زبدة التفاسير المجلد 5

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:الشریف الکاشاني، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان واسم المؤلف: زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشاني الشریف الکاشاني؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیة

تحرير الحالة: [ویرایش 2؟]

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 7

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیة؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

ISBN : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : الطبعة السابقة: مؤسسة التربية الإسلامية، 1378 (5 ج.)

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : کتابنامه

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن ق 10

المعرف المضاف: مؤسسة التربية الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP96/5/ک 2ز2 1381

تصنيف ديوي: 297/1726

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-26543

ص: 1

اشارة

زبدة التفاسير

تأليف

المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني قدس سره المتوفى سنة 988 ه_ . ق

الجزء الخامس

تحقيق ونشر

مؤسّسة المعارف الإسلامية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

[26] سورة الشعراء

اشارة

مكيّة. و هي مائتان و سبع و عشرون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و كذّب به، و هود و شعيب و صالح و إبراهيم، و بعدد من كذّب بعيسى، و صدّق بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعطيت السورة الّتي يذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل، و أعطيت طه و طواسين من ألواح موسى، و أعطيت فواتح القرآن و خواتيم السورة الّتي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، و أعطيت المفصّلة نافلة».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء اللّه، و في جواره و كنفه، و لم يصيبه في الدنيا بؤس أبدا، و أعطي في الآخرة

من الأجر الجنّة حتّى يرضى، و فوق رضاه، و زوّجه اللّه مائة حوراء من الحور العين».

[سورة الشعراء [26]: الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم [1] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [2] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ

ص: 5

يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [3] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [4]

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [5] فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [6] أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [7] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [8] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [9]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ذكر في مختتم سورة الفرقان تكذيبهم بالكتاب، ذكر في مفتتح هذه السورة وصف الكتاب، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم قد مرّ غير مرّة أنّه روي عن ابن عبّاس:

أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السور إشارة إلى مفاتيح أسماء اللّه تعالى. فهاهنا:

الطاء إشارة إلى الطاهر، و السين إلى السلام، و الميم إلى نحو المالك. و قال القرطي:

أقسم اللّه بطوله، و سنائه، و ملكه.

و روي عن محمّد بن الحنفيّة، عن عليّ عليه السّلام، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت طسم قال: «الطاء طور سيناء، و السين الاسكندريّة، و الميم مكّة».

و قيل: الطاء شجرة طوبى، و السين سدرة المنتهى، و الميم محمّد المصطفى.

و باقي الوجوه في الحروف المقطّعة مذكورة في صدر سورة البقرة.

و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالإمالة المحضة، و نافع بين بين، كراهة العود إلى الياء المهروب منها. و أظهر نونه حمزة، لأنّه في الأصل منفصل عمّا بعده.

تِلْكَ إشارة إلى السورة، أو القرآن. و

تأنيثه باعتبار الخبر. آياتُ الْكِتابِ

ص: 6

الْمُبِينِ الظاهر إعجازه، و صحّة أنّه من عند اللّه، على ما سبق في أوّل البقرة.

لَعَلَّكَ باخِعٌ أي: قاتل نَفْسَكَ و أصل البخع أن يبلغ بالذبح الباخع، و هو عرق مستبطن الفقار، و ذلك أقصى حدّ الذبح. و «لعلّ» للإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة. أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لئلّا يؤمنوا، أو خيفة أن لا يؤمنوا. و إنّما قال ذلك سبحانه تسلية لنبيّه، و تخفيفا عنه بعض ما كان يصيبه من الاغتمام.

ثمّ قال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً دلالة و علامة يلجئهم إلى الإيمان، و يقسرهم عليه فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين. و أصله: فظلّوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، و ترك الخبر على أصله، حيث لم يقل: خاضعة أو خاضعات.

و قيل: لمّا وصفت الأعناق بالخضوع الّذي هو من صفات العقلاء أجريت مجراهم، كقوله: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (1).

و قيل: المراد بها الرؤساء و مقدّموهم. و شبّهوا بالأعناق، كما قيل لهم: هم الرؤوس و النواصي و الصدور.

و قيل: الجماعات. من قولهم: جاءنا عنق من الناس، لفوج منهم.

و الجملة معطوفة على «ننزّل». و نظيره عطف «و أكن» على فَأَصَّدَّقَ (2).

لأنّه لو قيل: أنزلنا بدله، لكان صحيحا.

عن ابن عبّاس: نزلت هذه الآية فينا و في بني اميّة. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة، و يلحقهم هوان بعد عزّة.

ص: 7


1- يوسف: 4.
2- المنافقون: 10.

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ موعظة، أو طائفة من القرآن مِنَ الرَّحْمنِ بوحيه إلى نبيّه مُحْدَثٍ مجدّد إنزاله، لتكرير التذكير، و تنويع التقرير. يعني: و ما يجدّد لهم اللّه بوحيه من أنواع الموعظة و التذكير الّتي في القرآن إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ إلّا جدّدوا إعراضا عنه، و إصرارا على ما كانوا عليه من الكفر.

فَقَدْ كَذَّبُوا أي: بالذكر بعد إعراضهم، و أمعنوا في تكذيبه، بحيث أدّى إلى الاستهزاء به فَسَيَأْتِيهِمْ إذا مسّهم عذاب اللّه يوم بدر أو يوم القيامة أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من أنّه كان حقّا أم باطلا، و كان حقيقا بأن يصدّق و يعظم قدره، أو يكذّب فيستخفّ أمره.

و اعلم أنّه خولف بين الألفاظ، أعني: الإعراض و التكذيب و الاستهزاء، لاختلاف الأغراض. كأنّه قيل: حين أعرضوا عن الذكر فقد كذّبوا به، و حين كذّبوا به فقد خفّ عندهم قدره، و صار عرضة للاستهزاء و السخريّة، لأنّ من كان قابلا للحقّ مقبلا عليه كان مصدّقا به لا محالة، و لم يظنّ به التكذيب، و من كان مصدّقا به كان موقّرا له.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ أو لم ينظروا إلى عجائبها كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف كَرِيمٍ محمود كثير المنفعة. و هو صفة لكلّ ما يحمد و يرضى. و منه يقال: وجه كريم إذا رضي في حسنه و جماله، و كتاب كريم مرضيّ في معانيه و فوائده.

و ها هنا وصف الزوج بالكريم يحتمل معنيين:

أحدهما: أنّ النبات على نوعين: نافع، و ضارّ. فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، و خلّى ذكر الضارّ.

و الثاني: أن يعمّ جميع النبات، نافعه و ضارّه، و يصفهما جميعا بالكرم، و ينبّه على أنّه ما أنبت شيئا إلّا و فيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلّا لغرض صحيح،

ص: 8

و حكمة بالغة، و إن غفل عنها الغافلون، و لم يتوصّل إلى معرفتها العاقلون.

و فائدة الجمع بين «كم» و «كلّ»: أنّ «كلّ» للدلالة على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كم» على أنّ هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة. فهذا معنى الجمع بينهما، و به نبّه على كمال قدرته.

و عن الشعبي: الناس نبات الأرض، كما قال سبحانه: وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (1). فمن دخل الجنّة فهو كريم، و من دخل النار فهو لئيم.

إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في إنبات تلك الأصناف، أو في كلّ واحد من تلك الأزواج لَآيَةً على أنّ منبتها تامّ القدرة و الحكمة، سابغ النعمة و الرحمة، مقتدر على إحياء الأموات وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ في علم اللّه مُؤْمِنِينَ بأمثال هذه الآيات العظام.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على الانتقام من الكفرة الرَّحِيمُ حيث أمهلهم. أو العزيز في انتقامه ممّن كفر، الرحيم لمن تاب و آمن.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 10 الى 14]

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [10] قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ [11] قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [12] وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ [13] وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [14]

ثمّ ذكر سبحانه أقاصيص رسله تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تحريضا له على

ص: 9


1- نوح: 17.

الصبر، ثقة بنزول النصر. و ابتدأ بقصّة موسى و فرعون، لطولها و شهرتها بين معاصري نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليهود، فقال:

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى مقدّر ب: اذكر. أو ظرف لما بعده. أَنِ ائْتِ أي:

ائت، أو بأن ائت الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر، و استعباد بني إسرائيل، و ذبح أولادهم.

قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل من الأوّل. أو

عطف بيان له. و يجوز أن يكون الاقتصار على القوم للعلم بأنّ فرعون كان أولى بذلك. أَ لا يَتَّقُونَ و يصرفون عن أنفسهم عقوبة اللّه بطاعته. و التقوى مجانبة القبائح بفعل المحاسن. و هذا استئناف أتبعه عزّ و جل إرساله إليهم، للإنذار و التسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى عليه السّلام من إفراطهم في الظلم و اجترائهم عليه.

قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ بالرسالة، و لا يقبلوها منّي. و الخوف انزعاج النفس بتوقّع الضرّ. و نقيضه الأمن. و هو سكون النفس إلى خلوص النفع.

وَ يَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم إيّاي. عطف على خبر «إنّ». و كذا قوله: وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأن لا ينبعث بالكلام، للعقدة الّتي كانت في لسانه. و قد مرّ (1) بيانها. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ليعاونني، كما يقال: إذا نزلت بنا نازلة أرسلنا إليك، أي: لتعيننا.

و معنى الكلام: فأرسل إلى هارون جبرئيل، و اجعله نبيّا، و آزرني (2) به، و اشدد به عضدي.

و هذا كلام مختصر، و قد بسطه في غير هذا الموضع. و قد أحسن في الاختصار حيث قال: «فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ» فجاء بما يتضمّن معنى الاستنباء.

ص: 10


1- راجع ج 4 ص 234 ذيل الآية [27] من سورة طه.
2- آزره مؤازرة: عاونه.

و إنّما طلب المعاونة حرصا على القيام بالطاعة. و رتّب استدعاء ضمّ أخيه إليه و إشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، و ضيق القلب انفعالا عنه، و ازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنّها إذا اجتمعت مسّت الحاجة إلى معين يقوّي قلبه و ينوب منابه متى تعتريه حبسة، حتى لا تختلّ دعوته، و لا تنقطع حجّته، و ليس ذلك

تعلّلا منه و توقّفا في تلقّي الأمر، بل طلبا لما يكون معونة على امتثاله و تمهيد عذره فيه.

و قرأ يعقوب: و يضيق ... و لا ينطلق، بالنصب عطفا على «يكذّبون». و الفرق بين القراءتين معنى: أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، و ضيق الصدر، و امتناع انطلاق اللسان. و النصب على أن خوفه متعلّق بهذه الثلاثة. و فيه:

أنّ الخوف إنّما يلحق الإنسان لأمر سيقع، و عدم انطلاق اللسان كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ و أجيب: بأنّه قد علّق الخوف بتكذيبهم و بما يحصل له بسببه، من ضيق الصدر و الحبسة في اللسان زائدة على ما كان به.

وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي: تبعة ذنب. فحذف المضاف، أو سمّي باسمه. و المراد قتل القبطي. و هو خبّاز فرعون، و اسمه فاتون، أي: لهم عليّ دعوى ذنب. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قبل أداء رسالتك. و هو أيضا ليس تعلّلا، و إنّما هو استدفاع للبليّة المتوقّعة، كما أنّ ذلك استمداد و استظهار في أمر الدعوة.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 15 الى 22]

قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [15] فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [16] أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [17] قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [18] وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [19]

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [20]

ص: 11

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [21] وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [22]

فأجاب اللّه تعالى هاتين الطلبتين بقوله: قالَ كَلَّا ردعا عن الخوف.

و المعنى: فارتدع يا موسى عمّا تظنّ، لأنّهم لن يقتلوك به، فإنّي لا أسلّطهم عليك.

فَاذْهَبا بِآياتِنا الخطاب على تغليب الحاضر. و هو معطوف على الفعل الّذي يدلّ عليه «كلّا». كأنّه قيل: ارتدع يا موسى عمّا تظنّ. فاذهب أنت و الّذي طلبته، و هو هارون. يعني: ضممناه إليك في الإرسال. إِنَّا مَعَكُمْ يعني: موسى و هارون و فرعون مُسْتَمِعُونَ سامعون لما يجري بينكما و بينه، فأظهر كما عليه. و هو خبر ثان. أو الخبر وحده، و «معكم» ظرف لغو.

قيل: مثّل اللّه سبحانه نفسه بمن حضر مجادلة قوم استماعا لما يجري بينهم، و ترقّبا لإمداد أوليائه منهم، مبالغة في الوعد بإعانته. و لذلك تجوّز بالاستماع الّذي هو بمعنى الإصغاء للسمع الّذي هو مطلق إدراك الحروف و الأصوات، فإنّ اللّه سبحانه يوصف على الحقيقة بأنّه سمع و سامع لا مستمع، لانتفاء آلة السمع اللازم للإصغاء.

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أرسلنا اللّه إليك لندعوك إلى عبادته، و ترك الإشراك به. و أفرد الرسول، لأنّه مصدر وصف به، فإنّه مشترك بين المرسل و الرسالة. و لذلك ثنّى تارة، كما في قوله: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ (1)، و أفرد أخرى، كما هاهنا. أو لاتّحادهما، للأخوّة. أو لوحدة المرسل و المرسل به. أو لأنّه

ص: 12


1- طه: 47.

أراد كلّ واحد منّا.

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أرسل، لتضمّن الرسول معنى الإرسال المتضمّن معنى القول، كما في المناداة و نحوها. و معنى هذا الإرسال التخلية و الإطلاق، كما يقال: أرسل البازي. و المراد: أمرك اللّه بأن خلّهم و أرسلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين. و كانت مسكنهما.

روي: أنّهما انطلقا إلى باب فرعون، فلم يؤذن لهما سنة، حتّى قال البوّاب:

إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنّه رسول ربّ العالمين. فقال: ائذن له لعلّنا نضحك

منه.

فأذنا، فدخلا فأدّيا إليه الرسالة. فعرف موسى.

قالَ أي: فرعون لموسى بعد ما أتياه و قالا له ذلك أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا في منازلنا وَلِيداً طفلا. سمّي به لقربه من الولادة. و التربية تنشئة الشي ء حالا بعد حال. وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ إنّما قال ذلك امتنانا عليه بإحسانه إليه.

عن ابن عبّاس: لبث فيهم ثماني عشرة سنة. و قيل: أربعين. و قيل: ثلاثين سنة. ثمّ خرج إلى مدين عشر سنين، ثمّ عاد إليهم يدعوهم إلى اللّه ثلاثين، ثمّ بقي بعد الغرق خمسين.

وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ المراد بالفعلة قتل القبطي بوكزة واحدة. وبّخه به معظّما إيّاه، بعد ما عدّد عليه نعمته، من تربيته و تبليغه مبلغ الرجال. وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي و حقّ تربيتي حتّى عمدت إلى قتل خواصّي. قيل: و كز القبطي و هو ابن اثنتي عشرة سنة، و فرّ منهم على أثرها. و اللّه أعلم بصحيح ذلك.

و عن السدّي و الحسن: معناه: و أنت من الكافرين بإلهك، إذ كنت معنا على ديننا الّذي تعيب و تقول الآن: إنّه كفر. و قد افترى عليه، أو جهل أمره، لأنّه كان يعايشهم بالتقيّة، فإنّ اللّه عزّ و جل عاصم من يريد أن يستنبئه من كلّ كبيرة و صغيرة، فما بال الكفر؟!

ص: 13

و هو حال من إحدى التاءين. و يجوز أن يكون حكما مبتدأ عليه، بأنّه من الكافرين بإلهيّته، أو بنعمته، لمّا عاد عليه بالمخالفة. أو من الّذين كانوا يكفرون في دينهم.

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: الذاهبين عن أنّ الوكزة تفضي إلى قتله، لأنّه قصد به التأديب، و قد يسمّى الذاهب عن الشي ء أنّه ضالّ عليه. و يجوز أن يريد:

أنّي ضللت عن فعل المندوب إليه من الكفّ عن القتل في تلك الحالة، فأفوز بمنزلة الثواب.

و قيل: معناه: الذاهبين عن طريق الصواب، لأنّي ما تعمّدته، و إنّما وقع منّي خطأ، كمن رمى طائرا فيصيب إنسانا.

و قيل: من الضالّين عن النبوّة، أي: لم يوح إليّ تحريم قتله.

و قيل: الناسين، من قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (1).

و بهذا القول كذّب موسى فرعون، و دفع الوصف بالكفر عن نفسه، بأن وضع الضالّين موضع الكافرين.

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ منك و من ملئك المؤتمرين بقتلي لَمَّا خِفْتُكُمْ أي: ذهبت من بينكم إلى مدين، حذرا على نفسي أن يقتلوني قودا عن القبطي فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً علما بما تدعو إليه الحكمة. و هو الّذي وهبه اللّه تعالى لموسى من التوراة، و العلم بالحلال و الحرام و سائر الأحكام. و قيل: نبوّة. و صرّح به بقوله: وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ردّ بذلك ما وبّخه به قدحا في نبوّته. ثمّ أنكر امتنانه عليه بالتربية، و أبى أن يسمّي نعمته نعمة، بأن بيّن أنّ حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل، فقال: وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: و تلك التربية نعمة تمنّها عليّ بها

ص: 14


1- البقرة: 282.

ظاهرا، و هي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، و قصدك بذبح أبنائهم، فإنّه السبب في وقوعي إليك، و حصولي في تربيتك. و لو كنت لم تستعبد بني إسرائيل، و لم تقتل أبناءهم، لكانت امّي مستغنية عن قذفي في اليمّ. فكأنّك تمنّ عليّ بما كان بلاؤك سببا له. فعلى التحقيق امتنانك عليّ تعبيدك قومي، أي: اتّخاذك إيّاهم عبيدا، و تذليلك إيّاهم، فلا يكون حقيقة إنعامك و امتنانك عليّ.

و محلّ «أن عبّدت» الرفع على أنّه خبر محذوف، أو بدل من «نعمة». أو الجرّ بإضمار الباء. أو النصب بحذفها.

و قيل: «تلك» إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، و «أن عبّدت» عطف بيانها.

و المعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنّها عليّ.

و إنّما وحّد الخطاب في «تمنّها» و جمع فيما قبله، لأنّ المنّة كانت منه وحده، و الخوف و الفرار منه و من ملئه، كما فسّرنا به.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 23 الى 28]

قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ [23] قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [24] قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ [25] قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [26] قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [27]

قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [28]

و لمّا سمع فرعون جواب ما طعن به فيه شرع في الاعتراض على دعواه، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل، كما حكاه اللّه تعالى عن ذلك بقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ أيّ شي ء هو من الأشياء التي شوهدت و عرفت

ص: 15

أجناسها.

قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ منشئهما و مبدعهما وَ ما بَيْنَهُمَا و ما بين الجنسين من سائر الممكنات الجسمانيّة و العرضيّة. عرّفه ببيان أظهر خواصّه و آثاره، و أنّه ليس بشي ء ممّا شوهد و عرف من الأجرام و الأعراض، و إنّما هو شي ء مخالف لجميع الأشياء، ليس كمثله شي ء.

إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ الأشياء محقّقين لها، علمتم أنّ هذه الأجرام المحسوسة ممكنة، لتغيّر أحوالها، فلا بدّ لها من مبدئ واجب لذاته، و ذلك المبدئ لا بدّ و أن يكون مبدئا لسائر الممكنات. و لا يمكن تعريفه إلّا بلوازمه الخارجيّة، لامتناع التعريف بنفسه و بما هو داخل فيه، لاستحالة التركيب في ذاته.

فلمّا أجاب موسى بما أجاب، تعجّب فرعون و قومه من جوابه، حيث نسب الربوبيّة إلى غيره قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه. قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور. أَ لا تَسْتَمِعُونَ جوابه؟ سألته عن حقيقته و هو يذكر أفعاله. أو يزعم أنّه ربّ السماوات، و هي واجب التحرّك بذواتها، كما هو مذهب الدهريّة، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثّر.

قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ عدولا إلى ما لا يمكن أن يتوهّم فيه مثله، و يشكّ في افتقاره إلى مصوّر حكيم، و يكون أقرب إلى الناظر، و أوضح عند التأمّل.

قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أسأله عن شي ء، و يجيبني عن آخر. و سمّاه رسولا على السخريّة.

قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما تشاهدون كلّ يوم أنّه يأتي بالشمس من المشرق، و يحرّكها على مدار غير مدار اليوم الّذي قبله، حتّى يبلغها إلى المغرب، على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك.

فعمّم موسى أوّلا في أفعاله تعالى. ثمّ خصّص من العامّ للبيان أنفسهم

ص: 16

و آباءهم، لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه و من ولد منه، و ما شاهد و عاين من الدلائل على الصانع، و الناقل من هيئة إلى هيئة و حال إلى حال، من وقت ميلاده إلى وقت وفاته. ثمّ خصّص المشرق و المغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين و غروبها في الآخر، على تقدير مستقيم في فصول السنة، و حساب مستو، من أظهر ما استدلّ به. و لظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل اللّه عن الاحتجاج بالإحياء و الإماتة على نمرود بن كنعان، فبهت الّذي كفر.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 29 الى 42]

قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [29] قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ [30] قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [31] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [32] وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [33]

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [34] يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ [35] قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [36] يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [37] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [38]

وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ [39] لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ [40] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [41] قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [42]

ص: 17

و لمّا كان عادة المعاند المحجوج العدول عن المحاجّة إلى التهديد بعد الانقطاع و الإلزام قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قيل: كان دهريّا اعتقد أنّ من ملك قطرا، أو تولّى أمره بقوّة طالعه، استحقّ العبادة من أهله.

و اللام في «المسجونين» للعهد، أي: ممّن عرفت حالهم في سجوني، فإنّه كان يطرحهم في هوّة بعيدة العمق، لا يبصرون فيها و لا يسمعون، فكان ذلك أشدّ من القتل، و لذلك آثر هذا القول على: لأسجنّنك.

و لمّا توعّده بالسجن قالَ موسى عليه السّلام: أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ الواو للحال، دخلت عليها همزة الاستفهام بعد حذف الفعل. و المعنى: أ تفعل ذلك بي و لو جئت بشي ء مبين؟ أي جائيا بشي ء ظاهر أو مظهر يبين صدق دعواي. يعني:

المعجزة، فإنّها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع و حكمته، و الدلالة على صدق مدّعي نبوّته.

قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنّ لك بيّنة. أو في دعواك أتيت به، فإنّ مدّعي النّبوة لا بدّ له من حجّة. فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدلّ عليه.

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيّته. و اشتقاق الثعبان من:

ثعبت الماء فانثعب، إذا فجّرته فانفجر.

روي: أنّها انقلبت حيّة ارتفعت في السماء قدر ميل، ثمّ انحطّت مقبلة إلى فرعون، و جعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، و يقول فرعون: أسألك بالّذي أرسلك إلّا أخذتها، فأخذها فعادت عصا.

و قيل: إنّ فرعون لمّا رأى هذه الآية قال: فهل غيرها؟ قال موسى: نعم وَ نَزَعَ يَدَهُ و أخرج يده من كمّه أو جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا مفرط اللمعان و الشعاع كالشمس لِلنَّاظِرِينَ إليها بحيث يكاد يغشي الأبصار، و يسدّ الأفق، لفرط أشعّته.

قالَ لِلْمَلَإِ للأشراف من قومه مستقرّين حَوْلَهُ فهو ظرف وقع موقع

ص: 18

الحال. فهو منصوب بنصبين: نصب في اللفظ، و هو ما يقدّر في الظرف. و نصب في المحلّ، و هو النصب على الحال. إِنَّ هذا يعني: موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر و الحيل.

و لمّا بهره سلطان المعجزة زلّ عنه ذكر دعوى الإلهيّة، و حطّ عن منكبيه كبرياء الربوبيّة، و ارتعدت فرائضه، و انتفخ سحره (1)، لفرط خوفه من استيلاء موسى على ملكه، و بلغت به الاستكانة لقومه الّذين هم بزعمه عبيده و هو إلههم، أن طفق يؤامرهم و يعترف لهم بما حذر منه من غلبة موسى على ملكه و أرضه، فقال:

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ يتغلّب عليها فَما ذا تَأْمُرُونَ في شأنه. من المؤامرة، و هي المشاورة. أو من الأمر الّذي هو ضدّ النهي. جعل العبيد آمرين و ربّهم مأمورا، لما استولى عليه من فرط الدهش و الحيرة.

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ أخّر أمرهما. و قيل: احبسهما. وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ شرطا (2) يحشرون السحرة من جميع البلدان.

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يفضّلون عليه في فنّ السحر. أمالها ابن عامر و الكسائي.

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لما وقّت به من ساعات يوم معين.

و هو وقت الضحى من يوم الزينة. و الميقات: ما حدّد من زمان أو مكان. و منه:

مواقيت الإحرام.

وَ قِيلَ لِلنَّاسِ أي: لأهل مصر هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثّا على مبادرتهم إليه، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحثّه على الانطلاق.

لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي: نتّبعهم في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ إن

ص: 19


1- السحر: الرئة. يقال للجبان: قد انتفخ سحره، كأنّ الخوف ملأ جوفه فانتفخ سحره
2- الشرط: الحرس و أعوان الولاة و واحدها: شرطي.

غلبوا موسى، و لا نتّبع موسى في دينه. و ليس غرضهم اتّباع السحرة، بل إنّما الغرض الكلّي أن لا يتّبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية، لأنّهم إذا اتّبعوهم لم يكونوا متّبعين لموسى.

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ حضروا بين يدي فرعون قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى و أخيه.

قالَ نَعَمْ لكم على ذلك الأجر الجزيل وَ إِنَّكُمْ إِذاً مع ما لكم من الأجر لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ التزم لهم الأجر و القربة عنده زيادة عليه إن غلبوا.

و لمّا كان قوله: «أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً» في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، و كان قوله: «وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» معطوفا عليه، و مدخلا في حكمه، دخلت «إذا» قارّة في مكانها الّذي تقتضيه من الجواب و الجزاء.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 43 الى 51]

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [43] فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [44] فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [45] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [46] قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ [47]

رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ [48] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [49] قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [50] إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [51]

ص: 20

قالَ لَهُمْ مُوسى بعد ما لقالوا له: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (1) أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به أمرهم بالسحر و التمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسّلا به إلى إظهار الحقّ.

فَأَلْقَوْا فطرحوا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ بعلوّ منزلته و فرط قوّته إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أقسموا بعزّته على أنّ الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.

هذا من أقسام الجاهليّة. و في الإسلام لا يصحّ الحلف إلّا باللّه تعالى، أو ببعض أسمائه و صفاته. و في الحديث: «لا تحلفوا إلّا باللّه، و لا تحلفوا باللّه إلّا و أنتم صادقون».

فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع. و قرأ حفص: تلقف بالتخفيف.

ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه و حقيقته بتمويههم و تزويرهم، فيخيّلون حبالهم و عصيّهم أنّها حيّات تسعى. أو إفكهم، تسمية للمأفوك به مبالغة.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لما بهرهم ما أظهره موسى عليه السّلام، من قلب العصا حيّة، و تلقّفها جميع ما أتعبوا به نفوسهم فيه، و علموا أنّ مثله لا يتأتّى

بالسحر، و لا يقدر عليه أحد من البشر، بل من عند اللّه الخالق للقوى و القدر.

و فيه دليل على أنّ منتهى السحر تمويه و تزوير، يخيّل شيئا لا حقيقة له. و أن التبحّر في كلّ فنّ نافع.

و إنّما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، و يدلّ على أنّهم لمّا رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، بل كأنّهم أخذوا فطرحوا على وجوههم. و فاعل الإلقاء هو اللّه عزّ و جل بما خوّلهم من التوفيق، أو معاينة المعجزة الباهرة.

ص: 21


1- الأعراف: 115.

روي: أنّهم قالوا قبل إلقاء الحبال و العصيّ: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، و إن كان من عند اللّه فلن يخفى علينا. فلمّا قذف عصاه، فتلقّفت ما أتوا به، علموا أنّه من اللّه.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل من «ألقي» بدل الاشتمال. أو حال بإضمار «قد». رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ عطف بيان ل «ربّ العالمين». و إتيانهم به لدفع توهّم أنّ غرضهم بربّ العالمين فرعون، لأنّه لعنه اللّه كان يدّعي الربوبيّة، فأرادوا أن يعزلوه. و للإشعار على أنّ الموجب لإيمانهم ما أجراه على أيديهما. عن عكرمة:

أصبحوا كفرة سحرة، و أمسوا مؤمنين شهداء.

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في تصديقه إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ أستادكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فعلّمكم شيئا دون شي ء، فلذلك غلبكم. أو فواعدكم على ذلك، و تواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه، كي لا يعتقدوا أنّهم آمنوا عن بصيرة و ظهور حقّ. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر و روح: أ آمنتم بهمزتين.

فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم. ثمّ فسّر ذلك التهديد بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ قطع اليد من جانب و الرجل من الجانب الآخر، كقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ مع ذلك على الجذوع، و لا أترك أحدا منكم لا تناله هذه العقوبة. قيل: إنّ أوّل من قطع الأيدي و الأرجل فرعون.

قالُوا في جوابه لا ضَيْرَ أي: لا ضرر، فإنّ الضير و الضور و الضرّ و الضرر واحد. أرادوا: لا ضرر علينا فيما تتوعّدنا به من القتل. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالقتل، فإنّ الصبر عليه محّاء للذنوب، موجب للثواب و القرب من اللّه، أو بسبب من أسباب الموت، و قتلك أهونها و أرجاها، فإنّ ألمه ساعة عن قريب ينقضي، فنصل إلى جنّات النعيم مؤبّدين فيها. و عن الحسن: لم يصل فرعون إلى

ص: 22

قتل واحد منهم و لا قطعه.

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا من السحر و غيره أَنْ كُنَّا لأن كنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من أتباع فرعون، لأنّ بني إسرائيل كانوا آمنوا به. أو أوّل من آمن من أهل هذا المشهد عند تلك المعجزة.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 52 الى 56]

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [52] فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [53] إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [54] وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ [55] وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ [56]

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي و ذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم، يدعوهم إلى الحقّ، و يظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلّا عتوّا و فسادا. و قرأ ابن كثير و نافع: أن أسر، بكسر النون و وصل الألف، من: سرى. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتّبعكم فرعون و جنوده. و هو علّة الأمر بالإسراء، أي: أسر بهم حتّى إذا اتّبعوكم مصبحين كنتم متقدّمين عليهم، بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حتّى تلجون في البحر، فيدخلون مدخلكم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأغرقهم.

روي: أنّه مات في تلك الليلة في كلّ بيت من بيوتهم ولد، فاشتغلوا بموتاهم، فأوحى اللّه تعالى إلى موسى: أن اجمع بني إسرائيل، كلّ أربعة أبيات في بيت، ثمّ اذبحوا الجداء (1) و اضربوا بدمائها على أبوابكم، فإنّي سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، و سآمرهم بقتل أبكار القبط. و اخبزوا خبزا فطيرا، فإنّه

ص: 23


1- الجداء جمع الجدي، و هو ولد المعز في السنة الأولى.

أسرع لكم. ثمّ أسر عبادي حتّى تنتهي إلى البحر، فيأتيك أمري.

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بسراهم فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ العساكر ليتبعوهم. فاجتمع حين خرج من مصر في أثر بني إسرائيل ألف ألف و خمسمائة ألف ملك مسوّر (1). مع كلّ ملك ألف. و كانت مقدّمته سبعمائة ألف، كلّ رجل على حصان، و على رأسه بيضة.

و عن ابن عبّاس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. فلذلك استقلّ قوم موسى و قال: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ عددا. روي أنّهم كانوا ستّمائة و سبعين ألفا. و قلّتهم بالإضافة إلى جنود فرعون. و الشرذمة: الطائفة القليلة.

و منها: ثوب شراذم، لما بلي و تقطّع قطعا. ذكرهم بالاسم الدالّ على القلّة، ثمّ جعلهم قليلا بالوصف، ثمّ جمع القليل، فجعل كلّ سبط منهم قليلا، و اختار جمع السلامة الّذي هو للقلّة. و يجوز أن يريد بالقلّة الذلّة، و لا يريد قلّة العدد. و المعنى:

أنّهم لا يبالى بهم، و لا يتوقّع غلبتهم و علوّهم.

وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لفاعلون ما يغيظنا و يغضبنا، لمخالفتهم إيّانا في الدين، و خروجهم من أرضنا على كره منّا، و ذهابهم بالحليّ الّذي استعاروها، و خلوصهم من استعبادنا وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ نحن قوم مجتمعون من عادتنا الحذر و استعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده. و هذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلّا يظنّ به ما يكسر من قهره و سلطانه.

و قرأ ابن عامر و الكوفيّون: حاذرون. و الأوّل (2) للثبات، و الثّاني للتجدّد.

و قيل: الحاذر: الكامل في السلاح. و هو أيضا من الحذر، لأنّ ذلك إنّما يفعل

ص: 24


1- ملك مسوّر: مسوّد قدير.
2- أي: قراءة: حذرون.

حذرا.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 57 الى 68]

فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ [57] وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ [58] كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [59] فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [60] فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [61]

قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [62] فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [63] وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ [64] وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [65] ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [66]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [67] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [68]

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة إهلاكهم و إخراجهم من مساكنهم النفيسة بقوله:

فَأَخْرَجْناهُمْ بأن ألهمنا في قلوبهم داعية الخروج بهذا السبب، فحملتهم عليه مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ يعني: المنازل الحسنة و المجالس السنيّة.

و قيل: مجالس الأمراء. و عن الضحاك المنابر. و قيل: السرّ في الحجال (1).

كَذلِكَ نصب على المصدر، أي: أخرجناهم خروجا مثل ذلك الإخراج الّذي وصفنا. أو صفة «مقام» أي: مثل ذلك المقام الّذي كان لهم. أو الأمر كذلك، على أنّه خبر المحذوف. وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ و ذلك أنّ اللّه سبحانه و تعالى ردّ بني إسرائيل إلى مصر، بعد ما أغرق فرعون و قومه، و أعطاهم جميع ما كان

ص: 25


1- السرّ: الجماع. و الحجال جمع حجلة، و هي بيت يزيّن للعروس.

لفرعون و قومه من الأموال و العقار و المساكن و الديار.

فَأَتْبَعُوهُمْ يعني: قوم فرعون أدركوا موسى و أصحابه و لحقوهم مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس. من: شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.

فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ تقاربا بحيث يرى كلّ منهما الآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ لملحقون. يعني: سيدركنا جمع فرعون، و لا طاقة لنا بهم.

قالَ موسى: ثقة بنصر اللّه تعالى كَلَّا لن يدركونا، و لا يكون ما تظنّون، فانتهوا عن هذا القول، فإنّ اللّه وعدكم الخلاص منهم إِنَّ مَعِي رَبِّي بنصره و حفظه سَيَهْدِينِ سيرشدني إلى طريق النجاة. و عن السدّي: سيكفيني.

روي: أنّ مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى، فقال: أين أمرت؟ فهذا البحر أمامك، و قد غشيك آل فرعون! فقال: أمرت بالبحر، و لعلّي أؤمر بما أصنع.

فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ و هو نهر النيل ما بين أيلة و مصر. و قيل: هو بحر قلزم ما بين اليمن و مكّة إلى مصر. فضربه موسى بعصاه.

فَانْفَلَقَ فانشقّ البحر، و ظهر فيه اثنا عشر فرقا، بأن قام الماء عن يمين الطريق و يساره كالجبل العظيم. و ذلك قوله: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل المنيف الثابت في مقرّه. فدخلوا في شعابها، كلّ سبط في شعب. و الفرق: الجزء المتفرّق. و الفرق المصدر.

روي: أنّ موسى عليه السّلام قال عند ذلك: يا من كان قبل كلّ شي ء، و المكوّن لكلّ شي ء، و الكائن بعد كلّ شي ء.

وَ أَزْلَفْنا و قرّبنا ثَمَّ الْآخَرِينَ فرعون و قومه، حتّى دخلوا على أثرهم مداخلهم وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بإطباقه عليهم.

إِنَّ فِي ذلِكَ في فرق البحر، و إنجاء موسى و قومه، و إغراق فرعون

ص: 26

و جنوده لَآيَةً و أيّة آية وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ و ما تنبّه عليها أكثرهم، إذ لم يؤمن بها أحد ممّن بقي في مصر من القبط. و بنو إسرائيل- إلّا حبيب النجّار و آسية امرأة فرعون- بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها، و اتّخذوا العجل و قالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة. فلا تستوحش يا محمّد من قعود قومك عن الحقّ الّذي تأتيهم به و تدلّهم عليه، فقد جروا على عادة أسلافهم في إنكار الحقّ و قبول الباطل.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 69 الى 82]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [69] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ [70] قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ [71] قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [72] أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [73]

قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ [74] قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ [75] أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [76] فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ [77] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [78]

وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ [79] وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [80] وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [81] وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [82]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ على مشركي قريش نَبَأَ إِبْراهِيمَ خبره، فإنّه شجرة الأنبياء، و به افتخار العرب. و فيه تسلية لك، و عظة لقومك.

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في تربيته، أو جدّ أمّه وَ قَوْمِهِ على وجه الإنكار عليهم ما تَعْبُدُونَ كان إبراهيم يعلم أنّهم عبدة أصنام، و لكنّه سألهم

ص: 27

ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحقّ العبادة في شي ء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ و أنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثمّ تقول: الرقيق جمال و ليس بمال.

قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ مقيمين على عبادتها. و حقّ الجواب أن يقتصروا على قولهم: «أصناما» فحسب، لأنّ «ما تعبدون» سؤال عن المعبود فقط، لكن أطالوا الجواب بشرح أحوالهم معه، إظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج و الافتخار. و إنّما قالوا: نظلّ، لأنّهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. و قيل: «نظلّ» بمعنى: ندوم.

قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ يسمعون دعاءكم؟ فحذف ذلك لدلالة قوله: إِذْ تَدْعُونَ عليه. و معناه: هل يستجيبون دعاءكم إذا دعوتموهم؟ و مجيئه مضارعا مع «إذ» على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. و معناه: استحضروا الأحوال الماضية الّتي كنتم تدعونها فيها، و قولوا: هل سمعوا؟ و هو أبلغ في التبكيت.

أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ إذا عبدتموهم أَوْ يَضُرُّونَ إن تركتم عبادتهم. و في هذا بيان أنّ الدّين إنّما يثبت بالحجّة، و لو لا ذلك لم يحاجّهم إبراهيم عليه السّلام هذا الحجاج.

قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ أضربوا عن أن يكون لهم سمع، أو يتوقّع منهم ضرّ أو نفع، و التجؤا إلى التقليد.

قالَ إبراهيم منكرا عليهم التقليد أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ الّذي كنتم تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فإنّ التقدّم و الأوّليّة لا يكون برهانا على الصحّة، و لا ينقلب به الباطل حقّا. و إنّما دخل لفظ «كان» لأنّه جمع بين الحال و الماضي.

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي يريد أنّهم أعداء لعابديهم، من حيث إنّهم يتضرّرون من جهتهم فوق ما يتضرّر الرجل من جهة عدوّه.

أو أنّ المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم، و هو الشيطان. لكنّه صوّر الأمر في نفسه، على معنى: أنّي فكّرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ الّذي هو الشيطان، فاجتنبتها و آثرت عبادة

ص: 28

من الخير كلّه منه. و أراهم بهذا القول أنّه نصيحة نصح بها نفسه، تعريضا لهم، فإنّه أنفع في النصح من التصريح، و إشعارا بأنّها نصيحة بدأ بها نفسه، فيكون أدعى إلى القبول.

و إنّما جمع الأصنام جمع العقلاء، لما وصفها بالعداوة التي لا تكون إلّا من العقلاء. أو المراد عبّاد الأصنام مع الأصنام عدوّ لي، لأنّه غلّب ما يعقل. و إفراد العدوّ لأنّه في الأصل مصدر.

إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع، كأنّه قال: لكن ربّ العالمين. أو متّصل على أنّ الضمير لكلّ معبود عبدوه، و كان من آبائهم من عبد اللّه.

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ لأنّه يهدي كلّ مخلوق لما خلق له من امور المعاش و المعاد، كما قال: وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (1) هداية مدرّجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله، يتمكّن بها من جلب المنافع و دفع المضارّ. مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، و بعد الخروج إلى معرفة الثدي عند الولادة، و إلى كيفيّة الارتضاع، و غير ذلك من هدايات المعاش. ثمّ هداه بتوفيق في المعرفة و الطاعة إلى طريق الجنّة و التنعّم بلذائذها.

و الفاء للسببيّة إن جعل الموصول مبتدأ، و للعطف إن جعل صفة «ربّ العالمين». فيكون اختلاف النظم لتقدّم الخلق و استمرار الهداية.

و قوله: وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ على الأوّل مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة ما قبله عليه. و كذا اللّذان بعده. و تكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أنّ كلّ واحدة من الصلات مستقلّة باقتضاء أنّه هو المعبود دون ما سواه. و المعنى:

هو يرزقني بما أتغذّى به.

وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ عطف على «يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ» لأنّه من

ص: 29


1- الأعلى: 3.

روادفهما، من حيث إنّ الصحّة و المرض في الأغلب يتبعان المأكول و المشروب.

و إنّما لم ينسب المرض إليه، بأن قال: أمرضني، لأنّ مقصوده تعديد النعم.

و لا ينتقض بإسناد الإماتة إليه بعده، لأنّ الموت من حيث إنّه لا يحسّ به لا ضرر فيه، و إنّما الضرر في مقدّماته، و هي المرض. ثمّ إنّه لأهل الكمال وصلة إلى نيل الحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، الّتي تستحقر دونها الحياة الدنيويّة، و خلاص من أنواع المحن و البليّات. و لأنّ المرض في غالب الأمر إنّما يحدث بإفراط من الإنسان في مطاعمه و مشاربه، و من ثمّ قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم (1). و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الحمية (2) رأس كلّ دواء، و البطنة رأس كلّ داء».

أو لما بين الأركان و الأخلاط من التنافي و التنافر، و الصحّة إنّما تحصل باستحفاظ اجتماعها و الاعتدال المخصوص عليها قهرا، و ذلك بقدرة العزيز الحكيم. و المعنى: فهو يفعل بي ما يصحّ عنده بدني.

وَ الَّذِي يُمِيتُنِي بعد أن كنت حيّا ثُمَّ يُحْيِينِ يوم القيامة بعد أن أكون ميّتا.

وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ذكر ذلك انقطاعا إلى اللّه، و هضما لنفسه، و تواضعا منه، و تعليما للامّة أن يجتنبوا المعاصي، و يكونوا على حذر منها، و يطلبوا المغفرة ممّا يفرط منهم، فإنّ الأنبياء صلّى اللّه عليهم معصومون منزّهون من الخطايا و الآثام، لما برهن في علم الكلام، و انعقد إجماع الطائفة الحقّة- و هم الإماميّة- عليه، و نقل عن أئمّتنا عليهم السّلام. فاستغفارهم إنّما هو محمول على تواضعهم لربّهم، و هضمهم لأنفسهم، و تعليمهم لأمّتهم. و علّق المغفرة بيوم الدين،

ص: 30


1- التخم جمع التخمة. و هي: الداء يصيب الإنسان من الطعام الوخيم.
2- الحمية: الاسم من: حمى المريض إذا منعه عمّا يضرّه. و البطنة: الامتلاء المفرط من الأكل.

لأنّ أثرها يتبيّن يومئذ، و الآن خفيّ لا يعلم.

و قيل: أراد إبراهيم عليه السّلام أن يغفر اللّه لأجله خطيئة من يشفّعه فيه، فأضافه إلى نفسه، كقوله سبحانه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ (1).

و إنّما حذف الياءات لأنّها رؤوس الآيات.

و هذا الكلام من إبراهيم عليه السّلام إنّما صدر على وجه الاحتجاج على قومه، و الإخبار بأنّه لا يصلح للإلهيّة إلّا من فعل هذه الأفعال.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 83 الى 89]

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [83] وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [84] وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [85] وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [86] وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [87]

يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ [88] إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [89]

ثمّ حكى اللّه سبحانه عن نبيّه أنّه سأله و قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً كمالا في العلم و العمل أستعدّ به لخلافة الحقّ و رئاسة الخلق. و قيل: نبوّة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذو حكمة و ذو حكم بين عباد اللّه. وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي: وفّقني للكمال في العمل، لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح، الّذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب و لا صغيره. أو اجمع بيني و بينهم في الجنّة. و في هذا دلالة على عظم شأن الصلاح، و هو الاستقامة على ما أمر اللّه به و دعاه إليه.

وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي: ثناء حسنا في آخر الأمم، و ذكرا

ص: 31


1- الفتح: 2.

جميلا، و حسن صيت، و قبولا عامّا في الّذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. فأجاب اللّه تعالى دعاءه، فما من أمّة من الأمم إلّا و يثنون عليه، و محبّون له. و العرب تضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأنّ القول يكون بها، و كذلك يسمّون اللغة لسانا.

و قيل: معناه: و اجعل لي ولد صدق في آخر الأمم من ذرّيّتي، يجدّد أصل ديني، و يدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ من الّذين يرثون الفردوس في الآخرة.

و قد مرّ (1) معنى الوراثة فيها.

وَ اغْفِرْ لِأَبِي لوليّ نعمتي و تربيتي بالهداية إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ الذاهبين عن الصواب في اعتقاده. و وصفه بأنّه ضالّ يدلّ على أنّه كان كافرا كفر جهل لا كفر عناد. و قد ذكرنا الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه في سورة التوبة (2).

وَ لا تُخْزِنِي و لا تفضحني و لا تعيّرني بتقصيري في أوامرك. و اشتقاقه إمّا من الخزي، و هو الهوان. أو من الخزاية، و هي الحياء. يَوْمَ يُبْعَثُونَ الضمير للعباد، لأنّهم معلومون، أي: يوم يحشر الخلائق كلّهم. و هذا الدعاء كان منه أيضا على وجه الانقطاع إلى اللّه، لما بيّنّا أنّ القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء.

ثمّ فسّر ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ أي: لا ينفعان أحدا، إذ لا يتهيّأ لذي مال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم بماله، و لا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه.

إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي: لا ينفعان أحدا إلّا مخلصا سليم القلب عن الكفر و ميل المعاصي. أو لا ينفعان إلّا مال من هذا شأنه و بنوه، حيث أنفق ماله في

ص: 32


1- راجع ج 4 ص 194، ذيل الآية 63 من سورة مريم.
2- راجع ج 4 ص 144 و 173، ذيل الآية 80 و 113.

سبيل الخير، و أرشد بنيه إلى الحقّ، و حثّهم على البرّ، و قصد بهم أن يكونوا عبادا للّه مطيعين، شفعاء له يوم الدين.

و قيل: الاستثناء من قبيل قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع (1). و بيانه أن يقال لك: هل لزيد مال و بنون؟ فتقول: ماله و بنوه سلامة قلبه. تريد نفي المال و البنين عنه، و إثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك.

و إن شئت حملت الكلام على المعنى، و جعلت المال و البنين في معنى الغنى.

كأنّه قيل: يوم لا ينفع غنى إلّا غنى من أتى اللّه بقلب سليم، لأنّ غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أنّ غناه في دنياه بماله و بنيه.

و لك أن تجعل الاستثناء منقطعا. و المعنى: أنّ المال و البنين لا ينفعان، و لكن سلامة القلب عن الكفر و المعاصي و سائر آفاته ينفع صاحبه.

و قيل: معناه: إلّا من أتى اللّه بقلب سليم من فتنة المال و البنين.

و قيل: القلب السليم الّذي سلم و سلّم و أسلم و سالم و استسلم.

و عن الصادق عليه السّلام: «هو القلب الّذي سلم من حبّ الدنيا».

و إنّما خصّ القلب بالسلامة، لأنّه إذا سلم سلمت سائر الجوارح من الفساد، من حيث إنّ الفساد بالجارحة لا يكون إلّا عن قصد بالقلب الفاسد.

و ما أحسن ما رتّب إبراهيم عليه السّلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلا عمّا يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم. ثمّ أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها، بأنّها لا تضرّ و لا تنفع، و لا تبصر و لا تسمع، على تقليدهم آباءهم الأقدمين. فأخرجه من أن يكون شبهة، فضلا عن أن يكون حجّة.

ثمّ صوّر المسألة في نفسه دونهم، حتّى تخلّص منها إلى ذكر اللّه عزّ و جل، فعظّم شأنه، و عدّد نعمته من لدن خلقه و إنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة

ص: 33


1- لعمرو بن معد يكرب. و صدره: و خيل قد دلفت لها بخيل.

من رحمته.

ثمّ أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، و ابتهل إليه ابتهال الأوّابين. ثمّ وصله بذكر يوم القيامة و ثواب اللّه و عقابه، و ما يدفع إليه المشركون يومئذ من الحسرة و الندامة على ما كانوا فيه من الضلال، و تمنّي الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا و يطيعوا.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 90 الى 104]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [90] وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [91] وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ [92] مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [93] فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ [94]

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [95] قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ [96] تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [97] إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ [98] وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ [99]

فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ [100] وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [101] فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [102] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [103]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [104]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ قرّبت من موقعهم بحيث يرونها من الموقف،

ص: 34

فيغتبطون بمكانهم، و يتبجّحون (1) بأنّهم المحشورون إليها.

وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أظهرت و كشفت للأشقياء، فيرونها مكشوفة، و يتحسّرون على أنّهم المسوقون إليها، فيجمع عليهم الغموم كلّها و الحسرات. و في اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد.

وَ قِيلَ لَهُمْ في ذلك اليوم على وجه التوبيخ على إشراكهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ أين آلهتكم الّذين تزعمون أنّهم شفعاؤكم؟ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم، لأنّهم و آلهتهم يدخلون النار، كما قال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ أي: طرحت فيها الآلهة و عبدتهم. و الكبكبة: تكرير الكبّ لتكرير معناه، كأنّ من ألقي في النار يكبّ مرّة بعد اخرى حتّى يستقرّ في قعرها.

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ و كبكب معهم متّبعوه من عصاة الثقلين أو شياطينه أَجْمَعُونَ تأكيد للجنود، أو للضمير و ما عطف عليه.

قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ* تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا مخفّفة عن الثقيلة، أي: إنّا كنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ على أنّ اللّه ينطق الأصنام فتخاصم العبدة. و يؤيّده الخطاب في قوله تعالى: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي: في استحقاق العبادة.

و يجوز أن تكون الضمائر للعبدة كما في «قالوا». و الخطاب للمبالغة في التحسّر و الندامة. و المعنى: أنّهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم، معترفون بانهماكهم في الضلالة، متحسّرون عليها.

وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ و هم رؤساؤهم و كبراؤهم الّذين اقتدوا بهم.

فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة و النبيّين.

يعني: ما لنا شفيع من الأباعد.

ص: 35


1- أي: يتفاخرون.

وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ذي قرابة يهمّه أمرنا. كمنرى للمؤمنين أصدقاء من النبيّين و الأوصياء، لأنّه لا يتصادق في الآخرة إلّا المؤمنون، و أمّا أهل النار فبينهم التعادي و التباغض. قال اللّه تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (1). أو فما لنا من شافعين و لا صديق من الّذين كنّا نعدّهم شفعاء و أصدقاء. أو وقعنا في مهلكة لا يخلّصنا منها شافع و لا صديق.

و جمع الشافع و وحدة الصديق لكثرة الشفعاء و قلّة الصديق. أو لإطلاق الصديق على الجمع، لأنّه في الأصل مصدر، كالحنين و الصهيل. و الحميم من الاحتمام، و هو الاهتمام. و هو الّذي يهمّه ما يهمّك. أو من الحامّة بمعنى الخاصّة.

و هو الصديق الخاصّ.

و عن الصادق عليه السّلام: «و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا- قالها ثلاثا- حتّى يقول عدوّنا:

«فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ».

و عن جابر بن عبد اللّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي فلان؟ و صديقه في الجحيم، فيقول اللّه سبحانه: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة. فيقول من بقي في النار: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ».

و عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته، فيشفع فيهم حتّى يبقى خادمه، فيقول و يرفع سبّابتيه: يا ربّ خويدمي كان يقيني الحرّ و البرد، فيشفع فيه».

و في خبر آخر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ المؤمن ليشفع لجاره و ماله حسنة، فيقول: يا ربّ جاري، كان يكفّ عنّي الأذى، فيشفع فيه. و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع لثلاثين إنسانا».

فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً تمنّ للرجعة إلى الدنيا. و أقيم فيه «لو» مقام

ص: 36


1- الزخرف: 67.

«ليت» لتلاقيهما في معنى التقدير. أو شرط حذف جوابه. فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جواب التمنّي. أو عطف على «كرّة» أي: لو أنّ لنا أن نكرّ فنكون من المؤمنين لفعلنا كذا و كذا.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر من قصّة إبراهيم عليه السّلام لَآيَةً لحجّة و عظة لمن أراد أن يستبصر بها و يعتبر، فإنّها جاءت على أنظم ترتيب و أحسن تقرير، يتفطّن المتأمّل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينيّة، و التنبيه على دلائلها، و حسن دعوته للقوم، و حسن مخالقته معهم، و كمال إشفاقه عليهم.

و تصوّر الأمر في نفسه، و إطلاق الوعد و الوعيد على سبيل الحكاية تعريضا و إيقاظا لهم، ليكون أدعى لهم إلى الاستماع و القبول.

وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر قومه مُؤْمِنِينَ به.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ القادر على تعجيل الانتقام الرَّحِيمُ بالإمهال، لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذرّيّتهم.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 105 الى 122]

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [105] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ [106] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [107] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [108] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [109]

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [110] قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [111] قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [112] إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [113] وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [114]

إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ [115] قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا

ص: 37

نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [116] قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [117] فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [118] فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [119]

ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ [120] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [121] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [122]

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لأنّ من كذّب رسولا واحدا من رسل اللّه فقد كذّب الجماعة، لأنّ كلّ رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. و قال أبو جعفر عليه السّلام: «يعني بالمرسلين نوحا و الأنبياء الّذين كانوا بينه و بين آدم عليه السّلام».

و القوم: مؤنّثة، و لذلك تصغّر على قويمة.

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ لأنّه كان منهم. من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون: يا واحدا منهم. أَ لا تَتَّقُونَ عذاب اللّه، فتتركوا عبادة غيره.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيكم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به من التوحيد و الطاعة للّه.

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على ما أنا عليه من الدعاء و النصح مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ كرّره ليؤكّده عليهم، و يقدّره في نفوسهم، و ينبّه على دلالة كلّ واحد من أمانته و حسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه، فكيف إذا اجتمعا؟! قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الأقلّون مالا و جاها. جمع الأرذل على

ص: 38

الصحّة، و على التكسير في قوله: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا (1). و الرذالة: الخسّة و الدّناءة.

و قرأ يعقوب: و أتباعك. و هو جمع تابع، كشاهد و أشهاد. أو تبع، كبطل و أبطال. و الواو للحال.

و إنّما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم، و قلّة نصيبهم من الدنيا. و قيل: كانوا من أهل الصناعات الدنيئة، كالحياكة و الحجامة. و هكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتّى صارت من سماتهم و أماراتهم. ألا ترى إلى هرقل ملك الروم حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول اللّه، فلمّا قال: ضعفاء الناس و أراذلهم، قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك.

و كان من سخافة عقل الكفرة، و قصور رأيهم على الحطام الدنيويّة، أن جعلوا اتّباع المقلّين فيها مانعا عن اتّباعهم و إيمانهم بما يدعوهم إليه، و دليلا على بطلانه.

و أشاروا بذلك إلى أنّ اتّباعهم ليس عن نظر و بصيرة، و إنّما هو لتوقّع مال و رفعة.

فلذلك قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أنّهم عملوه خالصا، أو طمعا في طعمة.

و ما عليّ إلّا اعتبار الظاهر، دون التفتيش عن أسرارهم، و الشقّ عن قلوبهم.

إِنْ حِسابُهُمْ ما حسابهم على بواطنهم إِلَّا عَلى رَبِّي فإنّه المطّلع عليها.

و ما أنا إلّا منذر، لا محاسب و لا مجاز. لَوْ تَشْعُرُونَ لعلمتم ذلك. و لكنّكم تجهلون، فتقولون ما لا تعلمون. قصد بذلك ردّ اعتقادهم، و إنكار أن يسمّى المؤمن رذلا، و إن كان أفقر الناس و أوضعهم نسبا، فإنّ الغنى غنى الدين، و النسب نسب التقوى.

وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم.

و المعنى: ليس من شأني أن أتّبع شهواتكم، و أطيب نفوسكم، بطرد المؤمنين الّذين صحّ إيمانهم طمعا في إيمانكم.

ص: 39


1- هود: 27.

و قوله تعالى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كالعلّة له، أي: ما أنا إلّا رجل مبعوث لإنذار المكلّفين عن الكفر و المعاصي، سواء كانوا أعزّاء أو أذلّاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟ أو ما عليّ إلّا إنذاركم إنذارا بيّنا بالبرهان الواضح، الّذي يتميّز به الحقّ من الباطل، فلا عليّ أن أطردهم لاسترضائكم.

قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لئن لم ترجع عمّا تقول يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المضروبين بالحجارة، أو من المشتومين.

قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ في وحيك و رسالتك. و هذا إظهار لما يدعو عليهم لأجله، و هو تكذيب الحقّ، لا تخويفهم له و استخفافهم عليه.

فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً من الفتاحة، و هي الحكومة. و الفتّاح: الحاكم، لأنّه يفتح المستغلق. كما سمّي فيصل، لأنّه يفصل بين الخصومات. وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من العذاب النازل على الكفرة، و من شؤم عملهم.

فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ في السفينة الْمَشْحُونِ المملوء. يقال:

شحنت السفينة ملأتها. و شحنت البلد بالخيل ملأته. و الفلك هنا واحد. و جمع في قوله تعالى: وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ (1). فالواحد على وزن قفل، و الجمع على وزن اسد.

ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ إنجائه حينئذ و من معه الْباقِينَ الخارجين عن السفينة، الكافرين به.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً شاعت و تواترت وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في إهلاك قوم نوح بالغرق الرَّحِيمُ في إنجائه نوحا و من معه في الفلك.

ص: 40


1- النحل: 14.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 123 الى 140]

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [123] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ [124] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [125] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [126] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [127]

أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [128] وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [129] وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [130] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [131] وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ [132]

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ [133] وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ [134] إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [135] قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ [136] إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [137]

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [138] فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [139] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [140]

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ تأنيثه باعتبار القبيلة. و هو في الأصل اسم أبيهم.

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ باجتناب معاصيه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ صدّرت القصص بها لتدلّ على أنّ البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة

ص: 41

الحقّ، و الطاعة فيما يقرّب المدعوّ إلى ثوابه، و يبعّده عن عقابه. و كان الأنبياء متّفقين على مثل ذلك، مبرّئين عن المطامع الدينيّة و الأغراض الدنيويّة.

أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ بكلّ مكان مرتفع. و منه: ريع الأرض لارتفاعها.

آيَةً علما للمارّة تَعْبَثُونَ ببنائها، إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم، فاتّخذوا في طرقهم أعلاما طوالا لا يحتاجون إليها.

و قيل: كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارّة، فيعبثوا بهم. و عن مجاهد: بنوا بكلّ ريع بروجا للحمام عبثا.

و قيل: كانوا يبنون أبنية لا يحتاجون إليها للسكنى. فجعل بناء ما يستغنون عنه عبثا. أو قصورا يفتخرون بها.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكلّ بناء يبنى و بال على صاحبه يوم القيامة، إلّا ما لا بدّ منه».

وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ مأخذا للماء تحت الأرض. و قيل: قصورا مشيّدة و حصونا. لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود في الدنيا. أو تشبه حالكم حال من يخلد، فإنّ هذه الأبنية بناء من يطمع في الخلود.

وَ إِذا بَطَشْتُمْ أخذتم بسوط أو سيف بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ متسلّطين، ظالمين، بلا رأفة و لا قصد تأديب. و قيل: قتّالين على الغضب بغير حقّ. و قال الحسن: مبادرين تعجيل العذاب، لا تتفكّرون في العواقب.

فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء وَ أَطِيعُونِ فيما أمركم اللّه.

وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ كرّر الاتّقاء مرتّبا على إمداد اللّه إيّاهم بما أعطاهم ما يعلمون من أنواع الخير، و يعرفونه من أنواع النعم، تعليلا و تنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد، و الوعيد على تركه بالانقطاع. و الإمداد في الأصل إتباع الثاني ما قبله شيئا بعد شي ء على انتظام.

ص: 42

ثمّ فصّل بعض تلك النعم، كما فصّل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالا بالإنكار في «ألا تتّقون» مبالغة في الإيقاظ و الحثّ على التقوى، فقال:

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ قرنها بالبنين، لأنّهم الّذين يعينونهم على حفظها و القيام عليها وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ثمّ أوعدهم فقال: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عصيتموني عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا و الآخرة، فإنّه كما قدر على الإنعام قدر على الانتقام. و وصف اليوم بالعظيم، لما فيه من الأهوال العظيمة.

قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أنهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا. و المعنى: لا نقبل ما تدعونا إليه على كلّ حال، وعظت أم سكتّ، فإنّ حصول الوعظ منك و ارتفاعه مستويان عندنا. و لو علم أنّه قيل: أوعظت أم لم تعظ، لكان أخصر. لكن لم يكن فيه مبالغة، كما كانت في قوله: «أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» لأنّ المعنى: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الّذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله و مباشريه. فهو أبلغ في قلّة اعتدادهم بوعظه من قوله: أم لم تعظ.

إِنْ هذا ما هذا الّذي جئتنا به إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ إلّا اختلاق الأوّلين، أي:

كذبهم، كما قالوا: أساطير الأوّلين. أو ما خلقنا هذا إلّا خلق القرون الخالية، نحيا و نموت كما حيوا و ماتوا، و لا بعث و لا حساب.

و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و حمزة: خلق بضمّتين، بمعنى العادة، أي ما هذا الّذي جئت به إلّا عادة الأوّلين، كانوا يلفّقون مثله و يسطّرونه. أو ما هذا الّذي نحن عليه من الدّين إلّا خلق الأوّلين و عادتهم، و نحن بهم مقتدون. أو ما هذا الّذي نحن عليه من الحياة و الموت إلّا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها في قديم الدهر.

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب التكذيب بريح صرصر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ

ص: 43

الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قد مرّ (1) تفسيره.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 141 الى 159]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [141] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ [142] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [143] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [144] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [145]

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ [146] فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ [147] وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ [148] وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [149] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [150]

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ [151] الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ [152] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [153] ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [154] قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [155]

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [156] فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ [157] فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [158] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [159]

ص: 44


1- راجع ص 40: ذيل الآية 121- 122.

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قد سبق (1) تفسير ذلك أيضا.

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ إنكار لأن يتركوا مخلّدين في نعيمهم لا يزالون عنه. أو تذكير بالنعمة في تخلية اللّه إيّاهم و ما يتنعّمون. «فيما هاهنا» أي: الّذي استقرّ في هذا المكان من النعيم، حال كونهم مع أمن و دعة.

و المعنى: أ تظنّون أنّكم تتركون فيما أعطاكم اللّه من الخير في هذه الدنيا، آمنين من الموت و العذاب؟! بل لا يبقى عليكم، و سيزول عنكم.

ثمّ فسّره بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ لطيف ليّن، للطف التمر. أو لأنّ النخل أنثى، و طلع إناث النخل ألطف. و هو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ (2) القنو. أو متدلّ (3) منكسر من كثرة الحمل.

و قيل: الهضيم: الليّن النضيج. و قيل: هو الّذي إذا مسّ تفتّت. و قيل: هو الّذي ليس فيه نوى.

و إفراد النخل لفضله على سائر أشجار الجنّات. أو لأنّ المراد بالجنّات غير النخل من الأشجار، لأنّ اللفظ يصلح لذلك، ثمّ يعطف عليها النخل.

وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ بطرين، أو حاذقين. من الفراهة، و هي

ص: 45


1- راجع ص 41: ذيل الآية 123- 127.
2- شماريخ جمع شمراخ، و هو العذق- أي: الغصن له شعب- عليه بسر أو عنب. و القنو: من النخل كالعنقود من العنب.
3- عطف على قوله: «لطيف ليّن» قبل سطرين.

النشاط، فإنّ الحاذق يعمل بنشاط و طيب قلب. و قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو:

فرهين. و هو أبلغ.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ثمّ وصفهم بالوصف الموضح لإسرافهم بقوله. و استعير طاعة الآمر المطاع لامتثال الأمر و ارتسامه، أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، و المراد الآمر.

و منه قولهم: لك عليّ إمرة مطاعة، و قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (1).

و حقيقة المعنى: أطيعوني فيما آمركم به، و لا تطيعوا رؤساءكم المتجاوزين عن الحقّ.

الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ عطفه على «يفسدون» دلالة على خلوص فسادهم. يعني: أنّ حالهم ليس كحال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح، بل موصوفون بمحض الفساد و الفساد المحض. و هم سبعة رهط من ثمود الّذين عقروا الناقة.

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الّذين سحروا كثيرا مرّة بعد اخرى حتّى غلب على عقلهم، فصاروا لا يدرون ما يقولون. او من ذوي السّحر، و هو الرئة، أي: من الأناسيّ الّذين يحتاجون إلى الطعام و الشراب. فيكون ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تأكيدا له.

فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعوة النبوّة. روي: أنّهم قالوا:

نريد ناقة عشراء (2)، تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا. فقعد صالح يتفكّر، فقال له جبرئيل: صلّ ركعتين، و سل ربّك الناقة. ففعل، فخرجت الناقة و بركت بين

ص: 46


1- طه: 90.
2- العشراء: الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر. و السقب: الذكر من ولد الناقة.

أيديهم، و نتجت سقبا مثلها في العظم. و عن أبي موسى: رأيت مصدرها فإذا هو ستّون ذراعا.

قالَ بعد خروج الناقة من الصخرة، كما اقترحوا المعجزة تدلّ على صدقة هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ نصيب من الماء، كالسقي و ألقيت، للحظّ من السقي و القوت وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فاقتصروا على شربكم، و لا تزاحموها في شربها.

و عن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلّه، و لهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «أوّل عين نبعت في الأرض هي الّتي فجّرها اللّه لصالح، فقال: «لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ».

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ كضرب و عقر، و غير ذلك فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لعظم ما يحلّ فيه. و هو أبلغ من تعظيم العذاب، لأنّ الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشدّ.

فَعَقَرُوها أسند العقر إلى كلّهم، لأنّ عاقرها إنّما عقرها برضاهم، و لذلك أخذوا جميعا.

روي: أنّ عاقرها قال: لا أعقرها حتّى ترضوا أجمعين. فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أ ترضين؟ فتقول: نعم. و كذا صبيانهم.

روي: أنّ مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت، ثمّ ضربها قدار.

فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها خوفا من حلول العذاب، لا توبة، أو عند معاينة العذاب، و لذلك لم ينفعهم. قال اللّه تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ

ص: 47

السَّيِّئاتِ (1) الآية.

فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ اللام إشارة إلى عذاب يوم عظيم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ مرّ تفسير هاتين الآيتين مرارا.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 160 الى 175]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [160] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ [161] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [162] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [163] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [164]

أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ [165] وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [166] قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [167] قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ [168] رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [169]

فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ [170] إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ [171] ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ [172] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [173] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [174]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [175]

ص: 48


1- النساء: 18.

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ أ تصيبون الذكور مِنَ الْعالَمِينَ من أولاد آدم، مع كثرتهم و غلبة إناثهم على ذكورهم. أو أ تأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران، لا يشارككم فيه غيركم. يعني: أنّكم يا قوم لوط وحدكم مختصّون بهذه الفاحشة. فالمراد بالعالمين على الأوّل الناس، و على الثاني كلّ من ينكح.

وَ تَذَرُونَ و تتركون ما خَلَقَ لَكُمْ لأجل استمتاعكم رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بيان ل «ما» إن أريد به جنس الإناث. أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهنّ. فيكون تعريضا بأنّهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضا.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ متجاوزون عن حدّ الشهوة، حيث زادوا على سائر الناس، بل الحيوان. أو مفرطون في المعاصي، و هذا من جملة ذاك. أو أحقّاء بأن توصفوا بالعدوان، لارتكابكم هذه الجريمة العظيمة.

قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن نهينا، أو تقبيح أفعالنا، أو عمّا تدّعيه، و لم تمتنع عن دعوتنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا، و طردناه من بلدنا. و لعلّهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف و أسوأ حال.

قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ من المبغضين غاية البغض، أقف عن الإنكار عليه بالإيعاد. من القلى بمعنى البغض الشديد. كأنّه بغض يقلي الفؤاد و الكبد. و هو أبلغ من أن يقول: إنّي لعملكم قال، لدلالته على أنّه معدود في زمرتهم، مشهور بأنّه من جملتهم. كما تقول: فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنّك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، و معروفة مساهمته لهم

ص: 49

في العلم. و في هذا دليل على عظم المعصية.

رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي: من سوء عملهم و وخامة عاقبته من نزول العذاب.

فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أهل بيته و المتّبعين له على دينه، عن العقاب الأليم، بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم.

إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط فِي الْغابِرِينَ أي: مقدّرة مفروضة في الباقين في العذاب، إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها، لأنّها كانت مائلة إلى القوم، راضية بفعلهم، دالّة أهل الفساد على أضيافه. و قيل: كائنة فيمن بقي في القرية، فإنّها لم تخرج مع لوط.

ثُمَّ دَمَّرْنَا أهلكنا الْآخَرِينَ بانقلاب بلادهم عليهم وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قيل: أمطر اللّه حجارة على قومه الّذين لم يكونوا في بلادهم، بل كانوا خارجين منها، غائبين عنها حين انقلبت البلاد على أهل بلده فأهلكتهم. و عن ابن زيد: لم يرض اللّه بانقلاب بلدهم حتّى أتبعه مطرا من حجارة.

فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ بئس و اشتدّ مطر الكافرين. و لا يجوز أن يكون اللام للعهد الدّال على قوم بأعيانهم، بل إنّما هو للجنس، ليصحّ وقوع المضاف إليه فاعل «ساء». و المخصوص بالذمّ محذوف، و هو: مطرهم.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ

رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

[سورة الشعراء [26]: الآيات 176 الى 191]

كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [176] إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ [177] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [178] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ [179] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [180]

أَوْفُوا

ص: 50

الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ [181] وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [182] وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [183] وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [184] قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [185]

وَ ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [186] فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [187] قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ [188] فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [189] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [190]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [191]

ثمّ أخبر عن قوم شعيب، فقال: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ الأيكة:

غيضة (1) تنبت ناعم الشجر. يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة، فبعث اللّه إليهم شعيبا، كما بعثه إلى مدين. و كان أجنبيّا منهم، فلذلك لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، كما في المواضع المتقدّمة، بل قال: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ و في الحديث: «إنّ شعيبا أخا مدين، أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة».

و قيل: الأيكة شجر ملتفّ. و كان شجرهم الدوم (2). و هو المقل.

ص: 51


1- الغيضة: مجتمع الشجر في مغيض الماء- أي: مجتمعه و مدخله- الأجمة.
2- الدوم: جنس شجر من فصيلة النخليّات، يستخرج من ثماره نوع من الدبس. يعرف أيضا بشجرة المقل.

و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر بحذف الهمزة، و إلقاء حركتها على اللام، على وزن ليلة. و نصب التاء على أنّها غير منصرفة، لأنّها اسم بلدتهم. و إنّما كتبت هاهنا و في سورة ص (1) بغير ألف اتباعا لخطّ المصحف، فإنّها وجدت مكتوبة في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ و قد مرّ تفسيرها قبل.

و إنّما حكى اللّه سبحانه دعوة كلّ نبيّ بصيغة واحدة و لفظ واحد، إشعارا بأنّ الحقّ الّذي يأتي به الرسل و يدعون إليه واحد، من اتّقاء اللّه تعالى، و اجتناب معاصيه، و الإخلاص في عبادته و طاعة رسله. و أنّ الأنبياء لا يكونون إلّا أمناء اللّه في عباده، فإنّه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الأجرة على رسالته، لما في ذلك من التنفير عن قبولهم.

ثمّ قال: أَوْفُوا الْكَيْلَ أتمّوه وافيا غير ناقص وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.

وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السويّ. قيل: هو عربيّ من القسط، و هو العدل، على وزن فعلاس، بزيادة الألف و السين، أو فعلاع بتكرير العين. أو على وزن فعلال من الرباعي. و قيل: هو روميّ، بمعنى العدل أيضا. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر القاف.

وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ و لا تنقصوا شيئا من حقوقهم. من: بخسته إذا نقصته. و البخس عامّ في كلّ حقّ ثبت لأحد أن لا يهضم، و في كلّ ملك أن لا يغصب عليه مالكه، و لا يتحيّف منه، و لا يتصرّف فيه إلّا بإذنه تصرّفا شرعيّا.

وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالقتل و الغارة و قطع الطريق. و كانوا يفعلون

ص: 52


1- ص: 13.

ذلك مع تولّيهم أنواع الفساد، فنهوا عن ذلك. و العثيّ بمعنى أشدّ الفساد. يقال: عثا في الأرض يعثو، و عثى يعثى، و عاث يعيث.

وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ و ذوي الخليقة الأوّلين. يعني: من تقدّمهم من الخلائق. و هو كقولك: خلق الأوّلين.

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أتوا بالواو للدلالة على أنّه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة، و هما: التسحير و البشريّة، مبالغة في تكذيبه. يعني: أنّ الرسول لا يجوز أن يكون مسحّرا، و لا يجوز أن يكون بشرا.

وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ و إنّا نظنّك كاذبا في دعواك.

و اعلم أنّ «إن» المخفّفة من الثقيلة و لامها تفرّقتا على فعل الظنّ و ثاني مفعوليه، لأنّهما في الأصل يتفرّقان على المبتدأ و الخبر، كقولك: إن زيد لمنطلق.

فلمّا كان باب «كان» و باب «ظننت» من جنس باب المبتدأ و الخبر، قالوا أيضا في البابين: إن كان زيد لنا عما، «وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ».

فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي: قطعا من السحاب. جمع الكسفة، نحو القطع جمع القطعة. و قرأ حفص بفتح السين. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك. و ما كان طلبهم ذلك إلّا لتصميمهم على الجحود و التكذيب، و لو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم، فضلا أن يطلبوه. و ذكر «إن» مشعر بإضمار الشرط. و المعنى: إن كنت صادقا أنّك نبيّ فادع اللّه أن يسقط علينا كسفا من السماء.

قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و بما تستوجبون عليه من العقاب. فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، و إن أراد عذابا آخر فإليه الحكم و المشيئة.

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ على نحو ما اقترحوا، بأن سلّط اللّه

ص: 53

عليهم الحرّ الشديد سبعة أيّام حتّى أخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظلّ و لا سرب (1)، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرّيّة، فأظلّتهم سحابة وجدوا لها بردا و نسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.

و روي: أنّ شعيبا بعث إلى أمّتين: أصحاب مدين، و أصحاب الأيكة.

فأهلكت مدين بصيحة جبرئيل، و أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلّة.

إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ في نفي الإيمان عن أكثر كلّ أمّة من أمم الأنبياء السابقة، إيماء بأنّه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 192 الى 203]

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [192] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [193] عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [194] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [195] وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [196]

أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [197] وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ [198] فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [199] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [200] لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [201]

فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [202] فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ [203]

ص: 54


1- السرب: الحفير تحت الأرض.

و اعلم أنّ هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار، تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تهديدا للمكذّبين به. ثمّ قرّر حقّية تلك القصص بقوله: وَ إِنَّهُ و إنّ هذا التنزيل. يعني: ما نزل من هذه القصص. لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ لمنزل نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ

و قرأ ابن عامر و أبو بكر و حمزة و الكسائي

بتشديد الزاي، و نصب «الرّوح الأمين». و على القراءتين الباء للتعدية. فعلى القراءة الأولى معناه: نزل القرآن الروح الأمين. و على الثانية معناه: جعل اللّه الروح الأمين نازلا به على قلبك.

و الروح الأمين جبرئيل عليه السّلام، فإنّه عليه السّلام أمين اللّه على وحيه، و يحيي به الدين، أو يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات. أو لأنّ جسمه روحانيّ.

و القلب إن أراد به الروح فذاك. و إن أراد به العضو، فتخيصه لأنّ المعاني الروحانيّة إنّما تنزل أوّلا على الروح، ثمّ تنتقل منه إلى القلب، لما بينهما من التعلّق، ثمّ تتصعّد منه إلى الدماغ، فينتقش بها لوح المتخيّلة.

و المعنى: حفّظك و فهّمك إيّاه، و أثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (1).

لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ عمّا يؤدّي إلى عذاب من فعل أو ترك. و فيه تنبيه على إعجاز القرآن و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ الإخبار عن هذه القصص ممّن لم يتعلّم لا يكون إلّا وحيا من اللّه عزّ و جلّ.

بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى. و هو إمّا متعلّق بالمنذرين. و معناه:

لتكوننّ ممّن أنذروا بلغة العرب. و هم خمسة: هود، و صالح، و شعيب، و إسماعيل، و محمّد صلّى اللّه عليهم. أو متعلّق ب «نزل».

وَ إِنَّهُ و إنّ القرآن- يعني: ذكره، أو معناه- مثبت لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لفي

ص: 55


1- الأعلى: 6.

الكتب المتقدّمة السماويّة.

و قيل: الضمير لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كذلك ضمير «يعلمه» في قوله: أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً على صحّة القرآن، أو نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم.

و قرأ ابن عامر: تكن بالتاء، و آية بالرفع على أنّها الاسم، و الخبر «لهم»، و «أن يعلمه» بدل. أو الفاعل، و «أن يعلمه» بدل، و «لهم» حال. و على قراءة غيره نصبت على أنّها خبر «يكن»، و «أن يعلمه» اسمه.

و علماؤهم: عبد اللّه بن سلام و أصحابه، كما قال اللّه تعالى: وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (1).

و عن عطيّة: هم خمسة: عبد اللّه بن سلام، و ابن يامين، و ثعلبة، و أسد، و أسيد.

و خطّ: علمؤا بالواو قبل الألف، على لغة من عدل الألف إلى الواو. و على هذه اللغة كتبت: الصلوة و الزكوة و الربوا.

وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ كما هو زيادة في إعجازه. أو بلغة الأعجمين. و هو جمع الأعجمي، و هو الّذي لا يفصح، و في لسانه عجمة. و لمّا كان من يتكلّم بلسان غير لسانهم بحيث لا يفهمون كلامه، فشبّهوه بمن لا يفصح و لا يبين أصلا. و قالوا لكلّ ذي صوت من البهائم و الطيور و غيرها: أعجم.

فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ لفرط عنادهم و استكبارهم. أو لعدم فهمهم، و استنكافهم من اتّباع العجم.

كَذلِكَ سَلَكْناهُ أي: كما أنزلنا القرآن عربيّا مبينا، أدخلناه و أوقعناه فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الكافرين، بأن قرأه رسولنا عليهم، فعرفوا معانيه و إعجازه.

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عنادا و جحودا حَتَّى يَرَوُا يعاينوا الْعَذابَ الْأَلِيمَ

ص: 56


1- القصص: 53.

فيلجئهم إلى الإيمان فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجأة في الدنيا و الآخرة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ تحسّرا و تأسّفا.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 204 الى 209]

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ [204] أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ [205] ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ [206] ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ [207] وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ [208]

ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ [209]

روي عن مقاتل: لمّا أوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالعذاب استعجلوه تكذيبا له، فقال سبحانه توبيخا لهم: أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أشرا و بطرا و استهزاء، و اتّكالا على الأمل الطويل. فيقولون: أمطر علينا حجارة، فأتنا بما تعدنا، و حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة. يعني: كيف يستعجل العذاب من هو معرّض لعذاب لإيجاب في دفعه، و لا ينظر و لا يمهل طرفة عين؟! أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ أعمارا طوالا في سلامة و أمن ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب و تخفيفه. يعني: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم و تعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم و طيب معاشهم.

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ رسل أنذروا أهلها إلزاما للحجّة. و إنّما عزلت الواو عن الجملة بعد «إلّا»، و لم تعزل في قوله: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (1). لأنّ الأصل عزل الواو، لأنّ الجملة صفة ل «قرية». و إذا زيدت

ص: 57


1- الحجر: 4.

فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ (1).

ذِكْرى تذكرة. و محلّها النصب على العلّة أو المصدر، لأنّها في معنى الإنذار، كأنّه قيل: مذكّرون تذكرة. أو الرفع على أنّها صفة «منذرون» بإضمار:

ذووا. أو جعلوا ذكرى، لإمعانهم في التذكرة و إطنابهم فيها. أو خبر محذوف، أي:

هذه ذكرى. و الجملة اعتراضيّة. و يجوز أن تكون «ذكرى» متعلّقة ب «أهلكنا» مفعولا له. و المعنى: و ما أهلكنا من أهل قرية ظالمة إلّا بعد ما ألزمناهم الحجّة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة و عبرة لغيرهم. وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك غير الظالمين، أو قبل الإنذار.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 210 الى 220]

وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [210] وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ [211] إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [212] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [213] وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [214]

وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [215] فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [216] وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [217] الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ [218] وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [219]

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [220]

روي: أنّ الكفّار كانوا يقولون: إنّما يتنزّل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جنس ما يتنزّل به الشياطين على الكهنة. فكذّبهم اللّه بقوله: وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ بالقرآن

ص: 58


1- الكهف: 22.

الشَّياطِينُ كما يزعمه بعض المشركين وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ و ما يصحّ للشياطين أن يتنزّلوا به وَ ما يَسْتَطِيعُونَ ذلك، و لا يقدرون عليه، لأنّ اللّه تعالى يحرس المعجزة عن أن يموّه بها المبطل.

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ لمصروفون مرجومون بالشهب، لأنّه مشروط بمشاركة في صفاء الذات، و قبول فيضان الحقّ، و الانتقاش بالصور الملكوتيّة، و نفوسهم خبيثة ظلمانيّة شرّيرة بالذات، لا تقبل ذلك. و القرآن مشتمل على حقائق و مغيّبات لا يمكن تلقّيها إلّا من الملائكة.

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ بسبب ذلك. قد علم عزّ اسمه أنّ ذلك لا يكون، و لكنّه أراد أن يحرّك نبيّه و يهيّجه، لازدياد الإخلاص و التقوى.

و فيه تنبيه لسائر المكلّفين، كما قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (1). فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ (2). لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (3).

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ رهطك الأدنين، بالإفصاح من غير تليين بالقول، الأقرب منهم فالأقرب. و إنّما خصّهم بالذكر تنبيها على أنّه ينذر غيرهم، و أنّه لا يداهنهم لأجل القرابة، ليقطع طمع الأجانب عن المداهنة في الدين.

و قيل: إنّه عليه السّلام أمر بأن يبدأ بهم في الإنذار و الدعاء إلى اللّه، ثمّ بالّذين يلونهم، كما قال: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ (4). لأنّ ذلك هو الّذي يقتضيه حسن الترتيب.

و قيل: إنّما خصّهم لأنّه يمكنه أن يجمعهم ثمّ ينذرهم. و قد فعل ذلك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

ص: 59


1- الحاقّة: 44.
2- يونس: 94.
3- الزمر: 65.
4- التوبة: 123.

و اشتهرت القصّة بذلك عند الخاصّ و العامّ.

و في الخبر المأثور عن البراء بن عازب أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني عبد المطّلب، و هم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل المسنّة (1) و يشرب العسّ. (2) فأمر عليّا عليه السّلام برجل شاة فأدمها (3)، ثمّ قال: ادنوا بسم اللّه. فدنا القوم عشرة عشرة، فأكلوا حتّى صدروا (4). ثمّ دعا بعقب من لبن، فجرع منه جرعة، ثمّ قال لهم: اشربوا بسم اللّه. فشربوا حتّى رووا. فبدرهم أبو لهب فقال:

هذا ما سحركم به الرجل. فسكت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ و لم يتكلّم. ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام و الشراب.

ثمّ أنذرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا بني عبد المطّلب إنّي أنا النذير إليكم من اللّه عزّ و جلّ و البشير، فأسلموا و أطيعوني تهتدوا.

ثمّ قال: من يؤاخيني و يوازرني، و يكون وليّي و وصيّي بعدي و خليفتي في أهلي، و يقضي ديني؟ فسكت القوم. فأعادها ثلاثا، كلّ ذلك يسكت القوم، و يقول عليّ عليه السّلام: أنا. فقال في المرّة الثالثة: أنت. فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمّر عليك. أورد ذلك كلّه الثعلبي في تفسيره.

و روي عن أبي رافع هذه القصّة، و أنّه جمعهم في الشعب، فصنع لهم رجل شاة، فأكلوا حتّى تضلّعوا (5)، و سقاهم عسّا فشربوا كلّهم حتى رووا.

ثمّ قال: إنّ اللّه تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، و أنتم عشيرتي

ص: 60


1- المسنّة: البقرة إذا دخلت في السنة الثالثة.
2- العسّ: القدح أو الإناء الكبير.
3- أي: خلطها بالإدام.
4- أي: رجعوا عنه. و القعب: القدح الضخم الغليظ.
5- تضلّع: امتلأ شبعا أو ريّا.

و رهطي، و إنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا جعل له أخا و وزيرا و وارثا و وصيّا و خليفة في أهله، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي و وارثي و وزيري و وصيّي، و يكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟ فسكت القوم. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليقومنّ قائمكم، أو ليكوننّ في غيركم ثمّ لتندمنّ.

ثمّ أعاد الكلام ثلاث مرّات. فقام عليّ عليه السّلام فبايعه و أجابه. ثمّ قال: ادن منّي.

فدنا منه، ففتح فاه و مجّ (1) في فيه من ريقه، و تفل بين كتفيه و ثدييه.

فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن

عمّك أن أجابك، فملأت فاه و وجهه بزاقا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ملأته حكمة و علما.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت الآية صعد رسول اللّه على الصفا، فقال: يا صباحاه. فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، ما كنتم تصدّقونني؟ قالوا: بلى. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبّا لك أ لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل اللّه عزّ و جلّ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ إلى آخر السورة.

و روي: أنّه لمّا نزلت صعد الصفا و ناداهم فخذا فخذا حتّى اجتمعوا إليه، فقال: «لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أ كنتم مصدّقيّ؟ قالوا: نعم. قال: فإنّي لكم نذير بين يدي عذاب شديد».

وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ليّن جانبك لهم. و هذا مستعار من: خفض الطائر إذا أراد أن ينحطّ، فإنّ الطائر إذا أراد أن ينحطّ كسر جناحه و خفضه، و إذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه. فجعل خفض جناحه عند

ص: 61


1- أي: رمى و قذف.

الانحطاط مثلا في التواضع و لين الجانب.

و «من» للتبيين، لأنّ من اتّبع أعمّ ممّن اتّبع لدين أو غيره. أو للتبعيض، على أنّ المراد من المؤمنين المشارفون للإيمان، أو المصدّقون باللسان، فإنّ المؤمنين المصدّقين بألسنتهم صنفان: صنف صدّق و اتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما جاء به، و صنف ما وجد منه إلّا التصديق فحسب، و هم المنافقون و الفاسقون، و هما لا يخفض لهما الجناح.

فَإِنْ عَصَوْكَ و لم يتّبعوك فيما تدعوهم إليه فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ممّا تعملونه. أو من أعمالكم القبيحة، من الشرك و غيره.

وَ تَوَكَّلْ و فوّض أمرك عَلَى الْعَزِيزِ الّذي يقدر على قهر أعدائه الرَّحِيمِ الّذي يقدر على نصر أوليائه، يكفك شرّ من يعصيك منهم و من غيرهم. و التوكّل: عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، و يقدر على نفعه و ضرّه.

و قرأ نافع و ابن عامر: فتوكّل، على الإبدال من جواب الشرط.

الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ إلى التهجّد. أو إلى الصلاة بالناس جماعة. أو تقوم للإنذار و أداء الرسالة. وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ في المصلّين، و تردّدك في تصفّح أحوال المتهجّدين. كما روي: أنّه لمّا نسخ فرض قيام الليل، طاف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لمّا سمع منها من دندنتهم (1) بذكر اللّه و تلاوة القرآن.

و قيل: معناه:

تصرّفك فيما بين المصلّين بالقيام و الركوع و السجود إذا أممتهم.

ص: 62


1- دندن الرجل: نغّم و لم يفهم منه كلام.

أو تقلّبك في أصلاب الموحّدين، حتّى أخرجك نبيّا من صلب أبيك، من نكاح غير سفاح، من لدن آدم عليه السّلام.

و هو المرويّ عن أئمّة الهدى عليهم السّلام.

قال النيشابوري: «قد احتجّ بالآية علماء الشيعة في مذهبهم أنّ آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يكونون كفّارا. قالوا: أراد: تقلّب روحه من ساجد إلى ساجد، كما في الحديث المعتمد عليه عندهم: «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات». و ناقشهم أهل السنّة في التأويل المذكور، و في صحّة الحديث.

و الأصوب عندي أن لا نشتغل بمعنى أمثال هذه الدعوى، و نسرح إلى بقعة الإمكان. على أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول» (1). انتهى كلامه، و ما أنصفه.

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله الْعَلِيمُ بما تنويه.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 221 الى 223]

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [221] تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [222] يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [223]

و لمّا أخبر اللّه سبحانه أنّ القرآن ليس ممّا تتنزّل به الشياطين، و أنّه وحي من اللّه، عقّبه بذكر من تنزّل عليه الشياطين، فقال:

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي: يتنزّل على كلّ كذّاب فاجر، كثير الإثم، عامل بالمعاصي. و هم الكهنة. و قيل: طليحة و مسيلمة. و أنت لست بكذّاب و لا أثيم، فلا تتنزّل عليك الشياطين، بل تتنزّل عليك الملائكة.

و إنّما دخل حرف الجرّ على «من» المتضمّنة لمعنى الاستفهام، و الاستفهام له

ص: 63


1- تفسير غرائب القرآن 5: 288.

صدر الكلام، كقولك: أعلى زيد مررت؟ و لا تقول: على أزيد مررت؟ لأنّ «من» دالّ على معنيين معا: معنى الاسم، و معنى الحرف. و أصله: أمن، فحذف حرف الاستفهام، و استمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من «هل» و الأصل: أهل.

فإذا دخل حرف الجرّ على «من» فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ، كأنّك تقول: أعلى من تنزّل الشياطين؟ كما تقول: أعلى زيد مررت؟

يُلْقُونَ السَّمْعَ يلقي الشياطين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى أوليائهم، و هم الكهنة و الكذّابون، و يخلطون به كثيرا من الأكاذيب، و يوحونه إليهم وَ أَكْثَرُهُمْ و أكثر الشياطين الأفّاكين الآثمين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون وحيهم إليهم كاذِبُونَ فيما يلقون إلى الكهنة، لأنّهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، أي: لا على نحو ما تكلّمت به الملائكة، لشرارتهم، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو أفهامهم. أو أكثر الأفّاكين كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.

و في الحديث:

«الكلمة يتخطّفها الجنّي فيقرّها في أذن وليّه، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة».

و القرّ: الصبّ.

قال الحسن: هم الّذين يسترقون السمع من الملائكة فيلقون إلى الكهنة.

و هذا قبل أن يوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.

و قيل: المراد بالأكثر الكلّ، لقوله: «كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ». و الأظهر أنّ الأكثريّة باعتبار أقوالهم، على معنى أنّ هؤلاء قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنّي.

و الحاصل: أنّ اللّه سبحانه بيّن أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يصلح أن تتنزّل الشياطين عليه من وجهين:

أحدهما: أنّه إنّما يكون تنزّلهم على كلّ شرّير كذّاب كثير الإثم، فإنّ اتّصال الإنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب و التوادّ، و حال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

ص: 64

على خلاف ذلك.

و ثانيهما: أنّ الأفّاكين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون منهم ظنونا و أمارات، لنقصان علمهم، فيضمّون إليها على حسب تخيّلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع. و لا كذلك محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه أخبر عن مغيّبات كثيرة لا تحصى، و قد طابق كلّها.

و اعلم أنّ محلّ «يلقون» يجوز أن يكون نصبا على الحاليّة، أيّ: تنزّل ملقين السمع. أو جرّا صفة ل «كلّ أفّاك» لأنّه في معنى الجمع. و يحتمل أن لا يكون له محلّ من الإعراب، بأن يكون كلاما مستأنفا، كأنّ قائلا قال: لم تنزّل على الأفّاكين؟

فقيل: يلقون السمع ... إلخ.

[سورة الشعراء [26]: الآيات 224 الى 227]

وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [224] أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ [225] وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [226] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [227]

روي: أنّ شعراء المشركين من قريش، مثل عبد اللّه بن الزبعري السهمي، و أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب، و هبيرة بن أبي وهب المخزومي، و مسافع بن عبد مناف الجمحي، و أبو عزّة عمرو بن عبد اللّه، و من ثقيف أميّة بن أبي الصلت، تكلّموا بالكذب و الباطل، و قالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد. و كانوا يهجونه و أصحابه في الشعر. و اجتمع إليهم غواة من قومهم، يستمعون أشعارهم، و يروون عنهم أهاجيهم، فنزلت:

ص: 65

وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ على أباطيلهم، و أكاذيبهم، و فضول كلامهم، و ما هم عليه من الهجاء. و قرأ نافع: يتبعهم بالتخفيف. الْغاوُونَ السفهاء و الشطّار (1).

و قيل: الشياطين. و أتباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليسوا كذلك. و هذا استئناف يبطل كونه شاعرا.

و قرّره بقوله: أَ- لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ في كلّ فنّ من الكذب يتكلّمون، و في كلّ لغو يخوضون، فيمدحون و يذمّون بالباطل.

و المعنى: أنّهم لما يغلب عليهم من الهوى كالهائم على وجهه في كلّ واد يعنّ له، فيخوضون في كلّ فنّ من الكلام و المعاني الّتي تعنّ لهم. فالوادي مثل لفنون كلامهم. و هيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو و باطل، و غلوّ في مدح و ذمّ، فإنّ أكثر مقدّماتهم خيالات لا حقيقة لها، و أغلب كلامهم في النسيب (2) بالحرم، و الغزل و الابتهار، و تمزيق الأعراض، و القدح في الأنساب، و الوعد الكاذب، و الافتخار بالباطل، و مدح من لا يستحقّه، و الإطراء فيه، حتّى يفضّلوا أجبن الناس على أشجعهم، و أشحّهم على أسخاهم، و يبهتوا (3) البري ء، و يفسّقوا التقيّ. و إليه أشار بقوله: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ و لمّا كان إعجاز القرآن من جهة المعنى و اللفظ، و قد قدحوا في المعنى بأنّه ممّا تنزّلت به الشياطين، و في اللفظ بأنّه من جنس كلام الشعراء، تكلّم في القسمين، و بيّن منافاة القرآن لهما، و مضادّة حال الرسول لحال أربابهما.

روى العيّاشي بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «هم قوم تعلّموا و تفقّهوا بغير.

ص: 66


1- الشطّار جمع الشاطر، و هو المتّصف بالدهاء و الخباثة.
2- نسب نسيبا الشاعر بالمرأة: شبّب بها في شعره و تغزّل. و الحرم: النساء. و الابتهار: القذف بالبهتان، و دعوى الشي ء كذبا.
3- أي: يتّهموا.

علم، فضلّوا و أضلّوا».

و في تفسير عليّ بن إبراهيم: «إنّهم الّذين يغيّرون دين اللّه تعالى، و يخالفون أمره» (1).

و قيل: هم القصّاص الّذين يكذبون في قصصهم، و يقولون ما يخطر ببالهم.

ثمّ استثنى الشعراء الصالحين المؤمنين منهم، الّذين يكثرون ذكر اللّه في الشعر، فقال:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي: كانت أشعارهم في التوحيد و الثناء على اللّه و الرسول و آله، و الحثّ على طاعته، و الحكمة و الموعظة و الزهد، و الآداب الحسنة، و مدح المؤمنين على طاعة اللّه.

وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بأن هجوا الكفّار الهاجين مكافحة لهجائهم المسلمين، و ردءا (2) و انتصارا ممّا يهجونهم، من غير اعتداء و لا زيادة على ما هو جواب، لقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (3).

قيل: المراد بالمستثنين: عبد اللّه بن رواحة، و حسّان بن ثابت، و الكعبين:

كعب بن مالك، و كعب بن زهير، و الّذين كانوا ينافحون (4) عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يكافحون عنه، و يكافحون هجاة قريش.

و عن كعب بن مالك: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له: «اهجهم، فو الّذي نفسي بيده هو أشدّ عليهم من وقع النبل».

روى البخاري و مسلم في الصحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقول لحسّان:

ص: 67


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 125.
2- الردء: الناصر و العون.
3- البقرة: 194.
4- نافح عن فلان: دافع عنه.

«اهجهم و روح القدس معك» (1).

وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أيّ منصرف ينصرفون، و مرجع يرجعون؟! لأنّ منصرفهم إلى النار. و فيه تهديد شديد بما لا شي ء أهيب منه و أهول، و لا أنكى لقلوب المتأمّلين، و لا أصدع لأكباد المتدبّرين. و ذلك لما في «سيعلم» من الوعيد البليغ، و في «الّذين ظلموا» من الإطلاق و التعميم، و في «أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»- أي: بعد الموت- من الإبهام و التهويل.

ص: 68


1- صحيح البخاري 8: 45، صحيح مسلم 4: 1933 ح 153.

[27] سورة النمل

اشارة

و هي ثلاث و تسعون آية.

عن أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان و كذّب به، و هود و شعيب و صالح و إبراهيم، و يخرج من قبره و هو ينادي لا إله إلّا اللّه».

[سورة النمل [27]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ [1] هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [2] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [3] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [4]

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ [5]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الشعراء بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال:

ص: 69

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* طس سبق (1) تفسيره، و قراءته بالتفخيم و الإمالة تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ إشارة إلى آي السورة وَ كِتابٍ مُبِينٍ إمّا اللوح.

و إبانته من حيث إنّه خطّ فيه ما هو كائن، فهو يبيّنه للناظرين فيه. و تأخيره باعتبار تعلّق علمنا به. و تقديمه في الحجر (2) باعتبار الوجود. و إمّا السورة أو القرآن.

و إبانتهما لما أودع فيهما من الحكم و الأحكام، أو لوضوح إعجازهما. و عطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الاخرى. و تنكيره للتعظيم، كقوله: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (3).

و قرأ نافع: و كتاب بالرفع، على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه.

هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ حالان من الآيات، أي: هادية من الضلالة إلى الحقّ بالبيان الأتمّ و البرهان الأكمل، و مبشّرة لهم بالجنّة و الثواب. أو بدلان من الآيات. أو خبران آخران، أي:

جمعت أنّها آيات، و أنّها هدى و بشرى. أو خبران لمحذوف، أي: هي هدى و بشرى.

ثمّ وصف المؤمنين بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بحدودها و واجباتها، و يداومون على أوقاتها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ و يخرجون ما يجب عليهم من الزكاة في أموالهم إلى من يستحقّها. و تخصيصهما بالذكر لمزيد شرفهما على سائر الأعمال البدنيّة و الماليّة.

وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ أي: البعث و الجزاء هُمْ يُوقِنُونَ لا يشكّون فيه. أو من جملة الصلة، و الواو للحال أو للعطف. و تغيير النظم للدلالة على قوّة يقينهم و ثباته، و أنّهم الأوحدون فيه. أو جملة اعتراضيّة، كأنّه قيل: و هؤلاء الّذين يؤمنون

ص: 70


1- في أوّل سورة الشعراء، راجع ص: 6.
2- الحجر: 1.
3- القمر: 55.

و يعلمون الصالحات هم الموقنون بالآخرة. و يدلّ عليه أنّه عقد جملة ابتدائيّة اسميّة، و كرّر فيها المبتدأ الّذي هو «هم»، فإنّهما يدلّان على الثبات و الاختصاص.

و المعنى: و ما يوقن بالآخرة حقّ الإيقان إلّا هؤلاء الجامعون بين الإيمان و العمل الصالح، فإنّ تحمّل المشاقّ إنّما يكون لخوف العاقبة، و الوثوق على المحاسبة.

ثمّ وصف من خالفهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي: أعمالهم القبيحة. و الفرق بين إسناد هذا التزيين إلى اللّه تعالى، و إلى الشيطان في قوله تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ (1) أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، و إلى اللّه مجاز. و له طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الّذي يسمّى الاستعارة. و الثاني: أن يكون من المجاز الحكمي.

فالطريق الأوّل: أنّه لمّا متّعهم بطول العمر و سعة الرزق، و جعلوا إنعام اللّه بذلك عليهم و إحسانه إليهم ذريعة إلى اتّباع شهواتهم و بطرهم، و إيثارهم الروح و الترفّه، و نفارهم عمّا يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة و المشاقّ المتعبة، فكأنّه زيّن لهم بذلك أعمالهم. و إليه أشارت الملائكة في قولهم: وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ (2).

و الطريق الثاني: أنّ إمهاله الشيطان، و تخليته حتّى يزيّن لهم، ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه، لأنّ المجاز الحكمي يصحّحه بعض الملابسات.

و عن الحسن: أي أعمال الخير الّتي وجب عليهم أن يعملوها، زيّنّاها لهم بتعريض المثوبات عليها.

فَهُمْ يَعْمَهُونَ عنها، لا يدركون ما يتبعها من ضرّ أو نفع. و يقرب منه قوله:

ص: 71


1- العنكبوت: 38.
2- الفرقان: 18.

وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (1). و العمه: التحيّر و التردّد، كما يكون حال الضالّ عن الطريق. و عن بعض الأعراب: أنّه دخل السوق و ما أبصرها قطّ، فقال: رأيت الناس عمهين. أراد: متردّدين في أعمالهم و أشغالهم.

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي: شدّة العذاب و صعوبته، كالقتل و الأسر يوم بدر وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشدّ الناس خسرانا، لفوات المثوبة، و استحقاق العقوبة.

[سورة النمل [27]: الآيات 6 الى 14]

وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [6] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [7] فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [8] يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [9] وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [10]

إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [11] وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [12] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ

ص: 72


1- فصّلت: 17.

آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [13] وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [14]

وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي: من عند أيّ حكيم و أيّ عليم. و هذا معنى مجيئهما نكرتين. و الجمع بينهما- مع أنّ العلم داخل في الحكمة- لعموم العلم، و دلالة الحكمة على إتقان الفعل، و الإشعار بأنّ علوم القرآن منها ما هي حكمة، كالعقائد و الشرائع، و منها ما ليس كذلك، كالقصص و الإخبار عن المغيّبات.

و هذه الآية بساط و تمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من أقاصيص الأنبياء، و ما في ذلك من لطائف حكمته و دقائق علمه. و من ذلك قصّة موسى، فإنّ فيها من الحكم العجيبة و اللطائف الغريبة مزيّة فضل بالنسبة إلى أقاصيص اخرى، و لهذا قدّمها فقال:

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً منصوب بمضمر، و هو: اذكر. كأنّه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته و علمه، و اذكر قصّة موسى حين قال لأهله: إنّي أبصرت و رأيت نارا. و منه اشتقاق الإنس، لأنّهم مرئيّون. و قيل: آنست أي:

أحسست بالشي ء من جهة يؤنس بها، و ما أنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه. و يجوز أن ينصب ب «عليم».

و روي: أنّه لم يكن مع موسى عليه السّلام غير امرأته، و قد كنّى اللّه عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، لأنّها قائمة مقام جماعة في الأنس بها و السكون إليها في الأمكنة الموحشة، فقال:

سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ

أي: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنّه كان قد ضلّه.

و ذكر السين للدلالة على بعد المسافة، و الوعد بالإتيان و إن أبطأ. أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ

ص: 73

قَبَسٍ أي: شعلة نار مقبوسة، فإنّ الشهاب شعلة نور كالعمود من النار، و كلّ نور يمتدّ مثل العمود يسمّى شهابا. و إضافته إلى القبس لأنّه قد يكون قبسا و غير قبس.

و نوّنه الكوفيّون و يعقوب على أنّ القبس بدل منه أو وصف له، لأنّه بمعنى المقبوس.

و هاتان العدتان على سبيل الظنّ، و لذلك عبّر عنهما بصيغة الترجّي في طه (1) و الترديد هنا، للدلالة على أنّه إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما: إمّا هداية الطريق، و إمّا اقتباس النار، ثقة بعادة اللّه تعالى أنّه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده.

لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ رجاء أن تستدفئوا بها. و ذلك لأنّهم كانوا قد أصابهم البرد الشديد. و الصلاء: النار العظيمة.

فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ أي: بورك، فإنّ النداء فيه معنى القول، كأنّه قال: قيل له بورك. أو بأن بورك، على أنّها مصدريّة، أو مخفّفة من الثقيلة، و الضمير ضمير الشأن. و التخفيف و إن اقتضى التعويض ب «لا» أو «قد» أو السين أو سوف، لكنّه دعاء و هو يخالف غيره في أحكام كثيرة.

مَنْ فِي النَّارِ من في مكان النار. و هو البقعة المباركة في قوله تعالى:

نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ (2). وَ مَنْ حَوْلَها و من حول مكانها. و الظاهر أنّه عامّ في كلّ من في تلك الأرض و في ذلك الوادي و حواليهما من ارض الشام الموسومة بالبركات، لكونها مبعث الأنبياء، و كفاتهم (3) أحياء و أمواتا، و خصوصا تلك البقعة الّتي كلّم اللّه تعالى فيها موسى عليه السّلام.

ص: 74


1- طه: 10.
2- القصص: 30.
3- كفات الأرض: ظهرها للأحياء، و بطنها للأموات.

و قيل: المراد موسى و الملائكة الحاضرون فيها، لهم زجل (1) بالتسبيح و التقديس.

و تصدير الخطاب بذلك بشارة بأنّه قد قضي له أمر عظيم فيها، و هو تكليم اللّه إيّاه، و استنباؤه له، و إظهار المعجزات عليه. و ربّ خير يتجدّد في بعض البقاع، فينشر اللّه بركة ذلك الخير في أقاصيها، و يبثّ آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الّذي جرى في تلك البقعة؟! عن وهب: أنّ موسى لمّا رأى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة، لا تزداد النار إلّا اشتعالا، و لا تزداد الشجرة إلّا خضرة و حسنا، فلم تكن النار بحرارتها تحرق الشجرة، و لا الشجرة برطوبتها تطفئ النار. فعجب منها، و أهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه، فخافها فتأخّر عنها، ثمّ لم تزل تطمعه و يطمع فيها إلى أن نودي: «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها».

وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من تمام ما نودي به، تنزيها له عمّا لا يليق بصفاته، تعالى عن أن يكون جسما يحتاج إلى جهة، أو عرضا يحتاج إلى محلّ، أو ممّن يتكلّم بآلة، لئلّا يتوهّم من سماع كلامه تشبيها، و لتعجيب موسى من عظمة ذلك الأمر. أو تعجّب من موسى لما دهاه من عظمته.

يا مُوسى إِنَّهُ الضمير للشأن. و قوله: أَنَا اللَّهُ جملة مفسّرة له. أو ضمير للمتكلّم، و «أنا» خبره، أي: من يكلّمك أنا، و «اللّه» بيان له. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للّه ممهّدتان لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة. يريد:

أنا القويّ القادر على ما يبعد من الأوهام، كقلب العصا حيّة، الفاعل كلّ ما أفعله بحكمة و تدبير.

ص: 75


1- الزجل: الصوت.

وَ أَلْقِ عَصاكَ عطف على «بورك» أي: نودي أن بورك من في النار، و أن ألق عصاك. فكلاهما تفسير ل «نودي». و المعنى: قيل له: بورك من في النار، و قيل له: ألق عصاك. و يدلّ عليه قوله: وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ (1) بعد قوله: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ « (2)» بتكرير «أن». كما تقول: كتبت إليه أن حجّ و أن اعتمر.

فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فألقى موسى عصاه فصارت حيّة تتحرّك باضطراب كَأَنَّها جَانٌ حيّة خفيفة سريعة وَلَّى مُدْبِراً رجع إلى ورائه وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يرجع. من: عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ.

قال المفسّرون: لم يلتفت و لم يقف. و إنّما رعب لظنّه أنّ ذلك لأمر أريد به، فسكّنه و نهاه عن الخوف، و قال: يا مُوسى لا تَخَفْ ثقة برحمتي إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي: إنّك مرسل، و المرسل لا يخاف، لأنّه لا يفعل قبيحا، و لا يخلّ بواجب فيخاف العقاب على ذلك.

و لمّا أطلق نفي الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنّة لطروّ الشبهة، من نفي الخوف عن كلّهم مطلقا، فاستدرك بقوله: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ لكن من نقص من ثوابه بترك الأولى، كالّذي صدر من آدم و يونس و داود و سليمان، و من موسى بوكزة القبطي ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بالإنابة و الانقطاع إلى اللّه بَعْدَ سُوءٍ بعد ترك الأولى.

فَإِنِّي غَفُورٌ أستر ترك ندبه رَحِيمٌ أعطيه ثواب فعل الندب و إن لم يفعله.

و كأنّه أراد منه التعريض بما وجد من موسى من الوكزة. و هو من التعريضات الّتي يلطف مأخذها. و سمّاه ظلما كما قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي (3).

و يجوز أن يكون المعنى: لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين- لأنّ الأنبياء لا يقع منهم ظلم، لكونهم معصومين من الذنوب و القبائح- ثمّ بدّله

ص: 76


1- القصص: 31 .
2- القصص: 30.
3- القصص: 16.

حسنا بالتوبة عن المعاصي، فإنّي غفور ساتر لذنبه، رحيم قابل لتوبته.

وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ لأنّه كان بمدرعة صوف لا كمّ لها. و قيل: الجيب القميص، لأنّه يجاب، أي: يقطع. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير آفة، كبرص فِي تِسْعِ آياتٍ كلام مستأنف. و حرف الجرّ فيه يتعلّق بمحذوف.

و المعنى: اذهب في تسع آيات، و قوله: إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ متعلّق به.

و يجوز أن يكون المعنى: و ألق عصاك. و أدخل يدك في جملة تسع آيات و عدادهنّ، أو معها، على أنّ التسع هي: الفلق، و الطوفان، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و الطمسة، و الجدب في بواديهم، و النقصان في مزارعهم. و لمن عدّ العصا و اليد من التسع، أن يعدّ الأخيرين واحدا، و لا يعدّ الفلق، لأنّه لم يبعث به إلى فرعون. و على هذين الوجهين يتعلّق «إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ» بنحو: مبعوثا أو مرسلا.

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه إلى أقبح وجوه الكفر.

و هذا تعليل للإرسال.

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا بأن جاءهم موسى بها مُبْصِرَةً بيّنة غاية التبيين.

فأطلق اسم الفاعل للمفعول، إشعارا بأنّها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت ممّا يبصر. أو ذات تبصّر، من حيث إنّها تهدي، و العمى لا تهتدي فضلا عن أن تهدي غيرها. و منه قولهم: كلمة عيناء، و كلمة عوراء، لأنّ الكلمة الحسنة ترشد، و السيّئة تغوي. أو مبصرة كلّ من نظر إليها و تأمّل فيها. و مثل ذلك قوله: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً (1). قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريّته.

وَ جَحَدُوا بِها أي: أنكروها و كذّبوها، و لم يقرّوا أنّها من عند اللّه وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي: و قد استيقنتها، لأنّ الواو للحال. و المعنى: جحدوها

ص: 77


1- الإسراء: 59.

بألسنتهم مستيقنين إيّاها، عارفين عالمين بقلوبهم أنّها صدق و حقّ من عند اللّه.

و الاستيقان أبلغ من الإيقان.

ظُلْماً على أنفسهم، أو على بني إسرائيل وَ عُلُوًّا و ترفّعا و تكبّرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى. و انتصابهما على العلّة. و أيّ ظلم أفحش من ظلم من اعتقد و استيقن أنّها آيات بيّنة واضحة جاءت من عند اللّه، ثمّ كابر بتسميتها سحرا بيّنا مكشوفا لا شبهة فيه؟! فَانْظُرْ يا محمّد، أو أيّها السامع كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ في الأرض بالمعاصي. و هو الإغراق في الدنيا، و الإحراق في الآخرة.

[سورة النمل [27]: الآيات 15 الى 19]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [15] وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [16] وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [17] حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [18] فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [19]

ص: 78

ثمّ عطف على قصّة موسى قصّة داود و سليمان، الّتي هي أخت قصّة موسى في مزيّة تضمّن العلم و الحكمة و الفضل من بين سائر الأقاصيص، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً طائفة من العلم. و هو علم الحكم و الشرائع. أو علما أيّ علم. و هو العلم بالقضاء بين الخلق، و بكلام الطير و الدوابّ، و بتدابير الملك، و إلانة الحديد، و تسخير الشياطين و الجنّ و الإنس.

وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ عطفه بالواو دون الفاء- كما هو مقتضى الظاهر من المقام، لترتّب الحمد على النعمة- إشعارا بأنّ ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة. فكأنّه قال: و لقد آتيناهما علما فعملا به، و عرفا حقّ النعمة فيه و الفضيلة، و قالا: الحمد للّه الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: من لم يؤت علما، أو مثل علمهما.

