحقير، أو الشيوع. و الكسب: المغفرة، أو الإساءة، أو ما يعمّهما. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي: لنجزي بالنون.

مَنْ عَمِلَ صالِحاً طاعة و برّا فَلِنَفْسِهِ إذ ثواب ذلك العمل عائد إليه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها إذ وبال إساءته و عقابه عليه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي: يوم القيامة إلى حيث لا يملك أحد النفع و الضرّ و النهي و الأمر غيره سبحانه، فيجازيكم على قدر أعمالكم.

ص: 303


1- التوبة: 5 و 29.

[سورة الجاثية [45]: الآيات 16 الى 20]

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [16] وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [17] ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [18] إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [19] هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [20]

و لمّا تقدّم ذكر النعم و مقابلتهم إيّاها بالكفران و الطغيان، بيّن عقيب ذلك ذكر ما كان من بني إسرائيل أيضا في مقابلة النعم بالكفران، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ التوراة وَ الْحُكْمَ و الحكمة النظريّة و العمليّة في الدين. أو فصل الخصومات. وَ النُّبُوَّةَ إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. و قد روي أنّه كان فيهم ألف نبيّ. وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ممّا أحلّ اللّه لهم من أنواع الأرزاق وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ على عالمي زمانهم، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.

و قيل: فضّلناهم في كثرة الأنبياء منهم على سائر الأمم، و إن كان أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل منهم في كثرة المطيعين المخبتين الأخيار من آله، و كثرة المطيعين للّه و المجتهدين العلماء فيهم. و هذا كما يقال: هذا أفضل في علم النحو،

ص: 304

و ذاك في علم الفقه. و الفضل الخير الزائد على غيره. فأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل بفضل محمّد و آله، و كثرة العلماء الراسخين منهم.

وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أدلّة في أمر الدين. و يندرج فيها المعجزات.

و قيل: آيات من أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مبيّنات لصدقه فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ما هو موجب لزوال الخلاف، و هو العلم بحقيقة الحال.

بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة و حسدا، و طلبا للرئاسة، و أنفة من الإذعان للحقّ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بالمؤاخذة و المجازاة له.

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ على طريقة و منهاج من أمر الدين بعد موسى و قومه، فإنّ الشريعة السنّة الّتي من سلك طريقها أدّته إلى البغية، كالشريعة الّتي هي طريق إلى الماء. فهي علامة منصوبة على الطريق- من الأمر و النهي- يؤدّي إلى الجنّة، كما يؤدّي ذلك إلى الوصول إلى الماء.

فَاتَّبِعْها فاتّبع شريعتك الثابتة بالحجج، و اعمل بها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ آراء الجهّال التابعة للشهوات، من أهل الكتاب الّذين غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم، و حبّا للرئاسة، و استتباعا للعوام.

إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا لن يدفعوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ من عذابه شَيْئاً ممّا أراد بك إن اتّبعت أهواءهم وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إذ الجنسيّة علّة الضمّ، فلا توالهم باتّباع أهوائهم وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ناصرهم و حافظهم. فلا تشغل قلبك بتناصرهم و تعاديهم عليك، فإنّ اللّه ينصرك و يحفظك. فواله بالتقى و اتّباع الشريعة.

هذا أي: القرآن، أو اتّباع الشريعة بَصائِرُ لِلنَّاسِ بيّنات تبصّرهم أمور دينهم. جعل سبحانه ما فيه من معالم الدين و الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعله روحا و حياة وَ هُدىً من الضلالة وَ رَحْمَةٌ و نعمة من اللّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون اليقين، لأنّهم هم المنتفعون به.

ص: 305

[سورة الجاثية [45]: الآيات 21 الى 23]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [21] وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [22] أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [23]

ثمّ قال سبحانه للكفّار على سبيل التوبيخ لهم: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. و الاجتراح:

الاكتساب. و منه: الجوارح. و فلان جارحة أهله، أي: كاسبهم. أَنْ نَجْعَلَهُمْ أن نصيّرهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: مثلهم. و هو ثاني مفعولي «نجعل». و الجملة الّتي هي قوله: سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ بدل من الكاف، لأنّ الجملة تقع مفعولا ثانيا، فكانت في حكم المفرد. ألا ترى لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم و مماتهم، كان سديدا، كما تقول: ظننت زيدا أبوه منطلق.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: سواء بالنصب- بمعنى: مستويا- على البدل، و محياهم و مماتهم على الفاعليّة. فكان مفردا غير جملة. أو على الحال من الضمير في الكاف، أو المفعوليّة، و الكاف حال.

و المعنى: إنكار أن يستوي المسيئون و المحسنون محيا، و أن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء، حيث ينصر اللّه المؤمنين في الدنيا، و يمكّنهم من المشركين، و لا ينصر الكافرين، و لا يمكّنهم من المسلمين، و ينزّل الملائكة عند

ص: 306

الموت على المؤمنين بالبشرى، و على الكافرين بضرب وجوههم و أدبارهم. أو حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، و أولئك على ركوب المعاصي، و مات هؤلاء على البشرى بالرحمة و الوصول إلى ثواب اللّه و رضوانه، و أولئك على اليأس من رحمة اللّه و الوصول إلى هول ما أعدّ لهم.

و قيل: معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأنّ المسيئين و المحسنين مستو محياهم في الرزق و الصحّة، و إنّما يفترقون في الممات.

و قيل: سواء محياهم و مماتهم كلام مستأنف، على معنى: أنّ محيا المسيئين و مماتهم سواء، و كذلك محيا المحسنين و مماتهم، فإنّ كلّا يموت على حسب ما عاش عليه، فلا يكون حال هؤلاء مساوية لهؤلاء.

و قيل: الضمير للكفّار. و المعنى: أنّهم يتساوون محيا و مماتا، لأنّ الحيّ متى لم يفعل الطاعة فهو بمنزلة الميّت.

ساءَ ما يَحْكُمُونَ ساء حكمهم هذا. أو بئس شيئا حكموا به ذلك.

و عن تميم الداري: أنّه كان يصلّي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي و يردّدها إلى الصباح.

و عن الفضيل: أنّه بلغها فجعل يردّدها و يبكي و يقول: يا فضيل، ليت شعري من أيّ الفريقين أنت.

وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ أي: لم يخلقهما عبثا، و إنّما خلقهما لنفع خلقه، بأن يكلّفهم و يعرّضهم للثواب الجزيل. و هذا كالدليل على الحكم السابق، من حيث إنّ خلق ذلك بالحقّ المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، و التفاوت بين المسي ء و المحسن في المحيا و بعد الممات.

وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عطف على «بالحقّ» لأنّه في معنى العلّة. أو على علّة محذوفة، مثل: ليدلّ بها على قدرته. أو ليعدل و لتجزى. وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب و تضعيف عقاب.

ص: 307

أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن يكون مطواعا لهوى النفس، يتّبع كلّ ما تدعوه إليه، فيترك متابعة الهدى رأسا إلى مطاوعة الهوى، فلا يهوى شيئا إلّا ركبه، فكأنّه يعبده كما يعبد الرجل إلهه وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ و خذله و خلّاه عَلى عِلْمٍ عالما بأنّ اللطف لا يجديه، و يستحقّ التخلية و الخذلان. أو مع علمه بوجوه الهداية، و إحاطته بأنواع الألطاف المحصّلة و المقرّبة.

وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ خذلانا. فلا يبالي بالمواعظ، و لا يتفكّر في الآيات. وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً تخلية. فلا ينظر بعين الاستبصار و الاعتبار.

و مرّ تفسير (1) الطبع و الختم و الإضلال و الغشاوة غير مرّة. و قرأ حمزة و الكسائي:

غشوة.

فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد إضلاله و منع ألطافه. أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أ فلا تتّعظون بهذه المواعظ؟ و هذا استبطاء بالتذكّر منهم.

[سورة الجاثية [45]: الآيات 24 الى 26]

وَ قالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [24] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [25] قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [26]

ص: 308


1- راجع ج 1 ص 60، ذيل الآية 7 من سورة البقرة، و غيرها.

ثمّ أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال: وَ قالُوا ما هِيَ ما الحياة أو الحال إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الّتي نحن فيها نَمُوتُ وَ نَحْيا أي: نكون أمواتا نطفا و ما قبلها، و نحيا بعد ذلك. أو نموت بأنفسنا، و نحيا ببقاء أولادنا. أو يموت بعضنا، و يحيا بعضنا. أو يصيبنا الموت و الحياة فيها، و ليس وراء ذلك حياة. و يحتمل أنّهم أرادوا به التناسخ، فإنّه عقيدة أكثر عبدة الأوثان.

وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ إلّا مرور الزمان. و هو في الأصل مدّة بقاء العالم، من: دهره إذا غلبه.

و المعنى: أنّهم قالوا: المؤثّر في هلاك أنفسنا ليس إلّا مرور الزمان، و كرور الليالي و الأيّام. فينكرون ملك الموت، و قبضه الأرواح بأمر اللّه. و كانوا يضيفون كلّ حادثة تحدث إلى الدهر و الزمان. و ترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان. و منه قوله عليه السّلام: «لا تسبّوا الدهر هو اللّه».

أي: فإنّ اللّه هو الآتي بالحوادث لا الدهر.

وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ بنسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك و ما يتعلّق بها مِنْ عِلْمٍ أي: ما يقولون ذلك عن علم، و لكن عن ظنّ و تخمين إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ إذ لا دليل لهم عليه، و إنّما قالوه بناء على التقليد.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم.

أو مبيّنات له. ما كانَ حُجَّتَهُمْ ما كان لهم ما يتمسّك به في مقابلتها إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا أي: أحيوهم حتّى نعلم أنّ اللّه قادر على بعثنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

و إنّما سمّاه حجّة و ليس بحجّة، لأنّه في حسبانهم حجّة، فساقه مساقها. أو لأنّه في أسلوب قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع (1). كأنّه قيل: إلّا ما ليس بحجّة.

ص: 309


1- لعمرو بن معد يكرب. و صدره: و خيل قد دلفت لها بخيل. و تقدّم شرحه في ج 2 ص 288.

و المراد نفي أن يكون لهم حجّة البتّة. فسمّيت حجّة على سبيل التهكّم.

و إنّما لم يجبهم اللّه إلى ذلك، لأنّهم إنّما قالوا ذلك متعنّتين مقترحين، لا طالبين الرشد. و لهذا خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رادّا عليهم قولهم بقوله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ في دار الدنيا، لأنّه لا يقدر على الإحياء أحد سواه ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأن يبعثكم و يعيدكم أحياء لا رَيْبَ فِيهِ لقيام الحجّة على أنّ من قدر على فعل الحياة في وقت، قدر على فعلها في كلّ وقت. فلمّا كان يقدر على الإبداء، فلا ريب أنّه يقدر على الإعادة، بل كانت أهون عليه من الإبداء. و أيضا الحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مرّ مرارا، و الوعد المصدّق بالآيات دلّ على وقوعها، و إذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم، لكنّ الحكمة اقتضت أن يعادوا يوم الجمع للجزاء.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لقلّة تفكّرهم، و قصور نظرهم على ما يحسّونه.

[سورة الجاثية [45]: الآيات 27 الى 37]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [27] وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [28] هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [29] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [30] وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ [31]

وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ

ص: 310

لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [32] وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [33] وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [34] ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [35] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ [36]

وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [37]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تعميم المقدرة بعد تخصيصها وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي: و يخسر العادلون عن الحقّ الفاعلون للباطل يوم تقوم الساعة. و «يومئذ» بدل منه.

وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً مجتمعة. من الجثوة، و هي الجماعة. و جمعها: جثيّ.

و في الحديث: «من جثى جهنّم» (1).

أو باركة مستوفزة (2) على الركب. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا صحائف أعمالها. فاكتفى باسم الجنس، كقوله:وَ وُضِعَ الْكِتابُ

ص: 311


1- هذه قطعة من حديث الحرث بن الحرث الأشعري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم ...» : و جثى جمع الجثوة، و هي: الحجارة المجموعة. انظر مسند أحمد 4: 130.
2- استوفز في قعدته: قعد غير مطمئن، كأنه يتهيأ للوثوب.

فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ (1). و قرأ يعقوب: كلّ، على أنّه بدل الأولى.

و «تدعى» صفة، أو مفعول ثان. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ محمول على القول، تقديره: يقال لهم هذا القول. و إضافة الكتاب إليهم للملابسة، فإنّ أعمالهم مثبتة فيه. و قيل: المراد كتابها المنزل على رسولها ليسألوا عمّا عملوا به.

هذا كِتابُنا أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه، لأنّه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة و لا نقصان إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ نستكتب الملائكة ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أعمالكم.

و عن ابن عبّاس: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يشهد بما قضي فيه من خير و شرّ. و على هذا؛ فيكون معنى «نستنسخ»: أنّ الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوّن عنده من أحوال العباد، من الكافرين و المؤمنين.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ في جنّته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الفلاح الظاهر، لخلوصه عن الشوائب.

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي: فيقال لهم: ألم يأتكم رسلي، فلم تكن آياتي تُتْلى عَلَيْكُمْ فحذف القول و المعطوف عليه، اكتفاء بالمقصود، و استغناء بالقرينة فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها، و تعظّمتم عن قبولها وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي: كافرين، كما قال: أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (2).

وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ يحتمل الموعود به، أي: ما وعد اللّه به من الثواب و العقاب. أو المصدر. حَقٌ كائن هو أو متعلّقه لا محالة وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها في حصولها. إفراد للمقصود، عطفا على محلّ «إنّ» و اسمها. و قرأ حمزة بالنصب، عطفا على اسمها.

ص: 312


1- الكهف: 49.
2- القلم: 35.

قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أيّ شي ء الساعة؟ استغرابا لها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أصله: نظنّ ظنّا، فأدخل حرفا النفي و الاستثناء لإثبات الظنّ و نفي ما عداه، كأنّه قال: ما نحن إلّا نظنّ ظنّا. أو لنفي ظنّهم فيما سوى ذلك مبالغة. ثمّ أكّده بقوله:

وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي: لإمكانه.

وَ بَدا لَهُمْ ظهر لهم سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا على ما كانت عليه، بأن عرفوا قبحها، و عاينوا و خامة عاقبتها. أو جزاؤها. و تسميته بها من قبيل وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (1). وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: جزاء استهزائهم.

وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في العذاب ترك ما ينسى كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا كما تركتم مقتضى عدته، و لم تبالوا به. و إضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه، كمعنى إضافة المكر في قوله: مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ (2) أي:

نسيتم لقاء جزاء اللّه في يومكم هذا. وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونكم منها، و يدفعونها عنكم.

ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً استهزأتم بها، و لم تتفكّروا فيها وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بحسنها و زينتها، فحسبتم أن لا حياة سواها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها و قرأ حمزة و الكسائي بفتح الياء و ضمّ الراء. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و لا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم- أي: يرضوه- لفوات أوانه. يقال: أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرّتي راجعا عن الإساءة.

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ إذ الكلّ نعمة منه، و دالّ على كمال قدرته. فاحمدوه، فإنّ مثل هذه الربوبيّة العامّة يوجب الحمد و الثناء على كلّ مربوب.

ص: 313


1- الشورى: 40.
2- سبأ: 33.

وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إذ ظهر فيها آثار كبريائه و عظمته.

فكبّروه، فإنّ حقّ مثله أن يكبّر و يعظّم. و في الحديث: «يقول اللّه سبحانه: الكبرياء ردائي، و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في جهنّم».

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغلب الْحَكِيمُ فيما قدّر و قضى. فاحمدوه، و كبّروه، و أطيعوا له.

ص: 314

[46] سورة الأحقاف

اشارة

مكّيّة. قال ابن عبّاس و قتادة: إلّا آية منها نزلت بالمدينة: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (1) في عبد اللّه بن سلام.

و هي خمس و ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأحقاف، اعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات، و محي عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات».

و عن عبد اللّه بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف، لم يصبه اللّه بروعة في الدنيا، و آمنه من فزعه يوم القيامة».

[سورة الأحقاف [46]: الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم [1] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [2] ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [3] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا

ص: 315


1- الأحقاف: 10.

مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [4]

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ [5] وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [6] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [7] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [8]

و لمّا ختم اللّه سورة الجاثية بذكر التوحيد، و ذمّ أهل الشرك و الوعيد، افتتح هذه السورة أيضا بالتوحيد، ثمّ بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قد مرّ (1) تفسيره ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ إلّا خلقا ملتبسا بالحقّ.

و هو ما تقتضيه الحكمة و المعدلة. و فيه دلالة على وجود الصانع الحكيم، و البعث للمجازاة، على ما قرّرناه مرارا. وَ أَجَلٍ مُسَمًّى و بتقدير أجل مسمّى ينتهي إليه الكلّ. و هو يوم القيامة. أو أجل كلّ واحد. و هو آخر مدّة بقائه المقدّرة له.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أنذروه من هول ذلك اليوم الّذي لا بدّ لكلّ خلق من انتهائه إليه. و يجوز أن تكون «ما» مصدريّة، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم.

ص: 316


1- راجع ص 298، ذيل الآية 2 من سورة الجاثية.

مُعْرِضُونَ عادلون عن أن يتفكّروا فيه، و يستعدّوا لحلوله.

قُلْ لهؤلاء الكفرة أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمّل فيها، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شي ء من أجزاء العالم، فتستحقّ به العبادة؟ و تخصيص الشرك بالسماوات احتراز عمّا يتوهّم أنّ للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفليّة.

ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا من قبل هذا الكتاب، يعني: القرآن، فإنّه ناطق بالتوحيد و إبطال الشرك، فإنّه ما من كتاب أنزل من قبله من كتب اللّه إلّا و هو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحّة ما أنتم عليه من عبادة غير اللّه.

أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أو بقيّة من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين. هل فيها ما يدلّ على استحقاقهم للعبادة؟ من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أي:

على بقيّة شحم كانت بها. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم، أي: هاتوا إحدى هذه الحجج الثلاث. أولاها: دليل العقل. و الثانية: الكتاب. و الثالثة: الخبر المتواتر. فإذا لم يمكنكم شي ء من ذلك فقد وضح بطلان دعواكم.

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ من الجنّ و الإنس و الأوثان. و معنى الاستفهام فيه: إنكار أن يكون أحد أضلّ من المشركين، حيث تركوا عبادة السميع المجيب الخبير، القادر على تحصيل كلّ بغية و مرام، إلى عبادة مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ دعاءه، فضلا أن يعلم سرائره، و يراعي مصالحه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: أبدا ما دامت الدنيا وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لأنّهم إمّا جمادات، و إمّا عباد مشتغلون بأحوالهم.

وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً يضرّونهم و لا ينفعونهم، كقوله تعالى:

ص: 317

وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (1) وَ كانُوا و كانت آلهتهم بِعِبادَتِهِمْ بعبادة عبدتهم كافِرِينَ مكذّبين بلسان الحال أو المقال. و قيل: الضمير للعابدين. و هو كقوله:

وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (2). و على الأوّل كنّي عن الآلهة بالواو و النون، لأنّه أضيف إليها ما يكون للعقلاء، كقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (3).

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا حجج و شواهد من القرآن، و سائر المعجزات الّتي ظهرت على يد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَيِّناتٍ واضحات، أو مبيّنات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ لأجله و في شأنه. فاللام فيه كما في قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً (4). و المراد بالحقّ الآيات، و بالّذين كفروا المتلوّ عليهم. فوضع الظاهران موضع الضميرين، للتسجيل عليها بالحقّ، و عليهم بالكفر و الانهماك في الضلالة لَمَّا جاءَهُمْ أي: بادروه بالجحود ساعة أتاهم و أوّل ما سمعوه، من غير نظر و تأمّل، عنادا و لجاجا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر بطلانه.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب عن ذكر تسميتهم إيّاه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه، و هو إسناد الافتراء إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و معنى الهمزة الإنكار و التعجيب.

كأنّه قيل: دع هذا و اسمع قولهم المستنكر الموجب للتعجّب. و ذلك أنّ محمدا كان لا يقدر عليه حتّى يقوله و يفتريه على اللّه، و ذلك باطل، لأنّه قدر عليه دون أمّة العرب، فكانت قدرته عليه معجزة، لخرقها العادة، و إذا كانت معجزة كانت تصديقا من اللّه له، و الحكيم لا يصدّق الكاذب، فلا يكون مفتريا.

قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على الفرض فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: إن

ص: 318


1- مريم: 82.
2- الأنعام: 23.
3- يوسف: 4.
4- الأحقاف: 11.

عاجلني اللّه بعقوبة الافتراء، فلا تقدرون على دفع شي ء منها، فكيف أجترئ عليه، و أعرض نفسي للعقاب، من غير توقّع نفع و لا دفع ضرّ من قبلكم؟! هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ تندفعون فيه من القدح في آياته، بتسميتها سحرا تارة و افتراء اخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق و البلاغ، و عليكم بالكذب و الإنكار. و هو وعيد بجزاء إفاضتهم. وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعد بالمغفرة و الرحمة لمن تاب و آمن، و إشعار بحلم اللّه عنهم مع عظم جرأتهم.

[سورة الأحقاف [46]: آية 9]

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ [9]

روي: أنّهم كانوا يقترحون عليه الآيات، و يسألونه عمّا لم يوح به إليه من الغيوب، فنزلت:

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ البدع بمعنى البديع، كالخفّ بمعنى الخفيف.

و المعنى: ما كنت بديعا- أي: لست بأوّل رسول بعث- فآتيكم بكلّ ما تقترحونه، و أخبركم بكلّ ما تسألون عنه من المغيّبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلّا بما آتاهم اللّه من آياته، و لا يخبرون إلّا بما أوحى إليهم، و لم يقدروا على المقترحات إلّا بمشيئة اللّه، فكيف أقدر على مقترحاتكم؟! وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ما يصير إليه أمري و أمركم في الدنيا. فلا أدري أ أموت أم أقتل؟ و لا أدري أيّها المكذّبون أ ترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم؟ أو غير ذلك من أنواع العقاب على الأمم المكذّبة في الدنيا، إذ لا علم لي بالغيب. و أمّا في الآخرة؛ فإنّه قد علم أنّه في الجنّة، و أنّ من كذّبه في النار.

و هذا الوجه منقول عن الحسن و السدّي.

ص: 319

و عن الكلبي: قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه- و قد ضجروا من أذى المشركين-: حتّى متى نكون على هذا؟ فقال: «ما أدري ما يفعل بي و لا بكم، أ أترك بمكّة، أم أؤمر بالمهاجرة عنها إلى بلد آخر؟».

و عن ابن عبّاس معناه: لا أعلم ما يفعل بي و لا بكم في الآخرة. ثمّ قال: هي منسوخة بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ (1).

و يجوز أن يكون نفيا للدراية المفصّلة، أي: لا أدري ما يصنع بي و بكم على التفصيل؟ لأنّه عالم بحاله و حالهم على الإجمال.

و اعلم أنّ لفظة «لا» مزيدة لتأكيد النفي المشتمل على «ما يفعل بي». و «ما» إمّا موصولة منصوبة، أو استفهاميّة مرفوعة.

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ لا أتجاوزه. و هو جواب عن اقتراحهم الإخبار عمّا لم يوح إليه من الغيوب، أو استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من أذى المشركين. وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من عقاب اللّه مُبِينٌ بيّن الإنذار بالشواهد المبيّنة و المعجزات المصدّقة.

[سورة الأحقاف [46]: آية 10]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [10]

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم من مكّة إلى المدينة، نظر ابن سلام إلى وجهه، فعلم أنّه ليس بوجه كذّاب. و تأمّله فتحقّق أنّه هو النبيّ المنتظر. و قال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ. ما أوّل أشراط الساعة؟ و ما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ و الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟

ص: 320


1- الفتح: 2.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب.

و أمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد حوت. و أمّا الولد؛ فإذا سبق ماء الرجل نزعه، و إن سبق ماء المرأة نزعته.

فقال: أشهد أنّك رسول اللّه حقّا. ثمّ قال: يا رسول اللّه إنّ اليهود قوم بهت (1)، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك.

فجاءت اليهود، فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ رجل عبد اللّه فيكم؟

قالوا: خيرنا و ابن خيرنا، و سيّدنا و ابن سيّدنا، و أعلمنا و ابن أعلمنا.

قال: أرأيتم إن أسلم عبد اللّه؟

قالوا: أعاذه اللّه من ذلك.

فخرج إليهم عبد اللّه فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه.

فقالوا: شرّنا و ابن شرّنا، و انتقصوه.

قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه و أحذر.

قال سعد بن أبي وقّاص: ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنّه من أهل الجنّة، إلّا لعبد اللّه بن سلام. و فيه نزلت:

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني، أي: ماذا تقولون إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: القرآن وَ كَفَرْتُمْ بِهِ و قد كفرتم به. و يجوز أن تكون الواو عاطفة على الشرط. و كذا الواو في قوله: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلّا أنّها تعطفه بما عطف عليه- و هو قوله: «فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ»- على جملة ما قبله، و هو قوله: «كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ».

و الشاهد عبد اللّه بن سلام. و عن مسروق: هو موسى. و شهادته: ما في التوراة من نعت الرسول.

ص: 321


1- بهت جمع بهّات و بهوت، و هو الّذي يبهت السامع بما يفتري عليه من الكذب.

عَلى مِثْلِهِ مثل القرآن. و هو ما في التوراة من المعاني المصدّقة للقرآن المطابقة له، من التوحيد و الوعد و الوعيد، و غير ذلك. و يدلّ عليه قوله تعالى:

وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (1). إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (2). كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ (3).

و يجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند اللّه و كفرتم به، و شهد شاهد على نحو ذلك. يعني: كونه من عند اللّه. فَآمَنَ فآمن الشاهد بالقرآن لمّا رآه من جنس الوحي مطابقا للحقّ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان. و جواب الشرط محذوف، تقديره: ألستم ظالمين؟ و يدلّ على حذفه قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإنّه استئناف مشعر بأنّ كفرهم به لضلالهم المسبّب عن ظلمهم.

[سورة الأحقاف [46]: الآيات 11 الى 12]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [11] وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ [12]

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار الّذى جحدوا وحدانيّته، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: لأجلهم و في حقّهم لَوْ كانَ الإيمان، أو ما أتى به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خَيْراً نفعا عاجلا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ يعني:

ص: 322


1- الشعراء: 196.
2- الأعلى: 18.
3- الشورى: 3.

قالت كفّار مكّة في حقّ من يتّبع محمّدا من الفقراء و الموالي و الرعاة- مثل: عمّار، و صهيب، و ابن مسعود، و أمثالهم من السقّاط-: لو كان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الأذلّاء.

و قيل: لمّا أسلمت جهينة و مزينة و أسلم و غفار، قالت بنو عامر و غطفان و أسد و أشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم (1).

و قيل: هذا قول اليهود حين أسلم ابن سلام و أصحابه.

وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ بالقرآن حيث لم يتدبّروا فيه. و الظرف متعلّق بمحذوف تقديره: و إذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم. و قوله: فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ مسبّب عنه. و هذا كقولهم: أساطير الأوّلين.

وَ مِنْ قَبْلِهِ و من قبل القرآن. و هو خبر لقوله: كِتابُ مُوسى ناصب لقوله: إِماماً وَ رَحْمَةً على الحال، كقولك: في الدار زيد قائما. و المعنى: قدوة يؤتمّ به في دين اللّه و شرائعه، كما يؤتمّ بالإمام. و رحمة لمن آمن به و عمل بما فيه.

وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى، أو لما بين يديه لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير «كتاب» في «مصدّق». أو «كتاب» لتخصّصه بالصفة. و عاملها معنى الإشارة. و ذكر اللسان توكيد، كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر «رجلا» توكيدا. و فائدة هذه الحال الإشعار بالدلالة على أنّه مع كونه مصدّقا للتوراة، مفهوم المراد لكفّار قريش، لأنّه نزل بلغتهم على أفصح الكلام و أبلغ البيان.

و قيل: مفعول «مصدّق». و المعنى: يصدّق ذا لسان عربيّ بإعجازه، و هو الرسول.

لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا علّة «مصدّق». و فيه ضمير الكتاب، أو اللّه، أو الرسول. و يؤيّد الأخير قراءة نافع و ابن عامر و البزّي بخلاف عنه و يعقوب بالتاء.

وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ عطف على محلّ «لينذر» لأنّه مفعول له.

ص: 323


1- رعاء جمع راعي. و البهم: أولاد البقر و المعز و الضأن. و الواحد: البهمة.

[سورة الأحقاف [46]: الآيات 13 الى 14]

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [13] أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [14]

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي: جمعوا بين التوحيد الّذي هو خلاصة العلم، و الاستقامة في الأمور الّتي هي منتهى العمل. و «ثمّ» للدلالة على تأخّر رتبة العمل، و توقّف اعتباره على التوحيد. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات محبوب. و الفاء لتضمّن الموصول معنى الشرط.

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ المنعّمون فيها خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في «أصحاب» جَزاءً مصدر لفعل دلّ عليه الكلام، أي: جوزوا جزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من اكتساب الفضائل العلميّة و العمليّة.

[سورة الأحقاف [46]: الآيات 15 الى 20]

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [15] أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [16] وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما

ص: 324

أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [17] أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ [18] وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [19]

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [20]

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً و قرأ الكوفيّون: إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً انتصابهما على الحال أو على المصدر، أي: ذات كره، أو حملا و وضعا ذاكره. و الكره هو المشقّة، فإنّ الحمل موجب لثقل الولد عليها، و الوضع موجب لشدّة الطلق. و قرأ الحجازيّان و أبو عمرو و هشام بالفتح. و هما لغتان، كالفقر و الفقر.

وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ أي: مدّتهما ثَلاثُونَ شَهْراً و قرأ يعقوب: و فصله، كالفطام و الفطم، بناء و معنى. و المراد بالفصال الرضاع، فإنّه لمّا كان الرضاع يليه الفصال و يلابسه، لأنّه ينتهي به و يتمّ، سمّي فصالا. و فائدة تسمية الرضاع به الدلالة على الرضاع التامّ المنتهي بالفصال. و كلّ ذلك بيان لما تكابده الأمّ في تربية الولد، مبالغة في التوصية بها.

ص: 325

و فيه دليل على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر، لأنّه إذا حطّ منه للفصال حولان- لقوله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (1)- بقي ستّة أشهر. و به قال الأطبّاء. و لعلّ تخصيص أقلّ الحمل و أكثر الرضاع لانضباطهما، و تحقّق ارتباط حكم النسب و الرضاع بهما.

حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ إذا اكتهل (2) و استوفى السنّ الّتي تستحكم فيها قوّته و عقله و تمييزه، و ذلك إذا أناف (3) على الثلاثين و ناطح الأربعين. و عن ابن عبّاس و قتادة: ثلاث و ثلاثون سنة. و وجهه: أن يكون ذلك أوّل الأشدّ، و غايته الأربعين.

و لهذا عطف عليه عطفا تفسيريّا فقال: وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فإنّه بيان لزمان كمال الأشدّ. و قيل: لم يبعث نبيّ إلّا بعد الأربعين.

قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ألهمني. و أصله: أولعني، من: أوزعته بكذا. أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ يعني: نعمة الإسلام، أو ما يعمّها و غيرها.

و جمع بين شكري النعمة عليه و على والديه، لأنّ النعمة عليهما نعمة عليه.

وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ نكّره للتعظيم، أو لأنّه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضا اللّه عزّ و جلّ. و قيل: هو الصلوات الخمس.

وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي و اجعل لي الصلاح واقعا ساريا في ذرّيّتي راسخا فيهم إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عمّا لا ترضاه، أو يشغل عنك وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأمرك، المخلصين لك.

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني: طاعاتهم الواجبة و المندوبة بإيجاب الثواب لهم، فإنّ المباح حسن و لا يثاب عليه وَ نَتَجاوَزُ عَنْ

ص: 326


1- البقرة: 233.
2- أي: صار كهلا. و الكهل: من كانت سنو عمره بين الثلاثين و الخمسين تقريبا.
3- أي: زاد. و ناطح كناية عن الوصول، من: نطح الثور إذا أصاب بقرنه.

سَيِّئاتِهِمْ لتوبتهم، أو تفضّلا عليهم. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالنون فيهما.

فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ في محلّ النصب على الحال، أي: كائنين في عدادهم، أو مثابين، أو معدودين فيهم وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكّد لنفسه، فإنّ قوله: «نتقبّل» و «نتجاوز» وعد من اللّه لهم بالتقبّل و التجاوز الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي: في الدنيا، بأن يتقبّل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم إذا تابوا، أو إذا شاء أن يتفضّل عليهم.

وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما مبتدأ خبره «أولئك» الآتي، فإنّ المراد بالموصول الجنس. و الأفّ صوت إذا صوّت به الإنسان علم أنّه متضجّر. فهي كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط. و اللام للبيان. و معناه: بعدا لكما. و قيل: معناه: نتنا و قذرا لكما، كما يقال عند شمّ الرائحة الكريهة. و وجوه قراءاته قد مرّت في سورة بني إسرائيل (1). أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أبعث حيّا. و قرأ هشام: أ تعدانّي، بنون واحدة مشدّدة. وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فما أخرجوا، و لم يرجع أحد منهم.

وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يطلبان منه الغوث و يقولان: الغياث باللّه منك. أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان. وَيْلَكَ آمِنْ أي: يقولان له: ويلك. و هو دعاء عليه بالثبور. و المراد به الحثّ على ما يخاف على تركه من الايمان، لا حقيقة الهلاك. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و النشور و الثواب و العقاب حَقٌ ثابت واقع.

فَيَقُولُ هو في جوابهما ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم الّتي سطّروها، و ليس لها حقيقة.

و قيل: إنّ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال له أبواه: أسلم، و ألحّا عليه. فقال: أحيوا لي عبد اللّه بن جدعان و مشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا تقولون.

و روي: أنّ معاوية حين كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقليّة، أ تبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: يا أيّها الناس

ص: 327


1- راجع ج 4 ص 23، ذيل الآية 23 من سورة بني إسرائيل.

هو الّذي قال اللّه فيه: «وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما». فسمعت عائشة فغضبت و قالت: و اللّه ما هو به، و لو شئت أن أسمّيه لسمّيته، و لكنّ اللّه لعن أباك و أنت في صلبه، فأنت فضض (1) من لعنة اللّه.

و الأصحّ: أنّ الآية عامّة في كلّ كافر عاقّ لوالديه، كما يدلّ عليه قوله:

أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: كلمة العذاب بأنّهم أهل النار فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ كقوله: «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ بيان للأمم. و المعنى:

حالهم على مثل حال أولئك، و اعتقادهم كاعتقادهم. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ لأنفسهم. تعليل للحكم على الاستئناف.

وَ لِكُلٍ من الفريقين، أعني: المؤمنين البررة، و الكافرين الفجرة دَرَجاتٌ مراتب عالية مِمَّا عَمِلُوا من جزاء ما عملوا من الخير و الشرّ. أو من أجل ما عملوا منهما. و الدرجات غالبة في المثوبة، و ها هنا جاءت على التغليب.

و حقيقة المعنى: قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات، و العقاب دركات. وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بعقاب لا يستحقّونه، أو بمنع ثواب يستحقّونه. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و ابن ذكوان بالنون.

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعذّبون بها، كما يقال: عرض بنو فلان على السيف، إذا قتلوا به. و منه قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها (2). أو يكون المعنى: عرضت النار عليهم قبل أن يدخلوها ليروا أهوالها.

أَذْهَبْتُمْ أي: يقال لهم: أذهبتم. و هو ناصب اليوم. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب بالاستفهام، غير أنّ ابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة، و هما يقرآن بها و بهمزتين محقّقين. طَيِّباتِكُمْ لذائذكم فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفائها

ص: 328


1- الفضض: كلّ متفرّق و منتشر. أي: أنت حصيلة تلك اللعنة، فضضت و تفرّقت منها.
2- غافر: 46.

وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها انتفعتم بها، فما بقي لكم منها شي ء.

و المعنى: ما كتب لكم حظّ من الطيّبات إلّا ما قد أصبتموه في دنياكم، و قد ذهبتم به و أخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظّكم شي ء منها.

و قيل: معناه: أنفقتم طيّبات ما رزقتم في شهواتكم و في ملاذّ الدنيا، و لم تنفقوها في مرضات اللّه عزّ و جل.

فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ الهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ بسبب الاستكبار الباطل، و الفسوق عن طاعة اللّه.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا وبّخ الكفّار بالتمتّع بالطيّبات و اللذّات في هذه الدار، آثر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام الزهد و التعفّف، و اجتناب الترفّه و النعمة. و قد ورد في الحديث أنّ عمر بن الخطّاب قال: استأذنت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فدخلت عليه في مشربة أمّ إبراهيم، و إنّه لمضطجع على خصفة (1)، و إنّ بعضه لعلى التراب، و تحت رأسه و سادة محشوّة ليفا. فسلّمت ثمّ جلست فقلت: يا رسول اللّه أنت نبيّ اللّه و صفوته و خيرته من خلقه، و كسرى و قيصر على سرر الذهب و فرش الديباج و الحرير. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أولئك قوم عجّلت طيّباتهم، و هي و شيكة الانقطاع، و إنّما أخّرت لنا طيّباتنا».

و قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في بعض خطبه: «و اللّه لقد رقعت مدرعتي (2) هذه حتّى استحييت من راقعها. و لقد قال لي قائل: الا تنبذها؟ فقلت: اعزب (3) عنّي، فعند الصباح يحمد القوم السرى».

و روى محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «و اللّه كان عليّا عليه السّلام ليأكل .

ص: 329


1- الخصفة: الثوب الغليظ، أو جلّة تعمل من الخوص.
2- المدرعة: جبّة مشقوقة المقدّم.
3- أي: ابتعد عنّي.

أكلة العبد، و يجلس جلسة العبد. و إن كان ليشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما، ثمّ يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، و إذا جاز كعبه حذفه. و لقد ولي خمس سنين ما وضع آجرّة على آجرّة، و لا لبنة على لبنة، و لا أورث بيضاء و لا حمراء.

و كان يطعم الناس خبز البرّ و اللحم، و ينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير و الزيت و الخلّ. و ما ورد عليه أمران كلاهما للّه عزّ و جلّ فيه رضا، إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه.

و لقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه، تربت منه يداه، و عرق فيه وجهه. و ما أطاق عمله أحد من الناس بعده.

ثمّ إنّه قد اشتهر في الرواية أنّه عليه السّلام لمّا دخل على العلاء بن زياد بالبصرة يعوده قال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، لبس العباءة و تخلّى من الدنيا.

فقال عليه السّلام: عليّ به. فلمّا جاء به قال: يا عديّ (1) نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك و ولدك. أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات و هو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على اللّه من ذلك.

قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، و جشوبة (2) مأكلك! قال: ويحك! إنّي لست كأنت، إنّ اللّه تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ (3) بالفقير فقره.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل على أهل الصفّة (4) و هم يرقّعون ثيابهم .

ص: 330


1- أي: مبغض نفسه. من: عدي لفلان: أبغضه. فهو على زنة: وفيّ. و استهام بك الخبيث أي: وسوس فيك الشيطان، فذهب فؤادك، و سلب عقلك. من: استهيم فؤاده أي: ذهب فؤاده و سلب عقله من الحبّ أو غيره.
2- جشب الطعام: غلظ. فهو جشب.
3- أي: يهيج و يثور. من: باغ الدم أي: هاج و ثار.
4- أهل الصفّة: فقراء كانوا يجلسون في صفّة مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و صفّة المسجد: مقعد بالقرب منه مظلّل.

بالأدم (1)، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أ أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة (2) و يروح في اخرى، و يغدى عليه بجفنة (3) و يراح عليه بأخرى، و يستر بيته كما تستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير. قال: بل أنتم اليوم خير».

[سورة الأحقاف [46]: الآيات 21 الى 28]

وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [21] قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [22] قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ [23] فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [24] تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [25]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ

ص: 331


1- الأدم جمع الأديم. و هو: الجلد المدبوغ.
2- الحلّة: كلّ ثوب جديد، أو الثوب الساتر لجميع البدن.
3- الجفنة: القصعة الكبيرة، أي: آنية الطعام.

بِآياتِ اللَّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [26] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [27] فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [28]

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة بما وقع على قوم هود لعنادهم، فقال:

وَ اذْكُرْ يا محمد لأهل مكّة أَخا عادٍ يعني: هودا إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ خوّفهم باللّه تعالى بِالْأَحْقافِ جمع حقف. و هو رمل مستطيل مرتفع، فيه انحناء.

من: احقوقف الشي ء إذا اعوجّ. و كانوا يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشحر، من بلاد اليمن. و قيل: بين عمان و مهرة.

وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ جمع نذير بمعنى المنذر، أي: الرسل المنذرون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ قبل هود و بعده. يعني: الرسل الّذين بعثوا قبل هود و الّذين بعثوا بعده. و الجملة حال، أو اعتراض بين قوله: «أَنْذَرَ قَوْمَهُ» و أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ «أن» مفسّرة للإنذار. و المعنى: أنّ هودا عليه السّلام قد أنذرهم فقال لهم: لا تعبدوا إلّا اللّه، فإنّ النهي عن الشي ء إنذار من مضرّته إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل بسبب شرككم.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا عن عبادته. يقال: أفكه عن رأيه إذا صرفه عنه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك.

قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ لا علم لي بوقت عذابكم، و لا مدخل لي فيه فأستعجل به، و إنّما علمه عند اللّه، فيأتيكم به في وقته المقدّر له وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و ما على الرسول إلّا البلاغ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لا تعلمون

ص: 332

أنّ الرسل بعثوا مبلّغين منذرين، لا معذّبين مقترحين غير ما أذن لهم فيه.

فَلَمَّا رَأَوْهُ رأوا ما يوعدون. و الهاء تعود إلى «ما تعدنا». عارِضاً سحابا عرض في أفق السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ متوجّه أوديتهم. و الإضافة فيه لفظيّة. و كذا في قوله: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي: يأتينا بالمطر.

روي: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيّاما، فساق اللّه إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث، فلمّا رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: هذا سحاب عارض ممطرنا. فقال هود: ليس الأمر كما زعمتم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب رِيحٌ هي ريح. و يجوز أن يكون بدل «ما» فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفتها. و كذا قوله: تُدَمِّرُ تهلك كُلَّ شَيْ ءٍ من نفوسهم و أموالهم بِأَمْرِ رَبِّها. و إضافة الربّ إلى الريح دلالة على أنّ الريح و تصريف أعنّتها ممّا يشهد لعظم قدرته، لأنّها من أعاجيب خلقه و أكابر جنوده.

و ذكر الأمر، و كونها مأمورة من جهته عزّ و علا، يعضد ذلك و يقوّيه.

فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي: فجاءتهم الريح فدمّرتهم، فأصبحوا بحيث لو حضرت بلادهم لما ترى إلّا مساكنهم. و قرأ عاصم و حمزة: لا يرى إلّا مساكنهم، بالياء المضمومة، و رفع مساكنهم.

روي: أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط و الظعينة (1) فترفعها في الجوّ حتّى ترى كأنّها جرادة.

و قيل: أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار.

و روي: أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب: رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم و مواشيهم تطير به الريح بين السماء و الأرض، فدخلوا بيوتهم و غلّقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب و صرعتهم، و أمال اللّه عليهم الأحقاف، فكانوا تحتها سبع ليال

ص: 333


1- الظعينة: الهودج.

و ثمانية أيّام لهم أنين، ثمّ كشفت الريح عنهم، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر.

و روي: أنّ هودا لمّا أحسّ بالريح خطّ على نفسه و على المؤمنين خطّا إلى جنب عين تنبع.

و عن ابن عبّاس: اعتزل هود و من معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلّا ما يلين على الجلود و تلذّه الأنفس، و إنّها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء و الأرض، و تدمغهم بالحجارة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان إذا رأى الريح فزع و قال: اللّهمّ إنّي أسألك خيرها و خير ما أرسلت به، و أعوذ بك من شرّها و شرّ ما أرسلت به. و إذا رأى مخيلة (1) قام و قعد، و جاء و ذهب، و تغيّر لونه. فيقال له: يا رسول اللّه ما تخاف؟ فيقول: إنّي أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا».

كَذلِكَ مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف، و جازيناهم بالعذاب نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الكافرين الّذين يسلكون مسالكهم.

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «إن» نافية. و هي أحسن من «ما» في اللفظ، لما في مجامعة «ما» مثلها من التكرير المستبشع، و مثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في «مهما»: ماما، فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء. أو شرطيّة محذوفة الجواب. و التقدير: و لقد مكّنّاهم في الّذي أو في شي ء إن مكّنّاكم فيه كان بغيكم أكثر.

و قيل: زائدة، مثلها فيما أنشده الأخفش:

يرجّي المرء ما إن لا يراه

و تعرض دون أدناه الخطوب

و المعنى: مكّنّاهم من الطاعات، و جعلناهم قادرين متمكّنين بنصب الأدلّة على التوحيد، و التمكين من النظر فيها، و الترغيب و الترهيب، و إزاحة العلل في

ص: 334


1- المخيلة: السحابة الّتي تحسبها ما طرة.

جميع ذلك، كما مكّنّاكم بها.

و الأوّل أظهر و أوفق، لقوله: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (1). كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً (2). و هو أبلغ في التوبيخ، و أدخل في الحثّ على الاعتبار.

فمعنى الآية: و لقد مكّنّاهم في الشي ء الّذي لم نمكّنكم فيه، من قوّة الأبدان، و بسطة الأجسام، و طول العمر، و كثرة المال.

وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً ليعرفوا بذلك النعم، و يستدلّوا بها على واهبها، و يواظبوا على شكرها فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ من الإغناء. و هو القليل منه، إذ لم يستعملوا هذه القوى في النظر و التفكّر فيما يدلّهم على التوحيد، فلم ينفعهم جميع ذلك.

إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ صلة ل «ما أغنى». و هو ظرف جرى مجرى التعليل. و كذلك «حيث». و ذلك لاستواء التعليل و الظرف في قولك: ضربته لإساءته، و ضربته إذا أساء، لأنّك إذا ضربته في وقت إساءته، فإنّما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، إلّا أنّ «إذ» و «حيث» غلبتا- دون سائر الظروف- في ذلك.

وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا جزاء ما كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب.

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكّة مِنَ الْقُرى أي: من أهل القرى.

و هم: قوم هود كانوا باليمن، و قوم صالح بالحجر، و قوم لوط على طريقهم إلى الشام. وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ أي: نكرّرها تارة في الإعجاز، و تارة في الإهلاك، و تارة في التذكير بالنعم، و تارة في التذكير بالنقم، و تارة في وصف الأبرار ليقتدى بهم، و تارة في وصف الفجّار ليجتنب مثل فعلهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يرجعوا عن كفرهم.

ص: 335


1- مريم: 74.
2- غافر: 82.

فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً فهلّا منعتهم من الهلاك آلهتهم الّذين يتقرّبون بهم إلى اللّه، حيث قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ (1).

و القربان ما يتقرّب به إلى اللّه. و أوّل مفعولي «اتّخذوا» الراجع إلى الموصول محذوف. و ثانيهما «قربانا». و «آلهة» بدل، أو عطف بيان. أو المفعول الثاني «آلهة» و «قربانا» حال، أو مفعول له، على أنّه بمعنى التقرّب.

بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ غابوا عن نصرهم، فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم، و امتنع أن يستمدّوا بهم امتناع الاستمداد بالضالّ وَ ذلِكَ الاتّخاذ الّذي هذا أثره إِفْكُهُمْ صرفهم عن الحقّ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ و افتراؤهم على اللّه الكذب من كونه ذا شركاء.

[سورة الأحقاف [46]: الآيات 29 الى 32]

وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [29] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [30] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [31] وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [32]

ثمّ بيّن سبحانه أنّ في الجنّ مؤمنين و كافرين كما في الإنس، فقال: وَ إِذْ

ص: 336


1- يونس: 18.

صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ أملناهم إليك، و أقبلنا بهم نحوك. و النفر دون العشرة.

و جمعه أنفار. يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حال محمولة على المعنى فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: القرآن، أي: فلمّا كان بمسمع منهم. أو الرسول. قالُوا أَنْصِتُوا قال بعضهم لبعض: اسكتوا لنسمعه فَلَمَّا قُضِيَ أتمّ و فرغ من قراءته، على بناء الفاعل، و هو ضمير الرسول وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي: منذرين إيّاهم بما يسمعوا.

عن سعيد بن جبير و الزهري و جماعة: أنّه لمّا توفّي أبو طالب اشتدّ البلاء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فعمد ليقف بالطائف رجاء أن يؤووه، فوجد ثلاثة نفر منهم، هم سادة، و هم إخوة: عبد ياليل، و مسعود، و حبيب بنو عمرو. فعرض عليهم نفسه.

فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك بشي ء قطّ.

و قال الآخر: أعجز على اللّه أن يرسل غيرك.

و قال الآخر: و اللّه لا أكلّمك بعد مجلسك هذا أبدا. فلئن كنت رسولا كما تقول، فأنت أعظم خطرا من أن يردّ عليك الكلام. و إن كنت تكذب على اللّه، فما ينبغي لي أن أكلّمك بعد.

و تهزّؤا به، و أفشوا في قومه ما راجعوه به. فقعدوا له صفّين على طريقه، فلمّا مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين صفّيهم جعلوا لا يرفع رجليه و لا يضعهما إلّا رضخوهما بالحجارة، حتّى أدموا رجليه، فخلص منهم و هما تسيلان دما.

فعمد إلى حائط من حوائطهم، و استظلّ في ظلّ نخلة منه، و هو مكروب موجع، تسيل رجلاه دما، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة، فلمّا رآهما كره مكانهما، لما يعلم من عداوتهما للّه و رسوله. فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس، معه عنب، و هو نصرانيّ من أهل نينوى. فلمّا جاءه قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أيّ أرض أنت؟

قال: من أهل نينوى.

ص: 337

قال عليه السّلام: من مدينة العبد الصالح يونس بن متّى؟

فقال له عداس: و ما يدريك من يونس بن متّى؟

قال: أنا رسول اللّه، و اللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى. فلمّا أخبره بما أوحى اللّه إليه من شأن يونس، خرّ عداس ساجدا للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و جعل يقبّل قدميه، و هما يسيلان الدم.

فلمّا أبصر عتبة و شيبة ما يصنع غلامهما سكتا. فلمّا أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمّد، و قبّلت قدميه، و لم نرك فعلت ذلك بأحد منّا.

قال: هذا رجل صالح أخبرني بشي ء عرفته من شأن رسول بعثه اللّه إلينا، يدعى: يونس بن متّى.

فضحكا و قالا: لا يفتننّك عن نصر انيّتك، فإنّه رجل خدّاع.

فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى مكّة، حتّى إذا كان بنخلة قام في جوف الليل يصلّي، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين- و قيل: من اليمن- فوجدوه يصلّي صلاة الغداة و يتلو القرآن، فاستمعوا له.

و روي: أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء و رجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلّا لنبأ حدث. فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى- منهم زوبعة- فضربوا حتّى بلغوا تهامة، ثمّ اندفعوا إلى وادي نخلة، فوافوا رسول اللّه و هو قائم في جوف الليل يصلّي، أو في صلاة الفجر، فاستمعوا لقراءته.

و قال آخرون: أمر رسول اللّه أن ينذر الجنّ و يدعوهم إلى اللّه، و يقرأ عليهم القرآن. فصرف اللّه إليه نفرا من الجنّ من نينوى. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة، فأيّكم يتبعني؟ قالها ثلاثا. فأطرقوا إلّا عبد اللّه بن مسعود.

قال: و لم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة، و دخل نبيّ اللّه شعبا يقال له شعب الحجون، فخطّ لي خطّا ثمّ أمرني أن أجلس فيه، و قال:

ص: 338

لا تخرج منه حتّى أعود إليك. ثمّ انطلق حتّى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني و بينه، حتّى لم أسمع صوته. ثمّ انطلقوا و طفقوا يتقطّعون مثل قطع السحاب ذاهبين.

فقال لي رسول اللّه: هل رأيت شيئا؟

فقلت: نعم، رأيت رجالا سودا مستثفري (1) ثياب بيض.

قال: أولئك جنّ نصيبين. و كانوا اثني عشر ألفا. و السورة الّتي قرأها عليهم «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ».

و روى علقمة عن عبد اللّه قال: لم أكن مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الجنّ، و وددت أنّي كنت معه.

و روي عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين، فجعلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسلا إلى قومهم.

و قال زرّ بن حبيش: كانوا تسعة نفر، منهم زوبعة.

و روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال: لمّا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الرحمن على الناس سكتوا، فلم يقولوا شيئا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم، لمّا قرأت عليهم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا و لا بشي ء من آلائك ربّنا نكذّب».

ثمّ بيّن سبحانه تمام خبر الجنّ، فقال حاكيا عنهم: قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى يعنون القرآن. عن عطاء: إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا يهودا. و عن ابن عبّاس: لأنّهم ما سمعوا بأمر عيسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدّمه من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِ من أصول العقائد الحقّة وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ من فروع الشرائع.

ص: 339


1- الاستثفار: أن يدخل إزاره بين فخذيه ملويا، كما يفعل الكلب بذنبه.

يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ دعاهم إلى توحيده و خلع الأنداد دونه وَ آمِنُوا بِهِ باللّه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، و هو ما يكون في خالص حقّ اللّه، فإنّ المظالم لا تغفر بالإيمان. و نحوه قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ (1). وَ يُجِرْكُمْ و يخلّصكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ هو معدّ للكفّار.

وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ فلا يعجز اللّه، إذ لا ينجى منه مهرب، و لا يسبق قضاءه سابق. و نحوه قوله تعالى: وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (2). وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أنصار يمنعونه من اللّه، و يدفعون عنه العذاب أُولئِكَ يعني: الّذين لا يجيبون داعي اللّه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.

و اعلم أنّه اختلف في أنّه هل للجنّ ثواب كالإنس؟ فقال أبو حنيفة: لا ثواب لهم إلّا النجاة من النار، لقوله: وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (3). و الصحيح: أنّهم في حكم بني آدم، لأنّهم مكلّفون مثلهم.

و عن عليّ بن إبراهيم قال: «فجاؤا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آمنوا به، و علّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شرائع الإسلام، فأنزل اللّه تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ (4) إلى آخر السورة، و كانوا يعودون إلى رسول اللّه في كلّ وقت» (5).

و في هذا دلالة على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مبعوثا إلى الجنّ، كما كان مبعوثا إلى

ص: 340


1- نوح: 3- 4.
2- الجنّ: 12.
3- الأحقاف: 31.
4- الجنّ: 1.
5- تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 299- 300.

الإنس. و لم يبعث اللّه نبيّا إلى الإنس و الجنّ قبله.

[سورة الأحقاف [46]: الآيات 33 الى 35]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [33] وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [34] فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ [35]

و لمّا صدّر السورة بتحقيق المبدأ، أراد ختمها بإثبات المعاد، فقال:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ أي: لم يصبه في خلق ذلك إعياء و لا تعب، و لم يعجز عنه. يقال: فلان عيّ بأمره، إذا لم يهتد له و لم يقدر عليه، أي: قدرته التامّة ثابتة على حالها بعد خلق السماوات و الأرض، و لا تنقص و لا تنقطع بإيجادهما.

بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى في محلّ الرفع على أنّه خبر «أنّ». و يدلّ عليه قراءة يعقوب: يقدر. و إنّما دخلت الباء المزيدة عليه، لاشتمال النفي في أوّل الآية على «أنّ» و ما في حيّزها، كأنّه قال: أليس اللّه بقادر. و لذلك أجاب عنه بقوله: بَلى هو قادر عليه إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ تقريرا للقدرة على وجه عامّ يكون كالبرهان على المقصود، و هو قدرته على البعث.

ص: 341

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ منصوب بقول مضمر مقوله أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ و الإشارة إلى العذاب، بدليل قوله: قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بكفركم في الدنيا. و معنى الأمر هو الإهانة بهم، و التوبيخ لهم على استهزائهم بوعد اللّه و وعيده، و قولهم: وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (1).

فَاصْبِرْ يا محمد على أذى هؤلاء الكفّار، و على ترك إجابتهم لك كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أولوا الثبات و الجدّ منهم، فإنّك من جملتهم. و «من» للتبيين. و قيل: للتبعيض. و أولوا العزم أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها و تقريرها، و صبروا على تحمّل مشاقّها و معاداة الطاعنين فيها. و مشاهيرهم: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و مرويّ أيضا عن ابن عبّاس و قتادة.

و قيل: الصابرون على بلاء اللّه، كنوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتّى يغشى عليه. و إبراهيم على النار، و ذبح ولده. و الذبيح على الذبح. و يعقوب على فقد الولد، و ذهاب بصره. و يوسف على الجبّ و السجن. و أيّوب على الضرّ.

و موسى قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (2). و داود بكى على ترك ندبه أربعين سنة. و عيسى لم يضع لبنة على لبنة. قال: إنّها معبر، فاعبروها و لا تعمروها. و قال اللّه تعالى في آدم: وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (3). و في يونس وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (4).

وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ لكفّار قريش بالعذاب، أي: لا تدع عليهم بتعجيله، فإنّه

ص: 342


1- الصافّات: 59.
2- الشعراء: 61- 62.
3- طه: 115.
4- القلم: 48.

نازل بهم لا محالة و إن تأخّر كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي: إذا عاينوا العذاب استقصروا من هوله مدّة لبثهم في الدنيا و البرزخ، حتّى يحسبوها ساعة من نهار.

بَلاغٌ هذا الّذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ، أي: كفاية. أو هذا تبليغ من الرسول. و قيل: مبتدأ خبره «لهم»، و ما بينهما اعتراض، أي: لهم وقت يبلغون إليه، كأنّهم إذا بلغوه و رأوا ما فيه استقصروا مدّة عمرهم. فَهَلْ يُهْلَكُ أي: لا يهلك إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون من أمر اللّه، المتمرّدون في الفسق و المعاصي.

و عن الزجّاج: ما جاء في رجاء رحمة اللّه شي ء أبلغ من هذه الآية.

ص: 343

ص: 344

[47] سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

اشارة

و تسمّى سورة القتال. و هي مدنيّة. و قال ابن عبّاس و قتادة: غير آية منها نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يريد التوجّه إلى المدينة من مكّة، و جعل ينظر إلى البيت و هو يبكي حزنا عليه، فنزلت: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الآية.

و هي ثمان و ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان حقّا على اللّه أن يسقيه من أنهار الجنّة».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأها لم يدخله شكّ في دينه أبدا، و لم يزل محفوظا من الشرك و الكفر أبدا حتّى يموت، فإذا مات و كلّ اللّه به في قبره ألف ملك يصلّون في قبره، و يكون ثواب صلواتهم له، و يشيّعونه حتّى يوقفوه موقف الأمن عند اللّه، و يكون في أمان اللّه و أمان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و قال عليه السّلام: «من أراد أن يعرف حالنا و حال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه يراها آية فينا و آية فيهم».

[سورة محمد [47]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [1] وَ الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 345

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ [2] ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ [3]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم تلك السورة بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بمثلها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن الدخول في الإسلام و سلوك طريقه، أو منعوا الناس عنه. و هم المطعمون يوم بدر.

و كانوا عشرة أنفس، أطعم كلّ واحد منهم الجند يوما. و عن مقاتل: كانوا اثني عشر رجلا من أهل الشرك، يصدّون الناس عن الإسلام، و يأمرونهم بالكفر. أو شياطين قريش. أو المصرّون من أهل الكتاب، صدّوا من أراد منهم و من غيرهم أن يدخل في الإسلام. أو عامّ في جميع من كفر و صدّ.

أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: جعل مكارمهم- كصلة الرحم، و فكّ الأسارى، و حفظ الجوار- ضالّة، أي: ضائعة محبطة بالكفر. أو جعلها ضالّة في كفرهم و معاصيهم، كالضالّة من الإبل الّتي هي مضيّعة لا ربّ لها يحفظها و يعتني بأمرها. أو مغلوبة مغمورة في الكفر، كما يضلّ الماء في اللبن. أو ضلالا، حيث لم يقصدوا به وجه اللّه. أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله و الصدّ عن سبيله، بنصر رسوله، و إظهار دينه على الدين كلّه.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعمّ المهاجرين و الأنصار و الّذين آمنوا من أهل الكتاب و غيرهم وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ تخصيص للمنزل عليه ممّا

ص: 346

يجب الإيمان به تعظيما له، و إشعارا بأنّ الإيمان لا يتمّ بدونه، و أنّه الأصل فيه.

و لذلك أكّده بالجملة الاعتراضيّة الّتي هي قوله: وَ هُوَ أي: و ما نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ و حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ سترها، و غفر لهم بالإيمان و عملهم الصالح ما كان منهم من الكفر و المعاصي، لرجوعهم عنها و توبتهم وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ شأنهم و حالهم في الدين و الدنيا، بالتوفيق و اللطف في امور الدين، و بالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة و التأييد.

