زبدة التفاسير المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:الشریف الکاشاني، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان واسم المؤلف: زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشاني الشریف الکاشاني؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیة

تحرير الحالة: [ویرایش 2؟]

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 7

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیة؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

ISBN : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : الطبعة السابقة: مؤسسة التربية الإسلامية، 1378 (5 ج.)

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : کتابنامه

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن ق 10

المعرف المضاف: مؤسسة التربية الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP96/5/ک 2ز2 1381

تصنيف ديوي: 297/1726

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-26543

ص: 1

اشارة

زبدة التفاسير

تأليف

المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني قدس سره المتوفى سنة 988 ه- . ق

الجزء الرابع

تحقيق ونشر

مؤسّسة المعارف الإسلامية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

[17] سورة الإسراء

اشارة

(بني إسرائيل) مكّيّة كلّها. و هي مائة و إحدى عشرة آية.

في حديث أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين، أعطي في الجنّة قنطارين من الأجر، و القنطار ألف أوقيّة و مائتا أوقيّة، و الأوقيّة منها خير من الدنيا و ما فيها».

روى الحسن بن أبي العلاء عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة لم يمت حتّى يدرك القائم، و يكون من أصحابه».

[سورة الإسراء [17]: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [1]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة النحل بذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح سورة بني إسرائيل أيضا بذكره و بيان إسرائه إلى المسجد الأقصى، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا. «سبحان» اسم بمعنى التسبيح. و قد يستعمل علما له، فينقطع عن الإضافة، و يمنع عن الصرف. قال:

قد قلت لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

ص: 5

و انتصابه يفعل متروك إظهاره. و التقدير: أسبح اللّه سبحان. ثمّ نزّل منزلة الفعل، فسدّ مسده. و دلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح و المعائب و النواقص. و تصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عمّا ذكر بعد. و أسرى و سرى بمعنى.

و «ليلا» نصب على الظرف. و فائدته- مع أنّ الإسراء لا يكون إلّا بالليل- الدلالة بتنكيره على تقليل مدّة الإسراء من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة. و ذلك أنّ التنكير فيه معنى البعضيّة. و المعنى: أنزّه عن

صفة العجز الّذي أذهب عبده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جزء من الليل.

مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعينه، لما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم و اليقظان، إذ أتاني جبرئيل بالبراق».

أو من الحرم، و سمّاه المسجد الحرام، لأنّ كلّه مسجد، أو لأنّه محيط به، لما روي أنّه كان نائما في بيت أمّ هانئ أخت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بعد صلاة العشاء، فأسري به و رجع من ليلته، و قصّ القصّة عليها، و قال: مثّل لي النبيّون فصلّيت بهم. و قام ليخرج إلى المسجد فتشبّثت أمّ هانئ بثوبه. فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذّبك قومك إن أخبرتهم. قال: و إن كذّبوني.

فخرج إلى المسجد، فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحديث الإسراء. فقال: يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلمّوا، فحدّثهم، فمن بين مصفّق و واضع يده على رأسه تعجّبا و إنكارا. و ارتدّ ناس ممّن كان قد آمن به. و استنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس، فجلّى اللّه له بيت المقدس، فطفق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينظر إليه و ينعته لهم. فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب.

فقالوا: أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم بعدد جمالها و أحوالها. و قال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق. و هو الإبل الّذي في لونه بياض إلى سواد، و هو أطيب الإبل لحما، و ليس بمحمود عندهم في العمل. كذا قاله الأصمعي.

ص: 6

فخرجوا يشتدّون في ذلك اليوم نحو الثنيّة، فقال قائل منهم: هذه و اللّه الشمس قد أشرقت. و قال آخر: و هذه و اللّه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ لم يؤمنوا و قالوا: ما هذا إلّا سحر مبين.

و قد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، و كان العروج به من بيت المقدس، و أخبر قريشا أيضا بما رأى في السماء من العجائب، و أنّه لقي الأنبياء، و بلغ البيت المعمور و سدرة المنتهى. و كان ذلك قبل الهجرة بسنة.

و ما قاله بعضهم: إنّ ذلك العروج كان في النوم، ظاهر البطلان، مخالف لإجماع الإماميّة و جمهور العامّة.

و ما قيل: من أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّم اللّه سبحانه جهرة و رآه، و قعد معه على سريره، و نحو ذلك، فهو من مقالات أهل التشبيه و التجسيم، و اللّه تعالى يتقدّس عن ذلك.

و كذا ظاهر البطلان ما روي من أنّه شقّ بطنه و غسل بطنه، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان طاهرا مطهّرا من كلّ سوء و عيب، و كيف يطهّر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء؟! و القول الصحيح المنقول عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ اللّه سبحانه أسرى بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقظة بشخصه من المسجد الحرام إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بيت المقدس، لأنّه لم يكن حينئذ وراءه مسجد الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين و الدنيا، لأنّه مهبط الوحي، و متعبّد الأنبياء من لدن موسى، و محفوف بالأنهار و الأشجار، و موضع أمن و خصب، حتّى لا يحتاجوا إلى أن تجلب إليهم الثمرات و الحبوب من موضع آخر.

لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر، و مشاهدته بيت المقدس، و تمثّل الأنبياء له، و وقوفه على مقاماتهم، و صرف الكلام من الغيبة إلى التكلّم لتعظيم تلك البركات و الآيات. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْبَصِيرُ بأفعاله، فيكرمه و يقرّبه على حسب ذلك.

و من جملة الأخبار الواردة في قصّة المعراج ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أنّه قال:

ص: 7

«أتاني جبرئيل و أنا بمكّة فقال: قم يا محمّد. فقمت معه و خرجت إلى الباب، فإذا معه ميكائيل و إسرافيل. فأتى جبرئيل بالبراق، و كان فوق الحمار و دون البغل، خدّه كخدّ الإنسان، و ذنبه كذنب البقر، و عرفه كعرف الفرس، و قوائمه كقوائم الإبل، عليه رحل من الجنّة، و له جناحان. فقال: اركب. فركبت و مضيت حتّى انتهيت إلى بيت المقدس، فإذا ملائكة نزلوا من السماء بالبشارة و الكرامة من عند ربّ العزّة. و صلّيت في بيت المقدس، فبشّر لي إبراهيم في رهط من الأنبياء، ثمّ موسى و عيسى.

ثمّ أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا. فصعدت إلى السماء الدنيا، و رأيت عجائبها و ملكوتها، و ملائكتها يسلّمون عليّ.

ثمّ أصعدني إلى السماء الثانية، فرأيت فيها عيسى بن مريم و يحيى بن زكريّا. ثمّ أصعدني إلى السماء الثالثة، فرأيت يوسف. ثمّ أصعدني إلى السماء الرابعة، فرأيت فيها إدريس، و أصعدني إلى السماء الخامسة، فرأيت فيها هارون و موسى. ثمّ أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضها في بعض، و فيها الكرّوبيّون. ثمّ أصعدني إلى السماء السّابعة، فرأيت فيها إبراهيم عليه السّلام. ثمّ جاوزناها متصاعدين إلى أعلى علّيّين.

و وصف ذلك إلى أن قال: ثمّ كلّمني ربّي و كلّمته، و رأيت الجنّة و النار، و رأيت العرش و سدرة المنتهى. ثمّ رجعت إلى مكّة، فلمّا أصبحت حدّثت به الناس، فكذّبني أبو جهل و المشركون».

و في تفسير العيّاشي بالإسناد عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء الدنيا لم يمرّ بأحد من الملائكة إلّا استبشر به. قال: ثمّ مرّ بملك كئيب حزين، فلم يستبشر به. فقال: يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشر بي إلّا هذا الملك، فمن هذا؟

ص: 8

قال: هذا مالك خازن جهنّم، و هكذا جعله اللّه.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل سله أن يرينيها.

قال: فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول اللّه، و قد شكا إليّ و قال: ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشر بي إلّا هذا، فأخبرته أن اللّه هكذا جعله، و قد سألني أن أسألك أن تريه جهنّم.

قال: فكشف له عن طبق من أطباقها. قال: فما رئي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضاحكا حتّى قبض».

و عن أبي بصير قال: «سمعته يقول: إنّ جبرئيل احتمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى انتهى به إلى مكان من السماء، ثمّ تركه و قال له: ما وطأ نبيّ قطّ مكانك».

[سورة الإسراء [17]: الآيات 2 الى 3]

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً [2] ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [3]

و لمّا أنكر الكفّار القرآن مع أنّه أمّ المعجزات، و حديث المعراج مع إبانة آياته عندهم، بيّن إنكارهم نبوّة موسى و كتابه مع ظهور

معجزاته، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة وَ جَعَلْناهُ هُدىً حجّة و دلالة و إرشادا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا على أن لا تتّخذوا، كقولك: كتبت إليه أن افعل كذا. و قرأ أبو عمرو بالياء، على لأن لا يتّخذوا. مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا غيري تكلون إليه أموركم.

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص بتقدير: أعني. أو على النداء إن قرئ: أن لا تتّخذوا بالخطاب. أو على أنّه أحد مفعولي «لا تتّخذوا» و «من دوني» حال من «وكيلا». فيكون كقوله: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً (1)

ص: 9


1- آل عمران: 80.

و المعنى: قلنا لهم: لا تتّخذوا من دوني وكيلا يا ذرّيّة من حملنا مع نوح، أو لا تتّخذوا ذرّيّة من حملنا مع نوح وكيلا. فيكون «وكيلا» موحّد اللفظ مجموع المعنى، كرفيق في قوله: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (1) أي: لا تجعلونهم أربابا. و فيه تذكير بإنعام اللّه عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق، بحملهم مع نوح في السفينة.

إِنَّهُ إنّ نوحا كانَ عَبْداً شَكُوراً يحمد اللّه على مجامع حالاته. و فيه إيماء بأنّ إنجاءه و من معه كان ببركة شكره، و حثّ للذريّة على الاقتداء به. كأنّه قال:

لا تتّخذوا من دوني وكيلا، و لا تشركوا بي، لأنّ نوحا كان عبدا شكورا، و أنتم ذرّيّة من آمن به و حمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم. و قيل: الضمير لموسى.

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّه كان إذا أصبح و أمسى قال: اللّهمّ إنّي أشهدك أنّ ما أصبح و أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك، وحدك لا شريك

لك، لك الحمد و لك الشكر بها عليّ حتى ترضى، و بعد الرضا، فهذا كان شكره».

و قيل: كان إذا أكل قال: الحمد للّه الّذي أطعمني، و لو شاء أجاعني. و إذا شرب قال: الحمد للّه الّذي سقاني، و لو شاء أظمأني. و إذا اكتسى قال: الحمد للّه الّذي كساني، و لو شاء أعراني. و إذا احتذى قال: الحمد للّه الّذي حذاني، و لو شاء أحفاني. و إذا قضى حاجته قال: الحمد للّه الّذي أخرج عنّي أذاه في عافية، و لو شاء حبسه.

و روي: أنّه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجا آثره به.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 4 الى 8]

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ

ص: 10


1- النساء: 69.

وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً [4] فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً [5] ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [6] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً [7] عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [8]

و لمّا تقدّم أمره سبحانه لبني إسرائيل بالتوحيد، و نهيه إيّاهم عن الشرك، عقّب ذلك بذكر ما صدر منهم و ما جرى عليهم، تحذيرا للمشركين، و تسلية لسيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ و أوحينا إليهم وحيا مقضيّا مبتوتا فِي الْكِتابِ في التوراة لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ لا محالة. جواب قسم محذوف.

و يجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم. و المعنى: و قضينا قضاء مبتوتا جاريا مجرى القسم لتفسدنّ فيها. مَرَّتَيْنِ إفسادتين، أولاهما: مخالفة أحكام التوراة، و قتل شعيا، و حبس أرميا. و الآخرة: قتل زكريّا و يحيى، و قصد قتل عيسى. وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً و لتستكبرنّ عن طاعة اللّه، أو لتظلمنّ الناس.

فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما وعد عقاب أولاهما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أي:

خلّينا بينهم و بين ما فعلوا و لم نمنعهم، فهو كقوله: وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ

ص: 11

بَعْضاً (1). و قوله: أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ (2) و قوله وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ (3). و هم بختنصر عامل لهراسف على بابل و جنوده. و قيل: جالوت الجزري.

و قيل: سنحاريب، من أهل نينوى. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوّة و بطش في الحرب شديد فَجاسُوا تردّدوا لطلبكم، من الجوس، و هو التردّد خِلالَ الدِّيارِ وسطها للقتل و الغارة. قتلوا سبعين ألفا من كبارهم، و سبوا سبعين ألفا من صغارهم، و حرّقوا التوراة، و خرّبوا المسجد. وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا و كان وعد عقابهم لا بدّ أن يفعل.

عن ابن عبّاس و ابن مسعود و ابن زيد: أنّ الإفساد الأوّل قتل زكريّا، و الثاني قتل يحيى بن زكريّا. فسلّط اللّه عليهم سابور ذا الأكتاف- ملكا من ملوك فارس- في قتل زكريّا، و سلّط عليهم في قتل يحيى بختنصّر، و هو رجل خرج من بابل.

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي: الدولة و الغلبة عَلَيْهِمْ على الّذين بعثوا عليكم حين تبتم و رجعتم عن الفساد و العلوّ. فردّ أسراهم إلى الشام، و ملك دانيال عليهم، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر. أو بأن سلّط داود على جالوت فقتله.

وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ أي: كثّر مالكم و أولادكم، و رددنا لكم العدّة و القوّة وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً عددا ممّا كنتم. و النفير من ينفر مع الرجل من قومه. و قيل:

جمع نفر، كالعبيد. و هم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ.

إِنْ أَحْسَنْتُمْ في أقوالكم و أفعالكم أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأنّ ثوابه لكم، فنفع إحسانكم عائد إليكم وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فإنّ وبالها عليها. و إنّما ذكرها باللام ازدواجا. و المعنى: إنّ الإحسان و الإساءة كليهما مختصّ بأنفسكم، لا يتعدّى

ص: 12


1- الأنعام: 129.
2- مريم: 83.
3- فصّلت: 25.

النفع و الضرر إلى غيركم. و عن عليّ عليه السّلام: «ما أحسنت إلى أحد، و لا أسأت إليه، و تلاها».

فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وعد عقوبة المرّة الآخرة لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي:

بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، أيّ: يجعلوها بادية آثار المساءة فيها، فحذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. و قرأ ابن عامر و حمزة و أبو بكر: ليسوء على التوحيد. و الضمير فيه للوعد، أو البعث، أو للّه. و يعضده قراءة الكسائي بالنون.

وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ مسجد بيت المقدس و نواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا و ليهلكوا ما عَلَوْا ما غلبوه و استولوا عليه، أو مدّة علوّهم تَتْبِيراً و ذلك بأن سلّط اللّه عليهم الفرس مرّة أخرى، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرز. و قيل: حردوس.

قيل: دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي، فسألهم عنه.

فقالوا: دم قربان لم يقبل منّا. فقال: ما صدقوني. فقتل أكثرهم، فلم يهدأ الدم. فقال: إن لم تصدّقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا: إنّه دم يحيى. فقال: لمثل هذا ينتقم ربّكم منكم.

ثمّ قال: يا يحيى قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن اللّه قبل أن لا أبقي منهم أحدا، فهدأ.

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرّة الثانية توبة أخرى، و انزجرتم عن المعاصي وَ إِنْ عُدْتُمْ مرّة ثالثة إلى الفساد عُدْنا مرّة ثالثة إلى عقوبتكم. و قد عادوا فأعاد اللّه إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة، فقتلوا منهم مائة ألف و ثمانين ألفا، و خرّب بيت المقدس. و عن الحسن: عادوا بتكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قصد قتله، فعاد اللّه بتسليطه عليهم، فقتل قريظة، و أجلى بني النضير، و ضرب الجزية على الباقين إلى يوم القيامة.

هذا لهم في الدنيا. وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً محبسا لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد. و قيل: بساطا كما يبسط الحصير.

ص: 13

[سورة الإسراء [17]: الآيات 9 الى 10]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [9] وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [10]

و لمّا أمر بني إسرائيل بالرجوع إلى الطريق المستقيم من التوبة و قبول الإسلام، بيّن أنّ هذا الكتاب هو الّذي يهدي للأحسن الأقوم، فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ للحالة أو الطريقة الّتي هي أعدل الحالات، أو أصوب الطرق و أرشدها و أسدّها وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً و قرأ حمزة و الكسائي: و يبشر بالتخفيف.

وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً عطف على «أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً». فيكون هذا بشارة أخرى لهم. و المعنى: أنّه يبشّر المؤمنين ببشارتين:

ثوابهم، و عقاب أعدائهم. أو عطف على «يبشّر» بإضمار: يخبر.

[سورة الإسراء [17]: آية 11]

وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً [11]

و لمّا تقدّم من بشارة الكفّار بالعذاب، بيّن عقيبه أنّهم يستعجلون العذاب جهلا و عنادا، فقال: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ أي: الكافر بوقوع العذاب الموعود عليه إنكارا و استهزاء. أو المراد جنس الإنسان. و المعنى: و يدعو اللّه عند غضبه بالشّر على نفسه و أهله و ماله، أو يدعوه بما يحسبه خيرا و هو شرّ. دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مثل دعائه بالخير وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يتسرّع إلى كلّ ما يخطر بباله، لا ينظر عاقبته.

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد به آدم، فإنّه لمّا انتهى الروح إلى سرّته أخذ لينهض

ص: 14

فسقط، فشبّه سبحانه ابن آدم بأبيه في الاستعجال و طلب الشي ء قبل وقته.

و قيل: المراد النضر بن الحارث استعجل بالعذاب عنادا، و قال: اللّهمّ انصر خير الحزبين،

اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك. فأجيب له، فضرب عنقه يوم بدر صبرا.

[سورة الإسراء [17]: آية 12]

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً [12]

ثمّ بيّن أنّه أنعم عليهم بوجوه النعم، كالليل و النهار للاستراحة و كسب الأرزاق، و نحو ذلك، و إن لم يشكروه و طلبوا منه ما فيه شرّ لهم، فقال: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ تدلّان بتعاقبهما على نسق واحد- بإمكان غيره- على القادر الحكيم فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي: أزلنا الآية الّتي هي الليل بالإشراق و الإضاءة. و الإضافة للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود. وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مضيئة أو مبصرة للناس، من:

أبصره فبصر. أو مبصرا أهله، كقولهم: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء.

و قيل: الآيتان: القمر و الشمس. و تقدير الكلام: و جعلنا نيّري الليل و النهار آيتين، أو جعلنا الليل و النهار ذوي آيتين. و محو آية الليل- الّتي هي القمر- جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النور، أو نقص نورها شيئا فشيئا إلى المحاق. و جعل آية النهار- الّتي هي الشمس- مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر الأشياء بضوئها.

لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، و تتوصّلوا به إلى استبانة أعمالكم وَ لِتَعْلَمُوا باختلافهما أو بحركاتهما عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و جنس الحساب، و آجال الديون، و غير ذلك من المواقيت. و لو لا ذلك لما

ص: 15

علم أحد حسبان الأوقات، و لتعطّلت الأمور. وَ كُلَّ شَيْ ءٍ تفتقرون إليه في أمر الدين و الدنيا فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيّنّاه بيانا غير ملتبس، و ميّزنا كلّ شي ء تمييزا بيّنا.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 13 الى 15]

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [13] اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [14] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [15]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الوعيد أتبع ذلك بذكر كيفيّته، فقال: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ عمله من الخير الّذي عاقبته يمنة، و الشرّ الّذي خاتمته شؤمة. و إنّما قيل للعمل طائر على عادة العرب، فإنّهم إذا أخذوا في مقصد إن طار طير في أيمانهم يتّخذونه ميمونا، و إن طار في شمائلهم يتّخذونه مشؤوما. و مثله قوله تعالى: قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ (1). و قوله: إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ (2). و عن ابن عيينة: هو من قولك: طار له سهم إذا خرج. يعني: ألزمناه ما طار من عمله.

فِي عُنُقِهِ لزوم الطوق و الغلّ في العنق لا ينفكّ عنه، كما قيل في المثل: تقلّدها طوق الحمامة. و قولهم: الموت في الرقاب. و هذا ربقة في رقبته. و عن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلّدتها في عنقك.

وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً هو صحيفة عمله، أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله، فإنّ الأفعال الاختياريّة تحدث في النفس أحوالا، و لهذا يفيد تكريرها لها

ص: 16


1- يس: 19.
2- الأعراف: 131.

ملكات. و نصبه بأنّه مفعول، أو حال من مفعول محذوف، و هو ضمير الطائر. و يعضده قراءة يعقوب: و يخرج، من: خرج. يَلْقاهُ يرى ذلك الكتاب مَنْشُوراً مفتوحا معروضا عليه ليقرأه و يعلم ما فيه. و هما صفتان للكتاب، أو «يلقاه» صفة و «منشورا» حال من مفعوله. و قرأ ابن عامر: يلقّاه على البناء للمفعول، من: لقّيته كذا.

اقْرَأْ كِتابَكَ على إرادة القول. و عن قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. و روى خالد بن نجيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يذكر العبد جميع أعماله و ما كتب عليه، حتّى كأنّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها (1).

كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الباء مزيدة، أي: كفى نفسك. و «حسيبا» تمييز. و هو بمعنى الحاسب، كالصريم بمعنى الصارم، و ضريب القداح بمعنى ضاربها.

و «على» متعلّق به، من قولهم: حسب عليه كذا. أو بمعنى الكافي، فوضع موضع الشهيد، و عدّي ب «على»، لأنّه يكفي المدّعي ما أهمّه. و تذكيره على أنّ الحساب و الشهادة ممّا يتولّاه الرجال، أو على تأويل النفس بالشخص، كما يقال: ثلاثة أنفس.

و كان الحسن إذا قرأها قال: يا ابن آدم أنصفك و اللّه من جعلك حسيب نفسك.

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي: لا ينجي اهتداؤه غيره، و لا يردي ضلاله سواه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ و لا تحمل نفس حاملة وزرا وِزْرَ أُخْرى وزر نفس أخرى، بل إنّما تحمل وزرها.

وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ و ما صحّ منّا صحّة تدعو إليها الحكمة أن نعذّب قوما بعذاب الاستئصال حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا إلّا بعد أن نبعث إليهم رسولا يبيّن الحجج و يمهّد الشرائع، فيلزمهم الحجّة، بأن ينبّههم على النظر و الإيقاظ من رقدة الغفلة في التكليفات العقليّة، و يعلّمهم التكليفات النقليّة، لئلّا يقولوا: كنّا غافلين، فلو لا بعثت إلينا رسولا

ص: 17


1- الكهف: 49.

ينبّهنا على النظر في أدلّة العقل. و على هذا التأويل تكون الآية عامّة في العقليّات و النقليّات.

و قال أكثر المفسّرين، و هو الأصح: إنّ المراد بالآية أنّه لا يعذّب سبحانه في الدنيا و لا في الآخرة إلّا بعد البعثة. فتكون الآية خاصّة فيما يتعلّق بالسمع من الشرعيّات. فأمّا ما كانت الحجّة من جهة العقل، و هو الإيمان باللّه تعالى، فإنّه يجوز العقاب بتركه و إن لم يبعث الرسول، عند من قال: إنّ التكليف العقلي ينفكّ من التكليف السمعي. على أنّ المحقّقين منهم يقولون: إنّه و إن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسول، فإنّ اللّه سبحانه لا يفعل ذلك، مبالغة في الكرم و الفضل و الإحسان و الطول.

[سورة الإسراء [17]: آية 16]

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [16]

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً إذا دنا وقت إرادتنا بإهلاك أهل قرية بعد قيام الحجّة عليهم و إرسال الرسل إليهم.

و قيل: ذكر الإرادة على التجوّز و الاتّساع، و إنّما عنى بها قرب الهلاك و العلم بكونه لا محالة، كما يقال إذا أراد العليل أن يموت: خلط في مأكله و يسرع إلى ما تتوق نفسه إليه، و إذا أراد التاجر أن يفتقر: أتاه الخسران من كلّ وجه. و معلوم أنّ العليل و التاجر لم يريدا في الحقيقة شيئا من ذلك، لكن لمّا كان من المعلوم من حال هذا الهلاك، و من حال ذلك الخسران، حسن هذا الكلام، و استعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه. و لكلام العرب إشارات و استعارات و مجازات، و كان كلامهم بهذا يصير في الغاية القصوى من الفصاحة و البلاغة.

فالمعنى: إذا قرب وقت تعلّق علمنا بإهلاك أهل قرية أَمَرْنا مُتْرَفِيها متنعّميها بالإيمان و الطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، توكيدا للحجّة عليهم. و يدلّ على ذلك ما

ص: 18

قبله و ما بعده، فإنّ الفسق هو الخروج عن الطاعة و التمرّد في العصيان، فيدلّ على الطاعة من طريق المقابلة.

و قيل: معناه: كثّرنا مترفيها. فيكون من باب: أمرت الشي ء و آمرته فأمر، إذا كثّرته فكثر. و في الحديث: «خير المال سكّة مأبورة، و مهرة مأمورة».

و السكّة: الطريقة المصطفّة من النخل. و المأبورة: الملقّحة. و قال الأصمعي: السكّة هاهنا الحديدة الّتي يحرث بها، و مأبورة مصلحة. و معنى الحديث: خير المال كثير النتاج و الزرع. و يؤيّده قراءة يعقوب: آمرنا.

فَفَسَقُوا فِيها بالمعاصي. و تخصيص المترفين لأنّ غيرهم يتبعهم، و لأنّهم أسرع في الحماقة، و أقدر على الفجور. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يعني: كلمة العذاب السابقة بحلوله، أو بظهور معاصيهم، أو بانهماكهم في المعاصي فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فأهلكناها بإهلاك أهلها. و مثله: أمرتك فعصيتني. و يشهد بصحّة هذا التأويل الآية المتقدّمة، و هي قوله: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» إلى قوله: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا».

[سورة الإسراء [17]: آية 17]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [17]

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله من ذلك بالقرون الخالية، فقال: وَ كَمْ أَهْلَكْنا و كثيرا أهلك مِنَ الْقُرُونِ بيان ل «كم» و تمييز له مِنْ بَعْدِ نُوحٍ يعني: عادا و ثمودا و قرونا بين ذلك كثيرا. و القرن مائة و عشرون سنة. و قيل: مائة سنة. و قيل: ثمانون. و قيل:

أربعون. وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يدرك بواطنها و ظواهرها، فلا يفوته شي ء منها. فيعاقب عليها. و نبّه بهذا القول على أنّ الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، و أنّه عالم بها جميعا، فيعاقب عليها.

ص: 19

[سورة الإسراء [17]: الآيات 18 الى 22]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً [18] وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [19] كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [20] انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً [21] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً [22]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يدبّر عباده بحسب ما يراه من المصلحة، فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ نعمها مقصورا عليها همّه عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ بدل من «له» بدل البعض، لأنّ الضمير إلى «من» و هو في معنى الكثرة. و قيّد المعجّل و المعجّل له بالمشيئة و الإرادة، لأنّه لا يجد كلّ متمنّ ما يتمنّاه، و لا يعطى إلّا بعضا منه، و كثير منهم يتمنّون ذلك البعض و قد حرموه، فاجتمع عليه فقر الدنيا و فقر الآخرة. و أما المؤمن التقيّ فقد اختار مراده، و هو غني الآخرة، فما يبالي أوتي حظّا من الدنيا أو لم يؤت، فإن أوتي فيها، و إلّا فربما كان الفقر خيرا له و أعون على مراده.

قيل: الآية نزلت في المنافقين، كانوا يراؤن المسلمين و يغزون معهم، و لم يكن غرضهم إلّا مساهمتهم في الغنائم و نحوها.

و يؤيّد هذا القول ما روي عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «معنى الآية: من كان يريد ثواب الدنيا بعمله الّذي افترضه اللّه عليه، لا يريد به وجه اللّه و الدار الآخرة، عجّل له فيها ما يشاء من عرض الدنيا، و ليس له ثواب في الآخرة، و ذلك أنّ

ص: 20

اللّه سبحانه يؤتيه ذلك ليستعين به على الطاعة، فيستعمله في معصية اللّه، فيعاقبه اللّه عليه»، كما قال: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودا من رحمة اللّه.

وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا شرك معه و لا تكذيب، لأنّ العمل بلا إيمان صحيح باطل لا يترتّب عليه فائدة فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً من اللّه، أي: مقبولا عنده مثابا عليه، فإنّ شكر اللّه الثواب على الطاعة.

كُلًّا كلّ واحد من الفريقين. و التنوين بدل من المضاف إليه. نُمِدُّ نزيدهم من عطائنا مرّة بعد أخرى، و نجعل آنفه مددا لسالفه لا نقطعه، فنرزق المطيع و العاصي جميعا هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ بدل من «كلّا» مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من معطاه. متعلّق ب «نمدّ».

وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا، لا يمنعه في الدنيا من مؤمن بعصيانه، و لا كافر لكفره، تفضّلا.

انْظُرْ بعين الاعتبار كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ جعلناهم متفاوتين في تفضيل الرزق. و انتصاب «كيف» ب «فضّلنا» على الحال. وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ و مراتب وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي: التفاوت في الآخرة أكبر، لأنّ التفاوت فيها بالجنّة و درجاتها و النار و دركاتها. و قد روي: «أنّ ما بين أعلى درجات الجنّة و أسفلها مثل ما بين السماء و الأرض».

لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول، و المراد به أمّته، أو لكلّ أحد فَتَقْعُدَ فتصير، من قولهم: شحذ الشفرة حتّى قعدت كأنّها حربة. أو فتعجز، من قولهم: قعد عن الشي ء إذا عجز عنه مَذْمُوماً مَخْذُولًا جامعا على نفسك الذمّ من الملائكة و المؤمنين، و الخذلان من اللّه. و مفهومه: أنّ الموحّد يكون ممدوحا منصورا.

ص: 21

[سورة الإسراء [17]: الآيات 23 الى 25]

وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً [23] وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [24] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً [25]

و لمّا تقدّم النهي عن الشرك و المعاصي، عقّبه سبحانه بالأمر بالتوحيد و الطاعات، فقال: وَ قَضى رَبُّكَ و أمر أمرا مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا بأن لا تعبدوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنّ غاية التعظيم لا تحقّ إلا لمن له غاية العظمة و نهاية الإنعام. و هو كالتفصيل لسعي الآخرة.

و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة، و «لا» ناهية. وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً و بأن تحسنوا، أو و أحسنوا بالوالدين إحسانا، لأنّهما السبب الظاهر للوجود و التعيّش. و لا يجوز أن تتعلّق الباء بالإحسان، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّم عليه.

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ سنّا أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما أصل إمّا «إن» الشرطيّة زيدت عليها «ما» تأكيدا، و لذلك صحّ لحوق النون المؤكّدة للفعل. و «أحدهما» فاعل «يبلغنّ»، و بدل على قراءة حمزة و الكسائي من ألف «يبلغانّ» الراجع إلى الوالدين.

و «كلاهما» عطف على «أحدهما» فاعلا على الأوّل و بدلا على الثاني. و لا يجوز أن يكون توكيدا للتثنية، لأنّه لو أريد التأكيد لقيل: كلاهما، فحسب، فلمّا قيل: أحدهما أو كلاهما، علم أنّ التأكيد غير مراد، فكان بدلا مثل الأوّل.

و معنى «عندك» أن يكونا في كنفك و كفالتك. و تخصيص حال الكبر- و إن كان من

ص: 22

الواجب طاعة الوالدين على كلّ حال- لأنّ الحاجة أكثر في تلك الحال إلى التعهّد و الخدمة.

فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ فلا تتضجّر ممّا تستقذر منهما، و تستثقل من مؤونتهما. و هو صوت يدلّ على تضجّر. و قيل: اسم الفعل الّذي هو: أتضجّر. و بني على الكسر لالتقاء الساكنين. و تنوينه في قراءة نافع و حفص للتنكير. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب بالفتح على التخفيف. و النهي عن ذلك يدلّ على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى. و هذا هو القياس المنصوص العلّة. و قيل: عرفا، كقولك: فلان لا يملك النقير (1) و القطمير.

و لقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين، حيث افتتحها بأن شفّع الإحسان إليهما بتوحيده، و نظمهما في سلك القضاء بهما معا، ثمّ ضيّق الأمر في مراعاتهما، حتّى لم يرخّص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجّر، مع موجبات الضجر و مقتضياته، و مع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة.

ثمّ قال: وَ لا تَنْهَرْهُما و لا تزجرهما عمّا يفعلانه بإغلاظ و صياح. و قيل:

معناه: و لا تمتنع من شي ء أراداه منك، مثل قوله: وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (2). و قيل:

النهي و النهر و النهم أخوات. وَ قُلْ لَهُما بدل التأفيف و النهر قَوْلًا كَرِيماً جميلا، كما يقتضيه حسن الأدب و النزول على المروءة، و هو أن تقول: يا أبتاه يا أمّاه، و لا تدعوهما بأسمائهما، فإنّه من سوء الأدب و عادة الدعّار (3).

و عن سعيد بن المسيّب: معناه: قل لهما قول العبد المذنب للسيّد الفظّ الغليظ.

و عن مجاهد: معنى الآية: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان و يحدثان، فلا

ص: 23


1- أي: لا يملك شيئا.
2- الضحى: 10.
3- الدعّار جمع الداعر، و هو الخبيث المفسد الفاسق.

تتقذّرهما، و أمط عنهما كما كانا يميطن عنك في حال الصغر.

و روي عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن أبيه، عن جدّه أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «لو علم اللّه لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أفّ لأتى بها».

و في رواية أخرى عنه: «أدنى العقوق أفّ، و لو علم اللّه شيئا أيسر منه و أهون منه لنهى عنه».

و في الخبر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فليعمل العاقّ ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة، و ليفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار»!

و عنه أيضا: «رغم أنفه، ثلاث مرّات. قيل: من يا رسول اللّه؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما و لم يدخل الجنّة».

و عن حذيفة: «أنّه استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قتل أبيه و هو في صفّ المشركين.

فقال: دعه يليه غيرك».

و في الحديث القدسي: «من رضي عنه والده فأنا عنه راض».

و روى سعيد بن المسيّب: أنّ البارّ لا يموت ميتة سوء.

وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ تذلّل لهما و تواضع فيهما. أمر بخفض جناح الذلّ مبالغة، و أراد جناح صاحب الذلّ، كقوله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (1). و إضافته إلى الذلّ للبيان، أي: جناحك للذلّ، كما أضيف حاتم إلى الجود. و المعنى: و اخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. و المراد: بالغ في التواضع و الخضوع لهما قولا و فعلا، برّا بهما و شفقة عليهما. و المراد بالذلّ هنا اللين و التواضع، من: خفض الطائر جناحه، إذا ضمّ فرخه إليه، فكأنّه قال: ضمّ أبويك إلى نفسك، كما كانا يفعلان بك و أنت صغير.

و عن الصادق عليه السّلام: «لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة و رأفة، و لا ترفع صوتك فوق صوتهما، و لا يديك فوق أيديهما، و لا تتقدّم قدّامهما».

ص: 24


1- الحجر: 88.

مِنَ الرَّحْمَةِ من فرط رحمتك عليهما، لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق اللّه إليهما، فإنّ الولد أحوج خلق اللّه إلى الوالدين.

وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما و ادع اللّه أن يرحمهما برحمته الباقية، و لا تكتف برحمتك الفانية، و إن كانا كافرين، لأنّ من الرحمة أن يهديهما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً رحمة مثل رحمتهما عليّ، و إرشادهما لي في صغري، وفاء بوعدك للراحمين.

روي أنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا منّي في الصغر، فهل قضيتهما حقّهما؟ قال: لا، فإنّهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبّان بقاءك، و أنت تفعل ذلك و تريد موتهما».

و شكا رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أباه، و أنّه يأخذ ماله. فدعا به فإذا شيخ يتوكّأ على عصا، فسأله. فقال: إنّه كان ضعيفا و أنا قويّ، و فقيرا و أنا غنيّ، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، و اليوم أنا ضعيف و هو قويّ، و أنا فقير و هو غنيّ، و يبخل عليّ بماله! فبكى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: «ما من حجر و لا مدر يسمع هذا إلّا بكى. ثمّ قال للولد: أنت و مالك لأبيك، أنت و مالك لأبيك».

و شكا إليه آخر سوء خلق أمّه. فقال: «لم تكن سيّئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال: إنّها سيّئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين

أرضعتك حولين! قال: إنّها سيّئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها، و أظمأت نهارها! قال: لقد جازيتها.

قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جزيتها و لو طلقة»

يعني: و لو كان المجزيّ به طلقة، و هو وجع المخاض.

و عنه عليه السّلام: «إيّاكم و عقوق الوالدين، فإنّ الجنّة توجد ريحها من مسيرة ألف عام، و لا يجد ريحها عاقّ، و لا قاطع رحم، و لا شيخ زان، و لا جارّ إزاره خيلاء، و إنّ الكبرياء للّه ربّ العالمين».

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البرّ إليهما، و اعتقاد ما يجب لهما من

ص: 25

التوقير، و من العقوق. و كأنّه تهديد على أن يضمر لهما كراهة و استثقالا.

إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين للصلاح طائعين فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ للتوّابين غَفُوراً ما فرط منهم من أذيّة أو تقصير في الوالدين. و فيه تشديد عظيم.

و يجوز أن يكون عامّا لكلّ تائب. و يندرج فيه الجاني على أبويه اندراجا أوّليّا، لوروده على أثره. و روي مرفوعا: أنّ الأوّابين هم الّذين يصلّون بين المغرب و العشاء.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 26 الى 28]

وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [26] إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [27] وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً [28]

ثمّ وصّى بغير الوالدين من الأقارب بعد أن بالغ في الوصيّة بهما، فقال: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من صلة الرحم، و حسن المعاشرة، و البرّ عليهم. و عن السدّي: المراد بذي القربى أقارب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال: إن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال لرجل من أهل الشام- حين بعث به عبيد اللّه بن زياد إلى يزيد بن معاوية عليهما لعائن اللّه-: أقرأت القرآن؟ قال: نعم.

قال: أما قرأت «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»؟ قال: و إنّكم ذو القربى الذي أمر اللّه أن يؤتى حقّه؟

قال: نعم. و هو الّذي رواه أصحابنا رضي اللّه عنهم عن الصادقين عليهما السّلام.

قال في المجمع: «حدّثنا السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني (1)، قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن عثمان ببغداد شفاها، قال: أخبرني عمر بن الحسين بن عليّ بن مالك، قال: حدّثنا جعفر بن محمد الأحمسي، قال: حدّثنا حسن بن حسين، قال: حدّثنا أبو معمر سعيد بن خثيم،

ص: 26


1- شواهد التنزيل 1: 438 ح 467.

و عليّ بن القاسم الكندي، و يحيى بن يعلى، و عليّ بن مسهر، عن فضل بن مرزوق، عن عطيّة العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: لمّا نزل قوله: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة فدكا».

قال عبد الرحمن بن صالح: «كتب المأمون إلى عبيد اللّه بن موسى يسأله عن قصّة فدك، فكتب إليه عبيد اللّه بهذا الحديث، رواه عن الفضيل بن مرزوق عن عطيّة، فردّ المأمون فدك على ولد فاطمة عليها السّلام» (1).

وَ الْمِسْكِينَ و آت المسكين حقّه الّذي جعله اللّه له، من الزكاة و غيرها وَ ابْنَ السَّبِيلِ و آت المجتاز المنقطع عن بلاده حقّه أيضا وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بصرف المال فيما لا ينبغي، فإنّ التبذير تفريق المال في غير حقّه. قال مجاهد: لو أنفق مدّا في باطل كان مبذّرا، و لو أنفق جميع ماله في الحقّ لم يكن تبذيرا. و قد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه: لا خير في السّرف، فقال: لا سرف في الخير.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لسعد و هو يتوضّأ: «ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم و إن كنت على نهر جار».

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ إنّ المسرفين أمثال الشياطين في الشرارة، السالكون طريقهم، فإنّ التضييع و الإتلاف شرّ. أو أصدقاؤهم و أتباعهم، لأنّهم يطيعونهم في الإسراف و الصرف في المعاصي.

روي أنّهم كانوا ينحرون الإبل، و يتياسرون (2) عليها، و يبذّرون أموالهم في السمعة، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك، و أمرهم بالإنفاق في القربات.

وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغا في الكفر به، فينبغي أن لا يطاع، فإنّه لا يدعو إلا إلى مثل فعله من الشرّ.

ص: 27


1- مجمع البيان 6: 411.
2- أي: يتقامرون.

وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ و إن تعرض عن هؤلاء الّذين أمرتك بإيتاء حقوقهم عند مسألتهم إيّاك- لأنّك لا تجد ذلك- حياء من الردّ. و يجوز أن يراد بالإعراض عنهم أن لا ينفعهم على سبيل الكناية. ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها لانتظار رزق من اللّه ترجوه أن يأتيك فتعطيه، أو منتظرين له. و قيل: معناه: لفقد رزق من ربّك ترجوه أن يفتح لك. فوضع الابتغاء موضعه، لأنّه مسبّب عنه. فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي: قولا ليّنا سهلا، تطييبا لقلوبهم.

و يجوز أن يتعلّق قوله: «ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ» بجواب الشرط، أعني قوله: «فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً». و معناه: فقل لهم قولا ليّنا ابتغاء رحمة اللّه برحمتك عليهم، بإجمال القول لهم. و الميسور من: يسر الأمر، مثل: سعد الرجل و نحس. و قيل: القول الميسور الدعاء لهم بالميسور، و هو اليسر، مثل: أغناكم اللّه و رزقنا اللّه و إيّاكم.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 29 الى 31]

وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [29] إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [30] وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً [31]

ثمّ أمر سبحانه بالاقتصاد الّذي هو بين الإسراف و التقتير، فقال: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ هذان تمثيلان لمنع الشحيح و إسراف المبذّر.

و المعنى: لا تكن ممّن لا يعطي شيئا و لا يهب، فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء. و هذا مبالغة في النهي عن الشحّ و الإمساك. و لا تعط أيضا جميع ما عندك، فتكون بمنزلة من بسط يده حتّى لا يستقرّ فيها شي ء. و المقصود الأمر بالاقتصاد

ص: 28

بينهما الّذي هو الكرم.

فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند اللّه و عند النّاس بالإسراف و سوء التدبير مَحْسُوراً نادما، أو منقطعا بك لا شي ء عندك، من: حسره السفر إذا بلغ منه، أي:

انقطع.

و قيل: معناه: إن أمسكت قعدت ملوما مذموما، و إن أسرفت بقيت متحسّرا مغموما.

و عن جابر: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالس أتاه صبيّ فقال: إنّ أمّي تستكسيك درعا. فقال: من ساعة إلى ساعة يظهر، فعد إلينا. فذهب إلى أمّه فقالت: قل له: إنّ أمّي تستكسيك الدرع الّذي عليك. فدخل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم داره، و نزع قميصه و أعطاه، و قعد عريانا.

و أذّن بلال، و انتظروه للصلاة فلم يخرج، فلامه الكفّار و قالوا: إنّ محمدا اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة. فأنزل اللّه ذلك، ثمّ سلّاه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسّعه و يضيّقه بمشيئته التابعة للحكمة، فليس ما يرهقك من الإضافة إلّا لمصلحتك إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم سرّهم و علنهم، فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم.

و يجوز أن يراد أن البسط و القبض من أمر اللّه العالم بالسرائر و الظواهر، فأمّا العباد فعليهم أن يقتصدوا. أو أنّه تعالى يبسط تارة و يقبض أخرى، فاستنّوا بسنّته، و لا تقبضوا كلّ القبض، و لا تبسطوا كلّ البسط. و أن يكون تمهيدا لقوله: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ أي:

بناتكم خَشْيَةَ إِمْلاقٍ مخافة الفاقة. و قتلهم أولادهم هو و أدهم بناتهم مخافة الفقر، فنهاهم عنه، و ضمن لهم أرزاقهم، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ذنبا عظيما، لما فيه من قطع التناسل و انقطاع النوع. و الخطأ: الإثم. يقال: خطئ خطأ، كأثم إثما.

و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان: خطأ. و هو اسم من: أخطأ، يضادّ الصواب.

و قيل: لغة فيه، كمثل و مثل، و حذر و حذر. و قرأ ابن كثير خطاء بالمدّ و الكسر. و هو إمّا

ص: 29

لغة فيه، أو مصدر خاطأ. و هو و إن لم يسمع لكنّه جاء: تخاطأ، فهو مبنيّ عليه.

[سورة الإسراء [17]: آية 32]

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً [32]وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى بالعزم و الإتيان بالمقدّمات فضلا عن أن تباشروه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً فعلة فاحشة زائدة عن حدّ القبح وَ ساءَ سَبِيلًا و بئس طريقا طريقه. و هو وطء المرأة حراما بلا عقد و لا شبهة عقد.

و في الأنوار: «هو الغصب على الأبضاع المؤدّي إلى قطع الأنساب، و تهييج الفتن» (1). و إبطال المواريث، و صلة الرحم، و حقوق الآباء على الأولاد، و ذلك مستنكر في العقول.

و في المجمع: «أخبرني المفيد عبد الجبّار بن عبد اللّه بن علي، قال: حدّثنا أبو جعفر الطوسي، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه الحسن بن أحمد بن حبيب الفارسي، عن أبي بكر محمّد بن أحمد بن محمّد الجرجرائي، قال: سمعت أبا عمرو عثمان بن الخطّاب المعروف بأبي الدنيا يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: في الزنا ستّة خصال، ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة. فأمّا اللواتي في الدنيا: فيذهب بنور الوجه، و يقطع الرزق، و يسرع الفناء. و أمّا اللّواتي في الآخرة: فغضب الربّ، و سوء الحساب، و الدخول في النار» (2).

[سورة الإسراء [17]: آية 33]

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [33]

ص: 30


1- أنوار التنزيل 3: 201.
2- مجمع البيان 6: 413- 414.

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ إلّا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان- سواء كان أصليّا أو بالارتداد- و زنا بعد إحصان- و في حكمه اللواط- و قتل مؤمن معصوم عمدا.

وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً غير مستوجب للقتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ الّذي يلي أمره بعد وفاته، و هو الوارث سُلْطاناً تسلّطا على القاتل بالمؤاخذة و الاقتصاص منه، فإنّ قوله: «مظلوما» يدلّ على أنّ القتل عمدا عدوان، فإن الخطأ لا يسمّى ظلما فَلا يُسْرِفْ أي: القاتل فِي الْقَتْلِ بأن يقتل من لا يستحقّ قتله، فإنّ العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك. أو الوليّ بالمثلة، أو قتل غير القاتل. و قرأ حمزة و الكسائي: فلا تسرف، على خطاب أحدهما.

ثمّ استأنف الكلام بقوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً علّة للنهي عن قتل غير المقتول و المثلة. و الضمير إمّا للمقتول، فإنّه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله، و في الآخرة بالثواب. و إمّا لوليّه، فإنّ اللّه نصره حيث أوجب القصاص له، و أمره الولاة بمعونته. و إمّا للّذي يقتله الوليّ إسرافا، بإيجاب القصاص أو التعزير و الوزر على المسرف.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 34 الى 35]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً [34] وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً [35]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلا أن تتصرّفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي أي: بالطريقة الّتي هِيَ أَحْسَنُ و هي حفظه عليه وجوبا، و تثميره مندوبا على الأصحّ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرّف الّذي دلّ عليه الاستثناء.

ص: 31

و بعد النهي عن المنهيّات المذكورة الّتي هي أمّ المناهي، حثّ عباده على الوفاء بالعهود، و على إتمام الوزن و الكيل في المعاملات، و إيفاء الحقوق الّذي هو سبب انتظام الأمور، فقال: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ بما عاهدكم اللّه من تكاليفه، أو ما عاهدتموه و غيره إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيّعه و يفي به. أو مسئولا عنه، يسأل الناكث و يعاتب عليه. و يجوز أن يكون تخييلا، كأنّه يسأل العهد لم نكثت؟

و هلّا و في بك؟ تبكيتا للناكث، كما يقال للمؤودة: بأيّ ذنب قتل؟ و يجوز أن يراد: أن صاحب العهد كان مسئولا.

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ و لا تبخسوا فيه إِذا كِلْتُمْ يعني: أوفوا الناس حقوقهم إذا كلتم عليهم حقوقهم وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السويّ الّذي لا بخس فيه و لا غبن، صغيرا كان أو كبيرا. و قيل: هو القبّان (1). و القسطاس رومي عرّب. و لا يقدح ذلك في عربيّة القرآن، لأنّ العجمي إذا استعملته العرب و أجرته مجرى كلامهم في الإعراب و التعريف و التنكير و نحوها صار عربيّا. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر القاف هنا و في الشعراء (2).

ذلِكَ خَيْرٌ نموّا في المال وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا عاقبة في المآل. و هو ثواب الآخرة. تفعيل من: آل إذا رجع.

[سورة الإسراء [17]: آية 36]

وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً [36]

ثمّ نهى عن اقتفاء شي ء لا يتعلّق العلم به، فقال: وَ لا تَقْفُ و لا تتّبع ما لَيْسَ

ص: 32


1- القبان: آلة توزن بها الأشياء.
2- الشعراء: 182

لَكَ بِهِ عِلْمٌ ما لم يتعلّق به علمك تقليدا. و عن ابن عبّاس: لا تقل: سمعت و لم تسمع، و لا رأيت و لم تر، و لا علمت و لم تعلم. و العلم هنا مقابل الجهل، و هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعا أو ظنّا. و استعماله بهذا المعنى شائع، فلا يكون حجّة لمن منع اتّباع الظنّ، فيدخل فيه الاجتهاد، لأنّ ذلك نوع من العلم، فإنّ الشرع قد أقام غالب الظنّ مقام العلم، و أمر بالعمل به.

و قيل: إنّه مخصوص بالعقائد. و قيل: بالرمي و شهادة الزور. و يؤيّده قوله عليه السّلام: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه اللّه في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج».

و الردغة: الماء و الطين و الوحل الشديد. و المراد هنا عصارة أهل النار، و الخبل عرقهم. و المعنّي من الآية: النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، و أن يعمل بما لم يعلم.

إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي: كلّ هذه الأعضاء.

قال في الأنوار: «إنّما خصّ هذه القوى الثلاثة بالذكر، لأنّ العلوم إمّا مستفاد من الحواسّ أو العقول. و لمّا كانت هذه الثلاثة مسئولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها أجريت مجرى العقلاء. و أيضا «أولاء» و إن غلّب في العقلاء، لكنّه من حيث إنّه اسم جمع ل «ذا» و هو يعمّ القبيلتين جاء لغيرهم» (1).

كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا الضمير للكلّ، أي: كان كلّ واحد منها مسئولا عن نفسه، يعني: عمّا فعل به صاحبه. و يجوز أن يكون الضمير في «عنه» لمصدر «لا تقف»، أو لصاحب السمع و البصر و الفؤاد. و قيل: إنّ «مسئولا» مسند إلى «عنه»، كقوله تعالى:

«غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ». و المعنى: يسأل صاحبه عنه. و هو خطأ، لأنّ الفاعل و ما يقوم مقامه لا يتقدّم.

ص: 33


1- أنوار التنزيل 3: 202. و لم ترد فيه الجملة الأولى.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 37 الى 39]

وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً [37] كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [38] ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [39]

ثمّ نهى عن فعل قبيح آخر بقوله: وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي: ذا مرح، و هو الاختيال و التكبّر إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقا بدوسك فيها و شدّة وطأتك وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا بتطاولك. و هو

تهكّم بالمختال، و تعليل للنهي بأنّ الاختيال حماقة محضة لا تعود بجدوى، ليس في التذلّل.

قال في المجمع: «إنّما قال ذلك لأنّ من الناس من يمشي في الأرض بطرا، يدقّ قدميه عليها ليرى بذلك قدرته و قوّته، و يرفع رأسه و عنقه، فبيّن سبحانه أنّه ضعيف مهين، لا يقدر أن يخرق الأرض بدقّ قدميه عليها حتى ينتهي إلى آخرها، و أنّ طوله لا يبلغ طول الجبال و إن كان طويلا» (1).

كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى الخصال الخمس و العشرين المذكورة من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ (2). و عن ابن عبّاس: أنّ هذه الثماني (3) عشرة آية كانت مكتوبة في ألواح موسى عليه السّلام. كانَ سَيِّئُهُ يعني: المنهيّ عنه، فإنّ المذكورات مأمورات و منهيّات.

و قرأ الحجازيّان و البصريّان: سيّئة، على أنّها خبر «كان»، و الاسم ضمير «كلّ»،

ص: 34


1- مجمع البيان 6: 416.
2- الإسراء: 22.
3- أي: من آية 22 إلى 39 من سورة الإسراء.

و «ذلك» إشارة إلى ما نهى عنه خاصّة. و على هذا قوله: عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً بدل من «سيّئة» أو صفة لها محمولة على المعنى، فإنّه بمعنى: سيّئا. و في الكشّاف: «السيّئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب و الإثم، زال عنه حكم الصفات، فلا اعتبار بتأنيثه» (1).

و يجوز أن ينتصب «مكروها» على الحال من المستكن في «كان»، أو في الظرف، على أنّه صفّة «سيّئة».

و في هذا دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة، فإنّه سبحانه صرّح بأنّه يكره المعاصي و السيّئات، و إذا كرهها فكيف يريدها؟! فإنّ من المحال أن يكون الشي ء الواحد مرادا و مكروها عنده.

ذلِكَ إشارة إلى الأحكام المتقدّمة، من الأوامر و النواهي مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الّتي هي معرفة الحقّ لذاته، و معرفة الخير للعمل به. و في الكشّاف:

«سمّاه حكمة لأنّه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه» « (2)».

وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرّره للتنبيه على أنّ التوحيد مبدأ الأمر و منتهاه، فإنّ من لا قصد له بطل عمله، و من قصد بفعله أو تركه غيره ضاع سعيه، و أنّه رأس الحكمة و ملاكها، و من عدمه لم تنفعه حكمه و علومه، و إن بذّ (3) فيها الحكماء، و حكّ بيافوخه (4) السماء، و ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، و هم عن دين اللّه أضلّ من النعم.

و رتّب عليه أوّلا ما هو عائدة الشرك في الدنيا، و ثانيا ما هو نتيجته في العقبى، فقال: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً أي: إذا فعلت ذلك فتلقى و تطرح في النار تلوم نفسك

ص: 35


1- الكشّاف 2: 668.
2- الكشّاف 2: 668.
3- بذّه أي: غلبه وفاقه.
4- اليافوخ: موضع من رأس الطفل بين عظام جمجمته. يقال: مسّ بيافوخه السماء، إذا علا قدره و تكبّر.

مَدْحُوراً مبعدا من رحمة اللّه تعالى.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 40 الى 41]

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً [40] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً [41]

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ خطاب لمن قالوا: الملائكة بنات اللّه. و الهمزة للإنكار. و المعنى: أ فخصّكم ربّكم بأفضل الأولاد و هم البنون. وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بنات لنفسه؟! و هذا خلاف ما عليه عقولكم و عادتكم إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافة الأولاد إليه، و هي خاصّة بالأجسام لسرعة زوالها، ثمّ بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون، ثمّ. يجعل الملائكة الّذين هم من أشرف خلق

اللّه أدونهم.

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا كرّرنا الدلائل، و فصّلنا العبر، بوجوه من تقرير التوحيد فِي هذَا الْقُرْآنِ في مواضع منه. و ترك المفعول لدلالة الكلّي عليه، و علم السامع به. و يجوز أن يراد بهذا القرآن إبطال إضافة البنات إليه، لأنّه ممّا صرفه و كرّر ذكره. و المعنى: و لقد صرّفنا القول في هذا المعنى، أو أوقعنا التصريف فيه. لِيَذَّكَّرُوا ليتذكّروا. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في الفرقان (1): ليذكروا، من الذكر الّذي بمعنى التذكّر. يعني: كرّرناه ليتّعظوا و يعتبروا و يطمئنّوا إلى ما يحتجّ به عليهم.

وَ ما يَزِيدُهُمْ و ما يزيد هؤلاء الكفّار تصريف الأمثال و الدلائل لهم إِلَّا نُفُوراً عن الحقّ، و قلّة طمأنينة إليه. و أضاف النفور إلى القرآن، لأنّهم ازدادوا النفور عند

ص: 36


1- الفرقان: 50.