و فيه دليل على فضل العلم، و شرف أهله، و إنافة محلّه، و تقدّم حملته، و أنّ نعمة العلم من أجلّ النعم، و أجزل القسم، حيث شكرا على العلم، و جعلاه أساس الفضل، و لم يعتبرا دونه ممّا أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما. و تحريض للعالم على أن يحمد اللّه على ما آتاه من فضله، و أن يتواضع و يعتقد أنّه و إن فضّل على كثير فقد فضّل عليه كثير.

وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النبوّة، أو العلم، أو الملك، فإنّه قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه، و كانوا تسعة عشر وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ تشهيرا لنعمة اللّه، و تنويها بها، و اعترافا

بمكانها، و دعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة الّتي هي منطق الطير، و غير ذلك من عظائم ما أوتيه.

و إنّما قال: «علّمنا»، مع أنّ ظاهره من كلام المتكبّرين، لوجهين: أحدهما:

أنّه يريد نفسه و أباه. و الثاني: أنّ هذه النون يقال لها: نون الواحد المطاع، و كان ملكا مطاعا، فكلّم أهل طاعته على صفته و حاله الّتي كان عليها. و ليس التكبّر من

ص: 79

لوازم ذلك، و قد يتعلّق بتجمّل الملك و تفخّمه و إظهار سياسته مصالح، فيعود تكلّف ذلك واجبا.

و النطق و المنطق في المتعارف: كلّ لفظ يعبّر به عمّا في الضمير، مفردا كان أو مركّبا، مفيدا أو غير مفيد. و قد يطلق لكلّ ما يصوّت به على التشبيه أو التبع، كقولهم: نطقت الحمامة. و منه: الناطق و الصامت للحيوان و الجماد، فإنّ الأصوات الحيوانيّة من حيث إنّها تابعة للتخيّلات منزّلة منزلة العبارات، سيّما و فيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض، بحيث يفهم ما هو من جنسه.

و لعلّ سليمان عليه السّلام مهما سمع صوت حيوان، علم بقوّته القدسيّة التخيّل الّذي صوّته، و الغرض الّذي توخّاه به. و من ذلك ما حكي أنّه مرّ على بلبل في شجرة يحرّك رأسه و يميل ذنبه، فقال لأصحابه: أ تدرون ما يقول؟ قالوا: اللّه و نبيّه أعلم.

قال: يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء.

و صاحت فاختة، فأخبر أنّها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا.

و صاح طاووس، فقال: يقول: كلّ حيّ ميّت، و كلّ جديد بال.

و صاح خطّاف، فقال: يقول: قدّموا خيرا تجدوه.

و صاحت رخمة، فقال: تقول: سبحان ربّي الأعلى مل ء سمائه و أرضه.

و صاح قمريّ، فأخبر أنّه يقول: سبحان ربّي الأعلى.

و قال: الحدأ يقول: كلّ شي ء هالك إلّا

اللّه. و القطاة تقول: من سكت سلم.

و الببّغاء تقول: ويل لمن الدّنيا همّه. و الديك يقول: اذكروا اللّه يا غافلين. و النسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. و العقاب يقول: في البعد من الناس أنس، و الضفدع يقول: سبحان ربّي القدّوس.

و أراد بقوله: «مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» كثرة ما أوتي، كما تقول: فلان يقصده كلّ أحد، تريد كثرة قصّاده. و فلان يعلم كلّ شي ء، تريد غزارة علمه و استكثاره منه. و مثله

ص: 80

قوله: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ (1). و المراد: أوتينا من كلّ شي ء يؤتى الأنبياء و الملوك.

روى الواحدي بالإسناد عن محمّد بن جعفر بن محمّد، عن أبيه، قال: اعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض و مغاربها، فملك سبعمائة سنة و ستّة أشهر.

ملك أهل الدنيا كلّهم، من الجنّ و الإنس و الشياطين، و الدوابّ و الطير و السباع.

و اعطي علم كلّ شي ء، و منطق كلّ شي ء. و في زمانه صنعت الصنائع المعجبة الّتي سمع بها الناس، و ذلك قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ».

إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي: فضل لا يخفى على أحد. و هذا قول صادر منه على سبيل الشكر و المحمدة، كما

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا سيّد ولد آدم و لا فخر»

أي: أقول هذا القول شكرا، و لا أقوله فخرا. و يحتمل أن يكون من قول اللّه سبحانه، على وجه الإخبار بأنّ ما ذكره هو الفضل المبين.

وَ حُشِرَ و جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم، أي: توقف سلاف (2) العسكر حتّى تلحقهم التوالي، فيكونوا مجتمعين لا يتخلّف منهم أحد. عن ابن عبّاس. و معنى ذلك: أنّ كلّ صنف من جنوده وزعة (3) ترد أوّلهم على آخرهم، ليتلاحقوا و لا يتفرّقوا.

روي: أنّ معسكره عليه السّلام كان مائة فرسخ في مائة، خمسة و عشرون للجنّ، و خمسة و عشرون للإنس، و خمسة و عشرون للطير، و خمسة و عشرون للوحش.

و كان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، و سبعمائة سريّة. و قد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب و إبريسم، فرسخا في فرسخ. و كان

ص: 81


1- النمل: 23.
2- سلاف العسكر: مقدّمته.
3- الوزعة: أعوان الملك و شرطه، الولاة المانعون من محارم اللّه تعالى.

يوضع منبره في وسطه، و هو من ذهب، فيقعد عليه و حوله ستّمائة ألف كرسي من ذهب و فضّة. فيقعد الأنبياء على كراسيّ الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة، و حولهم الناس، و حول الناس الجنّ و الشياطين. و تظلّه الطير بأجنحتها حتّى لا تقع عليه الشمس. و ترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، و من الرواح إلى الصباح.

و يروى أنّه كان يأمر الريح العاصف تحمله، و يأمر الرخاء تسيّره. فأوحى اللّه إليه و هو يسير بين السماء و الأرض: أنّي قد زدت في ملك، لا يتكلّم أحد بشي ء إلّا ألقته الريح في سمعك. فيحكى أنّه مرّ بحرّاث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما. فألقته الريح في أذنه، فنزل و مشى إلى الحرّاث، و قال: إنّما مشيت إليك لئلّا تتمنّى ما لا تقدر عليه. ثمّ قال: لتسبيحة واحدة يقبلها اللّه تعالى، خير ممّا أوتي آل داود. فركب على الريح و رجع إلى معسكره، و أخذ في السير مع جنوده.

حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ هو واد في الشام كثير النمل. و تعدية الفعل ب «على» إمّا لأنّ إتيانهم من فوق، أو لأنّ المراد قطع الوادي و بلوغ آخره. من قولهم:

أتى على الشي ء، إذا أنفده و بلغ آخره. كأنّهم أرادوا أن ينزلوا منقطع الوادي.

قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ حين رأتهم متوجّهين إلى الوادي، أي: صاحتهم بصوت خلق اللّه لها. و لمّا كان صوتها مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول. و لمّا صاحت بهذه الصيحة نبّهت بها ما بحضرتها من النمال أيضا. و كانوا مقولا لهم كما في أولي العقل، فشبّه ذلك بمخاطبة العقلاء و مناصحتهم، و أجروا مجراهم في إسناد القول و ضمير العقلاء. مع أنّه لا يمتنع أن خلق اللّه فيها العقل و النطق.

و قيل: كانت رئيسة النمل، اسمها طاخية، مأخوذة من ليلة طخياء، أي:

سوداء. و قيل: اسمها منذرة. و روي: أنّها كانت عرجاء، تمشي على ثلاث قوائم،

ص: 82

فأمرت رعاياها بالدخول إلى مساكنهم.

ثمّ ثبّت سبب الدخول بقولها: لا يَحْطِمَنَّكُمْ لا يكسرنّكم سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ ظاهره نهي لهم عن الحطم، و المراد نهيها عن التوقّف بحيث يحطمونها، كقولهم: لا أرينّك هاهنا. فهو استئناف مبيّن للأمر، أو بدل منه لا جواب له، فإنّ النون لا تدخله في السعة. وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنّهم يحطمونكم، إذ لو شعروا لم يفعلوا. و قيل: استئناف، أي: فهم سليمان و القوم لا يشعرون.

و قال في المجمع: «و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كانوا ركبانا و مشاة على الأرض، و لم تحملهم الريح، لأنّ الريح لو حملتهم بين السماء و الأرض، لما خافت النمل أن يطأها بأرجلهم. و لعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير اللّه الريح لسليمان عليه السّلام» (1).

و قال في الكشّاف: «و روي أنّ النملة أحسّت بصوت الجنود و لا تعلم أنّهم في الهواء، فأمر سليمان الريح فوقفت بجنوده حتّى دخل النمل مساكنه» (2). انتهى كلامه.

إن قيل: كيف عرفت النملة سليمان و جنوده حتّى قالت ما قالت؟

قلنا: إذا كانت مأمورة بطاعته، فلا بدّ أن يخلق لها من الفهم ما تعرف به أمور طاعته. و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما يستدرك به ذلك. و قد علمنا أنّه تشقّ ما تجمع من الحبوب بنصفين، مخافة أن يصيبها الندى فتنبت. و تكسر الكزبرة أربع قطع، لعلمها أنّ الكزبرة إذا شقّت بنصفين تنبت. فمن هداها إلى هذا فإنّه يهديها إلى تمييز ما يحطمها ممّا لا يحطمها.

و روي: أنّ الريح ألقت في سمع سليمان هذه المقالة من ثلاثة أميال.

ص: 83


1- مجمع البيان 7: 215.
2- الكشّاف 3: 358.

فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً شارعا في الضحك و آخذا فيه مِنْ قَوْلِها يعني: أنّه قد تجاوز حدّ التبسّم إلى الضحك. و كذلك ضحك الأنبياء. و ذلك لتعجّبه من حذرها، و اهتدائها إلى مصالحها. أو لسروره بما خصّه تعالى به، من إدراكه همسها، و فهمه غرضها، و إحاطته بقصدها. و من دلالة قولها على ظهور رحمته و رحمة جنوده و شفقتهم، و على شهرة حاله و حالهم في باب العدل، حيث بلغ في الظهور مبلغا عرفته النملة، حيث قالت: «وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ». يعني: أنّهم لو شعروا لم يفعلوا، و لذلك سأل توفيق شكره.

وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي:

أكفّه و أرتبطه لا ينفلت عنّي، بحيث لا أنفكّ عنه الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ من تعليم منطق النمل و

سائر الطيور. أدرج فيه ذكر و والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها، فإنّ النعمة على الوالدين نعمة على الولد، و النعمة عليه يرجع نفعها إليهما، سيّما الدينيّة، لأنّه إذا كان تقيّا نفعهما بدعائه و شفاعته، و بدعاء المؤمنين لهما كلّما دعوا له، و قالوا: رضي اللّه عنك و عن والديك.

وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً أي: وفّقني لأن أعمل صالحا في المستقبل تَرْضاهُ إتماما للشكر، و استدامة للنعمة وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ في عدادهم في الجنّة.

قال ابن عبّاس: يعني: إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و من بعدهم من النبيّين، أي: اثبت اسمي مع أسمائهم، و احشرني في زمرتهم.

روي: أنّ نمال سليمان كأمثال الذئاب و الكلاب.

[سورة النمل [27]: الآيات 20 الى 26]

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ [20] لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [21] فَمَكَثَ

ص: 84

غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [22] إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [23] وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [24]

أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ [25] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [26]

و لمّا بيّن قصّة النمل أخبر عن قصّة الهدهد، فقال: وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ و تعرّفها فلم يجد فيها الهدهد فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ «أم» منقطعة، فإنّه لمّا نظر إلى مكان الهدهد فلم يره، ظنّ أنّه حاضر و لا يراه

لساتر أو غيره، فقال: مالي لا أراه. ثمّ احتاط فلاح له أنّه غائب، فأضرب عن ذلك و أخذ يقول:

أهو غائب؟ كأنّه يسأل عن صحّة ما لاح له. و نحوه قولهم: إنّها لإبل أم شاء.

و الكلام من باب صنعة القلب. و الأصل: ما للهدهد لا أراه؟ كقولهم: مالي أراك كئيبا؟ أي: مالك كئيبا؟

روي: أنّ سليمان عليه السّلام حين تمّ له بناء بيت المقدس تجهّز للحجّ بجنوده، فوافى الحرم و أقام به ما شاء. و كان يقرّب كلّ يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة، و خمسة آلاف بقرة، و عشرين ألف شاة. ثمّ عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكّة صباحا يؤمّ سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال- و ذلك مسيرة شهر- فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، ليتغدّى و يصلّي، فلم يجدوا الماء. و كان الهدهد

ص: 85

قناقنه (1)، أي: دليله العالم البصير بالماء تحت الأرض ليحفر القنى (2). و الجمع القناقن بالفتح. و كان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فيجي ء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب، و يستخرجون الماء.

روى العيّاشي بالإسناد قال: «قال أبو حنيفة لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف تفقّد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: لأنّ الهدهد يرى الماء في بطن الأرض، كما يرى أحدكم الدهن في القارورة. فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه و ضحك. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما يضحكك؟ قال: ظفرت بك. قال: و كيف ذاك؟ قال: الّذي يرى الماء في بطن الأرض، لا يرى الفخّ في التراب حتّى يؤخذ بعنقه؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا نعمان أما علمت أنّه إذا نزل القدر أغشي البصر؟».

فلمّا تفقّد سليمان الهدهد و لم يجده، أو عده على غيبته، فقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً لأؤدّبنّه تأديبا بليغا ليعتبر به أبناء جنسه. و قيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه و يشمّسه، أو يلقى للنمل تأكله، أو يودعه القفص، أو يفرّق بينه و بين إلفه، أو يلزمه صحبة الأضداد. و عن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. أو يلزمه خدمة أقرانه. على اختلاف الأقوال للمفسّرين و المؤرّخين.

أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ لأقطّعنّ حلقه عقوبة على عصيانه أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة تبين عذره. و الحلف في الحقيقة على أحد الأوّلين، لأنّهما فعله. و أمّا حلفه على فعل الهدهد الّذي هو غير متيقّن لسليمان، لأجل الإتيان ب «أو» في الحكم، فكأنّه قال: ليكوننّ أحد الأمور الثلاثة. يعني: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب و لا ذبح، و إن لم يكن كان أحدهما. و ليس في هذا ادّعاء دراية أنّ

ص: 86


1- القناقن: المهندس الّذي يعرف وجود الماء تحت الأرض. و الجمع: قناقن. و ليس هذا بعربيّ الأصل.
2- القنى جمع القناة.

الهدهد يأتي بسلطان مبين و إيقان منه. على أنّه يجوز أن يتعقّب حلفه بالفعلين وحي من اللّه بأنّه سيأتيه بسلطان مبين. فثلّث بقوله: «أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» عن دراية و إيقان.

و قرأ ابن كثير: أو ليأتينّني بنونين، الأولى مفتوحة مشدّدة.

و اعلم أنّ اللّه كان أباح له التعذيب لما رأى فيه من المصلحة، كما أباح ذبح البهائم و الطيور للأكل و غيره من المنافع. فإذا سخّر له الطير، و لم يتمّ ما سخّر له من أجله إلّا بالتأديب و السياسة، جاز أن يباح له ما يستصلح به.

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ زمانا غير مديد، يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه. و قرأ عاصم بفتح الكاف.

روي: أنّ سليمان حين نزل حلّق (1) الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحطّ إليه فوصف له ملك سليمان و ما سخّر له من كلّ شي ء، و ذكر له صاحبه ملك بلقيس، و أنّ تحت يدها اثني عشر ألف قائد، تحت كلّ قائد مائة ألف، و ذهب معه لينظر، فما رجع إلّا بعد العصر.

و روي: أنّه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان، فنظر فإذا موضع الهدهد خال، فدعا عرّيف الطير و هو النسر، فسأله عنه، فلم يجد عنده علمه. ثمّ قال لسيّد الطير و هو العقاب: عليّ به. فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته.

فناشدها اللّه و قال: بحقّ الّذي قوّاك و أقدرك عليّ إلّا رحمتيني. فتركته و قالت:

ثكلتك أمّك، إنّ نبيّ اللّه قد حلف ليعذّبنّك. قال: و ما استثنى؟ قالت: بلى أو ليأتينّي بعذر مبين. فلمّا قرب من سليمان أرخى ذنبه و جناحيه يجرّها على الأرض تواضعا له. فلمّا دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه. فقال: يا نبيّ اللّه اذكر وقوفك بين يدي اللّه تعالى. فارتعد سليمان و عفا عنه.

ص: 87


1- حلّق الطائر: ارتفع في طيرانه و استدار كالحلقة.

ثمّ سأله عن غيبته فَقالَ في جوابه أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ يعني: حال سبأ. و معنى الإحاطة بالشي ء علما: أن يعلم من جميع جهاته، بحيث لا يخفى منه معلوم، تشبيها بالسور المحيط.

و في مخاطبته إيّاه بذلك تنبيه له على أنّ في أدنى خلق اللّه و أضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، و يتصاغر لديه علمه، و يكون لطفا له في ترك الإعجاب الّذي هو فتنة العلماء، و أعظم بها فتنة.

و فيه دليل على أنّه يجوز أن يكون في زمن الأنبياء من يعرف ما لا يعرفونه.

و لا يقدح ذلك في النّبوة. و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما هو أعلم من أمّته في علوم الشريعة.

و منه قول نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».

و كذا الامام.

فما قال صاحب الكشّاف من أنّ «فيه دليلا على بطلان قول الرافضة: إنّ الامام لا يخفى عليه شي ء، و لا يكون في زمانه أحد أعلم منه» (1). محض افتراء، و افتراء محض، صادر عن خبث الاعتقاد، و بيّن العناد على الإماميّة.

وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قرأ ابن كثير برواية البزّي و أبو عمرو غير منصرف، على تأويل القبيلة أو البلدة. قال في الكشّاف: «إنّ سبأ في الأصل هو سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان. فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، و من جعله اسما للحيّ أو الأب الأكبر صرف. ثمّ سمّيت مدينة مأرب بسبإ، و بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام» (2). بِنَبَإٍ يَقِينٍ بخبر محقّق.

ثمّ فسّر النبأ فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يعني: بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريّان. و كان أبوها ملك أرض اليمن كلّها، و قد ولده أربعون ملكا، و لم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك. و الضمير لسبأ، أو لأهلها.

ص: 88


1- الكشّاف 3: 359.
2- الكشّاف 3: 359- 360.

وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه الملوك وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ عظمه بالنسبة إلى حالها، أو إلى عروش أمثالها، لا إلى عرش سليمان. و يجوز أن لا يكون لسليمان عليه السّلام مثله، و إن عظمت مملكته في كلّ شي ء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شي ء لا يكون مثله للملك الّذي يملك عليهم أمرهم و يستخدمهم.

و عن ابن عبّاس: كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين، عرضا و سمكا.

و في الكشّاف (1): ثمانين ذراعا في ثمانين من ذهب و فضّة، مكلّلا بالجواهر.

و كان سمكه من ياقوت أحمر و أخضر و درّ و زمرّد، و عليه سبعة أبيات، على كلّ بيت باب مغلق.

و في المجمع: «كان مقدّم عرشها من ذهب مرصّع بالياقوت الأحمر و الزمرّد الأخضر، و مؤخّره من فضّة مكلّل بألوان الجواهر» (2).

و بون بعيد بين قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ (3) في سليمان، «وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» في بلقيس، لأنّ سليمان عطف قوله على ما هو معجزة من اللّه، و هو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلا إلى ما اوتي من النبوّة و الحكمة و أسباب الدين، ثمّ إلى الملك و أسباب الدنيا، و عطفه الهدهد على الملك، فلم يرد إلّا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها، فبين القولين كمال مباعدة.

و كانت هي و قومها مجوسا يعبدون الشمس، كما قال: وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ أي: يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من عبادة الشمس و غيرها، من مقابح أحوالهم، و قبائح أفعالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ حصرهم عن سبيل الحقّ و الصواب فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ

ص: 89


1- الكشّاف 3: 360.
2- مجمع البيان 7: 218.
3- النمل: 16.

و اعلم أنّ خفاء حال بلقيس على سليمان، و كانت المسافة بين محطّه و بين بلدها قريبة، و هي مسيرة ثلاثة أيّام بين صنعاء و مأرب، لمصلحة أراد اللّه تعالى فيها، كما أخفى سبحانه مكان يوسف على يعقوب.

و تهدّي الهدهد إلى معرفة اللّه، و إلى وجوب السجود له، و إنكار سجودهم للشمس، و إضافته إلى الشيطان

و تزيينه، لما ألهمه اللّه ذلك، كما ألهمه و غيره من الطيور و سائر الحيوان المعارف اللطيفة الّتي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها. خصوصا في زمن نبيّ سخّرت له الطيور و علم منطقها، و جعل ذلك معجزة له.

أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي: فصدّهم عن السبيل لأن لا يسجدوا، أو زيّن لهم لأن لا يسجدوا، بحذف الجارّ، على أنّه بدل من «أعمالهم». أو لا يهتدون إلى أن يسجدوا، بزيادة (1) «لا».

و قرأ الكسائي و يعقوب: ألا بالتخفيف، على أنّها للتنبيه، و «يا» للنداء، و مناداه محذوف، أي: ألا يا قوم اسجدوا. و على الأوّل يكون ذمّا على تركه. و على الثاني صحّ أن يكون استئنافا من اللّه أو من سليمان، و الوقف على «لا يهتدون».

و كان أمرا بالسجود. و على الوجهين: السجدة عند قراءتها مستحبّة عندنا و عند الشافعيّة، و واجبة عند الحنفيّة.

الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ مصدر بمعنى المفعول. و إظهاره إخراجه، أي: الّذي يظهر ما خفي. فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود، من التفرّد بكمال القدرة و العلم، حثّا على سجوده، و ردّا على من يسجد لغيره.

و إخراج الخب ء يعمّ إشراق الكواكب، و إنزال الأمطار، و إنبات النبات، بل الإنشاء، فإنّه إخراج ما في الشي ء بالقوّة إلى الفعل، و الإبداع، فإنّه إخراج ما في

ص: 90


1- أي: على أن تكون «لا» زائدة.

الإمكان إلى الوجوب، و ما في العدم إلى الوجود، و معلوم أنّه يختصّ بالواجب لذاته.

و قرأ حفص و الكسائي: ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ بالخطاب.

اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الّذي هو أوّل الأجرام و أعظمها، و المحيط بجملتها. فبين العظيمين (1) بون عظيم.

[سورة النمل [27]: الآيات 27 الى 35]

قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [27] اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ [28] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [29] إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [30] أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ [31]

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [32] قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ [33] قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ [34] وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [35]

و لمّا سمع سليمان عليه السّلام ما اعتذر به الهدهد في تأخّره قالَ عند ذلك

ص: 91


1- أي: بين عرش بلقيس العظيم، و بين عرش اللّه تعالى العظيم.

سَنَنْظُرُ سنتعرّف، من النظر بمعنى التأمّل أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي:

أم كذبت. و التغيير للمبالغة، لأنّه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبا، و لمحافظة الفواصل.

ثمّ كتب سليمان كتابا منطوقه: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، من عبد اللّه سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فلا تعلوا عليّ و أتوني مسلمين. و كانت كتب الأنبياء جملا لا يطيلون و لا يكثرون. و طبع الكتاب بالمسك، و ختمه بخاتمه، و دفعه إليه فقال: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول؟

و إيراد لفظ الجمع لأجل أنّ الهدهد

قال: وجدتها و قومها يسجدون للشمس، فقال: فألقه إلى الّذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، و اشتغالا به عن غيره.

روي: أنّ الهدهد وضع الكتاب في منقاره، و مضى به إلى سبأ، و دخل على بلقيس من كوّة بيتها مستقبلة للشمس، تقع الشمس عند ما تطلع فيها، فإذا نظرت إليها سجدت. فجاء الهدهد إلى هذه الكوّة فسدّها بجناحه، فارتفعت الشمس و لم تعلم، فقامت تنظر، فرمى الكتاب إليها.

و قيل: كانت راقدة في قصرها، و كانت إذا رقدت غلّقت الأبواب و وضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوّة و طرح الكتاب على نحرها و هي مستلقية، و قيل: نقرها فانتبهت فزعة.

و قيل: أتاها و القادة و الجنود حواليها، فرفرف ساعة و الناس ينظرون حتّى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، و كانت قارئة كاتبة عربيّة، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت و خضعت، فتوجّهت إلى قومها.

قالَتْ لهم يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ لكرم مضمونه أو

ص: 92

مرسله. أو لأنّه كان مختوما. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كرم الكتاب ختمه».

أو لغرابة شأنه، إذ كانت مستلقية في بيت مغلّقة الأبواب كما مرّ، فدخله من كوّة و ألقاه على نحرها.

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ استئناف، كأنّه قيل لها: ممّن هو؟ فقال: إنّه- اي: إنّ الكتاب، أو العنوان- من سليمان وَ إِنَّهُ أي: و إن المكتوب أو المضمون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ «أن» مفسّرة بمعنى «أي»، على ما قاله سيبويه في نحو قوله: وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا (1) أي: امشوا. أو مصدريّة، فتكون بصلتها خبر محذوف، أي: هو أو المقصود أن لا تعلوا. أو بدل من «كتاب».

و المعنى: لا ترفعوا و لا تتكبّروا عليّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ منقادين مطيعين لأمري، أو مؤمنين.

و هذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود، لاشتماله على البسملة الدالّة على ذات الصانع و صفاته صريحا أو التزاما، و النهي عن الترفّع الّذي هو أمّ الرذائل، و الأمر بالإسلام الجامع لأمّهات الفضائل. و ليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجّة على رسالته، حتّى يكون استدعاء للتقليد، فإنّ إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة.

روي: أنّ أوّل من استفتح ب «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» سليمان، و لا تعرفه هي و لا قومها.

و لمّا وقفت بلقيس على كتاب سليمان قالَتْ لأشراف قومها يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أجيبوني في أمري، و أشيروا عليّ بما تستصوبون فيه.

و الفتيا و الفتوى: الجواب في الحادثة، و الحكم بما هو صواب. مشتقّتان على طريق الاستعارة من الفتى في السنّ. و المراد هاهنا: الإشارة عليها بما عندهم من الرأي

ص: 93


1- ص: 6.

و التدبير فيها.

ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً ما أبتّ أمرا حَتَّى تَشْهَدُونِ إلّا بمحضركم.

استعطفتهم نفوسهم ليمالؤها على الإجابة.

قيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، كلّ واحد على عشرة آلاف. و لهذا قالُوا مائلين إلى القتال نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ أي: أصحاب قدرة و أهل عدد وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: أصحاب شجاعة شديدة، و أبناء حرب، لا أبناء رأي و مشورة، و أنت ذات الرأي و التدبير وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ مفوّض إليك في القتال و تركه فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ أي: ما الّذي تأمريننا به من المقاتلة و المصالحة، لنمتثلك فيه و نطيع رأيك.

قالَتْ مجيبة لهم عن التعريض بالقتال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة و قهرا أَفْسَدُوها

أهلكوها و خرّبوها. تزييف لما أحسّت منهم من الميل إلى المقاتلة بادّعائهم القوى الذاتيّة و العرضيّة، و إشعار بأنّها ترى الصلح مخافة أن يتخطّى سليمان خططهم، فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم و عماراتهم. ثمّ إنّ الحرب سجال لا تدرى عاقبتها.

وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها كبراءها و أشرافها أَذِلَّةً بنهب أموالهم، و تخريب ديارهم، إلى غير ذلك من الإهانة و الأسر وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ تأكيد لما وصفت من حالهم، و تقرير بأنّ ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرّة. أو تصديق لها من اللّه عزّ و جلّ، أي: و كما قالت هي.

ثمّ بيّنت ما ترى تقديمه في المصالحة، و قالت: وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ إلى سليمان و قومه بِهَدِيَّةٍ أي: مرسلة رسلا بهديّة أصانعه (1) بها عن ملكي فَناظِرَةٌ فمنتظرة بِمَ بأيّ حال يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ من قبول حتّى أعمل

ص: 94


1- صانعه مصانعة: داهنه، و داراه، و رشاه.

بحسب ذلك، فإنّها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم، و كان غرضها أن يتبيّن لها بذلك أنّه نبيّ أو ملك، فإن قبل الهديّة تبيّن أنّه ملك، و عندها ما يرضيه، و إن ردّها تبيّن أنّه نبيّ.

عن ابن عبّاس: أنّها أهدت إليه وصفاء (1) و وصائف، ألبستهم لباسا واحدا حتّى لا يعرف ذكر من أنثى.

و عن مجاهد: أهدت مائتي غلام، و مائتي جارية، ألبست الغلمان لباس الجواري، و ألبست الجواري ألبسة الغلمان.

و عن ثابت البناني: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ فموّهوا له الآجر بالذهب، ثمّ أمر به فألقي في الطريق. فلمّا جاؤا رأوه ملقى في الطريق في كلّ مكان، فلمّا رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاؤا به.

و قيل: إنّها عمدت إلى خمسمائة غلام و خمسمائة جارية، فألبست الجواري الأقبية و المناطق، و ألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب، و في أعناقهم أطواقا من ذهب، و في آذانهم أقراطا مرصّعات بأنواع الجواهر. و حملت الجواري على خمسمائة رمكة (2)، و الغلمان على خمسمائة برذون، على كلّ فرس لجام و سرج من ذهب مرصّع بالجواهر.

و بعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب، و خمسمائة لبنة من فضّة، و تاجا مكلّلا بالدرّ و الياقوت المرتفع. و عمدت إلى حقّة (3)، فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة، و خرزة جزعيّة (4) مثقوبة، معوجّة الثقب.

ص: 95


1- وصفاء جمع الوصيف، و هو الغلام دون المراهق. و تأنيثه: الوصيفة. و جمعها: الوصائف.
2- الرمكة: إناث الخيل، و الفرس تتّخذ للنسل. و البرذون: دابّة الحمل الثقيلة.
3- الحقّة: الوعاء الصغير.
4- الجزعة: خرز فيه سواد و بياض.

و دعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو، و ضمّت إليه رجالا من قومها، أصحاب رأي و عقل، و كتبت إليه كتابا بنسخة الهديّة، قالت فيها: إن كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء و الوصائف، و أخبر بما في الحقّة قبل أن تفتحها، و اثقب الدرّة ثقبا مستويا، و أدخل الخرزة خيطا من غير علاج إنس و لا جانّ.

و قالت للرسول: انظر إليه إن دخلت عليه، فإن نظر إليك نظرة غضب فاعلم أنّه ملك، فلا يهولنّك أمره، فإنّا أعزّ منه. و إن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنّه نبيّ مرسل.

فانطلق الرسول بالهدايا، و أقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان، فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب، و لبنات الفضّة، ففعلوا ثمّ أمرهم أن يفرشوا من موضعه الّذي هو فيه سبعة فراسخ، ميدانا

واحدا بلبنات الذهب و الفضّة، و أن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفه (1) من الذهب و الفضّة، ففعلوا. ثمّ أمر الجنّ أن يحضروا أحسن الدوابّ في البرّ و البحر، و ربطوها عن يمين الميدان و يساره. و أمر بإحضار أولاد الجنّ، و هم خلق كثير، فأقيموا عن اليمين و اليسار.

ثمّ قعد سليمان في مجلسه على سريره، فوضع له أربعة آلاف كرسيّ عن يمينه، و مثلها عن يساره. و أمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفا فراسخ. و أمر الإنس فاصطفّوا فراسخ عن يمينه، و مثلها عن يساره. و أمر الوحوش و السباع و الهوامّ و الطير، فاصطفّوا فراسخ عن يمينه و يساره.

فلمّا دنا القوم من الميدان، و نظروا إلى ملك سليمان بهتوا، و رأوا الدوابّ تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم أنفسهم، و رموا بما معهم من الهدايا.

ص: 96


1- الشرفة من القصر: ما أشرف من بنائه. و جمعها: شرف.

[سورة النمل [27]: الآيات 36 الى 44]

فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [36] ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ [37] قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [38] قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [39] قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [40]

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ

لا يَهْتَدُونَ [41] فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ [42] وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ [43] قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [44]

فَلَمَّا جاءَ رسول بلقيس و من معه سُلَيْمانَ وقفوا بين يدي سليمان،

ص: 97

فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق، و قال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤا له قالَ أَ تُمِدُّونَنِ أ تزيدونني بِمالٍ و الاستفهام للإنكار، أي: لا أحتاج إلى أموالكم. و قرأ يعقوب و حمزة: تمدّونّي بالإدغام. فَما آتانِيَ اللَّهُ من الملك العظيم الّذي لا مزيد عليه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من الدنيا و أموالها بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ إذا أهدى بعضكم إلى بعض، لأنّكم لا تعلمون إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا، فتفرحون بما يهدى إليكم، حبّا لزيادة أموالكم، أو بما تهدونه، افتخارا على أمثالكم.

و الهديّة: اسم المهدى، كما أنّ العطيّة اسم المعطى. فتضاف إلى المهدي و المهدى إليه. تقول: هذه هديّة فلان، تريد: هي الّتي أهداها، أو أهديت إليه.

و المعنى: أنّ ما عندي خير ممّا عندكم، و ذلك أنّ اللّه آتاني الدين الّذي فيه الحظّ الأوفر، و الغنى الأوسع، و آتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال و يصانع به؟! و الإضراب عن إنكار الإمداد بالمال عليه و تقليله إلى بيان ما حملهم عليه، هو قياس حاله على حالهم في قصور الهمّة بالدنيا و الزيادة فيها.

فأعطاه الرسول كتاب الملكة.

فنظر فيه و قال: أين الحقّة؟ فأتي بها فحرّكها، و جاءه جبرئيل فأخبره بما في الحقّة. فقال: إنّ فيها درّة يتيمة غير مثقوبة، و جزعة مثقوبة معوجّة الثقب.

فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرّة، و أدخل الخيط في الخرزة.

فأرسل سليمان إلى الأرضة، فجاءت فأخذت شعرة في فيها، فنفذت فيها حتّى خرجت من الجانب الآخر. فجعل رزقها في الشجرة.

ثمّ قال: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنالها يا رسول اللّه. فأخذت الدودة الخيط في فيها، و دخلت الثقب حتّى خرجت من الجانب

ص: 98

الآخر. فجعل رزقها في الفواكه.

ثمّ ميّز بين الجواري و الغلمان، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم و أيديهم.

فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثمّ تجعله على اليد الاخرى، ثمّ تضرب به الوجه. و الغلام كما يأخذ من الآنية يضرب به وجهه. و كانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها، و الغلام على ظهر الساعد. و كانت الجارية تصبّ الماء صبّا، و كان الغلام يحدر الماء على يده حدرا. فميّز بينهما بذلك.

هذا كلّه مرويّ عن وهب و غيره.

و قيل: إنّها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير، و قالت: أريد أن تعرّفني رأسها من أسفلها. و بقدح ماء، و قالت: تملأها ماء رواء (1)، ليس من الأرض، و لا من السماء. فأرسل سليمان العصا إلى الهواء، و قال: أيّ الرأسين سبق إلى الأرض فهو أسفلها. و أمر بالخيل فأجريت حتّى عرقت، و ملأ القدح من عرقها، و قال: ليس هذا من ماء الأرض، و لا من ماء السماء.

ثمّ ردّ الهديّة، و قال للرسول: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ إلى بلقيس و قومها. و قيل:

الخطاب للهدهد محمّلا كتابا آخر. فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ لا طاقة لهم بِها بمقاومتها، و لا قدرة لهم على مقابلتها، فإنّ حقيقة القبل: المقاومة و المقابلة، أي: لا يقدرون أن يقابلوهم وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من سبأ أَذِلَّةً بذهاب ما كانوا فيه من العزّ وَ هُمْ صاغِرُونَ مهانون أسراء.

فلمّا ردّ سليمان عليه السّلام الهديّة، و ميّز بين الغلمان و الجواري إلى غير ذلك، و رجع الرسول إلى بلقيس، و قال ما شاهد، عرفت أنّه نبيّ مرسل، و أنّه ليس كالملوك الّذين يغترّون بالمال، و أنّها لا تقاومه. فتجهزّت للمسير إليه، و جعل عرشها في آخر سبعة أبيات، بعضها في بعض، في آخر قصر من قصور سبعة لها،

ص: 99


1- الرّواء: الماء الكثير العذب المروي.

و غلّقت الأبواب، و وكّلت به حرسا يحفظونه. فخرجت من اليمن مع جنودها مقبلة إليه، فأخبر جبرئيل باستيثاقها عرشها و توجّهها إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصّه اللّه من عجائب الأمور و غرائبها، لتوكيد تصديقها، و مزيد إيقانها بنبوّته، ف قالَ لأماثل جنده، و أشراف عسكره: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ منقادين لأمري، أو مؤمنين.

و عن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم، لعلمه أنّها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها.

قالَ عِفْرِيتٌ خبيث مارد مِنَ الْجِنِ من عفاريته. و هذا بيان له، لأنّه يطلق على الرجل الخبيث المنكر المعفر (1) أقرانه، و على الشيطان الخبيث المارد.

و كان اسمه ذكوان، أو صخرا. أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ مجلسك للحكومة. و كان يجلس إلى نصف النهار. وَ إِنِّي عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌ قادر على الإتيان به في هذه المدّة أَمِينٌ آت به كما هو، لا أختزل (2) منه شيئا و لا أبدّله.

فقال

سليمان: أريد أسرع من ذلك. فعند ذلك قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ و هو آصف بن برخيا. و كان وزير سليمان و كاتبه و ابن أخته. و كان صدّيقا يعرف اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب.

و عن الحسن: أنّ ذلك الاسم اللّه و الرحمن.

و عن مجاهد: هو يا حيّ يا قيّوم. و بالعبرانيّة: آهيا شراهيا. و قيل: هو يا ذا الجلال و الإكرام.

و عن الزهري: أنّه قال: يا إلهنا و إله كلّ شي ء، إلها واحدا لا إله إلّا أنت.

ص: 100


1- أي: الذي يصرع أقرانه.
2- أي: لا اقتطع منه.

و عن مجاهد: إنّ الّذي عنده علم من الكتاب كان رجلا من الإنس، يعلم اسم اللّه الأعظم، اسمه بلخيا.

و عن قتادة: اسمه أسطوم. و قيل: هو الخضر.

و قيل: إنّ الّذي عنده علم من الكتاب جبرئيل عليه السّلام، أذن اللّه له في طاعة سليمان، و أن يأتيه بالعرش الّذي طلبه.

و قيل: ملك أيّده اللّه به. و قيل: سليمان نفسه. فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم.

و روى الثعلبي (1) بإسناده مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ الّذي أتى بعرش بلقيس كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و أمّا الكتاب المعرّف في الآية، فقيل: إنّه اللوح المحفوظ. و قيل: المراد به جنس كتب اللّه المنزلة على أنبيائه، أو علم الوحي و الشرائع، و ليس المراد به كتابا بعينه.

و على القول بأنّ قائل هذا القول سليمان يكون الخطاب في قوله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت. كأنّه استبطأه فقال له ذلك. و «آتيك» في الموضعين صالح للفعليّة و الاسميّة.

و الطرف: تحريك الأجفان للنظر، فوضع

موضع النظر. و لمّا كان الناظر يوصف بإرسال الطرف، وصف بردّ الطرف، و وصف الطرف بالارتداد. و المعنى:

أنّك ترسل طرفك إلى شي ء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك. و هذا غاية في الإسراع و مثل فيه.

و عن قتادة: معناه: قبل أن يصل إليك من كان منك على قدر مدّ البصر.

ص: 101


1- لم يتيسّر لنا مراجعة تفسير الثعلبي. و لم ينقله الطبرسي عنه في المجمع، مع أنه ينقل عنه كثيرا.

و قيل: قبل أن يبلغ طرفك مداه و غايته و يرجع إليك.

قال سعيد بن جبير: قال لسليمان: انظر إلى السماء، فما طرف حتّى جاء به فوضعه بين يديه. و المعنى: حتّى يعود إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء.

و عن مجاهد: ارتداد الطرف إدامة النظر حتّى يرتدّ طرفه خاسئا. يعني: أنّ سليمان مدّ بصره إلى أقصاه و هو يديم النظر.

قال الكلبي: قد خرّ آصف ساجدا، و دعا باسم اللّه الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض بمأرب، ثمّ نبغ (1) عند مجلس سليمان بالشام بقدرة اللّه سبحانه.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ الأرض طويت له، فخرج منها العرش بين يدي سليمان».

فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ حاصلا بين يديه قالَ تلقّيا للنعمة بالشكر على شاكلة أبناء جنسه، من أنبياء اللّه و المخلصين من عباده، الّذين يتلقّون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيّعون النعمة المودعة بجميل الصبر.

هذا أي: هذا التمكّن من إحضار العرش في مدّة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين مِنْ فَضْلِ رَبِّي تفضّل به عليّ، و إحسانه لديّ، لأنّ تيسير ذلك و تسخيره- مع صعوبته و تعذّره- معجزة له عليه السّلام، و دلالة على علوّ قدره و جلالته، و شرف منزلته عند اللّه تعالى.

لِيَبْلُوَنِي يختبرني أَ أَشْكُرُ بأن أراه فضلا من اللّه، بلا حول منّي و لا قوّة، و أقوم بحقّه أَمْ أَكْفُرُ بأن أجد نفسي في البين، أو أقصّر في أداء مواجبه.

و محلّها النصب على البدل من الياء.

وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنّه به يستجلب لها دوام النعمة و مزيدها، و يحطّ عنها عب ء الواجب، و يحفظها عن وصمة الكفران، و ترتبط به النعمة،

ص: 102


1- أي: ظهر.

و يستمدّ المزيد. و قيل: الشكر قيد للنعمة الموجودة، و صيد للنعمة المفقودة.

وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ عن شكره، غير محتاج إليه كَرِيمٌ بالإنعام عليه ثانيا، فإنّه متفضّل على جميع عباده، شاكرهم و كافرهم، عاصيهم و مطيعهم، لا يمنعه كفرهم و عصيانهم من الإفضال عليهم، و الإحسان إليهم.

روى العيّاشي في تفسيره بالإسناد، قال: «التقى موسى بن محمد بن عليّ بن موسى و يحيى بن أكثم، فسأله عن مسائل. قال: فدخلت على أخي عليّ بن محمّد عليه السّلام بعد أن دار بيني و بينه من المواعظ، حتّى انتهيت إلى طاعته، فقلت له:

جعلت فداك إنّ ابن أكثم سألني عن مسائل افتيه فيها؟

فضحك ثمّ قال: فهل أفتيته فيها؟

قلت: لا.

قال: و لم؟

قلت: لم أعرفها.

قال: و ما هي؟

قلت: قال: أخبرني عن سليمان أ كان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟! ثمّ ذكر المسائل الأخر.

قال: أكتب يا أخي: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، سألت عن قول اللّه في كتابه:

«قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» فهو آصف بن برخيا، و لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف، لكنّه عليه السّلام أحبّ أن تعرف أمّته من الجنّ و الإنس أنّه الحجّة من بعده، و ذلك من علم سليمان، أودعه آصف بأمر اللّه، ففهّمه اللّه ذلك، لئلّا يختلف في إمامته و دلالته، كما فهّم سليمان في حياة داود، ليعرف إمامته و نبوّته من بعده، لتأكيد الحجّة على الخلق».

روي أنّ الجنّ خافوا أن يتزوّجها سليمان، فتفضي إليه بأسرارهم، لأنّها

ص: 103

كانت بنت جنّيّة.

و قيل: خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجنّ و الإنس، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك من هو أشدّ و أفظع، فقالوا له: إنّها سخيفة العقل ضعيفة الرأي، و هي شعراء الساقين، و رجلها كحافر الحمار. فاختبر سليمان أوّلا عقلها.

و لهذا قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها اجعلوه متنكّرا بتغيير هيئته و شكله، كما يتنكّر الرجل للناس لئلّا يعرفوه.

قال ابن عبّاس: فنزع ما كان على العرش من الفصوص و الجواهر.

و عن مجاهد: غيّر ما كان أحمر فجعله أخضر، و ما كان أخضر فجعله أحمر.

و عن عكرمة: زيد فيه شي ء، و نقص منه شي ء. و روي: جعل مقدّمه مؤخّره، و أعلاه أسفله.

نَنْظُرْ جواب الأمر أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته، أو إلى الجواب الصواب إذا سئلت عنه. و قيل: إلى الإيمان باللّه و رسوله إذا رأت تلك المعجزة البيّنة، من تقدّم عرشها، و قد خلّفته و أغلقت عليه الأبواب، موكّلة عليها الحرّاس.

فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا أمثل هذا عَرْشُكِ أورد كاف التشبيه و اسم الإشارة لئلّا يكون تلقينا، و ليكون زيادة في امتحان عقلها قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ لم تقل: هو هو، لاحتمال أن يكون مثله. و ذلك من كمال عقلها، و رزانة رأيها، حيث لم تقع في المحتمل.

و عن عكرمة: كانت بلقيس حكيمة، قالت في نفسها: إن قلت: هو، خشيت أن اكذّب، و إن قلت: لا، خشيت أن أكذب، فقالت: كأنّه هو. فقيل لها: فإنّه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب!! فقالت: وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بكمال قدرة اللّه و صحّة نبوّتك مِنْ قَبْلِها من

ص: 104

قبل هذه الحالة، أو المعجزة، بما قد تقدّم من الآيات عند وفدة المنذر وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ طائعين لأمر سليمان.

و قيل: هو من كلام سليمان و قومه، عطفوه على جوابها، لما فيه من الدلالة على إيمانها باللّه و رسوله، حيث جوّزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا، و علمت أن إحضاره من المعجزات الّتي لا يقدر عليها غير اللّه، و لا تظهر إلّا على يد الأنبياء عليهم السّلام، أي: و أوتينا العلم باللّه و قدرته، و صحّة ما جاء به من عند اللّه قبل مجيئها طائعة، أو قبل علمها بصحّة الإسلام، و كنّا مخلصين للّه بالتوحيد، منقادين لحكمه، و لم نزل على دين الإسلام. و يكون غرضهم فيه التحدّث بما أنعم اللّه عليهم من التقدّم في ذلك، شكرا للّه.

وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: و منعها عبادتها الشمس عن التقدّم إلى الإسلام قبل ذلك. أو صدّها اللّه عن عبادتها بالتوفيق للإيمان، أو سليمان عمّا كانت تعبد، أي: عن عبادتها، بتقدير حذف الجارّ و إيصال الفعل. و على الأوّل مرفوع المحلّ بالفاعليّة.

ثمّ استأنف الكلام و قال: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ من قوم يعبدون الشمس، قد نشأت فيما بينهم، فلم تعرف إلّا عبادة الشمس.

و لمّا اختبر سليمان رزانة عقلها و رجاحة فطانتها، أراد أن يعرف ما قالت الجنّ من أنّها شعراء الساقين، و رجلها كحافر الحمار، فأمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر صحنه من زجاج أبيض، و أجرى من تحته الماء، و ألقى فيه من دوابّ البحر السمك و غيره، ليتعرّف ساقها و رجلها حين تكشف عنهما، إذ تدخل فيه ظنّا منها أنّه ماء. و لمّا تمّ القصر على الطريق المذكور، أمر أن يوضع سريره في صدره، فجلس عليه، و عكف عليه الطير و الجنّ و الإنس.

و لمّا جاءت بلقيس قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ القصر. و قيل: عرصة الدار.

ص: 105

فَلَمَّا رَأَتْهُ رأت بلقيس الصرح حَسِبَتْهُ لُجَّةً و هي معظم الماء وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لدخول الماء.

و عن ابن كثير: سأقيها بالهمز، حملا على جمعيه: سئوق و أسؤق.

و قيل: إنّها لمّا رأت الصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلّا الغرق، و أنفت أن تجبن فلا تدخل، و لم يكن من عادتهم لبس الخفاف.

فلمّا كشفت عن ساقيها رأى سليمان رجلها، فإذا هي أحسن الناس ساقا و قلما إلّا أنّها شعراء قالَ لها إِنَّهُ إنّ ما تظنّينه ماء صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مملّس مِنْ قَوارِيرَ من زجاج، و ليس بماء.

و لمّا رأت سرير سليمان و الصرح قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بالكفر الّذي كنت عليه، من عبادة الشمس.

و قيل: حسبت أنّ سليمان يغرقها في اللجّة، فقالت: ظلمت نفسي بسوء ظنّي بسليمان وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيما أمر به عباده، فحسن إسلامها.

قيل: إنّها جلست عند سليمان، فدعاها إلى الإسلام، و كانت قد رأت الآيات الباهرة و المعجزات الظاهرة، فأجابته و أسلمت.

و روي أن سليمان لمّا رأى ساقها شعراء أساءه ذلك، فاستشار الجنّ فيه، فعملوا الحمّامات، و طبخوا له النورة و الزرنيخ، و كان أوّل ما صنعت له النورة، فتزوّجها.

و قال بعض المؤرّخين: إنّه تزوّجها و أقرّها على ملكها، و أمر الجنّ فبنوا لها سيلحين (1) و غمدان، و كان يزورها في الشهر مرّة، فيقيم عندها ثلاثة أيّام، و ولدت له.

ص: 106


1- سيلحين أو سيلحون: قرية باليمن. و غمدان: قصر باليمن.

و قيل: بل زوّجها ذا تبّع (1) ملك همدان، و سلّطه على اليمن، و أمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع (2)، و لم يزل أميرا حتّى مات سليمان.

[سورة النمل [27]: الآيات 45 الى 53]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ [45] قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [46] قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [47] وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ [48] قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ [49]

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [50] فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [51] فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [52] وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [53]

و لمّا ذكر سبحانه قصّة سليمان، بيّن قصّة صالح بعد ذلك، فقال عطفا عليها:

ص: 107


1- التبّع: لقب ملوك اليمن. و جمعه: التبابعة.
2- أي: الحصون.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ في النسب صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ بأن اعبدوه فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ ففاجؤا التفرّق و الاختصام، فآمن فريق و كفر فريق، و يقول كلّ فريق: الحقّ معي. و الواو لمجموع الفريقين.

قالَ للفريق المكذّب يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة الّتي تسوء صاحبها، فتقولون: آتنا بما تعدنا من العذاب (1) قَبْلَ الْحَسَنَةِ قبل التوبة، فتؤخّرونها إلى نزول العذاب، فإنّهم كانوا يقولون لجهلهم: إنّ العقوبة الّتي يعدها صالح، إن وقعت على زعمه و صدق إيعاده تبنا حينئذ و استغفرنا، زاعمين أنّ التوبة من الشرك مقبولة في ذلك الوقت، و إن لم تقع فنحن على ما نحن عليه.

فخاطبهم صالح على حسب قولهم و اعتقادهم. ثمّ قال لهم: لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ هلّا تطلبون مغفرته من الشرك، بأن تؤمنوا باللّه وحده قبل نزول العذاب لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها، فإنّها لا تقبل حين نزول العقوبة، فهذا تنبيه لهم على الخطأ فيما قالوه، و تجهيل فيما اعتقدوه.

روي: أنّ الرجل منهم كان يخرج مسافرا، فيمرّ بطائر فيزجره، فإن مرّ سانحا (2) تيمّن، و إن مرّ بارحا تشاءم. و لهذا قالُوا اطَّيَّرْنا أي: تشاء منا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ إذ تتابعت علينا الشدائد من القحط و غير ذلك، أو وقع بيننا الافتراق مذ اخترعتم دينكم. فلمّا نسبوا الخير و الشرّ إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر اللّه و قسمته، أو من عمل العبد الّذي هو السبب في الرحمة و النقمة.

و لمّا قالوا: اطّيّرنا بكم قالَ صالح مطابقا لكلامهم: طائِرُكُمْ أي:

سببكم الّذي جاء منه شرّكم عِنْدَ اللَّهِ و هو قدره. و منه قول العرب: طائر اللّه لا طائرك، أي: قدر اللّه الغالب الّذي ينسب إليه الخير و الشرّ، لا طائرك الّذي تتشاءم

ص: 108


1- إشارة إلى الآية [77] من سورة الأعراف: وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
2- السانح: الّذي يأتي من جانب اليمين، و يقابله البارح، و هو الّذي يأتي من جانب اليسار. و العرب تتيمّن بالسانح، و تتشاءم بالبارح.

به و تتيمّن. أو عملكم المكتوب عنده الّذي كان سبب نزول النقمة.

و منه قوله:

طائِرُكُمْ مَعَكُمْ (1). وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (2).

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون بتعاقب السرّاء و الضرّاء. و الإضراب من بيان طائرهم الّذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.

وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ أي: تسعة أنفس. و إنّما وقع تمييزا للتسعة باعتبار المعنى. و الفرق بينه و بين النفر: أنّه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، و النفر من الثلاثة إلى التسعة.

و أسماؤهم على رواية ابن عبّاس: قدار بن سالف، و مصدع، و دهمي، و دهيم، و دعمي، و دعيم، و أسلم، و قتال، و صداف. و على رواية وهب: الهذيل بن عبد ربّ، و غنم بن غنم، و رباب بن مهرج، و مصدع بن مهرج، و عمير بن كردبة، و عاصم بن مخرمة، و سبيط بن صدقة، و سمعان بن صفي، و قدار بن سالف.

يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ أي: شأنهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح. و هم الّذين سعوا في عقر الناقة، و كانوا عتاة قوم صالح، و كانوا من أبناء أشرافهم.

قالُوا أي: قال بعضهم لبعض: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أمر مقول، أو خبر وقع في محلّ الحال بإضمار «قد» أي: قالوا متقاسمين لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ لنباغتنّ صالحا و أهله ليلا، من البيات، بمعنى مباغتة العدوّ ليلا. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء، على خطاب بعضهم لبعض.

ثُمَّ لَنَقُولَنَ فيه القراءتان المذكورتان لِوَلِيِّهِ لوليّ دمه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ فضلا أن تولّينا إهلاكهم. و هو يحتمل المصدر و المكان و الزمان. و كذا «مهلك» في قراءة حفص، فإنّ مفعل قد جاء مصدرا، كمرجع. و قرأ أبو بكر بالفتح،

ص: 109


1- يس: 19.
2- الإسراء: 13.

فيكون مصدرا.

وَ إِنَّا لَصادِقُونَ و نحلف إنّا لصادقون. أو و الحال إنّا لصادقون فيما ذكرنا، لأنّ الشاهد للشي ء غير المباشر له عرفا. أو لأنّا ما شهدنا مهلكهم وحده، بل مهلكه و مهلكهم، كقولك: ما رأيت رجلا بل رجلين.

وَ مَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضعة وَ مَكَرْنا مَكْراً بأن جعلناها سببا لهلاكهم جزاء مكرهم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمكر اللّه بهم، فإنّهم دخلوا على صالح شاهري سيوفهم ليقتلوه، فأنزل اللّه سبحانه الملائكة مل ء دار صالح، فدمغوهم بالحجارة، يرون الحجارة و لا يرون راميا، فهلكوا، و سلم صالح من مكرهم، و هو ما أخفوه من تدبير الفتك به و أهله. و لمّا كان مكر اللّه من حيث لا يشعرون، شبّه هلاكه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة.

روي: أنّه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلّي فيه، فقالوا: زعم صالح أنّه يفرغ منّا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه و من أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب و قالوا: إذا جاء يصلّي قتلناه، ثمّ رجعنا إلى أهله فقتلناهم. فبعث اللّه صخرة من الهضب حيالهم، فطبّقت عليهم فم الشعب.

و قيل: إنّ اللّه سبحانه أمر صالحا بالخروج من بينهم، ثمّ استأصلهم بالعذاب.

و عن مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا صالحا، فخرّ عليهم الجبل فهلكوا ثمّة، و هلك الباقون في أماكنهم، كما أشار بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أهلكناهم بالعذاب المذكور وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ بالصيحة.

و «كان» إن جعلت ناقصة فخبرها «كيف»، و «انّا دمّرناهم» استئناف. و إن جعلت تامّة ف «كيف» حال. و قرأ الكوفيّون و يعقوب: أنّا بالفتح، على أنّه خبر محذوف، أو بدل من اسم «كان»، أو خبر له، و «كيف» حال.

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ أي: فانظر إليها خاوِيَةً خالية، من: خوى البطن إذا خلا. أو ساقطة منهدمة، من: خوى النجم إذا سقط. و هي حال عمل فيها معنى

ص: 110

الإشارة. بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم. و هو الشرك و الإفساد في الأرض. إِنَّ فِي ذلِكَ في إهلاكهم لَآيَةً لعبرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيتّعظون. و في هذه الآية دلالة على أنّ الظلم يعقّب خراب الدور.

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: أجد في كتاب اللّه أنّ الظلم يخرّب البيوت، و تلا هذه الآية.

و قيل: إنّ هذه البيوت بوادي القرى، بين المدينة و الشام.

وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا صالحا و من معه وَ كانُوا يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي، و لذلك خصّوا بالنجاة. قالوا: إنّهم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضر موت، و لمّا دخلها حضره الموت فمات.

[سورة النمل [27]: الآيات 54 الى 59]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [54] أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [55] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [56] فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ [57] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [58]

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [59]

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط، عاطفا بها على ما تقدّم، فقال: وَ لُوطاً أي:

أرسلنا لوطا، لدلالة وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا (1) عليه. أو اذكر. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف على

ص: 111


1- النمل: 45.

الأوّل، و بدل على الثاني أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ من بصر القلب، أي:

تعلمون أنّها فاحشة لم تسبقوا إليها، و أنّ اللّه إنّما خلق الأنثى للذكر، فهي مضادّة للّه في حكمته

و حكمه. و علمكم بذلك أعظم لذنوبكم، و أدخل في القبح و السماجة، فيكون أفحش. أو تبصرون آثار العصاة قبلكم، و ما نزل بهم، و اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح. أو يبصرها بعضكم من بعض، لأنّهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين بها.

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً بيان لإتيانهم الفاحشة. و تعليله بالشهوة للدلالة على قبحه، و التنبيه على أنّ الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر. مِنْ دُونِ النِّساءِ اللّاتي خلقن لذلك بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تفعلون فعل من يجهل قبحها مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد بالجهل أن يكون كمن كان سفيها لا يميّز بين الحسن و القبيح. و التاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ كلّهم مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزّهون عن إتيان الرجال في أدبارهم، أو عن الأقذار، فينكرون هذا العمل القذر، و يغيظنا إنكارهم. أو يعدّون فعلنا قذرا. و عن ابن عبّاس: هو استهزاء منهم.

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها جعلناها مِنَ الْغابِرِينَ قدّرنا كونها من الباقين في العذاب.

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً و هو الحجارة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الّذين أبلغهم لوط النذارة، و أعلمهم بموضع المخافة ليتّقوها فخالفوها.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا قصّ قصص الأنبياء على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، الدالّة على كمال قدرته و عظم شأنه، و ما خصّ به رسله من الآيات الكبرى، و الانتصار من الأعداء، أمره بتحميده و السلام على المصطفين من عباده، شكرا على ما أنعم

ص: 112

عليهم، و على ما علّمه من أحوالهم، و عرّفه فضلهم، فقال:

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ شكرا على ما أنعم، بأن وفّقنا للإيمان و النصرة على الفجرة، و على هلاك الأمم الكفرة وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى اصطفاهم اللّه و اجتباهم على بريّته. و هم الأنبياء.

و عن ابن عبّاس: هم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و عن الحسن: هم أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و معنى السلام عليهم أنّهم سلموا ممّا عذّب اللّه به الكفّار، و عن عليّ بن إبراهيم (1): هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: هو خطاب بأن يحمده على هلاك كفرة قومه، و يسلّم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش و النجاة من الهلاك.

و قيل: هو متّصل بما قبله، و أمر بالتحميد على الهالكين من كفّار الأمم، و الصلاة على الأنبياء و أشياعهم الناجين.

و فيه تعليم حسن، و توقيف على أدب جميل، و بعث على التيمّن بالذكرين، و التبرّك بهما، و الاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين و إصغائهم إليه.

و لقد توارث العلماء و الخطباء و الوعّاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا اللّه عزّ و جلّ و صلّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمام كلّ علم مفاد، و قبل كلّ عظة و تذكرة، و في مفتتح كلّ خطبة. و تبعهم المترسّلون، فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح و التهاني، و غير ذلك من الحوادث الّتي لها شأن.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للمشركين: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ يا أهل مكّة! ءاللّه خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها؟! و هذا إلزام للحجّة على المشركين بعد ذكر هلاك الكفّار، و تهكّم بهم، و تسفيه لرأيهم، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا، حتّى يوازن بينه و بين من هو مبدأ كلّ خير و مالكه.

ص: 113


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 129.

و المعنى: أنّ اللّه تعالى نجّى من عبده من الهلاك، و الأصنام لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب. و إنّما قال ذلك لأنّهم توهّموا في عبادة الأصنام خيرا.

و قرأ أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالياء. و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان إذا قرأها يقول: «بل اللّه خير و أبقى، و أجلّ و أكرم».

[سورة النمل [27]: الآيات 60 الى 64]

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [60] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [61] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ [62] أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [63] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [64]

ثمّ عدّد سبحانه نعمه الشاملة لعبيده، و منافعه الّتي هي من آثار رحمته المخصوصة، الدالّة على وحدانيّته و فردانيّته، و قال: أَمَّنْ خَلَقَ بل من خلق

ص: 114

السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الّتي هي أصول الكائنات و مبادئ المنافع وَ أَنْزَلَ لَكُمْ لأجلكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ بساتين. من الإحداق، و هو الإحاطة.

عدل به عن الغيبة إلى التكلّم، لتأكيد اختصاص الفعل بذاته، و الإيذان بأنّ إنبات الحدائق البهيّة، المتباعدة الطباع، المختلفة الأنواع و الألوان، و الطعوم و الروائح و الأشكال، مع حسنها و بهجتها، بماء واحد، لا يقدر عليه إلّا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها».

ذاتَ بَهْجَةٍ أي: ذات منظر حسن، لأنّ الناظر يبتهج به. و لم يقل: ذوات بهجة، لأنّه أراد جماعة حدائق ذات بهجة، كما قال: النساء ذهبت. و لو أريد تأنيث الأعيان لقال: ذوات.

ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات شجر الحدائق أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ أ غيره يقرن به، و يجعل له شريكا، و هو المنفرد بالخلق و التكوين؟! بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن الحقّ الّذي هو التوحيد.

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ». و جعلها قرارا:

بإبداء بعضها من الماء و تسويتها، بحيث يتأتّى استقرار الإنسان و الدوابّ عليها.

وَ جَعَلَ خِلالَها وسطها أَنْهاراً جارية، ينبت بها الزرع، و يحيا بها الخلق.

وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ جبالا ثوابت، تتكوّن فيها المعادن، و تنبع من حضيضها المنابع.

وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذب و المالح، أو خليجي فارس و الروم حاجِزاً مانعا من قدرته، بين العذب و الملح، فلا يختلط أحدهما بالآخر.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ توحيد ربّهم و كمال قدرته و سلطانه، فيشركون به.

ص: 115

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ المضطرّ: هو الّذي أحوجته شدّة ما به إلى اللجأ إلى اللّه. من الاضطرار، و هو افتعال من الضرورة، و هي الحالة المحوجة إلى اللجأ. و اللام فيه للجنس مطلقا،

يصلح لكلّه و لبعضه، لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كلّ مضطرّ، بل الّذي يكون إجابة دعائه مصلحة. و إنّما خصّ المضطرّ، و إن كان قد يجيب غير المضطرّ، لأنّ رغبته أقوى، و سؤاله أخضع.

وَ يَكْشِفُ السُّوءَ و يدفع عن الإنسان ما يسوءه وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي: خلفاء في الأرض، بأن ورّثكم سكناها و التصرّف فيها قرنا بعد قرن، فيهلك قرنا، و ينشئ قرنا. أو أراد بالخلافة الملك و التسلّط.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ الّذي أعطاكم هذه النعم العامّة و الخاصّة؟! قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي: تذكّرون آلاءه تذكّرا قليلا. و «ما» مزيدة. و المراد بالقلّة العدم، فإنّها قد تستعمل في معنى النفي، أو الحقارة المزيحة للفائدة.

و قرأ أبو عمرو و روح بالياء. و حمزة و الكسائي و حفص بالتاء و تخفيف الذال.

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ بالنجوم في السماء، و العلامات في الأرض فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ أي: ظلمات الليالي. و إضافتها إلى البرّ و البحر للملابسة. أو مشبّهات الطرق. يقال: طريقة ظلماء و عمياء للّتي لا منار بها. وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني: المطر.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على مثل ذلك تَعالَى اللَّهُ القادر الخالق عَمَّا يُشْرِكُونَ عن مشاركة العاجز المخلوق، كما يزعمه المشركون.

أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ و قد أزيح إنكار الكفرة للإعادة بالحجج الباهرة و البراهين عليها، فهم محجوجون بها، و لم يبق لهم عذر في الإنكار وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال الأمطار وَ الْأَرْضِ بإخراج النبات و الثمار، أو بأسباب

ص: 116

سماويّة و أرضيّة.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على مثل ذلك قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ حجّتكم على أنّ غيره يقدر على شي ء

من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إشراككم، فإنّ كمال القدرة من لوازم الألوهيّة، فإذا لم يقدروا على إقامة البرهان على ذلك فاعلموا أنّه لا إله معي، و لا يستحقّ العبادة سواي.

[سورة النمل [27]: الآيات 65 الى 66]

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [65] بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ [66]

و لمّا بيّن اختصاصه بالقدرة التامّة الفائقة العامّة، أتبعه ما هو كاللازم له، و هو التفرّد بعلم الغيب، فقال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ الاستثناء منقطع. و رفع المستثنى على اللغة التميميّة.

و في اختيار المذهب التميمي على الحجازي نكتة سريّة (1)، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلّا اليعافير، بعد قوله (2): ليس بها أنيس، ليئول المعنى إلى قولك: إن كان اللّه ممّن في السماوات و الأرض، ففيهما من يعلم الغيب، مبالغة في نفي العلم عنهم. يعني: أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون اللّه منهم،

ص: 117


1- لعلّها بزنة فعيلة، فتكون بمعنى: شريفة، من: سرا سروا: كان سريّا، أي: صاحب مروءة و سخاء و شرف.
2- أي: في قول الشاعر: و بلدة ليس بها أنيس إلّا اليعافير و إلّا العيس

كما أنّ معنى ما في البيت: إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتّا للقول بخلوّها عن الأنيس.

أو متّصل (1)، على أنّ المراد ممّن في السماوات و الأرض من تعلّق علمه بهما، و اطّلع عليهما اطّلاع الحاضر فيهما، فإنّه يعمّ اللّه تعالى و أولي العلم من خلقه.

و هو موصول أو موصوف.

وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ متى يحشرون؟ مركّبة من «أيّ» و «آن».

و الضمير ل «من». و قيل:

للكفرة.

قيل: نزلت هذه الآية في المشركين، حين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن وقت الساعة.

و لمّا ذكر أنّ العباد لا يعلمون الغيب، و لا يشعرون بالبعث الكائن و وقته الّذي يكون فيه، و كان هذا بيانا لعجزهم، و وصفا لقصور علمهم، وصل به الكلام الآخر، و هو قوله: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ دلالة على أنّ عندهم عجزا أبلغ منه، و هو أنّهم يقولون للكائن الّذي لا بدّ أن يكون- و هو وقت جزاء أعمالهم-: لا يكون، مع أنّ عندهم أسباب معرفة كونه و استحكام العلم به.

و يحتمل أن يكون وصفهم باستحكام العلم تهكّما بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! على سبيل الهزؤ.

و قيل: «أدرك» بمعنى: انتهى و اضمحلّ، من قولهم: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها الّتي عندها تعدم.

ثمّ أكّد عدم علمهم رأسا بالإضراب الثاني و الثالث، و هو قوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها كمن تحيّر في الأمر لا يجد عليه دليلا بَلْ هُمْ مِنْها عن معرفتها عَمُونَ من عمى القلب، لزعمهم التدبّر و التفكّر. يعني: أنّهم شكّوا و عموا عن

ص: 118


1- عطف على قوله: الاستثناء منقطع، قبل سبعة أسطر.

إثباته الّذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الّذي لا طريق إلى معرفته. و هذا و إن اختصّ بالمشركين ممّن في السماوات و الأرض، نسب إلى جميعهم، كما يسند فعل البعض إلى الكلّ.

و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص: بل ادّراك، بمعنى: تتابع حتّى استحكم، أو تتابع حتّى انقطع، من: تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.

و أبو بكر: ادّرك. و أصلهما: تفاعل و افتعل.

و الإضرابات الثلاث إنّما هي لتنزيل أحوالهم، فإنّه وصفهم أوّلا بأنّهم لا يشعرون وقت البعث، ثمّ بأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثمّ بأنّهم يخبطون في شكّ و مرية فلا يزيلونه، ثمّ بما هو أسوأ حالا، و هو العمى، و أن يكون مثل البهيمة، قد عكف همّه على بطنه و فرجه، لا يخطر بباله حقّا و لا باطلا، و لا يفكّر في عاقبة.

و قد جعل الآخرة مبدأ عماهم و منشأه، فلذلك عدّاه ب «من» دون «عن» لأنّ الكفر بالعاقبة و الجزاء هو الّذي جعلهم كالبهائم لا يتدبّرون و لا يتبصّرون.

و قيل: إنّ الآية إخبار عن ثلاث طوائف: طائفة أقرّت بالبعث، و طائفة شكّت فيه، و طائفة نفته، كما قال: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (1).

[سورة النمل [27]: الآيات 67 الى 75]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ [67] لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [68] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [69] وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [70] وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ

ص: 119


1- ق: 5.

كُنْتُمْ صادِقِينَ [71]

قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [72] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ [73] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ [74] وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [75]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بإنكارهم البعث أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ هذا كالبيان لعمههم. و العامل في «إذا» ما دلّ عليه «أ إنّا لمخرجون» و هو: نخرج، لا «مخرجون» لأنّ

كلّا من الهمزة و «إن» و اللام مانعة من العمل فيما قبلها، فكيف إذا اجتمعن؟ و تكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار. و المراد بالإخراج الإخراج من الأجداث، أو من حال الفناء إلى حال الحياة.

و قرأ نافع: إذا كنّا، بهمزة واحدة مكسورة. و ابن عامر و الكسائي: إنّنا لمخرجون، بنونين على الخبر.

لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي: هذا البعث نَحْنُ في ما مضى وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ من قبل وعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و تقديم «هذا» على «نحن» لأنّ المقصود بالذكر هو البعث، و حيث أخّر فالمقصود به المبعوث. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أحاديثهم و أكاذيبهم الّتي كتبوها.

ثمّ هدّدهم على التكذيب، و خوّفهم بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذّبين قبلهم، فقال: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي:

الكافرين. و التعبير عنهم بوصف الإجرام، ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم و تخوّف عاقبتها. و لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة، لأنّ تأنيثها غير حقيقيّ،

ص: 120

و لأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ و هو أنّ اللّه أهلكهم، و خرّب ديارهم.

وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على تكذيبهم و إعراضهم وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ في حرج صدر. و قرأ ابن كثير بكسر الضاد. و هما لغتان. يقال: ضاق الشي ء ضيقا و ضيقا. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم و كيدهم لك، و لا تبال بذلك، فإنّ اللّه يعصمك من الناس.

وَ يَقُولُونَ استبعادا و استنكارا مَتى هذَا الْوَعْدُ العذاب الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنّه يكون.

قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ تبعكم و لحقكم. و اللام مزيدة للتأكيد، كالباء في وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ (1). أو الفعل مضمّن معنى فعل يتعدّى باللام، مثل:

دنا لكم و أزف (2) لكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ حلوله، و هو عذاب يوم بدر.

و «عسى» و «لعلّ» و «سوف» في مواعيد الملوك كالجزم بها، و إنّما يطلقونه إظهارا لوقارهم، و أنّهم لا يعجّلون بالانتقام، و إشعارا بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم، و تنبيها على وثوقهم بأن عدوّهم لا يفوتهم، و عليه جرى وعد اللّه و وعيده، فإنّه مالك الملوك.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بتأخير عقوبتهم على المعاصي، و عدم المعاجلة بها. و الفضل و الفاضلة: الإفضال، و جمعها فضول و فواضل. وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ لا يعرفون حقّ النعمة فيه، فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلون وقوع العذاب. و هم قريش.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ ما تخفيه صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ من عداوتك، فيجازيهم عليه.

ص: 121


1- البقرة: 195.
2- أي: اقترب.

وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي: خافية فيهما. و هما من الصفات الغالبة، و التاء فيهما للمبالغة، كما في الراوية، كأنّه قال: و ما من شي ء شديد الغيبوبة و الخفاء. أو اسمان لما يغيب و يخفى، كالتاء في عاقبة و عافية و نظائرهما، كالنطيحة و الذبيحة، في أنّها أسماء غير صفات. إِلَّا ثبت فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن، أو مبيّن ما فيه لمن يطالعه من الملائكة. و المراد اللوح، أو القضاء على الاستعارة.

[سورة النمل [27]: الآيات 76 الى 85]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [76] وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [77] إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [78] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [79] إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [80]

وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [81] وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [82] وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ [83] حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [84] وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ [85]

ثمّ ذكر سبحانه من الحجج ما يقوّي قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ

ص: 122

يَقُصُ يخبر عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كالتشبيه و التنزيه، و أحوال الجنّة و النار، و عزير و المسيح و مريم، و النبيّ المبشّر به في التوراة، حيث قال بعضهم: هو يوشع، و قال بعضهم: لا بل هو منتظر لم يأت بعد، و غير ذلك من الأحكام. و كان ذلك معجزة لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ كان لا يدرس كتبهم و لا يقرؤها، ثمّ أخبرهم بما فيها.

و قال: وَ إِنَّهُ و إنّ القرآن لَهُدىً لدلالة على الحقّ وَ رَحْمَةٌ و نعمة لِلْمُؤْمِنِينَ من بني إسرائيل و من غيرهم، فإنّهم هم المنتفعون به.

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بين المختلفين من بني إسرائيل و غيرهم يوم القيامة بِحُكْمِهِ بما يحكم به، و هو العدل، فإنّه لا يقضي إلّا به. فسمّى المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته. و أشار بذلك إلى شيئين؛ أحدهما: أنّ الحكم له، فلا ينفذ حكم غيره، فيوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه. و الآخر: أنّه وعد المظلوم بالانتصاف من الظالم.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ القادر الغالب

على ما يشاء، لا يمتنع عليه شي ء، فلا يردّ قضاؤه الْعَلِيمُ بالمحقّ و المبطل، فيجازي كلّا بحسب عمله.

و في هذه الآية تسلية للمحقّين الّذين خولفوا في أمور الدين، و أنّ أمرهم يئول إلى أن يحكم بينهم ربّ العالمين.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتوكّل عليه، و قلّة المبالاة بأعداء الدين، فقال: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و لا تبال بمعاداتهم. ثمّ علّل التوكّل بأنّه على الحقّ الأبلج الّذي لا يتعلّق به الشكّ و الظنّ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ و صاحب الحقّ حقيق بالوثوق بحفظ اللّه و نصرته.

ثمّ بيّن علّة اخرى للأمر بالتوكّل، فقال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فاقطع طمعك عن مشايعتهم و معاضدتهم رأسا. و إنّما شبّهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع

ص: 123

ما يتلى عليهم، كما شبّهوا بالصمّ في قوله تعالى: وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فإنّ إسماعهم في هذه الحالة أبعد، فإنّ الأصمّ إذا تباعد عن الداعي- بأن يولّي عنه مدبرا- كان أبعد عن إدراك صوته. و قرأ ابن كثير: و لا يسمع الصّمّ.

وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ حيث الهداية لا تحصل إلّا بالبصر.

فجعل سبحانه المصمّم على الجهل كالميّت تارة في أنّه لا يقبل الهدى، و اخرى.

كالأصمّ في أنّه لا يسمع الدعاء، و اخرى كالعمي في أنّه لا يبصر الحقّ.

إِنْ تُسْمِعُ أي: ما يجدي إسماعك إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا إلّا الّذين علم اللّه أنّهم يؤمنون بآياته، أي: يصدّقون بها فَهُمْ مُسْلِمُونَ من قوله: «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» (1) يعني: جعله سالما للّه خالصا له.

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني: إذا دنا وقوع الساعة و ظهور أشراطه، و هو ما وعدوا به من البعث و العذاب، و عند ذلك يرتفع التكليف، و لا تقبل التوبة أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ و هي الجسّاسة.

و عن ابن عبّاس: أنّ طولها ستّون ذراعا، و لها أربع قوائم و زغب و ريش و جناحان، لا يفوتها هارب، و لا يدركها طالب.

و عن ابن جريج في وصفها: لها رأس ثور، و عين خنزير، و أذن فيل، و قرن أيّل، و عنق نعامة، و صدر أسد، و لون نمر، و خاصرة هرّة، و ذنب كبش، و خفّ بعير، و ما بين مفصليها اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السّلام.

و روي: لا تخرج إلّا رأسها، و رأسها يبلغ أعنان السماء، أو يبلغ السحاب.

و عن أبي هريرة: فيها من كلّ لون، و ما بين قرنيها فرسخ للراكب.

و عن الحسن: لا يتمّ خروجها إلّا بعد ثلاثة أيّام.

و عن عليّ عليه السّلام: أنّها تخرج ثلاثة أيّام، و الناس ينظرون، فلا يخرج إلّا ثلثها.

ص: 124


1- البقرة: 112.

و روى محمّد بن كعب القرظي قال: سئل عليّ عليه السّلام عن الدابّة، فقال: أما و اللّه ما لها ذنب، و إنّ لها للحية. و في هذا إشارة إلى أنّها من الإنس.

و عن وهب أنّه قال: وجهها وجه رجل، و سائر خلقها خلق الطير.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل: من أين تخرج الدابّة؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على اللّه، يعني: مسجد الحرام.

و روي: أنّها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثمّ تتكمّن، ثمّ تخرج بالبادية ثمّ تتكمّن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة و أكرمها على اللّه تعالى، فما يهولهم إلّا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم، عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون، و قوم يقفون نظّارة.

و قيل: تخرج من الصفا ف تُكَلِّمُهُمْ بالعربيّة بلسان ذلق (1)، فتقول: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا و هي خروجها و سائر أحوالها، فإنّها من آيات اللّه تعالى.

و قيل: القرآن. لا يُوقِنُونَ لا يتيقّنون. و هو حكاية معنى قولها. أو حكاية لقول اللّه. أو علّة خروجها، أو تكلّمها، على حذف الجارّ. و قرأ غير الكوفيّين: إنّ النّاس بالكسر، على الاستئناف.

عن السدّي: تكلّمهم ببطلان الأديان كلّها سوى دين الإسلام. و قيل: تقول:

ألا لعنة اللّه على الظالمين.

و عن ابن عمر: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثمّ تستقبل المشرق، ثمّ الشام، ثمّ اليمن، فتفعل مثل ذلك.

و روي: بينا عيسى عليه السّلام يطوف بالبيت و معه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرّك القنديل، و ينشقّ الصفا ممّا يلي المسعى، فتخرج الدابّة من الصفا، و معها عصا موسى و خاتم سلمان، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه

ص: 125


1- أي: طلق بليغ فصيح.

بعصا موسى، فتنكت نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتّى يضي ء لها وجهه، أو فتترك وجهه كأنّه كوكب درّيّ، و تكتب بين عينيه: مؤمن. و تنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتّى يسودّ لها وجهه، و تكتب بين عينيه: كافر.

حتّى يقال: يا مؤمن، يا كافر.

و روي: فتجلو وجه المؤمن بالعصا، و تحطم أنف الكافر بالخاتم، ثمّ تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنّة، و يا فلان أنت من أهل النار.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً يعني: يوم القيامة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بيان للفوج، أي: فوجا مكذّبين. و «من» الأولى للتبعيض، لأنّ أمّة كلّ نبيّ و أهل كلّ قرن شامل للمصدّقين و المكذّبين. فَهُمْ

يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم، ليتلاحقوا و يجتمعوا فيكبكبوا في النار. و هو عبارة عن كثرة عددهم و تباعد أطرافهم، كما وصفت جنود سليمان عليه السّلام بذلك. و كذلك قوله: «فوجا» فإنّ الفوج الجماعة الكثيرة.

و عن ابن عبّاس: أبو جهل، و الوليد بن المغيرة، و شيبة بن ربيعة، يساقون بين يدي أهل مكّة. و كذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.

حَتَّى إِذا جاؤُ إلى المحشر قالَ أي: قال اللّه تعالى أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي أي: المعجزات الدالّة على صحّة ديني وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال، أي:

أ كذّبتم بها بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدّي إلى إحاطة العلم بكنهها، و أنّها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب؟ أو للعطف، أي: أجحدتموها، و مع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحقّقها، فإنّ المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، و لا يدع مع ذلك أن يقرأه و يتفهّم مضامينه، و يحيط بمعانيه.

أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: أم أيّ شي ء كنتم تعملونه بعد ذلك؟ و هو للتبكيت، إذ لم يفعلوا غير التكذيب، فلا يقدرون أن يقولوا: فعلنا غير ذلك، لشهرة

ص: 126

أنّهم ما يفعلون غير التكذيب، و لا يشتغلون بغيره. و مثاله: أن تقول لراعيك- و قد عرفت أنّه يأكل نعمك و يفسدها-: أ تأكل نعمي و تفسدها؟ مع علمك أنّه لا يعمل بها إلّا الأكل و الإفساد، لتبهته و تعلمه علمك بأنّه لا يجي ء منه إلّا أكلها و إفسادها، و أنّه لا يقدر أن يدّعي حفظها و إصلاحها، لما شهر من خلاف ذلك.

و الكفّار يخاطبون بهذا القول قبل كبّهم في النار، ثمّ يكبّون فيها. و ذلك قوله:

وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ و وجب عليهم، و حلّ بهم العذاب الموعود، و هو كبّهم في النار بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم، و هو التكذيب بآيات اللّه فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار، لشغلهم بالعذاب، و عظم هول ما يشاهدونه. و مثل ذلك قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (1).

[سورة النمل [27]: الآيات 86 الى 90]

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [86] وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [87] وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ [88] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [89] وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [90]

ص: 127


1- المرسلات: 35.

ثمّ بيّن سبحانه قدرته على الإعادة و البعث بما احتجّ به على الكفّار، فقال:

أَ لَمْ يَرَوْا ليتحقّق لهم التوحيد، و يرشدهم إلى تجويز الحشر و بعثة الرسل أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ عن التعب و الحركات وَ النَّهارَ مُبْصِراً لتقلّبهم فيه في المكاسب، فإنّ تعاقب النور و الظلمة على وجه مخصوص غير متعيّن بذاته، لا يكون إلّا بقدرة قاهرة. و أنّ من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادّة واحدة، قدر على إبدال الموت بالحياة في موادّ الأبدان. و أنّ من جعل النهار ليبصروا فيه سببا من أسباب معاشهم، لعلّه لا يخلّ بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم و معادهم.

و اعلم أنّ أصل الكلام في قوله: «وَ النَّهارَ مُبْصِراً»: ليبصروا فيه، بقرينة التقابل، فبولغ فيه بجعل الإبصار حالا من أحواله المجعول عليها، بحيث لا ينفكّ عنها.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لدلالتها على أنّ من قدر على خلق الليل و النهار لانتفاع العباد، لقدر على إعادة الموتى و بعثهم يوم المعاد، لإثابتهم و تعذيبهم على وفق الأعمال.

وَ يَوْمَ يُنْفَخُ و اذكر يوم ينفخ إسرافيل بأمر اللّه فِي الصُّورِ و هو قرن ينفخ فيه شبه البوق. و عن الحسن و قتادة: المراد صور الخلق، جمع صورة، كصوفة و صوف، أي: يوم تنفخ الأرواح في الصور. و الأوّل قد ورد في الحديث. و قيل: إنّه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق.

فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الهول. و عبّر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه، فإنّ الفعل الماضي يدلّ على وجود الفعل، و كونه مقطوعا به، و أنّه كائن لا محالة. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع، بأن يثبت اللّه قلبه، من الملائكة.

قيل: هم: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل، و عزرائيل، صلوات اللّه عليهم.

ص: 128

و قيل: الحور، و الخزنة، و حملة العرش. و قيل: الشهداء. و عن جابر: منهم موسى، لأنّه صعق مرّة.

و مثله قوله تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ (1).

و قيل: هي ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. و الثانية: نفخة الصعق. و الثالثة: نفخة القيام لربّ العالمين.

وَ كُلٌ من الأحياء الّذين ماتوا ثمّ أحيوا أَتَوْهُ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية. أو راجعون إلى أمره، منقادون له. و قرأ حمزة و حفص: أتوه على الفعل. داخِرِينَ صاغرين أذلّاء.

وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ثابتة في مكانها. من: جمد في مكانه إذا لم يبرح. يعني: إذا نظر الناظر إليها حسبها واقفة في

مكان واحد. وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي: يمرّ مرّا حثيثا كما يمرّ السحاب في السرعة. و ذلك لأنّ الأجرام الكبار إذا تحرّكت في سمت واحد، فلا تكاد تتبيّن حركتها.

صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكّدة لنفسها. و هو لمضمون الجملة المتقدّمة، كقوله: وَعْدَ اللَّهِ (2). تقديره: صنع اللّه صنعا. الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خلق كلّ شي ء على وجه الإتقان و الإحكام و الاتّساق و التسوية. و من ذلك المجازاة على وفق الأعمال يوم المعاد على ما ينبغي.

إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ عالم بظواهر الأفعال و بواطنها، فيجازيكم عليها إثابة و عقابا. كما قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها إذ ثبت له الباقي بالفاني، و سبعمائة بواحدة.

ص: 129


1- الزمر: 68.
2- النساء: 122، و غيرها.

و عن ابن عبّاس: أي: فمنها يصل الخير إليه. و المعنى: فله من تلك الحسنة من جهتها خير يوم القيامة. و هو الثواب و الأمان من العقاب. ف «خير» هاهنا اسم، و ليس بالّذي هو بمعنى الأفضل.

و المراد بالحسنة: كلّ فعل حسن في نظر الشرع، فلا يكون ذلك إلّا بعد تحقّق الإيمان.

و عن ابن عبّاس و قتادة: أنّها كلمة الشهادة، فإنّها أمّ الحسنات و رأسها.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و هشام: يفعلون بالياء. و الباقون بالتاء.

وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ يعني به خوف عذاب يوم القيامة. و قرأ الكوفيّون بالتنوين، لأنّ المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم. و نافع: يومئذ بفتح الميم مع الإضافة، لأنّه أضيف إلى غير متمكّن. و الباقون بكسرها. و «آمن» يتعدّى بالجارّ و بنفسه، كقوله تعالى: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ (1).

عن الكلبي: إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها، و أهل الجنّة آمنون من ذلك الفزع.

و قال في الكشّاف: «الفرق بين الفزعين: أن الأوّل ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع و هول يفجأ، من رعب و هيبة، و إن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هيّاب (2) و قلب وجّاب، و إن كانت ساعة إعزاز و تكرمة و إحسان و تولية. و أمّا الثاني: فالخوف من العذاب» (3).

وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قيل: بالشرك، فإنّه أمّ السيّئات و رأسها. كذا روي عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين. و عند غيرهم: المراد كلّ معصية كبيرة. فَكُبَّتْ

ص: 130


1- الأعراف: 99.
2- هياب أي: خائف. و قلب وجاب: كثير الخفوق و الاضطراب.
3- الكشاف 3: 388.

وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي: فكبّوا فيها على وجوههم منكوسين.

و يجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، كما أريدت بالأيدي في قوله: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ (1). فعبّر عن الجملة بالوجه، كما عبّر عنها بالرأس و الرقبة و الأيدي.

هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على الالتفات، أي: هذا جزاء فعلكم، و ليس بظلم. أو بإضمار القول، أي: قيل لهم ذلك.

روى السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني، قال: أخبرنا أحمد بن عبد اللّه بن أحمد، قال:

أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد، قال: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى بن أحمد، قال:

حدّثني محمّد بن عبد الرحمن بن الفضل، قال: حدّثني جعفر بن الحسين، قال:

حدّثني أبي، قال: حدّثني محمّد بن زيد عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «دخل أبو عبد اللّه الجدلي على أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عليه السّلام له: يا أبا عبد اللّه ألا

أخبرك بقول اللّه تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ- إلى قوله- تَعْمَلُونَ قال: بلى جعلت فداك. قال: الحسنة حبّنا أهل البيت، و السيّئة بغضنا» (2).

و حدّثنا السيّد أبو الحمد، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم، قال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمّد الحميري، قال: حدّثنا جدّي أحمد بن إسحاق الحميري، قال: حدّثنا جعفر بن سهل، قال: حدّثنا أبو زرعة و عثمان بن عبد اللّه القرشي، قالا:

حدّثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ، لو أنّ أمّتي صاموا حتّى صاروا كالأوتاد، و صلّوا حتّى صاروا كالحنايا (3)، ثمّ أبغضوك، لأكبّهم اللّه على مناخرهم في النار» (4).

ص: 131


1- البقرة: 195.
2- شواهد التنزيل 1: 548 ح 581.
3- الحنايا جمع الحنيّة. و هي: القوس، أو ما كان منحنيا مثله.
4- شواهد التنزيل 1: 549 ح 583.

[سورة النمل [27]: الآيات 91 الى 93]

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [91] وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [92] وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [93]

و لمّا بيّن المبدأ و المعاد، و شرح أحوال القيامة، أمر رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهم: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعني: مكّة الَّذِي حَرَّمَها إشعارا بأنّه قد أتمّ الدعوة، و قد كملت، و ما عليه بعد إلّا الاشتغال بشأنه، و الاستغراق في عبادة ربّه. و تخصيص مكّة بهذه الإضافة تشريف لها، و تعظيم لشأنها. و معنى «حرّمها».

جعلها ممنوعا أن يقصد الظلمة

إلى تخريبها. أو جعلها حرما آمنا، يحرم فيها ما يحلّ في غيرها، لا ينفر صيدها، و لا يختلى (1) خلاها، و لا يقتصّ فيها.

وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ خلقا و ملكا وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين، أو الثابتين على ملّة الإسلام.

وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ و أن أواظب على تلاوته، لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا. أو أتّبعه.

فَمَنِ اهْتَدى باتّباعه إيّاي فيما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإنّ المنافع العاجلة و الفوائد الآجلة عائدة إليه.

وَ مَنْ ضَلَ عنه بمخالفتي فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فلا عليّ من وبال ضلاله شي ء، إذ ما على الرسول إلّا البلاغ، و قد بلّغت.

ص: 132


1- اختلى العشب: جزّه و قطعه. و الخلى: العشب و الحشيش.

ثمّ أمره أن يحمد اللّه على ما خوّله من نعمة النبوّة الّتي لا توازيها نعمة، و أن يهدّد أعداءه بما سيريهم اللّه من آياته الّتي تلجئهم إلى المعرفة، فقال:

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوّة. أو على ما علّمني و وفّقني للعمل به.

سَيُرِيكُمْ آياتِهِ القاهرة في الدنيا، كوقعة بدر، و خروج دابّة الأرض. و عن الكلبي: هو الدخان و انشقاق القمر. أو في الآخرة. و قيل: هو كقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ (1) الآية. فَتَعْرِفُونَها أنّها آيات اللّه، و لكن حين لا تنفعكم المعرفة.

وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فلا تحسبوا أنّ تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، لتنزّه ذاته المتعالي عنها، بل لمصلحة تقتضيه.

ص: 133


1- فصّلت: 53.

ص: 134

[28] سورة القصص

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و ثمانون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ طسم القصص كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد

من صدّق بموسى و كذّب به، و لم يبق ملك في السّماوات و الأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا أنّ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (1)».

[سورة القصص [28]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم [1] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [2] نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [3] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [4] وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ

ص: 135


1- القصص: 88.

وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [5] وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [6]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا أمر في خاتمة سورة النمل بتلاوة القرآن، بيّن في هذه السورة أنّ القرآن من طسم، و أنّه يتلو فيها عليهم من نبأ موسى و فرعون، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ البيّن الظاهر. أو الّذي بيّن الرشد من الغيّ.

نَتْلُوا عَلَيْكَ نقرأ بواسطة جبرئيل. و يجوز أن يكون بمعنى: ننزّله مجازا.

مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ مفعول «نتلو». و «من» للتبعيض، أي: نتلو بعض نبئهما.

بِالْحَقِ محقّين. أو ملتبسا بالصدق و الحقيقة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن سبق في علمنا أنّه يؤمن، لأنّ التلاوة إنّما تنفع هؤلاء دون غيرهم.

ثمّ استأنف ما يبيّن ذلك البعض، فقال: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا بغى و طغى ظلما فِي الْأَرْضِ أرض مصر وَ جَعَلَ أَهْلَها من السبط و القبط شِيَعاً فرقا يشيعونه و يطيعونه فيما يريد، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه عن حكمه. أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته. أو أصنافا في استخدامه، يتسخّر صنفا في الحرث، و صنفا في الحفر، و صنفا في البناء، و غير ذلك. أو فرقا مختلفة، قد أغرى بينهم العداوة كي لا يتّفقوا عليه.

يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ و هم بنو إسرائيل. و الجملة حال من فاعل «جعل». أو صفة ل «شيعا». أو استئناف. و قوله: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ أي: يقتلهم

ص: 136

وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي: يستبقيهنّ بدل (1)، منها. و سبب ذبح الأبناء: أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده. و ذلك من غاية حمقه، فإنّه إن صدق الكاهن لم يندفع بالقتل، و إن كذب فما وجه القتل؟

و قال السدّي: رأى فرعون في منامه أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتّى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط، و تركت بني إسرائيل. فسأل علماء قومه، فقالوا له: يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك ملكك على يده.

إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء و الأولياء لتخيّل فاسد.

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَ أن نتفضّل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ بإنقاذهم من شدّة عذابه و نقمته. و هذا حكاية حال ماضية، معطوفة على «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا» من حيث إنّهما واقعان تفسيرا للنبأ. أو حال من «يستضعف» أي: يستضعفهم فرعون، و نحن نريد أن نمنّ عليهم. و لا يلزم من مقارنة الإرادة للاستضعاف مقارنة المراد له، لجواز أن يكون تعلّق الإرادة به تعلّقا استقباليّا. مع أنّ منّة اللّه بخلاصهم لمّا كانت قريبة الوقوع منه، جاز أن تجري مجرى المقارن. فلا يرد منه أنّه كيف يجتمع استضعافهم، و إرادة اللّه المنّة عليهم؟ و إذا أراد اللّه شيئا كان، و لم يتوقّف إلى وقت آخر.

وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقدّمين في أمر الدين و الدنيا، يطأ الناس أعقابهم، و يقتفون آثارهم. و هذا التفسير جامع ما نقل عن ابن عبّاس: أنّ معناه: قادة يقتدى بهم في الخير. و عن مجاهد: دعاة إلى الخير. و عن قتادة: ولاة، كقوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (2).

ص: 137


1- خبر لقوله: و قوله، قبل سطر، أي: قوله تعالى: «يذبّح ...» بدل من جملة: «يستضعف ...».
2- المائدة: 20.

وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ يرثون فرعون و قومه، ملكهم و كلّ ما كان لهم.

وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر و الشام. و أصل التمكين أن تجعل للشي ء مكانا يتمكّن فيه و يقعد عليه أو يرقد، ثمّ استعير للتسليط و تنفيذ الأمر على الإطلاق.

وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وزيره الأعظم وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ من بني إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ من ذهاب ملكهم، و هلاكهم على يد مولود منهم.

و قرأ حمزة و الكسائي: و يرى بالياء، و «فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما» بالرفع.

قال الضحّاك: عاش فرعون أربعمائة سنة. و كان قصيرا دميما (1). و هو أوّل من خضب بالسواد. و عاش موسى عليه السّلام مائة و عشرين سنة.

و قد صحّت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «و الّذي فلق الحبّة، و برأ النسمة، لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها (2)، عطف الضروس على ولدها. و تلا عقيب ذلك: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ» الآية».

و روى العيّاشي بالإسناد عن أبي الصبّاح الكناني، قال: «نظر أبو جعفر عليه السّلام إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال: هذا و اللّه من الّذين قال اللّه: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ» الآية».

و قال سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام: «و الّذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا و نذيرا، إنّ الأبرار منّا أهل البيت و شيعتهم بمنزلة موسى و شيعته، و إنّ عدوّنا و أشياعه بمنزلة فرعون و أشياعه».

ثمّ بيّن سبحانه كيف دبّر في إهلاك فرعون و قومه، منبّها بذلك على كمال

ص: 138


1- الدميم: الحقير القبيح المنظر.
2- شمس يشمس شماسا: امتنع و أبى، و أبدى عداوته. و الناقة الضروس: السيّئة الخلق، تعضّ حالبها.

قدرته و حكمته، فقال:

[سورة القصص [28]: الآيات 7 الى 10]

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [7] فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ [8] وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [9] وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [10] وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى و ألهمناها و قذفنا في قلبها. و عن الجبائي: كان هذا الوحي رؤيا منام. أَنْ أَرْضِعِيهِ ما أمكنك إخفاؤه فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من أن يأخذه بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلّب الولدان و يقتلوه فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ في البحر. يريد نيل مصر.

وَ لا تَخافِي عليه من ضياعه و وقوعه في يد بعض العيون وَ لا تَحْزَنِي أي: لفراقه، فإنّ الخوف غمّ يلحق الإنسان لمتوقّع، و الحزن غمّ يلحقه لواقع، و هو الفراق هاهنا. فنهيت عنهما جميعا، و أومنت بالوحي إليها، و وعدت ما يسلّيها، و يطمئن قلبها، و يملؤها غبطة و سرورا بهذا القول.

إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ سالما عن قريب بحيث تأمنين عليه وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

ص: 139

و في هذه الآية أمران و نهيان، و خبران و بشارتان. و حكي أنّ بعضهم سمع بدويّة تنشد أبياتا فقال لها: ما أفصحك! فقالت: الفصاحة للّه تعالى، و ذكرت هذه الآية و ما فيها.

قيل: إنّه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد.

و روي: أنّها لمّا ضربها الطلق دعت قابلة من الموكّلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبّك اليوم، فعالجتها. فلمّا وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه، و ارتعش كلّ مفصل منها، و دخل حبّه في قلبها. ثمّ قالت: ما جئتك إلّا لأقبل مولودك، و أخبر فرعون، و لكنّي وجدت لابنك حبّا ما وجدت مثله، فاحفظيه.

فلمّا خرجت جاء عيون فرعون، فلفّته في خرقة و وضعته في تنّور مسجور، لأنّها لم تعلم ما تصنع، لما طاش من عقلها. فطلبوا فلم يلقوا شيئا، و رأو أمّ موسى لم يتغيّر لها لون، و لم يظهر لها لبن، فخرجوا من عندها. و هي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنّور، فانطلقت إليه، و قد جعل اللّه النار عليه بردا و سلاما.

فأرضعته ثلاثة أشهر، خيفة من الناس عليه.

ثمّ ألحّ فرعون في طلب المواليد، و اجتهد العيون في تفحّصها. فخافت على ابنها، فانطلقت إلى نجّار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا: فقال النجّار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ قالت: إنّ لي ابنا أخبؤه (1) في التابوت. و كرهت الكذب.

فلمّا اشترت التابوت و حملته، انطلق النجّار إلى الذبّاحين ليخبرهم بأمر امّ موسى، فلم يطق الكلام. فرجع و أخذ في النجر، فانطلق لسانه. فرجع ثانيا، فلمّا انتهى إليهم اعتقل لسانه. هكذا ثلاث مرّات،

فعلم أنّ ذلك أمر إلهيّ.

ص: 140


1- خبأ الشي ء: ستره و أخفاه.

ثمّ طليت امّ موسى داخل التابوت بالقار (1)، فوضعت موسى فيه و ألقته في النّيل، و النيل جاء بالتابوت إلى موضع فيه فرعون و امرأته على النيل.

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أي: أصابوه و أخذوه من غير طلب لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً. و قرأ حمزة و الكسائي: و حزنا. و هما لغتان، كالعدم و العدم. تعليل لالتقاطهم إيّاه بما هو عاقبته و مؤدّاه، تشبيها له بالغرض الحامل عليه. فمعنى التعليل فيها ورد على طريق المجاز دون الحقيقة، فإنّه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا و حزنا، و لكنّ المحبّة و التبنّي، إلّا أنّه لمّا كان ذلك نتيجة التقاطهم و ثمرته، شبّه بالداعي الّذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، كالإكرام الّذي هو نتيجة المجي ء، و التأدّب الّذي هو ثمرة الضرب، في قولك: جئتك لتكرمني، و ضربته ليتأدّب. و تحريره: أنّ هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد.

إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ في كلّ شي ء. فليس الخطأ ببدع منهم في أن قتلوا ألوفا لأجله، ثمّ أخذوه يربّونه ليكبر و يفعل بهم ما كانوا يحذرون. و الجملة معترضة لتأكيد خطئهم.

و قيل: المعنى: كانوا مذنبين، فعاقبهم اللّه تعالى بأن ربّى عدوّهم على أيديهم.

فتكون الجملة لبيان الموجب لما ابتلوا به.

روي: أنّهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، فعالجوا كسره فأعياهم. فدنت آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فرأت في جوف التابوت نورا، فعالجته ففتحته، فإذا بصبّي نوره بين عينيه، و هو يمصّ إبهامه لبنا، فألقى اللّه في قلبها محبّة موسى. و كانت لفرعون بنت برصاء من آسية، و قالت له الأطبّاء: لا تبرأ إلّا من قبل البحر، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه. فلطخت البرصاء برصها

ص: 141


1- القار و القير: مادّة سوداء تطلى بها السفن.

بريقه فبرئت. و قيل: لمّا نظرت إلى وجهه برئت، فقالت: إنّ هذه لنسمة مباركة.

فهذا أحد ما عطفهم عليه. فقال الغواة من قومه: هو الصبيّ الّذي نحذر منه، فأذن لنا في قتله. فهمّ بذلك وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ لفرعون بعد أن سمعت هذا القول من الغواة، و فهمت همّه بقتله قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ هو قرّة عين لنا، لما شاهدنا منه، من نور بين عينيه، و ارتضاعه من إبهامه لبنا، و برء البرصاء بريقه.

و في الحديث: «إنّ فرعون قال لامرأته عند هذا القول: لك لا لي. و لو قال:

هو لي، كما قال: هو لك، لهداه اللّه كما هداها».

و كانت آسية امرأة من بني إسرائيل استنكحها فرعون. و هي من خيار النساء، و من بنات الأنبياء. و كانت امّا للمؤمنين، ترحمهم و تتصدّق عليهم، و يدخلون عليها.

و روي: أنّ فرعون لمّا نظر إلى موسى غاظه ذلك، و قال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ قالت آسية و هي قاعدة إلى جنبه: هذا الوليد أكبر من ابن سنة، و إنّما أمرت أن يذبح الولد لهذه السنة.

لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. أو خطاب لفرعون و المأمورين بقتله. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإنّ فيه مخايل اليمن و دلائل النفع أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو نتبنّاه، فإنّه أهل للتبنّي وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من الملتقطين في قوله: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ». أو من القائلة و المقول له، أي: و هم لا يشعرون أنّهم على الخطأ في التقاطه، أو في

طمع النفع منه و التبنّي له.

وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً صفرا من العقل، لما دهمها من فرط الخوف و الجزع و الدهش، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، كقوله: وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (1) أي: خلاء لا عقول فيها. و ذلك أنّ القلوب مراكز العقول، ألا ترى إلى

ص: 142


1- إبراهيم: 43.

قوله تعالى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها (1).

و عن ابن عبّاس: معناه: خاليا من كلّ شي ء إلّا من ذكر موسى، أي: صار فارغا له.

و عن الحسن: فارغا من الوحي الّذي أوحي إليها بنسيانها، فإنّها نسيت ما وعدها اللّه تعالى به.

إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إنّها كادت لتظهر بموسى، أي: بأمره و قصّته من فرط الضجر، أو الفرح لتبنّيه لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بإلهام الصبر و الثبات، كما يربط على الشي ء المنفلت ليقرّ و يطمئنّ. أو لو لا أنّا طمأنّا قلبها، و سكّنّا قلقه الّذي حدث به من شدّة الفرح و الابتهاج، كادت لتبدي بأنّه ولدها، لأنّها لم تملك نفسها فرحا و سرورا بما سمعت من تبنّي فرعون إيّاه. فحذف جواب «لولا» لدلالة ما قبله عليه.

و قوله: لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ علّة الربط، أي: فعل ذلك ليكون من المصدّقين بوعد اللّه، و هو قوله: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ». أو من الواثقين بحفظه، لا بتبنّي فرعون و تعطّفه.

[سورة القصص [28]: الآيات 11 الى 13]

وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [11] وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ [12] فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [13]

ص: 143


1- الحجّ: 46.

ثمّ ذكر سبحانه لطف صنعه في تسخيره لفرعون، حتّى تولّى تربية موسى عليه السّلام، فقال: وَ قالَتْ امّ موسى لِأُخْتِهِ مريم. و عن الضحّاك: كلثمة.

قُصِّيهِ اتّبعي اثره، و تتبّعي خبره. فذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت و أخرجوا موسى. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ عن جنابة، بمعنى: عن بعد وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّها تقصّ، أو أنّها أخته. و إنّما كرّر هذا القول، تنبيها على أنّ فرعون لو كان إلها لكان يشعر بهذه الأمور.

وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ التحريم هنا استعارة للمنع، لأنّ من حرّم عليه الشي ء فقد منعه. فالمعنى: و منعناه أن يرتضع من ثدي المرضعات. جمع مرضع.

و هي المرأة الّتي ترضع. أو جمع مرضع. و هو الرضاع، أو موضعه، يعني: الثدي.

مِنْ قَبْلُ من قبل قصصها اثره.

فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ لأجلكم. وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصّرون في إرضاعه و تربيته. و النصح إخلاص العمل من شائبة الفساد.

روي: أنّها لمّا قالت: «وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ» قال هامان: إنّها لتعرفه و تعرف أهله، خذوها حتّى تخبر بحاله.

فقالت: إنّما أردت: و هم للملك ناصحون. فأمسكوا عنها.

فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله. فانطلقت إلى امّها فأخبرتها بأمرهم.

فأتت بها، و موسى على يد فرعون يبكي لطلب الرضاع، و هو يعلّله شفقة عليه.

فلمّا وجد ريح امّه استأنس و التقم ثديها.

فقال لها: من أنت منه، فقد أبى كلّ ثدي إلّا ثديك؟

فقالت: إنّي امرأة طيّبة الريح، طيّبة اللبن، لا أوتى بصبي إلّا قبلني.

فدفعه إليها، و أجرى عليها. فرجعت به إلى بيتها من يومها.

فأنجز اللّه وعده في الردّ. و هو قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها

ص: 144

بولدها وَ لا تَحْزَنَ بفراقه وَ لِتَعْلَمَ

أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ علم مشاهدة، فعند ذلك ثبت و استقرّ في علمها أن سيكون نبيّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ وعد اللّه حقّ فيرتابون فيه. أو أنّ الغرض الأصلي من الردّ علمها بذلك، و ما سواه- من قرّة العين، و ذهاب الحزن- تبع له.

و فيه شبه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، فجزعت و أصبح فؤادها فارغا.

[سورة القصص [28]: الآيات 14 الى 19]

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [14] وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [15] قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [16] قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [17] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [18]

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [19]

ص: 145

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ مبلغه الّذي لا يزيد عليه نشؤه. و ذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة، فإنّ العقل يكمل حينئذ. و روي: أنّه لم يبعث نبيّ إلّا على رأس الأربعين. وَ اسْتَوى و اعتدل قدّه، و تمّ استحكام عقله، بحيث لا يزاد عليه آتَيْناهُ حُكْماً نبوّة وَ عِلْماً بالدين، من أحكام التوراة، و سنن الأنبياء و حكمهم. أو علم الحكماء و العلماء و سمتهم قبل استنبائه، فلا يقول و لا يفعل ما يستجهل فيه. و هذا أوفق لنظم القصّة، لأنّ استنباءه بعد الهجرة في المراجعة.

وَ كَذلِكَ مثل ذلك الّذي فعلنا بموسى و امّه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم.

وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ دخل مصرا آتيا من قصر فرعون. و قيل: مدينة منف (1) من أرض مصر. أو اسكندريّة. أو عين شمس من نواحيها. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها في وقت لا يعتاد دخولها، و لا يتوقّعونه فيه. و قيل: كان ذلك بين العشاءين. و قيل:

وقت القيلولة. و قيل: يوم عيد لهم، و هم مشتغلون فيه بلهوهم.

و قيل: لمّا شبّ و عقل أخذ يتكلّم بالحقّ و ينكر عليهم، فأخافوه، فلا يدخل قرية إلّا على تغفّل.

و عن السدّي: أنّه كان موسى حين كبر يركب في مواكب فرعون، فلمّا جاء ذات يوم قيل له: إنّ فرعون قد ركب، فركب في أثره، فلمّا كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل.

و عن ابن إسحاق: إنّ بني إسرائيل كانوا يجتمعون إلى موسى، و يسمعون كلامه، و لمّا بلغ أشدّه خالف قوم فرعون، فاشتهر ذلك منه، فأخافوه، فكان لا يدخل مصر إلّا خائفا، فدخلها على حين غفلة.

ص: 146


1- كذا في النسخة الخطّيّة، و لعلّها منوف. و في معجم البلدان (5/ 216): منوف: من قرى مصر القديمة.

و عن ابن زيد: إنّ فرعون أصرّ بإخراجه من البلد، فلم يدخل إلّا الآن.

فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ يختصمان في أمر الدنيا. و عن الجبائي: في أمر الدين. هذا مِنْ شِيعَتِهِ ممّن شايعه على دينه من بني إسرائيل. و قيل: هو السامريّ. وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ ممّن خالفه في الدين، من القبط. و هو فاتون.

و كان يتسخّر الإسرائيليّ لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون. و الإشارة على سبيل الحكاية.

فَاسْتَغاثَهُ استنصره الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فسأله أن يغيثه بالإعانة. و لذلك عدّي ب «على».

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «ليهنئكم (1) الاسم. قال، قلت:

و ما الاسم؟ قال: الشيعة. أما سمعت اللّه سبحانه يقول: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ .

فَوَكَزَهُ مُوسى فضرب القبطيّ في صدره بجمع كفّه، حين قبضها بأطراف الأصابع لتخليص من قصد إليه.

فَقَضى عَلَيْهِ فقتله. و أصله: فأنهى حياته. من قوله تعالى: وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ (2) أي: أنهيناه إليه، و أبلغناه ذلك. يقال: قضيت عليه و قضيته، إذا فرغت منه و أتممته. و المراد: أنّ تخليص السبطي من يد القبطي أدّى إلى قتل القبطي. و لا شبهة أنّ كلّ ألم يقع على الظالم على سبيل المدافعة، من غير أن يكون مقصودا لذاته، فهو حسن غير موصوف بالقبح.

قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: بسببه، حتّى هيّج غضبي، بحيث سلب عنّي اختياري، فضربته بالوكزة الشديدة فقتل.

و قيل: إنّ موسى لم يؤمر بقتل الكفّار يومئذ، لأنّ الحال كانت مقتضية للكفّ

ص: 147


1- أي: ليسرّكم. و العرب تقول: ليهنئك الولد. و معناه: ليسرّك.
2- الحجر: 66.

عن القتال. و هو عند فرط الغضب لأجل العصبيّة الدينيّة ذهل عن هذا، فأسند ذهوله عنه إلى الشيطان.

و ذكر علم الهدى قدّس سرّه في توجيهه وجهين:

«أحدهما: أنّه أراد أن تزيين قتلي له، و تركي لما ندبت إليه من تأخيره، و تفويتي ما استحقّه عليه من الثواب، من عمل الشيطان.

و الآخر: أنّه يريد أنّ عمل المقتول من عمل الشيطان. يبيّن موسى عليه السّلام بذلك أنّه مخالف للّه، و مستحقّ للقتل» (1).

ثمّ ذمّ الشيطان بقوله: إِنَّهُ عَدُوٌّ لبني آدم مُضِلٌّ مُبِينٌ ظاهر الإضلال و العداوة.

ثمّ حكى سبحانه أنّ موسى حين قتل القبطيّ ندم على ترك فعل الندب، فقال: قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتله، فإنّهم لو علموا بذلك لقتلوني فَاغْفِرْ لِي فاقبل منّي الانقطاع إليك، و القربة و الطاعة إليك، و لا تحرمني عن الثواب الّذي يترتّب على فعل الندب. كما قال المرتضى قدّس سرّه: «إنّما قاله على سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى، و الاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه، أو من حيث إنّه حرّم نفسه الثواب المستحقّ بفعل الندب» (2). أو المعنى: فاسترني عن نظر أعدائي، كيلا يقتلوني لأجل إعانتي أولياءك، فإنّ الغفران بمعنى الستر.