ذلِكَ إشارة إلى ما مرّ من إضلال أعمال أحد الفريقين، و تكفير سيّئات الثاني، و الإصلاح. و هو مبتدأ خبره بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي: ذلك كائن بسبب اتّباع هؤلاء الباطل، و اتّباع هؤلاء الحقّ. و هذا تصريح بما أشعر به ما قبلها، و لذلك سمّي تفسيرا.

كَذلِكَ مثل ذلك الضرب يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ يبيّن لهم أَمْثالَهُمْ أحوال الفريقين، أو أحوال الناس. أو يضرب أمثالهم، بأن جعل اتّباع الباطل مثلا لعمل الكفّار، و الإضلال مثلا لخيبتهم، و اتّباع الحقّ مثلا للمؤمنين، و تكفير السيّئات مثلا لفوزهم، لرجوعهم عنها و توبتهم.

[سورة محمد [47]: الآيات 4 الى 9]

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ [4] سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ [5] وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ

ص: 347

[6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [7] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [8] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ [9]

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار، فقال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في المحاربة فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل، و قدّم المصدر، و أنيب منابه، مضافا إلى المفعول. ففيه اختصار، مع معنى التوكيد. و التعبير به عن القتل إشعار بأنّه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن، إن اختاره الإمام عندنا.

و تصوير له بأشنع صورة، لأنّ في هذه العبارة من الغلظة و الشدّة ما ليس في لفظ القتل، و هو حزّ العنق، و إطارة العضو الّذي هو رأس البدن و علوه (1) و أوجه أعضائه. و لقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (2).

حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم قتلهم و أغلظتموه. من الثخين، و هو الغليظ.

أو أثقلتموهم بالقتل و الجراح حتّى أذهبتم عنهم النهوض. فَشُدُّوا الْوَثاقَ فأسروهم و احفظوهم. و الوثاق بالفتح و الكسر اسم ما يوثق به. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ فإمّا تمنّون منّا وَ إِمَّا فِداءً و إمّا تفدون فداء.

و المراد التخيير بعد الأسر بين المنّ و الإطلاق، و بين أخذ الفداء. و هو ثابت عند الشافعيّة، فإنّ الذكر الحرّ المكلّف إذا أسر تخيّر الامام بين القتل و المنّ و الفداء

ص: 348


1- علو الشي ء: نقيض سفله و سفالته.
2- الأنفال: 12.

و الاسترقاق. و عند الحنفيّة يتخيّر بين القتل و الاسترقاق. فعلى قولهم الآية منسوخة، أو مخصوصة بحرب بدر. و ظاهر الآية قريب من مذهب الشافعيّة.

و في التحقيق الآية تمنع القتل بعد الإثخان و الأسر، لتقييد المنّ و الفداء بكونه بعد الأسر، و لم يذكر معهما القتل. و على التقادير؛ فالاسترقاق علم بالسنّة. هذا، و قد قيل: إنّ الأسر كان محرّما بقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى (1). حتّى نسخ بهذه الآية.

حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي: يضع أهل الحرب آلاتها و أثقالها الّتي لا تقوم الحرب إلّا بها، كالسلاح و الخيل و الركاب، أي: تنقضي الحرب و لم يبق إلّا مسلم أو مسالم. و سمّيت أوزارها، لأنّه لمّا لم يكن لها بدّ من جرّها فكأنّها تحملها و تستقلّ بها، فإذا انقضت فكأنّها وضعتها. و قيل: آثامها. و المعنى: حتّى يضع أهل الحرب شركهم و معاصيهم. و هو غاية للضرب، أو الشدّ، أو للمنّ و الفداء، أو للمجموع. يعني: أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. و قيل: بنزول عيسى.

و قال الحسن: إنّ الامام مخيّر بين المنّ و الفداء و الاسترقاق، و ليس له القتل بعد الأسر. فكأنّه جعل في الآية تقديما و تأخيرا، تقديره: فضرب الرقاب حتّى تضع الحرب أوزارها. ثمّ قال: حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّا و إمّا فداء.

و قيل: حكم الآية منسوخ بآية السيف (2). و ليس بشي ء، لأصالة عدم النسخ.

و التخصيص خير منه.

و المنقول عن أهل البيت عليهم السّلام: أنّ الأسير إن أخذ و الحرب قائمة، كان الإمام .

ص: 349


1- الأنفال: 67.
2- التوبة: 5 و 29.

مخيّرا بين أن يقتله، أو يقطع يده و رجله من خلاف، و يتركه حتّى ينزف و يموت.

و إن أخذ بعد انقضاء الحرب تخيّر الامام بين المنّ و الفداء و الاسترقاق، و لا يجوز القتل. و لو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصّة.

فعلى هذا يكون قول الحسن موافقا لمذهبنا. و يقوى القول بالتقديم و التأخير، و لا حرج في ذلك.

ذلِكَ أي: الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لانتقم منهم ببعض أسباب الهلكة، من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق، أو موت مستأصل وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ و لكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين، بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم، و الكافرين بالمؤمنين، بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر.

«و الذين قاتلوا» جاهدوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قرأ البصريّان و حفص: قتلوا، أي: استشهدوا فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيّعها سَيَهْدِيهِمْ إلى الثواب، أو سيثبت هدايتهم وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ بالرسوخ على العقيدة الحقّة وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ و قد عرّفها لهم في الدنيا حتّى اشتاقوا إليها، فعملوا ما استحقّوها به. أو بيّنها لهم بحيث يعلم كلّ واحد منزله و يهتدي إليه.

قال مجاهد: يهتدي أهل الجنّة إلى مساكنهم منها لا يخطئون، كأنّهم كانوا سكّانها منذ خلقوا.

و عن مقاتل: إنّ الملك الّذي و كلّ بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه، فيعرّفه كلّ شي ء أعطاه اللّه.

أو طيّبها لهم، من العرف و هو طيب الرائحة. أو حدّدها لهم بحيث يكون لكلّ جنّة مفرزة عن غيرها.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: إن تنصروا دينه و رسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوّكم وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواطن الحرب، بالتشجيع و تقوية القلوب و تثبيتها. أو على محجّة الإسلام، و القيام بحقوقه.

ص: 350

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ فعثورا و انحطاطا و هلاكا. و نقيضه: لعا له، أي:

نجاة. و تقول للعاثر: لعا لك، إذا دعوت بالانتعاش و الثبات. و انتصابه بفعله الواجب إضماره سماعا، تقديره: فقال: تعسا لهم، أو فقضى تعسا لهم، أو أتعسهم اللّه فتعسوا تعسا. و الجملة خبر «الّذين كفروا». وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطف عليه. و عن ابن عبّاس: يريد: في الدنيا القتل، و في الآخرة التردّي في النار.

ذلِكَ التعس و الإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن، لما فيه من التوحيد و التكاليف المخالفة لما ألفوه و اشتهته أنفسهم، من الإهمال و إطلاق العنان في الشهوات و الملاذّ، فشقّ ذلك عليهم و تعاظمهم. و هذا تصريح بسببيّة الكفر بالقرآن للتعس و الإضلال. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ كرّره إشعارا بأنّ إحباط الأعمال يلزم الكفر، و لا ينفكّ عنه بحال.

[سورة محمد [47]: الآيات 10 الى 11]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [10] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [11]

ثمّ نبّههم سبحانه على الاستدلال على صحّة ما دعاهم إليه من التوحيد و إخلاص العبادة للّه، فقال:

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استأصل عليهم ما اختصّ بهم من أنفسهم و أهليهم و أموالهم وَ لِلْكافِرِينَ من وضع الظاهر موضع الضمير أَمْثالُها أمثال تلك العاقبة المذكورة. أو العقوبة.

أو الهلكة، لأنّ التدمير يدلّ عليها. أو السنّة، لقوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ (1).

ص: 351


1- غافر: 85.

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا (1).

ذلِكَ أي: الّذي فعلناه في الفريقين بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وليّهم و ناصرهم على أعدائهم و حافظهم وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ينصرهم، فيدفع العذاب عنهم عاجلا أو آجلا. و هو لا يخالف قوله: وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ (2) فإنّ المولى فيه بمعنى المالك.

[سورة محمد [47]: الآيات 12 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [12] وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [13] أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [14] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [15]

ص: 352


1- الأحزاب: 38.
2- يونس: 30.

ثمّ ذكر مآل حال الفريقين بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت أشجارها و أبنيتها وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الدنيا أيّاما قلائل وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ في مسارحها و معالفها، غافلة عمّا هي بصدده من النحر و الذبح. فهم أيضا يكونون حريصين غافلين عن و خامة العاقبة، غير مفكّرين فيها. وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ منزل و مقام لهم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ على حذف المضاف و إجراء أحكامه على المضاف إليه. كأنّه قال: و كم من قرية هم أشدّ قوّة من قومك الّذين أخرجوك، أي: كانوا سبب خروجك. أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع عنهم العذاب. و هو كالحال المحكيّة، كقولك: أهلكناهم فهم لا ينصرون.

ثمّ قال سبحانه على وجه التهجين و التوبيخ للكفّار و المنافقين:

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ حجّة واضحة من عنده. و هو القرآن المعجز و سائر المعجزات. أو ما يعمّه من الحجج العقليّة للمؤمنين. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من الشرك و المعاصي. و هم أهل مكّة الّذين زيّن لهم الشيطان شركهم و عداوتهم للّه و رسوله. وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ شهواتهم في ذلك، لا شبهة لهم عليه فضلا عن حجّة. و توحيد الضمير أوّلا و جمعه ثانيا على اللفظ و المعنى.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ صفة الجنّة العجيبة الشأن فيما قصصنا عليك. و قيل: هو مبتدأ خبره «كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ» الآتي بعد.

و هذا كلام صورته الإثبات، و معناه النفي و الإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، و دخوله في حيّزه، و انخراطه في سلكه. فهو كقوله:

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فكأنّه قيل: أمثل أهل الجنّة

ص: 353

كمثل من هو خالد؟ أو أمثل الجنّة كمثل جزاء من هو خالد؟ و حذف ما حذف استغناء بجري مثله.

و في تعريته من حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوّي بين المتمسّك بالبيّنة و التابع لهواه، و أنّه بمنزلة من يسوّي بين الجنّة الّتي تجري فيها تلك الأنهار، و بين النار الّتي يسقى أهلها الحميم. و نظيره: قول القائل:

أفرح أن أرزأ الكرام و أن أورث ذودا (1) شصائصا نبلا

فإنّه كلام منكر للفرح برزيّة الكرام و وراثة الذود، مع تعرّيه عن حرف الإنكار، لانطوائه تحت قول من قال: أ تفرح بموت أخيك و بوارثة إبله؟ و الّذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما اتّهم به. فكأنّه قال: نعم، مثلي يفرح بمرزأة الكرام، و بأن يستبدل منهم ذودا يقلّ طائله. و هو من التسليم الّذي تحته كلّ إنكار.

و على الأوّل قوله: «كمن هو خالد» خبر محذوف، تقديره: أ فمن هو خالد في هذه الجنّة كمن هو خالد في النار؟ أو بدل من قوله: «كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ».

و ما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بيّنة في الآخرة، تقريرا لإنكار المساواة.

فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ استئناف لشرح المثل، كأنّ قائلا قال: و ما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار. و يجوز أن يكون في موضع الحال، أي: مستقرّة فيها أنهار.

أو خبر ل «مثل». و «آسن» من: أسن الماء بالفتح إذا تغيّر طعمه و ريحه، أو بالكسر على معنى الحدوث. و قرأ ابن كثير: أسن بغير مدّ.

ص: 354


1- الذّود: الإبل لا يتجاوز عددها الثلاثين و لا يقلّ عن الثلاث. و الشصائص جمع الشصوص: الناقة أو الشاة القليلة اللبن. و النبل: الكبار من الإبل، و الصغار منها، فهو من الأضداد.

وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لم يصر قارصا (1) و لا حازرا، كما يكون في ألبان الدنيا.

وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لذيذة لا يكون فيها غائلة مرارة و سكر و خمار و ريح و صداع. و هي تأنيث لذّ، و هو اللذيذ. أو مصدر نعت به بإضمار ذات، أي: ذات لذّة. أو تجوّز. و المعنى: ما هو إلّا التلذّذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل و لا خمار، و لا آفة من آفات الخمار.

وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخالطه الشمع و الرغوة، و سائر فضلات النحل و غيرها، كما في عسل الدنيا. و المعنى: فيها أنواع الأشربة الّتي تكون في الدنيا، مجرّدة عمّا ينقصها و ينغّصها، موصوفة بغاية الالتذاذ. و في الأنهار دلالة على غزارة أنواع الأشربة و استمرارها.

وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي: لهم فيها صنف من الثمرات لا يعرفون اسمها، و صنف منها يعرفون اسمها، كلّها مبرّأة من كلّ مكروه يكون لثمرات الدنيا وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ عطف على الصنف المحذوف. أو مبتدأ خبره محذوف، أي:

لهم مغفرة. كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً شديد الحرارة، مكان تلك الأشربة فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ من فرط الحرارة.

[سورة محمد [47]: الآيات 16 الى 19]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [16] وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ [17] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ

ص: 355


1- القارص من الطعام: الحديد المنغّص و الحازر: الحامض.

أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ [18] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ [19]

ثمّ بيّن سبحانه حال المنافقين، فقال: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يسمعون كلامك حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ من مجلسك. و توحيد الضمير و جمعه ثانيا نظرا إلى لفظ «من» و معناه. قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي: لعلماء الأصحاب. و قيل:

قالوه لعبد اللّه بن مسعود. و عن ابن عبّاس: أنا منهم.

و عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ عليه السّلام قال: إنّا كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيخبرنا بالوحي، فأعيه أنا و من يعيه، فإذا خرجنا قالوا لنا: ما ذا قالَ آنِفاً ما الّذي قال الساعة؟ استهزاء، أو إظهار أنّا لم نشتغل بوعيه و فهمه، أو استعلاما، إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به.

و قيل: كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء.

و «آنفا» من قولهم: أنف الشي ء لما تقدّم منه. مستعار من الجارحة. و منه:

استأنفت الشي ء إذا ابتدأته. و نصبه على الظرف، بمعنى: في أوّل وقت يقرب منّا. أو حال من الضمير في «قال». و قرأ ابن كثير: أنفا.

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ تخلية بينهم و بين اختيارهم و خذلانا.

أو وسما عليها بسمة الكفر، لتكون دالّة عليه، فلعنتهم الملائكة لذلك. وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ شهوات نفوسهم، و ما مالت إليه طباعهم. فلذلك استهزؤا بكلام اللّه، و تهاونوا به.

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين بقوله: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً أي: زادهم اللّه بالتوفيق و الإلهام. و قيل: الضمير لقول الرسول، أو لاستهزاء المنافقين. وَ آتاهُمْ

ص: 356

تَقْواهُمْ بيّن لهم ما يتّقون، أو أعانهم على تقواهم، أو أعطاهم جزاءها.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ فليسوا ينتظرون إلّا القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بدل اشتمال من السّاعة، نحو: «أن تطؤهم» في قوله: رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ (1). فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها علاماتها، كمبعث خاتم الأنبياء، و انشقاق القمر. و هو متّصل بإتيان الساعة اتّصال العلّة بالمعلول. فَأَنَّى لَهُمْ هذا جواب الشرط، و هو قوله: إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ و المعنى: فكيف لهم ذكراهم- أي: تذكّرهم- إذا جاءتهم الساعة، و حينئذ لا تنفعهم الذكرى؟

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي: إذا علمت سعادة المؤمنين و شقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانيّة وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ لترك ندبك، بالإقدام على ما هو أولى فعله، و الثبات على الّذي هو موجب لكمال النفس، و على إصلاح أحوالها، و هضمها و تواضعها و انقطاعها إلى اللّه، فإنّ تكميل النفس لا يكون إلّا بذلك. و لا يجوز إطلاق الكلام على ظاهره، لأنّ استغفار الأنبياء لا يجوز أن يكون للذنوب، لأنّهم معصومون عنها صغيرها و كبيرها.

وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ و استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم، و التحريض على ما يستدعي غفرانهم. و في إعادة الجارّ، و حذف المضاف، إشعار بالفرق بين استغفاره له و استغفاره للمؤمنين و المؤمنات.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا، فإنّ للعبد مراتب و مراحل، ينقلب فيها من أوّل خلقه إلى آخر عمره وَ مَثْواكُمْ في العقبى، فإنّها دار إقامتكم.

[سورة محمد [47]: الآيات 20 الى 24]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ

ص: 357


1- الفتح: 25.

الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ [20] طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [21] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [22] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ [23] أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [24]

روي: أنّ ضعفاء المؤمنين أو المنافقين كانوا يدّعون الحرص على الجهاد، و يتمنّونه بألسنتهم، فلمّا نزلت سورة في الأمر بالجهاد شقّ عليهم و كرهوا منه، فنزلت:

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا هلّا نُزِّلَتْ سُورَةٌ في أمر الجهاد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبيّنة لا تشابه فيها وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: الأمر به. و عن قتادة:

كلّ سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة غير منسوخة، و هي أشدّ القرآن على المنافقين.

رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف في الدين، غير ثابتي الأقدام. و قيل:

نفاق. و وضع الظاهر في موضع الضمير لبيان علّة التقاعد عن الحرب و الكراهة منه.

و يجوز أن يريد بالّذين آمنوا المؤمنين الخلّص الثابتين، و أنّهم يتشوّقون إلى الوحي إذا أبطأ عليهم، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد تضجّر المنافقون منها. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: تشخص أبصارهم جبنا و مخالفة، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت.

فَأَوْلى لَهُمْ فويل لهم. أفعل من الولي، و هو القرب. و معناه: الدعاء عليهم، أي: أقرب لهم المكروه. أو فعلى، من: آل، أي: يؤول المكروه إليهم.

ص: 358

طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ استئناف، أي: أمرهم طاعة و قول معروف، أو طاعة و قول معروف خير لهم. أو حكاية قولهم، أي: قالوا: أمرنا طاعة و قول معروف.

و قيل: «أولى» مبتدأ، و هذا خبره، أي: أولى و أحرى لهم طاعة للّه و رسوله و قول معروف بالإجابة، أي: لو أطاعوا و أجابوا كانت الطاعة و الإجابة أولى لهم. و هذا قول ابن عبّاس في رواية عطاء، و اختيار الكسائي.

فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: جدّ و لزم أمر القتال. و العزم و الجدّ حقيقة لأصحاب الأمر، و إسناده إليه مجاز. و منه قوله: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (1). و قولهم: إنّ الأمر معزوم لا عازم. و عامل الظرف محذوف، و هو: اذكر. و جواب «إذا» محذوف تقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا و كذبوا فيما وعدوا من أنفسهم. و يدلّ على حذفه قوله: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الايمان. أو فلو صدقوا في إيمانهم و واطأت قلوبهم فيه ألسنتهم لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ في دينهم و دنياهم من نفاقهم.

فَهَلْ عَسَيْتُمْ فهل يتوقّع منكم؟ و قرأ نافع بكسر السين. و هو غريب. إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس و تأمّرتم عليهم، أو أعرضتم و تولّيتم عن الإسلام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحرا على الولاية و تجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهليّة من التغاور و مقاتلة الأقارب.

و المعنى: أنّهم لضعفهم في الدين و حرصهم على الدنيا، أحقّاء بأن يتوقّع ذلك منهم من عرف حالهم في ضعف الإيمان و مرض النفاق، و يقول لهم: هل عسيتم. فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ليكون أبلغ في التوبيخ.

و إلحاق الضمير ب «عسى» على لغة الحجاز. و أمّا بنو تميم فلا يلحقون

ص: 359


1- الشورى: 43.

الضمائر، و يقولون: عسى أن تفعل، و عسى أن تفعلوا. و خبره «أن تفسدوا»، و «إن تولّيتم» اعتراض. و عن يعقوب: تولّيتم، و تقطعوا من القطع، أي: إن تولّاكم ظلمة خرجتم معهم و ساعدتموهم في الإفساد و قطيعة الرحم.

أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لإفسادهم، و قطعهم الأرحام فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحقّ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ أي: فمنعهم ألطافه، و خذلهم حتّى صمّوا عن استماع الموعظة، و عموا عن إبصار طريق الهدى، فلا يهتدون سبيله.

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتصفّحونه و ما فيه من المواعظ و الزواجر، حتّى لا يجسروا على المعاصي. و عن قتادة: و اللّه يجدون في القرآن زاجرا عن معصية اللّه لو تدبّروه، و لكنّهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها لا يصل إليها ذكر، و لا ينكشف لها أمر. و قيل: «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها التقرير. و تنكير القلوب لأنّ المراد قلوب بعض منهم. أو للإشعار بأنّها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها و نكرها، كأنّها مبهمة منكورة. و إضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصّة بها، لا تجانس الأقفال المعهودة. و هي أقفال الكفر الّتي استغلقت، فلا تنفتح.

[سورة محمد [47]: الآيات 25 الى 35]

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ [25] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ [26] فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ [27] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ

ص: 360

وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ [28] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [29]

وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [30] وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [31] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ [32] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [33] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [34]

فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ [35]

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: رجعوا عن الإيمان إلى ما كانوا عليه من الكفر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الواضحة، و المعجزات الظاهرة.

و هم المنافقون.

و عن ابن عبّاس و السدّي و الضحّاك: كانوا يؤمنون عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ يظهرون الكفر فيما بينهم، فتلك ردّة منهم.

و عن قتادة: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد عرفوه و وجدوا

ص: 361

نعته مكتوبا عندهم.

و ليس في هذا دلالة على أنّ المؤمن قد يكفر، لأنّه لا يمتنع أن يكون المراد من رجع في باطنه عن الإيمان بعد أنّ أظهره و قامت الحجّة عنده بصحّته.

الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهّل لهم اقتراف الكبائر و ركوب العظائم. من السول، و هو الاسترخاء. و قيل: حملهم على الشهوات. من السول، و هو التمنّي. و فيه: إن السول مهموز، قلبت همزته واوا لضمّ ما قبلها. و يمكن ردّه بقولهم: هما يتساولان.

وَ أَمْلى لَهُمْ و مدّ لهم في الآمال و الأماني.

و قرأ أبو عمرو: املي لهم، على البناء للمفعول. و هو ضمير الشيطان أولهم، أي: أمهلوا و مدّ في عمرهم. و قرأ يعقوب: املي لهم. و المعنى: أنّ الشيطان يغويهم و أنا أملي لهم و أنظرهم و أمهلهم، و لم أعاجلهم بالعقوبة. فتكون الواو للحال، أو الاستئناف.

ثمّ بيّن سبحانه سبب استيلاء الشيطان عليهم، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي: قال اليهود الّذين كفروا بالنبيّ بعد ما تبيّن لهم نعته في التوراة للمنافقين. أو المنافقون لقريظة و النضير، حيث قالوا لهم: لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم. أو أحد الفريقين للمشركين. و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهم بنو اميّة، كرهوا ما نزّل اللّه في ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في بعض الأمر الّذي يهمّكم. و هو التكذيب برسول اللّه، أو بلا إله إلّا اللّه. أو في بعض ما تأمرون به، كالقعود عن الجهاد، و الموافقة في الخروج معهم، و التظافر على عداوة الرسول. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ما أسرّه بعضهم إلى بعض من القول، و ما أسرّوه في أنفسهم من الاعتقاد.

فَكَيْفَ يعملون و ما حيلتهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ إذا قبضت الملائكة أرواحهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ تصوير لتوفّيهم بما يخافون منه

ص: 362

و يجتنبون عن القتال له. و عن ابن عبّاس: لا يتوفّى أحد على معصية اللّه إلّا يضرب من الملائكة في وجهه و دبره.

ذلِكَ إشارة إلى التوفّي الموصوف بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر، و كتمان نعت الرسول، و عصيان الأمر وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ ما يرضاه، من الإيمان برسول اللّه، و الجهاد، و غيرهما من الطاعات فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ و لم يتقبّل لذلك.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لن يظهر اللّه لرسوله و المؤمنين أَضْغانَهُمْ أحقادهم على المؤمنين، و لا يبدي خفاياهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ لعرّفناكهم بدلائل حتّى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلاماتهم الّتي يسمهم اللّه بها.

و عن أنس: ما خفي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد هذه الآية شي ء من المنافقين، بل كان يعرفهم بسيماهم. و لقد كنّا في بعض الغزوات و فيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة، و أصبحوا و على جبهة كلّ واحد منهم مكتوب:

هذا منافق.

و اللام لام جواب «لو» كرّرت في المعطوف.

وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ جواب قسم محذوف. و لحن القول: أسلوبه.

و عن ابن عبّاس: هو قولهم: ما لنا إن أطعنا من الثواب، و لا يقولون: ما علينا إن عصينا من العقاب.

و قيل: اللحن أن تلحن بكلامك، أي: تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك. و منه قيل للمخطئ: لاحن، لأنّه يعدل بالكلام عن الصواب.

و عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

قال: و كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه ببغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

ص: 363

و روي مثل ذلك عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و عن عبادة بن الصامت قال: كنّا نبور (1) أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة (2).

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم على حسب قصدكم، إذا الأعمال بالنيّات.

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ و نعاملكم معاملة المختبر، بالأمر بالجهاد و سائر التكاليف الشاقّة حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ حتّى نميّزهم عن غيرهم وَ الصَّابِرِينَ على مشاقّ المجاهدة عن غيرهم. أو حتّى نعلم جهادكم موجودا، لأنّ الغرض أن تفعلوا الجهاد فنثيبكم على ذلك. أو يعلم أولياؤنا. و الإضافة إلى ذاته تعظيما لهم.

وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ فنختبر ما يخبر به عن أعمالكم، فيظهر به حسنها و قبحها، لأنّ الخبر على حسب المخبر عنه، إن حسنا فحسن، و إن قبيحا فقبيح. أو أخبارهم عن إيمانهم و موالاتهم المؤمنين في صدقها و كذبها.

و قرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها. و عن يعقوب: و نبلو بسكون الواو، على تقدير: و نحن نبلو.

و عن الفضيل: أنّه كان إذا قرأها بكى، و قال: اللّهمّ لا تبلنا، فإنّك إن تبلونا فضحتنا، و هتكت أستارنا، و عذّبتنا.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن اتّباع دين اللّه، و منعوا غيرهم عن اتّباعه بالقهر و الإغواء وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ عاندوه و عادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى من بعد ما ظهر لهم أن محمدا رسول اللّه. و هم قريظة و النضير، أو المطعمون يوم بدر. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم و صدّهم. أو لن يضرّوا رسول اللّه بمشاقّته. و حذف المضاف لتعظيمه، و تفظيع مشاقّته. وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ

ص: 364


1- بار الرجل يبوره: جرّبه و اختبره.
2- الرشدة و الرشدة: ضدّ الزنية. يقال: ولد لرشدة، أي: شرعيّ و ليس من زنا.

و سيبطل ثواب حسنات أعمالهم الّتي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب، لكفرهم برسول اللّه. أو مكايدهم الّتي نصبوها في مشاقّته، فلا يصلون بها إلى مقاصدهم، و لا تثمر لهم إلّا القتل و الجلاء عن أوطانهم.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بتوحيده وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ بتصديقه وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بما أبطل به هؤلاء، كالكفر و النفاق و الشكّ و العجب و الرياء و المنّ و الأذى و نحوها. و ليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر، كما قال أبو حنيفة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أي: أصرّوا على الكفر حتّى ماتوا على كفرهم فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أبدا، لأنّ «لن» للتأبيد. و هذا عامّ في كلّ من مات على كفره، و إن صحّ نزوله في قتلى القليب، و هو بئر في بدر.

فَلا تَهِنُوا فلا تضعفوا، و لا تذلّوا للعدوّ وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ و لا تدعوا إلى السلم تذلّلا و ضعفا. و يجوز نصبه بإضمار «أن». و قرأ أبو بكر و حمزة بكسر السين. وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الأغلبون. و نحوه قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (1).

وَ اللَّهُ مَعَكُمْ بالنصرة على عدوّكم وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ و لن يضيع أعمالكم، بل يثيبكم عليها. من: و ترت الرجل إذا قتلت له قتيلا، من ولد و أخ أو حميم.

و حقيقته: أفردته من قريبه أو ماله. من الوتر، و هو الفرد. فشبّه إضاعة عمل العامل و تعطيل ثوابه بوتر الواتر. و هو من فصيح الكلام. و منه

قوله عليه السّلام: «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله»،

أي: أفرد عنهما قتلا و نهبا.

[سورة محمد [47]: الآيات 36 الى 38]

إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [36] إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ

ص: 365


1- طه: 68.

[37] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [38]

ثمّ حضّ سبحانه على طلب الآخرة بقوله: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ لا ثبات لها وَ إِنْ تُؤْمِنُوا باللّه وَ تَتَّقُوا معاصيه يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ثواب إيمانكم و تقواكم وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ جميع أموالكم، بل يقتصر على جزء يسير- كربع العشر و العشر- في الزكاة الواجبة في بعض أموالكم.

إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم بطلب الكلّ. و الإحفاء المبالغة و بلوغ الغاية. يقال: إحفاء في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. و أحفى شاربه إذا استأصله. تَبْخَلُوا فلا تعطوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ و يظهر بغضكم و عداوتكم، فتضطغنوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الضمير في «يخرج» للّه تعالى، أو البخل، لأنّه سبب الاضطغان.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي: أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون. ثمّ استأنف وصفهم. كأنّهم قالوا: و ما وصفنا؟ فقيل: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و يجوز أن يكون صلة ل «هؤلاء»، على أنّه بمعنى: الّذين. و هو يعمّ نفقة الغزو و الزكاة و غيرهما. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ناس يبخلون به. ثمّ قال: وَ مَنْ يَبْخَلْ بالصدقة و أداء الفريضة فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فلا يتعدّاه ضرر بخله، بل إنّما هو راجع إلى نفسه، لأنّه يحرّمها مثوبة جسيمة، و يلزمها عقوبة عظيمة. يقال: بخلت عليه و عنه.

و كذلك: ضننت عليه و عنه. و فيه إشارة إلى أنّ معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ.

ص: 366

ثمّ أخبر أنّه لا يأمر بذلك و لا يدعو إليه لحاجته إليه، فقال: وَ اللَّهُ الْغَنِيُ الّذي تستحيل عليه الحاجات وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلى ما عند اللّه من الخير. فما يأمركم به فهو لاحتياجكم و فقركم إلى الثواب. فإن امتثلتم فلكم، و إن تولّيتم فعليكم.

وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا و إن تعرضوا عن طاعته. و هو عطف على «وَ إِنْ تُؤْمِنُوا».

يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يخلق قوما سواكم على خلاف صفتكم فيقوموا مكانكم، كقوله: وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (1). ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولّي عن الإيمان، و الزهد في التقوى. و هم الفرس،

لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عنه، و كان سلمان إلى جنبه، فضرب فخذه و قال: «هذا و قومه. و الّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس».

أو الأنصار، أو الملائكة.

و روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم».

يعني: الموالي.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قد و اللّه أبدل بهم خيرا منهم».

يعني: الموالي.

ص: 367


1- إبراهيم: 19

ص: 368

[48] سورة الفتح

اشارة

مدنيّة. و هي تسع و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها فكأنّما شهد مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكّة».

و في رواية اخرى: «فكأنّما كان مع من بايع محمّدا تحت الشجرة».

و أورد البخاري في الصحيح عن عمر بن الخطّاب قال: «كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سفر، فقال: نزلت عليّ البارحة سورة عظيمة هي أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها: إِنَّا فَتَحْنا- إلى قوله- وَ ما تَأَخَّرَ» (1).

و عن قتادة عن أنس قال: «لمّا رجعنا من غزوة الحديبية و قد حيل بيننا و بين نسكنا، فنحن بين الحزن و الكآبة إذ أنزل اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا كلّها».

عن عبد اللّه بن مسعود قال: «أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية فجعلت ناقته تثقل، فتقدّمنا فأنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فأدركنا رسول اللّه و به من السرور ما شاء اللّه، فأخبر أنّها أنزلت عليه».

عبد اللّه بن بكير، عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها ناداه مناد يوم القيامة حتّى يسمع الخلائق: أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، فأسكنوه جنّات النعيم، و اسقوه الرحيق المختوم بمزاج الكافور».

ص: 369


1- صحيح البخاري 6: 168- 169.

[سورة الفتح [48]: الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [1] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [2] وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [3] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [4]

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً [5] وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً [6] وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [7]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: وَ اللَّهُ الْغَنِيُ افتتح هذه السورة بأنّه فتح لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما احتاج إليه في دينه و دنياه، ليشعر على غناه المطلق، و كمال جبروته و غالبيّته، و افتقار العباد إليه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وعد بفتح مكّة. و التعبير عنه بالماضي لتحقّقه و تيقّنه بمنزلة الكائنة الموجودة. و في ذلك من الفخامة و الدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى.

ص: 370

و قيل: هذا إخبار عن صلح الحديبية. و إنّما سمّاه فتحا، لأنّه كان بعد ظهوره على المشركين حتّى سألوا الصلح، و تسبّب لفتح مكّة، و أدخل في الإسلام خلقا عظيما. و ظهر له في الحديبية آية عظيمة، و هي أنّه نزح ماؤها حتّى لم يبق فيها قطرة. فتمضمض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ مجّه فيها، فدرّت بالماء حتّى شرب جميع من كان معه.

و قيل: فجاش الماء حتّى امتلأت، و لم ينفد ماؤها بعد.

و عن عروة- و قد ذكر خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام الحديبية- قال: و خرجت قريش من مكّة، فسبقوه إلى بلدح (1) و إلى الماء، فنزلوا عليه. فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قد سبق نزل على الحديبية، و ذلك في حرّ شديد ليس فيها إلّا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ، و القوم كثير، فنزل فيها رجال يمتحنوها. و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدلو من ماء، فتوضّأ من الدلو، و مضمض فاه ثمّ مجّ فيه، و أمر أن يصبّ في البئر. و نزع سهما من كنانته و ألقاه في البئر، فدعا اللّه تعالى ففارت بالماء، حتّى جعلوا يغترفون بأيديهم منها و هم جلوس على شفتها.

و روى سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال: كنّا ألفا و خمسمائة. و ذكر عطشا أصابهم. قال: فأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بماء في تور (2)، فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون، فشربنا و وسعنا و كفانا.

و عن موسى بن عقبة: أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية راجعا، فقال رجل من أصحابه: «ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت، و صدّ هدينا. فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، و قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح (3)، و يسألوكم القضيّة- أي: رجوعكم عنهم- و يرغبوا إليكم في الأمان، و قد رأوا منكم ما كرهوا».

ص: 371


1- بلدح: واد قبل مكّة من جهة المغرب.
2- التّور: إناء يشرب فيه.
3- الراح: الخمر. و الراح جمع راحة، و هي: الكفّ. و الراح: الارتياح و النشاط. و لعلّ الظاهر هنا المعنى الثالث.

و عن الشعبي: نزلت هذه السورة بالحديبية، و أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة. أصاب: أن بويع بيعة الرضوان، و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و ظهرت الروم على فارس، و بلغ الهدي محلّه بعد الصلح، و أطعموا نخل خيبر.

و عن جابر: ما كنّا نعلم فتح مكّة إلّا يوم الحديبية.

و قيل: المراد فتح خيبر. و قيل: فتح الروم. و قيل: الفتح القضاء، من الفتاحة، و هي الحكومة، أي: قضينا لك أن تدخل مكّة من قابل.

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علّة للفتح من حيث إنّه مسبّب عن جهاد الكفّار، و السعي في إزالة الشرك، و إعلاء الدين، و تكميل النفوس الناقصة قهرا، ليصير ذلك التكميل بالتدريج اختيارا، و تخليص الضعفة عن أيدى الظلمة ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ. قد قيل فيه أقوال، كلّها غير موافق لما يذهب إليه أصحابنا أنّ الأنبياء معصومون من الذنوب كلّها، صغيرها و كبيرها، قبل النبوّة و بعدها.

فمنها: أنّهم قالوا: معناه: ما تقدّم من معاصيك قبل النبوّة، و ما تأخّر عنها.

و منها: قولهم: ما تقدّم الفتح، و ما تأخّر عنه.

و منها: قولهم: ما وقع و ما لم يقع، على الوعد بأنّه يغفر له إذا وقع.

و منها: قولهم ما تقدّم من ذنب أبويك آدم و حوّاء ببركتك، و ما تأخّر من ذنوب أمّتك بدعوتك.

و الكلام في ذنب آدم كالكلام في ذنب نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من حمل ذلك على الصغائر الّتي تقع محبطة عندهم، فالّذي يبطل قولهم أنّ الصغائر إذا سقط عقابها وقعت مكفّرة، فكيف يجوز أن يمنّ اللّه سبحانه على نبيّه بأن يغفرها له؟ و إنّما يصحّ الامتنان و التفضّل منه سبحانه بما يكون له المؤاخذة به، لا بما لو عاقب به لكان ظالما عندهم. فوضح فساد قولهم.

و لأصحابنا فيه و جهان من التأويل: أحدهما: أنّ المراد: ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنب أمّتك و ما تأخّر بشفاعتك. و أراد بذكر التقدّم و التأخّر ما تقدّم زمانه و ما تأخّر، كما يقول القائل لغيره: صفحت عن السالف و الآنف من ذنوبك. و حسنت إضافة ذنوب أمّته إليه، للاتّصال و السبب بينه و بين أمّته.

و يؤيّد هذا الجواب ما رواه المفضّل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال: «سأله

ص: 372

رجل عن هذه الآية، فقال: و اللّه ما كان له ذنب، و لكنّ اللّه سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، ما تقدّم من ذنبهم و ما تأخّر».

و روى عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قول اللّه سبحانه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ. قال: ما كان له ذنب و لا همّ بذنب، و لكنّ اللّه حمّله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له».

و الثاني: ما ذكره المرتضى قدّس سّره: أنّ الذنب مصدر، و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معا، فيكون هنا مضافا إلى المفعول. و المراد: ما تقدّم من ذنبهم إليك في منعهم إيّاك عن مكّة، و صدّهم لك عن المسجد الحرام. و يكون معنى المغفرة على هذا التأويل: الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه، أي: يزيل اللّه تعالى ذلك عنك، و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح اللّه لك من مكّة، فستدخلها فيما بعد. و لذلك جعله جزاء على جهاده، و غرضا في الفتح، و وجها له.

قال: و لو أنّه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ» معنى معقول، لأنّ المغفرة للذنوب لا تعلّق لها بالفتح، فلا يكون غرضا فيه.

و أمّا قوله: «ما تقدم و ما تأخر» فلا يمتنع أن يريد به ما تقدّم زمانه من فعلهم القبيح بك و بقومك.

و قيل أيضا في ذلك وجوه أخر:

منها: أنّ معناه: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك.

و منها: أنّ المراد بالذنب هنا ترك المندوب. و حسن ذلك لأنّ من المعلوم أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّن لا يخالف الأوامر الواجبة، فجاز أن يسمّى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسمّ ذنبا، لعلوّ قدره و رفعة شأنه.

و منها: أنّ القول خرج مخرج التعظيم و حسن الخطاب، كما قيل في قوله:

ص: 373

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ (1).

و هذا ضعيف، لأنّ العادة جرت في مثل هذا أن يكون على لفظ الدعاء.

وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء دينك على سائر الأديان، و بقاء شرعك، و ضمّ الملك إلى النبوّة. و قيل بفتح خيبر و مكّة و الطائف. وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً في تبليغ الرسالة و إقامة مراسم الرئاسة. أو تثبيتك على صراط يؤدّي بسالكه إلى الجنّة.

وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي: نصرا فيه عزّ و منعة. أو يعزّ به المنصور.

فهو وصف بصفة المنصور مبالغة إسنادا مجازيّا. أو عزيزا صاحبه. و قد فعل ذلك بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ صيّر دينه أعزّ الأديان، و سلطانه أعظم السلطان.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ هي اسم السكون، كالبهيتة للبهتان، أي: أنزل الثبات و الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أي: يفعل بهم اللطف الّذي يحصل لهم عنده، من البصيرة بالحقّ ما تسكن إليه نفوسهم. و ذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلّة الهادية إليه، و من جملتها ها هنا أن يقع الصلح بينهم و بين المعاندين، و يأمنوا منهم لذلك، بعد أن قلقت نفوسهم، و دحضت أقدامهم، لفرط الدهشة و الخوف، و يروا من الفتوح و علوّ كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا.

لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقينا مع يقينهم، بمزيّة رسوخ العقيدة و اطمئنان النفس عليها، لمشاهدتهم و عرفانهم. أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول من الشرائع، ليزدادوا بها إيمانا مقرونا إلى إيمانهم باللّه و اليوم الآخر.

و عن ابن عبّاس: إنّ أوّل ما أتاهم به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التوحيد، فلمّا آمنوا باللّه وحده أنزل الصلاة و الزكاة، ثمّ الحجّ، ثمّ الجهاد، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم.

أو أنزل فيها الوقار و العظمة للّه و لرسوله، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى

ص: 374


1- التوبة: 43.

إيمانهم. يعني: يزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم.

و قيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا، فيزدادوا إيمانهم.

وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يدبّر أمرها، فيسلّط بعضها على بعض تارة، و يوقع فيما بينهم السّلم اخرى، كما تقتضيه حكمته.

و قيل: معناه: أنّ اللّه تعالى لو شاء لأعانكم بجنوده الّذين هم الملائكة و الجنّ و الإنس.

و فيه بيان أنّه لو شاء لأهلك المشركين، لكنّه عالم بهم و بما يخرج من أصلابهم، فأمهلهم لعلمه و حكمته، و لم يأمر بالقتال عن عجز و احتياج، و لكن ليعرض المجاهدين لجزيل الثواب.

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً فيما يقدّر و يدبّر، فدبّر ما دبّر من تسليط المؤمنين.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها فهذا مع ما بعده علّة لما دلّ عليه قوله: «وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» من معنى التدبير. فكأنّه قال: سلّط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة اللّه فيه و يشكروها، فيدخل المؤمنين الجنّة، و يعذّب الكفّار و المنافقين لما غاضهم من ذلك. و قيل: علّة لقوله: فتحنا، أو أنزل، أو جميع ذلك، أو ليزدادوا. و قيل: إنّه بدل منه بدل الاشتمال.

وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يغطّيها و لا يظهرها. و المعنى: لم يعذّبهم بها.

وَ كانَ ذلِكَ أي: الإدخال و التكفير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لأنّه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضرر. و «عند» حال من الفوز.

وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ عطف على «يدخل»، إلّا إذا جعلته بدلا، فيكون عطفا على المبدل منه، لا البدل، لفساد المعنى

ص: 375

الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ظنّ الأمر السوء، و هو أن لا ينصر رسوله و المؤمنين عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ما يظنّونه و يتربّصونه بالمؤمنين، من الذلّ و الهلاك و غنيمة الأموال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: دائرة السّوء. و هما لغتان، غير أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه، و لذلك أضيف الظنّ إليه، لكونه مذموما. و المضموم جرى مجرى الشرّ، و هو مطلق المكروه و الشدّة. و كلاهما في الأصل مصدر، من:

ساء، كالكرة و الكره، و الضعف و الضعف.

وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف لما استحقّوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا. و الواو في الأخيرين، و الموضع موضع الفاء- إذ اللعن سبب للإعداد، و الغضب سبب له- لاستقلال الكلّ في الوعيد بلا اعتبار السببيّة.

وَ ساءَتْ مَصِيراً جهنّم.

وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً في قهره و انتقامه من أعدائه حَكِيماً في فعله و قضائه. كرّره للتأكيد. أو الأوّل متّصل بذكر المؤمنين، أي: فله الجنود الّتي يقدر أن يعينكم بها. و الثاني متّصل بذكر الكافرين، أي: فله الجنود الّتي يقدر على الانتقام منهم بها.

[سورة الفتح [48]: الآيات 8 الى 10]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً [8] لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً [9] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [10]

ص: 376

إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً تشهد على ما عملت أمّتك، كقوله: وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (1). وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً على الطاعة و المعصية.

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ الخطاب للنبيّ و الأمّة وَ تُعَزِّرُوهُ و تقوّوه بتقوية دينه و رسوله وَ تُوَقِّرُوهُ و تعظّموه وَ تُسَبِّحُوهُ و تنزّهوه، أو تصلّوا له بُكْرَةً وَ أَصِيلًا غدوة و عشيّا، أو دائما. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء، و الضمير للناس.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر أنّ اللّه يريد من الكفّار الكفر، لأنّه صرّح هنا أنّه يريد من جميع المكلّفين الإيمان و الطاعة.

إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأنّه المقصود ببيعته يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ حال، أو استئناف مؤكّد له على سبيل التخييل. يريد أنّ يد رسول اللّه الّتي تعلو أيدي المبايعين في حكم يد اللّه في هذه البيعة. و لمّا كان اللّه تعالى منزّها عن الجوارح و عن سائر صفات الأجسام، فالغرض تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع اللّه من غير تفاوت بينهما، كقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (2).

و قيل: معناه: قوّة اللّه في نصرة نبيّه فوق نصرتهم إيّاه، أي: ثق بنصرة اللّه لك، لا بنصرتهم و إن بايعوك.

و قيل: نعمة اللّه عليهم بنبيّه فوق أيديهم بالطاعة و المبايعة.

فَمَنْ نَكَثَ نقض العهد فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلّا عليه وَ مَنْ أَوْفى و من ثبت على الوفاء بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ أي: أوفى بمبايعته.

يقال: وفيت بالعهد و أوفيت به. و هي لغة تهامة. و منها: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ (4). فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً هو الجنّة.

ص: 377


1- البقرة: 143.
2- النساء: 80.
3- المائدة: 1.
4- البقرة: 177.

و قرأ حفص: عليه بضمّ الهاء. و ابن كثير و نافع و ابن عامر و روح: فسنؤتيه بالنون.

و الآية نزلت في بيعة الحديبية. و هي بيعة الرضوان. سمّيت بها لأنّهم باعوا أنفسهم بالجنّة، بسبب اتّفاقهم على محاربة أعداء اللّه و نصرة دينه، و رضي لهم تلك البيعة.

قال جابر بن عبد اللّه: بايعنا رسول اللّه تحت الشجرة على الموت، و على أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة إلّا جد بن قيس، و كان منافقا اختبأ تحت إبط بعيره، و لم يسر مع القوم.

[سورة الفتح [48]: الآيات 11 الى 14]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [11] بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [12] وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً [13] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [14]

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا، و كان في ذي القعدة من سنة ستّ من الهجرة، استنفر من حول المدينة من أسلم و جهينة و مزينة و أشجع و غفار، ليخرجوا معه، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو

ص: 378

يصدّوه عن البيت، و أحرم هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ساق معه الهدي، ليعلم أنّه لا يريد حربا.

فتثاقل كثير من الأعراب و قالوا: يذهب محمّد إلى قوم قد غزوه في عقر داره- أي:

أصلها- بالمدينة و قتلوا أصحابه، فيقاتلهم. و ظنّوا أنّه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة.

و اعتلّوا بالشغل بأهاليهم و أموالهم، و أنّه ليس لهم من يقوم بأشغالهم. فأخبر اللّه عن تخلّفهم قبل وقوع ذلك، فقال:

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا

عن الخروج معك، إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالنا. و الأهلون جمع أهل. و يقال: أهلات على تقدير تاء التأنيث، فإنّه قد جاء أهلة، كأرض و أرضين و أرضة و أرضات. و أمّا أهال فاسم جمع. فَاسْتَغْفِرْ لَنا من اللّه على التخلّف.

فكذّبهم اللّه في الاعتذار و الاستغفار بقوله: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي: الّذي خلّفهم ليس بما يقولون، و إنّما هو الشكّ في اللّه و النفاق.

و طلبهم الاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة.

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنعكم من مشيئته و قضائه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا ما يضرّكم، كقتل أو هزيمة أو خلل في المال و الأهل، عقوبة على التخلّف. و قرأ حمزة و الكسائي بالضمّ. أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ما يضادّ ذلك من ظفر و غنيمة. و هذا تعريض بردّ قولهم. بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيعلم تخلّفكم و قصدكم فيه.

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لا يرجعون إلى من خلّفوا بالمدينة من الأهل و المال، لظنّكم أن المشركين يستأصلونهم وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أي: زيّن الشيطان ذلك الظنّ المتمكّن في قلوبكم وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ الظنّ المذكور، و هو التسجيل عليه بالسوء. أو هو و سائر ما يظنّون باللّه و رسوله من الأمور الزائغة. وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين مستوجبين لسخطه و عقابه

ص: 379

عند اللّه، لفساد عقيدتكم، و سوء نيّتكم. من: بار، كالهلك من: هلك، بناء و معنى.

و لذلك وصف به الواحد و الجمع، و المذكّر و المؤنّث. و يجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ و عوذ.

و قيل: معناه: فاسدين في أنفسكم و قلوبكم و نيّاتكم، لا خير فيكم. و كان ذلك من الغيب الّذي لا يطّلع عليه أحد إلّا اللّه، و صار معجزا لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وضع «الكافرين» موضع الضمير إيذانا بأنّ من لم يجمع بين الإيمان باللّه و رسوله فهو كافر، و أنّه مستوجب للسعير بكفره. و تنكير «سعيرا» للتهويل، أو لأنّها نار مخصوصة.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يدبّره كيف يشاء يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مشيئته تابعة لحكمته، و حكمته المغفرة للتائب، و تعذيب المصرّ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً رحمته سابقة لغضبه، حيث يكفّر السيّئات باجتناب الكبائر، و يغفر الكبائر بالتوبة. و قد جاء في الحديث الإلهي: «سبقت رحمتي غضبي».

[سورة الفتح [48]: الآيات 15 الى 17]

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [15] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [16] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ

ص: 380

يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً [17]

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ أي الّذين تخلّفوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ أيّها المؤمنون إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني: مغانم خيبر،

فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع من الحديبية في ذي الحجّة من سنة ستّ، و أقام بالمدينة بقيّتها و أوائل المحرّم، ثمّ غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها و غنم أموالا كثيرة، فخصّها بهم.

و سيجي ء تفصيل قصّتها عن قريب إن شاء اللّه.

ذَرُونا اتركونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ يغيّروه.

و هو وعده لأهل الحديبية أن يعوّضهم من مغانم مكّة مغانم خيبر، و لا يشركهم فيها غيرهم. و هذا قول ابن عبّاس و مجاهد و ابن إسحاق و غيرهم من المفسّرين.

و قال الجبائي: أراد بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» قوله: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا (1).

و قال صاحب المجمع: «و هذا غلط، لأنّ هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية في سنة ستّ من الهجرة، و تلك الآية نزلت في الّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك، و هذه الغزوة بعد فتح مكّة، و بعد غزوة حنين و الطائف، و رجوع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منها إلى المدينة، و مقامه ما بين ذي الحجّة إلى رجب، ثمّ تهيّأ في رجب للخروج إلى تبوك. و كان منصرفه من تبوك في بقيّة رمضان من سنة تسع من الهجرة، و لم يخرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ذلك لقتال و لا غزو إلى أن قبضه اللّه، فكيف تكون هذه الآية مرادة

ص: 381


1- التوبة: 83.

ها هنا؟!» (1).

و الكلام اسم للتكليم، غلّب في الجملة المفيدة. و قرأ حمزة و الكسائي: كلم اللّه. و هو جمع كلمة.

قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا نفي في معنى النهي كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ في الحديبية مِنْ قَبْلُ من قبل تهيّئهم للخروج إلى خيبر فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنائم بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون إِلَّا قَلِيلًا إلّا فهما قليلا، و هو فطنتهم لأمور الدنيا. و معنى الإضراب الأوّل ردّ منهم أن يكون حكم اللّه أن لا يتّبعوهم، و إثبات للحسد. و الثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أجلّ منه، و هو جهلهم بأمور الدين، كقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا (2).

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرّر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذمّ، و إشعارا بشناعة التخلّف سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة، أو قوم مسيلمة، أو غيرهم ممّن ارتدّوا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في زمن أبي بكر، فإنّه قال: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و في زمانه لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف. و قيل: فارس و الروم.

و معنى «يسلمون»: ينقادون، لأنّ الروم نصارى، و فارس مجوس، يقبل منهم إعطاء الجزية. و عن قتادة: أنّهم ثقيف و هوازن، و كان ذلك في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: هم أصحاب معاوية.

و قال صاحب المجمع: «الصحيح: أنّ المراد بالداعي في قوله: «ستدعون» هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة، و قتال أقوام ذوي نجدة و شدّة، مثل أهل حنين و الطائف و مؤتة و تبوك و غيرها، فلا معنى لحمل ذلك على ما

ص: 382


1- مجمع البيان 9: 115.
2- الروم: 7.

بعد وفاته» (1).

فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة في الدنيا، و الجنّة في الآخرة وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن القتال كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم.

و لمّا أوعد على التخلّف نفى الحرج عن المعذورين، فقال:

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ضيق في ترك الخروج مع المؤمنين في الجهاد وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ فبهذه الآية عذّر اللّه أهل الزمانة و الآفات الّذين تخلّفوا عن المسير إلى الحديبية، و رخّصهم في التخلّف عن الغزو.

ثمّ فصّل الوعد و الوعيد بعد الإجمال مبالغة فيهما، لسبق رحمته للمطيعين، و فرط عقابه على المتمرّدين، فقال على سبيل التعميم:

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأمر بالقتال و غيره يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَ عن أمر اللّه و أمر رسوله، فيقعد عن الجهاد و غيره من أوامره يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً. و قرأ نافع و ابن عامر: ندخله بالنون.

[سورة الفتح [48]: الآيات 18 الى 21]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [18] وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [19] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ

ص: 383


1- مجمع البيان 9: 115- 116.

صِراطاً مُسْتَقِيماً [20] وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً [21]

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج يريد مكّة، فلمّا بلغ الحديبية وقفت ناقته، فزجرها فلم تنزجر و بركت. فقال أصحابه: خلأت (1) الناقة.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هذا لها عادة، و لكن حبسها حابس الفيل. و دعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى أهل مكّة، ليأذنوا له بأن يدخل مكّة، و يحلّ من عمرته، و ينحر هديه.

فقال: يا رسول اللّه مالي بها حميم، و إنّي أخاف قريشا لشدّة عداوتي إيّاها، و لكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي: عثمان بن عفّان.

فقال: صدقت. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عثمان فأرسله إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، و إنّما جاء زائرا لهذا البيت، معظّما لحرمته.

فاحتبسته قريش عندها. فبلغ رسول اللّه و المسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لا نبرح حتّى نناجز القوم. و دعا الناس إلى البيعة، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الشجرة- و كانت سمرة (2)- فاستند إليها، و بايع الناس على أن يقاتلوا المشركين، و لا يفرّوا عنهم.

قال جابر بن عبد اللّه: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها.

و قيل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا في أصل الشجرة، و على ظهره غصن من أغصانها.

قال عبد اللّه بن المغفل: و كنت قائما على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك اليوم،.

ص: 384


1- أي: وقفت و لزمت مكانها و لم تنقد.
2- السمرة: شجرة من العضاه، و ليس في العضاه أجود خشبا منها. و العضاه: كلّ شجر يعظم و له شوك.

و بيدي غصن من الشجرة أذبّ عنه، فرفعت الغصن عن ظهره، فبايعوه على الموت دونه، و على أن لا يفرّوا. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنتم اليوم خير أهل الأرض.

و لا شبهة أنّ هذا مشروط بعدم النكث و الارتداد. و كان عدد المبايعين ألفا و خمسمائة و خمسة و عشرين.

و قيل: ألفا و أربعمائة. و قيل: ألفا و ثلاثمائة.

و روى الزهري و عروة بن الزبير و المسور بن مخزمة قالوا: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الهدي و أشعره، و أحرم بالعمرة، و بعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. و سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى إذا كان بغدير (1) الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي و غيرهما قد جمعوا لك الأحابيش (2) و جمعوا جموعا، و هم قاتلوك و صادّوك عن البيت.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: روحوا. فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ خالد بن الوليد بالغميم (3) في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين. و سار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى إذا كان بالثنيّة (4) بركت راحلته، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما خلأت القصواء (5)، و لكن حبسها حابس الفيل، فزجرها فوثبت به. قال: فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبية.

ص: 385


1- غدير الأشطاط: قريب من عسفان. و عسفان: منهلة من مناهل الطريق، و هي من مكّة على مرحلتين.
2- الأحابيش: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.
3- الغميم: موضع بين مكّة و المدينة.
4- الثنيّة: طريق العقبة. و العقبة: المرقى الصعب من الجبال، أو الطريق في أعلى الجبال.
5- القصواء: الناقة التي قطع طرف أذنها. و في نهاية ابن الأثير (4: 75): «و لم تكن ناقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قصواء، و إنّما كان هذا لقبا لها. و قيل: كانت مقطوعة الأذن».

على ثمد (1) قليل الماء، إنّما يتبرّضه (2) الناس تبرّضا، فشكوا إليه العطش، فانتزع سهما من كنانته فركزه (3) فيه، فو اللّه ما زال يجيش (4) لهم بالريّ حتّى صدورا عنه.

و بعث قريش حويطب بن عبد العزّى، و بديل بن ورقاء الخزاعي، و عروة بن مسعود الثقفي، مع جماعة، و ابتدر عروة و جعل يكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كلّما كلّمه أخذ بلحيته، و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه السيف و عليه المغفرة (5)، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضرب يده بنعل (6) السيف و قال: أخّر يدك عن لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل أن لا ترجع إليك. فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة.

فخيّرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين المصالحة إلى مدّة معيّنة، و رجوعه عن مكّة إلى أن تنقضي المدّة، و بين أن يدعوه و أصحابه أن يدخلوا مكّة و يطوفوا و يحلّوا و يرجعوا. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي (7) أو لينفذنّ اللّه عزّ و جلّ أمره.

فجعل عروة يرمق صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيما له.

فرجع إلى قريش، فقال لهم: و اللّه لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر.

ص: 386


1- الثمد: الحفرة يجتمع فيها ماء المطر.
2- تبرّض الماء: ترشّفه، أي: مصّه بشفتيه.
3- ركز الرمح و نحوه: غرزه في الأرض و أثبته.
4- أي: يفيض. و الريّ و الريّ: أن يشرب الماء حتّى يشبع.
5- المغفرة: زرد- أي: درع- يلبسه المحارب تحت القلنسوة.
6- نعل السيف: ما يكون في أسفل غمده من حديد أو فضّة.
7- السالفة: صفحة العنق. أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حتّى يفرّق بين رأسي و جسدي.

و كسرى و النجاشي، و اللّه إن رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمدا، إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيما له. و إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته.

فقالوا: ائته. فلمّا أشرف عليهم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: هذا فلان، و هو من قوم يعظّمون البدن (1)، فابعثوها. فبعثت له. و استقبله القوم يلبّون، فلمّا رأى ذلك قال: سبحان اللّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت.

فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته.

فقالوا: ائته. فلمّا أشرف عليهم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا مكرز، و هو رجل فاجر. فجعل يكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبينا هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد سهل عليكم أمركم.

فقال: اكتب بيننا و بينك كتابا.

فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام فقال له:

اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: أمّا الرحمن فو اللّه ما أدري ما هو. فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك و يبطشوا عليهم، فأنزل اللّه سكينته عليهم فحلموا.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من محمّد رسول اللّه.

فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك، و لكن اكتب: محمّد بن عبد اللّه.

فقال النبيّ: إنّي لرسول اللّه و إن كذّبتموني..

ص: 387


1- البدن جمع البدنة: الناقة أو البقرة المسمّنة.

ثمّ قال لعليّ عليه السّلام: امح: رسول اللّه.

فقال له: يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة.

فأخذه رسول اللّه فمحاه. ثمّ قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو، و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس، و يكفّ بعضهم عن بعض. و على أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا، أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه و ماله، و من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده دخل فيه، و من أحبّ أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه.

فتواثبت بنو خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمّد و عهده. و تواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش و عهدهم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على أن تخلّوا بيننا و بين البيت فنطوف.

فقال سهيل: ذلك من العام المقبل.

ثمّ قال سهيل: على أنّه لا يأتيك منّا رجل و إن كان على دينك إلّا رددته إلينا، و من جاءنا ممّن معك لم نردّه عليك.

فقال المسلمون: سبحان اللّه كيف يردّ إلى المشركين و قد جاء مسلما؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من جاءهم منّا فأبعده اللّه، و من جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم اللّه الإسلام من قلبه جعل له مخرجا.

فقال سهيل: و على أنّك ترجع عنّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكّة. فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا. و لا تدخلها بالسلاح، إلّا السيوف في القراب (1) و سلاح الراكب. و على أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه، لا تقدّمه علينا..

ص: 388


1- القراب: الغمد، أي: جفن السيف.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نحن نسوق، و أنتم تردّون.

قال عمر بن الخطّاب: ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذ، فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: أ لست نبيّ اللّه؟

قال: بلى.

قلت: ألسنا على الحقّ، و عدوّنا على الباطل؟

قال: بلى.

قلت: فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذا؟

قال: إنّي رسول اللّه، و لست أعصيه، و هو ناصري.

قلت: أو لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت و نطوف به؟

قال: بلى. أ فأخبرتك أنّك تأتيه العام؟

قلت: لا.