نزوله، كقوله: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (1). و الحكمة في إنزاله- مع أنّهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن- إلزام الحجّة، و قطع المعذرة في إظهار الدلائل الّتي تحسن التكليف. و عن سفيان: كان إذا قرأها قال: زادني لك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 42 الى 44]

قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [42] سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً [43] تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [44]

ثمّ بيّن التوحيد بأوضح البيان، فقال: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ايّها المشركون. و قرأ ابن كثير و حفص بالياء فيه و فيما بعده، على أنّ الكلام مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و وافقهما نافع و ابن

عامر و أبو بكر و أبو عمرو و يعقوب في الثانية، على أنّ الأولى ممّا أمر الرسول أن يخاطب به المشركين، و الثانية ممّا نزّه به نفسه عن مقالتهم. إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا جواب عن قولهم، و جزاء ل «لو».

و المعنى: لطلبوا إلى من له الملك و الربوبيّة طريقا بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، فإنّ الشريكين في الإلهيّة يكونان متساويين في صفات الذات، و يطلب أحدهما مغالبة صاحبه ليصفو له الملك. و فيه إشارة إلى برهان التمانع، كقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (2).

قيل: معناه ليقربوا إليه بالطاعة، لعلمهم بقدرته و عجزهم، كقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ

ص: 37


1- نوح: 6.
2- الأنبياء: 22.

يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ (1).

سُبْحانَهُ تنزّه تنزيها وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا تعاليا كَبِيراً متباعدا غاية البعد عمّا يقولون، فإنّه في أعلى مراتب الوجود، و هو كونه واجب الوجود و واجب البقاء لذاته، و اتّخاذ الولد من أدنى مراتبه، فإنّه من خواصّ ما يمتنع بقاؤه، فوصف العلوّ بالكبر للمبالغة في معنى البراءة و البعد ممّا و صفوه به.

تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ حيث تدلّ على صانعها و على صفاتها العلى بإمكانها و حدوثها.

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ و ليس شي ء من الموجودات إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزّهه عمّا هو من لوازم الإمكان و توابع الحدوث بلسان الحال، إذ كلّها حادث مصنوع، فتدلّ بإمكانها و حدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته، القادر على جميع الممكنات، على وجه كأنّها تنطق بذلك. و هذا التسبيح المجازي حاصل في الجميع، فيحمل عليه. و أيضا هو من طريق الدلالة أقوى من التسبيح الحقيقي، لأنّه يؤدّي إلى العلم به، بخلاف الحقيقي.

وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أيّها المشركون، فإنّهم و إن كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات و الأرض قالوا: اللّه، إلّا أنّهم لمّا جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكأنّهم لم ينظروا و لم يقرّوا، لأنّ نتيجة النظر الصحيح و الإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح، و لم يستوضحوا الدلالة على الخالق.

و يجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ الّذي هو التسبيح الحقيقي، و الدلالة الّتي هي التسبيح المجازي، لإسناده إلى ما يتصوّر منه اللفظ من الملائكة و الثقلين، و إلى ما لا يتصوّر منه من غير ذوي العقول. و يجوز حمله عليهما جميعا عند من جوّز إطلاق اللفظ على معنييه.

ص: 38


1- الإسراء: 57.

و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو بكر عن عاصم: يسبّح بالياء.

إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم و سوء نظركم، و جهلكم بالتسبيح و شرككم غَفُوراً لمن تاب منكم.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 45 الى 47]

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [45] وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [46] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً [47]

و لمّا تقدّم قوله: «وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ» بيّن سبحانه حالهم عند قراءة القرآن، فقال: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي: يحجبهم عنك عند قراءتك ستر ذا ستر، كقولهم: سيل مفعم (1)، أي: ذو إفعام. أو مستورا عن العيون من قدرة اللّه، فهو حجاب لا يرى. و يجوز أن يراد به حجاب من دونه حجاب.

قال الكلبي: هم: أبو سفيان، و النضر بن الحارث، و أبو جهل، و أمّ جميل امرأة أبي لهب، حجب اللّه رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، و كانوا يأتونه و يمرّون به و لا يرونه، لئلّا يؤذوه.

ص: 39


1- أي: مالئ، من: أفعم الإناء: ملأه.

وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً تكنّها و تحول دونها عن إدراك الحقّ و قبوله أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنعهم عن استماعه. يعني: أنّهم في رسوخ الكفر، و الانهماك في العناد، و التصميم على اللجاج في طريق الاعوجاج، على وجه كأنّ اللّه تعالى جعل أكنّة على قلوبهم لئلّا يفقهوا القرآن، و في آذانهم صمما لئلّا يستمعوه، لا أنّه واقع على معناه الظاهري، فإنّه قبيح غاية القبح، و مستلزم لتكليف ما لا يطاق، تعالى اللّه عن ذلك.

و قال صاحب الكشّاف: «هذه حكاية لما كانوا يقولونه: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ (1) كأنّه قال: و إذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم» (2). و قد مرّ تحقيق ذلك في سورة الأنعام (3).

و قيل: معناه: أنّا جعلنا بينك و بينهم حجابا. بمعنى: باعدنا بينك و بينهم في القرآن، فهو لك و للمؤمنين معك شفاء و هدى، و هو للمشركين في آذانهم وقر و عليهم عمى، فهذا هو الحجاب. و هذا منقول عن أبي مسلم.

وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ واحدا غير مشفوع به آلهتهم. مصدر وقع موقع الحال. و أصله واحدا وحده. وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هربا من استماع التوحيد أو تولية. و يجوز أن يكون جمع نافر، كقاعد و قعود.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ بسببه و لأجله من الهزء بك و بالقرآن.

قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان يقرأ يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار، و رجلان منهم عن يساره، فيصفّقون و يصفّرون و يخلّطون عليه بالأشعار.

إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف ل «أعلم». و كذا وَ إِذْ هُمْ نَجْوى أي: نحن أعلم

ص: 40


1- فصّلت: 5.
2- الكشّاف 2: 670- 671.
3- راجع ج 2 ص 374 ذيل الآية 25 من سورة الأنعام.

بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك مضمرون له، و حين هم ذووا نجوى يتناجون به في أمرك.

قيل: يعني بهم أبا جهل و زمعة بن الأسود و عمرو بن هشام و خويطب بن عبد العزّى، اجتمعوا و تشاوروا في أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال أبو جهل: هو مجنون. و قال زمعة: هو شاعر. و قال خويطب: هو كاهن. ثمّ أتوا الوليد بن المغيرة و عرضوا عليه ذلك، فقال: هو ساحر.

و نجوى مصدر. و يحتمل أن يكون جمع نجيّ.

إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مقدّر ب: أذكر، أو بدل من «إذ هم نجوى» على وضع «الظالمون» موضع الضمير، للدلالة على أن تناجيهم بقوله هذا ظلم. و المسحور هو الّذي سحر فزال عقله. و قيل: الّذي له سحر، و هو الرئة، أي: إلّا رجلا يتنفّس و يأكل و يشرب مثلكم.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 48 الى 52]

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [48] وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [49] قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً [50] أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [51] يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [52]

ص: 41

ثمّ قال على وجه التعجّب: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ مثّلوك بالشاعر و الساحر و الكاهن و المجنون فَضَلُّوا عن الحقّ في جميع ذلك، كضلال من يطلب في التيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحيّر في أمره لا يدري ما يصنع فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى طعن بوجه فيتهافتون و يخبطون.

وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً و غبارا. و عن مجاهد: ترابا. أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً يعني: قال منكروا البعث على الإنكار و الاستبعاد: أ إذا متنا، و انتثرت لحومنا، و صرنا عظاما و حطاما، أنبعث بعد ذلك خلقا متجدّدا؟ لما بين غضاضة الحيّ و يبوسة الرميم من المباعدة و المنافاة. و العامل في «إذا» ما دلّ عليه «مبعوثون» لا نفسه، لأنّ ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها. و «خلقا» مصدر أو حال.

قُلْ جوابا لهم كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أي: اجهدوا في أن لا تعادوا، فكونوا إن استطعتم حجارة في القوّة و الصلابة، أو حديدا في الشدّة و الجساوة (1).

أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي: ممّا يكبر عندكم عن قبول الحياة، لكونه أبعد شي ء منها، كالسماوات و الأرض و الجبال، فإنّ قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم، لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض، فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة، و قد كانت غضّة موصوفة بالحياة قبل؟! و الشي ء أقبل لما عهد فيه ممّا لم يعهد. و خرج الكلام مخرج الأمر، لأنّه أبلغ في الإلزام.

فَسَيَقُولُونَ إنكارا و استبعادا مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و كنتم ترابا و ما هو أبعد منه من الحياة، فإنّ من قدر على ابتداء الشي ء كان على إعادته أقدر، فإنّ ابتداء الشي ء أصعب من إعادته، و أنتم تقرّون بالنشأة الأولى، فلم تنكرون النشأة الآخرة، مع أنّها أهون و أسهل؟! فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ فسيحرّكونها نحوك تعجّبا و استهزاء وَ يَقُولُونَ

ص: 42


1- أي: الصلابة، من: جسأ أو جسا، إذا صلب.

مَتى هُوَ متى يكون البعث؟ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً فإنّ كلّ آت قريب. و انتصابه على الخبر أو الظرف، أي: يكون في زمان قريب. و «أن يكون» اسم عسى أو خبره، و الاسم مضمر.

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ أي: يوم نبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمنعون. استعار لهما الدعاء و الاستجابة للتنبيه على سرعتهما و تيسّر أمرهما، و أنّ المقصود منهما الإحضار للمحاسبة و الجزاء. بِحَمْدِهِ حال منهم، أي: حامدين اللّه على كمال قدرته، كما نقل عن سعيد بن جبير: أنّهم ينفضون التراب عن رؤوسهم و يقولون: سبحانك اللّهمّ و بحمدك.

و في الكشّاف: «هي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبّى و يتمنّع: ستركبه و أنت حامد شاكر» (1).

وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا و تستقصرون مدّة حياتكم في الدّنيا، و تحسبونها يوما أو بعض يوم، لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة، أو لما ترون من الهول. أو لمدّة مكثكم في القبر. و قال قتادة: استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا لما يعلمون من طول لبثهم في الآخرة.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 53 الى 54]

وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً [53] رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [54]

وَ قُلْ لِعِبادِي يعني: المؤمنين يَقُولُوا للمشركين الَّتِي الكلمة الّتي

ص: 43


1- الكشّاف 2: 672.

هِيَ أَحْسَنُ و لا يخاشنوهم، كقوله: وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يهيّج بينهم المراء و المخاصمة و المشاقّة، و يغري بعضهم ببعض، و يلقي بينهم العداوة، فلعلّ المخاشنة بهم تفضي إلى العناد و ازدياد الفساد.

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ في جميع الأوقات لِلْإِنْسانِ لآدم و ذريّته عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.

ثمّ فسّر الّتي هي أحسن بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ و بما هو صلاح لكم إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإصرار على المعصية. و ما بينهما (2) اعتراض. و المعنى: قولوا لهم هذه الكلمة و نحوها، و لا تصرّحوا بأنّهم من أهل النار، فإنّه يهيّجهم على الشرّ، مع أنّ ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلّا اللّه.

وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإيمان، و إنّما أرسلناك مبشّرا و نذيرا، فدارهم و مر أصحابك بالاحتمال منهم. روي أنّ المشركين أفرطوا في إيذائهم، فشكوا إلى رسول اللّه، فنزلت، و ذلك قبل نزول آية السيف (3).

و قيل: الكلمة الّتي هي أحسن أن يقولوا: يهديكم اللّه و يرحمكم اللّه. و الخطاب في قوله: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ» للمؤمنين. و المعنى: إن يشأ يرحمكم بإخراجكم من مكّة و تخليصكم من إيذاء المشركين، و إن يشأ يعذّبكم بتسليطهم عليكم. أو إن يشأ يرحمكم بفضله، و إن يشأ يعذّبكم بعذابه. و هو الأظهر.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 55 الى 57]

وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [55] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا

ص: 44


1- النحل: 125.
2- أي: ما بين قوله تعالى: «يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» و قوله: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ».
3- التوبة: 5 و 29.

يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً [56] أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [57]

ثمّ عاد إلى خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بأحوالهم و بما يستأهل كلّ واحد منهم، فيختار منهم لنبوّته و ولايته من يشاء. و هو ردّ لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيّا، و أن يكون العراة الجوّع أصحابه، كصهيب و بلال و خباب، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم و صناديدهم.

ثمّ زاد في الموعظة بقوله: وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانيّة، و التبرّي عن العلائق الجسمانيّة، لا بكثرة الأموال و الأتباع، حتّى داود عليه السّلام، فإنّ شرفه بما أوحي إليه من الكتاب، لا بما أوتيه من الملك. فقوله بعده: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً إشارة إلى بعض ذلك.

و قيل: قوله: «وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ» إشارة إلى تفضيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما بعده تنبيه على وجه تفضيله، و هو أنه خاتم الأنبياء و أمّته خير الأمم، المدلول عليه.

بما كتب في الزبور من أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون، و هم محمّد و أمّته.

و قيل: وجه تخصيصه بالذكر «أنّ كفّار قريش ما كانوا على نظر و جدل، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات، و اليهود كانوا يقولون: لا نبيّ بعد موسى و لا كتاب بعد التوراة، فنقض اللّه عليهم كلامهم

بإنزال الزبور على داود» كذا في الكبير (1).

ص: 45


1- التفسير الكبير للرازي 20: 230.

و تنكيره هاهنا و تعريفه في قوله: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ (1) لأنّه في الأصل فعول بمعنى المفعول كالحلوب، أو المصدر كالقبول. و يؤيّده قراءة حمزة بالضمّ. و هو كالعبّاس و عبّاس، و الفضل و فضل. أو لأنّ المراد و آتينا داود بعض الزبر، و هي الكتب.

و أن يراد ما ذكر فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الزبور، فسمّى ذلك زبورا، لأنّه بعض الزبور، كما سمّي بعض القرآن قرآنا.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّها آلهة مِنْ دُونِهِ كالملائكة و المسيح و عزيز فَلا يَمْلِكُونَ فلا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ كالمرض و الفقر و القحط وَ لا تَحْوِيلًا و لا تحويل ذلك منكم إلى غيركم.

أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: هؤلاء الآلهة يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ يطلبون إلى اللّه القربة بالطاعة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بدل من واو «يبتغون»، أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى اللّه الوسيلة، فكيف بغير الأقرب؟! وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد، فكيف تزعمون أنّهم آلهة؟! إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً حقيقا بأن يحذره كلّ أحد، حتى الرسل و الملائكة، فضلا عن غيرهم.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 58 الى 59]

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [58] وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً [59]

ص: 46


1- الأنبياء: 105.

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بإماتة أهلها و استئصال ساكنيها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل و أنواع البليّة. قيل: الهلاك للصالحة، و العذاب للطالحة.

و عن مقاتل: وجدت في كتب الضحّاك بن مزاحم في تفسيرها: أمّا مكّة فيخرّبها الحبشة، و تهلك المدينة بالجوع، و البصرة بالغرق، و الكوفة بالترك، و الجبال- يعني:

بلادها الّتي يسكنها الأكراد، ما بين بغداد و ما والاها- بالصواعق و الرواجف. و أمّا خراسان فعذابها ضروب، ثمّ ذكرها بلدا بلدا.

كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أخبر أنّ ذلك كائن لا محالة، و لا يكون خلافه.

وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ و ما صرفنا عن إرسال الآيات الّتي اقترحها قريش، من قلب الصفا ذهبا، و من إحياء الموتى، و غير ذلك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ إلا تكذيب الأوّلين الّذين هم أمثالهم في الطبع، كعاد و ثمود. يعني: أنّها لو أرسلت لكذّبوا بها تكذيب أولئك، و استوجبوا الاستئصال، على ما مضت به سنّتنا في الأمم أن من كذّب بالآيات المقترحة عوجل بعذاب الاستئصال بعد أن كفر بها. و من حكمنا النافذ أن لا نستأصلهم لشرف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لأنّ منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن و ينصر دينه الإسلام، فإنّ أمّته باقية، و شريعته مؤيّدة إلى يوم القيامة.

ثمّ ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فقال: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ بسؤالهم مُبْصِرَةً بيّنة ذات أبصار، فإنّ آثارهم قريبة من قريش، يبصرها صادرهم و واردهم، أو بصائر. أو جاعلتهم ذوي بصائر. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها.

وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ يعني: بالآيات المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب المستأصل. أو بالآيات غير المقترحة- كالمعجزات و آيات القرآن- إلّا إنذارا بعذاب

ص: 47

الآخرة، فإنّ أمر من بعثت إليهم مؤخّر إلى يوم القيامة. و الباء مزيدة، أو في موضع الحال، و المفعول محذوف.

[سورة الإسراء [17]: آية 60]

وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً [60]

ثمّ قال سبحانه مخاطبا لنبيّه: وَ إِذْ قُلْنا لَكَ و اذكر إذ أوحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ كلّهم، فهم في قبضة قدرته و من تحت علمه، فإنّه عالم بأحوالهم و بما يفعلونه من طاعة أو معصية، قادر على ما يستحقّونه على ذلك من الثواب و العقاب. أو أحاط بقريش، بمعنى: أهلكهم، من: أحاط بهم العدوّ. فهو بشارة بوقعة بدر، و بالنصرة عليهم. و التعبير بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. و هو كقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ (2) و غير ذلك.

وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ قيل: المراد بهذه الرؤية رؤية العين، و هي ما ذكر في أوّل السورة من إسراء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى بيت المقدس و إلى السماوات في ليلة واحدة، فلمّا رأى ذلك ليلا و أخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا. و سمّاها فتنة في قوله:

إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ لأنّه أراد بها الامتحان و شدّة التكليف، ليعرض المصدّق بذلك لجزيل ثوابه و المكذّب به لأليم عقابه. و هذا مرويّ عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة.

ص: 48


1- القمر: 45.
2- آل عمران: 12

و قال بعضهم: إنّها رؤيا نوم رآها أنّه دخل مكّة و هو بالمدينة، فقصدها فصدّه المشركون في الحديبية عن دخولها، حتّى شكّ قوم و دخلت عليهم الشبهة،

فقالوا:

يا رسول اللّه أ لست قد أخبرتنا أنّا ندخل المسجد الحرام آمنين؟ فقال: أو قلت لكم إنّكم تدخلونها العام؟ قالوا: لا. فقال: لندخلنّها إن شاء اللّه. و رجع ثمّ دخل مكّة في العام القابل، فنزل: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ (1). و هو قول الجبائي و أبو مسلم.

و فيه: أنّ الآية مكيّة، إلّا أن يقال: رآها بمكّة و حكاها حينئذ.

و قيل: هي رؤيا رآها في وقعة بدر، لقوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا (2).

و لما

روي أنه لمّا ورد ماء بدر قال: لكأنّي أنظر مصارع القوم، هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان، فتسامعت به قريش و استسخروا منه.

و قيل: رأى في المنام قوما من بني أميّة يرقون على منبره و ينزون عليه نزو القردة، فقال: هذا حظّهم من الدنيا، يعطون بظاهر إسلامهم. و هو منقول عن سهل بن سعيد عن أبيه،

و مرويّ عن أبي عبد اللّه و أبي جعفر عليهما السّلام، حيث قالا: «إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أميّة، أخبره اللّه تعالى بتغلّبهم على مقامه، و قتلهم ذرّيّته».

و بعد هذه الرؤية لم ير صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضاحكا حتّى مات.

و على هذا كان المراد بقوله: «إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ما حدث في أيّامهم، كما

روي عن المنهال بن عمرو قال: «دخلت على عليّ بن الحسين عليهما السّلام فقلت له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟ فقال: أصبحنا و اللّه بمنزلة بني إسرائيل من آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، و يستحيون نساءهم، و أصبح خير البريّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلعن على المنابر، و أصبح من يحبّنا منقوصا حقّه بحبّه إيّانا».

و قيل للحسن: يا أبا سعيد قتل الحسين بن عليّ عليهما السّلام، فبكى حتّى اختلج جنباه،

ص: 49


1- الفتح: 27.
2- الأنفال: 43.

ثمّ قال: و اذلّاه لأمّة قتل ابن دعيّها ابن نبيّها.

و قوله: وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ عطف على الرؤيا، أي: و ما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلّا فتنة للناس. و هي شجرة الزقّوم، لمّا سمع المشركون ذكرها قالوا: إنّ محمّدا يزعم أنّ الجحيم تحرق الحجارة ثمّ يقول: ينبت فيها الشجر. و ما قدروا اللّه حقّ قدره، و لم يعلموا أنّ من قدر أن يحمي و بر السمندر من أن تأكله النار- و هو دويبّة ببلاد الترك تتّخذ منه مناديل، إذا اتّسخت طرحت في النار، فذهب الوسخ و بقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار- و أحشاء النعامة من أذى الجمر و قطع الحديد المحماة الحمر الّتي تبتلعها، قدر أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها.

و لعنها في القرآن لعن طاعميها. و صفت به على المجاز للمبالغة. أو وصفها بأنّها في أصل الجحيم، فإنّه أبعد مكان من الرحمة. أو بأنّها مكروهة مؤذية، من قولهم: طعام ملعون لما كان ضارّا. و قد أوّلت بالشيطان، و أبي جهل، و الحكم بن أبي العاص. قيل: هي بني أميّة الّذين أكثرهم أولاد الزنا.

وَ نُخَوِّفُهُمْ بأنواع التخويف فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً إلّا عتوّا في الكفر، متجاوز الحدّ في الغيّ.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 61 الى 65]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [61] قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً [62] قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [63] وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما

ص: 50

يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً [64] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [65]

ثمّ ذكر قصّة آدم و إبليس ليعلم عداوته المستمرّة من لدن آدم إلى يوم القيامة ليحترزوا عنه، فقال: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ تقدّم تفسيره في سورة البقرة (1) قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي: من طين، فنصب بنزع الخافض. و يجوز أن يكون حالا من الراجع إلى الموصول، أي: خلقته و هو طين. أو منه، أي: أ أسجد له و أصله طين؟ و فيه على الوجوه الثلاثة إيماء إلى علّة الإنكار.

قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ الكاف لتأكيد الخطاب، لا محلّ له من الإعراب. و «هذا» مفعول أوّل، و «الّذي» صفته. و المفعول الثاني محذوف، لدلالة صلته عليه. و المعنى: أخبرني عن هذا الّذي كرّمته عليّ بأمري بالسجود له لم كرّمته عليّ و أنا ختر منه؟ و اختصر الكلام بحذف ذلك.

ثمّ ابتدأ فقال: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كلام مبتدأ، و اللام موطّئة للقسم المحذوف، و جوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أي: لأستأصلنّهم بالإغواء إلّا قليلا لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم. من: احتنك الجراد الأرض إذا جرّد ما عليها- أي: قشره- أكلا، مأخوذ من الحنك. و إنّما علم أنّ ذلك يتسهّل له، إمّا استنباطا من قول الملائكة: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها (2) مع تقرير اللّه إيّاهم في ذلك، أو تفرّسا من خلقه ذا شهوة و وهم و غضب.

قالَ اذْهَبْ امض لما قصدته. و هو طرد و تخلية بينه و بين ما سوّلت له نفسه،

ص: 51


1- راجع ج 1 ص 130 ذيل الآية 34 من سورة البقرة.
2- البقرة: 30.

كما قال موسى عليه السّلام للسامري: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ (1).

فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جزاؤك و جزاؤهم، فغلّب المخاطب على الغائب.

و يجوز أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات. جَزاءً مَوْفُوراً مكمّلا، من قولهم:

فر لصاحبك عرضه. و انتصاب «جزاء» على المصدر بإضمار فعله، أو بما في «جزاؤكم» من معنى: تجازون، أو الحال، لأنّ الجزاء موصوف بالموفور.

وَ اسْتَفْزِزْ و استخفف و استزلّ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أن تستفزّه، من الفزاز بمعنى الخفيف بِصَوْتِكَ بدعائك إلى الفساد وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ و صح عليهم، من الجلبة و هي الصياح بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ بأعوانك من راكب و راجل. و الخيل: الخيّالة.

و منه قوله عليه السّلام: «يا خيل اللّه اركبي».

و الرّجل اسم جمع للراجل، كالصحب و الركب.

و يجوز أن يكون تمثيلا لتسلّطه على من يغويه بمغوار وقع على قوم، فصوّت بهم صوتا يستفزّهم من أماكنهم، و يقلقهم عن مراكزهم، و أجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم.

و قرأ حفص: رجلك بالكسر، على أنّ فعلا بمعنى فاعل، نحو: تعب و تاعب.

و معناه: و جمعك الرجل.

و هذا من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان و التخلية، كما قال للعصاة: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (2). و كذلك قوله: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها و جمعها من الحرام، و التصرّف فيها على ما لا ينبغي، كالربا و البحيرة و السائبة، و منع الزكاة و غيرها، و الإنفاق المحرّم.

وَ الْأَوْلادِ بالحثّ على التوصّل إلى الولد بالسبب المحرّم، و دعوى ولد بغير سبب، و الإشراك فيه بتسميته عبد العزّى و عبد الحارث، و التضليل بالحمل على الأديان الزائغة، و الحرف الذميمة، و الأفعال القبيحة.

ص: 52


1- طه: 97.
2- فصّلت: 40.

وَ عِدْهُمْ المواعيد الباطلة، كشفاعة الآلهة، و الاتّكال على كرامة الآباء، و تأخير التوبة لطول الأمل وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً اعتراض لبيان مواعيده الباطلة. و الغرور: تزيين الخطأ بما يوهم أنّه صواب.

إِنَّ عِبادِي يعني: المخلصين. و تعظيم الإضافة، و التقييد في قوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (1) يخصّصهم. لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: على إغوائهم قدرة وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يتوكّلون عليه في الاستعاذة منك على الحقيقة.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 66 الى 69]

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [66] وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [67] أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً [68] أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً [69]

و لمّا تقدّم ذكر الشيطان و ذكر المشركين و عبدة الأوثان، احتجّ سبحانه بدلائل التوحيد و الإيمان، فقال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي يجري و يسيّر لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: من الريح و أنواع الأمتعة الّتي لا تكون عندكم إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً حيث هيّأ لكم ما تحتاجون إليه، و سهّل عليكم ما تعسّر من أسبابه.

ص: 53


1- الحجر: 40.

وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ خوف الغرق فِي الْبَحْرِ باضطراب الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ ذهب عن خواطركم و أوهامكم كلّ من تدعونه في حوادثكم إِلَّا إِيَّاهُ وحده، فإنّكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه،

فلا تدعون لكشفه إلّا إيّاه. أو ضلّ كلّ من تعبدونه عن إغاثتكم إلّا اللّه فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ و أمنتم منه أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد كفرانا للنعمة وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كثير الكفران. هذا كالتعليل للإعراض.

أَ فَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار، و الفاء للعطف على محذوف تقديره: أ نجوتم فأمنتم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ فحملكم ذلك على الإعراض عن التوحيد؟! و ليس كذلك، فإنّ من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق، قادر أن يهلككم في البحر بالخسف و غيره. و «جانب البرّ» مفعول به ل «يخسف» كالأرض في قوله: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ (1). و المعنى: أن يخسف جانب البرّ، أي: يقلبه و أنتم عليه، أو يقلبه بسببكم، ف «بكم» حال أو صلة. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالنون فيه (2) و في الأربعة الّتي بعده.

و في ذكر الجانب تنبيه على أنّهم كما وصلوا الساحل كفروا و أعرضوا، و أنّ الجوانب و الجهات في قدرته سواء، لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك. فعلى العاقل أن يستوي خوفه من اللّه تعالى في جميع الجوانب و حيث كان.

أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ريحا تحصب، أي: ترمي بالحصباء. أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء، فيرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر. ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا يحفظكم من ذلك، فإنّه لا رادّ لفعله.

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي: في البحر تارَةً أُخْرى بإلهام دواع تلجئكم

ص: 54


1- القصص: 81.
2- أي: نخسف، و كذا: نرسل، نعيدكم، فنرسل، فنغرقكم.