فَغَفَرَ لَهُ فقبل منه هذا الانقطاع، و أعطاه ثواب فعل الندب، أو صرف عنه كيد الأعداء إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ لعباده الرَّحِيمُ بهم، المنعم عليهم.

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ قسم محذوف الجواب، أي: أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة و غيرها، لأتوبنّ عن ترك الندب فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ معينا

ص: 148


1- تنزيه الأنبياء: 68.
2- تنزيه الأنبياء: 68.

و مظاهرا للمشركين. أو استعطاف، كأنّه قال: ربّ اعصمني عن الأعداء، أو قبل انقطاعي إليك، بحقّ ما أنعمت عليّ من المغفرة، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين.

و قيل: معناه: بما أنعمت عليّ من القوّة، فلن استعملها إلّا في مظاهرة أوليائك و أهل طاعتك، و لا أدع قبطيّا يغلب أحدا من بني إسرائيل.

و في هذا دلالة على أنّ مظاهرة المجرمين جرم و معصية، و مظاهرة المؤمنين طاعة. و إنّما ظاهر موسى من كان ظاهر الإيمان، و خالف و نازع من كان ظاهر الكفر.

و عن عطاء بن أبي رباح: أنّ رجلا قال له:

إنّ أخي يكتب لفلان، و لا يزيد على كتبه دخله و خرجه، فإن أخذ منه أجرا كان له غنى، و إن لم يأخذ اشتدّ فقره و فقر عياله. فقال عطاء: أما سمعت قول الرجل الصالح: «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ».

و في الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة و أشباه الظلمة و أعوان الظلمة؟ حتّى من لاق لهم دواة، أو برى (1) لهم قلما، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنّم».

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ في اليوم الثاني خائِفاً من قتل القبطي يَتَرَقَّبُ يترصّد الاستقادة منه. و عن ابن عبّاس: ينتظر ما يقال فيه من قتل القبطي. يعني: أنّه خاف من فرعون و قومه أن يكونوا عرفوا أنّه هو الّذي قتل القبطي، فكان يتجسّس في شأنه.

فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يستغيثه. مشتقّ من الصراخ. قال ابن عبّاس: لمّا فشا أمر القتل قيل لفرعون: إنّ بني إسرائيل قتلوا منّا رجلا. قال:

ص: 149


1- برى القلم: نحته.

أ تعرفون قاتله؟ و من يشهد عليه؟ قالوا: لا. فأمرهم بطلبه. فبينا هم يطوفون إذ مرّ موسى من الغد، و أتى ذلك الإسرائيلي يطلب نصرته و يستغيث به.

قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بيّن الغواية، لأنّك تسبّبت لقتل رجل و تقاتل آخر، فإنّ من خاصم آل فرعون مع كثرتهم فإنّه غويّ، أي: خائب فيما يطلبه، عادل عن الصواب فيما يقصده.

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ أن يأخذ بشدّة بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى و الإسرائيلي. يعني: القبطي، فإنّه لم يكن على دينهما، و لأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل. قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ .

عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: أنّ قائل هذا القول الاسرائيلي، لأنّه لمّا سمّاه غويّا ظنّ أن يبطش به.

و عن الحسن: أنّه القبطي، لأنّه قد اشتهر أمر القتل بالأمس، و أنّه قتله بعض بني إسرائيل، فيؤدّي ذهنه إلى أنّه أراد أن يبطش به. أو اشتهر أنّ الّذي قتل القبطيّ بالأمس لهذا الإسرائيلي.

إِنْ تُرِيدُ ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ تطاول على الناس، و تفعل ما تريد من الضرب و القتل ظلما و عدوانا، و لا تدفع بالّتي هي أحسن، و لا تنظر في العواقب. و قيل: المتعظّم الّذي لا يتواضع لأمر اللّه.

وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس، فتدفع التخاصم بالّتي هي أحسن.

[سورة القصص [28]: الآيات 20 الى 24]

وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [20] فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ

ص: 150

قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [21] وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [22] وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ [23] فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [24]

و لمّا قال هذا انتشر الحديث، و ارتقى إلى فرعون و ملئه، و همّوا بقتله، فخرج مؤمن آل فرعون. و هو حزقيل ابن عمّ فرعون. و قيل: اسمه شمعون. و قيل:

سمعان. فأتاه ليخبره كما قال: وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ من آخر مصر يَسْعى يسرع في المشي حتّى سبقهم إلى موسى. و هذا صفة

ل «رجل». أو حال منه، إذا جعل «مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ» صفة له، لأنّ تخصيصه بها يلحقه بالمعارف. و إذا جعل صلة ل «جاء» لم يجز إلّا الوصف.

قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ الأشراف من آل فرعون يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون بسببك لِيَقْتُلُوكَ و إنّما سمّى التشاور ائتمارا، لأنّ كلّا من المتشاورين يأمر الآخر و يأتمر. فَاخْرُجْ من أرض مصر إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ في هذا.

و اللام للبيان. و ليس صلة للناصحين، لأنّ معمول الصلة لا يتقدّم الموصول.

ثمّ بيّن سبحانه خروج موسى من مصر إلى مدين، فقال: فَخَرَجَ مِنْها من مدينة فرعون خائِفاً يَتَرَقَّبُ لحوق طالب في الطريق قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ خلّصني منهم، و احفظني من لحوقهم.

ص: 151

روي: أنّ موسى عليه السّلام خرج بغير زاد و لا ماء و لا حذاء، و كان لا يأكل إلّا من حشيش الصحراء، فما وصل مدين حتّى سقط خفّ قدمه.

وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ صرف وجهه إلى جهتها. و هي قرية شعيب عليه السّلام.

سمّيت باسم مدين بن إبراهيم، و لم تكن في سلطان فرعون. و كان بينها و بين مصر مسيرة ثمانية أيّام.

و عن ابن عبّاس: خرج موسى متوجّها نحو مدين، و ليس له علم بالطريق إلّا حسن ظنّه بربّه، و لهذا قالَ توكّلا على اللّه عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي يرشدني سَواءَ السَّبِيلِ الطريق السويّ، أي: وسطه المؤدّي إلى مدين.

روي: أنّه عنّ له ثلاث طرق، فأخذ في أوسطها، فإنّ الأخذ يمينا و شمالا تباعد عن طريق الصواب. و لهذا قال: سواء الطريق. قيل: جاء الطلّاب عقيبه، فأخذوا في الآخرين.

و روي: أنّه جاء ملك على فرس بيده عنزة، فانطلق به إلى مدين.

وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وصل

إليه. و هو بئر كانوا يسقون منها. وَجَدَ عَلَيْهِ وجد فوق شفيرها و مستقاها أُمَّةً جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين يَسْقُونَ مواشيهم وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تمنعان أغنامهما عن الماء، لئلّا تختلط بأغنامهم. أو لأنّ على الماء من هو أقوى منهما، فلا يتمكّنان من السقي، فينتظران خلوّ مكان السقي عنهم. أو لكراهتهما المزاحمة على الماء. أو تذودان عن وجوههما نظر الناظر، لتستّرهما.

قالَ ما خَطْبُكُما ما شأنكما تذودان؟ و حقيقته: ما مخطوبكما؟ أي:

مطلوبكما من الذياد. كما سمّي المشؤن شأنا في قولك: ما شأنك؟ يقال: شأنت شأنه، أي: قصدت قصده.

ص: 152

قالَتا إنّا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مساجلة (1) الرجال و مزاحمتهم، و ما لنا رجل يقوم بذلك، فلأجل ذلك لا نَسْقِي أي: نؤخّر السقي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء. و حذف المفعول، لأنّ الغرض هو بيان ما يدلّ على عفّتهما، و يدعوه إلى السقي لهما. و الرعاء: اسم جمع، كالرخال للأناثى من أولاد الضأن. و الجمع الرعاء بالكسر. و قرأ أبو عمرو و ابن عامر: يصدر، أي: ينصرف.

وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ كبير السنّ، قد أضعفه الكبر، فلا يستطيع أن يخرج للسقي، فيرسلنا اضطرارا. و فيه تعريض للطلب من موسى أن يعينهما على السقي.

و قيل: إنّما قالتا ذلك اعتذارا إلى موسى في الخروج بغير محرم.

فَسَقى لَهُما مواشيهما رحمة عليهما.

و روي: أنّ الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا، لا يقلّه إلّا سبعة رجال- و قيل: عشرة، و قيل: أربعون، و قيل: مائة- فأقلّه وحده، مع ما كان به من الوصب و الجوع و جراحة القدم.

و روي: أنّه سألهم دلوا من ماء،

فأعطوه دلوهم و قالوا: استق بها لو أمكنك.

و كانت لا ينزعها إلّا أربعون. فاستقى بها، و صبّها في الحوض، و دعا بالبركة، و روّى غنمهما و أصدرهما. و روي: أنّه دفعهم عن الماء حتّى سقى لهما.

و قيل: كانت بئرا اخرى عليها الصخرة، فرفعها فاستقى منها. و إنّما فعل هذا رغبة في المعروف، و إغاثة للملهوف. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ ظلّ شجرة، فجلس تحتها من شدّة الحرّ و هو جائع فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما لأيّ شي ء أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ

ص: 153


1- السجل: الدلو إذا كان فيه ماء. و ساجله مساجلة: باراه و فاخره و عارضه في قول أو عمل. و المعنى: لا نقدر على معارضة الرجال و مزاحمتهم.

خَيْرٍ قليل أو كثير فَقِيرٌ محتاج. عدّي «فقير» ب «إلى»، إلّا أنّه عدّي هاهنا باللام، لأنّه ضمّن معنى: سائل و طالب.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقلة ترى من شفيف (1) صفاق بطنه، لهزاله، و تشذّب لحمه».

و عن ابن عبّاس: ما سأل نبيّ اللّه إلّا خبزا يقيم به صلبه.

و قيل: معناه: إنّي فقير من الدنيا، لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدارين، و هو النجاة من الظالمين، لأنّه كان عند فرعون في ملك و ثروة، فقال ذلك رضا بالبدل السنيّ، و فرحا به، و شكرا له. و كان الظلّ ظلّ شجرة.

و روي: أنّهما لمّا رجعتا إلى أبيهما قبل الناس، و أغنامهما حفّل (2) بطان، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال:

[سورة القصص [28]: الآيات 25 الى 28]

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَ

قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [25] قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [26] قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى

ص: 154


1- الشفيف: ما رقّ فظهر ما وراءه. و الصفاق: الجلد الأسفل الذي يمسك البطن. و تشذّب لحمه: تفرّق.
2- الحفّل جمع حافل. يقال: ضرع حافل، أي: ممتلئ لبنا. و البطان من: بطن يبطن بطنا، إذا عظم بطنه من الشبع.

ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [27] قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ [28]

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما و هي كبراهما على رواية وهب. و اسمها صفوراء أو صفراء. و الأصحّ أنّها صغراهما، و اسمها صفيراء. تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ في موضع الحال، أي: مستحية متخفّرة، أي: شديدة الحياء. و قيل: قد استترت بكمّ درعها.

قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ليكافئك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا جزاء سقيك غنمنا.

و روي: أنّ موسى أجابها ليتبرّك برؤية الشيخ، و يستظهر بمعرفته، لا طمعا في الأجر، لما نقل أنّه لمّا جاءه و أخبره قصّته، و عرّفه أنّه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب، قدّم إليه طعاما فامتنع عنه، و قال: إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا. قال شعيب: هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا، و أنّ من فعل معروفا و أهدي بشي ء لم يحرم أخذه.

فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ هو مصدر كالعلل، سمّي به المقصوص.

و المعنى: حدّث شعيبا ما حدث من قتل القبطي، و أنّهم يطلبونه ليقتلوه قصاصا.

قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد: فرعون و قومه. فلا سلطان له بأرضنا، و لسنا في مملكته.

ص: 155

قالَتْ إِحْداهُما يعني: الّتي استدعته يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اتّخذه أجيرا لرعي الغنم. ثمّ بيّنت علّة جامعة و دليلا واضحا على أنّه حقيق بالاستئجار، فقالت: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُ في العمل الْأَمِينُ فيما استودع. فجعل «خير» اسما، و «القويّ الأمين» خبرا، دون العكس، مبالغة و عناية. و ذكر الفعل بلفظ الماضي، للدلالة على أنّه امرؤ مجرّب معروف.

روي: أنّ شعيبا قال لها: و ما أعلمك بقوّته و أمانته؟ قالت: أمّا قوّته فلأنّه رفع الحجر العظيم الّذي لا يرفعه إلّا جماعة كثيرة. و أمّا أمانته فإنّه أطرق رأسه حتّى بلّغته رسالتك. و قال لي في الطريق: امشي خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك، فتصف لي عجزك.

و لمّا ذكرت من حاله ما ذكرت، زاده ذلك رغبة فيه قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي من: أجرته إذا كنت له أجيرا، كقولك: أبوته إذا كنت له أبا، أي: تكون لي أجيرا ثَمانِيَ حِجَجٍ في ثماني سنين. أو من: أجرته كذا إذا أثبته إيّاه. و حينئذ «ثماني حجج» كان مفعولا به على حذف مضاف، أي:

على أن تثيبني رعية ثماني حجج. و منه تعزية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «آجركم اللّه و رحمكم» أي: يثيبكم أجركم و جزاءكم. و منه: المأجور بمعنى المثاب.

يعني: على أن تجعل جزائي و ثوابي إيّاك، على أن أنكحك إحدى ابنتيّ، أن ترعى لي ثماني سنين. و لم يلزم منه أنه زوّجه إحدى ابنتيه من غير تعيين، كما هو المتبادر من الآية، لأنّ ذلك لم يكن عقدا للنكاح، بل مواعدة. و لو كان عقدا لقال:

قد أنكحتك، و لم يقل: إنّي أريد أن أنكحك. فالمعنى: أنّ شعيبا بعد تلك المواعدة عيّن إحدى ابنتيه، و كانت هي الصغرى على الأصحّ، فزوّجها من موسى باستئجار المدّة المذكورة.

و لمّا منع أبو حنيفة أن يتزوّج امرأة بأن يخدمها سنة مثلا، بل لا بدّ عنده من

ص: 156

تسليم ما هو مال، لم يجعل هذا الاستئجار مهرا، بل شرط ذلك في النكاح، و جعل المهر شيئا آخر ماليّا.

و الأوّل أصحّ و أوفق لظاهر الآية، و موافق لمذهبنا و مذهب الشافعي. مع أنّه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك.

فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً عمل عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ فإتمامه من عندك تفضّلا، لا من عندي إلزاما عليك. يعني: لا ألزمكه، و لا أحتّمه عليك، و لكنّك إن فعلته فهو منك تفضّل و تبرّع، و إلّا فلا عليك. كما قال: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام إتمام الأجلين و إيجابه عليك. أو المناقشة في استيفاء الأعمال و إتمام العشرة.

و قيل: معناه: أن أكلّفك خدمة سوى رعي الغنم، لأنّه خارج عن الشرط.

و اشتقاق المشقّة من الشقّ، فإنّ ما يصعب عليك يشقّ عليك اعتقادك في إطاقته، و رأيك في مزاولته باثنين، تقول تارة: أطيقه، و تارة لا أطيقه.

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة، و لين الجانب، و الوفاء بالمعاهدة. و المراد باشتراط مشيئة اللّه فيما وعد من الصلاح: الاتّكال على توفيقه فيه و معونته، لا أنّه يستعمل الصلاح إن شاء اللّه، و إن شاء استعمل خلافه.

قالَ أي: قال موسى لشعيب ذلِكَ الّذي عاهدتني فيه بَيْنِي وَ بَيْنَكَ قائم بيننا لا نخرج عنه أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ «ما» زائدة، أي: أيّ أجل من الأجلين:

أطولهما الّذي هو العشر، أو أقصر هما الّذي هو الثمان قَضَيْتُ وفيتك إيّاه، و أتممت و فرغت منه فَلا عُدْوانَ عَلَيَ لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة عليه. و لمّا كان المعنى: كما أنّي إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شكّ فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. فلا يقال: تصوّر العدوان إنّما هو في أحد الأجلين الّذي هو الأقصر، و هو المطالبة بتتمّة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟

و الحاصل: أنّ موسى عليه السّلام أراد بذلك تقرير الخيار، و أنّه ثابت مستقرّ، و أنّ الأجلين على السواء: إمّا هذا و إمّا هذا، من غير تفاوت بينهما في القضاء. و أمّا

ص: 157

التتمّة فموكولة إلى رأيي، إن شئت أتيت بها، و إلّا لم أجبر عليها.

و قيل: معناه: فلا أكون معتديا بترك الزيادة عليه، كقولك: لا إثم عليّ، و لا تبعة عليّ. و هو أبلغ في إثبات الخيرة.

روى الواحدي بالإسناد عن ابن عبّاس قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما» (1).

و بالإسناد عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا سئلت أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما و أبرّهما، و إن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل: الصغرى منهما. و هي الّتي جاءت فقالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ (2).

و كذلك روى الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل أيّتها الّتي قالت: إنّ أبي يدعوك؟ قال: الّتي تزوّج بها. قال: فأيّ الأجلين قضى؟

قال: أوفاهما و أبعدهما عشر سنين. ثمّ قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي.

قيل له: فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين، أ يجوز له أن يدخل بها قبل انقضاء الشهر؟ قال: إنّ موسى علم أنّه سيتمّ له شرطه. قيل: كيف؟ قال: إنّه علم سيبقى حتّى يفي».

وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من المشارطة وَكِيلٌ الّذي وكل إليه الأمر. و لمّا استعمل في موضع الشاهد و المهيمن و المقيت (3) عدّي ب «على». و المعنى: و اللّه على ما نقول شاهد حفيظ.

روي: لمّا زوّجها شعيب من موسى، أمر أن يعطى موسى عصا يدفع السباع عن غنمه بها، فأعطي العصا.

ص: 158


1- تفسير الوسيط 3: 397، و فيه: أوفاهما و أطيبهما.
2- تفسير الوسيط 3: 397- 398.
3- المقيت: الحافظ للشي ء، و الشاهد له، و المقتدر، كالّذي يعطي كلّ أحد قوته. من: قات يقوت قوتا.

و قيل: إنّ شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم السّلام، فقال لموسى عليه السّلام بالليل:

ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ. فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السّلام من الجنّة، و لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتّى وقعت إلى شعيب، فمسّها و كان مكفوفا، فضنّ بها.

فقال: غيرها، أي: خذ غيرها. فما وقع في يده إلّا هي سبع مرّات، فعلم أنّ له شأنا.

و قيل: أخذها جبرئيل بعد موت آدم، فكانت معه حتّى لقي بها موسى ليلا.

و قيل: أودعها في يد شعيب ملك في صورة رجل، فدفعها إلى موسى. ثمّ ندم، لأنّها وديعة، فتبعه ليستردّها، فضنّا بها، و رضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع.

فأتاهما الملك فقال: ألقياها فمن رفعها فهي له. فعالجها الشيخ فلم يطقها، و رفعها موسى.

و عن الحسن: ما كانت إلّا عصا من شجر اعترضها اعتراضا. و عن الكلبي:

من شجرة العوسج.

و روى عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «كانت عصا موسى قضيب آس من الجنّة، أتاه به جبرئيل لمّا توجّه تلقاء مدين».

و روي: أنّ شعيبا لمّا أرسل موسى إلى المرعى مع الأغنام، قال له: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإنّ الكلأ و إن كان بها أكثر، إلّا أنّ فيها تنّينا، أخشاه عليك و على الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين، و لم يقدر على كفّها. فمشى على أثرها فإذا عشب و ريف لم ير مثله، فنام فإذا بالتنّين قد أقبل، فحاربته العصا حتّى قتلته و عادت إلى جنب موسى، فلمّا أبصرها دامية و التنّين مقتولا ارتاح لذلك. و لمّا رجع إلى شعيب مسّ الغنم، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن. فأخبره موسى، ففرح و علم أنّ لموسى و العصا شأنا. و قال له: إنّي وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع (1) و درعا. فأوحي إليه في المنام: أن اضرب بعصاك

ص: 159


1- درع الفرس و غيره: اسودّ رأسه، و ابيضّ سائره. فهو أدرع. و الأنثى: درعاء.

مستقى الغنم، ففعل. ثمّ سقى فما أخطأت واحدة إلّا وضعت أدرع و درعاء. فوفى له بشرطه.

[سورة القصص [28]: الآيات 29 الى 35]

فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [29] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [30] وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ [31] اسْلُكْ يَدَكَ فِي

جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [32] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [33]

وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [34] قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [35]

فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و هو أقصى الأجلين، و مكث عند شعيب عشرا

ص: 160

أخر، ثمّ استأذنه في العود إلى مصر ليزور و والديه و أخاه، فأذن له.

وَ سارَ بِأَهْلِهِ فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، و امرأته في شهرها. فسار في البرّيّة غير عارف بالطريق، فألجأه المصير إلى جانب الطور الأيمن، في ليلة شديدة البرودة، و أخذ امرأته الطلق، و ضلّ الطريق، و تفرّقت ماشيته، و أصابه المطر، فبقي لا يدري أين يتوجّه، فبينا هو كذلك آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أبصرها من الجهة الّتي تلي الطور.

قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ بخبر الطريق أَوْ جَذْوَةٍ عود غليظ، سواء كان في رأسه نار أو لم يكن. و لهذا بيّنه بقوله: مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها. و قرأ عاصم بفتح الجيم، و حمزة بالضمّ، و غيرهما بالكسر. و كلّها لغات.

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ أتاه النداء مبتدأ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ من الجانب الأيمن للوادي فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ متّصل بالشاطئ، أو صلة ل «نودي». و هي البقعة الّتي قال اللّه تعالى فيها لموسى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (1).

و إنّما كانت مباركة، لأنّها معدن الوحي و الرسالة و كلام اللّه تعالى.

أو لكثرة الأشجار و الأنهار و الثمار و النعم بها. و الأوّل أصحّ.

مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من «شاطئ» بدل الاشتمال، لأنّها كانت نابتة على الشاطئ.

أَنْ يا مُوسى أي: يا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ هذا و إن خالف ما في طه (2) و النمل (3) لفظا، فهو طبقه في المقصود، أي: موجد الكلام لك هو اللّه مالك

ص: 161


1- طه: 12.
2- طه: 11- 12.
3- النمل: 8- 9.

العالمين، و خالق الخلائق أجمعين، تعالى و تقدّس عن أن يحلّ في محلّ، أو يكون في مكان، لأنّه ليس بعرض و لا جسم.

وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها من يده، فصارت ثعبانا عظيما و اهتزّت فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ في فرط السرعة مع عظم الجثّة، فاغرة فاها، ابتلعت كلّ ما أصابت من حجر و شجر وَلَّى مُدْبِراً منهزما من الخوف وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يرجع إلى ذلك الموضع. فنودي يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ عن المخاوف، فإنّه لا يخاف لديّ المرسلون.

كرّر هذه القصّة في السور تقريرا للحجّة على أهل الكتاب، و استمالة بهم إلى الحقّ. و من أحبّ شيئا أحبّ ذكره. و القوم كانوا يدّعون محبّة موسى، و كلّ من ادّعى اتّباع سيّده مال إلى من ذكره بالفضل. على أنّ كلّ موضع من مواضع التكرار لا تخلو من زيادة فائدة.

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي: أدخلها فيه تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي:

من غير عيب، كالبرص.

روي: أنّه لمّا قلب اللّه العصا حيّة، فزع موسى و اضطرب فاتّقاها ببسط يديه، كما يفعل الخائف من الشي ء. فقيل له: إنّ اتّقاءك ببسط يدك فيه غضاضة (1) عند الأعداء، فإذا ألقيتها فتنقلب حيّة لا تفزع وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ يديك المبسوطتين تتّقي بهما الحيّة كالخائف الفزع، بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى و بالعكس.

مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب، أي: إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلّدا و ضبطا لنفسك، فإنّك آمن من ضررها. أو بإدخالهما في الجيب. فيكون التكرير لاختلاف الغرضين. و ذلك لأنّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، و في الثاني

ص: 162


1- أى: ذلّة و منقصة.

إخفاء الرهب و إظهار الجرأة على وجه العدوّ. و تسمية اليد بالجناح باعتبار أنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر.

و يجوز أن يراد بالضمّ التجلّد و الثبات و ضبط النفس عند انقلاب العصا حيّة، حتّى لا يضطرب و لا يرهب. استعارة من حال الطائر، فإنّه إذا خاف نشر جناحيه، و إذا أمن و اطمأنّ ضمّهما إليه.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر بضمّ الراء و سكون الهاء. و قرأ حفص بالفتح و السكون. و قرئ بضمّهما. و الكلّ لغات.

فَذانِكَ إشارة إلى العصا و اليد. و شدّده ابن كثير و أبو عمرو و رويس.

بُرْهانانِ حجّتان بيّنتان باهرتان. و البرهان فعلان، لقولهم: أبره الرجل، إذا جاء بالبرهان. و بره الرجل، إذا ابيضّ. و يقال: برهان و برهرهة، بتكرير العين و اللام معا، للمرأة البيضاء. و نظيره تسميتهم إيّاها سلطانا، من السليط و هو الزيت، لإنارتها.

و قيل: فعلان من قولهم: برهن.

مِنْ رَبِّكَ على صدق نبوّتك و رسالتك إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين من طاعة اللّه إلى أعظم المعاصي، و هو الشرك. فكانوا أحقّاء بأن يرسل إليهم.

قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بتلك النفس.

وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً و إنّما قال ذلك لعقدة كانت في لسانه.

و قد مضى (1) ذكر سببها و إزالتها بدعائه، و التوفيق بينه و بين هذا القول.

فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً معينا على تبليغ رسالتك. يقال: ردأه إذا أعانه. و في الأصل اسم مايعان به. فعل بمعنى مفعول، كالدف ء. و قرأ نافع: ردا بالتخفيف.

يُصَدِّقُنِي بتلخيص الحقّ، و تقرير الحجّة، و تزييف الشبهة. و قرأ عاصم

ص: 163


1- راجع ج 4 ص 235، ذيل الآية 27 من سورة طه، و ج 5 ص 10، ذيل الآية 13 من سورة الشعراء.

و حمزة: يصدّقني (1) بالرفع، على أنّه صفة. و على التقديرين، ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، فإنّ سحبان و باقلا (2) يستويان فيه، بل إنّما هو أن يلخّص بلسانه الحقّ، و يبسط القول فيه، و يجادل به الكفّار، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدّق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله:

«وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً».

و قيل: المراد تصديق القوم لتقريره و توضيحه، و لكنّه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب. و الدليل عليه قوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ و لساني لا يطاوعني عند المحاجّة.

قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقوّيك به، فإنّ قوّة الشخص بشدّة اليد على مزاولة الأمور. و لذلك يعبّر عنها باليد، و شدّتها بشدّة العضد، فإنّ العضد قوام اليد، و بشدّتها تشتدّ اليد. و من هاهنا يقال في دعاء الخير: شدّ اللّه عضدك، و في ضدّه:

فتّ (3) اللّه في عضدك.

وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً غلبة و تسلّطا، أو حجّة واضحة فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما إلى الإضرار بكما باستيلاء أو حجاج بِآياتِنا متعلّق بمحذوف، أي:

اذهبا بآياتنا. أو ب «نجعل» أي: نسلّطكما بها. أو بمعنى «لا يصلون»، أي: تمتنعون منهم

بها. أو قسم جوابه «لا يصلون». أو بيان ل «الغالبون» في قوله: أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ لا صلة، لامتناع تقدّم الصلة على الموصول. أو صلة له، على أنّ اللام فيه للتعريف، لا بمعنى الّذي. و لو تأخّر لم يكن إلّا صلة.

ص: 164


1- و في قراءة اخرى: يصدّقني، بالجزم جوابا ل: فأرسله.
2- اسمان لرجلين يضرب بهما المثل، فسحبان مثل في الفصاحة، و باقل مثل في العيّ و البلاهة.
3- أي: كسر قوّتك، و فرّق عنك أعوانك.

[سورة القصص [28]: الآيات 36 الى 42]

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [36] وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [37] وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ [38] وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ [39] فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [40]

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ [41] وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [42]

روي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال: «فلمّا رجع موسى عليه السّلام إلى امرأته قالت: من أين جئت؟ قال: من عند ربّ تلك النار، أمرني أن أعود إلى فرعون، فتوجّه مع أهله إلى مصر.

ثمّ قال عليه السّلام: فو اللّه لكأنّي أنظر إليه طويل الباع، ذو شعر، آدم (1)، عليه جبّة

ص: 165


1- أدم أدما: اسمرّ. و الآدم: الأسمر.

من صوف، عصاه في كفّه، مربوط حقوه بشريط (1)، نعله من جلد حمار، شراكها من ليف.

فقيل لفرعون: إنّ على الباب فتى يزعم أنّه رسول ربّ العالمين.

فقال فرعون لصاحب الأسد: خلّ سلاسلها. و كان إذا غضب على رجل خلّاها فقطعته. فخلّاها. فقرع موسى الباب الأوّل، و كانت تسعة أبواب. فلمّا قرع الباب الأوّل انفتحت له الأبواب التسعة. فلمّا دخل جعلن يبصبصن (2) تحت رجله، كأنّهنّ جراء.

فلمّا رآه فرعون بعيدا قال لجلسائه استهزاء و سخريّة: أرأيتم مثل هذا قطّ.

فلمّا قرب منه عرفه، فقال: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلى قوله: وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (3).

فقال فرعون لرجل من أصحابه: قم فخذ بيده. و قال للآخر: اضرب عنقه.

فضرب جبرئيل بالسيف حتّى قتل ستّة من أصحابه. فقال: خلّوا عنه.

قال: فأخرج يده فإذا هي بيضاء قد حال شعاعها بينه و بين وجهه. و ألقى العصا فإذا هي حيّة، فالتقمت الإيوان (4) بلحييها. فدعاه أن يا موسى أقلني إلى غد.

ثمّ كان من أمره ما كان، كما قال جلّت عزّته:

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ بمعجزات ظاهرات الدلالة على صدق موسى قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً تختلقه، لم يفعل قبله مثله. أو سحر تعمله

ص: 166


1- الشريط: خوص مفتول يشدّ به السرير و نحوه.
2- بصبص الجرو: فتح عينيه. و بصبص الكلب: حرّك ذنبه. و الجراء: أولاد السباع، كالكلب و الأسد. و الواحدة: جرو.
3- الشعراء: 18- 20.
4- الإيوان: المكان المتّسع من البيت يحيط به ثلاثة حيطان و اللحيان: جانبا الفم.

أنت، ثمّ تفتريه على اللّه. أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، و ليس بمعجزة من عند اللّه.

وَ ما سَمِعْنا بِهذا يعنون السحر فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ حال منصوبة عن «هذا»، أي: كائنا في أيّامهم.

يريدون: ما حدّثنا بكونه فيهم. و لا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك، و قد سمعوا و علموا بنحوه.

أو يريدوا أنّهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته. أو ما كان الكهّان يخبرون أنّه يظهر أحد بهذه الطريقة. و هذا دليل على أنّهم حجّوا و بهتوا.

أو يعنون ادّعاء النبوّة، مع اشتهار قصّة نوح و هود و صالح، و غيرهم من النبيّين الّذين دعوا إلى توحيد اللّه و إخلاص عبادته. و ذلك لأحد أمرين: إمّا للفترة الّتي دخلت بين الوقتين و الزمان الطويل. و إمّا لأنّ آباءهم ما صدّقوا بشي ء من ذلك، و لا دانوا به. فيكون المعنى: ما سمعنا بآبائنا أنّهم صدّقوا الرسل فيما جاؤا به.

وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ بحال من أهّله للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيّا، و بعثه بالهدى، و وعده حسن العقبى، يعني: نفسه. و لو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا، لما أهلّه لذلك، لأنّه غنيّ حكيم، لا يرسل الكاذبين، و لا ينبئ الساحرين، لأنّهم المبطلون الظالمون.

و قرأ ابن كثير: قال، بغير واو، لأنّه قال ما قاله جوابا لمقالهم. و وجه العطف:

أنّ المراد حكاية القولين، ليوازن الناظر بينهما، فيميّز صحيحهما من الفاسد.

وَ مَنْ تَكُونُ و أعلم بمن تكون لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة، فإنّ المراد بالدار الدنيا و عاقبتها الأصليّة هي الجنّة. و الدليل عليه قوله عزّ و جلّ: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ (1). و قوله: وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ « (2)». فخلقت

ص: 167


1- الرعد: 22- 23 .
2- الرعد: 24.

الدنيا مجازا إلى الآخرة. و المقصود منها بالذات

هو الثواب، و أمّا العقاب فإنّما قصد بالعرض، لأنّ عاقبة الشرّ لا اعتداد بها عند اللّه، لأنّها من نتائج تحريف الفجّار الّذي هو خلاف ما وضع اللّه الآخرة له. فكان العاقبة الأصليّة إنّما هي عاقبة الخير، و لهذا اختصّت خاتمتها بالخير بهذه التسمية، دون خاتمتها بالشرّ.

و قرأ حمزة و الكسائي: يكون بالياء، لأنّ تأنيث العاقبة غير حقيقيّ.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا، و حسن العاقبة في العقبى.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ منكرا لما أتى به موسى من آيات اللّه لمّا أعياه الجواب، و عجز عن محاجّته يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يريد أشراف قومه ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفى علمه بإله غيره، دون وجوده، إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه. و لذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه و يتطّلع على الحال، فقال: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ فأجّج النار عَلَى الطِّينِ و اتّخذ الآجرّ.

عن قتادة: أنّه أوّل من اتّخذ الآجرّ. و لذا لم يقل: اطبخ لي الآجرّ، بل أمره باتّخاذه على وجه يتضمّن تعليم الصنعة. و أمر هامان- و هو وزيره و رديفه- بالإيقاد على الطين، منادى باسمه ب «يا» في وسط الكلام، دليل التعظّم و التجبّر.

فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً قصرا و بناء عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي:

أصعد إليه، و أشرف عليه، و أقف على حاله. و هذا تلبيس من فرعون، و إيهام على العوام أنّ الّذي يدعو إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان و الجهة. أو توهّم هو أنّه لو كان إله غيره لكان جسما في السماء، يمكن الترقّي إليه.

ثمّ قال: وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادّعائه إلها غيري، و أنّه رسوله.

و يجوز أن يكون مراده بنفي علمه

بإله غيره نفي وجوده. و معناه: ما لكم من إله غيري، كما قال عزّ و علا: قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي

ص: 168

الْأَرْضِ (1) فإنّ معناه: بما ليس فيهنّ. و ذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم، لا يتعلّق به إلّا على ما هو عليه، فإذا كان الشي ء معدوما لم يتعلّق به موجود. و من ثمّ كان انتفاء العلم بوجوده، لا انتفاء وجوده. و عبّر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده.

و على هذا يكون «لأظنّه» بمعنى: لأعلمه. و يكون بناء الصرح مناقضة لما ادّعاه من العلم و اليقين، و قد خفيت على قومه، لغباوتهم و فرط جهلهم. أو لم تخف عليهم، لكن كلّ واحد كان يخاف على نفسه من سوطه و سيفه.

روي: أنّه لمّا أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمّال حتّى اجتمع خمسون ألف بنّاء، سوى الأتباع و الأجراء. و أمر بطبخ الآجرّ و الجصّ، و نجر الخشب، و ضرب المسامير. فشيّدوه حتّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق. و كان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني، فبعث اللّه جبرئيل عند غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطّعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، و وقعت قطعة في البحر، و قطعة في المغرب، و لم يبق أحد من عمّاله إلّا قد هلك.

و يروى في هذه القصّة: أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشّابة (2) نحو السماء، فأراد اللّه أن يفتنهم، فردّت إليه و هي ملطوخة بالدم. فقال: قد قتلت إله موسى.

فلأجل تلك الكلمة بعث اللّه جبرئيل لهدمه على الطريق المذكور.

وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ بغير استحقاق، فإنّ

الاستكبار بالحقّ إنّما هو للّه عزّ و جلّ، و هو المتكبّر على الحقيقة، أي: المتبالغ في كبرياء الشأن.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما حكى عن ربّه: «الكبرياء ردائي، و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار».

و كلّ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحقّ.

ص: 169


1- يونس: 18.
2- النشّابة: السهم.

و ملخّص المعنى: أنّ فرعون و جنوده رفعوا أنفسهم في الأرض فوق مقدارها بالباطل و الظلم، و أنفوا و تعظّموا عن قبول الحقّ في اتّباع موسى.

وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالنشور.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي بفتح الياء و كسر الجيم.

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ فطرحناهم في البحر، كما مرّ بيانه.

و فيه فخامة و تعظيم لشأن الآخذ، و استحقار للمأخوذين. كأنّه أخذهم و إن كانوا الكثر الكثير و الجمّ الغفير، و طرحهم في اليمّ، كما أخذ آخذ بحصيات في كفّه فطرحهنّ في البحر. و نظيره: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (1). و ما هي إلّا تصويرات و تمثيلات لاقتداره، و أنّ كلّ مقدور و إن عظم و جلّ فهو مستصغر إلى جنب قدرته.

فَانْظُرْ يا محمّد، أي: تفكّر و تدبّر و انظر بعين قلبك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ كيف أخرجناهم من ديارهم و أغرقناهم، و حذّر قومك عن مثلها.

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قدوة للضلال بالتخلية و منع الألطاف الصارفة عنه، حتّى صمّموا على الكفر، و صاروا أئمّة فيه، دعاة إلى الكفر و سوء عاقبته. أو بالتسمية و الدعوة، كقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (2). و المعنى:

دعوناهم أئمّة.

يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ دعاة على وجه الاستمرار إلى موجباتها من الكفر و المعاصي، كما يدعى خلفاء الحقّ أئمّة دعاة إلى الجنّة. و من ذلك قولك: جعله بخيلا و فاسقا، إذا دعاه و قال: إنّه بخيل و فاسق.

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم، كما ينصر الأئمّة الدعاة إلى الجنّة.

وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طردا عن الرحمة. أو لعن اللاعنين، بأن

ص: 170


1- الزمر: 67.
2- الزخرف: 19.

يلعنهم الملائكة و المؤمنون. وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ من المطرودين، أو ممّن قبح وجوههم.

[سورة القصص [28]: الآيات 43 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [43] وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [44] وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [45] وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [46] وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [47]

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ [48] قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [49] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [50]

ص: 171

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح و هود و صالح و لوط بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنوارا لقلوبهم، أي: حججا ساطعة و براهين نيّرة، تتبصّر بها الحقائق، و تميّز بين الحقّ و الباطل. و نصبه على الحال. و البصيرة: نور القلب الّذي يستبصر به، كما أنّ البصر نور العين الّذي تبصر به.

وَ هُدىً و إرشادا إلى الشرائع الّتي هي سبل اللّه وَ رَحْمَةً لأنّهم لو عملوا بها نالوا رحمة اللّه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ليكونوا على حال يرجى منهم التذكّر و الاتّعاظ، أو إرادة أن يتذكّروا مشبّهين الإرادة بالترجّي، فاستعير لها.

عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما أهلك اللّه قوما، و لا قرنا، و لا أمّة، و لا أهل قرية، بعذاب من السماء، منذ أنزل التوراة على وجه الأرض، غير أهل القرية الّذين مسخوا قردة، ألم تر أنّ اللّه تعالى قال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى الآية».

وَ ما كُنْتَ ما كنت حاضرا يا محمّد بِجانِبِ الْغَرْبِيِ يريد الطور أو الوادي، فإنّه كان في شقّ الغرب. و هو المكان الّذي وقع فيه ميقات موسى، و كتب اللّه له في الألواح. إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إذ أوحينا إليه- الأمر، أو عهدنا إليه، و أحكمنا الأمر الّذي أردناه من الرسالة إلى فرعون و قومه.

وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ للوحي إليه، أو على الوحي إليه و هم النقباء السبعون المختارون للميقات- حتّى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السّلام في ميقاته، و كتبة التوراة له في الألواح، و غير ذلك، فتخبر قومك به عن مشاهدة و عيان.

و المراد الدلالة على أنّ إخباره عن ذلك من قبيل الإخبار عن المغيّبات الّتي لا تعرف إلّا بالوحي، و لذلك استدرك عنه بقوله: وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي: و لكنّا أوحينا إليك، لأنّا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ على القرن

ص: 172

الّذي أنت فيهم المر أمد انقطاع الوحي عنهم. فحرّمت الأخبار، و تغيّرت الشرائع، و اندرست العلوم. فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك و علّمناك قصّة موسى عليه السّلام، و غيرها من قصص الأنبياء. كأنّه قال: و ما كنت شاهدا لموسى و ما جرى عليه، و لكنّا أوحيناه إليك. فذكر سبب الوحي- الّذي هو إطالة الفترة- و أقامه مقام مسبّبه، على عادة اللّه في اختصاراته.

وَ ما كُنْتَ ثاوِياً مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ و هم شعيب و المؤمنون به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ تقرأ عليهم تعلّما منهم. قال مقاتل: معناه: لم تشهد أهل مدين، فتقرأ على أهل مكّة آياتِنا الّتي فيها قصّتهم وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ و لكنّا أرسلناك، و أخبرناك بها، و علّمناكها. فيدلّ ذلك على صحّة نبوّتك.

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قيل: المراد به وقت ما أعطاه التوراة، و بالأوّل حينما استنبأه، لأنّهما المذكوران في القصّة. و قيل: بالعكس.

وَ لكِنْ علّمناك رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلّق بالفعل المحذوف ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لوقوعهم في فترة بينك و بين عيسى. و هي خمسمائة و خمسون سنة. أو بينك و بين إسماعيل، على أنّ دعوة موسى و عيسى كانت مختصّة ببني إسرائيل و ما حواليهم. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتّعظوا و يتفكّروا و يعتبروا، فيتنزّهوا عن المعاصي.

و في هذا دلالة على وجوب فعل اللطف، فإنّ الإنذار و الدعوة لطف من اللّه تعالى مقرّب منه.

وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا «لولا» الأولى امتناعيّة، و جوابها محذوف، و هو: ما أرسلناك. و الثانية تحضيضيّة. و الفاء الأولى للعطف، و الأخرى جواب «لولا»، لكونها في حكم الأمر، من قبل أنّ الأمر باعث على الفعل، و الباعث و المحضّض من واد واحد.

ص: 173

و المعنى: لو لا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم و معاصيهم: ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلّغنا آياتك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ يعني: الرسول المصدّق بنوع من المعجزات وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدّقين، لمّا أرسلناك، أي: إنّما أرسلناك قطعا لعذرهم، و إلزاما للحجّة عليهم. و هو في معنى قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (1).

إن قيل: كيف استقام هذا المعنى و قد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها لا على القول؟

أجيب: أنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، لكن العقوبة لمّا كانت هي السبب للقول، و كان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنّها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها «لولا»، و جي ء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببيّة، المنبّهة على أنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا، و أنّه لا يصدر عنهم حتّى تلجئهم العقوبة، فيؤول معناه إلى ما فسّرناه.

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا و هو الرسول المصدّق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات، و قطعت معاذيرهم، و سدّ طريق احتجاجهم قالُوا اقتراحا و تعنّتا لَوْ لا أُوتِيَ هل أوتي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من نزول الكتاب جملة واحدة، و اليد، و العصا، و فلق البحر، و غيرها من الآيات.

فاحتجّ عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا يعني: أبناء جنسهم، و من مذهبهم مذهبهم و عنادهم عنادهم. و هم الكفرة في زمن موسى. بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من قبل وجودك و نزول القرآن.

قالُوا سِحْرانِ أي: موسى و هارون. و عن ابن عبّاس: موسى

ص: 174


1- النساء: 165.

و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. تَظاهَرا تعاونا بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين.

و قرأ الكوفيّون: سحران، بمعنى ذوا سحر. أو جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما. أو المراد التوراة و القرآن.

وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍ أي: بكلّ منهما، أو بكلّ الأنبياء كافِرُونَ

قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما ممّا أنزل على موسى و عليّ.

و إضمارهما على قراءة «ساحران» لدلالة المعنى. و هو يؤيّد أنّ المراد بالساحرين موسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّا ساحران مختلقان. و هذا من الشروط الّتي يراد بها الإلزام و التبكيت. و المجي ء بحرف الشكّ للتهكّم بهم، فإنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين، أمر معلوم متحقّق لا مجال فيه للشكّ.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إلى الإتيان بكتاب أهدى. فحذف المفعول للعلم به. و لأنّ فعل الاستجابة يعدّى بنفسه إلى الدعاء، فيقال: استجاب اللّه دعاءه، و باللام إلى الداعي، فإذا عدّي إليه حذف الدعاء غالبا، فلا يكاد يقال: استجاب له دعاءه.

فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي: الزموا، و لم تبق لهم حجّة إلّا اتّباع الهوى، إذ لو اتّبعوا حجّة لأتوا بها.

ثمّ قال: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ استفهام بمعنى النفي بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ في موضع الحال للتأكيد أو التقييد، فإنّ هوى النفس قد يوافق الحقّ.

و المعنى: مطبوعا على قلبه، ممنوع الألطاف.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الّذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتّباع الهوى، فخلّاهم و أنفسهم. و قيل: معناه: لا يحكم بهدايتهم، أو لا يهديهم إلى طريق الجنّة.

ص: 175

[سورة القصص [28]: الآيات 51 الى 56]

وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [51] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [52] وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [53] أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [54] وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [55]

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [56]

ثمّ بيّن سبحانه صفة القرآن، فقال: وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أتبعنا في الإنزال بعضه بعضا متّصلا، وعدا و وعيدا، و قصصا و عبرا، و مواعظ و نصائح. أو في النظم، بأن أنزلنا عليهم إنزالا متّصلا بعضه في أثر بعض، تقريرا للدعوة بالحجّة، كقوله: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (1).

لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إرادة أن يتذكّروا فيؤمنوا و يطيعوا.

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة و الإنجيل مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب. و عن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. و قيل: في أربعين من أهل الإنجيل، اثنان و ثلاثون جاؤا مع جعفر رضي اللّه عنه من الحبشة، و ثمانية من الشام.

ص: 176


1- الشعراء: 5.

وَ إِذا يُتْلى أي: القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي: بأنّه كلام اللّه إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استئناف تعليلا للإيمان به، لأنّ كونه حقّا من اللّه حقيق بأن يؤمن به.

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ من قبل وجوده و نزوله مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام. استئناف آخر بيانا لقوله: «آمنّا به»، لأنّه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد و بعيده، فأخبروا أنّ إيمانهم به متقادم، لأنّ آباءهم القدماء ذكروه في الكتب المتقدّمة، و كونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم.

أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرّة على إيمانهم بكتابهم، و مرّة على إيمانهم بالقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم و ثباتهم على الإيمانين. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول و بعده. أو على أذى المشركين و أهل الكتاب.

وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ و يدفعون بالطاعة المعصية المتقدّمة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتبع الحسنة السيّئة تمحها».

أو بالحسن من الكلام الكلام القبيح الّذي يسمعونه من الكفّار. و يؤيّد هذا القول ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ معناه: يدفعون بالحلم جهل الجهلاء، و بالمداراة مع الكفرة أذاهم عن أنفسهم.

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الخير.

وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ السفه من الناس، و القبيح من القول أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرّما و تحلّما، و لم يقابلوه بمثله وَ قالُوا للّاغين لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا نسأل نحن عن أعمالكم، و لا تسألون عن أعمالنا، بل كلّ منّا يجازى على عمله.

سَلامٌ عَلَيْكُمْ متاركة لهم و توديعا. أو دعاء لهم بالسلامة عمّا هم فيه.

و المعنى: أمان منّا لكم أن نقابل لغوكم بمثله. و هي كلمة حلم. لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم، و لا نريد مجالستهم، و إنّما نبتغي الحكماء و العلماء.

و قيل: معناه: لا نريد أن نكون من أهل الجهل أو السفه.

ص: 177

و لمّا تقدّم ذكر الرسول و القرآن، و أنّه أنزل هدى للخلق، بيّن سبحانه أنّه ليس عليه الاهتداء، و إنّما عليه البلاغ و الأداء، فقال:

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته، أي: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كلّ من أحببت أن يدخل فيه من قومك و غيرهم، لأنّك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره. و هم الّذين لا تنفع الألطاف فيهم، لأنّهم رسخوا في الكفر، و صمّموا عليه عنادا و لجاجا، و إنكارا و استكبارا، مع أنّهم عارفون بحقيقة الإسلام. و قيل: من أحببته لقرابته.

و المراد بالهداية هنا اللطف الّذي يختار العبد عنده الإيمان، فإنّه لا يقدر عليه إلّا اللّه تعالى.

و قيل: المراد بها الإجبار على الاهتداء، أي: أنت لا تقدر على ذلك.

وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يدخل في الإسلام من يشاء. و هم الّذين علم أنّهم غير مطبوع على قلوبهم، و أنّ الألطاف تنفعهم، فيقرن بهم ألطافه حتّى تدعوهم إلى القبول. و هم الّذين استعدّوا له، و استرشدوا الحقّ. قيل:

يهدي به من يشاء على وجه الإجبار. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدّين لذلك.

و اعلم أنّ أهل السنّة قالوا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحبّ إسلام أبي طالب، فنزلت هذه الآية. و كان يكره إسلام وحشي قاتل حمزة، فنزل فيه قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (1). فلم يسلم أبو طالب، و أسلم وحشي.

و هذا كلام ضعيف، و قول ركيك، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يجوز أن يخالف اللّه سبحانه في إرادته، كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره و نواهيه.

و إذا كان اللّه تعالى

ص: 178


1- الزمر: 53.

على ما زعم القوم، لم يرد إيمان أبي طالب، بل أراد كفره، و أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيمانه، فقد حصل غاية الخلاف بين إرادتي المرسل و المرسل.

فكأنّه سبحانه يقول على مقتضى اعتقادهم: إنّك يا محمّد تريد إيمانه، و لا أريد إيمانه، و لا أخلق فيه الإيمان، مع تكفّله بنصرتك، و بذل مجهوده في إعانتك و الذبّ عنك، و محبّته لك، و نعمته عليك. و تكره أنت إيمان وحشي، لقتله عمّك حمزة، و أنا أريد إيمانه، و أخلق في قلبه الإيمان.

و أيضا قالوا: إنّ أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدّقوه تفلحوا و ترشدوا.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم، و تدعها لنفسك؟

قال: فما تريد يا ابن أخي؟

قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنّك في آخر يوم من أيّام الدنيا، أن تقول: لا إله إلّا اللّه، أشهد لك بها عند اللّه.

قال: يا ابن أخي قد علمت أنّك لصادق، و لكنّي أكره أن يقال: خرع (1) عند الموت. و لولا أن تكون عليك و على بني إسرائيل غضاضة و مسبّة بعدي لقلتها، و لأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدّة وجدك و نصيحتك، و لكنّي سوف أموت على ملّة الأشياخ: عبد المطّلب و هاشم و عبد مناف.

و نحن ذكرنا في سورة الأنعام (2) أنّ أهل البيت عليهم السّلام قد أجمعوا على أنّ أبا طالب مات مسلما، و تظاهرت الروايات بذلك عنهم. و أوردنا هناك طرفا من أشعاره الدالّة على تصديقه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و توحيده، فإنّ استيفاء جميعه لا تتّسع له الطوامير.

ص: 179


1- خرع الرجل: ضعف رأيه بعد قوّة.
2- راجع ج 2 ص 376.

[سورة القصص [28]: الآيات 57 الى 59]

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [57] وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ [58] وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ [59]

روي: أنّ الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف و أضرابه قالوا: نحن نعلم أنّك على الحقّ، و لكنّا نخاف إن اتّبعناك و خالفنا العرب بذلك- و إنّما نحن أكلة رأس، أي: قليلون- أن يتخطّفونا من أرضنا، فنزلت:

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ نستلب مِنْ أَرْضِنا و نخرج منها.

يعنون أرض مكّة و الحرم.

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ نجعل مكانهم حَرَماً آمِناً ذا أمن بحرمة البيت الّذي فيه يتناحر العرب حوله، و هم آمنون في حرمهم. و إسناد أمن إلى أهل الحرم حقيقة، و إلى الحرم مجاز.

يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه و يجمع فيه. من: جبيت الماء في الحوض، أي:

جمعته. و قرأ نافع و يعقوب في رواية بالتاء. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ من كلّ أوب.

ص: 180

و معنى الكلّيّة: الكثرة، كقوله: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ (1). رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا خوّلهم اللّه ما خوّلهم من الأمن و الرزق بحرمة البيت و هم كفرة، فكيف يعرّضهم للخوف و التخطّف، إذا ضمّوا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد؟! وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطّنون له، و لا يتفكّرون ليعلموا ذلك.

و قيل: إنّه متعلّق بقوله: «من لدنّا» أي: قليل منهم يتدبّرون، فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند اللّه، إذ لو علموا لما خافوا غيره.

و انتصاب «رزقا» على المصدر من معنى: يجبى. كأنّه قيل: و يرزق ثمرات كلّ شي ء رزقا. أو حال من الثمرات، بمعنى مرزوقا، لتخصّصها بالإضافة، كما تنتصب عن النكرة المتخصّصة بالصفة. أو مفعول له.

ثمّ خوّفهم من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم، من إنعام اللّه عليهم بالرقود في ظلال الأمن و خفض العيش، فغمطوا (2) النعمة، و قابلوها بالأشر و البطر، فقال:

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَها بأن أعرضوا عن الشكر و تكبّروا. يعني: أعطيناهم المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حقّ النعمة و كفروا، فأهلكناهم.

و انتصابها إمّا بحذف الجارّ و إيصال الفعل، كقوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ (3). و إمّا على الظرف بنفسها، بدون حذف الجارّ، كقولك: زيد ظنّي مقيم (4).

ص: 181


1- النمل: 23.
2- غمط النعمة: لم يشكرها. و الأشر و البطر: شدّة المرح، و الاستخفاف بالنعمة، و صرفها إلى غير وجهها طغيانا.
3- الأعراف: 155.
4- أي: في ظنّي.

أو بتقدير حذف المضاف، أي: أيّام معيشتها. و إمّا بتضمين «بطرت» معنى: كفرت و غمطت. و البطر سوء احتمال الغنى، و هو أن لا يحفظ حقّ اللّه فيه.

فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ إشارة إلى ما يعرفونه من ديار عاد و ثمود و قوم لوط، أي:

صارت مساكنهم خاوية خالية عن أهلها، و هي قريبة منكم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف، و هو موضع بين اليمن و الشام،

و ديار ثمود بوادي (1) القرى، و ديار قوم لوط بسدوم، و كانوا هم يمرّون بهذه المواضع في تجاراتهم.

لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ من السكنى إِلَّا قَلِيلًا زمانا قليلا، إذ لا يسكنها إلّا المارّة يوما أو بعض يوم. أو من شؤم معاصي المهلكين، لم يبق من سكنها من أعقابهم إلّا قليلا. وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ المالكين لتلك المساكن من ساكنيها، أي:

تركناها على حال لا يسكنها أحد يتصرّف فيها.

وَ ما كانَ رَبُّكَ و ما كانت عادته مُهْلِكَ الْقُرى في كلّ وقت حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها في القرية الّتي هي أصلها، و القرى الّتي ما سواها من توابعها، لأنّ أهلها تكون أفطن و أنبل. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإلزام الحجّة و قطع المعذرة، مع علمه أنّهم لا يؤمنون. أو و ما كان في حكم اللّه و سابق قضائه، أن يهلك القرى في الأرض حتّى يبعث في أمّ القرى- يعني: مكّة- رسولا، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ لنفوسهم، بتكذيب الرسل، و العتوّ في الكفر.

و هذا بيان لعدله و تقدّسه عن الظلم، حيث أخبر بأنّه لا يهلكهم إلّا إذا استحقّوا الإهلاك بظلمهم، و لا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلّا بعد تأكيد الحجّة و الإلزام ببعثة الرسل، و لا يجعل علمه بأحوالهم حجّة عليهم. و نزّه ذاته أن يهلكهم

ص: 182


1- وادي القرى: واد بين المدينة و الشام، من أعمال المدينة، كثير القرى. و سدوم: بلدة من أعمال حلب، و من مدائن قوم لوط.

و هم غير ظالمين، كما قال: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (1).

فنصّ في قوله: «بظلم» أنّه لو

أهلكهم و هم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، و أنّ حاله في غناه و حكمته منافية للظلم، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه، كما قال:

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (2).

[سورة القصص [28]: الآيات 60 الى 67]

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ [60] أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [61] وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [62] قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [63] وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ [64]

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [65] فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ [66] فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [67]

ص: 183


1- هود: 117.
2- البقرة: 143.

و لمّا كانت الرغبة المفرطة في الزخارف الدنيويّة الفانية، و التعلّق التامّ بها، مانعة عن التوجّه إلى اللّه، و إلى الأحكام الدينيّة، و التزوّد للآخرة، و موجبة للحرمان عن الوصول إلى الدرجات الباقية، و المراتب السرمديّة، رغّب اللّه تعالى عنها العباد بقوله:

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و أيّ شي ء أصبتموه من أسباب الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها فإنّما هو تمتّع و زينة تتمتّعون و تتزيّنون به أيّاما قلائل، و هي مدّة الحياة المنقضية، و مع ذلك متضمّن للتبعيض و أنواع الكدورات.

وَ ما عِنْدَ اللَّهِ و هو ثوابه الأبدي خَيْرٌ في نفسه من ذلك، لأنّه خالص عن شوب التنغّص، و بهجة

كاملة. وَ أَبْقى لأنّه أبديّ أَ فَلا تَعْقِلُونَ فتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير. و قرأ أبو عمرو بالياء. و هو أبلغ في الموعظة.

و عن ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى خلق الدنيا و جعل أهلها ثلاثة أصناف:

المؤمن، و المنافق، و الكافر. فالمؤمن يتزوّد، و المنافق يتزيّن، و الكافر يتمتّع.

و لمّا كانت الآية الّتي تلي هذه الآية كالنتيجة لها رتّبت عليها بالفاء، فقال:

أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي: وعدا بالجنّة الّتي هي أحسن المحاسن و أنفع المنافع، فإنّ حسن الوعد بحسن الموعود فَهُوَ لاقِيهِ فهو مدركه لا محالة، لامتناع الخلف في وعده. و لذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببيّة.

كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الّذي هو مشوب بالآلام، مكدّر بالمتاعب، مستعقب بالتحسّر على الانقطاع ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب، أو العذاب. و نحوه: لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (1). فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (2). و «ثمّ» للتراخي في الزمان أو الرتبة.

و قرأ نافع و ابن عامر في رواية و الكسائي: ثمّ هو بسكون الهاء، تشبيها

ص: 184


1- الصافّات: 57 و 127.
2- الصافّات: 57 و 127.

للمنفصل بالمتّصل.

قيل: نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي جهل. و عن السدّي: نزلت في عليّ عليه السّلام و أبي جهل. و قيل: في عمّار بن ياسر و الوليد بن المغيرة. و الأولى أن يكون عامّا فيمن كان بهذه الصفة.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ ينادي اللّه المشركين. عطف على «يَوْمَ الْقِيامَةِ». أو منصوب ب: اذكر. فَيَقُولُ تقريعا و تبكيتا أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي: تزعمونهم شركائي. فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما. و يجوز حذف المفعولين في باب «ظننت»، و لا يصحّ الاقتصار على أحدهما.

قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بثبوت مقتضاه و حصول مؤدّاه. و هو قوله:

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (1). و غيره من آيات الوعيد. و هم الشياطين، أو أئمّة الكفر و رؤوس الشرك.

رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا الّذين أضللناهم عن الدين. فحذف الراجع إلى الموصول. يعنون: أتباعهم. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي: أغويناهم فغووا غيّا مثل ما غوينا. و هو استئناف للدلالة على أنّهم غووا باختيارهم، فإنّهم لم يفعلوا بهم إلّا وسوسة و تسويلا، لا قسرا و إلجاء. فلا فرق إذن بين غيّنا و غيّهم، و إن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء اللّه لهم إلى الإيمان، بما وضع فيهم من أدلّة العقل، و ما بعث إليهم و أنزل عليهم من الرسل و الكتب المشحونة بالوعد و الوعيد، و المواعظ و الزواجر. و ناهيك بذلك صارفا عن الكفر، و داعيا إلى الإيمان.

و يجوز أن يكون «الّذين» صفة ل «هؤلاء»، و «أغويناهم» خبره، لأجل ما اتّصل به، فأفاده زيادة على الصفة. و هو و إن كان فضلة لكنّه صار من اللوازم.

تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و ممّا اختاروه من الكفر هوى منهم. و هو تقرير للجملة

ص: 185


1- هود: 119.

المتقدّمة، و لذلك خلت عن العاطف. و كذا قوله: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي: لم يكونوا يعبدوننا، و إنّما كانوا يعبدون أهواءهم. و قيل: «ما» مصدريّة متّصلة ب «تبرّأنا» أي: تبرّأنا من عبادتهم إيّانا.

وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ و يقال للأتباع: أدعوا الّذين عبدتموهم من دون اللّه، و زعمتم أنّهم شركائي، لينصروكم و يدفعوا عنكم العذاب.

فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الإجابة و النصرة وَ رَأَوُا الْعَذابَ لازما بهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لوجه

من الحيل يدفعون به العذاب. أو إلى الحقّ- و هو الإيمان- لمّا رأوا العذاب. و قيل: «لو» للتمنّي، أي: تمنّوا أنّهم كانوا مهتدين.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأوّل، فإنّه تعالى يسأل أوّلا عن إشراكهم به، ثمّ عن تكذيبهم الأنبياء. فإنّ اللّه سبحانه حكى أوّلا ما يوبّخهم به من اتّخاذهم له شركاء. ثمّ ما يقوله الشيطان أو أئمّتهم عند توبيخهم، لأنّهم إذا وبّخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأنّ الشياطين هم الّذين استغووهم و زيّنوا لهم عبادتها. ثمّ ما يشبه الشماتة بهم، من استغاثتهم آلهتهم، و خذلانهم لهم، و عجزهم عن نصرتهم. ثمّ ما يبكّتون به، من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل و إزاحة العلل.

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ فخفيت عليهم الأخبار عمّا أجابوا به رسلهم يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا، لا تهتدي إليهم.

و أصل الكلام: فعموا عن الأنباء، أي: صاروا كالعمي، لانسداد طرق الأخبار عليهم، كما ينسدّ طرق الأرض على العمي، لكنّه عكس مبالغة. و تعدية الفعل ب «على» لتضمّنه معنى الخفاء. و سمّيت حججهم أنباء، لأنّها أخبار يخبر بها، فهم لا يحتجّون و لا ينطقون بحجّة.

و إذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول، و يفوّضون

ص: 186

إلى علم اللّه تعالى، كما قال اللّه سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (1) فما ظنّك بالضّلال من أممهم؟! فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب، لفرط الدهشة. أو لعلمه بأنّه مثله في عدم علمه بالجواب.

ثمّ ذكر سبحانه أحوال التائبين منهم بقوله: فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً أي: جمع بين

الإيمان و العمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند اللّه. و «عسى» تحقيق على عادة الكرام، أو ترجّ من التائب، بمعنى:

فليتوقّع أن يفلح.

[سورة القصص [28]: الآيات 68 الى 70]

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [68] وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ [69] وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [70]

و لمّا كان المفلح مختار اللّه تعالى ذكر عقيبه: أنّ الاختيار إلى اللّه سبحانه، و الخلق و الحكم له، لكونه قادرا عالما على الكمال، فقال:

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ لا موجب عليه، و لا مانع له ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي: التخيّر، كالطيرة بمعنى التطيّر، أي: ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. فهذا بيان لقوله: «و يختار»، و لهذا خلا عن العاطف. و المعنى: أنّ الخيرة للّه في أفعاله، و هو أعلم بوجوه الحكمة فيها، فكيف يجوز لأحد أن يختار عليه.

و قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ

ص: 187


1- المائدة: 109.

الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (1). يعني: لا يبعث اللّه الرسل باختيار المرسل إليهم.

و قيل: «ما» موصولة مفعول ل «يختار»، و الراجع إليه محذوف. و المعنى:

و يختار الّذي كان لهم فيه الخير و الصلاح.

سُبْحانَ اللَّهِ تنزيه للّه أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختياره اختيار وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم، أو مشاركة ما يشركونه به.

ثمّ برهن على صحّة اختياره، و فساد اختيار غيره عليه، بقوله: وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ أي: ما يخفونه و ما يظهرونه، فإليه الاختيار، و

لا اختيار لغيره عليه.

و قيل: معناه: يعلم ما تخفي صدورهم من عداوة رسول اللّه، و ما يظهرون من الطعن فيه، كقولهم: هلّا اختير عليه غيره في النبوّة.

وَ هُوَ اللَّهُ المستحقّ للعبادة. ثمّ قرّر ذلك بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا أحد يستحقّها إلّا هو. و مثل ذلك قولك: الكعبة القبلة، لا قبلة إلّا هي.

لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ لأنّه المولي للنعم كلّها، عاجلها و آجلها.

يحمده المؤمنون في الآخرة ابتهاجا بفضله، و التذاذا بحمده. و هو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (2). الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (3). كما يحمدونه في الدنيا تكليفا و تأدية لأداء شكره.

وَ لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ بين عباده، بما يميّز به الحقّ من الباطل. قال ابن عبّاس: يحكم لأهل طاعته بالمغفرة و الفضل، و لأهل معصيته بالشقاء و الويل.

وَ إِلَيْهِ و إلى جزائه و حكمه تُرْجَعُونَ يوم النشور.

ص: 188


1- الزخرف: 31.
2- فاطر: 34.
3- الزمر: 74.

[سورة القصص [28]: الآيات 71 الى 75]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ [71] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ [72] وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [73] وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [74] وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [75]

ثمّ بيّن سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته الدالّ على توحيده، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

قُلْ يا محمّد لأهل مكّة الّذين يعبدون آلهة غيري، تنبيها على خطئهم:

أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائما لا يكون معه نهار.

و اشتقاقه من السرد، و هو المتابعة. و الميم مزيدة، على وزن فعمل، كميم دلامص من الدلاص (1). إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق الغائر.

مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ كضياء النهار تبصرون فيه. كان حقّه: هل إله، فذكر ب «من» على زعمهم أنّ غيره آلهة. و عن ابن كثير: بضئاء بهمزتين. أَ فَلا

ص: 189


1- الدلاص: اللين البراق.

تَسْمَعُونَ ما يبيّنه اللّه تعالى من أدلّة توحيده، سماع تدبّر و استبصار.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها في وسط السماء، أو تحريكها على مدار فوق الأفق مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال.

و لعلّه لم يصف الضياء بما يقابله- و هو: تتصرّفون فيه- لأنّ الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه، و لا كذلك اللّيل. و لأنّ منافع الضوء متكاثرة، ليس التصرّف في المعاش وحده، و الظلّام ليس بتلك المنزلة. و لذلك قرن بالضياء «أَ فَلا تَسْمَعُونَ» و بالليل أَ فَلا تُبْصِرُونَ لأنّ استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر، فإنّ السمع يدرك ما لا يدرك البصر، من ذكر منافعه، و وصف فوائده.

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في النهار بأنواع المكاسب وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لكي تعرفوا نعمة اللّه في ذلك فتشكروه عليها.

و لمّا بيّن توحيده بالأدلّة المذكورة، كرّر النداء للمشركين ب «أين شركائي» تقريعا بعد تقريع، و تبكيتا

بعد تبكيت، للإشعار بأنّه لا شي ء أجلب لغضب اللّه تعالى من الإشراك، كما لا شي ء أدخل في مرضاته من توحيده، فقال:

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قيل: النداء الأوّل (1) لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغيّ الّذي كانوا عليه و فساد رأيهم. و الثاني للتعجيز عن إقامة البرهان على ما طولبوا به بحضرة الأشهاد، و إنّما كان محض تشهّ و هوى.

وَ نَزَعْنا و أخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً و هو نبيّهم يشهد عليهم، فإنّ أنبياء الأمم شهداء عليهم، يشهدون بما كانوا عليه فَقُلْنا للأمم هاتُوا

ص: 190


1- في الآية: 62 من هذه السورة.

بُرْهانَكُمْ حجّتكم على صحّة ما كنتم تدينون به، من الشرك و مخالفة الرسول.

فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهيّة، لا يشاركه فيها أحد، لا لهم و لشياطينهم. فلزمتهم الحجّة، لأنّ المشهود عليه إذا لم يأت بمخلص عن بيّنة الخصم، توجّهت القضيّة عليه و لزمه الحكم.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و غاب عنهم غيبة الشي ء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل و الكذب.

[سورة القصص [28]: الآيات 76 الى 78]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [76] وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [77] قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [78]

و لمّا قال سبحانه:

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى (1) أكّد ذلك بما أوتي قارون من النعم الفانية الّتي بها خسف في الأرض، و حرم من النعم الباقية، فقال:

ص: 191


1- القصص: 60.

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فإنّه كان ابن عمّه يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. و كان موسى بن عمران بن قاهث. و قيل: كان موسى ابن أخيه. فقارون كان عمّه. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: هو ابن خالته.

و هذا منقول عن عطا، عن ابن عبّاس. و كان يسمّى المنوّر، لحسن صورته. و كان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، و لكنّه نافق كما نافق السامريّ.

فَبَغى عَلَيْهِمْ فطلب الفضل عليهم، و أن يكونوا تحت أمره. أو تكبّر عليهم، أو ظلمهم.

قيل: و ذلك حين ملّكه فرعون على بني إسرائيل، أو حسدهم، لما روي أنّه قال لموسى عليه السّلام: لك الرّسالة، و لهارون الحبورة (1)، و أنا في غير شي ء، إلى متى أصبر؟ قال موسى عليه السّلام: هذا صنع اللّه. قال: و اللّه لا أصدّقك حتّى تأتي بآية. فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجي ء كلّ واحد بعصاه، فحزمها (2) و ألقاها في القبّة الّتي كان الوحي ينزل عليه فيها. و كانوا يحرسون عصيّهم بالليل، فأصبحوا و إذا بعصا هارون تهتزّ، و لها ورق أخضر، و كانت من شجر اللوز. فقال قارون: ما هو بأعجب ممّا تصنع من السحر.

وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ من الأموال المدّخرة ما أي: الّذي إِنَّ مَفاتِحَهُ مفاتيح صناديقه، جمع مفتح بالكسر. و هو ما يفتح به الأبواب. و قيل: خزائنه.

و قياس واحدها: المفتح بالفتح. لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ خبر «إنّ»، و الجملة صلة «ما»، و هو ثاني مفعولي «آتى». و «تنوء» من: ناء به الحمل، إذا أثقله حتّى أماله. و العصبة و العصابة الجماعة الكثيرة. يقال: اعصوصبوا إذا اجتمعوا.

قيل: كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستّون بغلا، لكلّ خزانة مفتاح، و لا يزيد

ص: 192


1- الحبورة: الإمامة. مأخوذة من الحبر، بمعنى: الرئيس في الدين.
2- أي: شدّها.

المفتاح على أصبع، و كانت من جلود. و قال أبو رزين: يكفي الكوفة مفتاح، أي:

كنز واحد من كنوزه.

إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ منصوب ب «تنوء» لا تَفْرَحْ لا تبطر و لا تمرح. و الفرح بالدنيا مذموم مطلقا، لأنّه نتيجة حبّها و الرضا بها، و الذهول عن ذهابها، فإنّ العلم بأنّ ما فيها من اللذّة مفارقة لا محالة يوجب الترح (1)، كما قال (2):

أشدّ الغمّ عندي في سرورتيقّن عنه صاحبه انتقالا

و لذلك قال سبحانه: وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ (3).

و لمّا كانت محبّة الدنيا و ما فيها مانعة من محبّة اللّه تعالى قال عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي: بزخارف الدنيا.

وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ و اطلب فيما أعطاك اللّه من الغنى الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تصرفه فيما يوجبها لك من وجوه البرّ و سبيل الخير، فإنّ المقصود منه أن يكون وصلة إليها.

وَ لا تَنْسَ و لا تترك ترك المنسيّ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا و هو أن تحصّل بها آخرتك، فإنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الّذي يعمل به للآخرة. و روي في معناه عن عليّ عليه السّلام: «لا تنس قوّتك و شبابك و نشاطك و غناك أن تطلب بها الآخرة».

قيل: معناه خذ منها ما يكفيك و يصلحك. فإن كان قتورا شحيحا فقيل له: كل و اشرب و استمتع بما آتاك اللّه

من الوجه الّذي أباحه اللّه لك، فإنّ ذلك غير محظور عليك.

وَ أَحْسِنْ إلى عباد اللّه كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم عليك. و قيل:

ص: 193


1- التّرح: الحزن و الهمّ.
2- لأبي الطيب. انظر ديوانه (طبعة دار صادر): 140.
3- الحديد: 23.

أحسن بالشكر و الطاعة، كما أحسن إليك بالإنعام.

وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ نهي له عمّا كان عليه من الظلم و البغي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لسوء أفعالهم. قيل: إنّ القائل بذلك موسى عليه السّلام.

قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ أعطيت هذا المال الكثير عَلى عِلْمٍ عِنْدِي على استحقاق و استيجاب، لما فيّ من العلم الّذي فضّلت به على الناس، و استوجبت به التفوّق عليهم بالجاه و المال.

و «على علم» في موضع الحال. و «عندي» صفة له، أو متعلّق ب «أوتيته»، كقولك: الأمر عندي كذا، أي: في ظنّي و اعتقادي. و هو علم التوراة، فإنّه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة بعد موسى و هارون و يوشع و كالب عليهم السّلام. و قيل: العلم بكنوز يوسف عليه السّلام.

و عن سعيد بن المسيّب: كان موسى عليه السّلام يعلم علم الكيمياء، فأفاد يوشع بن نون ثلثه، و كالب بن يوفنّا ثلثه، و قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتّى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص و النحاس فيجعلهما ذهبا.

و قيل: علّم اللّه موسى الكيمياء، فعلّمه موسى أخته، فعلّمته أخته قارون.

و قيل: هو بصّره بأنواع التجارة و الدهقنة، و سائر المكاسب.

ثمّ قال سبحانه على وجه التوبيخ: أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً أي: قد قرأ قارون في التوراة، و سمع من موسى و حفّاظ التواريخ، أن اللّه

تعالى قد أهلك القرون الخالية الّذين هم أقوى منه، و أغنى و أكثر جماعة و عددا، أو أكثر جمعا للمال، كقوم عاد و ثمود و قوم لوط.

و قيل: هذا ردّ لعلمه بذلك، لأنّه لمّا قال: «أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» فترفّع بالعلم و تعظّم به، قيل: أ عنده مثل ذلك العلم الّذي ادّعاه، و رأى نفسه به مستوجبة لكلّ نعمة، و لم يعلم هذا العلم النافع، حتّى يقي به نفسه مصارع الهالكين؟

ص: 194

و لمّا ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الّذين كانوا أقوى منه و أغنى، أكّد ذلك بقوله:

وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام، فإنّه تعالى مطّلع عليها، فلا يحتاج إلى سؤالهم عنها. أو سؤال معاتبة، فإنّهم يعذّبون بها بغتة.

و ملخّص المعنى: أنّ اللّه تعالى مطّلع على ذنوب المجرمين كلّهم، فيعاقبهم عليها لا محالة. و هذا كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ (1). و أمّا قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (2) فإنّما هو سؤال توبيخ و تقريع.

[سورة القصص [28]: الآيات 79 الى 82]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [79] وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ [80] فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [81] وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [82]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ روي: أنّه خرج على بغلة شهباء عليه

ص: 195


1- الرحمن: 39.
2- الحجر: 92.

الأرجوان (1)، و عليها سرج من ذهب، و معه أربعة آلاف على زيّه. و قيل: عليهم و على خيولهم الديباج الأحمر، و عن يمينه ثلاثمائة غلام، و عن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهنّ الحليّ و الديباج. و قيل: في تسعين ألفا عليهم المعصفرات (2)، و هو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر. و قال الحسن: خرج عليهم في الحمرة و الصفرة.

قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا على ما هو عادة الناس من الرغبة يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ تمنّوا مثله الّذي يسمّى الغبطة، لا عينه، حذرا عن الحسد الّذي يتمنّى الرجل أن يكون نعمة صاحبه له دونه إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ نصيب وافر من أمر الدنيا عَظِيمٍ و الحظّ- لغة-: الجدّ. و هو البخت و الدولة. و صفوه بأنّه مجدود مبخوت. يقال: فلان ذو حظّ، و حظيظ، و محظوظ.

وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة من المؤمنين المصدّقين بوعد اللّه للمتمنّين وَيْلَكُمْ أصله الدعاء بالهلاك، ثمّ استعمل في الزجر و الردع و البعث على ترك ما لا يرتضى، كما استعمل: لا أبالك، في الحثّ على الفعل. و أصله الدعاء على الرجل المتّهم في النسب من جانب الأب. ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ممّا أوتي قارون، بل من الدنيا و ما فيها.

وَ لا يُلَقَّاها الضمير فيه للكلمة الّتي تكلّم بها العلماء. أو للثواب، فإنّه بمعنى المثوبة أو الجنّة. أو للإيمان و العمل الصالح، فإنّهما في معنى السيرة و الطريقة إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات، و عن المعاصي.

روي: أنّ قارون كان يؤذي موسى عليه السّلام في كلّ وقت، و هو يداريه للقرابة الّتي بينهما، حتّى نزلت آية الزكاة، فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار، و عن كلّ ألف درهم على درهم. فحسبه فاستكثره، فشحّت به نفسه. فجمع بني إسرائيل و قال: إنّ

ص: 196


1- الأرجوان: قطيفة حمراء. و الأرجوان: صبغ أحمر. و هو معرّب: أرغوان الفارسيّة.
2- المعصفر: الثوب المصبوغ بالعصفر. و هو صبغ أصفر اللون.

موسى يريد أن يأخذ أموالكم.

فقالوا: أنت كبيرنا و سيّدنا، فمر بما شئت.

قال: نرشو فلانة البغيّ حتّى ترمي موسى بنفسها، فتفضحه بين يدي بني إسرائيل ليرفضوه. فجعل لها ألف دينار. و قيل: طشتا من ذهب مملوءة ذهبا. و قيل:

حكّمها في ماله. و قيل: أعطاها خريطتين عليهما خاتمه.

و قالت: يا ويلتي قد عملت كلّ فاحشة، فما بقي إلّا أن افتري على نبيّ اللّه! فلمّا كان يوم عيد قام موسى خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، و من افترى جلدناه، و من زنا و هو غير محصن جلدناه، و إن أحصن رجمناه.

فقال قارون: و إن كنت أنت؟

قال: و إن كنت أنا.

قال: فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنّك فجرت بفلانة.

فأحضرت. فناشدها موسى بالّذي فلق البحر و أنزل التوراة أن تصدق.

فتداركها اللّه فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي.

فخرّ موسى ساجدا يبكي، و قال: يا ربّ إن كنت رسولك فاغضب لي.

فأوحي إليه: أن مر الأرض بما شئت، فإنّها مطيعة لك.

فقال: يا بني إسرائيل إنّ اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، و من كان معي فليعتزل. فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثمّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب. ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط. ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق. و قارون و أصحابه يتضرّعون إلى موسى، و يناشدونه باللّه و الرحم، و موسى لا يلتفت إليهم، لشدّة غضبه. ثمّ قال: خذيهم، فانطبقت عليهم.

ص: 197

و أوحى اللّه إلى موسى: ما أفظّك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم. أما و عزّتي لو إيّاي دعوا مرّة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.

فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنّما دعا موسى على قارون ليستبدّ بداره و كنوزه. فدعا اللّه حتّى خسف بداره و أمواله، كما قال اللّه سبحانه:

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أعوان. مشتقّة من: فأوت رأسه، إذا ميّلته. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيدفعون عنه عذاب اللّه وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من المنتقمين من موسى. أو الممتنعين من عذاب اللّه. من قولهم:

نصره من عدوّه فانتصر، إذا منعه منه فامتنع.

وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ منزلته من الدنيا بِالْأَمْسِ منذ زمان قريب، حين خرج عليهم في زينته يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ هذه كلمة تندّم و تنبّه على الخطأ.

مركّبة عند البصريّين من «وي» للتعجّب، و «كأنّ» للتشبيه، و الضمير للشأن.

و المعنى: أنّ القوم تنبّهوا على خطئهم في تمنّيهم منزلة قارون و تندّموا، ثمّ قالوا: كأنّ اللّه، أي: ما أشبه الأمر أنّ اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لمن يشاء منهم، أي: بمقتضى مشيئته و حكمته، لا لكرامة تقتضي البسط، و لا لهوان يوجب القبض.

و عند الكوفيّين مشتقّة من «ويك» بمعنى: ويلك، و أنّ تقديره: ويك اعلم أنّ اللّه يبسط ... إلخ.

لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أنعم اللّه علينا بنعمه، فلم يعطنا مثل ما أعطى قارون لَخَسَفَ بِنا لأجله. و قرأ حفص بفتح الخاء و السين.

وَيْكَأَنَّهُ و ما أشبه الحال بأنّه لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا يفوز بثواب اللّه، و لا ينجو من عقابه، الجاحدون لنعمة اللّه. أو المكذّبون برسله، و بما وعدوا لهم من ثواب الآخرة.

ص: 198

[سورة القصص [28]: الآيات 83 الى 84]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [83] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [84]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إشارة تعظيم و تفخيم لشأنها، كأنّه قال: تلك الّتي سمعت خبرها و بلغك وصفها. و الدار صفة، و الخبر نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ غلبة و قهرا وَ لا فَساداً ظلما على الناس، كما أراد فرعون و قارون وَ الْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ للّذين يجتنبون عمّا لا يرضاه اللّه. علّق الوعد بترك إرادة العلوّ و الفساد، و لم يقل: لا تعلو و لا تفسدوا، كما علّق الوعيد بالركون في قوله: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (1).

و روي عن عليّ عليه السّلام: «أنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها».

و عن الفضيل أنّه قرأها ثمّ قال: ذهبت الأماني هاهنا.

ثمّ أكّد ذلك بقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا و قدرا و وصفا وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير، تهجينا لحالهم، و زيادة تبغيض للسيّئة إلى قلوب السامعين إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: إلّا مثل ما كانوا يعملون. فحذف المثل، و أقيم «ما كانُوا يَعْمَلُونَ» مقامه، مبالغة في المماثلة.

و هذا من فضله العظيم، و كرمه الواسع، أن لا يجزي السيّئة إلّا بمثلها،

ص: 199


1- هود: 113.

و يجزي الحسنة بعشر أمثالها و بسبعمائة. و هو معنى قوله: «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها».

[سورة القصص [28]: الآيات 85 الى 88]

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [85] وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [86] وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [87] وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [88]

و لمّا حكم بأنّ العاقبة الحسنى للمتّقين، و أكّد ذلك بوعد المحسنين و وعيد المسيئين، وعد رسوله بالعاقبة المحمودة، فقال:

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أوجب عليك تلاوته، و تبليغه، و العمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أيّ معاد، أي: معاد ليس لغيرك من البشر. و تنكير المعاد لذلك.

و هو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه.

و قيل: المراد به مكّة، فإنّ اللّه سبحانه ردّه إليها يوم الفتح. و وجه تنكيره: أنّها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، و مرجعا له اعتداد، لغلبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليها، و قهره لأهلها، و لظهور عزّ الإسلام و أهله، و ذلّ الشرك و حزبه. و لمّا كانت السورة مكّيّة، فكأنّ اللّه وعده و هو بمكّة في أذى من أهلها: أنّه يجعله مهاجرا منها، ثمّ يعيده إليها ظاهرا ظافرا.

ص: 200

و روي: أنّه لمّا بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده و مولد آبائه و حرمهم.

فنزل جبرئيل فقال له: أ تشتاق إلى مكّة؟ قال: نعم. فأوحي هذه الآية إليه.

و لمّا وعد اللّه رسوله الردّ إلى معاد، قال تقريرا لهذا الوعد: قُلْ للمشركين:

رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى و ما يستحقّه من الثواب و النصر في معاده. يعني: به نفسه. و «من» منتصب بفعل يفسّره «أعلم». وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و ما يستحقّه من العذاب و الإضلال. يعني به المشركين.

و قرّر الوعد إلى معاد بقوله: وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي:

سيردّك إلى معادك، كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و لكن ألقاه رحمة منه. و يجوز أن يكون استثناء متّصلا محمولا على المعنى. كأنّه قال: و ما ألقي إليك الكتاب إلّا رحمة.

فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم، و التحمّل عنهم، و الإجابة إلى طلبتهم.

وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ عن قراءتها و العمل بها بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ بعد وقت إنزاله إليك وَ ادْعُ أمّتك إِلى رَبِّكَ إلى عبادته و توحيده وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمساعدتهم.

و هذا للتهييج و قطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم. و كذا قوله: وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إلّا ذاته، فإنّ ما عداه ممكن هالك في حدّ ذاته، زائل معدوم لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في الخلق وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالحقّ.

ص: 201

ص: 202

[29] سورة العنكبوت

اشارة

و هي تسع و ستّون آية بالإجماع.

عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ المؤمنين و المنافقين».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة العنكبوت و الروم في شهر رمضان ليلة ثلاث و عشرين، فهو و اللّه يا أبا

محمّد من أهل الجنّة، لا أستثني فيه أبدا، و لا أخاف أن يكتب اللّه عليّ في يميني إثما، و إنّ لهاتين السورتين من اللّه مكانا».

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم [1] أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ [2] وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [3] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ [4]

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [5]

ص: 203

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة القصص بذكر الوعد و الوعيد، افتتح هذه السورة بذكر تكليف العبيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ الهمزة للإنكار و التوبيخ. و لا يتعلّق بمعاني المفردات، بل بمضامين الجمل، للدلالة على جهة ثبوتها، و لذلك اقتضى مفعولين متلازمين، أو ما يسدّ مسدّهما، كقوله تعالى: أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ فإنّ معناه: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنّا. فالترك أوّل مفعولي «حسب». و «لقولهم آمنا» المفعول الثاني. و أمّا «غير مفتونين» فمن تتمّة الترك الّذي بمعنى التصيير، كقوله (1): فتركته جزر السباع ينشنه.

ألا ترى أنّك قبل المجي ء بالحسبان تقدر أن تقول: تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنّا، على تقدير: حاصل و مستقرّ قبل اللام. كما تقول: خروجه لمخافة الشرّ، و ضربه للتأديب. و قد كان التأديب و المخافة في قولك: خرجت مخافة الشرّ و ضربته تأديبا، تعليلين. و تقول أيضا: حسبت خروجه لمخافة الشرّ، و ظننت ضربه للتأديب. فتجعلهما مفعولين، كما جعلتهما مبتدأ و خبرا.

و الفتنة: الامتحان بمشاقّ التكاليف، كالمهاجرة، و مجاهدة الأعداء، و رفض الشهوات، و وظائف الطاعات، و أنواع المصائب في الأنفس و الأموال، ليتميّز المخلص من المنافق، و الثابت في الدين من المضطرب فيه، و لينالوا بالصبر عليها إلى الدرجات، فإنّ مجرّد الإيمان و إن كان عن خلوص، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.

و معنى الآية: أحسب الّذين أجروا كلمتي الشهادتين على ألسنتهم، و أظهروا القول بالإيمان، أنّهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمتحنهم اللّه بضروب المحن

ص: 204


1- لعنترة بن شدّاد، و عجزه: يقضمن حسن بنانه و المعصم، انظر ديوانه (طبعة دار بيروت): 26.

في الأنفس و الأموال، حتّى يبلو صبرهم، و ثبات أقدامهم، و صحّة عقائدهم، و نصوح نيّاتهم، ليتميّز المخلص من غير المخلص، و الراسخ في الدين من المضطرب، و المتمكّن من العابد على حرف، كما قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (1).

و روي: أنّها نزلت في ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد جزعوا من أذى المشركين.

و قيل: في عمّار بن ياسر. و كان يعذّب في اللّه.

و قيل: في ناس أسلموا بمكّة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم حتّى تهاجروا. فخرجوا، فتبعهم المشركون فردّوهم. فلمّا نزلت كتبوا بها إليهم، فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، و منهم من نجا.

ثمّ سلّى المؤمنين ليتحمّلوا صنوف المصائب و فنون النوائب، بقوله: وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ متّصل ب «أحسب» كقولك: ألا يمتحن فلان و قد امتحن من هو خير منه. أو ب «لا يفتنون». و المعنى: أنّ أتباع الأنبياء قبلي قد

أصابهم من الفتن و المحن نحو ما أصابهم، أو ما هو أشدّ منه، فصبروا، كما قال: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا (2) الآية. و لمّا كان ذلك سنّة قديمة جارية في الأمم كلّها، فلا يتوقّع خلافه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرّق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه. و يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم و عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه».

ص: 205


1- آل عمران: 186.
2- آل عمران: 146.

فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فليتعلّقنّ علمه تعالى بالامتحان تعلّقا حاليّا، يتميّز به الّذين صدقوا في الإيمان و الّذين كذبوا فيه، و ينوط به ثوابهم و عقابهم. و لذلك قيل: المعنى: و ليميّزنّ أو ليجازينّ.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الكفر و المعاصي، فإنّ العمل يعمّ أفعال القلوب و الجوارح أَنْ يَسْبِقُونا أن يفوتونا فوت السابق لغيره، و يعجزونا، فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم. يعني: أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة، و هم لم يطمعوا في الفوت، و لم يحدّثوا به نفوسهم، و لكنّهم لغفلتهم، و قلّة فكرهم في العاقبة، و إصرارهم على المعاصي، في صورة من يقدر ذلك، و يطمع فيه. و نظيره: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ (1). وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (2).

و اعلم أنّ «أن يسبقونا» سادّ مسدّ مفعولي «حسب»، لاشتمال صلة «أن» على مسند و مسند إليه، كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ (3).

و يجوز أن يضمنّ «حسب» معنى قدّر، و «أم» منقطعة. و معنى الإضراب فيها: أنّ هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأنّ ذلك يقدّر أنّه لا يمتحن لإيمانه، و هذا يظنّ أنّه لا يجازى بمساويه. و لهذا عقّبه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي: بئس الّذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا.

فحذف المخصوص بالذمّ.

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ الوصول إلى العاقبة، من الموت و البعث و الحساب و الجزاء. على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيّده بعد زمان مديد، و قد اطّلع السيّد على ما يأتي و يذر، فإمّا أن يلقاه ببشر و ترحيب لما رضي من أفعاله، أو

ص: 206


1- العنكبوت: 22.
2- الأنفال: 59.
3- البقرة: 214.

بسخط لما سخط منها.

و تحرير المعنى: من كان يأمل أن يلقى الكرامة من اللّه و البشرى فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ فإنّ الموت الّذي هو الوقت المضروب للقائه لَآتٍ لجاء لا محالة. و هذا كقوله: من كان يرجو لقاء الملك، فإنّ يوم الجمعة قريب، إذا علم أنّه يقعد للناس يوم الجمعة. و إذا كان وقت اللقاء آتيا كان اللقاء كائنا لا محالة، فليبادر ما يحقّق أمله، و يصدّق رجاءه، و ما يستوجب القربة و الرضا.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأفعالهم. فهو حقيق بالتقوى و الخشية.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 6 الى 7]

وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [6] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [7]

و لمّا رغّب سبحانه في تحقيق الرجاء بفعل الطاعة، عقّبه بالترغيب في المجاهدة الّتي هي أشقّ الطاعات و أحمز العبادات، فقال:

وَ مَنْ جاهَدَ نفسه الّتي هي أعدى أعدائه بالصبر على مضض الطاعة، و الكفّ عن الشهوات المنهيّة، و الشيطان و أعوانه، بدفع وساوسهم، و جاهد أعداء الدين لإحيائه فَإِنَّما

يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأنّ منفعته لها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا حاجة به إلى طاعتهم، و إنّما كلّف عباده رحمة عليهم، و مراعاة لصلاحهم.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الّتي اقترفوها قبل ذلك، بأن يسقط عذاب ما تقدّم لهم من الكفر و المعاصي، ببركة الإيمان و ما يتبعه

ص: 207

من الطاعات وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي: أحسن جزاء أعمالهم الّتي عملوها في الإسلام.

[سورة العنكبوت [29]: آية 8]

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [8]

و لمّا أمر سبحانه بمجاهدة النفس و الشياطين، و كفرة الإنس الّذين هم أعداء الدين، بيّن حال الأبوين في ذلك، فقال:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً بإيتاء والديه فعلا ذا حسن. أو فعلا كأنّ في ذاته عين الحسن، لفرط حسنه، كقوله: وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (1).

و قيل: «حسنا» منتصب بفعل مضمر، على تقدير قول مفسّر للتوصية، أي:

قلنا: أولهما، أو افعل بهما معروفا، لأنّ التوصية بهما دالّة عليه.

و وصّى يجري مجرى: أمر، معنى و تصرّفا. يقال: وصيّت زيدا بأن يفعل خيرا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. و منه قوله تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ (2)، أي: أمرهم بكلمة التوحيد.

وَ إِنْ جاهَداكَ و إن نازعاك أبواك أيّها الإنسان لِتُشْرِكَ بِي في العبادة ما لَيْسَ لَكَ بِهِ بإلهيّته عِلْمٌ عبّر عن نفيها بنفي العلم بها، إشعارا بأنّ ما لا يعلم صحّته لا يجوز اتّباعه، و إن لم يعلم بطلانه، فضلا عمّا علم بطلانه فَلا تُطِعْهُما في ذلك، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. و لا بدّ من إضمار القول إن لم يضمر قبل.

إِلَيَ إلى جزائي مَرْجِعُكُمْ مرجع من آمن منكم و من أشرك، و من برّ

ص: 208


1- البقرة: 83 و 132.
2- البقرة: 83 و 132.

بوالديه و من عقّ، فأجازيكم حقّ جزائكم فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء عليه.

روي: أنّ سعد بن أبي وقّاص الزهري حين أسلم قالت أمّه- و هي حمنة بنت أبي سفيان بن أميّة بن عبد الشمس-: يا سعد بلغني أنّك قد صبأت، فواللّه لا يظلّني سقف بيت من الضحّ (1) و الريح، و إنّ الطعام و الشراب عليّ حرام حتّى تكفر بمحمّد، و كان أحبّ ولدها إليها. فأبى سعد، و بقيت ثلاثة أيّام كذلك. فجاء سعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شكا إليه. فنزلت هذه الآية، و الّتي في لقمان (2)، و الّتي في الأحقاف (3). فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يداريها و يرضيها بالإحسان.

روي عن بهر بن أبي حكيم، عن أبيه، عن جدّه قال: قلت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا رسول اللّه من أبرّ؟ قال: أمّك. ثمّ قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال:

ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: أباك، ثمّ الأقرب فالأقرب».

و عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات».

قال الكلبي: نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي. و ذلك أنّه أسلم، فخاف أهل بيته، فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فحلفت أمّه أسماء بنت مخزومة بن أبي جندل التميمي: أن لا تأكل، و لا تشرب، و لا تغسل رأسها، و لا تدخل كنّا (4)، حتّى يرجع إليها.

فلمّا رأى ابناها أبو جهل و الحرث ابنا هشام- و هما أخوا عياش لأمّه- جزعها ركبا في طلبه حتّى أتيا المدينة، فلقياه و ذكرا له القصّة، فلم يزالا به حتّى

ص: 209


1- الضحّ: الشمس.
2- لقمان: 15.
3- الأحقاف: 15.
4- الكنّ: البيت.

أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه، و تبعهما. و قد كانت أمّه صبرت ثلاثة أيّام، ثمّ أكلت و شربت. فلمّا خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه، و جلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتّى برى ء من دين محمد جزعا من الضرب، و قال ما لا ينبغي.

فنزلت الآية.

و كان الحرث أشدّهما عليه، فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربنّ عنقه. فلمّا رجعوا إلى مكّة مكثوا حينا، ثمّ هاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون إلى المدينة. و هاجر عياش، و حسن إسلامه. و أسلم الحرث بن هشام، و هاجر إلى المدينة، و بايع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يحضر عياش. فلقيه عياش يوما بظهر قبا، و لم يشعر بإسلامه، فضرب عنقه. فقيل له: إنّ الرجل قد أسلم. فاسترجع عياش و بكى. ثمّ أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بذلك، فنزل: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً (1).

[سورة العنكبوت [29]: آية 9]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [9]

ثمّ حكى اللّه عن حال المؤمنين، فقال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم. و الصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، و الكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين، و متمنّى أنبياء اللّه المرسلين. و قد قال في إبراهيم عليه السّلام: وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (2). أو في مدخلهم. و هو الجنّة.

و هذا نحو قوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.

ص: 210


1- النساء: 92.
2- البقرة: 130.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 10 الى 11]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ [10] وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [11]

ثمّ حكى عن حال المنافقين، فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ بمجرّد اللسان فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بأن عذّبهم الكفرة على الإيمان جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ ما يصيبهم من أذيّتهم في الصرف عن الإيمان كَعَذابِ اللَّهِ في الصرف عن الكفر، أي: إذا أوذي بسبب دين اللّه رجع عن الدين مخافة عذاب الناس، كما ينبغي أن يترك الكافر دينه مخافة عذاب اللّه، فيسوّي بين عذاب فان منقطع، و بين عذاب باق دائم، لقلّة تمييزه. و سمّي أذيّة الناس فتنة، لما في احتمالها من المشقّة.

وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ فتح و غنيمة لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين، فأشركونا في المغنم. و المراد: المنافقون. و قيل: هم قوم ضعف إيمانهم، فارتدّوا من أذى المشركين. و يؤيّد الأوّل قوله: أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإخلاص و النفاق.

ثمّ وعد المؤمنين و أوعد المنافقين، فقال: وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فيجازي الفريقين.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 12 الى 13]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ

ص: 211

بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [12] وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [13]

و بعد ذكر أحوال المؤمنين و المنافقين، بيّن أحوال الكافرين، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا طريقتنا الّتي كنّا عليها وَ

لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ آثامكم عنكم، إن قلتم: إنّ لكم في اتّباع ديننا إثما. يعنون بذلك أنّه لا إثم عليكم في اتّباع ديننا، و لا يكون بعث و لا نشور، فلا يلزمنا شي ء ممّا ضمنّا. و مثل هذا ما يصدر من ضعفة العامّة فيقول لصاحبه: افعل هذا و إثمه في عنقي.

فردّ اللّه عليهم و كذّبهم بقوله: وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «من» الأولى للتبيين، و الثانية مزيدة. و التقدير: و ما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.

إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.

إن قيل: كيف سمّاهم كاذبين، و إنّما ضمنوا شيئا علم اللّه أنّهم لا يقدرون على الوفاء به، و ضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمّى كاذبا، لا حين ضمن و لا حين عجز، لأنّه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب، و هو المخبر عن الشي ء لا على ما هو عليه؟

أجيب: إنّ اللّه سبحانه شبّه حالهم- حيث علم أنّ ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون- بالكاذبين الّذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه. و يجوز أن يريد أنّهم كاذبون، لأنّهم قالوا ذلك و قلوبهم على خلافه، كالكاذبين الّذين يعدون الشي ء و في قلوبهم نيّة الخلف.

و لمّا ذكر كذبهم بحمل خطايا المؤمنين، بيّن ما حملوا بحسب الواقع يوم القيامة، فقال:

ص: 212

وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أثقال ما اقترفته أنفسهم وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ و أثقالا أخر معها غير الخطايا الّتي ضمنوا للمؤمنين حملها. و هي أثقال الإضلال، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شي ء. و هذا كقوله عليه السّلام: «من سنّ سنّة سيّئة» الخبر.

و بهذا المعنى

قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (1).

وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع و تبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل الّتي أضلّوا بها.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 14 الى 15]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ [14] فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [15]

و لمّا ذكر سبحانه حال المجاهد الصابر على أذيّة الكفرة، و حال من كان بخلافه، ذكر قصّة نوح عليه السّلام و صبره على أذى قومه، و تكذيبهم إيّاه في المدّة الطويلة المتمادية، ثمّ عقّب ذلك بذكر غيره من الأنبياء، فقال:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً بعد البعث، إذ روي أنّه بعث على رأس أربعين، و دعا قومه تسعمائة و خمسين، و عاش بعد الطوفان ستّين. و عن وهب: أنّه عاش ألفا و أربعمائة عام.

و لعلّ اختيار هذه العبارة على تسعمائة و خمسين، لأنّ هذا قد يطلق على ما يقرب منه. فكأنّه قيل: تسعمائة و خمسين سنة كاملة وافية العدد.

ص: 213


1- النحل: 25.

و فيه نكتة اخرى: و هي أنّ القصّة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح من أمّته، و ما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تثبيتا له، فكان ذكر رأس العدد الّذي لا رأس أكثر منه، أوقع و أوصل إلى الغرض الّذي هو استطالة السامع مدّة صبره.

و ذكر المميّز أوّلا بالسنة، و ثانيا بالعام، لبشاعة تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد في البلاغة، إلّا إذا وقع ذلك لأجل غرض، من تفخيم أو تهويل أو نحو ذلك.

فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء.

و هو ما أطاف و أحاط بكثرة و غلبة، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما. وَ هُمْ ظالِمُونَ بالكفر.

فَأَنْجَيْناهُ أي: نوحا عليه السّلام وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ و من أركب معه من أولاده و أتباعه. و كانوا ثمانين. و قيل: ثمانية و سبعين، منهم أولاد نوح عليه السّلام: سام، و حام، و يافث، و نساؤهم. و قيل: عشرة، نصفهم ذكور، و نصفهم إناث.

وَ جَعَلْناها أي: السفينة، أو الحادثة و القصّة آيَةً لِلْعالَمِينَ يتّعظون، و يستدلّون بها على صدق نوح و كفر قومه.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 16 الى 17]

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [16] إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [17]

وَ إِبْراهِيمَ عطف على «نوحا». أو منصوب بإضمار: اذكر. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ

ص: 214

اعْبُدُوا اللَّهَ ظرف ل «أرسلنا» أي: أرسلناه حين كمل عقله و تمّ نظره، بحيث عرف الحقّ و أمر الناس به. أو بدل الاشتمال إن قدّر ب: اذكر، فإنّ الأحيان تشتمل على ما فيها. وَ اتَّقُوهُ عن معاصيه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ممّا أنتم عليه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير و الشرّ، و تميّزون ما هو خير ممّا هو شرّ. أو إن كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل، علمتم أنّه خير لكم.

إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً «ما» كافّة. و المعنى: إنّكم تعبدون أصناما من حجارة لا تضرّ و لا تنفع. وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً كذبا في تسميتها آلهة، و ادّعاء شفاعتها عند اللّه. أو تعلمونها و تنحتونها للإفك. و هو استدلال

على شرارة ما هم عليه، من حيث إنّه زور و باطل، للإفك.

إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً هذا دليل ثان على شرارة ذلك، من حيث إنّه لا يجدي بطائل. و «رزقا» يحتمل المصدر، بمعنى: لا يستطيعون أن يرزقوكم رزقا. و أن يراد المرزوق. و تنكيره للتعميم، أي: لا يملكون لكم شيئا من الرزق.

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كلّه، فإنّه هو الرزّاق وحده لا يرزق غيره، لأنّه المالك له دون غيره وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ متوسّلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيّدين لما حفّكم من النعم بشكره. أو مستعدّين للقائه بعبادته، و الشكر له على نعمه، فإنّه إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى حكمه تصيرون يوم القيامة، فيجازيكم على قدر أعمالكم.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 18 الى 23]

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [18] أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ

ص: 215

يَسِيرٌ [19] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [20] يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [21] وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [22]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [23]

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا و إن تكذّبوني فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من قبلي رسلهم، كقوم شعيب و إدريس و نوح و غيرهم، فلم يضرّهم تكذيبهم، و إنّما ضرّوا أنفسهم، حيث حلّ بهم ما حلّ من العذاب بسبب تكذيب الرسل. فكذا تكذيبكم. وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الّذي يزال معه الشكّ. و هو اقترانه بآيات اللّه و معجزاته.

أو و إن كنت مكذّبا فيما بينكم، فلي في سائر الأنبياء أسوة و سلوة حيث كذّبوا، و على الرسول أن يبلّغ، و ما عليه أن يصدّق و لا يكذّب.

و هذه الآية و ما بعدها إلى قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ (1) من جملة قصّة إبراهيم عليه السّلام. و يحتمل أن تكون اعتراضا بذكر شأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قريش، و هدم مذهبهم، و الوعيد على سوء صنيعهم، توسّط بين طرفي قصّة إبراهيم، من حيث إنّ مساقها لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و التنفيس عنه، بأنّ أباه خليل اللّه عليهما السّلام كان ممتحنا بنحو ما امتحن به، من أذيّة قومه الّذين كانوا عبدة الأصنام كقومه، فلأجل تشبيه

ص: 216


1- الآية 24 من هذه السورة.

حاله فيهم بحال أبيه إبراهيم، وقعت هذه الجملة معترضة بين قصّته.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ من مادّة و غيرها. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالتاء، على تقدير القول. ثُمَّ يُعِيدُهُ إخبار بالإعادة بعد الموت.

معطوف على «او لم يروا» لا على «يبدئ»، فإنّ الرؤية غير واقعة عليه. و يجوز أن تؤوّل الإعادة، بأن ينشئ في كلّ سنة مثل ما كان في السنة السابقة، من النبات و الثمار و نحوهما. فحينئذ تعطف على «يبدئ».

إِنَّ ذلِكَ الإشارة إلى الإعادة، أو إلى ما ذكر من الأمرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر في فعله إلى شي ء.

قُلْ يا إبراهيم، أو يا محمّد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ على اختلاف الأجناس و الصفات ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بعد النشأة الّتي هي الإبداء، فإنّ الإبداء و الإعادة نشأتان، من حيث إنّ كلّ واحد منهما اختراع و إخراج من العدم.

و الإفصاح باسم اللّه، مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في «بدأ»، و القياس عكسه، للدلالة على أنّ المقصود بيان الإعادة، لأنّ الكفّار ينكرونها.

و المعنى: أنّهم لمّا أقرّوا بالإبداء لزمهم أن يقرّوا بالإعادة، فإنّها مثل الإبداء، فإنّ من عرف بالقدرة على الإبداء، ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة، لأنّها أهون، فيقدر على النشأة الآخرة، كما قدر على النشأة الأولى. فللدلالة على هذا المعنى أبرز اسمه و أوقعه مبتدأ. و الكلام في هذا العطف ما مرّ (1). و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: النّشاءة، كالرآفة.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لأنّ قدرته لذاته، و نسبة ذاته إلى كلّ الممكنات على السواء، فيقدر على النشأة الاخرى، كما قدر على النشأة الأولى.

ص: 217


1- في ذيل قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ».

ثمّ رتّب على منكر الإعادة و مصدّقها الوعيد و الوعد، بقوله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه ممّن هو مستحقّه، من الكفّار و منكري الإعادة وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته ممّن هو أهل لها، من المؤمن المصدّق وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ و إلى حكمه و جزائه تردّون و ترجعون.

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربّكم، أي: لا تفوتونه إن هربتم من حكمه، و لستم بفائتين عنه إن فررتم من قضائه بالتواري فِي الْأَرْضِ أو الهبوط في مهاويها و أعماقها وَ لا فِي السَّماءِ و لا بالتحصّن في السماء الّتي هي أفسح منها و أبسط، كقوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا (1).

أو و لا بالاعتلاء في البروج و القلاع الذاهبة في السماء، كقوله: وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (2). أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء و الأرض أن يجري عليكم البلاء.

و قيل: معناه: و لا من في السماء بمعجزين. فحذف «من» لدلالة الكلام عليه، كما قال حسّان (3):

أمن يهجو رسول اللّه منكم و يمدحه و ينصره سواء

فكأنّه قال: و من يمدحه و ينصره سواء.

وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض، أو ينزل من السماء، و يدفعه عنكم.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيّته، أو بكتبه وَ لِقائِهِ بالبعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي: ييأسون منها يوم القيامة، كقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ

ص: 218


1- الرحمن: 33.
2- النساء: 78.
3- ديوان حسان (طبعة دار صادر): 9. و فيه: فمن يهجو ...

السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (1). فعبّر عنه بالماضي للتحقيق و المبالغة. أو يئسوا في الدنيا لإنكار البعث و الجزاء. وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بكفرهم.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 24 الى 27]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [24] وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [25] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [26] وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [27]

ثمّ عاد سبحانه إلى قصّة إبراهيم، فقال: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم عليه السّلام، حين دعاهم إلى اللّه تعالى، و نهاهم عن عبادة الأصنام إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ لنتخلّص منه. و كان ذلك قول بعضهم لبعض. و قيل: قاله واحد منهم، و كان الباقون راضين، فكانوا جميعا في حكم القائلين.

فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي: فقذفوه في النار، فأنجاه منها، بأن أذهب حرّها و جعلها عليه بردا و سلاما إِنَّ فِي ذلِكَ في إنجائه منها لَآياتٍ علامات واضحة. و هي حفظه من أذى النار، و إخمادها- مع عظمها- في زمان يسير،

ص: 219


1- الروم: 12.

و إنشاء روض مكانها. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنّهم المنتفعون بالتفحّص عنها، و التأمّل فيها.

وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً معبودات منحوتات من حجر أو خشب مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: لتتوادّوا بينكم و تتواصلوا، لاجتماعكم و اتّفاقكم على عبادتها، فيكون ذلك سبب تحابّهم و تصادقهم. و ثاني مفعولي «اتّخذتم» محذوف. و يجوز أن تكون «مودّة» المفعول الثاني بتقدير مضاف، أو بتأويلها بالمودودة، أي: اتّخذتم أوثانا سبب المودّة، أو مودودة بينكم.

و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر: منوّنة ناصبة «بينكم». و ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و رويس: مرفوعة مضافة، على أنّها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مودّة، أو سبب مودّة بينكم. و الجملة صفة «أوثانا». أو خبران على أنّ «ما» مصدريّة أو موصولة، و العائد محذوف، و هو المفعول الأوّل. و المعنى: إنّما تتوادّون عليها، أو تودّونها في الحياة الدنيا.

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: يقوم التناكر و التباغض و التعادي بينكم، بأن يتبرّأ القادة من الأتباع، و يلعن الأتباع القادة، لأنّهم زيّنوا لهم الكفر. و

يقع التلاعن بينكم و بين الأوثان، على تغليب المخاطبين، كقوله تعالى: وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (1).

و عن قتادة: كلّ خلّة تنقلب يوم القيامة عداوة إلّا خلّة المتّقين، قال سبحانه:

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (2).

وَ مَأْواكُمُ و مستقرّكم النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونكم منها.

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ هو ابن أخته، و أوّل من آمن به. و قيل: آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَ قالَ يعني: إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من قومي إِلى رَبِّي إلى

ص: 220


1- مريم: 82.
2- الزخرف: 67.

حيث أمرني ربّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الّذي يمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الّذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي.

روي: أنّه هاجر من كوثى- و هي من سواد الكوفة- مع لوط و امرأته سارة ابنة عمّه إلى حرّان، ثمّ منها إلى الشام، فنزل فلسطين، و نزل لوط سدوم. و من ثمّ قالوا: لكلّ نبيّ هجرة، و لإبراهيم هجرتان. و له حينئذ خمس و سبعون سنة.

وَ وَهَبْنا لَهُ من بعد إسماعيل إِسْحاقَ ولدا وَ يَعْقُوبَ نافلة، حين أيس من الولادة، و لذلك لم يذكر إسماعيل.

وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ فكثر منهم الأنبياء وَ الْكِتابَ يريد به الجنس، ليتناول الكتب الأربعة.

وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته إلينا فِي الدُّنْيا بإعطاء الولد في غير أوانه، و الذرّيّة الطيّبة، و استمرار النبوّة فيهم، و انتماء أهل الملل إليه، و الثناء و الصلاة عليه إلى آخر الدهر. و في هذا دلالة على أنّه يجوز أن يثيب اللّه في دار التكليف ببعض الثواب.

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لفي عداد الكاملين في الصلاح، مثل آدم و نوح.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 28 الى 30]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ

أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [28] أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [29] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [30]

وَ لُوطاً عطف على إبراهيم، أو على ما عطف عليه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ

ص: 221

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ جملة مستأنفة، مقرّرة لفحاشة تلك الفعلة. كأنّ قائلا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل له: لأنّ أحدا قبلهم لم يقدم عليها، اشمئزازا منها في طباعهم، لإفراط قبحها، حتّى أقدم عليها قوم لوط، لخبث طينتهم، و قذر طباعهم.

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ و تتعرّضون للسابلة بالقتل و أخذ الأموال، أو بالفاحشة، حتّى انقطعت الطرق. أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن النساء.

وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ في مجالسكم الغاصّة بأهلها. و لا يقال: النادي إلّا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا. و المنكر هو: اللواط، و التضارط، و كشف العورات، و حلّ الإزار من الأقبية (1)، و الخذف بالحصى، و الرمي بالبنادق، و الفرقعة، و السباب، و الفحش في المزاح، و السخريّة بمن مرّ بهم، و ضرب الدفوف و المزامير، و غير ذلك من أنواع القبائح.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما تعدنا من نزول العذاب. أو في استقباح ذلك. أو في دعوى النبوّة المفهومة من التوبيخ.