قال: فإنّك تأتيه و تطوف به. فنحر رسول اللّه بدنة، و دعا بحالقه، فحلق شعره، ثمّ رجع مع أصحابه.

و أخبر سبحانه مجملا عمّا ذكرنا مفصّلا، فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ شجرة السمرة فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإخلاص و صدق الضمائر فيما بايعوا فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة و سكون النفس بالتشجيع أو الصلح عَلَيْهِمْ على قلوبهم. و المراد بإنزالها اللطف المقوّي لها. وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً فتح خيبر غبّ انصرافهم من مكّة. و قيل: مكّة. و عن الحسن: فتح حجر. و هو أجلّ فتح اتّسعوا بثمرها زمانا. و الأوّل أصحّ و أشهر.

وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني: مغانم خيبر و كانت أرضا ذات عقار و أموال، فقسّمها رسول اللّه عليهم. وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا قاهرا حَكِيماً مراعيا مقتضى الحكمة.

ص: 389

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها و هي ما يفي ء على المؤمنين إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني: مغانم خيبر وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي أهل خيبر و حلفائهم من بني أسد و غلطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف في قلوبهم الرعب فنكصوا. أو أيدي قريش بالصلح.

وَ لِتَكُونَ هذه الكفّة، أو الغنيمة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أمارة يعرفون بها أنّهم من اللّه بمكان، و أنّه ضامن نصرهم و الفتح عليهم. أو صدق الرسول في وعدهم بفتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية، أو وعد المغانم.

قيل: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكّة في منامه- و رؤيا الأنبياء وحي- فتأخّر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة و عنوانا لفتح مكّة.

و هو علّة الكفّ، أو «عجّل»، معطوف على محذوف، مثل: لتسلموا، أو لتأخذوا. أو العلّة لمحذوف تقديره: و ليكون آية للمؤمنين فعل ذلك.

وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً و يزيدكم بصيرة و يقينا و ثقة بفضل اللّه و التوكّل عليه، من عدة اللّه في القرآن بالفتح و الغنيمة.

وَ أُخْرى و مغانم اخرى. معطوفة على «هذه». أو منصوبة بفعل يفسّره «قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها» مثل: قضى. و يحتمل رفعها بالابتداء، لأنّها موصوفة. و جرّها بإضمار «ربّ» أي: ربّ مغانم اخرى. لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها لما كان فيها من الشدّة العظيمة و الصعوبة التامّة قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها قد علم بها و قدر عليها و استولى، فأظفركم بها و غنّمكموها. و هو مغانم هوازن في غزوة حنين، و مغانم فارس.

وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً لأنّ قدرته ذاتيّة لا تختصّ بشي ء دون شي ء.

و بيان قصّة وقعة خيبر على ما روى كبراء المفسّرين و عظماء المؤرّخين: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة، ثمّ خرج منها قاصدا إلى خيبر.

ص: 390

و رووا عن ابن إسحاق بإسناده، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن جدّه قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى خيبر، حتّى إذا أشرفنا عليها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قفوا. فوقف الناس. فقال: اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ما أظللن، و ربّ الأرضين السبع و ما أقللن، و ربّ الشياطين و ما أضللن، إنّا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها، و نعوذ بك من شرّ هذه القرية و شرّ أهلها و شرّ ما فيها.

أقدموا بسم اللّه.

و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى خيبر، فسرنا ليلا، فلمّا جدّ الحرب و تصافّ القوم خرج يهوديّ و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب* شاكي السلاح بطل مجرّب إذا الحروب أقبلت تلهّب فبرز إليه عامر بن الأكوع و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي عامر* شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهوديّ في ترس عامر، و كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق اليهوديّ ليضربه، فرجع ذباب (1) سيفه فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه.

قال سلمة: فإذا نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه.

قال: فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا أبكي، فقلت: قالوا: إنّ عامرا بطل عمله.

فقال: من قال ذلك؟

قلت: نفر من أصحابك.

فقال: كذب أولئك، بل أوتي من الأجر مرّتين..

ص: 391


1- ذباب السيف: طرفه الّذي يضرب به.

قال: فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة. ثمّ إنّ اللّه فتحها علينا.

و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطى اللواء عمر بن الخطّاب، و نهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر و أصحابه، فرجعوا إلى رسول اللّه، يجبّنه أصحابه و يجبّنهم. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس، فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس بخيبر؟ فأخبر. فقال: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، كرّارا غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه.

و روى البخاري و مسلم في صحيحيهما، عن قتيبة بن سعيد قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن الاسكندراني، عن أبي حازم، قال: أخبرني سهل بن سعد: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لاعطينّ هذه الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه، يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله.

قال: فبات الناس يدوكون (1) بجملتهم أيّهم يعطاها. فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّهم يرجون أن يعطاها.

فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟

فقالوا: يا رسول اللّه يشتكي عينيه.

قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عينيه، و دعا له، فبرى ء حتّى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.

فقال عليّ عليه السّلام: يا رسول اللّه أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ قال: أنفذ على رسلك (2) حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه، فو اللّه لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون حمر النعم..

ص: 392


1- داك القوم: خاضوا و اضطربوا و ماجوا.
2- الرسلة: التمهّل و التؤدة و الرفق. يقال: على رسلك، أي: على مهلك و تأنّ.

قال سلمة: فبرز مرحب و هو يقول: قد علمت خيبر أنّي مرحب ... (1) الأبيات. فبرز له عليّ عليه السّلام و هو يقول:

أنا الّذي سمّتني أمّي حيدرة

كليث غابات كريه المنظرة

أو فيهم بالصاع كيل السندرة (2)

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله، و كان الفتح على يده».

و روى أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: خرجنا مع عليّ عليه السّلام حين بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ باب الحصن فتترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده و هو يقاتل حتّى فتح اللّه عليه، ثمّ ألقاه من يده. فلقد رأيتني في نفر مع سبعة- أنا ثامنهم- نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.

و بإسناده عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قال:

«حدّثني جابر بن عبد اللّه أنّ عليّا عليه السّلام حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فافتتحوها، و أنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا».

قال: و روي من وجه آخر عن جابر: ثمّ اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب.

و بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان عليّ عليه السّلام يلبس في الحرّ و الشتاء القباء المحشوّ الثخين، و ما يبالي الحرّ. فأتاني أصحابي فقالوا: إنّا رأينا من .

ص: 393


1- ورد صدر الحديث في صحيح البخاري 5: 171، و ذيله من قوله: «قال سلمة ...» في صحيح مسلم 3: 1441.
2- السندرة: ضرب من الكيل ضخم. يقال: أكيلكم بالسيف كيل السندرة، يعني: أقتلكم قتلا واسعا ذريعا.

أمير المؤمنين عليه السّلام شيئا، فهل رأيت؟

فقلت: و ما هو؟

قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحرّ الشديد في القباء المحشوّ الثخين، و ما يبالي الحرّ، و يخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين، و ما يبالي البرد.

فهل سمعت في ذلك شيئا؟

فقلت: لا.

فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك.

فسألته. فقال: ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل على عليّ عليه السّلام، فسمر معه، ثمّ سأله عن ذلك. فقال: أو ما شهدت معنا خيبر؟

فقلت: بلى.

قال: أو ما رأيت رسول اللّه حين دعا أبا بكر، فعقد له و بعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم، ثمّ جاء بالناس و قد هزموا؟

فقال: بلى.

قال: ثمّ بعث إلى عمر فعقد له، ثمّ بعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم فقاتلهم، ثمّ رجع و قد هزم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأعطينّ الراية اليوم رجلا يحبّ اللّه و رسوله،- و يحبّه اللّه و رسوله، يفتح اللّه على يديه، كرّارا غير فرّار. فدعاني فأعطاني الراية، ثمّ قال: اللّهمّ اكفه الحرّ و البرد. فما وجدت بعد ذلك بردا و لا حرّا.

و هذا كلّه أيضا منقول من كتاب دلائل (1) النبوّة للإمام أبي بكر البيهقي.

ثمّ لم يزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يفتح الحصون حصنا حصنا، و يحوز الأموال، حتّى انتهوا إلى حصن الوطيح و السلالم، و كان آخر حصون خيبر، افتتح، و حاصرهم رسول اللّه بضع عشرة ليلة.

ص: 394


1- دلائل النبوّة 4: 212- 213.

قال ابن إسحاق: و لمّا افتتح القموص حصن ابن أبي الحقيق، أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بصفيّة بنت حييّ بن أخطب و بأخرى معها. فمرّ بهما بلال- و هو الّذي جاء بهما- على قتلى من قتلى يهود، فلمّا رأتهم الّتي معها صفيّة صاحت و صكّت وجهها، و حثت التراب على رأسها. فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: اغربوا (1) عنّي هذه الشيطانة. و أمر بصفيّة فحيزت خلفه، و ألقى عليها رداءه. فعرف المسلمون أنّه قد اصطفاها لنفسه.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبلال لمّا رأى من تلك اليهوديّة ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال، حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟

و كانت صفيّة قد رأت في المنام، و هي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أنّ قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها. فقال: ما هذا إلّا أنّك تتمنّين ملك الحجاز محمّدا، و لطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها. فأتي بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بها أثر منها. فسألها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما هو؟ فأخبرته.

و أرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انزل فأكلّمك. قال: نعم. فنزل و صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، و ترك الذرّيّة لهم، و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم، و يخلّون بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين ما كان لهم من مال و أرض، و على الصفراء و البيضاء، و الكراع (2) و الحلقة، و على البزّ (3) إلّا ثوبا على ظهر إنسان.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فبرئت منكم ذمّة اللّه و ذمّة رسوله إن كتمتموني شيئا.

فصالحوه على ذلك..

ص: 395


1- اغرب عنّي، أي: تباعد.
2- الكراع: اسم يطلق على الخيل و البغال و الحمير. و الحلقة: الدرع.
3- البزّ: الثياب.

فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسألونه أن يسيّرهم، و يحقن دماءهم، و يخلّون بينه و بين الأموال. ففعل. و كان ممّن مشى بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بينهم في ذلك محيّصة بن مسعود، أحد بني حارثة.

فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعاملهم الأموال على النصف. و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها. فصالحهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على النصف، على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. و صالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين. و كانت فدك خالصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّهم لم يوجفوا عليها بخيل و لا ركاب.

و لمّا اطمأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم- و هي ابنة أخي مرحب- شاة مصليّة (1)، و قد سألت: أيّ عضو من الشاة أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ فقيل لها: الذراع. فأكثرت فيها السمّ، و سمّت سائر الشاة، ثمّ جاءت بها. فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذراع، فأخذها فلاك منها مضغة، و انتهش منها، و معه بشر بن البراء بن معرور، فتناول عظما، فانتهش منه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارفعوا أيديكم، فإنّ كتف هذه الشاة تخبرني أنّها مسمومة. ثمّ دعاها فاعترفت.

فقال: ما حملك على ذلك؟

فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبيّا فسيخبر، و إن كان ملكا استرحت منه.

فتجاوز عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مات بشر بن البراء من أكلته الّتي أكل.

قال: و دخلت أمّ بشر بن البراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعوده في مرضه الّذي توفّي فيه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أمّ بشر ما زالت أكلة خيبر الّتي أكلت بخيبر مع ابنك

ص: 396


1- صلى اللحم: شواه، فاللحم مصليّ.

تعاودني، فهذا أوان قطعت أبهري (1). و كان المسلمون يرون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مات شهيدا، مع ما أكرمه اللّه به من النبوّة.

[سورة الفتح [48]: الآيات 22 الى 24]

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً [22] سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [23] وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [24]

ثمّ ذكر نصرة أهل الإيمان على المشركين، فقال: وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكّة يوم الحديبية، و لم يصالحوا. و قيل: من حلفاء أهل خيبر. لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لا نهزموا و غلبوا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحرسهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم.

و في الآية دلالة على أنّه يعلم ما لم يكن أن لو كان كيف يكون، و إشارة إلى أنّ المعدوم معلوم عنده.

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي: سنّ غلبة أنبيائه سنّة قديمة فيمن مضى من الأمم، كما قال: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (2) وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا في نصرة اللّه تغييرا.

وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أيدي كفّار مكّة بالرعب وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ

ص: 397


1- الأبهر: وريد العنق، إذا انقطع لم يبق صاحبه. يقال: ما زال يراجعه الألم حتّى قطع أبهره، أي: أهلكه.
2- المجادلة: 21.

بالنهي بِبَطْنِ مَكَّةَ يوم الحديبية، فإن بعضها من الحرم. و روي أنّ مضارب (1) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت في الحلّ، و مصلّاه في الحرم.

مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أظهركم عليهم. و ذلك

أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خالد بن الوليد على جند، فهزمهم حتّى أدخلهم حيطان مكّة ثمّ عاد.

و عن ابن عبّاس: أظهر اللّه المسلمين عليهم بالحجارة حتّى أدخلوهم البيوت.

و عن عبد اللّه بن المغفل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا في ظلّ شجرة، و بين يديه عليّ عليه السّلام يكتب كتاب الصلح، فخرج ثلاثون شابّا عليهم السلاح، فدعا عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخذ اللّه تعالى بأبصارهم، فقمنا فأخذناهم، فخلّى عليه السّلام سبيلهم.

و قيل: كان ذلك يوم الفتح.

وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من مقاتلتهم أوّلا طاعة لرسوله، و كفّهم ثانيا لتعظيم بيته. و قرأ أبو عمرو بالياء. بَصِيراً فيجازيهم عليه.

[سورة الفتح [48]: الآيات 25 الى 26]

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [25] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ

ص: 398


1- أي: مواضع خيامه.

الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [26]

ثمّ ذكر سبحانه سبب منعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك العام دخول مكّة، فقال:

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا و تحلّوا من عمرتكم وَ الْهَدْيَ ما يهدى إلى مكّة. و هي البدن الّتي ساقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معه، و كانت سبعين بدنة. عطف على الضمير المنصوب في «صدّوكم» أي: صدّوا الهدي.

مَعْكُوفاً محبوسا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي: مكانه الّذي يحلّ فيه نحره- أي:

يجب- يعني: مكّة، لأنّ هدي العمرة لا يذبح إلّا بمكّة، كما أنّ هدي الحجّ لا يذبح إلّا بمنى.

وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ يعني: المستضعفين الّذين كانوا بمكّة بين الكفّار من أهل الإيمان، غير مستطيعين للمهاجرة عنهم لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة للرجال و النساء جميعا. و التذكير للتغليب، أي: لم تعرفوا المؤمنين و المؤمنات بأعيانهم، لاختلاطهم بالمشركين. أَنْ تَطَؤُهُمْ أن توقعوا بهم و تبيدوهم، فإنّ الوطء و الدوس عبارة عن الإيقاع و الإبادة. و هو بدل اشتمال من «رجال و نساء».

أو من ضمير «هم» في «تعلموهم».

فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ من جهتهم مكروه، كوجوب الدية و الكفّارة بقتلهم، و التأسّف عليهم، و تعيير الكفّار بأنّهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا، و الإثم بالتقصير في البحث عنهم. مفعلة من: عرّه إذا أغراه، أي: أصابه ما يكرهه.

بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلّق ب «أن تطؤهم» أي: تطؤهم غير عالمين بهم.

ص: 399

و جواب «لولا» محذوف، لدلالة الكلام عليه. و المعنى: لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين اظهر المشركين، جاهلين بهم، لاختلاطهم بالكافرين، غير متميّزين منهم، و لا معروفي الأماكن، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه و مشقّة، لما كفّ أيديكم عنهم.

و قوله: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ علّة لما دلّ عليه كفّ الأيدي عن أهل مكّة صونا لمن فيها من المؤمنين، أي: كان الكفّ و منع التعذيب ليدخل اللّه في رحمته- أي: في توفيقه للسلامة من القتل، و لزيادة الخير و الطاعة- مَنْ يَشاءُ من مؤمنيهم.

لَوْ تَزَيَّلُوا لو تفرّقوا، و تميّز بعضهم من بعض. من: زاله يزيله. لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً بالقتل و السبي. فلحرمة اختلاط المؤمنين بالمشركين لم يعذّب اللّه المشركين.

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مقدّر ب: اذكر. أو ظرف ل «لعذّبنا» أو «صدّوكم».

فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ الخصلة الّتي تحمي الإنسان، أي: حميت قلوبهم بالغضب.

و المراد: أنفتهم و استنكافهم من الإقرار بالرسالة، و الاستفتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم.

ثمّ فسّر تلك الحميّة بقوله: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ أي: عادة آبائهم في الجاهليّة أن لا يذعنوا لأحد، و لا ينقادوا له، و يمتنعوا عن اتّباعه و إن كان في الحقّ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ الثبات و الوقار عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ و ذلك حين

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: اكتب في صكّ المصالحة: بسم اللّه الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: ما نعرف هذا، و لكن اكتب: باسمك اللّهمّ.

ثمّ قال: اكتب: هذا ما صالح عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهل مكّة.

فقالوا: لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك، و لكن

ص: 400

اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد اللّه أهل مكّة.

فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك و يبطشوا عليهم كما مرّ، فأنزل اللّه السكينة عليهم، فتوقّروا و تحلّموا.

و لمّا ذمّ الكفّار بالحميّة، و مدح المؤمنين بلزوم الكلمة و السكينة، بيّن علمه ببواطن سرائرهم و ما ينطوي عليه عقد ضمائرهم، فقال:

وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى بالتوفيق و إعطاء اللطف. و هي كلمة: بسم اللّه الرحمن الرحيم و محمّد رسول اللّه، فاختارها لهم. أو كلمة الشهادة. و عن الحسن:

هي الوفاء بالعهد، و الثبات عليه. و إضافة الكلمة إلى التقوى، لأنّها سببها و أساسها.

أو كلمة أهلها. وَ كانُوا أَحَقَّ بِها من غيرها، و أولى بالهداية من غيرهم وَ أَهْلَها و مستأهلها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم أهل كلّ شي ء و ييسّره له.

[سورة الفتح [48]: الآيات 27 الى 29]

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [27] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [28] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ

ص: 401

وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [29]

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى قبل خروجه إلى الحديبية، كأنّه و أصحابه قد دخلوا مكّة آمنين و قد حلقوا و قصّروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا و استبشروا، و حسبوا أنّهم داخلوها في عامهم. و قالوا: إنّ رؤيا رسول اللّه حقّ. فلمّا تأخّر ذلك قال عبد اللّه بن أبيّ و عبد اللّه بن نفيل و رفاعة بن الحارث: و اللّه ما حلقنا، و لا قصّرنا، و لا رأينا المسجد الحرام. فنزلت:

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا

أي: صدّقه في رؤياه، و لم يكذّبه. فحذف الجارّ و أوصل الفعل، كقوله تعالى: ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (1) بِالْحَقِ ملتبسا به، فإنّ ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدّر، و هو العام القابل. و هو إمّا متعلّق ب «صدق» أي: صدّقه فيما رأى، و في كونه و حصوله صدقا ملتبسا بالحقّ، أي:

بالغرض الصحيح و الحكمة البالغة. و ذلك ما فيه من الابتلاء و التمييز بين المؤمنين المخلصين، و بين من في قلبه مرض نفاق.

و يجوز أن يتعلّق بالرؤيا حالا منها، أي: صدّقه الرؤيا ملتبسة بالحقّ، على معنى أنّها لم تكن من أضغاث الأحلام.

و يجوز أن يكون «بالحقّ» قسما. إمّا بالحقّ الّذي هو نقيض الباطل. أو بالحقّ الّذي هو من أسمائه تعالى.

ص: 402


1- الأحزاب: 23.

لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني: العام المقبل. و هو جواب القسم. و على الأوّل جواب قسم محذوف. إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة، تعليما للعباد أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدّبين بأدب اللّه، و مقتدين بسنّته. أو إشعارا بأنّ بعضهم لا يدخل، لموت أو غيبة. و المعنى: لتدخلنّ جميعا إن شاء اللّه، و لم يمت منكم أحدا. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه.

آمِنِينَ حال من الواو، و الشرط معترض مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ أي: محلّقا بعضكم، و مقصّرا آخرون لا تَخافُونَ حال مؤكّدة، أو استئناف، أي:

لا تخافون بعد ذلك.

فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ من دون دخولكم المسجد الحرام، أو فتح مكّة فَتْحاً قَرِيباً و هو فتح خيبر، ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسّر الموعود.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ملتبسا بالدليل الواضح و الحجّة الساطعة.

و قيل: بالقرآن، أو بسببه، أو لأجله. وَ دِينِ الْحَقِ و بدين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليغلبه على جنس الدين كلّه. يريد الأديان المختلفة، من المشركين و الجاحدين و أهل الكتاب. و ذلك بنسخ ما كان حقّا، و إظهار فساد ما كان باطلا. أو بتسليط المؤمنين على أهله، إذ ما من أهل دين إلّا و قد قهرهم المسلمون. و فيه تأكيد لما وعده من الفتح. قيل: إنّ تمام ذلك عند خروج المهديّ عليه السّلام، فلا يبقى في الأرض دين سوى دين الإسلام. وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أنّ ما وعده كائن لا محالة. أو على نبوّته بإظهار المعجزات.

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جملة مبيّنة للمشهود به. و يجوز أن يكون «رسول اللّه» صفة و «محمّد» خبر محذوف. أو مبتدأ وَ الَّذِينَ مَعَهُ معطوف عليه، و خبرهما أَشِدَّاءُ جمع شديد عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ جمع رحيم بَيْنَهُمْ و المعنى: أنّهم

ص: 403

يغلظون على من خالف دينهم، و يتراحمون فيما بينهم، كقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (1).

و عن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفّار أنّهم كانوا يتحرّزون من ثياب المشركين أن تلزق بثيابهم، و من أبدانهم أن تمسّ أبدانهم. و بلغ من تراحمهم فيما بينهم أنّه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه. و من حقّ المؤمنين في كلّ زمان أن يراعوا هذا التشدّد و هذا التعطّف، فيتشدّدوا على من ليس على ملّتهم و دينهم و يتحاموه، و يعاشروا إخوتهم في الإيمان، متعطّفين بالبرّ و الصلة، و كفّ الأذى، و المعونة، و الأخلاق الكريمة.

تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً لأنّهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً يلتمسون بذلك زيادة نعمة من اللّه، و يطلبون مرضاته سِيماهُمْ علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يريد السمة الّتي تحدث في جبهة السجّاد من كثرة السجود. فعلى، من: سامه إذا أعلمه. و «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» بيانها. أو حال من المستكن في الجارّ. و كان عليّ بن الحسين يقال له: ذو الثفنات، لأنّ كثرة سجوده أحدثت في مواقعه منه أشباه ثفنات (2) البعير.

و قيل: السيماء هو صفرة الوجه من خشية اللّه.

و عن الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى و ما هم بمرضى.

و عن سعيد بن المسيّب: ندى الطهور، و تراب الأرض.

و عن عكرمة و سعيد بن جبير و أبي العالية: هو التراب على الجباه، لأنّهم يسجدون على التراب لا على الأثواب.

ص: 404


1- المائدة: 54.
2- ثفنات جمع ثفنة. و هي من البعير: ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ و غلظ، كالركبتين.

و عن عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلّوا بالليل،

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار».

روي عن ابن عبّاس و عطيّة معناه: علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا.

و قال شهر بن حوشب: يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر.

ذلِكَ إشارة إلى الوصف المذكور، أو إشارة مبهمة يفسّرها «كزرع» مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ عطف عليه، أي: ذلك مثلهم في الكتابين. و قوله: كَزَرْعٍ تمثيل مستأنف، أو تفسير أَخْرَجَ شَطْأَهُ فراخه. يقال: أشطأ الزرع إذا فرّخ (1). و قرأ ابن كثير و ابن عامر برواية ابن ذكوان: شطأه بفتحات. و هو لغة. فَآزَرَهُ فقوّاه. من المؤازرة، و هي المعاونة. أو من الإيزار، و هي الإعانة. و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان:

فئازره، كأجر في: آجر.

فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقّة إلى الغلظة فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبه. جمع ساق. و عن ابن كثير: سؤقه بالهمزة. و قيل: مكتوب في الإنجيل:

سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر.

يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بغلظه و كثافته و و قوّته و حسن منظره. و هو مثل ضربه اللّه لبدء أمر الإسلام، و ترقّيه في الزيادة يوما فيوما إلى أن قوي و استحكم، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قام وحده، ثمّ قوّاه اللّه بمن آمن معه، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها ممّا يتولّد منها. فكثر المؤمنون، و استحكم دين الإسلام، فترقّى أمرهم بحيث أعجب الناس.

ص: 405


1- الشطء و الشطأ: ورق الزرع. و فرّخ الشجر: نبتت فراخه. و الفراخ جمع الفرخ: ما يخرج في أصول الشجر من صغار الورق.

قال الواحدي: «الزرع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الشطء أصحابه، و المؤمنون حوله.

و كانوا في ضعف و قلّة، كما يكون أوّل الزرع دقيقا ثمّ غلظ و قوي و تلاحق، كذلك المؤمنون في بدء الإسلام قليلون، ثمّ بعضهم عاون بعضا في نصرة دين اللّه، حتّى استغلظوا و استووا على أمرهم» (1).

لِيَغِيظَ بِهِمُ بتوافرهم و تظاهرهم و اتّفاقهم على إطاعة اللّه الْكُفَّارِ و هذا علّة لتشبيههم بالزرع في نمائهم و ترقّيهم في الزيادة و القوّة. أو لقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً فإنّ الكفّار لمّا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة، من مغفرة الذنوب و الثواب العظيم و النعيم المقيم، مع ما يعزّهم به في الدنيا، غاظهم ذلك. و «منهم» للبيان، كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (2).

ص: 406


1- تفسير الوسيط 4: 147.
2- الحجّ: 30.

[49] سورة الحجرات

اشارة

مدنيّة. و عن ابن عبّاس: إلّا آية قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ (1). و هي ثماني عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الحجرات، اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع اللّه و من عصاه».

الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم، كان من زوّار محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الحجرات [49]: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [1]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الفتح بذكر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، و ما يختصّ به من الإجلال و الإعظام، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا أي: لا تقدّموا أمرا،

ص: 407


1- الحجرات: 13.

فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كلّ ما يمكن. أو ترك ليقصد توجّه النهي إلى نفس التقدمة، فيكون المقصود نفي التقدّم رأسا، كأنّه قيل: لا تقدّموا على التلبّس بهذا التقدّم، و لا تجعلوه منكم بسبيل. و يجوز أن يكون من: قدّم بمعنى: تقدّم، كوجّه و بيّن بمعنى: توجّه و تبيّن، كأنّه قيل: لا تتقدّموا. و منه: مقدّمة الجيش لمتقدّميهم.

و يؤيّده قراءة يعقوب: لا تقدموا.

بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أمامهما. مستعار لما بين الجهتين المسامتتين ليمين الإنسان و شماله قريبا منه. فسمّيت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسّعا، كما يسمّى الشي ء باسم غيره إذا جاوره و داناه. فهو من باب تسمية الشي ء باسم ما يجاوره. و في ضمن هذه الاستعارة فائدة جليلة ليست في الكلام الحقيقي. و هي: تصوير الهجنة و الشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء (1) على أمثلة الكتاب و السنّة. و المعنى: لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به و يأذنا فيه.

و قيل: المراد بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ذكر اللّه تعظيم له، و إشعار بأنّه من اللّه بمكان و مزيد تقرّب يوجب إجلاله. فهذا يجري مجرى قولك: سرّني زيد و حسن حاله، و أعجبني عمرو و كرمه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في التقديم، أو مخالفة الحكم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم، و حقّ مثله أن يتّقى عمّا نهاه.

عن ابن عبّاس: نهوا بهذه الآية أن يتكلّموا قبل كلامه، أي: إذا كنتم جالسين في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسئل عن مسألة، فلا تسبقوه بالجواب حتّى يجيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّلا.

و عن السدّي معناه: لا تسبقوه بقول و لا فعل حتّى يأمركم به.

ص: 408


1- احتذى مثال فلان و على مثاله: اقتدى و تشبّه به.

و قال الحسن: نزل في قوم ذبحوا الأضحية قبل صلاة العيد، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالإعادة.

و قيل: معناه: لا تقدّموا أعمال الطاعة قبل الوقت الّذي أمر اللّه و رسوله به، حتّى إنّه قيل: لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها.

و قيل: معناه: لا تمكّنوا أحدا يمشي أمام رسول اللّه، بل كونوا تبعا له، و أخّروا أقوالكم و أفعالكم عن قوله و فعله.

و الأولى حمل الآية على الجميع، فإنّ كلّ شي ء كان خلافا للّه و رسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي اللّه و رسوله، و ذلك ممنوع منه.

[سورة الحجرات [49]: الآيات 2 الى 5]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [2] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ [3] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [4] وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5]

و لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند اللّه من المكان الّذي لا يخفى، و من أحظاه اللّه بهذه الأثرة، و اختصّه بهذا الاختصاص القويّ، كان أدنى ما يجب له من التهيّب و الإجلال أن يخفض بين يديه الصوت، و يخافت له بالكلام، نهى عباده أن يرفعوا

ص: 409

أصواتهم فوق صوت نبيّه المكرّم لديه نهاية القصوى، و رسوله المقرّب بين يديه غاية الزلفى، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ أي: إذا كلّمتموه و كلّمكم فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته عند المكالمة، لأنّ فيه أحد شيئين: إمّا نوع استخفاف به، فهو الكفر، و إمّا سوء الأدب، فهو خلاف التعظيم المأمور به.

و تكرير النداء استدعاء مزيد الاستبصار، أو تجديده عند كلّ خطاب وارد.

و المبالغة في الاتّعاظ، لئلّا يفتروا و يغفلوا عن تأمّلهم. و الدلالة على استقلال المنادى له، و هو النهي عن رفع الصوت، و زيادة الاهتمام به.

وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ أي: جهرا مثل جهر بعضكم لِبَعْضٍ أي:

إذا كلّمتموه و هو صامت فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض، بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، و جهره باهرا لجهركم، حتّى تكون مزيّته عليكم لائحة، و سابقته واضحة، محاماة على التعظيم، و مراعاة للأدب.

فالصوت الّذي لا يستلزم سوء الأدب و تأذّي النبيّ لا يكون منهيّا عنه، كرفعه منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ، و ما أشبه ذلك.

ففي الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال للعبّاس بن عبد المطّلب لمّا انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس».

و كان العبّاس أجهر الناس صوتا. يروى أنّ غارة أتتهم يوما فصاح العبّاس: يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته.

و قيل: معناه: و لا تخاطبوه باسمه و كنيته كما يخاطب بعضكم بعضا، و خاطبوه بالنبيّ و الرسول، لما

روي عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ الآية نزلت في نفر من بني العنبر كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصاب من ذراريهم، فأقبلوا في فدائهم، فقدموا المدينة و دخلوا المسجد، و عجلوا أن يخرج إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجعلوا يقولون: يا محمّد اخرج إلينا.

ص: 410

و قال محمد بن إسحاق: نزلت في وفد تميم. و هم: عطارد بن حاجب بن زرارة، في أشراف من بني تميم، منهم: الأقرع بن حابس، و الزبرقان بن بدر، و عمرو بن الأهثم، و قيس بن عاصم، في وفد عظيم. فلمّا دخلوا المسجد نادوا رسول اللّه من وراء الحجرات: أن اخرج إلينا يا محمّد. فآذى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فخرج إليهم. فقالوا: جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا و خطيبنا.

فقال: قد أذنت.

فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد للّه الّذي جعلنا ملوكا، الّذي له الفضل علينا، و الّذي وهب لنا أموالا عظاما نفعل بها المعروف، و جعلنا أعزّ أهل المشرق، و أكثر عددا و عدّة. فمن مثلنا في الناس؟ فمن فاخرنا فليعدّ مثل ما عددنا. و لو شئنا لأكثرنا من الكلام، و لكنّا نستحي من الإكثار. ثمّ جلس.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه.

فقام فقال: الحمد للّه الّذي السماوات و الأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، و وسع كرسيّه علمه، و لم يكن شي ء قطّ إلّا من فضله. ثمّ كان من فضله أن جعلنا ملوكا، و اصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمهم نسبا، و أصدقهم حديثا، و أفضلهم حسبا. فأنزل عليه كتابا، و ائتمنه على خلقه، فكان خيرة اللّه على العالمين. ثمّ دعا الناس إلى الإيمان باللّه، فآمن به المهاجرون من قومه و ذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، و أحسنهم وجوها. فكان أوّل الخلق إجابة و استجابة للّه حين دعاه رسول اللّه نحن. فنحن أنصار رسول اللّه و ردؤه (1)، نقاتل الناس حتّى يؤمنوا. فمن آمن باللّه و رسوله منع ماله و دمه، و من نكث جاهدناه في اللّه أبدا، و كان قتله علينا يسيرا.

أقول هذا و أستغفر اللّه للمؤمنين و المؤمنات، و السلام عليكم.

ثمّ قام الزبرقان بن بدر ينشد. و أجابه حسّان بن ثابت..

ص: 411


1- الردء: الناصر و العون.

فلمّا فرغ حسّان بن قوله قال الأقرع: إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا، و شاعره أشعر من شاعرنا، و أصواتهم أعلى من أصواتنا.

فلمّا فرغوا أجازهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأحسن جوائزهم، و أسلموا. فنهاهم اللّه سبحانه عن أن ينادوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باسمه.

أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ كراهة أن تحبط. فيكون علّة للنهي. أو لأن تحبط، على أنّ النهي عن الفعل المعلّل باعتبار التأدية و العاقبة، لأنّه لمّا كان بصدد الأداء إلى الحبوط كأنّه فعل لأجله، و كأنّه العلّة و السبب في إيجاده على سبيل التمثيل، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا (1). فإنّ في الجهر و رفع الصوت عنده أو ندائه باسمه استخفافا، و قد يؤدّي إلى الكفر المحبط، و ذلك إذا انضمّ إليه قصد الإهانة و عدم المبالاة. وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنّها محبطة.

و الحبوط من: حبطت الإبل إذا أكلت الخضر، فنفخ بطونها، و ربّما هلكت.

و المفعول له- أعني: «أن تحبط»- متعلّق بالفعل الثاني عند البصريّين، مقدّر إضماره عند الفعل الأوّل، كقوله تعالى: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (2). و عند الكوفيّين بالعكس. و أيّهما كان؛ فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع و الجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل.

و اعلم أنّ المراد بحبوط العمل حبوط ثواب ذلك العمل، لا للأعمال الصالحة السابقة على هذا العمل، إذا لم يستلزم الكفر لقصد الاستخفاف و الإهانة. و المعنى:

أنّهم لو أوقعوا العمل على وجه تعظيم النبيّ و توقيره لاستحقّوا الثواب، فلمّا فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب.

ص: 412


1- القصص: 8.
2- الكهف: 96.

روي عن أنس: أنّ ثابت بن قيس كان في أذنه وقر (1)، و كان جهوريّا، فلمّا نزلت تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتفقّده و دعاه فسأله، فقال: يا رسول اللّه لقد أنزلت إليك هذه الآية، و إنّي رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لست هناك، إنّك تعيش بخير و تموت بخير، و إنّك من أهل الجنّة».

ثمّ مدح سبحانه من يعظّم رسوله و يوقّره، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ يخفضون أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب إجلالا له، أو مخافة عن مخالفة النهي أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ جرّبها لِلتَّقْوى و مرّنها عليها.

من قولك: امتحن فلان لأمر كذا، و جرّب له، و درّب للنهوض به، فهو مضطلع به، غير وان (2) عنه. و المعنى: أنّهم صابرون على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقّها.

و قيل: وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ تحقّق الشي ء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها. و حينئذ تكون اللام متعلّقة بمحذوف. فكأنّه قيل: عرفها كائنة للتقوى، خالصة لها. و يجوز أن تكون متعلّقة بالفعل باعتبار الأصل، إذ المعنى: ضرب اللّه قلوبهم بأنواع المحن و التكاليف الشاقّة لأجل التقوى. لأنّ حقيقة التقوى لا تعلم إلّا عند المحن و الشدائد، و الاصطبار على التقوى. أو أخلصها للتقوى، من قولهم: امتحن الذهب، إذا أذابه و ميّز إبريزه (3) من خبثه و نقّاه.

لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لغضّهم و سائر طاعاتهم.

و اعلم أنّ هذه الآية بنظمها الّذي رتّبت عليه، من إيقاع الغاضّين أصواتهم اسما ل «إنّ» المؤكّدة، و تصيير خبرها جملة من مبتدأ و خبر معرفتين معا، و المبتدأ اسم الإشارة، ثمّ استئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، و إيراد

ص: 413


1- وقرت أذنه وقرا: ثقلت أو ذهب سمعه.
2- ونى يني: فتر و ضعف و كلّ و أعيا، فهو: وان.
3- الإبريز: الذهب الخالص. و هي كلمة يونانيّة.

الجزاء نكرة مبهما أمره، ناظرة (1) في الدلالة على غاية الإحماد و الاعتداد و الارتضاء لما فعل الّذين و قّروا رسول اللّه من خفض أصواتهم، و في الإعلام بمبلغ عزّة رسول اللّه و قدر شرف منزلته. و فيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم، و استيجابهم ضدّ ما استوجب هؤلاء.

إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ و هم الجفاة من بني تميم و أجلافهم مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها، خلفها أو قدّامها، فإنّ الوراء الجهة الّتي يواريها عنك الشخص بظلّه من خلف أو قدّام. و «من» ابتدائيّة، فإنّ المناداة من جهة الوراء.

و فائدتها الدلالة على أنّ المنادى داخل الحجرة، إذ لا بدّ و أن يختلف المبتدأ و المنتهى.

و الحجرات جمع حجرة. و هي القطعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. و لذلك يقال لحظيرة الإبل: حجرة. و هي فعلة بمعنى مفعول، كالغرفة و القبضة. و المراد حجرات نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانت لكلّ منهنّ حجرة. و مناداتهم من ورائها بأنّهم أتوها حجرة فنادوه من ورائها. أو بأنّهم تفرّقوا على الحجرات متطلّبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكلّ.

و قيل: إنّ الّذي ناداه عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس، و فدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة و هو راقد، فقالا: يا محمّد اخرج إلينا. و إنّما أسند إلى جميعهم، لأنّهم رضوا بذلك، أو أمروا به، أو لأنّه وجد فيما بينهم.

أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب و مراعاة الحشمة، سيّما لمن كان بهذا المنصب. و الإخبار عن أكثرهم بأنّهم لا يعقلون يحتمل أن يكون فيهم

ص: 414


1- خبر «أنّ هذه الآية ...» في بداية الفقرة.

من قصد المحاشاة (1) المفهومة من قوله: «و أكثرهم». و أن يكون الحكم بقلّة العقلاء فيهم قصدا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإنّ القلّة تقع موقع النفي في كلامهم.

و ورود الآية على النمط الّذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر، من بيّنات إكبار محلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إجلاله.

منها: مجيئها على النظم المسجّل على الصائحين به بالسفه و الجهل لما أقدموا عليه.

و منها: لفظ الحجرات، و إيقاعها كناية عن موضع خلوته و مقيله (2) مع بعض نسائه.

و منها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الّذي تبيّن به ما استنكر عليهم. يعني: لم يصف الحجرات بأنّها موضع خلوة و مقيل، بل اقتصر على الحجرات.

و منها: التعريف باللام دون الإضافة.

و منها: أن شفع ذمّهم في خاتمة الآية باستجفائهم، و استركاك عقولهم، و قلّة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تسلية له، و إماطة لما تداخله من إيحاش سوء أدبهم.

و هلمّ جرّا من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمّل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور الّتي تنتمي إلى اللّه و رسوله متقدّمة على الأمور كلّها، من غير حصر و لا تقييد. ثمّ أردف ذلك النهي عمّا هو من جنس التقديم، من رفع الصوت و الجهر، كأنّ الأوّل بساط للثاني و وطاء لذكره. ثمّ ذكر ما هو ثناء على الّذين تحاموا ذلك فغضّوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند اللّه. ثمّ جي ء على عقب ذلك بما هو

ص: 415


1- أي: التنزّه و الابتعاد عن سوء الأدب.
2- المقيل: موضع القيلولة، أو النوم و الاستراحة في الظهيرة.

أطمّ (1) و هجنته أتمّ، من الصياح برسول اللّه في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبّه على فظاعة ما أجروا إليه و جسروا عليه، لأنّ من رفع اللّه قدره عن أن يجهر له بالقول، حتّى خاطبه جلّة المهاجرين و الأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الّذي بلغ من التفاحش مبلغا.

و من هذا و أمثاله يقتطف ثمر الألباب، و تقتبس محاسن الآداب.

ثمّ أدّبهم اللّه تعالى بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا في محلّ الرفع على الفاعليّة، لأنّ المعنى: و لو ثبت صبرهم، فإنّ «أنّ» و إن دلّت بما في حيّزها على المصدر، دلّت بنفسها على الثبوت، و لذلك وجب إضمار الفعل. و الصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال اللّه تعالى: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (2). و هاهنا المفعول محذوف. و التقدير: و لو ثبت حبسهم أنفسهم عمّا تنازع إلى هواها من المناداة وراء الحجرات حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي: الصبر مغيّا بخروجه.

و المعنى: أنّ خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرهم دون الانتهاء إليها، فإنّ «حتّى» مختصّة بغاية الشي ء في نفسه، و لذلك تقول: أكلت السمكة حتّى رأسها، و لا تقول: حتّى نصفها، بخلاف «إلى» فإنّها عامّة. و في «إليهم» إشعار بأنّه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتّى يفاتحهم بالكلام، أو يتوجّه إليهم.

لَكانَ الصبر خَيْراً لَهُمْ من الاستعجال، لما فيه من حفظ الأدب و تعظيم الرسول الموجبين للثناء و الثواب، و الإسعاف بالمسؤول، إذ روي أنّهم و فدوا شافعين في أسارى بني العنبر كما مرّ، فأطلق النصف و فادى النصف، فلو أنّهم صبروا لأطلق كلّهم بغير فداء.

ص: 416


1- أي: أعظم. و الهجنة: العيب و القبح.
2- الكهف: 28.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ الغفران و الرحمة، حيث اقتصر على النصح و التقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلن يضيق غفرانه و رحمته عن هؤلاء إن تابوا و أنابوا.

[سورة الحجرات [49]: الآيات 6 الى 8]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [6] وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [7] فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [8]

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان لأمّه- و هو الّذي ولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص، فصلّى بالناس و هو سكران صلاة الفجر أربعا، ثمّ قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان- مصدّقا- أي: آخذا للصدقة- إلى بني المصطلق، و كانت بينه و بينهم في الجاهليّة إحنة (1)، فلمّا شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فرحين بقدومه، فحسبهم مقاتليه، فرجع و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد ارتدّوا و منعوا الزكاة. فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و همّ أن يغزوهم. فوردوا و قالوا: نعوذ باللّه من غضبه و غضب رسوله. فاتّهمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اعتمادا على قول الوليد، فقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي، يقاتل

ص: 417


1- الإحنة: الحقد و العداوة.

مقاتلتكم، و يسبي ذراريكم». ثمّ ضرب بيده على كتف عليّ عليه السّلام. و قيل: بعثه إليهم بعد رجوع الوليد، فوجدهم منادين بالصلوات متهجّدين، فسلّموا إليه الصدقات، فرجع. فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ

بخبر. و تنكير الفاسق و النبأ للتعميم، كأنّه قال: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ. فَتَبَيَّنُوا فتطلّبوا بيان الأمر و انكشاف الحقيقة، و لا تعتمدوا قول الفاسق، لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الّذي هو نوع منه. و الفسوق: الخروج من الشي ء و الانسلاخ منه.

يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. و من مقلوبه: قفست البيضة، إذا كسرتها و أخرجت ما فيها. و من مقلوبه أيضا: قفست الشي ء، إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه. ثمّ استعمل في الخروج عن القصد و الانسلاخ من الحقّ.

و قرأ حمزة و الكسائي: فتثبّتوا، أي: فتوقّفوا إلى أن يتبيّن لكم الحال.

و التثبّت و التبيّن متقاربان. و هما: طلب الثبات و البيان و التعرّف.

و لمّا كان رسول اللّه و الّذين معه بالمنزلة الّتي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، و ما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلّا في الندرة، قيل: إن جاءكم، بحرف الشكّ. و فيه أن على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلّا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور.

و استدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا، من حيث إنّ اللّه أوجب التوقّف في خبر الفاسق، فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه.

و هذا لا يصحّ، لأنّ دليل الخطاب لا يعوّل عليه عندنا و عند أكثر المحقّقين.

أَنْ تُصِيبُوا كراهة إصابتكم قَوْماً بِجَهالَةٍ جاهلين بحالهم فَتُصْبِحُوا فتصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إصابتهم بالخطإ نادِمِينَ مغتمّين

ص: 418

غمّا لازما، متمنّين أنّه لم يقع، و لا يمكنكم تداركه. و تركيب الحروف الثلاثة في «ندم» دائر مع اللزوم و الدوام، فإنّه عبارة عن غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام و لزام، لأنّه كلّما تذكّر المتندّم عليه راجعه الغمّ. من الندام (1)، و هو لزام الشريب و دوام صحبته. و من مقلوباته: أدمن الأمر، أدامه. و مدن بالمكان، أقام به. و منه:

المدينة.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ «أنّ» بما في حيّزه سادّ مسدّ مفعولي «اعلموا». و فائدة تقديم خبر «أنّ» على اسمها القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين، على ما استهجن اللّه منهم من استتباع رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لآرائهم، فوجب تقديمه، لانصباب الغرض إليه.

و قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لا يكون كلاما مستأنفا، لأنّه حينئذ لم يظهر للأمر فائدة. فلا بدّ أن يكون متّصلا بما قبله، حالا من أحد ضميري «فيكم». و هو المستتر المرفوع، أو البارز المجرور. و كلاهما مذهب سديد.

و المعنى: أنّ فيكم رسول اللّه على حالة يجب عليكم تغييرها. أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها. و هي: أنّكم تريدون أن يتّبع رأيكم في الحوادث، و لو فعل ذلك لعنتّم، أي: لوقعتم في الجهد و الهلاك. من العنت. يقال: فلان يتعنّت فلانا، أي: يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك.

و فائدة إيثار «يطيعكم» على: أطاعكم، الدلالة على أنّه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه، و أنّه كلّما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا عليه، بدليل قوله: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ، كقوله: فلان يقري الضيف و يحمي الحريم، تريد: أنّه ممّا اعتاده و وجد منه مستمرّا.

و فيه إشعار بأنّ بعضهم أشار إليه بالإيقاع ببني المصطلق و تصديق قول

ص: 419


1- نادم نداما فلانا على الشراب: جالسه عليه.

الوليد. و أنّ بعضهم كانوا يتصوّنون، و يزعهم (1) جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك. و هم الّذين استثناهم بقوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ جعل الإيمان محبوبا إليكم، بأن أقام الأدلّة على صحّته، و بما وعد عليه من الثواب وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ بالألطاف الداعية إليه وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ بوجوه الألطاف الصارفة عنه.

و الحاصل: أنّ هذا استدراك بصفة من لم يفعل ذلك منهم، إحمادا لفعلهم، و تعريضا بذمّ من فعل.

و قيل: استدراك ببيان عذرهم في استصواب الإيقاع ببني المصطلق. يعني:

أنّهم من فرط حبّهم للإيمان و كراهتهم للكفر حملهم على ذلك لمّا سمعوا قول الوليد.

و يؤيّد الأوّل أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: أولئك المستثنون هم الّذين أصابوا الطريق السويّ من الرشد. و هو الاستقامة على طريق الحقّ مع تصلّب فيه. من الرشادة، و هي الصخرة.

و شريطة حرف الاستدراك- و هي: مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا و إثباتا- و إن كانت منتفية لفظا، لكن حاصلة معنى، لأنّ الّذين حبّب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المقدّم ذكرهم، فوقعت «لكنّ» في حاقّ موقعها من الاستدراك.

و معنى تحبيب اللّه و تكريهه: اللطف و الإمداد بالتوفيق كما مرّ. فسبيله الكناية. و كلّ ذي لبّ و صاحب بصيرة لا يغبى (2) عليه أنّ الرجل لا يمدح بغير فعله. و حمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثنى عليهم بفعل اللّه، و قد نفى اللّه هذا

ص: 420


1- أي: يمنعهم و يكفّهم.
2- أي: لا يخفى عليه و لا يجهل. من: غبا الشي ء عليه: لم يفطن له أو جهله.

على الّذين أنزل فيهم وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا (1). و الّذي سوّغ أنّ العرب تمدح بالجمال و حسن الوجوه- مع أنّ ذلك من فعل اللّه تعالى- أنّهم رأوا حسن الرواء (2) و وسامة المنظر في الغالب مشعرا بأخلاق محمودة و خصال رضيّة.

و من ثمّ قالوا: أحسن ما في الدميم (3) وجهه. فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، و لكن لدلالته على غيره. على أنّ من المحقّقين من علماء المعاني من دفع صحّة ذلك، و خطّأ المادح به، و قصّر المدح على النعت بأمّهات الخير، و هي: الفصاحة، و الشجاعة، و العدل، و العفّة، و ما يتشعّب منها و يرجع إليها. و جعل الوصف بالجمال و الثروة و كثرة الحفدة و الأعضاد، و غير ذلك ممّا ليس للإنسان فيه عمل، غلطا و مخالفة عن المعقول.

و «كره» يتعدّى بنفسه إلى مفعول واحد، فإذا شدّد زاد له آخر. لكنّه لمّا تضمّن معنى التبغيض نزّل منزلة: بغّض، فعدّي إلى آخر ب «إلى». و الكفر: تغطية نعم اللّه بالجحود. و الفسوق: الخروج عن القصد بحقيقة الايمان و محجّته بركوب الكبائر. و عن ابن عبّاس:

هو الكذب. و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و العصيان:

الامتناع عن الانقياد.

فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً تعليل للرشد، فإنّه و إن كان فعل القوم و الفضل فعل اللّه، لكن لمّا كان الرشد لا يكون إلّا عبارة عن التحبيب و التزيين و التكريه، مسندة إلى اسمه تعالى، صار الرشد كأنّه فعله، فاتّحد الفاعل، كما هو شرط نصب المفعول له، فجاز أن ينتصب عنه. أو تعليل ل «كرّه» و «حبّب»، و ما بينهما اعتراض، أو تعليل للفعل المقدّر، كأنّه قيل: جرى ذلك، أو كان ذلك فضلا من اللّه. و يجوز أن يكون

ص: 421


1- آل عمران: 188.
2- الرواء: حسن المنظر. و الوسامة: الحسن و الجمال.
3- الدميم: القبيح المنظر.

منصوبا على المصدر من غير فعله، فيوضع موضع: رشدا، لأنّ رشدهم فضل من اللّه، لكونهم موفّقين فيه. و الفضل و النعمة بمعنى الإفضال و الإنعام.

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين و ما بينهم من التفاضل و التمايز حَكِيمٌ حين يفضل و ينعم بالتوفيق عليهم.

و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر، لأنّه إذا حبّب في قلوبهم الإيمان و كرّه الكفر، فمن المعلوم أنّه لا يحبّب ما لا يحبّه و لا يكرّه ما لا يكرهه.

و لأنّه إذ ألطف في تحبيب الإيمان بألطافه دلّ ذلك على ما نقوله.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما على مجلس بعض الأنصار و هو على حمار، فبال الحمار، فأمسك عبد اللّه بن أبيّ بأنفه و قال: خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه (1).

فقال عبد اللّه بن رواحة الخزرجي: و اللّه إنّ بول حماره لأطيب من مسكك. و برواية اخرى: حماره أفضل منك، و بول حماره أطيب من مسكك. و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و طال الخوض بينهما حتّى استبّا و تجالدا، و جاء قوماهما- و هما: الأوس و الخزرج- فتجالدوا بالعصيّ، و قيل: بالأيدي و النعال و السّعف. فرجع إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أصلح بينهم. و نزلت:

[سورة الحجرات [49]: الآيات 9 الى 10]

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [9] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [10]

ص: 422


1- النتن: خبث الرائحة.

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا تقاتلوا. و الجمع باعتبار المعنى، فإنّ كلّ طائفة جمع. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح و الدعاء إلى حكم اللّه فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما تعدّت عَلَى الْأُخْرى أي: فمالت على الاخرى، ظالمة لها، متعدّية عليها فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي لأنّها هي الظالمة المتعدّية دون الاخرى حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ ترجع إلى حكم اللّه، أو ما أمر به. من الفي ء بمعنى الرجوع. و قد سمّي به الظلّ و الغنيمة، لأنّ الظلّ يرجع بعد نسخ الشمس، و الغنيمة ما يرجع من أموال المشركين إلى المسلمين.

فَإِنْ فاءَتْ رجعت إلى طاعة اللّه فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بالفصل بينهما على حكم اللّه حتّى يكونوا سواء، لا يكون من إحداهما على الاخرى جور فيما يتعلّق بالضمانات و الأروش. و تقييد الإصلاح بالعدل هاهنا لأنّه مظنّة الحيف، من حيث إنّه بعد المقاتلة.

ثمّ أمر باستعمال القسط على طريق العموم، بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، فقال:

وَ أَقْسِطُوا و اعدلوا في كلّ الأمور. من القسط بالفتح بمعنى الجور. و منه:

القسط، و هو اعوجاج في الرجلين. ف «أقسط» همزته للسلب، أي: أزال القسط.

و أمّا القسط بالكسر بمعنى العدل. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يحمد فعلهم بحسن الجزاء.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا بن أمّ عبد هل تدري كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمّة؟ قال: اللّه و رسوله أعلم. قال: لا يجهز على جريحها، و لا يقتل أسيرها، و لا يطلب هاربها، و لا يقسّم فيئها».

و الآية تدلّ على أنّ الباغي مؤمن. و أنّه إذا قبض عن الحرب ترك، كما جاء في الحديث، لأنّه فاء إلى أمر اللّه. و أنّه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح

ص: 423

و السعي في المصالحة.

ثمّ علّل الأمر بالصلاح و قرّره بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ من حيث إنّهم منتسبون إلى أصل واحد، و هو الإيمان الموجب للحياة الأبديّة. و لذلك كرّر الأمر بالصلاح مرتّبا عليه بالفاء، فقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ و وضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين، للمبالغة في التقرير و التخصيص. و خصّ الاثنين بالذكر، لأنّهما أقلّ من يقع بينهم الشقاق، و للإشعار على أنّه إذا لزمت المصالحة بين الأقلّ كانت بين الأكثر ألزم، لأنّ الفساد في شقاق الجميع أكثر من الفساد في شقاق الاثنين. و قيل: المراد بالأخوين الأوس و الخزرج.

و معنى الآية: ليس المؤمنون إلّا إخوة، و أنّهم خلّص لذلك متمحّضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبيّة، و أبى لطف حالهم في التمازج و الاتّحاد أن يقدموا على ما يتولّد منه التقاطع.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة حكمه في العدل و الإصلاح و الإهمال فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم. أي: عند التواصل و الائتلاف و ترك الخلاف، فإنّ وصول رحمة اللّه و اشتمال رأفته عليكم حقيق بأن تعقدوا به رجاءكم.

أورد البخاري و مسلم في صحيحيهما عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، و لا يخذله، و لا يعيبه، و لا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلّا بإذنه، و لا يؤذيه بقتار (1) قدره». ثمّ قال: «احفظوا، و لا يحفظه منكم إلّا قليل».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته، و من فرّج عن مسلم كربة فرّج اللّه بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، و من ستر عن مسلم يستره اللّه يوم القيامة».

ص: 424


1- القتار: الدخان من المطبوخ، و رائحة اللحم و الشواء.

و في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا عليّ سر ميلا عد مريضا، سر ميلين شيّع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخا في اللّه، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف، سر ستّة أميال انصر المظلوم، و عليك بالاستغفار».

[سورة الحجرات [49]: الآيات 11 الى 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [12]

و لمّا أمر سبحانه بإصلاح ذات البين، و نهى عن التفرّق، عقّب ذلك بالنهي عن أسباب الفرقة، من السخريّة و الازدراء بأهل الفقر و المسكنة و نحو ذلك، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي: بعض المؤمنين من بعض. و القوم مختصّ بالرجال، لأنّهم القوّام بأمور النساء، كما قال اللّه تعالى:

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ (1). و كقول زهير: أقوم آل حصن أم نساء (2). و أمّا قولهم: قوم عاد و قوم فرعون، فإمّا على التغليب، أو الاكتفاء بذكر الرجال عن

ص: 425


1- النساء: 34.
2- صدره: و ما أدري و سوف إخال أدري.

ذكرهنّ، لأنّهنّ توابع. و هو في الأصل جمع قائم، كصوم و زور في جمع صائم و زائر. أو مصدر نعت به، فشاع في الجمع. و اختيار الجمع لأنّ السخريّة تغلب في المجامع.

ثمّ استأنف بالعلّة الموجبة للنهي، فقال: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ترك خبر «عسى» لإغناء الاسم عنه. و هذا كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلّة الموجبة لما جاء النهي عنه، و إلّا فقد كان حقّه أن يوصل بما قبله بالفاء.

و المعنى: وجوب أن يعتقد كلّ أحد أنّ المسخور منه ربّما يكون عند اللّه خيرا من الساخر، لأنّ الناس لا يطّلعون إلّا على ظواهر الأحوال، و لا علم لهم بالخفيّات. و إنّما الّذي يزن عند اللّه خلوص الضمائر و تقوى القلوب، و علمهم من ذلك بمعزل. فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تزدريه عينه، إذا رآه رثّ (1) الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق (2) في محادثته، فلعلّه أخلص ضميرا و أتقى قلبا ممّن هو على ضدّ صفته. فيظلم نفسه بتحقير من وقّره اللّه، و الاستهانة بمن عظّمه اللّه.

و قيل: نزلت هذه الآية في بني تميم استهزؤا ببلال و خباب و عمّار و صهيب و أبي ذرّ و سالم مولى حذيفة.

و عن ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، فإنّه كان في أذنيه وقر (3)، و كان إذا دخل تفسّحوا له حتّى يقعد عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيسمع ما يقول.

فدخل المسجد يوما و الناس قد فرغوا من الصلاة و أخذوا مكانهم، فجعل يتخطّى رقاب الناس و يقول: تفسّحوا تفسّحوا، حتّى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلسا فاجلس، فجلس خلفه مغضبا. فلمّا انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال

ص: 426


1- أي: ضعيف الحال.
2- أي: حاذق.
3- أي: ثقل.

الرجل: أنا فلان. فقال ثابت: بل أنت ابن فلانة. ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهليّة. فنكس الرجل رأسه حياء.

و عن أنس: نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سخرن من أمّ سلمة. و ذلك أنّها ربطت حقويها بسبيبة- و هي: ثوب أبيض من الكتّان- و سدلت طرفيها خلفها، فكانت تجرّه.

فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجرّ خلفها، كأنّه لسان كلب. فهذا كانت سخريّتهما.

و قيل: إنّها عيّرت زينب بنت خزيمة الهلاليّة.

و عن أنس: عيّرت نساء رسول اللّه أمّ سلمة بالقصر، و أشرن بأيديهنّ أنّها قصيرة. فنزل فيهنّ قوله:

وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ و لا تسخر بعض المؤمنات من بعض عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ كلام مستأنف كما مرّ آنفا. و تنكير القوم و النساء يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين و المؤمنات من بعض، كما فسّرنا به. و أن يقصد إفادة الشياع، و أن تصير كلّ جماعة منهم و منهنّ منهيّة عن السخريّة.

و إنّما لم يقل: رجل من رجل، و لا امرأة من امرأة، على التوحيد، إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم و غير واحدة من نسائهم على السخريّة، و استفظاعا للشأن الّذي كانوا عليه. و لأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممّن يتلهّى و يستضحك على قوله، و لا يأتي ما عليه من النهي و الإنكار، فيكون شريك الساخر في تحمّل الوزر. و كذلك كلّ من يطرق سمعه فيستطيبه و يضحك به، فيؤدّي ذلك- و إن أوجده واحد- إلى تكثّر السخرة.

وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ و لا يغتب بعضكم بعضا، فإنّ المؤمنين كنفس واحدة.

و المعنى: خصّوا أيّها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها و الطعن فيها، و لا عليكم أن تعيبوا غيركم ممّن لا يدين بدينكم و لا يسير بسيرتكم.

ففي الحديث: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس».

و قيل: معناه: و لا تفعلوا ما تلمزون به، فإنّ من فعل ما استحقّ به اللمز فقد

ص: 427

لمز نفسه حقيقة. و اللمز: الطعن باللسان. و قرأ يعقوب بالضمّ (1).

و عن ابن عبّاس: أنّ صفيّة بنت حييّ أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ النساء يعيّرنني و يقلن لي: يا يهوديّة بنت يهوديّين. فقال لها: «هلّا قلت: إنّ أبي هارون، و عمّي موسى، و زوجي محمّد».

و كان من شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهوديّ، يا فاسق، فنهوا عنه بقوله: وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ لا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء، فإنّ النبز مختصّ بلقب السوء عرفا بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ الاسم ها هنا بمعنى الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته.