إلى أن ترجعوا فتركبوه فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ هي الريح الّتي لها

قصيف، و هو الصوت الشديد، كأنّها تتقصّف، أي: تتكسّر. أو الّتي لا تمرّ بشي ء إلّا قصفته، أي:

كسرته. فَيُغْرِقَكُمْ و عن يعقوب بالتاء، على إسناده إلى ضمير الريح بِما كَفَرْتُمْ بسبب إشراككم، أو كفرانكم نعمة الإنجاء ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبا يتبعنا بانتصار أو صرف.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 70 الى 72]

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً [70] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [71] وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً [72]

لمّا تقدّم ذكر قول إبليس: «هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» ذكر سبحانه بعد ذلك تكرمته لبني آدم بأنواع الإكرام و فنون الإنعام، فقال: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بحسب صنوف الإنعام. و هي: حسن الصورة، و المزاج الأعدل، و اعتدال القامة، و التمييز بالعقل، و الإفهام بالنطق و الإشارة و الخطّ، و التهدّي إلى أسباب المعاش و المعاد، و التسلّط على ما في الأرض، و التمكّن من الصناعات، و تسخير أكثر الأشياء لهم، و انسياق الأسباب و المسبّبات العلويّة و السفليّة إلى ما يعود عليهم بالمنافع، إلى غير ذلك ممّا يقف الحصر دون إحصائه. و من ذلك ما ذكره ابن عبّاس: أنّ كلّ حيوان يتناول طعامه بفيه إلّا الإنسان، فإنّه يرفعه إليه بيده. و قيل: تفضيلهم بأن جعل محمّدا منهم.

ص: 55

وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ على الدوابّ و السفن، من: حملته حملا، إذا جعلت له ما يركبه. أو حملناهم فيهما حتّى لم تخسف بهم الأرض و لم يغرقهم الماء.

وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ

المستلذّات ممّا يحصل بفعلهم و بغير فعلهم وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا بحسب الغلبة و الاستيلاء، أو بالشرف و مزيّة المرتبة.

و المستثنى الّذي يفهم من «كثير» جنس الملائكة، أو الخواصّ منهم على اختلاف المذهبين. و لا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده.

و قال في المجمع: «لا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم، لأنّ الفضل في الملائكة عامّ لجميعهم أو أكثرهم، و الفضل في بني آدم يختصّ بقليل من كثير، و على هذا فغير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة، و إن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم» (1). و قد أوّل الكثير بالكلّ. و فيه تعسّف.

يَوْمَ نَدْعُوا نصب بإضمار: أذكر، أو ظرف لما دلّ عليه «وَ لا يُظْلَمُونَ» كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ بمن ائتمّوا به من نبيّ، فيقال: هاتوا متّبعي إبراهيم، هاتوا متّبعي موسى، هاتوا متّبعي محمد. فيقوم أهل الحقّ الّذين اتّبعوا الأنبياء عليهم السّلام، فيأخذون كتبهم بأيمانهم.

ثمّ يقال: هاتوا متّبعي الشيطان، هاتوا متّبعي رؤساء الضلالة. أو بمقدّم في الدين من أئمّتهم و علمائهم، أو بكتاب، فيقال: يا أهل القرآن و يا أهل التوراة، أو بدين. و قيل:

بكتاب أعمالهم الّتي قدّموا، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، و يا أصحاب كتاب الشرّ، أي: ينقطع علقة الأسباب، و يبقى نسبة الأعمال.

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ألا تحمدون اللّه إذا كان يوم القيامة، فدعا كلّ قوم إلى من يتولّونه، و دعانا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فزعنا إلى رسول اللّه، و فزعتم إلينا، فإلى أين ترون نذهب بكم؟ إلى الجنّة و ربّ الكعبة. قالها ثلاثا».

و عن محمّد بن كعب:

أي: بأمّهاتهم، جمع أمّ، كخفّ و خفاف. و الحكمة في ذلك

ص: 56


1- مجمع البيان 6: 429.

إجلال عيسى، و إظهار مزيّة شرف الحسن و الحسين، و إن كان فيهما الشرافة العليّة من جانب الأب، و أن لا يفتضح أولاد الزنا.

فَمَنْ أُوتِيَ من المدعوّين كِتابَهُ أي: كتاب عمله بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ ابتهاجا و تبجّحا بما يرون فيه وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا مقدار فتيل. و هو المفتول الّذي في شقّ النواء، و هو أدنى شي ء في المقدار. يعني: لا ينقصون من أجورهم أدنى شي ء، كقوله: وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (1). و جمع اسم الإشارة و الضمير، لأنّ من أوتي في معنى الجمع.

و تعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدلّ على أنّ من أوتي كتابه بشماله إذا اطّلعوا على ما فيه، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته و الاعتراف بمساويه، أمام التنكيل به و الانتقام منه، من الحياء و الخجل، و حبسة اللسان و التتعتع، و العجز عن إقامة حروف الكلام، و الذهاب عن تسوية القول، فكأنّ قراءتهم كلا قراءة، و لهذا لم يذكرهم. و أمّا أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنّهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة و أبينها، و لا يقنعون بقراءتهم وحدها حتى يقول القارئ لأهل المحشر هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (2).

وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى في هذه الدنيا أعمى القلب، لا يبصر الرشد و طريق النجاة فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى كذلك وَ أَضَلُّ سَبِيلًا لا يهتدي إلى طريق الجنّة.

و الأعمى مستعار ممّن لا يدرك المبصرات لفساد حاسّته، لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أمّا في الدنيا فلفقد النظر، و أمّا في الآخرة فلأنّه لا ينفعه الاهتداء إليه. و قد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل، من: عمى بقلبه، كالأجهل. و من ثمّ قرأ أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر و حمزة و الكسائي الأوّل ممالا. و الثاني لم يوافقهم ابن عامر، بل يفخّمه،

ص: 57


1- مريم: 60.
2- الحاقّة: 19.

لأنّ أفعل التفضيل تمامه ب «من» المقدّرة، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام، كقولك: أعمالكم. و أمّا الأوّل فلم يتعلّق به شي ء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة. و قرأ و رش بين بين فيهما.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 73 الى 75]

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [73] وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [74] إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً [75]

روي أنّ ثقيفا قالت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ندخل في أمرك حتّى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر (1)، و لا نحشر، و لا نجّبي في صلاتنا، و كلّ ربا لنا فهو لنا، و كلّ ربا علينا فهو موضوع عنّا، و أن تمتّعنا باللات سنة، و لا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، و أن تحرّم وادينا كما حرّمت مكّة، فإن قالت العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إنّ اللّه أمرني به.

و جاؤا بكتابهم فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمّد رسول اللّه لثقيف: لا يعشرون و لا يحشرون. فقالوا: و لا يجبّون. فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثم قالوا للكاتب:

اكتب: و لا يجبّون، و الكاتب ينظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقام عمر فسلّ سيفه فقال:

أسعرتم قلب نبيّنا يا معشر قريش، أسعر اللّه قلوبكم نارا. فقالوا: لسنا نكلّم إيّاك، إنّما نكلّم محمدا. فنزلت: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ

و قيل: نزلت في قريش قالوا: اجعل آية رحمة آية عذاب، و آية عذاب آية

ص: 58


1- لا نعشر أي: لا يؤخذ عشر أموالنا. و لا نحشر أي: لا نبعث إلى المغازي. و لا نجبّي من: جبّى تجبية أي: وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض وقت السجود.

رحمة، حتّى نؤمن لك. و برواية أخرى: لا نمكّنك من استلام الحجر حتّى تلمّ بآلهتنا و تمسّها بيدك.

و «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة بينها و بين النافية.

و المعنى: أنّ الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يفتنوك، أي: يخدعوك فاتنين عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أوامرنا و نواهينا، و وعدنا و وعيدنا لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتقول علينا غير ما أوحينا إليك وَ إِذاً و لو اتّبعت مرادهم لَاتَّخَذُوكَ بافتتانك خَلِيلًا وليّا لهم، بريئا من ولايتي.

وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ و لو لا تثبيتنا إيّاك و عصمتنا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا لقاربت أن تميل قليلا إلى اتّباع مرادهم. و المعنى: أنّك كنت على صدد الركون إليهم، لقوّة خدعهم و شدّة احتيالهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم. و هو صريح في أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما همّ بإجابتهم، مع قوّة الداعي إليها، و دليل على أنّ العصمة بتوفيق اللّه و حفظه.

ثمّ توعّده سبحانه على ذلك لو فعله، فقال: إِذاً لو قاربت لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ أي: عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، ضعف ما نعذّب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأنّ

خطأ الخطير (1) أخطر. و كان أصل الكلام: عذابا ضعفا في الحياة، و عذابا ضعفا في الممات، بمعنى: مضاعفا، نحو قوله تعالى: عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (2) بمعنى: مضاعفا، ثمّ حذف الموصوف و أقيمت الصفة مقامه، ثمّ أضيفت كما يضاف موصوفها.

و قيل: الضعف من أسماء العذاب. و قيل: المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة، و بضعف الممات عذاب القبر.

ص: 59


1- أي: الشريف.
2- ص: 61.

ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع العذاب عنك. و فيه دليل على أنّ أدنى مداهنة للغواة مضادّة للّه، و خروج عن ولايته، و سبب موجب لغضبه و نكاله. فعلى المؤمن أن يتدبّرها، و يستشعر فيها الخشية و ازدياد التصلّب في دين اللّه. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّها لمّا نزلت كان يقول: «اللّهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا».

[سورة الإسراء [17]: الآيات 76 الى 77]

وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً [76] سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً [77]

وَ إِنْ كادُوا و إن كاد أهل مكّة لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك بمعاداتهم و مكرهم مِنَ الْأَرْضِ من أرض مكّة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لو خرجت لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ لا يبقون بعد إخراجك إِلَّا قَلِيلًا إلّا زمانا قليلا، فإنّ اللّه مهلكهم. و قد كان كذلك، فإنّهم أهلكوا ببدر بعد هجرته بقليل.

و قيل: الآية نزلت في اليهود، حسدوا مقام النبيّ بالمدينة فقالوا: الشام مقام الأنبياء، فإن كنت نبيّا فالحق بها حتّى نؤمن بك و نتّبعك، و قد علمنا أنّه لا يمنعك من الخروج إلّا خوف الروم، فإن كنت رسول اللّه فاللّه مانعك منهم. فوقع ذلك في قلبه، فخرج مرحلة فنزلت

فرجع. ثمّ قتل منهم بنو قريظة، و أجلي بنو النضير بقليل.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: خلافك. و هو لغة فيه.

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا نصب على المصدر، أي: سنّ اللّه ذلك سنّة، و هو أن يهلك كلّ أمّة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم. فالسنّة للّه، و إضافتها إلى الرسل لأنّها من أجلهم. و يدلّ عليه: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا تغييرا، أي: ما يتهيّأ

ص: 60

لأحد أن يقلّب سنّة اللّه و يبطلها، و السنّة هي العادة الجارية.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 78 الى 81]

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [78] وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [79] وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [80] وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [81]

ثمّ أمر سبحانه بعد إقامة البيّنات و ذكر الوعد و الوعيد بإقامة الصلاة، فقال مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان المراد هو و غيره، فقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لزوالها.

و يدلّ عليه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتاني جبرئيل عليه السّلام لدلوك الشمس حين زالت، فصلّى بي الظهر».

و قيل: لغروبها. و الأوّل أشهر و أصحّ، فإنّه منقول عن معظم المفسّرين، كابن عبّاس و ابن عمر و جابر و أبي العالية و الحسن و الشعبي و عطاء و مجاهد. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و أصل التركيب الانتقال، و منه الدلك، فإنّ الدالك لا

تستقرّ يده. و كذا ما تركّب من الدال و اللام، كدلج و دلع و دله. و قيل: الدلوك من الدلك، لأنّ الناظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها. و اللام للتأقيت، مثلها في: لثلاث خلون.

إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ظلمته. و هو وقت صلاة العشاءين. وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ و صلاة الصبح. سمّيت قرآنا لأنّه جزؤها، تسمية للشي ء باسم جزئه، كما سمّيت ركوعا و سجودا. و استدلّ به على وجوب القراءة فيها.

ص: 61

إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار، ينزل هؤلاء و يصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل و أوّل ديوان النهار. أورده البخاري في الصحيح (1). أو مشهودا بشواهد القدرة، من تبدّل الظلمة بالضياء، و النوم الّذي هو أخو الموت بالانتباه. أو بكثير من المصلّين في العادة. أو من حقّه أن يشهده الجمّ الغفير.

و قيل: قرآن الفجر حثّ على طول القراءة في صلاة الفجر، لكونها مشهودا بالجماعة الكثيرة، ليسمع العباد القرآن فيكثر الثواب.

و الآية جامعة للصلوات الخمس، إن فسّر الدلوك بالزوال. فصلاتا دلوك الشمس الظهر و العصر، و صلاتا غسق الليل هما المغرب و العشاء الآخرة، و المراد بقرآن الفجر صلاة الغداة. و لصلوات الليل وحدها إن فسّر بالغروب.

و يؤيّد الأوّل ما

رواه العيّاشي بالإسناد عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في هذه الآية، قال: «إنّ اللّه افترض أربع صلوات، أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أوّل وقتهما عند زوال الشمس إلى غروبها، إلّا أنّ هذه قبل هذه، و منها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل، إلّا أنّ هذه قبل هذه» (2)

و إلى هذا ذهب المرتضى علم الهدى قدّس سرّه

في أوقات الصلاة. فالآية دالّة على امتداد الصلوات الأربع.

وَ مِنَ اللَّيْلِ و بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ أي: فاترك الهجود للصلاة، فإنّ التهجّد بمعنى ترك الهجود (3)، نحو التأثّم و التحرّج. و الضمير للقرآن. نافِلَةً لَكَ عبادة زائدة لك على الصلوات المفروضة. أو فضيلة لك، لاختصاص وجوبه بك دون أمّتك، فإنّه تطوّع لهم.

ص: 62


1- ذكره بلفظ آخر في صحيح البخاري 6: 108.
2- تفسير العيّاشي 2: 310 ح 143.
3- أي: النوم.

عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ يوم القيامة مَقاماً مَحْمُوداً مقاما يحمده القائم فيه.

و أجمع المفسّرون على أنّه مقام الشفاعة، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «هو المقام الّذي أشفع فيه لأمّتي».

و لإشعاره بأنّ الناس يحمدونه، لقيامه فيه، و ما ذاك إلّا مقام الشفاعة.

و عن ابن عبّاس: مقاما محمودا يحمدك فيه الأوّلون و الآخرون، و تشرّف فيه على جميع الخلائق، تسأل فتعطى، و تشفّع فتشفع، ليس أحد إلّا تحت لوائك.

و عن حذيفة: يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلّم نفس، فأوّل مدعوّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقول: لبّيك و سعديك، و الخير في يديك، و الشرّ ليس إليك، و المهديّ من هديت، و عبدك بين يديك، و بك و إليك، و لا ملجأ و لا منجى منك إلّا إليك، تباركت و تعاليت، سبحانك ربّ البيت. قال: فهذا قوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً».

و انتصاب «مقاما» على الظرف بإضمار فعله، أي: فيقيمك مقاما. أو بتضمين «يبعثك» معنى: يقيمك. أو الحال، بمعنى: أن يبعثك ذا مقام.

وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي أي: في القبر مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيّا على طهارة و طيب من السيّئات وَ أَخْرِجْنِي أي: منه عند البعث مُخْرَجَ صِدْقٍ

إخراجا ملقى بالكرامة، آمنا من السخط. يدلّ عليه ذكره على أثر ذكر البعث.

و قيل: المراد إدخال المدينة، و الإخراج من مكّة ظاهرا عليها بالفتح، و إخراجه منها آمنا من المشركين.

و قيل إدخاله الغار، و إخراجه منه سالما.

و قيل: إدخاله فيما حمّله من أعباء الرسالة، و إخراجه منها مؤدّيا حقّه.

و قيل: إدخاله عامّ في كلّ ما يلابسه من مكان أو أمر، و إخراجه منه.

وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجّة تنصرني على من خالفني، أو ملكا ينصر الإسلام على الكفر. فاستجاب له بقوله: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (1).فَإِنَّ

ص: 63


1- المائدة: 67 و 56.

حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (1). لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (2). لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (3).

وَ قُلْ جاءَ الْحَقُ الإسلام وَ زَهَقَ الْباطِلُ و ذهب و هلك الشرك، من: زهق روحه إذا خرج إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً مضمحلّا غير ثابت.

عن ابن عبّاس: «كانت لقبائل العرب ثلاثمائة و ستّون صنما، كلّ قوم بحيالهم، يحجّون إليها و ينحرون لها. فشكا البيت إلى اللّه فقال: أي ربّ حتّى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى اللّه إلى البيت: إنّي سأحدث لك نوبة جديدة، فأملأك خدودا سجّدا، يدفّون إليك دفيف (4) النسور، و يحنّون إليك حنين الطيور إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية.

و لمّا نزلت هذه الآية يوم الفتح

قال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خذ مخصرتك (5) ثمّ ألق بها الأصنام. فجعل ينكت بمخصرته في عين واحد واحد منها و يقول: جاء الحقّ و زهق الباطل، فينكبّ لوجهه، حتّى ألقى جميعها. و بقي صنم خزاعة فوق الكعبة، و كان من قوارير صفر، فقال: يا عليّ إرم به. فحمله

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكّة يتعجّبون و يقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمّد.

و عن عليّ عليه السّلام: كان على الكعبة أصنام، فذهبت لأحمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أستطع، فحملني فجعلت أقطعها، و لو شئت لنلت السماء.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 82 الى 84]

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً [82] وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ

ص: 64


1- المائدة: 56.
2- التوبة: 33.
3- النور: 55.
4- الدفيف: السير الليّن.
5- المخصرة: السوط، و ما يتوكّأ عليه كالعصا.

الشَّرُّ كانَ يَؤُساً [83] قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً [84]

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ما هو في قمع الشرك و الشكّ و الريب، و تقويم دينهم، و استصلاح نفوسهم، كالدواء الشافي للمرضى. و «من» للبيان، فإنّ كلّه كذلك. و قيل: للتبعيض. و المعنى: أنّ منه ما يشفي من المرض، كالفاتحة و آيات الشفاء. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه».

و قرأ البصريّان: ننزل بالتخفيف.

وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً نقصانا، لتكذيبهم و كفرهم به، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (1) وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحّة و السعة أَعْرَضَ عن ذكر اللّه تعالى وَ نَأى بِجانِبِهِ لوى عطفه، و بعّد بنفسه عنه، كأنّه مستغن مستبدّ. و يجوز أن يكون كناية عن الاستكبار، لأنّه من عادة المستكبرين.

و قرأ ابن عامر و ابن ذكوان هنا و في فصّلت (2): و ناء على القلب، كقولهم: راء في:

رأى. و يجوز أن يكون من: ناء بمعنى: نهض. و أمال الكسائي و خلف فتحة النون و الهمزة في السورتين. و أمال خلف فتحة الهمزة فيهما فقط. و أمال أبو بكر فتحة الهمزة هنا، و أخلص فتحته. و ورش على أصله في ذوات الراء.

وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روح اللّه، كقوله: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (3).

ص: 65


1- التوبة: 125.
2- فصّلت: 51.
3- يوسف: 87.

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي: كلّ واحد من المؤمن و الكافر يعمل على طريقته الّتي تشاكل حاله في الهدى و الضلالة، من قولهم: طريق ذو شواكل، و هي الطرق الّتي تتشعّب منه. و الدليل عليه قوله: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أسدّ طريقا، و أبين منهجا. و قد فسّرت الشاكلة بالطبيعة و العادة.

قال بعض المحقّقين: هذه الآية أرجى آية في كتاب اللّه تعالى، لأنّ لفظ «كلّ» فيها شامل لكلّ من الواجب و الممكن، فمقتضى ذاته الكرم و العفو عن عباده، فهو يعمل به، و مقتضى ذاتهم المعصية و اتّباع الهوى.

[سورة الإسراء [17]: آية 85]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [85]

روي أنّ اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن أصحاب الكهف و عن ذي القرنين و عن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبيّ، و إن أجاب عن بعض و سكت عن بعض فهو نبيّ. فبيّن لهم القصّتين و أبهم أمر الروح، و هو مبهم في التوراة. فنزلت:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الّذي يحيا به بدن الإنسان و يدبّره قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: ممّا استأثره بعلمه، و لا يطلعه

أحدا من عباده.

و قيل: سألوا عن الروح أهو قديم، أو مخلوق محدث؟ فقال: قل الرّوح وجد بأمره و حدث بتكوينه.

و قيل: سألوا عن الروح أنّه مادّيّ أو متولّد من أصل؟ فأجيب بأنّه من الإبداعيّات الكائنة ب «كن»، من غير مادّة و تولّد من أصل، كأعضاء جسده.

و قيل: هو خلق عظيم روحانيّ أعظم من الملك. و قيل: الروح جبرئيل. و عن عليّ عليه السّلام: أنّه ملك من الملائكة، له سبعون ألف وجه، لكلّ وجه سبعون ألف لسان، تسبّح اللّه بجميع ذلك.

ص: 66

و قيل: إنّ المشركين سألوه عن الروح الّذي هو القرآن، كيف يلقاك به الملك؟

و كيف صار معجزا؟ و كيف صار نظمه و ترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب و الأشعار؟ و قد سمّى اللّه القرآن روحا في قوله: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً (1). فقال سبحانه: قل يا محمّد إنّ الروح الّذي هو القرآن من أمر ربّي، أي: من وحيه و كلامه، ليس من كلام البشر، و لا ممّا يدخل في إمكانهم.

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا تستفيدونه بتوسّط حواسّكم، فإنّ اكتساب العقل للمعارف النظريّة إنّما هو من الضروريّات المستفادة من إحساس الجزئيّات، فلذلك قيل: من فقد حسّا فقد فقد علما، و أكثر الأشياء لا يدركه الحسّ، و لا شيئا من أحواله المعرّفة لذاته.

و هو إشارة إلى أنّ الروح ممّا لا يمكن معرفة ذاته إلّا بعوارض تميّزه عمّا يلتبس به. كما قيل: إنّه جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان. و هو مذهب أكثر المتكلّمين. و اختاره علم الهدى قدس سرّه. أو جسم هوائيّ على بنية حيوانيّة، في كلّ جزء منه حياة. أو الحياة الّتي يتهيّأ به المحلّ لوجود القدرة و العلم و الاختيار. و هو مذهب الشيخ المفيد و جماعة من المعتزلة. و غير ذلك من الأقاويل الّتي لا يعلم بها كنهه، فلذلك اقتصر على الجواب، كما اقتصر موسى في جواب وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (2) بذكر بعض صفاته.

روي أنّه عليه السّلام لمّا قال لهم ذلك قالوا: أ نحن مختصّون بهذا الخطاب؟ فقال: بل نحن و أنتم. فقالوا: ما أعجب شأنك! ساعة تقول: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (3). و ساعة تقول هذا. فنزلت. و ليس ما قالوه بلازم، لأنّ القلّة و الكثرة تدوران مع الإضافة، فيوصف الشي ء بالقلّة مضافا إلى ما فوقه، و بالكثرة مضافا إلى ما تحته،

ص: 67


1- الشورى: 52.
2- الشعراء: 23.
3- البقرة: 269.

فالحكمة الّتي أوتيها العبد خير كثير في نفسها، إلّا أنّها إذا أضيفت إلى علم اللّه فهي قليلة.

و قيل: هو خطاب لليهود خاصّة، لأنّهم قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد أوتينا التوراة، و فيها الحكمة، و قد تلوت: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. فقيل لهم: إنّ علم التوراة قليل في جنب علم اللّه.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 86 الى 87]

وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً [86] إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً [87]

ثمّ امتنّ سبحانه ببقاء القرآن بعد المنّة في تنزيله، فقال: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اللام الأولى توطئة للقسم، و «لنذهبنّ» جوابه النائب مناب جزاء الشرط. و المعنى: إن شئنا ذهبنا بالقرآن، و محوناه من المصاحف و الصدور، فلم نترك له أثرا، و بقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب. ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا من يتوكّل علينا

استرداده و إعادته مسطورا محفوظا.

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلّا أن يرحمك ربّك فيردّه عليك، كأنّ رحمته تتوكّل عليه بالردّ. و يجوز أن يكون استثناء منقطعا، بمعنى: و لكن رحمة من ربّك تركته غير مذهوب به. إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً كإرساله، و إنزال الكتاب عليه، و إبقائه في حفظه.

فعلى كلّ ذي علم أن لا يغفل عن هاتين النعمتين و القيام بشكرهما.

عن ابن مسعود: إنّ أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة، و آخر ما تفقدون الصلاة، و ليصلّينّ قوم و لا دين لهم، و إنّ هذا القرآن تصبحون يوما و ما فيكم منه شي ء. فقال رجل: كيف ذلك و قد أثبتناه في قلوبنا، و أثبتناه في مصاحفنا، نعلّمه أبناءنا، و يعلّمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال: يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء، ترفع المصاحف، و ينزع ما في القلوب.

ص: 68

[سورة الإسراء [17]: الآيات 88 الى 89]

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [88] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [89]

ثمّ احتجّ سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في البلاغة القصوى، و حسن النظم، و كمال المعنى، و الفصاحة العليا لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ و فيهم العرب العرباء، و أرباب البيان، و أهل التحقيق. و هو جواب قسم محذوف دلّ عليه اللام الموطّئة، و لو لا هي لكان جواب الشرط بلا جزم، لكون الشرط ماضيا. وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً و لو تظاهروا على الإتيان به. و لعلّه لم يذكر الملائكة لأنّ إتيانهم بمثله لا

يخرجه عن كونه معجزا، و لأنّهم كانوا وسائط في إتيانه.

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا كرّرنا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير و البيان لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كلّ معنى هو كالمثل في غرابته و وقوعه موقعها في الأنفس فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلّا جحودا. و إنّما جاز ذلك و لم يجز: ضربت إلّا زيدا، لأنّه متأوّل بالنفي، كأنّه قيل: فلم يرضوا إلّا كفورا.

و لمّا تبيّن إعجاز القرآن، و انضمّت إليه المعجزات الأخر و البيّنات، و لزمتهم الحجّة و غلبوا، أخذوا يتعلّلون باقتراح الآيات تعنّتا، فعل المبهوت المحجوج المتعثّر في أذيال الحيرة.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 90 الى 93]

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [90] أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً [91] أَوْ تُسْقِطَ

ص: 69

السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً [92] أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً [93] وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي: لن نصدّقك حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي: تشقّق لنا من أرض مكّة، فإنّها قليلة الماء يَنْبُوعاً ينبع منه الماء في وسط مكّة. و قرأ الكوفيّون و يعقوب: نفجر بالتخفيف. و الينبوع عين غزيرة لا ينضب ماؤها. يفعول من:

نبع الماء، كيعبوب، و هو فرس كثير الجري، و نهر شديد الجري. من: عبّ الماء إذا زخر.

و عباب الماء معظمه و كثرته. و هذه الصفة للمبالغة.

أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ من الماء خِلالَها وسطها تَفْجِيراً تشقيقا، حتّى يجري الماء تحت الأشجار، أي: بستان

مشتمل على ذلك بحيث يجنّ أشجاره، أي: يستره.

أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي: قطعا قد تركّب بعضها على بعض، يعنون قوله تعالى: أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ (1). و هو كقطع لفظا و معنى. و قد سكّنه ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي و يعقوب في جميع القرآن إلّا في الروم (2). و ابن عامر إلّا في هذه السورة. و نافع و أبو بكر في غيرهما. و حفص فيما عدا الطور (3) و هو إمّا مخفّف من المفتوح، كسدرة و سدر، أو فعل بمعنى مفعول، كالطحن.

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا كفيلا بما تدّعيه، أي: شاهدا على صحّته، ضامنا

ص: 70


1- سبأ: 9.
2- الروم: 48.
3- الطور: 44.

لدركه. أو مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر. و هو حال من اللّه، أي: يقابلنا بحيث نشاهده.

و حال الملائكة محذوفة، لدلالتها عليها، كما حذف الخبر في قوله:

و من يك أمسى بالمدينة رحله فإنّي و قيّار بها لغريب

أو جماعة، فيكون حالا من الملائكة.

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب. و أصله: الزينة. أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي: في معارجها، بحذف المضاف وَ لَنْ نُؤْمِنَ لك لِرُقِيِّكَ لأجل رقيّك.

و هو ما يرقى به، أي: يتصاعد كالسلّم. حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ و كان فيه تصديقك.