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ الّذين يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من الفواحش و أنواع المعاصي طوعا و كرها.

و لأنّهم ابتدعوا الفاحشة، و سنّوها فيمن بعدهم. وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب، و إشعارا بأنّهم أحقّاء بأن يعجّل لهم العذاب.

ص: 222


1- الأقبية جمع القباء. و هو ثوب يلبس فوق الثياب. و الخذف بالحصاة: الرمي بها من بين سبّابتيه. و فرقع الأصابع فرقعة: أنقضها.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 31 الى 35]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ [31] قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [32] وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [33] إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [34] وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [35]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه استجاب دعاء لوط، و بعث جبرئيل و معه الملائكة لتعذيب قومه، فقال:

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بالبشارة بالولد و النافلة قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية سدوم. و الإضافة لفظيّة، لأنّ المعنى على الاستقبال.

و إنّما قالوا هذا، لأنّ قريتهم كانت قريبة من قرية قوم إبراهيم.

ثمّ علّلوا إهلاكهم بإصرارهم و تماديهم في ظلمهم الّذي هو الكفر و أنواع المعاصي، فقالوا: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي: الظلم قد استمرّ منهم في الأيّام السالفة، و هم مصرّون عليه.

و لمّا علّلوا إهلاك أهلها بظلمهم قالَ إبراهيم: إِنَّ فِيها لُوطاً فكيف تهلكونها؟ و ليس هذا إخبارا لهم بكونه فيها، و إنّما هو جدال في شأنه. و المعنى: أنّ إبراهيم لمّا سمع تعليلهم بإهلاك أهلها بسبب كفرهم، اعترض عليهم بأنّ فيها من

ص: 223

هو بري ء من الظلم. و أراد بالجدال إظهار الشفقة عليه، و ما يجب للمؤمن من التحزّن لأخيه، و التشمرّ في نصرته، و الخوف من أن يمسّه أذى و ضرر.

قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ نحن أعلم منك و أخبر بحال لوط و حال قومه، و امتيازه منهم الامتياز البيّن، و أنّه لا يستأهل ما يستأهلون، فهوّن على نفسك الخطب، فإنّا نخلّصه بإخراجه و أهله منها، ثمّ نهلك قومه. فهذا تسليم لقوله، مع ادّعائهم مزيد العلم منهم بلوط، و أنّهم ما كانوا غافلين عن حاله. و جواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه و أهله.

و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و يعقوب: لننجينّه، خفيفة الجيم، ساكنة النون.

إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب لا تنجو منه، أو في القرية.

وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ جاءته المساءة و الغمّ بسببهم، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء، أي: ساء مجيئهم لمّا رآهم في أحسن صورة، لما كان يعلمه من خبث فعل قومه. و «أن» مزيدة لتأكيد الفعلين و اتّصالهما.

وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و ضاق لوط بشأن الملائكة و تدبير أمرهم ذرعه، أي:

طاقته. يعني: فقدت طاقته في صيانتهم عن قومه، فإنّ ضيق الذرع عبارة عن فقد الطاقة. و مثل ذلك قولهم: ضاقت يده. و بإزائه: رحب ذرعه بكذا، إذا كان مطيقا له.

و الأصل فيه: أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع، فضرب ذلك مثلا في العجز و القدرة.

و لمّا رأى الملائكة حزنه و ضجرته، و ضيق ذرعه في دفع القوم عنهم وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ على تمكّنهم منك و منّا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ من العذاب إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين

في العذاب. و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: منجوك بالتخفيف. و وافقهم أبو بكر فيه. و موضع الكاف الجرّ على المختار. و نصب «أهلك» بإضمار فعل، أو بالعطف على محلّها باعتبار الأصل.

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً أي: عذابا مِنَ السَّماءِ سمّي

ص: 224

العذاب رجزا، لأنّه يقلق المعذّب. من قولهم: ارتجز و ارتجس إذا اضطرب. و قرأ ابن عامر: منزّلون بالتشديد. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم، و خروجهم عن طاعة اللّه.

وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها من القرية آيَةً بَيِّنَةً عبرة واضحة، و دلالة ظاهرة على قدرتنا. و هي الحكاية الشائعة، أو آثار ديارهم الخربة. و قيل: بقيّة الحجارة الممطورة، فإنّها كانت باقية بعد. و قيل: بقيّة أنهارها المسودّة على وجه الأرض.

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في الاستبصار و الاعتبار. و هذا متعلّق ب «تركنا» أو «بيّنة».

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 36 الى 40]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [36] فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [37] وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [38] وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ [39] فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [40]

ص: 225

ثمّ عطف سبحانه قصّة شعيب و قومه على ما تقدّم، فقال: وَ إِلى مَدْيَنَ أي: و أرسلنا إلى قبيلة مدين أَخاهُمْ في النسب شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ و افعلوا ما ترجون به ثوابه، من فعل الطاعات و تجنّب السيّئات. فأقيم المسبّب مقام السبب. و قيل: إنّه من الرجاء بمعنى الخوف. وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مرّ معناه.

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة. و عن الضحّاك: هي صيحة جبرئيل، لأنّ القلوب ترجف لها. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ بلدهم، أو دورهم. و لم يجمع لأمن اللبس. جاثِمِينَ باركين على ركبهم ميّتين.

وَ عاداً وَ ثَمُودَ منصوبان بإضمار: اذكر، أو بفعل دلّ عليه ما قبله، مثل:

أهلكنا. و قرأ حمزة و حفص و يعقوب: و ثمود غير منصرف، على تأويل القبيلة.

وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي: بعض مساكنهم. أو إهلاكهم من جهة مساكنهم، إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. و كان أهل مكّة يمرّون عليها في أسفارهم فيبصرونها.

وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر و المعاصي. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ السويّ الّذي بيّنه الرسل عليهم السّلام وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ عقلاء متمكّنين من النظر و الاستبصار، و لكنّهم لم يفعلوا. أو متبيّنين أنّ العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل لهم، و لكنّهم لجّوا حتّى هلكوا.

وَ قارُونَ عطف على «عادا». و تقديمه على قوله: وَ فِرْعَوْنَ لشرف نسبه. وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحات، من قلب العصا حيّة، و اليد البيضاء، و فلق البحر، و غيرها فَاسْتَكْبَرُوا فطلبوا التجبّر، و لم ينقادوا للحقّ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ فائتين، بل أدركهم أمر اللّه تعالى، فلم يفوتوه. من: سبق طالبه إذا فاته.

ص: 226

فَكُلًّا من المذكورين أَخَذْنا عاقبنا بِذَنْبِهِ بتكذيبهم الرسل فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً و هم قوم لوط.

و قيل: عاد. و هي ريح عاصف فيها حصباء. و قيل: ملك كان يرميهم. وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ صيحة جبرئيل. و هم ثمود و قوم شعيب. وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا و هم قوم نوح و فرعون و قومه.

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليعاملهم معاملة الظالم، فيعاقبهم بغير جرم، إذ هو قادح في العدالة الواجبة عليه وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بما يوجب العذاب، من الكفر و تكذيبهم الرسل.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 41 الى 43]

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [41] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [42] وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ [43]

ثمّ شبّه سبحانه ما اتّخذوه من دون اللّه متّكلا في دينهم، و معوّلا عليهم، بما هو مثل عند الناس في الوهن و الوهي (1) و الضعف، و هو نسج العنكبوت، فقال:

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ من الأصنام و غيرها كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً فكما أنّ بيت العنكبوت لا يغني عنها شيئا، لكونه في غاية الوهن و الضعف، و لا يجدي نفعا، كذلك الأصنام لا تملك لهم خيرا و شرّا،

ص: 227


1- الوهي: الضعف و الاسترخاء.

و نفعا و ضرّا.

و الوليّ: هو المتولّي للنصرة. و هو أبلغ من الناصر، لأنّ الناصر قد يكون ناصرا بأن يأمر غيره بالنصرة، و الوليّ هو الّذي يتولّى النصرة بنفسه.

و العنكبوت: يقع على الواحد و الجمع، و المذكّر و المؤنّث. و التاء فيه كتاء طاغوت. و يجمع على: عناكب، و عناكيب، و عكاب، و عكبة، و أعكب.

وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بيت أوهن و أقلّ وقاية للحرّ و البرد منه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يرجعون إلى علم لعلموا أنّ هذا مثلهم، و أنّ دينهم أوهن من ذلك. و يجوز أن يخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، بأن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم، سمّاه به تحقيقا للتمثيل. فكأنّه قال: و إنّ أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان.

و قل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ و قرأ البصريّان و يعقوب بالياء، حملا على ما قبله.

و «ما» استفهاميّة منصوبة ب «يدعون». و «يعلم» معلّقة عنها، و «من» للتبيين.

و هذا ما ذهب إليه سيبويه و الخليل. أو نافية، و «من» مزيدة، و «شي ء» مفعول «يدعون». و على التقديرين؛ هذا الكلام تجهيل لهم، حيث عبدوا ما ليس بشي ء، لأنّه جماد ليس معه مصحّح العلم و القدرة، و توكيد للمثل المذكور. أو «ما» مصدريّة، و «شي ء» مصدر، أو موصولة مفعول ل «يعلم». و مفعول «يدعون» عائدها المحذوف. و على هذين التقديرين و عيد لهم.

ثمّ علّل على ذلك بقوله: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و المعنى: إنّ من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه. و إنّ الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كلّ شي ء، البالغ في العلم و إتقان الفعل الغاية، كالمعدوم. و إنّ من هذا صفته قادر على مجازاتهم.

ص: 228

روي: أنّ السفهاء من قريش كانوا يقولون: إنّ ربّ محمّد يضرب المثل بالذباب و العنكبوت، و يضحكون من ذلك، فردّ اللّه تعالى ذلك عليهم بقوله:

وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ يعني: هذا المثل و نظائره نَضْرِبُها نذكرها و نبيّنها لِلنَّاسِ تقريبا لما بعد من أفهامهم، من حسن

المعرفة و التوحيد، و قبح ما هم فيه من عبادة الأصنام وَ ما يَعْقِلُها و ما يعقل حسنها و صحّتها و فائدتها إِلَّا الْعالِمُونَ الّذين يتدبّرون الأشياء على ما ينبغي. فهم بالتدبّر الكامل يفهمون أنّ الأمثال و التشبيهات هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار، حتّى تبرزها و تكشف عنها و تصوّرها للأفهام، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك و حال الموحّد.

و روى الواحدي بالإسناد عن جابر قال: «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلا هذه الآية قال: «العالم من عقل عن اللّه تعالى، فعمل بطاعته، و اجتنب سخطه» (1).

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 44 الى 45]

خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [44] اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [45]

ثمّ بيّن سبحانه ما يدلّ على إلهيّته و استحقاقه العبادة، فقال:

خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أخرجهما من العدم إلى الوجود بِالْحَقِ ملتبسا بالغرض الصحيح الّذي هو حقّ لا باطل، فإنّ المقصود بالذات من خلقهما أن تكونا مساكن عباده، و مواضع إفاضة الخير، و دلائل على ذاته و صفاته، كما

ص: 229


1- تفسير الوسيط 3: 420.

أشار إليه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم المنتفعون بها.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ اقرأ القرآن مرّة بعد اخرى على المكلّفين تقرّبا إلى اللّه بقراءته، و تحفّظا لألفاظه، و استكشافا لمعانيه، فإنّ القارئ المتأمّل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أوّل ما قرع سمعه.

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ الّتي هي المستحقّ بها الثواب عند

اللّه، و هي الّتي تكون مؤدّاة مع مراعاة شرائطها المعتبرة فيها، و محافظة أركانها و سائر واجباتها إِنَّ الصَّلاةَ المنعوتة تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها و غيرها، من حيث إنّها تذكّر للّه تعالى، و تورث النفس خشية منه.

روي عن أنس: أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلوات الخمس، و لا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه، فوصف له، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الصّلاة ستنهاه يوما». فلم يلبث أن تاب.

و عن جابر: قال: قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ فلانا يصلّي بالنهار، يسرق بالليل.

فقال: «إنّ صلاته لتردعه».

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، و طاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء و المنكر».

و معنى ذلك: أنّ الصلاة إذا كانت ناهية عن المعاصي، فمن أقامها ثمّ لم ينته عن المعاصي، لم تكن صلاته بالصفة الّتي وصفها اللّه تعالى بها. فإن تاب من بعد ذلك و ترك المعاصي، فقد تبيّن أنّ صلاته كانت نافعة له ناهية، و إن لم ينته إلّا بعد زمان.

و روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم

ص: 230

لم تقبل؟ فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

و عن ابن عبّاس: من لم تأمره صلاته بالمعروف، و لم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من اللّه إلّا بعدا.

و عن الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر، فليست صلاته بصلاة، و هي وبال عليه.

و في الآية دلالة على أنّ فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح و المعاصي الّتي ينكرها العقل و الشرع.

وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ و للصلاة أكبر من سائر الطاعات. و إنّما عبّر عنها بالذكر، للتعليل بأنّ اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضّلة على الحسنات، ناهية عن السيّئات، كأنّه قال: و للصلاة أكبر، لأنّها ذكر اللّه.

و عن ابن عبّاس: معناه: و لذكر اللّه تعالى إيّاكم برحمته، أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته.

و روي عن عطاء بن السائب، عن عبد اللّه بن ربيعة قال: قال ابن عبّاس:

أ رأيت قول اللّه تعالى: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ»؟ قال: قلت: ذكر اللّه بالقرآن حسن، و ذكره بالصلاة حسن، و بالتسبيح و التكبير حسن، و أفضل من ذلك أن يذكر الرجل ربّه عند المعصية فينحجز (1) عنها. فقال ابن عبّاس: لقد قلت قولا عجبا، و هو كما قلت، و لكن معنى الآية: ذكر اللّه إيّاكم أكبر من ذكركم إيّاه.

و قيل: معناه: ذكر العبد لربّه من التكبير و التهليل و التسبيح و التحميد و غيرها، أكبر ممّا سواه، و أفضل من جميع أفعاله.

روي عن ثابت البناني قال: إنّ رجلا أعتق أربع رقاب، فقال رجل آخر:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر. ثمّ دخل المسجد، فأتى حبيب بن

ص: 231


1- أي: فيمتنع.

أوفى السلمي و أصحابه، فقال: ما تقولون في رجل أعتق أربع رقاب، و إنّي أقول:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فأيّهما أفضل؟ فنظروا هنيهة، فقالوا:

ما نعلم شيئا أفضل من ذكر اللّه.

و عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدميّ عملا أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه عزّ و جلّ. قيل له: و لا الجهاد في سبيل اللّه؟ قال: و لا الجهاد. قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

«وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ».

و عنه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ الأعمال أحبّ إلى اللّه؟ قال: «أن تموت و لسانك رطب من ذكر اللّه عزّ و جلّ».

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة، فليكثر ذكر اللّه عزّ و جلّ».

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ منه و من سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 46 الى 51]

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [46] وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ [47] وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [48] بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [49] وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا

ص: 232

نَذِيرٌ مُبِينٌ [50]

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [51]

و لمّا تقدّم الأمر بالدعاء إلى اللّه سبحانه، بيّن عقيبه كيف يدعونهم إلى اللّه؟

و كيف يجادلونهم؟ فقال:

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي بالخصلة الّتي هِيَ أَحْسَنُ كمعارضة الخشونة باللين، و الغضب بالكظم، و المشاغبة بالنصح، كما قال:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

و فيه دلالة على وجوب الدعاء إلى اللّه تعالى على أحسن الوجوه و ألطفها، و استعمال القول الجميل في التنبيه على آيات اللّه و حججه.

و قيل: هو منسوخ بآية السيف (2)، و إذ لا مجادلة أشدّ منه. و جوابه: أنّه آخر الدواء. و قيل: المراد به ذوو العهد منهم.

إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإفراط في الاعتداء و العناد، أو بإثبات الولد، و قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ (3). أو بنبذ العهد و منع الجزية. فلم يقبلوا النصح، و لم ينفع فيهم الرفق، فاستعملوا معهم الغلظة.

و قيل: معناه: إلّا الّذين آذوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كتموا صفاته بعد العلم به.

وَ قُولُوا لهم في المجادلة، و في الدعوة إلى الدين آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي: بالكتاب الّذي أنزل إلينا، و بالكتاب الّذي أنزل إليكم. و هو من جنس المجادلة بالّتي هي أحسن.

ص: 233


1- المؤمنون: 96.
2- التوبة: 5 و 29.
3- المائدة: 64.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم، و قولوا: آمنّا باللّه تعالى و بكتبه و رسله، فإن قالوا باطلا لم تصدّقوهم، و إن قالوا حقّا لم تكذّبوهم».

وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مطيعون له خاصّة. و فيه تعريض باتّخاذهم أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه.

وَ كَذلِكَ و مثل إنزال الكتاب على موسى و عيسى أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ القرآن، و حيا مصدّقا لسائر الكتب الإلهيّة. و هو تحقيق لقوله تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي: علم الكتاب، بحذف المضاف يُؤْمِنُونَ بِهِ و هم عبد اللّه بن سلام و أضرابه،

أو من تقدّم عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أهل الكتاب وَ مِنْ هؤُلاءِ و من العرب. أو أهل مكّة. أو ممّن في عهد الرسول من أهل الكتابين. مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بالقرآن.

وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها، و قيام الحجّة عليها، و زوال الشبهة عنها إِلَّا الْكافِرُونَ إلّا المتوغّلون في الكفر، المصمّمون عليه، ككعب بن الأشرف و أضرابه، فإنّ توغّلهم في الكفر و تصميمهم عليه يمنعهم عن التأمّل فيما يفيد لهم صدقها، لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول، كما أشار إليه بقوله: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ قبل أن يوحى إليك القرآن وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ فإنّ ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة، على أمّي لم يعرف بالقراءة و التعلّم، خارق للعادة. و ذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا، و نفي للتجوّز في الإسناد.

إِذاً أي: لو كنت ممّن يخطّ و يقرأ لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشكّ في أمرك، و إلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك. و لقالوا:

إنّما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأوّلين و زبر الأقدمين، فلمّا ساويتهم في المولد و المنشأ، ثمّ أتيت بما عجزوا عنه، وجب أن يعلموا أنّه من عند اللّه و ليس من

ص: 234

عندك، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الإنسان بين قوم يشاهدون أحواله من عند صغره إلى كبره، و يرونه في حضره و سفره، لا يتعلّم شيئا من غيره، ثمّ يأتي من عنده بشي ء يعجز الكلّ عنه و عن بعضه، و يقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين.

و إنّما سمّاهم مبطلين، لأنّهم كفروا به و هو أمّيّ بعيد من الريب. فكأنّه قال:

هؤلاء المبطلون في كفرهم به.

و أيضا لمّا كان الأنبياء لم يكونوا أمّيّين، و وجب الإيمان بهم و بما جاؤا به، لكونهم مصدّقين من جهة الحكيم بالمعجز، فهب أنّه قارئ كاتب، فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الّذي آمنوا منه بموسى و عيسى؟ على أنّ المنزلين ليسا بمعجزين، و هذا المنزل معجز. فإذا هم مبطلون حيث لا يؤمنون به و هو أمّيّ.

قال الشريف الأجلّ المرتضى علم الهدى قدّس سرّه: «هذه الآية تدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة. فأمّا بعدها فالّذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالما بالقراءة و الكتابة بعد ذلك، لأنّ ظاهر الآية يقتضي أن النفي قد تعلّق بما قبل النبوّة، دون ما بعدها. و لأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة، لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة، فأمّا بعد النبوّة فلا تعلّق له بالريبة و التهمة، فيجوز أن يكون قد تعلّمها من جبرئيل عليه السّلام بعد النبوّة» (1).

ثمّ قال سبحانه: بَلْ هُوَ أي: القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ دلالات واضحات فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في صدور العلماء به و حفّاظه. و هم النبيّ و المؤمنون به، لأنّهم حفظوه، فلا يقدر أحد على تحريفه. و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: «الأئمّة من آل محمّد صلّى اللّه عليهم أجمعين».

قال قتادة: أعطي هذه الأمّة الحفظ، و من كان قبلها لا يقرءون الكتاب إلّا نظرا.

ص: 235


1- رسائل الشريف المرتضى 1: 107.

وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي: المتوغّلون في الظلم بالمكابرة، بعد وضوح دلائل إعجازها.

وَ قالُوا أي: كفّار مكّة لَوْ لا هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي: آية مقترحة منه، مثل ناقة صالح، و عصا موسى، و مائدة عيسى عليه السّلام. و قرأ نافع و ابن عامر و البصريّان و حفص: آيات.

قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزّلها كما يشاء على وفق مصالح عباده، في كلّ عصر من أعصار أنبيائه، و لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأني إلّا الإنذار، و إبانته بما أعطيت من الآيات، و ليس لي أن أتخيّر على اللّه آياته، فأقول: أنزل عليّ آية كذا دون آية كذا، مع علمي أنّ الغرض من آياته ثبوت الدلالة، و الآيات كلّها في حكم آية واحدة في ذلك.

ثمّ قال: أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ آية مغنية عمّا اقترحوه أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته في كلّ مكان و زمان عليهم متحدّين به، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحلّ، كما تزول كلّ آية بعد كونها. أو تكون في مكان دون مكان. أو أو لم يكف اليهود أنّا أنزلنا الكتاب يتلى عليهم، بتحقيق ما في أيديهم من نعتك و نعت دينك.

إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الّذي هو آية مستمرّة و حجّة مبيّنة لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة لا يطاق شكرها، لأنّ من تبعه و عمل به نال الثواب و فاز بالجنّة وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و تذكرة لمن همّه الإيمان دون التعنّت.

و قيل: إنّ ناسا من المسلمين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلمّا أن نظر إليها ألقاها و قال: كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عمّا جاءهم به نبيّهم إلى ما جاء به غير نبيّهم. فنزلت.

و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في المعجز، و أنّه في أعلى درجات

ص: 236

الإعجاز، لأنّه جعله كافيا عن جميع المعجزات.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 52 الى 55]

قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [52] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [53] يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [54] يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [55]

روي: أنّ كعب بن الأشرف و أصحابه قالوا تعنّتا: يا محمّد من يشهد أنّك رسول اللّه؟ فنزلت:

قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً بصدقي، فإنّه صدّقني بالمعجزات. أو بتبليغي ما أرسلت به إليكم و نصحي، و مقابلتكم إيّاي بالتكذيب و التعنّت. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو مطّلع على أمري و أمركم، و عالم بحقّي و باطلكم.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ و هو ما تعبدون من دون اللّه تعالى وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ و بآياته منكم أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ استهزاء منهم و تكذيبا. و منهم النضر بن الحارث قال: اللّهمّ أمطر علينا حجارة من السماء، كما قال أصحاب الأيكة: فأسقط علينا كسفا من السماء.

وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى قد سمّاه اللّه و بيّنه في اللوح لعذابهم، و أوجبت الحكمة

ص: 237

تأخيره إلى الأجل المسمّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فجأة.

و المراد به الآخرة، لما روي أنّ اللّه عزّ و جلّ وعد رسول اللّه أنّ قومه لا يستأصلهم، و أن يؤخّر عذابهم إلى يوم القيامة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.

ثمّ

ذكر أنّ موعد عذابهم النار، فقال: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ستحيط بهم يوم يغشاهم العذاب. أو هي كالمحيطة بهم في الدنيا، لأنّ الكفر و المعاصي الّتي توجبها محيطة بهم. أو لأنّها مآلهم و مرجعهم لا محالة، فكأنّها الساعة محيطة بهم. و اللام للعهد، على وضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على موجب الإحاطة. أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.

يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف «لمحيطة». أو مقدّر بمثل: كان كيت و كيت.

مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي: من جميع جوانبهم، كقوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ (1). و قوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ (2). لا أنّه يصل إلى موضع منهم دون موضع، فلا يبقى جزء منهم إلّا و هو معذّب في النّار.

وَ يَقُولُ اللّه عزّ و جلّ، أو بعض ملائكته بأمره. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و البصريّون بالنون. ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: جزاءه.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 56 الى 60]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [56] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ [57] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ

ص: 238


1- الزمر: 16.
2- الأعراف: 41.

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [58] الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [59] وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [60]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا عذر لعباده في ترك طاعته، فقال:

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أي: إذا لم يتسهّل لكم العبادة في بلدة، و لم يتيسّر لكم إظهار دينكم، فهاجروا عنها إلى بلد تقدّرون

فيه أنّكم فيه أسلم قلبا، و أصحّ دينا، و أكثر عبادة، و أحسن خشوعا، و اطرد للشيطان، و أبعد من الفتن، و أضبط للأمر الديني.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و لو كان شبرا استوجب الجنّة، و كان رفيق إبراهيم و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و قيل: نزلت في المستضعفين بمكّة. و الفاء جواب شرط محذوف. و تقديم المفعول للاختصاص. و المعنى: إنّ ارضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام معناه: «إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها، فاخرج منها إلى غيرها».

ثمّ خوّفهم بالموت ليهوّن عليهم الهجرة، فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ واجدة مرارة الموت، كما يجد الذائق طعم المذوق. و المراد: تناله الموت لا محالة.

ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ للجزاء. و من كانت هذه عاقبته لم يكن له بدّ من التزوّد لها، و الاستعداد بجهده. و قرأ أبو بكر بالياء.

ثمّ ذكر ثواب من هاجر، فقال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ

ص: 239

لننزلنّهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي (1) عاليات. و قرأ حمزة و الكسائي: لنثوينّهم، أي:

لنقيمنّهم. من الثواء، و هو النزول للإقامة. يقال: ثوى في المنزل، و أثوى غيره، فثوى غير متعدّ. و إذا تعدّى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولا واحدا، نحو:

ذهبت و أذهبت. و الوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين و إلى الغرف، إمّا إجراؤه مجرى: لننزلنّهم. أو حذف الجارّ و إيصال الفعل. أو تشبيه الظرف الموقّت بالمبهم.

عن ابن عبّاس: لنسكننّهم غرف الدرّ و الزبرجد و الياقوت.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يبقون فيها ببقاء اللّه نِعْمَ أَجْرُ

الْعامِلِينَ و المخصوص بالمدح محذوف، دلّ عليه ما قبله، أي: نعم أجر العاملين الغرف و جري الماء من تحتها على سبيل الخلود و التأبيد.

الَّذِينَ صَبَرُوا على أذيّة المشركين، و مفارقة الأوطان و الهجرة، و غيرها من أنواع المحن و المشاقّ وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ تقديم الظرف للحصر، أي: لا يتوكّلون إلّا على اللّه في مهمّات أمورهم و مهاجرة دورهم.

قيل: إنّهم لمّا أمروا بالهجرة، قال بعضهم: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت: وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ و كم نفس دبّت على وجه الأرض لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تطيق حمل رزقها، لضعفها عنه. أو لا تدّخره، و إنّما تصبح و لا معيشة عندها.

عن ابن عبّاس: إنّ الحيوان أجمع، من البهائم و الطيور و غيرهما ممّا يدبّ على وجه الأرض، لا تدّخر القوت لغدها، إلّا ابن آدم و النملة و الفأرة، بل تأكل منه قدر كفايتها فقط.

اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ أي: إنّها مع ضعفها و توكّلها، و إنّكم مع قوّتكم و اجتهادكم، سواء في أنّه لا يرزقها و إيّاكم إلّا اللّه، لأنّ رزق الكلّ بأسباب، هو

ص: 240


1- علالي جمع العلّيّة. و هي: بيت منفصل عن الأرض ببيت و نحوه.

المسبّب لها وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة وَ هُوَ السَّمِيعُ لقولكم:

نخشى الفقر الْعَلِيمُ بما في ضمائركم.

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 61 الى 64]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [61] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [62] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [63]

وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [64]

ثمّ عجّب سبحانه رسوله و المؤمنين من إيمان المشركين بالباطل، مع اعترافهم بأنّ اللّه هو خالق كلّ شي ء، فقال:

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سألت أهل مكّة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ و من ذلّلهما و سيّرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف لَيَقُولُنَّ اللَّهُ في جواب ذلك، لما تقرّر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك؟! اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسّعه لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ يحتمل أن يكون الموسّع له و المضيّق عليه واحدا، على أنّ البسط و القبض على التعاقب

ص: 241

حسب المصلحة. و أن يريد و يقدّر لمن يشاء. فوضع الضمير موضع من يشاء، لأنّ من يشاء منهم غير معيّن، فكان الضمير مبهما مثله. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالحهم و مفاسدهم.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنّه الموجد للممكنات بأسرها، أصولها و فروعها، ثمّ إنّهم يشركون به بعض مخلوقاته الّذي لا يقدر على شي ء من ذلك.

قُلِ يا محمّد عند ذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك من مثل هذه الضلالة. أو على تصديقك و إظهار حجّتك. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فيتناقضون، حيث يقرّون بأنّه المبدئ لكلّ ما عداه، ثمّ إنّهم يشركون به الأصنام. و قيل: لا يعقلون ما تريد بقولك: الحمد للّه، و لا يفطنون لم حمدت اللّه عند مقالتهم؟! و لمّا كانت الدنيا و ما فيها- مع عظم سعتها- لا تزن

عند اللّه جناح بعوضة، أشار إليها تحقيرا و إزراء بقوله: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ ما هي- لسرعة زوالها عن أهلها- إلّا كما يلعب و يلهى به الصبيان، يجتمعون عليه، و يبتهجون به ساعة، ثمّ يتفرّقون متعبين.

وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني: الجنّة لَهِيَ الْحَيَوانُ لهي دار الحياة، أو ذات الحياة الحقيقيّة، لامتناع طريان الموت عليها. فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه. أو جعلت في ذاتها حياة للمبالغة.

و الحيوان مصدر: حيي. سمّي به ذو الحياة. و قياسه: حييان، فقلبت الياء الثانية واوا. و هو أبلغ من الحياة، لما في بناء فعلان من الحركة و الاضطراب اللازم للحياة، كما أنّ الموت سكون، و لذلك اختير عليها هاهنا.

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لم يؤثروا عليها الدنيا الّتي أصلها عدم الحياة، و الحياة فيها عارضة سريعة الزوال.

ص: 242

[سورة العنكبوت [29]: الآيات 65 الى 69]

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [65] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [66] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [67] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ [68] وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [69]

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ متّصل بما دلّ عليه ما وصفهم به و شرح من أمرهم، أي: هم على ما وصفوا به من الشرك، فإذا ركبوا في السفن في البحر، و هاجت به الرياح، و تلاطمت به الأمواج، و خافوا الهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلّا اللّه، و لا يدعون معه إلها آخر، لعلمهم بأنّه لا يكشف الشدائد إلّا هو، فلم يطلبوا من شركائهم إنجاءهم.

و في تسميتهم مخلصين ضرب من التهكّم.

فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ و أمنوا من الهلاك إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ فاجئوا المعاودة إلى الشرك.

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام «كي» أي: يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة وَ لِيَتَمَتَّعُوا و ليكونوا قاصدين التمتّع بها و التلذّذ لا غير، و مجتمعين على عبادة الأصنام و توادّهم، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة، إذا أنجاهم اللّه أن يشكروا نعمة اللّه في إنجائهم، و يجعلوا

ص: 243

نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد طاعة اللّه بالإخلاص، لا إلى التمتّع و التلذّذ.

أو لام الأمر على التهديد. و نحوه قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (1). و يؤيّده قراءة ابن كثير و حمزة و الكسائي، و قالون عن نافع:

و ليتمتّعوا بالسكون.

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك حين يعاقبون.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا يعني: أهل مكّة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي: جعلنا بلدهم آمنا أهله عن القتل و السبي، مصونا عن النهب و التعدّي وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ و يختلسون قتلا و سبيا مِنْ حَوْلِهِمْ إذ كانت العرب حول مكّة يغزو بعضهم بعضا، و يتغاورون و يتناهبون، و أهل مكّة قارّون آمنون فيها، لا يغزون و لا يغار عليهم، مع قلّتهم و كثرة العرب. فذكّرهم اللّه هذه النعمة الخاصّة عليهم، ليذعنوا له بالطاعة، و ينزجروا عن عبادة غيره.

أَ فَبِالْباطِلِ أبعد هذه النعمة المكشوفة و غيرها ممّا لا يقدر عليه إلّا اللّه بالصنم أو بالشيطان يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره. و تقديم

الصلتين للاهتمام، أو الاختصاص على طريق المبالغة.

ثمّ وبّخهم بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أنّ له شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ يعني: الرسول، أو الكتاب. و في «لمّا» تسفيه لهم بأن لم يتوقّفوا و لم يتأمّلوا قطّ حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أوّل ما سمعوه.

أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ تقرير لثوائهم. و حقيقته أنّ الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي، فرجع إلى معنى: ألا يستوجبون الثواء فيها، و قد افتروا مثل هذا الكذب على اللّه تعالى، و كذّبوا بالحقّ مثل هذا التكذيب؟! أو تقرير

ص: 244


1- فصّلت: 40.

لاجترائهم، أي: ألم يعلموا أنّ في جهنّم مثوى للكافرين، حتّى اجترءوا مثل هذه الجرأة؟! وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا في حقّنا، و من أجلنا، و لوجهنا خالصا. و أطلق المجاهدة و لم يقيّدها بمفعول، ليعمّ جهاد الأعادي الظاهرة و الباطنة بأنواعه. فكأنّه قال: و الّذين جاهدوا الكفّار ابتغاء مرضاتنا و طاعة لنا، و جاهدوا أنفسهم في هواها خوفا منّا.

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا سبل السير إلينا، و الوصول إلى غاية التقرّب لنا. أو لنزيدنّهم هداية إلى سبيل الخير، و توفيقا لسلوكها، كقوله: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً (1). و في الحديث: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لا يعلم».

و عن بعضهم: إنّ الّذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، إنّما هو من تقصيرنا فيما نعلم. وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر و الإعانة.

ص: 245


1- محمّد: 17.

ص: 246

[30] سورة الروم

اشارة

مكّيّة. و هي ستّون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ ملك سبّح للّه

بين السماء و الأرض، و أدرك ما ضيّع في يومه و ليلته».

[سورة الروم [30]: الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم [1] غُلِبَتِ الرُّومُ [2] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [3] فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [4]

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [5] وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [6] يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [7]

و لمّا أجمل في آخر العنكبوت ذكر المجاهدين، فصّله في هذه السورة، فقال:

ص: 247

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أقرب أرض العرب منهم، لأنّ الأرض المعهودة عندهم أرضهم. و هي أطراف الشام. أو في أدنى أرضهم من العرب، على إنابة اللام مناب المضاف إليه. و قال مجاهد: هي أرض الجزيرة. و هي أدنى أرض الروم إلى فارس. و عن ابن عبّاس: الأردن و فلسطين.

وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: من بعد غلبة فارس إيّاهم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ و هو ما بين ثلاث إلى العشر.

روي: أنّه احتربت الروم و فارس بين أذرعات و بصرى، فغلبت فارس الروم.

فبلغ الخبر مكّة، فشقّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين، لأنّ فارس مجوس لا كتاب لهم، و الروم أهل الكتاب. و فرح المشركون و شمتوا، و قالوا: أنتم و النصارى أهل الكتاب، و نحن و فارس أمّيّون، و قد ظهر إخواننا على إخوانكم، فسنظهرنّ نحن عليكم كما ظهرت فارس على الروم.

فقال لهم أبو بكر: لا يقرّنّ اللّه أعينكم، فو اللّه لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين.

فقال له أبيّ بن خلف: كذبت اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه. و المناحبة:

المراهنة. و هي غير محرّمة في مبدأ الإسلام.

فناحبه على عشر قلائص (1) من كلّ واحد منهما. و جعلا الأجل ثلاث سنين.

فأخبر أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال البضع: ما بين الثلاث إلى العشر. فزايده في الخطر، و مادّه في الأجل- و الخطر هو السبق الّذي بين المتراهنين- فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين.

و مات أبيّ من جرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم احد. و ظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، و ذلك عند رأس سبع سنين.

فأخذ أبو بكر الخطر من ذريّة أبيّ، و جاء.

ص: 248


1- القلائص جمع القلوص، و هي الأنثى الشابّة من الإبل.

به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: تصدّق به.

و هذه الآية من الآيات البيّنة الشاهدة على صحّة النبوّة، و أنّ القرآن من عند اللّه، لأنّها إنباء عمّا سيكون، و هو الغيب الّذي لا يعلمه إلّا اللّه.

لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ من قبل كونهم غالبين، و هو وقت كونهم مغلوبين وَ مِنْ بَعْدُ و من بعد كونهم مغلوبين، و هو وقت كونهم غالبين، أي: له الأمر حين غلبوا و حين يغلبون، ليس شي ء منهما إلّا بقضائه، و تلك الأيّام نداولها بين الناس.

و عن أبي سعيد الخدري قال: التقينا مع رسول اللّه و مشركي العرب، و التقت الروم و فارس، فنصرنا اللّه على مشركي العرب، و نصر الروم على المجوس، ففرحنا بنصر اللّه إيّانا على المشركين، و نصر أهل الكتاب على المجوس. فذلك قوله:

وَ يَوْمَئِذٍ و يوم تغلب الروم على فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ إيّاهم، و من له كتاب على من لا كتاب له، لما فيه من انقلاب التفاؤل، و ظهور صدقهم فيما أخبروا به المشركين، و غلبتهم في رهانهم، و ازدياد يقينهم و ثباتهم في دينهم، و لأنّهم مقدّمة لنصرهم على المشركين.

و قيل: بنصر اللّه المؤمنين بإظهار صدقهم فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. أو بأنّه ولّى بعض الظالمين بعضا، و فرّق بين كلمتهم، حتّى تفانوا و تناقصوا، و فلّ (1) هؤلاء شوكة هؤلاء، و في ذلك قوّة للإسلام.

و عن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر، و في هذا اليوم نصر المؤمنون.

يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة و هؤلاء اخرى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة، و يتفضّل عليهم بنصرهم اخرى.

وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكّد لنفسه، أي: وعد اللّه ذلك وعدا، لأنّ ما قبله في معنى الوعد، كقولك: له عليّ ألف درهم اعترافا لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ بظهور الروم

ص: 249


1- أي: كسر.

على فارس، لامتناع الكذب عليه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أكثر أهل مكّة، و هم كفّارهم لا يَعْلَمُونَ وعده، و لا صحّة وعده، لجهلهم، و عدم تفكّرهم.

ثمّ ذمّهم اللّه تعالى بأنّهم بصراء بأمور الدنيا، يعلمون منافعها و مضارّها على الوجه الأتمّ، و بله (1) في أمر الدين، فقال:

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها، فيبلغون في التجارات و أنواع المكاسب أبلغ المراتب، فيتمتّعون بزخارفها و ملاذّها. و عن الحسن: بلغ من علم أحدهم بدنياه أنّه يقلّب الدرهم على ظهره، فيخبرك بوزنه، و ينقره (2) بإصبعه، فيعلم أردئ هو أم جيّد؟ و ما يحسن أن يصلّي.

وَ هُمْ عَنِ

الْآخِرَةِ الّتي هي غايتها و المقصود منها هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم. و «هم» الثانية تكرير للأولى. أو مبتدأ، و «غافلون» خبره، و الجملة خبر «هم» الأولى. و هو على الوجهين مناد على تمكّن غفلتهم عن الآخرة، المحقّقة لمقتضى الجملة المتقدّمة المبدلة من قوله: «لا يعلمون» تقريرا لجهالتهم، و تشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها، فإنّ من العلم بظاهرها معرفة حقائقها و صفاتها و خصائصها و أفعالها و أسبابها، و كيفيّة صدورها منها، و كيفيّة التصرّف فيها. و لذا قال «ظاهرا» بالتنكير. و أمّا باطنها، فإنّها مجاز إلى الآخرة، و وصلة إلى نيلها، و أنموذج لأحوالها. و إشعارا بأنّه لا فرق بين عدم العلم، و العلم الّذي يختصّ بظاهر الدنيا.

[سورة الروم [30]: الآيات 8 الى 10]

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ [8] أَ وَ لَمْ

ص: 250


1- بله بلها: ضعف عقله و عجز رأيه. فهو أبله. و جمعه: بله.
2- أي: يضربه.

يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [9] ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ [10]

ثمّ حثّ سبحانه على التفكّر و التدبّر فيما يدلّ على توحيده، من خلق السماوات و الأرض، ثمّ أحوال القرون الخالية و الأمم الماضية، فقال:

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أو لم يحدثوا التفكّر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر. فالجارّ

و المجرور ظرف للفعل. و يحتمل أن يكون صلة له. و معناه: أو لم يتفكّروا في خلق أنفسهم، فإنّها أقرب إليهم من غيرها و مرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها، ليتحقّق لهم قدرة مبدعها على إعادتها، كقدرته على إبدائها.

و قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ متعلّق بقول أو علم محذوف يدلّ عليه الكلام. تقديره: أو لم يتفكّروا فيقولوا أو فيعلموا هذا القول.

و المعنى: ما خلقها باطلا و عبثا بغير غرض صحيح و حكمة بالغة، بل إنّما خلقها مقرونة بالحقّ، مصحوبة بالحكمة.

وَ أَجَلٍ مُسَمًّى و بتقدير أجل مقرّر مقدّر لا بدّ لها من أن تنتهي إليه، و لا تبقى بعده. و هو وقت قيام الساعة.

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمّى، أو قيام الساعة لَكافِرُونَ جاحدون، يحسبون أنّ الدنيا أبديّة، و أنّ

ص: 251

الآخرة لا تكون.

ثمّ نبّههم سبحانه دفعة اخرى، فقال: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تقرير لسيرهم في أقطار الأرض، و نظرهم في آثار المدمّرين من قبلهم. كانُوا هم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد و ثمود، لأنّهم كانوا أطول أعمارا، و أكثر عددا و عددا.

وَ أَثارُوا الْأَرْضَ و قلّبوا وجهها، لاستنباط المياه، و استخراج المعادن، و زرع البزور، و غيرها. و سمّي الثور ثورا لإثارته الأرض، و بقرة لبقرها، و هو الشقّ.

وَ عَمَرُوها و عمروا الأرض أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها من عمارة أهل مكّة إيّاها، فإنّهم حفروا الأنهار، و غرسوا الأشجار، و بنوا الدور، و شيّدوا القصور، ثمّ تركوها و صاروا إلى الهلاك و القبور. و أهل مكّة هم أهل

واد غير ذي زرع، لا تبسّط لهم في غيرها.

و فيه تهكّم بهم، من حيث إنّهم مغترّون بالدنيا، مفتخرون بها. و هم أضعف حالا فيها، إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، و التسلّط على العباد، و التصرّف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، و هم ضعفاء ملجئون إلى واد لا نفع لها.

وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، أو الآيات الواضحات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليفعل بهم ما يفعله الظلمة، فيدمّرهم من غير جرم و لا تذكير وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم، من الإشراك باللّه و جحد الرسل.

و هذه الآية ناطقة بما ذهب إليه الإماميّة، من وقوع الأعمال من العباد بمشيئتهم و إرادتهم.

و فسّر النيشابوريّ الظلم الواقع في هذه الآية الكريمة، بوضع الأنفس

ص: 252

الشريفة في موضع خسيس، و هو عبادة الأصنام. ثمّ ذكر توجيه أهل البدعة و الضلالة لهذه الآية المتقنة، قائلا: «قال أهل السنّة: هذا الوضع كان بمشيئة اللّه و إرادته، لكنّه صدر عنهم، فأضيف إليهم» (1) انتهى كلامه.

و حاصله: أنّهم حملوا الإسناد على المجاز دون الحقيقة. و مرادهم أنّه سبحانه أراد الظلم و عبادة الأوثان من بعض البريّة.

و لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة و درية، و لكن لا حيلة لمن حاد (2) عن الجادّة النبويّة إلّا القول بنحو هذه التأويلات الرديّة، و إثبات دينه بمشتبهات السنّة. فسحقا لهم؛ تأوّلوا الآية المحكمة لإثبات الظلم للحضرة المقدّسة. و أيم اللّه هم العادلون عن الكتاب و السنّة، المتابعون للأهواء المضلّة، الظالمون الّذين أشار سبحانه إلى عاقبتهم بقوله:

ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي: عاقبتهم العقوبة أو الخصلة السوأى. فوضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على ما اقتضى

أن تكون تلك عاقبتهم، و أنّهم جاءوا بمثل أفعالهم. و السّوأى تأنيث الأسوأ، بمعنى الأقبح، كالحسنى. أو مصدر، كالبشرى، نعت به.

و المعنى: أنّهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثمّ كانت عاقبتهم العقوبة الّتي هي أسوأ العقوبات و أقبحها في الآخرة، و هي جهنّم الّتي أعدّت للكافرين.

أَنْ كَذَّبُوا لأن كذّبوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ف «أن» منصوب المحلّ على العلّة. و يجوز أن يكون بدلا أو عطف بيان للسوأى. أو خبر «كان» و «السوأى» مصدر: أساؤا، أو مفعوله، بمعنى: ثمّ كان عاقبة الّذين اقترفوا الخطيئة أن طبع اللّه على قلوبهم حتّى كذّبوا الآيات و استهزؤا بها. أو تكون «السوأى» صلة

ص: 253


1- تفسير غرائب القرآن 5: 404.
2- أي: مال و عدل.

الفعل، و «أن كذّبوا» تابعها، و الخبر محذوف للإبهام و التهويل. و أن تكون «أن» مفسّرة، بمعنى: أي، لأنّه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب و الاستهزاء، كانت في معنى القول، نحو: نادى و كتب، و ما أشبه ذلك.

و قرأ ابن عامر و الكوفيّون: عاقبة بالنصب، على أنّ الاسم «السوأى»، و «أن كذّبوا» يكون على الوجوه المذكورة.

[سورة الروم [30]: الآيات 11 الى 16]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [11] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [12] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ [13] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [14] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [15]

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [16]

ثمّ ذكر سبحانه قدرته على الإعادة فقال: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم ثُمَّ يُعِيدُهُ يبعثهم بعد الموت أحياء كما كانوا ثُمَّ إِلَيْهِ إلى ثوابه و عقابه تُرْجَعُونَ و العدول

إلى الخطاب للمبالغة في المقصود. و قرأ أبو عمرو و أبو بكر و روح بالياء على الأصل.

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يسكتون متحيّرين آيسين. يقال:

ناظرته فأبلس، إذا سكت و أيس من أن يحتجّ. و منه: الناقة المبلاس الّتي لا ترغو (1).

ص: 254


1- أي: لا تصوّت و لا تضجّ. من: رغا البعير، إذا صوّت و ضجّ.

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ ممّن أشركوهم باللّه شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب اللّه، كما زعموا أنّا نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى. و مجيئه بلفظ الماضي لتحقّقه.

وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يكفرون بآلهتهم، و يجحدونها، و يتبرّءون منها حين يئسوا منهم. و قيل: كانوا في الدنيا كافرين بسببهم.

و كتب في المصحف: شفعواء، و علماء بني إسرائيل، بالواو قبل الألف.

و كذلك كتب السوأى بالألف قبل الياء، إثباتا للهمزة على صورة الحرف الّذي منه حركتها.

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي: يتفرّق المؤمنون و الكافرون، لقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أرض ذات أزهار و أنهار. و التنكير لإبهام أمرها و تفخيمه. يُحْبَرُونَ يسرّون سرورا تهلّلت له وجوههم. يقال: حبره إذا سرّه سرورا ظهر أثره في الوجه. قال ابن عبّاس: يحبرون بمعنى: يكرمون. و قيل: يلذّذون بالسماع.

عن أبي امامة الباهلي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما من عبد يدخل الجنّة إلّا و يجلس عند رأسه ثنتان من الحور العين، تغنّيانه بأحسن صوت سمعه الإنس و الجنّ، و ليس بمزمار الشيطان، و لكن بتمجيد اللّه و تقديسه».

و عن أبي الدرداء قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يذكر الناس، فذكر الجنّة و ما فيها من الأزواج و النعيم، و في آخر القوم أعرابيّ، فجثا لركبتيه و قال: يا رسول اللّه هل في الجنّة من سماع؟

قال: نعم يا أعرابي، إنّ في الجنّة لنهرا حافّتاه الأبكار من كلّ بيضاء خوصانيّة، يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قطّ، فذلك أفضل نعيم الجنّة».

ص: 255

و الخوصانيّة: المرهفة (1) الأعلى، الضخمة الأسفل. قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنّين؟ قال: بالتسبيح.

و عن إبراهيم: إنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة، فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث اللّه ريحا من تحت العرش، فتقع في تلك الأشجار، فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا.

ثمّ أخبر عن حال الكافرين، فقال: وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ مدخلون لا يغيبون عنه. و لفظ الإحضار لا يستعمل إلّا فيما يكرهه الإنسان. يقال: أحضر فلان مجلس القضاء، إذا جي ء به لما لا يؤثره.

[سورة الروم [30]: الآيات 17 الى 21]

فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ [17] وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ [18] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [19] وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [20] وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [21]

ص: 256


1- أي: دقيقة الأعلى ضامرته.

و لمّا ذكر الوعد و الوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد، و ينجي من الوعيد، فقال:

فَسُبْحانَ اللَّهِ إخبار في معنى الأمر بتنزيه اللّه تعالى و الثناء عليه. و المعنى:

سبّحوه و نزّهوه عمّا لا يليق به، أو ينافي تعظيمه من صفات النقص، بأن تصفوه بما يليق به من الصفات و الأسماء. حِينَ تُمْسُونَ حين تدخلون في المساء، و هو مجي ء ظلام الليل وَ حِينَ تُصْبِحُونَ حين تدخلون في الصباح.

وَ لَهُ الْحَمْدُ و له الثناء و الحمد فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: هو المستحقّ لحمد أهلهما لإنعامه عليهما وَ عَشِيًّا و في وقت العشيّ. و هو آخر النهار. من:

عشي العين، إذا نقص نورها. و كأنّه لعدم مجي ء الفعل من العشيّ ترك «حين» في «عشيّا». وَ حِينَ تُظْهِرُونَ و حين تدخلون في الظهيرة، و هي نصف النهار.

و تخصيص التسبيح بالمساء و الصباح، لأنّ آثار القدرة و العظمة فيهما أظهر.

و تخصيص الحمد بالعشيّ الّذي هو بقيّة النهار، و الظهيرة الّتي هي وسطه، لأنّ تجدّد النعم فيهما أكثر. و يجوز أن يكون «عشيّا» معطوفا على «حين تمسون»، و قوله:

«وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ» اعتراضا.

و عن ابن عبّاس و مجاهد: إنّ الآية جامعة للصلوات الخمس. «تمسون» صلاة المغرب و العشاء. و «تصبحون» صلاة الفجر. و «عشيّا» صلاة العصر.

و «تظهرون» صلاة الظهر. و لذلك زعم الحسن أنّها مدنيّة، لأنّه كان يقول: كان الواجب بمكّة ركعتين في أيّ وقت اتّفقتا، و إنّما فرضت الخمس بالمدينة. و الأكثر على أنّها فرضت بمكّة.

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإنسان من النطفة، و الطائر من البيضة وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كالنطفة و البيضة. أو يعقّب الحياة الموت، و بالعكس. و عن مجاهد: يخرج المؤمن من الكافر، و الكافر من المؤمن. وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات

ص: 257

بَعْدَ مَوْتِها يبسها وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ من قبوركم، فإنّه أيضا تعقيب للحياة الموت. و قرأ حمزة و الكسائي

بفتح التاء. و الباقون بضمّها و فتح الراء.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى، فليقل: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ» الآية».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال حين يصبح: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ إلى قوله- تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يومه، و من قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته».

وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على وحدانيّته و كمال قدرته أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي:

في أصل الإنشاء، لأنّه خلق أصلهم منه، و هو أبوهم آدم ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ثمّ فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، متصرّفين على ظهرها، متفرّقين في أطرافها، كقوله تعالى: وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً (1).

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم، و سائر النساء خلقن من نطف الرجال. أو لأنّهنّ من جنسهم لا من جنس آخر.

لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتطمئنّوا و تميلوا إليها، و تألفوا بها، و يستأنس بعضكم ببعض.

يقال: سكن إليه إذا مال إليه. و لا شكّ أنّ الجنسيّة علّة للضمّ، و الاختلاف سبب للتنافر.

وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ أي: بين الرجال و النساء، أو بين أفراد الجنس مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً بواسطة الزواج حال الشبق و غيرها، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، و لا لقاء، و لا سبب يوجب التحابّ و التعاطف، من قرابة أو رحم. أو بأنّ تعيّش الإنسان متوقّف على التعارف و التعاون، المحوج إلى التوادّ و التراحم.

و عن الحسن: المودّة كناية عن الجماع، و الرحمة عن الولد، كما قال:

ص: 258


1- النساء: 1.

وَ رَحْمَةً مِنَّا (1). و قال: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ

في خلق الأزواج مشاكلة للرجال لَآياتٍ لدلالات واضحات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون ما في ذلك من الحكم.

[سورة الروم [30]: الآيات 22 الى 27]

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ [22] وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [23] وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [24] وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [25] وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [26]

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27]

ثمّ نبّه على آية اخرى فقال: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما فيهما من عجائب خلقه، و بدائع صنعه، من النجوم و الشمس و القمر، و جريها في مجاريها على غاية الاتّساق و النظام، و أنواع الجمادات و النباتات و الحيوانات المخلوقة على

ص: 259


1- مريم: 21 و 2.
2- مريم: 21 و 2.

وجه الإحكام.

وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ لغاتكم، بأن علّم كلّ صنف لغته، أو ألهمه وضعها، و أقدره عليها. أو أجناس نطقكم و أشكاله، فإنّك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفيّة.

وَ أَلْوانِكُمْ أي: اختلافها، من بياض الجلد و سواده، و حمرته و صفرته و سمرته. أو تخطيطات الأعضاء و هيئاتها، ليقع التمايز و التعارف، حتّى إنّ التوأمين مع توافق موادّهما و أسبابهما، و الأمور الملاقية لهما في التخليق، يختلفان في شي ء من ذلك لا محالة. و ما ذلك إلّا للتراكيب البديعة، و اللطائف العجيبة، الدالّة على كمال قدرته و حكمته. و لو اتّفقت الألوان، و تشاكلت التخطيطات، بحيث كانت ضربا واحدا، لوقع التجاهل و الالتباس، و لتعطّلت مصالح كثيرة.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لأدلّة واضحة لِلْعالِمِينَ لا تكاد تخفى على عاقل، من ملك أو إنس أو جنّ. و قرأ حفص: للعالمين بكسر اللام. و يؤيّده قوله: وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (1).

وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ هذا من باب اللفّ و النشر. و ترتيبه: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار. إلّا أنّه ضمّ بين الزمانين و الفعلين بعاطفين، إشعارا بأنّ كلّا من الزمانين- مع أنّه مختصّ بأحدهما عرفا- صالح للآخر عند مسّ الحاجة إليه.

و يجوز أن يكون المعنى: و من آياته منامكم في الزمانين، لاستراحة القوى النفسانيّة، و قوّة القوى الطبيعيّة، و طلب معاشكم فيهما.

و يؤيّد الأوّل سائر الآيات الواردة فيه. و أسدّ المعاني ما دلّ عليه القرآن.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهّم فانّ الانتفاع منها إنّما يظهر

ص: 260


1- العنكبوت: 43.

في التفهّم و الاستبصار.

وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدّر ب «أن» المصدريّة. أو الفعل فيه منزّل منزلة المصدر، كقولهم: تسمع بالمعيدي (1) خير من أن تراه. أو صفة لمحذوف، تقديره:

آية يريكم بها البرق. خَوْفاً من الصاعقة، أو من أن يخلف فلا يمطر وَ طَمَعاً في الغيث. و قيل: خوفا للمسافر، و طمعا للحاضر.

و نصبهما على العلّة لفعل يلزم المذكور، فإنّ إراءتهم تستلزم رؤيتهم. أو الفعل المذكور على تقدير مضاف، نحو إرادة خوف و طمع. أو تأويل الخوف و الطمع بالإخافة

و الإطماع. فلا يرد: أنّ من حقّ المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلّل، و الخوف و الطمع ليسا كذلك. و يجوز أن يكونا حالين، أي: خائفين و طائعين، مثل: كلّمته شفاها.

وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها، و كيفيّة تكوّنها، ليظهر لهم كمال قدرة الصانع و حكمته.

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي: قيام السماوات و الأرضين و استمساكهما بغير عمد لهما بأمره لهما بالقيام، بأن قال لهما: كونا قائمتين، لقوله:

إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2).

و قيل «بأمره» أي: بفعله و إمساكه. و التعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة، و الغنى عن الآلة، لأنّه أبلغ في الاقتدار، فإنّ قول القائل: أمر فكان، أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول: فعل فكان. و معنى القيام الثبات و الدوام، كما يقال:

ص: 261


1- في هامش النسخة الخطّية: «معيدي تصغير معدّيّ، فاجتمع التشديدان فخفّف. منه». انظر الصحاح 2: 506.
2- النحل: 40.

السوق قائمة.

و قوله: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي: من القبر إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ عطف على «أن تقوم» على تأويل مفرد. كأنّه قيل: و من آياته قيام السماوات و الأرض بأمره، ثمّ خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة، فيقول: أيّها الموتى اخرجوا. و المراد تشبيه سرعة ترتّب حصول ذلك على تعلّق إرادته، بلا توقّف و احتياج إلى تجشّم عمل بسرعة ترتّب إجابة الداعي المطاع على دعائه.

و «ثم» إمّا لتراخي زمانه، أو لعظم ما فيه، و اقتداره على مثله، و هو أن يقول:

يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأوّلين و الآخرين إلّا قامت تنظر، كما قال عزّ و جلّ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (1).

و «من» متعلّق ب «دعا». تقول: دعوت زيدا من أعلى الجبل فنزل عليّ، و دعوته من أسفل الجبل فطلع إليّ. لا ب «دعوة» لأنّ الفعل أقوى في العمل. و لا يجوز أن يتعلّق ب «تخرجون» لأنّ ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها. و «إذا» الثانية للمفاجأة، و لذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من العقلاء، يملكهم و يملك التصرّف فيهم.

و إنّما خصّ العقلاء لأنّ ما عداهم في حكم التبع لهم.

ثمّ أخبر عن جميعهم، فقال: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون لفعله فيهم، من الحياة و البقاء و الموت و البعث و غيرها، لا يمتنعون عليه في شي ء ممّا أراد.

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ يخترعه ابتداء ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد إفنائه. جعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على ما خفي من إعادته، استدلالا بالشاهد على الغائب.

ثمّ أكّد ذلك بقوله: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي: أسهل عليه من الأصل بالإضافة

ص: 262


1- الزمر: 68.

إلى قدركم، و القياس على أصولكم، و اقتضاء عقولكم، لأنّ من أعاد منكم صنعة شي ء كانت أسهل عليه و أهون من إنشائها، و إلّا فهما سواء عليه سبحانه. و لذلك قيل: الهاء للخلق بمعنى المخلوق، أي: و الإعادة على المخلوق أهون من النشأة الأولى، لأنّه إنّما يقال له في الإعادة: كن فيكون، و في النشأة الأولى كان نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظاما، ثمّ كسيت العظام لحما، ثمّ نفخ فيه الروح. فتكوينه في حدّ الاستحكام و التمام، أهون عليه و أقلّ تعبا من أن يتنقّل في أحوال، و يندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ.

و قيل: «أهون» بمعنى هيّن، كقول الشاعر: لعمرك ما أدري و إنّي لأوجل (1)، أي: لوجل.

وَ لَهُ الْمَثَلُ الوصف العجيب الشأن، كالقدرة العامّة، و الحكمة التامّة. و من فسّره بقول لا إله إلّا اللّه أراد به الوصف بالوحدانيّة. الْأَعْلى الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يصفه به ما فيهما دلالة و نطقا وَ هُوَ الْعَزِيزُ القادر الّذي لا يعجز عن إبداء ممكن و إعادته الْحَكِيمُ الّذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.

[سورة الروم [30]: الآيات 28 الى 29]

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [28] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [29]

ص: 263


1- و عجزه: على أيّنا تغدو المنيّة أوّل.

ثمّ احتجّ سبحانه على عبدة الأوثان، فقال: ضَرَبَ بيّن لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: مثلا منتزعا من أحوالها الّتي هي أقرب الأمور إليكم، فإنّ «من» هنا للابتداء.

ثمّ بيّنه بقوله: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «من» للتبعيض، أي: بعض مماليككم مِنْ شُرَكاءَ مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال و غيرها فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ فتكونون أنتم و هم فيه على السويّة، من غير تفضيل بين حرّ و عبد، فيتصرّفون فيه كتصرّفكم تَخافُونَهُمْ أن يستبدّوا بالتصرّف فيه دونكم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كما يخاف الأحرار بعضهم بعضا، فإنّ الرجل الحرّ يخاف شريكه الحرّ في المال يكون بينهما أن يتفرّد دونه فيه بأمر يخاف من شريكه. فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ترضون لربّ الأرباب و مالك الأحرار و العبيد، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟! كَذلِكَ مثل ذلك التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ نبيّنها، فإنّ التمثيل ممّا يكشف المعاني و يوضحها، لأنّه بمنزلة التصوير و التشكيل لها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في تدبّر الأمثال.

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإشراك أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يكفّهم شي ء، فإنّ العالم إذا اتّبع هواه ربما ردعه علمه.

فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ فمن يقدر على هداية من خذله، و لم يلطف به، لعلمه أنّه ممّن لا يؤثّر اللطف فيه؟ أو فمن يهدي إلى الثواب و الخير من أضلّه اللّه عن ذلك؟ و الأشاعرة حملوا الإضلال على خلق الضلال في المكلّف. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونهم من الضلالة، و يحفظونهم عن آفاتها. أو ينصرونهم و يدفعون عنهم عذاب اللّه إذا حلّ بهم.

ص: 264

[سورة الروم [30]: الآيات 30 الى 32]

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [30] مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [31] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [32]

ثمّ خاطب نبيّه فقال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ فقوّمه و عدّله، غير ملتفت عنه يمينا و لا شمالا. و هذا تمثيل للإقبال و الاستقامة على الدين، و الاهتمام به، فإنّ من اهتمّ بالشي ء عقد عليه طرفه، و سدّد إليه نظره، و قوّم له وجهه، مقبلا به عليه بكلّه.

حَنِيفاً حال من المأمور، أي: مائلا إليه، ثابتا عليه، مستقيما فيه، لا ترجع عنه إلى غيره. و يجوز أن يكون حالا من الدين.

فِطْرَتَ اللَّهِ خلقته. نصب على الإغراء، أي: الزموا فطرة اللّه، أو عليكم فطرة اللّه. أو على المصدر لما دلّ عليه قوله: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم عليها. و هي قبولهم للحقّ، و تمكّنهم من إدراكه. أو ملّة الإسلام، فإنّهم لو خلّوا و ما خلقوا عليه أدّى بهم إليها، لكونه مساوقا للنظر الصحيح، مجاوبا للعقل، و من غوى فبإغواء شياطين الإنس و الجنّ. و منه

الحديث القدسي: «كلّ عبادي خلقت حنفاء، فاجتالتهم (1) الشياطين عن دينهم، و أمروهم أن يشركوا بي غيري».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كلّ مولود يولد على الفطرة، حتّى يكون أبواه هما اللّذان يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه».

و قيل: «فطرة اللّه»: العهد المأخوذ من آدم و ذرّيّته.

ص: 265


1- اجتال القوم: حوّلهم عن قصدهم.

لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لا يقدر أحد أن يغيّره. أو ما ينبغي أن يغيّر. ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الّذي لا عوج فيه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استقامته، لعدم تدبّرهم، و عدولهم عن النظر فيه.

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه، أي: إلى كلّ ما أمر به. من: أناب إذا رجع مرّة بعد اخرى. و هو حال من الضمير في الناصب المقدّر لفطرة اللّه، أعني: الزموا أو عليكم. أو من مفعول: فطر، أي: خلقهم قابلين للتوحيد و دين الإسلام، غير ناءين عنه، و لا منكرين له، لكونه مجاوبا للعقل، كما مرّ آنفا. أو في «أقم» لأنّ المراد من خطاب الرسول جميع أمّته، لقوله: وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ غير أنّها صدرت بخطاب الرسول تعظيما له.

مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين. و المعنى: و لا تكونوا من الّذين جعلوا دينهم أديانا

مختلفة، لاختلاف أهوائهم الباطلة. و قرأ حمزة و الكسائي:

فارقوا، بمعنى: تركوا دينهم الّذي أمروا به. وَ كانُوا شِيَعاً فرقا، كلّ واحدة تشايع إمامها الّذي أضلّ دينها كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون بمذهبهم، ظنّا بأنّه الحقّ. و يجوز أن يجعل «فرحون» صفة «كلّ» على أنّ الخبر «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا».

[سورة الروم [30]: الآيات 33 الى 38]

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [33] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [34] أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [35] وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا

ص: 266

هُمْ يَقْنَطُونَ [36] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [37]

فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [38]

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ شدّة، من مرض أو قحط، أو غير ذلك دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من دعاء غيره ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً بأن يعافيهم من المرض، أو يغنيهم من الفقر إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجأ فريق منهم بالإشراك بربّهم الّذي عافاهم.

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعم. و اللام فيه للعاقبة. و قيل: للأمر بمعنى التهديد، لقوله: فَتَمَتَّعُوا غير أنّه التفت فيه مبالغة. و نظيره في التهديد قوله:

اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (1). و قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ (2).

و المعنى: انتفعوا بنعيم هذه الدنيا الفانية كيف شئتم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتّعكم.

أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجّة يتسلّطون بذلك على ما ذهبوا إليه. و قيل:

ذا سلطان، أي: ملكا معه برهان. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ تكلّم دلالة، كقوله: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ (3). و كما تقول: هذا ممّا نطق به القرآن. و معناه: الدلالة و الشهادة. أو تكلّم نطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي: بصحّة كونهم باللّه يشركون.

ص: 267


1- فصّلت: 40.
2- الكهف: 29.
3- الجاثية: 29.

و يجوز أن تكون «ما» موصولة، و يرجع الضمير إليها. و معناه: فهو يتكلّم بالأمر الّذي بسببه يشركون. و الهمزة للإنكار. و المعنى: أنّهم لا يقدرون على تصحيح ذلك، و لا يمكنهم ادّعاء برهان و حجّة عليه.

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحّة وسعة فَرِحُوا بِها بطروا بسببها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدّة تسوؤهم، من سقم و فقر بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم المعاصي الصادرة منهم. و إسنادها إلى أيديهم بناء على التغليب، فإنّ أكثر العمل لليدين. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجئوا القنوط و اليأس من رحمته.

ثمّ أنكر عليهم بأنّهم قد علموا أنّه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته؟ فقال:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ فما لهم لم يشكروا و لم يرجعوا إليه، تائبين من المعاصي الّتي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتّى يعيد إليهم رحمته.

إِنَّ فِي ذلِكَ في بسط الرزق لقوم، و تضييقه لآخرين لَآياتٍ لدلالات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلّون بها على كمال القدرة و الحكمة.

و لمّا ذكر أنّ السيّئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، و ما يجب أن يترك، فقال:

فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ و أعط ذوي قرباك يا محمّد حقوقهم الّتي جعلها اللّه لهم من الأخماس.

و روى أبو سعيد الخدري و غيره أنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطى فاطمة عليها السّلام فدكا و سلّمه إليها. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: الخطاب له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لغيره. و المراد بالقربى قرابة الرجل. و هو أمر بصلة الرحم.

ص: 268

وَ الْمِسْكِينَ ما وظّف اللّه له من الخمس و الزكاة وَ ابْنَ السَّبِيلِ و المسافر المحتاج ما فرض اللّه له في مالك.

ذلِكَ أي: إعطاء الحقوق مستحقّيها خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته، أو جهته لا جهة اخرى، أي: يقصدون بمعروفهم إيّاه خالصا من الرياء و السمعة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بما بسط لهم من النعيم المقيم.

[سورة الروم [30]: الآيات 39 الى 40]

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [39] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [40]

وَ ما آتَيْتُمْ أعطيتم مِنْ رِباً من زيادة مال. و قرأ ابن كثير: أتيتم بالقصر، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ليزيد و يزكو في أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ فلا يزكو عنده. و قرأ نافع و يعقوب: لتربوا بالخطاب، أي: لتزيدوا، أو لتصيروا ذوي ربا.

قيل: نزلت في ثقيف، و كانوا يربون. و معناه: و ما أوتيتم من زيادة محرّمة في المعاملة، كقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ (1).

و قيل: المراد: و ما أوتيتم من عطيّة يتوقّع بها مزيد مكافأة. و ذلك بأن يهب رجل رجلا أو يهدي له ليعوّضه أكثر ممّا وهب أو أهدى، فليست تلك

الزيادة

ص: 269


1- البقرة: 276.

بحرام، و لكنّ المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة.

و هذا القول منقول عن ابن عبّاس و طاووس. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قالوا: الربا ربوان. فالحرام كلّ قرض يؤخذ فيه أكثر منه أو يجرّ منفعة.

و الّذي ليس بحرام أن يستدعي بهبته أو بهديّته أكثر منها.

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصا، و لا تطلبون بها مكافأة و لا رئاء و لا سمعة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ذوو الأضعاف من الثواب. و نظير المضعف المقوي و الموسر لذي القوّة و اليسار. أو الّذين ضعّفوا ثوابهم و أموالهم ببركة الزكاة. و تغييره عن سنن المقابلة عبارة و نظما للمبالغة. و الالتفات فيه للتعظيم، كأنّه خاطب به الملائكة و خواصّ الخلق تعريفا لحالهم، فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون. أو للتعميم، كأنّه قال: فمن فعل ذلك فأولئك هم المضعفون. و الراجع إلى «ما» محذوف، تقديره: المضعفون به، أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون.

اللَّهُ مبتدأ، و خبره الَّذِي خَلَقَكُمْ أوجدكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أعطاكم أنواع النعم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ليصحّ إيصالكم إلى ما عرّضكم له من الثواب الدائم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ليجازيكم على أفعالكم. و المعنى: إنّما اللّه فاعل هذه الأفعال الّتي لا يقدر على شي ء منها أحد غيره.

ثمّ أثبت لذاته لوازم الألوهيّة، و نفاها رأسا عمّا اتّخذوه شركاء له من الأصنام و غيرها، مؤكّدا بالإنكار على ما دلّ عليه البرهان و العيان، و وقع عليه الوفاق، بقوله:

هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الّتي عبدتموها من دونه مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و ذكر الاستفهام لتأكيد إنكار دلالة البرهان و العيان.

ص: 270

ثمّ استنتج من ذلك تقدّسه عن أن يكون له شركاء، فقال: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ و يجوز أن يكون الموصول صفة، و الخبر «هل من شركائكم» و الرابط «من ذلكم» لأنّه بمعنى: من أفعاله. و «من» الأولى و الثانية تفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء و الأفعال، و الثالثة مزيدة لتعميم المنفيّ. و كلّ منها مستقلّة بالتأكيد، لتعجيز الشركاء، و تجهيل عبدتهم. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء.

[سورة الروم [30]: الآيات 41 الى 46]

ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [41] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ [42] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [43] مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [44] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [45]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [46]

ثمّ ذكر سبحانه ما أصاب الخلق بسبب ترك التوحيد، فقال: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ كالجدب و الموتان، و كثرة الحرق و الغرق، و محق البركات، و كثرة المضارّ و الظلم. و عن ابن عبّاس: معناه: أجدبت الأرض. و انقطعت مادّة البحر.

ص: 271

و قالوا: إذا انقطع القطر عميت دوابّ البحر. و عن الحسن المراد بالبحر قرى السواحل.

و أصل البرّ من البرّ، لأنّه يبرّ بصلاح المقام فيه. و كذلك البرّ، لأنّه يبرّ بصلاح الغذاء أتمّ صلاح. و أصل البحر الشقّ، لأنّه شقّ في الأرض، ثمّ اتّسع استعماله، فسمّي الماء الملح بحرا و إن قلّ.

و قيل: فساد البرّ ما يحصل فيه من المخاوف المانعة من سلوكه، و يكون ذلك بخذلان اللّه أهله، و العقاب به. و فساد البحر اضطراب أمره، حتّى لا يكون للعباد متصرّف فيه.

بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بشؤم كسب معاصيهم. و عن مجاهد: ظهر الفساد في البرّ بقتل ابن آدم أخاه، و في البحر بأنّ جلندى (1) كان يأخذ كلّ سفينة غصبا.

لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا بعض جزائه، فإنّ تمامه في الآخرة. و اللام للعلّة، أو للعاقبة. و عن ابن كثير و يعقوب: لنذيقهم بالنون. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عمّا هم عليه.

ثمّ أكّد تسبّب المعاصي لغضب اللّه و نكاله، حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا آثار تدميرهم، فقال:

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كيف أهلك اللّه الأمم، و أذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم، بأن جعل قصورهم قبورهم، و محاضرهم مقابرهم، لتشاهدوا مصداق ذلك، و تتحقّقوا صدقه. و كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أنّ سوء عاقبتهم كان لفشوّ الشرك و غلبته فيهم. أو على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، و أنّ ما دونه من المعاصي يكون أيضا سببا له.

ص: 272


1- اسم ملك عمان.

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ الاستقامة، الّذي لا يتأتّى فيه عوج أصلا.

و المعنى: لا تعدل عنه يمينا و لا شمالا، فإنّك متى فعلت ذلك أدّاك إلى طريق مستقيم إلى الجنّة.

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ لا يقدر أن يردّه أحد. و هو يوم القيامة.

و قوله: مِنَ اللَّهِ متعلّق ب «يأتي» أي: من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يردّه أحد.

و يجوز أن يتعلّق ب «مردّ» لأنّه مصدر على معنى: لا يردّه اللّه، لتعلّق إرادته القديمة بمجيئه.

يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدّعون، أي: يتفرّقون، فريق في الجنّة، و فريق في السعير. كما قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: و باله. و هو النار المؤبّدة. وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يسوّون و يوطّئون لأنفسهم في الجنّة ما يسوّيه لنفسه الّذي يمهّد فراشه و يوطّئه، لئلّا يصيبه في مضجعه ما ينغّص عليه مرقده، من نتوء (1) و سائر ما يؤذي الراقد. يقال: مهّدت لنفسي خيرا، أي: هيّأته و وطّأته.

روى منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة، فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه».

و تقديم الظرف في الموضعين، للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلّا على الكافر لا يتعدّاه، و منفعة الإيمان و العمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه.

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ علّة ل «يمهدون» أو ل «يصّدّعون».

و الاقتصار على جزاء المؤمنين، للإشعار بأنّه المقصود بالذات. مِنْ فَضْلِهِ متعلّق بفعل الجزاء، أي ليجزيهم ممّا يتفضّل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب. و هذا يشبه الكناية، لأنّ الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلّا بعد حصول ما هو تبع له. أو أراد: من عطائه، و هو ثوابه، لأنّ الفضول و الفواضل هي الأعطية عند العرب.

ص: 273


1- أي: ارتفاع.

و قيل: معناه: بسبب فضله، لأنّه خلقهم و هداهم و مكّنهم و أزاح علّتهم، حتّى استحقّوا الثواب.

و تكرير «الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» و ترك الضمير إلى الصريح، لتقرير أنّه لا يفلح عنده إلّا المؤمن الصالح.

و قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يدلّ بمنطوقه على إثبات البغض لهم، كما يدلّ بمفهومه على إثبات المحبّة للمؤمنين.

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ الشمال و الصبا و الجنوب، فإنّها رياح الرحمة، و أمّا الدبور فريح العذاب. و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهمّ اجعلها رياحا، و لا تجعلها ريحا».

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: الريح، على إرادة الجنس.

مُبَشِّراتٍ بالمطر، فكأنّها ناطقات بالبشارة، لما فيها من الدلالة عليه.

و إرسالها تحريكها و إجراؤها في الجهات المختلفة، تارة شمالا، و تارة جنوبا، و تارة صبا، على حسب ما يعلم اللّه في ذلك من المصلحة.

وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني: المنافع التابعة لها. و هي: نزول المطر، و الخصب التابع لنزول المطر المسبّب عنها، و الروح الّذي مع هبوبها، و زكاء الأرض.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض».

و المؤتفكات:

هي الرياح الّتي تختلف مهابّها. و إزالة العفونة من الهواء، و تذرية الحبوب، و غير ذلك.

و العطف على علّة محذوفة دلّ عليها «مبشّرات». كأنّه قيل: ليبشّركم و ليذيقكم. أو عليها باعتبار المعنى، فإنّها في معنى: ليبشّركم. و يجوز أن يتعلّق بمحذوف، تقديره: ليكون كذا و كذا أرسلناها و ليذيقكم.

وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ عند هبوبها. و إنّما قال: «بأمره» لأنّ الريح قد تهبّ و لا تكون مؤاتية، فلا بدّ من إرساء السفن و الاحتيال لحبسها، و ربما عصفت

ص: 274

فأغرقتها. وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني: تجارة البحر وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لتشكروا نعمة اللّه فيها.

[سورة الروم [30]: الآيات 47 الى 50]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [47] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [48] وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [49] فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [50]

و بعد ذكر أدلّة التوحيد و القدرة الكاملة، خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسلية له في تكذيب قومه إيّاه، فقال:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات الباهرات، فكذّبوهم و جحدوا بآياتنا، فاستحقّوا العذاب فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالتدمير. و قوله: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ إشعار بأنّ الانتقام تعظيم لهم، و رفع لشأنهم، حيث جعلهم مستحقّين على اللّه أن ينصرهم.

و جاءت الرواية عن أمّ الدرداء أنّها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه، إلّا كان حقّا على اللّه أن يردّ عنه نار جهنّم

ص: 275

يوم القيامة». ثمّ تلا قوله: «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

و قد يوقف على «حقّا» على أنّه متعلّق بالانتقام. و المعنى: و كان الانتقام منهم حقّا، ثمّ يبتدأ: «عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

ثمّ قال تفسيرا لما أجمله في الآية المتقدّمة: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فتهيّجه و تزعجه فَيَبْسُطُهُ متّصلا تارة فِي السَّماءِ في سمتها، كقوله: وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (1) كَيْفَ يَشاءُ سائرا أو واقفا، مطبقا و غير مطبق، من جانب دون آخر، إلى غير ذلك.

وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً أي: قطعا متفرّقة تارة اخرى. و قيل: متراكبا بعضه على بعض حتّى يغلظ. و قرأ ابن عامر بالسكون على أنّه مخفّف، أو جمع كسفة، أو مصدر وصف به.

فَتَرَى الْوَدْقَ أي: القطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ في التارتين جميعا فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني: بلادهم و أراضيهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون لمجي ء الخصب، أو يبشّر بعضهم بعضا به.

وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ تكرير للتأكيد، كقوله: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها (2) لَمُبْلِسِينَ لآيسين.

و معنى التأكيد فيه: الدلالة على أنّ عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد، فاستحكم يأسهم، و تمادى إبلاسهم (3). و قيل: الضمير للسحاب، أو إرسال السحاب.

فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أي: أثر الغيث، من النبات و الأشجار و أنواع الثمار. و لذلك جمعه ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ

ص: 276


1- إبراهيم: 24.
2- الحشر: 17.
3- الإبلاس: اليأس من الخير، و قلّة الخير، و الانكسار غمّا و حزنا.

بإنبات الخضراوات بَعْدَ مَوْتِها بعد أن كانت مواتا يابسة. جعل سبحانه اليبس و الجدوبة بمنزلة الموت، و ظهور النبات فيها بمنزلة الحياة توسّعا.

إِنَّ ذلِكَ يعني: الّذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم، فإنّه إحداث لمثل ما كان في موادّ أبدانهم من القوى الحيوانيّة، كما أنّ إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتيّة وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من المقدورات قَدِيرٌ لأنّ نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.

[سورة الروم [30]: الآيات 51 الى 53]

وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [51] فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [52] وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [53]

ثمّ عاب سبحانه كافر النعمة بقوله: وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً مؤذنة بالهلاك.

و هي الريح الباردة. فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع، فإنّه مدلول عليه بما تقدّم. و قيل: السحاب، لأنّه إذا كان مصفرّا لم يمطر. و اللام موطّئة للقسم، دخلت على حرف الشرط. و قوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب القسم سدّ مسدّ الجزاء. و لذلك فسّر بالاستقبال، أي: ليظللن.

ذمّهم اللّه سبحانه في هذه الآية بأنّه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته، و ضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، و كان عليهم أن يتوكّلوا على اللّه و فضله.

و إذا أصابهم برحمته و رزقهم المطر استبشروا و ابتهجوا، و كان عليهم أن يشكروا نعمته و يحمدوه عليها، فلم يزيدوا على الفرح. و إذا أرسل ريحا فضرب زروعهم

ص: 277

بالصفار (1) ضجّوا و كفروا بنعمته، و كان عليهم أن يصبروا على بلائه و لم يكفروا.

فهم في جميع هذه الأحوال على الصفات المذمومة.

و لمّا كان هكذا حالهم في عدم التدبّر فيما ينفعهم في خاتمتهم، قال سبحانه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي: هم مثل الموتى، لمّا سدّوا عن الحقّ مشاعرهم وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ إذا أعرضوا عن أدلّتنا، ذاهبين إلى الضلال و الفساد، غير سالكين سبيل الرشاد. قيّد الحكم به، ليكون أشدّ استحالة، فإنّ الأصمّ المقبل و إن لم يسمع الكلام، يفطن منه بواسطة الحركات شيئا.

وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ يعني: أنّهم كالعمي لا يهتدون بالأدلّة، و لا تقدر على ردّهم عن العمى، إذ لم يطلبوا الاستبصار. فسمّاهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الإبصار، أو لعمى قلوبهم.

إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يصدّق بآياتنا و أدلّتنا، فإنّ إيمانهم يدعوهم إلى تلقّي اللفظ و تدبّر المعنى. و يجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان. فَهُمْ

مُسْلِمُونَ منقادون لما يأمرهم.

[سورة الروم [30]: الآيات 54 الى 60]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [54] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ [55] وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ

ص: 278


1- أي: الصفرة: و الصفارة: ماذوي من النبات و ذبل.

الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [56] فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [57] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ [58]

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [59] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [60]

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الأدلّة، فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي:

ابتدأكم ضعفاء، و جعل الضعف أساس أمركم، و ما عليه جبلّتكم و بنيتكم، كقوله:

وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (1). و ذلك حال الطفوليّة، لا تقدرون على البطش و المشي و سائر التصرّفات. أو خلقكم من أصل ضعيف، و هو النطفة، كقوله: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (2).

ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً و ذلك إذا بلغتم الحلم، أو تعلّق بأبدانكم الروح ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً إذا طعنتم في السنّ.

و فتح عاصم و حمزة الضاد في جميعها. و الضمّ أقوى، لقول ابن عمر: قرأتها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ضعف» فأقرأني: «من ضعف». و هما لغتان، كالفقر و الفقر. و التنكير مع التكرير،

لأنّ المتأخّر ليس عين المتقدّم.

يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعف و قوّة و شيبة وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ فإنّ الترديد

ص: 279


1- النساء: 28.
2- السجدة: 8.

في الأحوال المختلفة، و التغيير من هيئة، إلى هيئة، و صفة إلى صفة، مع إمكان غيره، أظهر دليل و أعدل شاهد على الصانع العليم القدير.

ثمّ بيّن سبحانه حال البعث، فقال: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة. سمّيت بها، لأنّها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنّها تقع بغتة. و صارت علما لها بالغلبة، كالكوكب للزهرة و النجم للثريّا.

يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا أي: يحلفون ما مكثوا في الدنيا، أو في القبور، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. و في الحديث: «ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون». قالوا: لا نعلم أ هي أربعون سنة، أم أربعون ألف سنة، أم أيّام، أم ساعات؟ و ذلك وقت يفنون فيه. غَيْرَ ساعَةٍ استقلّوا مدّة لبثهم إضافة إلى مدّة عذابهم في الآخرة، أو نسيانا.

كَذلِكَ مثل ذلك الصرف عن الصدق و التحقيق، و قولهم على التخمين كانُوا يُؤْفَكُونَ يصرفون في الدنيا، و هكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحقّ.

ثمّ أخبر عن علماء المؤمنين من الملائكة و الإنس في ذلك اليوم، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علم اللّه، أو قضائه، أو فيما كتبه لكم، أي: أوجبه بحكمته، أو في اللوح، أو القرآن. و هو قوله:

وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ (1). إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ردّوا بذلك ما قاله الكفّار و حلفوا عليه، و أطلعوهم على الحقيقة. ثمّ وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذي أنكرتموه وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنّه حقّ، لتفريطكم في طلب الحقّ و اتّباعه. و الفاء لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، أي: فقد تبيّن بطلان إنكاركم.

ص: 280


1- المؤمنون: 100.

فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا يمكّنون من الاعتذار، و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم. و قرأ الكوفيّون بالياء، لأنّ المعذرة بمعنى العذر، أو لأنّ تأنيثها غير حقيقيّ، و قد فصل بينهما. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلبون إلى ما يقتضي إعتابهم، أي: إزالة عتبهم، من التوبة و الطاعة، كما دعوا إليه في الدنيا. من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته، أي:

استرضاني فأرضيته.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و لقد وصفنا لهم فيه بأنواع الصفات الّتي هي في غرابتها كالأمثال، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة، و ما يقال لهم و ما يقولون، و ما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة و الاستعتاب. أو بيّنّا لهم من كلّ مثل يدعوهم إلى التوحيد و البعث و صدق الرسول.

ثمّ أخبر عن عناد القوم و تكذيبهم بالإيمان، فقال: وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من آيات القرآن، أو معجزة باهرة ممّا اقترحوها منك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط عنادهم، و قساوة قلوبهم إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول و المؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ مزوّرون.

كَذلِكَ مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لا يطلبون العلم، و يصرّون على خرافات اعتقدوها، فإنّ الجهل المركّب يمنع إدراك الحقّ، و يوجب تكذيب المحقّ. و معنى طبع اللّه: منع الألطاف الّتي ينشرح لها الصدور حتّى تقبل الحقّ. و إنّما يمنعها من علم أنّها لا تجدي عليه، و لا تغني عنه كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبيّن له أنّ الموعظة تلغو و لا تنجع فيه. فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم، و ركوب الصدأ و الرين إيّاها. فكأنّه قال: كذلك تقسو و تصدأ قلوب الجهلة، حتّى يسمّوا المحقّين مبطلين، و هم أعرق خلق اللّه في تلك الصفة.

ص: 281

فَاصْبِرْ على أذاهم و عداوتهم، و إصرارهم على الكفر إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك، و إظهار دينك على الدين كلّه حَقٌ لا بدّ من إنجازه و الوفاء به وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ و لا يحملنّك على الخفّة و القلق، جزعا ممّا يقولون و يفعلون، من التكذيب و الإيذاء، و لشدّة الغضب عليهم، فإنّهم ضالّون شاكّون، لا يستبدع منهم ذلك. و عن يعقوب بتخفيف النون.

ص: 282

[31] سورة لقمان

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و ثلاثون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة لقمان كان لقمان له رفيقا يوم القيامة، و أعطي من الحسنات عشرا، بعدد من عمل بالمعروف و عمل بالمنكر». و في رواية اخرى: و نهى عن المنكر.

و روى محمّد بن جبير العزرمي، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة لقمان في كلّ ليلة، و كلّ اللّه به في ليلته ثلاثين ملكا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يصبح، فإن قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يمسي».

[سورة لقمان [31]: الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم [1] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [2] هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [4]

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [5] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ

ص: 283

عَذابٌ مُهِينٌ [6] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [7]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الروم بذكر الآيات الدالّة على صحّة نبوّته، افتتح هذه السورة بذكر آيات القرآن، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذي الحكمة. أو وصف بصفة اللّه عزّ و جلّ على الإسناد المجازي. و يجوز أن يكون تقديره في الأصل:

الحكيم قائله، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجرّ استكن في الصفة المشبّهة.

هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ بيانا و دلالة و نعمة للمطيعين الّذين يحسنون العمل. و هما حالان من الآيات،

و العامل فيهما معنى الإشارة. و رفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر، أو الخبر لمحذوف.

ثمّ بيّن إحسانهم بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تخصيص هذه الثلاثة الّتي هي من شعب الإحسان، لفضل الاعتداد بها. و تكرير الضمير للتأكيد و الاختصاص.

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لاستجماعهم العقيدة الحقّة و العمل الصالح.

ثمّ وصف الّذين حالهم يخالف حال هؤلاء، فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ كالأحاديث الّتي لا أصل لها، و الأساطير الّتي لا اعتبار بها، و التحدّث بالمضاحيك و فضول الكلام. و نحو الغناء، و تعلّم الموسيقى، و ما أشبه ذلك.

و الإضافة بمعنى «من». و هي تبيينيّة إن أراد بالحديث المنكر. و المعنى: من يشتري اللهو من الحديث. و تبعيضيّة إن أراد به الأعمّ منه. و المعنى: من يشتري بعض

ص: 284

الحديث الّذي اللهو منه.

و الاشتراء إمّا من قوله: اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ (1) أي: استبدلوه منه و اختاروه عليه. و عن قتادة: اشتراؤه استحبابه، و اختياره حديث الباطل على حديث الحقّ.

و إمّا من الشراء، على ما روي أنّها نزلت في النضر بن الحارث، و كان يتّجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيحدّث بها قريشا، و يقول: إن كان محمّد يحدّثكم بحديث عاد و ثمود، فأنا أحدّثكم بأحاديث رستم و بهرام و الأكاسرة و ملوك الحيرة، فيستحسنون حديثه، و يتركون استماع القرآن.

و روي: كان يشتري المغنّيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلّا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه و اسقيه و غنّيه. و يقول: هذا خير ممّا يدعوك إليه محمّد من الصلاة و الصيام و المقاتلة بين يديه.

و يصحّح هذه الرواية ما روى عن أبي امامة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا يحلّ تعليم المغنيّات، و لا بيعهنّ، و أثمانهنّ حرام. و قد نزل تصديق ذلك في كتاب اللّه:

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي» الآية. و الّذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته (2) يتغنّى إلّا ارتدفه شيطانان، يضربان أرجلهما على ظهره و صدره حتّى يسكت».

و أكثر المفسّرين على هذا القول. و هو منقول عن ابن عبّاس و ابن مسعود و غيرهما. و مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن الرضا عليهم السّلام.

و عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة. قيل: و ما الروحانيّون يا رسول اللّه؟ قال: قرّاء أهل الجنّة».

ص: 285


1- آل عمران: 177.
2- العقيرة: صوت المغنّي و الباكي و القارئ. يقال: رفع عقيرته، أي: صوته.

و قيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للربّ، مفسدة للقلب.

لِيُضِلَ غيره عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه، أو قراءة كتابه، و من أضلّ غيره فقد ضلّ. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء، بمعنى: ليثبت على ضلاله الّذي كان عليه، و لا يصرف عنه، بل يزيد فيه. بِغَيْرِ عِلْمٍ بحال ما يشتريه، أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن.

وَ يَتَّخِذَها هُزُواً عطف على «يشتري» أي: و يتّخذ السبيل سخريّة، فإن السبيل مؤنّثة، كقوله: وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً (1). و قد نصبه حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص عطفا على «ليضلّ».

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مذلّ يهينهم اللّه به، لإهانتهم الحقّ باستئثار الباطل عليه.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا و إذا قرئ عليه القرآن وَلَّى مُسْتَكْبِراً أعرض عن سماعه، رافعا نفسه فوق مقدارها، فلا يعبأ بها. كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مشابها حاله حال من لم يسمعها. و هو حال من المستكن في «ولّى» أو في «مستكبرا». و الأصل في «كأن» المخفّفة «كأنّه». و الضمير ضمير الشأن.

كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مشابها بحال من في أذنيه ثقل، لا يقدر أن يسمع.

و هذا بدل من الحال الأولى، أو حال من المستكن في «لم يسمعها». و يجوز أن يكونا استئنافين. و قرأ نافع بسكون الذال. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أعلمه بأنّ العذاب يحيق به لا محالة. و ذكر البشارة على التهكّم.

[سورة لقمان [31]: الآيات 8 الى 9]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ [8] خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [9]

ص: 286


1- الأعراف: 86.

ثمّ أخبر سبحانه عن صفة المؤمنين المصدّقين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي: لهم نعيم الجنّات، فعكس للمبالغة.

خالِدِينَ فِيها حال من الضمير في «لهم» أو من «جَنَّاتُ النَّعِيمِ». و العامل ما تعلّق به اللام. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران مؤكّدان. الأوّل مؤكّد لنفسه. و الثاني مؤكّد لغيره، لأنّ قوله: «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» في معنى: وعدهم اللّه جنّات النعيم، فأكعد معنى الوعد بالوعد، و ليس كلّ وعد حقّا.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغلبه شي ء، فيمنعه عن إنجاز وعده و وعيده الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا ما يوجبه حكمته و عدله.

[سورة لقمان [31]: الآيات 10 الى 11]

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [10] هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [11]

ثمّ أخبر سبحانه عن أفعاله الدالّة على عزّته الّتي هي كمال القدرة، و حكمته الّتي هي كمال العلم، فقال:

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها جملة مستأنفة. أو في محلّ الجرّ، على أنّه صفة للعمد، أي: بغير عمد مرئيّة. يعني: أنّه عمدها بعمد لا ترى، و هي إمساكها بقدرته.

وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا شوامخ ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميل بكم، فإنّ تشابه أجزائها يقتضي تبدّل أحيازها و أوضاعها، لامتناع اختصاص

ص: 287

كلّ منها لذاته أو لشي ء من لوازمه بحيّز و وضع معيّنين.

وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ و فرّق فيها بعضا من الدوابّ، تدبّ على وجهها من أنواع الحيوانات.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَأَنْبَتْنا فِيها بذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ من كلّ صنف كثير المنفعة، حسن النبتة، طيّب الثمرة.

مهّد بذلك قاعدة التوحيد، و قرّرها بقوله: هذا أي: هذا الّذي ذكر من الأشياء العظيمة، المتضمّنة بدائع الحكم، و غرائب المصالح خَلْقُ اللَّهِ أي:

مخلوقه، فإنّ الخلق جاء بمعنى المخلوق فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ماذا خلق آلهتكم حتّى استحقّوا عندكم مشاركته؟ و فيه تبكيت لهم. و «ماذا» نصب ب «خلق». أو «ما» مرتفع بالابتداء، و خبره «ذا» بصلته، و «فأروني» معلّق عنه.

ثمّ أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الّذي لا يخفى على ناظر، فقال: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على أنّهم ظالمون بإشراكهم في العبادة.

[سورة لقمان [31]: الآيات 12 الى 15]

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [12] وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [13] وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [14] وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا

ص: 288

تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [15]

و لمّا ذمّ سبحانه الشرك، و ذكر الأدلّة الدالّة على توحيده و قدرته و حكمته، بيّن عقيب ذلك قصّة لقمان، و وصيّته لولده بالتوحيد و اجتناب الشرك، و أنّه أعطاه الحكمة، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ و هو لقمان بن باعورا، من أولاد آزر ابن أخت أيّوب، أو ابن خالته. و عاش ألف سنة، و أدرك داود، و أخذ منه العلم. و كان يفتي قبل مبعث داود، فلمّا بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفي إذا كفيت؟

و الجمهور على أنّه كان حكيما و لم يكن نبيّا. و الحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الانسانيّة باقتباس العلوم النظريّة، و اكتساب الملكة التامّة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها.

و عن ابن عبّاس: لقمان لم يكن نبيّا و لا ملكا، و لكن كان عبدا راعيا أسود، فرزقه اللّه العتق، و رضي قوله و وصيّته، فقصّ أمره في القرآن لتمسكوا بوصيّته.

و قال عكرمة و الشعبي: كان نبيّا. و كانا يفسّران الحكمة بالنبوّة. و قيل: خيّر بين النبوّة و الحكمة، فاختار الحكمة.

و روي عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «حقّا أقول: لم يكن لقمان نبيّا، و لكن كان عبدا كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ اللّه فأحبّه، و منّ عليه بالحكمة. و كان نائما نصف النهار، إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية و لم أقبل البلاء. و إن عزم عليّ فسمعا و طاعة، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني.

ص: 289

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟

قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل و آكدها، يغشاه الظلم من كلّ مكان، إن وقي فبالحريّ أن ينجو، و إن أخطأ أخطأ طريق الجنّة. و من يكن في الدنيا ذليلا و في

الآخرة شريفا، خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا. و من يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة.

فتعجّبت الملائكة من حسن منطقه. فنام نومة فاعطي الحكمة، فانتبه يتكلّم بها.

ثمّ كان يؤازر داود بحكمته. فقال له داود: طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة، و صرفت عنك البلوى.

و عن ابن المسيّب: كان أسود من سودان مصر خيّاطا. و عن مجاهد: كان عبدا أسود، غليظ الشفتين، متشقّق القدمين. قيل له: ما أقبح وجهك؟ قال: تعتب على النقش، أو على فاعل النقش؟

و قيل: كان نجّارا. و قيل: راعيا كما مرّ. و قيل: كان يحتطب لمولاه كلّ يوم حزمة. و عنه أنّه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنّه يخرج من بينهما كلام رقيق، و إن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.

و روي: أنّ رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: أ لست الّذي ترعى معي في مكان كذا؟ قال: بلى. قال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، و الصمت عمّا لا يعنيني.

و روي: أنّه دخل على داود و هو يسرد الدرع، و قد ليّن اللّه له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلمّا أتمّها لبسها. و قال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة و قليل فاعله. فقال له داود: بحقّ ما سمّيت حكيما.

و روي: أنّ داود قال له يوما: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت في يد غيري.

ص: 290

فتفكّر داود فيه فصعق صعقة.

و روي: أنّ مولاه أمره بذبح شاة و أن يأتي بأطيب مضغتين منها، فأتى باللسان و القلب. ثمّ أمره بمثل ذلك بعد أيّام و أن يأتي بأخبث مضغتين منها، فأتى باللسان و القلب.

فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب شي ء إذا طابا، و أخبث شي ء إذا خبثا.

و قيل: إنّ مولاه دخل المخرج، فأطال فيه الجلوس. فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس على الحاجة يفجع منه الكبد، و يورث الباسور، و يصعّد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونا، و قم هونا. قال: فكتب حكمته على باب الحشّ (1).

قال عبد اللّه بن دينار: قدم لقمان من سفر، فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟

قال: مات.

قال: ملكت أمري.

فقال: ما فعلت زوجتي؟

قال: ماتت.

قال: جدّد فراشي.

قال: ما فعلت أختي؟

قال: ماتت.

قال: سترت عورتي.

قال: ما فعل أخي؟

قال: مات.

قال: انقطع ظهري.

ص: 291


1- الحشّ: موضع قضاء الحاجة.

و قيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ قال: الّذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.

و في كتاب من لا يحضره الفقيه: «قال لقمان لابنه: يا بنيّ! إنّ الدنيا بحر عميق، و قد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان باللّه، و اجعل شراعها التوكّل على اللّه، و اجعل زادك فيها تقوى اللّه عزّ و جلّ، فإن نجوت فبرحمة اللّه، و إن هلكت فبذنوبك» (1).

و روى سليمان بن داود المنقريّ، عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في وصيّة لقمان لابنه: يا بنيّ سافر بسيفك و خفّك و عمامتك و خبائك و سقائك و خيوطك و مخرزك (2). و تزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت و من معك.

و كن لأصحابك موافقا إلّا في معصية اللّه عزّ و جلّ.

يا بنيّ! إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك و أمورهم، و أكثر التبسّم في وجوههم، و كن كريما على زادك بينهم. فإذا دعوك فأجبهم، و إذا استعانوا بك فأعنهم. و استعمل طول الصمت، و كثرة الصلاة، و سخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد.

و إذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم، و اجهد رأيك لهم إذا استشاروك، لا تعزم حتّى تثبّت و تنظر. و لا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها و تقعد، و تنام و تأكل و تصلّي، و أنت مستعمل فكرتك و حكمتك في مشورته، فإنّ من لم يمحّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه رأيه، و نزع عنه الأمانة.

و إذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم.

و اسمع لمن هو أكبر منك سنّا. و إذا أمروك بأمر و سألوك شيئا فقل: نعم، و لا تقل:.

ص: 292


1- من لا يحضره الفقيه 2: 185 ح 833.
2- المخرز: ما يخرز به و يثقب، كالإبرة.

لا، فإنّ «لا» عيّ (1) و لؤم.

و إذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا. و إذا شككتم في القصد فقفوا و تآمروا. و إذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم، و لا تسترشدوه، فإنّ الشخص الواحد في الفلاة مريب، لعلّه يكون عين اللصوص، أو يكون هو الشيطان الّذي حيّركم.

و احذروا الشخصين أيضا، إلّا أن تروا مالا أرى، فإنّ العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحقّ منه، و الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

يا بنيّ! إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشي ء، صلّها و استرح منها، فإنّها دين. و صلّ في جماعة و لو على رأس زجّ (2).

و لا تنامنّ على دابّتك، فإنّ ذلك سريع في دبرها (3). و ليس ذلك من فعل الحكماء، إلّا أن تكون في محمل يمكنك التمدّد لاسترخاء المفاصل.

و إذا قربت من المنزل فانزل عن دابّتك، و ابدأ بعلفها قبل نفسك، فإنّها نفسك (4).

و إذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لونا، و ألينها تربة، و أكثرها عشبا. و إذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس.

و إذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض. و إذا ارتحلت فصلّ ركعتين، ثمّ ودّع الأرض الّتي حللت بها، و سلّم على أهلها، فإنّ لكلّ بقعة أهلا من الملائكة. و إن استطعت أن لا تأكل طعاما حتّى تبتدئ فتصدّق منه فافعل.

و عليك بقراءة كتاب اللّه ما دمت راكبا. و عليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا..

ص: 293


1- العيّ: العجز و الجهل.
2- الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح.
3- دبر البعير دبرا: أصابته الدبرة. و هي قرحة الدابّة تحدث من الرّحل و نحوه.
4- لعلّ الكلمة محرّكة، أي: نفسك، من النفس بمعنى السعة و العيش و الفسحة.

و عليك بالدعاء ما دمت خاليا. و إيّاك و السير في أوّل الليل إلى آخره. و إيّاك و رفع الصوت في مسيرك».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و اللّه ما أوتي لقمان الحكمة لحسب، و لا مال، و لا بسط في جسم، و لا جمال، و لكنّه كان رجلا قويّا في أمر اللّه، متورّعا في اللّه، ساكنا سكينا، عميق النظر، طويل التفكّر، حديد البصر. لم ينم نهارا قطّ. و لم يتّكئ في مجلس قوم قطّ. و لم يتفل في مجلس قطّ. و لم يضحك من شي ء قطّ.

و لم يعبث بشي ء قطّ. و لم يره أحد من الناس على بول و لا غائط، و لا على اغتسال، لشدّة تستّره و تحفّظه في أمره. و لم يغضب قطّ مخافة الإثم في دينه. و لم يمازح إنسانا قطّ. و لم يفرح بشي ء أوتيه من الدنيا، و لا حزن منها على شي ء قطّ.

و قد نكح من النساء، و ولد له الأولاد الكثيرة. و قدّم أكثرهم أفراطا (1)، فما بكى على موت أحد منهم. و لم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلّا أصلح بينهما، و لم يمض عنهما حتّى تحاجزا. و لم يسمع قولا استحسنه من أحد قطّ إلّا سأله عن تفسيره، و عمّن أخذه.

و كان يكثر مجالسة الفقهاء و العلماء. و كان يغشى القضاة و الملوك و السلاطين. فيرثي (2) للقضاة بما ابتلوا به. و يرحم الملوك و السلاطين، لعزّتهم باللّه، و طمأنينتهم في ذلك. و يتعلّم ما يغلب به نفسه، و يجاهد هواه، و يحترز من السلطان.

و كان يداوي نفسه بالتفكّر و العبر. و كان لا يظعن (3) إلّا فيما ينفعه، و لا ينظر إلّا فيما يعنيه. فلذلك أوتي الحكمة، كما قال سبحانه: «وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ».

ص: 294


1- الأفراط و الفرط: الولد يموت صغيرا. يقال: سبقه فرط كثير، أي: ولد ماتوا و لم يدركوا.
2- أي: يرقّ لهم و يرحمهم.
3- أي: لا يسير و لا يرحل.

أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لأن اشكر، أو أي اشكر، فإنّ إيتاء الحكمة متضمّن معنى القول، كأنّه قال: و لقد قلنا للقمان أن اشكر للّه. فقد نبّه اللّه سبحانه على أنّ الحكمة الأصليّة و العلم الحقيقي هو العمل بهما، و عبادة اللّه و الشكر له، حيث فسّر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر.

وَ مَنْ يَشْكُرْ على نعمة اللّه و نعمة من أنعم عليه فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنّ نفعه عائد إليها. و هو دوام النعمة، و استحقاق مزيدها، و استيجاب ثوابه في الآخرة.

وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ لا يحتاج إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بالحمد و إن لم يحمده أحد. أو محمود، إذ نطق

بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ و هو أنعم. و قال الكلبي: هو أشكم. و قيل: ماثان.

وَ هُوَ يَعِظُهُ في حال ما يؤدّبه و يذكّره يا بُنَيَ تصغير إشفاق لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل: كان كافرا فلم يزل به حتّى أسلم. و من وقف على «لا تشرك» جعل «باللّه» قسما. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلّا منه، و من لا نعمة منه البتّة و لا يتصوّر أن تكون منه، ظلم لا يكتنه عظمه. و قيل: إنّه ظلم نفسه ظلما عظيما، بأن أوبقها.

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أي: بالإحسان إليهما. ثمّ بيّن عزّ و جلّ زيادة نعمة الأمّ على الولد بالنسبة إلى الأب بقوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً ذات وهن، أو تهن وهنا عَلى وَهْنٍ أي: تضعف ضعفا فوق ضعف، بأن يتزايد ضعفها و يتضاعف، لأنّ الحمل كلّما ازداد و عظم ازدادت ثقلا و ضعفا. و على التقديرين «وهنا» في موضع الحال.

وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي: فطامه في انقضاء عامين، و كانت ترضعه في تلك المدّة. و يدلّ عليه قوله عزّ و جلّ: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ

ص: 295

يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (1). و ذكر الفصال هاهنا لما تلحق الأمّ من المشقّة به أيضا، فليكن الاهتمام بالإحسان و البرّ في حقّها أكثر من حقّ الأب. و من ثمّ

قال عليه السّلام- لمن قال له: من أبرّ؟-: أمّك، ثمّ أمّك، ثمّ أمّك. ثمّ قال بعد ذلك: ثمّ أباك.

أَنِ اشْكُرْ لِي على نعمائي بالحمد و الطاعة وَ لِوالِدَيْكَ بالبرّ و الصلة.

و «أن» تفسير ل «وصّينا»، أو علّة له، أو بدل من «والديه» بدل الاشتمال. إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأحاسبك

على شكرك و كفرك.

وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما. و قيل: أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشي ء. يريد الأصنام، كقوله: ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ (2). فَلا تُطِعْهُما في ذلك وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً صحابا معروفا حسنا، يرتضيه الشرع، و يقتضيه الكرم و المروءة، من خلق جميل و حلم و احتمال مكروه و برّ و صلة، و غير ذلك.

وَ اتَّبِعْ في الدين سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ بالتوحيد و الإخلاص في الطاعة.

و هو النبيّ و متابعيه من المؤمنين. و لا تتّبع سبيلهما في الكفر، و إن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا مراعاة لحقّ الأبوّة و الأمومة، و تعظيما لهما، و ما لهما من المواجب الّتي لا يسوغ الإخلال بها.

ثمّ بيّن حكمهما في الآخرة فقال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجعك و مرجعهما فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازيك على إيمانك، و أجازيهما على كفرهما.

و الآيتان معترضتان في تضاعيف وصيّة لقمان، تأكيدا لما فيهما من النهي عن الشرك، كأنّه قال: و قد وصّينا بمثل ما وصّى به. و ذكر الوالدين للمبالغة في ذلك، فإنّهما مع أنّهما تلو الباري في استحقاق التعظيم و الطاعة، لا يجوز أن يستحقّاه في

ص: 296


1- البقرة: 233.
2- العنكبوت: 42.

الإشراك، فما ظنّك بغيرهما؟

روي: أنّها نزلت في سعد بن أبي وقّاص و أمّه. و في الخبر: أنّها مكثت ثلاثا لا تطعم و لا تشرب، لإسلام ابنها، حتّى فتحوا فاها بعود ليطعموها شيئا.

[سورة لقمان [31]: الآيات 16 الى 19]

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ

اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [16] يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [17] وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [18] وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [19]

ثمّ عاد سبحانه إلى الإخبار عن لقمان في وصيّته لابنه، و أنّه قال له: يا بُنَيَّ إِنَّها أي: الخصلة أو الفعلة من الإسارة أو الإحسان إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي: إن كانت مثلا في الصغر، كحبّة الخردل. و رفع نافع «مثقال» على أنّ الهاء ضمير القصّة، و «كان» تامّة. و تانيثها لإضافة المثقال إلى الحبّة، أو لأنّ المراد به الحسنة أو السيّئة.

فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ في أخفى مكان و أحرزه كجوف صخرة، أو أعلاه كمحدّب السماوات، أو أسفله كمقعّر الأرض يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يحضرها يوم القيامة، فيحاسب بها عاملها.

ص: 297

قال الزجّاج: يروى أنّ ابن لقمان قال له: أ رأيت الحبّة تكون في مقل البحر- أي: مغاصه- يعلمها اللّه؟ فقال: إنّ اللّه يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة، لأنّ الحبّة في الصخرة أخفى منها في الماء.

و قيل: الصخرة هي الّتي تحت الأرض. و هي السجّين يكتب فيها أعمال الكفّار.

روى العيّاشي بالإسناد عن ابن مسكان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّ لها طالبا، لا يقولنّ أحدكم: أذنب و استغفر اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: «إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» الآية».

إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كلّ خفيّ خَبِيرٌ عالم بكنهه. و عن قتادة:

لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها».

يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ و هو كلّ ما حسن فعله عقلا و شرعا. وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كلّ ما قبح فعله عقلا و شرعا. و كلاهما لتكميل الغير. وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد خصوصا في باب الحسبة.

إِنَّ ذلِكَ الإشارة إلى الصبر، أو إلى كلّ ما أمر به مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ممّا عزمه اللّه تعالى من الأمور، قطعه قطع إيجاب و إلزام. و منه: عزمات الملوك، و ذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده: عزمت عليك إلّا فعلت كذا. و إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله، و لا مندوحة في تركه. و حقيقته: أنّه من تسمية المفعول بالمصدر. و أصله من معزومات الأمور، أي: من مقطوعاتها و مفروضاتها. و يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الفاعل، أي: من عازمات الأمور، من قوله: فإذا عزم الأمر أي: جدّ.

و ناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، و أنّها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، و أنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في

ص: 298

الأديان كلّها.

وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تمله عن الناس، و لا تولّهم صفحة وجهك تكبّرا منك و استخفافا لهم، كما يفعله المتكبّرون، بل أقبل عليهم بوجهك تواضعا.

من الصعر، و هو داء يعتري البعير فيلوي عنقه. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي: و لا تصاعر، بمعناه.

وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي: فرحا. مصدر وقع موقع الحال، أي: تمرح مرحا. أو لأجل المرح. و هو البطر و الأشر. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ علّة للنهي. و

تأخير الفخور، و هو مقابل للمصعّر خدّه، و المختال مقابل للماشي مرحا، لتوافق رؤوس الآي.

وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي: توسّط في المشي بين الدبيب و الإسراع، فلا تدبّ دبيب (1) المتماوتين، و لا تثب و ثيب الشطّار. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن».

وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ و انقص من الصوت و اقصر. من قولك: فلان يغضّ من فلان، إذا قصر به و وضع منه. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها. من قولك: شي ء نكر، إذا أنكرته النفوس و استوحشت منه و نفرت. لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أوّله زفير، و آخره شهيق. و الحمار مثل في الذمّ البليغ، سيّما نهاقه. و لذلك عدّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، فيكنّى عنه فيقال:

الطويل الأذنين، كما يكنّى عن الأشياء المستقذرة، لاستفحاشهم لذكرها. ففي تمثيل الصوت المرتفع بصوته، ثمّ إخراجه مخرج الاستعارة، مبالغة شديدة في الذمّ.

ص: 299


1- دبّ يدبّ دبيبا: مشى كالحيّة، أو على اليدين و الرجلين كالطفل. وثب يثب وثيبا: نهض و قام، و قفز و طفر. و الشطّار جمع الشاطر، و هو المتّصف بالدهاء و الخباثة.

و توحيد الصوت لأنّه ليس المراد أن يذكر صوت كلّ واحد من آحاد هذا الجنس حتّى يجمع، و إنّما المراد أنّ كلّ جنس من الحيوان له صوت، و أنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده. أو لأنّه مصدر في الأصل.