و حقيقته: ما سما من ذكره و ارتفع بين الناس. فالمعنى: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب السخريّة و التنابز، أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان و اشتهارهم به. و المراد به إمّا تهجين نسبة الكفر و الفسق إلى المؤمنين، أو استقباح الجمع بين الإيمان و بين الفسق الّذي يأباه الإيمان و يحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة (2) الصبوة.

وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ عمّا نهى عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع العصيان موضع الطاعة، و تعريض النفس للعذاب.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ أي: كونوا على جانب. يقال:

جنّبه الشرّ إذا أبعده عنه. و حقيقته: جعله منه في جانب. فيعدّى إلى مفعولين. قال اللّه تعالى: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (3). ثمّ يقال في مطاوعه: اجتنب الشرّ. فينقص المطاوعة مفعولا.

و إبهام الكثير ليحتاط في كلّ ظنّ و يتأمّل حتّى يعلم أنّه من أيّ القبيل، فإنّ

ص: 428


1- أي: و لا تلمزوا.
2- الكبرة: الكبر في السنّ. و الصبوة: الميل إلى جهلة الصبيان.
3- إبراهيم: 35.

من الظنّ ما يجب اتّباعه، كالظنّ حيث لا قاطع فيه، من العمليّات و حسن الظنّ باللّه.

و ما يحرم حيث يخالفه قاطع، كظنّ السوء بالمؤمنين. و ما يباح، كالظنّ في الأمور المعاشيّة، و فيمن جاهر بين الناس بالخبائث.

إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل مستأنف للأمر. و الإثم: الذنب الّذي يستحقّ صاحبه العقوبة عليه. و الهمزة فيه بدل من الواو. كأنّه يثمّ (1) الأعمال، أي: يكسر مرتبتها عند اللّه.

وَ لا تَجَسَّسُوا و لا تبحثوا عن عورات المسلمين. تفعّل من الجسّ، باعتبار ما فيه من معنى الطّلب، كالتلمّس. و المراد: النهي عن تتبّع عورات المسلمين و معايبهم، و الاستكشاف عمّا ستروه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه خطب فرفع صوته حتّى أسمع العواتق- أي: الشوابّ- في خدورهنّ. قال: «يا معشر من آمن بلسانه، و لم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإنّ من تتبّع عوراتهم تتبّع اللّه عورته حتّى يفضحه و لو في جوف بيته».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه حرّم من المسلم دمه و عرضه، و أن يظنّ به ظنّ السوء».

و عن الحسن: إنّ الفاسق إذا أظهر فسقه و هتك ستره هتكه اللّه، و إذا استتر لم يظهر اللّه عليه لعلّه أن يتوب.

و قد روي: «من ألقى جلباب (2) الحياء فلا غيبة له».

و عن مجاهد: خذوا ما ظهر، و دعوا ما ستره اللّه.

و عن أبي قلابة: أنّ أبا محجن الثقفي كان يشرب الخمر في بيته هو و أصحابه، فانطلق عمر حتّى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل.

فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك، قد نهاك اللّه تعالى عن

ص: 429


1- من: و ثم يثم الشي ء: كسره و دقّه.
2- الجلباب: القميص أو الثوب الواسع.

التجسّس.

فقال عمر: ما يقول هذا؟

قال زيد بن ثابت و عبد اللّه بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين.

قال: فخرج عمر و تركه.

و روي: أنّ عمر أيضا خرج و معه عبد الرحمن بن عوف يعسّان (1)، فتبيّنت لهما نار، فأتيا و استأذنا ففتح الباب فدخلا، فإذا رجل و امرأة تغنّي، و على يد الرجل قدح. فقال عمر من هذه منك؟

قال: امرأتي.

قال: و ما في القدح؟

قال: ماء.

فقال للمرأة: ما الّذي تغنّين به؟

قالت: أقول:

تطاول هذا الليل و اسودّ جانبه

و أرّقني ألّا حبيب ألاعبه

فو اللّه لولا خشية اللّه و التقى

لزعزع من هذا السّرير جوانبه

و لكنّ عقلي و الحياء يكفّني

و أكرم بعلي أن تنال مراكبه

ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين، قال اللّه تعالى: «وَ لا تَجَسَّسُوا».

فقال عمر: صدقت، و انصرف.

و في الحديث: «إيّاكم و الظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، و لا تجسّسوا، و لا تقاطعوا، و لا تحاسدوا، و لا تدابروا، و كونوا عباد اللّه إخوانا».

و روي: أنّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة، و يسوّي لهما طعامهما،.

ص: 430


1- عسّ يعسّ عسّا: طاف بالليل يحرس الناس و يكشف أهل الريبة.

فنام عن شأنه يوما، فبعثاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبغي لهما إداما- و كان أسامة على طعام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما عندي شي ء. فأخبرهما سلمان بذلك. فقالا: بخل أسامة. و قالا لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. فلمّا راحا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا: ما تناولنا يومنا هذا طعاما. فقال: ظللتم تأكلون لحم سلمان و أسامة. فنزلت:

وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً

و لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. يقال:

غابه و اغتابه، كغاله و اغتاله. و الغيبة من الاغتياب، كالغيلة (1) من الاغتيال. و هي:

ذكر السوء في الغيبة. و سئل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الغيبة، فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه فقد بهتّه».

و عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الغيبة أشدّ من الزنا».

و عن ابن عبّاس: الغيبة إدام كلاب النار.

أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل و تصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه، مع مبالغات: الاستفهام المقرّر. و إسناد الفعل إلى «أحد» للتعميم المشعر بأنّ أحدا من الأحدين لا يحبّ ذلك. و تعليق المحبّة بما هو في غاية الكراهة. و تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان. و جعل المأكول أخا و ميتا.

و تعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ تقريرا و تحقيقا لذلك.

و انتصاب «ميتا» على الحال من اللحم أو الأخ. و شدّده نافع. و الفاء هي الفصيحة المظهرة لشرط مقدّر. و المعنى: إن صحّ ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، و لا يمكنكم إنكار كراهته.

و عن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك و هو حيّ.

ص: 431


1- الغيلة: الخديعة و الاغتيال. يقال: قتله غيلة، أي: خدعه فذهب به إلى موضع فقتله.

و لهذا يقال للمغتاب: فلان يأكل لحوم الناس، كما قال الشاعر:

و ليس الذئب يأكل لحم ذئب و يأكل بعضنا بعضا عيانا

و قال آخر: فإن يأكلوا لحمي و فرت لحومهم و إن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا

و عن ميمون بن شاة قال: بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجيّ، و قائل يقول لي: كل يا عبد اللّه. قلت: و لم آكل؟ قال: بما اغتيب عندك فلان. قلت: و اللّه ما ذكرت فيه خيرا و لا شرّا. قال: لكنّك استمعت فرضيت. فكان ميمون بعد ذلك لا يدع أن يغتاب عنده أحد.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ بترك ما أمرتم باجتنابه، و الندم على ما وجد منكم منه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ لمن اتّقى ما نهى عنه، و تاب ممّا فرط منه. و المبالغة في التوّاب لأنّه بليغ في قبول التوبة، إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم، أو لكثرة ذنوبهم.

[سورة الحجرات [49]: آية 13]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [13]

عن يزيد بن شجرة: مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سوق المدينة، فرأى غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط، لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فاشتراه رجل. فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يراه عند كلّ صلاة، ففقده يوما فسأل عنه صاحبه، فقال: محموم. فعاده، ثمّ سأل عنه بعد ثلاثة أيّام، فقال: هو لما به. فجاءه رسول اللّه و هو في ذمائه (1)، فتولّى غسله و دفنه. فدخل على المهاجرين

ص: 432


1- الذماء: بقيّة الروح.

و الأنصار أمر عظيم. فنزلت:

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى

من آدم و حوّاء. أو خلقنا كلّ واحد منكم من أب و أمّ، فالكلّ سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب.

و عن مقاتل: لمّا كان يوم فتح مكّة أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلالا حتّى علا ظهر الكعبة و أذّن. فقال عتاب بن أسيد: الحمد للّه الّذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. و قال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا؟ و قال سهيل بن عمرو: إن يرد اللّه شيئا يغيّره لغيّره. و قال أبو سفيان: إنّي لا أقول شيئا، أخاف أن يخبره به ربّ السماء. فأتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بما قالوا. فدعاهم رسول اللّه و سألهم عمّا قالوا، فأقرّوا به. فنزلت هذه الآية.

و زجرهم عن التفاخر بالأنساب و الأحساب، و الازدراء بالفقراء، و التكاثر بالأموال.

و عن ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس لمّا قال للرجل الّذي لم يتفسّح له: ابن فلانة. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول اللّه. فقال: انظر في وجوه القوم. فنظر إليهم. فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض و أحمر و أسود. قال: فإنّك لا تفضلهم إلا بالتقوى. و هو الّذي نزل فيه قوله:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ» (1) الآية.

و على التقادير؛ يجوز أن تكون هذه الآية تقريرا للأخوّة.

وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ الشعب: الطبقة الأولى من الطبقات الستّ الّتي عليها العرب. و هي: الشعب، و القبيلة تجمع العمائر، و العمارة تجمع البطون، و البطن تجمع الأفخاذ، و الفخذ تجمع الفصائل. فخزيمة شعب، و كنانة قبيلة، و قريش عمارة، و قصيّ بطن، و هاشم فخذ، و عبّاس فصيلة. و قيل: الشعوب بطون العجم،

ص: 433


1- المجادلة: 11.

و القبائل بطون العرب.

لِتَعارَفُوا أي: الحكمة الّتي من أجلها رتّبكم على شعوب و قبائل، هي أن يعرف بعضكم نسب بعض، فلا يعتزي (1) إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء و الأجداد، و تدّعوا التفاوت و التفاضل في الأنساب و القبائل.

ثمّ بيّن الخصلة الّتي بها يفضل الإنسان غيره، و يكتسب الشرف و الكرم عند اللّه، فقال:

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فإنّ التقوى بها تكمل النفوس، و تتفاضل بها الأشخاص. فمن أراد شرفا فليلتمسه منها، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق اللّه».

و قال: «أيّها النّاس إنما الناس رجلان: مؤمن تقيّ كريم على اللّه، و فاجر شقيّ هيّن على اللّه».

روي: أنّ رجلا سأل عيسى بن مريم: أيّ الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب ثمّ قال: أيّ هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقاهم.

عن أبي بكر البيهقي بالإسناد عن عباية بن ربعي، عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل الخلق قسمين، فجعلني في خيرهم قسما. و ذلك قوله: «و أصحاب اليمين و أصحاب الشمال» (2). فأنا من أصحاب اليمين، و أنا خير أصحاب اليمين. ثمّ جعل القسمين أثلاثا، فجعلني في خيرها ثلثا. و ذلك قوله:

فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (3). فأنا من السابقين، و أنا خير السابقين. ثمّ جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة. و ذلك قوله:

«وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» الآية. فأنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على اللّه، و لا فخر. ثمّ جعل القبائل بيوتا، فجعلني في خيرها بيتا. و ذلك قوله عزّ و جلّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ

ص: 434


1- أي: ينتسب. من: عزى يعزي فلانا إلى فلان: نسبه إليه. و اعتزى إليه: انتسب.
2- إشارة إلى الآيات 27 و 41 و 8- 10 من سورة الواقعة.
3- إشارة إلى الآيات 27 و 41 و 8- 10 من سورة الواقعة.

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1). فأنا و أهل بيتي مطهّرون من الذنوب».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يقول اللّه تعالى يوم القيامة: أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه، و رفعتم أنسابكم، فاليوم أرفع نسبي و أضع أنسابكم. أين المتّقون؟ إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم».

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأعمالكم خَبِيرٌ ببواطنكم.

[سورة الحجرات [49]: الآيات 14 الى 18]

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [14] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [15] قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [16] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [17] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [18]

ص: 435


1- الأحزاب: 33.

روي عن ابن عبّاس: أنّ نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة، فأظهروا الشهادتين، و أفسدوا طرق المدينة بالعذرات، و أغلوا أسعارهم، و هم يغدون و يروحون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، و جئناك بالأثقال و الذراري، و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون الصدقة و يمنّون عليه، فنزلت:

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إذ الإيمان تصديق مع ثقة و طمأنينة قلب، و لم يحصل لكم و إلا لمّا مننتم على الرسول بالإسلام و ترك المقاتلة كما دلّ عليه آخر السورة وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام- الّذي هو انقياد- دخول في السلم و إظهار الشهادة. و ترك المحاربة يشعر به.

و كان نظم الكلام أن يقول: لا تقولوا آمنّا و لكن قولوا أسلمنا، أو لم تؤمنوا و لكن أسلمتم. فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان و الجزم بإسلامهم. فإنّه لو قيل: و لكن أسلمتم لكان خروجه في معرض التسليم لهم و الاعتداد بقولهم، و هو غير معتدّ به، لفقد شرط اعتباره شرعا، و هو التصديق القلبي. فأفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلا، و دفع ما انتحلوه، فقيل: «قل لم تؤمنوا». و روعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه، فلم يقل: كذبتم، و وضع «لم تؤمنوا» الّذي هو نفي ما ادّعوا إثباته موضعه. ثمّ نبّه على ما فعل من وضعه موضع: كذبتم، في قوله بعد في صفة المخلصين: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (1) تعريضا بأنّ هؤلاء هم الكاذبون.

وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت ل «قولوا»، فإنّه حال من ضميره، أي: و لكن قولوا: أسلمنا، و لم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. و لمّا كان فائدة قوله:

«قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» تكذيب دعواهم، و قوله: «وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» توقيت

ص: 436


1- الحجرات: 15.

لما أمروا به أن يقولوه، فلا يكون تكريرا من غير فائدة متجدّدة.

وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بالإخلاص القلبي و ترك النفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم من أجورها شَيْئاً من: لات ليتا إذا نقص. و قرأ البصريّان: لا يألتكم، من الألت. و هو لغة غطفان. و في الصحاح: «الته حقّه يألته ألتا، أي: نقصه. و ألته أيضا: حبسه عن وجهه و صرفه. مثل: لاته يليته. و هما لغتان، حكاهما اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء» (1).

إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بالتفضّل عليهم.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا- يعني:

لم يقع في نفوسهم شكّ- فيما آمنوا به. من: ارتاب مطاوع: رابه، إذا أوقعه في الشكّ مع التهمة. و فيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم. و «ثمّ» للإشعار بأنّ اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط، بل فيه و فيما يستقبل إلى آخر العمر. ف «ثمّ» هاهنا كما في قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا (2).

وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته. و المجاهدة بالأموال و الأنفس تصلح للعبادات الماليّة و البدنيّة بأسرها. فتشمل مجاهدة العدوّ و المحارب، أو الشيطان، أو الهوى، و في تحمّل أنواع الطاعات و مشاقّ صنوف العبادات.

أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الّذين صدقوا في قولهم: آمنّا، و لم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد.

روي: أنّه لمّا نزلت الآيتان أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحلفوا أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان، فأنزل اللّه سبحانه:.

ص: 437


1- الصحاح 1: 241.
2- فصّلت: 30.

قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ

أ تخبرون بقولكم: «آمنّا»؟ و الهمزة للإنكار و التوبيخ، أي: كيف تعلّمون اللّه بدينكم؟ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية. و فيه تجهيل لهم، لأنّه العالم بالذات، فيعلم المعلومات كلّها بنفسه، فلا يحتاج إلى معلّم يعلّمه، كما أنّه كان قديما موجودا في الأزل بالذات، و استغنى عن موجد أوجده.

و كانوا يقولون: آمنّا بك من غير قتال، و قاتلك بنو فلان. فأجابهم اللّه سبحانه بقوله:

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا يعدّون إسلامهم عليك منّة. و هي: النعمة الّتي لا يستثيب مسديها (1) ممّن يزلّها إليه. من المنّ بمعنى القطع، لأنّه إنّما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير، من غير أن يعمد لطلب مثوبة. ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتدّه عليه منّة و إنعاما.

قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي: بإسلامكم. فنصب بنزع الخافض، أو تضمين الفعل معنى الاعتداد. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بل اللّه يعتدّ عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، و ادّعيتم أنّكم أرشدتم إليه و وفّقتم له إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادّعاء الإيمان، إلّا أنّكم تزعمون و تدّعون ما اللّه عليم بخلافه. و جواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله، أي: فللّه المنّة عليكم.

و في سياق الآية لطف، و هو أنّهم لمّا سمّوا ما صدر عنهم إيمانا و منّوا به، فنفى أنّه إيمان، و سمّاه إسلاما، فقال: يمنّون عليك بما هو في الحقيقة إسلام، و ليس بجدير أن يمنّ به عليك، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان فللّه المنّة عليهم بالهداية له، لا لهم.

ص: 438


1- من: أسدى إليه: أحسن. و أزلّ إليه نعمة: أعطاها.

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب فيهما وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سرّكم و علانيتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟

و في هذه الآية بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم. و توضيح المعنى:

أنّه عزّ و جلّ يعلم كلّ مستتر في العالم، و يبصر كلّ عمل تعملونه في سرّكم و علانيتكم، لا يخفى عليه منه شي ء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، و لا يظهر على صدقكم و كذبكم؟ و ذلك أنّ حاله مع كلّ معلوم واحدة لا تختلف.

و قرأ ابن كثير بالياء، لما في الآية من الغيبة.

ص: 439

ص: 440

[50] سورة ق

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة ق هوّن اللّه عليه تارات الموت و سكراته».

أبو حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من أدمن في فرائضه و نوافله سورة ق وسّع اللّه في رزقه، و أعطاه كتابه بيمينه، و حاسبه حسابا يسيرا».

[سورة ق [50]: الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [1] بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ [2] أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [3] قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ [4]

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [5] أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ [6] وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [7] تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ

ص: 441

عَبْدٍ مُنِيبٍ [8] وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ [9]

وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [10] رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ [11]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الحجرات بذكر الإيمان و شرائطه للعبيد، افتتح هذه السورة بذكر ما يجب الإيمان به، من القرآن المجيد و أدلّة التوحيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الكلام فيه و في تركيبه كما مرّ في «ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ». و عن ابن عبّاس: أنّه اسم من أسماء اللّه تعالى. و عن الضحّاك: هو اسم الجبل المحيط بالأرض، من زمرّدة خضراء، خضرة السماء منها.

و قيل: معناه: قضي الأمر، أو قضي ما هو كائن. و المجيد: ذو المجد و الشرف على سائر الكتب. و قيل: وصف به، لأنّه كلام المجيد، فجاز اتّصافه بصفته. أو لأنّ من علم معانيه و امتثل أحكامه مجد عند اللّه و عند الناس.

بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجّبهم ممّا ليس بعجب. و هو أن ينذرهم أحد من جنسهم، قد عرفوا وساطته فيهم و عدالته و أمانته. و من كان بصفته لم يكن إلّا ناصحا لقومه، مترفرفا عليهم، خائفا أن ينالهم سوء، و يحلّ بهم مكروه.

و إذا علم أنّ مخوفا أظلّهم لزمه أن ينذرهم و يحذّرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف و نهاية المحاذير؟! ثمّ حكى عن تعجّبهم بقوله: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا أي: اختيار اللّه محمدا للرسالة شَيْ ءٌ عَجِيبٌ و إضمار ذكرهم ثمّ إظهاره للإشعار بتعنّتهم بهذا المقال، ثمّ التسجيل على كفرهم بذلك. و يجوز أن يكون هذا إشارة إلى إنكار تعجّبهم ممّا

ص: 442

أنذرهم به من البعث و الرجع، مع علمهم بقدرة اللّه تعالى على خلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و على اختراع كلّ شي ء و إبداعه، و إقرارهم بالنشأة الأولى، و مع شهادة العقل بأنّه لا بدّ من الجزاء. و للمبالغة في إنكارهم البعث وضع الظاهر موضع ضميرهم، للشهادة على أنّهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم، إذ الأوّل استبعاد لأن يفضل عليهم مثلهم، و الثاني استقصار لقدرة اللّه عمّا هو أهون ممّا يشاهدون من صنعه. فالتعجّب هنا أدخل في الإنكار.

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً منصوب بمضمر معناه: أحين نموت و صرنا ترابا و نبلى نرجع؟ و يدلّ على المحذوف قوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي: بعيد عن الوهم، أو العادة، أو الإمكان. و قيل: ذلك جواب من اللّه استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث. و الرجع بمعنى المرجوع. و المعنى: ذلك الإنكار مرجوع، أي: مردود بعيد عن العقل. و حينئذ ناصب الظرف ما دلّ عليه المنذر من المنذر به، و هو البعث.

و على هذا؛ الوقف قبله حسن.

ثمّ ردّ استبعادهم الرجع بقوله: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل من أجساد موتاهم. فمن لطف علمه حتّى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى و تأكله من لحومهم و عظامهم، كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا.

و قيل: إنّه جواب القسم. و اللام محذوف، لطول الكلام.

وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حافظ لتفاصيل الأشياء كلّها. أو محفوظ عن التغيير، أو عن الشياطين، أو عن البلى و الدروس. و المراد اللوح المحفوظ، و هذا الكتاب الّذي كتب فيه جميع ما وقع و يقع إلى يوم القيامة. أو المراد صحائف أعمال العباد يكتبها الحفظة. و يجوز أن يكون المراد تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه.

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ إضراب أتبع الإضراب الأوّل، للدلالة على أنّهم جاءوا

ص: 443

بما هو أفظع من تعجّبهم، و هو التكذيب بالحقّ الّذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات، أو النبيّ، أو القرآن، أو الإخبار بالغيب لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب.

من: مرج الخاتم في إصبعه. و منه الهرج و المرج. و ذلك قولهم تارة أنّه شاعر، و تارة أنّه ساحر، و تارة أنّه كاهن، لا يثبتون على شي ء واحد.

ثمّ أقام سبحانه الدليل على كونه قادرا على البعث، فقال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة اللّه في خلق العالم العلوي، و حسن ترتيبه و انتظامه كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد وَ زَيَّنَّاها بالكواكب وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ فتوق و شقوق، بأن خلقها ملساء سليمة من العيوب، لا فتق فيها و لا صدع و لا خلل، كقوله: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (1).

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها دحوناها و بسطناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، و لولا هي لتقلّبت وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل صنف يبتهج و يسرّ به، لحسنه و نضارته. عن ابن زيد: البهجة الحسن الّذي له روعة عند الرؤية، كالزهرة و الأشجار النضرة و الرياض الخضرة.

تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى هما علّتان للأفعال السابقة. و المعنى: فعلنا ما فعلنا من الأفعال المذكورة لنبصّر بها و نذكّر. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ كلّ عبد راجع إلى ربّه، متفكّر في بدائع صنعه.

وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً مطرا كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ بهذا الماء بساتين فيها أشجار تشتمل على أنواع الثمار المستلذّة و الفواكه الطيّبة وَ حَبَّ الْحَصِيدِ و حبّ الزرع الّذي من شأنه أن يحصد. و هو ما يقتات به، من نحو البرّ و الشعير و غيرهما. و الإضافة كإضافة حقّ اليقين و مسجد الجامع.

وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ طوالا. و قيل: حوامل، من: أبسقت الشاة إذا حملت.

ص: 444


1- الملك: 3.

و إفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها و كثرة منافعها. لَها لهذه النخل الموصوفة بالعلوّ و الارتفاع طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض. و المراد: تراكم الطلع، أو كثرة ما فيه من الثمر.

رِزْقاً لِلْعِبادِ علّة ل «أنبتنا» أي: أنبتناها لنرزقهم. أو مصدر، فإنّ الإنبات في معنى الرزق. وَ أَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها، فنمت به و أنبتت كلّ نبات كَذلِكَ الْخُرُوجُ الكاف في محلّ الرفع على الابتداء، أي: مثل إحياء هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم، فإنّ من قدر على أحدهما قدر على الآخر. و إنّما دخلت الشبهة على هؤلاء من حيث إنّهم رأوا العادة مستمرّة في إحياء الموات من الأرض بنزول المطر، و لم تجر العادة بإحياء الموتى من البشر، و لو أعملوا الفكر و أمعنوا في النظر لعلموا أنّ من قدر على أحد الأمرين قدر على الآخر.

[سورة ق [50]: الآيات 12 الى 14]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ [12] وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ [13] وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [14]

ثمّ ذكر سبحانه الأمم المكذّبة تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تهديدا للكفّار، فقال:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ من الأمم الماضية قَوْمُ نُوحٍ فأغرقهم اللّه وَ أَصْحابُ الرَّسِ و هم أصحاب البئر الّتي رسّوا (1) نبيّهم فيها بعد أن قتلوه. و بيان ذلك و اختلاف الأقوال فيه قد مرّ سابقا. (2)

ص: 445


1- أي: دفنوا.
2- راجع ج 4 ص 569، ذيل الآية 35 من سورة الفرقان.

وَ ثَمُودُ و هم قوم صالح عليه السّلام. وَ عادٌ و هم قوم هود وَ فِرْعَوْنُ أراد إيّاه و قومه، ليلائم ما قبله و ما بعده، فإنّ المعطوف عليه قوم نوح، و المعطوفات جماعات وَ إِخْوانُ لُوطٍ فإنّهم كانوا أصهاره و من نسبه.

وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ و هم قوم شعيب. و قد مرّ في الحجر (1). وَ قَوْمُ تُبَّعٍ تبّع الحميري. و قد مرّ في (2) الدخان. كُلٌ كلّ واحد منهم، أو قوم منهم، أو جميعهم. و حينئذ إفراد الضمير في قوله: كَذَّبَ الرُّسُلَ لإفراد لفظة الكلّ فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب و حلّ عليه وعيدي، و هو كلمة العذاب. فإذا كان مآل الأمم الخالية إذا كذّبوا الرسل الهلاك، و إنّكم معاشر الكفّار قد سلكتم مسالكهم في التكذيب و الإنكار، فحالكم كحالهم في التباب (3) و الخسار.

[سورة ق [50]: الآيات 15 الى 18]

أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [15] وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [16] إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [17] ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [18]

و بعد تهديدهم بعواقب المكذّبين المنكرين، ذكر الأدلّة على إمكان البعث، فقال:

أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أ فعجزنا عن الإبداء حتّى نعجز عن الإعادة؟ من:

عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله. و الهمزة فيه للإنكار. يعني: أنّا لم نعجز- كما

ص: 446


1- الحجر: 78.
2- الدخان: 37.
3- النباب: الهلاك.

علموا- عن الخلق الأوّل حتّى نعجز عن الثاني. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأوّل، و اعترافهم بذلك في طيّه الاعتراف بالقدرة على الإعادة، بل هم في خلط و شبهة قد لبّس عليهم الشيطان و حيّرهم.

و أصل اللبس المنع من إدراك الشي ء بما هو كالستر له. و الجديد: القريب الإنشاء. و منه

قول عليّ عليه السّلام: «يا حار إنّه لملبوس عليك، اعرف الحقّ تعرف أهله».

و لبس الشيطان عليهم: تسويله إليهم أنّ إحياء الموتى أمر خارج عن العادة. فتركوا لذلك القياس الصحيح المنصوص العلّة، و هو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر. و الجديد بمعنى القريب.

و تنكير الخلق و الجديد ليدلّ على أنّ له شأنا عظيما و حالا شديدة، حقّ من سمع به أن يهتمّ به و يخاف، و يبحث عنه، و لا يقعد على لبس في مثله. و للإشعار بأنّه على وجه غير متعارف و لا معتاد.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس البشر وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ما تحدّثه به نفسه و ما يخطر بالبال، فإنّ وسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان، و يهجس (1) في ضميره من حديث النفس. و أصل الوسوسة: الصوت الخفيّ. و منها:

وسواس الحليّ. و الضمير ل «ما» إن جعلت موصولة. و الباء مثلها في قولك: صوّت بكذا و همس (2) به. و إن جعلت مصدريّة فالضمير ل «الإنسان». و الباء للتعدية.

وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ إسناد القرب إلى اللّه مجاز. و المراد قرب علمه منه، كما يقال: اللّه في كلّ مكان، و قد جلّ عن الأمكنة. و المعنى: و نحن أعلم بحاله ممّن كان أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فتجوّز بقرب الذات لقرب العلم، لأنّ الذات موجبه.

و حبل الوريد مثل في فرط القرب، كقولهم: هو منّي مقعد القابلة و معقد الإزار. قال

ص: 447


1- أي: يخطر.
2- همس الصوت: أخفاه.

ذو الرمّة: و الموت أدنى لي من الوريد. و الحبل: العرق، شبّه بواحد الحبال.

و إضافته للبيان، كقولهم: بعير سانية (1). و الوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمها، متّصلان بالوتين، يردان من الرأس إليه. و قيل: سمّي وريدا لأنّ الروح ترده.

ثمّ ذكر سبحانه أنّه مع علمه به و كلّ به ملكين يحفظان عليه عمله إلزاما للحجّة، فقال:

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ مقدّر ب «اذكر» أو متعلّق ب «أقرب» أي: نحن أعلم بحاله من كلّ قريب حين يتلقّى الحفيظان ما يتلفّظ به. و التلقّي: التلقّن بالحفظ و الكتبة. و فيه إيذان بأنّه غنيّ عن استحفاظ الملكين، فإنّه أعلم منهما، و مطّلع على ما يخفى عليهما، و كيف لا يستغني عنه و هو مطّلع على أخفى الخفيّات؟ لكنّه لحكمة اقتضته، و هي ما في كتبة الملكين و حفظهما، و عرض صحائف الأعمال يوم يقوم الأشهاد، و علم العبد بذلك، مع علمه بإحاطة اللّه بعمله، من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيّئات و الرغبة في الحسنات.

عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي: عن اليمين قعيد، و عن الشمال قعيد من المتلقّيين، أي: مقاعد، كالجليس بمعنى المجالس. فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، كقوله: فإنّي و قيّار بها لغريب. و قد يطلق الفعيل للواحد و المتعدّد، كقوله:

وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (2). و المراد بالقعيد الملازم الّذي لا يبرح، لا القاعد الّذي هو ضدّ القائم. و عن الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار، و ملكان بالليل.

ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب عمله عَتِيدٌ معدّ حاضر. و اختلف فيما يكتب الملكان، فقيل: يكتبان كلّ شي ء حتّى

ص: 448


1- السانية: الناقة يستقى عليها من البئر.
2- التحريم: 4.

أنينه في مرضه. و قيل: لا يكتبان عليه إلا ما فيه ثواب و عقاب. و يؤيّده ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، و كاتب السيّئات على يسار الرجل، و كاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات، فإذا عمل حسنة كتبها لملك اليمين عشرا، و إذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر».

و عن أبي امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ صاحب الشمال ليرفع القلم ستّ ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسي ء، فإن ندم و استغفر اللّه منها ألقاها، و إلّا كتب واحدة».

و عن أنس بن مالك قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى و كلّ بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا: يا ربّ قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين؟ قال:

سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني، و أرضي مملوءة من خلقي يطيعونني، اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني و كبّراني و هلّلاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ مقعد ملكيك على ثنيّتيك (1)، و لسانك قلمهما، و ريقك مدادهما، و أنت تجري فيما لا يعنيك، لا تستحي من اللّه و لا منهما».

[سورة ق [50]: آية 19]

وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [19]

و لمّا ذكر إنكارهم البعث، و احتجّ عليهم بوصف قدرته و علمه، أعلمهم أنّ ما أنكروه و جحدوه هم لاقوه عن قريب عند موتهم و عند قيام الساعة، و نبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي، فقال:

ص: 449


1- الثنيّة و جمعها ثنايا: و هي أسنان مقدّم الفم، ثنتان من فوق، و ثنتان من أسفل.

وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ غمرته و شدّته الذاهبة بالعقل. و الباء للتعدية، كقولك: جاء زيد بعمرو. و المعنى: و أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الموعود الّذي أنطق اللّه به كتبه و بعث به رسله. أو حقيقة الأمر و جليّة الحال، من سعادة المرء و شقاوته. أو الحقّ الّذي خلق له الإنسان من أنّ كلّ نفس ذائقة الموت.

أو الجزاء، فإنّ الإنسان خلق له. أو مثل الباء في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (1)، أي: و جاءت ملتبسة بحقيقة الأمر. أو بالحكمة و الغرض الصحيح، كقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ (2).

ذلِكَ أي: الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تميل و تنفر عنه. و الخطاب للإنسان في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ (3) على طريق الالتفات. أو الإشارة إلى الحقّ، و الخطاب للفاجر.

[سورة ق [50]: الآيات 20 الى 22]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [20] وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ [21] لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [22]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الناس بعد البعث، فقال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني: نفخة البعث ذلِكَ إشارة إلى مصدر «نفخ» بحذف المضاف، أي: وقت ذلك النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ يوم تحقّق الوعيد و وقوع المجازاة.

ص: 450


1- المؤمنون: 20.
2- الأنعام: 73.
3- ق: 16.

وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقه، و الآخر يشهد بعمله. أو ملك جامع للوصفين، كأنّه قيل: معها ملك يسوقها و يشهد عليها.

و قيل: السائق نفسه أو قرينه، و الشهيد جوارحه أو أعماله، فلا يجد إلى الهرب و لا إلى الجحود سبيلا. و محلّ «معها» النصب على الحال من «كلّ»، لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة، للاستغراق الّذي يفيد التخصيص.

لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا على إضمار القول. و الخطاب لكلّ نفس، إذ ما من أحد إلّا و له اشتغال مّا عن الآخرة. فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ حاجبك لأمور المعاد و خاسئك (1) عنها. و هو الغفلة و الانهماك في المحسوسات، و الألف بها، و قصور النظر عليها. فإذا كان يوم القيامة تيقّظ و زالت عنه هذه الغفلة و غطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحقّ، و يرجع بصره الكليل عن الإبصار- لغفلته- حديدا لتيقظّه، كما قال: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حادّ نافذ لا يدخل عليه شبهة، لزوال المانع للإبصار. و لا شبهة أنّ الأمور العقليّة و السمعيّة لا تكون كالمشاهد المحسوس، فشبّه اللّه تعالى الغفلة الموصوفة بغطاء غطّى الإنسان جسده كلّه، أو بغشاوة غطّى بها عينيه، فهو لا يبصر شيئا.

و قيل: الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المعنى: كنت في غفلة من أمر الديانة، فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي و تعليم القرآن، فبصرك اليوم حديد، ترى ما لا يرون، و تعلم ما لا يعلمون.

و عن ابن عبّاس: هو خاصّ بالكافر، أي: فأنت اليوم عالم بما كنت تنكره في الدنيا.

و يؤيّد الأوّل سوق الكلام السابق، و قراءة من كسر التاء و الكافات على خطاب النفس.

ص: 451


1- خسئ: بعد. و خسأ البصر: كلّ و أعيا.

[سورة ق [50]: الآيات 23 الى 30]

وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [23] أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [24] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ [25] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ [26] قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [27]

قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [28] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [29] يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [30]

وَ قالَ قَرِينُهُ و قال الملك الموكّل عليه هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لديّ. أو قال الشيطان الّذي قيّض له- في قوله: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (1)-: إنّ هذا شي ء لديّ و في ملكتي (2) عتيد لجهنّم. و تلخيص المعنى على هذا التقدير: أنّ ملكا يسوقه، و آخر شهيد عليه، و شيطانا مقرونا به يقول: قد اعتدته لجهنّم، و هيّأته لها بإغوائي و إضلالي. و القول الأوّل مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، منقول عن جمع كثير من المفسّرين.

ثمّ خاطب اللّه سبحانه السائق و الشهيد، أو ملكين من خزنة النار، بقوله:

أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ و يجوز أن يكون الخطاب لواحد على وجهين:

الأوّل: قول المبرّد: إنّ تثنية الفاعل بمنزلة تثنية الفعل و تكريره، كأنّه قيل:

ص: 452


1- الزخرف: 36.
2- الملكة: الملك.

الق ألق، كقوله: فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر (1).

و الثاني: الألف بدل من نون التأكيد، على إجراء الوصل مجرى الوقف.

و يؤيّده أنّه قرئ في الشواذّ: ألقين بالنون الخفيفة. و الأوّل أظهر.

و روى أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن الأعمش أنّه قال: حدّثنا ابو المتوكّل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا كان يوم القيامة يقول اللّه تعالى لي و لعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما، و أدخلا الجنّة من أحبّكما، و ذلك قوله: ألقيا في جهنّم كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ» (2)

معاند، مجانب للحقّ، معاد لأهله.

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. و جعل ذلك عادة له، فلا يبذل منه شيئا قطّ. و قيل: المراد بالخير الإسلام، لما روي أنّ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لمّا منع بني أخيه عن الإسلام، و كان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت. مُعْتَدٍ متعدّ، ظالم، متخطّ عن الحقّ مُرِيبٍ شاكّ في اللّه و في دينه.

الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمّن معنى الشرط، و خبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أو بدل «كلّ كفّار». فيكون «فألقياه» تكريرا للتوكيد، أو مفعولا لمضمر يفسّره: فألقياه.

قالَ قَرِينُهُ أي: الشيطان المقيّض له. و إنّما أخليت هذه الجملة عن الواو و أدخلت على الأولى، لأنّها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى و فرعون.

و بيان التقاول هنا: أنّه لمّا قال قرينه: «هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ». و تبعه قوله: «قالَ

ص: 453


1- و عجزه: و إن تدعاني أحم عرضا ممنعا.
2- شواهد التنزيل 2: 261- 262 ح 895.

قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ». و تلاه «لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ» علم أنّ ثم مقاولة بين الكافر و الشيطان، لكنّها طرحت لما يدلّ عليها رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ كأنّ الكافر قال: ربّ هو أطغاني. فقال قرينه: ربّنا ما أطغيته. بخلاف الجملة الأولى، فإنّها واجبة العطف على ما قبلها، للدلالة على الجمع بين معناها و بين معنى ما قبلها. و المعنى: ما جعلته طاغيا، و ما أوقعته في الطغيان وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ و لكن طغى و اختار الضلالة على الهدى، فأعنته عليه، فإنّ إغواء الشيطان إنّما يؤثّر فيمن كان مائلا إلى الفجور، كما قال: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي (1).

قالَ أي: اللّه تعالى لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ استئناف مثل قوله: «قالَ قَرِينُهُ».

كأنّ قائلا قال: فما ذا قال اللّه؟ فقيل: قال لا تختصموا لديّ، أي: في موقف الحساب، فإنّه لا فائدة في اختصامكم وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في كتبي و على ألسنة رسلي، فما تركت لكم حجّة عليّ. و الجملة حاليّة، فيها تعليل للنهي، أي: لا تختصموا عالمين بأنّي أوعدتكم. و الباء مزيدة، مثلها في: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (2). أو معدّية على أنّ «قدّم» بمعنى: تقدّم. و لمّا كان قوله: «لا تختصموا ... إلخ» معناه: لا تختصموا عندي و قد صحّ عندكم أنّي قدّمت إليكم بالوعيد، و صحّة ذلك عندهم يكون في الآخرة. فلا يقال: إنّ قوله: «و قد قدّمت» واقع موقع الحال من «لا تختصموا». و التقديم بالوعيد في الدنيا، و الخصومة في الآخرة، و اجتماعهما في زمان واحد واجب.

ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ أي: بوقوع الخلف في أنّي أعاقب من جحدني و كذّب رسلي. فلا تطمعوا أن أبدّل وعيدي، فأعفيكم عمّا أوعدتكم به. و يجوز أن يقع

ص: 454


1- إبراهيم: 22.
2- البقرة: 195.

قوله: «وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ» على قوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ... إلخ». و يكون «بالوعيد» حالا من المفعول أو الفاعل، أي: قدّمت إليكم هذا القول و نثبت لكم مضمونه ملتبسا بالوعيد. أو قدّمته إليكم موعدا لكم به.

وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأعذّب من ليس بمستوجب للعذاب. و في إيراد نفي الظلم في صورة بناء المبالغة و جهان: أن يكون مثل قولك: هو ظالم لعبده، و ظلّام لعبيده. و أن يراد: لو عذّبت من لا يستحقّ العقاب لكنت ظلّاما مفرط الظلم، فنفى ذلك.

و قوله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ منصوب ب «ظلّام» أو بمضمر نحو:

اذكر و أنذر حين نقول لجهنّم هل امتلأت؟ من كثرة ما ألقي فيك من العصاة وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. و يجوز أن ينتصب ب «نفخ» كأنّه قيل: و نفخ في الصور يوم نقول لجهنّم. و على هذا «ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» إشارة إلى «يوم نقول» فلا يفتقر إلى تقدير مضاف.

و سؤال جهنّم و جوابها من باب التخييل الّذي يقصد به تصوير المعنى في القلب و تثبيته. و المعنى: أنّها مع اتّساعها تطرح فيها الجنّ و الإنس فوجا فوجا حتّى تمتلئ، لقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ (1). أو أنّها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها و فيما بعد فراغ و موضع للمزيد. أو أنّها من شدّة زفيرها و حدّتها و تشبّثها بالعصاة و غيضها عليهم، كالمستكثرة لهم، و الطالبة لزيادتهم.

و قيل: الجواب و السؤال على الحقيقة، لأنّ اللّه سبحانه يخلق لجهنّم آلة الكلام فتتكلّم. و هذا غير منكر، لأنّ من أنطق الأيدي و الجوارح و الجلود قادر على أن ينطق جهنّم.

و عن الحسن: هذا خطاب لخزنة جهنّم على وجه التقرير لهم. و المعنى: هل

ص: 455


1- الأعراف: 18.

امتلأ جهنّم؟ فيقولون: بلى لم يبق موضع لمزيد، ليعلم الخلق صدق وعده. و معنى «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» على هذا: ما من مزيد، أي: لا مزيد، كقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ (1).

و قرأ نافع و أبو بكر: يوم يقول بالياء. و المزيد إمّا مصدر كالمحيد، أو مفعول كالمبيع.

[سورة ق [50]: الآيات 31 الى 35]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [31] هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [32] مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [33] ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [34] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ [35]

و لمّا أخبر سبحانه عمّا أعدّه للكافرين و العصاة، عقّبه بذكر ما أعدّه للمتّقين، فقال:

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أدنيت لِلْمُتَّقِينَ حتّى يروها قريبة لهم غَيْرَ بَعِيدٍ نصب على الظرف، أي: مكانا غير بعيد. و يجوز أن يكون حالا. و تذكيره لأنّه صفة محذوف، أي: شيئا غير بعيد. أو على أنّه مصدر، كالزئير و الصليل، و المصادر يستوي في الوصف بها المذكّر و المؤنّث. و قيل: معناه: ليس ببعيد مجي ء ذلك، لأنّ كلّ آت قريب. أو لأنّ الجنّة بمعنى البستان الّذي يجمع كلّ لذّة، من الأنهار و الأشجار و طيّب الثمار، و من الأزواج الكرام و الحور الحسان و الخدم من الولدان،

ص: 456


1- فاطر: 3.

و من الأبنية الفاخرة المزيّنة بالدرّ و اليواقيت و الزمرّد و العقيان (1). و ذكر «غير بعيد» بعد الإزلاف للتأكيد، كما تقول: هو قريب غير بعيد، و عزيز غير ذليل.

هذا ما تُوعَدُونَ على إضمار القول. و الإشارة إلى الثواب، أو مصدر «أزلفت». و قرأ ابن كثير بالياء. لِكُلِّ أَوَّابٍ رجّاع إلى ذكر اللّه. بدل من «المتّقين» بإعادة الجارّ، كقوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (2). حَفِيظٍ حافظ لحدود اللّه، متحفّظ من الخروج إلى ما لا يجوز، من سيّئة تدنّسه أو خطيئة تشينه.

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل بعد بدل. أو بدل من موصوف «أوّاب» أي: شخص أوّاب. و لا يجوز أن يكون في حكم «أوّاب»، لأنّ «من» لا يوصف به، فإنّه لا يوصف من بين الموصولات إلّا ب «الّذي» وحده. أو مبتدأ خبره ادْخُلُوها على تأويل: يقال لهم: ادخلوها، فإنّ «من» بمعنى الجمع.

و يجوز أن يكون منادى، كقولهم: من لا يزال محسنا أحسن إليّ. و حذف حرف النداء للتقريب.

و «بالغيب» حال من المفعول، أي: خشيه و هو غائب لم يعرفه و كونه معاقبا إلّا بطريق الاستدلال. أو من الفاعل، أي: خشيه حال كونه لم يره. أو صفة لمصدر، أي: خشيه خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه و هو غائب. أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد.

و تخصيص «الرحمن» للثناء البليغ على الخاشي، و هو خشيته مع علمه أنّه الواسع الرحمة، كما أثنى عليه بأنّه خاش مع أنّ المخشيّ منه غائب. و نحوه:

وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ (3). فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات.

ص: 457


1- العقيان: الذهب الخالص.
2- الأعراف: 75.
3- المؤمنون: 60.

و وصف القلب بالإنابة، إذ الاعتبار بما ثبت منها في القلب، من رجوعه إلى اللّه.

بِسَلامٍ سالمين من العذاب و زوال النعم. أو مسلّما عليكم من اللّه و ملائكته. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يوم تقدير الخلود، كقوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ (1) أي: مقدّرين الخلود.

لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ و هو: ما لا يخطر ببالهم ممّا لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.

و قيل: إنّ السحاب تمرّ بأهل الجنّة فتمطرهم الحور، فتقول الحور: نحن المزيد الّذي قال اللّه عزّ و جلّ: «وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ».

[سورة ق [50]: الآيات 36 الى 45]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [36] إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ [37] وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [38] فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ [39] وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ [40]

وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [41] يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [42] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ [43] يَوْمَ

ص: 458


1- الزمر: 73.

تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [44] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [45]

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة فقال: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل قومك مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوّة، كعاد و فرعون فَنَقَّبُوا فخرقوا (1) فِي الْبِلادِ و تصرّفوا فيها. و الفاء للتسبيب، أي: شدّة بطشهم أبطرتهم و أقدرتهم على التنقيب.

و قيل: معناه: جالوا في الأرض كلّ مجال حذر الموت. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي: هل لهم من اللّه أو من الموت مهرب حتّى يتوقّعوا مثله لأنفسهم؟

و قيل: الضمير لأهل مكّة. و معناه: فنقّب أهل مكّة في أسفارهم و مسايرهم في البلاد و القرى، و حين نزول آجالهم أو عقوباتهم، فهل رأوا لهم مهربا منها؟

و الدليل على صحّته قراءة من قرأ: فنقّبوا على الأمر، كقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ (2). و على الثاني و الثالث؛ الفاء للتعقيب.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر في هذه السورة لَذِكْرى لتذكرة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي: قلب واع يتفكّر في حقائقه، لأنّ من لا يعي قلبه فكأنّه لا قلب له أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: أصغى لاستماعه وَ هُوَ شَهِيدٌ حاضر بذهنه ليفهم معانيه، لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنّه غائب. أو شاهد يصدّقه بأنّه وحي، فيتّعظ بظواهره، و ينزجر بزواجره. و في تنكير القلب و إبهامه تفخيم و إشعار بأنّ كلّ قلب لا يتفكّر و لا يتدبّر كلا قلب.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مرّ تفسيره (3) مرارا

ص: 459


1- خرق الأرض: جابها و قطعها حتّى بلغ أقصاها.
2- التوبة: 2.
3- راجع تفسير الآية 54 من سورة الأعراف، يونس: 3، هود: 7، الفرقان: 59، السجدة: 4.

وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من تعب و إعياء. و هو ردّ لما زعمت اليهود من أنّه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد، و فرغ منه يوم الجمعة، و استراح يوم السبت، و استلقى على العرش.

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ما يقول اليهود و يأتون به من الكفر و التشبيه. أو ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء، قدر على بعثهم و الانتقام منهم. و قيل: هي منسوخة بآية السيف (1). و قيل: الصبر مأمور به في كلّ حال.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ و نزّهه عن العجز عمّا يمكن، و الوصف بما يوجب التشبيه، حامدا له على ما أنعم عليك من إصابة الحقّ و غيرها قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن هذا فقال: «تقول حين تصبح و حين تمسي عشر مرّات: لا إله إلّا اللّه، وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت، و هو على كلّ شي ء قدير».

و الأكثر على أنّ المراد بالتسبيح قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، و قبل الغروب صلاة الظهر و العصر. فيعبّر عن الصلاة بالتسبيح، كما يعبّر بالركوع و السجود عنها، تسمية للشي ء باسم معظم أركانه.

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فسبّحه بعض الليل، يعني: العشاءين. و قيل: التهجّد.

وَ أَدْبارَ السُّجُودِ يعني: التسبيح في أعقاب الصلوات. جمع دبر. و قيل: النوافل بعد المكتوبات.

و عن عليّ عليه السّلام: «الركعتان بعد المغرب».

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من صلّى بعد المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلاته في علّيّين».

ص: 460


1- التوبة: 5 و 29.

و عن ابن عبّاس:

الوتر بعد العشاء. و قيل: الوتر بعد التهجّد. و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قرأ الحجازيّان بكسر الهمزة، من: أدبرت الصلاة إذا انقضت. يعني: وقت انقضاء السجود.

و قال في كنز العرفان بعد نقل الأقوال المذكورة: «و عندي أنّ حمله على العموم أولى» (1).

وَ اسْتَمِعْ لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة. و فيه تهويل و تعظيم لشأن المخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ نصب بما دلّ عليه «ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» أي: يوم يناد المنادي يخرجون من القبور. و المنادي هو إسرافيل. فيقول: أيّتها العظام البالية، و الأوصال المنقطعة، و اللحوم المتمزّقة، و الشعور المتفرّقة، إنّ اللّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء. و قيل: إسرافيل ينفخ، و جبرئيل ينادي بالحشر. مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يصل نداؤه إلى الكلّ على سواء. قيل: هو صخرة بيت المقدس. و هي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. و هي وسط الأرض. و قيل: من تحت أقدامهم. و قيل: من منابت شعورهم. و لعلّ هذا في الإعادة نظير لفظة «كن» في الإبداء.

يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بدل من «يوم يناد». و الصيحة: النفخة الثانية.

بِالْحَقِ متعلّق بالصيحة. و المراد به البعث للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور إلى أرض الموقف. و هو من أسماء يوم القيامة. و قد يقال للعيد.

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ في الدنيا وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ للجزاء في الآخرة.

يَوْمَ تَشَقَّقُ تتشقّق. و قرأ الكوفيّون و أبو عمرو بالتخفيف (2). الْأَرْضُ

ص: 461


1- كنز العرفان 1: 78.
2- أي: بتخفيف الشين.

عَنْهُمْ سِراعاً حال من المجرور، أي: مسرعين إلى الداعي بلا تأخير ذلِكَ حَشْرٌ بعث و جمع بالسوق من كلّ جهة عَلَيْنا يَسِيرٌ هيّن غير متعذّر، مع تباعد ديارهم و قبورهم. و تقديم الظرف للاختصاص، فإنّ ذلك الأمر العظيم لا يتيسّر إلّا على العالم القادر لذاته، الّذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ (1).

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هدّد قومه بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ متسلّط قادر على قلوبهم، فتقسرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، و إنّما أنت داع. و قيل: أريد التحلّم عنهم، و ترك الغلظة عليهم. و يجوز أن يكون من:

جبره على الأمر بمعنى: أجبره، أي: ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان.

و «على» بمنزلة قولك: هو عليهم، إذا كان و إليهم و مالك أمرهم.

فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنّه لا ينتفع به غيره. و هذا كقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (2).

ص: 462


1- لقمان: 28.
2- النازعات: 45.

[51] سورة الذاريات

اشارة

مكّيّة. و هي ستّون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الذاريات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ ريح هبّت و جرت في الدنيا».

و روى داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة و الذاريات في يومه أو ليلته أصلح اللّه له معيشته، و أتاه برزق واسع، و نوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة».

[سورة الذاريات [51]: الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً [1] فَالْحامِلاتِ وِقْراً [2] فَالْجارِياتِ يُسْراً [3] فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [4]

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [5] وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [6] وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [7] إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [8] يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [9]

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [10] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ [11] يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [12] يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [13] ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [14]

ص: 463

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة ق بالوعيد، افتتح هذه السورة بتحقيق الوعيد، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً يعني: الرياح، لأنّها تذروا التراب و غيره. قال اللّه تعالى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ (1). أو النساء الولود، فإنّهنّ يذرين الأولاد.

أو الأسباب الّتي تذري الخلائق، من الملائكة و غيرهم. و قرأ أبو عمرو و حمزة بإدغام التاء في الذال.

فَالْحامِلاتِ وِقْراً فالسحب الحاملة للأمطار، أو الرياح الحاملة للسحاب، أو النساء الحوامل، أو أسباب ذلك. و الوقر: ثقل الحمل على ظهر أو في بطن.

فَالْجارِياتِ يُسْراً فالسفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابّها. أو الكواكب السبعة الّتي تجري في منازلها. و هي: الشمس، و القمر، و زحل، و المشتري، و المرّيخ، و الزهرة، و عطارد. و «يسرا» صفة مصدر محذوف تقديره:

جريا ذا يسر، أي: ذا سهولة.

فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الملائكة الّتي تقسّم الأمور من الأمطار و الأرزاق و غيرها، أو ما يعمّهم و غيرهم من أسباب القسمة.

و عن مجاهد: تتولّى الملائكة تقسيم أمر العباد: جبريل للغلظة، و ميكائيل للرحمة، و ملك الموت لقبض الأرواح، و إسرافيل للنفخ.

و قيل: الرياح يقسّمن الأمطار بتصريف السحاب.

و عن عليّ عليه السّلام أنّه قال و هو على المنبر: «سلوني قبل أن لا تسألوني، و لن تسألوا بعدي مثلي. فقام ابن الكوّاء فقال: ما الذاريات ذروا؟ قال: الرياح. قال:

فالحاملات و قرا؟ قال: السحاب. قال: فالجاريات يسرا؟ قال: الفلك. قال:

فالمقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة».

و كذا عن ابن عبّاس.

و اعلم أنّ هذه الصفات إن حملت على ذوات مختلفة، فالفاء لترتيب الأقسام

ص: 464


1- الكهف: 45.

بها، باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة، و إلّا فالفاء لترتيب الأفعال، إذ الريح مثلا تذرو الأبخرة إلى الجوّ حتّى تنعقد سحابا، فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث أمرت به، فتقسّم المطر.

و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّه «لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا باللّه، و اللّه سبحانه يقسم بما شاء من خلقه».

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه فقال: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ أي: الّذي توعدون به ذو صدق، كقوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ (1). أو فاعل وضع موضع المصدر.

و يجوز أن يكون «ما» مصدريّة، أي: إنّ وعد اللّه لكم لذو صدق.

وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ و إنّ الجزاء حاصل البتّة. كأنّه استدلّ باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة، على اقتداره على البعث للجزاء الموعود.

وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطرائق، مثل حبك الرمل و الماء إذا ضربته الريح. و يقال: الدرع محبوكة، لأنّها مطرقة بطرائق مدوّرة. و يقال: إنّ خلقة السماء كذلك. أو المراد الطرائق المحسوسة الّتي هي مسير الكواكب، أو المعقولة الّتي يسلكها النظّار، و يتوصّل بها إلى المعارف. أو النجوم، فإنّ لها طرائق، أو أنّها تزيّنها كما تزيّن الموشى (2) طرائق الوشي. و قيل: حبكها صفاقتها (3) و إحكامها، من قولهم: فرس محبوك المعاقم (4)، أي: محكمها. و إذا أجاد الحائك الحياكة قالوا: ما أحسن حبكه. و هو جمع حبيكة، كطريقة و طرق، أو حباك، كمثال و مثل.

و روي عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن .

ص: 465


1- الحاقّة: 21، القارعة: 7.
2- وشى الثوب: حسّنه بالألوان و نمنمه و نقشه، فهو موشى. و الوشي: نقش الثوب.
3- أي: كثافتها. من: صفق الثوب صفاقة: كثف نسجه.
4- المعاقم: المفاصل و ملتقى أطراف العظام. و الواحد: معقم.

الرضا عليه السّلام قال: «قلت له: أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ».

فقال: محبوكة إلى الأرض. و شبّك بين أصابعه.

فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض و اللّه يقول: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ (1)؟

فقال: سبحان اللّه أليس يقول: «بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها»؟

قلت: بلى.

قال: فثمّ عمد و لكن لا ترى؟

قلت: فكيف ذلك جعلني اللّه فداك؟

قال: فبسط كفّه اليسرى، ثمّ وضع اليمنى عليها، فقال: هذه أرض الدنيا، و السماء الدنيا فوقها قبّة. و الأرض الثانية فوق السماء الدنيا، و السماء الثانية فوقها قبّة. و الأرض الثالثة فوق السماء الثانية، و السماء الثالثة فوقها قبّة. ثمّ هكذا إلى الأرض السابعة فوق السماء السادسة، و السماء السابعة فوقها قبّة. و عرش الرحمن فوق السماء السابعة. و هو قوله: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ (2). فصاحب الأمر هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الوصيّ من بعده قائم على وجه الأرض، و إنّما يتنزّل الأمر إليه من فوق، من بين السماوات و الأرضين.

قلت: فما تحتنا إلّا أرض واحدة؟

قال: ما تحتنا إلّا أرض واحدة، و إنّ السّتّ لفوقنا».

إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو قولهم تارة إنّه شاعر، و تارة إنّه ساحر، و تارة إنّه مجنون. أو في القرآن، إنّه شعر و سحر و أساطير الأوّلين. أو في القيامة، أو أمر الديانة. و لعلّ النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها

ص: 466


1- الرعد: 2.
2- الطلاق: 12.

و تنافي أغراضها، بطرائق السماوات في تباعدها و اختلاف غاياتها.

يُؤْفَكُ عَنْهُ يصرف عن الرسول، أو القرآن، أو الإيمان مَنْ أُفِكَ من صرف الصرف الّذي لا صرف أشدّ منه و أعظم، فكأنّه لا صرف بالنسبة إليه، كقوله:

لا يهلك على اللّه إلّا هالك.

و قيل: يصرف عنه من صرف في سابق علم اللّه، أي: علم فيما لم يزل أنّه مأفوك عن الحقّ لا يرعوي.

و يجوز أن يكون الضمير للقول، على معنى: يصدر إفك من أفك عن القول المختلف و بسببه، كقوله: ينهون عن أكل و عن شرب (1)، أي: يتناهون في السمن بسبب الأكل و الشرب. و حقيقته: يصدر تناهيهم في السمن عنهما. أو ل «ما توعدون». أو للدّين، بأن أقسم بالذاريات على أنّ وقوع أمر القيامة حقّ، ثمّ أقسم بالسماء على أنّهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاكّ و منهم جاحد، ثم قال:

يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك.

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الكذّابون المقدّرون ما لا يصحّ، من أصحاب القول المختلف. و اللام إشارة إليهم، كأنّه قيل: قتل هؤلاء الخرّاصون. و أصله الدعاء عليهم بالقتل و الهلاك، أجري مجرى اللعن، كقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (2).

الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل يغمرهم ساهُونَ غافلون عمّا أمروا به.

قيل: إنّ أوّل مراتب الجهل السهو، ثمّ الغفلة، ثمّ الغمرة. فتكون الغمرة عبارة عن

ص: 467


1- و عجزه: مثل المها يرتعن في خصب. و المها جمع مهاة، و هي البقرة الوحشيّة. و خصب المكان خصبا: كثر فيه العشب و الخير. يصف الشاعر أضيافا بتناهي سمنهم بسبب الأكل و الشرب. و شبّههم بالمها اللّاتي يرتعن في الكلأ و المكان الخصب.
2- عبس: 17.

المبالغة في الجهل، أي: إنّهم في غاية الجهل ساهون عن الحقّ.

يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي: يقولون: متى يوم الجزاء؟ أي: وقوعه.

فوقع «أيّان» ظرفا للوقوع لا اليوم، لأنّ الأحيان ظروف للحدث.

يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يحرقون. و منه: الفتين. و هي: الحرّة (1)، لأنّ حجارتها كأنّها محرقة. و هذا جواب سؤالهم. و المعنى: يقع يوم هم على النار يفتنون. أو هو يوم هم على النار يفتنون.

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ في محلّ الحال. و الفتنة العذاب الشديد، أي: مقولا لهم هذا القول هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي: هذا العذاب هو الّذي كنتم به تستعجلون في الدنيا تكذيبا به. و يجوز أن يكون «هذا» بدلا من «فتنتكم» و «الّذي» صفته، أي: ذوقوا هذا العذاب.

[سورة الذاريات [51]: الآيات 15 الى 23]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ [15] آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ [16] كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [17] وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [18] وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ [19]

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [20] وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ [21] وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ [22] فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [23]

ص: 468


1- الحرّة: أرض ذات حجارة سود، كأنّها أحرقت بالنار.

ثمّ ذكر سبحانه ما أعدّه لأهل الجنّة فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لما أعطاهم، راضين به. يعني: أنّه ليس فيما آتاهم إلّا ما هو متلقّى بالقبول، مرضيّ غير مسخوط، لأنّ جميعه حسن طيّب. و منه قوله تعالى: وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ (1) أي: يقبلها و يرضاها.

ثمّ علّل استحقاقهم بالجملة المستأنفة، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ قد أحسنوا أعمالهم.