عن ابن عبّاس: قال عبد اللّه بن أبي أميّة: لن نؤمن لك حتّى تتّخذ إلى السماء سلّما، ثمّ ترقى فيه و أنا أنظر حتّى تأتيها، ثمّ تأتي معك بصكّ منشور، معه أربعة من الملائكة، يشهدون لك أنّك كما تقول.

و ما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلّا العناد و اللجاج، و لهذا قال عزّ اسمه:

قُلْ سُبْحانَ رَبِّي تعجّبا من اقتراحاتهم، أو تنزيها

للّه من أن يأتي أو يتحكّم عليه أو يشاركه أحد في القدرة. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: قال سبحان ربّي، أي: قال الرسول. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً كسائر الناس رَسُولًا كسائر الرسل، و كانوا لا يأتون قومهم إلّا بما يظهره اللّه عليهم على ما يلائم حال قومهم، و لم يكن أمر الآيات إليهم، و لا لهم أن يتحكّموا على اللّه، فما لكم تقترحون عليّ و أنا مثلهم لا أقدر بنفسي أن آتي بها؟! هذا هو الجواب المجمل. و أمّا التفصيل فقد ذكر في آيات أخر، كقوله تعالى:

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ (1). وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (2).

ص: 71


1- الأنعام: 7.
2- الحجر: 14.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 94 الى 100]

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [94] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً [95] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [96] وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [97] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [98]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً [99] قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً [100]

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى و ما منعهم الإيمان، أي: ما صرفهم عنه بعد نزول الوحي و ظهور الحقّ إِلَّا أَنْ قالُوا إنكارا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا إلّا قولهم هذا. و المعنى: أنّه لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، إلّا إنكارهم أن يرسل اللّه بشرا.

ص: 72

قُلْ جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي بنو آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لتمكّنهم من الاجتماع به و التلقّي منه. و أمّا الإنس فعامّتهم عماة عن إدراك الملك و التلقّف منه، فإنّ ذلك مشروط بنوع من التناسب و التجانس.

إن قيل: إذا جاز أن يكون الرسول إلى النبيّ ملكا ليس من جنسه، فلم لم يجز أن يكون الرسول إلى الناس أيضا ملكا ليس من جنسهم؟! قلنا: إنّ صاحب المعجزة قد اختير للنبوّة، فصارت حاله مقاربة لحال الملك، و ليس كذلك غيره من الأمّة، فيجوز أن يرى الملائكة كما يرى بعضهم بعضا، بخلاف الأمّة. و أيضا فإنّ النبيّ يحتاج إلى معجزة تعرف بها رسالة نفسه، كما احتاجت إليه الأمّة، فجعل اللّه تعالى المعجزة رؤيته الملك.

و «ملكا» يحتمل أن يكون حالا من «رسولا» و أن يكون موصوفا به. و كذلك «بشرا». و الأوّل أوفق.

قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ على أنّي رسول اللّه إليكم بإظهاره المعجزة على وفق دعواي. أو على أنّي بلّغت ما أرسلت به إليكم، و أنّكم عاندتم. و «شهيدا» نصب على الحال أو التمييز. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم أحوالهم الباطنة منها و الظاهرة، فيجازيهم عليها. و فيه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تهديد للكفّار.

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ توفيقا و لطفا فَهُوَ الْمُهْتَدِ حقيقة وَ مَنْ يُضْلِلْ تخلية و خذلانا فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ أنصارا يهدونه وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ يسحبون عليها، كقوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ (1).

أو يمشون بها.

روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إنّ الّذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم».

ص: 73


1- القمر: 48.

عُمْياً لا يبصرون ما يقرّ أعينهم وَ بُكْماً لا يسمعون ما يلذّ مسامعهم وَ صُمًّا لا ينطقون بما يقبل منهم، لأنّهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات و العبر، و تصامّوا عن استماع الحقّ، و أبوا أن ينطقوا بالصدق. و يجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار مسلوبي الحواسّ، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنّهم يقرءون و يتكلّمون.

مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ بأن أكلت جلودهم و لحومهم و أفنتها فسكن لهبها زِدْناهُمْ سَعِيراً توقّدا، بأن نبدّل جلودهم و لحومهم فتعود ملتهبة مستعرة، كأنّهم لمّا كذّبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم اللّه بأن لا يزالوا على الإعادة و الإفناء. و إليه أشار بقوله:

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من عذابهم جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً مرّ معناه (1).

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أو لم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإنّهم ليسوا أشدّ خلقا منهنّ، و لا الإعادة أصعب عليه من الإبداء وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ هو الموت أو القيامة. و هو

معطوف على قوله: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا». فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحقّ إِلَّا كُفُوراً جحودا.

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ مرفوع بفعل يفسّره ما بعده. و فائدة هذا الحذف و التفسير المبالغة مع الإيجاز، و الدلالة على الاختصاص. تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه و سائر نعمه إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ لبخلتم مخافة النفاد بالإنفاق، إذ لا أحد إلّا و يختار النفع لنفسه، و لو آثر غيره بشي ء فإنّما يؤثره لعوض يفوقه، فهو إذن بخيل بالإضافة إلى جود اللّه و كرمه. و لقد بلغ هذا الوصف بالشحّ الغاية الّتي لا يبلغها الوهم.

و قيل: هؤلاء أهل مكّة الّذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع و الأنهار و غيرها، و انّهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لبخلوا بها.

ص: 74


1- راجع ص 42 ذيل الآية 49.

وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً بخيلا، لأنّ بناء أمره على الحاجة و الضنّة بما يحتاج إليه، و ملاحظة العوض فيما يبذله.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 101 الى 104]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [101] قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [102] فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً [103] وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [104]

ثمّ ذكر سبحانه قصّة موسى عليه السّلام، و معاندة أمّته و مكابرتهم و اقتراحاتهم، كصناديد قريش، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ هي: العصا، و اليد، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و انفجار الماء من الحجر، و انفلاق البحر، و نتق الطور على رؤوس

بني إسرائيل، و عن الحسن: الطوفان، و السنون، و نقص الثمرات مكان الثلاثة الأخيرة. و قيل: المراد بالآيات الأحكام العامّة الثابتة في كلّ الشرائع.

و عن صفوان بن عسال: أنّ يهوديّا سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنها، فقال: أوحى اللّه إلى موسى أن قل لبني إسرائيل: أن لا تشركوا باللّه شيئا، و لا تسرقوا، و لا تزنوا، و لا تقتلوا النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، و لا تسحروا، و لا تأكلوا الربا، و لا تمشوا ببري ء إلى ذي سلطان ليقتله، و لا تقذفوا محصنة، و لا تفرّوا من الزحف. و أنتم يا يهود خاصّة: أن لا

ص: 75

تعدوا في يوم السبت. فقبّل اليهوديّ يده و رجله، و قال: أشهد أنّك نبيّ اللّه.

و على هذا سمّيت الشرائع بالآيات، لأنّها تدلّ على حال من يتعاطى متعلّقها في الآخرة من السعادة و الشقاوة. و قوله عليه السّلام: «أنتم يا يهود خاصّة أن لا تعتدوا»

حكم مستأنف زائد على الجواب، ليدلّ على إحاطة علمه بالكلّ، و لذلك غيّر فيه مساق الكلام.

فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ فقلنا له: سلهم من فرعون ليرسلهم معك، أو سلهم عن حال دينهم، أو سلهم أن يعاضدوك، و تكون قلوبهم و أيديهم معك. و قوله: إِذْ جاءَهُمْ متعلّق ب: قلنا. أو معناه: فأسال يا محمّد بني إسرائيل- و هم عبد اللّه ابن سلام و أحزابه- عمّا جرى بين موسى و فرعون إذ جاءهم. أو عن الآيات ليظهر للمشركين صدقك. أو لتعلم أنّه تعالى لو أتى بما اقترحوا لأصرّوا على العناد و المكابرة كمن قبلهم. أو ليزداد يقينك، لأنّ تظاهر الأدلّة يوجب قوّة اليقين و طمأنينة القلب، كقول إبراهيم: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1).

و على هذا كان «إذ» نصبا ب «آتينا»، أو بإضمار: يخبروك، على أنّه جواب الأمر، أو بإضمار: اذكر، على الاستئناف.

فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً سحرت فتخبّط عقلك. قيل:

معناه: إنّك ساحر، فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال: مشؤوم و ميمون في معنى:

شائم و يامن.

قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون. و قرأ الكسائي بالضمّ على إخباره عن نفسه، كما روي أنّ عليّا عليه السّلام قال: «و اللّه ما علم عدوّ اللّه، و لكن موسى هو الّذي علم».

فقال: لقد علمت ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ يعني: الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ بيّنات مكشوفات تبصّرك صدقي، و لكنّك تعاند و تكابر. و نحوه: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها

ص: 76


1- البقرة: 260.

أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (1). و انتصابه على الحال.

وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً مصروفا عن الخير، مطبوعا على الشرّ، من قولك: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما صرفك؟ أو هالكا. قارع ظنّه بظنّه، كأنّه قال: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنّك مثبورا، و شتّان ما بين الظنّين، فإنّ ظنّ فرعون كذب بحت، و ظنّ موسى يحوم حوم اليقين من تظاهر أماراته، و لهذا فسّر الظنّ هاهنا بمعنى العلم.

فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أن يستخفّ موسى و قومه و ينفيهم مِنَ الْأَرْضِ أرض مصر، أو الأرض مطلقا، بالقتل و الاستئصال فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً فعكسنا عليه مكره، و استفززناه و قومه بالإغراق.

وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد فرعون، أو إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ الّتي أراد أن يستفزّكم منها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ الكرّة، أو الحياة، أو الساعة، أو الدار الآخرة، يعني: قيام القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً مختلطين إيّاكم و إيّاهم، ثمّ نحكم بينكم، و نميّز سعداءكم من أشقيائكم. و اللفيف: الجماعات من قبائل شتّى.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 105 الى 109]

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً [105] وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً [106] قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً [107] وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً [108] وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [109]

ص: 77


1- النمل: 14.

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ تقديم الجارّ لإفادة الحصر، أي: و ما أنزلنا القرآن إلّا ملتبسا بالحقّ المقتضي لإنزاله. و كذلك قوله: وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ أي: ما نزل إلّا ملتبسا بالحقّ و الحكمة، لاشتماله على الهداية إلى كلّ خير.

و قيل: معناه: و ما أنزلناه من السماء إلّا محفوظا بالرصد من الملائكة، و ما نزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا محفوظا بهم من تخليط الشيطان. و يحتمل أن يريد به نفي اعتراء البطلان له أوّل الأمر و آخره.

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَ نَذِيراً للعاصي بالعقاب. فلا عليك- من إكراه على الدين أو نحو ذلك- إلّا التبشير و الإنذار.

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ منصوب بفعل يفسّره «فرقناه»، أي: نزّلناه مفرّقا منجّما. و قيل:

فرقنا فيه الحقّ من الباطل، فحذف الجارّ، كما في قوله: و يوما شهدناه. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ على مهل و تؤدة و تثبّت، فإنّه أيسر للحفظ و أعون في الفهم وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: لئن أقرأ سورة البقرة و أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن جميعا.

و عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: لا تقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث، و اقرأه في سبع.

قُلْ آمِنُوا بِهِ بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإنّ إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا، و امتناعكم عنه لا يورّثه نقصانا. هذا أمر بالإعراض عنهم و احتقارهم و الازدراء بشأنهم، و أن لا يكترث بهم و بإيمانهم و بامتناعهم عنه، و إن لم يدخلوا في الايمان و لم يصدّقوا بالقرآن، و هم أهل جاهليّة و شرك.

قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ تعليل له: أي: إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم، و هم العلماء الّذين قرءوا الكتب السابقة، و عرفوا حقيقة الوحي و أمارات النبوّة، و تمكّنوا من الميز بين المحقّ و المبطل، أو رأوا نعتك و صفة ما أنزل إليك

ص: 78

في تلك الكتب، و هم عبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و يجوز أن يكون تعليلا ل «قل» على سبيل التسلية له و تطييب نفسه، كأنّه قيل:

تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة، و لا تكترث بإيمانهم و إعراضهم.

إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر اللّه، أو شكرا لإنجاز وعده في تلك الكتب ببعثة محمّد على فترة من الرّسل، و إنزال القرآن عليه.

وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها لرّبنا عزّ اسمه عن خلف الموعد إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إنّه كان وعده كائنا لا محالة.

وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرّره لاختلاف الحال و السبب، فإنّ الأوّل للشكر عند إنجاز الوعد، و الثاني لما أثّر فيهم من مواعظ القرآن، حال كونهم باكين من خشية اللّه، تواضعا للّه، و استسلاما لأمره و طاعته. و ذكر الذقن الّذي هو مجمع اللّحيين، لأنّه أوّل ما يلقى الأرض من وجد السّاجد. و اللّام فيه لاختصاص

الخرور (1) به. وَ يَزِيدُهُمْ سماع القرآن خُشُوعاً كما يزيدهم علما و يقينا باللّه.

[سورة الإسراء [17]: الآيات 110 الى 111]

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً [110] وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً [111]

ص: 79


1- الخرور مصدر: خرّ للّه ساجدا، أي: انكبّ على الأرض و سجد.

عن ابن عبّاس: أنّ أبا جهل سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: يا اللّه يا رحمن، فقال: إنّه ينهانا أن نعبد إلهين و يدعو إلها آخر.

و قيل: إنّ أهل الكتاب قالوا: إنّك لتقلّ ذكر الرحمن، و قد أكثر اللّه في التوراة هذا الاسم، فنزلت: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «أو» على الأوّل (1) للتسوية بين إطلاق اللفظين على المعبود. و على الثاني « (2)» أنّهما سيّان في حسن الإطلاق و الإفضاء إلى المقصود. و على التقديرين «أو» للتخيير و الإباحة، أي: إن دعوتم بأحدهما كان جائزا، و إن دعوتم بهما كان جائزا، كما قال: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و الدعاء في الآية بمعنى التسمية لا النداء. و هو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا، حذف أولهما استغناء عنه، فيقال: دعوت زيدا. و التنوين في «أيّا» عوض عن المضاف إليه. و «ما» صلة لتأكيد ما في «أيّا» من الإبهام، أي: أيّ هذين الاسمين سمّيتم و ذكرتم فله الأسماء الحسنى. و الضمير في «فله» لمسمّاهما، و هو ذاته تعالى، لأنّ التسمية للذات لا للاسم. و كأنّ أصل الكلام:

أيّا ما تدعو فهو حسن. فوضع موضعه «فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة، لأنّه إذا حسنت أسماؤه كلّها حسن هذان الاسمان، لأنّهما منها.

و معنى كونها أحسن الأسماء أنّها مستقلّة بمعاني التمجيد و التقديس و التعظيم، و غيرها من صفات الجلال و الإكرام.

فبيّن سبحانه في هذه الآية أنّه سبحانه شي ء واحد، و إن اختلفت أسماؤه و صفاته.

و فيه دلالة على أنّه سبحانه لا يفعل القبيح، مثل الظلم و غيره، لأنّ أسماءه حينئذ لا تكون حسنة.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يرفع صوته بقراءة القرآن، فإذا سمعها المشركون لغوا و سبّوا، و كان ذلك في أوّل أمر الإسلام، فنزلت: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ بقراءة.

ص: 80


1- أي: على قول أبي جهل و قول أهل الكتاب.
2- أي: على قول أبي جهل و قول أهل الكتاب.

صلاتك حتّى تسمع المشركين، فإنّ ذلك يحملهم على السبّ و اللغو فيها وَ لا تُخافِتْ بِها حتّى لا تسمع من خلفك من المؤمنين وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ بين الجهر و المخافتة سَبِيلًا وسطا، فإنّ الاقتصاد في جميع الأمور محبوب. و لم يقل: بين ذينك، لأنّه أراد به الفعل، فهو مثل قوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ (1).

و قيل: معناه: و لا تجهر بصلاتك كلّها، و لا تخافت بها بأسرها، و ابتغ بين ذلك سبيلا، بالإخفات نهارا و الجهر ليلا.

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فيكون مربوبا لا ربّا، لأنّ ربّ الأرباب لا يجوز أن يكون له ولد وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهيّة، فيكون عاجزا محتاجا إلى غيره ليعينه، و هذا مناف للألوهيّة وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ أي: ناصر يواليه من أجل مذلّة به ليدفعها بموالاته.

نفى عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه و من غير جنسه، اختيارا و اضطرارا، و ما يعاونه و يقوّيه، تعالى اللّه عن صفة العجز و الاحتياج. و رتّب الحمد عليه للدلالة على أن من هذا وصفه هو الّذي يقدر على إيلاء كلّ نعمة، فهو الّذي يستحقّ جنس الحمد، لأنّه الكامل الذات، المنفرد بالإيجاد، المنعم على الإطلاق، و ما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه. و لذلك عطف عليه قوله: وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً و عظّمه تعظيما لا يساويه تعظيم و لا يقاربه.

و فيه تنبيه على أنّ العبد و إن بالغ في التنزيه و التمجيد، و اجتهد في العبادة و التحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقّه في ذلك.

و في هذه الآية ردّ على اليهود و النصارى حيث قالوا: اتّخذ اللّه الولد، و على مشركي العرب حيث قالوا: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك، و على الصابئين و المجوس حيث قالوا: لو لا أولياء اللّه لذلّ اللّه.

ص: 81


1- البقرة: 68.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا أفصح (1) الغلام من بني عبد المطلّب علّمه هذه الآية.

و روى إبراهيم بن الحكم عن أبيه قال: بلغني أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إنّي كثير الدّين كثير الهمّ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اقرأ آخر سورة بني إسرائيل:

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ حتّى تختم، ثمّ قل: توكّلت على الحيّ الّذي لا يموت، ثلاث مرّات».

ص: 82


1- في هامش النسخة الخطّية: «يقال: أفصح الغلام في منطقه، فهم ما يقول في أوّل ما يتكلّم. منه».

[18] سورة الكهف

اشارة

مكّيّة. و هي مائة و عشرة آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها فهو معصوم ثمانية أيّام من كلّ فتنة، فإن خرج الدجّال في تلك الثمانية أيّام عصمه اللّه من فتنة الدّجال. و من قرأ الآية الّتي في آخرها: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» الآية، حين يأخذ مضجعه، كان له نور يتلألأ إلى الكعبة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ».

سمرة بن جندب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضرّه فتنة الدجّال، و من قرأ السورة كلّها دخل الجنّة».

و عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ألا أدلّكم على سورة شيّعها سبعون ألف ملك حين نزلت، ملأت عظمتها ما بين السماء و الأرض؟ قالوا: بلى. قال: سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الاخرى و زيادة ثلاثة أيّام، و أعطي نورا ليبلغ السماء، و وقي فتنة الدجّال».

و روى الواقدي بإسناده عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثم أدرك الدجّال لم يضرّه، و من حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة».

و روى أيضا بالإسناد عن سعيد بن محمّد الجزمي، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستّة أيّام من كلّ فتنة تكون، فإن رأى الدجّال عصم منه».

ص: 83

و روى العيّاشي بإسناده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلّا شهيدا، و بعثه اللّه مع الشهداء، و أوقف يوم القيامة مع الشهداء» (1).

[سورة الكهف [18]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [1] قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [2] ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً [3] وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [4] ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً [5] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [6]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة بني إسرائيل بالتحميد و التوحيد و ذكر القرآن، افتتح سورة الكهف أيضا بالتحميد و ذكر القرآن و النبيّ، ليتّصل أوّل هذه بآخر تلك، اتّصال الجنس بالجنس، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْكِتابَ أي: القرآن، فبعثه نبيّا و رسولا. و رتّب استحقاق الحمد على إنزاله، تنبيها على أنّه أعظم نعمائه و أجزل آلائه، و ذلك لأنّه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، و الداعي إلى ما به ينتظم المعاش و المعاد.

وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً شيئا من العوج قطّ، باختلال في اللفظ و تناقض في

ص: 84


1- تفسير العيّاشي 2: 321 ح 1.

المعنى، أو انحراف من الدعوة إلى جانب الحقّ. و هو في المعاني كالعوج في الأعيان.

قَيِّماً مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه و لا تفريط. أو قيّما بمصالح العباد و ما لا بدّ لهم منه من الشرائع، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال. أو قيّما على الكتب السالفة، يشهد بصحّتها. أو دائما يدوم و يثبت إلى يوم القيامة.

و انتصابه بمضمر، تقديره: جعله قيّما. أو على الحال من الضمير في «له»، أو من «الكتاب» على أنّ الواو في «و لم» يجعل للحال دون العطف، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه، فإنّ الحال من تتمّة ذي الحال، و لذلك قيل:

فيه تقديم و تأخير.

ثمّ بيّن سبحانه الغرض في إنزاله، فقال: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً أي: لينذر العبد الّذي أنزل عليه الكتاب، الّذين كفروا، عذابا شديدا من عند اللّه، إن لم يؤمنوا به. فحذف المفعول الأوّل اكتفاء بدلالة القرينة، و اقتصارا على الغرض المسوق إليه. مِنْ لَدُنْهُ صادرا من عنده.

و قرأ أبو بكر بإسكان الدال مع إشمام الضمّة، ليدلّ على أصله، و كسر النون لالتقاء الساكنين، و كسر الهاء للإتباع.

وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً هو الجنّة ماكِثِينَ فِيهِ في الأجر أَبَداً بلا انقطاع.

وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً خصّهم بالذكر، و كرّر الإنذار متعلّقا بهم، استعظاما لكفرهم. و إنّما لم يذكر المنذر به استغناء بتقدّم ذكره.

ما لَهُمْ بِهِ أي: بالولد، أو باتّخاذه، أو بالقول به مِنْ عِلْمٍ يعني: أنّهم يقولونه عن جهل مفرط و توهّم كاذب، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم، من غير علم بالمعنى الّذي أرادوا به، فإنّهم كانوا يطلقون الأب و الابن بمعنى المؤثّر و الأثر، أو باللّه، إذ لو علموه لما جوّزوا نسبة الاتّخاذ إليه وَ لا لِآبائِهِمْ الّذين تقوّلوه، بمعنى التبنّي.

كَبُرَتْ كَلِمَةً عظمت مقالتهم هذه في الكفر، لما فيها من التشبيه و التشريك،

ص: 85

و إيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه و يخلفه، إلى غير ذلك من الزيغ.

و «كلمة» نصب على التمييز. و فيه معنى التعجّب، كأنّه قيل: ما أكبرها كلمة! و ضمير «كبرت» راجع إلى قولهم:

«اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً». و سمّيت كلمة كما يسمّون القصيدة بها.

تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم، فإنّ كثيرا ممّا يوسوسه الشيطان في قلوب الناس، و يحدّثون به أنفسهم من المنكرات، لا يتمالكون أن يتفوّهوا به و يطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا (1) من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟! و وصف الكلمة بالخروج من الأفواه توسّعا و مجازا، فإنّ الخارج بالذات هو الهواء الحامل لها. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً و افتراء على اللّه.

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي: قاتل نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إذا ولّوا عن الايمان. شبّهه حين تولّوا عنه و لم يؤمنوا به، لما تداخله من الوجد و الأسف على تولّيهم، برجل فارقه أحبّته و أعزّته، فهو يتساقط حسرات على آثارهم، و يبخع نفسه وجدا عليهم، و تلهّفا على فراقهم. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بهذا القرآن أَسَفاً للتأسّف عليهم.

و الأسف فرط الحزن و الغضب. يقال: رجل أسف و أسيف.

[سورة الكهف [18]: الآيات 7 الى 9]

إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [7] وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [8] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً [9]

إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان و النبات و المعادن زِينَةً لَها يعني:

ص: 86


1- أي: تباعدا من إظهاره، كأنّه عورة. و في الصحاح (2: 704): «الشوار: فرج المرأة و الرجل».

ما يصلح أن يكون زينة لها و لأهلها، من زخارف الدنيا و ما يستحسن منها لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنعامل عبادنا معاملة المبتلي أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أعمل بطاعة اللّه،

و أطوع له في تعاطيه. و هو: من زهد فيه، و لم يغترّ به، و قنع منه بما يزجّي (1) به أيّامه، و صرفه على ما ينبغي، و فيه تسكين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ زهّد العباد فيه بقوله: وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً هي الأرض الّتي قطع نباتها، من الجرز بمعنى القطع. و المعنى: إنّا لنعيد ما عليها من الزينة ترابا مستويا بالأرض، و نجعله كصعيد أملس لا نبات فيه، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، و إماطة حسنه، و إبطال ما به كان زينة.

أَمْ حَسِبْتَ أم منقطعة، و الخطاب للرسول، و المقصود أمّته. يعني: بل حسبت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ في إبقاء حياتهم مدّة مديدة كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أي: كانوا آية عجبا من آياتنا. وصفا بالمصدر، أو على: ذات عجب على تقدير المضاف.

و قصّتهم بالإضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس و الأنواع الّتي لا حصر لها، على طبائع متباعدة و هيئات متخالفة تعجب الناظرين، مع أنّها من مادّة واحدة، ثمّ ردّها إلى الأرض، ليس (2) بعجيب، مع أنّه من آيات اللّه كالنزر الحقير.

و الكهف: الغار الواسع في الجبل. و الرقيم قيل: اسم الجبل. و عن ابن عبّاس: إنّه اسم الوادي الّذي فيه كهفهم. أو اسم قريتهم، أو كلبهم، كما قال أميّة بن أبي الصلت:

و ليس بها إلّا الرقيم مجاوراو صيدهم و القوم في الكهف هجّد

و عن ابن سعيد: لوح رصاصيّ أو حجريّ رقمت فيه أسماؤهم، و جعل على باب الكهف.

و عن النعمان بن بشير مرفوعا: أنّ أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف، فانحطّت صخرة و سدّت بابه. فقال أحدهم: اذكروا أيّكم عمل حسنة، لعلّ اللّه يرحمنا ببركته.

ص: 87


1- زجّى يزجّي تزجية: دفع. يقال: كيف تزجّي أيّامك؟ أي: كيف تدفعها؟
2- خبر «و قصّتهم» قبل سطرين.

فقال أحدهم: استعملت أجراء ذات يوم، فجاء رجل وسط النهار و عمل في بقيّته مثل عملهم، فأعطيته مثل أجرهم، فغضب أحدهم و ترك أجره، فوضعته في جانب البيت. ثمّ مرّ بي بقر فاشتريت به فصيلة، فبلغت ما شاء اللّه، فرجع إليّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه، و قال لي: إنّ لي عندك حقّا، و ذكره لي حتّى عرفته، فدفعتها إليه جميعا.

اللّهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتّى رأوا الضوء.

و قال آخر: كان فيّ فضل، و أصابت الناس شدّة، فجاءتني امرأة فطلبت منّي معروفا، فقلت: و اللّه ما هو دون نفسك، فأبت و عادت ثمّ رجعت ثلاثا. ثمّ ذكرت لزوجها، فقال: أجيبي له و أغيثي عيالك. فأتت و سلّمت إليّ نفسها، فلمّا تكشّفتها و هممت بها ارتعدت. فقلت: مالك؟ فقالت: أخاف اللّه. فقلت لها: خفته في الشدّة و لم أخفه في الرخاء. فتركتها و أعطيتها ملتمسها. اللّهمّ إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنّا.

فانصدع حتّى تعارفوا.

و قال الثالث: كان لي أبوان همّان، و كانت لي غنم، و كنت أطعمهما و اسقيهما ثمّ أرجع إلى غنمي. فحبسني ذات يوم غيث، فلم أبرح حتى أمسيت فأتيت أهلي، و أخذت محلبي فحلبت فيه و مضيت إليهما، فوجدتهما نائمين، فشقّ عليّ أن أوقظهما، فتوقّعت جالسا و محلبي على يدي، حتّى أيقظهما الصبح، فسقيتهما. اللّهمّ إن فعلته لوجهك فافرج عنّا، ففرّج اللّه عنهم فخرجوا.

[سورة الكهف [18]: الآيات 10 الى 16]

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ

لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [10] فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [11] ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [12] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً [13]

ص: 88

وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً [14]

هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [15] وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً [16]

ثمّ بيّن سبحانه قصّة أصحاب الكهف بقوله: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي:

اذكر حين إذ أوى فتية من أشراف الروم، و هم آمنوا باللّه، و كانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم. و اسم ملكهم دقيانوس، و اسم مدينتهم أفسوس أو أطروس. و كان ملكهم يعبد الأصنام، و يدعو إليها، و يقتل من خالفه، فهربوا من دقيانوس لحفظ دينهم، و التجأوا إلى الكهف. فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً توجب لنا المغفرة و الرزق و الأمن من الأعداء وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفّار رَشَداً نصير بسببه راشدين مهتدين. أو اجعل أمرنا كلّه رشدا، كقولك: رأيت منك أسدا. و أصل التهيئة إحداث هيئة الشي ء.

فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي: فضربنا عليها حجابا يمنع السماع. يعني: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبّههم فيها الأصوات. فحذف المفعول، كما حذف في قولهم: بنى على امرأته، يريدون: بني عليها القبّة. فِي الْكَهْفِ سِنِينَ ظرفان ل «ضربنا» عَدَداً أي:

ذوات عدد. و وصف السنين به يحتمل أن يريد التكثير و التقليل، فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده.

ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ ليتعلّق علمنا تعلّقا استقباليّا مطابقا لمتعلّقه.

ص: 89

يعني: ليظهر معلومنا على ما علّمناه. أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين منهم في مدّة لبثهم.

و ذلك قوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ (1). أو المختلفين من غيرهم في مدّة لبثهم. أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ضبط أمدا لزمان لبثهم. و ما في «أيّ» من معنى الاستفهام علّق عنه «لنعلم» يعني: لم يعمل فيه. فهو مبتدأ و «أحصى» خبره. و هو فعل ماض، و «أمدا» مفعوله، و «لما لبثوا» حال منه أو مفعول له.

و قيل: إنّه المفعول، و اللام مزيدة، و «ما» موصولة، و «أمدا» تمييز.

و قيل: «أحصى» اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد، كقولهم: هو أحصى للمال، و أفلس من ابن المذلّق.

و قال صاحب الكشّاف: «و هذا القول ليس بالوجه السديد، و ذلك أنّ بناءه من غير الثلاثيّ المجرّد ليس بقياس. و نحو: أعدى من الجرب و أفلس من ابن المذلّق شاذّ، و القياس على الشاذّ في غير القرآن ممتنع فكيف به؟ و لأنّ «أمدا» لا يخلوا: إمّا أن ينتصب بأفعل، و هو غير جائز، لأن أفعل لا يعمل. و إمّا أن ينتصب ب «لبثوا» فلا يسدّ عليه المعنى.

و إن زعمت أنّي أنصبه بإضمار فعل يدلّ عليه «أحصى» كما أضمر في قوله: و أضرب منّا بالسيوف القوانسا (2)، على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول و هو قريب، حيث أبيت أن يكون «أحصى» فعلا، ثمّ رجعت مضطرّا إلى تقديره و إضماره» (3).

نَحْنُ نَقُصُ أي: نتلو عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ خبرهم بالصدق و الصحّة إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ شبّان. جمع فتيّ، كصبيّ و صبية. آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً بالتثبيت.

ص: 90


1- الكهف: 19.
2- في هامش النسخة الخطّية: «القوانس: أعلى البيضة من الحديد و القونس. منه». يعني: أعلى بيضة الفارس و أعلى رأس الفرس.
3- الكشّاف 2: 705.

وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي: قوّيناها بالصبر على هجر الأوطان و الأهل و المال، و الفرار بالدين إلى بعض الغيران (1)، و جسّرناهم على القيام بكلمة الحقّ و التظاهر بالإسلام إِذْ قامُوا بين يديه من غير مبالاة حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً و اللّه لقد قلنا قولا ذا شطط، أي: ذا بعد عن الحقّ مفرط في الظلم، من: شطّ إذا بعد.

هؤُلاءِ مبتدأ قَوْمُنَا عطف بيان اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً خبره. و هو إخبار في معنى الإنكار. ثمّ بكّتوهم بقولهم: لَوْ لا يَأْتُونَ هلّا يأتون عَلَيْهِمْ على عبادتهم، بحذف المضاف بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ببرهان ظاهر، فإنّ الدين لا يؤخذ إلّا به.

و فيه دليل على أنّ ما لا دليل عليه من الديانات مردود، و أن التقليد فيه غير جائز. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه.

وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب من بعضهم لبعض حين صمّمت عزيمتهم على الفرار بدينهم وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ عطف على الضمير المنصوب، أي: و إذ اعتزلتم القوم و معبوديهم إلّا اللّه. و يجوز أن تكون «ما» مصدريّة على تقدير: و إذ اعتزلتموهم و عبادتهم إلّا عبادة اللّه. و أن تكون نافية، على أنّه إخبار من اللّه تعالى عن الفتية بالتوحيد، معترض بين «إذ» و جوابه، لتحقيق اعتزالهم. و الاستثناء يجوز أن يكون متّصلا،

فإنّهم كانوا يعبدون اللّه و يعبدون الأصنام، كسائر المشركين. و يجوز أن يكون منقطعا.

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ يبسط الرزق لكم و يوسّع عليكم مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ما ترتفقون به، أي: تنتفعون.

و جزمهم بذلك لخلوص يقينهم، و قوّة وثوقهم بفضل اللّه.

و قرأ نافع و ابن عامر: مرفقا بفتح الميم و كسر الفاء. و هو مصدر جاء شاذّا، كالمرجع و المحيض، فإنّ قياسه الفتح.

ص: 91


1- جمع الغار.

[سورة الكهف [18]: الآيات 17 الى 21]

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [17] وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [18] وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [19] إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [20] وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [21]

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في الكهف، فقال: وَ تَرَى الشَّمْسَ أي: لو رأيتهم.

و الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ أحد. إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ تميل عنه، و لا

ص: 92

يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم، لأنّ الكهف كان جنوبيّا، أو لأنّ اللّه زوّرها عنهم. و أصله:

تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي. و قرأ الكوفيّون بحذفها، و ابن عامر و يعقوب: تزوّر، ك:

تحمّر. و كلّها من الزور، و هو الميل، و منه: زاره إذا مال إليه: ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين.

و حقيقتها الجهة المسمّاة باليمين.

وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ تقطعهم و تصرم عنهم و لا تقربهم ذاتَ الشِّمالِ يعني:

يمين الكهف و شماله، لقوله: وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: و هم في متّسع من الكهف.

و المعنى: أنّهم في ظلّ نهارهم كلّه لا تصيبهم الشمس في طلوعها و لا غروبها، مع أنّهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس، ينالهم فيه روح الهواء و برد النسيم، و لا يحسّون كرب الغار، و ذلك لأنّ باب الكهف شماليّ مستقبل لبنات نعش، فتميل عنهم الشمس طالعة و غاربة، فهم في مقنأة (1) أبدا.

ذلِكَ أي: شأنهم و إبواؤهم إلى كهف شأنه كذلك، أو ازورار الشمس و قرضها طالعة و غاربة، أو إخبارك هذا مِنْ آياتِ اللَّهِ من أدلّته و براهينه مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بالتوفيق فَهُوَ الْمُهْتَدِ الّذي أصاب الفلاح. و المراد به إمّا الثناء عليهم، أو التنبيه على أنّ أمثال هذه الآيات كثيرة، و لكنّ المنتفع بها من استرشد، فيوفّقه اللّه للتأمّل فيها و الاستبصار بها. وَ مَنْ يُضْلِلْ و من يخذله و يخلّه لفرط عناده و تصميمه على الكفر فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً من يليه و يرشده.

وَ تَحْسَبُهُمْ أي: لو رأيتهم لحسبتهم أَيْقاظاً لانفتاح عيونهم، أو لكثرة تقلّبهم. جمع يقظ، كأنكاد في نكد وَ هُمْ رُقُودٌ نيام في الحقيقة وَ نُقَلِّبُهُمْ في رقدتهم ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ أي: تارة عن اليمين إلى الشمال، و تارة عن الشمال إلى اليمين، كما ينقلب النائم، لئلّا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان. قيل لهم تقلبتان في السنة. و قيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء.

ص: 93


1- المقنأة: الموضع الذي لا تطلع عليه الشمس.

وَ كَلْبُهُمْ هو كلب مرّوا به فتبعهم فطردوه، فأنطقه اللّه تعالى فقال: أنا أحبّ أحبّاء اللّه فناموا و أنا أحرسكم. أو كلب راع مرّوا به فتبعهم و تبعه الكلب. و قيل: كان كلب صيدهم، و هو أصفر اللون. و عن ابن عبّاس: أنمر (1)، و اسمه قطمير. و عن الحسن: أنّ ذلك الكلب مكث هناك ثلاثمائة و تسع سنين بغير شراب و طعام، و لا نوم و لا قيام.

باسِطٌ ذِراعَيْهِ حكاية حال ماضية، و لذلك أعمل اسم الفاعل. و المعنى:

و يلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع. بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف. و قيل:

الوصيد الباب. و قيل: العتبة. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم لَوَلَّيْتَ أي: لهربت مِنْهُمْ فِراراً نصبه بالمصدريّة، لأنّه نوع من التولية، أو بالعلّية، أو الحاليّة وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً خوفا يملأ صدرك، بما ألبسهم اللّه من الهيبة، أو لعظم أجرامهم و انفتاح عيونهم، و قيل: لطول أظفارهم و شعورهم. و قيل: لوحشة مكانهم.

و قرأ الحجازيّان: لملّئت بالتشديد، للمبالغة. و ابن عامر و الكسائي و يعقوب:

رعبا بالتثقيل. و كلاهما بمعنى الخوف الّذي يرعب الصدر، أي: يملؤه.

و عن معاوية: أنّه غزا الروم فمرّ بالكهف، فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم! فقال له ابن عبّاس: ليس ذلك لك، قد منع اللّه ذلك من هو

خير منك، فقال: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً». فلم يسمع، و بعث أناسا فلمّا دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم.

وَ كَذلِكَ و كما أنمناهم آية بَعَثْناهُمْ آية و ادّكارا بكمال قدرتنا لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ليسأل بعضهم بعضا فيتعرّفوا حالهم و ما صنع اللّه بهم، فيزدادوا يقينا على كمال قدرة اللّه، و يستبصروا به أمر البعث، و يشكروا ما أنعم اللّه تعالى به عليهم.

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بناء على غالب ظنّهم، لأنّ النائم لا يحصي مدّة نومه، و لذلك أحالوا العلم إلى اللّه قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ و يجوز أن يكون القول الأوّل قول بعضهم، و الثاني إنكار الآخرين عليهم. و عن ابن

ص: 94


1- الأنمر: ما فيه نقط سود. يقال: أسد أنمر، أي: فيه غبرة و سواد.

عبّاس: أنّ قائل هذا القول هو تمليخا رئيسهم.

و قيل: إنّهم دخلوا الكهف غدوة و انتبهوا ظهيرة، فظنّوا أنّهم في يومهم أو اليوم الّذي بعده قالوا ذلك، فلمّا نظروا إلى طول أظفارهم و أشعارهم قالوا هذا.

ثمّ لمّا علموا أنّ الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا في شي ء آخر ممّا يهمّهم و قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ و الورق الفضّة مضروبة كانت أو غيرها. و قرأ أبو عمرو و حمزة و أبو بكر و روح عن يعقوب بالتخفيف. و تزوّدهم عند فرارهم دليل على أنّ حمل النفقة و ما يصلح المسافر هو رأي المتوكّلين على اللّه، دون المتّكلين على الاتّفاقات، و على ما في أوعية القوم من النفقات. عن ابن عبّاس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الّذي كان في زمانهم.

فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أيّ أهلها أَزْكى طَعاماً أحلّ و

أطيب. و عن ابن عبّاس: أطهر و أحلّ ذبيحة، لأنّ عامّتهم كانت مجوسا، و فيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. و قيل: أكثر و أرخص. فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ و ليتكلّف اللطف في المعاملة حتّى لا يغبن.

أو في التخفّي حتى لا يعرف. وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً و لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى الشعور.

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ إن يطّلعوا عليكم و يعلموا مكانكم، أو يظفروا بكم.

و الضمير للأهل المقدّر في «أيّها». يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم، و هو من أخبث القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أو يصيّروكم إليها كرها، من العود بمعنى الصيرورة. و التقيّة في ذلك الوقت لم تكن جائزة في إظهار الكفر. و قيل: كانوا أوّلا على دينهم فآمنوا. و المعنى:

يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه إلى دينهم الّذي كنّا نتديّن به قبل ذلك الوقت.

وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن دخلتم في ملّتهم.

وَ كَذلِكَ و كما أنمناهم و بعثناهم لتزداد بصيرتهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أطلعنا عليهم لِيَعْلَمُوا ليعلم الّذين أطلعنا عليهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث أو الموعود الّذي هو البعث حَقٌ لأنّ نومهم و انتباههم كحال من يموت ثمّ يبعث وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها و أنّ القيامة لا ريب في إمكانها، فإنّ من توفّى نفوسهم و أمسكها ثلاثمائة سنين،

ص: 95

حافظا أبدانها عن التحلّل و التفتّت، ثمّ أرسلها إليها، قدر أن يتوفّى نفوس جميع الناس، ممسكا إيّاها إلى أن يحشر أبدانهم فيردّها عليها.

إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف ل «أعثرنا» أي: أعثرنا عليهم حين يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أمر دينهم، و كان بعضهم يقول: تبعث الأرواح مجرّدة، و بعضهم يقول: يبعثان معا، ليرتفع الخلاف، و يتبيّن أنّهما يبعثان معا كما كانت قبل الموت. أو أمر الفتية

حين أماتهم اللّه ثانيا بالموت، فقال بعضهم: ماتوا، و قال آخرون: ناموا نومهم أوّل مرّة. أو قالت طائفة: نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس و يتّخذونه قرية، و قال آخرون: لنتّخذنّ عليهم مسجدا يصلّى فيه، كما قال عزّ اسمه: فَقالُوا أي: بعضهم ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي:

على باب الكهف، لئلّا يتطرّق إليهم الناس ضنّا بتربتهم، و محافظة عليها، كما حفظت تربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحظيرة.

و قوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ معترض بينه و بين قوله: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا أي:

أطّلعوا عَلى أَمْرِهِمْ يعني: الملك و أصحابه المؤمنين باللّه لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً متعبّدا للعبادة. و الاعتراض إمّا من اللّه ردّا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين. أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول. أو من المتنازعين للردّ إلى اللّه بعد ما تذاكروا أمرهم، و تناقلوا الكلام في أنسابهم و أحوالهم، فلم يتحقّق لهم ذلك.

و تفصيل هذه القصّة على ما قاله المفسّرون: أنّ أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا، و طغت ملوكهم حتّى عبدوا الأصنام و أكرهوا على عبادتها. و ممّن شدّد في ذلك دقيانوس، فأراد أن يحمل فئة من أشراف قومه على الشرك، و توعّدهم بالقتل، فأبوا إلّا الثبات على الإيمان و التصلّب فيه، ثمّ هربوا من ملكهم و دخلوا الكهف، فاطّلع الملك على مكانهم، فأمر أن يسدّ عليهم باب الكهف، و يدعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا و جوعا، و ليكن كهفهم الّذي اختاروا قبرا لهم، و هو يظنّ أنّهم أيقاظا.

ثمّ إنّ رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية و أنسابهم و أسماءهم و خبرهم في لوح من رصاص، و جعلاه في تابوت من نحاس، و جعلا التابوت في البنيان الّذي بنوا على باب

ص: 96

الكهف، و قالا: لعلّ اللّه يظهر على هؤلاء الفئة قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، ليعلموا خبرهم حين يقرءون هذا الكتاب.

ثمّ انقرض أهل ذلك الزمان، و خلّفت بعدهم قرون و ملوك كثيرون، و ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له: ندليس. و قيل: بندوسيس. و تحزّب الناس في ملكه أحزابا، منهم من يؤمن باللّه و يعلم أنّ الساعة حقّ، و منهم من يكذّب. فكبر ذلك على الملك الصالح، و بكى إلى اللّه و تضرّع و قال: أي ربّ قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبيّن لهم بها أنّ البعث حقّ، و أن الساعة آتية لا ريب فيها.

فألقى اللّه في قلب رجل من أهل تلك البقعة الّتي بها الكهف أن يهدم البنيان الّذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، ففعل ذلك. و بعث اللّه الفتية من نومهم، فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما. فلمّا دخل السوق أخرج الدرهم و كان عليه اسم دقيانوس، اتّهموه بأنّه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك، و كان نصرانيّا موحّدا. فقصّ عليهم القصص.

قال بعضهم: إنّ آباءنا أخبرونا أنّ فتية فرّوا بدينهم من دقيانوس، فلعلّهم هؤلاء.

فانطلق الملك و أهل المدينة من مؤمن و كافر، و أبصروهم و كلّموهم. ثمّ قال الفتية للملك: نستودعك اللّه، و نعيذك به من شرّ الجنّ و الإنس. ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم. فبنى الملك عليهم مسجدا.

و قيل: لمّا انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانكم حتّى أدخل أوّلا لئلّا يفزعوا.

فدخل فعمي عليهم المدخل، فبنوا ثمّ مسجدا.

[سورة الكهف [18]: آية 22]

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [22]

ص: 97

ثمّ بيّن سبحانه تنازعهم في عددهم، فقال: سَيَقُولُونَ سيقول قوم من المختلفين في عددهم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من أهل الكتاب و المؤمنين: ثَلاثَةٌ ثلاثة رجال رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ يربّعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل: هو قول اليهود. و قيل:

قول السيّد من نصارى نجران، و كان يعقوبيّا. وَ يَقُولُونَ و يقول آخرون: هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ قاله النصارى، أو العاقب، و كان نسطوريّا.

رَجْماً بِالْغَيْبِ يرمون رميا بالخبر الخفيّ الّذي لا مطلع لهم عليه، كقوله:

و يقذفون بالغيب، أي: يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظنّ، فكأنّه قيل: ظنّا بالغيب، لأنّهم أكثروا أن يقولوا: رجم بالظنّ، مكان قولهم: ظنّ، حتّى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. و إنّما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما يكون السين فيه.

وَ يَقُولُونَ و يقول آخرون: هم سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ إنّما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبرئيل، و إيماء اللّه إليه، بأن أتبعه قوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ و أتبع الأوّلين قوله: «رَجْماً بِالْغَيْبِ».

و بأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإنّ عدم إيراد رابع في نحو هذا المحلّ دليل العدم، مع أنّ الأصل ينفيه. ثمّ ردّ الأوّلين بأن أتبعهما قوله: «رجما بالغيب» ليتعيّن الثالث.

و بأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة، تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، و الدلالة على أنّ اتّصافه بها أمر ثابت. و نظيره قوله تعالى: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (1). و نحو قولك:

جاءني رجل و معه آخر، و مررت بزيد و في يده سيف.

و قال ابن عبّاس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة، أي: لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها، و ثبت أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و الثبات. ثمّ قال: و أنا من ذلك القليل.

ص: 98


1- الحجر: 4.

و قيل: معناه: إلّا قليل من أهل الكتاب. و الضمير في «سيقولون» على هذا لأهل الكتاب خاصّة، أي: سيقول أهل الكتاب فيهم كذا و كذا، و لا علم بذلك إلّا في قليل منهم، و أكثرهم على الظنّ و التخمين.

و روي عن علي عليه السّلام: «هم سبعة و ثامنهم كلبهم. و أسماؤهم: يمليخا، و مكشلينيا، و مشلينيا. هؤلاء أصحاب يمين الملك. و مرنوش، و دبرنوش، و شاذنوش، أصحاب يساره. و كان يستشيرهم. و السابع: الراعي الّذي وافقهم. و اسم كلبهم قطمير».

فَلا تُمارِ فِيهِمْ و لا تجادل في شأن أصحاب الكهف مع الخائضين فيهم إِلَّا مِراءً ظاهِراً إلّا جدالا ظاهرا غير متعمّق فيه، و هو أن تقصّ عليهم ما أوحي إليك فحسب، من غير تجهيل لهم، و لا تعنيف بهم في الردّ عليهم، فإنّه يخلّ بمكارم الأخلاق، كما قال: وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً و لا تسأل أحدا منهم عن قصّتهم سؤال مسترشد، فإنّ فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنّه لا علم لهم بها. و لا سؤال متعنّت، حتّى يقول شيئا فتردّه عليه و تزيّف ما عنده، لأنّ ذلك ما وصيت به من المداراة و المجاملة.

[سورة الكهف [18]: الآيات 23 الى 24]

وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [23] إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً [24]

و روي عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير: أنّ النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة، و قالوا لهما: سلاهم عن محمّد، و صفا لهم صفته، و أخبراهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، و عندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتّى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قالا لهم ما قالت قريش.

ص: 99


1- النحل: 125.

فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، و إن لم يفعل فهو رجل متقوّل. اسألوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. و اسألوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها، ما كان نبؤه؟ و اسألوه عن الروح. و في رواية أخرى: فإن أخبركم عن الثنتين و لم يخبركم بالروح فهو نبيّ.

فانصرفا إلى مكّة فقالا: يا معاشر قريش قد جئنا بفصل ما بينكم و بين محمّد.

و قصّا عليهم القصّة.

فجاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه. فقال: أخبركم بما سألتم غدا، و لم يستثن. فانصرفوا عنه. فمكث صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمس عشرة ليلة- و قيل: عشرا، و قيل: أربعين- لا يحدث اللّه له في ذلك وحيا، و لا يأتيه جبرئيل، حتّى أرجف أهل مكّة و تكلّموا في ذلك، فكذّبوا نبوّته. فشقّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يتكلّم به أهل مكّة. ثمّ جاءه جبرئيل عليه السّلام عن اللّه، فقرأ

على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ

هذا نهي تأديب من اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا نهي تحريم، لأنّه لو لم يقل ذلك لم يأثم بلا خلاف. و الاستثناء متعلّق بالنهي خاصّة، أي: و لا تقولنّ لأجل شي ء تعزم عليه إنّي فاعل غدا- أي: فيما يستقبل- إلّا بأن يشاء اللّه، أي: إلّا ملتبسا بمشيئته قائلا: إن شاء اللّه، أو إلّا وقت أن يشاء اللّه أن تقوله، بأن أذن لك فيه. و لا يجوز تعليقه ب «إنّي فاعل»، لأنّه لو قال: إنّي فاعل كذا إلّا أن يشاء اللّه، كان معناه: إلّا أن تعترض مشيئة اللّه دون فعله، و ذلك ما لا مدخل فيه للنهي.

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل حين جاءه: «لقد احتبست عنّي يا جبرئيل. فقال له جبرئيل: و ما نتنزّل إلّا بأمر ربّك. فقصّ عليه هذه السورة المشتملة على قصّة أصحاب الكهف و الرجل الطوّاف، و قرأ عليه ما في سورة بني إسرائيل من قوله:

«وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي».

ص: 100

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ مشيئة ربّك و قل: إن شاء اللّه، كما روي أنّه لمّا نزل قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن شاء اللّه إِذا نَسِيتَ يعني: إذا غفلت عن كلمة الاستثناء، لاشتغالك بأمر آخر من الأوامر الشرعيّة، ثمّ تنبّهت عليها فتداركها.

و عن ابن عبّاس: يجوز تأخير الاستثناء في الأيمان و النذور و غير ذلك من العقود و الإيقاعات، كالإقرار و الطلاق، و لو بعد سنة ما لم يحنث، و لذلك جوّز تأخير الاستثناء عنه.

و عن سعيد بن جبير: و لو بعد يوم أو أسبوع. و عن طاووس: هو على ثنياه ما دام في مجلسه. و عن الحسن: نحوه. و عن عطاء: يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة.

و عند أصحابنا: لا أثر في الأحكام ما لم يكن موصولا، كما قال الصادق عليه السّلام: «ما لم ينقطع الكلام»، فإنّه لو صحّ التأخير العرفي لم يتقرّر إقرار و لا طلاق و لا عتاق، و لم يعلم صدق و لا كذب.

و يجوز أن يكون المعنى: و اذكر ربّك بالتسبيح و الاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، مبالغة في الحثّ عليه.

و قيل: و اذكر ربّك و عقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك. أو اذكره إذا اعتراك النسيان، ليذكّرك المنسيّ.

وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي يدلّني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي: لعلّ اللّه يؤتيني من البيّنات و الحجج على أنّي نبيّ صادق، ما هو أعظم في الدلالة و أقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف. و قد هداه لأعظم من ذلك، كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيّامهم، و الإخبار بالغيوب و الحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة.

و في الكشّاف (1): «و الظاهر أن يكون المعنى: إذا نسيت شيئا فاذكر ربّك. و ذكر ربّك عند نسيانه أن تقول: عسى ربّي أن يهديني لشي ء آخر بدل من هذا المنسيّ، أقرب

ص: 101


1- في الصفحة التالية.

منه رشدا، و أدنى خيرا و منفعة. و لعلّ النسيان كان خيرا، كقوله تعالى: أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها (1) (2).

[سورة الكهف [18]: الآيات 25 الى 26]

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً [25] قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [26]

ثمّ أخبر سبحانه عن مقدار مدّة لبثهم، فقال: وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً تسع سنين. يعني: لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدّة. و هو بيان لما أجمله في قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (3). و المعنى: قل اللّه أعلم من الّذين اختلفوا منهم مدّة لبثهم، و الحقّ ما أخبرك به.

و عن قتادة: أنّه حكاية أهل الكتاب، فإنّهم اختلفوا في مدّة لبثهم، كما اختلفوا في عدّتهم، فقال بعضهم: ثلاثمائة، و قال بعضهم: ثلاثمائة و تسع سنين.

و قرأ حمزة و الكسائي: ثلاثمائة سنين بالإضافة، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، و الأصل ثلاثمائة سنة. و من لم يضف أبدل السنين من ثلاثمائة. و قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ردّ عليهم. و المعنى: اللّه أعلم بلبثهم.

ثمّ ذكر اختصاصه بما غاب عن الناس، فقال: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني: له ما غاب فيهما، و خفي من أحوال أهلهما، و غيرها، فلا خلق يخفى عليه

ص: 102


1- البقرة: 106.
2- الكهف: 11.
3- البقرة: 106.

علما. و يؤكّد ذلك قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ فإنّه ذكر بصيغة التعجّب، للدلالة على أنّ أمره في الإدراك خارج عمّا عليه إدراك السامعين و المبصرين، لأنّه يدرك ألطف الأشياء و أصغرها، كما يدرك أكبرها حجما و أكثفها جرما، و يدرك البواطن كما يدرك الظواهر، فلا يحجبه شي ء، و لا يتفاوت دونه لطيف و كثيف، و صغير و كبير، و خفيّ و جليّ.

و الهاء تعود إلى اللّه، و محلّه الرفع على الفاعليّة. و الباء مزيدة عند سيبويه. و كان أصله: أبصر، أي: صار ذا بصر، ثمّ نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء، فبرز الضمير، لعدم بيان الصيغة له، أو لزيادة الباء، كما في قوله تعالى: وَ كَفى بِهِ (1). و النصب على المفعوليّة عند الأخفش، و الفاعل ضمير المأمور، و هو كلّ أحد. و الباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية، و معدّية إن كانت للصيرورة. و المعنى: ما أبصر اللّه لكلّ مبصر! و ما أسمعه لكلّ مسموع! فلا يخفى عليه شي ء.

ما لَهُمْ الضمير لأهل السماوات و الأرض مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ من يتولّى أمورهم وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه أَحَداً منهم، و لا يجعل له فيه مدخلا.

و قرأ ابن عامر و قالون عن يعقوب بالتاء و الجزم، على نهي كلّ أحد عن الإشراك.

[سورة الكهف [18]: آية 27]

وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [27]

و بعد ذكر أصحاب الكهف و بيان قصّتهم قال: وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ من القرآن، و لا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ (2) لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يقدر على تبديلها و تغييرها غيره وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملتجأ تعدل إليه إن هممت به.

ص: 103


1- النساء: 50.
2- يونس: 15

[سورة الكهف [18]: الآيات 28 الى 29]

وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [28] وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً [29]

روي أنّ قوما من رؤساء الكفرة قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نحّ هؤلاء الموالي الّذين كأنّ ريحهم ريح الضأن- و هم صهيب و عمّار و خبّاب، و غيرهم من فقراء المسلمين- حتّى نجالسك، كما قال نوح: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (1) فنزلت: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ و احبسها و ثبّتها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ في مجامع أوقاتهم، أو في طرفي النهار. و قرأ ابن عامر: بالغدوة. و فيه: أنّ غدوة علم في أكثر الاستعمال، فتكون اللام فيه على تأويل التنكير. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ رضا اللّه و طاعته.

وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ و لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم. و تعديته ب«عن» لتضمينه معنى: نبا و علا، في قولك: نبت عنه عينه و علت عنه عينه، إذا اقتحمته و لم تعلق به. و فائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين، و ذلك أقوى من إعطاء معنى فذّ. تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا حال من الكاف.

ص: 104


1- الشعراء: 111.

وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ من جعلنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا بالخذلان. أو نسبنا قلبه إلى الغفلة، كما يقال: أكفره إذا نسبه إلى الكفر. أو من: أغفل إبله إذا تركها بغير سمة، أي: لم نسمهم بالذكر، و لم نجعلهم من الّذين كتبنا في قلوبهم الايمان. و قد أبطل اللّه تعالى توهّم المجبّرة بقوله: وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي: تقدّما على الحقّ، و نبذا له وراء ظهره. يقال: فرس فرط، أي: متقدّم للخيل. و منه الفرط.

و فيه تنبيه على أنّ الداعي إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات، و انهماكه في المحسوسات، حتّى خفي عليه أنّ الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد، و أنّه لو أطاعه كان مثله في الغباوة.

وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي: الحقّ ما يكون من جهة اللّه، لا ما يقتضيه الهوى.

و يجوز أن يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف، و «من ربّكم» حالا، أي: هذا الّذي أوحي إليّ هو الحقّ حال كونه صادرا من ربّكم. يعني: جاء الحقّ و زاحت العلل، فلم يبق إلّا اختياركم لأنفسكم ما شئتم.

فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ يعني: من شاء أخذ في طريق النجاة، و من شاء أخذ في طريق الهلاك. و جي ء بلفظ الأمر و التخيير لأنّه لمّا مكّن من اختيار أيّهما شاء، فكأنّه مخيّر مأمور بأن يتخيّر ما شاء من النجدين.

إِنَّا أَعْتَدْنا هيّأنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها فسطاطها. شبّه به ما يحيط بهم من النار. و قيل: السرادق الحجرة الّتي تكون حول الفسطاط. و قيل: سرادقها دخانها، يحيط بالكفّار قبل دخولهم النار. و قيل: حائط من نار يطيف (1) بهم.

وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ هو كلّ شي ء أذيب، كالصفر المذاب، أو النحاس المذاب، أو غيرهما من جواهر الأرض. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:.

ص: 105


1- طاف يطوف حول الشي ء: دار حوله. و أطاف يطيف بالشي ء: ألمّ و أحاط به.

كعكر (1) الزيت، إذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه.

و قيل: هو القيح و الدم. و عن الضحّاك:

أنّه ماء أسود، فإنّ جهنّم أسود ماؤها، أسود شجرها، أسود أهلها. و قيل: هو كدرديّ (2) الزيت. و فيه تهكّم على طريقة قوله: فاعتبوا بالصيلم (3) يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قدّم ليشرب انشوى الوجه من فرط حرارته. و هو صفة ثانية لماء، أو حال من المهل، أو الضمير في الكاف. بِئْسَ الشَّرابُ المهل وَ ساءَتْ النار مُرْتَفَقاً متّكأ. و أصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخدّ. و هو لمقابلة قوله: و حسنت مرتفقا، و إلّا فلا ارتفاق لأهل النار و لا اتّكاء.

[سورة الكهف [18]: الآيات 30 الى 31]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [30] أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [31]

و لمّا تقدّم ذكر الوعيد عقّبه سبحانه بذكر الوعد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي: لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا، بل نجازيهم و نوفّيهم أجورهم من غير بخس.

ص: 106


1- العكر من كلّ شي ء: خاثره، أي: الغليظ و الثخين منه.
2- الدرديّ من الزيت و نحوه: الكدر الراسب في أسفله.
3- لبشر بن أبي حازم، و تمامه: غضبت تميم أن نقتّل عامرايوم النسار فاعتبوا بالصيلم أي: أزلنا عتابهم بالصيلم. و هو السيف الكثير القطع.

و اعلم أنّ خبر «إنّ» الأولى «إنّ» الثانية بما في حيّزها. و الراجع محذوف، تقديره:

من أحسن عملا منهم. أو مستغنى عنه بعموم «مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» كما هو مستغنى عنه في قولك: نعم الرجل زيد. أو واقع موقعه الظاهر، فإنّ من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه على الحقيقة إلّا على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات. أو خبرها أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي:

إقامة لهم، لأنّهم يبقون فيها ببقاء اللّه دائما أبدا. و على الوجه الأخير اعتراض (1). و على الأوّل استئناف لبيان الأجر المبهم، أو خبر ثان.

و عن ابن مسعود: عدن بطنان الجنّة، أي: وسطها، و هي جنّة من الجنّات. و على هذا، فإنّما جمع لسعتها، و لأنّ كلّ ناحية منها تصلح أن تكون جنّة.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لأنّهم على غرف في الجنّة، كما قال: وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (2). و قيل: إنّ أنهار الجنّة تجري في أخاديد من الأرض، فلذلك قال:

تجري من تحتهم الأنهار.

يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «من» الأولى للابتداء، و الثانية للبيان، صفة ل «أساور». و تنكيره لتعظيم حسنها من الإحاطة به. و هو جمع أسورة في جمع سوار.

عن سعيد بن جبير: أنّه يحلّى كلّ واحد بثلاثة أساور: سوار من فضّة، و سوار من ذهب، و سوار من لؤلؤ و ياقوت.

وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأنّ الخضرة أحسن الألوان و أكثرها طراوة مِنْ سُنْدُسٍ ممّا رقّ من الديباج وَ إِسْتَبْرَقٍ و ما غلظ منه. جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين.

مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ على السرر، كما هو هيئة المتنعّمين المستريحين

ص: 107


1- أي: إن جعلنا قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ ... خبرا ل «إنّ» الأولى، يكون قوله: إِنَّا لا نُضِيعُ ... اعتراضا بين «إنّ» و خبرها. و على الوجه الأوّل- و هو جعل إِنَّا لا نُضِيعُ ... خبرا ل «إنّ» الأولى- يكون قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ ... استئنافا أو خبرا ثانيا ل «إنّ».
2- سبأ: 37.

حال الأمن و السلامة نِعْمَ الثَّوابُ الجنّة و نعيمها وَ حَسُنَتْ أي: الأرائك مُرْتَفَقاً متّكأ.

[سورة الكهف [18]: الآيات 32 الى 44]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً [32] كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [33] وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً [34] وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [35] وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [36]

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [37] لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً [38] وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً [39] فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً

زَلَقاً [40] أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً [41]

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ

ص: 108

يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [42] وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً [43] هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً [44]

ثمّ ضرب اللّه لعباده مثلا ليرغّبهم به إلى طاعته، و يزجرهم عن معصيته و كفران نعمته، فقال: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا للكافر و المؤمن رَجُلَيْنِ حال رجلين مقدّرين أو موجودين.

قيل: هما أخوان من بني إسرائيل، كافر اسمه قطروس، و الآخر مؤمن اسمه يهوذا.

قيل: هما المذكوران في سورة الصّافّات في قوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (1). ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطرا، فاشترى الكافر أرضا بألف.

فقال المؤمن: اللّهمّ إنّ أخي اشترى أرضا بألف دينار، و أنا أشتري منك أرضا في الجنّة بألف، فتصدّق به.

ثمّ بنى أخوه دارا بألف.

فقال: اللّهمّ إنّي أشتري منك دارا في الجنّة بألف، فتصدّق به.

ثمّ تزوّج أخوه امرأة بألف.

فقال: اللّهمّ إنّي جعلت ألفا صداقا للحور.

ثمّ اشترى أخوه خدما و متاعا بألف.

فقال: اللّهمّ إنّي اشتريت منك الولدان المخلّدين بألف، فتصدّق به.

ثمّ أصابته حاجة، فجلس لأخيه على طريقه، فمرّ به في حشمه فتعرّض له،

ص: 109


1- الصافّات: 51.

فطرده و وبّخه على التصدّق بماله.

و قيل: هما أخوان من بني مخزوم، كافر و هو الأسود بن عبد الأشد، و مؤمن و هو أبو سلمة عبد اللّه زوج أمّ سلمة قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ بستانين مِنْ أَعْنابٍ من كروم. و الجملة بتمامها بيان للتمثيل، أو صفة ل «رجلين». وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ و جعلنا النخل محيطة بهما، مؤزّرا (1) بها كرومهما وسطها. يقال: حفّه القوم إذا أطافوا به، و حففته بهم إذا جعلتهم حافّين حوله. فتزيده الباء مفعولا ثانيا، كقولك: غشيه و غشيته به. وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما وسطهما زَرْعاً ليكون كلّ منهما جامعا للأقوات و الفواكه، متواصل العمارة على الشكل الحسن و الترتيب الأنيق.

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ثمرها. و إفراد الضمير لإفراد «كلتا»، فإنّه مفرد اللفظ مثنّى المعنى. و لو قيل: آتتا على المعنى لجاز. وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ و لم تنقص من أكلها شَيْئاً يعهد في سائر البساتين، فإنّ الثمار تتمّ في عام و تنقص في عام غالبا وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما و شققنا وسط الجنّتين نَهَراً نسقيهما، حتّى يكون الماء قريبا منهما، يصل إليهما من غير كدّ و تعب، و يكون ثمرهما و زرعهما بدوام الماء فيهما أوفى و أروى. و قرأ يعقوب: و فجرنا بالتخفيف.

وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ أنواع من المال سوى الجنّتين، من ثمر ماله إذا كثر. و عن مجاهد: الذهب و الفضّة و غيرهما. فكان وافر اليسار من كلّ وجه، متمكّنا من عمارة الأرض كيف شاء. فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ يراجعه في الكلام، من: حار يحور إذا رجع أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً حشما و أعوانا. و قيل: أولادا ذكورا، لأنّهم

ص: 110


1- في هامش النسخة الخطّية: «التوزير: الإحكام، من قولهم: تأزّر النبت، أي: التفّ و اشتدّ. منه غفر اللّه له».

الّذين ينفرون (1) معه دون الإناث.

وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ أخذا بيد أخيه المسلم يطوف به فيها، و يفاخره بها. و إفراد الجنّة لأنّ المراد ما هو جنّته، و هو ما

متّع به من الدنيا، تنبيها على أنّه لا جنّة له غيرها، و لا حظّ له في الجنّة الّتي وعد المتّقون. أو لاتّصال كلّ واحدة من جنّتيه بالأخرى. أو لأنّ الدخول يكون في واحدة واحدة.

وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ضارّ لها بعجبه و افتخاره، و كفره و كفرانه، معرّض بذلك نفسه لسخط اللّه، و هو أفحش الظلم.

قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أن تفنى هذِهِ الجنّة أَبَداً لطول أمله، و تمادي غفلته، و اغتراره بمهلته، و اطّراحه النظر في عواقب أمثاله. و نرى أكثر الأغنياء من المسلمين كذلك، و إن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم، فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به، منادية عليه.

وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً كائنة وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أقسم على أنّي إن بعثت و رجعت إلى جزاء ربّي على سبيل الفرض و التقدير، أو كما زعمت لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها من جنّته. و قرأ الحجازيّان و الشامي: منهما، أي: من الجنّتين. مُنْقَلَباً مرجعا و عاقبة، لأنّها فانية، و تلك باقية. و نصبه على التمييز. و إنّما أقسم على ذلك لاعتقاده أنّه تعالى إنّما أولاه ما أولاه لاستئهاله و استحقاقه إيّاه لذاته، و هو معه أينما توجّه، كقوله:

إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى (2). لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً (3). و قيل: معناه: لاكتسبنّ في الآخرة خيرا من هذه الّتي اكتسبها في الدنيا.

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ لأنّه أصل مادّتك،

ص: 111


1- أي: يخرجون معه للحرب.
2- فصّلت: 50.
3- مريم: 77.

أو مادّة أصلك ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فإنّها مادّتك القريبة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ثمّ عدّلك و كمّلك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعل كفره بالبعث كفرا باللّه، لأنّ منشأه الشكّ في كمال قدرة اللّه، و لذلك رتّب الإنكار على خلقه إيّاه من التراب، فإنّ من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه. و في الآية دلالة على أنّ الشكّ في البعث و النشور كفر.

لكِنَّا أصله: لكن أنّا، فحذفت الهمزة، و ألقيت حركتها على نون «لكن»، فتلاقت النونان، فحرّكت النون الأولى و أدغمت. و قرأ ابن عامر و يعقوب في رواية بالألف في الوصل، لتعويضها من الهمزة، أو لإجراء الوصل مجرى الوقف. هُوَ اللَّهُ رَبِّي هو ضمير الشأن، و هو بالجملة الواقعة خبرا له خبر «أنا». أو ضمير اللّه، و «اللّه» بدله، و «ربّي» خبره، و الجملة خبر «أنا». وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً لا أشرك بعبادتي إيّاه أحدا، بل أوجّهها إليه وحده خالصا. و الاستدراك من «أكفرت» كأنّه قال: أنت كافر باللّه، لكنّي مؤمن به و بوحدانيّته.

وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ و هلّا قلت عند دخولها و النظر إلى ما رزقك اللّه منها ما شاءَ اللَّهُ أي: الأمر ما شاء اللّه. أو ما شاء اللّه كائن، على أنّ «ما» موصولة. أو أيّ شي ء شاء اللّه كان، على أنّها شرطيّة، و الجواب محذوف، إقرارا بأنّها و ما فيها بمشيئة اللّه، إن شاء أبقاها عامرة، و إن شاء أبادها و خرّبها. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ و هلّا قلت: لا قوّة إلّا باللّه، اعترافا بالعجز على نفسك و القدرة للّه، و أن ما تيسّر لك من عمارتها و تدبير أمرها فبمعونته و إقداره، إذ لا يقوى أحد في بدنه و لا في ملك يده إلّا باللّه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء اللّه و لا قوّة إلا

باللّه، لم يضرّه».

و روى هشام بن سالم و أبان بن عثمان عن الصادق عليه السّلام قال: «عجبت لمن خاف الفقر كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه: حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (1) قال: سمعت اللّه عزّ و جلّ .

ص: 112


1- آل عمران: 173.

يقول بعقبها: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ (1).

و عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (2). فإنّي سمعت اللّه سبحانه يقول معها: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ « (3)».

و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (4) فإنّي سمعت اللّه سبحانه يعقّبها: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا « (5)».

و عجبت لمن أراد الدنيا و زينتها كيف لا يفزع إلى قوله: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فإنّي سمعت اللّه تعالى يعقّبها: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ

و «عسى» موجبة».

إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً يحتمل أن يكون «أنا» فصلا، و أن يكون تأكيدا للمفعول الأوّل. و قرئ: أقلّ بالرفع، على أنّه خبر «أنا»، و الجملة مفعول ثان ل «ترن».

و في قوله: «و ولدا» دليل لمن فسّر النفر بالأولاد.

و جواب الشرط قوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ في الدنيا أو في الآخرة، لإيماني. و المعنى: إن ترني أفقر منك، فأنا أتوقّع من صنع اللّه أن يقلّب ما بي و ما بك من الفقر و الغنى، فيرزقني لإيماني جنّة خيرا من جنّتك.

وَ يُرْسِلَ عَلَيْها على جنّتك، لكفرك و كفرانك حُسْباناً مِنَ السَّماءِ مرامي (6)، جمع حسبانة، و هي الصواعق. و قيل: هو مصدر، كالغفران و البطلان، بمعنى الحساب. و المعنى: مقدارا قدّره اللّه و حسبه، و هو الحكم بتخريبها. و قال الزّجاج: عذاب حسبان أي: حساب ما كسبت يداك من الأعمال السيّئة. فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أرضا

ص: 113


1- آل عمران: 174.
2- الأنبياء: 87.
3- الأنبياء: 88.
4- غافر: 44.
5- غافر: 45.
6- أصل الحسبان: السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد.

ملساء يزلق عليها القدم، لملاستها باستئصال نباتها و أشجارها.

أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا (1) في الأرض، لا يبقى أثره. مصدر وصف به، كالزلق. فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً للماء الغائر، تردّدا في ردّه.

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ و أهلك أمواله حسبما توقّعه صاحبه. و هو مأخوذ من: أحاط به العدوّ، فإنّه إذا أحاط به استولى عليه و غلبه، و إذا غلبه أهلكه. و منه: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ (2). و نظيره: أتى عليه إذا أهلكه، من: أتى عليهم العدوّ إذا جاءهم مستعليا عليهم.

فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا لبطن، كما هو فعل النادم، تلهّفا و تحسّرا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها في عمارتها. و هو متعلّق ب «يقلّب»، لأنّ تقليب الكفّين لمّا كان في معنى الندم، عدّي تعديته ب «على»، فإنّ النادم يقلّب كفّيه ظهرا لبطن، كما كنّي عن ذلك بعضّ الكفّ و السقوط في اليد. فكأنّه قيل: فأصبح يندم. أو حال، أي: متحسّرا على ما أنفق فيها.

وَ هِيَ خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها بأن سقطت عروشها على الأرض، و سقطت الكروم فوقها. قيل: أرسل اللّه عليها نارا فأكلتها.

وَ يَقُولُ عطف على «يقلّب»، أو حال من ضميره يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كأنّه تذكّر موعظة أخيه، و علم أنّه أتى من قبل شركه و طغيانه، فتمنّى لو لم يكن مشركا فلم يهلك اللّه بستانه. و يجوز أن يكون توبة من الشرك، و ندما على ما سبق منه.

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ و قرأ حمزة و الكسائي بالياء، لتقدّمه يَنْصُرُونَهُ يقدرون على نصره، بدفع الإهلاك، أو ردّ المهلك، أو الإتيان بمثله مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنّه القادر على ذلك وحده وَ ما كانَ مُنْتَصِراً و ما كان ممتنعا بقوّته عن انتقام اللّه منه.

هُنالِكَ في ذلك المقام و تلك الحال الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ النصرة للّه وحده، لا

ص: 114


1- غار الماء: ذهب في الأرض، فهو غائر.
2- يوسف: 66.

يقدر عليها غيره. و هذا تقرير لقوله: «وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ». أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة، كما نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن. و يعضده قوله: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً أي: لأوليائه.

و قرأ حمزة و الكسائي «الولاية» بالكسر، و معناها السلطان و الملك، أي: هنالك السلطان له لا يغلب و لا يمنع منه، أو في مثل تلك الحال الشديد يتولّى اللّه و يؤمن به كلّ مضطرّ، كقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (1). فيكون تنبيها على أنّ قوله: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ» كان عن اضطرار و جزع ممّا دهاه من شؤم كفره. و قيل:

«هنا لك» إشارة إلى الآخرة، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ (2).

و قرأ حمزة و الكسائي «الحقّ» بالرفع، صفة للولاية. و قرأ حمزة و عاصم «عقبا» بالسكون.

[سورة الكهف [18]: الآيات 45 الى 46]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً [45] الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ

رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً [46]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يضرب المثل للدنيا، تزهيدا فيها و ترغيبا في الآخرة، فقال: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا و اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها و سرعة زوالها، أو صفتها الغريبة كَماءٍ هي كماء. و يجوز أن يكون مفعولا ثانيا

ص: 115


1- العنكبوت: 65.
2- غافر: 16.

ل «اضرب»، على أنّه بمعنى: صيّر.

أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فالتفّ و تكاثف بسببه، و خالط بعضه بعضا من كثرته و تكاثفه. أو نفذ في النبات الماء، فاختلط به حتّى روى و رفّ (1) رفيفا. و على هذا، كان حقّه: فاختلط بنبات الأرض، لكن لمّا كان كلّ من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس، للمبالغة في كثرته.

فَأَصْبَحَ هَشِيماً مهشوما متفتّتا تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرّقه. و المشبّه به ليس الماء و لا حاله، بل الكيفيّة المنتزعة من الجملة، و هي حال النبات المنبت بالماء، يكون أخضر وارفا، ثمّ هشيما تطيّره الرياح، فيصير كأن لم يكن. فشبّه الدنيا بهذا النبات في سرعة الفساد و الهلاك. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الإنشاء و الإفناء مُقْتَدِراً قادرا.

الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتزيّن بها الإنسان في دنياه، و تفنى عنه عمّا قريب وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ و أعمال الخير الّتي تبقى له ثمرتها أبد الآباد، و تفنى عنه كلّ ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ من المال و البنين ثَواباً عائدة وَ خَيْرٌ أَمَلًا لأنّ صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.

روي عن عطاء و عكرمة و مجاهد عن ابن عبّاس: أنّ الباقيات الصالحات هي ما كان يأتي به سلمان و صهيب و فقراء المسلمين، و هو: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر.

و روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لجلسائه: «خذوا جنّتكم. قالوا:

أحضر عدوّ؟ قال: خذوا جنّتكم من النار، قولوا: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر. فإنّهن المقدّمات، و هنّ المجيبات، و هنّ المعقّبات، و هنّ الباقيات .

ص: 116


1- رفّ لونه رفيفا: برق و تلألأ.

الصالحات» و رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، و عن العدوّ أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإنّهنّ من الباقيات الصالحات، فقولوها».

و عن ابن مسعود و سعيد بن جبير و مسروق: هي الصلوات الخمس. و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و روي عنه أيضا: «أنّ الباقيات الصالحات القيام بالليل».

و قيل: إنّ الباقيات الصالحات هنّ البنات الصالحات. و قيل: صيام رمضان.

و قيل: أعمال الحجّ. و روي: الكلام الطيّب. و الأولى حملها على الطاعات، فيدخل فيها جميع الطاعات و الخيرات.

و في كتاب ابن عقدة أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام قال للحصين بن عبد الرحمن: «يا حصين لا تستصغر مودّتنا، فإنّها من الباقيات الصالحات. قال: يا ابن رسول اللّه ما أستصغرها، و لكن أحمد اللّه عز و جلّ عليها».

[سورة الكهف [18]: الآيات 47 الى 49]

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [47] وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [48] وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [49]

ص: 117

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ و اذكر يوم نقلعها و نسيّرها في الجوّ، أو نذهب بها فنجعلها هباء منبثّا. و يجوز عطفه على «عند ربّك» أي: الباقيات الصالحات خير عند اللّه و يوم القيامة. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: تسيّر، بالتاء و البناء للمفعول.

قيل: يسيّرها على وجه الأرض كما يسيّر السحاب في السماء، ثمّ يجعلها كثيبا مهيلا، كما قال: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ (1) الآية. ثمّ يصيّرها كالعهن المنفوش، كما قال: وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (2). ثمّ يصيّرها هباء منبثّا في الهواء، كما قال: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (3). ثمّ يصيّرها بمنزلة التراب، كما قال:

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (4).

وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً بادية برزت من تحت الجبال، ليس عليها ما يسترها من الجبال و النبات و الشجر. و قيل: معناه قد برز من كان في بطنها، فصاروا على ظهرها.

و تقديره: و ترى ما في باطن الأرض بارزا. فهو مثل قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ترمي الأرض بأفلاذ كبدها».

وَ حَشَرْناهُمْ و جمعناهم إلى الموقف. و مجيئه ماضيا بعد «نسيّر» و «ترى» لتحقّق الحشر، أو للدلالة على أنّ حشرهم قبل التسيير ليعاينوا و يشاهدوا ما وعد لهم.

و على هذا، تكون الواو للحال بإضمار «قد». فَلَمْ نُغادِرْ فلم نترك مِنْهُمْ أَحَداً يقال: غادره و أغدره إذا تركه. و منه: الغدر لترك الوفاء، و الغدير لما غادره السيل.

وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ شبّه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم صَفًّا مصطفّين ظاهرين، لا يحجب أحد أحدا.

ص: 118


1- المزّمّل: 14.
2- القارعة: 5.
3- الواقعة: 5- 6.
4- النبأ: 20.

و قيل: يعرضون صفّا بعد صفّ. لَقَدْ جِئْتُمُونا على إضمار القول، أي: قلنا لهم:

لقد جئتمونا. و هذا المضمر يجوز أن يكون عاملا في «يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ». كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عراة لا شي ء معكم من المال و الولد، كقوله: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى (1).

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يحشر الناس من قبورهم يوم القيامة عراة حفاة غرلا (2). فقالت عائشة: يا رسول اللّه أما يستحيي بعضهم من بعض؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».

أو أحياء كخلقتكم الأولى.

بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وقتا لإنجاز الوعد بالبعث و النشور، و أنّ الأنبياء كذّبوكم به. و «بل» للخروج من قصّة إلى قصّة اخرى.

وَ وُضِعَ الْكِتابُ صحائف أعمال بني آدم في الأيمان و الشمائل، أو في الميزان. و قيل: هو كناية عن وضع الحساب. فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ من الذنوب وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ينادون هلكتهم الّتي هلكوها من بين الهلكات ما لِهذَا الْكِتابِ تعجّبا من شأنه لا يُغادِرُ صَغِيرَةً لا يترك هنة صغيرة وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها إلّا عدّدها و أحاط بها، أي: أحصاها كلّها. و قد مرّ (3) تفسير الصغيرة و الكبيرة في سورة النساء. وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مكتوبا في الصحف وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً فيكتب عليه ما لم يفعل، أو يزيد في عقابه الملائم لعمله.

و فيه دلالة على أنّه سبحانه لا يعاقب الأطفال، لأنّه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب؟!

ص: 119


1- الأنعام: 94.
2- غرل الصبيّ: لم يختن، فهو أغرل، و جمعه: غرل.
3- راجع ج 2 ص 148.

[سورة الكهف [18]: الآيات 50 الى 51]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [50] ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [51]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه أن يذكّر هؤلاء المتكبّرين عن مجالسة الفقراء قصّة إبليس و ما أورثه الكبر، فقال: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قيل: لمّا بيّن حال المغرور بالدنيا و المعرض عنها، و كان سبب الاغترار بها حبّ الشهوات و تسويل الشيطان، زهّدهم أوّلا في زخارف الدنيا بأنّها عرضة الزوال، و الأعمال الصالحة خير و أبقى، ثمّ نفّرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة. و كرّره سبحانه في مواضع لكونه مقدّمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحالّ كما هاهنا، و هكذا مذهب كلّ تكرير في القرآن.

كانَ مِنَ الْجِنِ حال بإضمار «قد»، أو استئناف للتعليل، كأنّه قيل: ماله لم يسجد؟ فقيل: كان من الجنّ. فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فخرج عن أمره بترك السجود.

و الفاء للتسبيب، جعل كونه من الجنّ سببا في فسقه. يعني: لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر اللّه، لأنّ الملائكة معصومون البتّة، لا يجوز عليهم ما يجوز على الجنّ و الإنس، كما قال: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (1).

و فيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتّة، و إنّما عصى إبليس لأنّه كان جنّيّا في أصله. فما أبعد البون بين هذا القول، و بين قول من ضادّه و زعم أنّه كان ملكا و رئيسا على

ص: 120


1- الأنبياء: 27.

الملائكة، فعصى، فلعن و مسخ شيطانا. و تفصيل هذا المبحث قد مرّ (1) في سورة البقرة.

أَ فَتَتَّخِذُونَهُ الهمزة للإنكار و التعجّب، كأنّه قيل: أ عقيب ما وجد منه تتّخذونه وَ ذُرِّيَّتَهُ أولاده أو أتباعه. و سمّاهم ذرّيّة مجازا. أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي أي:

تستبدلونهم في، فتطيعونهم بدل طاعتي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي: بئس البدل من اللّه إبليس و ذرّيّته لمن استبدله، فأطاعه بدل طاعته.

ثم نفى مشاركتهم في الإلهيّة بقوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأعتضد بهم في خلقهما وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ و لا أشهدت بعضهم خلق بعض، كقوله:

وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (2). فنفى إحضار إبليس و ذرّيّته خلق السماوات و الأرض، و إحضار بعضهم خلق بعض، ليدلّ على نفي الاعتضاد بهم في ذلك، كما صرّح به بقوله:

وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي: أعوانا، ردّا لاتّخاذهم أولياء من دون اللّه شركاء له في العبادة، فإنّ استحقاق العبادة من توابع الخالقيّة، و الاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. فوضع «المضلّين» موضع الضمير ذمّا لهم بالإضلال، و استبعادا للاعتضاد بهم، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتّخذونهم شركاء في العبادة؟! و قيل: الضمير للمشركين. و المعنى: ما أشهدتهم خلق ذلك، و لا خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم، حتّى لو آمنوا تبعهم الناس كما يزعمون، فلا تلتفت إلى

قولهم طمعا في نصرتهم للدين، فإنّه لا ينبغي لي أن أعتضد بالمضلّين لديني.