[سورة لقمان [31]: الآيات 20 الى 26]

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا

هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ [20] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [21] وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [22] وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [23] نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [24]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [25] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [26]

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على خلقه، و نبّههم على معرفتها، فقال: أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم و السحاب، و غير ذلك،

ص: 300

بأن جعله أسبابا محصّلة لمنافعكم وَ ما فِي الْأَرْضِ من البحار و الأنهار و المعادن و الدوابّ و غيرها، بأن مكّنكم من الانتفاع بها، بوسط أو بغير وسط.

وَ أَسْبَغَ و أوسع و أتمّ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ هي: كلّ نفع قصد به الإحسان ظاهِرَةً وَ باطِنَةً محسوسة و معقولة، ما تعرفونه و ما لا تعرفونه. و قد مرّ شرح النعمة و تفصيلها في الفاتحة.

و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص: نعمه بالجمع و الإضافة.

و قال صاحب المجمع: «الظاهرة ما لا يمكنكم جحده، من خلقكم و إحيائكم و إقداركم، و خلق الشهوة فيكم، و غيرها من ضروب النعم. و الباطنة: ما لا يعرفها إلّا من أمعن النظر فيها» (1).

و عن ابن عبّاس: الباطنة مصالح الدين و الدنيا، ممّا يعلمه

اللّه و غاب عن العباد علمه.

و في رواية الضحّاك عنه قال: «سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنهما، فقال: يا ابن عبّاس! أمّا ما ظهر فالإسلام، و ما سوّى اللّه من خلقك، و ما أفاض عليك من الرزق. و أمّا ما بطن فستر مساوئ عملك، و لم يفضحك به. يا ابن عبّاس! إنّ اللّه تعالى يقول: ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن، و لم تكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله. و جعلت له ثلث ماله، أكفّر به عنه خطاياه. و الثالثة: سترت مساوئ عمله، فلم أفضحه بشي ء منه، و لو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم».

و عن الربيع: الظاهرة: نعم الجوارح، و الباطنة: نعم القلب. و عن عطاء:

الظاهرة: تخفيف الشرائع، و الباطنة: الشفاعة.

و قيل: الظاهرة: نعم الدنيا، و الباطنة: نعم الآخرة. و عن مجاهد: الظاهرة:

ظهور الإسلام، و النصر على الأعداء، و الباطنة: الإمداد بالملائكة.

ص: 301


1- مجمع البيان 8: 320.

و عن الضحّاك: الظاهرة حسن الصورة، و امتداد القامة، و تسوية الأعضاء، و الباطنة: المعرفة. و قيل: الظاهرة: القرآن، و الباطنة: تأويله و معانيه.

و قال الباقر عليه السّلام: «النعمة الظاهرة: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما جاء به من معرفة اللّه عزّ و جلّ و توحيده. و أمّا النعمة الباطنة: و لا يتنا أهل البيت، و عقد مودّتنا».

و لا منافاة بين هذه الأقوال، بل كلّها نعم اللّه؛ الباطنة و الظاهرة. و الأولى حمل الآية على الجميع.

و يروى في دعاء موسى عليه السّلام: إلهي دلّني على أخفى نعمتك على عبادك.

فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس.

و يروى: أن أيسر ما يعذّب به أهل النار الأخذ بالأنفاس.

ثمّ بيّن من كفر نعمه بقوله: وَ مِنَ النَّاسِ

مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ يخاصم في توحيده و صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل وَ لا هُدىً راجع إلى رسول وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله اللّه، بل بالتقليد، كما قال: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمّد، من القرآن و سائر شرائع الأحكام. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا و هو منع صريح من التقليد في الأصول.

أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ يحتمل أن يكون الضمير لهم و لآبائهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ إلى ما يؤول إليه، من التقليد أو الإشراك. و جواب «لو» محذوف، مثل: لاتّبعوه. و الاستفهام للإنكار و التعجّب.

و المعنى: أنّ الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم، و ترك اتّباع ما جاءت به الرسل، و ذلك موجب لهم عذاب النار، فهو في الحقيقة يدعوهم إلى النار.

ثمّ قال وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوّض أمره إلى اللّه، و أقبل بشراشره عليه. من: أسلمت المتاع إلى الرجل، إذا دفعت إليه. و حيث عدّي باللام فلتضمّن معنى الإخلاص. وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله على موجب العلم و مقتضى الشرع

ص: 302

فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فقد تعلّق بأوثق ما يتعلّق به. و الوثقى تأنيث الأوثق. و هو تمثيل للمتوكّل المشتغل بالطاعة، بمن أراد أن يترقّى إلى شاهق جبل، فتمسّك بأوثق عروة من حبل متين.

وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ إذ الكلّ صائر إليه، على وجه لا يكون لأحد التصرّف فيها بالأمر و النهي.

وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ فلا يهمّك كُفْرُهُ و كيده للإسلام، فإنّه لا يضرّك في الدنيا و الآخرة إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الدارين فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا بالإهلاك و التعذيب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما تضمره الصدور، و لا

يخفى عليه شي ء منه، فمجاز عليه على حسبه، فضلا عمّا في الظاهر.

نُمَتِّعُهُمْ تمتيعا، أو زمانا قَلِيلًا و هو زمان الدنيا، فإنّ ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ ثمّ نصيّرهم مكرهين إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ. فشبّه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطرّ إلى الشي ء الّذي لا يقدر على الانفكاك منه. و الغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ خلقهما، لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، بحيث اضطرّوا إلى إذعانه.

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم و إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان اعتقادهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ذلك يلزمهم.

ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم من خلقه السماوات و الأرض بقوله:

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له جميع ذلك خلقا و ملكا، يتصرّف فيه كما يريده، و ليس لأحد الاعتراض عليه في ذلك، فلا يستحقّ العبادة فيهما غيره.

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ عن حمد الحامدين، و عن كلّ شي ء الْحَمِيدُ المستحقّ للحمد، و إن لم يحمدوه.

ص: 303

[سورة لقمان [31]: آية 27]

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [27]

عن ابن عبّاس: أنّ اليهود سألوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (1). و قد أنزلت التوراة و فيها علم كلّ شي ء، فنزلت:

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ و لو ثبت كون الأشجار أقلاما.

و توحيد «شجرة» لأنّ المراد تفصيل الآحاد. وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مقتضى الكلام أن يقال: و لو أنّ الشجر أقلام، و البحر مداد. و يكون المعنى: البحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر. لكن أغنى عن ذكر المداد قوله: «يمدّه» لأنّه من: مدّ الدواة و أمدّها، بجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، و جعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصبّ فيه مدادها أبدا صبّا لا ينقطع.

و رفع «البحر» للعطف على محلّ «أنّ» و معمولها، و «يمدّه» حال. و المعنى:

و لو ثبت كون الأشجار أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء على أنّه مستأنف، و الواو للحال. و نصبه البصريّان بالعطف على اسم «أنّ»، أو إضمار فعل يفسّره «يمدّه». و في الكلام حذف، تقديره: و لو أنّ أشجار الأرض أقلام، و البحر ممدود بسبعة أبحر، و كتبت بتلك الأقلام و بذلك المداد مقدورات اللّه و معلوماته.

ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ بكتابتها بتلك الأقلام، و بذلك المداد، لأنّ ذلك مع كثرته متناه، و معلومات اللّه و مقدوراته غير متناهية. و إيثار جمع القلّة- أعني:

ص: 304


1- الإسراء: 85.

الكلمات- و الموضع موضع التكثير- أعني: الكلم- لا التقليل، للإشعار بأنّ ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير؟! فعلمكم في جنب هذا العلم في نهاية القلّة.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شي ء حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه و حكمته أمر.

[سورة لقمان [31]: الآيات 28 الى 32]

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [28] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [29] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ

الْكَبِيرُ [30] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [31] وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [32]

قال مقاتل: إنّ كفّار قريش قالوا: إنّ اللّه خلقنا أطوارا: نطفة، علقة، مضغة، لحما. فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فنزلت:

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إلّا كخلقها و بعثها، أي: سواء في قدرته الواحد و الجمع، و القليل و الكثير. و ذلك أنه إنّما كانت تتفاوت النفس الواحدة و النفوس الكثيرة العدد، أن لو شغله شأن عن شأن و فعل عن فعل، و قد تعالى عن

ص: 305

ذلك علوّا كبيرا. فيكفي لوجود الكلّ تعلّق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتيّة، كما قال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1).

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كلّ مسموع بَصِيرٌ يبصر كلّ مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض، فكذلك الخلق و البعث. أو يسمع ما يقوله القائلون في ذلك، بصير بما يضمرونه.

ثمّ نبّه على قدرته على ذلك بقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي كلّ من النيّرين يجري في فلكه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم، الشمس إلى آخر السنة، و القمر إلى آخر الشهر. و قيل: إلى يوم القيامة، لأنّه لا ينقطع جريهما إلّا حينئذ. و الفرق بينه و بين قوله: «لأجل مسمّى»: أنّ الأجل هاهنا منتهى الجري، و ثمّ غرضه الحاصل في الغايات.

وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه. فدلّ سبحانه بالليل و النهار، و تعاقبهما، و زيادتهما، و نقصانهما، و جري النيّرين في فلكيهما، أنّ كلّ ذلك على تقدير و حساب، و بإحاطته بجميع أعمال الخلق على عظم قدرته و حكمته.

ذلِكَ إشارة إلى الّذي ذكر من سعة العلم، و شمول القدرة، و عجائب الصنع، و غرائب الحكمة الّتي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الّذي تدعونه من دونه بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ بسبب أنّه الثابت في ذاته، الواجب من جميع جهاته. أو الثابت إلهيّته.

وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ المعدوم في حدّ ذاته، لا يوجد و لا يتّصف إلّا بجعله. أو الباطل إلهيّته. و قرأ البصريّون و الكوفيّون غير أبي بكر بالياء.

ص: 306


1- النحل: 40.

وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ مترفّع على كلّ شي ء، و متسلّط عليه. أو مترفّع عن أن يشرك به.

ثمّ استشهد بأمر آخر على باهر قدرته، و كمال حكمته، و شمول أنعامه، فقال:

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه في تهيئة أسبابه.

و الباء للصلة، أو الحال. لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من دلائله الدالّة على وحدانيّته، و كمال قدرته و علمه. و وجه الدلالة: أنّ اللّه تعالى يجري السفن بالرياح الّتي يرسلها في الوجوه الّتي تريدون المسير فيها، و لو اجتمع جميع الخلائق ليجروا الفلك في بعض الجهات المخالفة لجهة الرياح لما قدروا عليه، و في ذلك أعظم دلالة على أنّ المجري لها بالرياح هو القادر الّذي لا يعجزه شي ء، و ذلك بعض الأدلّة الدالّة عليه، فلذلك قال: «من آياته».

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على المشاقّ، فيتعب نفسه بالتفكّر في الآفاق و الأنفس شَكُورٍ يعرف النعم، و يتعرّف مانحها. أو للمؤمنين، فإنّ الإيمان نصفان: نصف شكر، و نصف صبر.

وَ إِذا غَشِيَهُمْ علاهم و غطّاهم مَوْجٌ متراكم بعضه على بعض كَالظُّلَلِ كما يظلّ من جبل أو سحاب أو غيرهما، و يغطّي ما تحته دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى و التقليد، لعروض الخوف الشديد و الدهشة العظيمة فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقيم على طريق القصد الّذي هو التوحيد. أو متوسّط في الكفر، خافض عن غلوائه، فانزجر بعض الانزجار.

وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدّار أسوأ الغدر و أقبحه، فإنّه نقض العهد الفطري كَفُورٍ لنعم اللّه.

ص: 307

[سورة لقمان [31]: آية 33]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [33]

و لمّا بيّن الأدلّة الدالّة على كمال قدرته و علمه و توحيده، خاطب جميع المكلّفين، فقال:

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ لا يقضي عنه وَ لا مَوْلُودٌ مبتدأ خبره هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً و تغيير النظم إلى الجملة الاسميّة الّتي هي آكد من الفعليّة، للدلالة على أنّ المولود أولى بأن لا يجزي، و لقطع طمع من توقّع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. و في ذكر لفظ المولود دون الولد، دلالة على أنّ الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الّذي ولد منه لم يقبل شفاعته، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأنّ الولد يقع على الولد و ولد الولد، بخلاف المولود، فإنّه لمن ولد منك.

إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب و العقاب حَقٌ لا يمكن خلفه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا الإمهال عن الانتقام، و الآمال و الأموال عن الإسلام. و المعنى: لا تغترّوا بطول السلامة و كثرة النعمة، فإنّهما عن قريب إلى زوال و انتقال. وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان، بأن يرجيكم التوبة و المغفرة، فيجسركم على المعاصي.

عن سعيد بن جبير: الغرّة باللّه أن يتمادى الرجل في المعصية، و يتمنّى على اللّه المغفرة. و قيل: ذكرك لحسناتك، و نسيانك لسيّئاتك غرّة.

عن أبي عبيدة: كلّ شي ء غرّك حتّى تعصي اللّه، و تترك ما أمرك اللّه به، فهو

ص: 308

غرور، شيطانا كان أو غيره.

و في الحديث: «الكيّس من دان نفسه، و عمل لها بعد الموت. و العاجز من اتّبع نفسه هواها، و تمنّى على اللّه».

[سورة لقمان [31]: آية 34]

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [34]

روي: أنّ الحرث بن عمرو بن حارثة أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه؛ أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ و إنّي قد ألقيت حبّاتي في الأرض، و قد أبطأت عنّا السماء، فمتى تمطر؟ و أخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟ و إنّي علمت ما عملت أمس، فما أعمل غدا؟ و هذا مولدي قد عرفته، فأين أموت؟ فنزلت:

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وقت قيامها. و استأثر سبحانه به، و لم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يعلم وقت قيامها سواه. وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ في إبّانه المقدّر له، و المحلّ المعيّن له في علمه. و قرأ نافع و ابن عامر و

عاصم بالتشديد. وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى؟ أتامّ أو ناقص؟

وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ماذا تعمل في المستقبل، من خير أو شرّ.

و ربما تعزم على شي ء و تفعل خلافه. و لا شي ء أخصّ بالإنسان من كسبه و عاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتها، كان من معرفة ما عداهما أبعد.

وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كما لا تدري في أيّ وقت تموت. و ربما

ص: 309

أقامت بأرض و ضربت أوتادها، و قالت: لا أبرحها أو أقبر فيها، فترمي به مرامي القدر حتّى تموت في مكان لم يخطر ببالها، و لا حدّثتها به ظنونها.

و روي: أنّ ملك الموت عليه السّلام مرّ على سليمان عليه السّلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه. فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنّه يريدني. و سأل سليمان أن يحمله على الريح، و يلقيه ببلاد الهند، ففعل. ثمّ قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري تعجّبا منه، لأنّي أمرت أن أقبض روحه بالهند و هو عندك.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مفاتح الغيب خمس. و تلا هذه الآية.

و عن ابن عبّاس: من ادّعى علم هذه الخمسة فقد كذب. و إيّاكم و الكهانة، فإنّ الكهانة تدعو إلى الشرك، و الشرك و أهله في النار.

و أيضا عن أئمّة الهدى عليهم السّلام: أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل و التحقيق غيره تعالى.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلّها خَبِيرٌ يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.

ص: 310

[32] سورة السجدة

اشارة

سمّيت أيضا سجدة لقمان، لئلّا تلتبس بحم السجدة، تسمية للشي ء باسم مجاوره.

و هي مكّيّة ما خلا ثلاث آيات منها، فإنّها

نزلت بالمدينة؛ أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (1) إلى تمام الآيات. و هي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ ألم تنزيل، و تبارك الّذي بيده الملك، فكأنّما أحيا ليلة القدر».

و أيضا:

«من قرأ ألم تنزيل في بيته، لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيّام».

و روى ليث بن أبي الزبير عن جابر، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا ينام حتّى يقرأ ألم تنزيل، و تبارك الّذي بيده الملك. قال ليث: فذكرت ذلك لطاوس، فقال:

فضّلتا على كلّ سورة في القرآن. و من قرأهما كتب له ستّون حسنة، و محي عنه ستّون سيّئة، و رفع له ستّون درجة.

و روى الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة، أعطاه اللّه كتابه بيمينه، و لم يحاسبه بما كان منه، و كان من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام».

ص: 311


1- السجدة: 18.

[سورة السجده [32]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم [1] تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [2] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [3]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة لقمان بدلائل الربوبيّة، افتتح هذه السورة أيضا بها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم مبتدأ إن جعل اسما للسورة أو القرآن، خبره تَنْزِيلُ الْكِتابِ على أنّ التنزيل بمعنى المنزل. و إن جعل تعديدا للحروف، كان «تنزيل» خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا مدخل للريب في أنّه تنزيل اللّه، لإعجازه. و حينئذ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يكون حالا من الضمير في «فيه» لأنّ المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر.

و يجوز أن يكون خبرا ثانيا، و «لا رَيْبَ فِيهِ» حال من الكتاب أو اعتراض، و الضمير في «فيه» لمضمون الجملة. كأنّه قيل: لا ريب في كونه منزلا من ربّ العالمين.

و يؤيّده قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فإنّه إنكار لكونه من ربّ العالمين. و هذا إمّا قول متعنّت، مع علمه أنّه من اللّه، لظهور الإعجاز له. أو جاهل يقوله قبل التأمّل و النظر. و قوله: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فإنّه تقرير أنّه منزل من اللّه.

و هذا أسلوب صحيح، و نظر جميل غاية الحسن، فإنّه أشار إلى إعجازه، ثمّ أثبت أنّ تنزيله من ربّ العالمين، ثمّ قرّر ذلك بنفي الريب عنه، ثمّ أضرب عن ذلك

ص: 312

إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكارا له و تعجيبا منه، فإنّ «أم» هي المنقطعة.

ثمّ أضرب عنه إلى إثبات أنّه الحقّ المنزل من اللّه، و بيّن المقصود من تنزيله، فقال:

لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ إذ كانوا أهل الفترة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بإنذارك إيّاهم. و فيه وجهان: أن يكون على الترجّي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما كان:

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (1) على الترجّي من موسى و هارون. و أن يستعار لفظ الترجّي للإرادة.

و اعلم أنّه لا يلزم من عدم إتيان نذير قبل زمان البعثة عدم الحجّة عليهم، لأنّ أدلّة العقل الموصلة إلى معرفة اللّه و توحيده معهم في كلّ زمان. نعم، لم يقم عليهم قيام الحجّة بالشرائع الّتي لا يدرك علمها إلّا بالرسل.

[سورة السجده [32]: الآيات 4 الى 5]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ

ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ [4] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [5]

ثمّ دلّ سبحانه على وحدانيّته بقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مرّ بيانه في الأعراف (2) ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ ما لكم إذا جاوزتم رضا اللّه أحد ينصركم و يشفع لكم. أو ما لكم سواه وليّ يتولّى مصالحكم و يشفعكم، أي: ينصركم، على سبيل المجاز، لأنّ

ص: 313


1- طه: 44.
2- راجع ج 2 ص 532، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.

الشفيع ينصر المشفوع له، فإذا خذلكم لم يبق لكم وليّ و لا ناصر. فهو كقوله: وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (1).

أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ تتفكّرون فيما قلناه، و تعتبرون به، فتعلموا صحّة ما بيّنّاه لكم.

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ يدبّر أمر الدنيا بأسباب سماويّة، كالملائكة و غيرها، نازلة آثارها إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ثمّ يصعد إليه و يثبت في علمه موجودا فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ لو ساره غير الملك مِمَّا تَعُدُّونَ ممّا يعدّه البشر، أي: في برهة من الزمان متطاولة. يعني بذلك استطالة ما بين التدبير و الوقوع.

و قيل: يدبّر الأمر بإظهاره في اللوح، فينزل به الملك، ثمّ يعرج إليه في زمان هو كألف سنة، لأنّ مسافة نزوله و عروجه مسيرة ألف سنة، فإنّ ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة سنة لابن آدم.

و قيل: يقضي أمر الدنيا كلّها من السماء إلى الأرض، لكلّ يوم من أيّام اللّه، و هو ألف سنة، فينزل به الملك، ثمّ يعرج بعد الألف لألف آخر.

و قيل: يدبّر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي، ثمّ لا يعمل به و لا يعرج إليه ذلك المأمور به خالصا كما يرتضيه إلّا في مدّة متطاولة، لقلّة المخلصين، و قلّة الأعمال الخلّص الصاعدة، لأنّه لا يوصف بالصعود إلّا الخالص. و دلّ عليه قوله على أثره: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (2).

و قيل: يدبّر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثمّ يعرج إليه ذلك الأمر كلّه- أي: يصير إليه- ليحكم في يوم كان مقداره ألف سنة،

ص: 314


1- البقرة: 107.
2- السجدة: 9.

و هو يوم القيامة.

و أمّا قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (1) فإنّه أراد سبحانه على الكافر، فجعل اللّه ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، فإنّ المقامات في يوم القيامة مختلفة.

[سورة السجده [32]: الآيات 6 الى 11]

ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [6] الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [7] ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [8] ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ [9] وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ [10]

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [11]

ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم من دلائل وحدانيّته و أعلام ربوبيّته، فقال: ذلِكَ أي: الّذي يفعل ذلك و يقدر عليه عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هو العالم بما يشاهد و ما لا يشاهد، فيدبّر أمرهما

على وفق الحكمة الْعَزِيزُ على أمره، المنيع في ملكه الرَّحِيمُ على العباد في تدبيره.

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ أي: حسّن خلقه، لأنّه ما من شي ء خلقه إلّا و هو مرتّب على ما اقتضته الحكمة و أوجبته المصلحة. فجميع المخلوقات حسنة،

ص: 315


1- المعارج: 4.

و إن تفاوتت إلى حسن و أحسن، كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (1).

و قيل: علم كيف يخلقه قبل أن خلقه، من غير أن يعلمه أحد. من قولهم:

قيمة المرء ما يحسنه. و حقيقته: يحسن معرفته، أي: يعرف معرفة حسنة بتحقيق و إيقان. و «خلقه» مفعول ثان.

و قرأ نافع و الكوفيّون بفتح اللام على الوصف. فالشي ء على الأوّل مخصوص بمنفصل، أي: حسّن كلّ شي ء خلقه خلقه. و على الثاني بمتّصل.

وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني: آدم مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذرّيّته. سمّيت به لأنّها تنسل منه، أي: تنفصل منه و تخرج من صلبه. مِنْ سُلالَةٍ أي: الصفوة الّتي تنسل من غيرها. و يسمّى ماء الإنسان سلالة، لانسلاله من صلبه. مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن ضعيف. «من» الأولى ابتدائيّة، و الثانية بيانيّة. أشار سبحانه إلى أنّه من شي ء حقير لا قيمة له، و إنّما يصير ذا قيمة بالعمل.

ثُمَّ سَوَّاهُ قوّمه بتسوية أعضائه على ما ينبغي، كقوله: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (2).

وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضافه إلى ذاته، تشريفا له، و إشعارا بأنّه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلّا هو، كقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ (3) الآية. كأنّه قال:

و نفخ فيه من الشي ء الّذي اختصّ هو به و بمعرفته، إيذانا بأنّ له شأنا له مناسبة مّا إلى الحضرة الربوبيّة، و لأجله

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ثمّ قال سبحانه مخاطبا لذرّيّته: وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا المسموعات

ص: 316


1- التين: 4.
2- التين: 4.
3- الإسراء: 85.

وَ الْأَبْصارَ لتبصروا المبصرات وَ الْأَفْئِدَةَ لتعقلوا بها قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «ما» مزيدة للمبالغة في القلّة، أي: تشكرون شكرا قليلا غاية القلّة.

وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي: صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميّز منه، كما يضلّ الماء في اللبن. أو غبنا في الأرض بالدفن فيها.

و قرأ ابن عامر: إذا، على الخبر، و العامل فيه ما دلّ عليه قوله: أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و هو نبعث، أو يجدّد خلقنا.

و قرأ نافع و الكسائي و يعقوب: إنّا، على الخبر. و القائل أبيّ بن خلف.

و إسناده إلى جميعهم لرضاهم به. و المعنى: كيف نخلق جديدا، و نعاد بعد أن هلكنا، و تفرّقت أجسامنا؟

بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث، أو بتلقّي ملك الموت، و ما بعده من الثواب و العقاب كافِرُونَ أي: جاحدون، فلذلك قالوا هذا القول.

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ يستوفي نفوسكم، لا يترك منها شيئا. أو يقبضكم واحدا واحدا حتّى لا يبقى أحد منكم. من قولك: توفّيت حقّي من فلان و استوفيته، إذا أخذته وافيا كملا من غير نقصان. و التفعّل و الاستفعال يلتقيان كثيرا، كتقصّيته و استقصيته، و تعجّلته و استعجلته. فالتوفّي: استيفاء النفس، و هي الروح. قال اللّه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها (1). و هو أن يقبض كلّها.

مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ بقبض أرواحكم، و إحصاء آجالكم.

و عن مجاهد: حويت لملك الموت الأرض، و جعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث شاء.

و عن ابن عبّاس: جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما شاء، إذا قضي عليه الموت، من غير عناء. و خطوته ما بين المشرق و المغرب.

ص: 317


1- الزمر: 42.

و عن قتادة: يتوفّاهم و معه أعوان من الملائكة.

و قيل: ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثمّ يأمر أعوانه بقبضها.

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ أي: جزاء ربّكم، من الثواب و العقاب تُرْجَعُونَ تردّون.

و جعل ذلك رجوعا إليه تفخيما للأمر، و تعظيما للحال.

روى عكرمة، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الأمراض و الأوجاع كلّها بريد الموت، و رسل الموت، فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: يا أيّها العبد! كم خبر بعد خبر، و كم رسول بعد رسول، و كم بريد بعد بريد. أنا الخبر الّذي ليس بعدي خبر، و أنا الرسول الّذي ليس بعدي رسول، و أنا البريد الّذي ليس بعدي بريد، أجب ربّك طائعا أو مكرها.

فإذا قبض روحه، و تصارخوا عليه، قال: على من تصرخون؟ و على من تبكون؟ فواللّه ما ظلمت له أجلا، و لا أكلت له رزقا، بل دعاه ربّه. فليبك الباكي على نفسه، فإنّ لي فيكم عودات و عودات، حتّى لا أبقي منكم أحدا».

[سورة السجده [32]: الآيات 12 الى 14]

وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [12] وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ [13] فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [14]

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم في القيامة و عند الحساب، فقال خطابا للرسول،

ص: 318

أو لكلّ واحد من العقلاء:

وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ من الحياء و الخزي و الذلّ و

الندم عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: عند ما يتولّى اللّه حساب خلقه، و هو يوم القيامة، قائلين: رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا وَ سَمِعْنا منك تصديق رسلك فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ إذ لم يبق لنا شكّ بما شاهدنا، فلا يغاثون.

و جواب «لو» محذوف، تقديره: لرأيت أمرا فظيعا. و يجوز أن تكون «لو» للتمنّي. كأنّه قال: وليتك ترى. هذا على تقدير كونه خطابا للرسول، لأنّه تجرّع منهم الغصص، و من عداوتهم و ضرارهم، فجعل اللّه له تمنّي أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الخزي ليشمت بهم.

و المضيّ في «لو» و «إذ» لأنّ الثابت في علم اللّه بمنزلة الواقع الموجود المقطوع به في تحقّقه. و لا يقدّر ل «ترى» مفعول، لأنّ المعنى: لو يكون منك رؤية في هذا الوقت. أو يقدّر ما دلّ عليه صلة «إذ»، و «إذ» ظرف له.

ثمّ قال سبحانه: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ما تهتدي به إلى الحقّ، على طريق الإلجاء و القسر، بأن نفعل بهم أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بالتوحيد.

وَ لكِنْ بنينا الأمر على الاختيار، دون الإجبار الّذي ينافي غرض التكليف، لأنّ استحقاق الثواب لا يكون إلّا بالاختيار. فاختاروا العمى على الهدى، فلأجل ذلك حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ثبت قضائي، و سبق وعيدي.

و القول من اللّه سبحانه بمنزلة القسم، فلذلك أتى بجواب القسم، فقال:

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ أي: من كلا الصنفين الّذين اختاروا الكفر و الجحود على الايمان و الطاعة. ألا ترى إلى ما عقّبه به من قوله: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم، من نسيان العاقبة، و قلّة

ص: 319

الفكر فيها، و ترك الاستعداد لها. و المراد

بالنسيان: خلاف التذكّر. يعني: أنّ الانهماك في الشهوات أذهلكم و ألهاكم عن تذكّر العاقبة، و سلّط عليكم نسيانها.

ثمّ قال على سبيل المقابلة و المزاوجة: إِنَّا نَسِيناكُمْ أي: جازيناكم جزاء نسيانكم، و تركناكم من الرحمة. أو تركناكم في العذاب ترك المنسيّ. و في استئنافه و بناء الفعل على «إنّ» و اسمها تشديد في الانتقام منهم.

وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كرّر الأمر للتأكيد، و لما نيط به من التصريح بمفعوله، و تعليله بأفعالهم السيّئة، من التكذيب و المعاصي، كما علّله بتركهم تدبّر أمر العاقبة و التفكّر فيها، دلالة على أنّ كلّا منهما يقتضي ذلك.

و المعنى: فذوقوا هذا- أي: ما أنتم فيه من نكس الرؤوس و الخزي- بسبب نسيان اللقاء، و ذوقوا العذاب المخلّد في جهنّم، بسبب ما عملتم من المعاصي و الكبائر الموبقة.

[سورة السجده [32]: الآيات 15 الى 22]

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [15] تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [16] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [17] أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [18] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [19]

وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ

ص: 320

يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [20] وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [21] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [22]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال المؤمنين بقوله: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا أي: يصدّق بالقرآن و سائر حججنا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها وعظوا بها خَرُّوا سُجَّداً خوفا من عذاب اللّه، و تواضعا و خشوعا و امتثالا له وَ سَبَّحُوا و نزّهوه عمّا لا يليق به، كالعجز عن البعث بِحَمْدِ رَبِّهِمْ حامدين له، شكرا على ما وفّقهم للإسلام، و آتاهم الهدى وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان، و لا يستنكفون عن طاعته، كما يفعل من يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها. و مثله قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا (1).

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين المذكورين، فقال: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ترتفع و تتنحّى عَنِ الْمَضاجِعِ الفرش و مواضع النوم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ داعين إيّاه، أو عابدين خَوْفاً لأجل خوفهم من سخطه وَ طَمَعاً و لأجل طمعهم في رحمته.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسيرها: قيام العبد من الليل.

و روى الواحدي بالإسناد عن معاذ بن جبل قال: بينا نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غزوة تبوك، و قد أصابنا الحرّ، فتفرّق القوم، فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقربهم منّي، فدنوت منه فقلت: يا رسول اللّه أنبئني بعمل يدخلني الجنّة،.

ص: 321


1- الإسراء: 107- 108.

و يباعدني من النار.

فقال: سألت عن عظيم، و إنّه ليسير على من يسّره اللّه عليه؛ تعبد اللّه، و لا تشرك به شيئا، و تقيم الصلاة المكتوبة، و تؤدّي الزكاة المفروضة، و تصوم شهر رمضان.

قال: و إن شئت أنبأتك بأبواب الخير.

قال: قلت: أجل يا رسول اللّه.

قال: الصوم جنّة. و الصدقة تكفّر الخطيئة. و قيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه اللّه. ثمّ قرأ هذه

الآية: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ (1).

و بالإسناد عن بلال قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليكم بقيام الليل، فإنّه دأب الصالحين قبلكم، و إنّ قيام الليل قربة إلى اللّه، و منهاة عن الإثم، و يكفّر عن السيّئات، و يطرد الداء عن الجسد».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا جمع اللّه الأوّلين و الآخرين يوم القيامة، جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثمّ يرجع فينادي: ليقم الّذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع. فيقومون و هم قليل. ثمّ يرجع فينادي: ليقم الّذين كانوا يحمدون اللّه في البأساء و الضرّاء. فيقومون و هم قليل. فيسرحون جميعا إلى الجنّة، ثمّ يحاسب سائر الناس.

و قيل: كان ناس من الصحابة يصلّون من المغرب إلى العشاء، فنزلت فيهم.

و قيل: هم الّذين يصلّون صلاة العتمة، و لا ينامون عنها.

و عن قتادة: هم الّذين يصلّون ما بين المغرب و العشاء الآخرة. و هي صلاة الأوّابين.

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير.

ص: 322


1- تفسير الوسيط 3: 452- 453.

و لمّا كان هؤلاء المؤمنين يقطعهم اشتغالهم بالصلاة و الدعاء عن طيب المضجع، لانقطاعهم إلى اللّه تعالى، فآمالهم مصروفة إليه، و اتّكالهم في كلّ الأمور عليه، بيّن سبحانه مثوبتهم العظمى، و مرتبتهم العليا عنده الّتي لا يعلم أحد كنهها إلّا هو، فقال:

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ لا ملك مقرّب، و لا نبيّ مرسل مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ممّا تقرّ به عيونهم، و من الثواب العظيم الّذي ادّخره اللّه لأولئك، و أخفاه اللّه من جميع خلائقه، لا يعلمه إلّا هو. و قرأ حمزة و يعقوب: أخفي، على أنّه مضارع:

أخفيت.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يقول اللّه تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، بله (1) ما أطلعتهم عليه، اقرؤا إن شئتم: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».

و العلم بمعنى المعرفة. و «ما» موصولة، أو استفهاميّة معلّق عنها الفعل.

جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: جزوا جزاء. أو أخفى للجزاء، فإنّ إخفاءه لعلوّ شأنه. و قيل: هذا لقوم أخفوا أعمالهم، فأخفى اللّه ثوابهم.

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن الإيمان لا يَسْتَوُونَ في الشرف و المثوبة. تأكيد و تصريح. و الجمع للحمل على المعنى، كما أنّ ضمير الإفراد في «كان» محمول على اللفظ. و نحوه قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ (2).

ثمّ فسّر عدم الاستواء بقوله: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى يأوون إليها، فإنّها المأوى الحقيقي، و الدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة.

ص: 323


1- بله اسم فعل مبنيّ على الفتح، مثل: كيف. و معناه: دع و اترك. و يقال: معناه: سوى.
2- محمّد: 16.

و قيل: المأوى نوع من الجنان. قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (1). سمّيت بذلك، لما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: تأوي إليها أرواح الشهداء. و قيل: هي عن يمين العرش.

نُزُلًا عطاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم، أو على أعمالهم.

و النزل في الأصل عطاء النازل، ثمّ صار عامّا. و قد سبق مزيّة تفسيره في سورة آل عمران (2).

وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي: ملجؤهم و منزلهم. و يجوز أن يراد:

فجنّة مأواهم النار، أي: النار لهم، مكان جنّة المأوى للمؤمنين، كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3).

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها عبارة عن خلودهم فيها. و قد مرّ بيانه في سورة الحجّ (4). وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا مع ذلك عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إهانة لهم، و زيادة في غيظهم.

و في هذا دلالة على أنّ المراد بالفاسق هنا الكافر. قال ابن أبي ليلى: نزل قوله: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً ...» الآيات، في عليّ بن أبي طالب و رجل من قريش.

و قال غيره (5): نزلت في عليّ بن أبي طالب، و الوليد بن عقبة. فالمؤمن:

عليّ، و الفاسق: الوليد. و ذلك أنّه شجر بين عليّ بن أبي طالب و الوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام، فقال له الوليد: اسكت! فإنّك صبيّ، و أنا أشبّ منك شبابا،.

ص: 324


1- النجم: 13- 15.
2- راجع ج 1 ص 625، ذيل الآية 198 من سورة آل عمران.
3- الانشقاق: 24.
4- راجع ج 4 ص 380، ذيل الآية 22 من سورة الحجّ.
5- راجع الكشّاف 3: 514.

و أجلد منك جلدا، و أذرب منك لسانا، و أحدّ منك سنانا، و أشجع منك جنانا، و أملأ منك حشوا في الكتيبة، أي: أبدن. فقال له عليّ عليه السّلام: اسكت! فإنّك فاسق. فنزلت عامّة للمؤمنين و الفاسقين، فتناولتهما و كلّ من كان في مثل حالهما.

و عن الحسن بن عليّ عليه السّلام: قال للوليد: كيف تشتم عليّا، و قد سمّاه اللّه مؤمنا في عشر آيات، و سمّاك فاسقا؟

قال قتادة: لا و اللّه ما استووا، لا في الدنيا، و لا عند الموت، و لا في الآخرة.

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى عذاب الدنيا، من أنواع المصائب و المحن في الأنفس و الأموال. و عن ابن مسعود: هو القتل يوم بدر بالسيف. و عن مقاتل: هو ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكّة، حتّى أكلوا الجيف و الكلاب: و عن عكرمة:

هو الحدود. و عن مجاهد:

عذاب القبر. و هو مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عذاب الآخرة. و المعنى: نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة. لَعَلَّهُمْ لعلّ من بقي منهم يَرْجِعُونَ يتوبون عن الكفر.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي: لا أحد أظلم لنفسه ممّن نبّه على حجج اللّه الموصلة إلى معرفته ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها فلم يتفكّر فيها. و «ثمّ» لاستبعاد الإعراض عنها. و المعنى: أنّ الإعراض عن مثل آيات اللّه، في فرط وضوحها و إنارتها، و إرشادها إلى سواء السبيل، و الفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها، مستبعد جدّا في العقل و العدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثمّ لم تنتهزها، استبعادا لتركه الانتهاز.

إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ فكيف ممّن كان أظلم من كلّ ظالم؟! و تحرير المعنى: أنّه لمّا جعل المعرض عن الآيات الواضحة مع علمه بها أظلم الناس، ثمّ توعّد المجرمين عامّة بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام. فلإفادة هذا المعنى لم يقل: إنّا منه منتقمون، لأنّه لم يفد هذا المعنى.

ص: 325

[سورة السجده [32]: الآيات 23 الى 25]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ [23] وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [24] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [25]

و لمّا أعرضوا عن آيات القرآن مع ظهور إعجازه، و وضوح صدقه، سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله:

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما آتيناك الكتاب، و لقّيناه مثل ما لقّيناك من الوحي، فأعرضوا عن أحكام كتابه، كما أعرضوا عن أحكام كتابك فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ في شكّ مِنْ لِقائِهِ من لقائك الكتاب، أي: من أنّك لقيت مثله، و لا تلتفت إلى إعراض المعاندين. و نظيره قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ (1). و قوله: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (2).

فإرجاع الضمير إلى الكتاب باعتبار الجنسيّة.

و ملخّص المعنى: إنّا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه، فليس ذلك ببدع حتّى ترتاب فيه، أو من لقائك موسى.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت ليلة أسري بي موسى عليه السّلام، رجلا آدم طوالا جعدا (3)، كأنّه

ص: 326


1- يونس: 94.
2- النمل: 6.
3- الجعد من الشعر: خلاف المسترسل. و السبط ضدّ الجعد، و هو المسترسل منه. و شنوءة قبيلة من اليمن. و المربوع: المتوسّط القامة.

من رجال شنوءة. و رأيت عيسى بن مريم، رجلا مربوع الخلق، إلى الحمرة و البياض، سبط الرأس».

فعلى هذا فقد وعد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سيلقى موسى عليه السّلام قبل أن يموت.

وَ جَعَلْناهُ أي: الكتاب المنزل على موسى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس إلى ما فيه من الحكم و الأحكام بِأَمْرِنا إيّاهم به، أو بتوفيقنا له لَمَّا صَبَرُوا على نصرة الدين و ثبتوا عليه. و قرأ حمزة و الكسائي و رويس: لما صبروا، أي: لصبرهم على الطاعة، أو عن الدنيا. وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ لإمعانهم فيها النظر. و كذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى و نورا، و لنجعلنّ من أمّتك أئمّة يهدون مثل تلك الهداية.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بينهم، فيميّز الحقّ من الباطل، بتمييز المحقّ من المبطل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.

[سورة السجده [32]: الآيات 26 الى 27]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ [26] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ [27]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ الواو للعطف على معطوف عليه منويّ من جنس المعطوف.

و الضمير لأهل مكّة. و الفاعل ضمير ما دلّ عليه كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ لأنّ «كم» لا تقع فاعلة، فلا يقال: جاءني كم رجل. تقديره: أو لم يهد لهم كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية. أو ضمير اللّه، بدليل القراءة بالنون.

يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني: أهل مكّة يمرّون في متاجرهم على ديار

ص: 327

القرون السالفة، كعاد و ثمود و قوم لوط، و يرون آثارهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لدلالات واضحات على الحقّ أَ فَلا يَسْمَعُونَ سماع تدبّر و اتّعاظ.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ بالمطر و الثلج. و قيل: بالأنهار و العيون. إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ الّتي جرز نباتها، أي: قطع و أزيل، إمّا لعدم الماء، و إمّا لأنّه رعي و أزيل. و لا يقال للّتي لا تنبت أصلا كالسباخ: جرز. و يدلّ عليه قوله: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً و عن ابن عبّاس: نسوق الماء بالسيول إليها، لأنّها مواضع عالية. و هي قرى بين اليمن و الشام. تَأْكُلُ مِنْهُ من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتبن و الورق وَ أَنْفُسُهُمْ كالحبّ و الثمر أَ فَلا يُبْصِرُونَ فيستدلّون

به على كمال قدرته و فضله.

[سورة السجده [32]: الآيات 28 الى 30]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [28] قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ [29] فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [30]

روي: أنّ المسلمين كانوا يقولون: إنّ اللّه سيفتح لنا على المشركين. فقالوا على وجه الإنكار و الاستبعاد: متى هذا الفتح؟ فنزلت:

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أي: في أيّ وقت يكون النصر؟ أو الفصل بالحكومة، من قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا (1). إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّه كائن.

قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يؤخّر العذاب عنهم يومئذ. و هو يوم القيامة، فإنّه يوم نصر المسلمين، و الفصل بينهم و بين أعدائهم. و لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح، استعجالا منهم على وجه

ص: 328


1- الأعراف: 89.

التكذيب و الاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم، فقيل لهم: لا تستعجلوا به و لا تستهزؤا، فكأنّي بكم قد حضرتم في ذلك اليوم، و آمنتم فلم ينفعكم الإيمان، و استنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا.

و قيل: المراد يوم بدر. و عن مجاهد و الحسن: يوم فتح مكّة. فالمراد بالّذين كفروا المقتولون منهم، فإنّه لا ينفعهم إيمانهم، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق. فعلى هذا المعنى ينطبق هذا الكلام جوابا على سؤالهم عن وقت الفتح. فلا يقال: من فسّره بيوم بدر أو فتح مكّة، كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان، و قد نفع الطلقاء يوم فتح مكّة، و ناسا يوم بدر.

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يا محمد، فإنّه لا ينجع فيهم الدعاء و الوعظ، و لا تبال بتكذيبهم. و قيل: هو منسوخ

بآية السيف (1). وَ انْتَظِرْ النصرة عليهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليك و هلاككم، كقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (2).

ص: 329


1- التوبة: 5 و 29.
2- التوبة: 52.

ص: 330

[33] سورة الأحزاب

اشارة

مدنيّة و هي ثلاث و سبعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأحزاب و علّمها أهله، و ما ملكت يمينه، أعطي الأمان من عذاب القبر».

و روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب، كان يوم القيامة في جوار محمّد و آله و أزواجه».

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [1] وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [2] وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً [3]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا أمر رسوله في مختتم سورة حم السجدة بانتظار أمره، بيّن في مفتتح هذه السورة أن يكون في انتظاره متّقيا، و نهاه عن طاعة الكفّار، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ناداه بالنبيّ، و ترك نداءه باسمه، كما قال: يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود، و أمره بالتقوى، تعظيما له،

ص: 331

و تنويها بفضله، و تشريفا بمحلّه، و تفخيما لشأن التقوى.

و المراد به الأمر بالثبات عليه، ليكون مانعا له عمّا نهى عنه بقوله: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ كأنّه قال: واظب على ما أنت عليه من التقوى، و اثبت عليه.

و لا تطع الّذين يظهرون الكفر و يبطنونه، و الّذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر، فيما يعود بوهن في الدين. و لا تساعدهم على شي ء، و لا تقبل لهم رأيا و لا مشورة، و جانبهم، فإنّهم أعداء اللّه و أعداء المؤمنين، فلا يريدون إلّا المضارّة و المضادّة.

و روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله لمّا هاجر إلى المدينة، و كان يحبّ إسلام اليهود؛ قريظة و النضير و بني قينقاع، و قد بايعه ناس منهم على النفاق، فكان يلين لهم جانبه، و يكرم صغيرهم و كبيرهم، و إذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، و كان يسمع منهم، فنهاه اللّه سبحانه عن ذلك بإنزال هذه السورة.

و قيل: إنّ أبا سفيان بن حرب و عكرمة بن أبي جهل و أبا الأعور السلمي، قدموا عليه في الموادعة الّتي كانت بينه و بينهم، و قام معهم عبد اللّه بن أبيّ و معتب بن قشير و الجدّ بن قيس. فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارفض ذكر آلهتنا، و قل: إنّها تشفع و تنفع، ندعك و ربّك. فشقّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على المؤمنين، و همّوا بقتلهم، فنزلت. أي: اتّق اللّه في نقض العهد و نبذ الموادعة، و لا تطع الكافرين من أهل مكّة، و المنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا إليك.

و روي أيضا: أنّ أهل مكّة دعوا رسول اللّه إلى أن يرجع عن دينه، و يعطوه شطر أموالهم، و أن يزوّجه شيبة بن ربيعة بنته، و خوّفه منافقوا المدينة أنّهم يقتلونه إن لم يرجع، فنزلت.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالصواب من الخطأ، و المصلحة من المفسدة حَكِيماً لا يفعل شيئا و لا يحكم به إلّا بما تقتضيه الحكمة.

و لمّا نهاه عن متابعة الكفّار و أهل النفاق، أمره باتّباع أوامره و نواهيه على

ص: 332

الإطلاق، فقال:

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في ترك طاعة الكافرين و المنافقين و غير ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فموح إليك ما تصلح به أعمالك، فلا حاجة إلى الاستماع إلى الكفرة.

و قرأ أبو عمرو بالياء، على أنّ الواو ضمير الكفرة و المنافقين، أي: إنّ اللّه خبير بمكايدهم، فيدفعها عنك.

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و كل أمرك إلى تدبيره وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور كلّها.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 4 الى 5]

ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [4] ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [5]

روي: أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ اللبيب الأريب له قلبان. و لذلك قيل لأبي معمر: ذو القلبين، لأنّه رجل من أحفظ العرب و أرواهم. و قيل لجميل بن أسد الفهري: ذو القلبين. و كان يقول: إنّ لي قلبين، أفهم بأحدهما أكثر ما يفهم محمّد.

و أنّ (1) الزوجة المظاهر عنها كالامّ، و دعيّ الرجل ابنه. و لذلك كانوا يقولون لزيد بن

ص: 333


1- عطف على قوله: «أنّ اللبيب ...» في صدر العبارة.

حارثة بن شراحيل الكلبي، من بني عبدودّ، عتيق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ابن محمّد. فردّ اللّه عليهم بقوله:

ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي: ما جمع قلبين في جوف، لأنّ القلب معدن الروح الحيواني المتعلّق بالنفس الإنساني أوّلا، و منبع القوى بأسرها ثانيا، و هو يمنع التعدّد. و لأنّ صاحب القلبين لا يخلو: إمّا أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها. و إمّا أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدّي إلى اتّصاف الجملة بكونه مريدا كارها، عالما ظانّا، موقنا شاكّا، في حالة واحدة، و هو محال.

و روي: أنّ جميل بن أسد انهزم يوم بدر، فمرّ بأبي سفيان و هو معلّق إحدى نعليه بيده و الاخرى في رجله، فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول و هارب. فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك و الاخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلّا أنّهما في رجليّ. فأكذب اللّه قوله و قولهم.

و عن ابن عبّاس: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان. ينسبونه إلى الدهاء، فأكذبهم اللّه.

و عن الحسن: نزلت في رجل كان يقول: لي نفس تأمرني، و نفس تنهاني.

و قيل: هو ردّ على المنافقين. و المعنى: ليس لأحد قلبان، يؤمن بأحدهما و يكفر بالآخر، و إنّما هو قلب واحد، فإمّا أن يؤمن، و إمّا أن يكفر.

و قيل: هذه الآية متّصلة بما قبلها. و المعنى: أنّه لا يمكن الجمع بين اتّباعين متضادّين: اتّباع الوحي و القرآن، و اتّباع أهل الكفر و الطغيان. فكنّى عن ذلك بذكر القلبين، لأنّ الاتّباع يصدر عن الاعتقاد، و الاعتقاد من أفعال القلوب، فكما لا يجتمع قلبان في جوف واحد، لا يجتمع اعتقادان متضادّان في قلب واحد.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه، يحبّ بهذا

ص: 334

قوما، و يحبّ بهذا أعداءهم».

و التنكير في رجل، و إدخال «من» الاستغراقيّة على «قلبين» تأكيدان لما قصد من المعنى. كأنّه قال: ما جعل اللّه لأمّة الرجال، و لا لواحد منهم، قلبين البتّة في جوفه.

و فائدة ذكر الجوف كالفائدة في قوله: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (1). و ذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر و التجلّي للمدلول عليه، لأنّه إذا سمع به صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار.

وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ و ما جعل الزوجيّة و الامومة في امرأة.

و قرأ أبو عمرو: اللّاي بالياء وحدها ساكنة، على أنّ أصله: اللّاء بهمزة فخفّفت. و عن الحجازيّين مثله. و عنهما و يعقوب بالهمزة وحدها.

و أصل «تظّهّرون»: تتظهّرون، فأدغمت التاء الثانية في الظاء. و قرأ ابن عامر:

تظّاهرون بالإدغام. و حمزة و الكسائي بالحذف. و عاصم: تظاهرون، من: ظاهر.

و معنى الظهار: أن يقول الرجل للزوجة: أنت عليّ كظهر أمّي. مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ، كالتلبية من: لبّيك. و تعديته ب «من» لتضمّنه معنى التجنّب، لأنّه كان طلاقا في الجاهليّة. و هو في أوّل الإسلام يقتضي الطلاق، أو الحرمة إلى أداء الكفّارة.

و إنّما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر، لأنّه عمود البطن، فذكره يقارب ذكر الفرج. أو للتغليظ في التحريم، فإنّهم كانوا يحرّمون إتيان المرأة و ظهرها إلى السماء. و سنذكر إن شاء اللّه تحقيق الظهار في سورة المجادلة.

ص: 335


1- الحجّ: 46.

وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ و ما جعل الدعوة و البنوّة في رجل. و الأدعياء جمع دعيّ، فعيل بمعنى مفعول. و هو الّذي تبنّاه الإنسان. و جمع على أفعلاء شذوذا، لأنّ قياس باب أفعلاء لا يكون إلّا ما كان منه بمعنى فاعل، كتقيّ و أتقياء، و شقيّ و أشقياء، فشبّه بفعيل بمعنى فاعل.

و تحرير المعنى: أنّ اللّه سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة

أمّا لرجل زوجا له، لأنّ الامّ مخدومة مخفوض لها جناح الذلّ، و الزوجة مستخدمة متصرّف فيها بالاستفراش و غيره، كالمملوكة، و هما حالتان متنافيتان. و أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل و ابنا له، لأنّ البنوّة أصالة في النسب و عراقة فيه، و الدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، و لا يجتمع في الشي ء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.

و هذا مثل ضربه اللّه في زيد بن حارثة، سبي صغيرا، و كانت العرب في جاهليّتها يتغاورون و يتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة، فلمّا تزوّجها رسول اللّه وهبته له. و لمّا نبّئ صلوات اللّه عليه و آله دعاه إلى الإسلام فأسلم. فقدم أبوه حارثة مكّة، و أتى أبا طالب، و قال: سل ابن أخيك، فإمّا أن يبيعه، و إمّا أن يعتقه. فلمّا قال ذلك أبو طالب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: هو حرّ فليذهب حيث شاء.

فأبى زيد أن يفارق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال حارثة: يا معشر قريش! اشهدوا أنّه ليس ابني. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

اشهدوا أنّه ابني. يعني: زيدا. فكان يدعى زيد بن محمّد. فلمّا تزوّج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زينب بنت جحش، و كانت تحت زيد بن حارثة، قال اليهود و المنافقون: تزوّج محمّد امرأة ابنه و هو ينهى الناس عنها. فقال اللّه تعالى: «ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ».

ص: 336

ذلِكُمْ إشارة إلى كلّ ما ذكر، أو إلى الأخير. قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ لا حقيقة له في الأعيان وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ ما له حقيقة عينيّة مطابقة له وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحقّ. و

هو قوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ انسبوهم إليهم. فهذا إفراد للمقصود من أقواله الحقّة. و قوله: هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل له. و الضمير لمصدر «ادعوا». و أقسط أفعل التفضيل، قصد به الزيادة مطلقا. من القسط بمعنى العدل.

و معناه: البالغ في الصدق.

روى سالم عن ابن عمر، قال: ما كنّا ندعو زيد بن حارثة إلّا زيد بن محمّد، حتّى نزل القرآن: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ».

فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ و أولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي و مولاي، و يا أخي، و يا مولاي.

يعني: الاخوّة في الدين، و الولاية فيه.

وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي: و لا إثم عليكم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ فيما فعلتموه من ذلك مخطئين، قبل النهي أو بعده، على النسيان، أو سبق اللسان. أو ظننتم أنّه أبوه، و لم تعلموا أنّه ليس بابن له، فلا يؤاخذكم اللّه به.

وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ في محلّ الجرّ عطفا على «فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ» أي:

و لكنّ الجناح فيما تعمّدت قلوبكم و قصدتموه، من دعائهم إلى غير آبائهم. أو مرفوع على الابتداء، و الخبر محذوف، تقديره: و لكن ما تعمّدت قلوبكم فيه الجناح و المؤاخذة.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لعفوه عن الخاطئ، و عن العمد إذا تاب العامد.

و في هذه الآية دلالة على أنّه لا يجوز الانتساب إلى غير الأب. و قد وردت السنّة بتغليظ الأمر فيه.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من انتسب إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة اللّه».

ص: 337

[سورة الأحزاب [33]: آية 6]

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ

إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [6]

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نستأذن آباءنا و أمّهاتنا، فنزلت:

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في كلّ شي ء من امور الدين و الدنيا.

و لهذا أطلق و لم يقيّد، فإنّه لا يأمرهم و لا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم و نجاحهم، بخلاف النفس. فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، و أمره أنفذ عليهم من أمرها، و شفقتهم عليه أتمّ من شفقتهم عليها.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من مؤمن إلّا و أنا أولى به في الدنيا و الآخرة، اقرؤا إن شئتم: النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم».

و عن مجاهد: كلّ نبيّ أب لأمّته، و لذلك صار المؤمنون إخوة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبوهم في الدين.

وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ منزّلات منزلتهنّ، في وجوب تعظيمهنّ و احترامهنّ، و تحريم نكاحهنّ. قال اللّه تعالى: وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (1). و فيما عدا ذلك فكالأجنبيّات.

قال الكلبي: آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين الناس، فكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الثاني منهما دون أهله، فمكثوا بذلك ما شاء اللّه حتّى نسخ

ص: 338


1- الأحزاب: 53.

ذلك بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ و ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التوارث فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح. أو فيما أوحى اللّه إلى نبيّه. و هو هذه الآية، أو آية (1) المواريث. أو فيما فرض اللّه.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أي: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. أو لابتداء الغاية، أي: و أولوا الأرحام بحقّ القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحقّ الدين، و من المهاجرين بحقّ الهجرة.

فهذا نسخ لما كان في صدر الإسلام من التواريث بالهجرة، و الموالاة في الدين، لا بالقرابات.

إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً استثناء من أعمّ ما يقدّر الأولويّة فيه من أنواع النفع، أي: القريب أولى من الأجنبيّ في كلّ نفع، من ميراث و هبة و هديّة و صدقة و غير ذلك، إلّا في الوصيّة. أو منقطع، أي: لكن إن فعلتم إلى أوليائكم المؤمنين و خلفائكم، ما يعرف حسنه و صوابه، فهو حسن. قال السدّي: عنى بذلك وصيّة الرجل لإخوانه في الدين.

كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً مكتوبا. و المراد بالكتاب اللوح، أو القرآن.

و قيل: في التوراة. و الجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام.

و اعلم أنّ الآية متّصلة بقوله: وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» فإنّه سبحانه لمّا بيّن أنّ التبنّي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يجوز، عقّبه أنّه مع ذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من حيث إنّه ولّاه اللّه أمرهم، فيلزمهم طاعته و الانقياد له. و أصل الولاية للّه تعالى، فلا حظّ فيها لأحد إلّا لمن ولّاه سبحانه. و إلى هذا المعنى

أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الغدير، في قوله: «أ لست أولى بكم من أنفسكم؟» فلمّا قالوا: بلى، قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه».

ص: 339


1- النساء: 11- 12 و 176.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 7 الى 8]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [7] لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ

عَذاباً أَلِيماً [8]

ثمّ عاد سبحانه في تأكيد نبوّة نبيّنا، بذكر أخذ الميثاق منه كما أخذ من النبيّين، فقال:

وَ إِذْ أَخَذْنا مقدّر ب: اذكر، أي: اذكر حين أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ جميعا مِيثاقَهُمْ عهودهم، بتبليغ الرسالة، و الدعاء إلى الدين القويم وَ مِنْكَ خصوصا وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خصّهم بالذكر، لأنّهم مشاهير أرباب الشرائع. و قدّم نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعظيما له. و قدّم عليه نوح في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (1) لأنّ مورد هذه الآية على طريقة خلاف تلك، و ذلك أنّ اللّه تعالى إنّما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة و الاستقامة. فكأنّه قال: شرع لكم الدين الأصيل الّذي بعث عليه نوح في العهد القديم، و بعث عليه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاتم النبيّين في العهد الحديث، و بعث عليه من توسّط بينهما من الأنبياء المشاهير.

وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عظيم الشأن، فإنّ الغلظ استعارة من وصف الأجرام. و المراد عظم الميثاق، و جلالة شأنه في بابه. و قيل: الميثاق الغليظ اليمين باللّه على الوفاء بما حملوا. و تكرير الميثاق لبيان هذا الوصف.

و إنّما فعلنا ذلك لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ عمّا قالوه لقومهم.

ص: 340


1- الشورى: 13.

أو تصديقهم إيّاهم تبكيتا لهم، كقوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1). أو ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم، فإنّ مصدّق الصادق صادق. أو المؤمنين الّذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم و شهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنّهم صدقوا عهدهم و شهادتهم.

وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً عطف على «أخذنا» لأنّ المعنى: أنّ اللّه أكّد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين. أو على ما دلّ عليه «ليسأل».

كأنّه قال: فأثاب المؤمنين، و أعدّ للكافرين عذابا أليما.

[سورة الأحزاب [33]: آية 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [9]

و لمّا بيّن سبحانه تأكيد نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذكر ما أخذ على النبيّين من الميثاق، عقّب ذلك ببيان آياته و معجزاته يوم الأحزاب، و ذكر ما أنعم عليه و على المؤمنين من النصر، مع ما أعدّ لهم من الثواب، و ما فعل بالكفرة من التذليل و الإخزاء، مع ما أوعدهم من العذاب، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ما أنعم اللّه به عليكم يوم الأحزاب، و هو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ و هم: قريش، و غطفان، و يهود قريظة و النظير. و كانوا زهاء اثني عشر ألفا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً الصبا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم (2)، و سفّت التراب في وجوههم، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 341


1- المائدة: 116.
2- فأخصرتهم أي: أوقعتهم في الخصر، و هو البرد. و سفّت التراب أي: طيّرته.

«نصرت بالصبا، و أهلكت عاد بالدبور».

وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة، و كانوا ألفا. بعث اللّه عليهم ريحا باردة، فقلعت أوتادهم، و قطعت أطنابهم، و نزعت فساطيطهم، و أطفأت نيرانهم، و كبّت (1) قدورهم، فماجت الخيل بعضها في بعض، و كبّرت الملائكة في جوانب العسكر. فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أمّا محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء (2) النجاء. فانهزموا من غير قتال.

وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق. و قرأ البصريّان بالياء، أي: بما يعمل المشركون، من التحزّب و المحاربة. بَصِيراً رائيا، فيجازي كلّهم على وفق أعمالهم.

و تفصيل هذه القصّة برواية محمد بن كعب القرظي، و غيره من أصحاب السير و التواريخ: أنّ نفرا من اليهود، منهم سلام بن أبي الحقيق، و حييّ بن أخطب، في جماعة من بني النضير الّذين أجلاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، خرجوا حتّى قدموا على قريش بمكّة، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قالوا: إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم.

فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود! إنّكم أهل الكتاب الأوّل، فديننا خير أم دين محمّد؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه، فأنتم أولى بالحقّ منه. فهم الّذين أنزل اللّه فيهم: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا إلى قوله: وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (3). فسرّ قريشا ما قالوا، و نشطوا لمّا دعوهم إليه، فأجمعوا لذلك و استعدّوا

ص: 342


1- كبّ الإناء: قلبه على رأسه ليصبّ ما فيه.
2- النجاء: الخلاص. يقال: النجاء النجاء أي: أسرع أسرع.
3- النساء: 51- 55.

له.

ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود، حتّى جاءوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه و أخبروهم أنّهم سيكونون عليه، و أن قريشا قد تابعوهم على ذلك.

فأجابوهم. فخرجت قريش و قائدهم أبو سفيان بن حرب. و خرجت غطفان، و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة، و الحارث بن عوف في بني مرّة، و مسعر بن جبلّة الأشجعي. و كتبوا إلى حلفائهم

من بني أسد، فأقبل طليحة في من اتّبعه من بني أسد. و أسد و غطفان حليفان. و كتب قريش إلى رجال من بني سليم، فأقبل أبو الأعور فيمن اتّبعه من بني سليم مددا لقريش.

فلمّا علم بذلك رسول اللّه ضرب الخندق على المدينة. و كان الّذي أشار عليه بذلك سلمان الفارسي. و كان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يومئذ حرّ. قال: يا رسول اللّه إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. فعمل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون حتّى أحكموه.

فممّا ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن كثير بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف المزني، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، قال: خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة. فاختلف المهاجرون و الأنصار في سلمان الفارسي، و كان رجلا قويّا. فقال الأنصار: سلمان منّا. و قال المهاجرون: سلمان منّا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سلمان منّا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا و سلمان و حذيفة بن اليمان و النعمان بن مقرن و ستّة من الأنصار، نقطع أربعين ذراعا، فحفرنا حتّى بلغنا من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة، فكسرت حديدنا، و شقّت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره عن الصخرة، فإمّا أن نعدل عنها، فإنّ المعدل قريب، و إمّا أن يأمرنا فيه بأمره، فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه.

ص: 343

فرقى سلمان حتّى أتى

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مضروب عليه قبّة، فقال: يا رسول اللّه! خرجت صخرة بيضاء من الخندق، فكسرت حديدنا، و شقّت علينا حتّى ما يحكّ (1) فيها قليل و لا كثير، فمرنا فيها بأمرك.

فهبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع سلمان في الخندق، و أخذ المعول (2)، فضرب به ضربة، فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها (3) يعني: لابتي المدينة، حتّى لكأنّ مصباحا في جوف الليل مظلم. فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تكبيرة فتح، فكبّر المسلمون. ثمّ ضرب ضربة اخرى، فلمعت برقة اخرى. ثمّ ضرب به الثالثة، فلمعت برقة اخرى.

فقال سلمان: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه، ما هذا الّذي رأيت؟

فقال: أمّا الأولى، فإنّ اللّه عزّ و جلّ فتح عليّ بها اليمن. و أمّا الثانية، فإنّ اللّه تعالى فتح عليّ بها الشام و المغرب. و أمّا الثالثة، فإنّ اللّه عزّ و جلّ فتح عليّ بها المشرق.

فاستبشر المسلمون بذلك، و قالوا: الحمد للّه على موعود صادق.

قال: و طلعت الأحزاب، فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا اللّه و رسوله. و قال المنافقون: ألا تعجبون! يحدّثكم و يعدكم الباطل، يخبركم أنّه يبصر في يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى، و أنّها تفتح لكم، و أنتم تحفرون الخندق، و لا تستطيعون أن تبرزوا.

و ممّا ظهر فيه أيضا من آيات النبوّة، ما رواه أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد بن ايمن المخزومي، قال: حدّثني أيمن المخزومي، قال: حدّثني جابر.

ص: 344


1- أي: لا يعمل و لا يؤثّر فيها.
2- المعول: أداة لحفر الأرض.
3- اللابة: الحرّة. و هي الأرض ذات الحجارة السود.

بن عبد اللّه، قال: كنّا يوم الخندق نحفر الخندق، فعرضت فيه كدية (1)، و هي الجبل، فقلنا: يا رسول اللّه! إن كدية عرضت فيه؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رشّوا عليها ماء. ثمّ قام فأتاها و بطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة، فسمّى ثلاثا، ثمّ ضرب فعادت كثيبا (2) أهيل.

فقلت له: ائذن لي يا رسول اللّه إلى المنزل؟ ففعل. فقلت للمرأة: هل عندك من شي ء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق (3). فطحنت الشعير و عجنته، و ذبحت العناق و سلختها. و خلّيت بين المرأة و بين ذلك، ثمّ أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجلست عنده ساعة، ثمّ قلت: ائذن لي يا رسول اللّه، ففعل. فأتيت المرأة فإذا العجين و اللحم قد أمكنا. فرجعت إلى رسول اللّه فقلت: إنّ عندنا طعيما لنا، فقم يا رسول اللّه أنت و رجلان من أصحابك.

فقال: و كم هو؟

قلت: صاع من شعير و عناق.

فقال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر. فقاموا. فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلّا اللّه. فقلت: جاء بالخلق على صاع شعير و عناق. فدخلت على المرأة و قلت: قد افتضحت جاءك رسول اللّه بالخلق أجمعين.

فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟

قلت: نعم.

فقالت: اللّه و رسوله أعلم، قد أخبرناه ما عندنا.

قلت: فكشفت عنّي غمّا شديدا..

ص: 345


1- الكدية: الأرض الصلبة الغليظة.
2- الكثيب: التلّ من الرمل. و الأهيل: المنهال المنصبّ.
3- العناق: الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها السنة.

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: خذي و دعيني من اللحم. فلمّا جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع

أصحابه، جعل يثرد و يفرّق اللحم، ثمّ يحمّ (1) هذا و يحمّ هذا، فما زال يقرّب إلى الناس حتّى شبعوا أجمعين، و يعود التنّور و القدر أملأ ما كانا. ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلي و اهدي. فلم نزل نأكل و نهدي قومنا أجمع. أورده البخاري (2) في الصحيح.

و عن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قالوا: و لمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الخندق، أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف (3) و الغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من بني كنانة و أهل تهامة، و قائدهم أبو سفيان. و خرج غطفان في ألف، و من تابعهم من أهل نجد، و قائدهم عيينة بن حصين. و عامر بن الطفيل في هوازن. و ضامّتهم اليهود من قريظة و النضير، حتّى نزلوا إلى جانب أحد. و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب في سلع (4) عسكره، و الخندق بينه و بين القوم. و أمر بالذراري و النساء فرفعوا في الآطام (5).

و خرج عدوّ اللّه حييّ بن أخطب النضيري حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة، و كان قد وادع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على قومه، و عاهده على ذلك.

فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له..

ص: 346


1- حمّ الشي ء: قرب. و يستعمل الرباعيّ متعدّيا. يقال: أحمّ الشي ء أي: قرّبه.
2- صحيح البخاري 5: 138.
3- الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام.
4- السلع: الشقّ.
5- الأطم: القصر و الحصن المبنيّ بالحجارة، و كلّ بناء مرتفع. و جمعه: آطام.

فناداه: يا كعب! افتح لي.

فقال: و يحك يا حييّ! إنّك رجل مشؤوم، إنّي قد عاهدت محمّدا، و لست بناقض ما بيني و بينه، و لم أر منه إلّا وفاء و صدقا.

قال: ويحك! افتح لي اكلّمك.

قال: ما أنا بفاعل.

قال: إن أغلقت إلّا على حشيشة تكره أن آكل منها معك. ففتح له.

فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر و ببحر طام (1)، جئتك بقريش على قادتها و سادتها، و بغطفان على سادتها و قادتها. عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من معه.

فقال كعب: جئتني و اللّه بذلّ الدهر، بجهام (2) قد هراق ماؤه، يرعد و يبرق و ليس فيه شي ء، فدعني و محمّدا و ما أنا عليه، فلم أرمن محمّد إلّا صدقا و وفاء.

فلم يزل حييّ يكلّمه ليليّنه في نقض العهد. فنقض عهده، و برى ء ممّا كان عليه فيما بينه و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غدره في العهد، و نقضه في الميعاد، قال: اللّه أكبر.

و عظم عند ذلك البلاء، و اشتدّ الخوف على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و أتاهم عدوّهم من فوقهم، و من أسفل منهم، حتّى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، و ظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أقام المشركون عليه بضعا و عشرين ليلة، لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبل. إلّا أنّ فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبدودّ، أخو بني

عامر بن لؤيّ، و عكرمة بن أبي جهل، و ضرار بن الخطّاب، و هبيرة بن أبي .

ص: 347


1- أي: ممتلئ.
2- الجهام: السحاب لا ماء فيه.

وهب، و نوفل بن عبد اللّه، قد تلبّسوا للقتال، و خرجوا على خيولهم، حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيّأوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان.

ثمّ أقبلوا بهم حتّى وقفوا على الخندق، فقالوا: و اللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثمّ تيمّموا مكانا ضيّقا من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحموا، فجالت بهم في السبخة بين الخندق و سلع.

و خرج عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في نفر من المسلمين، حتّى أخذ عليهم الثغرة الّتي منها اقتحموا. و أقبلت الفرسان نحوهم. و كان عمرو بن عبدودّ فارس قريش، و كان قد قاتل يوم بدر حتّى أثبته (1) الجراح. فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده، و كان يعدّ بألف فارس. و كان يسمّى فارس يليل، لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل، و هو واد قريب من بدر، عرضت لهم بنو بكر في عدد. فقال لأصحابه: امضوا، فمضوا. فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم من أن يصلوا إليه، فعرف بذلك. و كان اسم الموضع الّذي حفر فيه الخندق المذاد.

و ذكر ابن إسحاق: أنّ عمرو بن عبدودّ كان ينادي: من يبارز؟ فقام عليّ عليه السّلام و هو مقنّع في الحديد، فقال: أنا له يا نبيّ اللّه. فقال: إنّه عمرو، اجلس. و نادى عمرو: ألا رجل! و هو يؤنّبهم و يقول: أين جنّتكم الّتي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ فقام عليّ عليه السّلام فقال: أنا له يا رسول اللّه. ثمّ نادى الثالثة فقال:

و لقد بححت (2) من النداء

بجمعكم هل من مبارز

و وقفت إذ جبن المسجّع

موقف البطل المناجز.

ص: 348


1- أي: أوهنه الجراح و ضعف حتّى لا يقدر على الحراك.
2- البحّة: خشونة و غلظ في الصوت. من: بحّ يبحّ.

إنّ السماحة و الشجاعة*

في الفتى خير الغرائز

فقام علي عليه السّلام فقال: يا رسول اللّه أنا. فقال: إنّه عمرو. فقال: و إن كان عمرا.

فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و فيما رواه السيّد أبو الحمد الحسيني القايني، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جدّه، عن حذيفة قال: «فألبسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم درعه ذات الفضول، و أعطاه سيفه ذا الفقار، و عمّمه عمامته السحاب على رأسه تسعة أكوار، ثمّ قال له: تقدّم. فقال لمّا ولّى: اللّهمّ احفظه من بين يديه، و من خلفه، و عن يمينه، و عن شماله، و من فوق رأسه، و من تحت قدميه» (1).

قال ابن إسحاق: فمشى إليه و هو يقول لا تعجلنّ فقد أتاك* مجيب صوتك غير عاجز ذو نيّة و بصيرة* و الصدق منجي كلّ فائز إنّي لأرجو أن أقيم* عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء (2) يبقى* ذكرها عند الهزاهز قال له عمر: من أنت؟

قال: أنا عليّ.

قال: ابن عبد مناف؟

فقال أنا: عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف.

فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك، فإنّي أكره أن أهريق دمك..

ص: 349


1- شواهد التنزيل 2: 11 ح 634.
2- أي: واسعة.

فقال عليّ عليه السّلام: و لكنّي

و اللّه ما أكره أن أهريق دمك.

فغضب و نزل، و سلّ سيفه كأنّه شعلة نار، ثمّ أقبل نحو عليّ عليه السّلام مغضبا، فاستقبله عليّ بدرقته (1)، فضربه عمرو بالدرقة فقدّها، و أثبت فيها السيف، و أصاب رأسه فشجّه. و ضربه عليّ على حبل (2) العاتق فسقط.

و في رواية حذيفة: و تسيّف عليّ رجليه بالسيف من أسفل، فوقع على قفاه، و ثارت بينهما عجاجة. فسمع عليّ عليه السّلام يكبّر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قتله و الّذي نفسي بيده. فكان أوّل من ابتدر العجاج عمر بن الخطّاب، فإذا عليّ عليه السّلام يمسح سيفه بدرع عمرو، فكبّر عمر بن الخطّاب، و قال: يا رسول اللّه قتله. فحزّ عليّ رأسه، و أقبل نحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجهه يتهلّل. فقال عمر بن الخطّاب: هلّا استلبته درعه، فإنّه ليس للعرب درع خيرا منها. فقال: ضربته فاتّقاني بسوأته، فاستحييت ابن عمّي أن استلبه.

قال حذيفة: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبشر يا عليّ، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمّة محمّد، لرجح عملك بعملهم. و ذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا و قد دخله و هن بقتل عمرو، و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا و قد دخله عزّ بقتل عمرو بن عبدودّ.

فخرج أصحابه منهزمين حتّى طفرت خيولهم الخندق. و تبادر المسلمون، فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق، فجعلوا يرمونه بالحجارة. و ذكر ابن إسحاق: أنّ عليّا عليه السّلام طعنه في ترقوته حتّى أخرجها من مراقّه (3)، فمات في الخندق. و بعث المشركون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشترون جيفته بعشرة آلاف. فقال

ص: 350


1- الدرقة: الترس من جلود ليس فيه خشب و لا عقب.
2- الحبل: العرق في البدن، نحو: حبل الوريد. و العاتق: ما بين المنكب و العنق.
3- مراقّ البطن: مارقّ منه و لان.

النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: هو لكم، لا نأكل ثمن الموتى.

و روى عمرو بن عبيد عن الحسن البصري، قال: إنّ عليّا عليه السّلام لمّا قتل عمرو بن عبد ودّ، حمل رأسه فألقاه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقام أبو بكر و عمر فقبّلا رأس عليّ عليه السّلام.

و روي عن أبي بكر بن عيّاش: أنّه قال: ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعزّ منها، يعني: ضربة عمرو بن عبد ودّ، و ضرب عليّ ضربة ما كان أشأم منها، يعني: ضربة ابن ملجم عليه لعائن اللّه.

ثم أوقع اللّه الخلاف بين الأحزاب، فشتّت شملهم، و تفرّقت آراؤهم. و عند ذلك بعث اللّه عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى لا يستمسك لهم بناء، و لا تثبت لهم نار، و لا تطمئنّ لهم قدر، فانصرفوا راهبين.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 10 الى 14]

إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [10] هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً [11] وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [12] وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً [13] وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً [14]

ص: 351

و حكى اللّه سبحانه هذه القصّة إجمالا بقوله: إِذْ جاؤُكُمْ بدل من «إِذْ جاءَتْكُمْ» مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، من قبل المشرق. و هم بنو غطفان و قريظة و النضير. وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي، من قبل المغرب، من ناحية مكّة. و هم قريش. و كانوا متحزّبين، و قالوا: سنكون جملة واحدة حتّى نستأصل محمّدا.

وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها و مقرّها، حيرة و شخوصا و دهشة. و قيل: عدلت عن كلّ شي ء، فلم تلتفت إلّا إلى عدوّها، لشدّة الروع.

وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رعبا، فإنّ الرئة تنتفخ من شدّة الروع و الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد، فتربو و يرتفع القلب بارتفاعه إلى رأس الحنجرة، و هي منتهى الحلقوم، و هو مدخل الطعام و الشراب. و من ثمّ قيل للجبان: انتفخ سحره، أي:

رئته. و يجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب و وجيبها (1) و إن لم تبلغ الحناجر حقيقة.

قال أبو سعيد الخدري: قلنا يوم الخندق: يا رسول اللّه هل من شي ء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قولوا: اللّهمّ استر عوراتنا، و آمن روعاتنا. قال: فقلناها، فضرب وجوه أعداء اللّه بالريح، فهزموا.

وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الأنواع من الظنّ. فظنّ المخلصون الثبّت القلوب و الأقدام، أنّ اللّه منجز وعده في إعلاء دينه، أو ممتحنهم. فخافوا الزلل و ضعف الاحتمال. و ظنّ الضعاف القلوب و المنافقون أن يستأصل المسلمون، على ما حكى اللّه عنهم.

و الألف مزيدة في الوقف، زادوها في الفاصلة تشبيها للفواصل بالقوافي. و قد أجرى نافع و ابن عامر و أبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف. و لم يزدها أبو عمر

ص: 352


1- وجب القلب وجيبا: رجف و خفق.

و حمزة و يعقوب مطلقا. و هو القياس.

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اختبروا، فظهر المخلص من المنافق، و الثابت من المتزلزل وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً فحرّكوا لفرط الخوف تحريكا شديدا، و أزعجوا إزعاجا عظيما من شدّة الفزع، فإنّ الخائف يكون قلقا مضطربا، لا يستقرّ على مكانه.

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ من الظفر و إعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً وعدا باطلا. قيل: قائله معتب بن قشير، قال: يعدنا محمد فتح فارس و الروم، و أحدنا لا يقدر أن يتبرّز (1) فرقا، ما هذا إلّا وعد غرور.

وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني: أوس بن قيظي و أتباعه. و عن السدّي:

عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ أهل المدينة. و قيل: هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. لا مُقامَ لَكُمْ لا موضع قيام لكم هنا. و قرأ حفص بالضمّ، على أنّه اسم مكان أو مصدر من: أقام، أي: لا مكان تقيمون فيه. أو لا إقامة لكم.

فَارْجِعُوا إلى منازلكم، هاربين من عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: المعنى: لا مقام لكم على دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فارجعوا إلى الشرك، و أسلموه لتسلموا. أو لا مقام لكم بيثرب، فارجعوا كفّارا ليمكنكم المقام بها.

وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ في الرجوع. و هم بنو سلمة و بنو حارثة.

يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة. و أصلها: الخلل. يقال: عور المكان عورا، إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدوّ

و السارق. و يجوز أن تكون العورة تخفيف: العورة، بمعنى ذات العورة. اعتذروا بأن بيوتهم معرّضة للعدوّ، ممكّنة للسرّاق، لأنّها غير محرزة و لا محصّنة، فاستأذنوه ليحصّنوها ثمّ يرجعوا إليه. فأكذبهم اللّه بقوله: وَ ما

ص: 353


1- تبرز: خرج لقضاء الحاجة. و الفرق مصدر فرق أي: فزع و خاف.

هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة، رفيعة السمك إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً من القتال.

وَ لَوْ دُخِلَتْ المدينة، أو بيوتهم عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها جوانبها. يعني: لو دخلت العساكر المتحزّبة الّتي يفرّون خوفا منها، مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلّها، و انثالت (1) على أهاليهم و أولادهم ناهبين سأبين. و حذف الفاعل للإيماء بأنّ دخول هؤلاء المتحزّبين عليهم، و دخول غيرهم من العساكر، سيّان في اقتضاء الحكم المرتّب عليه.

ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الفزع و تلك الرجفة الْفِتْنَةَ الردّة إلى الكفر و مقاتلة المسلمين لَآتَوْها لأعطوها. و قرأ الحجازيّان بالقصر، بمعنى: لجاؤها و فعلوها. وَ ما تَلَبَّثُوا بِها بالفتنة، أو بإعطائها إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال و الجواب من غير توقّف. و قيل: ما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد إلّا يسيرا، فإنّ اللّه يهلكهم.

و تحرير المعنى: أنّهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم، و يتمحّلون ليفرّوا عن نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين، و عن مصافّة الأحزاب الّذين ملؤهم هولا و رعبا.

و هؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا (2) عليهم أرضهم و ديارهم، و عرض عليهم الكفر، و قيل لهم: كونوا على المسلمين، لسارعوا إليه، و ما تعلّلوا بشي ء، و ما ذلك إلّا لمقتهم الإسلام، و شدّة بغضهم لأهله، و حبّهم الكفر و تهالكهم على حزبه.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 15 الى 20]

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ

كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً [15] قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا

ص: 354


1- انثال عليه الناس من كلّ وجه: انصبّوا عليه.
2- كبسوا دار فلان: أغاروا عليها فجأة.

تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [16] قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً [17] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً [18] أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [19]

يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً [20]

ثمّ ذكّر هم اللّه سبحانه عهدهم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالثبات في المواطن، فقال:

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ عاهد بنو حارثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ قَبْلُ قبل الخندق، في يوم أحد، حين فشلوا لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ لا يرجعون عن مقاتلة العدوّ، و لا ينهزمون. و عن ابن عبّاس: عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة العقبة، أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم. و قيل: هم قوم غابوا عن بدر، فقالوا: لئن أشهدنا اللّه قتالا لنقاتلنّ. وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به، مجازى عليه. و إنّما جاء بلفظ الماضي تأكيدا.

ص: 355

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ من حتف الأنف أَوِ الْقَتْلِ في وقت معيّن سبق به القضاء، و جرى عليه القلم وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: إن نفعكم الفرار مثلا في هذا الوقت، فمتّعتم بالتأخير، لم يكن ذلك التمتيع إلّا تمتيعا أو زمانا قليلا.

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي: أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. فاختصر الكلام، كما في قوله: متقلّدا سيفا و رمحا (1). أو حمل الثاني على الأوّل، لما في العصمة من معنى المنع. فلا يقال:

كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة، و لا عصمة إلّا من السوء؟ وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم وَ لا نَصِيراً يدفع الضرّ عنهم.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المثبّطين غيرهم عن الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هم المنافقون. وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكني المدينة، من المنافقين أو ضعفة المسلمين أو اليهود: ما محمّد و أصحابه إلّا أكلة (2) رأس، و لو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان و أصحابه هَلُمَّ إِلَيْنا قرّبوا أنفسكم إلينا، و دعوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و هو لغة أهل الحجاز، يسوّون فيه بين الواحد و الجماعة. و أمّا تميم فيقولون: هلمّ يا رجل، و هلمّوا يا رجال. و هو صوت سمّي به فعل متعدّ مثل: احضر و قرّب. و قد ذكر مثل ذلك في الأنعام (3).

وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ و لا يحضرون القتال إِلَّا قَلِيلًا إلّا إتيانا قليلا،

ص: 356


1- و صدره: و رأيت زوجك في الوغى و الوغى: الحرب. و رمحا منصوب بمحذوف يناسبه، أي: متقلّدا سيفا و حاملا رمحا.
2- أي: قليلون يشبعهم رأس واحد. و هو جمع آكل. و الالتهام: الابتلاع.
3- راجع ج 2 ص 477، ذيل الآية 150 من سورة الأنعام.

يخرجون مع المؤمنين، يوهمون أنّهم معهم. أو زمانا قليلا، أو بأسا قليلا، فإنّهم يعتذرون و يثبّطون ما أمكن لهم. أو يخرجون مع المؤمنين، و لكن لا يقاتلون إلّا شيئا قليلا، كقوله: ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (1).

و قيل: إنّه من تتمّة كلامهم. و معناه: و لا يأتي أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرب الأحزاب، و لا يقاومونهم إلّا قليلا.

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء عليكم بالقتال معكم، أو بالنفقة في سبيل اللّه، أو الظفر، أو الغنيمة. جمع شحيح. و نصبها على الحال من فاعل «يأتون» أو «المعوّقين». أو على الذمّ.

ثمّ أخبر عن جبنهم بقوله: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ خوفا و لو إذا بك تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في أحداقهم كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ كنظر المغشيّ عليه، أو كدوران عينيه، أو مشبّهين به، أو مشبّهة أعينهم بعينه مِنَ الْمَوْتِ من معالجة سكرات الموت.

فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و الفزع، و جاء الأمن و الغنيمة، و حيزت الغنائم، و وقعت القسمة سَلَقُوكُمْ آذوكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ سليطة ذربة (2)، يطلبون الغنيمة.

و السلق: البسط بقهر، باليد أو باللّسان. و عن قتادة: معناه: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا، فلستم أحقّ بها منّا.

ثمّ قال: فأمّا عند البأس فأجبن قوم و أخذلهم للحقّ، و أمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم. و هو قوله: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ بخلاء بالغنيمة، يشاحّون المؤمنين عند القسمة. و نصبه على الحال أو الذمّ. و ليس بتكرير، لأنّ كلّ واحد منهما مقيّد من وجه.

ص: 357


1- الأحزاب: 20. و سيأتي تفسيرها عن قريب.
2- لسان ذرب أي: حديد حادّ.

أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا إخلاصا، و إلّا لما فعلوا ذلك فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي: فأظهر بطلانها، إذا لم تثبت لهم أعمال فتبطل. أو أبطل تصنّعهم و نفاقهم.

وَ كانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيّنا، لتعلّق الإرادة به، و عدم ما يمنعه عنه.

ثمّ وصف فرط جبنهم بقوله: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: لجبنهم يظنّون أنّ الأحزاب لم ينهزموا، و قد انهزموا ففرّوا من الخندق إلى داخل المدينة وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرّة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنّوا أنّهم خارجون إلى البدو، حاصلون بين الأعراب، حذرا من القتل، و تربّصا للدوائر.

يَسْئَلُونَ كلّ قادم من جانب المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ عمّا جرى عليكم وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ هذه الكرّة، و لم يرجعوا إلى المدينة، و كانوا في صفّ القتال معكم ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء و خوفا عن التعيير.

[سورة الأحزاب [33]: آية 21]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [21]

و لمّا بيّن سبحانه حال المنافقين، حثّ المؤمنين المخلصين على الجهاد و الصبر عليه، فقال:

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ خصلة حسنة، من حقّها أن يؤتسى بها، كالثبات في الحرب، و مقاساة الشدائد. أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسّي به، كقولك في البيضة: عشرون منّا حديدا، أي: هي في نفسها هذا القدر من الحديد. و قرأ عاصم بضمّ الهمزة (1). و هو لغة.

ص: 358


1- و القراءة الاخرى: إسوة، بكسر الهمزة.

لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي: أيّام اللّه و اليوم الآخر خصوصا. أو المعنى: يرجوا ما عند اللّه في الآخرة من الثواب الأبدي و النعيم السرمدي. و هذا كقولك: رجوت زيدا و فضله، أي: رجوت فضل زيد. و الرجاء يحتمل أن يكون بمعنى الأمل أو الخوف. و «لمن كان» صلة ل «حسنة» أو صفة لها. أو بدل من «لكم»، كقوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (1). يعني: أنّ الاسوة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما تكون لمن كان يرجو اللّه و اليوم الآخر.

وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً و قرن الرجاء بالطاعات الكثيرة، و التوفّر على الأعمال الصالحة، لأنّ المؤتسي بالرسول من كان كذلك.

[سورة الأحزاب [33]: آية 22]

وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً [22]

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الأحزاب، فقال: وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ الجماعة الّتي تحزّبت على قتال النبيّ مع كثرتهم قالُوا هذا أي: هذا الّذي رأينا.

أو هذا الخطب، أو البلاء. ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وعدهم اللّه أن يزلزلوا حتّى يستغيثوه و يستنصروه، في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ (2). الآية. و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سيشتدّ الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، و العاقبة لكم عليهم».

و قال: «إنّهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر».

فلمّا جاء الأحزاب و شخص بهم، و اضطربوا و رعبوا الرعب الشديد، قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ».

ص: 359


1- الأعراف: 75.
2- البقرة: 214.

وَ ما زادَهُمْ ما رأوا، أو الخطب، أو البلاء إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً لأوامره و مقاديره.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 23 الى 24]

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [23] لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [24]

روي: أنّ جماعة من الصحابة نذروا إذا لقوا حربا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثبتوا و قاتلوا، حتّى يستشهدوا أو يفتح اللّه على رسوله، فنزلت في شأنهم:

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول، و المقاتلة لإعلاء الدّين. من: صدقني و كذبني، إذا قال لك الصدق و الكذب، فإنّ المعاهد إذا وفى بعهده

فقد صدق فيه.

فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ نذره، بأن قاتل حتّى استشهد، كحمزة و مصعب بن عمير و أنس بن النضر. و النحب: النذر. و استعير للموت، لأنّه كنذر لازم في رقبة كلّ حيوان، فإن مات فقد قضى نحبه، أي: نذره. وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة.

و هم سواهم من خلّص المؤمنين. وَ ما بَدَّلُوا العهد، و لا غيّروه تَبْدِيلًا شيئا من التبديل. و فيه تعريض بمن بدّلوا من أهل النفاق و مرضى القلب.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن عليّ عليه السّلام قال: «فينا نزلت: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ فأنا و اللّه المنتظر، و ما بدّلت تبديلا» (1).

ص: 360


1- شواهد التنزيل 2: 5 ح 627.

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ في العهود وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض عهودهم إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا. هذا تعليل للمنطوق و المعرّض به في قوله: «وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا». فكأنّ المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء، كما قصد الصادقون المخلصون بالثبات و الوفاء العاقبة الحسنى، فإنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب و العقاب، فكأنّهما استويا في طلبهما و السعي لتحصيلهما. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لمن تاب.

[سورة الأحزاب [33]: آية 25]

وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [25]

ثمّ عاد سبحانه إلى تعداد نعمه على المؤمنين، فقال: وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: الأحزاب بِغَيْظِهِمْ متغيّظين، كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (1) لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين على المؤمنين. و هما حالان بتداخل أو تعاقب. و يجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا.

وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح و الملائكة و الرعب وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث ما يريده عَزِيزاً غالبا على كلّ شي ء.

و عن ابن مسعود: و كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب، و قتله عمرو بن عبد ودّ، فإنّه كان سبب هزيمة القوم. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و روي: أنّ جبرئيل عليه السّلام أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- صبيحة الليلة الّتي انهزم فيها الأحزاب، و رجع المسلمون إلى المدينة، و وضعوا سلاحهم- على فرسه الحيزوم، و الغبار على وجه الفرس و على السرج، فقال: يا رسول اللّه أ تنزع لامتك و الملائكة

ص: 361


1- المؤمنون: 20.

لم يضعوا السلاح؟ إنّ اللّه يأمرك بالسير إلى بني قريظة، و أنا عامد إليهم، فإنّ اللّه تعالى داقّهم دقّ البيض على الصفا (1)، و إنّهم لكم طعمة، فأذّن في الناس: أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلّي العصر إلّا في بني قريظة.

فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب على المقدّمة، و دفع إليه اللواء، و أمره أن ينطلق حتّى يقف بالأصحاب على حصن بني قريظة، ففعل.

و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على آثارهم، فمرّ على مجلس من الأنصار في بني غنم، ينتظرون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فزعموا أنّه قال: مرّ بكم الفارس آنفا؟

فقالوا: مرّ بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء، تحته قطيفة ديباج.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس ذلك بدحية، و لكنّه جبرئيل عليه السّلام أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، و يقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا: و سار عليّ عليه السّلام حتّى إذا دنا من الحصن، سمع منهم مقالة قبيحة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فرجع حتّى لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالطريق، فقال: يا رسول اللّه! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.

قال: أظنّك سمعت لي منهم أذى؟

فقال: نعم يا رسول اللّه.

فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلمّا دنا رسول اللّه من حصونهم، قال: يا إخوة القردة و الخنازير هل أخزاكم اللّه و أنزل بكم نقمته؟

فقالوا: يا أبا القاسم! ما كنت جهولا.

فحاصرهم خمسا و عشرين ليلة حتّى أجهدهم الحصار، و قذف اللّه في قلوبهم الرعب.

و كان حييّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش .

ص: 362


1- الصفا جمع الصفاة. و هي: الحجر الضخم.

و غطفان. فلمّا أيقنوا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون، و إنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم.

قالوا: ما هنّ؟

قال: نبايع هذا الرجل و نصدّقه. فو اللّه لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل، و أنّه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم و أموالكم و نسائكم.

فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم عليّ هذا، فهلمّوا لنقتل أبناءنا و نساءنا، ثمّ نخرج إلى محمّد رجالا مصلتين (1) بالسيوف، و لم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا، حتّى يحكم اللّه بيننا و بين محمّد. فإن نهلك نهلك و لم نترك وراءنا نسلا يهمّنا. و إن نظهر لنجدنّ النساء و الأبناء.

فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير في العيش بعدهم.

قال: فإذا أبيتم عليّ هذا، فإنّ الليلة ليلة السبت، و عسى أن يكون محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا فلعلّنا نصيب منهم غرّة (2).

فقالوا: نفسد سبتنا، و نحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا، فأصابهم ما قد علمت من المسخ.

فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه ليلة واحدة من الدهر حازما.

قال الزهري: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلا:

اختاروا من شئتم من أصحابي. فاختاروا سعد بن معاذ، فرضي بذلك. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، و رضوا به..

ص: 363


1- أصلت السيف: جرّده من غمده.
2- الغرّة: الغفلة.

فقال سعد: حكمت بقتل مقاتليهم، و سبي ذراريهم و نسائهم.

فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: حكمت بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة (1). ثمّ استنزلهم، و خندق في سوق المدينة خندقا، و قدّمهم فضرب أعناقهم، و هم من ثمانمائة إلى تسعمائة. و قيل: كانوا ستّمائة مقاتل، و سبعمائة أسير.

و قد روي: أنّه أتي بحييّ بن أخطب عدوّ اللّه، مجموعة يداه إلى عنقه، و عليه حلّة فاختيّة، قد شقّها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة، لئلّا يسلبها. فلمّا بصر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أمّا و اللّه ما لمت نفسي على عداوتك، و لكنّه من يخذله اللّه يخذل. ثمّ قال: أيّها الناس! لا بأس بأمر اللّه، كتاب اللّه و قدره، ملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثمّ جلس فضرب عنقه. ثمّ قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نساءهم و أموالهم على المسلمين.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 26 الى 27]

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ

الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً [26] وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً [27]

ثمّ ذكر سبحانه ما فعل بهم، امتنانا على المؤمنين، فقال: وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ عاونوا الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. جمع صيصية، و هي ما يتحصّن به. و لذلك يقال لقرن الثور و الظبي و شوكة الديك- أي: مخلبه الّتي في ساقه يتحصّن بها-: صيصية.

وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و ألقى اللّه في قلوبهم الخوف من النبيّ و أصحابه

ص: 364


1- جمع رقيع. و هي السماء عموما، أو سماء الدنيا.

المؤمنين فَرِيقاً تَقْتُلُونَ يعني: الرجال منهم وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً يعني: الذراري و النساء منهم.

و روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار. فقال الأنصار في ذلك. فقال: إنّكم في منازلكم. و قال عمر: أما تخمّس كما خمّست يوم بدر؟ قال: إنّما جعلت لي هذه طعمة دون الناس. قال: رضينا بما صنع اللّه و رسوله.

و حكى اللّه تعالى عن ذلك بقوله: وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ و أعطاكم مزارعهم وَ دِيارَهُمْ حصونهم وَ أَمْوالَهُمْ و مواشيهم و أثاثهم و نقودهم وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بأقدامكم بعد، و سيفتحها اللّه عليكم. و هي خيبر، فتحها اللّه عليهم بعد بني قريظة. و عن الحسن: هي فارس و الروم. و قيل: مكّة. و قيل: كلّ أرض يفتح إلى يوم القيامة. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً فيقدر على ذلك.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 28 الى 34]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ

أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً [28] وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [29] يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [30] وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [31] يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً

ص: 365

مَعْرُوفاً [32]

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [33] وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً [34]

روي: أنّ أزواج النبيّ حين رأين الفتح و النصرة في الغزوات، و كثرة الغنائم، سألنه شيئا منها، و طلبن منه ثياب الزينة و زيادة النفقة، و بالغن في ذلك، و قد تأذّى منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اغتمّ، فنزلت:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ و كنّ يومئذ تسعا: عائشة، و حفصة، و أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، و سودة بنت زمعة، و أمّ سلمة بنت أبي اميّة. فهؤلاء من قريش.

و صفيّة بنت حييّ الخيبريّة، و ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، و زينب بنت جحش الأسديّة، و جويرية بنت الحارث المصطلقيّة.

إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: سعة العيش في الدنيا و التنعّم فيها وَ زِينَتَها و زخارفها فَتَعالَيْنَ و أصل «تعال» أن يقول من في المكان المرتفع لمن

في المكان المنخفض، ثمّ كثر حتّى استوت في استعماله الأمكنة جميعا.

أُمَتِّعْكُنَ أعطكنّ متعة الطلاق، أي: كمتعة المطلّقة الّتي لم يسمّ مهرها، و لم يكن مدخولا بها. فإن كانت مدخولا بها و مفروضا لها فالتمتيع سنّة. و قد مرّ تفصيل ذلك في سورة البقرة (1). و قيل: أمتّعكنّ بتوفير المهر.

وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا و اطلّقكنّ طلاقا من غير ضرر، فإنّ السراح

ص: 366


1- راجع ج 1 ص 364- 369 ذيل الآية 229- 231 من سورة البقرة.

الجميل الطلاق من غير خصومة، و لا مشاجرة بين الزوجين.

و بعد نزول هذه الآية خيّرهنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فاخترنه. فشكر لهنّ اللّه ذلك.

فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (1) الآية. و تقديم التمتيع على التسريح المسبّب عنه، من الكرم و حسن الخلق.

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي: طاعة اللّه و طاعة رسوله وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ و ثوابها، و الصبر على ضيق العيش في الدنيا فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يستحقر دونه الدنيا و زينتها.

و اختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال:

أحدها: أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زواجها، فلا شي ء. و إن اختارت نفسها، تقع تطليقة واحدة. و هو قول ابن مسعود. و إليه ذهب أبو حنيفة و أصحابه.

و ثانيها: أنّه إذا اختارت نفسها تقع ثلاث تطليقات. و إن اختارت زوجها تقع واحدة. و هو قول زيد بن ثابت. و إليه ذهب مالك.

و ثالثها: أنّه إن نوى الطلاق كان طلاقا، و إلّا فلا. و هو مذهب الشافعي.

و رابعها:

أنّه لا يقع بالتخيير طلاق. و إنّما كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاصّة. فلو اخترن أنفسهن لمّا خيرهنّ لبنّ منه. فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

ثمّ خاطب سبحانه نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بسيّئة بليغة في القبح. و هي الكبيرة. مُبَيِّنَةٍ ظاهر فحشها. و قيل:

هي عصيانهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو ما يضيق به ذرعه، و يغتمّ لأجله. و من قال:

الزنا، فقد أخطأ أفحش الخطأ، لأنّه سبحانه عاصم و رسوله من ذلك في حديث

ص: 367


1- الأحزاب: 52.

الإفك، كما مرّ بيانه (1).

يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ضعفي عذاب غيرهنّ، أي: مثليه، لأنّ الذنب منهنّ أقبح من سائر النساء، لمكان النبيّ، و نزول الوحي في بيوتهنّ، فإنّ زيادة القبح تتبع زيادة فضل المذنب، و زيادة النعمة عليه. فمن زاد قبحا ازداد عقابه شدّة. و لذلك كان ذمّ العقلاء للعاصي العالم، أشدّ منه للعاصي الجاهل. و جعل حدّ الحرّ ضعفي حدّ العبد. و عوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم.

و قرأ البصريّان: يضعّف. و ابن كثير و ابن عامر: نضعّف، بالنون، و بناء الفاعل، و نصب «العذاب».

وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يمنعه عن التضعيف كونهنّ نساء النبيّ. و كيف و هو سببه، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهنّ.

وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ و من يدم و يواظب على الطاعة لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ فإنّ القنوت الطاعة. و منه القنوت في الصلاة. و هو المداومة على الدعاء. و لعلّ ذكر اللّه للتعظيم، أو لقوله: وَ تَعْمَلْ صالِحاً فيما بينها و بين ربّها نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مرّة على الطاعة، و مرّة على طلبهنّ رضا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقناعة و حسن الخلق و طيب المعاشرة.

و قرأ حمزة و الكسائي: و يعمل بالياء، حملا على لفظ «من». و «يؤتها» بالياء أيضا، على أنّ فيه ضمير اسم اللّه.

وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً في الجنّة زيادة على أجرها.

روى أبو حمزة الثمالي عن زيد بن عليّ عليهما السّلام أنّه قال: إنّي لأرجو للمحسن منّا أجرين، و أخاف على المسي ء منّا أن يضاعف له العذاب ضعفين، كما وعد أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 368


1- راجع ج 4 ص 483، ذيل الآية 11 من سورة النور.

و روى محمد بن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن عليّ بن عبد اللّه بن الحسين، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام، أنّه قال له رجل: إنّكم أهل بيت مغفور لكم. قال: فغضب و قال: «نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى اللّه في أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من أن نكون كما تقول. إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، و لمسيئنا ضعفين من العذاب. ثمّ قرأ الآيتين».

ثمّ أظهر سبحانه فضيلتهنّ على سائر النسوان بقوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أصل أحد وحد، بمعنى الواحد، ثمّ وضع في النفي العامّ، مستويا فيه المذكّر و المؤنّث، و الواحد و الكثير.

و المعنى: لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل، أي: إذا تقصّيت أمّة النساء جماعة جماعة، لم توجد منهنّ جماعة واحدة تساويكنّ في الفضل و السابقة. كما قال ابن عبّاس: معناه: ليس قدركنّ عندي كقدر غيركنّ من النساء الصالحات، أنتنّ أكرم عليّ، و أنا بكنّ أرحم، و ثوابكنّ أعظم، لمكانكنّ من رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم. إِنِ اتَّقَيْتُنَ عن مخالفة حكم اللّه و رضا رسوله فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فلا تجئن بقولكنّ خاضعا ليّنا، أي: لا ترقّقن القول، و لا تلنّ الكلام للرجال، و لا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدّي إلى طمعهم، فتكنّ كما تفعل المرأة الّتي تظهر الرغبة في الرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ريبة و فجور وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا بعيدا عن الريبة، بريئا من التهمة، بجدّ و خشونة من غير لينة.

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ من: وقر يقر و قارا، أو من: قرّ يقرّ. حذفت الأولى من راءي «اقررن»، و نقلت كسرتها إلى القاف، فاستغني به عن همزة الوصل، كما تقول: ظلن. و يؤيّده قراءة نافع و عاصم بالفتح، من: اقررن. و هو لغة فيه، كقولك:

ظلن. و يحتمل أن يكون من: قارّ يقارّ إذا اجتمع. و منه: القارّة لاجتماعها.

وَ لا تَبَرَّجْنَ لا تخرجن تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى تبرّجا مثل تبرّج النساء

ص: 369

في أيّام الجاهليّة القديمة الّتي يقال لها: الجاهليّة الجهلاء. و هي الزمان الّذي ولد فيه إبراهيم عليه السّلام. كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. و قيل: ما بين آدم و نوح. و قيل: ما بين إدريس و نوح. و قيل:

زمن داود و سليمان. و الجاهليّة الاخرى ما بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

الجاهليّة الاولى جاهليّة الكفر قبل الإسلام، و الجاهليّة الاخرى جاهليّة الفسوق في الإسلام. و المعنى: لا تظهرن زينتكنّ كما كنّ يظهرن ذلك.

و قيل: التبرّج التبختر و التكبّر في المشي. و قيل: هو أن تلقي الخمار على رأسها، و لا تشدّه، فتواري قلائدها و قرطيها (1)، فيبدو ذلك منها.

وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر ما أمر كنّ به و نهاكنّ عنه. أمرهنّ أمرا خاصّا بالصلاة و الزكاة، ثمّ جاء به عامّا في جميع الطاعات، لأنّ هاتين الطاعتين- البدنيّة و الماليّة- هما أصل الطاعات، من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما.

ثمّ قال سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الذنب المدنّس لعرضكم أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو المدح. و تعريف البيت لأنّ المراد به بيت النبوّة و الرسالة. و العرب تسمّي ما يلتجأ إليه بيتا. و لهذا سمّوا الأنساب بيوتا، و قالوا: بيوتات العرب، يريدون النسب. و بيت النبوّة و الرسالة كبيت النسب.

وَ يُطَهِّرَكُمْ عن المعاصي تَطْهِيراً.

استعار للذنوب الرجس، و للتقوى الطهر، لأنّ عرض المقترف للمقبّحات يتلوّث بها و يتدنّس، كما يتلوّث بدنه بالأرجاس. و أمّا المحسّنات فالعرض معها نقيّ مصون، كالثوب الطاهر. و في هذه الاستعارة ما ينفّر أولي الألباب عمّا كرهه اللّه تعالى لعباده و نهاهم عنه، و يرغبّهم فيما رضيه لهم و أمرهم به.

ص: 370


1- القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.

و اعلم أنّ الامّة اتّفقوا بأجمعهم على أنّ المراد بأهل البيت في هذه الآية أهل بيت نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ اختلفوا، فقال عكرمة: أراد أزواج النبيّ، لأنّ أوّل الآية متوجّه إليهنّ. و قال أبو سعيد الخدري، و أنس بن مالك، و واثلة بن الأسقع، و عائشة، و امّ سلمة: إنّ الآية مختصّة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عليّ، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام.

و ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره:

حدّثني شهر بن حوشب، عن امّ سلمة، قالت: «جاءت فاطمة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحمل حريرة (1) لها. فقال: ادعي زوجك و ابنيك. فجاءت بهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم كساء له خيبريّا، و قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فقلت: يا رسول اللّه و أنا معهم؟ قال: أنت إلى خير».

و روى الثعلبي في تفسيره أيضا بالإسناد عن امّ سلمة: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في بيتها، فأتته فاطمة عليها السّلام ببرمة (2) فيها حريرة. فقال لها: أدعي زوجك و ابنيك.

فذكرت الحديث نحو ذلك. ثمّ قالت: فأنزل اللّه تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ» الآية. قالت:

فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و حامتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فأدخلت رأسي البيت و قلت: أنا معكم يا رسول اللّه؟ قال: إنّك إلى خير».

و بإسناده قال مجمع: دخلت مع امّي على عائشة، فسألتها امّي: أ رأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنّه كان قدرا من اللّه. فسألتها عن عليّ. فقالت:

تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و زوج أحبّ الناس كان إلى رسول اللّه. لقد رأيت عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا، و جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بثوب .

ص: 371


1- الحريرة: الدقيق يطبخ بلبن أو دسم.
2- البرمة: القدر من الحجر.

عليهم، ثمّ قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و حامتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا». قالت: فقلت: يا رسول اللّه! أنا من أهلك؟ قال: «تنحّي فإنّك إلى خير».

و بإسناده عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ، و في عليّ، و حسن، و حسين، و فاطمة».

و روى السيّد أبو الحمد، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، قال:

حدّثونا عن أبي بكر السبيعي، قال: حدّثنا أبو عروة الحرّاني، قال: حدّثنا ابن مصغي، قال: حدّثنا عبد الرحيم بن واقد، عن أيّوب بن يسار، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: نزلت هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ليس في البيت إلّا فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ، «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ».

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهمّ هؤلاء أهلي» (1).

و حدّثنا السيّد أبو الحمد، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم، بإسناده عن زاذان، عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام، قال: «لمّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إيّاه في كساء لامّ سلمة خيبريّ، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي» (2).

و الروايات في هذا كثيرة من طريق العامّة و الخاصّة، لو قصدنا إلى إيرادها لطال الكتاب، و فيما أوردناه كفاية.

و استدلّت الشيعة على اختصاص الآية بهؤلاء الخمسة عليهم السلام، بأن قالوا: إنّ لفظة «إنّما» محقّقة لما أثبت بعدها، نافية لما لم يثبت. فإن قول القائل: إنّما لك عندي درهم، و إنّما في الدار زيد، يقتضي أنّه ليس عنده سوى الدرهم، و ليس في الدار سوى زيد.

إذا تقرّر ذلك، فلا تخلو الإرادة في الآية: أن تكون هي الإرادة المحضة، أو

ص: 372


1- شواهد التنزيل 2: 29 ح 648.
2- شواهد التنزيل 2: 30 ح 649.

الإرادة الّتي يتبعها التطهير و إذهاب الرجس. و لا يجوز الوجه الأوّل، لأنّ اللّه سبحانه قد أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة. فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. و لأنّ هذا القول يقتضي المدح و التعظيم لهم بغير شكّ و لا شبهة، و لا مدح في الإرادة المجرّدة. فثبت الوجه الثاني، و في ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح. و قد علمنا أنّ من عدا من ذكرناه من أهل البيت غير مقطوع على عصمته، فثبت أنّ الآية مختصّة بهم، لبطلان تعلّقها بغيرهم.

إن قلت: إنّ صدر الآية و ما بعدها في الأزواج.

قلت: إنّ هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم، فإنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره و يعودون إليه. و القرآن من ذلك مملوء. و كذلك كلام العرب و أشعارهم.

و إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما قال البيضاويّ في تفسيره: «و تخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة و عليّ و ابنيهما، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج ذات غدوة، و عليه مرط (1) مرحّل من شعر أسود، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثمّ جاء عليّ فأدخله فيه، ثمّ جاء الحسن و الحسين فأدخلهما فيه. ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

و الاحتجاج بذلك على عصمتهم، و كون إجماعهم حجّة، ضعيف، لأنّ التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية و ما بعدها.

و الحديث يقتضي أنّهم أهل البيت، لا أنّه ليس غيرهم» (2).

كلام (3) صادر من غير رويّة و بصيرة، بل محض مكابرة، و عين عناد. اللّهمّ

ص: 373


1- المرط: كساء من صوف و نحوه يؤتزر به. و المرحّل من الثياب: ما أشبهت نقوشه رحال الإبل.
2- أنوار التنزيل 4: 163.
3- خبر «أنّ» في قوله في بداية الفقرة السابقة: أنّ ما قال البيضاوي.

ثبّتنا على ولاء أهل بيت نبيّك، و أعذنا من زلّة أقدامنا على جادّة محبّتهم و مودّتهم، الّتي هي الصراط المستقيم، و المنهج القويم، و اعصمنا من نزغات الشيطان المؤدّية إلى الهلاك الأبدي، و الخسران السرمدي في يوم الدين، بحقّ محمّد خاتم النبيّين، و أهل بيته المعصومين.

ثمّ عاد إلى ذكر أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ من الكتاب الجامع بين الأمرين، أي: انّه آيات بيّنات تدلّ على صدق النبوّة، لأنّه معجزة بنظمه، و حكمة و علوم و شرائع. و فيه تذكير بما أنعم اللّه عليهنّ، حيث جعل بيوتهنّ مهابط الوحي، و ما شاهدن من آثار الوحي ممّا يوجب قوّة الإيمان، و الحرص على الطاعة، حثّا على الانتهاء و الائتمار فيما كلّفن به.

إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً في تدبير ما يصلح في الدين خَبِيراً عليما بأفعال العباد. أو لطيفا بأوليائه، خبيرا بجميع خلقه.

[سورة الأحزاب [33]: آية 35]

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [35]

قال مقاتل بن حيّان: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، دخلت على نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: هل نزل فينا شي ء

ص: 374

من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه إنّ النساء لفي خيبة و خسار. فقال: و ممّ ذلك؟ فقالت: لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فنخاف أن لا يقبل منّا طاعة. فنزلت:

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ الداخلين في السلم، المنقادين لحكم اللّه.

و الداخلات فيه، و المنقادات له. وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ المصدّقين بما يجب أن يصدّق به من الرجال و النساء وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ المداومين على الطاعات منهما وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ في النيّة، و القول، و العمل وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ على الطاعة، و عن المعاصي وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ المتواضعين و المتواضعات للّه، بقلوبهم و جوارحهم. و قيل: الّذين إذا صلّوا لم يعرفوا من عن يمينهم و شمالهم، لفرط خشيتهم للّه. وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ المخرجين الصدقات بما وجب في أموالهم من الزكاة و غيرها وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ الصوم المفروض وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ فروجهنّ عن الحرام. حذف لدلالة الكلام عليه. و كذلك قوله: وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ بقلوبهم و ألسنتهم.

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فتوضّئا و صلّيا، كتبا من الذّاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات».

و قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين اللّه كثيرا، حتّى يذكر اللّه قائما، و قاعدا و مضطجعا.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من بات على تسبيح فاطمة عليها السّلام، كان من الذاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات».

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما اقترفوا من الصغائر، لأنّهنّ مكفّرات وَ أَجْراً عَظِيماً على طاعتهم. و الآية و عدلهنّ و لأمثالهنّ على الطاعة و التدرّع بهذه الخصال.