ثمّ فسّر إحسانهم بقوله: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ «ما» مزيدة، أي: يهجعون في طائفة من الليل هجوعا قليلا. أو مصدريّة، أي: في قليل من الليل هجوعهم. أو موصولة، أي: ما يهجعون فيه. مرفوع المحلّ بأنّه فاعل «قليلا». و لا يجوز أن تكون نافية، و المعنى: أنّهم لا يهجعون من الليل قليلا و يحيونه كلّه، لأنّ ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب. و لا تقول: زيدا ما ضربت.

و المعنى: في أكثر الليل يصلّون ذاكرون.

و فيه مبالغات لتقليل نومهم و استراحتهم، من ذكر القليل، و الليل الّذي هو وقت السبات (2) و الراحة، و الهجوع الّذي هو الفرار من النوم، و زيادة «ما» المؤكّدة لذلك.

وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي: إنّهم مع قلّة هجوعهم و كثرة تهجّدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنّهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كانوا يستغفرون اللّه في الوتر سبعين مرّة في السحر».

و في بناء الفعل على الضمير إشعار بأنّهم أحقّاء بالاستغفار، لوفور علمهم باللّه، و خشيتهم منه.

و بعد ذكر عباداتهم البدنيّة بيّن عباداتهم الماليّة بقوله: وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ

ص: 469


1- التوبة: 104.
2- السبات: النوم، أو أوّله.

نصيب يستوجبونه على أنفسهم، تقرّبا إلى اللّه، و إشفاقا على الناس لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ للمستجدي و المتعفّف الّذي يظنّ غنيّا، فيحرم الصدقة. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة و الأكلتان و التمرة و التمرتان. قالوا:

فما هو؟ قال: الّذي لا يجد و لا يتصدّق عليه».

و قيل: المحروم الّذي لا ينمى له مال. و قيل: المحارف الّذي لا يكاد يكسب.

ثمّ بيّن وحدانيّته و كمال علمه و قدرته، و مزيد إفضاله، و فيضان إحسانه على العباد، ترغيبا في الطاعات، و حثّا على العبادات، فقال:

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ دلائل بيّنات و حجج نيّرات على كمال علمه و قدرته و حكمته، و بديع صنعه، و عجيب تدبيره، فإنّها مدحوّة كالبساط و المهاد لما فوقها، كما قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً (1). و فيها مسالك فجاجا للمتقّلبين فيها، و الماشين في مناكبها. مجزّأة بالأجزاء المختلفة، من سهل و جبل و برّ و بحر. و قطع متجاورات، من صلبة و رخوة، و طيّبة و سبخة. ثابتة فيها ألوان النباتات، و أنواع الأشجار المثمرة بالثمار المختلفة الألوان و الطعوم و الروائح، مع أنّها تسقى بماء واحد. كلّها موافقة لحوائج ساكنيها و منافعهم و مصالحهم، في صحّتهم و اعتلالهم.

و ما فيها من العيون المتفجّرة، و المعادن المفتنة (2)، و الدوابّ المنبثّة في برّها و بحرها، المختلفة الصور و الأشكال و الأفعال، من الوحشيّ و الإنسيّ و الهوامّ، و غيرها من المنافع العجيبة و المصالح الغريبة.

لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين الّذين سلكوا الطريق السويّ البرهانيّ الموصل إلى المعرفة، نظّارين بعيون باصرة و أفهام نافذة، كلّما رأوا آية تأمّلوا فيها، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، و إيقانا إلى إيقانهم.

ص: 470


1- طه: 53.
2- أي: المحرقة. يقال للحرّة: فتين، كأنّ حجارتها محرقة.

وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أي: و في أنفسكم آيات في حال ابتدائها و تنقّلها من حال إلى حال، و في بواطنها و ظواهرها، من عجائب الفطر و بدائع الخلق، ما تتحيّر فيه الأذهان. و حسبك بالقلوب و ما ركز فيها من العقول، و خصّت به من أصناف المعاني، و بالألسن و النطق و مخارج الحروف، و بالأسماع و الأبصار و الأطراف و سائر الجوارح. و ما سوّى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف و التثنّي، فإنّه إذا جسا (1) شي ء منها جاء العجز، و إذا استرخى أناخ الذلّ. و ما في تركيبها و ترتيبها و لطائفها من الهيئات النافعة، و المناظر البهيّة، و التركيبات العجيبة، و التمكّن من الأفعال الغريبة، و استنباط الصنائع المختلفة، و استجماع الكمالات المتنوّعة. و مع ذلك ما في العالم شي ء إلّا و في الإنسان له نظير، من الآيات الساطعة، و البيّنات الجمّة القاطعة على حكمة المدبّر الحكيم، و صنعة القدير العليم، فتبارك اللّه أحسن الخالقين. أَ فَلا تُبْصِرُونَ تنظرون نظر من يعتبر.

وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ المراد بالسماء السحاب، و بالرزق المطر، فإنّه سبب الأقوات. و عن الحسن: أنّه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه و اللّه رزقكم، و لكنّكم تحرمونه لخطاياكم. وَ ما تُوعَدُونَ من الثواب، لأنّ الجنّة فوق السماء السابعة تحت العرش. أو أراد: أنّ ما ترزقونه في الدنيا، و ما توعدون به في العقبى، كلّه مقدّر مكتوب في أمّ الكتاب، أعني: اللوح المحفوظ، و هو في السماء.

و قيل: إنّ قوله: «ما تُوعَدُونَ» مستأنف، خبره فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ و على هذا فالضمير ل «ما». و على الأوّل يحتمل أن يكون له، و لما ذكر من أمر الآيات و الرزق و الوعد. مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي: مثل نطقكم. يعني: كما أنّه لا شكّ لكم في أنّكم تنطقون، ينبغي أن لا تشكّوا في تحقّق ذلك. و نصبه على الحال من المستكن في «لحقّ»، أو الوصف لمصدر محذوف، أي: إنّه لحقّ حقّا مثل

ص: 471


1- أي: صلب و يبس.

نطقكم. و قيل: إنّه مبنيّ على الفتح، لإضافته إلى غير متمكّن، و هو لفظة «ما» إن كانت بمعنى: شي ء، و «أنّ» بما في حيّزها إن جعلت زائدة، كما نصّ الخليل عليه.

و هذا كقولك: إنّ هذا لحقّ كما أنّك ترى و تسمع. و محلّه الرفع على أنّه صفة «لحقّ». و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي و أبي بكر بالرفع.

و عن الأصمعي: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابيّ على قعود (1) له، فقال:

من الرجل؟

قلت: من بني أصمع.

قال: من أين أقبلت؟

قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن.

قال: اتل عليّ.

فتلوت «و الذاريات». فلمّا بلغت قوله: «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» قال: حسبك.

فقام إلى ناقته فنحرها، و وزّعها على من أقبل و أدبر، و عمد الى سيفه و قوسه فكسرهما و ولّى. فلمّا حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابيّ قد نحل و اصفرّ، فسلّم عليّ و استقرأ السورة، فلمّا بلغت الآية صاح و قال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا.

ثمّ قال: و هل غير هذا؟ فقرأت «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ».

فصاح و قال: يا سبحان اللّه من ذا الّذي أغضب الجليل حتّى حلف، لم يصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى اليمين. قالها ثلاثا، و خرجت معها نفسه.

[سورة الذاريات [51]: الآيات 24 الى 37]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [24] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [25] فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ

ص: 472


1- القعود: البكر من الإبل إلى أن يثني.

سَمِينٍ [26] فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ [27] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [28]

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [29] قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [30] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [31] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [32] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [33]

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [34] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [35] فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [36] وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ [37]

و لمّا قدّم الوعد و الوعيد، عقّب ذلك بذكر بشارة إبراهيم و مهلك قوم لوط، تبشيرا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تخويفا للكفّار أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك، فقال:

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هذا اللفظ يستعمل إذا أخبر الإنسان بخبر ماض فيه شأن، فيقال: هل أتاك خبر كذا؟ و إن علم أنّه لم يأته. ففيه تفخيم لشأن الحديث، و تنبيه على أنّه ليس من علم رسول اللّه، و إنّما عرفه بالوحي.

و الضيف في الأصل مصدر: ضافه، و لذلك يطلق على الواحد و المتعدّد،

ص: 473

كالزور و الصوم (1). و كانوا اثني عشر ملكا. و قيل: تسعة، و عاشرهم جبرئيل. و قيل:

ثلاثة: جبرئيل، و ميكائيل، و ملك آخر قيل: هو إسرافيل. و سمّاهم ضيفا، لأنّهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنّهم كانوا في حسبانه كذلك.

الْمُكْرَمِينَ عند اللّه، أو عند إبراهيم، إذ خدمهم بنفسه و أخدمهم امرأته. أو لأنّهم في أنفسهم مكرمون. و نظيره قوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (2).

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ نصب بالحديث، أو بما في «ضيف» من معنى الفعل، أو بالمكرمين، أو بإضمار: اذكر فَقالُوا سَلاماً أي: نسلّم عليك سلاما قالَ سَلامٌ أي: عليكم سلام. عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات، حتّى تكون تحيّته أحسن من تحيّتهم. و هذا أيضا من إكرامه لهم. و قرأ حمزة و الكسائي: قال سلم.

قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي: أنتم قوم. و إنّما أنكرهم لأنّه ظنّ أنّهم بنو آدم و لم يعرفهم. أو لأنّ السلام لم يكن تحيّتهم، فإنّه علم الإسلام. أو لأنّه رأى لهم حالا و شكلا خلاف حال الناس و شكلهم. و هو كالتعرّف عنهم، أي: أنتم قوم منكرون، فعرّفوني من أنتم؟

فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فذهب إليهم في خفية من ضيفه، فإنّ من أدب المضيف أن يبادر بالقرى، حذرا من أن يكفّه الضيف أو يعذره أو يصير منتظرا فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ لأنّه كان عامّة ماله البقر.

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه بين أيديهم قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ أي: منه. و هو مشعر بكونه حنيذا (3). و الهمزة فيه للعرض و الحثّ على الأكل على طريقة الأدب، إن قاله المضيف أوّل ما وضعه عند الضيف، و للإنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم.

ص: 474


1- الزور: الزائر للمفرد و المثنّى و الجمع. و الصوم: الصائم للمفرد و الجمع.
2- الأنبياء: 26.
3- أي: مشويّا. من: حنذ اللحم: شواه و أنضجه.

فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فأضمر منهم خوفا لمّا رأى إعراضهم عن طعامه، و ظنّ أنّهم يريدون به سواء. و عن ابن عبّاس: وقع في نفسه أنّهم ملائكة أرسلوا للعذاب. قالُوا لا تَخَفْ إنّا رسل اللّه. قيل: مسح جبرئيل العجل بجناحه، فقام يدرج حتّى لحق بأمّه، فعرفهم و أمن منهم وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ يكمل علمه إذا بلغ. و المبشّر به هو إسحاق. و هو أكثر الأقاويل و أصحّها، لأنّه من سارة، و الصفة صفتها في هذه القصّة، لا هاجر. و عن مجاهد: هو إسماعيل.

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة إلى بيتها، و كانت في زاوية تنظر إليهم فِي صَرَّةٍ في صيحة. من: صرّ القلم و الباب. و منه: الصرير. و قيل: صرّتها قولها: أوّه. و عن عكرمة: رنّتها (1). و المعنى: أخذت تصيح و تولول، كما قال: قالَتْ يا وَيْلَتى (2).

و محلّه النصب على الحال، أي: فجاءت صارّة، أو المفعول إن أوّل «أقبلت» ب:

أخذت. فَصَكَّتْ وَجْهَها فلطمت بأطراف الأصابع بعد بسط يديها جبهتها، فعل المتعجّب. و أصل الصكّ ضرب الشي ء بالشي ء العريض،. و قيل: وجدت حرارة دم الطمث فلطمت وجهها من الحياء. وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي: أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟

قالُوا كَذلِكَ مثل ذلك الّذي بشّرنا به قالَ رَبُّكِ أي: إنّما نخبرك به عنه، و اللّه قادر على ما تستبعدين إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله حقّا، و فعله محكما. و روي: أنّ جبرئيل قال لها في حال استبعادها: انظري إلى سقف بيتك.

فنظرت فإذا جذوعه مورّقة مثمرة.

و لمّا علم إبراهيم عليه السّلام أنّهم ملائكة، و أنّهم لا ينزلون مجتمعين إلّا لأمر عظيم قالَ فَما خَطْبُكُمْ فما شأنكم و ما طلبكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ

ص: 475


1- الرنّة: الصوت عموما، أو الصوت الحزين.
2- هود: 72.

قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ عاصين للّه، كافرين لنعمه، استحقّوا العذاب و الهلاك. و أصل الجرم القطع. فالمجرم القاطع للواجب بالباطل. فهؤلاء أجرموا، بأن قطعوا الإيمان بالكفر. يعنون قوم لوط.

لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ يريد السجّيل، فإنّه طين طبخ كما يطبخ الآجرّ حتّى صار في صلابة الحجارة مُسَوَّمَةً مرسلة. من: اسيمت الماشية إذا أرسلت للرعي. أو معلمة، من السومة. و هي العلامة، على كلّ واحد منها اسم من يهلك به. و قيل: أعلمت بأنّها من حجارة العذاب. و قيل: بعلامة تدلّ على أنّها ليست من حجارة الدنيا. عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور. قيل:

أرسلت الحجارة على الغائبين، و قلبت القرية بالحاضرين.

فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط. و إضمارها، و لم يجر ذكرها، لكونها معلومة. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممّن آمن بلوط. و ذلك قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ (1) الآية. و ذلك أنّ اللّه تعالى أمر لوطا بأن يخرج هو و من معه من المؤمنين لئلّا يصيبهم العذاب.

فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ غير أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ قيل: هم لوط و ابنتاه. و قيل: أهل بيته الّذين نجوا ثلاثة عشر. و استدلّ به على اتّحاد الإسلام و الإيمان. و هو ضعيف، لأنّ ذلك لا يقتضي إلّا صدق المؤمن و المسلم على من اتّبعه، و ذلك لا يقتضي اتّحاد مفهوميهما، لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.

وَ تَرَكْنا فِيها و أبقينا في قرى قوم لوط آيَةً علامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي: علامة تدلّ على أنّ اللّه أهلكهم، فيخافون مثل عذابهم، فإنّهم المعتبرون بها دون القاسية قلوبهم. و هي تلك الأحجار، أو صخرة منضودة فيها، أو ماء أسود منتن.

ص: 476


1- هود: 81.

[سورة الذاريات [51]: الآيات 38 الى 46]

وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [38] فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [39] فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ [40] وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [41] ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [42]

وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ [43] فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ [44] فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ [45] وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [46]

ثمّ بيّن ما نزل بالأمم الاخرى، فقال مبتدأ بقصّة موسى و فرعون الّتي هي أشهر القصص و أكثرها عبرة، فقال عطفا على وَ فِي الْأَرْضِ (1):

وَ فِي مُوسى أي: و في موسى أيضا آية. أو على «وَ تَرَكْنا فِيها» أي:

و جعلنا في موسى، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة ظاهرة. و هي: معجزاته، كاليد و العصا.

فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي: فأعرض عن الايمان بما كان يتقوّى به من جنوده و ملكه، فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الشي ء و يتقوّى به. أو تولّى عن الإيمان، كقوله: وَ نَأى بِجانِبِهِ (2). فالباء للتعدية. وَ قالَ ساحِرٌ أي: هو ساحر أَوْ

ص: 477


1- الذاريات: 20.
2- الإسراء: 83.

مَجْنُونٌ كأنّه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوبا إلى الجنّ، و تردّد في أنّه حصل ذلك باختياره و سعيه أو بغيرهما.

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ فأغرقناهم في البحر وَ هُوَ مُلِيمٌ آت بما يلام عليه من الكفر و العناد. و الجملة حال من الضمير في «فأخذناه».

وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ أي: الريح الّتي لا خير فيها، و عقمت عن أن تأتي بخير، من تنشئة سحاب، أو تلقيح شجر، أو تذرية طعام، أو نفع حيوان، فهي كالمرأة الممنوعة عن الولادة. أو هي ريح الهلاك. و سمّاها عقيما إمّا لأنّها قطعت دابرهم، أو لأنّها لم تتضمّن منفعة.

و عن ابن عبّاس: هي الدبور. و عن ابن المسيّب: هي الجنوب. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: هي النكباء (1).

ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ما تترك هذه الرّيح شيئا مرّت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالشي ء الهالك البالي. و هو نبات الأرض إذا يبس و ديس. من: رمّ إذا بلى و تفتّت.

وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ تفسيره قوله: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ (2).

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فاستكبروا عن امتثاله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي:

العذاب بعد الثلاث. و قرأ الكسائي: الصعقة. و هي المرّة، من مصدر: صعقتهم الصاعقة. و الصاعقة: النازلة نفسها. وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إليها، فإنّها جاءتهم معاينة بالنهار. روي: أنّ العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم و ما ضرّتهم.

ص: 478


1- ريح نكباء: انحرفت عن مهابّ الرياح و وقعت بين ريحين، مثلا بين الصبا و الشمال.
2- هود: 65.

فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (1). و قيل:

هو من قولهم: ما يقوم به، إذا عجز عن دفعه. وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من العذاب. و قيل: ما كانوا طالبين ناصرا يمنعهم من عذاب اللّه.

وَ قَوْمَ نُوحٍ أي: و أهلكنا قوم نوح، لأنّ ما قبله يدلّ عليه. أو اذكر. و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي بالجرّ، عطفا على محلّ «في عاد». و المعنى: و في قوم نوح. مِنْ قَبْلُ من قبل عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الاستقامة بالكفر و العصيان، فاستحقّوا لذلك الإهلاك.

[سورة الذاريات [51]: الآيات 47 الى 51]

وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ [47] وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [48] وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [49] فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [50] وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [51]

و لمّا قال: «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ»، بيّن بعد ذلك أنّ السماء و الأرض من مصنوعنا، فهما و ما وقع بينهما الدلائل الملجئة إلى الاعتراف بأنّ لهما صانعا عالما قادرا، فقال:

وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي: بقوّة، فإنّ الأيد و الآد القوّة. يقال: قد آد يئيد، و هو أيّد. وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ لقادرون. من الوسع بمعنى الطاقة. و عن الحسن:

الموسعون الرزق بالمطر. و قيل: معناه: جعلنا بينها و بين الأرض سعة.

ص: 479


1- الأعراف: 78.

وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها مهّدناها لتستقرّوا عليها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي: نحن.

وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ذكرا و أنثى. أو و من كلّ شي ء من الأجناس خلقنا نوعين. و يؤيّده ما روي عن الحسن: السماء و الأرض، و الليل و النهار، و الشمس و القمر، و البرّ و البحر، و الموت و الحياة. فعدّد أشياء أخر و قال: كلّ اثنين منها زوج، و اللّه تعالى فرد لا مثل له. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: فعلنا ذلك كلّه، من بناء السماء و فرش الأرض و خلق الأزواج، إرادة أن تتذكّروا فتعرفوا الخالق و تعبدوه، و تعلموا أنّ التعدّد من خواصّ الممكنات، و أنّ الواجب بالذات لا يقبل التعدّد و الانقسام.

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: قل يا محمد: ففرّوا من معصيته و عقابه إلى رحمته و ثوابه، بوسيلة الإيمان و التوحيد و إخلاص الطاعة و ملازمة العبادة. و قيل: ففرّوا إلى اللّه بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته، و يقطعكم عمّا أمركم به. و عن الصادق عليه السّلام معناه: حجّوا. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن كونه منذرا من اللّه بالمعجزات. أو مبين ما يجب أن يحذر عنه.

وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إفراد لأعظم ما يجب أن يفرّ به إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تكرير للتأكيد. أو الأوّل مرتّب على ترك الإيمان و الطاعة، و الثاني على الإشراك.

[سورة الذاريات [51]: الآيات 52 الى 60]

كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [52] أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [53] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [54] وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [55] وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ

ص: 480

إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [56]

ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [57] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [58] فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ [59] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [60]

كَذلِكَ أي: الأمر مثل ذلك. و الإشارة إلى تكذيبهم الرسول، و تسميتهم إيّاه ساحرا أو مجنونا. ثمّ فسّر ما أجمل بقوله: ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ و لا يصحّ أن تكون الكاف منصوبة ب «أتى» لأنّ «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. و لو عملت لكان المعنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلّا قالوا ساحر أو مجنون.

أَ تَواصَوْا بِهِ أي: كأنّ الأوّلين و الآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول، حتّى قالوه جميعا متّفقين عليه. و الهمزة للتوبيخ. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أنّ التواصي جامعهم- لأنّهم لم يتلاقوا في زمان واحد، لتباعد أيّامهم- إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه. و المعنى:

أنّهم لم يتواصوا به، بل جمعتهم العلّة الواحدة، و هي الطغيان.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن مجادلتهم بعد ما كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، و عرفت منهم العناد و اللجاج فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على الإعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ، بل اللائمة و الذمّ عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه.

روي: أنّه لمّا نزلت «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و اشتدّ ذلك على أصحابه، و رأوا أنّ الوحي قد انقطع، و أنّ العذاب قد حضر، فأنزل اللّه تعالى:

ص: 481

وَ ذَكِّرْ و لا تدع التذكير و الموعظة فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي:

تؤثّر في الّذين عرف اللّه منهم أنّهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانا.

و عن مجاهد قال: خرج عليّ بن أبي طالب عليه السّلام مغتمّا مشتملا في قميصه، فقال: لمّا نزلت «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» لم يبق أحد منّا إلّا أيقن بالهلكة، حين قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «فتولّ عنهم». فلمّا نزل «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» طابت نفوسنا.

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلّا لأجل العبادة، أي: لم أرد من جميعهم إلّا إيّاها، مختارين لها لا مضطرّين إليها، لأنّه خلقهم ممكّنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، و لو أرادها على القسر و الإلجاء لوجدت من جميعهم.

و خلاصة المعنى: أنّ الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، و ذلك لا يحصل إلّا بأداء العبادات، فصاروا كأنّهم خلقهم اللّه للعبادة. فإن لم يعبده قوم لم يبطل الغرض، و يكون كمن هيّأ طعاما لقوم و دعاهم ليأكلوه، فحضروا و لم يأكله بعضهم، فإنّه لا ينسب إلى السفه، و يصحّ غرضه، فإنّ الأكل موقوف على اختيار الغير.

فكذلك ها هنا، فإنّ اللّه إذا أزاح علل المكلّفين، من القدرة و الآلة و إعطاء الألطاف، و أمرهم بالعبادة، فمن خالف فقد أتى من قبل نفسه لا من قبله سبحانه.

و شأن اللّه تعالى مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإنّ ملّاك العبيد إنّما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم و أرزاقهم، فإنّ العبد إمّا مجهّز في تجارة ليفي ربحا، أو مرتّب في فلاحة ليغتلّ (1) أرضا، أو مسلّم في حرفة لينتفع

ص: 482


1- اغتلّ الأرض: أخذ غلّتها.

بالأجرة، أو محتطب، أو محتشّ (1)، أو مستق، أو طابخ، أو خابز، و ما أشبه ذلك من الأعمال و المهن الّتي هي تصرّف في أسباب المعيشة و أبواب الرزق. فأمّا مالك ملك العبيد و قال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، و لا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي و لا رزقكم، و أنا غنيّ عنكم و عن مرافقكم، و متفضّل عليكم برزقكم و بما يصلحكم و يعيشكم من عندي، فما هو إلّا أنا وحدي، حيث قال عزّ اسمه:

ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الّذي يرزق كلّ ما يفتقر إلى الرزق. و فيه إيماء باستغنائه عنه. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ شديد القوّة، أي:

البليغ الاقتدار على كلّ شي ء.

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً أي: للّذين ظلموا رسول اللّه بالتكذيب نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظرائهم من الأمم السّالفة الّذين أهلكوا، مثل قوم نوح و عاد و ثمود. و هو مأخوذ من مقاسمة السقّاء الماء بالدلاء، فإنّ الذنوب هو الدلو العظيم المملوء. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2).

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ من يوم القيامة، أو يوم بدر.

و الويل كلمة يقولها العرب لكلّ من وقع في الهلكة.

ص: 483


1- احتشّ الحشيش: سعى في طلبه و جمعه.
2- يس: 48.

ص: 484

[52] سورة الطور

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و أربعون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «و من قرأ سورة الطور كان حقّا على اللّه أن يؤمنه من عذابه، و أن ينعّمه في جنّته».

و عن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ سورة الطور في المغرب». و روى محمد بن هشام، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الطور جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة».

[سورة الطور [52]: الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الطُّورِ [1] وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ [2] فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [3] وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [4]

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [5] وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [6] إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [7] ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [8] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً [9]

وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً [10] فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [11] الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [12] يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [13] هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ

ص: 485

بِها تُكَذِّبُونَ [14]

أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [15] اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [16]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الذاريات بالوعيد، افتتح هذه السورة بوقوع الوعيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الطُّورِ يريد طور سينين. و هو جبل بمدين، سمع فيه موسى عليه السّلام كلام اللّه تعالى. أو مطلق الجبل، أقسم به لما أودع اللّه فيه من أنواع نعمه. و هو لغة سريانيّة. أو مأخوذ من: طار من أوج الإيجاد إلى حضيض الموادّ، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب. و السطر ترتيب الحروف المكتوبة. و المراد به القرآن. أو ما كتبه اللّه في اللوح المحفوظ، أو في ألواح موسى عليه السّلام، أو في قلوب أوليائه من المعارف و الحكم. أو ما تكتبه الحفظة.

فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ الرقّ: الجلد الّذي يكتب فيه حقيقة، أو مستعار لما كتب فيه الكتاب. و المنشور: المبسوط. و المعنى: مكتوب في ورق نشر لقراءة ما فيه.

و تنكيرهما للتعظيم، و الإشعار بأنّهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.

وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الضراح (1). و هو في السماء الرابعة بحيال الكعبة، لو سقط لسقط عليها. و عمرانه كثرة غاشيته من الملائكة.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «و يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، ثمّ لا يعودون إليه أبدا».

و عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:.

ص: 486


1- الضراح: بيت في السماء، و هو البيت المعمور.

«البيت المعمور في السماء الدنيا، و في السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان، يدخله جبرئيل كلّ يوم طلعت فيه الشمس، و إذا خرج انتفض انتفاضة جرت عنه سبعون ألف قطرة، يخلق اللّه من كلّ قطرة ملكا، يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون فيه، فيفعلون ثمّ لا يعودون إليه أبدا».

أو المراد الكعبة، و عمارتها بالعمّار و الحجّاج و المجاورين. أو قلب المؤمن، و عمارته بالمعرفة و الإخلاص.

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني: السماء، فإنّها كالسقف للأرض رفعها اللّه وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي: المملوء. و هو المحيط. أو الموقد، من قوله: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (1).

قيل: إنّه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا، ثمّ تفجّر بعضها في بعض، ثمّ تفجّر إلى النار. و برواية اخرى: أنّ اللّه يجعل يوم القيامة البحار نارا يسجّر بها نار جهنّم. أو المختلط، من السجير، و هو الخليط.

و روي عن عليّ عليه السّلام أنّه سأل يهوديّا: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر. فقال عليّ عليه السّلام: ما أراه إلّا صادقا، لقوله تعالى: «وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ».

و جواب القسم إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ لنازل على المشركين لا محالة ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه.

قال جبير بن مطعم: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اكلّمه في الأسارى، فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلمّا بلغ «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب.

و وجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنّها أمور تدلّ على كمال قدرة اللّه و حكمته، و صدق أخباره، و ضبطه أعمال العباد للمجازاة.

ص: 487


1- التكوير: 6.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه متى يقع، فقال: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً تضطرب. من المور بمعنى التردّد في المجي ء و الذهاب. و قيل: هو تحرّك في تموّج. و المائر:

الشي ء الّذي يتردّد في العرض، كالداغصة. و هي لحمة تكون فوق ركبة البعير.

و قيل: العظم المدوّر يتحرّك على رأس الركبة. و المعنى: يتموّج بالدوران. و «يوم» ظرف ل «واقع». وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي: تسير عن وجه الأرض، فتصير هباء حتّى تستوي الأرض.

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ذكر الفاء لأنّ في الكلام معنى المجازاة، و التقدير:

إذا وقع ذلك فويل لهم الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي: الخوض في الباطل، فإنّه غلب استعماله في الاندفاع في الباطل و الكذب. و منه قوله: وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (1) يَلْعَبُونَ يلهون بذكره. و هو إنكار البعث و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا يدفعون إليها بعنف. و ذلك أنّ الخزنة يغلّون أيديهم إلى أعناقهم، و يجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، فيدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، و زخّا (2) في أقفيتهم.

و «يوم» بدل من «يوم تمور»، أو ظرف لقول مقدّر مقوله: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي: حين يدفعون إلى النار قال لهم خزنتها هذا القول. و في حديث أبي موسى: من يتّبع القرآن يهبط به على رياض الجنّة، و من يتّبعه القرآن يزخّ في قفاه حتّى يقذف به في نار جهنّم.

ثمّ وبّخوهم لمّا عاينوا العذاب فقالوا لهم: أَ فَسِحْرٌ هذا أي: كنتم تقولون للوحي: هذا سحر، أ فهذا المصداق أيضا سحر؟ و دخول الفاء لإفادة هذا المعنى.

و تقديم الخبر لأنّه المقصود بالإنكار و التوبيخ. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا أيضا،

ص: 488


1- المدّثر: 45.
2- زخّة: دفعه.

كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدلّ عليه؟ أم سدّت أبصاركم، كما سدّت في الدنيا على زعمكم حين قلتم: إنّما سكّرت أبصارنا؟

اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي: ادخلوها على أيّ وجه شئتم من الصبر و عدمه، فإنّه لا محيص لكم عنها سَواءٌ عَلَيْكُمْ مبتدأ محذوف خبره، أي: سواء عليكم الأمران الصبر و عدمه.

ثمّ علّل استواء الأمرين بقوله: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: لمّا كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر و عدمه سيّين في عدم النفع. و تحقيق المعنى: أنّ الصبر إنّما يكون له مزيّة على الجزع لنفعه في العاقبة، بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فأمّا الصبر على العذاب الّذي هو الجزاء- و لا عاقبة له و لا منفعة- فلا مزيّة له على الجزع.

[سورة الطور [52]: الآيات 17 الى 28]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ [17] فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [18] كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [19] مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [20] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [21]

وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [22] يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ [23] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [24] وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [25] قالُوا

ص: 489

إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ [26]

فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ [27] إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [28]

و لمّا أوعد سبحانه الكافرين وعد المؤمنين عقيبه، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ في أيّة جنّات و أيّ نعيم، بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنّات و نعيم مخصوصة.

فاكِهِينَ ناعمين متلذّذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ بما أعطاهم من أنواع النعيم وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على «في جنّات» أو «آتاهم» إن جعل «ما» مصدريّة. و المعنى: فاكهين بإيتائهم ربّهم و وقايتهم عذاب الجحيم. أو حال بإضمار «قد» من المستكن في الظرف أو الحال، أو من فاعل «آتى» أو مفعوله أو منهما.

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً أي: يقال لهم: كلوا و اشربوا أكلا و شربا هنيئا، أو طعاما و شرابا هنيئا، و هو الّذي لا تنغيص فيه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسببه أو بدله.

و قيل: الباء زائدة، كما في كَفى بِاللَّهِ (1)، و «ما» فاعل «هنيئا». و المعنى: هنيئا لكم ما كنتم تعملون، أي: جزاؤه.

مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ مصطفّة، أي: موصول بعضها ببعض وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ بنساء بيض نقيّات في حسن و كمال، واسعات الأعين في صفاء و بهاء. و الباء للسببيّة، إذ المعنى: صيّرناهم أزواجا بسببهنّ. أو لما في التزويج من معنى الوصلة و الإلصاق و القرن. و لذلك عطف قوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا على «حور» أي: قرنّاهم بأزواج حور و بالرفقاء و الجلساء من المؤمنين، كقوله:

ص: 490


1- النساء: 6، و غيرها.

إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (1). فيتمتّعون تارة بملاعبة الحور، و تارة بمؤانسة الإخوان من المؤمنين.

و عن زيد بن أرقم: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول اللّه فقال: يا أبا القاسم إنّ أهل الجنّة يأكلون و يشربون؟ فقال: و الّذي نفسي بيده إنّ الرجل منهم ليؤتى قوّة مائة رجل في الأكل و الشرب و الجماع. قال: فإنّ الّذي يأكل و يشرب يكون له الحاجة. فقال: عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر بطنه.

و قيل: الموصول مبتدأ خبره: «ألحقنا بهم».

و قوله: وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ اعتراض للتعليل. و قرأ ابن عامر و يعقوب: ذرّيّاتهم بالجمع و ضمّ التاء، للمبالغة في كثرتهم و التصريح، فإنّ الذريّة تقع على الواحد و الكثير. و قرأ أبو عمرو: و أتبعناهم ذرّيّاتهم، أي: جعلناهم تابعين لهم في الايمان. و قيل: «بإيمان» حال من الضمير، أو من الذرّيّة، أو منهما. و تنكيره للتعظيم، أي: بسبب إيمان عظيم رفيع الشأن، و هو إيمان الآباء. و يجوز أن يراد إيمان الذرّيّة الداني المحلّ. كأنّه قال: بشي ء من الإيمان لا يؤهّلهم لدرجة الآباء ألحقناهم. أو الاشعار بأنّه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان.

أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الصغار و الكبار في دخول الجنّة أو الدرجة. أمّا الكبار فيتّبعون الآباء بإيمان منهم. و أمّا الصغار فيتّبعونهم بإيمان من الآباء، فإنّ الولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده، لما

روي مرفوعا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ اللّه يرفع ذرّيّة المؤمن في درجته و إن كانوا دونه، لتقرّبهم عينه، ثمّ تلا هذه الآية».

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة».

و روى زادان عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ المؤمنين و أولادهم في الجنّة، ثمّ قرأ هذه الآية».

ص: 491


1- الحجر: 47.

فيجمع اللّه لهم أنواع السرور بسعاداتهم في أنفسهم، و بمزاوجة الحور العين، و بمؤانسة الإخوان المؤمنين، و باجتماع أولادهم و نسلهم بهم، و إن كانوا لا يستأهلونها، تفضّلا عليهم و على آبائهم، ليتمّ سرورهم و يكمل نعيمهم.

و قرأ نافع و ابن عامر و البصريّان: ذرّيّاتهم.

وَ ما أَلَتْناهُمْ و ما نقصناهم مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ بهذا الإلحاق، أي: ما نقصنا من ثواب عملهم شيئا نعطيه الأبناء حتّى يلحقوا بهم، بل إنّما ألحقناهم بهم على سبيل التفضّل. و قرأ ابن كثير بكسر اللام، من: ألت يألت. و المعنى واحد.

كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ بعمله، مرهون عند اللّه. كأنّ نفس العبد رهن عند اللّه بالعمل الّذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فكّها و خلّصها، و إلّا أوبقها.

وَ أَمْدَدْناهُمْ و زدناهم بِفاكِهَةٍ بجنس الفاكهة، فإنّ الإمداد الإتيان بالشي ء بعد الشي ء وَ لَحْمٍ و جنس اللحوم مِمَّا يَشْتَهُونَ من أنواع النعم الشهيّة اللذيذة.

يَتَنازَعُونَ فِيها يتعاطون هم و جلساؤهم- من ذرّيّاتهم و إخوانهم- بتجاذب كَأْساً خمرا. سمّاها باسم محلّها. لا لَغْوٌ فِيها لا يتكلّمون بلغو الحديث و ما لا طائل تحته في أثناء شربها وَ لا تَأْثِيمٌ و لا يفعلون ما يؤثّم به فاعله، أي: ينسب إلى الإثم، كما هو عادة الشاربين في الدنيا ذلك، من الكذب و الشتم و الفواحش، مثل قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ (1). و إنّما يتكلّمون بالحكم و الكلام الحسن متلذّذين بذلك، لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة، و هم حكماء علماء.

و قرأ ابن كثير و البصريّان بالفتح.

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي: بالكأس غِلْمانٌ لَهُمْ مماليك مخصوصون بهم.

ص: 492


1- الصافّات: 47.

و قيل: هم أولادهم الّذين سبقوهم. كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف، من بياضهم و صفائهم، لأنّه رطبا أحسن و أصفى و أصبح. أو مخزون، لأنّه لا يخزن إلّا الثمين الغالي القيمة. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

و عنه عليه السّلام: «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه، فيجيبه ألف ببابه: لبّيك لبّيك».

و قيل: إنّه ليس على الغلمان مشقّة في خدمة أهل الجنّة، بل لهم في ذلك اللذّة و السرور، إذ ليس تلك الدار دار محنة.

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يتحادثون، و يسأل بعضهم بعضا عن أحواله و أعماله و ما استوجب به نيل ما عند اللّه.

قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أرقّاء القلوب من خشية اللّه، خائفين من عصيان اللّه، معتنين بطاعته. أو وجلين من العاقبة.

فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالرحمة و التوفيق وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ عذاب النار النافذة في المسامّ نفوذ السموم. و هو الريح الحارّة الّتي تدخل المسامّ. فسمّيت بها نار جهنّم، لأنّها بهذه الصفة.

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك في الدنيا نَدْعُوهُ نعبده، أو نسأله الوقاية إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ المحسن. و قرأ نافع و الكسائي: أنّه بالفتح. الرَّحِيمُ الكثير الرحمة، الّذي إذا عبد أثاب، و إذا سئل أجاب.

[سورة الطور [52]: الآيات 29 الى 43]

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ [29] أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [30] قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ

ص: 493

[31] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [32] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ [33]

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [34] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ [35] أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [36] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [37] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [38]

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ [39] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [40] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [41] أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [42] أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [43]

فَذَكِّرْ فاثبت على تذكير الناس و موعظتهم، و لا تكترث بقولهم فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بحمد اللّه و إنعامه بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ كما يقولون: و لا تبال به، فإنّه قول باطل متناقض، لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة و دقّة نظر، و المجنون مغطّى على عقله. و ما أنت بحمد اللّه و إنعامه عليك بصدق النبوّة و رجاحة العقل أحد هذين.

أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ما يقلق النفوس من حوادث الدهر. و قيل: المنون الموت. فعول من: منّه إذا قطعه. يعني: فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء، كزهير و النابغة و غيرهما.

ص: 494

قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربّص هلاككم كما تتربّصون هلاكي. و المراد بالأمر التهديد، نحو: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (1).

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ عقولهم بِهذا التناقض في القول، فإنّ الكاهن يكون ذا فطنة و دقّة نظر، و المجنون مغطّى عقله، و الشاعر يكون ذا كلام موزون متّسق مخيّل، و لا يتأتّى ذلك من المجنون. و أمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه، كقوله تعالى: أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا (2). و في ذكرها إزراء بعقولهم، حيث لم تثمر لهم معرفة الحقّ من الباطل، مع أنّهم معروفون بأهل الأحلام و النهى. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحقّ لهم.

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ اختلقه من تلقاء نفسه بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم و عنادهم، مع علمهم ببطلان قولهم و أنّه ليس بمتقوّل، لعجز العرب عنه.

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مثل القرآن و ما يقاربه في نظمه و فصاحته، و حسن بيانه و براعته إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم أنّ محمّدا تقوّله، إذ فيهم كثير ممّن عدّوا فصحاء. فهذا ردّ للأقوال المذكورة بالتحدّي.

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أم أحدثوا و قدّروا من غير محدث و مقدّر، فلذلك لا يعبدونه. أو من أجل لا شي ء، من عبادة و مجازاة. و قوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يؤيّد الأوّل، فإنّ معناه: أم خلقوا أنفسهم. و لذلك عقّبه بقوله: أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و «أم» في هذه الآيات منقطعة. و معنى الهمزة فيها الإنكار. بَلْ لا يُوقِنُونَ إذا سئلوا من خلقكم؟ و من خلق السماوات و الأرض؟ قالوا: اللّه، إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته.

ص: 495


1- فصّلت: 40.
2- هود: 87.

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن رزقه حتّى يرزقوا النبوّة من شاؤا. أو خزائن علمه حتّى يختاروا للنبوّة من اختارته حكمته. أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي:

الأرباب المسلّطون الغالبون على الأشياء حتّى يدبّروا أمر الربوبيّة، و يبثّوا الأمور على إرادتهم كيف شاؤا. و قرأ قنبل و حفص بخلاف عنه و هشام بالسين. و حمزة بخلاف عن خلّاد بين الصاد و الزاء. و الباقون بالصاد الخالصة.

أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ مرقى و مصعد إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ صاعدين فيه إلى كلام الملائكة و ما يوحى إليهم من علم الغيب، حتّى يعلموا ما هو كائن، من تقدّم هلاكه على هلاكهم، و ظفرهم في العاقبة دونه، كما يزعمون فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة تصدّق استماعه.

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ فيه تسفيه لأحلامهم، إذ أضافوا إلى اللّه سبحانه ما أنفوا منه. و هذا غاية في جهلهم، إذ جوّزوا عليه سبحانه الولد، ثمّ ادّعوا أنّه اختار الأدون على الأعلى. و إشعار بأنّ من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، فضلا أن بترقّى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلّع على الغيوب.

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ من التزام غرم مُثْقَلُونَ محمّلون الثقل، فزهّدهم ذلك في اتّباعك.

أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اللوح المحفوظ المثبتة فيه المغيّبات فَهُمْ يَكْتُبُونَ حتّى يقولوا لا نبعث، و إن بعثنا لا نعذّب.

أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً مكرا بك، و تدبير سوء في بابك سرّا، كما دبّروه في دار الندوة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالمؤمنين فَالَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل العموم و الخصوص.

فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم، و الدلالة على أنّه الموجب للحكم المذكور هُمُ الْمَكِيدُونَ المجزيّون بكيدهم، فإنّ ضرر ذلك يحيق بهم و يعود عليهم. و هو قتلهم يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد، من: كايدته فكدته.

ص: 496

أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم و يحرسهم من عذابه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم، أو شركة ما يشركون به.

[سورة الطور [52]: الآيات 44 الى 49]

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [44] فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [45] يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ [46] وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [47] وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [48]

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ [49]

ثمّ ذكر سبحانه عنادهم و قسوة قلوبهم، فقال: وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا من فرط طغيانهم و عنادهم سَحابٌ مَرْكُومٌ هذا سحاب تراكم بعضه على بعض يمطرنا، و لم يصدّقوا أنّه كسف ساقط للعذاب. و هو جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ (1).

فَذَرْهُمْ اتركهم يا محمّد حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يهلكون بوقوع الصاعقة عليهم. و هذا عند النفخة الأولى الّتي تسمّى نفخة الصعق، يهلك جميع الناس عندها. و قرأ ابن عامر و عاصم: يصعقون على المبنيّ للمفعول، من:

صعقه أو أصعقه.

يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ حيلتهم شَيْئاً أي: شيئا من الإغناء في ردّ

ص: 497


1- الشعراء: 187.

العذاب وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا يمنعون من عذاب اللّه.

وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل العموم و الخصوص عَذاباً دُونَ ذلِكَ دون عذاب الآخرة. و هو عذاب القبر، أو المؤاخذة في الدنيا، كقتلهم ببدر، و القحط سبع سنين. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما هو نازل بهم.

وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم و إبقائك في عنائهم و أذاهم حتّى يرد أمر اللّه بتخليصك فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا في حفظنا بحيث نراك و نكلؤك، فلا يصلون إلى شي ء ممّا أرادوا عليك. و جمع العين لجمع الضمير، و المبالغة بكثرة أسباب الحفظ.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ من أيّ مكان تقوم، أو من مكان قومك. أو حين تقوم إلى الصلاة، فقل: سبحانك اللّهمّ و بحمدك. أو من مجلسك فقل: سبحانك اللّهمّ و بحمدك، لا إله إلّا أنت، اغفر لي و تب عليّ. و هو المرويّ عن عطاء و سعيد بن جبير. و قد روي مرفوعا: أنّه كفّارة المجلس.

و عن عليّ عليه السّلام: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ (1) إلى آخر السورة» (2).

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فإنّ العبادة فيه أشقّ على النفس و أبعد من الرياء، و لذلك أفرده بالذكر، و قدّمه على الفعل.

و روى زرارة و حمران و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في هذه الآية، قالا: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقوم من الليل ثلاث مرّات، فينظر في آفاق السماء، و يقرأ الخمس من آل عمران الّتي آخرها إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (3)، ثمّ يفتتح صلاة الليل».

ص: 498


1- الصافّات: 180.
2- هذه الرواية في فضائل سورة الصافّات، و لعلّ المؤلّف نقلها لمناسبتها للمقام.
3- آل عمران: 194.

و قيل: معناه: قبل المغرب و العشاء الآخرة.

وَ إِدْبارَ النُّجُومِ و إذا أدبرت النجوم من آخر الليل، أي: تغيب بضوء الصبح. و المراد: الأمر بقول: سبحان اللّه و بحمده في هذه الأوقات.

و قيل: المراد بالتسبيح: الصلاة إذا قام من نومه، و من الليل: صلاة العشاءين، و إدبار النجوم: صلاة الفجر المفروضة.

و هذا منقول عن ابن عبّاس و قتادة، و مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: المراد بإدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر.

و قيل: المعنى: لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا و مساء، و نزّهه في جميع أحوالك ليلا و نهارا، فإنّه لا يغفل عنك و عن حفظك.

و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه قد ضمن حفظه و كلاءته حتّى يبلّغ رسالته.

ص: 499

ص: 500

[53] سورة النجم

اشارة

مكّيّة. و هي اثنتان و ستّون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة النجم اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بمحمّد و من جحد به».

يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من كان يدمن قراءة و النجم في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، عاش محمودا بين الناس، و كان مغفورا له، و كان محبوبا بين الناس».

[سورة النجم [53]: الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى [1] ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى [2] وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [3] إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى [4]

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [5] ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى [6] وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى [7] ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [8] فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [9]

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [10]

و لمّا اختتم سورة الطور بذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح هذه السورة بذكره أيضا،

ص: 501

حتّى اتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير، و توافقت الخاتمة بالفاتحة بذكر النجم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ النَّجْمِ أقسم بجنس النجوم أو الثريّا، فإنّه غلب فيها. أو النجم الّذي يرجم به. إِذا هَوى غرب. أو انتثر يوم القيامة. أو انقضّ. أو طلع، فإنّه يقال: هوى هويّا بالفتح إذا سقط و غرب، و هويّا بالضمّ إذا علا و صعد. أو المراد بالنجم نجوم القرآن، إذ نزل منجّما في ثلاثة و عشرين سنة. و سمّي القرآن نجما لتفريقه في النزول. و العرب تسمّي التفريق تنجيما، و المفرّق منجّما. أو النبات، إذا سقط على الأرض، أو إذا نما و ارتفع.

و روت العامّة عن جعفر الصادق عليه السّلام أنّه قال: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل من السماء السابعة ليلة المعراج، و لمّا نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب، و كانت تحته بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: لآتينّ محمّدا فلأوذينّه. فأتاه فقال: يا محمد؛ هو كافر بالنجم إذا هوى، و بالّذي دنا فتدلّى، ثمّ تفل في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ردّ عليه ابنته و طلّقها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك. و كان أبو طالب حاضرا، فوجم (1) لها، و قال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة.

فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثمّ خرج مع نفر من قريش إلى الشام فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إنّ هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإنّي أخاف على ابني دعوة محمد. فجمعوا جمالهم و أناخوها حولهم، و أحدقوا بعتبة. فجاء الأسد يتشمّم وجوههم حتّى ضرب عتبة فقتله. فقال حسّان شعرا:

من يرجع العام إلى أهله* فما أكيل السّبع بالراجع

و جواب هذا القسم قوله: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن

ص: 502


1- أي: اشتدّ حزنه.

الطريق المستقيم، و ما فارق الهدى إلى الضلال. و الخطاب لقريش. وَ ما غَوى و ما اعتقد باطلا، فإنّ الضلال نقيض الهوى، و الغيّ نقيض الرشد. و المراد: نفي ما ينسبون إليه من الضلال و الغيّ.

وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى و ما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى إِنْ هُوَ ما القرآن، أو الّذي ينطق به إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي: يوحيه اللّه إليه. و احتجّ به من لم ير الاجتهاد للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و أجيب عنه بأنّه إذا أوحي إليه بأن يجتهد كان اجتهاده و ما يسند إليه وحيا. قلنا: إنّ ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي.

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ملك شديد قواه. و الإضافة غير حقيقيّة، لأنّها إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، و هو جبرئيل، فإنّه الواسطة في إبداء الخوارق. و من قوّته أنّه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، و حملها على جناحه، و رفعها إلى السماء ثمّ قلبها، و صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين. و كان هبوطه على الأنبياء و صعوده في أسرع من رجعة الطرف. و رأى إبليس يكلّم عيسى عليه السّلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة، فنفخه بجناحه نفخة فألقاه في أقصى جبل بالهند.

ذُو مِرَّةٍ حصافة في عقله و رأيه، و متانة في دينه فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقيّة الّتي خلقه اللّه عليها، دون الصورة الّتي كان يتمثّل بها كلّما هبط بالوحي. و كان ينزل في صورة دحية الكلبي. و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحبّ أن يراه في صورته الّتي جبل عليها، فاستوى له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الأفق الأعلى، و هو أفق الشمس، فملأ الأفق.

و قيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقيّة غير محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّتين:

مرّة في الأرض، و مرّة في السماء.

و أورد البخاري و مسلم في صحيحيهما عن عبد اللّه بن مسعود: «أنّ رسول

ص: 503

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى جبرئيل و له ستّمائة جناح» (1).

و قيل: استوى بمعنى: استولى بقوّته على ما جعل له من الأمر.

وَ هُوَ جبرئيل بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق السماء من جانب المشرق، فإنّه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض.

ثُمَّ دَنا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَتَدَلَّى فتعلّق عليه في الهواء. و قيل: تدلّى من الأفق الأعلى، فدنا من الرسول من غير أن ينفصل من محلّه. و فيه تقرير لشدّة قواه، فإنّ التدلّي استرسال مع تعلّق، كتدلّي الثمرة. و يقال: دلى رجليه من السرير، و أدلى دلوه. و الدوالي: الثمر المعلّق.

فَكانَ جبرئيل قابَ قَوْسَيْنِ مقدارهما، فإنّ القاب و القيب و القاد و القيد و القيس: المقدار. و قد جاء التقدير بالقوس، و الرمح، و السوط، و الذراع، و الباع، و الخطوة، و الشبر، و الفتر، و الإصبع. و في الحديث: «لقاب قوس أحدكم من الجنّة و موضع قدّه خير من الدنيا و ما فيها».

و القدّ: السوط. و في الكلام حذف، تقديره:

فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات. أَوْ أَدْنى على تقديركم، كقوله: أَوْ يَزِيدُونَ (2). و المقصود تمثيل شدّة الاتّصال و تحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس.

فَأَوْحى جبرئيل إِلى عَبْدِهِ عبد اللّه. و إضماره قبل الذكر لكونه معلوما لا لبس فيه، كقوله: عَلى ظَهْرِها (3). ما أَوْحى جبرئيل. و فيه تفخيم للموحى به. و قيل: ضمير «ما أوحى» للّه تعالى. و المعنى: فأوحى جبرئيل إلى عبد اللّه محمّد ما أوحى اللّه تعالى إليه.

ص: 504


1- صحيح البخاري 6: 176، صحيح مسلم 1: 158 ح 280.
2- الصافّات: 147.
3- فاطر: 45.

و عن سعيد بن جبير: أوحى إليه: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (1) إلى قوله:

وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (2).

و قيل: أوحى إليه أنّ الجنّة محرّمة على الأنبياء حتّى تدخلها أنت، و على الأمم حتّى تدخلها أمّتك.

و قيل: الضمائر كلّها للّه تعالى. و هو المعنيّ ب «شديد القوى» كما في قوله:

هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (3). و دنوّه منه برفع مكانته، و تدلّيه جذبه بشراشره إلى جناب القدس.

و قيل: أوحى إليه سرّا بسرّ. و في ذلك يقول القائل:

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه قول و لا قلم للخلق يحكيه

[سورة النجم [53]: الآيات 11 الى 18]

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [11] أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [12] وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [13] عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [14] عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى [15]

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [16] ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى [17] لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [18]

ثمّ بيّن سبحانه ما رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الإسراء، و حقّق ما رأى فيها بقوله:

ما كَذَبَ الْفُؤادُ فؤاد محمّد ما رَأى ما يبصره من صورة جبرئيل. و المعنى: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك. و لو قال ذلك لكان كاذبا، لأنّه عرفه بقلبه كما رآه

ص: 505


1- الضحى: 6.
2- الانشراح: 4.
3- الذاريات: 58.

ببصره، و لم يشكّ في أنّ ما رآه حقّ.

و قيل: ما كذب ما رآه بقلبه. و المعنى: أنّه لم يكن تخيّلا كاذبا. و يدلّ عليه:

«أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل: هل رأيت ربّك؟ فقال: رأيته بفؤادي».

و عن ابن عبّاس أيضا: أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى ربّه بفؤاده. و روي ذلك عن محمد بن الحنفيّة، عن أبيه عليّ عليه السّلام.

و هذا يكون بمعنى العلم، أي: علّمه علما يقينا بما رآه من الآيات الباهرات، كقول إبراهيم عليه السّلام: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1). و إن كان عالما قبل ذلك.

و قيل: إنّ الّذي رآه هو ما رأى من ملكوت اللّه تعالى و أجناس مقدوراته.

و عن أبي العالية قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هل رأيت ربّك ليلة المعراج؟

قال: رأيت نهرا، و رأيت وراء النهر حجابا، و رأيت وراء الحجاب نورا، لم أر غير ذلك».

و روي عن أبي ذرّ و أبي سعيد الخدري: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن قوله:

«ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: «رأيت نورا». و روي ذلك عن مجاهد.

و ذكر الشعبي عن عبد اللّه بن الحارث، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ محمّدا رأى ربّه.

قال الشعبي: و أخبرني مسروق قال: سألت عائشة عن ذلك. فقالت: إنّك لتقول قولا إنّه ليقف شعري منه.

قلت: رويدا يا أمّ المؤمنين، و قرأت عليها «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى حتّى انتهيت إلى قوله: «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى .

فقالت: رويدا أنّى يذهب بك، إنّما رأى جبرئيل في صورته. من حدّثك أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى ربّه فقد كذب، و اللّه تعالى يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ

ص: 506


1- البقرة: 260.

الْأَبْصارَ (1). و من حدّثك أن محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم الحسّ من الغيب فقد كذب، و اللّه تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (2). و من حدّثك أن محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتم شيئا من الوحي فقد كذب، و اللّه تعالى يقول: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (3). و لقد بيّن اللّه سبحانه ما رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيانا شافيا، فقال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (4).

و قرأ هشام: ما كذّب، أي: صدّقه و لم يشكّ أنّه جبرئيل بصورته.

أَ فَتُمارُونَهُ أ فتجادلونه عَلى ما يَرى من المراء، و هو المجادلة.

و اشتقاقه من: مرى (5) الناقة، فإنّ كلّا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه.

و قرأ الكوفيّون غير عاصم و يعقوب: أ فتمارونه، أي: أ فتغلبونه في المراء.

من: ماريته فمريته. أو من: مراه حقّه إذا جحده. و «على» لتضمين الفعل معنى الغلبة، فإنّ المماري و الجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم.

وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مرّة اخرى. فعلة من النزول، أقيمت مقام المرّة، و نصبت نصبها، إشعارا بأنّ الرؤية في هذه المرّة كانت أيضا بنزول و دنوّ. و الكلام في المرئيّ و الدنوّ ما سبق. و المعنى: نزل جبرئيل عليه نزلة اخرى في صورة نفسه، فرآه عليها ليلة المعراج. و قيل: تقديره: و لقد رآه نازلا نزلة اخرى. و نصبها على المصدر. و المراد به نفي الريبة عن المرّة الأخيرة.

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى الّتي ينتهي إليها علم الخلائق و أعمالهم، و لا يعلم أحد من خلق الأوّلين و الآخرين ما وراءها. أو ما ينزل من فوقها، و يصعد من

ص: 507


1- الأنعام: 103.
2- لقمان: 34.
3- المائدة: 67.
4- النجم: 18.
5- مرى الناقة: مسح ضرعها لتدرّ.

تحتها. أو الّتي منتهى الجنّة و آخرها، و لم يجاوزها أحد. و لعلّها شبّهت بالسدرة، و هي شجرة النبق، لأنّهم يجتمعون في ظلّها. و روي مرفوعا: أنّها شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة، انتهى إليها علم كلّ ملك. و قيل: هي شجرة طوبى.

عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى الجنّة الّتي يأوي إليها المتّقون، أو أرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى تعظيم و تكثير لما يغشاها، بحيث لا يكتنهها نعت، و لا يحصيها عدّ. و قيل: يغشاها الجمّ الغفير من الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر. و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبّح اللّه».

و عنه عليه السّلام: «يغشاها رفرف من طير خضر».

و عن ابن مسعود: يغشاها فراش من ذهب.

ما زاغَ الْبَصَرُ ما مال بصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمّا رآه، أو لم يمل يمينا و لا شمالا وَ ما طَغى و ما تجاوزه، بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا، من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه. أو ما عدل عن رؤية العجائب الّتي أمر برؤيتها و ما جاوزها. أو ما جاوز الحدّ الّذي حدّ له. و هذا وصف أدبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبا، و لم يمل بصره، و لم يمدّه أمامه إلى حيث ينتهي.

لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي: و اللّه لقد رأى الكبرى من آياته و عجائبه الملكيّة و الملكوتيّة ليلة المعراج. يعني: حين رقي به إلى السماء، فاري عجائب الملكوت، من صورة جبرئيل، و رؤيته و له ستّمائة جناح، قد سدّ الأفق بأجنحته. قيل: إنّه رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنّة قد سدّ الأفق.

[سورة النجم [53]: الآيات 19 الى 23]

أَ فَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى [19] وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [20] أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى [21] تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [22] إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ

ص: 508

سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [23]

و لمّا قصّ اللّه سبحانه هذه الأقاصيص، عقّبها بمخاطبة المشركين، فقال:

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم. و هي مؤنّثات.

فاللات كانت لثقيف بالطائف، أو لقريش بنخلة تعبدها. و هي فعلة من: لوى، لأنّهم كانوا يلوون عليها و يعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي: يطوفون. و قرأ رويس عن يعقوب بتشديد التاء، على أنّها على صورة رجل كان يلتّ (1) السويق بالسمن و يطعمه الحاجّ. و عن مجاهد: كان رجل يلتّ السويق بالطائف، و كانوا يعكفون على قبره، فجعلوه و ثنا.

و العزّى: سمرة (2) لغطفان كانوا يعبدونها. و أصلها تأنيث الأعزّ.

فبعث إليها رسول اللّه خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتّى قتلها، و هو يقول:

يا عزّ كفرانك لا سبحانك* إنّي رأيت اللّه قد أهانك و رجع فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال، تلك العزّى و لن تعبد أبدا.

و مناة صخرة كانت لهذيل و خزاعة. و عن ابن عبّاس: لثقيف. و هي فعلة من:

مناه إذا قطعه، فإنّهم كانوا يذبحون عندها القرابين. و كأنّها سمّيت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي: تراق. و منه: منى. و قرأ ابن كثير: مناءة بالمدّ و الهمزة. و هي مفعلة من النوء، كأنّهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبرّكا بها.

ص: 509


1- لتّ السويق: بلّه بشي ء من الماء أو خلطه بالسمن.
2- السمرة: شجرة من العضاه، و ليس في العضاه أجود خشبا منه.

و قوله: «الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان للتأكيد، كقوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ (1). أو «الأخرى» من التأخّر في الرتبة، أي: الوضيعة المقدار، كقوله: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ (2) أي: وضعاؤهم لرؤسائهم و أشرافهم. و يجوز أن تكون الأوّليّة و التقدّم عندهم للات و العزّى.

روي: أنّهم كانوا يقولون: إنّ الملائكة و هذه الأصنام بنات اللّه، و كانوا يعبدونهم، و يزعمون أنّهم شفعاؤهم عند اللّه، مع و أدهم البنات. فقال اللّه سبحانه إنكارا عليهم: إنّ اللات و العزّى و مناة إناث، و قد جعلتموهنّ للّه شركاء، و من شأنكم أن تحتقروا الإناث، و تستنكفوا من أن يولدن لكم و ينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا للّه و تسمّونهنّ آلهة؟! أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى أي: كيف يكون ذلك كذلك و أنتم لو خيّرتم لاخترتم الذكر على الأنثى؟! فكيف أضفتم إليه سبحانه ما لا ترضونه لأنفسكم؟! تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة، حيث جعلتم له ما تستنكفون منه. و هي فعلى بالكسر، من: ضاز يضيز ضيزا، إذا ضامه (3) و جاره. و الأصل: ضوزى بالضمّ، ففعل بها ما فعل ببيض لتسلم الياء، فإنّ فعلى بالكسر لم تأت وصفا. و قرأ ابن كثير بالهمزة، من: ضأزه إذا ظلمه، على أنّه مصدر نعت به.