ص: 375

و قيل: لمّا نزل في أزواج النبيّ ما نزل، قالت نساء المسلمين: فما نزل فينا شي ء؟ فنزلت هذه الآية.

و اعلم أنّ الفرق بين عطف الإناث على الذكور، و عطف الزوجين على الزوجين: أنّ الأوّل نحو قوله: ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (1). في أنّهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما. و الثاني من عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: أن الجامعين و الجامعات لهذه الطاعات. و في الأخير العطف غير واجب، و لذلك ترك في قوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ ... (2).

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 36 الى 40]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [36] وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [37] ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ

ص: 376


1- التحريم: 5.
2- التحريم: 5.

اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [38] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [39] ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [40]

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطب زينب بنت جحش الأسديّة بنت عمّته اميمة بنت عبد المطّلب لمولاه زيد بن حارثة، فأبت و أبى أخوها عبد اللّه. فنزلت.

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ ما صحّ له و لا لها إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً إن أوجبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ألزمه. و ذكر «اللّه» لتعظيم أمره، و الإشعار بأنّ قضاءه قضاء اللّه. أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أن يختاروا من أمرهم شيئا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار اللّه و رسوله. و الخيرة ما يتخيّر. و جمع الضمير الأوّل لعموم «مؤمن ... و مؤمنة» من حيث إنّهما في سياق النفي. و جمع الثاني للتعظيم. و قرأ الكوفيّون: يكون بالياء.

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يختاران له فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بيّن الانحراف عن الصواب.

و لمّا نزلت هذه الآية قال عبد اللّه و زينب: رضينا يا رسول اللّه. فأنكحها إيّاه، و ساق عنه إليها عشرة دنانير، و ستّين درهما مهرا، و خمارا، و ملحفة، و درعا، و إزارا، و خمسين مدّا من طعام، و ثلاثين صاعا من تمر.

و قيل: إنّ هذه الآية نزلت في امّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. و هي أوّل من هاجر من النساء، و وهبت نفسها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال: قد قبلت، و زوّجها زيدا.

فسخطت هي و أخوها، و قالا: إنّما أردنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فزوّجنا عبده.

و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان شديد الحبّ

ص: 377

لزيد، و كان إذا أبطأ عليه زيد أتى منزله فيسأل عنه. فأبطأ عليه يوما، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها، تسحق طيبا بفهر (1) لها، فدفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الباب، فلمّا نظر إليها قال: سبحان خالق النور، تبارك اللّه أحسن الخالقين، و رجع.

فجاء زيد، و أخبرته زينب بما كان، و ألقى اللّه في نفسه كراهة صحبتها و الرغبة عنها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال لها: لعلّك وقعت في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

فقالت: أخشى أن تطلّقني و لا يتزوّجني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فجاء زيد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: يا رسول اللّه إنّي أريد أن أفارق صاحبتي.

فقال: ما لك أرابك منها شي ء؟

قال: لا و اللّه ما رأيت منها إلّا خيرا، و لكنّها لشرفها تتعظّم عليّ و تؤذيني.

فقال له: أمسك عليك زوجك، و اتّق اللّه. ثمّ طلّقها بعد. فنزلت:

وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

بتوفيقه للإسلام الّذي هو أجلّ النعم، و توفيقك لعتقه و اختصاصه و محبّته وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفّقك اللّه بإعتاقه. فهو متقلّب في نعمة اللّه و نعمة رسوله. و هو زيد بن حارثة. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني: زينب بنت جحش وَ اتَّقِ اللَّهَ في أمرها، فلا تطلّقها ضرارا أو تعلّلا بتكبّرها. قصد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك نهي تنزيه لا تحريم، لأنّ الأولى أن

لا يطلّق. و قيل:

أراد: اتّق اللّه فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر و أذى الزوج.

وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ و هو نكاحها إن طلّقها، أو إرادة طلاقها وَ تَخْشَى النَّاسَ تعييرهم إيّاك به، بأن يقولوا: أمره بطلاقها ثمّ تزوّجها وَ اللَّهُ

ص: 378


1- الفهر: حجر رقيق تسحاق به الأدوية.

أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ إن كان فيه ما يخشى. و الواو للحال. و ليست المعاتبة على الإخفاء وحده، فإنّه حسن، بل على الإخفاء مخافة ما قاله الناس، و إظهار ما ينافي إضماره، فإنّ الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوّض أمره إلى اللّه، و لا يقول:

أمسك عليك زوجك مخافة الناس.

روي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام: إنّ الّذي أخفاه في نفسه هو أنّ اللّه سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه. فقال: لم قلت أمسك عليك زوجك، و قد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك».

و هذا التأويل مطابق للآية. و ذلك أنّه سبحانه أعلم أنّه يبدي ما أخفاه، و لم يظهر غير التزويج، فقال: «زَوَّجْناكَها». فلو كان الّذي أضمره محبّتها أو إرادة طلاقها لأظهر اللّه تعالى ذلك، مع وعده بأنّه يبديه. فدلّ ذلك على أنّه إنّما عوتب على قوله: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» مع علمه بأنّها ستكون زوجته، و كتمانه ما أعلمه اللّه به، حيث استحيا أن يقول لزيد: إنّ الّتي تحتك ستكون امرأتي.

و قال البلخي: و يجوز أن يكون أيضا على ما يقولونه: إنّ النبيّ استحسنها، فتمنّى أن يفارقها زيد فيتزوّجها. و كتم ذلك، لأنّ هذا التمنّي قد طبع عليه البشر، و لا حرج على أحد في أن يتمنّى شيئا استحسنه.

و لم يرد بقوله: «وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» خشية التقوى، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يتّقي اللّه حقّ تقاته، و يخشاه فيما يجب أن يخشى فيه. و لكنّه أراد خشية الاستحياء، لأنّ الحياء كان غالبا على شيمته الكريمة، كما قال: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ. (1) فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة، و تقاصرت عنها همّته، و طابت عن مفارقتها، و لم يبق في قلبه ميل إليها، و وحشة من فراقها، فإنّ معنى القضاء هو

ص: 379


1- الأحزاب: 53.

الفراغ من الشي ء بالتمام، فطلّقها و انقضت عدّتها. و قيل: قضاء الوطر كناية عن الطلاق، مثل: لا حاجة لي فيك. زَوَّجْناكَها أي: أذنّا لك في تزويجها.

ثمّ علّل التزويج بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي: إنّما فعلنا ذلك توسعة على المؤمنين، حتّى لا يكون عليهم إثم في أن يتزوّجوا أزواج أدعيائهم الّذين تبنّوهم، إذا قضى الأدعياء منهنّ حاجتهم و فارقوهنّ. فبيّن سبحانه أنّ الغرض في ذلك أن لا يجري المتبنّى في تحريم امرأته إذا طلّقها على المتبنّي، مجرى الابن من النسب و الرضاع، في تحريم امرأته إذا طلّقها على الأب. و هذا دليل على أنّ حكمه و حكم الأمّة واحد، إلّا ما خصّه الدليل.

وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ أمره الّذي يريده مَفْعُولًا يكون لا محالة، كما كان من تزويج زينب، و من نفي الحرج عن المؤمنين في عدم إجراء أزواج المتبنّين في تحريمهنّ عليهم، بعد انقطاع علائق الزواج بينهم و بينهنّ.

روى ثابت عن أنس بن مالك قال: لمّا انقضت عدّة زينب، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لزيد: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب عليّ زينب. قال زيد:

فانطلقت، فقلت: يا زينب!

أبشري أرسلني نبيّ اللّه يذكرك. و نزل القرآن، و جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخل عليها بغير إذن، لقوله تعالى: «زَوَّجْناكَها».

و في رواية اخرى: قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمّر عجينها. فلمّا رأيتها عظمت في نفسي، حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها، حين علمت أنّ رسول اللّه ذكرها، فولّيتها ظهري و قلت: يا زينب أبشري! إن رسول اللّه يخطبك. ففرحت بذلك، و قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي. فقامت إلى مسجدها، و نزل:

«زوّجناكها». فتزوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دخل بها. و ما أولم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها، ذبح شاة، و أطعم الناس الخبز و اللحم حتّى امتدّ النهار.

ص: 380

و عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأدلّ (1) عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدلّ بهنّ: جدّي و جدّك واحد، و إنّي أنكحنيك اللّه في السماء، و إنّ السفير لي جبرئيل عليه السّلام. فكانت تفتخر على سائر نساء النبيّ و تقول: زوّجني اللّه من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنتنّ إنّما زوّجكنّ أولياؤكن.

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ من إثم و ضيق فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قسّم له و قدّر. من قولهم: فرض له في الديوان. و منه: فروض العسكر لأرزاقهم، أي: فيما أحلّ اللّه له، بل أوجب اللّه عليه. سُنَّةَ اللَّهِ اسم وضع موضع المصدر. و كأنّه قيل:

سنّ اللّه ذلك سنّة. فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء الماضين. و هو أن لا يحرّج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم، و وسّع عليهم

في باب النكاح و غيره. و قد كانت تحتهم المهائر (2) و السراري. و كان لداود مائة امرأة، و لسليمان ثلاثمائة امرأة، و سبعمائة سرّيّة. وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً قضاء مقضيّا، و حكما مبتوتا.

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة ل «الَّذِينَ خَلَوْا» أو مدح لهم، منصوب أو مرفوع. و المعنى: الّذين يؤدّون أحكام اللّه إلى من بعثوا إليهم، و لا يكتمونها.

وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فيما يتعلّق بالأداء و التبليغ. و هذا تعريض بعد تصريح. و في ذلك دلالة على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم التقيّة في تبليغ الرسالة.

فإن قلت: فكيف قال لنبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ تَخْشَى النَّاسَ قلت: لم يكن ذلك فيما يتعلّق بالتبليغ، و إنّما خشي عليه السّلام المقالة القبيحة فيه.

و العاقل كما يتحرّز عن المضارّ يتحرّز من إساءة الظنون به. و القول السيّ ء فيه، و لا يتعلّق شي ء من ذلك بالتكليف.

ص: 381


1- لأدلّ من الدلال بمعنى: التدلّل و التلطّف و الافتخار.
2- جمع المهيرة، و هي الحرّة الغالية المهر. و السراري جمع السّريّة، و هي الأمة الّتي تقام في بيت.

وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً كافيا للمخاوف، أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلّا منه.

روي: أنّه عليه السّلام لمّا تزوّج زينب بنت جحش، قال الناس: إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه، فقال سبحانه ردّا عليهم:

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة، فيثبت بينه و بينه ما بين الوالد و الولد من حرمة المصاهرة. و لمّا لم يكن صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا زيد في الحقيقة، فلا يحرم عليه زوجته. و لا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر و القاسم و إبراهيم، لأنّهم لم يبلغوا مبلغ الرجال. و لا بقوله في شأن الحسن و الحسين: «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

لأنّ المراد بالأب في الآية أب الرجل بلا واسطة، كما هو المتبادر، و هما لم يبلغا حدّ الرجال، و كانا ولد ولده.

وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ و كلّ رسول أبو أمّته، لا مطلقا، بل من حيث إنّه شفيق ناصح لهم، واجب التوقير و الطاعة عليهم. و زيد منهم، و ليس بينه و بينه ولادة. أو و لكن رسول اللّه، فلا يترك ما أباحه اللّه بقول الجهّال.

وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ و آخرهم الّذي ختمهم، أو ختموا به، على قراءة عاصم بالفتح. و لو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيّا، كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في إبراهيم حين توفّي: «لو عاش لكان نبيّا».

و لا يقدح نزول عيسى بعده، لأنّ معنى كونه آخر الأنبياء أنّه لا ينبّأ أحد بعده، و عيسى ممّن نبّئ قبله، و حين ينزل يكون على دينه، مصلّيا إلى قبلته، فكان بعض أمّته.

وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم من يليق بأن يختم به النبوّة، و كيف ينبغي شأنه. و قد صحّ الحديث عن جابر بن عبد اللّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسّنها إلّا موضع لبنة، فكان من دخل فيها فنظر إليها، قال: ما أحسنها إلّا موضع هذه اللبنة. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فأنا موضع اللبنة، ختم

ص: 382

بي الأنبياء». أورده البخاري (1) و مسلم (2) في صحيحهما.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 41 الى 44]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [41] وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً [42] هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [43] تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً [44]

و لمّا أعطى اللّه العباد أفضل نعمه، و هو إرسال خاتم النّبيين عليهم، أمرهم بأنواع ذكره، من التحميد و التسبيح و التهليل و التكبير، شكرا على أن جعلهم من أمّة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً أثنوا عليه بضروب الثناء، من التقديس و التحميد و التهليل و التمجيد، و سائر ما هو أهله في جميع الأوقات.

روي عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من عجز عن الليل أن يكابده، و جبن عن العدوّ أن يجاهده، و بخل بالمال أن ينفقه، فليكثر ذكر اللّه عزّ و جلّ».

وَ سَبِّحُوهُ و نزّهوه عن جميع ما لا يليق به بُكْرَةً وَ أَصِيلًا أوّل النهار و آخره خصوصا. و تخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات، لكونهما مشهودين، كتخصيص جبرئيل و ميكائيل بين الملائكة ليبيّن فضلهما عليهم، و كإفراد التسبيح من جملة الأذكار، لأنّه العمدة فيها، فإنّ معناه تنزيه ذاته عمّا لا يجوز عليه من الصفات و الأفعال، و تبرئته من القبائح.

ص: 383


1- صحيح البخاري 4: 226.
2- صحيح مسلم 4: 1791 ح 23.

و قيل: الفعلان موجّهان إليهما، كقولك: صم و صلّ يوم الجمعة. و قيل: المراد بالتسبيح صلاة الفجر و العشاءين، لأنّ أداءها أشقّ، و مراعاتها أشدّ، و لأنّ ملائكة الليل و النهار يجتمعون فيهما.

و قال الكلبي: أمّا «بكرة» فصلاة الفجر، و أمّا «أصيلا» فصلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء. و سمّي تسبيحا لما فيه من التسبيح و التنزيه.

و عن قتادة: معناه قولوا: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

و عن مجاهد: هذه الكلمة يقولها الطاهر و الجنب.

و روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّهم قالوا: من قالها ثلاثين مرّة فقد ذكر اللّه كثيرا.

و عن زرارة و حمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من سبّح تسبيح فاطمة عليها السّلام فقد ذكر اللّه ذكرا كثيرا».

و روى الواحدي بإسناده عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاس قال: «جاء جبرئيل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا محمّد! قل: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العظيم، عدد ما علم، وزنة ما علم، و مل ء ما علم.

فإنّ من قالها كتب اللّه له بها ستّ خصال: كتب من الذاكرين ذكرا كثيرا، و كان أفضل من ذكره بالليل و النهار، و كنّ له غرسا في الجنّة، و تحاتّت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة، و ينظر اللّه إليه، و من نظر اللّه إليه لم يعذّبه.

ثمّ حثّ اللّه عباده على إكثار أنواع ذكره، فأخبرهم أنّه عزّ شأنه مع غناه عنكم يذكركم، فأنتم أولى بأن تذكروه، و تقبلوا إليه، مع احتياجكم إليه، فقال:

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ بالرحمة و المغفرة وَ مَلائِكَتُهُ بالاستغفار لكم، و الاهتمام بما يصلحكم. و المراد بالصلاة المشترك بين الرحمة و الاستغفار و هو العناية بصلاح أمرهم، و ظهور شرفهم. و لا شبهة أنّ استغفار الملائكة، و دعاءهم

ص: 384

للمؤمنين، ترحّم عليهم، سيّما و هو سبب الرحمة، من حيث إنّهم مجابو الدعوة.

و قيل: لمّا كان من شأن المصلّي أن ينعطف في ركوعه و سجوده، استعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه و ترؤّفا، كعائد المريض في انعطافه عليه، و المرأة في حنوّها على ولدها، ثمّ كثر حتّى استعمل في الرحمة و الترؤّف. و منه قولهم: صلّى اللّه عليك، أي: ترحّم عليك و ترأّف. فالمراد بالصلاة هاهنا الرحم و الانعطاف المعنويّ، كما أنّ الصلاة المشتملة على الركوع و السجود هي و الانعطاف الصوري.

لِيُخْرِجَكُمْ بالتوفيق و اللطف مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و المعصية إِلَى النُّورِ نور الإيمان و الطاعة وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً حيث اعتنى بصلاح أمرهم و إنافة قدرهم.

تَحِيَّتُهُمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، أي يحيّون يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يوم لقاء ثوابه عند الموت، أو الخروج من القبر، أو دخول الجنّة. كما قال: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ (1) سَلامٌ بالسلامة عن كلّ مكروه و آفة، بأن يقال لهم: السلامة لكم عن جميع الآفات.

روي عن البراء بن عازب أنّه قال: يوم يلقون ملك الموت، لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه أوّلا. فعلى هذا يكون المعنى: تحيّة المؤمنين من ملك الموت، يوم يلقونه، أن يسلّم عليهم.

وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ثوابا جزيلا، هي الجنّة. و لعلّ اختلاف النظم لمحافظة الفواصل، و المبالغة فيما هو أهمّ.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 45 الى 48]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً [45] وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً [46] وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً

ص: 385


1- الرعد: 23- 24.

[47] وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً [48]

ثمّ بيّن جلالة قدر نبيّه الّذي جعله خاتم النبيّين، و أرسله إلى كافّة الخلائق أجمعين، و أعلمهم علوّ قدره عنده، ليزيد عباده الشكر على رفعة منزلته بينهم، فقال:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم، بتصديقهم و تكذيبهم، و نجاتهم و ضلالتهم، أي: شاهدا مقبولا قولك عند اللّه لهم و عليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم، فيجازيهم بحسب شهادته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو حال مقدّرة، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: مقدّرا به الصيد غدا. فلا يقال: كيف كان شاهدا وقت الإرسال، و إنّما يكون شاهدا عند تحمّل الشهادة أو عند أدائها؟

وَ مُبَشِّراً لمن أطاعني و أطاعك بالجنّة وَ نَذِيراً لمن عصاني و عصاك بالنار.

وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإقرار به و بتوحيده، و بما يجب الإيمان به من صفاته بِإِذْنِهِ بتيسيره و تسهيله. قيّد الدعوة بالإذن، إيذانا بأنّ دعوة أهل الشرك و الجاهليّة إلى التوحيد و الشرائع أمر في غاية الصعوبة، لا يتأتّى إلّا بمعونة من جناب قدسه.

وَ سِراجاً مُنِيراً يستضاء به عن ظلمات الجهالة، و يقتبس من نوره أنوار البصائر. يعني: كما يجلّى ظلام الليل بالسراج المنير و يهتدى به، جلّى به اللّه ظلمات الشرك و اهتدى به الضالّون، و كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار، أمدّ اللّه بنور نبوّته نور البصائر.

ص: 386

و عن الزجّاج: تقديره: ذا سراج، و السراج: القرآن، فحذف المضاف.

و وصفه بالإنارة، لأنّ من السراج ما لا يضي ء إذا قلّ سليطه (1) و دقّت فتيلته.

و في كلام بعضهم: ثلاثة تصني (2): رسول بطي ء، و سراج لا يضي ء، و مائدة ينتظر لها من يجي ء.

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً على سائر الأمم، لأنّ أمّته يكونون شهداء على الأمم السابقة جميعا، أو على جزاء أعمالهم. و الفضل ما يتفضّل به عليهم زيادة على الثواب. و إذا كان المتفضّل به كبيرا فما ظنّك بالثواب.

و يجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول، و فواضل. و لعلّ ذلك معطوف على محذوف، مثل: فراقب أحوال أمّتك.

ثمّ هيّجه سبحانه على ما هو عليه من مخالفة الكفر و أهل النفاق بقوله: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ أي: دم على ما كنت عليه من عدم إطاعتهما وَ دَعْ أَذاهُمْ إيذاءهم إيّاك، و لا تحتفل به. أو إيذاءك إيّاهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم. و لذلك نقل عن ابن عبّاس: أنّه منسوخ. و عن الكلبي: معناه: كفّ عن إيذائهم و قتالهم قبل أن تؤمر بالقتال. وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و أسند أمرك إلى اللّه بنصرك عليهم، فإنّه يكفيكهم وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور في الأحوال كلّها.

و اعلم أنّه سبحانه وصف رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخمس صفات، قابل كلّا منها بخطاب يناسبه، فحذف مقابل الشاهد، و هو الأمر بالمراقبة، لأنّ ما بعده كالتفصيل له.

و قابل المبشّر بالأمر ببشارة المؤمنين. و النذير بالنهي عن مراقبة الكفّار و المبالاة بأذاهم. و الداعي إلى اللّه بتيسيره بالأمر بالتوكّل عليه. و السراج المنير بالاكتفاء به،

ص: 387


1- السليط: الزيت الجيّد، و كلّ دهن عصر من حبّ.
2- أي: تثقل.

فإنّ من أناره اللّه برهانا على جميع خلقه، كان حقيقا بأن يكتفى به عن غيره.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 49 الى 52]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ

عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً [49] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [50] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً [51] لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً [52]

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر النساء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ

ص: 388

الْمُؤْمِناتِ المراد بالنكاح العقد، و إن كان في الأصل بمعنى الوطء. و تسمية العقد به لملابسته له، من حيث إنّه طريق إليه. و نظيره تسمية الخمر إثما، لأنّها سبب في اقتراف الإثم.

و يؤيّد أنّ النكاح هاهنا بمعنى العقد قوله: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ أن تجامعوهنّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ أي: أيّام معدودة يتربّصن فيها بأنفسهنّ تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها بالأقراء أو الأشهر. من: عدّدت الدراهم فاعتدّها، كقولك: كلته فاكتاله، و وزنته فاتّزن. فأسقط اللّه سبحانه العدّة من المطلّقة قبل المسيس، لبراءة رحمها، فإن شاءت تزوّجت من يومها.

و الإسناد إلى الرجال، للدلالة على أنّ العدّة حقّ واجب على النساء للرجال، كما أشعر به «فما لكم».

و عن ابن كثير: تعتدونها مخفّفا، على إبدال إحدى الدالين بالياء، أو على أنّه من الاعتداء، بمعنى: تعتدون فيها، كقوله: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (1).

و ظاهره يقتضي عدم وجوب العدّة بمجرّد الخلوة، فلا يكون حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، خلافا للحنفيّة.

و تخصيص المؤمنات و الحكم عامّ، للتنبيه على أنّ من شأن المؤمن أن لا ينكح إلّا مؤمنة تخيّرا لنطفته.

و فائدة «ثمّ» إزاحة ما عسى يتوهّم أنّ تراخي الطلاق كما يؤثّر في النسب يؤثّر في العدّة، فلا يتفاوت الحكم بين أن يطلّقها و هي قريبة العهد من النكاح، و بين أن يبعد عهدها بالنكاح و يتراخى بها المدّة في حبالة الزواج ثمّ يطلّقها. و يمكن أن يكون ذكر «ثمّ» للبون البعيد بين العقد و الطلاق.

فَمَتِّعُوهُنَ أي: إن لم يكن مفروضا لها، فإنّ الواجب للمفروض لها نصف المفروض، دون المتعة. و يجوز أن يؤوّل التمتيع بما يعمّهما. أو يكون الأمر مشتركا

ص: 389


1- البقرة: 231.

بين الوجوب و الندب، فإنّ المتعة سنّة للمفروض لها. وَ سَرِّحُوهُنَ أخرجوهنّ من منازلكم، إذ ليس لكم عليهنّ عدّة سَراحاً جَمِيلًا من غير ضرار و لا منع حقّ.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ مهورهنّ، لأنّ المهر أجر على البضع. و الإيتاء قد يكون بالأداء، و قد يكون بالالتزام، أي: بفرض المهور، و تسميتها في العقد. و على التقديرين؛ تقييد الإحلال به بإعطائها معجّلة أو بالالتزام، لا لتوقّف الحلّ عليه، بل لإيثار الأفضل له.

و ذلك أنّ تسمية المهر في العقد أولى و أفضل من ترك التسمية، فإنّه جاز وقوع العقد و المماسّة بدون التسمية. و سوق المهر عاجلا أفضل من أن يسمّيه و يؤجّله.

و كذا تقييد إحلال المملوكة بكونها مسبيّة بقوله: وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ لإيثار الأفضل. فإنّ المشتراة لا يتحقّق بدء أمرها و ما جرى عليها، فإنّ السبي على ضربين: سبي طيبة، و سبي خبثة. فسبي الطيبة: ما سبي من أهل الحرب. و أمّا من كان له عهد فالمسبيّ منهم سبي خبثة. و في ء اللّه- سواء كان من الغنائم أو الأنفال- لا يطلق إلّا على الطيّب دون الخبيث، كما أنّ رزق اللّه يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام. و كانت من الغنائم مارية القبطيّة أمّ ابنه إبراهيم.

و من الأنفال صفيّة و جويرية، أعتقهما و تزوّجهما.

و تقييد القرايب بكونها مهاجرات معه في قوله: وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ يحتمل تقييد الحلّ بذلك في حقّه خاصّة. و يعضده قول امّ هانئ بنت أبي طالب: خطبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فاعتذرت إليه فأعذرني، ثم أنزل اللّه هذه الآيات، فلم أحلّ له، لأنّي لم أهاجر معه، و كنت من الطلقاء.

و قال صاحب المجمع: «هذا إنّما كان قبل تحليل غير المهاجرات، ثمّ نسخ

ص: 390

شرط الهجرة في التحليل» (1).

وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي: و أحللنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ نصب بفعل يفسّره ما قبله. أو عطف على ما سبق. و لا يدفعه التقييد بأن «الّتي» للاستقبال، فإنّ المعنيّ بالإحلال الإعلام بالحلّ، أي أعلمناك حلّ امرأة مؤمنة تهب لك نفسها و لا تطلب مهرا، إن

اتّفق، و لذلك نكّرها. و اختلف في اتّفاق ذلك. فقال ابن عبّاس: لم يكن عند رسول اللّه أحد منهنّ بالهبة. و قيل: الموهوبات أربع:

ميمونة بنت الحارث، و زينب بنت خزيمة الأنصاريّة، و امّ شريك بنت جابر، و خولة بنت حكيم.

إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها شرط للشرط الأوّل في الإحلال في استيجاب الحلّ. كأنّه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، و أنت تريد أن تستنكحها، فإنّ هبتها نفسها منه لا توجب له حلّها إلّا بإرادته نكاحها، فإنّها جارية مجرى القبول.

و تكرير «النبيّ» تفخيم له. و العدول إلى الغيبة بلفظ النبيّ مكرّرا، ثمّ الرجوع إليه في قوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إيذان بأنّه ممّا خصّ به، لشرف نبوّته، و تقرير لاستحقاقه الكرامة لأجل نبوّته.

قيل: إنّ امرأة لمّا وهبت نفسها للنبيّ، قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية. فقالت عائشة ما أرى اللّه تعالى إلّا يسارع هواك؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «و إنّك إن أطعت اللّه سارع في هواك».

و احتجّ به أصحابنا على أنّ النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة، لأنّ اللفظ تابع للمعنى، و قد خصّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمعنى، فيختصّ باللفظ. و المدّعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى الدليل.

ص: 391


1- مجمع البيان 8: 364.

و معنى الاستنكاح طلب النكاح و الرغبة فيه. و «خالصة» مصدر مؤكّد، كوعد اللّه و صبغة اللّه، أي: إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلص لك خلوصا، فإنّ الفاعل و الفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج و القاعد، و الكاذبة و العافية. أو حال من الضمير في «وهبت». أو صفة مصدر محذوف، أي: هبة خالصة.

قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ من اعتبار العقد بألفاظ مخصوصة، و وجوب المهر، و الحصر بعدد محصور، و القسم، و غير ذلك ممّا وضعنا عنك تخفيفا وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من توسيع الأمر فيها. و الجملة اعتراض بين قوله: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ و بين متعلّق اللام، و هي «خالصة»، للدلالة على أنّ الفرق بينه و بين المؤمنين في نحو ذلك، ليس لمجرّد قصد التوسيع عليه و ارتفاع الحرج عنه، بل لمصالح و حكم تقتضي التوسيع عليه و التضييق عليهم تارة، و بالعكس اخرى.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً للواقع في الحرج إذا تاب و عدا و عدلا، و لم يتب تفضّلا رَحِيماً بالتوسعة عليك، و رفع الحرج عنك.

روي: أنّ أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين تغايرن و ابتغين زيادة النفقة، و غظن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هجرهنّ شهرا، و نزل التخيير، فأشفقن أن يطلّقهنّ، فقلن: يا رسول اللّه افرض لنا من نفسك و مالك ما شئت. فنزلت:

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ تؤخّرها، و تترك مضاجعتها وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ و تضمّ إليك، و تضاجعها. أو تطلّق من تشاء، و تمسك من تشاء. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: ترجئ بالهمزة. و المعنى واحد. وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ طلبت و أردت أن تؤوي إليك امرأة مِمَّنْ عَزَلْتَ أرجيت فَلا جُناحَ عَلَيْكَ و لا لوم و لا عقاب، و لا إثم في ابتغائها.

ذلِكَ أَدْنى ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا

ص: 392

يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ أي: إلى قرّة عيونهنّ، و قلّة حزنهنّ، و رضاهنّ جميعا، لأنّ حكم كلّهنّ فيه سواء. يعني:

إذا سوّيت بينهنّ في الإيواء و الإرجاء، و العزل و الابتغاء، و ارتفع التفاضل، و لم يكن لإحداهنّ ممّا تريد و ممّا لا تريد إلّا مثل ما للأخرى، أو رجّحت بعضهنّ، و علمن أنّ هذا التفويض من عند اللّه و بحكمه، اطمأنّت نفوسهنّ، و ذهب التنافس و التغاير، و حصل الرضا، و قرّت العيون، و سكنت القلوب. و «كلّهنّ» تأكيد لنون «يرضين».

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فاجتهدوا في إحسانه. و فيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبّر اللّه من ذلك، و فوّض إلى مشيئة رسوله. و بعث على تواطئ قلوبهنّ، و التصافي بينهنّ، و التوافق على طلب رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما فيه طيب نفسه.

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة. فهو حقيق بأن يتّقى و يحذر.

روي: أنّه أرجأ منهنّ خمسا: سودة، و جويرية، و صفيّة، و ميمونة، و امّ حبيبة. و آوى إليه منهنّ أربعا: أمّ سلمة، و زينب، و عائشة، و حفصة.

لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقيّ. و قرأ البصريّان بالتاء. مِنْ بَعْدُ من بعد التسع المذكورات. و هنّ في حقّه نصاب، كما أنّ الأربع في حقّنا نصاب، فلا يحلّ له أن يتجاوز النصاب. أو من بعد اليوم، حتّى لو ماتت واحدة لم يحلّ نكاح اخرى.

وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ فتطلّق واحدة و تنكح مكانها اخرى. و «من» مزيدة لتأكيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ حسن الأزواج المستبدلة. قيل: إنّ الّتي أعجبته صلوات اللّه عليه حسنها أسماء بنت عميس الخثعميّة، بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها. و هو حال من فاعل «تبدّل»،

ص: 393

دون مفعوله، و هو «من أزواج» لتوغّله في التنكير. و تقديره: مفروضا إعجابك بهنّ.

و اختلف في أنّ الآية محكمة أو منسوخة بقوله: «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ» على المعنى الثاني، فإنّه و إن تقدّمها قراءة، فهو مسبوق بها نزولا. و عن عائشة: ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أحلّ له النساء.

و قيل: المعنى: لا يحلّ لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللّاتي نصّ على إحلالهنّ لك، و لا أن تبدّل بهنّ أزواجا من أجناس أخر.

إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء، لأنّه يتناول الأزواج و الإماء. و قيل:

منقطع. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً حافظا مهيمنا. فتحفّظوا أمركم، و لا تتخطّوا ما حدّ لكم.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنى بزينب بنت جحش و أولم عليها. قال أنس: أولم عليها بتمر و سويق، و ذبح شاة، فأمرني رسول اللّه أن أدعو أصحابه إلى الطعام.

فدعوتهم، فترادفوا أفواجا، يأكل فوج فيخرج، ثمّ يدخل فوج، إلى أن قلت: يا رسول اللّه دعوت حتّى ما أجد أحدا أدعوه. فقال: ارفعوا طعامكم. فرفعوا، و خرج القوم، و بقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قمت معه لكي يخرجوا. فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت. فقالوا:

عليك السلام يا رسول اللّه، كيف وجدت أهلك؟ و طاف بالحجرات، فسلّم عليهنّ، و دعون له. و رجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شديد الحياء، فتولّى، فلمّا رأوه متولّيا خرجوا. و ربّما كان قوم من الأصحاب يتحيّنون (1) طعام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقعدون و يستطيلون المجلس منتظرين لإدراكه مرّة بعد اخرى.

ص: 394


1- أي: يترصّدون و يرقبون.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 53 الى 54]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [53] إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [54]

و عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: كان رسول اللّه يريد أن يخلو له المنزل، لأنّه كان حديث عهد بعرس، و كان محبّا لزينب، و كان يكره أذى المؤمنين في إخراجهم عن المنزل. فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ أي: لا تدخلوا أيّها المتحيّنون إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلّا وقت الإذن إِلى طَعامٍ متعلّق ب «يؤذن» لأنّه متضمّن معنى:

يدعى، للإشعار بأنّه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة و إن أذن. كما أشعر به قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غير منتظرين وقته، أو إدراكه. و هو حال من فاعل «لا تدخلوا» أو المجرور في «لكم». و قد أمال حمزة و الكسائي: إناه، لأنّه مصدر: أنى الطعام، إذا أدرك.

و هذا الحكم مخصوص بهؤلاء المتحيّنين و أمثالهم، و إلّا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام.

ص: 395

وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا تفرّقوا و لا تمكثوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بعضكم بعضا. عطف على «ناظرين». أو مقدّر بفعل محذوف، أي: و لا تدخلوا و لا تمكثوا مستأنسين.

إِنَّ ذلِكُمْ اللبث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ لتضيّق المنزل عليه و على أهله، و اشتغاله فيما لا يعنيه فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم، على تقدير المضاف وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ يعني: أنّ إخراجكم حقّ، ما ينبغي أن يستحيا منه.

و لمّا كان الحياء انقباض النفس عن صدور القبيح، و هذا المعنى ممتنع على اللّه تعالى، فالحياء بمعنى الترك. و تسميته بالحياء هنا من باب المزاوجة. و المعنى: لا يترك إبانة الحقّ ترك الحيّي. و هذا أدب أدّب اللّه به الثقلاء.

روي: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يطعم و معه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، و كانت معهم، فكره ذلك. فنزلت آية الحجاب.

و هي هذه:

وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَ إذا سألتم أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَتاعاً شيئا ينتفع به فَسْئَلُوهُنَ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ ستر ذلِكُمْ أي: سؤالكم إيّاهنّ المتاع من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَ من الخواطر الشيطانيّة، و الهواجس النفسانيّة الّتي تدعو إلى ميل الرجال إلى النساء، و النساء إلى الرجال.

و عن عائشة قالت: كنت آكل مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيسا (1) في قعب، فمرّ بنا عمر، فدعاه فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال: «حسّ (2) لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين». فنزل الحجاب.

و عن مقاتل: إنّ طلحة بن عبيد اللّه قال: لئن قبض رسول اللّه لأنكحنّ عائشة.

و عن أبي حمزة الثمالي: إنّ رجلين قالا: أ ينكح محمّد نساءنا، و لا ننكح

ص: 396


1- الحيس: طعام مركّب من تمر و سمن و سويق. و القعب: القدح الضخم الغليظ.
2- حسّ: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضّه و أحرقه غفلة، كالجمرة و الضربة. النهاية لابن الأثير 1: 385.

نساءه؟ و اللّه لئن مات لنكحنا نساءه! و كان أحدهما يريد عائشة، و الآخر يريد امّ سلمة.

و ذكر أنّ بعضهم قال: أ ننهى أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء حجاب؟ لئن مات محمّد لأتزوّجنّ عائشة. فنزلت:

وَ ما كانَ و ما صحّ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أن تفعلوا ما يكرهه وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ من بعد وفاته، أو فراقه أَبَداً قيل: خصّ هذا الحكم بالّتي دخل بها، لما روي: أنّ الأشعث بن قيس تزوّج امرأته غير المدخول بها في أيّام عمر، فهمّ برجمها، فأخبر بأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فارقها قبل أن يمسّها، فتركها من غير نكير.

إِنَّ ذلِكُمْ يعني: إيذاءه، و نكاح نسائه كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ذنبا عظيم الموقع عند اللّه.

و فيه تعظيم من اللّه لرسوله، و إيجاب لحرمته حيّا و ميّتا. و لذلك بالغ في الوعيد عليه، فقال: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً ممّا نهيتم عنه، كنكاحهنّ على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم ذلك، فيجازيكم به.

و في التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل و مبالغة في الوعيد.

[سورة الأحزاب [33]: آية 55]

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً [55]

روي: أنّه لمّا نزلت آية الحجاب، قال الآباء

و الأبناء و الأقارب يا رسول اللّه أ نكلّمهنّ أيضا من وراء حجاب؟ فاستثنى اللّه من لا يجب الاحتجاب عنهم، فقال:

ص: 397

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ إنّما لم يذكر العمّ و الخال، لأنّهما بمنزلة الوالدين. و لذلك سمّى العمّ أبا في قوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ (1). و هو عمّه على المذهب الصحيح. و قوله:

آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ (2). و إسماعيل عمّ يعقوب. أو لأنّه كره ترك الاحتجاب عنهما، مخافة أن يصفا لأبنائهما.

وَ لا نِسائِهِنَ يعني: النساء المؤمنات، فإنّ نساء اليهود و النصارى لم يكنّ مواضع الأمانة، فيصفن نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيره لأزواجهنّ إن رأينهنّ. و قيل:

يريد جميع النساء. و قد سبق ما هو الحقّ من القولين في سورة النور (3).

وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ من الإماء. و قيل: من العبيد و الإماء. و قد مرّ تحقيقه أيضا في سورة النور.

ثمّ نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، لمزيد تشديد و مبالغة، فقال: وَ اتَّقِينَ اللَّهَ اسلكن طريق التقوى في حفظ ما أمركنّ اللّه به، من الاحتجاب و غير ذلك من المنهيّات و المأمورات إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من السرّ و العلن شَهِيداً لا يخفى عليه خافية، و لا يتفاوت في علمه الأحوال من الظاهر و الباطن.

[سورة الأحزاب [33]: آية 56]

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً [56]

و لمّا صدّر سبحانه هذه السورة بذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قرّر في أثنائها ذكر

ص: 398


1- الأنعام: 74.
2- البقرة: 133.
3- راجع ج 4 ص 498، ذيل الآية 31 من سورة النور.

تعظيمه، ختم ذلك بالتعظيم الّذي ليس يقاربه تعظيم و لا يدانيه، فقال:

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ أي: إنّ اللّه يثني على النبيّ بالثناء الجميل، و يبجّله بأعظم التبجيل، و ملائكته يثنون عليه بأحسن الثناء، و يدعون له بأزكى الدعاء، اعتناء بإظهار شرفه و تعظيم شأنه.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ اعتنوا أنتم أيضا بذلك، فإنّكم أولى بذلك وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً أي: قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و سلّم.

و قيل: معنى «و سلّموا»: و انقادوا لأوامره. و يؤيّده ما رواه أبو بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: قد عرفت صلاتنا عليه، فكيف التسليم؟ فقال: هو التسليم له في الأمور».

يعني به الانقياد لأوامره، و بذل الجهد في طاعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يعضد الأوّل ما قاله الزمخشري (1) و القاضي (2)، و ذكره الشيخ في التبيان (3):

إنّ المعنى: قول السلام عليك أيّها النبيّ.

قال أبو حمزة الثمالي: حدّثني السدّي و حميد بن سعد الأنصاري و بريد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجزة، قال: لمّا نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول اللّه هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال:

«قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد. و بارك على محمّد و آل محمّد، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد».

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: إذا صلّيتم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنّكم لا تدرون. قالوا: فعلّمنا.

قال: قولوا: اللّهمّ اجعل صلاتك و رحمتك

ص: 399


1- الكشّاف 3: 557.
2- أنوار التنزيل 4: 167.
3- التبيان 8: 326- 327.

و بركاتك على سيّد المرسلين، و إمام المتّقين، و خاتم النبيّين، محمّد عبدك و رسولك، إمام الدين، و قائد الخير، و رسول الرحمة. اللّهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبط به الأوّلون و الآخرون. اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد.

و عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة، قال: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أره أشدّ استبشارا منه، و لا أطيب نفسا. قلت: يا رسول اللّه! ما رأيتك قطّ أطيب نفسا، و لا أشدّ استبشارا منك اليوم؟ فقال: «و ما يمنعني و قد خرج آنفا جبرئيل من عندي قال: قال اللّه تعالى: من صلّى عليك صلاة صلّيت بها عليه عشر صلوات، و محوت عنه عشر سيّئات، و كتبت له عشر حسنات».

و الآية تدلّ على وجوب الصلاة و السلام عليه في الجملة. و قيل: تجب الصلاة عليه كلّما جرى ذكره،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ».

و قوله: «من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، فدخل النار فأبعده اللّه».

و يروى أنّه قيل: يا رسول اللّه أ رأيت قول اللّه تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ»؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هذا من العلم المكنون، و لو لا أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به. إنّ اللّه و كلّ بي ملكين، فلا اذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان: غفر اللّه لك. و قال اللّه

و ملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين. و لا اذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان: لا غفر اللّه لك. و قال اللّه و ملائكته لذينك الملكين: آمين».

و منهم من قال: تجب في كلّ مجلس مرّة، و إن تكرّر ذكره. و الأصحّ أنّ الصلاة عليه و آله لا تجب إلّا في الصلاة، و الروايات المذكورة لتأكيد الاستحباب.

و اعلم أنّ حديث كعب المذكور دلّ على مشروعيّة الصلاة على الآل تبعا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عليه إجماع المسلمين. و هل يجوز الصلاة عليهم لا تبعا بل إفرادا،

ص: 400

كقولنا: اللّهمّ صلّ على آل محمّد، بل الواحد منهم لا غير، أم لا؟ قال أصحابنا بجواز ذلك. و قال الجمهور بكراهيته، لأنّ الصلاة على النبيّ صارت شعارا له، فلا تطلق على غيره، و لإيهامه الرفض.

و الحقّ ما قاله الأصحاب لوجوه:

الأوّل: قوله تعالى مخاطبا للمؤمنين كافّة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ (1). و هو نصّ في الباب.

الثاني: قوله: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ (2). و لا ريب أنّ أهل البيت أصيبوا بأعظم المصائب، الّتي من جملتها غصب مقام إمامتهم منهم.

و الثالث: أنّه لمّا أتى أبو أوفى زكاته، قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ صلّ على أبي أوفى و آل أبي أوفى.

فيجوز على أهل البيت بطريق أولى.

الرابع: إنّ الصلاة من اللّه بمعنى الرحمة، و يجوز الرحمة عليهم إجماعا، فيجوز مرادفها، لما تقرّر في الأصول أنّه يجوز إقامة أحد المترادفين مقام الآخر.

الخامس: قولهم: إنّها صارت شعارا للرسول، فلا تطلق على غيره. فاسد، لأنّها كما دلّت

على الاعتناء برفع شأنه، كذلك تدلّ على الاعتناء برفع شأن أهله القائمين مقامه. و يكون الفرق بينهم و بينه: وجوبها في حقّه كلّما ذكر كما قيل، أو تأكيد استحباب في قول آخر.

السادس: إنّ قولهم: إنّ ذلك يوهم الرفض، محض تعصّب و عناد. نظير قولهم: من السنّة تسطيح القبور، لكن لمّا اتّخذته الرفضة شعارا لقبورهم عدلنا عنه إلى التسنيم. فعلى هذا كان يجب عليهم أنّ كلّ مسألة قالت بها الإماميّة أن يفتوا

ص: 401


1- الأحزاب: 43.
2- البقرة: 156- 157.

بخلافها. و ما ذلك إلّا محض العناد و كمال التعصّب. نعوذ باللّه من الأهواء المضلّة، و الآراء الفاسدة.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 57 الى 58]

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً [57] وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [58]

و لمّا أمر اللّه سبحانه العباد بالصلاة و السلام على نبيّه، هدّدهم إن آذوه بالألسن و الأيدي، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يرتكبون ما يكرهانه و لا يرضيان به، من الكفر و المعاصي، قولا و فعلا. أو يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكسر رباعيته، و قولهم:

شاعر مجنون.

و قيل: ذكر اللّه للتعظيم له. فجعل أذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أذى له، تشريفا له و تكريما. فكأنّه يقول: لو جاز أن يناله أذى من شي ء لكان ينالني من هذا.

و قيل: أذى اللّه هو قول اليهود و النصارى و المشركين: يد اللّه مغلولة، و ثالث ثلاثة، و المسيح ابن اللّه، و الملائكة بنات اللّه، و الأصنام شركاؤه.

و قيل: قول الّذين يلحدون في أسمائه و صفاته.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما حكى عن ربّه: «شتمني ابن آدم، و لم ينبغ له أن يشتمني. و آذاني، و لم ينبغ له أن يؤذيني. فأمّا شتمه إيّاي فقوله: إنّي اتّخذت ولدا.

و أمّا أذاه فقوله: إنّ اللّه لا يعيدني بعد أن بدأني».

و روي عن الخاصّة و العامّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في حقّ فاطمة عليها السّلام:

ص: 402

«فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه».

روى السيّد أبو الحمد قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، أنّه قال: حدّثنا الحاكم أبو عبد اللّه الحافظ، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن دارم الحافظ، قال: حدّثنا عليّ بن أحمد العجليّ، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب، قال: حدّثنا أرطاة بن حبيب، قال: حدّثنا أبو الخالد الواسطي و هو آخذ بشعره، قال: حدّثني زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال:

حدّثني عليّ بن الحسين عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال: حدّثني الحسين بن عليّ عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال: حدّثني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال:

حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو آخذ بشعره، فقال: «من آذى شعرة منك فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و من آذى اللّه فعليه لعنة اللّه». كما قال جلّ اسمه: لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً يهينهم مع الإيلام.

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية استحقّوا بها الإيذاء. ترك هذا القيد في أذى اللّه و رسوله، لأنّ أذاهما لا يكون إلّا غير حقّ أبدا. فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي: احتملوا مثل عقوبة البهتان الّذي هو من أعظم العقوبات. و قيل: يعني بذلك اذيّة اللسان الّتي هي مظنّة البهتان. وَ إِثْماً مُبِيناً ظاهرا. روي أنّها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليّا عليه السّلام. و قيل: في أهل الإفك على عائشة. و قيل: في زناة كانوا يتّبعون النساء و هنّ كارهات.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 59 الى 62]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [59] لَئِنْ

ص: 403

لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً [60] مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً [61] سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [62]

ثمّ رجع إلى حكم آخر لنسائه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ يغطّين وجوههنّ و أبدانهنّ بملاحفهنّ إذا برزن لحاجة. و الجلباب: ثوب واسع، أوسع من الخمار و دون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، و تبقي منه ما ترسله على صدرها. و «من» للتبعيض، فإنّ المرأة ترخي بعض جلبابها، و تتلفّع (1) ببعض، حتّى تتميّز من الأمة.

و روي: أنّ النساء كنّ في أوّل الإسلام يبرزن في درع و خمار، بلا فرق بين الحرّة و الأمة. و كان الفسّاق يتعرّضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ في النخيل و الغيطان (2)، و ربّما تعرّضوا للحرّة بعلّة الأمة، يقولون:

حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيّهنّ عن زيّ الإماء، بلبس الأردية

و الملاحف، و ستر الرؤوس و الوجوه، ليحتشمن و يهبن فلا يطمع فيهنّ طامع، بخلاف الإماء اللّاتي يخرجن مكشّفات الرؤوس و الجباه.

و ذلك قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أقرب إلى أن يعرفن بزيّهنّ أنّهنّ حرائر و لسن بإماء. و عن الجبائي: معناه: ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر و الصلاح فلا يتعرّض لهنّ، لأنّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر و الصلاح لم يتعرّض لها. فَلا يُؤْذَيْنَ فلا يؤذيهنّ أهل الريبة بالتعرّض لهنّ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف

ص: 404


1- تلفّعت المرأة بالثوب: اشتملت به و تغطّت.
2- الغيطان جمع الغوطة، و هي المكان المطمئنّ و المنخفض من الأرض.

رَحِيماً بعباده، حيث يراعي مصالحهم حتّى الجزئيّات منها.

ثمّ أوعد سبحانه هؤلاء الفسّاق بقوله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف إيمان و قلّة ثبات عليه. أو فجور صادر عن تزلزلهم في الدين، من قوله تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ (1).

وَ الْمُرْجِفُونَ الّذين كانوا يرجفون فِي الْمَدِينَةِ بأخبار السوء عن سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقولون: هزموا و قتلوا، و جرى عليهم كيت و كيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. و أصل الإرجاف: التحريك، من الرجفة، و هي الزلزلة. سمّي به الإخبار الكاذب لكونه متزلزلا غير ثابت.

و في الكلام حذف، تقديره: إن لم ينته المنافقون عن عداوتهم و كيدهم، و الفسقة عن فجورهم، و المرجفون عمّا يؤلّفون من أخبار السوء. لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنأمرنّك بقتالهم. و قد حصل الإغراء لهم بقوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ (2).

و بإجلائهم، و بما يضطرّهم إلى طلب الجلاء. ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها لا يساكنونك في المدينة. عطف على «لنغرينّك». و «ثمّ» للدلالة على أنّ الجلاء و مفارقة جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعظم ما يصيبهم، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه. إِلَّا قَلِيلًا زمانا أو جوارا قليلا.

مَلْعُونِينَ نصب على الشتم، أو الحال. و الاستثناء شامل له أيضا، كقوله:

إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ (3). أي: لا يجاورونك إلّا ملعونين مبعدين عن الرحمة. و قيل: ملعونين على ألسنة المؤمنين. و لا يجوز أن ينتصب عن «أخذوا» في قوله: أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. و المعنى: أينما وجدوا و ظفر بهم أخذوا و قتّلوا أبلغ القتل.

ص: 405


1- الأحزاب: 32.
2- التوبة: 73.
3- الأحزاب: 53.

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكّد، أي: سنّ اللّه ذلك في الأمم الماضية، و هو أن يقتل الّذين نافقوا الأنبياء، و سعوا في وهنهم بالإرجاف و نحوه حيثما ثقفوا. و السنّة: الطريقة في تدبير الحكم. و سنّة رسول اللّه: طريقته الّتي أجراها بأمر اللّه تعالى، فأضيفت إليه. و لا يقال: سنّته إذا فعلها مرّة أو مرّتين، لأنّ السنّة الطريقة الجارية المستمرّة. وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنّه لا يبدّلها، و لا يقدر أحد أن يبدّلها.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 63 الى 68]

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [63] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً [64] خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً [65] يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولا [66] وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [67]

رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [68]

روي: أنّ المشركين كانوا يسألون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء، و اليهود يسألونه امتحانا، لأنّ اللّه تعالى عمّى وقتها في التوراة و في كلّ كتاب، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يجيبهم بأنّه علم قد استأثره اللّه لنفسه، لم يعلّمه أحدا، فقال:

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ عن وقت قيامها، استهزاء و تعنّتا، أو امتحانا قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لم يطلع عليه ملكا و لا نبيّا.

ص: 406

ثمّ بيّن لرسوله أنّها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين، و إسكاتا للممتحنين، فقال: وَ ما يُدْرِيكَ أيّ شي ء يعلمك من أمر الساعة و متى قيامها، أي: أنت لا تعرفها لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي: شيئا قريبا مجيئها. و يجوز أن يكون التذكير لأنّ الساعة في معنى اليوم.

إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً نارا شديدة الاتّقاد و الالتهاب خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم وَ لا نَصِيراً يدفع العذاب عنهم.

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تصرف من جهة إلى جهة، كاللحم الّذي يدور في القدر إذا غلت، فترامى به الغليان من جهة إلى اخرى. أو تغيّر من حال إلى حال، و هيئة إلى هيئة، فتسودّ و تصفرّ، و تصير كالحة بعد أن لم تكن. أو تطرح في النار مقلوبين منكوسين. و خصّت الوجوه بالذكر، لأنّ الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. و يجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.

و ناصب الظرف يَقُولُونَ أو محذوف، هو: اذكر. و إذا نصب بالمحذوف كان «يقولون» حالا، أي: قائلين يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ فيما أمرنا به و نهانا عنه وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا فيما دعانا إليه، فلا نبتلى بهذا العذاب.

وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا فيما فعلناه سادَتَنا وَ كُبَراءَنا يعنون قادتهم الّذين لقّنوهم الكفر و زيّنوه لهم. و قرأ ابن عامر و يعقوب: ساداتنا على جمع الجمع، للدلالة على الكثرة. فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا بما زيّنوا لنا. يقال: ضلّ السبيل، و أضلّه إيّاه. و الألف لإطلاق الصوت، جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر. و فائدتها الوقف، و الدلالة على أنّ الكلام قد انقطع، و أنّ ما بعده مستأنف. و قد مرّ اختلاف القرّاء فيه.

رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ مثلي ما آتيتنا منه، ضعفا لضلالهم، و ضعفا لإضلالهم، فإنّهم ضلّوا و أضلّوا وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً كثير العدد. و قرأ عاصم بالباء (1)، أي: لعنا هو أشدّ اللعن و أعظمه.

ص: 407


1- أي: كبيرا، و القراءة الاخرى: كثيرا.

[سورة الأحزاب [33]: الآيات 69 الى 73]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [69] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [70] يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [71] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً [72] لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [73]

ثمّ خاطب سبحانه المظهرين للإيمان، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى أي: لا تؤذوا محمّدا كما آذى بنو إسرائيل موسى، فإنّ حقّ النبيّ أن يعظّم و يبجّل، لا أن يؤذى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا فأظهر براءته من قولهم، أي: من مقولهم، يعني: مؤدّاه و مضمونه، و هو الأمر المورث للعيب.

فلا يقال: إنّ لفظة «ما» إمّا مصدريّة أو موصولة، و أيّهما كان فكيف تصحّ البراءة منه؟

و اختلفوا فيما أوذي به موسى عليه السّلام. فعند بعضهم أنّ قارون حرّض امرأة على قذفه بنفسها، فعصمه اللّه، كما مرّ في القصص (1).

ص: 408


1- راجع ص 198، ذيل الآية 81 من سورة القصص.

و عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس: أنّ بني إسرائيل اتّهموه بقتله هارون حين صعد الجبل، و مات هارون هناك، فحملته الملائكة، و مرّوا به عليهم ميّتا، و تكلّمت الملائكة بموته، حتّى عرفوا أنّه قد مات حتف أنفه.

و عن أبي هريرة مرفوعا: أنّ اللّه سبحانه أحياه، فأخبرهم ببراءة موسى.

و عن أبي العالية: أنّهم قذفوه بعيب في بدنه من برص أو ادرة (1). و ذلك أنّ موسى عليه السّلام كان حييّا ستيرا يغتسل وحده، فقالوا: ما يتستّر منّا إلّا لعيب بجلده، إمّا برص أو ادرة. فذهب مرّة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، فمرّ الحجر بثوبه، فطلبه موسى، فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا، فبرّأه اللّه ممّا قالوا.

و عن أبي مسلم: أنّهم آذوه من حيث نسبوه إلى السحر و الجنون و الكذب، بعد ما رأوا العذاب.

وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه و منزلة و رفعة عنده. يقال: وجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه و قدر. و لوجاهته و عظم قدره يميط عنه التهم، و يدفع الأذى، و يحافظ عليه، لئلّا يلحقه و صم، و لا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة و وجاهة.

قيل: نزلت في شأن زيد و زينب، و ما سمع فيه من مقالة بعض الناس.

ثمّ أمر سبحانه أهل الايمان و التوحيد بالتقوى و القول السديد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يؤذي رسوله، و غيره من أنواع المعاصي وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحقّ، فإنّ السداد القصد إلى الحقّ، و القول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرمية، إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم

ص: 409


1- الادرة: نفخة في الخصية.

قاصد. و المراد: سداد القصد و اللسان في كلّ باب، و من ذلك حفظ اللسان عمّا خاضوا فيه من حديث زينب، من غير قصد و عدل في القول، لأنّ حفظ اللسان و سداد القول رأس الخير كلّه.

و المعنى: راقبوا اللّه في حفظ ألسنتكم، و تسديد قولكم، فإنّكم إن فعلتم ذلك يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ يوفّقكم للأعمال الصالحة. أو يصلحها بالقبول و الإثابة عليها. وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ و يجعلها مكفّرة باستقامتكم في القول و العمل وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأوامر و النواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً يعيش في الدنيا حميدا، و في الآخرة سعيدا.

ثمّ قرّر الوعد السابق بتعظيم أمر الطاعة و تفخيم شأنها بقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أي: الطاعة. سمّاها أمانة من حيث إنّها واجبة الأداء، كالأمانة. عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ أي: الطاعة، لعظم شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام، و كانت ذات شعور و إدراك فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها من أن يؤدّين حقّها، حتّى يزول عن ذمّتهنّ. من قولك: فلان حامل للأمانة و محتمل لها، تريد: أنّه لا يؤدّيها إلى صاحبها، حتّى تزول عن ذمّته و يخرج عن عهدتها، فإنّ الأمانة كأنّها راكبة للمؤتمن عليها و هو حاملها. ألا تراهم يقولون:

ركبته الديون، ولي عليه حقّ، فإذا أدّاها لم تبق راكبة، و لا هو حاملا لها. وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ مع ضعف بنيته، و رخاوة قوّته إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً حيث لم يف و لم يراع حقّها جَهُولًا بكنه عاقبتها. و هذا وصف للجنس باعتبار الأغلب.

و اعلم أنّ الممثّل به في الآية مفروض، و المفروضات تتخيّل في الذهن كالمحقّقات. فمثّلت حال التكليف في صعوبته و ثقل محمله، بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات و الأرض و الجبال لأبين أن يحملنها و أشفقن منها. و نحو

ص: 410

هذا من الكلام كثير في لسان العرب، و ما جاء القرآن إلّا على طرقهم و أساليبهم.

و من ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أسوّي العوج. و كم لهم من هذه الأمثال على ألسنة البهائم و الجمادات. و تصوّر مقاولة الشحم و إن كان محالا، و لكنّ الغرض منه أنّ السمن في الحيوان ممّا يحسّن قبيحه، كما أنّ العجف (1) ممّا يقبّح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، و هي به آنس، و له أقبل، و على حقيقته أوقف. فقد علمت من ذلك أنّ تصوير عظم الأمانة، و صعوبة أمرها، و ثقل محملها، و الوفاء بها، بما في الآية، لأجل تقريبه إلى الفهم.

و قيل: الآية على معناها الحقيقي، لما روي أنّ اللّه سبحانه لمّا خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما، و قال لها: إنّي فرضت فريضة، و خلقت جنّة لمن أطاعني فيها، و نارا لمن عصاني. فقلن: نحن مسخّرات على ما خلقتنا، لا نحتمل فريضة، و لا نبتغي ثوابا و لا عقابا. و لمّا خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله، و كان ظلوما

لنفسه بتحمّله ما يشقّ عليها، جهولا بوخامة عاقبته.

و لعلّ المراد بالأمانة: العقل أو التكليف. و بعرضها عليهنّ اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهنّ. و بإبائهنّ الإباء الطبيعي الّذي هو عدم القابليّة و الاستعداد. و بحمل الإنسان قابليّته و استعداده لها. و كونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوّة الغضبيّة و الشهويّة. و على هذا يحسن أن يكون علّة للحمل عليه، فإنّ من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوّتين، حافظا لهما عن التعدّي و مجاوزة الحدّ، و معظم مقصود التكليف تعديلهما و كسر سورتهما.

و قيل: المراد بالأمانة أمانات الناس و الوفاء بالعهود.

ص: 411


1- العجف: الضعف و الهزال.

و اللام في قوله: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ للتعليل على طريق المجاز، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أنّ التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب. و ذكر التوبة في الوعد إشعارا بأنّ المؤمنين- مع كونهم مطيعين- لا يخلون عن فرطات صادرة عن مقتضى جبلّتهم.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً حيث تاب عن فرطاتهم رَحِيماً حيث أثاب بالفوز على طاعاتهم.

ص: 412

[34] سورة سبأ

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و خمسون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة سبأ، لم يبق نبيّ و لا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا و مصافحا».

و روي عن ابن أذينة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ الحمدين جميعا: سبأ و فاطر، في ليلة، لم يزل ليلته في حفظ اللّه و كلاءته، فإن قرأهما في نهاره، لم يصبه في نهاره مكروه، و أعطي من خير الدنيا و خير الآخرة، ما لم يخطر على قلبه، و لم يبلغ مناه».

[سورة سبإ [34]: الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [1] يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [2]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة الأحزاب ببيان الغرض في التكليف، و أنّه سبحانه يجزي المحسنين بإعطائهم مثوبة الآخرة، الّتي هي أجلّ النعم التي

ص: 413

توجب الحمد و الشكر عليها، افتتح هذه السورة بالحمد له على نعمته و كمال قدرته، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و نعمة. فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته، و على تمام نعمته وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لأنّ ما في الآخرة أيضا كذلك. و ليس هذا من عطف المقيّد على المطلق، لأنّ وصف ذاته بعد الحمد الأوّل بما يدلّ على أنّه المحمود بالنعم الدنيويّة قيّد الحمد بها.

و قال في الكشّاف: «لمّا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثمّ وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيويّة، كان معناه: أنّه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: احمد أخاك الّذي كساك و حملك، تريد: احمده على كسوته و حملانه. و لمّا قال: وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ علم أنّه المحمود على نعم الآخرة، و هو الثواب الدائمي» (1).

و تقديم الصلة في الثاني للاختصاص، فإنّ النعم الدنيويّة قد تكون بواسطة من يستحقّ الحمد لأجلها، و لا كذلك نعم الآخرة.

و اعلم أنّ الحمد في الدنيا واجب، لأنّه على نعمة متفضّل بها، و هو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة. و الحمد في الآخرة ليس بواجب، لأنّه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقّها، فإنّما هو تتمّة سرور المؤمنين، و تكملة اغتباطهم، يلتذّون به كما يلتذّ من به العطش الشديد بالماء البارد.

وَ هُوَ الْحَكِيمُ الّذي أحكم أمور الدارين، و دبّرها بحكمته الْخَبِيرُ ببواطن الأشياء.

ثمّ ذكر ممّا يحيط به علما بقوله: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ما يدخل فيها، كالغيث ينفذ في موضع و ينبع في آخر، و كالكنوز و الدفائن و الأموات وَ ما يَخْرُجُ مِنْها

ص: 414


1- الكشاف 3: 566.

كالحيوان، و النبات، و الفلزّات، و ماء العيون وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة، و الكتب، و أنواع البركات، و المقادير، و الأمطار، و الصواعق، و الأرزاق.

كقوله: وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ (1). وَ ما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة، و أعمال العباد، و الأبخرة. و هو سبحانه يجري جميع ذلك على تقدير تقتضيه الحكمة، و تدبير توجبه المصلحة.

وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها. أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفانية للحصر. أو الرحيم بعباده مع علمه بما يعملون من المعاصي، فلا يعاجلهم بالعقوبة، و يمهلهم للتوبة. الغفور: الساتر عليهم ذنوبهم في الدنيا، المتجاوز عنها في العقبى.

[سورة سبإ [34]: الآيات 3 الى 5]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [3] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [4] وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [5]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ إنكار لمجيئها، أو استبطاء،

استهزاء بالوعد به قُلْ بَلى ردّ لكلامهم، و إثبات لما نفوه وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تكرير

ص: 415


1- الذاريات: 22.

لإيجابه، مؤكّدا بالقسم.

ثمّ وصف المقسم به بصفات تقرّر إمكان مجيئها، و تنفي استبعاده، بقوله:

عالِمِ الْغَيْبِ و قرأ حمزة و الكسائي: علّام الغيب، للمبالغة. و نافع و ابن عامر و رويس: عالم الغيب بالرفع، على أنّه خبر محذوف، أو مبتدأ خبره لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي: لا يبعد عنه. من العزوب، و هو البعد.

يقال: روض عزيب: بعيد من الناس. و قرأ الكسائي: لا يعزب، بالكسر. وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ جملة مؤكّدة لنفي العزوب. و رفعهما بالابتداء. و يؤيّده القراءة بالفتح على نفي الجنس.

و لا يجوز عطف المرفوع على «مثقال» و المفتوح على «ذرّة» بأنّه فتح في موضع الجرّ، لامتناع الصرف، لأنّ الاستثناء يمنعه. اللّهمّ إلا إذا جعل الضمير في «عنه» للغيب، و جعل المثبت في اللوح خارجا عنه، لظهوره على المطالعين له.

فيكون المعنى: لا ينفصل عن الغيب شي ء إلّا مسطورا في اللوح.

و تنقيح المبحث: أنّ قيام الساعة من مشاهير الغيوب، و أدخلها في الخفية، فحين أقسم باسمه سبحانه على إثبات قيام الساعة، و أنّه كائن لا محالة، ثمّ وصف بأنّه عالم الغيب، و أنّه لا يفوت علمه شي ء من الخفيّات، و اندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة، فلأجل هذه الفائدة اختار لذاته هذه الصفة، و لم يورد صفات اخرى مقامها.

و قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ علّة لقوله: «لتأتينّكم» و بيان لما يقتضي إتيانها أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ هني ء لا تنغيص فيه و لا تكدير، و لا تعب

فيه، و لا منّ عليه.

و لمّا لم يقتصر على اليمين، بل أتبعها الحجّة القاطعة، و البيّنة الساطعة، و هي قوله: «ليجزي» علّة لمجي ء الساعة، فقد وضع اللّه في العقول، و ركّب في الغرائز

ص: 416

وجوب الجزاء، و أنّ المحسن لا بدّ له من ثواب، و المسي ء لا بدّ له من عقاب.

فلا يقال: الناس قد أنكروا إتيان الساعة و جحدوه. فهب أنّه حلف لهم بأغلظ الأيمان، و أقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على اللّه كذبا، كيف تكون مصحّحة لما أنكروه؟

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالإبطال و تزهيد الناس عن قبولها مُعاجِزِينَ مسابقين كي يفوتونا. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: معجزين، أي: مثبّطين عن الإيمان من أراده أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من سيّ ء العذاب أَلِيمٌ مؤلم. و رفعه ابن كثير و يعقوب و حفص.

[سورة سبإ [34]: آية 6]

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [6]

ثمّ ذكر سبحانه المؤمنين، و اعترافهم بما جحده من تقدّم ذكرهم من الكافرين، فقال:

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ و يعلم أولوا العلم بالنظر و الاستدلال من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و من شايعهم من الأمّة، أو من مسلمي أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار و عبد اللّه بن سلام. و قيل: هم كلّ من أوتي العلم بالدين. و هذا أولى، لعمومه.

الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني: القرآن. و الموصول مع صلته المفعول الأوّل ل «يرى». و قوله: هُوَ الْحَقَ المفعول الثاني. و الضمير للفصل. و من قرأ بالرفع جعله مبتدأ، و «الحقّ» خبره، و الجملة في موضع المفعول الثاني، و «يرى»

مع مفعوله مرفوع مستأنف، للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات.

و قيل: «يرى» في موضع النصب، معطوف على «ليجزي» أي: ليعلم أولوا

ص: 417

العلم عند مجي ء الساعة أنّه الحقّ عيانا، كما علموه حقّا برهانا.

وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ القادر الّذي لا يغالب الْحَمِيدِ المحمود على جميع أفعاله. و صراطه: التوحيد، و التدرّع بلباس التقوى.

و في هذه الآية دلالة على فضيلة العلم، و شرف العلماء، و عظم أقدارهم.

[سورة سبإ [34]: الآيات 7 الى 9]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [7] أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ [8] أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [9]

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفّار، فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال بعضهم لبعض، أو القادة للأتباع، استبعادا و تعجّبا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان مشهورا علما في قريش، و كان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، لكن هنا نكّروه قصدا منهم إلى الطنز و السخريّة، فأخرجوه مخرج التحلّي ببعض الحكايات الّتي يحاكى بها للضحك و التلهّي، متجاهلين به و بأمره.

يُنَبِّئُكُمْ يحدّثكم بأعجب الأعاجيب إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: يمزّق أجسادكم البلى كلّ ممزّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: إنّكم تنشؤن خلقا جديدا، بعد أن تمزّق أجسادكم كلّ تمزيق- أي: تبدّدت أجزاؤكم كلّ تبديد- و تفرّق كلّ تفريق، بحيث تصير ترابا و رفاتا.

ص: 418

و تقديم الظرف للدلالة على البعد و المبالغة فيه. و عامله محذوف، دلّ عليه ما بعده، فإنّ ما قبله لم يقارنه، و ما بعده مضاف إليه، أو محجوب بينه و بينه ب «إنّ».

و «ممزّق» يحتمل أن يكون مكانا، بمعنى: إذا مزّقتم، و ذهب بكم السيول كلّ مذهب، و طرحتكم الرياح كلّ مطرح.

و «جديد» عند البصريّين بمعنى فاعل، من: جدّ فهو جديد، كحديد من:

حدّ، و قليل من: قلّ. و عند الكوفيّين بمعنى مفعول، من: جدّ النسّاج الثوب إذا قطعه.

أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً حيث زعم أنّا نبعث بعد الموت. و هو استفهام تعجّب و إنكار. أَمْ بِهِ جِنَّةٌ جنون يوهمه ذلك، و يلقيه على لسانه، و لا يعلم ما يقول.

و إسقاط همزة الوصل في «افترى» و إثباتها في نحو: آلسحر، خوف التباس الاستفهام بالخبر في الثاني، لكون همزته مفتوحة كهمزة الاستفهام، بخلاف الأوّل، فإنّ همزة الوصل فيه مكسورة، تقديره: أ افترى.

و استدلال من جعل بين الصدق و الكذب واسطة، بجعلهم إيّاه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه، على أنّ بين الصدق و الكذب واسطة، و هو كلّ خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه. ضعيف بيّن الضعف، لأنّ الافتراء أخصّ من الكذب، لأنّه كذب عن عمد، و لا عمد للمجنون، فلا يكون الثاني قسيما للكذب مطلقا، بل لما هو أخصّ منه، أعني: الافتراء. فيكون حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه، أعني: الكذب عن عمد، و الكذب لا عن عمد.

ثمّ ردّ اللّه عليهم ترديدهم، و أثبت لهم ما هو أفظع من القسمين، و هو الضلال البعيد عن الصواب، بحيث لا يرجى الخلاص منه، و ما هو مؤدّاه من العذاب، فقال:

بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ جعل العذاب

ص: 419

رسيلا (1) له في الوقوع، و مقدّما عليه في اللفظ، للمبالغة في استحقاقهم له.

و «البعيد» في الأصل صفة الضالّ. يقال: ضلّ فلان، إذا بعد عن الجادّة. و وصف الضلال به على الإسناد المجازي.

ثمّ ذكّرهم بما يعاينونه ممّا يدلّ على كمال قدرة اللّه، و ما يحتمل فيه، إزاحة لاستحالتهم الإحياء، حتّى جعلوه افتراء و تهديدا عليها، فقال:

أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء و الأرض، و لم يتفكّروا أهم أشدّ خلقا أم هما؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البيّنات، كما فعل بقارون و أصحاب الأيكة.

و قرأ حمزة و الكسائي: يشأ، و «يخسف» و «يسقط» بالياء، لقوله: «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ». و حفص: كسفا بالتحريك.

إِنَّ فِي ذلِكَ النظر إلى السماء و الأرض، و التفكّر فيهما، و ما يدلّان عليه من قدرة اللّه لَآيَةً لدلالة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ و هو الراجع إلى ربّه المطيع له، فإنّ المنيب يكون كثير التأمّل في أمره، فهو الّذي ينظر و يتفكّر في آيات اللّه، على أنّه قادر على كلّ شي ء، من البعث و من عقاب من يكفر به، و إثابة من يؤمن به.

[سورة سبإ [34]: الآيات 10 الى 11]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [10] أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [11]

ص: 420


1- الرسيل: الموافق لك في النضال و نحوه.

و لمّا تقدّم ذكر عباد اللّه المنيبين إليه، وصله سبحانه بذكر داود و سليمان، فإنّهما لإنابتهما إلى اللّه سبحانه فضّلهما على العالمين بالنبوّة و الملك، و أعطاهما ما أعطاهما من الأمور الدينيّة و السياسة الدنيويّة، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي: على سائر الأنبياء بما ذكر بعد. أو على سائر الناس، فيندرج فيه النبوّة، و الحكومة، و الكتاب، و الملك، و الصوت الحسن، و فصل الخطاب، و غير ذلك من معجزاته.

يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رجّعي معه التسبيح. من: آب إذا رجع. و ذلك بأنّ اللّه يخلق فيها تسبيحا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبّح، معجزة لداود.

و قيل: كان ينوح على ترك ندبه بترجيع و تحزين. و كانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها (1).

و قيل: معناه: سيري معه حيث سار. و هو بدل من «فضلا» أو من «آتينا» بإضمار: قولنا، أو قلنا.

وَ الطَّيْرَ عطف على محلّ الجبال. و يؤيّده قراءة يعقوب بالرفع عطفا على لفظها، تشبيها للحركة البنائيّة العارضة بحركة الإعراب. أو على «فضلا» بمعنى:

و سخّرنا له الطّير. و يجوز أن يكون مفعولا معه ل «أوّبي». و كان أصل النظم: و لقد آتينا داود منّا فضلا، تأويب الجبال و الطير. فبدّل بهذا النظم. و كم فرق بين النظمين، من الفخامة الّتي لا يخفى، من الدلالة على عزّة الربوبيّة و كبرياء الإلهيّة، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الّذين إذا أمرهم أطاعوا و أذعنوا، و إذا دعاهم سمعوا و أجابوا، إشعارا بأنّه ما من حيوان و جماد و ناطق و صامت، إلّا و هو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته، بخلاف الأخير.

ص: 421


1- الأصداء جمع الصدى، و هو ما يردّه الجبل أو غيره إلى المصوّت مثل صوته.

وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالشمع و العجين، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير إحماء و طرق بالآلة. و قيل: لان الحديد في يده لما أوتي من شدّة القوّة.

أَنِ اعْمَلْ أمرناه أن اعمل. و «أن» مفسّرة، أو مصدريّة. سابِغاتٍ دروعا واسعات وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ و عدّل في نسجها، بحيث يتناسب حلقها. و من قال: إنّ معناه: قدّر مساميرها، فلا تجعلها دقاقا فتقلق (1)، و لا غلاظا فتنخرق. لا يخلو كلامه من ضعف، لأنّ دروعه لم تكن مسمّرة. و يؤيّده قوله: «وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ».

و هو عليه السّلام أوّل من اتّخذ الدروع، و كانت قبل صفائح.

و قيل: كان يبيع الدرع بأربعة آلاف، فينفق منها على نفسه و عياله، و يتصدّق على الفقراء.

و قيل: كان يخرج من البيت و هو ملك بني إسرائيل متنكّرا، فيسأل الناس عن نفسه و يقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه. فقيّض اللّه له ملكا في صورة آدميّ، فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه. فريع (2) داود، فسأله؟

فقال: لولا أنّه يطعم و يطعم عياله من بيت المال. فحزن لذلك، فعلّمه اللّه صنعة الدروع.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود: نعم العبد أنت لولا أنّك تأكل من بيت المال! فبكى داود أربعين صباحا، فألان اللّه له الحديد. و كان يعمل كلّ يوم درعا، فيبيعها بألف درهم. فعمل ثلاثمائة و ستّين درعا، فباعها بثلاثمائة و ستّين ألفا، فاستغنى عن بيت المال».

وَ اعْمَلُوا صالِحاً الضمير لداود و أهله، أي: اعمل أنت و أهلك الأعمال الصالحة، شكرا للّه على عظيم نعمه إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.

ص: 422


1- أي: تتحرّك و تضطرب.
2- أي: فزع. يقال: ريع فلان: فزع. من: راع يروع روعا.

[سورة سبإ [34]: الآيات 12 الى 14]

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ [12] يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [13] فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ [14]

ثمّ ذكر سبحانه ما آتى سليمان من الفضل و الكرامة، فقال: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي: و سخّرنا له الريح غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ أي: جريها بالغداة مسيرة شهر، و بالعشيّ كذلك. و المعنى: أنّها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين.

و عن الحسن: كان يغدو فيقيل بإصطخر، ثمّ يروح من إصطخر فيبيت بكابل، و بينهما مسيرة شهر، تحمله الريح مع جنوده.

وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس المذاب. أساله له من معدنه، فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، و لذلك سمّاه عين القطر. و كان ذلك باليمن. و قيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيّام بلياليهنّ.

وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ عطف على الريح. و الجارّ و المجرور حال متقدّمة، أو جملة «من» مبتدأ و خبر بَيْنَ يَدَيْهِ بحضرته و أمام عينه، ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدمي بين يدي الآدمي. بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره. و عن ابن عبّاس:

سخّرهم اللّه لسليمان، و أمرهم بطاعته فيما يأمر و يمنع. فكان يكلّفهم الأعمال

ص: 423

الشاقّة، مثل عمل الطين و غيره. و في هذا دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له.

وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ و من يعدل منهم عَنْ أَمْرِنا عمّا أمرناه من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ و عن السدّي: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلّما استعصى عليه ضربه ضربة من حيث لا يراه الجنّي. و فيه دلالة على أنّهم كانوا مكلّفين.

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصورا حصينة، و مساكن شريفة.

سمّيت بها لأنّها يذبّ عنها، و يحارب و يحامى عليها. و عن قتادة: هي المساجد يتعبّد فيها.

و كان ممّا عملوه بيت المقدس، و قد كان اللّه عزّ اسمه سلّط على بني إسرائيل الطاعون، فهلك خلق كثير في يوم واحد. فأمرهم داود ليغتسلوا و يبرزوا إلى الصعيد بالذراري و الأهلين، و يتضرّعوا إلى اللّه تعالى لعلّه يرحمهم.

و ذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. و ارتفع داود فوق الصخرة، فخرّ ساجدا يبتهل إلى اللّه تعالى، و سجدوا معه، فلم يرفعوا رؤوسهم حتّى كشف اللّه عنهم الطاعون.

فلمّا أن شفّع اللّه تعالى داود في بني إسرائيل، جمعهم داود بعد ثلاث و قال لهم: إنّ اللّه تعالى قد منّ عليكم و رحمكم، فجدّدوا له شكرا، بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الّذي رحمكم فيه مسجدا. ففعلوا، و أخذوا في بناء بيت المقدس، و كان داود ينقل الحجارة لهم على عاتقه، و كذلك خيار بني إسرائيل، حتّى رفعوه قامة، و لداود يومئذ سبع و عشرون و مائة سنة. فأوحى اللّه تعالى إلى داود: أنّ تمام بنائه يكون على يدي ابنه سليمان.

فلمّا صار داود ابن أربعين و مائة سنة توفّاه اللّه تعالى، و استخلف سليمان،

ص: 424

فأحبّ إتمام بيت المقدس، فجمع الجنّ و الشياطين، و قسّم عليهم الأعمال، يخصّ كلّ طائفة منهم

بعمل. فأرسل الجنّ و الشياطين في تحصيل الرخام و المها (1) الأبيض الصافي من معادنه. و أمر ببناء المدينة من الرخام و الصفّاح (2)، و جعلها اثني عشر ربضا، و أنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط.

و لمّا فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقا، فرقة يستخرجون الذهب و اليواقيت من معادنها، و فرقة يقلعون الجواهر و الأحجار من أماكنها، و فرقة يأتونه بالمسك و العنبر و سائر الطيب، و فرقة يأتونه بالدرّ من البحار. فأتي من ذلك بشي ء لا يحصيه إلّا اللّه تعالى. ثمّ أحضر الصنّاع، و أمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى صيّروها ألواحا، و بمعالجة تلك الجواهر و اللآلئ.

و بنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر، و عمده (3) بأساطين المها الصافي، و سقّفه بألواح الجواهر، و فضّض (4) سقوفه و حيطانه باللآلئ و اليواقيت و الجواهر، و بسط أرضه بألواح الفيروزج. فلم يكن في الأرض بيت أبهى و لا أنور من ذلك المسجد، كان يضي ء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

قال سعيد بن المسيّب: لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدّس، تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتّى قال في دعائه: بصلوات أبي داود إلّا فتحت

ص: 425


1- المها جمع المهاة: البلّورة.
2- الصفّاح: الحجارة العريضة الرقيقة. و الربض: سور المدينة، و كلّ ما يؤوى و يستراح إليه من أهل و قريب و مال و بيت و نحو ذلك، أو ما حول المدينة من بيوت و مساكن.
3- عمد السقف: أقامه بعماد و دعمه.
4- فضّض الشي ء: موّهه أو رصّعه بالفضّة.

الأبواب، ففتحت. ففرّغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل، و خمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل و لا نهار إلّا و يعبد اللّه فيها.

وَ تَماثِيلَ و صور الملائكة و الأنبياء، من نحاس و صفر و زجاج و رخام.

و عن ابن عبّاس: كانوا يعملون صور الأنبياء و العبّاد في المساجد، ليرى الناس فيقتدوا بهم، و يعبدوا نحو عبادتهم.

و قيل: كانت صور الحيوانات. و قيل: كانوا يعملون صور السباع و البهائم، ليكون أهيب له. و لم تكن يومئذ التصاوير محرّمة. و هي محظورة في شريعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قد بيّن اللّه سبحانه أنّ المسيح كان يصوّر بأمر اللّه من الطين كهيئة الطير.

و روي: أنّهم صوّروا أسدين في أسفل كرسيّه، و نسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، و إذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما.

وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ و صحاف كالحياض الكبار الّتي يجبى فيها الماء، أي:

يجمع. جمع جابية، من الجباية. و هي من الصفات الغالبة، كالدابّة. و كان سليمان يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان، فإنّه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع (1) الناس لكثرتهم. و قيل: إنّه كان يقعد على كلّ جفنة ألف رجل يأكلون بين يديه.

وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على الأثافيّ (2) لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ.

ثمّ نادى سبحانه آل داود، و أمرهم بالشكر على ما أنعم به عليهم من هذه النعمة العجيبة، لأنّ نعمته على سليمان نعمة عليهم، فقال:

اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً نصب على العلّة، أي: اعملوا له و اعبدوه، لأجل

ص: 426


1- قصاع جمع قصعة، و هي الصحفة. و الجفنة: القصعة الكبيرة.
2- الأثافيّ جمع الاثفيّة: الحجر توضع عليه القدر.

شكركم للّه على ما آتاكم من النعم. أو على المصدر، لأنّ العمل له شكر، كأنّه قيل:

اشكروا شكرا. أو الوصف له، أي: اعملوا عملا شكرا. أو الحال، بمعنى: شاكرين.

أو المفعول به، أي: افعلوا شكرا.

وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ المتوفّر على أداء الشكر بقلبه و لسانه و جوارحه، في أكثر أوقاته. و مع ذلك لا يوفّي حقّه، لأنّ توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية. و لذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر.

و الفرق بين الشكور و الشاكر: أنّ الشكور من تكرّر منه الشكر، و الشاكر من وقع منه الشكر.

قيل: جزّأ ساعات الليل و النهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا و إنسان من آل داود قائم يصلّي.

و روي: أنّ عمر سمع رجلا يقول: اللّهمّ اجعلني من القليل. فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إنّي سمعت اللّه تعالى يقول: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل. فقال عمر: كلّ الناس أعلم من عمر.

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي: على سليمان ما دَلَّهُمْ ما دلّ الجنّ.

و قيل: آله. عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي: إلّا الأرضة. أضيفت إلى فعلها. يقال:

أرضت الخشبة أرضا، إذا أكلتها الأرضة. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه. من: نسأت البعير إذا طردته، لأنّها تطرد بها.

فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ ظهرت الجنّ. من: تبيّن الشي ء إذا ظهر و تجلّى.

و «أن» مع صلتها بدل من «الجنّ» بدل الاشتمال، كقولك: تبيّن زيد جهله. أو علمت الجنّ علما بيّنا بعد التباس الأمر عليهم. أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كما يزعمون لعلموا موته. فلأجل ذلك ما لَبِثُوا بعده حولا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ الّذي هو عمل البناء، و حمل الصخر العظيم، و غير ذلك من الأعمال الشاقّة إلى أن خرّ.

ص: 427

و فيه تهكّم بالجنّ، كما تتهكّم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجّته و ظهر إبطاله، بقولك: هل تبيّنت أنّك مبطل، و أنت تعلم أنّه لم يزل كذلك متبيّنا؟

روي: أنّ داود أسّس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السّلام، فمات داود عليه السّلام قبل تمامه كما مرّ، فوصّى به إلى سليمان، فاستعمل الجنّ فيه، فلم يتمّ بعد إذ دنا أجله.

و روي: أنّه كان من عادة سليمان عليه السّلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس سنة و سنتين، و شهرا و شهرين، و أقلّ و أكثر، يدخل فيه طعامه و شرابه. فلمّا دنا أجله لم يصبح إلّا راى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها اللّه تعالى، فيسألها لأيّ شي ء أنت؟ فتخبر عن اسمها و نفعها و ضرّها. حتّى أصبح ذات يوم، فرأى الخرّوبة (1) فسألها. فقالت: نبتّ لخراب هذا المسجد. فقال: ما كان اللّه ليخربه و أنا حيّ. أنت الّتي على وجهك هلاكي و خراب بيت المقدس. فنزعها و غرسها في حائط.

و قال: اللّهمّ عمّ (2) على الجنّ موتي، ليتمّوا بناء بيت المقدس، و ليعلم الناس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب، لأنّهم كانوا يسترقون السمع، و يموّهون على الإنس أنّهم يعلمون الغيب.

و قال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني.

فقال: أمرت بك، و قد بقيت من عمرك ساعة.

فدعا الشياطين، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّي متّكئا على عصاه، فقبض روحه و هو متّكئ عليها. و كان الجنّ يحسبونه حيّا، لما كانوا

ص: 428


1- الخرّوبة و الخرنوبة: شجر مثمر من فصيلة القرنيّات، دائم الورق، منابته منطقة شرقيّ المتوسّط، ثماره تستعمل لعلف الحيوان، و يستخرج منه نوع من الدبس.
2- فعل أمر من: عمّى المعنى، أي: أخفاه.

يشاهدونه من طول قيامه قبل ذلك، فيعملون البناء خشية منه، حتّى يتمّ بيت المقدس.

و روي: أنّ الشياطين كانوا يجتمعون حول محرابه أينما صلّى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلّا احترق. فمرّ به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، ثمّ رجع فلم يسمع صوته، فنظر فإذا سليمان قد خرّ ميّتا. ففتحوا عنه، فإذا العصا قد أكلتها الأرضة. ثمّ أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوما و ليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة.

و ذكر أهل التاريخ: أنّ عمره كان ثلاثا و خمسين سنة. و ملك و هو ابن ثلاث عشرة سنة. و ابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. و لم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بختنصّر بني إسرائيل، فخرّب المدينة و هدمها، و نقض المسجد، و أخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذهب و الفضّة و الدرّ و اليواقيت و سائر الجواهر، فحملها إلى دار مملكته من أرض العراق.

و قال في المجمع: «إنّ في إماتته قائما و بقائه كذلك أغراضا، منها: إتمام البناء. و منها: أن يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب، و أنّهم في ادّعاء ذلك كاذبون. و منها: أن يعلم أنّ من حضر أجله فلا يتأخّر، إذ لم يؤخّر سليمان مع جلالته» (1).

و روي: أنّه أطلعه اللّه على حضور وفاته، فاغتسل و تحنّط و تكفّن، و الجنّ في عملهم.

و روى أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ سليمان أمر الشياطين فعملوا له قبّة من قوارير، فبينا هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة، ينظر إلى الجنّ كيف

ص: 429


1- مجمع البيان 8: 383- 384.

يعملون، و هم ينظرون إليه و لا يصلون إليه، إذا رجل معه في القبّة، فقال: من أنت؟

قال: أنا الّذي لا أقبل الرشا، و لا أهاب الملوك! فقبضه و هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة. فمكثوا سنة يعملون له، حتّى بعث اللّه الأرضة، فأكلت منسأته».

و في حديث آخر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «فكان آصف يدبّر أمره حتّى دبّت الأرضة».

و الوجه في عمل الجنّ تلك الأعمال العظيمة، هو أنّ اللّه تعالى زاد في أجسامهم و قوّتهم، و غيّر خلقهم عن خلق الجنّ الّذي لا يرون، للطافتهم و رقّة أجسامهم، على سبيل الإعجاز الدالّ على نبوّة سليمان. فكانوا بمنزلة الأسراء في يده. و كان يتهيّأ لهم الأعمال الّتي كان يكلّفها إيّاهم. ثمّ لمّا مات عليه السّلام جعل اللّه خلقهم على ما كانوا عليه، فلا يتهيّأ لهم في هذا الزمان شي ء من ذلك.

[سورة سبإ [34]: الآيات 15 الى 21]

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ [15] فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [16] ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [17] وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ [18] فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ

ص: 430

صَبَّارٍ شَكُورٍ [19] وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [20] وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ [21]

ثمّ أخبر سبحانه عن قصّة سبأ بما دلّ على حسن عاقبة الشكور، و سوء عاقبة الكفور، فقال:

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. و منع الصرف عنه ابن كثير و أبو عمرو، لأنّه صار اسم القبيلة. و عن ابن كثير: قلب همزته ألفا.

و هو أبو عرب اليمن كلّها. و قد يسمّى به القبيلة.

و في الحديث عن فروة بن مسيك أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن سبأ أرجل أم امرأة؟ فقال: «هو رجل من العرب، ولد عشرة، تيامن (1) منهم ستّة، و تشاءم منهم أربعة. فأمّا الّذين تيامنوا: فالأزد، و كندة، و مذحج، و الأشعرون، و أنمار، و حمير. فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الّذين منهم خثعم و بجيلة.

و أمّا الّذين تشاءموا: فعاملة، و جذام، و لخم، و غسّان».

فالمعنى: لقد كان لقبيلة سبأ فِي مَسْكَنِهِمْ في مواضع سكناهم. و هي باليمن، يقال لها: مأرب، بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاث. و قرأ حمزة و حفص بالإفراد و الفتح (2). و الكسائي بالكسر، حملا على ما شذّ من القياس، كالمطلع

ص: 431


1- تيامن: ذهب ذات اليمين، أو أخذ ناحية اليمين، أو أتى اليمن. و تشاءم و تشأّم: أخذ نحو شماله، أو أتى الشام.
2- أي: فتح الكاف من: مسكنهم.

و المسجد. آيَةٌ علامة دالّة على وجود الصانع، و أنّه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة، مجاز للمحسن و المسي ء، معاضدة للبرهان السابق، كما في قصّتي داود و سليمان.

جَنَّتانِ بدل من «آية». أو خبر محذوف. تقديره: الآية جنّتان، أي:

العلامة الدالّة على اللّه و على قدرته و إحسانه و وجوب شكره جنّتان. أو المراد أنّه سبحانه جعل أهلهما لمّا أعرضوا عن شكره سبحانه عليهما، فأبدلهما بالخمط (1) و الأثل آية و عبرة لهم ليعتبروا، فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر و غمط (2) النعم. و المراد ب «جنّتان» جماعتان من البساتين.

عَنْ يَمِينٍ جماعة عن يمين بلدهم وَ شِمالٍ و جماعة عن شماله. كلّ واحدة من الجماعتين في تقاربها و تضامّها، كأنّها جنّة واحدة. أو بستانا كلّ رجل منهم عن يمين مسكنه و عن شماله. كما قال: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ (3).

كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ قيل: هذا حكاية لما قال لهم أنبياء اللّه المبعوثون إليهم. أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم كانوا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك.

ثمّ دلّ على موجب الشكر بجملة مستأنفة، هي «بلدة طيّبة»، أي: هذه البلدة الّتي فيها رزقكم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ و ربّكم الّذي رزقكم، و طلب شكركم، ربّ غفور فرطات من يشكره.

و عن ابن عبّاس: كانت أخصب البلاد و أطيبها، ليست سبخة، و لم يكن لها

ص: 432


1- الخمط: كلّ شجر ذي شوك، أو شجر الأراك، أو كلّ نبت أخذ طعما من مرارة. و الأثل: شجر من فصيلة الطرفائيّات، يكثر قرب المياه في الأراضي الرمليّة.
2- أي: لم يشكرها.
3- الكهف: 32.

عاهة و لا هامّة، من البعوض و الذباب و البراغيث و العقارب و الحيّات.

و عن ابن زيد: كان الغريب إذا دخل بلدهم و في ثيابه قمّل و دوابّ ماتت.

و كانت تخرج المرأة و على رأسها المكتل، فتعمل بيديها، و تسير بين تلك الشجر، و يمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر، من غير أن تمسّ بيدها شيئا.

و قيل: إنّما كانت ثلاث عشرة قرية، في كلّ قرية نبيّ يدعوهم إلى اللّه سبحانه، يقول لهم: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ» الآية.

فَأَعْرَضُوا عن الحقّ، و لم يشكروا اللّه سبحانه، و لم يقبلوا ممّن دعاهم إلى اللّه من الأنبياء فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ سيل الأمر العرم، أي: الصعب.

من: عرم الرجل فهو عارم و عرم، إذا شرس (1) خلقه و صعب. أو المطر الشديد. أو الجرذ (2) الّذي نقب عليهم السكر. فأضاف إليه السيل من قبيل إضافة الشي ء إلى سببه.

روي: أنّ بلقيس ضربت لهم بسدّ ما بين الجبلين بالصخر و القار، فمنعت به ماء العيون و الأمطار، و تركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم.

فلمّا طغوا و كذّبوا رسلهم، سلّط اللّه على سدّهم الجرذ، فنقبه من أسفله فغرّقهم. أو المسنّاة الّتي عقدت سكرا، على أنّه جمع عرمة، و هي الحجارة المركومة (3).

و قيل: اسم واد جاء السيل من قبله، و كان ذلك بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ اللّتين فيهما أنواع الفواكه و الخيرات و البركات جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ صاحبتي ثمر مرّ بشع، فإنّ الخمط كلّ نبت أخذ طعما من مرارة، حتّى لا يمكن أكله. و قيل: الأراك، أو كلّ شجرة ذات شوك. و على

ص: 433


1- أي: ساء خلقه.
2- الجرذ: نوع من الفار. و السكر: ما سدّ به النهر.
3- أي: المتراكمة بعضها فوق بعض.

التقادير؛ المضاف مقدّر، تقديره: أكل أكل خمط، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، في كونه بدلا أو عطف بيان.

و قرأ أبو عمرو: أكل خمط، مضافا غير منوّن. و قرأ الحرميّان بتخفيف أكل.

وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ معطوفا على «أكل» لا على «خمط» فإنّ الأثل شجر يشبه الطرفاء، أعظم منه، و أجود عودا. و قيل: الطرفاء نفسه، و لا ثمر له. و وصف السدر بالقلّة، لأنّ جناه هو النبق ممّا يطيب أكله، و لذلك يغرس في البساتين. و تسمية البدل جنّتين للمشاكلة و التهكّم.

ذلِكَ أي: ما فعلنا بهم جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا بكفرانهم النعمة، أو بكفرهم بالرسل، إذ بعث إليهم ثلاثة عشر نبيّا فكذّبوهم. و تقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. وَ هَلْ نُجازِي بمثل ما فعلنا بهم إِلَّا الْكَفُورَ أي: مثل هذا الجزاء لا يستحقّه إلّا البليغ في الكفران أو الكفر. و هو العقاب العاجل.

و قيل: إنّ معناه: هل نجازي بجميع سيّئاته إلّا الكافر، لأنّه يحبط عمله، فيجازى بجميع ما يفعله من السوء.

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: نجازي بالنون، و «الكفور» بالنصب.

وَ جَعَلْنا أي: و قد كان من قصصهم أنّا جعلنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالتوسعة على أهلها. و هي قرى الشام، فإنّ متجرهم من أرض اليمن إلى الشام قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يظهر بعضها من بعض، لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو راكبة متن الطريق، ظاهرة لأبناء السبيل، لم تبعد عن مسالكهم حتّى تخفى عليهم.

وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ بحيث يقيل الغادي في قرية، و يبيت الرائح في قرية، إلى أن يبلغ الشام سِيرُوا فِيها على إرادة القول بلسان المقال أو الحال كما مرّ

ص: 434

لَيالِيَ وَ أَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار آمِنِينَ لا يختلف إلّا من فيها باختلاف الأوقات. أو سيروا فيها آمنين، و إن طالت مدّة سفركم فيها، و امتدّت أيّاما و ليالي. أو سيروا ليالي

أعماركم و أيّامها، لا تلقون فيها إلّا الأمن. و في هذا إشارة إلى تكامل نعمه عليهم السّلام في السفر، كما أنّه كذلك في الحضر.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم بطروا و أشروا النعمة و بغوا، و ما عرفوا قدر العافية، كبني إسرائيل سألوا البصل و الثوم، فقال:

فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا سألوا اللّه أن يجعل بينهم و بين الشام مفاوز و فلوات، ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل و تزوّد الأزواد، فعجّل اللّه لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسّطة.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: بعّد. و يعقوب «ربّنا» بالرفع، و «باعد» بلفظ الخبر، على أنّه شكوى منهم لبعد سفرهم، إفراطا في الترفّه، و عدم الاعتداد بما أنعم اللّه عليهم فيه.

وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث بطروا النعمة، و لم يعتدوا بها فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدّث الناس بهم تعجّبا.

و سبب التفريق على رواية الكلبي، عن أبي صالح قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر أنّ سدّ مأرب سيخرب، و أنّه سيأتي سيل العرم، فيخرب الجنّتين. و عرفت ذلك في كهانتها. فباع عمرو أمواله، و سار هو و قومه حتّى انتهوا إلى مكّة، فأقاموا بها و ما حولها، فأصابتهم الحمّى، و كانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمّى. فدعوا طريفة، فشكوا إليها الّذي أصابهم.

فقالت لهم: قد أصابني الّذي تشكون، و هو مفرّق بيننا.

قالوا: فما ذا تأمرين؟

قالت: من كان منكم ذا همّ بعيد، و جمل شديد، و مزاد جديد، فليلحق بقصر

ص: 435

عمان المشيد. و كانت الأزد.

ثمّ قالت: من كان منكم ذا جلد و قسر، و صبر على أزمات الدهر، فعليه بالأراك من بطن مرّ. و كانت خزاعة.

ثمّ قالت: من كان منكم يريد الراسيات (1) في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل. و كانت الأوس و الخزرج.

ثمّ قالت: من كان منكم يريد الخمر و الخمير، و الملك و التأمير، و ملابس التاج و الحرير، فليلحق ببصرى و غوير. و هما من أرض الشام. و كان الّذي سكنوها آل جفنة بن غسّان.

ثمّ قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق، و الخيل العتاق، و كنوز الأرزاق، و الدم المهراق، فليلحق بأرض العراق. و كان الّذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، و من كان بالحيرة و آل محرّق.

وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ و فرّقناهم غاية التفريق، حتّى لحق غسّان بالشام، و أنمار بيثرب، و جذام بتهامة، و الأزد بعمان.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر لَآياتٍ و عبر لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ على النعم.

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي: صدق في ظنّه. أو صدق يظنّ ظنّه، مثل: فعلته جهدك. و يجوز أن يعدّى الفعل إليه بنفسه، كما في: صدق وعده، لأنّه نوع من القول. و شدّد الكوفيّون، بمعنى: حقّق ظنّه، أو وجده صادقا.

و ذلك إمّا ظنّه بأهل سبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات. أو ببني آدم حين وجد آدم ضعيف العزم، و قد أصغى إلى وسوسته، فقال: إنّ ذرّيّته أضعف عزما منه، فظنّ بهم اتّباعه فقال: لأضلّنّهم و لأغوينّهم. و قيل: ظنّ ذلك عند إخبار اللّه

ص: 436


1- أي: النخل، من: رسا رسوّا: ثبت و رسخ. و المحل: الشدّة و الجدب و الجوع الشديد.

الملائكة أنّه يجعل فيها من يفسد فيها.

فَاتَّبَعُوهُ الضمير إمّا لأهل سبأ، أو لبني آدم إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلّا فريقا هم المؤمنون لم يتّبعوه. و تقليلهم بالإضافة إلى الكفّار، كما قال: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (1). وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (2).

أو إلّا فريقا من فرق المؤمنين لم يتّبعوه في العصيان. و هم المخلصون.

وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ على المتّبعين مِنْ سُلْطانٍ تسلّط و استيلاء بوسوسته و استغوائه، لا بإجباره إيّاهم على الغيّ و الضلال، لقوله تعالى: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي (3).

إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ إلّا ليتعلّق علمنا بذلك تعلّقا يترتّب عليه الجزاء. أو ليتميّز المؤمن من الشاكّ، فنعذّب من تابعه، و نثيب من خالفه. فعبّر عن التمييز بين الفريقين بالعلم. و هذا التمييز متجدّد، لأنّه لا يكون إلّا بعد وقوع ما يستحقّون به ذلك، و أمّا العلم فبخلاف ذلك، لأنّه سبحانه كان عالما بأحوالهم، و بما يكون منهم فيما لم يزل. فعلّل التسلّط بالعلم، و المراد ما تعلّق به العلم.

وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ محافظ عليه، لا يفوته شي ء من أحوالهم.

و فعيل و مفاعل متآخيان.

[سورة سبإ [34]: الآيات 22 الى 27]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ

ص: 437


1- الإسراء: 62.
2- الأعراف: 17.
3- إبراهيم: 22.

[22] وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [23] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [24] قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [25] قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [26]

قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27]

قُلِ للمشركين توبيخا و تهكّما و استخفافا ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: زعمتموهم آلهة. و هما مفعولا «زعم». حذف الأوّل لطول الموصول بصلته. و الثاني لقيام صفته مقامه. و لا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني، لأنّه لا يلتئم مع الضمير كلاما. و لا «لا يملكون» لأنّهم لا يزعمونه، و كيف يتكلّمون بما هو حجّة عليهم؟! و المعنى: ادعوهم فيما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ، ليستجيبوا لكم في ذلك، إن صحّ دعواكم. و لمّا دعوتموهم فلم يستجيبوا لكم، فكيف يصحّ أن يدعى كما يدعى اللّه، و يرجى كما يرجى.

ثمّ أجاب عنهم إشعارا بتعيّن الجواب، و أنّه لا يقبل المكابرة، فقال:

لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ زنة ذرّة من خير أو شرّ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي: في أمرهما. و ذكرهما للعموم العرفي. أو لأنّ آلهتهم بعضها سماويّة كالملائكة و الكواكب، و بعضها أرضيّة كالأصنام. أو لأنّ الأسباب القريبة للشرّ

ص: 438

و الخير سماويّة أو أرضيّة. و الجملة استئناف لبيان حالهم.

وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ من شركة، لا خلقا و لا ملكا وَ ما لَهُ ليس للّه سبحانه مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ معاون على خلق السماوات و الأرض و تدبيرهما، و لا على شي ء من الأشياء السماويّة و الأرضيّة.

وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ فلا تنفعهم الشفاعة أيضا كما يزعمون، إذ لا تنفع الشفاعة عند اللّه إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي: أذن له أن يشفع. و اللام كاللام في قولك:

الكرم لزيد، على معنى أنّه الشافع، و أنّه الكريم. أو أذن أنّه المشفوع له، لعلوّ شأنه عنده. كأنّه قيل: إلّا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله. فاللام

كاللام في: جئتك لزيد، أي: لأجل زيد. و هذا تكذيب لقولهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ (1). و قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (2).

و قرأ حمزة و أبو عمرو و الكسائي على البناء للمفعول (3).

و قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ غاية لما يفهم من هذا الكلام، من أنّ ثمّ توقّفا و انتظارا للإذن، أي: يتربّصون الشفاعة فزعين، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟

حتّى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين و المشفوع لهم بالإذن.

و قرأ ابن عامر و يعقوب: فزع، على البناء للفاعل، و هو اللّه تعالى.

قالُوا قال بعضهم لبعض ما ذا قالَ رَبُّكُمْ في الشفاعة قالُوا الْحَقَ قالوا: قال القول الحقّ و هو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. و هم المؤمنون. وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلوّ و الكبرياء، ليس لملك و لا نبيّ أن يتكلّم ذلك اليوم إلّا بإذنه.

ثمّ قال تقريرا لقوله: «لا يملكون»: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ

ص: 439


1- يونس: 18.
2- الزمر: 3.
3- أي: أذن.

وَ الْأَرْضِ ثمّ أمره بأن يتولّى الاجابة و الإقرار عنهم، فقال: قُلِ اللَّهُ أي: قل في الجواب: يرزقكم اللّه، إذ لا جواب سواه.

و فيه إشعار بأنّهم إن سكتوا عنادا، أو تلعثموا (1) في الجواب مخافة الإلزام، فهم مقرّون به بقلوبهم. يعني: أنّهم مع علمهم بصحّة ذلك قد أبوا أن يتكلّموا به، لأنّ الّذي تمكّن في صدورهم من العناد و حبّ الشرك، قد ألجم أفواهم عن النطق بالحقّ. و لأنّهم إن تفوّهوا بأنّ اللّه رازقهم، لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم، و تؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟! فكأنّهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة، و مرّة كانوا يتلعثمون عنادا، و حذرا من إلزام الحجّة.

وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ و إنّ أحد الفريقين، من الموحّدين المتوحّد بالرزق و القدرة الذاتيّة بالعباد، و المشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانيّة لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لعلى أحد الأمرين، من الهدى و الضلال الواضح. و هو بعد ما تقدّم من التقرير البليغ الدالّ على من هو على الهدى، و من هو في الضلال، أبلغ من التصريح، لأنّ هذا في صورة كلام المنصف المسكت للخصم المشاغب. و نحوه قول الرجل لصاحبه: قد علم اللّه الصادق منّي و منك، و إن أحدنا لكاذب. و منه بيت حسّان (2):

أ تهجوه و لست له بكف ء

فشرّكما لخيركما الفداء

و قيل: إنّه على اللفّ و النشر. و فيه نظر.

و اختلاف الحرفين، لأنّ صاحب الحقّ كأنّه مستعل على فرس جواد يركضه حيث يشاء، أو صاعد على منار ينظر الأشياء و يتطّلع عليها. و الضالّ كأنّه منغمس

ص: 440


1- تلعثم في الجواب: توقّف فيه و تأنّى.
2- ديوان حسّان (طبعة دار صادر): 9.

في ظلام مرتبك (1) فيه، لا يدري أين يتوجّه، أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصّى (2) منها.

قُلْ يا محمّد إذا لم ينقادوا للحجّة لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل كلّ إنسان يسأل عمّا يفعله، و يجازى على فعله، دون فعل غيره. و هذا أدخل في الإنصاف، و أبلغ في الإخبات (3) من الأوّل، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، و العمل إلى المخاطبين. و فيه دلالة على أنّ أحدا لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيره.

ثمّ أمر سبحانه أن يحاكمهم إلى اللّه، لإعراضهم عن الحجّة، فقال:

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ يحكم و يفصل بَيْنَنا

بِالْحَقِ بأن يدخل المحقّين الجنّة، و المبطلين النار وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الفصل في القضايا المغلقة الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضي به.

ثمّ استفسر عن شبهتهم، بعد إلزام الحجّة عليهم، زيادة في تبكيتهم، فقال:

قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ لأرى بأيّ صفة ألحقتموهم باللّه في استحقاق العبادة. أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء باللّه، و أن يقايس على أعينهم بينه و بين أصنامهم، ليطلعهم على إحالة القياس إليه، و الإشراك به.

كَلَّا ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة، كما قال إبراهيم: أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (4)، بعد ما حجّهم.

ص: 441


1- ارتبك في الأمر: وقع فيه، و لم يكد يتخلّص منه.
2- أي: يتخلّص.
3- أي: في التخشّع و الاطمينان.
4- الأنبياء: 67.

ثمّ نبّه على تفاحش غلطهم، و إن لم يقدّروا اللّه حقّ قدره، بقوله: بَلْ هُوَ بل اللّه، أو الشأن اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة، و كمال القدرة و الحكمة.

و هؤلاء الملحقون به متّسمون بالذلّة، متأبيّة عن قبول العلم و القدرة رأسا. فأين الّذين ألحقتم به شركاء من تلك الصفات الجليلة و السمات العليّة؟

[سورة سبإ [34]: الآيات 28 الى 30]

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [28] وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [29] قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ [30]

ثمّ بيّن سبحانه بنوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على وجه العموم بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إلّا إرسالة عامّة لهم كلّهم، العرب و العجم، و سائر الأمم، محيطة بهم إلى يوم القيامة. من الكفّ، فإنّها إذا عمّتهم و شملتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحد منهم.

و يؤيّده الحديث المرويّ عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعطيت خمسا، و لا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر و الأسود. و جعلت لي الأرض طهورا و مسجدا.

و أحلّ لي المغنم، و لم يحلّ لأحد قبلي. و نصرت بالرعب، فهو يسير أمامي مسيرة شهر. و أعطيت الشفاعة، فادّخرتها لأمّتي يوم القيامة».

أو إلّا جامعا لهم في الإبلاغ. فجعله حالا من الكاف. و التاء للمبالغة، كالراوية و العلّامة. و لا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار، لأنّ تقدّم حال المجرور عليه في الإحالة، بمنزلة تقدّم المجرور على الجارّ.

و عن ابن مسلم أنّ معناه: مانعا لهم عمّاهم عليه من الكفر و المعاصي، بالأمر و النهي، و الوعد و الوعيد.

ص: 442

بَشِيراً للمطيعين بالجنّة وَ نَذِيراً للعاصين بالنّار وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ رسالتك العامّة، لإعراضهم عن النظر في معجزتك، لفرط عنادهم و لجاجهم، فيحملهم جهلهم على مخالفتك.

وَ يَقُولُونَ من فرط جهلهم و عنادهم مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون المبشّر به و المنذر عنه. أو الموعود بقوله: «يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا». إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين.

قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم، أو زمان وعد. و إضافته إلى اليوم للتبيين، كما تقول: سحق (1) ثوب، و بعير سانية. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ أي: ليوم يفاجئكم، فلا تستطيعون تأخّرا عنه و لا تقدّما عليه. و هو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم، من التعنّت و الإنكار، لا الاسترشاد.

[سورة سبإ [34]: الآيات 31 الى 33]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ

مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [31] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [32] وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا

ص: 443


1- السحق: الثوب البالي. و السانية: الناقة يستقى عليها من البئر.

الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [33]

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في القيامة، فقال حكاية عنهم:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و لا بما تقدّمه من الكتب الدالّة على النعت. و قيل: «الّذي بين يديه» يوم القيامة.

روي: أنّ كفّار مكّة سألوا أهل الكتاب عن الرسول، فأخبروهم أنّهم يجدون نعته في كتبهم. فأغضبهم ذلك، و قرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب اللّه في الكفر. فبهذه الآية أخبر اللّه عن ذلك.

و المعنى: أنّهم جحدوا أن يكون القرآن من اللّه، أو أن تكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.

ثمّ أخبر عن عاقبة أمرهم و مآلهم في الآخرة، فقال لرسوله أو لمن شأنه التخاطب:

وَ لَوْ تَرى في الآخرة إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ محبوسون عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: في موضع المحاسبة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتحاورون و يتراجعون القول، لرأيت العجيب. فحذف الجواب.

ثمّ فصّل محاورتهم بقوله: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يقول الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للرؤساء لَوْ لا أَنْتُمْ لو لا إضلالكم و صدّكم إيّانا عن الإيمان لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ باتّباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أنّهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان، و أثبتوا أنّهم هم الّذين صدّوا بأنفسهم عنه، حيث أعرضوا عن الهدى، و آثروا التقليد عليه من

ص: 444

قبل اختيارهم. و لهذا بنوا الإنكار على الاسم، أعني: «نحن». كأنّهم قالوا: أ نحن أجبرناكم و حلنا بينكم و بين كونكم ممكّنين مختارين، بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان، و صحّت نيّاتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظّها، و آثرتم الضلال على الهدى، و أطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم، لا لقولنا و تسويلنا.

و اعلم أنّ قوله: «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» إلى هنا، لمّا كان جي ء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، فجي ء بكلام آخر للمستضعفين، و عطف على كلامهم الأوّل، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إضراب عن إضرابهم. و إضافة المكر إلى الظرف على الاتّساع. و المعنى: ما كان الإجرام الصادّ عن الإيمان من جهتنا، بل من جهة مكركم ليلا و نهارا، حتّى غلبتم على رأينا.

إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً دعوتموننا دائما إلى أن نجعل له شركاء في العبادة، و نجحد وحدانيّته.

وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي: أضمر الفريقان الندامة على الضلال و الإضلال، و أخفاها كلّ عن صاحبه مخافة التعيير. أو أظهروها، فإنّه من الأضداد، إذ الهمزة تصلح للإثبات و السلب.

وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: في أعناقهم. فجاء بالظاهر تنويها بذمّهم، و إشعارا بموجب أغلالهم. و عن ابن عبّاس: غلوّا بها في النيران. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لا يفعل بهم ما

يفعل إلّا جزاء على أعمالهم. و تعدية «يجزى» إمّا لتضمين معنى: يقضى، أو بنزع الخافض.

ص: 445

[سورة سبإ [34]: الآيات 34 الى 39]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [34] وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [35] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [36] وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [37] وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [38]

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [39]

ثمّ سلّى نبيّه ممّا مني (1) به من قومه من التكذيب و الكفر بما جاء به، و المنافسة بكثرة الأموال و الأولاد، و المفاخرة بالدنيا و زخارفها، و التكبّر بذلك على المؤمنين، و الاستهانة بهم من أجله، فقال:

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ من نبيّ مخوّف باللّه إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها جبابرتها المتنعّمون بزخارف الدنيا، و الانهماك في الشهوات، استهانة بمن لم يحظ منها.

ص: 446


1- أي: ابتلي به.

و لأجل توغّلهم في لذائذ النعمة، و الانهماك في الشهوات النفسانيّة، ضمّوا التهكّم و التفاخر إلى التكذيب، فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ

ثمّ صرّح بهذا المعنى، فقال: وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأنّه أكرمنا بذلك، فلا يهيننا بالعذاب.

فقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا، و اعتقدوا أنّهم لو لم يكرموا على اللّه تعالى لما رزقهم، و لو لا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم.

فأبطل اللّه حسبانهم، بأنّ الرزق فضل من اللّه، يقسّمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح و الحكم، فقال:

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ و يضيّق لمن يشاء، فربما وسّع على العاصي و ضيّق على المطيع، و ربما عكس، و ربما وسّع عليهما و ضيّق عليهما، فلا يقاس عليه أمر الثواب الّذي مبناه على الاستحقاق.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنّون أنّ كثرة الأموال و الأولاد لشرفهم و كرامتهم عند اللّه، و كثيرا ما يكون للاستدراج، كما قال: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قربة، فإنّه اسم للمصدر. و ذكر «الّتي» دون «اللائي» إمّا لأنّ المراد: و ما جماعة أموالكم و لا جماعة أولادكم. أو لأنّها صفة محذوف، كالخصلة.

إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول «تقرّبكم» أي: الأموال و الأولاد لا تقرّب أحدا إلّا المؤمن الصالح الّذي ينفق ماله في سبيل اللّه، و يفقّه ولده في الدين، و يعلّمه الخير.

فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ هذه الإضافة إضافة المصدر إلى المفعول.

و أصله: لهم أن يجاوزا الضعف إلى عشر فما فوقه، فإنّ الضعف اسم جنس يدلّ على القليل و الكثير.

ص: 447

و عن يعقوب: جزاء، بالنصب على التمييز، أو المصدر لفعله الّذي دلّ عليه «لهم». و «الضّعف» بالرفع على أنّه خبر.

بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ غرفات الجنّة. و هي البيوت فوق الأبنية.

آمِنُونَ من المكاره.

وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ يجتهدون فِي آياتِنا بالردّ و الطعن فيها مُعاجِزِينَ مسابقين لأنبيائنا، أو ظانّين أنّهم يفوتوننا أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ يوسّع عليه تارة، و يضيّق عليه اخرى. فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، و ما سبق في شخصين، فلا تكرير.

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و ما أخرجتم من أموالكم في وجوه البرّ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عوضا، إمّا عاجلا بالمال، أو آجلا بالثواب الّذي هو أفضل كلّ خلف وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنّ غيره وسط في إيصال رزقه، لا حقيقة لرازقيّته.

روى أبو هريرة عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ينادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت.

و ينادي مناد: ابنوا للخراب. و ينادي مناد: اللّهمّ هب للمنفق خلفا. و ينادي مناد:

اللّهمّ هب للممسك تلفا. و ينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا. و ينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا».

و عن جابر، عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أنفق المؤمن من نفقة فعلى اللّه خلفها ضامنا، إلّا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية».

[سورة سبإ [34]: الآيات 40 الى 42]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [40] قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ

ص: 448

بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [41] فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [42]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً المستكبرين و المستضعفين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريعا للمشركين، و تبكيتا لهم، و إقناطا لهم عمّا يتوقّعون من شفاعتهم، فإنّ ظاهر الكلام خطاب للملائكة، و المراد به تقريع الكفّار، وارد على المثل السائر: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة. و نحوه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي

وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1). و قد علم سبحانه كون الملائكة و عيسى منزّهين، برآء ممّا وجّه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير.

و الغرض منه أن يقول و يقولوا، و يسأل و يجيبوا، ليكون تقريعهم أشدّ، و تعييرهم أبلغ، و خجلهم أعظم، و هوانهم ألزم. و يكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، و زاجرا لمن اقتصّ عليه.

و تخصيص الملائكة، لأنّهم أشرف شركائهم، و الصالحون للخطاب منهم.

و لأنّ عبادتهم مبدأ الشرك و أصله. و قرأ حفص بالياء فيهما (2).

قالُوا سُبْحانَكَ تنزيها لك عن أن يعبد سواك، و يتّخذ معك معبود غيرك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أنت الّذي نواليه من دونهم، لا موالاة بيننا و بينهم. فبيّنوا بإثبات موالاة اللّه و معاداة الكفّار، براءتهم من الرضا بعبادتهم.

ثمّ أضربوا عن ذلك، و نفوا أنّهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ أي: الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير اللّه، و صوّرت لهم

ص: 449


1- المائدة: 116.
2- أي: يحشرهم ... يقول.

الشياطين صور قوم من الجنّ، و قالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. و قيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها.

أَكْثَرُهُمْ أكثر الناس، أو أكثر المشركين. و الأكثر بمعنى الكلّ. بِهِمْ بالجنّ مُؤْمِنُونَ

ثمّ يقول سبحانه: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ يعني: العابدين و المعبودين نَفْعاً بالشفاعة وَ لا ضَرًّا بالتعذيب، إذ الأمر فيه كلّه له، لأنّ الدار دار الجزاء، و هو المجازي وحده.

ثمّ ذكر معاقبة الظالمين، فقال عطفا على «لا يملك، مبينا»، للمقصود من تمهيده: وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ

[سورة سبإ [34]: الآيات 43 الى 45]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما

هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [43] وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [44] وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [45]

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن حال الكفّار، فقال: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ يمنعكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيستنبعكم بما يستبدعه وَ قالُوا ما هذا يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب، لعدم مطابقة ما فيه الواقع مُفْتَرىً يفتريه على اللّه سبحانه.

ص: 450

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر النبوّة كلّه، أو للقرآن. و الأوّل باعتبار معناه، و هذا باعتبار لفظه و إعجازه. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريّته.

و في تكرير الفعل، و التصريح بذكر الكفرة، و ما في اللامين من الإشارة إلى القائلين و المقول فيه، و ما في «لمّا» من المبادهة (1) إلى البتّ بهذا القول، إنكار عظيم، و تعجيب بليغ منه. كأنّه قال: أولئك الكفرة المتمرّدون بجرئتهم على اللّه، و مكابرتهم لمثل ذلك الحقّ النيّر، ما هذا إلّا سحر بيّن، ظاهر على كلّ عاقل.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم لم يقولوا ذلك عن بيّنة، فقال: وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فيها برهان على صحّة الإشراك وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه، و ينذرهم على تركه، كما قال عزّ و جلّ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (2). فقد بان أن لا وجه لهم في الإشراك، فمن أين حكموا بصحّته؟ و هذا في غاية التجهيل لهم، و التسفيه لرأيهم.

ثمّ هدّدهم على تكذيبهم، فقال: وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما كذّبوا وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ و ما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوّة و طول العمر و كثرة المال. أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البيّنات و الهدى. و المعشار بمعنى العشر، كالمرباع بمعنى الربع.

فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فحين كذّبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير و الاستئصال، و لم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون، فكيف كان نكيري لهم؟ فليحذر هؤلاء من مثله. و لا تكرير في «كذّب»، لأنّ الأوّل للتكثير، و الثاني للتكذيب. أو الأوّل مطلق، و الثاني مقيّد. و لذلك عطف عليها بالفاء. و نظيره أن يقول القائل: فلان أقدم على الكفر فكفر بمحمد.

ص: 451


1- المبادهة: المفاجأة و المباغتة.
2- الروم: 35.

[سورة سبإ [34]: الآيات 46 الى 54]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [46] قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [47] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [48] قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ [49] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [50]

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [51] وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [52] وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [53] وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [54]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ أرشدكم و أنصح لكم بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة. و هي ما فسّرها بقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي: القيام من مجلس رسول اللّه و تفرّقهم عن مجتمعهم عنده. و ليس المراد القيام على القدمين، و لكن الانتصاب في الأمر و النهوض فيه بالهمّة، خالصا لوجه اللّه، معرضا عن المراء و التقليد. و محلّه الجرّ

ص: 452

على البدل أو البيان، أو الرفع بإضمار: هو، أو النصب بإضمار: أعني.

مَثْنى وَ فُرادى متفرّقين اثنين اثنين، و واحدا واحدا، فإنّ الازدحام ممّا يشوّش الخاطر، و يخلّط القول، و يثير عجاج التعصّب. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمّد و ما جاء به.

أمّا الاثنان: فيتفكّران و يعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه، و ينظران فيه نظر متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتّباع هوى، و لا ينبض لهما عرق عصبيّة، حتّى يهجم بهما الفكر الصالح و النظر الصحيح على جادّة الحقّ و سننه.

و أمّا المتفرّد فيفكّر في نفسه بعدل و نصفة، من غير أن يكابرها، و يعرض فكره على عقله و ذهنه، و ما استقرّ عنده من عادات العقلاء و مجاري أحوالهم.

فعند ذلك تعلموا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ما به من جنون يحمله على ذلك، بل تعلموا عند تفكّركم في أمره أنّه أرجح قريش عقلا، و أرزنهم (1) حلما، و أثقبهم ذهنا، و أصدقهم قولا، و أنزههم نفسا. كيف و قد انضمّ إليه معجزات كثيرة.

و يجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا، تنبيها من اللّه على طريقة النظر في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: «ما» استفهاميّة. و المعنى: ثمّ تتفكّروا أيّ شي ء به من آثار الجنون.

إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قدّامه، لأنّه مبعوث في نسم الساعة، حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بعثت في نسم (2) الساعة».

قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أيّ شي ء سألتكم من أجر الرسالة فَهُوَ لَكُمْ

ص: 453


1- أي: أوقرهم. من: رزن رزانة: وقر.
2- نسم الريح: أوّلها حين تقبل بلين قبل أن تشتدّ. و «بعثت في نسم الساعة» أي: حين ابتدأت و أقبلت أوائلها.

و المراد نفي السؤال عنه، فإنّه جعل التنبي ء مستلزما لأحد الأمرين: إمّا الجنون، و إمّا توقّع نفع دنيويّ عليه، لأنّه إمّا أن يكون لغرض. أو لغيره، و أيّا ما كان يلزم أحدهما. ثمّ نفى كلّا منهما.

و قيل: «ما» موصولة. و أراد ما سألهم بقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (1) لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (2).

و اتّخاذ السبيل و مودّة أهل البيت ينفعان لهم، فلا ينافي قوله: «فهو لكم».

إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ مطّلع، يعلم صدقي و خلوص نيّتي، في أنّي لا أطلب الأجر على نصيحتكم و دعائكم إليه إلّا منه، و لا أطمع منكم في شي ء.

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و أبو بكر بإسكان الياء.

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ أصل القذف: تزجية (3) السهم و نحوه بدفع و اعتماد، ثمّ يستعار لمعنى الإلقاء بقوّة. و منه وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ (4). أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ (5). و المعنى: ربّي يلقيه و ينزّله على من يجتبيه من عباده. أو يرمي به الباطل فيدمغه. أو يرمي به إلى أقطار الآفاق. فيكون وعدا بإظهار الإسلام و إفشائه.

عَلَّامُ الْغُيُوبِ صفة محمولة على محلّ «إنّ» و اسمها. أو بدل من المستكن في «يقذف». أو خبر ثان. أو خبر محذوف، أي: هو علّام جميع

ص: 454


1- الفرقان: 57.
2- الشورى: 23.
3- زجّى تزجية الشي ء: دفعه برفق.
4- الأحزاب: 26.
5- طه: 39.

الخفيّات، و ما غاب من خلقه في الأرضين و السماوات.

قُلْ جاءَ الْحَقُ أي: الإسلام. و عن ابن مسعود: الجهاد بالسيف. وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ و هلك الباطل، و هو الشرك، بحيث لم يبق له أثر. و هذا مثل لهلاك الشي ء، فإنّه إذا هلك لم يبق له إبداء و لا إعادة.

و قيل: الباطل إبليس أو الصنم. و المعنى: لا ينشئ خلقا و لا يعيده. أو لا يبدئ خيرا لأهله و لا يعيده، أي: لا ينفعهم في الدنيا و الآخرة.

و قيل: «ما» استفهاميّة منتصبة بما بعدها. و المعنى: أيّ شي ء يبدئ إبليس أو الصنم، و أيّ شي ء يعيد؟!

عن ابن مسعود: دخل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكّة و حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فجعل يطعنها بعود نبعة (1) في يده و يقول: جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (2). «جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ».

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحقّ كما تدعون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي: فإنّما يرجع و بال ضلالي عليها، فإنّه بسببها، و هي الجاهلة بالذات، و الأمّارة بالسوء، بخلاف ما لها ممّا ينفعها، فإنّه بهداية ربّها و توفيقه. و بهذا الاعتبار قابل الشرطيّة بقوله: وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحقّ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي: فبهدايته و توفيقه، حيث أوحى إليّ، فله المنّة بذلك عليّ.

فلا يقال: أين التقابل بين قوله: «فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» و قوله: «فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي». و إنّما كان يستقيم أن يقال: فإنّما أضلّ على نفسي، و إن اهتديت فإنّما اهتدي لها. كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها (3)

ص: 455


1- النبعة: شجرة تتخذ منها السهام و القسي.
2- الإسراء: 81.
3- فصلت: 46.

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها (1). أو يقال: فإنّما أضلّ بنفسي.

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كلّ ضالّ و مهتد، و فعله و إن أخفاه.

و إنّما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه، لأنّ الرسول إذا دخل تحته، مع جلالة محلّه و سداد طريقته، كان غيره أولى به.

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا عند الموت، إذا عاينوا ملائكة العذاب لقبض أرواحهم. أو عند البعث حين يشاهدون العذاب. أو يوم بدر حين ضربت أعناقهم، فلم يستطيعوا فرارا من العذاب.

و جواب «لو» محذوف، يدلّ الكلام عليه. و التقدير: لرأيت أمرا فظيعا، أو حالا هائلة.

و «لو» و «إذ» و الأفعال الّتي هي «فزعوا» و «أخذوا» و حِيلَ بَيْنَهُمْ (2) كلّها للمضيّ، و المراد بها الاستقبال، لأنّ ما اللّه فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان و وجد، لتحقّقه. فكأنّه قال: و إذ ترى حين يفزعون.

فَلا فَوْتَ فلا يفوتون اللّه بهرب أو تحصّن.

و عن ابن عبّاس:

نزلت في خسف البيداء. و ذلك أنّ ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم.

و هذا مرويّ عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين، و الحسن بن الحسن بن عليّ عليه السّلام.

وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من ظهر الأرض إلى بطنها. و قيل: من الموقف إلى

ص: 456


1- الإسراء: 15.
2- سبأ: 54.

النار. و قيل: من صحراء بدر إلى القليب (1). أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم.

و العطف على «فزعوا»، أي: فزعوا و أخذوا فلا فوت لهم. أو على «لا فوت» على معنى: إذ فزعوا فلم يفوتوا و أخذوا.

وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي: بمحمّد، لمرور ذكره في قوله: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ (2). وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي: و من أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ فإنّ التناول و التناوش أخوان، إلّا أنّ التناوش تناول سهل لشي ء قريب.

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنّه في حيّز التكليف، و قد بعد عنهم حين مشاهدة العذاب، لأنّها وقت ارتفاع التكليف الاختياري.

و هذا تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم أو انه و بعد عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشي ء من غلوة (3) كما يتناوله من ذراع، في الاستحالة.

و قرأ أبو عمرو و الكوفيّون غير حفص بالهمز (4)، على قلب الواو، لضمّتها. أو لأنّه من: نأشت الشي ء إذا طلبته. أو من: نأشت إذا تأخّرت. فيكون بمعنى التناول من بعد.

وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو بالعذاب مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك أوان التكليف وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ و يرجمون بالظنّ، و يتكلّمون بما لم يظهر لهم في الرسول من المطاعن، من أنّه ساحر شاعر كذّاب، لأنّهم لم يشاهدوا منه سحرا، و لا شعرا، و لا كذبا. أو في العذاب، من البتّ على نفيه. يقولون: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما

ص: 457


1- القليب: البئر. و قيل: البئر القديمة.
2- سبأ: 46.
3- الغلوة: الغاية. و هي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه.
4- أي: التناؤش.

تُوعَدُونَ (1) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (2).

و قد أتوا بهذا الغيب مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جانب بعيد من أمره، كالشي ء يرمى من موضع بعيد المرمى. و العطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية.

يعني: و كانوا يتكلّمون بالغيب و يأتون به من مكان بعيد. أو على «قالوا»، فيكون تمثيلا لحالهم في تحصيل ما ضيّعوه من الإيمان في الدنيا، بحال القاذف الّذي يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد، لا يكون مجال للظنّ في لحوقه.

وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ و فرّق بينهم و بين مشتهياتهم، من نفع الإيمان، و النجاة به من النيران كَما فُعِلَ مثل ذلك بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة.

إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ من البعث مُرِيبٍ موقع في الريبة. أو ذي ريبة.

من: أرابه، إذا أوقعه في الريبة و التهمة. فهو منقول من المشكّك، فكأنّه قال: في شكّ مشكّك. أو من: أراب الرجل، إذا صار ذا ريبة، و دخل فيها. منقول من صاحب الشكّ إلى الشكّ، أي: شكّ شاكّ، كما تقول: شعر شاعر، و عجب عجيب.

و كلا التقديرين مجاز.

ص: 458


1- المؤمنون: 36.
2- سبأ: 35.

[35] سورة فاطر

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة، أن أدخل من أيّ الأبواب شئت».

[سورة فاطر [35]: الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [1] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [2]

و لمّا ختم اللّه سبحانه السورة المتقدّمة بالردّ على أهل الشرك و الشكّ و العنود، افتتح هذه السورة بذكر كمال قدرته، و وحدانيّته، و دلائل التوحيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبتدئهما و مبتدئهما. من الفطر بمعنى الشقّ، كأنّه شقّ العدم بإخراجهما منه. عن مجاهد، عن

ص: 459

ابن عبّاس: ما كنت أدري ما فاطر السماوات و الأرض، حتّى اختصم إليّ أعرابيّان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها و شققتها. و الإضافة معنويّة، لأنّه بمعنى الماضي.

جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وسائط بين اللّه تعالى و بين أنبيائه و الصالحين من عباده، يبلّغون إليهم رسالاته بالوحي و الإلهام و الرؤيا الصادقة. أو بينه و بين خلقه، يوصلون إليهم آثار صنعه.

أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ أي: ذوي أجنحة متعدّدة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها و يعرجون. أو يسرعون بها نحو ما وكلّهم اللّه عليه، فيتصرّفون فيه على ما أمرهم به. و لم يرد به خصوصيّة الأعداد، و نفي ما زاد عليها. و في رواية: أنّ صنفا من الملائكة لهم ستّة أجنحة، فجناحان يلفّون بهما أجسادهم، و جناحان يطيرون بهما في أمر من أمور اللّه، و جناحان مرخيان على وجوههم حياء من اللّه.

و عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج، و له ستّمائة جناح».

و روي: «أنّه سأل جبرئيل عليه السّلام أن يتراءى له في صورته. فقال له: إنّك لن تطيق ذلك. قال: إنّي قد أحبّ أن تفعل. فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ليلة مقمرة، فأتاه جبرئيل في صورته، فغشى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ أفاق و جبرئيل مسنده، و إحدى يديه على صدره، و الاخرى بين كتفيه. فقال: سبحان اللّه ما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا. فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل؟ له اثنا عشر جناحا، جناح منها بالمشرق، و جناح بالمغرب، و إنّ العرش على كاهله (1)، و إنّه ليتضاءل الأحانين لعظمة اللّه، حتّى يعود مثل الوصع، و هو العصفور الصغير».

يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ استئناف للدلالة على أنّ تفاوتهم في ذلك

ص: 460


1- الكاهل: أعلى الظهر ممّا يلي العنق.

بمقتضى مشيئته، و مؤدّى حكمته، لا أمر تستدعيه ذواتهم، لأنّ اختلاف الأصناف و الأنواع بالخواصّ و الفصول، إن كان لذواتهم المشتركة، لزم تنافي لوازم الأمور المتّفقة، و هو محال.

و الآية متناولة زيادات الصور و المعاني، كملاحة الوجه، و حسن الصوت، و حصافة (1) العقل، و سماحة النفس، و قوّة البطش، و جزالة الرأي، و جرأة القلب، و ذلاقة (2) اللسان، و ما أشبه ذلك ممّا لا يحيط به الوصف.

و روي عنه عليه السّلام في قوله: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ»: «الوجه

الحسن، و الصوت الحسن، و الشعر الحسن».

و قيل: الخطّ الحسن. و عن قتادة: هو الملاحة في العينين. و الأولى التعميم.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و تخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض، إنّما هو من جهة الإرادة.

ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ ما يطلق لهم و يرسل. و هو تجوّز من باب إطلاق السبب على المسبّب. مِنْ رَحْمَةٍ رزق، و أمن، و صحّة، و علم، و نبوّة، و غير ذلك من صنوف نعمائه الّتي لا يحاط بعددها. و تنكير الرحمة للإشاعة و الإبهام، كأنّه قال: من أيّة رحمة كانت، سماويّة أو أرضيّة. فَلا مُمْسِكَ لَها فلا أحد يقدر على إمساكها و حبسها.

وَ ما يُمْسِكْ و أيّ شي ء يمسك اللّه فَلا مُرْسِلَ لَهُ فلا أحد يقدر على إطلاقه. و يدلّ على أنّ الفتح مستعار للإطلاق و الإرسال أنّه قال: فلا مرسل له من بعده، مكان: لا فاتح له. و اختلاف الضميرين، لأنّ الموصول الأوّل مفسّر بالرحمة، فحسن اتّباع الضمير التفسير، و الثاني مطلق يتناولها و الغضب، فترك على أصل

ص: 461


1- حصف حصافة: كان جيّد الرأي محكم العقل.
2- لسان ذلق: طلق ذو حدّة.

التذكير. و إنّما فسّر الأوّل دون الثاني، للدلالة على أنّ رحمته سبقت غضبه. مِنْ بَعْدِهِ من بعد إرساله.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على ما يشاء من الإرسال و الإمساك، و ليس لأحد أن ينازعه فيه الْحَكِيمُ لا يفعل الإمساك و الإرسال إلّا بما تقتضي الحكمة.

[سورة فاطر [35]: آية 3]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [3]

و لمّا بيّن أنّه الموجد للملك و الملكوت، و المتصرّف فيهما على الإطلاق، أمر الناس بشكر إنعامه، فقال:

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الظاهرة و الباطنة، الّتي من جملتها أنّه خلقكم و أحياكم و أقدركم، و خلق لكم أنواع الملاذّ و المنافع. و ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، و لكن به و بالاعتراف بها، و طاعة موليها. و منه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أيادّي عندك. يريد حفظها و شكرها، و العمل على موجبها. فالمعنى: احفظوها بمعرفة حقّها، و الاعتراف بها، و طاعة معطيها.

و الخطاب عامّ للجميع، لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة اللّه.

و عن ابن عبّاس يريد: يا أهل مكّة اذكروا نعمة اللّه عليكم، حيث أسكنكم حرمه، و متّعكم من جميع العالم، و الناس يتخطّفون من حولكم. و عنه: نعمة اللّه:

العافية.

ثمّ أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل، فيستحقّ أن يشرك به، فقال:

هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَ الْأَرْضِ بالنبات و لذلك عقّبه بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فمن أيّ وجه تصرفون عن التوحيد إلى الكفر و إشراك غيره به؟ يعني به قريش.

ص: 462

و رفع «غير» للحمل على محلّ «من خالق» بأنّه وصف أو بدل، و الاستفهام بمعنى النفي. أو أنّه فاعل «خالق». و جرّه حمزة و الكسائي حملا على لفظه.

و «يرزقكم» صفة ل «خالق» أو استئناف مفسّر له، أو كلام مبتدأ. و على الأخير لا يطلق «الخالق» على غير اللّه تعالى. و أمّا على الوجهين الآخرين- أعني:

الوصف و التفسير- فقد تقيّد فيهما بالرزق من السماء و الأرض، و خرج من الإطلاق.

و «لا إله إلّا هو» جملة مفصولة لا محلّ لها. و لو وصلتها كما وصلت «يرزقكم» لم يساعد عليه المعنى، لأنّ قولك: هل من خالق آخر سوى

اللّه لا إله إلّا ذلك الخالق، غير مستقيم، لأنّ قولك: هل من خالق سوى اللّه إثبات للّه، فلو ذهبت تقول ذلك، كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات.

[سورة فاطر [35]: الآيات 4 الى 8]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [4] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [5] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [6] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ [7] أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [8]

ص: 463

ثمّ نعى اللّه سبحانه على قريش سوء تلقّيهم لآيات اللّه، و تكذيبهم بها، و سلّى رسوله بأنّ له في الأنبياء أسوة حسنة. ثمّ جاء بما يشتمل على الوعد و الوعيد، من رجوع الأمور إلى حكمه، و مجازاة المكذّب و المكذّب بما يستحقّانه، فقال:

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أي: فتأسّ بهم في الصبر على تكذيبهم. فوضع «فقد كذّبت» موضعه، استغناء بالسبب عن المسبّب، أعني:

بالتكذيب عن التأسّي.

و تنكير «رسل» للتعظيم المقتضي زيادة التسلية، و الحثّ على المصابرة. كأنّه قال: فقد كذّبت رسل، أي: رسل ذو عدد كثير، و أولو آيات و نذر، و أهل أعمار طوال، و أصحاب صبر و عزم، و ما أشبه ذلك. فهذا أسلى له، و أحثّ على المصابرة.

وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيجازيك و إيّاهم على الصبر و التكذيب.

ثمّ خاطب العباد فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالحشر، و الجزاء

بالثواب و العقاب حَقٌ لا خلف فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فلا يخدعنّكم الدنيا، و لا يذهلنّكم التمتّع بها، و التلذّذ بمنافعها عن العمل للآخرة، و طلب ما عند اللّه و السعي لها.

وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان الّذي عادته أن يغرّكم، بأن يمنّيكم المغفرة، مع الإصرار على المعصية، فيقول لكم: إنّ اللّه غفور، يغفر كلّ كبير و صغير، و يعفو عن كلّ خطيئة، فإنّها و إن أمكنت، لكنّ الذنب بهذا التوقّع كتناول السمّ اعتمادا على دفع الطبيعة.

ثمّ حذّرهم عن الشيطان بقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة قديمة عامّة فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في عقائدكم و أفعالكم، و كونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.

ثمّ وعد لمن أجاب دعاءه، و وعّد لمن خالفه، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ

ص: 464

شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ.

ثمّ كشف الغطاء، و قشر اللحاء، ليقطع الأطماع الفارغة و الأماني الكاذبة، فبنى الأمر كلّه على الإيمان و العمل و تركهما، بعد أن ذكر الفريقين: الّذين كفروا و الّذين آمنوا، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بأن غلب وهمه و هواه على عقله، حتّى انتكس رأيه فَرَآهُ حَسَناً فرأى الباطل حقّا، و القبيح حسنا، كمن لم يزيّن له، بل وفّق بعد استرشاده و استصوابه، حتّى عرف الحقّ، و استحسن الأعمال و استقبحها على ما هي عليه. فحذف الجواب، لأنّه دلّ عليه قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.

و معنى تزيين العمل و الإضلال واحد، و هو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح، من الإنكار و الجحود و اللجاج، بعد ظهور الحقّ عليه، حتّى يستوجب بذلك خذلان اللّه تعالى و تخليته و شأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال، و يطلق آمر النّهى (1)، و يعتنق طاعة الهوى، حتّى يرى القبيح حسنا و الحسن قبيحا، كأنّما غلب على عقله، و سلب تمييزه.

و قيل: تقديره: أ فمن زيّن له سوء عمله، ذهبت نفسك عليهم حسرات؟

فحذف الجواب لدلالة فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ عليه. و معناه: فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيّهم و إصرارهم على التكذيب.

و الفاءات الثلاث للسببيّة، غير أنّ الأوليين دخلتا على السبب، و الثالثة دخلت على المسبّب.

و جمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم، أو على كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسّف.

ص: 465


1- النّهي: العقل. سمّي به لأنّه ينهى عن القبيح و عن كلّ ما ينافي العقل.

و «عليهم» ليست صلة لها، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّمه، بل صلة «تذهب»، أو بيان للمتحسّر عليه.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه. و هذا وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

[سورة فاطر [35]: آية 9]

وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ [9]

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر أدلّة التوحيد، فقال: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: الريح. فَتُثِيرُ سَحاباً على حكاية الحال الماضية، استحضارا لتلك الصورة البديعة، الدالّة على كمال القدرة الربّانيّة، و الحكمة البالغة الإلهيّة. و لأنّ المراد بيان إحداثها بهذه الخاصّيّة، و لذلك أسنده إليها.

فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ جدب لم يمطر فيمطر على ذلك البلد فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بالمطر النازل منه. أو بالسحاب، فإنّه سبب السبب. بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها. و العدول فيهما

من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص و أدلّ عليه، لما فيهما من مزيد الصنع.

كَذلِكَ النُّشُورُ الكاف في محلّ الرفع، أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات، في صحّة المقدوريّة، إذ ليس بينهما إلّا احتمال اختلاف المادّة في المقيس و المقيس عليه، و ذلك لا مدخل له فيها.

و روي: أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف يحيي اللّه الموتى؟ و ما آية ذلك في خلقه؟ فقال: هل مررت بوادي أهلك محلا (1)، ثمّ مررت به يهتزّ خضرا؟ قال: نعم.

ص: 466


1- واد محل أي: جدب. و المحل: الجدب، و انقطاع المطر، و يبس الأرض.

قال: فكذلك يحيي اللّه الموتى، و تلك آيته في خلقه».

و قيل في كيفيّة الإحياء: إنّه تعالى يرسل ماء من تحت العرش كمنيّ الرجال، فتنبت منه أجساد الخلق.

[سورة فاطر [35]: آية 10]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [10]

روي: أنّ الكفّار كانوا يتعزّزون بالأصنام، كما قال عزّ و جلّ: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (1). و الّذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعزّزون بالمشركين، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (2). فبيّن أن لا عزّة إلّا للّه و لأوليائه. و قال: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (3).

و هاهنا قال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الشرف و المنعة فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي: فليطلبها من عنده، فإنّ العزّة في الدنيا و الآخرة كلّها مختصّة به. فوضع قوله:

«فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» موضعه، استغناء به عنه، لدلالته عليه، لأنّ الشي ء لا يطلب إلّا عند صاحبه و مالكه. و نظيره قولك: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار. تريد:

فليطلبها عندهم، إلّا أنّك أقمت ما يدلّ عليه مقامه.

ص: 467


1- مريم: 81.
2- النساء: 139.
3- المنافقون: 8.

و المعنى: من أراد العزّة فليتعزّز بطاعة اللّه، فإنّ اللّه تعالى يعزّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».

ثمّ عرّف أنّ ما تطلب به العزّة هو الإيمان و العمل الصالح بقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ و هو كلمة التوحيد وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الضمير المستكن للكلم، فإنّ العمل الصالح لا يقبل إلّا بالتوحيد. و صعودهما إليه مجاز عن قبوله إيّاهما، فإنّ كلّ ما يتقبّله اللّه سبحانه من الطاعات، يكتبه الملائكة إلى حيث شاء اللّه.

و قيل: الكلم الطيّب يتناول جميع أقسام الذكر، من التكبير، و التسبيح و التهليل و التحميد، و غيرها، من قراءة القرآن و الدعاء و الاستغفار.

و عنه عليه السّلام: «هو: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر. إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء، فحيّا بها وجه الرحمن. و إذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه».

و في الحديث: «لا يقبل اللّه قولا إلّا بعمل، و لا يقبل قولا و لا عملا إلّا بنيّة، و لا يقبل قولا و عملا و نيّة إلّا بإصابة السنّة».

و كذا نقل عن ابن عبّاس أنّ معنى الآية: إنّ هذه الكلم لا تقبل، و لا تصعد إلى السماء، فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة، كما قال عزّ و جلّ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (1) إلّا إذا اقترن بها العمل الصالح الّذي يحقّقها و يصدّقها، فرفعها و أصعدها.

و عن ابن المقفّع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، و سحاب بلا مطر.

وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي: المكرات السيّئات. فالسيّئات صفة للمصدر، لا أنّه مفعول به، لأنّ المكر غير متعدّ، فلا يقال: مكر فلان عمله. و عنى

ص: 468


1- المطفّفين: 18.

بها مكرات قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دار الندوة، و تداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات: حبسه، و قتله، و إجلائه، كما قال اللّه تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (1).

لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يؤبه دونه بما يمكرون به وَ مَكْرُ أُولئِكَ الّذين مكروا المكرات الثلاث هُوَ يَبُورُ يكسد و لا ينفد، دون مكر اللّه بهم حين أخرجهم من مكّة و قتلهم، و أثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعا، و حقّق عليهم قوله: وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (2) و قوله: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (3).

[سورة فاطر [35]: الآيات 11 الى 14]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [11] وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [12] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ

ص: 469


1- الأنفال: 30.
2- الأنفال: 30.
3- فاطر: 43.

مِنْ قِطْمِيرٍ [13] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [14]

ثمّ نسق سبحانه على ما تقدّم من دلائل التوحيد، فقال: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ بخلق آدم منه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ بخلق ذرّيّته منها ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرانا و إناثا. و عن قتادة: زوّج بعضكم بعضا.

وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلّا معلومة له. و الجارّ و المجرور في موضع الحال.

وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: و ما يعمّر من أحد. فسمّاه معمّرا بما هو صائر إليه، كأنّه قال: و ما يمدّ في عمر من مصيره إلى الكبر.

وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ من عمر المعمّر لغيره، بأن يعطى له عمر ناقص من عمره. أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره، بجعله ناقصا. و الضمير له و إن لم يذكر، لدلالة مقابله عليه. أو للمعمّر على التسامح فيه، ثقة بأفهام السامعين، و اتّكالا على تسديدهم معناه بعقولهم، و أنّه لا يلتبس عليهم إحالة الطول و القصر في عمر واحد. و عليه كلام العرب العرباء يقولون: لا يثيب اللّه عبدا و لا يعاقبه إلّا بحقّ.

فعلى هذا التوجيه لا يرد: أنّ الإنسان إمّا معمّر- أي: طويل العمر- أو منقوص العمر، أي: قصيره. فإمّا أن يتعاقب عليه التعمير، و خلافه محال. فكيف يصحّ قوله: «وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ»؟

و قيل: الزيادة و النقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة، أثبتت في اللوح. مثل أن يكون فيه: إن حجّ زيد فعمره ستّون سنة، و إلّا فأربعون. فقد نقص من عمره الّذي هو الغاية، و هو الستّون. و إليه

أشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: «إنّ

ص: 470

الصدقة و الصلة تعمران الديار، و تزيدان في الأعمار».

و عن سعيد بن جبير: يكتب في الصحيفة: عمره كذا و كذا سنة. ثمّ يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتّى يأتي على آخر عمره.

و عن قتادة: المعمّر من بلغ ستّين، و المنقوص من عمره من يموت قبله.

و قيل: المراد بالنقصان ما يمرّ من عمره و ينقص، فإنّه يكتب في صحيفة عمره يوما فيوما. فالنقصان على ثلاثة أوجه: إمّا أن يكون من عمر المعمّر، أو من عمر معمّر آخر، أو يكون بشرط.

و عن يعقوب: و لا ينقص، على بناء الفاعل، أي: و لا ينقص اللّه من عمره.

إِلَّا فِي كِتابٍ في علم اللّه، أو اللوح، أو صحيفة الإنسان إِنَّ ذلِكَ إشارة إلى الحفظ، أو الزيادة، أو النقص عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل، غير متعذّر و لا متعسّر.

ثمّ ضرب البحرين- العذب و المالح- مثلين للمؤمن و الكافر، فقال:

وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ و هو الّذي يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ و هو الّذي يسهل انحداره لعذوبته وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ و هو الّذي يحرق بشدّة ملوحته.

ثمّ قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين، و ما فيهما من النعم العظيمة:

وَ مِنْ كُلٍ و من كلّ واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا و هو السمك وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها و هي اللؤلؤ و المرجان.

و يحتمل أن يحمل هذا على غير طريقة الاستطراد، بأن يجعل من تتمّة التمثيل، فيشبّه الجنسين بالبحرين، ثمّ يفضّل البحر الأجاج على

الكافر، بأنّه قد شارك العذب في منافع، من السمك و اللؤلؤ و جري الفلك فيه، و الكافر خلو من النفع. فهو في طريقة قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً». ثم قال: «وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ

ص: 471

مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (1).

وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ في كلّ من البحرين مَواخِرَ شواقّ للماء بجريها.

يقال: مخرت السفينة الماء. و يقال للسحاب: نبات مخر، لأنّها تمخر الهواء. و قريب من المخر السفن، الّذي اشتقّت منه السفينة، لأنّها تسفن الماء، كأنّها تقشره كما تمخره.

لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من فضل اللّه بالنقلة فيها، و إن لم يجر له ذكر في الآية، لكن يدلّ سوق الكلام عليه. و اللام متعلّقة ب «مواخر». و يجوز أن تتعلّق بما دلّ عليه الأفعال المذكورة.

وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ذلك. و حرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة. أ لا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل، كأنّما قيل: لتبتغوا و لتشكروا.

يُولِجُ اللَّيْلَ يدخله فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هي مدّة دوره، أو منتهاه، أو يوم القيامة ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء. و فيها إشعار بأنّ فاعليّته لها موجبة لثبوت هذه الأخبار المترادفة.

و يحتمل أن يكون «له الملك» كلاما مبتدأ واقعا في قرآن قوله: وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ للدلالة على تفرّده بالألوهيّة. و «القطمير» لفّافة النواة. و هي القشرة الرقيقة الملتفّة عليها.

إِنْ تَدْعُوهُمْ إن تدعوا الأوثان لكشف الضرّ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنّهم جماد وَ لَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لعدم قدرتهم على الإنفاع، أو لتبرّئهم منكم و ممّا تدّعون لهم وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ بإشراككم لهم، و عبادتكم إيّاهم، يقرّون ببطلانه. أو يقولون: ما كُنْتُمْ

ص: 472


1- البقرة: 74.

إِيَّانا تَعْبُدُونَ (1).

وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ و لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به أخبرك.

و هو اللّه تعالى، فإنّه هو الخبير به على الحقيقة، دون سائر المخبرين. و المراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، و نفي ما يدّعون لهم. كأنّه قال: إنّ هذا الّذي أخبرتكم من حال الأوثان هو الحقّ، لأنّي خبير بما أخبرت به.

[سورة فاطر [35]: الآيات 15 الى 17]

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [15] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [16] وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [17]

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في أنفسكم و مايعن لكم. و تعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، كأنّهم لشدّة افتقارهم إليه و كثرة احتياجهم هم الفقراء، و أنّ افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم غير معتدّ به، لأنّ الفقر ممّا يتبع الضعف، فكلّما كان أضعف كان أفقر، و قد شهد سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (2). و قال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (3). و لو نكّر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء، وفات هذا المعنى المقصود.

و لمّا أثبت فقرهم إليه، و غناه عنهم، و ليس كلّ غنيّ نافعا بغناه إلّا إذا كان الغنيّ جوادا منعما، فإذا جاد و أنعم استحقّ عليهم الحمد، و حمده المنعم عليهم، ذكر الحميد ليدلّ به على أنّه الغنيّ النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحقّ بإنعامه عليهم أن يحمدوه، الحميد على ألسنة مؤمنيهم، فقال:

ص: 473


1- يونس: 28.
2- النساء: 28.
3- الروم: 54.

وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ المستغني على الإطلاق، المنعم على سائر الموجودات، حتّى استحقّ عليهم الحمد.

ثمّ دلّ على كمال قدرته بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يغنكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بقوم آخرين أطوع منكم. أو بعالم آخر غير ما تعرفونه. وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذّر أو متعسّر.

[سورة فاطر [35]: آية 18]

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [18]

ثمّ أخبر عن عدله في حكمه، فقال: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و لا تحمل نفس حاملة الإثم حمل إثم نفس اخرى. و الوزر: الوقر. و المعنى: أنّ كلّ نفس يوم القيامة لا تحمل إلّا وزرها الّذي اقترفته. فلا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ، و الجار بالجار.

و أمّا قوله: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ (1) ففي الضالّين المضلّين، فإنّهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، و كلّ ذلك أوزارهم، ليس فيها شي ء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم في قولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ (2) بقوله: وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ (3). ففي أنّه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها، دلالة على عدل اللّه في حكمه.

ثمّ بيّن أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، فقال: وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ نفس أثقلها

ص: 474


1- العنكبوت: 12- 13.
2- العنكبوت: 12- 13.
3- العنكبوت: 12- 13.

الأوزار غيرها إِلى حِمْلِها إلى أن يتحمّل عنها بعض أوزارها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ لم تجب لحمل شي ء منه، و لم تغث، فلم يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى و لو كان المدعوّ ذا قرابتها، من أب أو ولد أو أخ. فأضمر المدعوّ لدلالة «إن تدع» عليه.

و لمّا غضب اللّه تعالى عليهم في قوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أتبعه الإنذار بيوم القيامة و ذكر أهوالها، فقال:

إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ غائبين عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم. أو يخشون عذابه غائبا عنهم، أي: إنّ إنذارك لا ينفع إلّا الّذين يخشون ربّهم بالغيب.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ أي: أداموها و قاموا بشرائطها، فإنّهم المنتفعون بالإنذار لا غير. و إنّما عطف الماضي على المستقبل، إشعارا باختلاف المعنى، لأنّ الخشية لازمة في كلّ وقت، و الصلاة لها أوقات مخصوصة.

وَ مَنْ تَزَكَّى و من تطهّر بفعل الطاعات من دنس المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفعه لها. و هو اعتراض مؤكّد لخشيتهم و إقامتهم الصلاة، لأنّهما من جملة التزكّي. وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجازيهم على تزكّيهم.

[سورة فاطر [35]: الآيات 19 الى 26]

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ [19] وَ لا الظُّلُماتُ وَ لا النُّورُ [20] وَ لا الظِّلُّ وَ لا الْحَرُورُ [21] وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22] إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ [23]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ [24] وَ إِنْ

ص: 475

يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [25] ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [26]

ثمّ ضرب للكافر و المؤمن مثلا آخر، كما ضرب لهما البحرين مثلا، فقال:

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ قيل: هما مثلان للصنم و للّه تعالى وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ و لا الباطل و لا الحقّ وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ و لا الثواب و لا العقاب. و «لا» لتأكيد نفي الاستواء. و تكريرها على الشّقين لمزيد التأكيد. و الحرور فعول من الحرّ، غلّب على السموم. و قيل: السموم ما تهبّ نهارا، و الحرور ما تهبّ ليلا.

ثمّ مثّل تمثيلا آخر للمؤمنين و الكافرين، أبلغ من الأوّل و الثاني، فقال: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ قيل: هذا تمثيل للعلماء و الجهلاء. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي: إنّه قد علم من يدخل في الإسلام ممّن لا يدخل فيه، فيهدي الّذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، و يخذل من علم أنّها لا تنفع فيه وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ترشيح لتمثيل المصرّين على الكفر بالأموات، و مبالغة في إقناطه عنهم.

و المعنى: يا محمّد قد خفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص و تتهالك على إسلام قوم من المخذولين. و مثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين و ينذر، و ذلك ما لا سبيل إليه.

إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ فما عليك إلّا الإنذار، و أمّا الإسماع فلا إليك، و لا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم.

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ حال من أحد الضميرين، أي: محقّين، أو محقّا. أو صفة للمصدر، أي: إرسالا مصحوبا بالحقّ. و يجوز أن يكون صلة لقوله: بَشِيراً وَ نَذِيراً أي: بشيرا بالوعد الحقّ، و نذيرا بالوعيد الحقّ.

وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ من جماعة كثيرة من أهل كلّ عصر، فإنّ كلّ عصر أمّة إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ مضى فيها نبيّ، أو عالم ينذرهم عنه سبحانه. فإذا اندرست آثار

ص: 476

النذارة من العالم، وجب على اللّه بعث نبيّ آخر، كما في زمان الفترة بين عيسى و محمّد فما دامت آثار النذارة فيه باقية بنحو نبيّ أو عالم لم يحتج إلى إرسال نبيّ، و لمّا اندرست بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الاكتفاء بذكر النذير للعلم بأنّ النذارة مقرونة بالبشارة و مشفوعة بها، و قد قرن به من قبل. أو لأنّ الإنذار هو المقصود الأهمّ من البعثة.

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الشاهدة على نبوّتهم وَ بِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ الواضح البيّن، كالتوراة و الإنجيل. و لمّا كانت هذه الأشياء في جنسهم، أسند المجي ء بها إليهم إسنادا مطلقا، و إن كان بعضها في جميعهم، و هي البيّنات، و بعضها في بعضهم، و هي الزبر و الكتاب. و فيه مسلاة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يجوز أن يراد بالزبر و الكتاب المنير التوراة و الإنجيل. و العطف لتغاير الوصفين، فإنّ الزبور أثبت في الكتاب من الكتاب، لأنّه يكون منقرا منقشا فيه، كالنقر في الحجر. هكذا قال صاحب المجمع (1). ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: إنكاري بالعقوبة، و إنزالي العقاب بهم.

[سورة فاطر [35]: الآيات 27 الى 28]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ [27] وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [28]

ص: 477


1- مجمع البيان 8: 406.

ثمّ بيّن قدرته التّامّة بقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها، من الرمّان و التفّاح و التين و العنب، و غيرها ممّا لا يحصى. أو أصنافها، على أنّ كلّا منها ذو أصناف مختلفة. أو هيئاتها، من الصفرة و الخضرة و نحوهما.

وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ ذو جدد، أي: خطط و طرائق. يقال: جدّة الحمار للخطّة السوداء على ظهره. و قد يكون للظبي جدّتان مستكنتان تفصلان بين لوني ظهره و بطنه. بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدّة و الضعف.

وَ غَرابِيبُ سُودٌ عطف على «بيض» أو على «جدد». كأنّه قيل: و من الجبال ذو جدد مختلفة اللون، و منها غرابيب متّحدة اللون. و هو تأكيد مضمر يفسّره ما بعده، فإنّ الغربيب تأكيد للأسود، و من حقّ التأكيد أن يتبع المؤكّد. و في مثله مزيد تأكيد، لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار و الإظهار جميعا. و نظير ذلك قول النابغة:

و المؤمن العائذات الطير يمسحهاركبان مكّة بين الغيل و السلم

وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِ الّتي تدبّ على وجه الأرض وَ الْأَنْعامِ كالإبل و البقرة و الغنم مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي: كاختلاف الثمار و الجبال.

و لمّا قال: «ألم تر» بمعنى: ألم تعلم أنّ اللّه أنزل من السماء ماء، و عدّد آيات اللّه و أعلام قدرته و آثار صنعه، و ما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، و ما يستدلّ به عليه و على صفاته، أتبع ذلك قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ كأنّه قال: إنّما يخشاه مثلك، و من كان على صفتك ممّن عرفه حقّ معرفته، و علمه كنه علمه، إذ شرط الخشية معرفة المخشيّ، و العلم بصفاته و أفعاله.

فمن كان أعلم به كان أخشى منه، و من كان علمه أقلّ كان آمن.

و في الحديث: «أعلمكم باللّه أشدّكم له خشية».

و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي

ص: 478

أخشاكم للّه، و أتقاكم له».

و عن مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى اللّه، و كفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه.

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله، و من لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم».

و عن ابن عبّاس قال: يريد: إنّما يخافني من خلقي، من علم جبروتي و عزّتي و سلطاني.

إن قلت: قد نرى من العلماء من لا يخاف اللّه، و يرتكب المعاصي.

فالجواب: أنّه لا بدّ من أن يخافه مع العلم به، و إن كان ربما يؤثر المعصية عند غلبة الشهوة لعاجل اللذّة.

و تقديم المفعول لأنّ المقصود حصر الفاعليّة، و لو أخّر انعكس الأمر.

ثمّ علّل وجوب الخشية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ لدلالته على عقوبة العصاة و قهرهم، و إثابة أهل الطاعة و العفو عنهم، و المعاقب المثيب حقّه أن يخشى.

[سورة فاطر [35]: الآيات 29 الى 30]

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [29] لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [30]

ثمّ وصف سبحانه العلماء، فقال على سبيل الاستئناف: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يداومون على قراءته، أو متابعة ما فيه، حتّى صارت عادة لهم. و المراد بكتاب اللّه القرآن. و قيل: جنس كتب اللّه. فيكون ثناء على المصدّقين من الأمم،

ص: 479

بعد اقتصاص حال المكذّبين.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً كيف اتّفق من غير قصد إليهما. و قيل: السرّ في السنّة المسنونة، و العلانية في المفروضة.

عن عبد اللّه بن عبيد بن عمر الليثي قال: «قام رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

يا رسول اللّه! مالي لا أحبّ الموت؟ قال: أ لك مال؟ قال: نعم. قال: فقدّمه. قال: لا أستطيع. قال: فإنّ قلب الرجل مع ماله، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به، و إن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه».

يَرْجُونَ تِجارَةً تحصيل ثواب الطاعة. و هو خبر «إنّ». لَنْ تَبُورَ لن تكسر و لن تهلك بالخسران. صفة للتجارة.

و قوله: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلّق ب «لن تبور» أي: ينتفي عنها الكساد، و تنفق (1) عند اللّه، ليوفّيهم بنفاقها عنده أجور أعمالهم، و هي ما استحقّوه من الثواب وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما يقابل أعمالهم.

روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال في قوله: «وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ»:

«هو الشفاعة لمن وجبت له النار، ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا».

إِنَّهُ غَفُورٌ لفرطاتهم شَكُورٌ لطاعتهم، أي: مجازيهم. و هو علّة للتوفية و الزيادة. أو خبر «إنّ»، و «يرجون» حال من واو «و أنفقوا» أي: راجين بذلك تجارة لن تكسد و لن تفسد.

[سورة فاطر [35]: الآيات 31 الى 35]

وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [31] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا

ص: 480


1- نفقت التجارة: راجت.

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [32] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [33] وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [34] الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [35]

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني:

القرآن، و «من» للتبيين. أو الجنس، و «من» للتبعيض. هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدّمه من الكتب السماويّة. حال مؤكّدة، لأنّ الحقّ لا ينفكّ عن هذا التصديق، أي: حقّيّته تستلزم موافقته إيّاه في العقائد و أصول الأحكام.

إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن و الظواهر. فخبّرك و بصّر أحوالك، فرآك أهلا لأن يوحي إليك. فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوّة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز، الّذي هو عيار على سائر الكتب. و تقديم «الخبير» للدلالة على أنّ العمدة في ذلك الأمور الروحانيّة.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي: إنّا أوحينا إليك الكتاب، أي: القرآن، ثمّ حكمنا بتوريثه منك. أو نورّثه، فعبّر عنه بالماضي لتحقّقه. أو المعنى: أورثناه من الأمم السالفة. و معنى الإرث: انتهاء الحكم إليهم، و مصيره لهم، كما قال: وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ

ص: 481

الَّتِي أُورِثْتُمُوها (1). و العطف على «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ». و «الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» اعتراض لبيان كيفيّة التوريث.

الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا يعني: علماء الأمّة، من أهل البيت، و سائر الصحابة، و من بعدهم. أو الأمّة بأسرهم، فإنّ اللّه اصطفاهم على سائر الأمم، كقوله:

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ (2). و اختصّهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل اللّه، و حمل الكتاب الّذي هو أفضل الكتب.

و قيل: هم الأنبياء، اختارهم اللّه برسالته و كتبه.

و قيل: هم المصطفون الداخلون في قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى إلى قوله: وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ (3).

و المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّهما قالا: «هي لنا خاصّة، و إيّانا عنى».

و هذا أقرب الأقوال، لأنّهم أحقّ الناس بوصف الاختصاص و الاجتباء، و إيراث علم الأنبياء. و هم الّذين كانوا متعبّدين بحفظ القرآن و بيان حقائقه، العارفين بجلائله و دقائقه.

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعمل به في أغلب الأوقات وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بضمّ التعليم و الإرشاد إلى العمل.

و قيل: الظالم: الجاهل. و المقتصد: المتعلّم. و السابق: العالم.

و قيل: الظالم: المجرم. و المقتصد: الّذي خلط الصالح بالسيّ ء. و السابق:

الّذي ترجّحت حسناته، بحيث صارت سيّئاته مكفّرة. و هو معنى

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أمّا الّذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنّة يرزقون فيها بغير حساب. و أمّا الّذين اقتصدوا.

ص: 482


1- الزخرف: 72.
2- البقرة: 143.
3- آل عمران: 33.

فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا. و أمّا الّذين ظلموا أنفسهم، فأولئك يحبسون في طول المحشر، ثمّ يتلقّاهم اللّه برحمته».

و قيل: الظالم: الكافر، على أنّ الضمير للعباد. و عند أكثر المفسّرين الضمير يعود إلى المصطفين من العباد. ثمّ اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين:

أحدهما: أنّ جميعهم ناج.

و يؤيّد ذلك ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في الآية: «أمّا السابق فيدخل الجنّة بغير حساب. و أمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا. و أمّا الظالم لنفسه، فيحبس في المقام، ثمّ يدخل الجنّة. فهم الّذين قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (1)».

و عن عائشة: أنّها قالت: كلّهم في الجنّة. أمّا السابق: فمن مضى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و شهد له رسول اللّه بالجنّة. و أمّا المقتصد:

فمن اتّبع أثره من أصحابه حتّى لحق به. و أمّا الظّالم: فمثلي و مثلكم.

و روي عنها أيضا قالت: السابق: الّذي أسلم قبل الهجرة. و المقتصد: الّذي أسلم بعد الهجرة. و الظالم: نحن.

و قيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه. و المقتصد: الّذي أسلم بعد الهجرة. و الظالم: نحن.

و قيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه. و المقتصد: الّذي يستوي ظاهره و باطنه. و السابق: الّذي باطنه خير من ظاهره.

و قيل: منهم ظالم لنفسه بالصغائر، و منهم مقتصد في الطاعات في الدرجات الوسطى، و منهم سابق بالخيرات في الدرجة العليا.

و روى أصحابنا عن ميسر بن عبد العزيز، عن جعفر الصادق عليه السّلام أنّه قال: «الظالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام. و المقتصد منّا العارف بحقّ الإمام.

و السابق بالخيرات هو الامام. و هؤلاء كلّهم مغفور لهم».

ص: 483


1- فاطر: 34.

و عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر عليه السّلام: «أمّا الظالم لنفسه منّا فمن عمل عملا صالحا و آخر سيّئا. و أمّا المقتصد فهو المتعبّد المجتهد. و أمّا السابق بالخيرات فعليّ و الحسن و الحسين، و من قتل من آل محمّد شهيدا».

و عن قتادة: الظالم لنفسه أصحاب المشأمة. و المقتصد أصحاب الميمنة.

و السابق هم السابقون المقرّبون من الناس كلّهم. كما قال سبحانه: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (1).

و قال عكرمة، عن ابن عبّاس: إنّ الظالم هو المنافق. و المقتصد و السابق من جميع الناس.

و روي أيضا: أنّ الفرقة الظالم لنفسها غير ناجية.

و تقديم الظالم لكثرة الظالمين، و قلّة المقتصدين بالإضافة إليهم. و السابقين أقلّ القليل.

و قيل: إنّما قدّم الظالم لئلّا ييأس من رحمته، و أخّر السابق لئلّا يعجب بعلمه.

و لأنّ الظلم متضمّن الجهل و الركون إلى الهوى، و هو مقتضى الجبلّة، و الاقتصاد و السبق عارضان.

و قيل: إنّما رتّبهم هذا الرتيب على مقامات الناس، لأنّ أحوال العباد ثلاث:

معصية و غفلة، ثمّ التوبة، ثمّ القربة. فإذا عصى فهو ظالم. و إذا تاب فهو مقتصد. و إذا صحّت توبته، و كثرت مجاهدته، اتّصل باللّه، و صار من جملة السابقين.

بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره و توفيقه و لطفه ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إشارة إلى التوريث، أو الاصطفاء، أو السبق.

ثمّ فسّر الفضل، فقال على وجه الاستئناف: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها كأنّه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: هي جنّات عدن. أو «جنّات» مبتدأ، خبره

ص: 484


1- الواقعة: 7.

«يدخلونها». و يجوز أن يكون بدلا منه. و ذلك لأنّه لمّا كان السبب في نيل الثواب، نزّل منزلة المسبّب، كأنّه هو الثواب، ففسّرت أو أبدلت عنه «جنّات عدن». و ضمير الجمع باعتبار أنّ السابق للجنس.

و في اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم، و السكوت عن الآخرين، ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، و ليملك الظالم لنفسه حذرا، و عليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب اللّه.

و قيل: الضمير للفرق الثلاث. و الظالم و المقتصد إنّما يدخلانها بفضل اللّه، أو بالشفاعة.

و قرأ أبو عمرو: يدخلونها، على بناء المفعول.

يُحَلَّوْنَ فِيها خبر ثان، أو حال مقدّرة مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «من» الأولى للتبعيض، و الثانية للتبيين وَ لُؤْلُؤاً عطف على «ذهب» أي: من ذهب مرصّع باللؤلؤ. أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ. و نصبه نافع و عاصم عطفا على محلّ «من أساور». وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ و هو الاسم المحض.

وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ اعترافا منهم بنعمته، لا على وجه التكليف الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ همّهم من خوف زوال النعم. أو من أجل المعاش و آفاته. أو من وسوسة إبليس و غيرها.

و قيل: إنّهم كانوا يخافون دخول النار، و كانوا مستحقّين لذلك، فإذا تفضّل اللّه عليهم بإسقاط عقابهم، و أدخلهم الجنّة، حمدوه على ذلك و شكروه.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ليس على أهل لا إله إلّا اللّه وحشة في قبورهم، و لا في محشرهم، و لا في مسيرهم. و كأنّي بأهل لا إله إلّا اللّه يخرجون من قبورهم، و هم ينفضون التراب عن وجوههم، و يقولون: «الحمد للّه الّذي اذهب عنّا الحزن».

إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ يقبل محاسن المطيعين، فإنّ شكره

ص: 485

سبحانه هو مكافاته لهم على الشكر له و القيام بطاعته.

الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ دار الإقامة. يقال: أقمت إقامة و مقاما و مقامة.

و المراد دار الخلود، فيقيمون فيها أبدا، لا يموتون و لا يتحوّلون عنها. مِنْ فَضْلِهِ من عطائه و إفضاله. من قولهم: لفلان فضول على قومه و فواضل. و ليس من الفضل الّذي هو التفضّل، لأنّ الثواب بمنزلة الأجر المستحقّ، و التفضّل كالتبرّع.

لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ كلال، إذ لا تكليف فيها و لا كدّ. و الفرق بين النصب و اللغوب: أنّ النصب التعب و المشقّة الّتي تصيب المنتصب للأمر المزاول له. و أمّا اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب.

فالنصب نفس المشقّة، و اللغوب نتيجته و ما يحدث منه من الكلال و الفترة. فأتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة.

[سورة فاطر [35]: الآيات 36 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [36] وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ

صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [37] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [38] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً [39] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ

ص: 486

الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً [40]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر ما أعدّه لأهل الجنّة من أنواع الثواب، عقّبه بذكر ما أعدّه للكفّار من أليم العقاب، فقال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بموت ثان فَيَمُوتُوا فيستريحوا. و نصبه بإضمار «أن». وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها و لا يسهل عليهم عذاب النار، بل كلّما خبت زيد إسعارها كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفر، أو الكفران.

و قرأ أبو عمرو: يجزى، على بناء المفعول. و إسناده إلى «كلّ».

وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها يستغيثون. يفتعلون من الصراخ، و هو الصياح.

استعمل في الاستغاثة، لجهر المستغيث صوته. رَبَّنا أَخْرِجْنا من عذاب النار نَعْمَلْ صالِحاً نؤمن بدل الكفر، و نطيع بدل المعصية، أي: ردّنا إلى الدنيا لنعمل بالطاعات الّتي تأمرنا بها غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من المعاصي. و تقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسّر على ما عملوه من غير الصالح، و الاعتراف به، و الإشعار بأنّ استخراجهم لتلافيه، و أنّهم كانوا يحسبون أنّه صالح، و الآن تحقّق

لهم خلافه.

فوبّخهم اللّه تعالى فقال: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أو لم نعطكم من العمر مقدار ما يمكن أن تتفكّروا و تتذكّروا. و «ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ» متناول كلّ عمر يمكن المكلّف فيه من التفكّر و التذكّر و العمل الصالح.

ص: 487

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «العمر الّذي أعذر اللّه فيه ابن آدم ستّون سنة».

و مصداقه ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرفوعا أنّه قال: «من عمّره اللّه ستّين سنة فقد أعذر إليه».

و عن ابن عبّاس: هو أربعون سنة. و قيل:

هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة.

و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام،

و مأثور عن وهب و قتادة. و عن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستّين.

وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ عطف على معنى «أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ» فإنّه للتقرير. كأنّه قيل:

عمّرناكم و جاءكم النذير. و هو النبيّ، أو الكتاب. و قيل: الشيب، أو موت الأقارب.

فَذُوقُوا فذوقوا العذاب و حسرة الندم فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.

إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يخفى عليه شي ء ممّا يغيب عن الخلائق علمه، فلا تخفى عليه أحوالهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما فيها من المضمرات. و هذا تعليل له، لأنّه إذا علم مضمرات الصدور، و هي أخفى ما يكون، كان أعلم بغيرها. و الذات تأنيث «ذو». و هو موضوع لمعنى الصحبة. و المعنى:

مضمرات تصحب الصدور.

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ أي: جعلكم معاشر الكفّار، أمّة بعد أمّة، و قرنا بعد قرن فِي الْأَرْضِ بأن أحدثكم بعدهم فيها، و أورثكم ما كان لهم، فملّككم مقاليد التصرّف، و سلّطكم على ما فيها، و أباح لكم منافعها، لتشكروه بالتوحيد و الطاعة. يقال للمستخلف: خليفة و خليف. و الخليفة تجمع: خلائف، و الخليف:

خلفاء.

فَمَنْ كَفَرَ و غمط مثل هذه النعمة السّنيّة فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فواقع عليه جزاء كفره.

ص: 488

ثمّ بيّن جزاءه بقوله: وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً و هو أشدّ البغض، بحيث لا يكون وراءه خزي و صغار. و منه قيل لمن ينكح امرأة أبيه: مقتي، لكونه ممقوتا في كلّ قلب.

وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أي: خسار الآخرة و هلاكها. و التكرير للدلالة على أنّ اقتضاء الكفر لكلّ واحد من الأمرين، مستقلّ باقتضاء قبحه و وجوب التجنّب عنه.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: آلهتهم. و الإضافة إليهم لأنّهم جعلوهم شركاء للّه، أو لأنفسهم فيما يملكونه. أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ بدل من «أرأيتم» بدل الاشتمال، لأنّه بمعنى: أخبروني. كأنّه قال:

أخبروني عن هؤلاء الشركاء، و عمّا استحقّوا به الإلهيّة و الشركة، أروني أيّ جزء من الأرض استبدّوا بخلقه دون اللّه؟

أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أم لهم شركة مع اللّه في خلق السّماوات، فاستحقّوا بذلك شركة في الألوهيّة ذاتيّة؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنّا اتّخذناهم شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجّة واضحة من ذلك الكتاب، بأنّ لهم استحقاق شركة لنا. و جميع ذلك محال، لا يمكنهم إقامة حجّة و لا شبهة على شي ء منه.

و قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر: بيّنات. فيكون إيماء إلى أنّ الشرك خطير لا بدّ فيه من تعاضد الدلائل.

و لمّا قرّر نفي أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه بقوله:

بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً يعني: ما حملهم على اتّخاذ الشركاء إلّا تغرير الأسلاف الأخلاف، أو الرؤساء الأتباع، بأنّهم شفعاء عند اللّه يشفعون لهم بالتقرّب إليه، حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه.

ص: 489

[سورة فاطر [35]: آية 41]

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [41]

ثمّ بيّن سبحانه عظيم قدرته المغنية عن اعتضاد شريك، و سعة مملكته المتقنة الدالّة على كمال غنائه عمّا سواه، فقال:

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بمحض القدرة التامّة، من غير علاقة فوقها، و لا عماد تحتها.

عن ابن عبّاس أنّه قال لرجل مقبل من الشام: من لقيت به؟ قال: كعبا. قال:

و ما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إنّ السماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب، أما ترك يهوديّته بعد؟! ثمّ قرأ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا كراهة أن تزولا، فإنّ الممكن حال بقائه لا بدّ له من حافظ. أو يمنعهما أن تزولا، لأنّ الإمساك منع.

وَ لَئِنْ زالَتا و إن قدّر أن تزولا عن مراكزهما إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ من بعد اللّه، أو من بعد الزوال. و الجملة سادّة مسدّ جواب القسم و جواب الشرط. و «من» الأولى زائدة. و الثانية للابتداء.

إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما و كانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا، لعظم كلمة الشرك، كما قال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (1).

[سورة فاطر [35]: الآيات 42 الى 43]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً [42] اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [43]

ص: 490


1- مريم: 90.

روي: أنّ قريشا لمّا بلغهم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم، قالوا: لعن

اللّه اليهود و النصارى، لو أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم، أي: اليهود و النصارى و غيرهم. فلمّا بعث رسول اللّه كذّبوه، فحكى اللّه سبحانه من قولهم و فعلهم بقوله:

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني: كفّار مكّة حلفوا باللّه قبل أن يأتيهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأيمان غلاظ، غاية وسعهم و طاقتهم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ من جهة اللّه لَيَكُونُنَّ أَهْدى إلى قبول قوله و اتّباعه مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ أي: من واحدة منهم.

أو من الأمّة الّتي يقال لها: هي إحدى الأمم، تفضيلا لها على غيرها في الهدى و الاستقامة.

فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زادَهُمْ أي: النذير. أو مجيئه، على الإسناد المجازي تسبّبا، لأنّه هو السبب، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (1) إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحقّ، و هربا منه.

اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ عتوّا على اللّه، و أنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم.

و هذا بدل من «نفورا». أو مفعول له، أي: لاستكبارهم في الأرض. أو حال، بمعنى: مستكبرين. و كذا قوله: وَ مَكْرَ السَّيِّئِ أصله: و أن مكروا المكر السيّئ برسول اللّه و أصحابه. فحذف الموصوف استغناء بوصفه بدل «أن»، مع الفصل بالمصدر، ثمّ أضيف. و الدليل عليه قوله: وَ لا يَحِيقُ و لا يحيط الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ و هو الماكر. و قد حاق بهم يوم بدر.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تمكروا، و لا تعينوا ماكرا، فإنّ اللّه يقول: «و لا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله»

و لا تبغوا و لا تعينوا باغيا، لقوله تعالى:إِنَّما

ص: 491


1- التوبة: 125.

بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (1).

و عن كعب أنّه قال لابن

عبّاس: قرأت في التوراة: من حفر مغواة (2) وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب اللّه تعالى. و قرأ هذه الآية.

و في أمثال العرب: من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ سنّة اللّه و عادته في الأمم الماضية، بأن يهلكهم إذا كذّبوا رسله، و ينزل بهم العذاب.

فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا إذ لا يبدّل عادته، من عقوبة من كفر نعمته و جحد ربوبيّته، بأن يجعل غير التعذيب تعذيبا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا و لا يحوّلها، بأن ينقله من المكذّبين إلى غيرهم. فالتبديل: تصيير الشي ء مكان غيره.

و التحويل: تصيير الشي ء في غير المكان الّذي كان فيه. و أمّا التغيير: تصيير الشي ء على خلاف ما كان.

[سورة فاطر [35]: الآيات 44 الى 45]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً [44] وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً [45]

ص: 492


1- يونس: 23.
2- المغواة: المضلّة. يقال: حفر لأخيه مغواة، أي: ورّطه.

ثمّ استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام و اليمن و العراق، من آثار الماضين، و علامات هلاكهم و دمارهم، بقوله:

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ في مسايرهم و متاجرهم في رحلهم إلى الشام و اليمن فَيَنْظُرُوا في علامات الهلاك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل عاد و ثمود و قوم لوط، فيعتبروا بهم وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ ليسبقه و يفوته فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلّها قَدِيراً عليها.

ثمّ منّ اللّه سبحانه على خلقه بتأخيره العقاب عنهم، فقال:

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الشرك و المعاصي ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدبّ عليها بشؤم معاصيهم.

و عن ابن مسعود: كاد الجعل يعذّب في جحره بذنب ابن آدم. ثمّ تلا هذه الآية.

و عن أنس: إنّ الضبّ ليموت في جحره بذنب بني آدم.

و قيل: يحبس المطر، فيهلك كلّ شي ء.

و قيل: المراد بالدابّة الإنس وحده، لقوله: وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازيهم على أعمالهم. و هذا وعيد بالجزاء.

ص: 493

ص: 494

[36] سورة يس

اشارة

مكّيّة و هي ثلاث و ثمانون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة يس يريد بها اللّه عزّ و جلّ، غفر اللّه له، و اعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرّة. و في رواية اخرى: اثنتين و عشرين مرّة. و أيّما مريض قرئت عنده سورة يس، نزل عليه بعدد كلّ حرف منها عشرة أملاك، يقومون بين يديه صفوفا، و يستغفرون له، و يشهدون قبضه، و يتّبعون جنازته، و يصلّون عليه، و يشهدون دفنه.

و أيّما مريض قرأها و هو في سكرات الموت، أو قرئت عنده، جاءه رضوان خازن الجنّة بشربة من شراب الجنّة، فسقاه إيّاها و هو على فراشه، فيشرب فيموت، فيقبض ملك الموت روحه و هو ريّان، و يمكث في القبر و هو ريّان، و يبعث ريّان، و لا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء، حتّى يدخل

الجنّة و هو ريّان».

و قال عليه السّلام: «إنّ في القرآن سورة يشفّع قائلها، و يستغفر لمستمعها، ألا و هي سورة يس».

أبو بكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «سورة يس تدعى في التوراة المعمّة. قيل:

و ما المعمّة؟ قال: تعمّ صاحبها خير الدنيا و الآخرة، و تكابد عنه بلوى الدنيا، و تدفع عنه أهاويل الآخرة. و تدعى المدافعة و القاضية، تدفع عن صاحبها كلّ شرّ، و تقضي له كلّ حاجة. و من قرأها عدلت له عشرين حجّة. و من سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل اللّه. و من كتبها ثمّ شربها أدخلت جوفه ألف دواء، و ألف نور، و ألف يقين، و ألف بركة، و ألف رحمة. و نزعت عنه كلّ داء و غلّة».

ص: 495

أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ لكلّ شي ء قلبا، و قلب القرآن يس».

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من دخل المقابر فقرأ سورة يس، خفّف عنهم يومئذ، و كان له بعدد من فيها حسنات».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ لكلّ شي ء قلبا، و قلب القرآن يس.

فمن قرأها في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين و المرزوقين حتّى يمسي.

و من قرأها في ليله قبل أن ينام، و كلّ به ألف ملك كلّهم يستغفرون له، و يشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له.

فإذا أدخل لحده كانوا في جوف قبره يعبدون اللّه، و ثواب عبادتهم له. و فسح له في قبره مدّ بصره، و أمن من ضغطة القبر. و لم يزل له في قبره نور ساطع إلى أعنان السماء،

إلى أن يخرجه اللّه من قبره.

فإذا أخرجه لم تزل ملائكة اللّه معه يشيّعونه و يحدّثونه، و يضحكون في وجهه، و يبشّرونه بكلّ خير، حتّى يجوزوا به الصّراط و الميزان، و يوقفوه من اللّه موقفا لا يكون عند اللّه خلق أقرب منه، إلّا ملائكة اللّه المقرّبون و أنبياؤه المرسلون.

و هو مع النّبيين واقف بين يدي اللّه، لا يحزن مع من يحزن، و لا يهتمّ مع من يهتمّ، و لا يجزع مع من يجزع.

ثمّ يقول له الربّ تعالى: اشفع عبدي أشفّعك في جميع ما تشفع. و سلني عبدي أعطك جميع ما تسأل. فيسأل فيعطى. و يشفع فيشفّع. و لا يحاسب فيمن يحاسب. و لا يذلّ مع من يذلّ. و لا يبكّت بخطيئة، و لا بشي ء من سوء عمله، و يعطى كتابا منشورا. فيقول الناس بأجمعهم: سبحان اللّه ما كان لهذا العبد خطيئة واحدة! و يكون من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ لرسول اللّه اثني عشر اسما، خمسة منها في القرآن: محمّد، و أحمد، و عبد اللّه، و يس، و نون».

ص: 496

[سورة يس [36]: الآيات 1 الى 12]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس [1] وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [2] إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [3] عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [4]

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [5] لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [6] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [7] إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [8] وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [9]

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [10] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ [11] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [12]

و اعلم أنّه لمّا ذكر سبحانه في آخر سورة فاطر، أنّهم أقسموا باللّه ليؤمننّ إن جاءهم نذير، افتتح هذه السورة بأنّهم لم يؤمنوا و قد جاءهم النذير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس قد مضى الكلام في الحروف المقطّعة عند مفتتح السور في أوّل سورة البقرة، و اختلاف الأقوال فيها.

و عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: أنّ معنى «يس»: يا إنسان في لغة طيّ.

على أنّ أصله: يا أنيسين، فاقتصر على شطره، لكثرة النداء به، كما قيل في القسم

ص: 497

في «أيمن اللّه»: من اللّه.

و قيل: معناه:

يا سيّد الأوّلين و الآخرين. و هذا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام و أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

و قيل: معناه: يا رجل.

و أمال الياء حمزة و الكسائي و حفص و روح. و أدغم ابن عامر و الكسائي و أبو بكر و ورش و يعقوب النون في الواو.

وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي: ذو الحكمة. أو إنّه دليل ناطق بالحكمة، كالحيّ. أو إنّه كلام حكيم يوصف بوصف المتكلّم. و الواو واو القسم، أو العطف إن جعل «يس» مقسما به.

إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لمن الّذين أرسلوا على صراط مستقيم. و هو التوحيد و الاستقامة في الأمور. و يجوز أن يكون «على صراط» خبرا ثانيا، أو حالا من المستكن في الجارّ و المجرور. و فائدته: وصف الشرع بالاستقامة صريحا، و إن دلّ عليه «لمن المرسلين» التزاما.

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ خبر مبتدأ محذوف. و المصدر بمعنى المفعول.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالنصب، بإضمار: أعني، أو بفعله المقدّر، أعني: ننزّله.

لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلّق ب «تنزيل»، أو بمعنى «لمن المرسلين». و المعنى:

إرسالك لتنذر قوما. ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قوما لم يأت آباءهم من ينذرهم بالكتاب- يعني: آباءهم الأقربين- لتطاول مدّة الفترة بين عيسى و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فيكون صفة مبيّنة لشدّة حاجتهم إلى إرساله. أو الّذي أنذر به. أو شيئا أنذره به آباؤهم الأبعدون.

فيكون مفعولا ثانيا ل «تنذر». و على هذا «ما» موصولة، أو موصوفة. و يجوز أن تكون مصدريّة، أي: لتنذر إنذار آبائهم.

ص: 498

فَهُمْ غافِلُونَ متعلّق بالنفي على الأوّل، أي: لم ينذروا فبقوا غافلين.

يعني: عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. أو بقوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على الوجوه الآخر، أي: أرسلناك إليهم لتنذرهم، فإنّهم غافلون عمّا أنذر اللّه من نزول العذاب.

ثمّ أقسم سبحانه مرّة اخرى فقال: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ أي: وجب و ثبت قولنا عَلى أَكْثَرِهِمْ يعني قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (1) فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنّهم ممّن علم أنّهم لا يؤمنون لفرط عنادهم و توغّلهم في الجحود.

ثمّ قرّر تصميمهم على الكفر و الطبع على قلوبهم، بحيث لا يغني عنهم الآيات و النذر، بتمثيلهم بالّذين غلّت أعناقهم، فقال:

إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ أي: فالأغلال واصلة إِلَى الْأَذْقانِ إلى أذقانهم، فلا تخلّيهم يطأطئون رؤوسهم له فَهُمْ مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم، غاضّون أبصارهم. يقال: قمح البعير فهو قامح، إذا روى فرفع رأسه، فغضّ بصره ترفّها. و المعنى: أنّهم لا يلتفتون لفت الحقّ، و لا يعطفون أعناقهم نحوه، و لا يطأطئون رؤوسهم له، بل كانوا رافعين رؤوسهم، لاوين أعناقهم، شامخين بأنوفهم، لا ينظرون إلى الأرض، فصاروا كأنّما جعلت الأغلال في أعناقهم.

ثمّ بتمثيلهم بالّذين أحاط بهم سدّان، فغطّى أبصارهم بحيث لا يبصرون ما قدّامهم و وراءهم، فقال:

وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فأغشينا أبصارهم فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يعني: أنّهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات و الدلائل، لتسليمهم أنفسهم إلى الوساوس الشيطانيّة، و الهواجس النفسانيّة.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: سدّا بالفتح. و هو لغة فيه. و قيل: ما كان بفعل

ص: 499


1- هود: 119.

الناس فبالفتح، و ما كان بخلق اللّه فبالضمّ.

و إنّما أضاف ذلك إلى نفسه، لأنّ عند تلاوة القرآن عليهم، و دعوته إيّاهم، صاروا بهذه الصفة، فكأنّه سبحانه فاعل ذلك. أو لأنّ ذلك عبارة عن خذلان اللّه إيّاهم لمّا كفروا عنادا. فكأنّه قال: تركناهم مخذولين، فصاروا مثل من جعلنا في عنقه غلّا، و من بين يديه سدّا، و خلفه سدّا، و أغشينا بصره، فلا يقدر أن ينظر إلى الأرض و يبصر شيئا.

و قيل: الآيتان في بني مخزوم. و ذلك أنّ أبا جهل حلف إن رأى محمدا يصلّي ليرضخنّ (1) رأسه. فأتاه و هو يصلّي، و معه حجر ليدمغه، فلمّا رفع يده انثنت و لويت يده إلى عنقه، و لزق الحجر بيده، حتّى فكّوه عنها بجهد. فرجع إلى قومه فأخبرهم. فقال مخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعماه اللّه. فجعل يسمع صوته و لا يراه. فرجع إلى أصحابه فلم يرهم، حتّى نادوه ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، و لقد سمعت صوته، و حال بيني و بينه كهيئة الفعل يخطر بذنبه، و لو دنوت منه لأكلني.

و روى أبو حمزة الثمالي، عن عمّار بن عاصم، عن شقيق بن سلمة، عن عبد اللّه

بن مسعود: أنّ قريشا اجتمعوا بباب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فخرج إليهم، فطرح التراب على رؤوسهم و هم لا يبصرونه. قال عبد اللّه: هم الّذين سحبوا في قليب بدر.

و روى أبو حمزة عن مجاهد، عن ابن عبّاس: أنّ قريشا اجتمعوا فقالوا: لئن دخل محمد لنقومنّ إليه. فدخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجعل اللّه من بين أيديهم سدّا، و من خلفهم سدّا، فلم يبصروه. فصلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أتاهم، فجعل ينثر على رؤوسهم التراب و هم لا يرونه، فلمّا خلّى عنهم رأوا التراب، و قالوا: هذا ما سحركم ابن أبي كبشة.

ص: 500


1- أي: ليكسرنّ.

و على هذه الروايات كان ذلك صفة القوم الّذين همّوا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و إضافة ذلك إلى اللّه سبحانه كان على الحقيقة. و المعنى: جعلنا أيديهم إلى أعناقهم، فلا يستطيعون أن يبسطوا إليه يدا. و جعلنا من بين أيدي أولئك الكفّار منعا، و من خلفهم منعا، حتّى لم يبصروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: المراد به وصف حالهم يوم القيامة. فهو مثل قوله: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ (1). و إنّما ذكر بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه.

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ سبق تفسيره في البقرة (2).

و لمّا أخبر سبحانه عن أولئك الكفّار أنّهم لا يؤمنون، و أنّه سواء عليهم الإنذار و ترك الإنذار، عقّبه بذكر حال من ينتفع بالإنذار، فقال:

إِنَّما تُنْذِرُ إنذارا يترتّب عليه البغية المرومة، لا الإنذار المطلق، لأنّه قد حصل للجميع مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي: القرآن، بالتأمّل فيه و العمل به وَ خَشِيَ

الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ و خاف عقابه قبل حلول ما غاب عنه و معاينة أهواله. أو في سريرته. و لا يغترّ برحمته، فإنّه كما هو رحمان منتقم قهّار. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ من اللّه لذنوبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ و ثواب خالص من شوائب النقص.

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الأموات بالبعث. و قيل: الجهّال بالهداية. وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوا من الأعمال الصالحة و الطالحة وَ آثارَهُمْ الحسنة، كعلم علّموه، أو كتاب صنّفوه، أو حبيس وقفوه، كبناء مسجد أو رباط أو قنطرة، أو نحو ذلك. أو سنّة حسنة بعدهم يقتدى فيها بهم. أو آثارهم السيّئة، كوظيفة وظّفها بعض الظلّام على المسلمين، أو شي ء صادّ عن ذكر اللّه، و إشاعة باطل، و تأسيس ظلم.

و قيل: معناه: و نكتب خطاهم إلى المساجد، لما رواه أبو سعيد الخدري: أنّ

ص: 501


1- غافر: 71.
2- راجع ج 1 ص 55، ذيل الآية [6] من سورة البقرة.

بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة، فشكوا إلى رسول اللّه بعد منازلهم من المسجد و الصلاة معه، فنزلت.

و روى البخاري و مسلم في صحيحيهما (1) عن أبي موسى قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم».

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ و عدّدنا كلّ شي ء من الحوادث فِي إِمامٍ مُبِينٍ يعني: اللوح المحفوظ. و الوجه في إحصاء ذلك فيه اعتبار الملائكة به، إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور. و يكون فيه دلالة على معلومات اللّه سبحانه على التفصيل.

و قيل: أراد به صحائف الأعمال. و سمّي مبينا، لأنّه لا يدرس أثره.

[سورة يس [36]: الآيات 13 الى 19]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [13] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [14] قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ [15] قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [16] وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [17]

قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ [18] قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [19]

ثمّ هدّد المعاندين من قريش بذكر عاقبة أهل أنطاكية و استئصالهم، لأجل عنادهم و مكابرتهم و لجاجهم، مع وضوح طريق الحقّ و صدق رسلهم

ص: 502


1- صحيح مسلم 1: 460 ح 277، صحيح البخاري 1: 166.

عندهم، فقال:

وَ اضْرِبْ لَهُمْ و مثّل لهم. من قولهم: هذه الأشياء على ضرب واحد، أي:

مثال واحد. و عندي من هذا الضرب كذا، أي: هذا المثال. و هو يتعدّى إلى مفعولين، لتضمّنه معنى الجعل. و هما: مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ على حذف المضاف، أي: اجعل لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أي: قصّة عجيبة قصّة أصحاب القرية.

و يجوز أن يقتصر على واحد، و يجعل المقدّر بدلا من الملفوظ، أو بيانا له. و القرية:

أنطاكية.

إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بدل من «أصحاب القرية». و المرسلون رسل عيسى عليه السّلام إلى أهلها. و إسناده إلى نفسه في قوله: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ لأنّه فعل رسوله و خليفته. و هما يحيى و يونس. و قيل: غيرهما.

فَكَذَّبُوهُما ضربوهما، و سجنوهما فَعَزَّزْنا فقوّينا. يقال: المطر يعزّز الأرض، إذا لبّدها (1) و شدّها. و تعزّز لحم الناقة، إذا اشتدّ و تصلّب. و قرأ أبو بكر مخفّفا، من: عزه إذا غلبه. و حذف المفعول لدلالة ما قبله عليه. و لأنّ المقصود ذكر المعزّز به، و هو قوله: بِثالِثٍ برسول ثالث. و هو شمعون. و عن شعبة: اسم المرسلين: شمعون، و يوحنّا، و اسم الثالث بولس. و عن ابن عبّاس و كعب: صادق، و صدوق، و الثالث سلوم. و الأوّل قول الأكثر.

فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من عند عيسى، لندعوكم إلى التوحيد، و ننهاكم عن عبادة الأوثان.

قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مزيّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدّعون، فلا تصلحون للرسالة، كما لا نصلح نحن لها. و إنّما رفع «بشر» هنا و نصب

ص: 503


1- لبّد المطر الأرض: رشّها.

في قوله: ما هذا بَشَراً (1) لأنّ «إلّا» ينقض النفي، فلا يبقى ل «ما» المشبّهة ب «ليس» شبه، فلا يبقى له عمل.

وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ من وحي و رسالة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ في دعوى إرساله إيّاكم، فإنّهم اعتقدوا أنّ من كان مثلهم في البشريّة لا يصلح أن يكون رسولا، و ذهب عليهم أنّ اللّه سبحانه يختار من يشاء لرسالته، و أنّه علم من حال هؤلاء صلاحهم للرسالة و تحمّل أعبائها.

قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ استشهدوا بعلم اللّه. و هو يجري مجرى القسم. و زادوا اللام المؤكّدة هاهنا، لأنّه جواب عن إنكارهم، بخلاف الأوّل، فإنّه ابتداء إخبار، فلا يناسبه اللام المؤكّدة.

وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر البيّن بالآيات الشاهدة لصحّته. و هو المحسن للاستشهاد، فإنّه لو قال المدّعي: و اللّه إنّي لصادق فيما أدّعي، و لم يبيّنه بدليل واضح، لكان قبيحا، فلا يحسن الدعوى إلّا ببيّنة.

قالُوا في جواب الرسل حين عجزوا عن إيراد شبهة، و عدلوا عن النظر في المعجزة إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاء منا بكم. و ذلك لاستغرابهم ما ادّعوه، و استقباحهم له، و تنفّرهم عنه، فإنّ من

عادة الجهّال أن يتيمّنوا بكلّ شي ء مالوا إليه و اشتهوه و آثروه و قبلته طباعهم، و يتشاءموا بما نفروا عنه و كرهوه. فإن أصابهم نعمة أو بلاء، قالوا: ببركة هذا و بشؤم هذا. كما حكاه اللّه تعالى عن القبط: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ (2). و عن مشركي مكّة: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ (3). و قيل: حبس عنهم القطر فقالوا ذلك.

ص: 504


1- يوسف: 31.
2- الأعراف: 131.
3- النساء: 78.

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عمّا تدّعونه من الرسالة لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة. و قيل:

لنشتمنّكم. وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا يعني: الرسل طائِرُكُمْ مَعَكُمْ سبب شؤمكم معكم. و هو سوء عقيدتكم و أعمالكم. فأمّا الدعاء إلى التوحيد، و عبادة اللّه تعالى وحده، ففيه غاية البركة و الخير و اليمن، و ليس فيه شائبة الشؤم أصلا. أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ وعظتم.

و جواب الشرط محذوف، مثل: تطيّرتم، أو توعّدتم بالرجم و التعذيب. و قرأ ورش و أبو عمرو: آئن بالمدّ و التسهيل. و قالون و ابن كثير: أئن بالتسهيل بلا مدّ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ قوم عادتكم الإسراف في العصيان، فمن ثمّ جاءكم الشؤم. أو في الضلال، و لذلك توعّدتم و تشاءمتم بمن يجب أن يكرّم و يتبرّك به.

و تفصيل هذه القصّة:

أنّ أهل أنطاكية كانوا عبدة أصنام، فأرسل إليهم عيسى اثنين، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له، و هو حبيب النجّار صاحب يس، فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمان.

فقال: أ معكما آية؟

قالا: نعم، نشفي المريض، و نبرئ الأكمه و الأبرص بإذن اللّه.

فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين.

قالا:

فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله.

فذهب بهما، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن اللّه صحيحا. فآمن حبيب، و فشى الخبر، فشفى اللّه على أيديهما خلقا. و بلغ حديثهما إلى الملك، فدعاهما و قال: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة

ص: 505

من يسمع و يبصر.

فقال الملك: و لكما إله سوى آلهتنا؟

قالا: نعم، من أوجدك و آلهتك.

فقال: قوما حتّى أنظر في أمركما. فحبسهما.

و عن وهب بن منبّه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية، فأتياها و لم يصلا إلى ملكها، و طالت مدّة مقامهما. فخرج الملك ذات يوم، فكبّرا و ذكرا اللّه.

فغضب الملك و أمر بحبسهما، و جلد كلّ واحد منهما مائة جلدة.

فلمّا كذّب الرسولان و ضربا، بعث عيسى شمعون الصفا- رأس الحواريّين- على أثرهما لينصرهما. فدخل شمعون البلدة متنكّرا، فجعل يعاشر حاشية الملك، حتّى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك، فدعاه و رضي عشرته، و أنس به و أكرمه.

ثمّ قال له ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن، و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل سمعت قولهما؟

قال الملك: حال الغضب بيني و بين ذلك.

قال: فإن راى الملك دعاهما حتّى نتطّلع ما عندهما.

فدعاهما الملك. فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟

قالا: اللّه الّذي خلق كلّ شي ء، و ليس له شريك.

فقال: صفا و أوجزا.

قالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

قال: و ما آيتكما؟

قالا: ما يتمنّى الملك.

فدعا بغلام مطموس (1) العين، و موضع عينيه كالجبهة. فدعوا اللّه حتّى انشقّ .

ص: 506


1- المطموس: الذاهب البصر.

له موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين، فوضعاهما في حدقتيه، فصارتا مقلتين (1) ينظر بهما. فتعجّب الملك.

فقال له شمعون: أ رايت لو سألت إلهك حتّى يصنع مثل هذا، فيكون لك و لإلهك شرفا؟

فقال: ليس لي عنك سرّ، إنّ آلهتنا لا تسمع، و لا تبصر، و لا تضرّ، و لا تنفع.

و كان شمعون يدخل معهم على آلهتهم، فيصلّي و يتضرّع، و يحسبون أنّه منهم.

ثمّ قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به و بكما.

فقال الملك: إنّ هنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام، لم ندفنه حتّى يرجع أبوه، و كان غائبا. فجاءوا بالميّت، و قد تغيّر و أروح (2). فجعلا يدعوان ربّهما علانية، و جعل شمعون يدعو ربّه سرّا. فقام الميّت و قال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام، و أدخلت في سبعة أو دية من النار، أنا أحذّركم ما أنتم عليه، فآمنوا.

و قال: فتحت أبواب السماء، فرأيت شابّا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة.

قال: و من هم؟

قال: شمعون و هذان. فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أنّ قوله قد أثّر فيه نصحه في جمع، فآمن هو و من أهل مملكته قوم، و من لم يؤمن صاح عليهم جبرئيل فهلكوا.

و قد روى مثل ذلك العيّاشي بإسناده عن الثمالي و غيره، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهم السّلام.

و في بعض الروايات: أنّ الميّت الّذي أحياه اللّه بدعائهما كان ابن الملك، و أنّه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه. فقال: يا بنيّ ما حالك؟

قال: كنت ميّتا، فرأيت رجلين ساجدين يسألان اللّه أن يحييني.

ص: 507


1- المقلة: شحمة العين، أو هي السواد و البياض منها.
2- أروح الماء: أنتن و فسد و وجد ريحه.

قال: يا بنيّ فتعرفهما إذا رأيتهما؟

قال: نعم.

فأخرج الناس إلى الصحراء، فكان يمرّ عليه رجل بعد رجل. فمرّ أحدهما

بعد جمع كثير، فقال: هذا أحدهما، ثمّ مرّ الآخر، فعرفهما، و أشار بيده إليهما. فآمن الملك و أهل مملكته.

[سورة يس [36]: الآيات 20 الى 30]

وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [20] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ [21] وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [22] أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ [23] إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [24]

إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [25] قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [26] بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [27] وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ [28] إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ [29]

يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [30]

و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك، و أجمع هو و قومه على قتل الرسل، فبلغ

ص: 508

ذلك حبيبا، و هو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم، يذكّرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسول، كما حكاه اللّه تعالى بقوله: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى يعني: حبيب النجّار. كان ينحت أصنامهم. و هو ممّن آمن بمحمّد، و بينهما ستّمائة سنة.

و قيل: كان في غار يعبد اللّه، فلمّا بلغه خبر الرسل أتاهم و أظهر دينه و قاول الكفرة.

قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على النصح و تبليغ الرسالة وَ هُمْ مُهْتَدُونَ و هذا كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، و تربحون صحّة دينكم، فينتظم لكم خير الدارين.

ثمّ أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه، و هو يريد مناصحتهم، ليتلطّف بهم في الإرشاد، و يداريهم، و لأنّه أدخل في إمحاض النصح، حيث لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه، فقال:

وَ ما لِيَ بفتح الياء، على قراءة غير حمزة، فإنّه يسكن الياء في وصله بقوله: لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي مراده منه تقريعهم على إشراكهم في عبادة خالقهم عبادة غيره. و لذلك قال: وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مبالغة في التهديد. و لو لا أنّه قصد ذلك لقال: الّذي فطرني و إليه أرجع.

ثمّ عاد إلى المساق الأوّل فقال: أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً لا تنفعني شفاعتهم. و المعنى: لا شفاعة لهم فتغني.

وَ لا يُنْقِذُونِ من ذلك الضرر بالنصر و المظاهرة بوجه من الوجوه.

إِنِّي إِذاً أي: حين أوثر ما لا ينفع و لا يدفع ضرّا بوجه ما، على الخالق المقتدر على النفع و الضرّ و إشراكه به لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لا يخفى على عاقل. و قرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء. و كذلك في قوله: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الّذي خلقكم

ص: 509

فَاسْمَعُونِ فاسمعوا قولي و أطيعوني.

و عن ابن مسعود: الخطاب للرسل، فإنّه لمّا نصح قومه أخذوا يرجمونه، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال: إنّي آمنت بربّكم أيّها الرسل، فاسمعوا إيماني تشهدوا لي به.

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل له ذلك لمّا قتلوه بشرى له بأنّه من أهل الجنّة، أو إكراما و إذنا في دخولها كسائر الشهداء.

و عن الحسن: لمّا همّوا بقتله رفعه اللّه إلى الجنّة، و هو فيها حيّ يرزق. فأراد به قوله: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1). و إنّما لم يقل: له، لأنّ الغرض بيان المقول و عظمه، دون المقول له، فإنّه معلوم.

و الكلام استئناف في حيّز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربّه. كأنّ قائلا قال: كيف كانت حاله بعد تصلّبه في نصر دينه؟ فقيل: قيل ادخل الجنّة.

و لذلك قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ فإنّه مرتّب على تقدير سؤال سائل سأل بحاله، ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر، و الدخول في الإيمان و الطاعة المفضيين بأهلهما إلى الجنّة، على دأب الأولياء في كظم الغيظ، و الترحّم على الأعداء. أو ليعلموا أنّهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، و أنّه كان على الحقّ.

و «ما» موصولة أو مصدريّة. و الباء صلة «يعلمون». و يحتمل أن تكون استفهاميّة جاءت على الأصل، و الباء صلة «غفر لي». يريد به المهاجرة عن دينهم، و المصابرة على أذيّتهم حتّى قتل. و المعنى: بأيّ شي ء غفر لي ربّي؟ إلّا أنّ حذف الألف من لفظة «ما» حينئذ أجود من إثباته.

و في تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص: 510


1- آل عمران: 169- 170.

«سبّاق الأمّة ثلاثة، لم يكفروا طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، و صاحب يس، و مؤمن آل فرعون. فهم الصدّيقون، و عليّ عليه السّلام أفضلهم».

ثمّ حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب و الاستئصال، فقال استحقارا لإهلاكهم، و إيماء بتعظيم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد قتله، أو رفعه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ من جنود السماء لإهلاكهم وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ و ما صحّ في

حكمتنا أن ننزّل جندا لإهلاك قومه، كما أرسلنا و أنزلنا منها جنودا لم تروها يوم بدر و الخندق، حيث قال: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (1) بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (2) بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (3). و ما كان ذلك إلّا تعظيما لرسوله و فضله و أمّته على سائر الأنبياء و أممهم. فكأنّه أشار بقوله: «وَ ما أَنْزَلْنا» «وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ» إلى أنّ إنزال الجنود من عظائم الأمور الّتي لا يؤهّل لها إلّا مثلك، و ما كنّا نفعله بغيرك.

و قيل: «ما» موصولة معطوفة على «جند» أي: و ممّا كنّا منزلين على من قبلهم، من حجارة و ريح و أمطار شديدة.

ثمّ بيّن سبحانه بأيّ شي ء كان هلاكهم، فقال: إِنْ كانَتْ ما كانت الأخذة أو العقوبة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبرئيل. و قرأ أبو جعفر بالرفع على «كان» التامّة، أي: و ما وقعت إلّا صيحة. و القياس و الاستعمال على تذكير الفعل، لأنّ المعنى: ما وقع شي ء إلّا صيحة، و لكنّه نظر إلى ظاهر اللفظ، و أنّ الصيحة في حكم فاعل الفعل. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميّتون. شبّهوا بالنار، رمزا إلى أنّ الحيّ كالنار الساطعة و الميّت كرمادها، كما قال لبيد:

ص: 511


1- الأنفال: 9.
2- آل عمران: 124.
3- آل عمران: 125.

و ما المرء إلا كالشهاب و ضوئه يحور(1)رمادا بعد إذ هو ساطع

روي: أنّهم لمّا قتلوا حبيب النجّار غضب اللّه عليهم، فبعث جبرئيل حتّى أخذ بعضادتي باب المدينة، ثمّ صاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، لا يسمع لهم حسّ، كالنار إذا طفئت.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه أجرى هلاك كلّ قوم على بعض الوجوه، بناء على ما اقتضته الحكمة، و أوجبته

المصلحة. ألا ترى إلى قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا (2).

ثمّ نادى الحسرة عليهم بقوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ كأنّه قيل للحسرة:

تعالي فهذه الحالة من الأحوال الّتي من حقّها أن تحضري فيها. و هي ما دلّ عليها قوله: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فإنّ المستهزئين بالناصحين المخلصين- المنوط بنصحهم خير الدارين- أحقّاء بأن يتحسّر عليهم المتحسّرون، و يتلهّف على حالهم المتلهّفون. أو هم متحسّر عليهم من جهة الملائكة. و يجوز أن يكون تحسّرا من اللّه عليهم على سبيل الاستعارة، لتعظيم ما جنوه على أنفسهم.

[سورة يس [36]: الآيات 31 الى 36]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [31] وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [32] وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [33] وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ [34] لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ

ص: 512


1- أي: ينقص فيرجع رمادا.
2- العنكبوت: 40.

أَ فَلا يَشْكُرُونَ [35]

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ [36]

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا ألم يعلموا. و هو معلّق عن العمل في قوله: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لأنّ «كم» لا يعمل فيها ما قبلها، و إن كانت خبريّة، لأنّ أصلها الاستفهام. و يسمّى كلّ عصر قرنا، لاقترانهم في الوجود.

أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ بدل من «كم» على المعنى، أي: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم في الدنيا، فيعتبروا بهم أنّهم سيصيرون إلى مثل حالهم، فينظروا لأنفسهم، و يحذروا أن يأتيهم الهلاك، و هم في غفلة و غرّة كما أتاهم.

وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يوم القيامة للجزاء. و «إن» مخفّفة من الثقيلة. و اللام هي اللام الفارقة. و «ما» مزيدة للتأكيد. و قرأ ابن عامر و حمزة و عاصم «لمّا» بالتشديد، بمعنى: إلّا فتكون «إن» نافية. و التنوين في «كلّ» هو الّذي يقع عوضا عن المضاف إليه، كقولك: مررت بكلّ قائما. و «جميع» فعيل بمعنى مفعول. و «لدينا» ظرف له، أو ل «محضرون». و المعنى: إن كلّهم- من الماضين و الباقين- مجموعون محشورون للحساب و الجزاء على وفق أعمالهم.

ثمّ نبّه على بعثهم بقوله: وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أي: دلالة واضحة، و حجّة قاطعة لهم على قدرتنا على بعث الأرض القحطة المجدبة الّتي لا تنبت.

و قرأ نافع بالتشديد. أَحْيَيْناها خبر للأرض. و الجملة خبر «آية» أو صفة لها، إذ لم يرد بها معيّنة، فعوملت معاملة النكرات. و نحوه: و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني.

و «الأرض» خبر أو مبتدأ، و الآية خبرها، أو استئناف لبيان «الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ».

وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحبّ، من الشعير و الحنطة و الأرز و غيرها

ص: 513

فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدّم الصلة، للدلالة على أنّ الحبّ معظم ما يؤكل و يعاش به، و منه صلاح الإنس، و إذا قلّ جاء القحط و وقع الضرّ، و إذا فقد جاء الهلاك.

وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ من أنواع النخل و العنب، و لذلك جمعهما دون الحبّ، فإنّ الدالّ على الجنس مشعر بالاختلاف، و لا كذلك الدالّ على الأنواع. و ذكر النخيل دون التمور ليطابق الحبّ. و جمع الأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع و آثار الصنع.

وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي: شيئا من العيون. فحذف الموصوف و أقيمت الصفة مقامه. أو العيون، و «من» مزيدة عند الأخفش.

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثمر ما ذكر. و هو الجنّات. و قيل: الضمير للّه على طريقة الالتفات. و الإضافة إليه، لأنّ الثمر بخلقه و فعله. فالمعنى: ليأكلوا ممّا خلقه اللّه من الثمر. و قرأ حمزة و الكسائي بضمّتين (1). و هو لغة فيه، أو جمع ثمر.

وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ عطف على الثمر. و المراد: ما يتّخذ منه، كالعصير و الدبس، و غير ذلك من الأعمال. يعني: أن الثمر في نفسه فعل اللّه و خلقه، و فيه آثار من كدّ بني آدم. و قيل: «ما» نافية. و المعنى: أنّ الثمر بخلق اللّه لا بفعلهم.

و يؤيّد الأوّل قراءة الكوفيّين غير حفص بلا هاء، فإنّ حذفه من الصلة أحسن من غيرها. أَ فَلا يَشْكُرُونَ أمر بالشكر من حيث إنّه إنكار لتركه.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه و عظّمها، دالّا بذلك على أنّه هو الّذي يستحقّ منتهى الحمد و غاية الشكر، فقال:

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي: تنزيها و تعظيما و براءة عن السوء، للّذي خلق جميع الأنواع و الأصناف مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من سائر النبات و الشجر وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الذكر و الأنثى وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ و أزواجا ممّا لم يطلعهم اللّه

ص: 514


1- أي: ثمره.

عليه، و لم يجعل لهم طريقا إلى معرفته. و لا يبعد أن يخلق اللّه تعالى من الخلائق الحيوان و الجماد ما لم يجعل للبشر طريقا إلى العلم به، لأنّه لا حاجة بهم في دينهم و دنياهم إلى ذلك العلم، و لو كانت بهم إليه حاجة لأعلمهم، و في الإعلام بكثرة ما خلق- ممّا علموه و ممّا جهلوه- ما يدلّ على عظم قدرته و اتّساع ملكه.

[سورة يس [36]: الآيات 37 الى 40]

وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [37] وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [38] وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [39] لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [40]

وَ آيَةٌ و دلالة اخرى لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نكشفه عن مكانه.

يعني: ننزع و نخرج منه ضوء الشمس، فيبقى الهواء مظلما كما كان، لأنّ اللّه سبحانه يضي ء الهواء بضياء الشمس، فإذا انسلخ منه الضياء- أي: كشط و أزيل- يبقى مظلما. مستعار من: سلخ جلد الشاة، إذا كشطه عنها و أزاله. و الكلام في إعرابه ما سبق.

فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام، لا ضياء لهم فيه. فجعل سبحانه الليل كالجسم المظلم، و النهار كالقشر. أو جعل النهار لأنّه عارض كالكسوة، و الليل لأنّه أصل كالجسم.

وَ الشَّمْسُ تَجْرِي في فلكها إلى آخر السنة لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحدّ معيّن ينتهي إليه دورها. فشبّه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره. أو لمنتهى لها مقدّر لكلّ يوم من المشارق و المغارب، فإنّ لها في دورها ثلاثمائة و ستّين مشرقا و مغربا،

ص: 515

تطلع كلّ يوم من مطلع و تغرب من مغرب، حتّى تبلغ أقصاها، ثمّ لا تعود إليهما إلى العام القابل، فذلك حدّها و مستقرّها. أو لمنقطع جريها عند خراب العالم. أو لاستقرار لها على نهج مخصوص، لا تعدوه و لا تختلف. أو لكبد السماء، فإنّ حركتها فيه يوجد فيها إبطاء، بحيث يظنّ أنّ لها هناك وقفة.

ذلِكَ الجري على هذا التقدير المتضمّن للحكم الّتي تكلّ الفطن عن إحصائها تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كلّ مقدور الْعَلِيمِ المحيط علمه بكلّ معلوم.

وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مرفوع بالابتداء، أو بعطفه على الليل. و قرأ الكوفيّون و ابن عامر بنصب الراء بفعل يفسّره «قدّرناه». و على التقديرين، معناه: قدّرنا مسيره.

مَنازِلَ أو قدّرنا سيره في منازل.

و هي ثمانية و عشرون: الشرطين، البطين، الثريّا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بالع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدّم، فرغ الدلو المؤخّر، الرشاء، و هو بطن الحوت. ينزل كلّ ليلة في واحد منها، لا يتخطّاه و لا يتقاصر عنه، بل يكون على تقدير مستو لا يتفاوت، يسير فيها كلّ ليلة من المستهلّ إلى الثامنة و العشرين، ثمّ يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر.

و هذه المنازل هي مواقع النجوم الّتي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة.

و إذا كان القمر في آخر منازله دقّ و استقوس.

حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ كالشمراخ المعوّج. «فعلون» من الانعراج، و هو الاعوجاج. الْقَدِيمِ العتيق. قيل: إنّ العرجون يصير معوّجا في كلّ ستّة أشهر.

روى عليّ بن إبراهيم بإسناده قال: «دخل أبو سعيد المكاري- و كان واقفيّا- على أبي الحسن الرضا عليه السّلام فقال له: أبلغ من قدرك أنّك تدّعي ما ادّعاه أبوك؟

ص: 516

فقال له أبو الحسن عليه السّلام: مالك أطفأ اللّه نورك، و أدخل الفقر بيتك، أما علمت أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى عمران: أنّي واهب لك ذكرا يبرئ الأكمه و الأبرص. فوهب له مريم، و وهب لمريم عيسى. فعيسى من مريم، و مريم من عيسى، و عيسى و مريم شي ء واحد. و أنا من أبي، و أبي منّي، و أنا و أبي شي ء واحد.

فقال له أبو سعيد: فأسألك عن مسألة؟

قال سل، و لا تقبل منّي، و لست من غنمي، و لكن هلمّها.

قال: ما تقول في رجل قال عند موته: كلّ مملوك لي قديم، فهو حرّ لوجه اللّه تعالى؟

فقال أبو الحسن عليه السّلام: ما ملكه لستّة أشهر فهو قديم، و هو حرّ.

قال: و كيف صار كذلك؟

قال: لأنّ اللّه تعالى يقول: «وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ». سمّاه قديما، و يعود كذلك لستّة أشهر.

قال: فخرج أبو سعيد من عنده، و ذهب بصره، و كان يسأل على الأبواب حتّى مات».

لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها لا يصحّ لها و لا يتسهّل و يستقيم أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيره، لأنّ الشمس أبطأ سيرا من القمر، فإنّها تقطع منازلها في سنة، و القمر يقطعها في شهر. و اللّه سبحانه يجريهما إجراء التدوير، و باين بين فلكيهما و مجاريهما، فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر ما داما على هذه الصفة. و إن كان سيرهما مساويا في السرعة و البطء، يخلّ بتكوّن النبات و تعيّش الحيوان. أو في آثاره و منافعه. أو مكانه، بالنزول إلى محلّه، فإنّ القمر في السماء الدنيا، و الشمس في الرابعة. أو سلطانه، فتطمس نوره. و إيلاء حرف النفي «الشمس» للدلالة على أنّها مسخّرة، لا يتيسّر لها إلّا ما أريد بها.

وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يسبقه فيفوته، و لكن يعاقبه. و قيل: المراد بهما

ص: 517

آيتاهما، و هما النّيران، و بالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس. فيكون عكسا للأوّل. و تبديل الإدراك بالسبق لأنّه الملائم لسرعة سيره.

وَ كُلٌ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه. و المعنى: و كلّهم. و الضمير للشموس و الأقمار. فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بانبساط. و كلّ ما انبسط في شي ء فقد سبح فيه. و منه السباحة في الماء. و لا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل اللّه ما دبّر في ذلك، و ينقض ما ألّف، فيجمع بين الشمس و القمر، و يطلع الشمس من مغربها.

و إنّما قال: «يسبحون» بالواو و النون، لأنّه وصفها بصفة من يعقل.

و قال ابن عبّاس: يسبحون، أي: يجري كلّ واحد منها في فلكه، كما يدور المغزل في الفلكة.

[سورة يس [36]: الآيات 41 الى 47]

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [41] وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ [42] وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ [43] إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ [44] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [45]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [46] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [47]

ص: 518

ثمّ امتنّ سبحانه على خلقه بذكر فنون نعمه الأخر، دالّا بذلك على وحدانيّته، و كمال قدرته و علمه، فقال:

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم الّذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم و نساءهم الّذين يستصحبونهم، فإنّ الذرّيّة تقع عليهنّ، لأنّهنّ مزارعها.

و في الحديث: أنّه نهى عن قتل الذراري، يعني: النساء. و تخصيصهم بالحمل في الفلك لضعفهم، و لأنّه لا قوّة لهم على السفر كقوّة الرجال. فتمكّنهم في السفن أشقّ، و تماسكهم فيها أعجب. و قرأ نافع و ابن عامر: ذرّيّاتهم.

فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء. و قيل: المراد فلك نوح. و حمل اللّه ذرّيّاتهم فيها، أنّه حمل فيها آباءهم الأقدمين، و في أصلابهم ذرّيّاتهم. و تخصيص الذرّيّة، لأنّه أبلغ في الامتنان، و أدخل في التعجّب من قدرته، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح.

و عن الضحّاك و قتادة و جماعة من المفسّرين: أنّ المراد من ذرّيّتهم آباؤهم و أجدادهم الّذين هؤلاء من نسلهم، في سفينة نوح المملوءة من النّاس، و ما يحتاج إليه من فيها، فسلموا من الغرق، فانتشر منهم بشر كثير. و سمّي الآباء ذرّيّة من: ذرأ الخلق، لأنّ الأولاد خلقوا منهم. و يسمّى الأولاد ذرّيّة، لأنّهم خلقوا من الآباء.

وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ من مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ من الإبل، فإنّها سفائن البرّ. أو من مثل سفينة نوح من السفن و الزوارق.

وَ إِنْ نَشَأْ إذا حملناهم في السفن نُغْرِقْهُمْ بتهييج الرياح و الأمواج فَلا صَرِيخَ لَهُمْ فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون من الموت به إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إلّا لرحمة و لتمتيع بالحياة إِلى حِينٍ زمان قدّر لآجالهم.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من الوقائع الّتي خلت في الأمم المكذّبة

ص: 519

بأنبيائهم وَ ما خَلْفَكُمْ من العذاب المعدّ في الآخرة. أو من نوازل السماء و نوائب الأرض، كقوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ (1). أو من عذاب الدنيا و من عذاب الآخرة، أو عكسه. أو ما تقدّم من الذنوب و ما تأخّر.

و روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «معناه: اتّقوا ما بين أيديكم من الذنوب و ما خلفكم من العقوبة»

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا راجين رحمة اللّه.

و جواب «إذا» محذوف دلّ عليه قوله: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ كأنّه قال: و إذا قيل لهم اتّقوا العذاب أعرضوا. ثمّ قال: و دأبهم الإعراض عند كلّ آية و موعظة، و اعتادوه و تمرّنوا عليه.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا في طاعته مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ على محاويجكم، أي:

أخرجوا ما أوجب عليكم في أموالكم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالصانع. يعني: المعطّلة من أهل مكّة الّذين كانوا منكرين أن يكون الغنا و العفو من اللّه. لِلَّذِينَ آمَنُوا تهكّما بهم من إقرارهم به، و تعليقهم الأمور بمشيئته أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على زعمكم، أي: احتجّوا في منع الحقوق، بأن قالوا: كيف نطعم من يقدر اللّه على إطعامه، و لو شاء أطعمه، فإذا لم يطعم دلّ على أنّه لم يشأ إطعامه. و ذهب عنهم أنّ اللّه سبحانه إنّما تعبّدهم بذلك لما لهم فيه من المصلحة، فأمر الغنيّ بالإنفاق على الفقير ليكسب به الأجر و الثواب.

قيل: قاله مشركو قريش، حين استطعمهم فقراء المؤمنين، إيهاما بأنّ اللّه لمّا كان قادرا أن يطعمهم و لم يطعمهم، فنحن أحقّ بذلك. و هذا من فرط جهالتهم، فإنّ اللّه يطعم بأسباب، منها حثّ الأغنياء على إطعام الفقراء.

إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة اللّه. و يجوز أن يكون جوابا من اللّه لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.

ص: 520


1- سبأ: 9.

[سورة يس [36]: الآيات 48 الى 54]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [48] ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ [49] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [50] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى

رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [51] قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [52]

إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [53] فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [54]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون وعد البعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و هذا استهزاء منهم بخبر النبيّ و المؤمنين بوقوع البعث.

فقال في جوابهم: ما يَنْظُرُونَ ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى تَأْخُذُهُمْ أو القيامة تأتيهم بغتة وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ يتخاصمون في متاجرهم و معاملاتهم، لا يخطر ببالهم أمرها، كقوله: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (1).

و في الحديث: «تقوم الساعة و الرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه، فما يطويانه حتّى تقوم. و الرجل يرفع أكلته إلى فيه، فما تصل إلى فيه حتّى تقوم. و الرجل يليط (2) حوضه ليسقي ماشيته، فما يسقيها حتّى تقوم».

ص: 521


1- يوسف: 107.
2- لاط الحوض: طيّنه لئلّا ينشف الماء.

و قيل: و هم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا؟

و أصل «يخصّمون» يختصمون، فأسكنت التاء و أدغمت، ثمّ كسرت الخاء، لالتقاء الساكنين.

و روي عن أبي بكر بكسر الياء، للإتباع. و قرأ ابن كثير و ورش و هشام بفتح الخاء، على إلقاء حركة التاء إليه. و أبو عمرو و قالون به مع الاختلاس (1). و عن نافع الفتح فيه و الإسكان و التشديد. و كأنّه جوّز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما. و قرأ حمزة: يخصمون، من: خصمه إذا جادله.

فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً في شي ء من أمورهم وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ و لا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم و أهاليهم، فيروا أحوالهم، بل يموتون حيث تفاجئهم الصيحة.

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ أي: مرّة ثانية. و قد سبق تفسيره في سورة المؤمنين (2).

فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ من القبور. جمع جدث. إِلى رَبِّهِمْ إلى الموضع الّذي يحكم اللّه فيه، لا حكم لغيره هناك يَنْسِلُونَ يسرعون.

فلمّا رأوا أهوال القيامة قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا من منامنا الّذي كنّا فيه. و فيه ترشيح و رمز و إشعار بأنّهم لاختلاط عقولهم يظنّون أنّهم كانوا نياما.

و قيل: إنّهم لمّا عاينوا أهوال القيامة، عدّوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى تلك الأهوال رقادا. و سكت حفص على «مرقدنا» سكتة لطيفة. و وقف غيره عليه.

هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ مبتدأ و خبر. و «ما» مصدريّة. أو موصولة محذوفة الراجع، أي: هذا الّذي وعده الرحمن و الّذي صدّقه المرسلون صدقوا فيه. من

ص: 522


1- اختلس القارئ الحركة: لم يبلّغها. و يقابله الإشباع. و هو: تبليغ الحركة حتّى تصير حرف مدّ.
2- راجع ج 4 ص 466، ذيل الآية [101] من سورة المؤمنون.

قولهم: صدقوهم الحديث. او «هذا» صفة ل «مرقدنا». و «ما وعد» خبر محذوف. أو مبتدأ خبره محذوف، أي: ما وعد الرحمن وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حقّ. و هو من كلامهم، يتذكّرون ما سمعوه من الرسل، فيجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضا.

و قيل: جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم، تذكيرا لكفرهم، و تقريعا لهم عليه، و تنبيها بأنّ الّذي يهمّهم هو السؤال عن البعث دون الباعث. فكأنّه قيل لهم: ليس الأمر كما تظنّون، فإنّه ليس البعث الّذي عرفتموه هو بعث النائم من مرقده، فيهمّكم السؤال عن الباعث، إنّ هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال الشديدة، و الأفزاع العظيمة.

إِنْ كانَتْ ما كانت الفعلة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأخبرة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ مجموعون في عرصات القيامة لَدَيْنا عند محاسبتنا إيّاهم مُحْضَرُونَ بمجرّد تلك الصيحة. و في كلّ ذلك تهوين أمر البعث و الحشر، و استغناؤهما عن الأسباب الّتي ينوطان بها، فيما يشاهده الأوّلون و الآخرون.

ثمّ حكى سبحانه ما يقوله في ذلك اليوم للخلائق، تمكينا له في نفوسهم، و زيادة لتصوير الموعود، و ترغيبا في الحرص عليه، فقال:

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً لا ينقص من له حقّ شيئا من حقّه من الثواب أو العوض، و لا يفعل به ما لا يستحقّه من العقاب، بل الأمور جارية على مقتضى العدل. و ذلك قوله: وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

[سورة يس [36]: الآيات 55 الى 58]

إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [55] هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [56] لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ [57] سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [58]

ص: 523

ثمّ ذكر حال أوليائه بقوله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ متلذّذون فرحون في النعمة. من الفكاهة. و في تنكير «شغل» و إبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة التامّة و التلذّذ الكامل، و تنبيه على أنّه أعلى ما تحيط به الأفهام، و يفسّر عن كنه الكلام، فلا يهتمّون بأهل النار و نكالهم، و إن كانوا أقاربهم.

و عن ابن مسعود و ابن عبّاس:

أنّهم شغلوا بافتضاض الأبكار. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و قيل: باستماع الألحان.

و قيل: شغلهم في الجنّة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء. فثواب الرجل بقوله: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (1). و ثواب اليد يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً (2). و ثواب الفرج وَ حُورٌ عِينٌ (3). و ثواب البطن كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً (4) و ثواب اللسان وَ آخِرُ دَعْواهُمْ (5) الآية.

و ثواب الأذن لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً (6).

و ثواب العين وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ (7).

و قرأ ابن كثير و نافع: في شغل بالسكون. و يعقوب في رواية: فكهون، للمبالغة. و هما خبران ل «إنّ». و يجوز أن يكون «في شغل» صلة ل «فاكهون».

هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ و حلائلهم في الدنيا ممّن وافقهم على إيمانهم. أو أزواجهم اللّاتي زوّجهم اللّه تعالى من الحور العين. فِي ظِلالٍ جمع ظلّ، كالشعاب جمع الشعب. أو ظلّة، كقلال و قلّة. و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي: في ظلل. عَلَى

ص: 524


1- الحجر: 46.
2- الطور: 23.
3- الواقعة: 22.
4- الطور: 19.
5- يونس: 10.
6- مريم: 62.
7- الزخرف: 71.

الْأَرائِكِ على السرر المزيّنة. جمع الأريكة. و هي السرير في الحجلة. مُتَّكِؤُنَ جالسون جلوس الملوك.

و «هم» مبتدأ، خبره «في ضلال». و «على الأرائك» جملة مستأنفة، أو خبر ثان. أو «متّكؤن»، و الجارّان صلتان له. أو «هم» تأكيد للضمير في «شغل»، أو في «فاكهون». و «على الأرائك متّكئون» خبر آخر. و «أزواجهم» عطف على «هم» لأنّهم يشاركنهم في الأحكام الثلاثة، أعني: الفكاهة و الظلال و الاتّكاء. و «في ظلال» حال من المعطوف- و هو: أزواجهم- و المعطوف عليه، و هو ضمير «هم».

لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما يدّعون به لأنفسهم. يفتعلون من الدعاء، كاشتوى إذا شوى لنفسه. أو ما يتداعونه، كقولك: ارتموه، بمعنى: تراموه. أو يتمنّون، من قولهم: ادّع عليّ ما شئت، بمعنى: تمنّه عليّ. أو ما يدعونه في الدنيا من الجنّة و درجاتها.

و «ما» موصولة، أو موصوفة، مرتفعة بالابتداء، و «لهم» خبرها. و قوله:

سَلامٌ بدل منها، أو صفة اخرى.

و قيل: «ما يدّعون» مبتدأ، و خبره «سلام» بمعنى: و لهم ما يدّعون خالص لا شوب فيه. أو خبر محذوف. أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: القول بينهم سلام.

قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي: يقول اللّه. أو يقال لهم قولا كائنا من جهته.

و المعنى: أنّ اللّه يسلّم عليهم بواسطة الملائكة تعظيما لهم، و ذلك مطلوبهم و متمنّاهم.

و عن ابن عبّاس: الملائكة يدخلون عليهم بالتحيّة من ربّ العالمين، فيقولون: سلام عليكم من ربّكم الرحيم. و يحتمل نصبه على الاختصاص.

[سورة يس [36]: الآيات 59 الى 68]

وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [59] أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [60] وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ

ص: 525

مُسْتَقِيمٌ [61] وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [62] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [63]

اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [64] الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [65] وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [66] وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ [67] وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ [68]

ثمّ ذكر سبحانه أهل النار، فقال: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ و انفردوا اليوم عن المؤمنين أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ معاشر العصاة. و ذلك حين يسار بهم إلى الجنّة. و نحوه قوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (1).

و قيل: اعتزلوا من كلّ خير. أو تفرّقوا في النار، فإنّ لكلّ كافر بيتا ينفرد به، لا يرى و لا يرى.

ثمّ خصّهم سبحانه بالتوبيخ، فقال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ تقريعا لهم، و إلزاما للحجّة. و عهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقليّة و السمعيّة، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره.

و جعلها عبادة الشيطان لأنّه الآمر بها و المزيّن لها إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر عداوته، فإنّه يدعوكم إلى ما فيه هلاكك.

ص: 526


1- الروم: 14.

وَ أَنِ اعْبُدُونِي عطف على «أَنْ لا تَعْبُدُوا» هذا إشارة إلى ما عهد إليهم، أو إلى عبادة اللّه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إلى الجنّة. و الجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقّيه، أو بالشقّ الآخر. و التنكير للمبالغة و التعظيم، أي: صراط بليغ في استقامته، جامع لكلّ شرط يجب أن يكون عليه. أو للتبعيض، فإنّ التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.

ثمّ رجع إلى بيان معاداة الشيطان بقوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً خلقا كثيرا، بأن دعاهم إلى الإغواء و الإضلال. و قرأ يعقوب بضمّتين (1). و ابن كثير و حمزة و الكسائي بهما مع تخفيف اللام. و ابن عامر و أبو عمرو بضمّة و سكون مع التخفيف. و الكلّ لغات. أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ فإنّه وضح إضلاله لمن له أدنى عقل و رأي. و في هذا بطلان مذهب أهل الجبر في أنّ اللّه سبحانه أراد إضلالهم.

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في دار التكليف، حاضرة لكم تشاهدونها اصْلَوْهَا الْيَوْمَ الزموا العذاب بها، و ذوقوا حرّها. و أصل الصلاء:

اللزوم. و منه المصلّي الّذي يجي ء في أثر السابق، للزومه أثره. بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بكفركم في الدنيا.

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ نمنعها عن الكلام، فلا يقدرون على التكلّم وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بما عملوا وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بظهور آثار المعاصي عليها، و دلالتها على أفعالها. فسمّي ذلك شهادة منها، كما تقول: عيناك تشهدان بسهرك، أو بإنطاق اللّه إيّاها. و في الحديث: أنّهم يجحدون و يخاصمون فيختم على أفواههم، و يقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله.

ثمّ أخبر سبحانه عن قدرته على إهلاك هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته، فقال تهديدا لهم:

ص: 527


1- أي: جبلّا.

وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ لمسحنا أعينهم، حتّى تصير ممسوحة ممحوّا أثرها فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فاستبقوا إلى الطريق الّذي اعتادوا سلوكه.

و انتصابه بنزع الخافض. أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار. أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتّساع. أو بالظرف. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ الطريق وجهة السلوك، فضلا عن غيره؟

و عن ابن عبّاس: معنى الآية: و لو نشاء لأعميناهم عن الهدى، فطلبوا طريق الحقّ و قد عموا عنه، فكيف يبصرون؟

وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ بتغيير صورهم، و إبطال قواهم، كالحجارة عَلى مَكانَتِهِمْ أي: مكانهم الّذي هم فيه قعود. و المكانة و المكان واحد، كالمقامة و المقام. و قرأ أبو بكر: مكاناتهم. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ذهابا وَ لا يَرْجِعُونَ و لا رجوعا. فوضع الفعل موضعه للفواصل. و قيل: و لا يرجعون عن تكذيبهم.

و المعنى: أنّهم بكفرهم و نقضهم ما عهد إليهم أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك، لكنّا لم نفعل لشمول الرحمة لهم، و اقتضاء الحكمة إهمالهم.

و عن ابن عبّاس: معناه: لمسخناهم قردة و خنازير.

و عن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم و أزمنّاهم (1).

وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ و من نطل عمره نُنَكِّسْهُ نقلّبه فِي الْخَلْقِ فلا يزال يتزايد ضعفه، و انتقاض بنيته و قواه، عكس ما كان عليه بدء أمره. و ابن كثير يشبع ضمّة الهاء على أصله. و قرأ عاصم و حمزة: ننكّسه، من التنكيس. و هو أبلغ.

و النكس أشهر.

و الملخّص: إنّا نقلّبه فنخلقه على عكس ما خلقناه قبلا، بأن خلقناه على ضعف في جسده، و خلوّ من عقل و علم، ثمّ جعلناه يتزايد و ينتقل من حال إلى

ص: 528


1- أزمن اللّه فلانا: ابتلاه بالزمانة.

حال، و يرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشدّه، و يستكمل قوّته، و يعلم ماله و ما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ، في ضعف جسده و قلّة عقله و خلوّه من العلم، كما ينكس السهم، فيجعل أعلاه أسفله. و مثل ذلك قوله تعالى: وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً (1). ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (2).

أَ فَلا يَعْقِلُونَ أنّ من قدر على أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، و من القوّة إلى الضعف، و من رجاحة العقل إلى الخرف و قلّة التمييز، و من العلم إلى الجهل، قادر على أن يطمس على أعينهم، و يمسخهم على مكانتهم، و يفعل بهم ما شاء و أراد. فلم لا يتدبّرون في أنّ اللّه تعالى يقدر على الإعادة كما قدر على ذلك؟

[سورة يس [36]: الآيات 69 الى 70]

وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ [69] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ [70]

و لمّا ذكر أدّلة وحدانيّته و كمال قدرته، شرع في بيان رسالة رسوله، ردّا لقولهم: إنّ محمدا شاعر ليس برسول، فقال تأكيدا لقوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3):

وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ بتعليم القرآن، فإنّه غير مقفّى و لا موزون، و لا يكون نظمه كنظمه، و لا أسلوبه كأسلوبه، و ليس معناه ممّا يتوخّاه الشعراء من التخيّلات المرغّبة و المنفّرة، فأين هو عن الشعر؟

وَ ما يَنْبَغِي لَهُ و ما يصحّ له الشعر، و لا يتطلّب لو طلبه، أي: جعلناه

ص: 529


1- النحل: 70.
2- التين: 5.
3- يس: 3.

بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأتّ له و لم يتسهّل، كما جعلناه أمّيّا لا يتهدّى للخطّ و لا يحسنه، لتكون الحجّة أثبت، و الشبهة أدحض.

و عن الخليل: كان الشعر أحبّ إلى رسول اللّه من كثير من الكلام، و لكن كان لا يتأتّى له و ما كان يتّزن له بيت شعر، حتّى إذا تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا. كما

روي عن الحسن: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يتمثّل بهذا البيت: كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إنّما قال الشاعر: كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا. أشهد أنّك رسول اللّه، و ما علّمك الشعر، و ما ينبغي لك.

و عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتمثّل ببيت أخي بني قيس:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا* و يأتيك بالأخبار من لم تزوّد فجعل يقول: من لم تزوّد بالأخبار. فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول اللّه.

فيقول: إنّي لست بشاعر، و ما ينبغي لي.

و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا النبيّ لا كذب* أنا ابن عبد المطّلب و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين اصابه حجر فعثر فدميت إصبعه: هل أنت إلّا إصبع دميت* و في سبيل اللّه ما لقيت

اتّفاقيّ من غير تكلّف و قصد منه إلى ذلك. و قد يقع كثيرا في تضاعيف المنثورات- من الخطب و الرسائل و المحاورات- أشياء موزونة لا يسمّيها أحد شعرا، و لا يخطر ببال المتكلّم و لا السامع أنّه شعر. على أنّ الخليل ما أعدّ المشطور من الرجز شعرا. هذا و قد روي: أنّه حرّك الباءين (1) و كسر التاء الأولى بلا إشباع، و سكّن الثانية.

ص: 530


1- أي: الباءين من: كذب، عبد المطّلب. و التاء من: دميت، لقيت.

و قيل: الضمير للقرآن، أي: و ما يصحّ للقرآن أن يكون شعرا.

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة و إرشاد من اللّه وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ و كتاب سماويّ يتلى في المعابد، ظاهر أنّه ليس كلام البشر، لما فيه من الإعجاز.

لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول من معاصي اللّه. و يؤيّده قراءة نافع و ابن عامر و يعقوب بالتاء. مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا متأمّلا، فإنّ الغافل كالميّت. أو مؤمنا في علم اللّه، فإنّ الحياة الأبديّة بالإيمان. و تخصيص الإنذار بمن كان حيّا، لأنّه المنتفع به.

وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ و تجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ المصرّين على الكفر.

و جعلهم في مقابلة من كان حيّا، إشعار بأنّهم لكفرهم و عدم تأمّلهم أموات في الحقيقة.

[سورة يس [36]: الآيات 71 الى 76]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ [71] وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ [72] وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ [73] وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ [74] لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [75]

فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ [76]

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر الأدّلة على التوحيد، فقال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا ممّا تولّينا إحداثه، و لم يقدر على إحداثه غيرنا. و ذكر الأيدي و إسناد العمل إليها، استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص و التفرّد بالإحداث، كقول الواحد منّا: عملت هذا بيدي، أي: انفردت فيه من غير إعانة معين.

ص: 531

أَنْعاماً خصّها بالذكر، لما فيه من بدائع الفطرة و كثرة المنافع فَهُمْ لَها مالِكُونَ متملّكون بتمليكنا إيّاها. أو متمكّنون من ضبطها، متصرّفون فيها تصرّف الملّاك بتسخيرنا إيّاها لهم، كقوله:

أصبحت لا أحمل السلاح و لاأملك رأس البعير إن نفرا أي: لا أضبطه.

وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ صيّرناها منقادة لهم فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مركوبهم وَ مِنْها يَأْكُلُونَ أي: ما يأكلون لحمه وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود و الأصواف و الأوبار و غير ذلك وَ مَشارِبُ من اللبن. جمع مشرب، بمعنى موضع الشرب، أو المصدر.

ذكرها مجملة، و قد فصّلها في قوله: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً (1) الآية.

و أمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام. أَ فَلا يَشْكُرُونَ نعم اللّه في ذلك، إذ لولا خلقه لها و تذليله إيّاها، كيف أمكن التوسّل إلى تحصيل هذه المنافع المهمّة؟

ثمّ ذكر سبحانه جهلهم فقال: وَ اتَّخَذُوا و عبدوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أي:

أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة و النعم المتظاهرة، و علموا أنّه المتفرّد بها لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم (2) من الأمور، و الأمر على عكس ما قدّروا، لأنّهم لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ و دفع الحزن عنهم وَ هُمْ لَهُمْ لآلهتهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ معدّون، يخدمونهم و يذبّون عنهم. أو اتّخذوهم لينصروهم عند اللّه و يشفعوا لهم، و الأمر على خلاف ما توهّموا، حيث هم محضرون إثرهم في النار، فإنّ كلّ حزب مع ما عبدوه من الأوثان في النار، فلا الجند يدفعون عنها الإحراق، و لا هي تدفع عنهم العذاب. و هذا كما قال سبحانه:

ص: 532


1- النحل: 80.
2- أي: أصابهم و اشتدّ عليهم.

إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (1).

فَلا يَحْزُنْكَ فلا يهمّنّك قَوْلُهُمْ في اللّه بالإلحاد و الشرك. أو فيك بالتكذيب و التهجين. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ فنجازيهم عليه، و كفى ذلك أن تتسلّى به. و هو تعليل للنهي على الاستئناف، فلذلك لو قرئ: أنّا بالفتح، على حذف لام التعليل، جاز.

[سورة يس [36]: الآيات 77 الى 83]

أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [77] وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [78] قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [79] الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [80] أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [81]

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [82] فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [83]

روي: أنّ أبا لهب أو العاص بن وائل، جاء بعظم بال يفتّته بيده، و قال: يا محمّد أ تزعم أنّ اللّه يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نعم، و يبعثك و يدخلك في النار، فنزلت:

أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ثمّ نقلناه من النطفة إلى العلقة، و منها

ص: 533


1- الأنبياء: 98.

إلى المضغة، و منها إلى العظم، و منه إلى أن جعلناه خلقا سويّا. ثمّ جعلنا فيه الروح، و أخرجناه من بطن أمّه، ثمّ نقلناه من حال إلى حال، حتّى كمل عقله، و صار متكلّما خصيما. و ذلك قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي: مخاصم ذو بيان. فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة، و هي أسهل من الإنشاء و الابتداء؟

و هذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. و فيه تقبيح بليغ لإنكاره، حيث عجّب اللّه منه، و جعله إفراطا في الخصومة بيّنا. و منافاة لجحود القدرة على ما هو أهون ممّا عمله في بدء خلقه. و مقابلة النعمة الّتي لا مزيد عليها- و هي خلقه من أخسّ شي ء و أمهنه شريفا مكرّما- بالعقوق و التكذيب.

و قيل: معناه: فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا، رجل مميّز منطيق قادر على الخصام، معرب عمّا في نفسه، فصيح.

ثمّ أكّد سبحانه الإنكار عليه، فقال: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا أمرا عجيبا. و هو إنكار قدرتنا على إحياء الموتى. أو تشبيهنا بخلقنا، لوصفنا بالعجز عمّا عجزوا عنه. وَ نَسِيَ خَلْقَهُ خلقنا إيّاه.

ثمّ بيّن ذلك المثل بقوله: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ منكرا إيّاه، مستبعدا له. و الرميم ما بلي من العظام. و لعلّه فعيل بمعنى فاعل، من: رمّ الشي ء.

صار اسما بالغلبة، و لذلك لم يؤنّث. أو بمعنى مفعول، من: رممته. و المراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضّة رطبة في بدن حيّ حسّاس، لا بمعنى أنّ العظم ذو حياة، فيؤثّر فيه الموت كسائر الأعضاء. و لهذا عندنا و عند أبي حنيفة طاهر. و كذلك الشعر و الوبر و الصوف، و سائر ما لا تحلّه الحياة. و الشافعي يقول: إنّ العظم ذو حياة، فيؤثّر فيه الموت. و لذلك عنده عظام الميتة نجسة.

قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ لأنّ من قدر على اختراع ما يبقى فهو

ص: 534

على إعادته قادر لا محالة وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يعلم تفاصيل المخلوقات و كيفيّة خلقها. فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتّتة، المتبدّدة أصولها و فصولها و

مواقعها، و طريق تمييزها، و ضمّ بعضها إلى بعض على النمط السابق، و إعادة الأعراض و القوى الّتي كانت فيها، أو إحداث مثلها.

ثمّ زاد سبحانه في البيان بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً مع مضادّة النار الماء، و انطفائها به. و هي الزناد الّتي تورى بها الأعراض. و أكثرها من المرخ (1) و العفار، بأن يسحق المرخ- الّذي هو ذكر- على العفار الّتي هي أنثى، و هما خضراوان يقطر منهما الماء، فتنقدح النار. و عن ابن عبّاس: ليس من شجرة إلّا و فيها نار إلّا العنّاب. فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ لا تشكّون في أنّها نار تخرج منه.

فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائيّة المضادّة لها بكيفيّتها، كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضّا فيبس و بلى.

ثمّ ذكر من خلقه ما هو أعظم من الإنسان، فقال: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مع كبر جرمهما و عظم شأنهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الصغر و الحقارة بالإضافة إليهما. أو مثلهم في أصول الذات و صفاتها، و هو المعاد.

و عن يعقوب: يقدر. و الهمزة للتقرير. يعني: من قدر على خلق السماوات و الأرض و اختراعهما، مع عظمهما و كثرة أجرامهما، ليقدر على إعادة خلق البشر.

ثمّ أجاب لتقرير ما بعد النفي بقوله: بَلى مشعرا بأنّه لا جواب سواه وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ كثير المخلوقات و المعلومات.

ثمّ ذكر سبحانه قدرته على إيجاد الأشياء على وجه السهولة، فقال: إِنَّما أَمْرُهُ إنّما شأنه سبحانه إِذا أَرادَ شَيْئاً إذا دعت حكمته إلى تكوين شي ء أَنْ

ص: 535


1- المرخ: شجر رقيق سريع الوري يقتدح به. و العفار: شجر يتخذ منه الزناد. و الزناد جمع الزند، و هو العود الأعلى الذي يقتدح به النار.

يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهو يكون، أي: يحدث من غير توقّف. و هو تمثيل لتأثير قدرته في مراده، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع و توقّف، و افتقار إلى مزاولة عمل و استعمال آلة، قطعا لمادّة الشبهة، و هي قياس قدرة اللّه على قدرة الخلق. و نصبه الكسائي عطفا على «يقول».

ثمّ نزّه ذاته عمّا ضربوا له، و عجّبهم عمّا قالوا فيه، فقال: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ معلّلا بكونه مالكا للملك، قادرا على كلّ شي ء وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: تردّون إلى حيث لا يملك الأمر و النهي أحد سواه، و هو يوم القيامة، فيجازيكم بالثواب و العقاب على الطاعات و المعاصي على قدر أعمالكم. و هذا وعد و وعيد للمقرّين و المنكرين. و قرأ يعقوب بفتح التاء، من: رجع.

ص: 536

[37] سورة الصافّات

اشارة

مكّيّة. و هي مائة و اثنتان و ثمانون آية.

عن أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الصافّات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ جنّي و شيطان، و تباعدت عنه مردة الشياطين، و برى ء من الشرك، و شهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين».

و روى الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الصافّات في كلّ يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بليّة في الحياة الدنيا، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، و لم يصبه اللّه في ماله و لا ولده و لا بدنه بسوء من شيطان رجيم، و لا من

جبّار عنيد. و إن مات في يومه أو ليلته، بعثه اللّه شهيدا، و أماته شهيدا، و أدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة».

[سورة الصافات [37]: الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا [1] فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [2] فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [3] إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [4]

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ

ص: 537

[5] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [6] وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [7] لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ [8] دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [9]

إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [10]

و اعلم أنّه سبحانه افتتح هذه السورة بمثل ما اختتم به سورة يس من ذكر البعث، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا أقسم بالملائكة الصافّين أقدامهم في مقام العبوديّة على مراتب، باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإلهيّة، منتظرين لأمر اللّه. و مثله قوله: وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (1). أو الصّافّين أجنحتهم في الهواء.

فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فالزاجرين السحاب سوقا. أو جميع الأجرام العلويّة و السفليّة بالتدبير المأمور به فيها. أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير. أو الشياطين عن التعرّض لهم. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً فالتالين آيات اللّه، من الكتب المنزلة- و غيرها من جلايا قدسه- على أنبيائه و أوليائه.

و قيل: أقسم اللّه بنفوس العلماء الصافّين في الصلوات بالجماعة، الزاجرين عن الكفر و المعاصي بالحجج و النصائح، التالين آيات اللّه، و الدارسين شرائعه.

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «أقسم اللّه سبحانه بنفوس الغزاة الصافّين في الجهاد، الزاجرين الخيل أو العدوّ، التالين ذكر اللّه، لا يشغلهم عنه مباراة العدوّ».

ص: 538


1- الصافّات: 165.

و يحتمل أن يقسم اللّه سبحانه بطوائف الأجرام المرتّبة كالصفوف المرصوصة، و الأرواح المدبّرة لها، و الجواهر القدسيّة المستغرقة في بحار القدس، الزاجرين أنفسهم عمّا يبعّدهم عن امتثال أوامر اللّه، يسبّحون الليل و النهار لا يفترون.

و العطف لاختلاف الذوات أو الصفات. و الفاء لترتيب الوجود، كقوله: يا لهف زيّابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب. كأنّه قال: الّذي صبح فغنم فآب. فهنا الصفّ كمال، و الزجر تكميل بالمنع عن الشرّ، أو الإشاقة إلى قبول الخير، و التلاوة إفاضته.

أو الفاء للرتبة، كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رحم اللّه المحلّقين فالمقصّرين».

غير أنّه لفضل المتقدّم على المتأخّر، و هذا للعكس، فإنّ الطوائف الصافّات ذوات فضل، و الزاجرات أفضل، و التاليات أبهر فضلا.

و إنّما لم يقل: فالتاليات تلوا، كما قال: «فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» لأنّ التالي قد يكون بمعنى التابع، و منه قوله تعالى: وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (1)، فلمّا كان اللفظ مشتركا بيّنه بما يزيل الإبهام.

و أدغم أبو عمرو و حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها، فإنّها من طرف اللسان و أصول الثنايا.

إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جواب للقسم. و الفائدة فيه تعظيم المقسم به، و تأكيد المقسم عليه، لما فيها من الدلالة على توحيده و صفاته العلى.

ثمّ حقّق مضمون المقسم عليه بقوله: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: خالقهما و مدبّرهما وَ ما بَيْنَهُما من سائر الأجناس، من الحيوانات و النباتات و الجمادات وَ رَبُّ الْمَشارِقِ فإنّ وجود هذه الأمور و انتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره، دليل على وجود الصانع الحكيم و وحدته، على ما مرّ غير مرّة. و «ربّ» بدل

ص: 539


1- الشمس: 2.

من «واحد»، أو خبر ثان، أو خبر محذوف. و المشارق مشارق الكواكب، أو مشارق الشمس في السنة. و هي ثلاثمائة و ستّون مشرقا، تشرق كلّ يوم في واحد،

و بحسبها تختلف المغارب، و لذلك اكتفى بذكرها. مع أنّ الشروق أدلّ على القدرة، و أبلغ في النعمة، و أسبق في الوجود.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القربى بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بزينة هي الكواكب.

و الإضافة بيانيّة، فإنّ الزينة مبهمة. و يؤيّده قراءة حمزة و يعقوب و حفص بتنوين «زينة» و جرّ «الكواكب» على إبدالها منه.

أو بزينة هي للكواكب، كأضوائها و مطالعها و مسايرها و أشكالها المختلفة، كشكل الثريّا و بنات النعش و الجوزا و العقرب و غيرها. أو بأن زيّنّا الكواكب فيها، على إضافة المصدر إلى المفعول، فإنّها كما جاءت اسما كالليقة (1) لما يلاق، جاءت مصدرا كالنسبة. و يؤيّده قراءة أبي بكر بالتنوين و النصب على الأصل.

أو بأن زيّنتها الكواكب، على إضافته إلى الفاعل. و ركوز الثوابت في الكرة الثامنة، و ما عدا القمر من السيّارات في الستّ المتوسّطة بينها و بين السماء الدنيا، إن تحقّق لم يقدح في ذلك، فإنّ أهل الأرض يرونها بأسرها، كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة. فتخصيصها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة.

و التزيين عبارة عن تحسين الشي ء، و جعله على صورة تميل إليها النفس.

فاللّه سبحانه زيّن السماء على وجه تمتّع الرائي لها. و في ذلك أعظم النعمة على العباد، مع ما لهم من المنفعة بالتفكير فيها، و الاستدلال بها على صانعها.

وَ حِفْظاً منصوب بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظا. أو معطوف على «زينة» باعتبار المعنى. كأنّه قال: إنّا خلقنا الكواكب زينة للسماء و حفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ متمرّد خبيث خال من الخير خارج عن الطاعة برمي الشهب، أي:

ص: 540


1- الليقة: صوفة الدواة، أو إذا بلّت.

حفظناها من دنوّ كلّ شيطان للاستماع، فإنّهم كانوا يسترقون السمع، و يستمعون إلى كلام الملائكة،

و يلقون ذلك إلى ضعفة الجنّ. و كانوا يوسوسون بها في قلوب الكهنة، و يوهمونهم أنّهم يعرفون الغيب. فمنعهم اللّه تعالى عن ذلك.

و قوله: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم. و لا يصحّ أن يكون صفة ل «كلّ شيطان» لأنّه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون أو لا يتسمّعون. و كذلك الاستئناف، لأنّ سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب: بأنّهم لا يسّمّعون، لم يستقم. و لا أن يكون علّة للحفظ على حذف اللام- كما في: جئتك أن تكرمني- ثمّ حذف «أن» و إهدارها، كقوله: ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغا، فإنّ اجتماع ذلك منكر، و صون الكلام عن مثل ذلك واجب. فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ، اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع، و أنّهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمّعوا.

و الضمير ل «كلّ» باعتبار المعنى.

و تعدية السماع ب «إلى» لتضمّنه معنى الإصغاء، مبالغة لنفيه، و تهويلا لما يمنعهم عن الإصغاء. و يدلّ عليه قراءة حمزة و الكسائي و حفص بالتشديد، من التسمّع، و هو تطلّب السماع.

و الملأ الأعلى عبارة عن الملائكة، لأنّهم يسكنون السماوات. و الإنس و الجنّ هم الملأ الأسفل، لأنّهم سكّان الأرض.

وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء، إذا قصدوا الصعود إليها للاستماع دُحُوراً نصب على العلّيّة، أي: و يقذفون للدحور (1) وَ لَهُمْ مع ذلك عَذابٌ أي: عذاب آخر واصِبٌ دائم يوم القيامة، أو شديد. يعني: أنّهم في الدنيا مرجومون بالشهب، و قد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع.

ص: 541


1- دحره دحورا: طرده، و أبعده، و دفعه.

إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من واو «يسمعون». و «من» بدل من الواو، أي: لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الّذي خطف الخطفة. و الخطف: الاختلاس و الاستلاب بسرعة. و المراد: اختلاس كلام الملائكة مسارقة، و لذلك عرّف الخطفة. فَأَتْبَعَهُ أي: تبعه و لحقه شِهابٌ نار مضيئة محرقة، كأنّه كوكب انقضّ ثاقِبٌ مضي ء، كأنّه يثقب الجوّ بضوئه.

و ما قيل: إنّ الشهاب بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل، فتخمين. و يمكن أن يقال: إنّ هذا القول لم يناف ذلك، إذ ليس فيه ما يدلّ على أنّه ينقضّ من الفلك، و لا في قوله: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ (1) لأنّ كلّ شي ء نيّر يحصل في الجوّ العالي فهو مصباح لأهل الأرض و زينة للسماء، من حيث إنّه يرى كأنّه على سطحه. و يحتمل أن يصير الحادث في بعض الأوقات رجما لشيطان يتصعّد إلى قرب الفلك للتسمّع.

و ما روي: أنّ ذلك حدث بميلاد النبيّ، فيحتمل أن يكون المراد كثرة وقوعه، أو مصيره دحورا.

و اختلف في أنّ المرجوم يتأذّى به فيرجع، أو يحترق به؟ لكن قد يصيب الصاعد مرّة و قد لا يصيب، كالموج لراكب السفينة، و لذلك لا يرتعدون عنه رأسا.

و لا يقال: إنّ الشيطان من النار فلا يحترق. لأنّه ليس من النار الصرف، كما أنّ الإنسان ليس من التراب الخالص. مع أنّ النار القويّة إذا استولت على الضعيفة استهلكتها.

[سورة الصافات [37]: الآيات 11 الى 26]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [11] بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ [12] وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ [13] وَ إِذا

ص: 542


1- الملك: 5.

رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ [14] وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [15]

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [16] أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [17] قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ [18] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ [19] وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ [20]

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [21] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ [22] مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [23] وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [24] ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ [25]

بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [26]

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: فَاسْتَفْتِهِمْ فاستخبرهم و سلهم سؤال تقرير.

و الضمير لمشركي مكّة، أو لبني آدم. أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أحكم صنعا و أقواه. من قولهم: شديد الخلق، و في خلقه شدّة. أو أصعبه و أشقّه. أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني: ما ذكر من الملائكة، و السماء، و الأرض، و ما بينهما، و المشارق، و الكواكب، و الشهب الثواقب.

و «من» لتغليب العقلاء. و يدلّ عليه ذكر الفاء المعقّبة من بعد عدّ هذه الأشياء.

و قوله: «أَمْ مَنْ خَلَقْنا» مطلقا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدّمه. كأنّه قال:

خلقنا كذا و كذا من عجائب الخلق و بدائعه، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الّذي خلقناه من ذلك؟ و قوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ فإنّه الفارق بينهم و بينها، لا بينهم و بين من قبلهم، كعاد و ثمود. و لأنّ المراد إثبات المعاد، و ردّ استحالتهم إيّاه. و الأمر

ص: 543

فيه بالإضافة إليهم و إلى من قبلهم سواء، فإنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة، و لم يصعب عليه اختراعها، كان خلق جنس البشر من طين لازب- أي:

لازم، لاصق عليه- أهون و أيسر.

و تقريره:

أنّ استحالة ذلك إمّا لعدم قابليّة المادّة، و مادّتهم الأصليّة هي الطين اللازب غير الموصوف بالصلابة و القوّة، الحاصل من ضمّ الجزء المائي إلى الجزء الأرضي، و هما باقيان قابلان للانضمام بعد. و قد علموا أنّ الإنسان الأوّل إنّما تولّد منه، إمّا لاعترافهم بحدوث العالم، أو بقصّة آدم، و شاهدوا تولّد كثير من الحيوانات من الطين بلا توسّط مواقعه، فلزمهم أن يجوّزوا إعادتهم كذلك. و إمّا لعدم قدرة الفاعل، فإنّ من قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتدّ به بالإضافة إليها، فإنّه بدأهم أوّلا من الطين السخيف الضعيف، و قدرته ذاتيّة لا تتغيّر.

بَلْ عَجِبْتَ من قدرة اللّه على هذه الخلائق العظيمة و إنكارهم للبعث وَ يَسْخَرُونَ من تعجّبك و تقريرك للبعث.

و قرأ حمزة و الكسائي بضمّ التاء، أي: بلغ كمال قدرتي و كثرة خلائقي بحيث إنّي تعجّبت منها، و هؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو عجبت من أن ينكر البعث ممّن هذه أفعاله، و هم يسخرون ممّن يجوّزه. و العجب من اللّه إمّا على الفرض و التخييل، أو على معنى الاستعظام اللازم له، فإنّه روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشي ء، و اللّه عزّ و جلّ لا يجوز عليه الروعة. و بهذا المعنى ما ورد في الحديث من إضافة العجب إلى اللّه، حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عجب ربّكم من شابّ ليس له صبوة» (1).

و قيل: إنّه مقدّر بالقول، أي: قل يا محمّد: بل عجبت.

وَ إِذا ذُكِّرُوا و إذا وعّظوا بشي ء لا يَذْكُرُونَ لا يتّعظون به. أو إذا ذكر لهم ما يدلّ على صحّة الحشر لا ينتفعون به، لعدم استعمالهم الفكر و التدبّر

ص: 544


1- أي: جهلة الصبيان.

فيه عنادا و لجاجا.

وَ إِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدلّ على صدق القائل به، كانشقاق القمر و نحوه يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخريّة، و يقولون: إنّه سحر. أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. و قيل: معناه: يعتقدونها سخريّة، كما يقال: استقبحته، أي:

اعتقدته قبيحا، و استحسنته اعتقدته حسنا.

وَ قالُوا إِنْ هذا يعنون ما يرونه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريّته أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أصله: أنبعث إذا متنا؟ فبدّلوا الفعليّة بالاسميّة، و قدّموا الظرف، و كرّروا الهمزة. و المعنى: كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا؟ مبالغة في الإنكار، و إشعارا بأنّ البعث مستنكر في نفسه، و حال كونهم ترابا و عظاما أشدّ استنكارا. فهو ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى، و قراءة نافع و الكسائي و يعقوب بطرح الثانية.

أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ عطف على محلّ «إنّ» و اسمها، أو على الضمير في «مبعوثون» فإنّه مفصول منه بهمزة الاستفهام. و المعنى: أ يبعث أيضا آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد. يعنون: أنّهم أقدم، فبعثهم أبعد و أبطل. و سكّن نافع برواية قالون و ابن عامر الواو، على معنى الترديد.

قُلْ نَعَمْ تبعثون وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون أشدّ الصغار. و إنّما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدلّ على جوازه، و دلالة المعجزة على صدق المخبر عن وقوعه. و قرأ الكسائي وحده: نعم بالكسر. و هو لغة فيه.

فَإِنَّما هِيَ فإنّما البعثة أو قصّة البعث زَجْرَةٌ واحِدَةٌ و هذا جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا كان ذلك فما البعثة إلّا زجرة- أي: صيحة- واحدة. و هي النفخة الثانية. من زجر الراعي الغنم: إذا صاح عليها. و أمرها في الإعادة كأمر «كن» في الإبداء. و لذلك رتّب عليها فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء

ص: 545

يبصرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

وَ قالُوا يا وَيْلَنا هو كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة. و مثله يا حسرتا. هذا يَوْمُ الدِّينِ اليوم الّذي نجازى فيه بأعمالنا. و المراد أنّهم قد اعترفوا بالحقّ خاضعين نادمين. و قد تمّ به كلامهم. و قوله: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ جواب الملائكة. و قيل: هو أيضا من كلام بعضهم لبعض.

و «الفصل» القضاء. أو الفرق بين المحسن و المسي ء. و ذلك بأن يدخل المطيع الجنّة على وجه الإكرام، و يدخل العاصي النار على وجه الإهانة.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أمر اللّه الملائكة، أوامر بعضهم لبعض بحشر الظلمة، أي: جمعهم من مقامهم إلى الموقف. و قيل: إلى الجحيم. وَ أَزْواجَهُمْ أي: مع أشباههم. يعني: عابد الصنم مع عبدته، و عابد الكوكب مع عبدته، و كذلك صاحب الزنا يحشر مع أصحاب الزنا، و صاحب الخمر مع أصحاب الخمر، و صاحب السرقة مع أصحاب السرقة، إلى غيرهم. و مثله قوله: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (1). أو مع نسائهم اللاتي على دينهم. و قيل: قرناءهم من الشياطين.

وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام و غيرها، زيادة في تحسيرهم و تخجيلهم. و هو عامّ مخصوص بقوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى (2) الآية.

و فيه دليل على أنّ الّذين ظلموا هم المشركون.

فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ فعرّفوهم طريقها ليسلكوها. و في ذكر الهداية مقام التعريف تهكّم و تقريع. وَ قِفُوهُمْ احبسوهم في الموقف. يقال:

وقفت أنا و وقفت غيري. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم و أعمالهم. و روى أنس بن مالك مرفوعا: أنّهم مسئولون عمّا دعوا إليه من البدع. و عن أبي سعيد الخدري،

ص: 546


1- الواقعة: 7.
2- الأنبياء: 101.

عن ابن عبّاس: أنّهم مسئولون عن ولاية عليّ بن أبي طالب. و الواو لا توجب الترتيب. مع جواز أن يكون موقفهم بعد الهدى و التعريف للسؤال.

ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص. و هو توبيخ و تقريع. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون، لعجزهم و انسداد الحيل عليهم. و أصل الاستسلام: طلب السلامة. أو يسلم بعضهم بعضا، و يخذله عن عجز، فكلّهم مستسلم غير منتصر.

[سورة الصافات [37]: الآيات 27 الى 37]

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [27] قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [28] قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [29] وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ [30] فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [31]

فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ [32] فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [33] إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [34] إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [35] وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [36]

بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [37]

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: يقبل الأتباع على المتبوعين، و المتبوعون على الأتباع يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. و لذلك فسّر ب:

يتخاصمون و يتعاتبون. فالغاوون يقولون لمغويهم: لم أغويتمونا؟ و يقول المغوون لهم: لم قبلتم منّا؟

ص: 547

قالُوا قال الغاوون لمغويهم إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ عن أقوى الوجوه و أيمنها. أو عن الدين، أو عن الخير. كأنّكم تنفعوننا نفع السانح، فتبعناكم و هلكنا. مستعار من يمين الإنسان الّذي هو أقوى الجانبين و أشرفهما و أنفعهما، و لذلك سمّي يمينا. أو من التيمّن بالسانح، و هو صيد يعرض السالك من جانب يمينه متّصف بالتيمّن، عكس

البروح، فإنّه صيد يعرض من جانب شماله موسوم بالتشاؤم. أو عن القوّة و القهر، فتقسروننا على الضلال. أو عن الحلف، فإنّهم كانوا يحلفون لهم أنّهم على الحقّ.

قالُوا ليس الأمر كما قلتم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بل أبيتم أنتم الإيمان، و اخترتم الكفر و الطغيان. فهذا جواب الرؤساء بمنع إضلالهم إيّاهم، و ثبوت ضلالتهم في أنفسهم.

وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من قدرة و قوّة، فنجبركم على الكفر و الطغيان بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ مختارين الطغيان، باغين تجاوز الحدّ إلى أفحش الظلم و أعظم المعاصي، فلا تسقطوا اللوم عن أنفسكم، فإنّه لازم لكم و لاحق بكم.

ثمّ أخبروهم أنّ ضلال الفريقين و وقوعهم في العذاب كان أمرا مقضيّا لا محيص لهم عنه، و أنّ غاية ما فعلوا بهم أنّهم دعوهم إلى الغيّ، لأنّهم كانوا على الغيّ، فأحبّوا أن يكونوا مثلهم فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ أي: لزمنا قول اللّه و وعيده بأنّا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا و استحقاقنا العقوبة.

فَأَغْوَيْناكُمْ أي: أضللناكم عن الحقّ، و دعوناكم إلى الغيّ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ داخلين في الضلالة و الغواية، فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا فَإِنَّهُمْ فإنّ الأتباع و المتبوعين جميعا يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية، و التخاصم لا ينفعهم.

إِنَّا كَذلِكَ مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ بكلّ مشرك، لقوله: إِنَّهُمْ

ص: 548

كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول كلمة التوحيد، أو على من يدعوهم إليه وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فردّ اللّه عليهم هذا القول بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِ أي: ليس بشاعر و لا مجنون، و لكنّه أتى بالتوحيد الّذي هو حقّ قام به البرهان وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ بل أتى بمثل ما أتوا به من الدعاء إلى التوحيد.

[سورة الصافات [37]: الآيات 38 الى 49]

إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ [38] وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [39] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [40] أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [41] فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ [42]

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [43] عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [44] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [45] بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [46] لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [47]

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ [48] كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [49]

ثمّ خاطب الكفّار فقال: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك و تكذيب الرسل. و لمّا كان لقائل أن يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع و الضرّ أن يعذّب عبيده؟ فقال: وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: مثل ما عملتم و على قدره إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصوا العبادة للّه، و أطاعوه في كلّ ما أمرهم به، فإنّهم لا يذوقون العذاب، و إنّما ينالون الثواب. و هذا استثناء منقطع، إلّا أن يكون الضمير في «تجزون» لجميع المكلّفين، فيكون استثناؤهم عنه

ص: 549

باعتبار المماثلة، فإنّ ثوابهم مضاعف، و المنقطع أيضا بهذا الاعتبار.

ثمّ بيّن ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النعم، فقال: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ منعوت بخصائص خلق عليها، من طيب طعم، و رائحة، و حسن منظر، و تمحّض لذّة. و لذلك فسّره بقوله: فَواكِهُ فإنّ الفاكهة ما يقصد للتلذّذ دون التغذّي لحفظ الصحّة، و القوت بالعكس. و أهل الجنّة لمّا كانت أجسامهم محكمة، مخلوقة للأبد، محفوظة عن التحلّل، كانت أرزاقهم فواكه خالصة. و قيل: المراد معلوم الوقت، كقوله:

وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (1). و عن قتادة: الرزق المعلوم الجنّة.

وَ هُمْ مُكْرَمُونَ معظّمون مبجّلون في نيله، بأن يصل إليهم من غير تعب و سؤال كما عليه رزق الدنيا. و هذا ما قاله العلماء في حدّ الثواب: إنّه النفع المستحقّ المقارن للتعظيم و الإجلال. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ في جنّات ليس فيها إلّا النعيم.

و هو ظرف أو حال من المستكن في «مكرمون». عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض، و هو أتم السرور و الأنس، و لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.

يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ بإناء فيه خمر. أو بخمر، فإنّه يقال للزجاجة فيها الخمر: كأس. و تسمّى الخمر نفسها أيضا كأسا. مِنْ مَعِينٍ من شراب معين، أي جار على ظاهر وجه الأرض، أو خارج من العيون الظاهرة بَيْضاءَ عن الحسن: خمر الجنّة أشدّ بياضا من اللبن لَذَّةٍ لذيذة لِلشَّارِبِينَ هما أيضا صفتان ل «كأس». و وصفها ب «لذّة» إمّا للمبالغة، كأنّها نفس اللذّة و عينها. أو لأنّها تأنيث لذّ، بمعنى لذيذ. يقال: لذّ الشي ء فهو لذّ و لذيذ. و وزنه: فعل، كقولك: رجل

ص: 550


1- مريم: 62.

طبّ (1). و قال في وصف النوم:

و لذّ كطعم الصّرخديّ تركته بأرض العدى من خشية الحدثان (2)

لا فِيها غَوْلٌ غائلة، كالخمار (3) و المرارة، كما في خمر الدنيا. من: غاله يغوله إذا أفسده. و منه الغول في تكاذيب العرب. و في أمثالهم: الغضب غول الحلم.

وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون. من: نزف الشارب إذا ذهب عقله. و يقال للسكران: نزيف و منزوف. أفرده بالنفي، و عطفه على ما يعمّه، لأنّه من عظم فساده كأنّه جنس برأسه.

و قرأ حمزة و الكسائي بكسر الزاي، و تابعهما عاصم على البناء للفاعل في الواقعة (4). من: أنزف الشارب، إذا نفد عقله أو شرابه. و معناه: صار ذا نزف. و أصله للنفاد. يقال: نزف المطعون إذا خرج دمه كلّه. و نزحت البركة حتّى نزفتها، إذا لم تترك فيها ماء.

و عن ابن عبّاس: معناه: و لا هم فيها يبولون. ثمّ قال: و في الخمر أربع خصال: السكر، و الصداع، و القي ء، و البول. فنزّه اللّه سبحانه خمر الجنّة عن هذه الخصال.

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، فلا يرون غيرهم بسبب حبّهنّ إيّاهم. و قيل: لا يفتحن أعينهنّ دلالا و غنجا عِينٌ واسعات العيون. جمع عيناء. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبّههنّ ببيض النعام- الّذي تكنّه

ص: 551


1- أي: عالم حاذق ماهر بعمله.
2- يقول: و ربّ شي ء لذيذ- يعني: النوم- طعمه كطعم الشراب الطيّب، تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بي. و الصرخد: موضع من الشام ينسب إليه الشراب.
3- الخمار: ألم الخمر و صداعها. و المرارة مصدر: مرّ، أي: صار مرّا.
4- الواقعة: 19.

بالريش من الريح و الغبار- في الصفاء و البياض المخلوط بأدنى صفرة، فإنّه أحسن ألوان الأبدان.

[سورة الصافات [37]: الآيات 50 الى 61]

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [50] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [51] يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [52] أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ [53] قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [54]

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [55] قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [56] وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [57] أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ [58] إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [59]

إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [60] لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [61] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ معطوف على «يُطافُ عَلَيْهِمْ».

و المعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادات الشّراب. و التعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه، على عادة اللّه تعالى في إخباره. و المعنى: فيقبل بعض أهل الجنّة على بعض، يتساءلون عن المعارف و الفضائل، و ما جرى لهم و عليهم في الدنيا.

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ من أهل الجنّة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ جليس في الدنيا يَقُولُ على وجه الإنكار عليّ و التهجين لاعتقادي و عملي أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي: يوبّخني على التصديق بالبعث أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ لمجزيّون. من الدين بمعنى الجزاء. يقال: كما تدين تدان. أو لمسوسون

ص: 552

مربوبون من: دانه أي: ساسه. و في الحديث: «الكيّس من دان نفسه، و عمل لما بعد الموت».

قالَ أي: ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين. يقال: اطّلع على كذا إذا أشرف عليه. و قيل: إنّ في الجنّة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. و قيل: القائل هو اللّه أو بعض الملائكة، يقولون لهم: هل تحبّون أن تطّلعوا على أهل النار، لأريكم ذلك القرين، فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟

فَاطَّلَعَ عليهم فَرَآهُ أي: قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتهلكني بالإغواء. من الإرداء بمعنى الإهلاك. و «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة، أي: إنّك كدت تهلكني بما قلته لي و دعوتني إليه، حتّى يكون هلاكي كهلاك المتردّي من شاهق. و منه قوله: وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (1) أي: تردّى في النار. وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي باللطف و العصمة و التوفيق لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ من الّذين أحضروا العذاب معك في النار.

ثمّ يقول على وجه التقرير و التحقيق: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ عطفا على محذوف، أي: أ نحن مخلّدون منعّمون فما نحن بميّتين؟ أي: بمن شأنه الموت إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى الّتي كانت في الدنيا. و هي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال.

و نصبها على المصدر من اسم الفاعل. و قيل: على الاستثناء المنقطع. وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كالكفّار. و ذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له. أو معاودة إلى مكالمة جلسائه، تحدّثا بنعمة اللّه. أو تبجّحا بها و تعجّبا منها، و إظهارا للسرور بدوام نعم الجنّة، و تعريضا للقرين بالتوبيخ.

إِنَّ هذا أي: هذا الأمر الّذي نحن فيه، من نعيم الجنّة و الخلود فيها، و الأمن من العقاب لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فإنّه يقول ذلك أيضا سرورا و فرحا

ص: 553


1- الليل: 11.

مضاعفا. و هذا كما أنّ الرجل يعطى المال الكثير، فيقول مستعجبا: أكلّ هذا المال لي؟ و هو يعلم أنّ ذلك كلّه له. و يحتمل أن يكون ذلك من كلام اللّه لتقرير قوله، و الإشارة إلى ما هم عليه من النعمة و الخلود و الأمن من العذاب.

لِمِثْلِ هذا أي: لنيل مثل هذا الفوز و الفلاح فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ فيجب أن يعمل العاملون في دار التكليف، لا للحظوظ الدنيويّة المشوبة بالآلام السريعة الانصرام. و هو أيضا يحتمل أن يكون من كلامهم و من كلام اللّه.

[سورة الصافات [37]: الآيات 62 الى 74]

أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [62] إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [63] إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [64] طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [65] فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ [66]

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [67] ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [68] إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ [69] فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ [70] وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [71] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ [72] فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [73] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [74]

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الرزق المعلوم، فقال: أَ ذلِكَ أي: ذلك الرزق المعلوم في الجنّة خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أي: شجرة ثمرها نزل أهل النار.

و الهمزة لإنكار التسوية بينهما و توبيخ الكفرة، فإنّ من المعلوم أن لا خير في شجر الزّقّوم. فلمّا كان المؤمنون اختاروا ما أدّى إلى الرزق المعلوم، و الكافرون اختاروا

ص: 554

ما أدّى إلى شجرة الزقّوم، قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم. و هذا كما يقول المولى لعبده: إن فعلت كذا أكرمتك، و إن فعلت كذا ضربتك، أ هذا خير أم ذاك؟ و إن لم يكن في الضرب خير.

و انتصاب «نزلا» على التمييز أو الحال. و في ذكره دلالة على أنّ ما ذكر من النعيم لأهل الجنّة بمنزلة ما يقام للنازل، و لهم ما وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام.

و كذلك الزقّوم لأهل النار. و هو اسم شجرة صغيرة الورق، ذفرة (1)، مرّة، متكرّه جدّا، تكون بتهامة. من قولهم: تزقّم هذا الطعام، إذا تناوله على تكرّه و مشقّة شديدة.

روي: أنّ قريشا لمّا سمعت هذه الآية قالت: ما نعرف هذه الشجرة. فقال ابن الزبعرى: الزقّوم بكلام البربر التمر و الزبد. و في رواية: بلغة اليمن. فقال أبو جهل لجاريته: زقّمينا. فأتته الجارية بتمر و زبد. فقال لأصحابه: تزقّموا بهذا الّذي يخوّفكم به محمّد، فيزعم أنّ النار تنبت الشجرة، و النار تحرق الشجرة. فأنزل اللّه سبحانه:

إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً ابتلاء في الدنيا لِلظَّالِمِينَ بأن كذّبوها، فقالوا: كيف ذلك و النار تحرق الشجر؟! و لم يعلموا أنّ من

قدر على خلق ما يعيش في النار و يلتذّ بها، فهو أقدر على خلق الشجر في النار و حفظه من الإحراق. و قيل: معناه:

فتنة و عذابا لهم في الآخرة.

إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي: منبتها في قعر جهنّم، و أغصانها ترتفع إلى دركاتها طَلْعُها حملها. مستعار من طلع التمر، فإنّ الطلع إنّما يكون للنخلة، فاستعير له، لمشاركته إيّاه في الشكل، أو لطلوعه من الشجر. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في تناهي القبح و الهول، فإنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنّه شرّ محض لا يخلطه خير. فيقولون في القبيح الصورة: كأنّه وجه

ص: 555


1- أي: خبيثة الرائحة.

شيطان، كأنّه رأس شيطان. كما أنّهم اعتقدوا في الملك أنّه خير محض لا شرّ فيه، فشبّهوا به الصور الحسنة. قال اللّه تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (1). و هو تشبيه بالمتخيّل. و قيل: الشياطين حيّات هائلة قبيحة المنظر جدّا، لها أعراف (2)، و لعلّها سمّيت بها لذلك.

فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها من الشجرة، أو من طلعها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو يقسرون على أكلها، فيكون بابا من العذاب.

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي: بعد ما شبعوا منها، و غلبهم العطش فاستسقوا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ لشرابا من غسّاق، أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم.

و حرف التراخي للإشعار بأنّهم يملؤن البطون من شجر الزقّوم، و هو حارّ يحرق بطونهم، و يعطشون به، فلا يسقون إلّا بعد أن يملؤن البطون من الزقّوم المرّ، تعذيبا بذلك العطش، ثمّ يسقون ما هو أحرّ، و هو الشراب المشوب بالحميم.

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه يجوّعهم حتّى ينسوا عذاب النار من

شدّة الجوع، فيصرخون إلى مالك، فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحارّ الّذي بلغ نهايته في الحرارة، فإذا قرّبوها من وجوههم شوت وجوههم. فذلك قوله: يَشْوِي الْوُجُوهَ (3).

فإذا وصل إلى بطونهم صهر ما في بطونهم، كما قال سبحانه: يُصْهَرُ (4) بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (5) فذلك طعامهم و شرابهم.

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ مصيرهم لَإِلَى الْجَحِيمِ إلى دركاتها أو إلى نفسها، فإنّ

ص: 556


1- يوسف: 31.
2- الأعراف جمع العرف، و هو الشعر النابت في محدّب رقبة الفرس، و لحمة مستطيلة في أعلى رأس الديك.
3- الكهف: 29.
4- في هامش النسخة الخطيّة: «يصهر: يذاب. من الصهر، و هو إذابة الشي ء. منه».
5- الحجّ: 20.

الزقّوم و الحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها، فيوردون إلى الحميم كما تورد الإبل إلى الماء، ثمّ يردّون إلى الجحيم.

ثمّ علّل استحقاقهم تلك الشدائد بمبادرتهم إلى تقليد الآباء في الضلال من غير توقّف على نظر و بحث، فقال: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ صادفوهم ضالِّينَ ذاهبين عن الحقّ و الدين فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون جدّا، فإنّ الإهراع الإسراع الشديد. كأنّهم يزعجون على الإسراع على آثارهم، من غير استدلال على جواز هذا التقليد. و مزعجهم عليه هو الشيطان.

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ و فيه دلالة على أنّ أهل الحقّ في كلّ زمان كانوا أقلّ من أهل البطلان وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم من العواقب فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من المكذّبين المعاندين الحقّ، بأن أهلكناهم بشدّة العقاب العاجل، و شدّة العذاب الآجل إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إلّا الّذين تنبّهوا بإنذارهم، فأخلصوا دينهم للّه. و الخطاب مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المقصود خطاب قومه، فإنّهم سمعوا أيضا أخبارهم و رأوا آثارهم.

[سورة الصافات [37]: الآيات 75 الى 82]

وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [75] وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [76] وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [77] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [78] سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [79]

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [80] إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [81] ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [82] و لمّا ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية، و سوء عاقبة المنذرين إجمالا، أتبع تفصيلا ذكر نوح و دعائه حين أيس من قومه، ثمّ ذكر سائر مشاهير الرسل مع

ص: 557

أممهم، تحذيرا عن سلوك أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل طريقتهم، لئلّا يعاقبوا بمثل عقوبتهم، فقال:

وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ دعانا بعد ما يئس من إيمان قومه لننصره عليهم. و ذلك قوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (1) فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي: فأجبناه أحسن الإجابة، بأن خلّصناه من أذى قومه بإهلاكهم، فو اللّه لنعم المجيبون نحن. فحذف منها ما حذف، لقيام ما يدلّ عليه. و الجمع دليل العظمة و الكبرياء.

وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق، أو أذى قومه. و الكرب كلّ غمّ يصل حرّه إلى الصدر. و أصل النجاة من النجوة للمكان المرتفع، فهي الرفع من الهلاك. و أهله هم الّذين نجوا معه في السفينة.

وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ إذ هلك من عداهم، و بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. روي: أنّه مات كلّ من كان معه في السفينة غير بنيه و أزواجهم. و عن قتادة:

الناس كلّهم من ذرّيّة نوح. و كان لنوح عليه السّلام ثلاثة أولاد: سام، و حام، و يافث. فسام:

أبو العرب، و فارس، و الروم. و حام: أبو السودان من المشرق إلى المغرب. و يافث:

أبو الترك، و يأجوج و مأجوج.

وَ تَرَكْنا و أثبتنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم، ذكرا جميلا و ثناء جليلا.

فحذف مفعول «تركنا». ثمّ فسّره بقوله: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ و هذا كلام جي ء به على الحكاية. و المعنى: يسلّمون عليه تسليما. قيل: هو سلام من اللّه عليه، متعلّق بالجارّ و المجرور. و معناه: الدعاء بثبوت هذه التحيّة في الملائكة و الثقلين جميعا إلى آخر الدهر.

ثمّ علّل ما فعل بنوح من التكرّم بقوله: إِنَّا كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء الحسن و الذكر الجميل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: نجزي ذلك على إحسانه.

ص: 558


1- القمر: 10.

ثمّ بيّن إحسانه بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يعني: إحسانه بأنّه كان عبدا من عباده المؤمنين. و فيه دلالة على إظهار جلالة قدر الإيمان و أصالة أمره.

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني: كفّار قومه.

[سورة الصافات [37]: الآيات 83 الى 101]

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ [83] إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [84] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ [85] أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [86] فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ [87] فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [88] فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [89] فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [90] فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ [91] ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ [92] فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [93] فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ [94] قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ [95] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [96] قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [97] فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ [98] وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [99] رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [100] فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [101]

ثمّ أتبعه سبحانه قصّة إبراهيم عليه السّلام، فقال: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ ممّن شايعه في الإيمان و أصول الشريعة لَإِبْراهِيمَ و إن اختلفت فروع شرائعهما. و لا يبعد اتّفاق شرعهما في الفروع، أو غالبا. أو شايعه على التصلّب في دين اللّه و مصابرة

ص: 559

المكذّبين. و كان بينهما ألفان و ستّمائة و أربعون سنة، و بينهما نبيّان: هود و صالح.

إِذْ جاءَ رَبَّهُ متعلّق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: ممّن شايعه في دين الإسلام حين جاء ربّه بقلب سليم لإبراهيم عليه السّلام. أو بمحذوف هو: اذكر.

بِقَلْبٍ سَلِيمٍ خالص من الشرك، بري ء من المعاصي و الغلّ و الغشّ. على ذلك عاش، و عليه مات. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «بقلب سليم من كلّ ما سوى اللّه تعالى، لم يتعلّق بشي ء غيره».

و قيل: حزين، من السليم بمعنى اللديغ. و معنى المجي ء به ربّه إخلاصه له، كأنّه جاء به متحفا إيّاه.

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ لمربّيه الّذي هو بمنزلة أبيه وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ بدل من الاولى. أو ظرف ل «جاء» أو ل «سليم»، أي: حين رآهم يعبدون الأصنام من دون اللّه عزّ و جلّ، قال على وجه التهجين لفعالهم و التقريع لهم، أي: أيّ شي ء تعبدون؟

أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي: أ تريدون آلهة دون اللّه إفكا؟ فقدّم المفعول للعناية، ثمّ المفعول له، لأنّ الأهمّ أن يقرّر أنّهم على الباطل، و مبنى أمرهم على الإفك. و يجوز أن يكون «إفكا» مفعولا به، و «آلهة» بدلا منه، على أنّها إفك في نفسها للمبالغة. و الإفك هو أشنع الكذب و أفظعه. و أصله قلب الشي ء عن جهته الّتي هي له، فلذلك كان الكذب إفكا.

و إنّما قال: «آلهة» على اعتقاد المشركين، و توهّمهم الفاسد في إلهيّة الأصنام، لمّا اعتقدوا أنّها تستحقّ العبادة. ثمّ أكّد التقريع بقوله: «دون اللّه». أو المراد بها عبادتها، أي: أ تريدون عبادة آلهة دون عبادة الرحمان؟ فحذف المضاف، و أقام المضاف إليه مقامه، لأنّ الإرادة لا يصحّ تعلّقها إلّا بما يصحّ حدوثه، و الأجسام ممّا لا يصحّ أن تراد. و يجوز أن يكون «إفكا» حالا. يعني: أ تريدون آلهة من دون اللّه آفكين؟

فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ بمن هو حقيق بالعبادة، لكونه ربّا للعالمين، حتّى

ص: 560

تركتم عبادته، أو أشركتم به غيره، أو أمنتم من عذابه. و قيل: معناه: ما تظنّون بربّكم أنّه على أيّ صفة و من أيّ جنس من أجناس الأشياء حين شبّهتم به هذه الأصنام. و فيه إشارة إلى أنّه لا يشبه شيئا. و المراد إنكار ما يوجب ظنّا- فضلا عن قطع- يصدّ عن عبادته، أو يجوّز الإشراك به، أو يقتضي الأمن من عقابه، على طريقة الإلزام. و هو كالحجّة على ما قبله.

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ في مواقعها و اتّصالها، أو في علمها، أو في كتابها، كنظرهم، لأنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم، فأوهمهم أنّه استدلّ بأمارة في علم النجوم على أنّه سيسقم، لئلّا يخرجوه إلى معيّدهم حين سألوه أن يعيّد معهم فَقالَ عند ذلك إِنِّي سَقِيمٌ أي: مشارف للسقم. فتركوه ظنّا منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

و قيل: أراد أنّه عليه السّلام نظر في النجوم، فاستدلّ بها على وقت حمّى الغبّ (1) كانت تعتاده، فقال: إنّي سقيم. أراد أنّه قد حضر وقت علّته و زمان نوبتها. كأنّه قال: إنّي سأسقم لا محالة، و حان الوقت الّذي تعتريني فيه الحمّى. و قد يسمّى المشارف للشي ء باسم الداخل فيه، قال سبحانه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (2). و لم يكن نظره حقيقة في النجوم على حسب ما ينظره المنجّمون طلبا للأحكام.

و يجوز أنّ اللّه أعلمه بالوحي أنّه سيسقمه في وقت مستقبل، و جعل العلامة على ذلك طلوع نجم على وجه مخصوص، أو اتّصاله بآخر على وجه مخصوص، فلمّا راى إبراهيم تلك الأمارة قال: «إنّي سقيم» تصديقا بما أخبره اللّه تعالى. أو أراد: أنّي سقيم القلب لكفركم، أو خارج المزاج عن المزاج المعتدل خروجا قلّ من يخلو منه.

ص: 561


1- حمّى الغبّ: هي التي تنوب يوما بعد يوم.
2- الزمر: 30.

و ما رواه العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «و اللّه ما كان سقيما، و ما كذب».

فيمكن أن يحمل على أحد الوجوه الّتي ذكرناه. و يمكن أن يكون على وجه التعريض، بمعنى أنّ كلّ من كتب عليه الموت هو سقيم و إن لم يكن به سقم في الحال.

و ما روي أنّ إبراهيم عليه السّلام كذب ثلاث كذبات: قوله: إِنِّي سَقِيمٌ و قوله:

بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا (1). و قوله في سارة: إنّها أختي. فيمكن أن يكون محمولا على المعاريض، أي: سأسقم، و فعله كبيرهم على ما ذكرناه في موضعه، و سارة أخته في الدين. و قد ورد في الخبر: إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب.

و المعاريض: أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره، فيفهم منه غير ما يقصده. و لا يكون ذلك كذبا، فإنّ الكذب قبيح لا يجوز على الأنبياء، لأنّه يرفع الثقة بقولهم، فجلّ أمناء اللّه تعالى و أصفياؤه عن ذلك.

و روي: أنّ أكثر أسقامهم الطاعون، و كانوا يخافون سرايته منه إليهم، فهربوا منه إلى عيدهم، و تركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل، كما قال عزّ اسمه: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ هاربين مخافة

العدوى فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب إليها في خفية. من روغة الثعلب. و أصله الميل بحيلة. فَقالَ أي: للأصنام استهزاء أَ لا تَأْكُلُونَ يعني: الطعام الّذي كان عندهم ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ بجوابي. و فيه تهجين بعبدتها، و انحطاطها عن حالهم.

فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال عليهم مستخفيا. و التعدية ب «على» للاستعلاء و إيصال المكروه. ضَرْباً بِالْيَمِينِ مصدر ل «راغ عليهم» لأنّه في معنى: ضربهم. أو لمضمر تقديره: فراغ عليهم يضربهم ضربا. و تقييده باليمين الّذي هو أقوى الجارحين و أشدّهما للدلالة على قوّته، فإنّ قوّة الآلة تستدعي قوّة الفعل. و عن

ص: 562


1- الأنبياء: 63.

الفرّاء: اليمين بمعنى القوّة و المتانة. و قيل: معناه: بسبب الحلف. و هو قوله: وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (1).

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم بعد ما رجعوا من عيدهم، فرأوا أصنامهم مكسّرة، و بحثوا عن كاسرها، فظنّوا أنّه كاسرها، فقالوا: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (2) يَزِفُّونَ يسرعون. من زفيف النعام. و قرأ حمزة على بناء المفعول، من أزفّ إذا دخل في الزفيف، أو من أزفّه إذا حمله على الزفيف، أي: يحمل بعضهم بعضا على الزفيف.

قالَ على وجه الحجاج عليهم أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ما تنحتونه من الأصنام. و الهمزة للإنكار و التوبيخ، أي: كيف يصحّ أن يعبد الإنسان ما يعمله؟

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ أي: و مادّة ما تعملونه، فإنّ جوهرها بخلقه، و إن كان شكلها بفعلهم. و هذا كما يقال: عمل النجّار الباب و الكرسيّ، و عمل الصائغ السوار و الخلخال. و المراد عمل أشكال هذه الأشياء و صورها، دون جوهرها و مادّتها.

فاللّه خالق جواهر الأصنام، و هم عاملوا أشكالها، أي: مصوّروها و مشكّلوها بنحتهم.

و ليس لأهل الجبر تمسّك بهذه الآية على أنّ اللّه خالق لأفعال العباد، فإنّ من المعلوم أنّ الكفّار لم يعبدوا نحتهم الّذي هو فعلهم، و إنّما كانوا يعبدون الأصنام الّتي هي الأجسام. و قوله: «و ما تعملون» ترجمة عن قوله: «ما تنحتون». فلأجل الطباق يجب أن يكون «ما» في «ما تعملون» أيضا موصولة، فالعدول بها إلى المصدريّة- كما قالت المجبّرة- تعسّف. و أيضا قد أضاف العمل إليهم بقوله: «تعملون»، فكيف يكون مضافا إلى اللّه تعالى؟ و هذا تناقض.

و لمّا لزمهم الحجّة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار

ص: 563


1- الأنبياء، 57 و 62.
2- الأنبياء، 57 و 62.

الشديدة. من الجحمة، و هي شدّة التأجّج. و عن الزجّاج: كلّ نار بعضها فوق بعض فهي جحيم. و اللام بدل الإضافة، أي: جحيم ذلك البنيان. و عن ابن عبّاس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، و عرضه عشرون ذراعا، و ملؤه نارا و طرحوه فيها.

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً قصدوا حيلة و تدبيرا في إحراقه بالنار و إهلاكه، حين قهرهم بالحجّة، لئلّا يظهر للعامّة عجزهم فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلّين، بإبطال كيدهم، و جعله برهانا نيّرا على علوّ شأنه، حيث صيّرنا النار عليه بردا و سلاما، فنجّيناه و أخرجناه منها سالما.

وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربّي. و هو الشام، أو حيث أتجرّد فيه لعبادته. سَيَهْدِينِ سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني. أو إلى مقصدي.

و إنّما بتّ القول لسبق وعده، أو لفرط توكّله، أو البناء على عادته معه في هدايته و إرشاده. و لم يكن كذلك حال موسى عليه السّلام حين قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (1). فلذلك ذكر بصيغة التوقّع.

و عن مقاتل:

إبراهيم أوّل من هاجر- و معه لوط و سارة- إلى الشام، و لمّا قدم الأرض المقدّسة الّتي هي من الشام سأل ربّه الولد، فقال:

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين، يعينني على الدعوة و الطاعة، و يؤنسني في الغربة. يعني: الولد، لأنّ لفظ الهبة غالب فيه. قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ (2) وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى (3)، و إن كان قد جاء في الأخ في قوله: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (4). و لقوله:

فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فإنّه بشّره بالولد، و بأنّه ذكر يبلغ أوان الحلم، فإنّ

ص: 564


1- القصص: 22.
2- الأنعام: 84.
3- الأنبياء: 90.
4- مريم: 53.

الصبيّ لا يوصف بالحلم. و لا شبهة أنّ إسماعيل كان حليما- أيّ حليم- حين عرض عليه أبوه الذبح و هو مراهق، فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (1).

و الحليم: هو الّذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه. و قيل: لا يعجل بالعقوبة. و لعزّة وجوده في بني آدم ما وصف اللّه نبيّا بالحلم غير إبراهيم و ولده، في قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (2). إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (3).

و قوله هاهنا في ابنه. و حالهما المذكورة بعد تشهد عليه.

[سورة الصافات [37]: الآيات 102 الى 113]

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [102] فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ [103] وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ [104] قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [105] إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [106]

وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [107] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [108] سَلامٌ

عَلى إِبْراهِيمَ [109] كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [110] إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [111]

وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ

ص: 565


1- الصافّات: 102.
2- هود: 75.
3- التوبة: 114.

الصَّالِحِينَ [112] وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [113]

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الغلام الّذي بشّره به ولد له و ترعرع، حيث قال: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: فلمّا وجد و بلغ أن يسعى معه في أعماله. و «معه» متعلّق بمحذوف دلّ عليه السعي، لابه، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّمه، و لا ب «بلغ»، لأنّ بلوغهما حدّ السعي لم يكن معا. كأنّه لمّا قال: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: الحدّ الّذي يقدر فيه على السعي- قيل: مع من؟ فقيل: مع أبيه. و تخصيص الأب لأنّه أرفق الناس به و أعطفهم عليه، و غيره ربما عنف به في الاستسعاء قبل أوانه، فلا يحتمله حين عدم استحكام قوّته. أو لأنّه استوهبه لذلك. و كان له يومئذ ثلاث عشرة سنة.

قالَ يا بُنَيَ و قرأ حفص وحده بفتح الياء إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أنّه رأى ذلك، و أنّه رأى ما هو تعبيره.

و قيل: إنّه رأى ليلة التروية أنّ قائلا يقول له: إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا، فلمّا أصبح روّى (1) في أنّه أمن اللّه أو من الشيطان؟ و من ثمّ سمّي هذا اليوم التروية.

فلمّا أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنّه من اللّه، فمن ثمّ سمّي عرفة. ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره و قال له ذلك، فسمّي يوم النحر.

و قيل: إنّ الملائكة حين بشّرته بغلام حليم، قال: هو إذا ذبيح. فلمّا ولد و بلغ حدّ السعي، قيل له في المنام: أوف بنذرك.

و اختلف في الذبيح على قولين:

ص: 566


1- روّى في الأمر: نظر فيه و تفكّر.

أحدهما: أنّه إسحاق.

و الأظهر أنّ المخاطب كان إسماعيل عليه السّلام، لأنّه الّذي وهب له إثر الهجرة.

و لأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام. و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا ابن الذبيحين».

فأحدهما جدّه إسماعيل، و الآخر أبوه عبد اللّه.

و روي: أنّ أعرابيّا قال له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا ابن الذبيحين، فتبسّم. فسئل عن ذلك.

فقال: «إنّ عبد المطّلب نذر أن يذبح أحد ولده إن سهّل اللّه له حفر زمزم. فلمّا سهّل أقرع، فخرج السهم على عبد اللّه، فمنعه أخواله، و قالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، و لذلك سنّت الدية مائة».

و لأنّ ذلك كان بمكّة، و كان قرنا الكبش معلّقين بالكعبة، حتّى احترقا معها في أيّام ابن الزبير، و لم يكن ثمّة إسحاق.

و لأنّ البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا.

و لأنّه مرويّ عن ابن عبّاس، و ابن عمر، و سعيد بن المسيّب، و الحسن، و الشعبي، و مجاهد، و الربيع بن أنس، و الكعبي، و محمد بن كعب. و قد رواه أصحابنا أيضا عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح؟ فقال: يا أصمعي، أين ذهب عقلك؟ و متى كان إسحاق بمكّة؟ و إنّما كان بمكّة إسماعيل.

و هو الّذي بنى البيت مع أبيه. و المنحر بمكّة لا شكّ فيه.

و ما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل أيّ النسب أشرف؟ قال: «يوسف صدّيق اللّه، بن يعقوب إسرائيل اللّه، بن إسحاق ذبيح اللّه، بن إبراهيم خليل اللّه».

فالصحيح أنّه قال:

يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، و الزوائد من الراوي. و ما روي أنّ يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت.

ص: 567

و حجّة من قال إنّه إسحاق: أنّ أهل الكتابين أجمعوا على ذلك. و جوابه: أنّ إجماعهم ليس بحجّة، و قولهم غير مقبول.

و روى محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن كعب القرظي، قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فسألني عن الذبيح. فقلت: إسماعيل. و استدللت بقوله تعالى:

وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا (1). فأرسل إلى رجل بالشام كان يهوديّا فأسلم و حسن إسلامه، و كان يرى أنّه من علماء اليهود. فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك و أنا عنده، فقال: إسماعيل. ثم قال: و اللّه يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك، و لكنّهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون الذبيح أباكم. فهم يجحدون ذلك، و يزعمون أنّه إسحاق، لأنّ إسحاق أبوهم.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو فيهما بفتح الياء.

و معنى الآية: أنّ إبراهيم قال لابنه إسماعيل: إنّي أبصرت في المنام أنّي أذبحك. أو رأيت رؤيا تأويلها الأمر بذبحك. فَانْظُرْ ما ذا تَرى أي: أيّ شي ء تراه من الرأي. فيكون «ماذا» في موضع النصب بمنزلة اسم واحد. و لا يجوز أن يكون «ترى» بمعنى: تبصر، لأنّه لم يشر إلى شي ء يبصر بالعين. و لا يجوز أن يكون بمعنى: علم أو ظنّ أو اعتقد، لأنّ هذه الأشياء تتعدّى إلى مفعولين، و ليس هنا إلّا مفعول واحد، مع استحالة المعنى. فلم يبق إلّا أن يكون من الرأي.

و إنّما شاوره فيه و هو حتم من اللّه، ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء اللّه، فيثبت قدمه إن جزع، و يأمن عليه الزلل إن سلّم نفسه للذبح، و ليوطّن نفسه عليه فيهون، و يكتسب المثوبة بالانقياد للّه قبل نزول البلاء.

و قرأ حمزة و الكسائي: «ما ذا تري» بضمّ التاء و كسر الراء خالصة. و الباقون بفتحهما. و أبو عمرو يميل فتحة الراء. و ورش بين بين. و الباقون بإخلاص فتحها.

ص: 568


1- الصافّات: 112.

و لمّا فهم إسماعيل من كلام أبيه بأنّه يذبحه أنّه مأمور من عند اللّه قالَ يا أَبَتِ و قرأ ابن عامر بفتح التاء افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي: ما تؤمر به. فحذف الجارّ و المجرور دفعة، أو على الترتيب. أو افعل أمرك، على إضافة المصدر إلى المفعول به، و أراد منه المأمور به. و إنّما ذكر بلفظ المضارع لتكرّر الرؤيا. و رؤيا الأنبياء بمنزلة الوحي، كما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

و قال في المجمع: «و الأولى أن يكون قد أوحى إليه في حال اليقظة، و تعبّده بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه، من حيث إنّ منامات الأنبياء لا تكون إلّا صحيحة. و لو لم يأمره بذلك في حال اليقظة، لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام» (1).

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح، أو على قضاء اللّه. و قرأ نافع بفتح الياء.

فَلَمَّا أَسْلَما استسلما لأمر اللّه. و قال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه، و أسلم إسماعيل نفسه. يقال: سلّم لأمر اللّه و استسلم بمعنى واحد، أي: انقاد له و خضع.

و حقيقة معناه: أخلص نفسه للّه، و جعلها سالمة له خالصة. وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على شقّه، فوقع جبينه على الأرض. و هو أحد جانبي الجبهة. و قيل: كبّ إبراهيم

إسماعيل على وجهه بإشارته، لئلّا يرى فيه تغيّرا يرقّ له فلا يذبحه.

روي: أنّه قال: اذبحني و أنا ساجد لا تنظر إلى وجهي، فعسى أن ترحمني فلا تذبحني. و كان ذلك عند الصخرة الّتي بمنى. و عن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى. و عن الضحّاك: في المنحر الّذي ينحر فيه اليوم.

وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ أي: بأن يا إبراهيم. يعني: بهذا الضرب من القول.

قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا بالعزم و الإتيان بالمقدّمات. و قد روي أنّه أمرّ السكّين بقوّته

ص: 569


1- مجمع البيان 8: 452.

على حلقه مرارا فلم تقطع.

و جواب «لمّا» محذوف، تقديره: قد صدّقت الرؤيا كان ما كان ممّا لا يحيط به الوصف، من استبشارهما و شكرهما للّه على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله، و التوفيق بما لم يوفّق غيرهما لمثله، و إظهار فضلهما به على العالمين، مع إحراز الثواب العظيم.

ثمّ علّل إفراج تلك الشدّة عنهما، و الظفر بالبغية عند اليأس، بإحسانهما، فقال: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: كما جزيناهما بالإخراج عن البلاء العظيم، و إعطاء الثواب الجزيل، نجزي من سلك طريقهما في الإحسان بالاستسلام، و الانقياد لأمر اللّه.

و احتجّ به من جوّز النسخ قبل وقوعه، فإنّه عليه السّلام كان مأمورا بالذبح، لقوله:

يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ و لم يحصل.

و أجيب عن ذلك بأنّه سبحانه لم يأمر إبراهيم بالذبح الّذي هو فري الأوداج، و إنّما أمره بمقدّمات الذبح، من الإضجاع و تناول المدية، و ما يجري مجرى ذلك.

و العرب قد تسمّي الشي ء باسم مقدّماته. أو أنّه أمر بصورة الذبح، و قد فعله، لأنّه فرى أوداج ابنه، و لكنّه كلّما فرى جزءا منه و جاوز إلى غيره عاد في الحال ملتحما.

أو أنّه أمره بالذبح، إلّا أنّه سبحانه جعل على عنقه صفحة من نحاس، فكلّما أمرّ إبراهيم السكّين عليه لم يقطع، أو كان كلّما اعتمد على السكّين انقلب، على اختلاف الرواية فيه.

إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الامتحان البيّن و الاختبار الظاهر الّذي يتميّز فيه المخلص من غيره. أو المحنة البيّنة الصعوبة، فإنّه لا محنة أصعب منها.

وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ أي: جعلنا الذبح بدلا عنه، كالأسير يفدى بشي ء، فإنّ الفداء جعل الشي ء مكان الشي ء لرفع الضرر عنه. و الذبح: اسم ما يذبح. و المعنى:

ص: 570

و فديناه بما يذبح بدله، فيتمّ به الفعل. عَظِيمٍ ضخيم الجثّة، سمين البدن. أو عظيم القدر، لأنّه يفدي به اللّه نبيّا ابن نبيّ، و أيّ نبيّ! من نسله سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لأنّه من عند اللّه.

قيل: كان كبشا من الجنّة. و عن ابن عبّاس: هو الكبش الّذي قرّبه هابيل فتقبّل منه. و كان يرعى في الجنّة حتّى فدى به إسماعيل.

و عن الحسن: فدى بوعل (1) اهبط عليه من ثبير. و هو جبل بمكّة.

و روي: أنّه هرب من إبراهيم عند الجمرة، فرماه بسبع حصيات حتّى أخذه، فصارت سنّة.

و في رواية اخرى: أنّه رمى الشيطان حين تعرّض له بالوسوسة عند ذبح ولده.

و روي: أنّه لمّا ذبحه قال جبرئيل: اللّه أكبر اللّه أكبر. فقال الذبيح: لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر. فقال إبراهيم عليه السّلام: اللّه أكبر للّه الحمد. فبقي سنّة. و الفادي على الحقيقة إبراهيم. و إنّما قال: و فديناه، لأنّه المعطي له و الآمر به، على التجوّز في الفداء أو في الإسناد.

و عن ابن عبّاس: لو تمّت تلك الذبيحة لصارت سنّة، و ذبح الناس أبناءهم.

و استدلّ به الحنفيّة على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة، و ليس فيه ما يدلّ عليه.

و حكي في قصّة الذبيح أنّه حين أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل و المدية و انطلق بنا إلى الشعب نحتطب. فلمّا توسّطا شعب ثبير أخبره بما أمر. فقال له:

اشدد رباطي لا أضطرب. و اكفف عنّي ثيابك لا ينتضح عليها شي ء من دمي، فينقص أجري، و تراه أمّي فتحزن. و اشحذ شفرتك، و أسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون عليّ، فإنّ الموت شديد. و اقرأ على امّي سلامي.

ص: 571


1- الوعل: تيس الجبل، أي: الذكر من المعز و الظباء.

فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر اللّه. ثمّ أقبل عليه يقبّله و قد ربطه، و هما يبكيان. ثمّ وضع السكّين على حلقه فلم تعمل، لأنّ اللّه ضرب صفحة نحاس على حلقه.

فقال له: كبّني على وجهي، فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني، و أدركتك رقّة تحول بينك و بين أمر اللّه.

ففعل. ثمّ وضع السكّين على قفاه فانقلب السكّين، و نودي من ميسر مسجد الخيف: «يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» فنظر فإذا جبرئيل معه كبش (1) أقرن أملح، فكبّر جبرئيل. و كان يمشي في سواد، و ينظر في سواد، و يبعر و يبول في سواد.

فذبحه إبراهيم في منى بحيال الجمرة الوسطى، و تصدّق بلحمه على المساكين.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ الثناء الجميل فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سبق تفسيره في قصّة نوح (2) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يحتمل أنّه طرح عنه «إنّا» اكتفاء بذكره في هذه القصّة (3) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي: مقضيّا نبوّته، مقدّرا كونه من الصالحين. و بهذا التفسير وقعا حالين. و لا

حاجة إلى وجود المبشّر به وقت البشارة، فإنّ وجود ذي الحال غير شرط، بل الشرط مقارنة تعلّق الفعل بذي الحال، لاعتبار المعنى بالحال. فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما، مثل: و بشّرناه بوجود إسحاق، أي: بأن يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين، كما قال صاحب الكشّاف (4). و مع ذلك لا يصير نظير قوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ (5) فإن الداخلين مقدّرون خلودهم وقت دخولهم،

ص: 572


1- الكبش: الخروف إذا دخل في السنة الثانية أو الرابعة. و الأقرن: ماله قرنان. و يقال: كبش أملح: إذا كان أسود يعلو شعره بياض.
2- راجع ص 588.
3- الصافّات: 105.
4- الكشّاف 4: 59.
5- الزمر: 73.

و إسحاق لم يكن مقدّرا نبوّة نفسه و صلاحها حينما يوجد. و من فسّر الذبيح بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوّته بعد ما امتحنه بذبحه. و في ذكر الصلاح بعد النبوّة تعظيم لشأنه، و إيماء بأنّه الغاية لها، لتضمّنها معنى الكمال و التكميل بالفعل على الإطلاق.

وَ بارَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم في أولاده وَ عَلى إِسْحاقَ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل و غيرهم، كأيّوب و شعيب، و أفضنا عليهما بركات الدين و الدنيا، كقوله: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (1).

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في عمله. أو إلى نفسه بالإيمان و الطاعة. وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر و المعاصي مُبِينٌ ظاهر ظلمه. و في ذلك تنبيه على أنّ النسب لا أثر له في الهدى و الضلال، بل إنّما يعاب لسوء فعله، و يعاقب على ما اجترحت يداه. و أنّ الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة و عيب.

[سورة الصافات [37]: الآيات 114 الى 122]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ [114] وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [115] وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ [116] وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ [117] وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [118]

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ [119] سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ [120] إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [121] إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [122]

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بذكر موسى و هارون، فقال: وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى

ص: 573


1- العنكبوت: 27.

مُوسى وَ هارُونَ أنعمنا عليهما بالنبوّة و غيرها من المنافع الدينيّة و الدنيويّة وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من تغلّب فرعون، و تسخير قومه إيّاهم، و استعمالهم في الأعمال الشاقّة. و قيل: من الغرق. وَ نَصَرْناهُمْ الضمير لهما مع القوم، لقوله تعالى: وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما. فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون و قومه، بعد أن كانوا مغلوبين مقهورين.

وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه. و هو التوراة، كما قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ (1). وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الطريق الموصل إلى الحقّ و الصواب. و هو صراط أهل الإسلام الّذين أنعم اللّه عليهم، غير المغضوب عليهم، و لا الضالّين.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما الثناء الجميل فِي الْآخِرِينَ بأن قلنا سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قد سبق تفسير ذلك.

[سورة الصافات [37]: الآيات 123 الى 132]

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [123] إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ [124] أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ [125] اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [126] فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [127]

إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [128] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [129] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [130] إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [131] إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [132]

ص: 574


1- المائدة: 44.

ثمّ أقفاهما بقصّة إلياس فقال: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هو الياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى، بعث بعده. و قيل: هو إدريس. و يؤيّده ما وقع في قراءة أبيّ و مصحف ابن مسعود: و إنّ إدريس. و عن وهب: أنّه ذو الكفل. و الأوّل أشهر.

و قيل: إنّ إلياس استخلف اليسع ابن عمّه على بني إسرائيل، و رفعه اللّه تعالى من بين أظهرهم، و كساه الريش، و قطع عنه لذّة الطعام و الشراب، فصار إنسيّا ملكيّا، أرضيّا سماويّا. و سلّط اللّه على الملك و قومه عدوّا لهم، فقتل الملك و امرأته، و بعث اللّه اليسع رسولا، فآمنت به بنو إسرائيل.

و قيل: إلياس صاحب البراري، و الخضر صاحب الجزائر، و يجتمعان كلّ يوم عرفة بعرفات.

و قيل: إنّه بعث بعد حزقيل لمّا عظمت الأحداث في بني إسرائيل. و كان يوشع لمّا فتح الشام بوّأها (1) بني إسرائيل، و قسّمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم ببعلبك، و هم سبط إلياس، فبعث فيهم نبيّا إليهم، فأجابه الملك. ثمّ إنّ امرأته حملته على أن ارتدّ و خالف إلياس، و طلبه ليقتله، فهرب إلى الجبال و البراري. و قرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس.

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ عذاب اللّه أَ تَدْعُونَ بَعْلًا أ تعبدونه؟ أو أ تطلبون الخير منه؟ و هو اسم صنم كان لأهل «بك» من الشام، و هو البلد الّذي يقال له الآن:

بعلبك. و قيل: كان من ذهب، و كان طوله عشرين ذراعا، و له اربعة أوجه. فعظّموه حتّى أخدموه أربعمائة سادن (2)، و جعلوهم أنبياءه. فكان الشيطان يدخل في جوف بعل و يتكلّم بشريعة الضلالة، و السدنة يحفظونها، و يعلّمونها الناس.

ص: 575


1- أي: هيّأها لهم و أنزلهم فيها.
2- السادن: خادم الكعبة أو بيت الصنم.

و قيل: البعل الربّ، بلغة اليمن. يقال: من بعل هذا الوادي؟ أي: من ربّه؟ فالمعنى: أ تدعون بعض البعول؟ وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ و تتركون عبادته. و قد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار المعنيّ بالهمزة. ثمّ صرّح بهذا الإنكار بقوله: اللَّهَ رَبَّكُمْ خالقكم و رازقكم وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ و خالق من مضى من آبائكم و أجدادكم. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص بالنصب على البدل.

فَكَذَّبُوهُ فيما دعاهم إليه، و لم يصدّقوه فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: في العذاب. و إنّما أطلقه اكتفاء بالقرينة، أو لأنّ الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مستثنى من الواو، لا من المحضرين، لفساد المعنى.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ لغة في إلياس، كسيناء و سينين. و قيل: جمع له، لأنّ المراد هو و أتباعه، كالمهلّبين. لكن فيه: أنّ العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام، ليحصل كثرة و شيوع يبطل العلم.

أو للمنسوب (1) إليه، بحذف ياء النسبة. و هو قليل ملبس. و قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب على إضافة «آل» إلى «ياسين»، لأنّهما في المصحف مفصولان.

فيكون ياسين أبا إلياس. و عن ابن عبّاس: آل يس آل محمد. و «يس» اسم من أسمائه.

و قيل: «يس» اسم القرآن، أو غيره من كتب اللّه. فكأنّه قال: سلام على من آمن بالقرآن و سائر كتب اللّه. و هذا لا يناسب نظم سائر القصص، و لا قوله: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ إذ الظاهر أنّ الضمير لإلياس.

ص: 576


1- أي: جمع إلياسي، كالأعجمين جمع الأعجمي.

[سورة الصافات [37]: الآيات 133 الى 138]

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [133] إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ [134] إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ [135] ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ [136] وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ [137] وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [138]

ثمّ عطف قصّة لوط على ما تقدّم، فقال: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ اذكر يا محمّد حين نجّيناه وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ من عذاب الاستئصال إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ الباقين الّذين أهلكوا ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بعذاب الاستئصال وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ يا أهل مكّة عَلَيْهِمْ على منازلهم في متاجركم إلى الشام، فإنّ «سدوم» في طريقه مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وَ بِاللَّيْلِ و مساء. أو نهارا و ليلا. و هو عطف على «مصبحين» معنى، أي: ممسين. و لعلّ «سدوم» وقعت قريب منزل يمرّ بها المرتحل عنه صباحا، و القاصد لها مساء. أَ فَلا تَعْقِلُونَ أ فليس فيكم عقل تعتبرون به.

و الوجه في ذكر قصص الأنبياء و تكريرها التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق و محاسن الخلال، و صرف الخلق عمّا كان عليه الكفّار من مساوئ الخصال و مقابح الأفعال.

[سورة الصافات [37]: الآيات 139 الى 148]

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [139] إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [140] فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [141] فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ [142] فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [143]

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

ص: 577

[144] فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ [145] وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [146] وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [147] فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [148]

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ هرب. و أصله الهرب من السيّد، لكن لمّا كان هربه من قومه بغير إذن ربّه حسن إطلاقه عليه على طريقة المجاز. إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء من الناس و

الأحمال، خوفا من أن ينزل العذاب بهم و هو مقيم فيهم فَساهَمَ فقارع أهله. من: استهم القوم إذا اقترعوا. فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فصار من المغلوبين بالقرعة. و أصله المزلق عن مقام الظفر و الغلبة.

روي: أنّه لمّا وعد قومه بالعذاب، خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّه، فركب السفينة فوقفت. فقالوا: هاهنا عبد آبق من سيّده. و هذا ممّا يزعم البحّارون من أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر. فاقترعوا، فخرجت القرعة عليه ثلاث مرّات.

فقال: أنا الآبق، فألقى نفسه في الماء.

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فابتلعه من اللقمة. و قيل: إنّ اللّه سبحانه أوحى إلى الحوت: أنّي لم أجعل عبدي رزقا لك، و لكن جعلت بطنك له محبسا، فلا تكسرنّ له شعرا، و لا تخدشنّ له جلدا. وَ هُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة. أو آت بما يلام عليه. أو مليم نفسه على خروجه من بين قومه بغير أمر ربّه. و عندنا أنّ ذلك إنّما وقع منه تركا للمندوب، و قد يلام الإنسان على ترك الندب. و من جوّز الصغيرة على الأنبياء، قال: وقع ذلك منه صغيرة مكفّرة.

و اختلف في مدّة لبثه في بطن الحوت، فعن مقاتل بن حيّان: كانت ثلاثة أيّام. و عن عطاء: سبعة. و عن الضحّاك: عشرين. و عن السدّي و مقاتل بن سليمان

ص: 578

و الكلبي: أربعين.

فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ الذاكرين اللّه كثيرا بالتسبيح و التقديس مدّة عمره، أو في بطن الحوت. و هو قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (1). و قيل: من المصلّين، لما روي عن ابن عبّاس: كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة. و عن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. و يقال:

إنّ العمل الصالح يرفع صاحبه إذا صرع.

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ حيّا. و قيل: ميّتا. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ و فيه حثّ على إكثار المؤمن ذكر اللّه، و تعظيم لشأنه. و من أقبل عليه في السرّاء أخذ بيده عند الضرّاء.

فَنَبَذْناهُ بأن حملنا الحوت على لفظه (2) بِالْعَراءِ بالمكان الخالي عمّا يغطّيه من شجر أو نبت. و روي: أنّ الحوت سار مع السفينة، رافعا رأسه يتنفّس فيه يونس و يسبّح، حتّى انتهوا إلى البرّ، فلفظه سالما لم يتغيّر منه شي ء. و روي: أنّ الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وَ هُوَ سَقِيمٌ مريض ممّا ناله. قيل: صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. و عن ابن مسعود قال: خرج يونس من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش.

وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ أي: فوقه مظلّة عليه شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ من شجر ينبسط على وجه الأرض، و لا يقوم على ساقه، كشجر البطّيخ و القثّاء و الحنظل.

و هو يفعيل، من: قطن بالمكان إذا أقام به. و الأكثر على أنّها كانت الدبّاء (3)، غطّته بأوراقها. و فائدة الدبّاء أنّ الذباب لا يجتمع عنده. و يدلّ عليه أنّه قيل .

ص: 579


1- الأنبياء: 87.
2- أي: قذفه.
3- الدبّاء: القرع.

لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّك لتحبّ القرع؟ قال: «أجل، هي شجرة أخي يونس».

و قيل:

التين. و قيل: الموز. تغطّى بورقه، و استظلّ بأغصانه، و أفطر على ثماره.

و قيل: كان يستظلّ بالشجرة، و كانت و علة (1) تختلف إليه فيشرب من لبنها.

و روي: أنّه مرّ زمان على الشجرة فيبست، فبكى جزعا، فأوحى اللّه إليه: بكيت على شجرة، و لا تبكي على مائة ألف في يد الكافر.

وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ هم قومه

الّذين هرب عنهم. و هم أهل نينوى من أرض الموصل. و المراد به ما سبق من إرساله، أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم.

أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر، أي: إذا نظر إليهم قال: هم مائة ألف أو أكثر.

و المراد الوصف بالكثرة.

فَآمَنُوا فصدّقوه. أو فجدّدوا الإيمان به بمحضره. فَمَتَّعْناهُمْ بالمنافع و اللذّات إِلى حِينٍ إلى انقضاء آجالهم المسمّاة. و لعلّه إنّما لم يختم قصّته و قصّة لوط بما ختم به سائر القصص، تفرقة بينهما و بين أرباب الشرائع الكبرى و أولي العزم من الرسل، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكلّ الرسل المذكورين في آخر السورة.

[سورة الصافات [37]: الآيات 149 الى 160]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ [149] أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ [150] أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ [151] وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [152] أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ [153]

ما لَكُمْ كَيْفَ

ص: 580


1- الوعلة أنثى الوعل. و هو تيس الجبل، له قرنان قويّان منحنيان.

تَحْكُمُونَ [154] أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [155] أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ [156] فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [157] وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [158]

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [159] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [160]

و اعلم أنّه سبحانه أمر رسوله في أوّل السورة (1) باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، و ساق الكلام في تقريره إلى ما يلائمه من القصص موصولا بعضها ببعض، ثمّ أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى، حيث جعلوا للّه البنات و لأنفسهم البنين. فقال عطفا على الأمر باستفتائهم المذكور:

فَاسْتَفْتِهِمْ أيّ: سلهم و اطلب الحكم منهم، تهكّما و تقريعا أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ أي: كيف أضافوا البنات إلى اللّه تعالى، و اختاروا

لأنفسهم البنين؟

و هؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر: التجسيم، و تجويز الفناء على اللّه تعالى، فإنّ الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة. و تفضيل أنفسهم عليه، حيث جعلوا أوضح الجنسين له، و أرفعهما لهم. و استهانتهم بالملائكة الّذين أكرم خلق اللّه و أقربهم إليه، حيث أنّثوهم. و لذلك كرّر اللّه تعالى إنكار ذلك و إبطاله في كتابه مرارا، و جعله ممّا تكاد السماوات يتفطّرن منه، و تنشقّ الأرض، و تخرّ الجبال هدّا.

أَمْ خَلَقْنَا أي: بل خلقنا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ حاضرون عند خلقنا إيّاهم؟ أي: كيف يجعلونهم إناثا و لم يشهدوا خلقهم؟ و إنّما خصّ علم المشاهدة، لأنّ أمثال ذلك لا تعلم إلّا بها، فإنّ الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم ليمكن

ص: 581


1- الصافّات: 11.

معرفته بالعقل الصرف. مع ما فيه من الاستهزاء، و الإشعار بأنّهم لفرط جهلهم يقطعون به، كأنّهم قد شاهدوا خلقهم.

أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ لعدم ما يقتضيه، و قيام ما ينفيه وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يتديّنون به أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ استفهام إنكار و استبعاد.

و أسقطت همزة الوصل، تقديره: أ أصطفي؟ و الاصطفاء أخذ صفوة الشي ء. و عن نافع برواية ورش: كسر الهمزة، على حذف حرف الاستفهام، لدلالة «أم» بعدها عليها. أو على الإثبات بإضمار القول، أي: لكاذبون في قولهم: اصطفى البنات. أو إبداله من «ولد اللّه».

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما لا يرتضيه عقل أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أنّه منزّه عن ذلك، فتنتهون عن مثل هذا القول أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ حجّة واضحة نزلت عليكم من السماء بأنّ الملائكة بناته. و هذا كلّه إنكار في صورة الاستفهام.

فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الّذي أنزل عليكم في ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم.

و المراد أنّه لا دليل لكم على ما تقولونه من جهة العقل، و لا من جهة السمع. و هذه الآيات صادرة عن سخط عظيم، و إنكار فظيع، و استبعاد لأقاويلهم شديد.

وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ أي: الملائكة نَسَباً يعني: جعلوا بما قالوا نسبة بين اللّه و بينهم، و أثبتوا له بذلك جنسيّة جامعة له و للملائكة. و ذكر الملائكة باسم جنسهم، وضعا منهم أن يبلغوا هذه المرتبة. مع أنّ فيه إشارة إلى أنّ من صفته الاجتنان و الاستتار، لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك.

و قيل: قالوا إن اللّه صاهر الجنّ فخرجت الملائكة.

و قيل: قالت الزنادقة: إنّ اللّه و الشيطان أخوان، و إنّ اللّه خالق الخير، و إبليس خالق الشرّ.

ص: 582

وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ إنّ الكفرة أو الجنّة، إن فسّرت بغير الملائكة لَمُحْضَرُونَ في العذاب. يعني: أنّهم يقولون ما يقولون في الملائكة، و قد علم الملائكة أنّهم في ذلك كاذبون مفترون، و أنّهم محضرون النار، معذّبون بما يقولون.

أو قد علمت الجنّة- و هم الجنّ الّذين دعوهم- أنّهم لمحضرون العذاب بدعائهم إلى هذا القول. و المراد المبالغة في التكذيب، حيث أضيف إلى علم الّذين ادّعوا لهم تلك النسبة.

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الولد و النسب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء من المحضرين منقطع، أو متّصل إن فسّر الضمير بما يعمّهم، و ما بينهما اعتراض. أو من «يصفون» أي: يصفه هؤلاء بذلك، و لكنّ المخلصين برآء من أن يصفوه به.

[سورة الصافات [37]: الآيات 161 الى 163]

فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ [161] ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ [162] إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [163]

ثمّ أعاد الخطاب إلى الكفّار بقوله: فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ على اللّه بِفاتِنِينَ مفسدين الناس بالإغواء. من قولك: فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه. و «أنتم» ضمير لهم و لآلهتهم، غلّب فيه المخاطب على الغائب.

و يجوز أن يكون الواو في «و ما تعبدون» بمعنى «مع»، كقولهم: كلّ رجل و ضيعته.

فكما جاز السكوت على «كلّ رجل و ضيعته» جاز أن يسكت على قوله: «فإنّكم و ما تعبدون» لأنّ قوله: «و ما تعبدون» سادّ مسدّ الخبر، لأنّ معناه: فإنّكم مع ما تعبدون، أي: مع آلهتكم. يعني: أنّكم قرناؤهم و أصحابهم لا تزالون تعبدونها. ثمّ قال: «ما أنتم عليه» أي: على ما تعبدون «بفاتنين» بباعثين، أو حاملين على طريق الفتنة و الإضلال.

ص: 583

إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ إلّا من سبق في علمه أنّه يصلى الجحيم لا محالة، أي: ضالّ مستوجب للنار مثلكم.

[سورة الصافات [37]: الآيات 164 الى 166]

وَ ما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [164] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [165] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [166]

ثمّ حكى عن اعتراف الملائكة بالعبوديّة ردّا على عبدتهم، فقال: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي: و ما منّا أحد إلّا له مقام معلوم في المعرفة و العبادة، و الانتهاء إلى أمر اللّه في تدبير العالم، مقصور عليه، لا يتجاوز ما أمر به و رتّب له، كما لا يتجاوز صاحب المقام مقامه الّذي حدّ له. فحذف الموصوف، و هو: أحد، و أقيمت الصفة- أعني: «إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»- مقامه. و مثله ما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فمنهم سجود لا يركعون، و ركوع لا ينتصبون، و صافّون لا يتزايلون». «فمنهم راكع لا يقيم صلبه، و ساجد لا يرفع رأسه».

و يحتمل أن يكون هذا و ما قبله- من قوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ يتّصل بقوله: وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ. كأنّه قال: و لقد علمت الملائكة و شهدوا أنّ المشركين مفترون عليه في مناسبة ربّ العزّة، و قالوا: «سبحان اللّه» تنزيها له عنه.

ثمّ استثنوا المخلصين تبرئة لهم بهذا القول. ثمّ خاطبوا الكفرة بأنّ الافتتان بذلك للشقاوة المقدّرة. ثمّ اعترفوا بالعبوديّة، و بتفاوت مراتبهم فيها لا يتجاوزونها.

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أقدامنا لأداء الطاعة و منازل العبادة، مذعنين خاضعين وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزّهون اللّه عمّا لا يليق به. و يمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى درجاتهم في الطاعات، و هذا في المعارف. و «إنّ» و اللام و توسيط الفصل للتأكيد و الاختصاص الدالّين على أنّهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة دون غيرهم.

ص: 584

و قيل: هو من كلام النبيّ و المؤمنين. و المعنى: و ما من المسلمين أحد إلّا له مقام معلوم في الجنّة على قدر من عمله، و إنّا لنحن الصافّون له في الصلاة، و المنزّهون له عن السوء.

[سورة الصافات [37]: الآيات 167 الى 179]

وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ [167] لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ [168] لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [169] فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [170] وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [171]

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [172] وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [173] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [174] وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [175] أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ [176]

فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ [177] وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [178] وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [179]

وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، و اللام هي الفارقة.

و المعنى: أنّ هؤلاء الكفّار- يعني: أهل مكّة- ليقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ كتابا من الكتب الّتي نزلت عليهم لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة

له، و لم نخالف كما خالفوا. فلمّا جاءهم الذّكر الّذي هو أشرف الأذكار و الشاهد عليها فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي: ما وعدنا لهم بالنصر و الغلبة على عدوّهم في الدنيا، و علوّ درجاتهم عليهم في الآخرة. و هو قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ

ص: 585

الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ باعتبار الغالب. و إنّما سمّاها كلمة، و هي كلمات، لانتظامها في معنى واحد.

و عن الحسن: المراد بالآية نصرتهم بالحرب، فإنّه لم يقتل نبيّ من الأنبياء قطّ في الحرب، و إنّما قتل من قتل منهم غيلة، أو على وجه آخر في غير الحرب.

و إن مات نبيّ قبل النصرة أو قتل فقد أجرى اللّه تعالى العادة بأن ينصر قومه من بعده، فيكون في نصرة قومه نصرة له. فقد تحقّق قوله: «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ».

و عن ابن عبّاس: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. قال السدّي:

المراد بالآية النصر بالحجّة.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض حَتَّى حِينٍ هو الموعد لنصرك عليهم. و هو يوم بدر. و قيل: يوم الفتح. و قيل: إلى يوم القيامة.

وَ أَبْصِرْهُمْ على ما ينالهم حينئذ من الأسر و القتل و العذاب في الآخرة. و المراد بالأمر بإبصارهم على الحالة المنتظرة الموعودة، الدلالة على أنّها كائنة الوقوع لا محالة، كأنّها قدّامه. و فيه تسلية له، و تنفيس عنه. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما قضينا لك من التأييد و النصرة و الثواب في الآخرة. و «سوف» للوعيد لا للتبعيد. و في هذا إخبار بالغيب، فوافق المخبر الخبر.

روي أنّه لمّا نزل: «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» قالوا: متى هذا؟ استهزاء. فنزلت:

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ و لمّا كانت العرب تفاجئ أعداءها بالغارة صباحا، أخرج اللّه سبحانه الكلام على عادتهم، فقال: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فإذا نزل العذاب بفنائهم. شبّهه بجيش هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة. و قيل: ضمير «نزل» للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ فبئس الصباح صباح من خوّفوا و حذّروا فلم يخافوا و لم يحذروا. و اللام للجنس. و الصباح مستعار من صباح الجيش المبيّت لوقت نزول العذاب. و لمّا كثر فيهم الهجوم و الغارة في الصباح، سمّوا الغارة صباحا

ص: 586

و إن وقعت في وقت آخر.

وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ كرّره تأكيدا إلى تأكيد، و تسلية على تسلية، و إطلاقا بعد تقييد، للإشعار بأنّه يبصر، و أنّهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من أصناف المسرّة له، و أنواع المساءة لهم. و قيل: الأوّل لعذاب الدنيا، و الثاني لعذاب الآخرة.

[سورة الصافات [37]: الآيات 180 الى 182]

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [180] وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [181] وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [182]

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن وصفهم و بهتهم، فقال: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ تنزيها لربّك مالك العزّة عَمَّا يَصِفُونَ عمّا قاله المشركون فيه على ما حكى في الصورة. و إضافة الربّ إلى العزّة لاختصاصها به، إذ لا عزّة إلّا له أو لمن أعزّه، كما تقول: صاحب صدق، لاختصاصه بالصدق. و قد أدرج فيه جملة صفاته السلبيّة و الثبوتيّة مع الإشعار بالتوحيد.

وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم، أي:

سلامة و أمان لهم من أن ينصر عليهم أعداؤهم وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما أفاض عليهم، و على من اتّبعهم من النعم و حسن العاقبة. و لذلك أخّره عن التسليم. و المراد

تعليم المؤمنين كيف يحمدونه و يسلّمون على رسله.

و روى الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السّلام: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ...

إلى آخر السورة». و قد روي أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 587

ص: 588

فهرس الموضوعات

الصورة

ص: 589

الصورة

ص: 590

الصورة

ص: 591

الصورة

ص: 592

الصورة

ص: 593

الصورة

ص: 594

الصورة

ص: 595

الصورة

ص: 596

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.