إِنْ هِيَ ما الأصنام باعتبار الألوهيّة إِلَّا أَسْماءٌ تطلقونها عليها، لأنّكم تقولون إنّها آلهة، و ليس فيها شي ء من معنى الألوهيّة. و يجوز أن يكون الضمير للصفة، أي: ما الصفة إلّا الأسماء خالية عن معنى الصفة المذكورة. أو للأسماء، و هي قولهم: اللات و العزّى و مناة، فإنّهم يقصدون بها أنّه الإله. و الحاصل: أنّهم كانوا

ص: 510


1- الأنعام: 38.
2- الأعراف: 38.
3- ضامه: ظلمه. من: ضام يضيم ضيما.

يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها، و العزّى لعزّتها، و مناة لاعتقادهم أنّها تستحقّ أن يتقرّب إليها بالقرابين.

فقال سبحانه: ما هذه الأسماء إلّا أسماء سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ بهواكم و شهواتكم خالية عن معنى الألوهيّة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان، أي: ليس لكم من اللّه على صحّة تسميتها دليل باهر تتعلّقون به. و معنى «سمّيتموها»: سمّيتم بها. يقال: سمّيته زيدا، و سمّيته بزيد.

ثمّ رجع إلى الإخبار عنهم بعد المخاطبة، فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ إلّا توهّم أنّ ما هم عليه حقّ تقليدا و توهّما باطلا وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ و ما تشتهيه أنفسهم وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي: الرشاد و البيان، من الرسول و الكتاب فتركوه.

[سورة النجم [53]: الآيات 24 الى 28]

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى [24] فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى [25] وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى [26] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [27] وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [28]

ثمّ أنكر عليهم تمنّيهم شفاعة الأوثان، فقال لهم: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها الإنكار. و المعنى: ليس له كلّ ما يتمنّاه. و المراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة. و قيل: قولهم: وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ

ص: 511

لَلْحُسْنى (1). و قيل: هو تمنّي بعضهم أن يكون هو النبيّ. و قيل: هو قوله: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (2). و غيرهما. و قيل: هو قول الوليد بن المغيرة: لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً (3).

فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى أي: هو مالكهما، يعطي منهما ما يشاء لمن يشاء على وفق الحكمة و طبق المصلحة، و ليس لأحد أن يتحكّم عليه في شي ء منهما.

وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ و كثير من الملائكة فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ لا تنفع. يعني: أنّ أمر الشفاعة ضيّق، و ذلك أنّ الملائكة مع قربهم و زلفاهم و كثرتهم و اغتصاص السماوات بجموعهم، لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا قطّ، و لم تنفع. شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ إلّا إذا شفعوا من بعد أن يأذن اللّه لهم في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ من الملائكة أن يشفع، أو من الناس أن يشفع له وَ يَرْضى و يرضاه، و يراه أهلا لذلك. فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم؟

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أي: كلّ واحد منهم تَسْمِيَةَ الْأُنْثى بأن سمّوه بنتا.

وَ ما لَهُمْ بِهِ أي: بما يقولون مِنْ عِلْمٍ أي: ما يستيقنون أنّهم إناث، و ليسوا عالمين بذلك إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي:

الحقّ الّذي هو حقيقة الشي ء لا يدرك إلّا بالعلم و التيقّن، و الظنّ لا اعتبار له في المعارف الحقيقيّة، و إنّما العبرة به في العمليّات و ما يكون وصلة إليها.

ص: 512


1- فصّلت: 50.
2- الزخرف: 31.
3- مريم: 77.

[سورة النجم [53]: الآيات 29 الى 30]

فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا [29] ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى [30]

ثمّ خاطب نبيّه، فقال: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكرنا، و لم يقرّ بتوحيدنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا و لم يتأمّل في الآخرة أصلا، لانهماكه في متاع الدنيا و زينتها، فإنّ من غفل عن اللّه، و أعرض عن ذكره، و انهمك في الدنيا، بحيث كانت منتهى همّته و مبلغ علمه، لا تزيده الدعوة إلّا عنادا و إصرارا على الباطل.

ذلِكَ أي: أمر الدنيا، أو كونها شهيّة مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ لا يتجاوزه علمهم. و هذا مبلغ خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل، لأنّه من طباع البهائم أن يأكل في الحال و لا ينتظر العواقب. و في الدعاء: اللّهمّ لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، و لا مبلغ علمنا.

و الجملة اعتراض مقرّر لقصور هممهم بالدنيا. و قوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تعليل للأمر بالإعراض، أي: إنّما يعلم اللّه من يجيب ممّن لا يجيب، و أنت لا تعلم، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، إذ ما عليك إلّا البلاغ و قد بلّغت، و هو أعلم بالضالّ و المهتدي، و هو مجازيهما ما يستحقّان من الجزاء.

[سورة النجم [53]: الآيات 31 الى 32]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [31] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ

ص: 513

وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [32]

ثمّ قال: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء، أو بمثله، أو بسبب ما عملوا من السوء. و هو علّة لما دلّ عليه ما قبله، أي: خلق العالم و سوّاه ليجزي الّذين أساؤا السّوأى، و هي النار. وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بالمثوبة الحسنى، و هي الجنّة. أو بأحسن من أعمالهم، أو بسبب الأعمال الحسنى.

ثمّ وصف الّذين أحسنوا بقوله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ محلّه إمّا النصب على الصفة أو المدح، أو الرفع على أنّه خبر محذوف. و كبائر الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب. و هو ما رتّب عليه الوعيد، و لا يسقط عقابه إلّا بالتوبة. و قرأ حمزة و الكسائي: كبير الإثم، على إرادة الجنس أو الشرك. وَ الْفَواحِشَ ما فحش من الكبائر خصوصا، كأنّه قال: خصوصا و الفواحش منها إِلَّا اللَّمَمَ إلّا ما قلّ و صغر، فإنّه مغفور من مجتنبي الكبائر.

قال الحسن و السدّي: اللمم هو أن يلمّ بالذنب مرّة ثمّ يتوب منه و لا يعود.

و هو اختيار الزجّاج، لأنّه قال: اللمم: هو أن يكون الإنسان قد ألمّ بالمعصية و لم يقم على ذلك. و منه: ألمّ بالمكان إذا قلّ فيه لبثه، و ألمّ بالطعام قلّ منه أكله.

و عن أبي سعيد الخدري: اللمم هي: النظرة، و الغمزة، و القبلة. و عن الكلبي:

كلّ ذنب لم يذكر اللّه عليه حدّا و لا عذابا. و الاستثناء منقطع، أو صفة كقوله: لَوْ

ص: 514

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ (1). كأنّه قال: كبائر الإثم غير اللمم.

إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يكفّر الصغائر باجتناب الكبائر، و الكبائر بالتوبة. أوله أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها و كبيرها. و لعلّه عقّب به وعيد المسيئين و وعد المحسنين، لئلّا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، و لا يتوهّم وجوب العقاب على اللّه.

هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أعلم بأحوالكم منكم إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ خلقكم منها عند تناول الأغذية المخصوصة الّتي خلقها من الأرض، فكأنّه سبحانه أنشأهم منها وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي: علم أحوالكم و مصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم، و حينما صوّركم في الأرحام.

فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تنسبوها إلى زكاء العمل و زيادة الخير و الطاعات، أو إلى الزكاء و الطهارة من المعاصي و الرذائل، و لا تثنوا عليها بزكاها هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فإنّه يعلم التقيّ و غيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم، و قبل أن تخرجوا من بطون أمّهاتكم.

قيل: كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا و صيامنا و حجّنا، فنزلت هذه الآية. و هذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء. و أمّا من اعتقد أنّ ما عمله من العمل الصالح بتوفيق اللّه و تأييده، و لم يقصد به التمدّح، لم يكن من المزكّين أنفسهم، لأنّ المسرّة بالطاعة طاعة و ذكرها شكر.

[سورة النجم [53]: الآيات 33 الى 54]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [33] وَ أَعْطى قَلِيلاً وَ أَكْدى [34] أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [35] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى [36] وَ إِبْراهِيمَ

ص: 515


1- الأنبياء: 22.

الَّذِي وَفَّى [37]

أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [38] وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى [39] وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [40] ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [41] وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [42]

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى [43] وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا [44] وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [45] مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى [46] وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [47]

وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى [48] وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [49] وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [50] وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى [51] وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى [52]

وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [53] فَغَشَّاها ما غَشَّى [54]

روي عن ابن عبّاس و السدّي و الكلبي و جماعة من المفسّرين: أنّ عثمان بن عفّان كان يتصدّق و ينفق ماله، فقال له أخوه من الرضاعة عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الّذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك شي ء. فقال له عثمان: إنّ لي ذنوبا، و إنّي أطلب بما أصنع رضا اللّه، و أرجو عفوه. فقال له عبد اللّه: أعطني ناقتك برحلها، و أنا أتحمّل عنك ذنوبك كلّها. فأعطاه، و أشهد عليه، و أمسك عن الصدقة.

فنزلت:

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى عن اتّباع الحقّ و الثبات عليه وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى و قطع العطاء و أمسك. من قولهم: أكدى الحافر إذا بلغ الكدية، و هي الصخرة

ص: 516

الصلبة، فترك الحفر.

أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ علم ما غاب عنه من أمر العذاب فَهُوَ يَرى يعلم أنّ صاحبه يتحمّل عنه العذاب. أو يعلم أنّ ما قال له أخوه من احتمال أوزاره حقّ.

و عن مجاهد: نزلت في الوليد بن المغيرة، و كان قد اتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على دينه، فعيّره بعض المشركين، و قال له: تركت دين الأشياخ و ضألتهم، و زعمت أنّهم في النار. قال: إنّي خشيت عذاب اللّه. فضمن له الّذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله و رجع إلى شركه أن يتحمّل عنه عذاب اللّه. فارتدّ و أعطى بعض المشروط، ثمّ بخل بالباقي.

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ألم يخبر بما في أسفار التوراة وَ إِبْراهِيمَ و في صحف إبراهيم الَّذِي وَفَّى و فّر و أتمّ ما التزم به أو أمر به. أو بالغ في الوفاء بما عاهد اللّه. و إطلاقه ليتناول كلّ وفاء و توفية. و تخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره. و من ذلك: تبليغه الرسالة، و استقلاله بأعباء النبوّة، و الصبر على ذبح ولده، و على نار نمرود، و قيامه بأضيافه، و خدمته إيّاهم بنفسه، و أنّه كان يخرج كلّ يوم فيمشي فرسخا يرتاد ضيفا، فإن وافقه أكرمه، و إلّا نوى الصوم.

و عن الحسن: ما أمره اللّه بشي ء إلّا وفى به.

و عن الهذيل بن شرحبيل: كان بين نوح و بين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره، و يقتل بأبيه و ابنه و عمّه و خاله، و الزوج بامرأته، و العبد بسيّده، فأوّل من خالفهم إبراهيم.

و عن عطاء بن السائب: عهد إبراهيم أن لا يسأل مخلوقا، فلمّا قذف في النار قال له جبرئيل و ميكائيل: أ لك حاجة؟ فقال: أمّا إليكما فلا.

و روي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ألا أخبركم لم سمّى اللّه خليله الَّذِي وَفَّى

ص: 517

كان يقول إذا أصبح و أمسى: «فسبحان الله حين تمسون و حين تظهرون».

و قيل: وفّى سهام الإسلام. و هي ثلاثون: عشرة في التوبة: التَّائِبُونَ ... (1).

و عشرة في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ... (2). و عشرة في المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... (3).

و قدّم موسى لأنّ صحفه- و هي: التوراة- كانت أشهر و أكبر عندهم.

أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «أن» هي المخفّفة من الثقيلة. و الضمير للشأن.

و هي بما بعدها في محلّ الجرّ بدلا من «بِما فِي صُحُفِ مُوسى . و التقدير: أم لم ينبّأ بأنّه لا تزر، أي: لا تحمل نفس حاملة حمل اخرى. أو الرفع على: هو أن لا تزر.

كأنّه قيل: ما في صحفهما؟ فأجاب: أن لا تزر. و المعنى: أنّه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. و لا يخالف ذلك قوله تعالى: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً (4). و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سنّ سنّة سيّئة، فعليه وزرها، و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

فإنّ ذلك للدلالة و التسبّب الّذي هو وزره.

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى إلّا سعيه، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله. و الوجه فيما صحّ من الأخبار من أنّ الصدقة عن الميّت و الحجّ عنه ينفعان الميّت: أنّ سعي غيره لا ينفعه إذا عمل لنفسه، و لكن إذا نواه فهو بحكم الشرع كالنائب عنه و الوكيل القائم مقامه. و أنّ سعي غيره لمّا لم ينفعه إلّا مبنيّا على سعي نفسه- و هو أن يكون مؤمنا صالحا- كان سعي غيره كأنّه سعي نفسه، لكونه

ص: 518


1- التوبة: 112.
2- الأحزاب: 35.
3- المؤمنون: 1- 10.
4- المائدة: 32.

تابعا له و قائما مقامه.

وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي: يجزى العبد سعيه بالجزاء الأوفى، فنصب بنزع الخافض. يقال: جزاه اللّه عمله، و جزاه على عمله، بحذف الجارّ و إيصال الفعل. و يجوز أن يكون مصدرا، أو تكون الهاء للجزاء المدلول عليه ب «يجزى»، و «الجزاء» بدله، كقوله: وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (1).

وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى مصدر بمعنى الانتهاء، أي: انتهاء الخلائق و رجوعهم إلى ثواب ربّك و عقابه، كقوله: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (2).

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى خلق قوّتي الضحك و البكاء. أو فعل سبب الضحك و البكاء، من السرور و الحزن، كما يقال: أضحكني فلان و أبكاني.

وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا لا يقدر على الإماتة و الإحياء غيره، فإنّ القاتل ينقض البنية، و الموت يحصل عنده بفعل اللّه على سبيل العادة.

وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى من كلّ حيوان مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى تدفّق في الرحم. يقال: منى و أمنى. و عن الأخفش: تخلّق من منيّ الماني، أي:

قدر المقدّر.

وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى الإحياء بعد الموت وفاء بوعده، و لأنّها واجبة عليه في الحكمة، ليجازي على الإحسان و الإساءة. و لفظة «على» دالّة عليه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: النشاءة بالمدّ. و هو أيضا مصدر: نشأ.

وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى و أعطى القنية. و هي المال الّذي تأثّلته (3) و عزمت

ص: 519


1- الأنبياء: 3.
2- آل عمران: 28.
3- تأثّل المال: اكتسبه و ثمّره، و زكّاه، و أنماه.

أن لا تخرجه من يدك، بل تدّخره بعد الكفاية. و إفرادها لأنّها أشفّ (1) الأموال. أو أرضى. و تحقيقه: جعل الرضا له قنية.

وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى خالقها و مخترعها. و هي العبور، كوكب أشدّ ضياء من الغميصاء، تطلع وراء الجوزاء، و تسمّى كلب الجبار، لأنّه يتبع الجوزاء كما يتبع الكلب الصائد و الصيد. و الجبار اسم الجوزاء. و كانت خزاعة تعبدها، سنّ لهم أبو كبشة رجل من أشرافهم. و قيل: إنّه أحد أجداد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبل أمّه.

و كانت قريش تقول لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبو كبشة، تشبيها له به، لمخالفته إيّاهم في دينهم. و لعلّ تخصيصها للإشعار بأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن وافق أبا كبشة في مخالفتهم، خالفه أيضا في عبادتها. فيريد اللّه أنّه ربّ معبودهم هذا، فلا تتّخذوا المربوب المملوك إلها.

وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى القدماء، لأنّهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه السّلام.

و قيل: عاد الأولى قوم هود، و عاد الأخرى إرم. و قرأ نافع و أبو عمرو: عادا لولى، بإدغام التنوين في اللام، و طرح همزة «أولى»، و نقل ضمّتها إلى لام التعريف.

و قالون بعد ضمّة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو.

و ثمودا عطف على «عادا» لأنّ ما بعده لا يعمل فيه، لأنّه منفيّ ب «ما».

فلا يقال: زيدا ما ضربت، لأنّ لها صدر الكلام. و قرأ عاصم و حمزة بغير تنوين، و يقفان بغير الألف. و الباقون بالتنوين، و يقفون بالألف. فَما أَبْقى الفريقين.

وَ قَوْمَ نُوحٍ أيضا معطوف عليه مِنْ قَبْلُ عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى من الفريقين، لأنّهم كانوا يؤذونه و ينفّرون عنه، حتّى كانوا يحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه، و يضربونه حتّى لا يكون به حراك، و ما أثّر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة.

ص: 520


1- أي: أفضلها و أربحها.

وَ الْمُؤْتَفِكَةَ و القرى الّتي ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت. و هي قرى قوم لوط. يقال: أفكه فأتفك. أَهْوى بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبرئيل، ثمّ أهواها مقلّبة إلى الأرض، أي: أسقطها.

فَغَشَّاها ما غَشَّى فيه تهويل و تعميم لما أصابهم من العذاب الشديد، إذ أمطر عليها الصخر المنضود.

[سورة النجم [53]: الآيات 55 الى 62]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [55] هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [56] أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [57] لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ [58] أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ [59]

وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ [60] وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ [61] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا [62]

و لمّا وعد اللّه سبحانه ما يدلّ على وحدانيّته و كمال قدرته الذاتيّة، قال:

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكّك. و الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ أحد.

و المعدودات و إن كانت نعما و نقما، لكن سمّاها كلّها آلاء من قبل ما في نقمه من العبر و المواعظ للمعتبرين، و الانتقام للأنبياء و المؤمنين.

هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى اي: هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدّمة. أو هذا الرسول منذر من جنس المنذرين الأوّلين. و قال: الأولى، على تأويل الجماعة.

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ قربت الساعة الموصوفة بالقرب في نحو قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ (1) فإنّ كلّ ما هو آت لا محالة قريب.

ص: 521


1- القمر: 1.

لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ ليس لها نفس قادرة على كشفها، مبيّنة متى تقوم؟ أو ليس لها من دون اللّه كشف، على أنّها مصدر كالعافية.

أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن. أو ما قدّم من الأخبار. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام. تَعْجَبُونَ إنكارا وَ تَضْحَكُونَ استهزاء وَ لا تَبْكُونَ تحزّنا على ما فرّطتم.

وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون لاعبون. أو مستكبرون، من: سمد البعير في سيره إذا رفع رأسه. أو مغنّون لتشغلوا الناس عن استماعه. من السمود، و هو الغناء.

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا و لا تعبدوا الآلهة. و في الآية دلالة على أنّ السجود هنا واجب على ما ذهب إليه أصحابنا، لأنّ الظاهر أنّ الأمر يقتضي الوجوب، و للروايات المتواترة عن الأئمّة الطاهرة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ص: 522

[54] سورة القمر

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ، بعث يوم القيامة و وجهه على صورة القمر ليلة البدر، و من قرأها كلّ ليلة كان أفضل، و جاء يوم القيامة و وجهه مسفر على وجوه الخلائق».

و روى يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة اقتربت السّاعة، أخرجه اللّه من قبره على ناقة من نوق الجنّة».

[سورة القمر [54]: الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ [1] وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [2] وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [3] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ [4]

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ [5] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ [6] خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [7] مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ [8]

ص: 523

و لمّا ختم اللّه سبحانه تلك السورة بذكر أزوف الآزفة، افتتح هذه السورة بمثله، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت الساعة الّتي يموت فيها جميع الخلائق، يعني: يوم القيامة، فاستعدّوا لها قبل وقوعها وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ انشقاق القمر من آيات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معجزاته النيّرة، و من علامات دنوّ القيامة.

روي عن ابن عبّاس: «اجتمع المشركون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا:

نعم. و كانت ليلة بدر، فسأل عليه السّلام ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فلقتين و رسول اللّه ينادي: يا فلان يا فلان اشهدوا».

و قال ابن مسعود: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلقتين، فلقة ذهبت، و فلقة بقيت، فقال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اشهدوا اشهدوا.

و روي أيضا عن ابن مسعود أنّه قال: و الّذي نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقتي القمر.

و عن جبير بن مطعم قال: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى صار فلقتين على هذا الجبل و على هذا الجبل، فقال الناس: سحر محمد. فقال رجل: إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلّهم.

و قد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، منهم: عبد اللّه بن مسعود، و أنس بن مالك، و حذيفة بن اليمان، و ابن عمر، و ابن عبّاس، و جبير بن مطعم. و عليه جماعة المفسّرين، إلّا ما روي عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنّه قال:

معناه: و سينشقّ القمر. و روي ذلك عن الحسن. و أنكره أيضا البلخي. و هذا لا يصحّ، لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك، فلا يعتدّ بخلاف من خلاف فيه. و لأنّ اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه.

ص: 524

و إنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأنّ انشقاقه من علامة نبوّة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نبوّته و زمانه من أشراط اقتراب الساعة.

و عن حذيفة: أنّه خطب بالمدائن ثمّ قال: الا إنّ الساعة قد اقتربت، و إنّ القمر قد انشقّ على عهد نبيّكم.

و أيضا يؤيّد هذا القول قوله: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً معجزة يُعْرِضُوا عن الإيمان بها عنادا و حسدا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ دائم مطّرد. و كلّ شي ء قد انقادت طريقته و دامت حاله قيل فيه: قد استمرّ. و هو يدلّ على أنّهم رأوا قبله آيات اخرى مترادفة و معجزات متتابعة حتّى قالوا ذلك. أو محكم من المرّة. يقال: أمررته فاستمرّ، إذا أحكمته فاستحكم. أو مستبشع مرّ.

وَ كَذَّبُوا بالآية الّتي شاهدوها وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ و هو ما زيّن لهم الشيطان من ردّ الحقّ بعد ظهوره. و ذكر هما بلفظ الماضي للإشعار بأنّهما من عادتهم القديمة. وَ كُلُّ أَمْرٍ من أمرهم و أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُسْتَقِرٌّ منته إلى غاية، من خذلان أو نصر في الدنيا، و شقاوة أو سعادة في الآخرة، فإنّ الشي ء إذا انتهى إلى غايته ثبت و استقرّ.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ جاء هؤلاء الكفّار في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ أنباء القرون الخالية و إهلاكنا إيّاهم. أو أنباء الآخرة و ما وصف من عذاب الكفّار. ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ازدجار، من تعذيب أو وعيد. أو موضع ازدجار. و المعنى: هو في نفسه موضع للازدجار و مظنّة له، كقوله: لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (1) أي: هو أسوة. و تاء الافتعال تقلب دالا مع الدال و الذال و الزاء للتناسب.

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ غايتها، أي: بلغت الغاية و النهاية في الوضوح، لا خلل فيها أصلا. و هي بدل من «ما»، أو خبر لمحذوف. فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفي أو استفهام

ص: 525


1- الأحزاب: 21.

إنكار منصوب المحلّ، أي: فأيّ غناء تغني النذر؟ و هو جمع نذير، بمعنى المنذر أو المنذر منه. أو مصدر بمعنى الإنذار.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: أعرض عنهم و لا تقابلهم على سفههم، لعلمك بأنّ الإنذار لا يغني فيهم. و هاهنا وقف تامّ. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إسرافيل أو جبرئيل، كقوله يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ (1). و إسقاط الياء اكتفاء بالكسرة للتخفيف.

و انتصاب «يوم» ب «يخرجون» أو بإضمار: اذكر. إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ فظيع تنكره النفوس، لأنّها لم تعهد مثله، و هو هول يوم القيامة. و قرأ ابن كثير: نكر بالتخفيف.

خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ من قبورهم خاشعا ذليلا أبصارهم من الهول. و خشوع الأبصار كناية عن الذلّة و الانخزال (2)، لأنّ ذلّة الذليل و عزّة العزيز تظهران في عيونهما. و إفراده و تذكيره لأنّ فاعله ظاهر غير حقيقيّ التأنيث.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و نافع و عاصم: خشّعا. و إنّما حسن ذلك، و لا يحسن:

مررت برجال قائمين غلمانهم، لأنّه ليس على صيغة تشبه الفعل. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة و التموّج و الانتشار في الأمكنة. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاؤا كالجراد و كالدبى (3).

و فيه دلالة على أنّ البعث إنّما يكون لهذه البنية، لأنّها الكائنة في الأجداث، خلافا لمن زعم أنّ البعث يكون للأرواح.

مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين مادّي أعناقهم إليه. أو ناظرين قبل الداعي.

و هو حال من قوله: يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد.

ص: 526


1- ق: 41.
2- أي: الانقطاع و الانكسار.
3- الدبى: أصغر الجراد. و الواحدة: دباة.

[سورة القمر [54]: الآيات 9 الى 16]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ [9] فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [10] فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [11] وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [12] وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ [13]

تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ [14] وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [15] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ [16]

ثمّ هدّد المعاندين المكذّبين بذكر قصص الأنبياء عليهم السّلام و استئصالهم، لفرط عنادهم و تكذيبهم، فقال:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا. و هو تفصيل بعد إجمال. و قيل: معناه: كذّبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلّما مضى منهم قرن مكذّب تبعه قرن مكذّب. أو كذّبوه بعد ما كذّبوا الرسل. وَ قالُوا مَجْنُونٌ هو مجنون وَ ازْدُجِرَ زجر عن التبليغ بأنواع الأذيّة. و قيل: إنّه من جملة قيلهم، أي:

هو مجنون و قد ازدجرته الجنّ، أي: ذهبت بلبّه و تخبّطته و طارت بقلبه.

فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ غلبني قومي، فلم يسمعوا منّي، و استحكم اليأس من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم. و ذلك بعد يأسه منهم. و قد روي: أنّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتّى يخرّ مغشيّا عليه، فيفيق و هو يقول: اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.

ثمّ بيّن سبحانه إجابته لدعاء نوح عليه السّلام، فقال: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ هاهنا

ص: 527

حذف معناه: فاستجبنا لنوح دعاءه، ففتحنا أبواب السماء بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي:

أجرينا من السماء ماء منصبّا في فرط كثرة و تتابع لم ينقطع أربعين يوما، كجريانه بدفع شديد إذا فتح عنه باب كان مانعا له. و قرأ ابن عامر و يعقوب: ففتّحنا بالتشديد، لكثرة الأبواب.

وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً و جعلنا الأرض كلّها كأنّها عيون متفجّرة. و أصله:

و فجّرنا عيون الأرض، فغيّر للمبالغة. فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء و ماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ على حال قدّرها اللّه في الأزل من غير تفاوت. أو على حال قدّرت و سوّيت، و هو أن قدّر ما أنزل من السماء على قدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. أو على أمر قد قدّر في اللوح أنّه يكون، و هو هلاك قوم نوح بالطوفان.

وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ ذات أخشاب عريضة وَ دُسُرٍ و مسامير.

جمع دسار، و هو فعال من: دسره إذا دفعه، فإنّه يدسر به منفذه. و مصدره الدسر، و هو الدفع الشديد. و هي صفة للسفينة أقيمت مقامها، من حيث إنّها كالشرح لها تؤدّي مؤدّاها.

تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منّا، أي: محفوظة بحفظنا. و منه قولهم: عين اللّه عليك. و قيل: معناه: بأعين أوليائنا و من وكّلناهم بها من الملائكة. و قيل: معناه:

تجري بأعين الماء الّتي انبعناها. جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي: فعلنا ذلك جزاء لنوح.

و جعله مكفورا لأنّه نعمة كفروها، فإنّ كلّ نبيّ نعمة من اللّه و رحمة على أمّته.

و يجوز أن يكون على حذف الجارّ و إيصال الفعل إلى الضمير، تقديره: لمن كان كفر به.

وَ لَقَدْ تَرَكْناها أي: السفينة، أو الفعلة آيَةً يعتبر بها، إذ شاع خبرها و اشتهر. و عن قتادة: أبقاها اللّه بأرض الجزيرة- و قيل: على الجوديّ- دهرا طويلا حتّى نظر إليها أوائل هذه الأمّة. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ معتبر.

ص: 528

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ استفهام تعظيم و وعيد. و النذر يحتمل المصدر، و جمع نذير، و هو الإنذار.

[سورة القمر [54]: الآيات 17 الى 21]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [17] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ [18] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [19] تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [20] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ [21]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ سهّلناه للادّكار و الاتّعاظ، بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ و العبر، بأن وشحناه بالمواعظ الشافية و الإنذارات الوافية. أو للحفظ.

و قيل: معناه: و لقد هيّأناه للذكر. من: يسّر ناقته للسفر إذا رحّلها، و يسّر فرسه للغزو إذا أسرجه و ألجمه. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متّعظ.

كَذَّبَتْ عادٌ بالرسول الّذي بعث إليهم، و هو هود، فاستحقّوا الهلاك.

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو لمن بعدهم في تعذيبه.

ثمّ بيّن كيفيّة إهلاكهم، فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردا. من الصرّ، و هو البرد. أو شديد الصوت، من الصرّ. فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم مُسْتَمِرٍّ استمرّ شؤمه. أو استمرّ عليهم بنحو سته سبع ليال و ثمانية أيّام حتّى أهلكهم. أو على جميعهم، كبيرهم و صغيرهم، فلم يبق منهم أحدا. أو اشتدّ مرارته. و كان يوم الأربعاء في آخر الشهر.

تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم عن أماكنهم. روي: أنّهم دخلوا في الشعاب و الحفر، و أخذ بعضهم بأيدي بعض ملاصقين، فنزعتهم الريح منها، و أكبّتهم و دقّت رقابهم

ص: 529

و صرعتهم، فصاروا أمواتا على الأرض جثثا طوالا عظاما. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أصول نخل بلا فروع، منقلع عن مغارسه، ساقط على الأرض. و قيل:

شبّهوا بالأعجاز، لأنّ الريح طيّرت رؤوسهم و طرحت أجسادهم بلا رؤوس.

و تذكير منقعر للحمل على اللفظ. و التأنيث في قوله: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (1) للمعنى.

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ كرّره للتهويل. و قيل: الأوّل لما حاق بهم في الدنيا، و الثاني لما يحيق بهم في الآخرة، كما قال أيضا في قصّتهم: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى (2).

[سورة القمر [54]: الآيات 22 الى 31]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [22] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [23] فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ [24] أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [25] سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [26]

إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ [27] وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [28] فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [29] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ [30] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [31]

ص: 530


1- الحاقّة: 7.
2- فصّلت: 16.

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالإنذارات و المواعظ الّتي جاءهم بها صالح. أو بالرسل المنذرين بسبب تكذيبهم صالحا، لأنّ تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الجميع، لأنّهم متّفقون في الدعاء إلى التوحيد و إن اختلفوا في الشرائع.

فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا من جنسنا، أو من جملتنا، لا فضل له علينا. و انتصابه بفعل يفسّره ما بعده. واحِداً منفردا لا تبع له. أو من آحادهم دون أشرافهم.

نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ جمع سعير. كأنّهم عكسوا عليه، فرتّبوا على اتّباعهم إيّاه ما رتّبه على ترك اتّباعهم له. و قيل: السعر الجنون. و منه: ناقة مسعورة.

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ الكتاب، أو الوحي عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا هذا استفهام إنكار و جحود، أي: كيف ألقي الوحي عليه و خصّ بالنبوّة و فينا من هو أحقّ منه بالاختيار للنبوّة؟! بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ بطر متكبّر، حمله بطره على الترفّع و التعظّم علينا بادّعاء ذلك.

ثمّ قال سبحانه وعيدا لهم: سَيَعْلَمُونَ غَداً أي: عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. و إنّما قال: «غدا» على وجه التقريب، على عادة الناس في ذكرهم الغد و إرادتهم العاقبة، فقالوا: إنّ مع اليوم غدا. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ الّذي حمله أشره على الاستكبار عن الحقّ و طلب الباطل، أصالح عليه السّلام أم من كذّبه؟! و قرأ ابن عامر و حمزة و رويس: ستعلمون، على الالتفات، أو حكاية ما أجابهم به صالح.

إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها و باعثوها معجزة لصالح. و هاهنا حذف، و هو أنّهم تعنّتوا على صالح عليه السّلام، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء (1)، تضع ثم ترد ماءهم فتشربه ثمّ تعود عليهم بمثله لبنا. فقال سبحانه: إنّا

ص: 531


1- العشراء: الناقة الّتي مضى لحملها عشرة أشهر، و هي كالنفساء من النساء.

مرسلوا الناقة كما سألوها فِتْنَةً لَهُمْ امتحانا لهم فَارْتَقِبْهُمْ فانتظر أمر اللّه فيهم، و تبصّر ما هم صانعون وَ اصْطَبِرْ على أذاهم حتّى يأتيك أمري.

وَ نَبِّئْهُمْ و أخبرهم أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم لها شرب يوم، و لهم شرب يوم. و إنّما قال: «بينهم» لتغليب العقلاء. كُلُّ شِرْبٍ نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ محضور لهم، أو للناقة. ففي يوم الناقة تحضره الناقة، و في يومهم يحضرونه. و قيل: يحضرون الماء في نوبتهم، و اللبن في نوبتها.

فَنادَوْا صاحِبَهُمْ أي: دبّروا في أمر الناقة بالقتل، فدعوا واحدا من أشرارهم، و هو: قدار بن سالف أحيمر ثمود فَتَعاطى فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له فَعَقَرَ فأحدث العقر بالناقة فقتلها. و قيل: فتعاطى السيف فقتلها. و التعاطي تناول الشي ء بتكلّف.

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ أي: فانظر كيف كان عذابي لهم و إنذاري إيّاهم.

إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً يعني: صيحة جبرئيل فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كالحشيش أو الشجر اليابس المتهشّم المتكسّر، الّذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. و الحظيرة: هي الّتي يتّخذها المحتظر- أي: صاحبها- لغنمه تمنعها من برد الريح. و المعنى: أنّهم بادوا و هلكوا، فصاروا كيبيس الشجر المتفتّت إذا تحطّم.

[سورة القمر [54]: الآيات 32 الى 40]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [32] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [33] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [34] نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ [35] وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ [36]

وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا

ص: 532

عَذابِي وَ نُذُرِ [37] وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ [38] فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ [39] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [40]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ بالإنذار، أو بالرسل إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ريحا تحصبهم بالحجارة، أي: ترميهم إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ في سحر، و هو آخر الليل. أو مسحرين. نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا إنعاما منّا. و هو علّة ل «نجّينا». كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان و الطاعة.

وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط بَطْشَتَنا أخذتنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ فكذّبوا بالنذر متشاكّين. من المرية. أو فتدافعوا بالإنذار على وجه الجدال بالباطل.

وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ طلبوا منه أن يسلّم إليهم أضيافه ليقصدوا الفجور بهم فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسحناها و سوّيناها بسائر الوجه، لا يرى لها أثر عين.

روي: أنّهم لمّا عالجوا باب لوط ليدخلوا قالت الملائكة: خلّهم يدخلوا إنّا رسل ربّك، لن يصلوا إليك. فصفقهم فأعماهم، فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتّى أخرجهم لوط. فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ فقلنا لهم: ذوقوا، على ألسنة الملائكة.

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ أتاهم في الصباح بُكْرَةً أوّل النهار و باكره، كقوله:

مشرقين و مصبحين عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.

فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كرّر ذلك في كلّ قصّة إشعارا بأن تكذيب كلّ رسول مقتض لنزول العذاب، و استماع كلّ قصّة مستدع للادّكار و الاتّعاظ. و استئنافا للتنبيه و الاتّعاظ، لئلّا يغلبهم السهو، و لا تستولي عليهم الغفلة، لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب في كلّ زمان، مصوّرة

ص: 533

للأذهان، مذكورة من غير نسيان في كلّ أوان. و هكذا تكرير قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عند كلّ نعمة عدّها في سورة الرحمن. و وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عند كلّ آية أوردها في سورة المرسلات، و نحو ذلك.

[سورة القمر [54]: الآيات 41 الى 42]

وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ [41] كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [42]

وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ الإنذارات، أو المنذرون. و هم: موسى و هارون و غيرهما من الأنبياء، لأنّهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون. و اكتفى بذكر آل فرعون عن ذكره، للعلم بأنّه أولى بذلك منهم.

كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني: الآيات التسع فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شي ء.

[سورة القمر [54]: الآيات 43 الى 46]

أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [43] أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [44] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ [45] بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ [46]

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة، فقال: أَ كُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ أشدّ و أقوى في أسباب الدنيا مِنْ أُولئِكُمْ الكفّار، المعدودين من قوم نوح و هود و صالح و لوط و آل فرعون، أي: أهم خير قوّة وعدّة، أو مكانة في الدنيا، أو أقلّ كفرا و عنادا؟ و الاستفهام للإنكار. و المعنى: لستم مثل أولئك، لا في القوّة، و لا في الثروة، و لا في كثرة العدد و العدّة. فإذا هلك أولئك الكفّار فما الّذي يؤمنكم أن ينزل

ص: 534

بكم ما نزل بهم؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أم أنزلت عليكم يا أهل مكّة براءة في الكتب السماويّة، أنّ من كفر منكم و كذّب الرسل فهو في أمان من العذاب، فأمنتم بتلك البراءة؟

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ جماعة، أمرنا مجتمع مُنْتَصِرٌ ممتنع، لا نرام و لا نضام. أو منتصر من الأعداء لا نغلب. أو متناصر ينصر بعضنا بعضا. و التوحيد على لفظ الجميع. و روي: أنّ أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر، فتقدّم في الصفّ و قال:

نحن ننتصر اليوم من محمد و أصحابه.

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ أي: جميع كفّار مكّة وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: الأدبار.

و إفراده لإرادة الجنس، أو لأنّ كلّ واحد يولّي دبره. و قد وقع ذلك يوم بدر، و هو من دلائل النبوّة.

و عن عكرمة: لمّا نزلت هذه الآية قال عمر: لم أعلم ما هو، فلمّا كان يوم بدر رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلبس الدرع و يقول: «سيهزم الجمع» فعلمته.

بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ موعد عذابهم الأصليّ، و ما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه وَ السَّاعَةُ أَدْهى أشدّ و أفظع. و الداهية أمر فظيع لا يهتدى لدوائه.

وَ أَمَرُّ مذاقا من الهزيمة و القتل و الأسر، و غير ذلك من عذاب الدنيا.

[سورة القمر [54]: الآيات 47 الى 55]

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ [47] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [48] إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [49] وَ ما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [50] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [51]

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [52] وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ

ص: 535

[53] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ [54] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [55]

ثمّ بيّن سبحانه حال القيامة، فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحقّ في الدنيا وَ سُعُرٍ و نيران في الآخرة.

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ يجرّون عليها، يقال لهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ حرّ النار و ألمها، فإنّ مسّها سبب التألّم بها، كقولك: وجد مسّ الحمى، و ذاق طعم الضرب، إذا تأذّى و تألّم منهما. و سقر: علم لجهنّم. و عدم صرفها للعلميّة و التأنيث. و أصل السقر: التلويح، من: سقرته النار و صقرته إذا لوّحته.

إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ خلقنا كلّ شي ء مقدّرا بمقدار على مقتضى الحكمة. أو مقدّرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه.

و عن الحسن: على قدر معلوم. فخلقنا اللسان للكلام، و اليد للبطش، و الرجل للمشي، و العين للنظر، و الأذن للسماع، و المعدة للطعام. و لو زاد أو نقص عمّا قدّرناه لما تمّ الغرض.

و قيل: معناه: جعلنا لكلّ شي ء شكلا يوافقه و يصلح له، كالمرأة للرجل، و الأتان للحمار، و ثياب الرجال للرجال، و ثياب النساء للنساء.

و «كلّ شي ء» منصوب بفعل يفسّره ما بعده. و اختيار النصب هاهنا مع الإضمار، لما فيه من النصوصيّة على المقصود.

وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ إلّا كلمة واحدة سريعة التكوين. و هو قوله: «كن» عند إرادة إيجاد شي ء بلا تأخير. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ في اليسر و السرعة. و المعنى:

إذا أراد تكوين شي ء لم يلبث كونه إلّا فعلة واحدة. و هو الإيجاد بلا معالجة

ص: 536

و معاناة. و قيل: معناه معنى قوله: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ (1).

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر ممّن قبلكم. و سمّاهم أشياعهم لما وافقوهم في الكفر و تكذيب الأنبياء. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متّعظ.

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ مكتوب في كتب الحفظة و دواوينهم.

وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ من الأعمال و الأرزاق و الآجال و الموت و الحياة و غيرها ممّا هو كائن مُسْتَطَرٌ مسطور في اللوح.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ أنهار الجنّة، من الماء و الخمر و اللبن و العسل.

و اكتفى باسم الجنس. و قيل: هو السعة و الضياء، من النهار.

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضيّ. و سمّي صدقا، لأنّ اللّه صدق وعد أوليائه فيه. عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ مقرّبين عند من تعالى أمره في الملك و الاقتدار، فلا شي ء إلّا و هو تحت ملكه و قدرته. فأيّ منزلة أكرم من تلك المنزلة، و أجمع للغبطة كلّها و السعادة بأسرها؟ و ليس المراد قرب المكان، لتعاليه سبحانه عن ذلك، بل المراد أنّهم في كنفه و جوار رحمته و كفايته، حيث تنالهم غواشي رحمته و فضله.

ص: 537


1- النحل: 77.

ص: 538

[55] سورة الرّحمن

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و سبعون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الرحمن رحم اللّه ضعفه، و أدّى شكر ما أنعم اللّه عليه».

و روي عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لكلّ شي ء عروس، و عروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تدعوا قراءة الرحمن و القيام بها، فإنّها لا تقرّ في قلوب المنافقين. و تأتي ربّها يوم القيامة في صورة آدميّ في أحسن صورة و أطيب ريح، حتّى تقف من اللّه موقفا لا يكون أحد أقرب إلى اللّه منها.

فيقول لها: من الّذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا و يدمن قراءتك؟ فتقول: يا ربّ فلان و فلان. فتبيضّ وجوههم. فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم. فيشفعون حتّى لا يبقى لهم غاية و لا أحد يشفعون له. فيقول لهم: ادخلوا الجنّة و اسكنوا فيها حيث شئتم».

حمّاد بن عثمان قال: «قال الصادق عليه السّلام: يجب أن يقرأ الرجل سورة الرحمن يوم الجمعة، فكلّما قرأ «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» قال: لا بشي ء من آلائك يا ربّ أكذّب».

و عنه عليه السّلام قال: «و من قرأ سورة الرحمن ليلا، يقول عند كلّ «فَبِأَيِّ آلاءِ

ص: 539

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»: لا بشي ء من آلائك يا ربّ أكذّب، و كلّ اللّه به ملكا إن قرأها في أوّل الليل يحفظه حتّى يصبح، و إن قرأها حين يصبح و كّل اللّه به ملكا يحفظه حتّى يمسي».

[سورة الرحمن [55]: الآيات 1 الى 13]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ [1] عَلَّمَ الْقُرْآنَ [2] خَلَقَ الْإِنْسانَ [3] عَلَّمَهُ الْبَيانَ [4]

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [5] وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ [6] وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ [7] أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ [8] وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [9]

وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ [10] فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ [11] وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ [12] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [13]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة القمر باسمه، افتتح هذه السورة أيضا باسمه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ لمّا كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيويّة و الأخرويّة، صدّرها بالرحمن. ثمّ أراد أن يقدّم أوّل شي ء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه و أصناف نعمائه، و هي نعمة الدين، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها و أقصى رواتبها، و هو إنعامه بالقرآن و تنزيله و تعليمه، لأنّه أعظم وحي اللّه رتبة، و أعلاه منزلة، و أحسنه في أبواب الدين

ص: 540

أثرا، و أعزّ الكتب السماويّة حكما، إذ هو بإعجازه و اشتماله على خلاصتها مصدّق لنفسه و مصداق لها.

ثمّ أتبعه قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ إيماء بأنّ الغرض من خلق البشر، و ما يميّز به عن سائر الحيوان من البيان، و هو المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير، هو معرفة اللّه سبحانه، و العلم بالشرعيّات، و العمل بمقتضاها، و إفهام الغير بها، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلّ، كثّرك بعد قلّة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟

و عن ابن عبّاس: المراد بالإنسان آدم. و تعليم البيان تعليم أسماء كلّ شي ء و اللغات كلّها.

و عن ابن كيسان: الإنسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، علّمه القرآن و البيان.

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما و منازلهما، و تتّسق بذلك أمور الكائنات السفليّة، و تختلف الفصول و الأوقات، و يعلم السنون و الحساب، و غير ذلك من المنافع العظيمة للناس، من الضياء و النور، و معرفة الليل و النهار، و نضج الثمار، و نظائرها. و لكثرة منافعهما خصّهما بالذكر.

وَ النَّجْمُ و النبات الّذي ينجم، أي: يطلع من الأرض و لا ساق له، كالبقول وَ الشَّجَرُ و الّذي له ساق يَسْجُدانِ ينقادان للّه فيما خلقا له طبعا، انقياد الساجد من المكلّفين طوعا.

و كان حقّ النظم في الجملتين أن يقال: و أجرى الشمس و القمر، و أسجد النجم و الشجر، أو الشمس و القمر بحسبانه، و النجم و الشجر يسجدان له، ليطابقا ما قبلهما و ما بعدهما في اتّصالهما بالرحمن، لكنّهما جرّدتا عمّا يدلّ على الاتّصال إشعارا بأنّ وضوحه يغنيه عن البيان.

و إدخال العاطف بينهما للتناسب بينهما، و هو أنّ الشمس و القمر سماويّان،

ص: 541

و النجم و الشجر أرضيّان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل. و أنّ السماء و الأرض لا تزالان تذكران قرينتين. و أنّ جري الشمس و القمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر اللّه، فهو مناسب لسجود النجم و الشجر، لاشتراكهما في الدلالة على أنّ ما يحسّ به من تغيّرات أحوال الأجرام العلويّة و السفليّة بتقديره و تدبيره.

و عن مجاهد: أراد: أنّ نجم السماء- و هو موحّد، و المراد به جميع النجوم- و الشجر يسجدان للّه بكرة و أصيلا، كما قال: وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ (1).

و قيل: سجودهما سجود ظلالهما، كقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ (2). و المعنى: أنّ كلّ جسم له ظلّ فهو يقتضي الخضوع، بما فيه من دليل الحدوث و إثبات المحدث المدبّر.

وَ السَّماءَ رَفَعَها خلقها مرفوعة محلّا و مرتبة، حيث جعلها منشأ أقضيته، و منزل أحكامه، و محلّ ملائكته الّذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. و نبّه بذلك على كبرياء شأنه، و تعالي ملكه، و عظمة سلطانه.

وَ وَضَعَ الْمِيزانَ العدل، و هو الإنصاف و الانتصاف، بأن وفّر على كلّ مستعدّ مستحقّه، و وفّى كلّ ذي حقّ حقّه، حتّى انتظم أمر العالم و استقام، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بالعدل قامت السماوات و الأرض».

أو ما يعرف به مقادير الأشياء، من ميزان و مكيال و مقياس و نحوها. فعلّق به أحكام عباده و قضاياهم و ما تعبّدهم به، من التسوية و التعديل في أخذهم و إعطائهم. كأنّه لمّا وصف السماء بالرفعة من حيث إنّها مصدر القضايا و الأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، ممّا يظهر به التفاوت، و يعرف به المقدار، و يستوي به الحقوق و المواجب.

أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ لئلّا تطغوا فيه، أي: لا تعتدوا، و لا تجاوزوا

ص: 542


1- الحجّ: 18.
2- النحل: 48.

الإنصاف.

وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ و قوّموا وزنكم بالعدل وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ و لا تنقصوه، فإنّ من حقّه أن يسوّى، لأنّه المقصود من وضعه. و تكريره مبالغة في التوصية به، و زيادة حثّ على استعماله.

ثمّ قابل قوله: «وَ السَّماءَ رَفَعَها» بقوله: وَ الْأَرْضَ وَضَعَها خفضها مدحوّة على الماء لِلْأَنامِ للخلق. و هو كلّ ما على ظهر الأرض من دابّة. و عن الحسن:

الجنّ و الإنس. و قيل: الأنام كلّ ذي روح. فهي كالمهاد لهم يتصرّفون فوقها.

فِيها فاكِهَةٌ ضروب ممّا يتفكّه به وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أوعية التمر.

جمع كمّ بكسر الكاف. أو كلّ ما يكمّ- أي: يغطّى- من لف و سعف و كفرّى (1)، أوّل ما يبدأ من التمر، فإنّه ينتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره و جمّاره (2) و جذوعه.

وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ كالحنطة و الشعير و سائر ما يتغذّى به. و العصف ورق النبات اليابس، كالتبن. وَ الرَّيْحانُ يعني: المشموم. أو الرزق، من قولهم:

خرجت أطلب ريحان اللّه، أي: رزق اللّه. أراد: أن فيها ما يتلذّذ به من الفواكه، و الجامع بين التلذّذ و التغذّي و هو ثمر النخل، و ما يتغذّى به و هو الحبّ.

و قرأ ابن عامر: و الحبّ ذا العصف و الريحان، أي: و خلق الحبّ و خلق الريحان، أو و أخصّ الحبّ و الريحان. و يجوز أن يراد: و ذا الريحان، فحذف المضاف.

و قرأ حمزة و الكسائي: و الرّيحان بالخفض، و ما عدا ذلك بالرفع. و هو فيعلان من الروح، فقلبت الواو و أدغم ثمّ حذف. و قيل: روحان، فقلبت واوه ياء للتخفيف.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأنّها كلّها منعم عليكم بها. و الخطاب للثقلين

ص: 543


1- الكفرّى: وعاء طلع النخل.
2- الجمّار: شحم النخلة.

المدلول عليهما بقوله: «للأنام» و بقوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (1). و المعنى: أنّه لا يمكن جحد شي ء من هذه النعم. و وجه تكرار هذه الآية قد مرّ في سورة (2) القمر.

[سورة الرحمن [55]: الآيات 14 الى 18]

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [14] وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [15] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [16] رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [17] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [18]

خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني: آدم، أو جميع البشر، لأنّ أصلهم آدم عليه السّلام مِنْ صَلْصالٍ من طين يابس له صلصلة، أي: صوت إذا ضربت يدك عليه كَالْفَخَّارِ كالخزف و الآجرّ. و قد خلق اللّه آدم من تراب، بأن جعله طينا، ثمّ حمأ مسنونا، ثمّ صلصالا. فلا يخالف قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ (3) حَمَإٍ مَسْنُونٍ (4) مِنْ طِينٍ لازِبٍ (5).

وَ خَلَقَ الْجَانَ أبا الجنّ. و قيل: هو إبليس، أو جنس الجنّ. مِنْ مارِجٍ من لهب صاف من الدخان. و قيل: مختلط أحمر و أسود و أبيض. مِنْ نارٍ بيان ل «مارج» فإنّه في الأصل للمضطرب، من: مرج إذا اضطرب. كأنّه قيل: من صاف من نار.

ص: 544


1- الرحمن: 31.
2- راجع ص 533، ذيل الآية 32.
3- آل عمران: 59.
4- الحجر: 26.
5- الصافّات: 11.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أفاض عليكما في أطوار خلقتكما، حتّى صيّركما أفضل المركّبات و خلاصة الكائنات.

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ مشرقي الشتاء و الصيف و مغربيهما. و قيل:

مشرقي الشمس و القمر و مغربيهما.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا في ذلك من الفوائد الّتي لا تحصى، كاعتدال الهواء، و اختلاف الفصول، و حدوث ما يناسب كلّ فصل فيه، إلى غير ذلك.

[سورة الرحمن [55]: الآيات 19 الى 25]

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [19] بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [20] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [21] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ [22] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [23]

وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [24] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [25]

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسلهما. من: مرجت الدابّة إذا أرسلتها. و المعنى: أرسل البحر الملح و البحر العذب. يَلْتَقِيانِ متلاقيين، لا فصل بين الماءين في مرأى العين.

بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز من قدرة اللّه لا يَبْغِيانِ لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة و إبطال الخاصّيّة. أو لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما. قيل:

إنّهما بحر فارس و بحر الروم.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث خلق البحرين العذب و المالح يلتقيان بحيث لا يختلطان.

يَخْرُجُ و قرأ نافع و أبو عمرو و يعقوب: يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ

ص: 545

كبار الدرّ و صغاره. و قيل: المرجان الخرز الأحمر، و هو البسّذ (1). و إن صحّ أنّ الدرّ يخرج من الملح، فإنّما قال: «منهما» لأنّه لمّا التقيا و صارا كالشي ء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، و لا يخرجان من جميع البحر، و لكن من بعضه. و تقول: خرجت من البلد. و إنّما خرجت من محلّة من محالّه، بل من دار واحدة من دوره.

و قيل: لا يخرجان إلّا من ملتقى الملح و العذب. فيكون العذب كاللقاح للملح، و لا يخرج اللؤلؤ إلّا من الموضع الّذي يلتقي فيه الملح و العذب، و ذلك معروف عند الغوّاصين.

و مثله قوله: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً (2) و إنّما هو في واحدة منهنّ. و قوله:

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ (3). و الرسل من الإنس دون الجنّ.

و عن ابن عبّاس: يخرج من ماء السماء و ماء البحر، فإنّ القطر إذا جاء من السماء تفتّحت الأصداف، فكان من ذلك القطر اللؤلؤ.

و روي عن سلمان الفارسي و سعيد بن جبير و سفيان الثوري: أنّ «البحرين» عليّ و فاطمة. «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ» محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» الحسن و الحسين عليهما السّلام.

و لا غرو أن يكونا عليهما السّلام بحرين، لسعة فضلهما، و كثرة خيرهما، فإنّ البحر إنّما يسمّى بحرا لسعته، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفرس ركبه و أجراه فأحمده: «وجدته بحرا» أي: كثير المعاني الحميدة.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أعطاكم من ألبسة الجواهر الحسنة

ص: 546


1- البسّذ كسكّر: المرجان. معرّب. الصحاح 1: 351.
2- نوح: 16.
3- الأنعام: 130.

لتتزيّنوا بها.

وَ لَهُ الْجَوارِ السفن الجارية في الماء بأمر اللّه الْمُنْشَآتُ المرفوعات الشرع، أو المصنوعات. و قرأ حمزة و أبو بكر بكسر الشين، أي: الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ، أو ينشئن السير. فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال.

جمع علم، و هو الجبل الطويل.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق موادّ السفن، و الإرشاد إلى أخذها، و كيفيّة تركيبها و إجرائها في البحر، بأسباب لا يقدر على خلقها و جمعها غيره.

[سورة الرحمن [55]: الآيات 26 الى 30]

كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [26] وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ [27] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [28] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [29] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [30]

كُلُّ مَنْ عَلَيْها على الأرض من الحيوانات أو المركّبات. و «من» للتغليب.

و لم يذكر مرجع الضمير لكونه معلوما، كقولهم: ما بين لابتيها، أي: لابتي المدينة.

فانٍ يفنون و يخرجون من الوجود. و التوحيد باعتبار لفظة «كلّ».

وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذاته. و الوجه يعبّر به عن الجملة و الذات، باعتبار أنّ ذات الشي ء يعرف بوجهه. و مساكين مكّة يقولون: أين وجه عربيّ كريم ينقذني من الهوان؟ ذُو الْجَلالِ ذو العظمة و الكبرياء بحيث لا يحيط بكنهه ما سواه. أو ذو الاستغناء المطلق. أو الّذي يجلّه الموحّدون عن التشبيه بخلقه، و عن أفعالهم. أو الّذي يقال له: ما أجّلك. وَ الْإِكْرامِ ذو الفضل العامّ. أو الّذي يقال له: ما أكرمك.

و قيل: معنى جلاله و إكرامه: من عنده الجلال و الإكرام للمخلصين من أنبيائه

ص: 547

و أوليائه بألطافه و إفضاله، مع كمال جلاله و عظمته. و هذه الصفة من أعظم صفات اللّه. و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ألظّوا- يعني: الزموا- ب «يا ذا الجلال و الإكرام».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أنّه مرّ برجل و هو يصلّي و يقول: يا ذا الجلال و الإكرام. فقال: قد استجيب لك».

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: من بقاء الربّ، و إبقاء ما لا يحصى ممّا هو على صدد الفناء رحمة و فضلا. أو ممّا يترتّب على فناء الكلّ، من الإعادة و الحياة الدائمة و النعيم المقيم.

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّهم مفتقرون إليه في ذواتهم و صفاتهم و سائر ما يهمّهم و يعنّ لهم. فيسأله أهل السماوات ما يتعلّق بدينهم، و أهل الأرض ما يتعلّق بدينهم و دنياهم. و المراد بالسؤال ما يدلّ على الحاجة إلى تحصيل الشي ء، نطقا كان أو غيره. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ كلّ وقت و حين يحدث أشخاصا و يجدّد أحوالا، على ما سبق به قضاؤه، كما

روي عن أبي الدرداء: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلاها، فقيل له: و ما ذلك الشأن؟ فقال: من شأنه أن يغفر ذنبا، و يفرّج كربا، و يرفع قوما، و يضع آخرين».

و عن ابن عبّاس قال: إنّ ممّا خلق اللّه تعالى لوحا من درّة بيضاء، دواته ياقوتة حمراء، قلمه نور، و كتابه نور، ينظر اللّه فيه كلّ يوم ثلاثمائة و ستّين نظرة، يخلق و يرزق، و يحيي و يميت، و يعزّ و يذلّ، و يفعل ما يشاء، فذلك قوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ».

و قيل: شأنه جلّ ذكره أن يخرج في كلّ يوم و ليلة ثلاثة عساكر: عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام، و عسكرا من الأرحام إلى الدنيا، و عسكرا من الدنيا إلى القبر، ثمّ يرتحلون جميعا إلى اللّه.

و قيل: شأنه إيصال المنافع إليك، و دفع المضارّ عنك، فلا تغفل عن طاعة من

ص: 548

لا يغفل عن برّك.

و عن ابن عيينة: الدهر عند اللّه يومان، أحدهما: اليوم الّذي هو مدّة عمر الدنيا، فشأنه فيه الأمر و النهي، و الإماتة و الإحياء، و الإعطاء و المنع. و الآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء و الحساب.

و عن مقاتل: نزل في ردّ اليهود حين قالوا: إنّ اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا.

و سأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية، فاستمهله إلى الغد، و ذهب كئيبا يفكّر فيها. فقال غلام له أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك، لعلّ اللّه يسهّل لك على يدي. فأخبره، فقال له: أنا أفسّرها للملك فأعلمه.

فقال: أيّها الملك شأن اللّه أن يولج الليل في النهار، و يولج النهار في الليل، و يخرج الحيّ من الميّت، و يخرج الميّت من الحيّ، و يشفي سقيما، و يسقم سليما، و يبتلي معافى، و يعافي مبتلى، و يعزّ ذليلا، و يذلّ عزيزا، و يفقر غنيّا، و يغني فقيرا.

فقال الأمير: أحسنت. و أمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة.

فقال: يا مولاي هذا من شأن اللّه.

و عن عبد اللّه بن طاهر: أنّه دعا الحسين بن الفضل فقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي. قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (1). و قد صحّ أنّ الندم توبة. و قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (2). و صحّ أنّ القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة. و قوله: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (3). فما بال الأضعاف؟

فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمّة، و يكون توبة في

ص: 549


1- المائدة: 31.
2- الرحمن: 29.
3- النجم: 39.

هذه الأمّة، لأنّ اللّه تعالى خصّ هذه الأمّة بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم. أو ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، و لكن على حمله. و أمّا قوله: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فمعناه: ليس له إلّا ما سعى عدلا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. و أمّا قوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» فإنّها شؤون يبديها، لا شؤون يبتدئها.

فقام عبد اللّه و قبّل رأسه، و سوّغ خراجه.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا يسعف به سؤلكما، و ما يخرج لكما من مكمن العدم حينا فحينا.

[سورة الرحمن [55]: الآيات 31 الى 36]

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [31] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [32] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ [33] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [34] يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ [35]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [36]

و لمّا ذكر سبحانه الفناء و الإعادة، عقّب ذلك بذكر الوعيد و التهديد، فقال:

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ سنتجرّد لحسابكم و جزائكم. و ذلك يوم القيامة، فإنّها تعالى لا يفعل فيه غيره.

و تنقيح المعنى: ستنتهي الدنيا و تبلغ آخرها، و تنتهي عند ذلك شؤون الخلق الّتي أرادها بقوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»، فلا يبقى إلّا شأن واحد، و هو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل.

ص: 550

و قيل: تهديد مستعار من قولك لمن تهدّده: سأفرغ لك. تريد: سأتجرّد للإيقاع بك من كلّ ما يشغلني عنك حتّى لا يكون لي شغل سواه. و المراد: التوفّر على النكاية فيه و الانتقام منه، فإنّ المتجرّد للشي ء كان أقوى عليه و أجدّ فيه.

و قرأ حمزة و الكسائي بالياء. و الثقلان: الإنس و الجنّ. سمّيا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما و قدرهما، أو لأنّهما مثقلان بالتكليف.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من جملتها إعلامكم الحساب و الجزاء، لتتهيّئوا في أعمال الخير، و تجتنبوا عن أفعال الشرّ.

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ كالترجمة لقوله: «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات و الأرض هاربين من الموت، أو فارّين من قضائه و قدره. يقال: نفذ الشي ء من الشي ء إذا خلص منه، كالسهم ينفذ من الرمية. فَانْفُذُوا فاخرجوا. ثمّ قال: لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ إلّا بقوّة و قهر و غلبة، و أنّى لكم ذلك؟ فإنّكم حيث توجّهتم فثمّ ملكي و سلطاني.

بيّن سبحانه بذلك أنّهم في حبسه، و أنّه مقتدر عليهم لا يفوتونه. و جعل ذلك دلالة على توحيده و قدرته، و زجرا لهم عن معصيته و مخالفته. و نحوه: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (1).

روي: أنّ الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق، فإذا رآهم الجنّ و الإنس هربوا، فلا يأتون وجها إلّا وجدوا الملائكة أحاطت به.

و قيل: المعنى: إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السماوات و الأرض فانفذوا لتعلموا، لكن لا تنفذون و لا تعلمون إلّا ببيّنة نصبها اللّه، فتعرجون عليها بأفكاركم.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: من التنبيه و التحذير، و المساهلة و العفو مع

ص: 551


1- العنكبوت: 22.

كمال القدرة، لترغبوا بالطاعة، و تجتنبوا عن المعصية. أو ممّا نصب من المصاعد العقليّة و المعارج النقليّة، فتنفذون بها إلى فوق السماوات العلى.

يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ لهب أخضر منقطع مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ و دخان. أو صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم. و عن ابن عبّاس: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر.

و قرأ ابن كثير: شواظ بكسر الشين. و هو لغة. و نحاس بالجرّ، عطفا على «نار». و وافقه أبو عمرو و يعقوب في رواية.

فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تقدران على دفع ذلك عنكما و عن غيركما. و جاء في الحديث: «يحاط على الخلق بالملائكة بلسان من نار، ثمّ ينادون: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ» إلى قوله: «شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ».

و روى مسعدة بن صدقة عن كليب قال: «كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فأنشأ يحدّثنا، فقال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه العباد في صعيد واحد، و ذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ و الإنس و الملائكة، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات، فيصير الجنّ و الإنس في سبع سرادقات من سبعة أطواق من الملائكة، فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة، ثمّ ينادي مناد: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ» إلى قوله: «فَلا تَنْتَصِرانِ».

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإنّ التهديد لطف. و التمييز بين المطيع و العاصي بالجزاء و الانتقام من الكفّار في عداد الآلاء.

[سورة الرحمن [55]: الآيات 37 الى 45]

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [37] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [38] فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [39] فَبِأَيِّ آلاءِ

ص: 552

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [40] يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ [41]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [42] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [43] يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [44] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [45]

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ يعني: يوم القيامة تصدّعت السماء، و انفكّ بعضها من بعض فَكانَتْ وَرْدَةً فصارت وردة في الاحمرار. و هي جمع الورد. كَالدِّهانِ أي: مذابة كالدهن. و هو اسم لما يدهن به، كالحزام. أو جمع دهن. و قيل: هو الأديم (1) الأحمر.

و قال الفرّاء: شبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة (2) من الخيل، و شبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن و اختلاف ألوانه.

و قيل: هو دهن الزيت، كما قال: كَالْمُهْلِ (3). و هو: درديّ (4) الزيت.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وجه النعمة في انشقاق السماء و احمرارها و ذوبانها، فإنّ في الإخبار به زجرا و تخويفا في دار الدنيا يوجب الانقياد لأوامر اللّه، فيكون فيه لطف.

فَيَوْمَئِذٍ أي: فيوم تنشقّ السماء لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ بعض من

ص: 553


1- أي: الجلد.
2- الورد من الخيل: ما كان أحمر اللون إلى صفرة. و الوردة: لون الورد.
3- المعارج: 8.
4- الدرديّ من الزيت: الكدر الراسب في أسفله.

الإنس وَ لا جَانٌ أريد به: و لا جنّ، أي: و لا بعض من الجنّ، فوضع الجانّ الّذي هو أبو الجنّ موضع الجنّ، كما يقال: هاشم و يراد به ولده.

و المعنى: لا يسأل عصاة الإنس و الجنّ، لأنّهم يعرفون بسيماهم، و ذلك حينما يخرجون من قبورهم و يحشرون إلى الموقف ذودا ذودا (1) على اختلاف مراتبهم.

و أمّا قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ (2) وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (3) فحين يحاسبون في المجمع. قال قتادة: قد كانت مسألة ثمّ ختم على أفواه القوم، و تكلّمت أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون.

و قيل: معناه: لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته، و لكن يسأل سؤال توبيخ.

و روي عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «فيومئذ لا يسأل منكم عن ذنبه إنس و لا جان».

و المعنى: أنّ من اعتقد الحقّ ثمّ أذنب و لم يتب في الدنيا عذّب عليه في البرزخ، ثمّ يخرج يوم القيامة و ليس له ذنب يسأل عنه.

و الضمير للإنس باعتبار اللفظ، فإنّه و إن تأخّر لفظا تقدّم رتبة. و توحيد ضمير الإنس لكونه في معنى البعض.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: ممّا أنعم اللّه على عباده المؤمنين في هذا اليوم.

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ بعلامتهم من سواد الوجه و زرقة العيون، و من الكآبة و الحزن فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ مجموعا بينهما، أي: فتأخذهم

ص: 554


1- ذاده ذودا: دفعه و طرده.
2- الحجر: 92.
3- الصافّات: 24.

الزبانية فتجمع بين نواصيهم و أقدامهم بالغلّ، ثمّ يسحبون و يقذفون في النار.

و عن الضحّاك: يجمع بين ناصيته و قدمه في سلسلة من وراء ظهره.

و قيل: تسحبهم الملائكة، تارة تأخذ بالنواصي، و تارة بالأقدام.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أعلمكم من تعذيب العاصين، لتجتنبوا المعصية و ترغبوا في الطاعة.

هذِهِ جَهَنَّمُ أي: يقال لهم: هذه جهنّم الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ الكافرون يَطُوفُونَ بَيْنَها بين النار يحرقون بها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ ماء حارّ آنٍ بلغ النهاية في الحرارة. يصبّ عليهم، أو يسقون منه.

و قيل: إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم.

و قيل: إنّ واديا من أودية جهنّم يجتمع فيه صديد أهل النار، فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتّى تنخلع أوصالهم، ثمّ يخرجون منه و قد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا، و ذلك قوله: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ (1). الآية.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و لا شبهة أنّ التذكير بفعل العقاب و الإنذار به من أكبر النعم، لما فيه من الزجر عمّا يستحقّ به العقاب، و البعث و الحثّ على فعل ما يستحقّ به الثواب، و هذا نهاية اللطف.

[سورة الرحمن [55]: الآيات 46 الى 61]

وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [46] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [47] ذَواتا أَفْنانٍ [48] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [49] فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ [50]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [51] فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ

ص: 555


1- النساء: 56.

زَوْجانِ [52] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [53] مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [54] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [55]

فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [56] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [57] كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ [58] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [59] هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ [60]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [61]

وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ موقفه الّذي يقف فيه العباد للحساب. أو مقام الخائف عند ربّه للحساب، كقوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (1). أو قيامه على أحواله، من: قام عليه إذا راقبه. و على التقادير؛ أضاف المقام إلى الربّ تفخيما و تهويلا. أو المراد: خاف ربّه، و «مقام» مقحم. جَنَّتانِ جنّة للخائف الإنسي، و جنّة للخائف الجنّي، فإنّ الخطاب للفريقين.

و المعنى: لكلّ خائفين منكما أو لكلّ واحد جنّة لعقيدته، و اخرى لعمله. أو جنّة لفعل الطاعات، و اخرى لترك المعاصي، لأنّ التكليف دائر عليهما. أو جنّة يثاب بها، و اخرى يتفضّل بها عليه، كقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ (2). أو جنّة داخل القصر، و الاخرى خارج القصر، كما يشتهي الإنسان في الدنيا. و قيل:

ص: 556


1- المطفّفين: 6.
2- يونس: 26.

إحدى الجنّتين منزله، و الاخرى منزل أزواجه و خدمه. و قيل: جنّة من ذهب، و جنّة من فضّة. أو روحانيّة و جسمانيّة. و كذا ما جاء مثنى بعد.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أعطاكم من نعم الجنّة.

ثمّ وصف الجنّتين بقوله: ذَواتا أَفْنانٍ أنواع من الأشجار و الثمار، جمع فنّ. أو أغصان، جمع فنن، و هي الغصنة الّتي تتشعّب من فروع الشجر. و تخصيصها بالذكر لأنّها الّتي تورق و تثمر، و منها يمتدّ الظلّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ حيث شاؤا في الأعالي و الأسافل. و قيل: تجريان من جبل من مسك. و عن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، و الاخرى: السلسبيل. و قيل: إحداهما من ماء غير آسن، و الاخرى من خمر لذّة للشاربين. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان: غريب و معروف، أو رطب و يابس.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

مُتَّكِئِينَ نصبه على المدح للخائفين، أو حال منهم، لأنّ «من خاف» في معنى الجمع، أي: قاعدين اتّكاء كالملوك عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين. و إذا كانت البطائن كذلك فما ظنّك بالظهائر؟! و قيل: ظهائرها من سندس. و قيل: من نور. و قيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟

قال: هذا ممّا قال اللّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (1).

وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قريب يناله القائم و القاعد، و المضطجع و المستلقي.

و «جنى» اسم بمعنى: مجنيّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِنَ في الجنان، فإنّ الجنّتين تدلّ على الجنان. و هي للخائفين.

أو في الأماكن و القصور. أو في هذه الآلاء المعدودة، من الجنّتين و العينين

ص: 557


1- السجدة: 17.

و الفاكهة و الفرش. قاصِراتُ الطَّرْفِ نساء حور عين قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غيرهم. و قال أبو ذرّ: إنّها تقول لزوجها: و عزّة ربّي ما أرى في الجنّة شيئا أحسن منك، فالحمد للّه الّذي جعلني زوجتك، و جعلك زوجي. لَمْ يَطْمِثْهُنَ لم يفتضّهنّ. و الافتضاض النكاح بالتدمية. إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ أي: لم يمسّ الإنسيّات إنس، و لا الجنّيّات جنّ، فهنّ خلقن أبكارا في الجنّة.

و قيل: هنّ من نساء الدنيا لم يمسسهنّ منذ أنشئن خلق، أي: لم يجامعهنّ في هذا الخلق الّذي أنشئن فيه إنس و لا جانّ.

و فيه دليل على أنّ الجنّ يطمثون كما يطمث الإنس. و قرأ الكسائي بضمّ الميم. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ أي: في حمرة الوجنة و بياض البشرة و صفائهما. و المرجان: صغار الدرّ، و هو أنصع بياضا. و في الحديث: «إنّ الحوراء تلبس سبعين حلّة، فيرى مخّ ساقها من ورائها، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء».

و عن ابن مسعود: كما يرى السلك من وراء الياقوت. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل إِلَّا الْإِحْسانُ في الثواب، أي: ليس جزاء من أحسن في الدنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة.

و عن ابن عبّاس: هل جزاء من قال: لا إله إلّا اللّه، و عمل بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلّا الجنّة؟

و قيل: معناه: هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم إلّا أن تحسنوا في شكره و عبادته؟

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

ص: 558

[سورة الرحمن [55]: الآيات 62 الى 78]

وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [62] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [63] مُدْهامَّتانِ [64] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [65] فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ [66]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [67] فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ [68] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [69] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [70] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [71]

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ [72] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [73] لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [74] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [75] مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ [76]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [77] تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ [78]

وَ مِنْ دُونِهِما و من دون تينك الجنّتين الموعودتين للخائفين المقرّبين جَنَّتانِ لمن دونهم من أصحاب اليمين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

مُدْهامَّتانِ خضراوان تضربان إلى السواد من شدّة الخضرة. و فيه إشعار بأنّ الغالب على هاتين الجنّتين النبات و الرياحين المنبسطة على وجه الأرض، و على الأوليين الأشجار و الفواكه، دلالة على ما بينهما من التفاوت.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا تقولنّ: الجنّة واحدة، إنّ اللّه تعالى يقول: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ و لا تقولنّ: درجة واحدة، إنّ اللّه يقول: وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ

ص: 559

بَعْضٍ دَرَجاتٍ (1). إنّما تفاضل القوم بالأعمال».

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوّارتان بالماء، ثمّ تجريان. قال ابن عبّاس:

تنضخ على أولياء اللّه بالمسك و العنبر و الكافور. و قيل: تنضخان بأنواع الخيرات.

و النضخ أكثر من النضخ غير المعجمة، لأنّ النضخ غير المعجمة مثل الرشّ. و هو أيضا أقلّ ممّا وصف به الأوليين. و كذا ما بعده. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما فاكِهَةٌ ألوان الفاكهة وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما. كأنّهما لما لهما من المزيّة جنسان آخران، كقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ (2).

و قيل: لأنّ ثمرة النخل فاكهة و غذاء، و ثمرة الرمّان فاكهة و دواء، فلم يخلصا للتفكّه.

قال الأزهري: «ما علمت أحدا من العرب قال في النخيل و الكروم و ثمارها إنّها ليست من الفاكهة. و إنّما قال ذلك من قال لقلّة علمه بكلام العرب. و العرب تذكر الأشياء جملة، ثمّ تخصّ منها شيئا بالتسمية، تنبيها على فضل فيه» (3).

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِنَّ خَيْراتٌ أي: خيّرات، فخفّفت، لأنّ خيرا الّذي بمعنى الأخير لا يجمع، فلا يقال فيه: خيرون و لا خيرات. و المعنى: فاضلات الأخلاق حِسانٌ حسان الخلق. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

حُورٌ بيض حسان البياض. يقال: العين الحوراء إذا كانت شديدة بياض

ص: 560


1- الزخرف: 32.
2- البقرة: 98.
3- تهذيب اللغة 6: 25.

البياض، شديدة سواد السواد، و بذلك يتمّ حسن العين. مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ قصرن في خدورهنّ. يقال: امرأة قصيرة و قصورة و مقصورة، أي: مخدّرة. أو مقصورات الطرف على أزواجهنّ. قيل: إنّ كلّ خيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة.

و عن ابن عبّاس قال: الخيمة درّة مجوّفة فرسخ في فرسخ، فيها أربعة آلاف مصراعه من ذهب.

و عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «مررت ليلة أسري بي بنهر حافّتاه قباب المرجان، فنوديت منه: السلام عليك يا رسول اللّه. فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟

قال: هؤلاء جوار من الحور العين، استأذنّ ربّهنّ عز و جلّ أن يسلّمن عليك، فأذن لهنّ.

فقلن: نحن الخالدات فلا نموت، و نحن الناعمات فلا نيأس، أزواج رجال كرام. ثمّ قرأ: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ».

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخيمة درّة واحدة طولها في السماء ستّون ميلا، في كلّ زاوية منها أهل للمؤمن لا يراه الآخرون».

و روي: أنّ نساء أهل الجنّة يأخذ بعضهنّ بأيدي بعضهنّ، و يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها: نحن الراضيات فلا نسخط، و نحن المقيمات فلا نظعن، و نحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام. و إذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصلّيات و ما صلّيتنّ، و نحن الصائمات و ما صمتنّ، و نحن المتوضّئات و ما توضّأتنّ، و نحن المتصدّقات و ما تصدّقتنّ. فغلبتهنّ و اللّه.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ كحور الأوليين. و هم أصحاب الجنّتين، فإنّهما يدلّان عليهم. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

مُتَّكِئِينَ نصب على الاختصاص عَلى رَفْرَفٍ فرش مرتفعة، أو

ص: 561

وسائد، أو نمارق. جمع رفرفة. و قيل: الرفرف ضرب من البسط، أو ذيل الخيمة.

و قد يقال لكلّ ثوب عريض. خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ العبقريّ منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنّه اسم بلد للجنّ، فينسبون إليه كلّ شي ء عجيب. و قيل: هو ثوب الديباج. و قيل: كلّ ثوب موشى (1). و المراد به الجنس، و لذلك جمع حسان حملا على المعنى. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تعالى اسمه من حيث إنّه مطلق على ذاته، فما ظنّك بذاته؟ و قيل: الاسم بمعنى الصفة، أو مقحم. ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ و قرأ ابن عامر بالرفع صفة للاسم.

ص: 562


1- وشى الثوب و وشّاه: حسّنه بالألوان و نمنمه و نقشه.

(56) سورة الواقعة

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ و تسعون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الواقعة كتب: ليس من الغافلين».

و عن مسروق قال: من أراد أن يعلم نبأ الأوّلين و الآخرين، و نبأ أهل الجنّة، و نبأ أهل النار، و نبأ الدنيا، و نبأ الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة.

و روي: أنّ عثمان بن عفّان دخل على عبد اللّه بن مسعود يعوده في مرضه الّذي مات فيه، فقال له: ما تشتكي؟

قال: ذنوبي.

قال: ما تشتهي؟

قال: رحمة ربّي.

قال: أ فلا ندعو الطبيب؟

قال: الطبيب أمرضني.

قال: أ فلا نأمر بعطائك؟

قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه، و تعطينيه و أنا مستغن عنه.

قال: يكون لبناتك.

قال: لا حاجة لهنّ فيه، فقد أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كلّ يوم و ليلة لم تصبه فاقة أبدا».

ص: 563

و روى العيّاشي بالإسناد عن زيد الشحّام، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الواقعة قبل أن ينام لقي اللّه و وجهه كالقمر ليلة البدر».

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ في كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه اللّه، و حبّبه إلى الناس أجمعين، و لم ير في الدنيا بؤسا أبدا، و لا فقرا و لا آفة من آفات الدنيا، و كان من رفقاء أمير المؤمنين».

[سورة الواقعة [56]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [1] لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [2] خافِضَةٌ رافِعَةٌ [3] إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [4]

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [5] فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [6]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الرحمن بصفة الجنّة، افتتح سورة الواقعة أيضا بصفة القيامة و الجنّة، فاتّصلت إحداهما بالأخرى اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: إذا حدثت القيامة، كقولك: إذا حدثت الحادثة، و كانت الكائنة. و سمّاها واقعة لتحقّق وقوعها، فكأنّه قيل: إذا وقعت الساعة الّتي لا بدّ من وقوعها. و فيه حثّ على الاستعداد لها.

و انتصاب «إذا» بمحذوف، مثل: اذكر، أو كان كيت و كيت. أو بقوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي: لا تكون حين وقوع الواقعة نفس تكذب على اللّه، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن، لأنّ كلّ نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، و أكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، كقولك: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (1). و قوله:

ص: 564


1- غافر: 84.

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (1). و قوله: وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً (2). و اللام مثلها في قوله: قَدَّمْتُ لِحَياتِي (3) أي:

ليس لأجل وقعتها نفس تكذّبها، فإنّ من أخبر عنها صدق.

أو ليس لها حينئذ نفس تحدّث صاحبها بإطاقة شدّتها و احتمالها، و تغريه عليها. من قولهم: كذّبت فلانا نفسه في الخطب العظيم، إذا شجّعته على مباشرته و قالت له: إنّك تطيقه و ما فوقه، فتعرّض له و لا تبال به. على معنى: أنّها وقعة لا تطاق شدّة و فظاعة، و أن لا نفس حينئذ تحدّث صاحبها بما تحدّثه به عند عظائم الأمور، و تزيّن له احتمالها و إطاقتها، لأنّهم يومئذ أضعف من ذلك و أذلّ. ألا ترى إلى قوله: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)، و الفراش مثل في الضعف.

و قيل: كاذبة مصدر- كالعاقبة- بمعنى التكذيب.

خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي: هي تخفض قوما، و ترفع قوما آخرين. و هو تقرير لعظمتها، و وصف لها بالشدّة، فإنّ الوقائع العظام يرتفع فيها ناس و يتّضع ناس. أو بيان لما يكون حينئذ من خفض أعداء اللّه إلى الدركات، و رفع أوليائه إلى الدرجات. و المعنى: أنّها تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، و تجعلهم أذلّة بإدخالهم النار، و ترفع رجالا كانوا في الدنيا أذلّة، و تجعلهم أعزّة بإدخالهم الجنّة.

أو إزالة الأجرام عن مقارّها، بنثر الكواكب و تسيير الجبال في الجوّ.

إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا حرّكت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء و جبل. و الظرف متعلّق ب «خافضة» أي: تخفض و ترفع وقت رجّ الأرض و بسّ الجبال، لأنّ عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع و يرتفع ما هو منخفض. أو

ص: 565


1- الشعراء: 201.
2- الحجّ: 55.
3- الفجر: 24.
4- القارعة: 4.

بدل من «إذا وقعت».

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا و فتّت (1) حتّى صارت كالسويق الملتوت. من: بسّ السويق إذا لتّه. أو سيقت و سيّرت. من: بسّ الغنم إذا ساقها، كقوله: وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ (2). فَكانَتْ هَباءً غبارا مُنْبَثًّا منتشرا.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 7 الى 26]

وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [7] فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [8] وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [9] وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [10] أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [11]

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [12] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [13] وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [14] عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ [15] مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ [16]

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [17] بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [18] لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ [19] وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ [20] وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [21]

وَ حُورٌ عِينٌ [22] كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [23] جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [24] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً [25] إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً [26]

ص: 566


1- فتّ الشي ء: كسره بالأصابع كسرا صغيرة.
2- النبأ: 20.

ثمّ وصف سبحانه أحوال الناس، بأن قال: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً أصنافا ثَلاثَةً فإنّه يقال للأصناف الّتي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض: أزواج.

ثمّ فسّرها بقوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فأصحاب المنزلة السنيّة. من قولك:

فلان منّي باليمين، إذا وصفته بالرفعة عندك، لتيمّنهم بالميامن، و تفأّلهم بالسانح (1)، و لذلك اشتقّوا لليمين الاسم من اليمن. أو الّذين يعطون صحائفهم بأيمانهم. أو الّذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنّة. أو اصحاب اليمن و البركة، فإنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي: أيّ شي ء هم. و في إقامة الظاهر مقام الضمير تفخيم لشأنهم العظيم، و تعجيب لرسولهم من حالهم الفخيمة في الجنّة، كما يقال: هم ما هم.

وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ و أصحاب المنزلة الدنيّة. من قولهم: فلان منّي بالشمال، إذا وصفوه بالضعة عندهم، لتشاؤمهم بالشمائل، و تطيّرهم بالبارح (2).

و لذلك سمّوا الشمائل: لشؤمى. أو الّذين يعطون صحائفهم بشمائلهم. أو الّذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. أو أصحاب الشؤم، لأنّ الأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أيّ شي ء هم. تفخيم لخطبهم في العقوبات الشديدة، و تعجيب لرسوله من حالهم الوضيعة.

وَ السَّابِقُونَ و الّذين سبقوا إلى ما دعاهم اللّه إليه من الإيمان و الطاعة بعد ظهور الحقّ، و شقّوا الغبار في طلب مرضاته من غير تلعثم و توان. أو سبقوا في حيازة الفضائل و الكمالات. أو الأنبياء، فإنّهم مقدّمو أهل الأديان. السَّابِقُونَ هم الّذين عرفت حالهم و مآلهم، كقول أبي النجم: أنا أبو النجم و شعري شعري.

كأنّه قال: و شعري ما انتهى إليك، و سمعت بفصاحته و براعته.

ص: 567


1- السانح: الّذي يأتي من جانب اليمين، أو ما مرّ من يسارك إلى يمينك من ظبي أو طائر.
2- البارح: الّذي يأتي من جانب اليسار.

أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي: السابقون إلى أنواع الطاعات هم الّذين يقربون إلى رحمة اللّه في أعلى مراتب الجنّة، و إلى جزيل ثواب اللّه في أعظم الكرامة.

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، و سابق في أمّة موسى، و هو مؤمن آل فرعون، و سابق في أمّة عيسى، و هو حبيب النجّار، و السابق في أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام».

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: هم كثير من الأوّلين. يعني: الأمم السابقة من لدن آدم إلى سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني: أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لا يخالف ذلك

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أمّتي يكثرون سائر الأمم».

لجواز أن يكون سابقوا سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمّة، و تابعوا هذه أكثر من تابعيهم. و لا يردّه قوله في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (1)، لأنّ كثرة الفريقين لا تنافي أكثريّة أحدهما.

و قيل: إنّ الأوّلين من متقدّمي هذه الأمّة، و الآخرين من متأخّريها، لما روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الثلّتان جميعا من أمّتي».

و اشتقاقها من الثلّ، و هو القطع و الكسر، كما أنّ الأمّة من الأمّ، و هو الشجّ، كأنّها جماعة كسرت من الناس و قطعت منهم. فكلّ واحد من الفريقين المذكورين في الآية يقطع من الآخر.

عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ خبر آخر للضمير المحذوف. و الموضونة:

المنسوجة بالذهب مشبّكة بالدرّ و الياقوت، قد دوخل بعضها في بعض، كما توضن حلق الدرع. من الوضن، و هو نسج الدرع. قال المفسّرون: منسوجة بقضبان الذهب، مشبّكة بالدرّ و الجواهر. و قيل: متواصلة أدنى بعضها من بعض.

ص: 568


1- الواقعة: 39- 40.

مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ حالان من الضمير في «على سرر». و هو العامل فيها، أي: استقرّوا عليها متّكئين على السرر متقابلين، لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة، و تهذيب الأخلاق و الآداب.

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ مبقون أبدا على شكل الولدان و طراوتهم، لا يتحوّلون عنه. قيل: مقرّطون. من الخلدة، و هي: القرط (1). قيل: هم

أولاد أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، و لا سيّئات فيعاقبوا عليها.

و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

و في الحديث: «أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة».

بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ حال الشرب و غيره. و الكوب: إناء لا عروة و لا خرطوم له. و الإبريق: إناء له ذلك. و عن قتادة: هي القداح الواسعة الرؤوس لا خراطيم لها.

وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ من خمر ظاهر للعيون جار.

لا يُصَدَّعُونَ عَنْها بالخمار (2). و حقيقته: لا يصدر صداعهم عنها. وَ لا يُنْزِفُونَ و لا تنزف عقولهم- أي: لا تذهب- بالسكر. أو لا ينفد شرابهم. و قرأ الكوفيّون بكسر الزّاء.

وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يأخذون خيره و أفضله وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يتمنّون، فإنّ أهل الجنّة إذا اشتهوا لحم الطير خلق اللّه تعالى لهم لحم الطير نضيجا، حتّى لا يحتاج إلى ذبح الطير و إيلامه. و قال ابن عبّاس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثّلا بين يديه على ما اشتهى.

وَ حُورٌ عِينٌ عطف على «ولدان». أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: و فيها، أو و لهم حور. و قرأ حمزة و الكسائي بالجرّ عطفا على «جنّات»، أي: هم في جنّات و فاكهة و لحم و حور. أو على «أكواب» لأنّ معنى «يطوف عليهم ولدان مخلّدون

ص: 569


1- القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.
2- الخمار: صداع الخمر.

بأكواب»: ينعّمون بأكواب. كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المصون عمّا يضرّ به في الصفاء و النقاء.

جَزاءً يجزون جزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً كلاما باطلا وَ لا تَأْثِيماً و لا نسبة إلى الإثم، فلا يقال لهم إِلَّا قِيلًا قولا سَلاماً سَلاماً بدل من «قيلا»، كقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً (1). أو صفته، أو مفعوله، بمعنى: إلّا أن يقولوا سلاما. أو مصدر. و التكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 27 الى 40]

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ [27] فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [28] وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ [29] وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ [30] وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ [31]

وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ [32] لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ [33] وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [34] إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً [35] فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً [36]

عُرُباً أَتْراباً [37] لِأَصْحابِ الْيَمِينِ [38] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [39] وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [40]

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ* فِي سِدْرٍ شجر نبق مَخْضُودٍ منزوع الشوكة، أي: لا شوك له. من: خضد الشوك إذا قطعه، فكأنّه خضد شوكه. أو مثنيّ أغصانه من كثرة حمله. من: خضد الغصن إذا ثناه و هو رطب.

قال الضحّاك: نظر المسلمون إلى وج، و هو واد مخصب بالطائف، فأعجبهم

ص: 570


1- مريم: 62.

سدره، و قالوا: ليت لنا مثل هذا. فنزلت الآية.

وَ طَلْحٍ و شجر موز، أو أمّ غيلان، و له أنوار كثيرة طيّبة الرائحة. و عن السدّي: شجر يشبه طلح الدنيا، و لكن له ثمر أحلى من العسل. مَنْضُودٍ نضد حمله من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة.

وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ دائم منبسط لا يتقلّص، كظلّ ما بين طلوع الفجر و طلوع الشمس. و قد ورد في الخبر: «أنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة سنة لا يقطعها».

و روي أيضا: «أنّ أوقات الجنّة كغدوات الصيف، لا يكون فيه حرّ و لا برد».

وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ يسكب لهم أين شاؤوا، و كيف شاؤوا بلا تعب. أو مصبوب سائل، دائم الجرية، لا ينقطع. و قيل: مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود (1). كأنّه لمّا شبّه حال السابقين في التنعّم بأكمل ما يتصوّر لأهل المدن، شبّه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمنّاه أهل البوادي، إشعارا بالتفاوت بين الحالين.

وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ كثيرة الأجناس. و الوجه في تكرير ذكر الفاكهة بيان اختلاف صفاتها، فذكرت أوّلا بأنّها متخيّرة، و ذكرت هاهنا بأنّها كثيرة.

لا مَقْطُوعَةٍ دائمة لا تنقطع في وقت وَ لا مَمْنُوعَةٍ لا تمنع عن متناولها بوجه، كما يحظر على بساتين الدنيا.

وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر. أو منضّدة مرتفعة، أي: نضّدت حتّى ارتفعت. و قيل: الفرش النساء، لأنّ المرأة يكنّى عنها بالفراش، و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الولد للفراش، و للعاهر الحجر».

و ارتفاعها أنّها على الأرائك. قال اللّه تعالى: هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (2). أو مرتفعات القدر في عقولهنّ

ص: 571


1- الأخدود: الحفرة المستطيلة.
2- يس: 56.

و حسنهنّ و كمالهنّ. و لذلك عقّبه بقوله: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي: ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة، إبداء أو إعادة.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أمّ سلمة سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ».

فقال: يا أمّ سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا (1)، جعلهنّ اللّه بعد الكبر أترابا، على ميلاد واحد في الاستواء (2)، كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا. فلمّا سمعت عائشة ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت: و أوجعاه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس هناك وجع».

و قالت عجوزة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادع اللّه أن يدخلني الجنّة. فقال: «إنّ الجنّة لا تدخلها العجائز. فولّت و هي تبكي. فقال عليه السّلام: أخبروها أنّها ليست يؤمئذ بعجوز».

فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عذارى عُرُباً متحبّبات إلى أزواجهنّ. جمع عروب. و قيل: العروب اللعوب مع زوجها. و سكّن راءه حمزة و أبو بكر. أَتْراباً مستويات في السنّ، فإنّ كلّهنّ بنات ثلاث و ثلاثين. و كذا أزواجهنّ. و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يدخل أهل الجنّة جردا، مردا، بيضا، جعادا، مكحّلين، أبناء ثلاث و ثلاثين».

لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلّق ب «أنشأنا» أو «جعلنا». أو صفة ل «أبكارا». أو خبر لمحذوف، مثل: هنّ، أو لقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ و هي على الوجوه الأول خبر محذوف. و إنّما نكّر سبحانه الثلّة ليدلّ على أنّه ليس لجميع الأوّلين و الآخرين، و إنّما هو لجماعة منهم، كما يقال: رجل من جملة الرجال.

ص: 572


1- الشمط جمع الشمطاء، و هي: الّتي خالط بياض رأسها سواد. و الرمص جمع الرمصاء، و هي: الّتي سال منها الرمص. و الرمص: وسخ أبيض في مجرى الدمع من العينين.
2- لعلّ المراد: أنّهنّ في استواء الخلقة كأنّهنّ ولدن على ميلاد واحد.

روى نقلة الأخبار بالإسناد عن ابن مسعود قال: كنّا نتحدّث عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أكثرنا الحديث، ثمّ رجعنا إلى أهلنا، فلمّا أصبحنا غدونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: «عرضت عليّ الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها، فكان النبيّ تجي ء معه الثلّة من أمّته، و النبيّ معه العصابة من أمّته، و النبيّ معه النفر من أمّته، و النبيّ معه الرجل من أمّته، و النبيّ ما معه من أمّته أحد. حتّى إذا أتى أخي موسى في كبكبة من بني إسرائيل، فلمّا رأيتهم أعجبوني، فقلت: أي ربّ من هؤلاء؟

قال: هذا أخوك موسى بن عمران، و من معه من بني إسرائيل.

فقلت: ربّ فأين أمّتي؟

قال: انظر عن يمينك. فإذا ظراب (1) مكّة قد سدّت بوجوه الرجال.

فقلت: من هؤلاء؟

فقيل: هؤلاء أمّتك، أرضيت؟

قلت: ربّ رضيت.

قيل: انظر عن يسارك. فإذا الأفق قد انسدّ بوجوه الرجال.

فقلت: ربّ من هؤلاء؟

قيل: هؤلاء أمّتك، أرضيت؟

قلت: ربّ رضيت.

فقيل: إنّ مع هؤلاء سبعين ألفا من أمّتك يدخلون الجنّة لا حساب عليهم.

قال: فأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد من خزيمة، فقال: يا نبيّ اللّه ادع ربّك أن يجعلني منهم.

فقال: اللّهمّ اجعله منهم.

ثمّ أنشأ رجل آخر فقال: يا نبيّ اللّه ادع ربّك أن يجعلني منهم.

ص: 573


1- الظراب: الروابي الصغار، أي: ما ارتفع من الأرض، و هي التلّة. و واحدها: الظرب.

فقال: سبقك بها عكاشة.

فقال نبيّ اللّه: فداكم أبي و أمّي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا.

و إن عجزتم و قصّرتم فكونوا من أهل الظراب. فإن عجزتم و قصّرتم فكونوا من أهل الأفق. و إنّي قد رأيت ثمّ ناسا كثيرا يتهاوشون (1) كثيرا. فقلت: هؤلاء السبعون ألفا.

فاتّفق رأينا على أنّهم ناس ولدوا في الإسلام، فلم يزالوا يعملون به حتّى ماتوا عليه.

فانتهى حديثهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ليس كذلك، و لكنّهم الّذين لا يسرفون، و لا يتكبّرون، و لا يتطيّرون، و على ربّهم يتوكّلون.

ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنّة.

قال: فكبّرنا.

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّرنا.

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنّة. ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ .

[سورة الواقعة [56]: الآيات 41 الى 56]

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ [41] فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ [42] وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [43] لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ [44] إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ [45]

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ [46] وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [47] أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ

ص: 574


1- تهاوش القوم: اختلطوا و اضطربوا، و وقعت بينهم الفتنة.

[48] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ [49] لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [50]

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [51] لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [52] فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ [53] فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [54] فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [55]

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [56]

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ في حرّ نار ينفذ في المسامع وَ حَمِيمٍ و ماء حارّ متناه في الحرارة وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ من دخان أسود. يفعول من الحممة. لا بارِدٍ كسائر الظلّ وَ لا كَرِيمٍ و لا نافع. نفى بذلك ما أوهم الظلّ من الاسترواح.

إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ منهمكين في الشهوات، مشتغلين بها عن الاعتبار، تاركين الواجبات، طلبا لراحة أبدانهم.

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم. يعني: الشرك. و منه:

بلغ الغلام الحنث، أي: الحلم و وقت المؤاخذة بالذنب. و منه: حنث في يمينه، خلاف: برّ فيها. و يقال: تحنّث إذا تأثّم.

وَ كانُوا يَقُولُونَ إنكارا للبعث أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كرّرت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا، و خصوصا في هذا الوقت. كما دخلت العاطف في قوله: أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ للدلالة على أنّ ذلك أشدّ إنكارا في حقّهم، لتقادم زمانهم، أي: أو يبعث آباؤنا الّذين ماتوا قبلنا، إنّ هذا لبعيد جدّا. و للفصل بالهمزة حسن العطف على المستكن في «لمبعوثون» من غير

ص: 575

تأكيد ب: نحن، كما حسن في قوله: ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا (1) للفصل ب «لا» المؤكّدة للنفي. و قرأ نافع و ابن عامر: «أو» بالسكون. و قد سبق مثله (2). و العامل في الظرف ما دلّ عليه «مبعوثون»، لا هو، للفصل ب «إنّ» و الهمزة.

قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ إلى ما وقّتت به الدنيا- أي: حدّت- من يوم معيّن عند اللّه معلوم له. و هو يوم القيامة. و منه:

مواقيت الإحرام. و هي الحدود الّتي لا يتجاوزها من يريد دخول مكّة إلّا محرما.

و الإضافة بمعنى «من» كخاتم فضّة.

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن طريق الحقّ الْمُكَذِّبُونَ بتوحيد اللّه و نبوّة نبيّه و بالبعث. و الخطاب لأهل مكّة و أضرابهم. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ «من» الأولى للابتداء، و الثانية للبيان فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ من شدّة الجوع.

فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ لغاية العطش. و تأنيث الضمير في «منها» و تذكيره في «عليه» على معنى الشجر و لفظه. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الإبل الّتي بها الهيام. و هو داء يشبه الاستسقاء، فلا تزال تشرب الماء حتّى تموت. و المعنى:

كشرب الإبل الّتي لا تروى بالماء. جمع أهيم و هيماء.

و قيل: الرمال، على أنّه جمع هيام بالفتح. و هو الرمل الّذي لا يتماسك. جمع على هيم، كسحاب و سحب، ثمّ خفّف و فعل به ما فعل بجمع أبيض. و المعنى: أنّه يسلّط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقّوم الّذي هو كالمهل، فإذا ملئوا منهم البطون يسلّط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الّذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم.

و المعطوف أخصّ من الآخر، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو

ص: 576


1- الأنعام: 148.
2- راجع ج 5 ص 545، ذيل الآية 17 من سورة الصافّات.

عليه من تناهي الحرارة و قطع الأمعاء أمر عجيب، و شربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين، فلا اتّحاد بين المعطوف و المعطوف عليه ليلزم عطف الشي ء على نفسه.

و قرأ نافع و عاصم و حمزة: شرب، بضمّ الشين.

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء، فما ظنّك بما يكون لهم بعد ما استقرّوا في الجحيم؟ و فيه تهكّم، كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1)، لأنّ النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 57 الى 67]

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ [57] أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ [58] أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [59] نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [60] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ [61]

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ [62] أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ [63] أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [64] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [65] إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [66]

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [67]

ثمّ احتجّ سبحانه عليهم في البعث، فقال: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ و لم تكونوا شيئا فَلَوْ لا فهلّا تُصَدِّقُونَ تحضيض على التصديق. إمّا بالخلق، لأنّهم و إن كانوا مصدّقين به، إلّا أنّهم لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنّهم مكذّبون

ص: 577


1- التوبة: 34.

به. و إمّا بالبعث، لأنّ من خلق أوّلا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا.

ثمّ نبّههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحّة ما ذكره، فقال: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي: ما تقذفونه و تصبّونه في الأرحام من النطف.

أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تقدّرونه و تصوّرونه بشرا سويّا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ فإذا لم تقدروا أنتم و أمثالكم على ذلك فاعلموا أنّ اللّه سبحانه هو الخالق لذلك، و إذا ثبت أنّه قادر على خلق الولد من النطفة، وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته، لأنّه ليس بأبعد منه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما هو قادر على إبداء الخلق قادر على إماتتهم، فقال:

نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسّمناه عليكم، و أقّتنا موت كلّ بوقت معيّن كما تقتضيه مشيئتنا. و قرأ ابن كثير بتخفيف الدال. وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد، فيهرب من الموت أو يغيّر وقته. أو لا يغلبنا أحد، من: سبقته على كذا إذا غلبته عليه و لم تمكّنه منه.

و قوله: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ على الأوّل حال، أو علّة ل «قدّرنا»، و «على» بمعنى اللام، و «ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» اعتراض. و على الثاني صلة. و المعنى:

لا يغلبني أحد على أن يخلق بدلكم أشباهكم. و يجوز أن يكون الأمثال جمع مثل.

و المعنى: على أن نغيّر صفاتكم الّتي أنتم عليها في خلقكم و أخلاقكم.

وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ في خلق أو صفات لا تعلمونها. يعني: أنّا نقدر على خلق ما يماثلكم و ما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟! وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى حين خلقتم من نطفة و علقة و مضغة فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ فهلّا تعتبرون و تستدلّون بأنّ من قدر عليها قدر على النشأة الاخرى، فإنّها أقلّ صنعا، لحصول الموادّ، و تخصيص الأجزاء، و سبق المثال. و هذا قياس منصوص العلّة لا مطلقا.

ص: 578

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ تبذرون حبّه، و تعملون في أرضه أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه، بأن تردّوه نباتا ينمى إلى أن يبلغ الغاية أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المنبتون، و قد اعترفتم بأنّا نحن الزارعون. فمن قدر على إنبات الزرع من الحبّة الصغيرة و يجعلها حبوبا كثيرة، قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه. و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يقولنّ أحدكم: زرعت، و ليقل: حرثت».

لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ جعلنا ذلك الزرع حُطاماً هشيما لا ينتفع به. من:

حطم إذا تفتّت، كالفتات و الجذاذ من: فتّ و جذّ. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ تعجبون. و عن الحسن: تندمون على تعبكم و اجتهادكم فيه، و إنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي الّتي أصبتم بذلك من أجلها، فتتحدّثون فيه. و التفكّه: التنقّل بصنوف الفاكهة. و قد استعير للتنقّل بالحديث.

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي: يقولون: إنّا لملزمون غرامة ما أنفقنا. أو مهلكون، لهلاك رزقنا. من الغرام، و هو الهلاك. و قرأ أبو بكر: أ إنّا على الاستفهام. ثمّ يستدركون فيقولون: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا رزقنا. أو محدودون لا حظّ لنا و لا بخت، لا مجدودون، و لو كنّا مجدودين لما جرى علينا هذا.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 68 الى 70]

أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [68] أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [69] لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ [70]

ثمّ نبّه سبحانه على دلالة اخرى على إمكان البعث و وقوعه، فقال: أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أي: العذب الصالح للشرب.

أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ من السحاب. واحده مزنة. و قيل: المزن السحاب الأبيض خاصّة، و هو أعذب ماء. أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا، نعمة منّا عليكم. و الرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلّقة بالاستفهام.

ص: 579

لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحا شديد الملوحة لا يقدر أحد على شربه. من الأجيج، فإنّه يحرق الفم. أو مرّا شديد المرارة. و حذفت اللام في جواب «لو» لعلم السامع بمكانها.

و تحقيقه: أنّ «لو» لمّا كانت داخلة على جملتين، معلّقة ثانيتهما بالأولى تعلّق الجزاء بالشرط، و لم تكن مخلصة للشرط ك: إن، و لا عاملة مثلها، و إنّما سرى في «لو» معنى الشرط اتّفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل، افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلّق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه، فلأنّ الشي ء إذا علم و شهر موقعه و صار مألوفا و مأنوسا به، لم يبال بإسقاطه عن الألفاظ استغناء بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنّه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فيحذف الجارّ لعلم كلّ أحد بمكانه.

و يجوز أن يقال: إنّ هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب، للدلالة على أنّ أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب، و أنّ الوعيد بفقده أشدّ و أصعب، من قبل أنّ المشروب إنّما يحتاج إليه تبعا للمطعوم.

ألا ترى أنّك إنّما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. و لهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب.

فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ أمثال هذه النعم الضروريّة الّتي لا يقدر عليها غير اللّه.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 71 الى 73]

أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [71] أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [72] نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ [73]

ص: 580

ثمّ نبّه سبحانه على دلالة أخرى، فقال: أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تقدحونها و تستخرجونها من الزناد. و العرب تقدح بعودين، تحكّ أحدهما على الآخر، و يسمّون الأعلى الزند، و الأسفل الزندة، شبّهوهما بالفحل و الطروقة.

أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها يعني: الشجرة الّتي منها الزناد أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها جعلنا نار الزناد تَذْكِرَةً يتذكّر بها و يتفكّر فيها، ليعلم أنّ من قدر عليها و على إخراجها من الشجر الأخضر قدر على النشأة الآخرة، كما مرّ في سورة يس (1). أو تبصرة في أمر المعاش، حيث علّقنا بها أسباب المعايش كلّها، و عمّمنا بالحاجة إليها البلوى. أو في الظلام. أو تذكيرا و أنموذجا لنار جهنّم، فينظرون إليها و يذكرون ما أوعدوا به، لما

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ناركم هذه الّتي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنّم».

وَ مَتاعاً و منفعة لِلْمُقْوِينَ للّذين ينزلون القواء، و هي القفر. أو للّذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. من: أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها.

و قيل: للمستمتعين بها من الناس أجمعين، المسافرين و الحاضرين.

و المعنى: أنّهم يستضيئون بها في الظلمة، و يصطلون من البرد، و ينتفعون بها في الطبخ و الخبز. و على هذا؛ يكون المقوي من الأضداد. فيكون المقوي هو الّذي صار ذا قوّة من المال و النعمة، و المقوي أيضا الذاهب ماله، النازل بالقواء من الأرض. فالمعنى: و متاعا للأغنياء و الفقراء.

ص: 581


1- راجع ج 5 ص 535، ذيل الآية [80] من سورة يس.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 74 الى 80]

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [74] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [75] وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [76] إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [77] فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [78]

لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [79] تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [80]

و لمّا عدّد بدائع صنعه الدالّة على وحدانيّته و كمال قدرته و إنعامه على عباده، عقّبه بالتسبيح، فقال:

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فأحدث التسبيح بذكر اسمه. أو بذكره عمّا لا يليق بعظمة شأنه، فإنّ إطلاق اسم الشي ء ذكره. و العظيم صفة للاسم أو الربّ.

و تنقيح المعنى: قل: سبحان اللّه، إمّا تنزيها له عمّا يقول الظالمون الّذين يجحدون وحدانيّته و يكفرون نعمته. و إمّا تعجّبا من أمرهم في غمط (1) آلائه و أياديه الظاهرة.

و إمّا شكرا للّه على النعم الّتي عدّها و نبّه عليها. و قد صحّ

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت قال: «اجعلوها في ركوعكم».

يعني: قولوا فيه: سبحان ربّي العظيم.

فَلا أُقْسِمُ إذ المقسم عليه أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أو فأقسم، و «لا» مزيدة للتأكيد، كما في قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (2). أو فلأنا أقسم، و اللام لام الابتداء الّتي دخلت على المبتدأ و الخبر، كقولك: لزيد منطلق، فحذف المبتدأ، و أشبع فتحة لام الابتداء. أو فلا رد لكلام يخالف المقسم عليه، و هو قول الكفّار: إنّ القرآن سحر و شعر و كهانة.

بِمَواقِعِ النُّجُومِ بمساقطها و مغاربها. و تخصيص المغارب لما في غروبها

ص: 582


1- غمط النعمة: لم يشكرها.
2- الحديد: 29.

من زوال أثرها، و الدلالة على وجود مؤثّر لا يزول تأثيره. أو بمنازلها و مجاريها.

و لعلّ للّه سبحانه في آخر الليل إذا انحطّت النجوم إلى المغرب أفعالا مخصوصة عظيمة، أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنّه وقت قيام المتهجّدين و المبتهلين إليه من عباده الصالحين، و نزول الرحمة و الرضوان عليهم.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ مواقع النجوم رجومها للشياطين».

و قيل: النجوم نجوم القرآن، و مواقعها أوقات نزولها.

و قرأ حمزة و الكسائي: بموقع النّجوم.

ثم استعظم ذلك القسم بقوله: وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة و كمال الحكمة و فرط الرحمة، و من مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى. و هو اعتراض في اعتراض، فإنّه اعتراض بين المقسم و المقسم عليه، أعني: قوله: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ». و «لَوْ تَعْلَمُونَ» اعتراض بين الموصوف و الصفة.

إِنَّهُ إنّ الّذي تلوناه عليك لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ كثير النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمّة في إصلاح المعاد و المعاش. أو حسن مرضيّ في جنسه من الكتب. أو كريم على اللّه. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أثبت في كتاب مصون محفوظ، و هو اللوح.

لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أي: لا يطّلع على اللوح إلّا المطهّرون من الكدورات الجسمانيّة، و هم الملائكة. هذا إن جعلت الجملة صفة ل «كتاب مكنون». و إن جعلت صفة للقرآن، فالمعنى:

لا ينبغي أن يمسّ القرآن- أي:

مكتوبه إلّا المطهّرون من الأحداث الكبرى و الصغرى. و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام،

و عطاء، و طاووس، و سالم. و هو مذهب مالك و الشافعي أيضا. فيكون النفي بمعنى النهي. أو لا يطلبه إلّا المطهّرون من الكفر.

ص: 583

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة ثالثة أو رابعة للقرآن. و هو مصدر نعت به، لأنّه نزل نجوما من بين سائر كتب اللّه تعالى، فكأنّه في نفسه تنزيل. و لذلك جرى مجرى بعض أسمائه، فقيل: جاء في التنزيل كذا، و نطق به التنزيل. أو هو تنزيل، على حذف المبتدأ.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 81 الى 87]

أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [81] وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [82] فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [83] وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [84] وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ [85]

فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [86] تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [87]

ثمّ خاطب سبحانه أهل مكّة فقال: أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ الّذي حدّثناكم به، و أخبرناكم فيه عن حوادث الأمور. و هو القرآن. أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون به كمن يدهن في الأمر، أي: يليّن جانبه و لا يتصلّب فيه تهاونا به.

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ على حذف المضاف. و الرزق: المطر الّذي هو سببه، تسمية للمسبّب باسم السبب. و المعنى: و تجعلون شكر ما يرزقكم اللّه من الغيث أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بكونه من اللّه حيث تنسبونه إلى الأنواء. فوضعتم التكذيب موضع الشكر.

عن ابن عبّاس: أصاب الناس عطش في بعض أسفاره، فدعا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا، فنزلت هذه الآية.

و قيل: معناه: أ تجعلون حظّكم من القرآن الّذي رزقكم اللّه التكذيب به.

فَلَوْ لا فهلّا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ بلغت النفس الحلقوم عند الموت

ص: 584

وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ترون تلك الحال. و الخطاب لمن حول المحتضر. و الواو للحال. وَ نَحْنُ أَقْرَبُ و نحن أعلم إِلَيْهِ إلى المحتضر مِنْكُمْ عبّر عن العلم بالقرب الّذي هو أقوى سبب الاطّلاع وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ لا تدركون كنه ما يجري عليه.

و قيل: معناه: و رسلنا الّذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم، و لكن لا تبصرون رسلنا القابضين روحه.

فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ غير مجزيّين يوم القيامة. أو مملوكين مقهورين. من: دانه إذا أذلّه و استعبده. و أصل التركيب للذلّ و الانقياد.

تَرْجِعُونَها ترجعون النفس إلى مقرّها. و هو عامل الظرف. و المحضّض عليه ب «لولا» الأولى، و الثانية تكرير للتوكيد. و هي بما في حيّزها دليل جواب الشرط. و المعنى: إن كنتم غير مملوكين مجزيّين، كما دلّ عليه جحدكم أفعال اللّه و تكذيبكم بآياته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أباطيلكم، فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم.

و توضيح المعنى: إنّكم في جحودكم أفعال اللّه و آياته في كلّ شي ء، إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم: سحر و افتراء، و إن أرسل إليكم رسولا قلتم: ساحر كذّاب، و إن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب يؤدّي إلى الإهمال و التعطيل. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم، إن لم يكن ثمّ قابض، و كنتم صادقين في تعطيلكم و كفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد؟! و إذا لم تقدروا على ذلك، فاعلموا أنّه من تقدير مقدّر حكيم، و تدبير مدّبر عليم.

[سورة الواقعة [56]: الآيات 88 الى 96]

فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [88] فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ [89] وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [90] فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ

ص: 585

[91] وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ [92]

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ [93] وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [94] إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [95] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [96]

ثمّ ذكر سبحانه حال المخلوقات عند الموت، فقال: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي: إن كان المحتضر الّذي بلغت روحه الحلقوم من السابقين، من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة فَرَوْحٌ فله استراحة و لذّة وَ رَيْحانٌ و رزق طيّب. و قيل: هو الريحان المشموم من رياحين الجنّة. و قيل: الروح النجاة من النار، و الريحان دخول دار القرار. و قيل: روح في القبر، و ريحان في القيامة و الجنّة. وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ذات تنعّم.

وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ يا صاحب اليمين مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ الّذين من إخوانك، يسلّمون عليك، كقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (1).

وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بالبعث و الرسل الضَّالِّينَ عن الهدى. يعني:

أصحاب الشمال. و إنّما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها، و إشعارا بما أوجب لهم ما أوعدهم به. فَنُزُلٌ فنزلهم الّذي أعدّ لهم، من الطعام و الشراب مِنْ حَمِيمٍ* وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ و ذلك ما يجد في القبر من سموم النار و دخانها.

إِنَّ هذا إنّ هذا الّذي ذكر في هذه السورة، أو في شأن الأصناف الثلاثة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي: الحقّ الثابت من اليقين الّذي لا شبهة معه.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فنزّه اسمه تعالى عمّا لا يليق بعظمة شأنه.

ص: 586


1- الواقعة: 26.

[57] سورة الحديد

اشارة

مدنيّة. و هي تسع و عشرون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: «من قرأ سورة الحديد كتب من الّذين آمنوا باللّه و رسوله».

و روى العرباض بن سارية، قال: «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، و يقول: إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية».

و روى عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يدرك القائم عليه السّلام، و إن مات كان في جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة الفريضة و أدمنها، لم يعذّبه اللّه أبدا حتّى يموت، و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا، و لا خصاصة في بدنه».

[سورة الحديد [57]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [1] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [2] هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [3] هُوَ الَّذِي خَلَقَ

ص: 587

السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [4]

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [5] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [6]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الواقعة بالتسبيح، افتتح هذه السورة أيضا بالتسبيح، و عقّبه بالدلائل الموجبة للتسبيح، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاء التسبيح هاهنا و في الحشر و الصفّ بلفظ الماضي، و في الجمعة و التغابن بلفظ المضارع، إشعارا بأنّ من شأن ما أسند إليه التسبيح- من السماوات و الأرض- أن يسبّحه في جميع أوقاته، لأنّه دلالة جبلّيّة لا تختلف باختلاف الحالات. و مجي ء المصدر مطلقا في بني إسرائيل أبلغ، من حيث إنّه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كلّ شي ء و في كلّ حال، من الملائكة و الثقلين.

و إنّما عدّي هاهنا باللام، اشعارا بأنّ إيقاع الفعل لأجل اللّه و خالصا لوجهه.

و مثله: نصحت له، في: نصحته. فالمعنى: أحدث التسبيح و التنزيه من كلّ سوء خالصا للّه. و أصل التسبيح التعدّي بنفسه، كما في قوله: وَ تُسَبِّحُوهُ (1). لأنّ

ص: 588


1- الفتح: 9.

معنى: سبّحته: بعّدته عن السوء. منقول من: سبّح إذا ذهب و بعد.

«ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» ما يتأتّى منه التسبيح و يصحّ. أو يسبّح له ذو الروح و غيره. أمّا العقلاء فيسبّحونه قولا و اعتقادا و لفظا و معنى. و أمّا غير العقلاء من سائر الحيوانات و الجمادات فتسبيحه ما فيه من الأدلّة الدالّة على وحدانيّته، و على الصفات الّتي باين بها جميع خلقه، و ما فيه من الحجج على أنّه لا يشبه خلقه، و أنّ خلقه لا يشبهه، فعبّر سبحانه عن ذلك بالتسبيح.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح. و المعنى: و هو القادر الّذي لا يمتنع عليه شي ء من الأشياء، المحكم لأفعاله، العليم بوجوه الصواب في التدبير.

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّه الموجد لهما، و المتصرّف فيهما، و ليس لأحد منعه منه يُحْيِي وَ يُمِيتُ استئناف، أو خبر لمحذوف، أو حال من المجرور في «له» و الجارّ عامل فيها. و معناه: يحيي النطف و البيض و الموتى يوم القيامة، و يميت الأحياء. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الإحياء و الإماتة و غيرهما قَدِيرٌ تامّ القدرة.

هُوَ الْأَوَّلُ القديم السابق على سائر الموجودات، من حيث إنّه موجدها و محدثها وَ الْآخِرُ الباقي بعد فنائها، و لو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها. أو هو الأوّل الّذي تبتدأ منه الأسباب، و تنتهي إليه المسبّبات. أو الأوّل خارجا، و الآخر ذهنا.

وَ الظَّاهِرُ وجوده بالأدلّة الدالّة عليه. أو الغالب على كلّ شي ء. من: ظهر عليه إذا علاه و غلبه. وَ الْباطِنُ حقيقة ذاته، فلا تكتنهها العقول، و لا تدرك بالحواسّ. و في هذا حجّة على من جوّز إدراكه في الآخرة بالحاسّة. أو العالم بباطن كلّ شي ء.

ص: 589

و قيل: الأوّل بالأزليّة، و الآخر بالأبديّة، و الظاهر بالأحديّة، و الباطن بالصمديّة.

و الواو الأولى للدلالة على أنّه الجامع بين الصفتين: الأوّليّة و الآخريّة.

و الثالثة على أنّه الجامع بين الظهور و الخفاء. و أمّا الوسطى، فعلى أنّه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، و مجموع الصفتين الأخريين.

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يستوي عنده الظاهر و الخفيّ.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شي ء بعد شي ء من جهته. و لما في الإخبار به من المصلحة للمكلّفين. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استولى عليه استيلاء الملك على الملك، و المالك على الملك. و قد مرّ ذلك مرارا.

يَعْلَمُ ما يَلِجُ ما يدخل فِي الْأَرْضِ كالبذور وَ ما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالأمطار و الأرزاق وَ ما يَعْرُجُ فِيها كالأبخرة و أعمال العباد و الملائكة وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ لا ينفكّ علمه و قدرته عنكم بحال وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من خير و شرّ بَصِيرٌ عالم، فيجازيكم عليه. و لعلّ تقديم الخلق على العلم لأنّه دليل عليه.

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يتصرّف فيهما كيف يشاء. ذكره مع الإعادة كما ذكره مع الإبداء، لأنّه كالمقدّمة لهما. وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يوم القيامة. يعني:

أنّ جميع من ملّكه شيئا في الدنيا يزول ملكه عنه.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل ما نقص من الليل في النهار، و ما نقص من النهار في الليل، حسب ما دبّره فيه من مصالح عباده وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بمكنونها، من أسرار خلقه، و ما يخفونه من الضمائر و الاعتقادات و الإرادات و الكراهات، لا يخفى عليه شي ء منها. و فيه تحذير من المعاصي.

ص: 590

[سورة الحديد [57]: الآيات 7 الى 15]

آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [7] وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [8] هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [9] وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [10] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [11]

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [12] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [13] يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ

ص: 591

اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [14] فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [15]

ثمّ خاطب المكلّفين، فقال: آمِنُوا بِاللَّهِ بوحدانيّته و إخلاص العبادة له وَ رَسُولِهِ و صدّقوا بنبوّته وَ أَنْفِقُوا في طاعة اللّه و الوجوه الّتي أمركم بالإنفاق فيها مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ من الأموال التي جعلكم اللّه خلفاء في التصرّف فيها. فهي في الحقيقة له لا لكم، بسبب خلقه و إنشائه لها. و إنّما موّلكم إيّاها، و خوّلكم الاستمتاع بها، و ما أنتم فيها إلّا بمنزلة الوكلاء و النوّاب.

أو المعنى: جعلكم مستخلفين ممّن كان قبلكم فيما في أيديكم، بتوريثه إيّاكم. فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، و سينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به، و انفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.

و فيه حثّ على الإنفاق، و تهوين له على النفس، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه.

فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا منها في حقوق اللّه لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه مبالغات: جعل الجملة اسميّة، و إعادة ذكر الإيمان و الإنفاق، و بناء الحكم على الضمير، و تنكير الأجر، و وصفه بالكبر، أي: لهم ثواب عظيم لا يكتنهه العقل.

ثمّ وبّخهم بترك الإيمان، و بعده بترك الإنفاق، فقال: وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الجملة الفعليّة حال من معنى الفعل في «لكم»، كما تقول: مالك قائما؟

بمعنى: ما تصنع قائما؟ أي: و ما تصنعون غير مؤمنين به؟ و أيّ شي ء يمنعكم من الإيمان به؟ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من ضمير «لا تؤمنون».

فهما حالان متداخلان.

و المعنى: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان، و الرسول يدعوكم إليه، و ينبّهكم

ص: 592

عليه، و يتلو عليكم الكتاب الناطق بالحجج و الآيات؟

و قوله: وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال من مفعول «يدعوكم» أي: الرسول يدعوكم بالإيمان حال كونه تعالى قد أخذ ميثاقكم بالإيمان. و قرأ أبو عمرو: أخذ على البناء للمفعول، أي: و قد أخذ الميثاق منكم بالإيمان قبل ذلك بنصب الأدلّة و التمكين من النظر.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب مّا، فإنّ هذا موجب لا مزيد عليه، أي: إذا لم يبق لكم علّة بعد ارتفاع الشبه، و لزوم الحجج العقليّة و النقليّة عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟

هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٍ بَيِّناتٍ حججا منيرة و براهين واضحة لِيُخْرِجَكُمْ أي: اللّه سبحانه، أو عبده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنَ الظُّلُماتِ من ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ إلى نور الايمان بالتوفيق و الألطاف الهادية وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث نبّهكم بالرسل و الآيات، و لم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقليّة. و إنّما جمع بين الرأفة و الرحمة للتأكيد. و قيل:

الرأفة النعمة على المضرور، و الرحمة النعمة على المحتاج.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر، فإنّه سبحانه بيّن أنّ الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.

وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا و أيّ شي ء لكم في أن لا تنفقوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيما يكون قربة إليه وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يرث كلّ شي ء فيهما، فلا يبقى لأحد مال. و إذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى- و هو الثواب- كان أولى. و هذا من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل اللّه.

ثمّ بيّن التفاوت بين المنفقين منهم، فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ قبل فتح مكّة، إذ بالإنفاق وقع عزّ الإسلام و قوّة أهله، و دخول الناس في

ص: 593

دين اللّه أفواجا وَ قاتَلَ مع الكفّار. و ذكر القتال في بيان التفاوت بين المنفقين للاستطراد. و قسيم «من أنفق» محذوف، تقديره: و من أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوحه، و دلالة ما بعده عليه، أعني: قوله: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً فإنّه بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم، من السبق و قوّة اليقين و تحرّي الحاجات مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا أي: من بعد فتح مكّة، فإنّ الإنفاق و القتال قبل فتح مكّة كان أشدّ، و الحاجة إلى النفقة و الجهاد كان أكثر.

وَ كُلًّا و كلّ واحد من الفريقين المنفقين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنى- و هي: الجنّة- و إن تفاوتوا في مراتب الدرجات. و قرأ ابن عامر: و كلّ، بالرفع على الابتداء، أي: و كلّ وعده اللّه، ليطابق ما عطف عليه، و هو قوله: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره و باطنه، فمجازيكم على حسبه.

ثمّ بيّن كيفيّة الإنفاق و مزيّة المثوبة، فقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ أي:

ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوّضه، فإنّه كمن يقرض اللّه قَرْضاً حَسَناً أي:

إنفاق أكرم المال و أطيبه في أفضل الجهات مقرونا بالإخلاص. فشبّه ذلك بالقرض على سبيل المجاز. و وجه الشبه هو التعويض.

و قال بعض المحقّقين: القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف:

أن يكون من الحلال،

لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ اللّه تعالى طيّب، لا يقبل إلّا الطيّب».

و أن يكون من أكرم ما يملكه، دون أن يقصد الردي ء بالإنفاق، لقوله تعالى:

وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (1).

و أن يتصدّق و هو يحبّ المال و يرجو الحياة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا سئل عن الصدقة: «أفضل الصدقة أن تعطيه و أنت صحيح شحيح، تأمل العيش، و تخشى .

ص: 594


1- البقرة: 267.

الفقر، و لا تمهل حتّى إذا بلغت النفس التراقي قلت: لفلان كذا و لفلان كذا».

و أن يضعه في الأخلّ الأحوج الأولى بأخذه، و لذلك خصّ اللّه أقواما بأخذ الصدقات، و هم أهل البلوى.

و أن يكتمه ما أمكن، لقوله: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (1).

و أن لا يتبعه المنّ و الأذى، لقوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى (2).

و أن يقصد به وجه اللّه، و لا يرائي بذلك، لأنّ الرياء مذموم.

و أن يستحقر ما يعطي و إن كثر، لأنّ متاع الدنيا قليل.

و أن يكون من أحبّ ماله إليه، لقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (3).

و أن يحتاج إليه، لقوله تعالى: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (4).

فهذه الأوصاف العشرة إذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا.

فَيُضاعِفَهُ لَهُ أي: يعطي أجره أضعافا، من بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ و ذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه، ينبغي أن يتوخّى و إن لم يضاعف، فكيف و قد يضاعف أضعافا! و قرأ عاصم: فيضاعفه بالنصب، على جواب الاستفهام باعتبار المعنى، فكأنّه قال: أ يقرض اللّه أحد فيضاعفه له؟ و قرأ ابن كثير: فيضعفه مرفوعا، عطفا على «يقرض اللّه». أو على تقدير: فهو يضاعفه. و ابن عامر و يعقوب: فيضعفه

ص: 595


1- البقرة: 271.
2- البقرة: 264.
3- آل عمران: 92.
4- الحشر: 9.

منصوبا.

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ظرف لقوله: «وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» أو «فيضاعفه». أو مقدّر ب: اذكر، تعظيما لذلك اليوم. يَسْعى نُورُهُمْ ما يوجب نجاتهم و هدايتهم إلى الجنّة و هم يمرّون فيه.

قال قتادة: إنّ المؤمن يضي ء له نور كما بين عدن إلى صنعاء و دون ذلك، حتّى إنّ من المؤمن من لا يضي ء له نوره إلّا موضع قدميه.

و قال عبد اللّه بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، و أدناهم نورا من نوره على إبهامه، يطفأ مرّة و يقد أخرى.

و يخصّص ذلك النور بقوله: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم و من وراء ظهورهم. فجعل النور في الجهتين شعارا لهم و علامة، لأنّهم هم الّذين بحسناتهم سعدوا، و بصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنّة و مرّوا على الصراط يسعون، و سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم و متقدّما.

و يقول لهم الّذين يتلقّونهم من الملائكة: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ أي: المبشّر به في هذا اليوم جَنَّاتٌ أو بشراكم دخول جنّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من النور و البشرى بالجنّات المخلّدة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

ثمّ ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم، فقال: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بدل من «يوم ترى» لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا انتظرونا، فإنّهم يسرع بهم إلى الجنّة كالبرق الخاطف على ركاب تزفّ بهم، و هؤلاء مشاة. أو انظروا إلينا، لأنّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيئون بنور بين أيديهم. و قرأ حمزة: أنظرونا، من النظرة، و هي الإمهال. جعل اتّئادهم (1) في المضيّ إلى أن

ص: 596


1- أي: تمهّلهم و تأنّيهم.

يلحقوا بهم إنظارا لهم.

نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه. و ذلك بأن يلحقوا بهم فيستنيروا به. و قيل:

إنّهم إذا خرجوا من قبورهم اختلطوا، فيسعى المنافقون في نور المؤمنين، فإذا ميّزوا بقوا في الظلمة، فيستغيثون و يقولون هذا القول.

قِيلَ فيقال للمنافقين ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا نُوراً بتحصيل المعارف الإلهيّة و الأخلاق الفاضلة، فإنّه يتولّد منها. أو إلى الموقف، فإنّه من ثمّ أعطينا هذا النور، فالتمسوه هنالك. أو ارجعوا خائبين و تنحّوا عنّا، فاطلبوا نورا بتحصيل سببه، و هو الإيمان، فإنّه لا سبيل لكم إلى هذا النور. و هو تهكّم بهم، و تخييب من المؤمنين أو الملائكة.

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين و المنافقين بِسُورٍ بحائط يكون بين الجنّة و النار لَهُ بابٌ يدخل منه المؤمنون باطِنُهُ باطن السور، أو الباب فِيهِ الرَّحْمَةُ لأنّه يلي الجنّة وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ من جهته، لأنّه يلي النار.

يُنادُونَهُمْ ينادي المنافقون المؤمنين أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم ظاهرا في الصلاة و الصوم و غيرهما قالُوا بَلى بلى كنتم معنا وَ لكِنَّكُمْ كنتم فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق، و أهلكتموها به وَ تَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين دوائر السوء وَ ارْتَبْتُمْ و شككتم في الدين وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ كامتداد العمر و طول الأمل حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ و هو الموت وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان، بأنّ اللّه غفور كريم لا يعذّبكم. أو الدنيا.

فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فداء تنقذوا أنفسكم به من العذاب. و قرأ ابن عامر و يعقوب بالتاء. وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهرا و باطنا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ

ص: 597

مَوْلاكُمْ هي أولى بكم. و حقيقته: محراكم (1)، أي: مكانكم الّذي يقال فيه هو أولى بكم. أو مكانكم عمّا قريب، من الولي، و هو القرب. أو ناصركم، على طريقة قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع. و المعنى: لا ناصر لكم غيرها على البتّ. و نحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع. و منه قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ (2). أو تتولّاكم النار كما تولّيتم موجباتها في الدنيا من أعمال أهل النار.

وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ النار.

[سورة الحديد [57]: الآيات 16 الى 19]

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [16] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [17] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [18] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [19]

ثمّ دعاهم سبحانه إلى الطاعة، فقال: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ألم يأت وقت أن ترقّ و تلين قلوبهم. من: أنى الأمر يأني أنيا و إنى إذا

ص: 598


1- يقال: هو حريّ أن يفعل كذا، أي: جدير بذلك و حقيق به. و اسم المكان منه: محرى.
2- الكهف: 29.

جاء أناه، أي: وقته. لِذِكْرِ اللَّهِ لما يذكّرهم اللّه به من مواعظه. روي: أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكّة، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق و النعمة، ففتروا عمّا كانوا عليه من أفعال الخير، فنزلت. و عن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا و بين أن عوتبنا بهذه الآية إلّا أربع سنين.

وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ أي: القرآن. و هو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر. و يجوز أن يراد بالذكر أن يذكر اللّه. و قرأ نافع و حفص و يعقوب: نزل بالتخفيف.

وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف على «تخشع». و قرأ رويس بالتاء. و المراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فطال عليهم الزمان لطول أعمارهم و آمالهم. أو ما بينهم و بين أنبيائهم.

و قيل: طالت أعمارهم، و طارت أعمالهم.

فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ غلظت و زال خشوعها، و مرنوا على المعاصي و اعتادوها.

و من كلام عيسى عليه السّلام: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه». وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم، رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة. فلا تكونوا مثلهم، فيحكم اللّه فيكم بمثل ما حكم فيهم.

ثمّ مثّل لإحياء القلوب القاسية بالذكر و التلاوة، فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها بعد اليبس و الجدوبة، أي: فكذلك اللّه يحيي الكافر بالإيمان بعد موته بالضلال و الكفر، بأن يلطف له ما يؤمن به، من إرسال الرسل و إنزال الكتب و غيره. أو انّ اللّه يليّن قلوب عبيده بعد قسوتها بالألطاف و التوفيقات الّتي من جملتها الذكر و التلاوة. و قيل: هذا تمثيل لإحياء الأموات، ترغيبا في الخشوع، و زجرا عن القساوة.

قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الحجج الواضحات، و الدلائل الباهرات لَعَلَّكُمْ

ص: 599

تَعْقِلُونَ كي يكمل عقولكم بها، فترجعوا إلى طاعتنا، و تعملوا بما أمرناكم به.

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ أي: المتصدّقين و المتصدّقات. و قرأ ابن كثير و أبو بكر بتخفيف الصاد، أي: الّذين صدقوا اللّه و رسوله. وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً عطف على معنى الفعل في المحلّى باللام، لأنّ معناه: الّذين أصدقوا أو صدّقوا. و هو على الأوّل للدلالة على أنّ المعتبر هو التصدّق المقرون بالإخلاص.

يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ تفسير هذا الكلام و بيان وجوه القراءة في «يضاعف» قد مرّ آنفا، غير أنّه لم ينجزم، لأنّه خبر «إنّ». و هو مسند إلى «لهم»، أو إلى ضمير مصدر «يضاعف».

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ صدّقوا بتوحيد اللّه، و أقرّوا بنبوّة رسله أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: أولئك عند اللّه بمنزلة الصدّيقين و الشهداء.

أو هم المبالغون في الصدق، فإنّهم آمنوا و صدّقوا جميع أخبار اللّه و رسله، و القائمون بالشهادة للّه و لهم. أو على الأمم يوم القيامة.

و قيل: «وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» مبتدأ و خبر. و المراد بهم الأنبياء، من قوله:

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ (1). و هو مرويّ عن ابن عبّاس، و مسروق، و مقاتل بن حيّان. و اختاره الفرّاء و الزجّاج.

و قيل: الّذين استشهدوا في سبيل اللّه.

و روى العيّاشي بالإسناد عن منهال القصّاب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ادع اللّه أن يرزقني الشهادة. فقال: إنّ المؤمن شهيد، و قرأ هذه الآية».

و عن الحارث بن المغيرة قال: «كنّا عند أبي جعفر عليه السّلام فقال: العارف منكم هذا الأمر المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد و اللّه مع قائم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسيفه. ثمّ قال: بل و اللّه كمن جاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسيفه. ثمّ قال الثالثة: بلى

ص: 600


1- النساء: 41.

و اللّه كمن استشهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فسطاطه. و فيكم آية من كتاب اللّه. قلت:

و أيّ آية جعلت فداك. قال: قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ثمّ قال: صرتم و اللّه صادقين شهداء عند ربّكم».

لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ لهم مثل أجر الصدّيقين و الشهداء و مثل نورهم، و لكنّه من غير تضعيف، ليحصل التفاوت. أو الأجر و النور الموعودان لهم.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فيه دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفّار، من حيث إنّ التركيب يشعر بالاختصاص، و الصحبة تدلّ على الملازمة عرفا.

[سورة الحديد [57]: الآيات 20 الى 21]

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ [20] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [21]

و لمّا ذكر حال الفريقين في الآخرة حقّر أمور الدنيا، تزهيدا للمؤمنين في أمور الدنيا و ركونهم إلى لذّاتها، فقال:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ أي: الحياة في هذه الدار الدنيّة و الأمور

ص: 601

المتعلّقة بها أمور خياليّة قليلة النفع سريعة الزوال، لأنّها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جدّا، إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة وَ لَهْوٌ يلهون به أنفسهم عمّا يهمّهم من الأمور الأخرويّة وَ زِينَةٌ يتزيّنون بها، كالملابس الحسنة، و المراكب البهيّة، و المنازل الرفيعة وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالأنساب و العدد و العدد وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ.

ثمّ مثّل لها في سرعة تقضّيها و قلّة جدواها بقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أي: نبات أنبته المطر فاستوى بحيث أعجب الحرّاث. أو الكافرون باللّه، لأنّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا. و لأنّ المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، و الكافر لا يتخطّى فكره عمّا أحسّ به، فيستغرق فيه إعجابا ثُمَّ يَهِيجُ ييبس بعاهة و آفة فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً يتحطّم و يتكسّر بعد يبسه. و شرح هذا المثل قد تقدّم في سورة يونس (1).

وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لأعداء اللّه، تنفيرا عن الانهماك في الدنيا، و حثّا على ما يوجب كرامة العقبى. ثمّ أكّد ذلك بقوله: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ لأولياء اللّه وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي: لمن أقبل عليها، و لم يطلب بها الآخرة.

ثمّ رغّب سبحانه في المسابقة لطلب الجنّة، فقال: سابِقُوا و سارعوا مسارعة السابقين في المضمار إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى موجباتها من الأعمال الصالحة وَ جَنَّةٍ و سابقوا إلى استحقاق ثواب جنّة هذه صفتها عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ و إذا كان العرض كذلك فما ظنّك بالطول؟! و قيل: طولها لا يعلمه إلّا اللّه.

و قيل: المراد به البسطة، كقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (2).

ص: 602


1- راجع ج 3 ص 202، ذيل الآية 24. من سورة يونس.
2- فصّلت: 51.

و قيل: إنّ اللّه قال: «عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ»، و الجنّة المخلوقة في السماء السابعة، فلا تنافي بينهما.

أُعِدَّتْ ادّخرت و هيّئت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة، و أنّ الإيمان وحده كاف في استحقاقها، لأنّه ذكر أنّ الجنّة معدّة للمؤمنين، و لم يذكر معه شيئا آخر، و هذا أعظم رجاء لأهل الإيمان.

ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك الموعود يتفضّل به على من يشاء، فإنّه يجزي الدائم الباقي على القليل الفاني. و لو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحقّ بالأعمال، كان عدلا منه، لكنّه تفضّل بالزيادة.

و قيل: معناه: إنّ أحدا منّا لا ينال خيرا في الدنيا و الآخرة إلّا بفضل اللّه، فإنّه سبحانه لو لم يدعنا إلى الطاعة، و لم يبيّن لنا الطريق، و لم يوفّقنا للعمل الصالح، لما اهتدينا إليه، فذلك كلّه من فضل اللّه. و أيضا فإنّه سبحانه تفضّل بالأسباب الّتي يفعل بها الطاعة، من التمكين و الألطاف و كمال العقل، و عرض المكلّف للثواب، فالتكليف أيضا تفضّل.

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فلا يبعد منه التفضّل بذلك و إن عظم قدره.

[سورة الحديد [57]: الآيات 22 الى 24]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [22] لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [23] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [24]

و لمّا بيّن الثواب على الطاعة، عقّبه ببيان الأعواض على مقاساة المصائب، فقال: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كالجدب و العاهة وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ

ص: 603

كالمرض، و الآفة، و موت الأولاد، و سائر الأقارب و الأحباب إِلَّا فِي كِتابٍ إلّا مكتوبة في اللوح، مثبتة في علم اللّه مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها و المعنى: أنّه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس و الأرض، ليستدلّ ملائكته به على أنّه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها إِنَّ ذلِكَ أن يثبته في الكتاب على كثرته عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لاستغنائه عن العدّة و المدّة.

لِكَيْلا تَأْسَوْا أي: أثبت و كتب ذلك لئلّا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ بما أعطاكم اللّه منها، فإنّ من علم أنّ الكلّ مقدّر هان عليه الأمر. و أيضا إذا علم الإنسان أنّ ما فات منها ضمن اللّه تعالى العوض عليه في الآخرة، فلا ينبغي أن يحزن لذلك. و إذا علم أنّ ما ناله منها كلّف الشكر عليه و الحقوق الواجبة فيه، فلا ينبغي أن يفرح به. و إذا علم أنّ شيئا منها لا يبقى، فلا ينبغي أن يهتمّ له، بل يجب أن يهتمّ لأمر الآخرة الّتي تدوم و لا تبيد.

و قرأ أبو عمرو: «بما أتاكم» من الإتيان، ليعادل «ما فاتكم». و على الأوّل فيه إشعار بأنّ فواتها يلحقها إذا خلّيت و طباعها، و أمّا حصولها و بقاؤها فلا بدّ لهما من سبب يوجدها و يبقيها.

و المراد به نفي الأسى المانع عن التسليم لأمر اللّه، و الفرح الموجب للبطر و الاختيال. و لذلك عقّبه بقوله: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ إذ قلّ من يثبت نفسه في حالي الضرّاء و السرّاء.

و قيل لبزرجمهر الحكيم: مالك أيّها الحكيم لا تأسف على ما فات، و لا تفرح بما هو آت؟

فقال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة، و الآتي لا يستدام بالخبرة.

و اعلم أنّ في هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء:

الأوّل: حسن الخلق، لأنّ من استوى عنده وجود الدنيا و عدمها، لا يحسد، و لا يعادي، و لا يشاحّ، فإنّ هذه من أسباب سوء الخلق، و هي من

ص: 604

نتائج حبّ الدنيا.

و ثانيها: استحقار الدنيا و أهلها، إذا لم يفرح بوجودها، و لم يحزن لعدمها.

و ثالثها: تعظيم الآخرة، لما ينال من الثواب الدائم الخالص من الشوائب.

و رابعها: الافتخار باللّه دون أسباب الدنيا.

و يروى أنّ عليّ بن الحسين عليه السّلام جاءه رجل فقال له: ما الزهد؟ فقال: «الزهد عشرة أجزاء. فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع. و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين. و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا. و إنّ الزهد كلّه في آية من كتاب اللّه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ».

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من «كلّ مختال» فإنّ المختال بالمال يضنّ به غالبا. أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لأنّ معناه: و من يعرض عن الإنفاق، فإنّ اللّه غنيّ عنه و عن إنفاقه، محمود في ذاته، لا يضرّه الإعراض عن شكره، و لا ينتفع بالتقرّب إليه بشي ء من نعمه. و فيه تهديد و إشعار بأنّ الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق. و قرأ نافع و ابن عامر: «فإنّ اللّه الغنيّ».

[سورة الحديد [57]: الآيات 25 الى 29]

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [25] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [26] ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا

ص: 605

فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [28] لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [29]

ثمّ بيّن سبحانه بعث الأنبياء على عباده إرشادا لهم إلى الطاعات البدنيّة، المثمرة للخضوع و الخشوع، الزاجرين عن البطر و الاختيال، و إلى العبادات الماليّة المنتجة للإحسان على المحتاجين، المانعة عن البخل المذموم عند ربّ العالمين، فقال:

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي: الملائكة إلى الأنبياء، أو الأنبياء إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ بالحجج و المعجزات وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ المكتوب الّذي يتضمّن الأحكام، و ما يحتاج إليه الخلق من الحلال و الحرام، كالتوراة و الإنجيل و القرآن، ليبيّن الحقّ، و يميّز صواب العمل وَ الْمِيزانَ ذا الكفّتين الّذي يوزن به لتسوى به الحقوق، و يقام به العدل، كما قال: لِيَقُومَ النَّاسُ في معاملاتهم بِالْقِسْطِ.

و إنزاله إنزال أسبابه، و الأمر بإعداده.

ص: 606

و روي: أنّ جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح و قال: مر قومك يزنوا به.

و يجوز أن يراد به العدل لتقام به السياسة، و يدفع به الأعداء، كما قال:

وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي: يمتنع به، و يحارب به في القتال. و المعنى:

أنّه يتّخذ منه آلتان: آلة للدفع و آلة للضرب، فإنّ آلات الحروب متّخذة منه.

قيل: نزل آدم من الجنّة و معه خمسة أشياء من الحديد: السندان، و الكلبتان، و الميقعة (1)، و المطرقة (2)، و الإبرة. و روي: و معه المرّ (3) و المسحاة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض:

أنزل الحديد، و النار، و الماء، و الملح».

و عن الحسن: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ»: خلقناه، كقوله تعالى: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ (4). و ذلك أنّ أوامره تنزل من السماء.

وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ في مصالحهم و معايشهم و صنائعهم، إذ ما من صنعة إلّا و الحديد آلتها، أو ما يعمل بالحديد.

وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفّار.

و العطف على محذوف دلّ عليه ما قبله، فإنّه حال يتضمّن تعليلا. كأنّه قال: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» ليكون أسلحة للحرب و منافع للعباد، و ليعلم اللّه نصرة من ينصره و رسله نصرة موجودة، و جهاد من جاهد مع رسوله موجودا. أو اللام صلة لمحذوف، أي:

أنزله ليعلم اللّه من ينصره و رسله. بِالْغَيْبِ حال من المستكن في «ينصره». كما قال ابن عبّاس معناه: ينصرونه و لا يبصرونه. يعني: ينصرونه بالعلم الواقع

ص: 607


1- الميقعة: خشبة القصّار- أي: محوّر الثياب و مبيّضها- يدقّ عليها.
2- المطرقة: آلة من حديد و نحوه يضرب بها الحديد و نحوه.
3- المر: المسحاة.
4- الزمر: 6.

بالاستدلال و النظر من غير مشاهدة بالبصر.

إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على إهلاك من أراد إهلاكه عَزِيزٌ لا يفتقر إلى نصرة أحد.

و إنّما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به، و يستوجبوا ثواب الامتثال فيه.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ خصّهما بالذكر لفضلهما، و لأنّهما أبوا الأنبياء وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ بأن استنبأناهم و أوحينا إليهم الكتب. و عن ابن عبّاس: المراد بالكتاب الخطّ بالقلم. يقال: كتب كتابا و كتابة. فَمِنْهُمْ فمن الذرّيّة. أو من المرسل إليهم، و قد دلّ عليهم «أرسلنا». مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم. و العدول عن سنن المقابلة للمبالغة في الذمّ، و الدلالة على أنّ الغلبة للضلال.

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ثمّ أتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء برسل آخرين إلى قوم آخرين وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: أرسلنا رسولا بعد رسول حتّى انتهى إلى عيسى عليه السّلام. و الضمير لنوح و إبراهيم و من أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل، لا للذرّيّة، فإنّ الرسل المقفّى بهم من الذرّيّة.

وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في دينه، يعني:

الحواريّين و أتباعهم، اتّبعوا عيسى رَأْفَةً هي أشدّ الرقّة و الرحمة وَ رَحْمَةً و إنّما أضافهما إلى نفسه، لأنّه سبحانه جعلهما في قلوبهم بالأمر بهما، و الترغيب فيهما، و وعد الثواب عليهما.

وَ رَهْبانِيَّةً انتصابها بفعل مضمر يفسّره ما بعده، تقديره: و ابتدعوا رهبانيّة ابْتَدَعُوها و هي المبالغة في العبادة و الرياضة و الانقطاع عن الناس، و اتّخاذ الصوامع لها في البراري و الجبال. منسوبة إلى الرهبان، و هو المبالغ في الخوف، من: رهب، كالخشيان من: خشي. و المعنى: ترهّبهم في الجبال فارّين من الجبابرة أن يفتنوهم في دينهم مخلصين أنفسهم للعبادة، كما سيجي ء تفصيله.

ص: 608

ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضناها عليهم إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أي: و لكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان اللّه، و ألزموها على أنفسهم، كما أنّ الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمّه.

و قيل: متّصل، و «رهبانيّة» معطوفة على ما قبلها، و «ابتدعوها» صفة لها في محلّ النصب، أي: و جعلنا في قلوبهم رأفة و رحمة و رهبانيّة مبتدعة من عندهم.

بمعنى: وفّقناهم للتراحم بينهم، و لابتداع الرهبانيّة و استحداثها، و الإتيان بها أولا، لا أنّهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. ما كتبناها عليهم إلّا ليبتغوا رضوان اللّه، و يستحقّوا بها الثواب. على أنّه كتبها عليهم و ألزمها إيّاهم ليتخلّصوا من الفتن، و يبتغوا بذلك رضا اللّه تعالى و ثوابه.

فَما رَعَوْها فما رعوا جميعا حَقَّ رِعايَتِها كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنّه عهد مع اللّه لا يحلّ نكثه. و ذلك بضمّ التثليث، و القول بالاتّحاد، و قصد السمعة، و الكفر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نحوها، إلى الابتداع.

فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أتوا بالإيمان الصحيح. و هم أهل الرحمة و الرأفة الّذين اتّبعوا عيسى، و حافظوا حقوقه، و من ذلك الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْهُمْ من المتّسمين باتّباعه أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الاتّباع، غير حافظين على نذرهم.

و عن ابن مسعود قال: «دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين و سبعين فرقة، نجا منها اثنتان، و هلك سائرهنّ.

فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى عليه السّلام فقتلوهم. و فرقة لم تكن لهم طاقة لموازاة الملوك، و لا أن يقيموا بين ظهرانيّهم يدعونهم إلى دين اللّه تعالى و دين عيسى عليه السّلام، فساحوا في البلاد و ترهّبوا. و هم الّذين قال اللّه فيهم: وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من آمن بي و صدّقني و اتّبعني فقد رعاها حقّ

ص: 609

رعايتها، و من لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون».

و أيضا عن ابن مسعود قال: «كنت رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حمار، فقال:

يا ابن أمّ عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانيّة؟

فقلت: اللّه و رسوله أعلم.

قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السّلام، يعملون بمعاصي اللّه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرّات، فلم يبق منهم إلّا القليل.

فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا، و لم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث اللّه النبيّ الّذي وعدنا عيسى عليه السّلام، يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فتفرّقوا في غيران (1) الجبال، و أحدثوا رهبانيّة، فمنهم من تمسّك بدينه، و منهم من كفر. ثمّ تلا هذه الآية: وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها إلى آخرها.

ثمّ قال: يا ابن أمّ عبد أ تدري ما رهبانيّة أمّتي؟

قلت: اللّه و رسوله أعلم.

قال: الهجرة، و الجهاد، و الصلاة، و الصوم، و الحجّ، و العمرة».

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد اللّه، و صدّقوا موسى و عيسى و سائر الرسل المتقدّمة اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بمن قبله من الأنبياء. و لا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق- و إن كان منسوخا- ببركة الإسلام وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يريد المذكور في قوله: يَسْعى نُورُهُمْ (2). أو الهدى الّذي يسلك به إلى جناب القدس. وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر و المعاصي وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ص: 610


1- جمع: غار.
2- الحديد: 12.

روي عن سعيد بن جبير: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه و دعاه، فاستجاب له و آمن به. فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، و هم أربعون رجلا: ائذن لنا في الوفادة على رسول اللّه، فأذن لهم. فقدموا مع جعفر و قد تهيّأ لوقعة أحد، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول اللّه، و قالوا: يا نبيّ اللّه إنّ لنا أموالا، و نحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم. فانصرفوا فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين. فأنزل اللّه فيهم: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (1).

فلمّا سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله: يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ (2) فخروا على المسلمين و قالوا: أمّا من آمن منّا بكتابكم و بكتابنا فله أجره مرّتين، و أمّا من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فضلكم علينا؟ فأنزل اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ» الآية. فجعل لهم أجرين، و زادهم النور و المغفرة.

ثمّ قال: لِئَلَّا يَعْلَمَ «لا» مزيدة. و عن الفرّاء: إنّما تدخل «لا» صلة في كلّ كلام دخل في أواخره أو أوائله جحد، و إن لم يكن مصرّحا به، نحو قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (3). وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (4). وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (5).

ص: 611


1- القصص: 52- 54.
2- القصص: 52- 54.
3- الأعراف: 12.
4- الأنعام: 109.
5- الأنبياء: 95.

و المعنى: ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الّذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «أن» هي المخفّفة. و المعنى: أنّ الشأن لا ينالون شيئا ممّا ذكر من فضله، من الكفلين و النور و المغفرة، و لا يتمكّنون من نيله، لأنّهم لم يؤمنوا برسوله، و هو مشروط بالإيمان به. أو لا يقدرون على شي ء من فضله، فضلا عن أن يتصرّفوا في أعظمه، و هو النبوّة، فيخصّوها بمن أرادوا. و يؤيّده قوله: وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ في ملكه و تصرّفه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يتفضّل على من يشاء من عباده المؤمنين.

و قال الكلبي: كان الوافدون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليمن أربعة و عشرين رجلا، و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكّة، لم يكونوا يهودا و لا نصارى، و كانوا على دين الأنبياء، فأسلموا. فقال لهم أبو جهل: بئس القوم أنتم، و الوفد لقومكم. فردّوا عليه: وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ (1) الآية. فجعل اللّه لهم و لمؤمني أهل الكتاب- عبد اللّه بن سلام و أصحابه- أجرين اثنين. فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول اللّه و يقولون: نحن أفضل منكم، لنا أجران، و لكم أجر واحد. فنزلت: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ» إلى قوله: «لِئَلَّا يَعْلَمَ» إلى آخرها.

و قيل: «لا» غير مزيدة. و المعنى: لئلّا يعتقد أهل الكتاب أنّهم لا يقدرون أن يؤمنوا، لأنّ من لا يعلم أنّه لا يقدر يعلم أنّه يقدر.

و قيل: معناه: لئلّا يعلم اليهود و النصارى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين لا يقدرون على ذلك، بل علموا أنّهم يقدرون عليه، أي: إن آمنتم كما أمركم اللّه آتاكم اللّه من فضله، فعلم أهل الكتاب ذلك، و لم يعلموا خلافه. و على هذا فالضمير في «يقدرون» ليس لأهل الكتاب.

و قال أبو سعيد السيرافي: معناه: إنّ اللّه يفعل بكم هذه الأشياء لئلّا يعلم- أي: ليتبيّن- جهل أهل الكتاب، و أنّهم لا يعلمون أنّ ما يؤتيكم اللّه من فضله لا يقدرون على تغييره و إزالته عنكم.

ص: 612


1- المائدة: 84.

[58] سورة المجادلة

اشارة

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب اللّه يوم القيامة».

[سورة المجادلة [58]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [1] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [2] وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [3] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [4]

ص: 613

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الحديد بذكر فضله على من يشاء من عباده، افتتح هذه السورة بذكر بيان فضله في إجابة دعاء خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة، رآها زوجها ساجدة في صلاتها، و كانت حسنة الجسم عظيمة الأليتين، فلمّا سلّمت راودها فأبت، فغضب، و كان به خفّة و لمم (1)، فظاهر منها.

و هذا أوّل ظهار في الإسلام، و كان طلاق أهل الجاهليّة. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: إنّ أوسا تزوّجني و أنا شابّة، غانية (2)، ذات جمال و مال و أهل، حتّى إذا أكل مالي، و أفنى شبابي، و تفرّق أهلي، و خلا سنّي، و نثرت بطني- أي: كثر ولدي- جعلني عليه كأمّه.

و روي أنّها قالت له: إنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، و إن ضممتهم إليّ جاعوا.

فقال: ما عندي في أمرك شي ء.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لها: حرمت عليه.

فقالت: يا رسول اللّه، ما ذكر طلاقا، و إنّما هو أبو ولدي، و أحبّ الناس إليّ.

فقال: حرمت عليه.

فقالت: أشكو إلى اللّه فاقتي و وجدي. كلّما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حرمت عليه، هتفت و شكت إلى اللّه فقالت: اللّهمّ فأنزل على لسان نبيّك.

فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر. فقالت: انظر في أمري جعلني اللّه فداك يا نبيّ اللّه.

فقالت عائشة: اقصري حديثك و مجادلتك، أما ترين وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه شي ء أخذه مثل السبات..

ص: 614


1- اللمم: جنون خفيف، أو طرف من الجنون يلمّ بالإنسان.
2- الغانية: المرأة الغنيّة بحسنها و جمالها عن الزينة.

فلمّا قضي الوحي قال: ادعي زوجك. فقرأ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها

تراجعك في شأنه سؤالا و جوابا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ و تظهر شكواها و ما بها من المكروه، فتقول: اللّهمّ إنّك تعلم حالي فارحمني، فإنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، و إن ضممتهم إليّ جاعوا. و معنى «قد» التوقّع، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المجادلة كانا يتوقّعان أن يسمع اللّه مجادلتها و شكواها، و ينزل في ذلك ما يفرّج عنها كربها. و أدغم حمزة و الكسائي و أبو عمرو و هشام عن ابن عامر دالها في السين.

وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما تراجعكما الكلام. و هو على تغليب الخطاب. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ للأقوال و الأحوال.

و لمّا كان الظهار من عادة الجاهليّة، و من أيمانهم خاصّة دون سائر الأمم، وبّخهم اللّه تعالى و هجّنهم في ذلك، فقال:

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ أي: يقولون لهنّ: أنتنّ كظهور أمّهاتنا.

مشتقّ من الظهر. و أصل «يظّهّرون»: يتظهّرون. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي:

يظّاهرون، من: اظّاهر. و عاصم: يظاهرون، من: ظاهر. ما هُنَ ما الزوجات اللاتي يظاهرونهنّ أُمَّهاتِهِمْ على الحقيقة، فإنّ إلحاق الزوجة بالأمّ، و جعلها مثلها بقول: أنت عليّ كظهر أمّي، تشبيه باطل، لتباين الحالين.

إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا تشبّه بهنّ في الحرمة إلّا من ألحقها اللّه بهنّ كالمرضعات، لأنّهنّ لمّا أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمّهات شرعا،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

و كذلك أزواج الرسول، لأنّ اللّه تعالى حرّم نكاحهنّ على الأمّة، فدخلن بذلك في حكم الأمّهات، بخلاف الزوجات، فإنّهنّ أبعد شي ء من الأمومة، لأنّهنّ لسن بأمّهات حقيقة، و لا بداخلات

ص: 615

في حكم الأمّهات. فكان قول المظاهر منكرا، كما قال عزّ اسمه: وَ إِنَّهُمْ أي:

المظاهرين لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ إذ الشرع أنكره وَ زُوراً و كذبا منحرفا عن الحقّ. و عن عاصم: أمّهاتهم بالرفع، على اللغة الحجازيّة و التميميّة. وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لما سلف منه مطلقا، أو إذا تيب عنه.

و هل يقع الظهار لو شبّهها بغير الظهر، كالبطن و الفخذ و غير ذلك من الأعضاء؟ الأقوى عندنا عدم الوقوع. و كذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه، الأقرب عدم الوقوع أيضا، اقتصارا على منطوق النصّ، و جمودا في التحريم على ما أبلغ عليه. قال الفقهاء: إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه- كالبطن و الفخذ- وقع.

و الآية تدلّ على أنّ الظهار حرام، لوصفه بالمنكر. نعم، لا عقاب فيه، لتعقيبه بذكر المغفرة و الرحمة. و هو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة.

ثمّ بيّن حكم الظهار، فقال: وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يتداركون ما قالوا، لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه. و قال الفرّاء: يعودون لما قالوا، و إلى ما قالوا، و فيما قالوا. معناه: يرجعون عمّا قالوا. يقال: عاد لما فعل، أي: نقض ما فعل. و منه المثل: عاد الغيث على ما أفسد، أي: تداركه بالإصلاح.

و ذلك عندنا و عند مالك بإرادة الوطء. و إضمار الإرادة في العود كإضمارها في قوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ (1). و عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زمانا يمكنه مفارقتها فيه. و عند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها و لو بنظرة شهوة.

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي: فعليهم، أو فالواجب إعتاق رقبة. و الفاء للسببيّة. و من فوائدها الدلالة على تكرّر وجوب التحرير بتكرّر الظهار. و الرقبة مقيّدة بالأيمان عندنا و عند الشافعي.

ص: 616


1- النحل: 98.

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أن يجامعها، لشهرة المسيس بمعنى الجماع في الكتاب و السنّة. و عند الشافعي: من قبل أن يستمتع كلّ من المظاهر و المظاهر عنها بالآخر، لعموم اللفظ. و فيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير.

ذلِكُمْ أي: ذلكم الحكم بالكفّارة تُوعَظُونَ بِهِ لأنّه يدلّ على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة الرادعة عنها، فيجب أن تتّعظوا بهذا الحكم لتنزجروا عن أن تعودوا إلى الظهار وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا تخفى عليه خافية.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فإن أفطر لغير عذر لزمه الاستئناف. و إن أفطر لعذر بنى. و عند أصحابنا أنّه إذا اصام شهرا، و من الثاني شيئا و لو يوما واحدا، ثمّ أفطر لغير عذر صحّ، و لا يلزمه الاستئناف. و إن أفطر قبل ذلك استأنف. و متى بدأ بالصوم و صام بعض ذلك، ثمّ وجد الرقبة، لا يلزمه الرجوع إليها. و إن رجع كان أفضل. و عند جماعة يلزمه الرجوع إلى العتق.

فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي: الصوم، لهرم أو لعلّة فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكلّ مسكين نصف صاع عند أصحابنا، فإن لم يقدر فمدّ. و إنّما لم يذكر التماسّ مع الطعام اكتفاء بذكره مع الآخرين.

ذلِكَ أي: ذلك البيان، أو التعليم للأحكام. و محلّه النصب بفعل معلّل بقوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي: فرض ذلك لتصدّقوا باللّه و رسوله في قبول شرائعه، و رفض ما كنتم عليه في جاهليّتكم.

وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ لا يجوز تعدّيها وَ لِلْكافِرِينَ الّذين لا يقبلونها عَذابٌ أَلِيمٌ و هو نظير قوله: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (1).

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول آيات الظهار خيّر الأوس بين الطلاق و الإمساك.

ص: 617


1- آل عمران: 97.

فاختار الإمساك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: كفّر بعتق رقبة.

فقال: مالي غيرها. و أشار إلى رقبته.

فقال: صم شهرين متتابعين.

فقال: لا طاقة لي بذلك.

فقال: أطعم ستّين مسكينا.

فقال: و اللّه ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي. فأمر له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشي ء من مال الصدقة، و أمره أن يطعمه عن كفّارته. فشكا خصاصة حاله، و أنّه أشدّ فاقة و ضرورة ممّن أمر بدفعه إليهم. فضحك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمره بالاستغفار، و أباح له العود إليها.

و فيها دلالة على أنّه مع العجز عن الكفّارة يستغفر اللّه و يعود. و يؤيّده

رواية إسحاق بن عمّار موثّقا عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فيستغفر ربّه».

و بواقي أحكام الظهار و الشرائط المعتبرة فيه مذكورة في كتب الأصحاب، فليطالع ثمّة.

[سورة المجادلة [58]: الآيات 5 الى 6]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [5] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [6]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يعادونهما، فإنّ كلّا من المتعاديين في حدّ غير حدّ الآخر. أو يضعون، أو يختارون حدودا غير حدودهما. كُبِتُوا أخزوا و أهلكوا. و أصل الكبت الكبّ. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفّار الأمم

ص: 618

الماضية. قيل: أريد كبتهم يوم الخندق. وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ تدلّ على صدق الرسول و صحّة ما جاء به وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يذهب عزّهم و تكبّرهم.

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب ب «مهين». أو بإضمار: اذكر، تعظيما لليوم.

جَمِيعاً كلّهم لا يدع أحدا غير مبعوث. أو مجتمعين في حال واحدة.

فَيُنَبِّئُهُمْ اللّه، أي: يخبرهم بِما عَمِلُوا على رؤوس الأشهاد، تشهيرا لحالهم، و تقريرا لعذابهم، و توبيخا لهم أَحْصاهُ اللَّهُ أحاط به عددا، لم يغب منه شي ء وَ نَسُوهُ لكثرته، أو تهاونهم به وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه شي ء.

[سورة المجادلة [58]: آية 7]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [7]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يعلم ما يكون في العالم فقال: أَ لَمْ تَرَ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد جميع المكلّفين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ كلّا و جزءا ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ من «كان» التامّة. و تذكير الفعل على أنّ النجوى تأنيثها غير حقيقيّ، و «من» فاصلة. أو على أنّ المعنى: ما يقع شي ء من النجوى. و النجوى: التناجي. فلا تخلو: إمّا أن تكون مضافة إلى ثلاثة، أي: من نجوى ثلاثة نفر، أو موصوفة بها على حذف المضاف، أي: من أهل نجوى ثلاثة، أو جعلوا نجوى في أنفسهم مبالغة، كقوله تعالى: خَلَصُوا نَجِيًّا (1). و اشتقاقها من

ص: 619


1- يوسف: 80.

النجوة، و هي ما ارتفع من الأرض، فإنّ السرّ أمر مرفوع إلى الذهن، لا يتيسّر لكلّ أحد أن يطّلع عليه.

إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ إلّا اللّه يجعلهم أربعة، من حيث إنّه يشاركهم في الاطّلاع.

و الاستثناء من أعمّ الأحوال. وَ لا خَمْسَةٍ و لا نجوى خمسة إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ

و تخصيص هذين العددين إمّا لخصوص الواقعة، فإنّ الآية نزلت في تناجي قوم من المنافقين مغايظة للمؤمنين على هذين العددين: ثلاثة و خمسة. و روي عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في ربيعة و حبيب ابني عمرو و صفوان بن اميّة، كانوا يوما يتحدّثون، فقال أحدهم: أ ترى أنّ اللّه يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا، و لا يعلم بعضا. و قال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كلّه.

أو لأنّ اللّه وتر يحبّ الوتر، و الثلاثة أوّل الأوتار. أو لأنّ التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين، و ثالث يتوسّط بينهما، إلى خمسة إلى ستّة، و لا يتجاوزون عن الستّة غالبا عرفا عندهم.

وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ و لا أقلّ ممّا ذكر، كالواحد و الاثنين وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ و معنى كونه معهم: أنّه يعلم ما يجري بينهم من التناجي، و لا يخفى عليه ما هم فيه، فكأنّه مشاهدهم و محاضرهم، و قد تعالى عن المكان. و قرأ يعقوب: و لا أكثر بالرفع، عطفا على محلّ «من نجوى»، أو محلّ «و لا أدنى»، بأن جعلت «لا» لنفي الجنس. أَيْنَ ما كانُوا فإنّ علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتّى يتفاوت باختلاف الأمكنة.

ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ تفضيحا لهم، و تقريرا لما يستحقّونه من الجزاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكلّ على سواء.

[سورة المجادلة [58]: الآيات 8 الى 10]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ

ص: 620

وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [9] إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [10]

و عن ابن عبّاس: إنّ اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، و ينظرون إلى المؤمنين و يتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما هذا التناجي إلّا بأنّه بلغهم عن أقربائنا و إخواننا الّذين خرجوا في السرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم و يحزنهم، فلمّا طال ذلك شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك و عادوا إلى مناجاتهم، فنزلت:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى

عن إسرار الكلام بينهم بما يغمّ المسلمين و يحزنهم ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي: يرجعون إلى التناجي بعد النهي وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ بما هو إثم و عدوان للمؤمنين وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ و تواص بمعصية الرسول و مخالفته. و قرأ رويس عن يعقوب: و ينتجون.

و هو يفتعلون من النجوى.

وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ و ذلك أنّ اليهود كانوا يأتون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقولون: السام عليك يا محمد، أو أنعم صباحا. و اللّه سبحانه يقول:

ص: 621

وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى (1). و يا أَيُّهَا الرَّسُولُ (2). و يا أَيُّهَا النَّبِيُ (3).

وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ فيما بينهم لَوْ لا هلّا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ كانوا يقولون: ماله إن كان نبيّا لا يدعو علينا حتّى يعذّبنا اللّه بما نقول.

فقال سبحانه: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا، لما فيها من أنواع العذاب و النكال يَصْلَوْنَها يدخلونها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنّم.

ثمّ نهى المؤمنين عن مثل ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ فلا تتناجوا بالشرّ كما يفعله المنافقون.

و عن يعقوب: فلا تنتجوا. وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى بما يتضمّن خير المسلمين، و الاتّقاء عن معصية الرسول. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما، فإنّ ذلك يحزنه».

و روي: «دون الثالث».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيما تأتون و تذرون، فإنّه مجازيكم عليه.

و لمّا كان المؤمنون يتوهّمون في نجوى المنافقين و اليهود و تغامزهم أنّ غزاتهم غلبوا، و أنّ أقاربهم قتلوا، فقال سبحانه:

إِنَّمَا النَّجْوى إشارة إلى النجوى بالإثم و العدوان مِنَ الشَّيْطانِ لأنّه المزيّن لها و الحامل عليها، فكأنّها منه لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا بتوهّمهم أنّها في نكبة أصابتهم وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ و ليس الشيطان أو التناجي أو الحزن بضارّ المؤمنين بذلك الموهم شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بمشيئته، بأن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على غزاتهم. و قيل: إلّا بعلمه أو بأمر اللّه، لأنّ سببه بأمره، و هو الجهاد

ص: 622


1- النمل: 59.
2- المائدة: 41، و غيرها.
3- الأنفال: 64، و غيرها.

و خروجهم إليه. و قيل: بأمر اللّه، لأنّه يلحقهم الآلام و الأمراض عقيب ذلك.

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في جميع أمورهم دون غيره، و لا يبالوا بنجواهم.

[سورة المجادلة [58]: آية 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [11]

و روى المقاتلان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصفّة و في المكان ضيق، و ذلك يوم الجمعة، و كان عليه السّلام يكرم أهل بدر من المهاجرين و الأنصار. فجاء أناس من أهل بدر و فيهم ثابت بن قيس بن شماس، و قد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: السلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللّه و بركاته. فردّ عليهم النبيّ. ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك. فردّوا عليهم. فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم. فلم يفسحوا لهم، تنافسا على القرب منه، و حرصا على استماع كلامه. فشقّ ذلك على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال لمن حوله من المهاجرين و الأنصار من غير أهل بدر:

قم يا فلان قم يا فلان، بقدر النفر الّذين كانوا بين يديه من أهل بدر. فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه، و عرف الكراهية في وجوههم. و قال المنافقون للمسلمين:

ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس؟ فو اللّه ما عدل على هؤلاء، إنّ قوما أخذوا مجالسهم، و أحبّوا القرب من نبيّهم، فأقامهم و أجلس من أبطأ عنهم مقامهم.

فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ

توسّعوا فيه، بأن يفسح بعضكم عن بعض، و لا تتضامّوا. من قولهم: افسح عنّي، أي: تنحّ. و المراد

ص: 623

مجلس رسول اللّه، أو الجيش، فيشمل مجلس القتال. و هي مراكز الغزاة، كقوله:

مَقاعِدَ لِلْقِتالِ (1) و غيرها. و يدلّ عليه قراءة عاصم بالجمع. فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فيما تريدون التفسّح فيه، من المكان و الرزق و الصدر و القبر و الجنّة و غيرها.

وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا ارتفعوا و انهضوا للتوسعة على المقبلين. و قيل: لما أمرتم به، كصلاة أو جهاد. و قيل: وردت في قوم كانوا يطيلون المكث عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيكون كلّ واحد منهم يحبّ أن يكون آخر خارج، فنزلت فيهم: «وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا». فَانْشُزُوا. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم بضمّ الشين فيهما.

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بالنصر و حسن الذكر في الدنيا، و إيوائهم غرف الجنان في الآخرة وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ و يرفع العلماء خاصّة دَرَجاتٍ عالية و مراتب غالية في الدارين بما جمعوا من العلم و العمل، فإنّ العلم مع علوّ درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، و لذلك يقتدى بالعالم في أفعاله، و لا يقتدى بغيره. و قيل: درجات في مجلس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأمره اللّه سبحانه أن يقرّب العلماء من نفسه فوق المؤمنين الّذين لا يعلمون العلم، ليبيّن فضل العلماء على غيرهم.

و في هذه الآية دلالة على فضل العلماء و جلالة قدرهم. و قد ورد في الحديث أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فضل العالم على الشهيد درجة، و فضل الشهيد على العابد درجة، و فضل النبيّ على العالم درجة، و فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه، و فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

و عنه بين العالم و العابد مائة درجة، بين كلّ درجتين حضر (2) الجواد المضمر سبعين سنة».

ص: 624


1- آل عمران: 121.
2- الحضر: الاسم من: أحضر الفرس: عدا شديدا، أي: ركض.

و عنه: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء». فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوّة و الشهادة عند رسول اللّه.

و عن ابن عبّاس: خيّر سليمان عليه السّلام بين العلم و المال و الملك، فاختار العلم، فأعطي المال و الملك معه.

و قال عليه السّلام: «أوحى اللّه تعالى إلى إبراهيم: يا إبراهيم إنّي عليم أحبّ كلّ عليم».

و عن عبد اللّه بن مسعود: أنّه كان إذا قرأها قال: يا أيّها الناس افهموا هذه الآية، و لترغّبكم في العلم.

و عن بعض الحكماء: ليت شعري أيّ شي ء أدرك من فاته العلم، و أيّ شي ء فات من أدرك العلم.

و عن الأحنف: كاد العلماء يكونون أربابا، و كلّ عزّ لم يوطّد (1) بعلم فإلى ذلّ مّا يصير.

و عن الزبيري: العلم ذكر، فلا يحبّه إلّا ذكور الرجال.

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يتمثّل الأمر أو استكرهه.

[سورة المجادلة [58]: الآيات 12 الى 13]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [12] أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [13]

ص: 625


1- وطّد الشي ء: قوّاه و أثبته.

روي: أنّ الناس أكثروا مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما يريدون حتّى أملّوه (1) و أبرموه، فأراد اللّه سبحانه أن يكفّوا عن ذلك، فأمرهم بأنّ من أراد أن يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً

فتصدّقوا قدّامها. مستعار ممّن له يدان. و في هذا الأمر تعظيم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنفاع الفقراء، و النهي عن الإفراط في السؤال، و التمييز بين المخلص و المنافق، و محبّ الآخرة و محبّ الدنيا. و الأمر للوجوب، و خاتمة الآية دالّة عليه. ثمّ نسخ بقوله: «أ أشفقتم». و هو و إن اتّصل به تلاوة، لم يتّصل به نزولا.

و عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «لمّا نزلت دعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: كم؟ قلت: حبّة أو شعيرة. قال: إنّك لزهيد». فلمّا رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا و كفّوا. أمّا الفقير فلعسرته، و أمّا الغنيّ فلشحّه.

و قال عليّ عليه السّلام: «إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد قبلي، و لا يعمل بها أحد بعدي. كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم».

و قال الكلبي: تصدّق به في عشر كلمات سألهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و روي عنه عليه السّلام أيضا أنّه قال: «بي خفّف اللّه عن هذه الأمّة، لم ينزل في أحد قبلي، و لم ينزل في أحد من بعدي».

و عن ابن عمر: كان لعليّ عليه السّلام ثلاث، لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحبّ إليّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة، و إعطاؤه الراية يوم خيبر، و آية النجوى.

و عن مجاهد و قتادة: لمّا نهوا عن مناجاته حتّى يتصدّقوا، لم يناجه إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قدّم دينارا فتصدّق به، ثمّ نسخ اللّه سبحانه ذلك الحكم بعد عشرة أيّام.

ذلِكَ أي: ذلك التصدّق خَيْرٌ لَكُمْ لأنفسكم من الريبة و حبّ المال،

ص: 626


1- أي: أضجروه و أوقعوه في المال.

لأنّ فيه أداء واجب و تحصيل ثواب وَ أَطْهَرُ و أدعى إلى نزاهة الباطن و نظافة الظاهر، الداعية إلى مجانبة المعاصي، كتقدّم الطهارة على الصلاة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن لم يجد، حيث رخّص له في المناجاة بلا تصدّق.

أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أخفتم الفقر يا أهل الميسرة من تقديم الصدقة؟ أو أخفتم تقديم الصدقات لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر، حيث قال: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ (1)؟ و الهمزة للتوبيخ لهم على ترك الصدقة إشفاقا من العيلة. و جمع «صدقات» لجمع المخاطبين، أو لكثرة التناجي.

فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به و شقّ عليكم وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخّص لكم أن لا تفعلوه. و فيه إشعار بأنّ إشفاقهم ذنب تجاوز اللّه عنه، لما رأى منهم ممّا قام مقام توبتهم. و «إذ» بمعنى الظرف، أو بمعنى «إن». فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فلا تفرّطوا في أدائهما وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأوامر، فإنّ القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا و باطنا، من نيّاتكم و أعمالكم.

[سورة المجادلة [58]: الآيات 14 الى 16]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [14] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [15] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [16]

ص: 627


1- البقرة: 268.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في حجرة من حجراته، فقال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، و ينظر بعين شيطان». فدخل عبد اللّه بن نبتل المنافق، و كان أزرق. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فحلف باللّه ما فعل. فقال عليه السّلام:

فعلت. فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا باللّه ما سبّوه. فنزلت:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا

والوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ من منافقي اليهود ما هُمْ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون وَ لا مِنْهُمْ من اليهود، لأنّهم لنفاقهم مذبذبون بين ذلك وَ يَحْلِفُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبِ و هو ادّعاء الإسلام وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ المحلوف عليه كذب، كمن يحلف بالغموس (1). و في هذا التقييد دليل على أنّ الكذب يعمّ ما يعلم المخبر عدم مطابقته و ما لا يعلم.

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فتمرّنوا على سوء العمل و أصرّوا عليه.

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي: الّتي حلفوا بها جُنَّةً سترة يتستّرون بها من المؤمنين، يدفعون بها عن أنفسهم التهمة، و وقاية دون دمائهم و أموالهم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فصدّوا الناس في خلال أمنهم و سلامتهم عن دين اللّه، بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام، و تضعيف أمر المسلمين عندهم فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم. و قيل: الأوّل عذاب القبر، و هذا عذاب الآخرة.

[سورة المجادلة [58]: الآيات 17 الى 22]

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [17] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ

ص: 628


1- اليمين الغموس أي: الكاذبة الّتي يتعمّدها صاحبها.

وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [18] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [19] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [20] كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [21]

لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [22]

روي: أنّ رجلا منهم قال: لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا و أموالنا و أولادنا.

فقال سبحانه ردّا عليهم:

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قليلا من الإغناء أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله.

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي: للّه تعالى على أنّهم مسلمون قائلون بالبعث كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا أنّهم لمنكم وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ من النفع، لأنّ تمكّن النفاق في نفوسهم بحيث يخيّل إليهم في الآخرة أنّ الأيمان الكاذبة تروّج الكذب على اللّه، كما تروّجه عليكم في الدنيا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ

ص: 629

الْكاذِبُونَ البالغون الغاية في الكذب، حيث يكذبون مع عالم الغيب و الشهادة، و يحلفون عليه.

و ملخّص معنى الآية: أنّه ليس العجب من حلفهم لكم، فإنّكم بشر تخفى عليكم السرائر، و أنّ لهم نفعا في ذلك دفعا عن دمائهم، و استجرار فوائد دنيويّة.

و لكنّ العجب من حلفهم للّه عالم الغيب و الشهادة، مع عدم النفع و الاضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل. و المراد: وصفهم بالتوغّل في نفاقهم و مرونهم (1) عليه، و أنّ ذلك بعد موتهم و بعثهم باق فيهم لا يضمحلّ، كما قال: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ (2).

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ استولى عليهم. من: حذت الإبل و أحذتها إذا استوليت عليها و جمعتها. و هو ممّا جاء على الأصل، نحو: استصوب و استنوق.

و المعنى: ملكهم الشيطان، لطاعتهم له في كلّ ما يريده منهم، حتّى جعلهم رعيّته و حزبه، كما قال: فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أن يذكروا اللّه أصلا، لا بقلوبهم و لا بألسنتهم أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ جنوده و أتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنّهم فوّتوا على أنفسهم النعيم المؤبّد، و عرّضوها للعذاب المخلّد.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يخالفونهما في الحدود و يشاقّونهما. و هم المنافقون. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ في جملة من هو أذلّ خلق اللّه.

كَتَبَ اللَّهُ في اللوح لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي بالحجّة و السيف، أو بأحدهما.

و قرأ نافع و ابن عامر: و رسلي بفتح الياء. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على نصر أنبيائه عَزِيزٌ لا يغلب عليه في مراده.

يروى أنّ المسلمين قالوا لمّا رأوا ما يفتح اللّه عليهم من القرى: ليفتحنّ اللّه

ص: 630


1- مرن على الشي ء: اعتاده و داومه.
2- الأنعام: 28.

علينا الروم و فارس. فقال المنافقون: أ تظنّون أنّ فارس و الروم كبعض القرى الّتي غلبتم عليها؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

ثمّ قال سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ هذا من باب التخييل، خيّل أنّ من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، أي: لا ينبغي أن يكون ذلك، و حقّه أن يمتنع و لا يوجد بحال.

مبالغة في النهي عنه، و الزجر عن ملابسته، و التوصية بالتصلّب في مجانبة أعداء اللّه و مباعدتهم، و الاحتراز من مخالطتهم و معاشرتهم، فلا ينبغي أن يوادّوهم.

ثمّ زاد ذلك تأكيدا و تشديدا بقوله: وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ و لو كان المحادّون أقرب الناس إليهم. و لا يكون شي ء أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء اللّه و معاداة أعدائه، بل هو الإخلاص بعينه.

أُولئِكَ أي: الّذين لم يوادّوهم كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أثبته فيها بما فعل بهم من الألطاف، فصار كالمكتوب فيها. و هو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزء الثابت في القلب لا يكون إلّا ثابتا فيه، و أعمال الجوارح لا تثبت فيه.

و عن أبي علي الفارسي: كتب في قلوبهم علامة الإيمان. و معنى ذلك: أنّها سمة لمن يشاهدهم من الملائكة على أنّهم مؤمنون، كما أنّ قولهم في الكفّار:

وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ (1) معناه: علامة يعلم من شاهدها من الملائكة أنّه مطبوع على قلبه.

وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ و قوّاهم بلطف من عنده حييت به قلوبهم. و يجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان، فإنّها سبب لحياة القلوب.

و قيل: قوّاهم بنور الحجج و البراهين حتّى اهتدوا للحقّ و عملوا به.

ص: 631


1- التوبة: 93.

و قيل: قوّاهم بالقرآن الّذي هو حياة القلوب من الجهل.

و قيل: أيّدهم بجبرئيل في كثير من المواطن، ينصرهم و يدفع عنهم.

وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بخلوص طاعتهم وَ رَضُوا عَنْهُ بما وعدهم من الثواب أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده و أنصار دينه، و دعاة خلقه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدارين.

و قيل: إنّ الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكّة ينذرهم بمجي ء رسول اللّه إليهم، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخفى ذلك، فلمّا عوتب على ذلك قال: أهلي بمكّة أحببت أن أحفظهم بيد تكون لي عندهم.

و قال السدّي: نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و ابنه عبيد اللّه بن عبد اللّه، و كان هذا الابن عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فشرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال: أبق فضلة من شرابك اسقها أبي، لعلّ اللّه يطهّر قلبه. فأعطاه، فأتى بها أباه. فقال: ما هذا؟ فقال: بقيّة شراب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جئتك بها لتشربها، لعلّ اللّه يطهّر قلبك. فقال: هلّا جئتني ببول أمّك؟

فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ائذن لي في قتله. فقال: بل ترفّق به.

ص: 632

فهرس الموضوعات

الصورة

ص: 633

الصورة

ص: 634

الصورة

ص: 635

الصورة

ص: 636

الصورة

ص: 637

الصورة

ص: 638

الصورة

ص: 639

الصورة

ص: 640

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.