[سورة الكهف [18]: الآيات 52 الى 55]

وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً [52] وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ

ص: 121


1- راجع ج 1 ص 132 ذيل الآية 34 من سورة البقرة.
2- النساء: 29.

يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [53] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً [54] وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً [55] وَ يَوْمَ يَقُولُ أي: اللّه تعالى للكفّار. و قرأ حمزة بالنون. نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّهم شركائي و شفعاؤكم، ليمنعوكم من عذابي. و إضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ. و المراد: كلّ ما عبد من دونه. و قيل: إبليس و ذرّيّته. فَدَعَوْهُمْ فنادوهم للإغاثة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ بين الكفّار و آلهتهم مَوْبِقاً مهلكا يشتركون فيه، و هو النار. اسم مكان من: وبق يبق وبوقا، و وبق يوبق وبقا، إذا هلك، و أوبقه غيره.

و يجوز أن يكون مصدرا، كالمورد و الموعد. يعني: و جعلنا بينهم واديا من أودية جهنّم، هو مكان الهلاك و العذاب الشديد مشتركا، يهلكون فيه جميعا.

و عن الحسن: «موبقا» عداوة. و المعنى: عداوة هي في شدّتها هلاك.

و قال الفراء: البين الوصل، أي: و جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.

و يجوز أن يريد الملائكة و عزيرا و عيسى و مريم، و بالموبق: البرزخ البعيد، أي:

و جعلنا بينهم أمدا بعيدا تهلك فيه الأشواط لفرط بعده، لأنّهم في قعر جهنّم، و هم في أعلى الجنان.

وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا فأيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها مخالطوها واقعون فيها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً انصرافا، أو مكانا ينصرفون إليه.

ص: 122

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ تصريفها ترديدها من نوع واحد و أنواع مختلفة ليتفكّروا فيها وَ كانَ الْإِنْسانُ أي: النضر بن الحارث. و قيل: أبيّ بن خلف، أو جميع الكفّار أَكْثَرَ شَيْ ءٍ يتأتّى منه الجدل جَدَلًا خصومة بالباطل.

و انتصابه على التمييز. يعني: جدل الإنسان أكثر من جدل كلّ شي ء. و نحوه: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (1).

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا أي: من الإيمان إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى و هو الرسول الداعي، أو القرآن المبين وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ و من الاستغفار من الذنوب إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ إلّا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنّة الأوّلين، و هي الاستئصال، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ عذاب الآخرة قُبُلًا عيانا من حيث يرونه. و تأويله: أنّهم بامتناعهم من الإيمان بمنزلة من يطلب هذا.

و قرأ الكوفيّون بضمّتين. و هو لغة فيه، أو جمع قبيل بمعنى أنواع. و انتصابه على الحال من الضمير أو العذاب.

[سورة الكهف [18]: الآيات 56 الى 59]

وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً [56] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً

ص: 123


1- يس: 77.

أَبَداً [57] وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً [58] وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [59]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه قد أزاح العلّة، و أظهر الحجّة، و أوضح المحجّة، فقال: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ للمؤمنين و الكافرين وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات، و السؤال عن قصّة أصحاب الكهف و نحوها تعنّتا لِيُدْحِضُوا بِهِ ليزيلوا بالجدال الْحَقَ عن مقرّه و يبطلوه. من إدحاض القدم، و هو إزلاقها. و ذلك قولهم للرسل: ما أنتم إلّا بشر مثلنا، و لو شاء اللّه لأنزل ملائكة و نحو ذلك. وَ اتَّخَذُوا آياتِي يعني: القرآن وَ ما أُنْذِرُوا و إنذارهم، أو و الّذي أنذروا به من العقاب هُزُواً استهزاء.

و قرأ نافع و الكسائي و أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر و ابن كثير بضمّتين و إبدال الواو همزة. و حفص: هزوا بضمّتين. و حمزة: هزءا، بسكون الزاء و الهمزة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ أي: ليس أحد أظلم لنفسه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ وعظ بالقرآن فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبّرها، و لم يتذكّر بها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ عاقبة ما كسبت من الكفر و المعاصي، و لم يتفكّر في عاقبتهما، و لم ينظر في أنّ المحسن و المسي ء لا بدّ لهما من جزاء.

ثمّ عللّ إعراضهم و نسيانهم بقوله: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي: إنّهم مطبوع على قلوبهم خذلانا أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه، فأعرض عنها و لم يتذكّر حين ذكر، و لم يتدبّر. و تذكير الضمير و إفراده للمعنى. وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلا يمنعهم

ص: 124

أن يستمعوه حقّ استماعه. و قد تقدّم (1) بيان هذا فيما مضى.

و جملته أنّه على التمثيل، كما قال في موضع آخر: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً (2). فالمعنى: كأنّ على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه، و في آذانهم وقرا أن يسمع.

وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً فلا يكون منهم اهتداء البتّة، كأنّه محال منهم، لشدّة تصميمهم على الكفر و العناد مدّة التكليف كلّها. و «إذا» كما عرفت جزاء و جواب، فدلّ على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول، بمعنى أنّهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، و على أنّه جواب للرسول على تقدير قوله:

مالي لا أدعوهم حرصا على إسلامهم؟ فقيل: و إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا.

وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بالرحمة. ثمّ استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكّة عاجلا، مع إفراطهم في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ و هو يوم بدر، أو يوم القيامة لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا منجا. يقال: و أل إذا نجا، و وأل إليه إذا لجأ إليه.

وَ تِلْكَ الْقُرى يعني: قرى عاد و ثمود و أضرابهم. و «تلك» مبتدأ خبره أَهْلَكْناهُمْ و يجوز أن يكون «تلك القرى» نصبا بإضمار «أهلكنا» على شرائط التفسير. و المعنى: و تلك أصحاب القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا بالتكذيب و المراء و أنواع المعاصي، مثل ظلم أهل مكّة وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً لإهلاكهم وقتا معلوما، لا يستأخرون عنه ساعة و لا يستقدمون. فليعتبروا بهم، و لا يغترّوا بتأخير العذاب عنهم.

و قرأ أبو بكر: لمهلكهم بفتح الميم و اللام، أي: لهلاكهم. و حفص بكسر

اللام حملا على ما شذّ من مصادر: يفعل، كالمرجع و المحيض.

ص: 125


1- راجع ج 2: ص 374 ذيل الآية 25 من سورة الأنعام، و هنا ص 40 ذيل الآية 46 من سورة الإسراء.
2- لقمان: 7.

[سورة الكهف [18]: الآيات 60 الى 62]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [60] فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً [61] فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً [62]

قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره (1): لمّا أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قريشا بخبر أصحاب الكهف، و انجرّ الكلام إلى هاهنا، قالوا: أخبرنا عن العالم الّذي أمر اللّه تعالى موسى أن يتبعه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما قصّته؟ فنزلت: وَ إِذْ قالَ مُوسى بتقدير: اذكر لِفَتاهُ يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السّلام، فإنّه كان يخدمه و يصحبه و يتبعه، و لذلك سمّاه فتاه. و قيل: كان يأخذ منه العلم. و قيل: لعبده. و في الحديث: ليقل أحدكم فتاي و فتاتي، و لا يقل: عبدي و أمتي.

لا أَبْرَحُ أي: لا أزال أسير، فحذف الخبر، لدلالة حاله- و هو السفر- و قوله:

حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ من حيث أنّه يستدعي ذا غاية، على الخبر المحذوف.

و يجوز أن يكون أصله: لا يبرح مسيري حتّى أبلغ، على أنّ «حتّى أبلغ» هو الخبر، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، فانقلب الضمير و الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلّم. و هو وجه لطيف. و أن يكون «لا أبرح» بمعنى: لا أزول عمّا أنا عليه من السير و الطلب، بمعنى: ألزم المسير و الطلب، و لا أفارقه حتّى أبلغ، فلا يستدعي الخبر.

و مجمع البحرين ملتقى بحري فارس و الروم ممّا يلي المشرق، وعد لقاء الخضر فيه. و قيل: هو طنجة. و قيل: أفريقية. و قيل: البحران موسى و خضر عليهما السّلام، فإنّ موسى كان

ص: 126


1- تفسير على بن إبراهيم 2: 37.

بحر علم الظاهر، و الخضر كان بحر علم الباطن.

أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أو أسير زمانا طويلا. و المعنى: حتّى يقع إمّا بلوغ المجمع، أو أن أمضي زمانا أتيقّن معه فوات المجمع. و الحقب: الدهر. و قيل: ثمانون سنة. و قيل:

سبعون.

و اعلم أنّ أكثر المفسّرين على أنّ موسى الّذي حكاه اللّه عنه هو موسى بن عمران، و فتاه يوشع بن نون، كما مرّ.

و قال محمّد بن كعب بقول أهل الكتاب: إنّ موسى الّذي طلب الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف، و كان نبيّا في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران.

و أمّا الّذي عليه الجمهور و أجمع عليه الإماميّة أنّه موسى بن عمران، و لأنّ إطلاقه يوجب صرفه إلى موسى بن عمران، كما أنّ إطلاق محمّد ينصرف إلى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن سعيد بن جبير: أنّه قال لابن عبّاس: إنّ نوفا ابن امرأة كعب يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران، و أنّ موسى هو موسى بن ميشا. فقال: كذب عدوّ اللّه.

و قال عليّ بن إبراهيم: حدّثني محمّد بن عليّ بن بلال، عن يونس، قال: اختلف يونس و هشام بن إبراهيم في العالم الّذي أتاه موسى أيّهما كان أعلم؟ و هل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته، و هو حجّة اللّه على خلقه؟ فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسألانه عن ذلك. فكتب في الجواب: «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر، فسلّم عليه موسى، فأنكر السلام، إذ كان بأرض ليس بها سلام.

قال: من أنت؟

قال: أنا موسى بن عمران.

قال: أنت موسى بن عمران الّذي كلّمه اللّه تكليما؟

قال: نعم.

قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا علّمت رشدا.

ص: 127

قال: إنّي وكّلت بأمر لا تطيقه، و وكّلت بأمر لا أطيقه» (1).

و روي أنّه لمّا ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط و استقرّوا بها، أمره اللّه أن يذكّر قومه النعمة. فقام فخطب خطبة بليغة أعجب خطبة، فذكر نعمة اللّه و قال:

إنّه اصطفى نبيّكم و كلّمه. فقالوا له: قد علمنا هذا هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا.

فبعث اللّه عليه جبرئيل حين لم يردّ العلم إلى اللّه، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبدلي عند مجمع البحرين، و هو الخضر. و كان الخضر في أيّام أفريدون قبل موسى. و كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر، و بقي إلى أيّام موسى.

و قيل: إنّ موسى سأل ربّه أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الّذي يذكرني و لا ينساني.

قال: فأيّ عبادك أقضى؟

قال: الّذي يقضي بالحقّ، و لا يتّبع الهوى.

قال: فأيّ عبادك أعلم؟

قال: الّذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى، أو تردّه عن ردى.

فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منّي فادللني عليه.

قال: أعلم منك الخضر.

قال: أين أطلبه؟

قال: على الساحل، عند الصخرة الّتي عندها ماء الحياة، عند مجمع البحرين.

قال: يا ربّ كيف لي به؟ قال: خذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك.

فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني. فذهبا يمشيان فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي: مجمع البحرين. و «بينهما»

ظرف أضيف إليه على الاتّساع، أو بمعنى

ص: 128


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 38.

الوصل. نَسِيا حُوتَهُما غفل موسى أن يطلبه و يتعرّف حاله، لاستغراقه في جناب القدس، و توجّهه التامّ إلى المبدأ الحقيقي. و لذلك أيضا غفل يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته و وقوعه في البحر.

قيل: كان الحوت سمكة مملوحة. و قيل: إنّ يوشع حمل الحوت و الخبز في المكتل (1)، فنزل ليلة على شاطئ عين تسمّى عين الحياة، و نام موسى، فلمّا أصاب السمكة روح الماء و برده عاشت. و روي أنّهما أكلا منها.

و قيل: إنّ موسى رقد فاضطرب الحوت المشويّ و وثب في البحر، معجزة لموسى أو الخضر.

و قيل: توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة، فانتضح الماء عليه، فعاش و وثب في الماء.

و قيل: نسيا تفقّد أمره و ما يكون منه، أمارة على الظفر بالمطلوب.

فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فاتّخذ الحوت طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا، من قوله:

وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (2). و قيل: أمسك اللّه جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه، و حصل منه في مثل السرب. و نصبه على المفعول الثاني، و «في البحر» حال منه، أو من السبيل. و يجوز أن يكون «في البحر» متعلّقا ب «اتّخذ».

فَلَمَّا جاوَزا مجمع البحرين. و هو الموعد الّذي فيه الصخر. قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ما نتغدّى به لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً تعبا و شدّة. قيل: لم ينصب حتّى جاوز الموعد، فلمّا جاوزه و سار الليلة و الغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع و النصب. و قيل:

لم يعي موسى في سفر غيره. و يؤيّده التقييد باسم الاشارة.

ص: 129


1- المكتل: زنبيل من خوص يحمل فيه التمر و غيره.
2- الرعد: 10.

[سورة الكهف [18]: الآيات 63 الى 70]

قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً [63] قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [64] فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [65] قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [66] قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [67]

وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [68] قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [69] قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً [70]

و لمّا طلب موسى الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه و ما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش و طفق يسأل موسى عن سبب ذلك قالَ يوشع أَ رَأَيْتَ ما دهاني إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ يعني: الصخرة الّتي رقد عندها موسى. و قيل: هي الصخرة الّتي دون نهر الزيت (1). فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فقدته، أو نسيت ذكره بما رأيت منه.

ثمّ اعتذر عن نسيانه، فقال: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ و ما أنساني ذكره إلّا الشيطان، فإنّ «أن أذكره» بدل من الضمير. و الحال و إن كانت عجيبة لا ينسى

ص: 130


1- في هامش النسخة الخطيّة: «سمّي نهر الزيت لكثرة أشجار الزيت على شاطئه. منه غفر اللّه له».

مثلها، لكنّه لمّا ضرى (1) بمشاهدة أمثالها عند موسى و ألفها قلّ اهتمامه بها، أو نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار، و انجذاب شراشره إلى جناب القدس، بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة. و إنّما نسبه إلى الشيطان هضما لنفسه، أو لأنّ عدم احتمال القوّة للجانبين و اشتغالها بأحدهما عن الآخر يعدّ من نقصان.

وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً سبيلا عجبا، و هو كونه كالسرب. أو اتّخاذا عجبا. و المفعول الثاني هو الظرف. و قيل: هو مصدر فعله المضمر، أي: قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه: عجبا، تعجّبا من تلك الحال. و عن ابن عبّاس: الفعل لموسى، أي:

اتّخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا.

قالَ ذلِكَ أي: أمر الحوت ما كُنَّا نَبْغِ نطلب، لأنّه أمارة المطلوب. حذف الياء لدلالة الكسرة عليه. و قرأ نافع و أبو عمرو بالياء وصلا، و ابن كثير مطلقا. فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما فرجعا في الطريق الّذي جاءا فيه قَصَصاً يقصّان قصصا، أي: يتّبعان آثارهما اتّباعا. أو فارتدّا مقتصّين حتّى أتيا الصخرة الّتي هي مدخل الحوت.

فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الجمهور على أنّه الخضر كما مرّ. و اسمه بليا بن ملكان. و قيل: اليسع. و قيل: إلياس. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا هي: الوحي و النبوّة وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ممّا يختصّ بنا، و لا يعلم إلّا بتوفيقنا. و هو علم الغيوب.

و قيل: إنّ موسى رآه على طنفسة خضراء فسلّم عليه. فقال: و عليك السلام يا نبيّ بني إسرائيل. فقال له موسى: و ما أدراك من أنا؟ و من أخبرك أنّي نبيّ؟ قال: من دلّك عليّ. و قيل: سلّم عليه موسى فعرّفه نفسه، فقال: و أنّى بأرضنا السلام.

قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ و هو في موضع الحال من الكاف مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً علما ذا رشد، و هو إصابة الخير. و قرأ البصريّان بفتحتين. و هما لغتان، كالبخل و البخل. و هو مفعول «تعلّمني». و مفعول «علّمت» العائد

ص: 131


1- أي: اعتاد و ألف. و أصله من الضراوة، و هي الدربة و العادة.

المحذوف. و كلاهما منقولان من «علم» الّذي له مفعول واحد. و يجوز أن يكون «رشدا» علّة ل «أتّبعك» أو مصدرا بإضمار فعله.

و لا ينافي نبوّته و كونه صاحب شريعة أن يتعلّم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين، فإنّ الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممّن أرسل إليه فيما بعث به من اصول الدين و فروعه لا مطلقا. و قد راعي في ذلك غاية التواضع و الأدب، فاستجهل نفسه، و استأذن أن يكون تابعا له، و سأل منه أن يرشده و ينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم اللّه عليه.

و إنّما سمّي خضرا، لأنّه إذا صلّى في مكان اخضرّ ما حوله.

قالَ الخضر إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي: يثقل عليك الصبر و لا يخفّ عليك. و إنّما قال ذلك لأنّ موسى عليه السّلام كان يأخذ الأمور على ظواهرها، و الخضر كان يحكم بما علّمه اللّه من بواطنها، فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك. فنفى استطاعة الصبر منه على وجه التأكيد، كأنّها ممّا لا يصحّ و لا يستقيم.

و علّل ذلك و اعتذر عنه بقوله: وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي:

و كيف تصبر و أنت نبيّ على ما أتولّى من أمور ظواهرها مناكير و بواطنها لم يحط بها خبرك؟ و الرجل الصالح لا يصبر على ذلك، فكيف إذا كان نبيّا؟! لا يتمالك أن يشمئزّ و يمتعض (1) و يجزع إذا رأى ذلك، و يأخذ في الإنكار. و «خبرا» تمييز، أي: لم يحط به خبرك أو مصدر، لأنّ «لم تحط» بمعنى لم تخبره، فنصبه نصب المصدر.

قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً معك غير منكر عليك وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً عطف على «صابرا» أي: ستجدني صابرا و غير عاص أو على «ستجدني».

و تعليق الوعد بالمشيئة إمّا للتيمّن، أو لعلمه بصعوبة الأمر، فإنّ مشاهدة الفساد و الصبر على خلاف المعتاد شديد، خصوصا على الأنبياء.

ص: 132


1- في هامش النسخة الخطّية: «معضت من ذلك الأمر و امتعضت، إذا غضبت و شقّ عليك. منه غفر اللّه له».

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فإن اقتفيت أثري فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ فلا تفاتحني بالسؤال عن شي ء أنكرته منّي، و لم تعلم وجه صحّته حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً حتّى أبتدئك ببيانه. و قرأ نافع و ابن عامر: فلا تسألنّي، بالنون الثقيلة. و هذا من أدب المتعلّم مع العالم، و المتبوع مع التابع.

[سورة الكهف [18]: الآيات 71 الى 73]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [71] قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [72] قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [73]

فَانْطَلَقا على الساحل يطلبان السفينة حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ قال أهلها: هما من اللصوص، و أمروهما بالخروج. فقال صاحب السفينة: أرى وجوه الأنبياء. و قيل: عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول (1). فلمّا لججوا أخذ الخضر فأسا خَرَقَها فخرق السفينة، بأن قلع لوحين من ألواحها ممّا يلي الماء، فجعل موسى يسدّ الخرق بثيابه.

قالَ منكرا عليه أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها فإنّ خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها. و قرأ حمزة و الكسائي: «ليغرق أهلها» على إسناده إلى الأهل.

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت أمرا عظيما، من: أمر الأمر إذا عظم.

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ حين رغبت في اتّباعي إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً تذكير لما ذكره قبل، فتذكّر موسى ما بذل له من الشرط.

قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ بالّذي نسيته، أي: غفلته، من التسليم لك و ترك

ص: 133


1- أي: بغير أجرة و عطيّة. و النون: العطيّة.

الإنكار عليك. أو بشي ء نسيته، يعني: وصيّته بأن لا يعترض عليه. أو بنسياني إيّاها.

و هو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها، لأنّه لا مؤاخذة على الناسي.

و قيل: أراد بالنسيان الترك، أي: لا تؤاخذني بما تركت من وصيّتك أوّل مرّة، كما روي عن ابن عبّاس: بما تركت من وصيّتك و عهدك. و على هذا، فيكون النسيان بمعنى الترك، لا بمعنى الغفلة و السهو.

و قيل: إنّه من معاريض الكلام الّتي يتّقى بها الكذب مع التوصّل إلى الغرض، كقول إبراهيم: هذه أختي و إنّي سقيم. فمراده شي ء آخر نسيه.

وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فلا تغشّني عسرا من أمري، و هو اتّباعه إيّاه.

يعني: و لا تعسّر عليّ متابعتك، و يسّرها عليّ بالإغضاء و ترك المناقشة و المضايقة و المؤاخذة على المنسيّ. و «عسرا» مفعول ثان ل: ترهق، فإنّه يقال: رهقه إذا غشيه و أرهقه إيّاه.

[سورة الكهف [18]: الآيات 74 الى 76]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [74] قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [75] قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [76]

فَانْطَلَقا أي: بعد ما خرجا من السفينة انطلقا يمشيان في البرّ. و لم يذكر يوشع، لأنّه كان تابعا لموسى، أو كان قد تأخّر عنهما. و هو الأظهر، لاختصاص موسى بالنبوّة، و اجتماعه مع الخضر في البحر. حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قيل: فتل عنقه، و كان يلعب

ص: 134

مع الصبيان. و عن سعيد بن جبير: كان من أحسن أولئك الغلمان و أصبحهم. و قيل: ضرب برأسه الحائط. و عن سعيد بن جبير: أضجعه ثم ذبحه بالسكّين. و الفاء للدلالة على أنّه لمّا لقيه قتله من غير تروّ و استكشاف حال، و لذلك قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي: طاهرة من الذنوب.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و رويس عن يعقوب: زاكية. و الأوّل أبلغ. و قال أبو عمرو: الزاكية: الّتي لم تذنب قطّ، و الزكيّة الّتي ثمّ غفرت. و لعلّه اختار زاكية لذلك، فإنّها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم، أو أنّه لم يرها قد أذنبت ذنبا يقتضي قتلها.

بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير قتل نفس يوجب القود. يعني: لم تقتل نفسا فيقتصّ منها، بل قتلت نفسا تقاد بها. نبّه به على أنّ القتل إنّما يباح حدّا أو قصاصا، و كلا الأمرين منتف.

و لعلّ تغيير النظم، بأن جعل خرقها جزاء للشرط، و اعتراض موسى مستأنفا في الأولى، و في الثانية قتله من جملة الشرط، و اعتراضه جزاء، لأنّ القتل أقبح، و الاعتراض عليه أدخل، فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام، و لذلك فصّله بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي: منكرا أشدّ من الإمر، فإنّ الخرق يمكن تداركه بالسدّ، و هذا لا سبيل إلى تداركه.

و قرأ نافع في رواية قالون و ورش و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر: نكرا بضمّتين.

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زاد فيه «لك» لزيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصيّة، و الوسم بقلّة الثبات و الصبر، لمّا تكرّر منه الاشمئزاز و الاستنكار،

و لم يرعو بالتذكير أوّل مرّة، حتّى زاد في الاستنكار ثاني مرّة.

قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها بعد هذه المرّة فَلا تُصاحِبْنِي و إن سألت صحبتك. و عن يعقوب: فلا تصحبني، أي: فلا تكن صاحبي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قد وجدت عذرا من قبلي لمّا خالفتك ثلاث مرّات. و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك، لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب».

ص: 135

و قرأ نافع: لدني، بتحريك النون، و الاكتفاء بها عن نون الدعامة. و أبو بكر: لدني، بتحريك النون و إسكان الدال، إسكان الضاد من عضد.

[سورة الكهف [18]: الآيات 77 الى 82]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [77] قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [78] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [79] وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً [80] فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً [81] وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [82]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قرية أنطاكية. و قيل: أبلّة بصرة. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «هي قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة، و بها سمّيت النصارى نصارى».

ص: 136

و قيل: باجروان أرمينية. و هي أبعد أرض اللّه من السماء. اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما من: ضيّفه إذا أنزله و جعله ضيفه. و أصل التركيب للميل، يقال: ضاف السهم عن الغرض إذا مال.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كانوا أهل قرية لئاما».

و قيل: شرّ القرى الّتي لا يضاف الضيف فيها، و لا يعرف لابن السبيل حقّه. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لم يضيّفوهما، و لا يضيّفون بعدهما أحدا إلى أن تقوم الساعة».

فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ تدانى أن يسقط، فاستعيرت الإرادة للمداناة و المشارفة، كما استعير الهمّ و العزم و أمثال ذلك أيضا لذلك، كما يقال: عزم السراج أن يطفأ، و طلب أن يطفأ. و إذا كان القول و الإباء، و العزم و العزّة، و النطق و الشكاية، و الصدق و الكذب، و السكوت و التمرّد و الطواعية، و غير ذلك مستعارة للجماد و لسائر ما لا يعقل، فما بال الإرادة؟ و «انقضّ» انفعل، مطاوع: قضضته إذا كسرته. و منه انقضاض الطير و الكوكب لهويّه. أو افعلّ من النقض.

فَأَقامَهُ بعمارته أو بعمود عمده به. و قيل: مسحه بيده فقام. و قيل: نقضه و بناه. و قيل: كان طول الجدار في السماء مائة ذراع.

و لمّا بخلوا عليهما بالطعام، و أقام الخضر جدارهم المشرف على الانهدام، عجب موسى من ذلك قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي: طلبت على عملك جعلا، تحريضا على أخذ الجعل، لينتعشا به، و ليسدا جوعتهما. أو تعريضا بأنّه فضول، لما في «لو» من النفي، كأنّه لمّا رأى الحرمان و مساس الحاجة، و اشتغاله بما لا يعنيه، لم يتمالك نفسه.

و «اتّخذ» افتعل من: تخذ، كاتّبع من:

تبع. و ليس من الأخذ عند البصريّين. و قرأ ابن كثير و البصريّان: لتخذت، أي: لأخذت. و أظهر ابن كثير و يعقوب و حفص الذال، و أدغمه الباقون.

قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله: فلا تصاحبني.

ص: 137

أو إلى الاعتراض الثالث. أو الوقت، أي: هذا الاعتراض سبب فراقنا، أو هذا الوقت وقته.

و إضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتّساع، و كرّر «بين» تأكيدا.

سَأُنَبِّئُكَ سأخبرك بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه، لكونه منكرا من حيث الظاهر.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ لمحاويج لا شي ء لهم يكفيهم يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ للتعيّش. و هو دليل على أنّ المسكين يطلق على من يملك شيئا إذا لم يكفه.

و قيل: سمّوا مساكين لعجزهم عن دفع الملك، أو لزمانتهم، فإنّها كانت لعشرة إخوة:

خمسة زمنى، و خمسة يعملون في البحر.

فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أجعلها ذات عيب وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قدّامهم، كقوله:

من ورائهم برزخ، أو خلفهم. و كان رجوعهم عليه، و اسمه جلندى بن كركر. و فيه لغة اخرى، و هي جلنداء ممدودة. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً من أصحابها.

و كان حقّ النظم أن يتأخّر قوله: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» عن قوله: «وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» لأنّ إرادة التعييب مسبّب عن خوف الغصب، و إنّما قدّم للعناية. أو لأنّ السبب لمّا كان مجموع الأمرين: خوف الغصب و مسكنة الملّاك، رتّبه على أقوى الجزأين و ادّعاهما، و عقّبه بالآخر على سبيل التقييد و التتميم.

وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و هو كافر. و يؤيّده ما روي عن أبيّ و ابن عبّاس: أنّ الغلام كان كافرا، و أبواه مؤمنين. و روي أيضا عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام: «و أمّا الغلام الّذي قتله، فإنّما قتله لأنّه كان كافرا».

فَخَشِينا فخفنا، لعلمنا من عند اللّه أنّه إن بقي أَنْ يُرْهِقَهُما أي: يغشيهما طُغْياناً عليهما وَ كُفْراً لنعمتهما، بعقوقه و سوء صنيعه، فيلحقهما شرّا و بلاء. أو يقرن بإيمانهما طغيانه و كفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان و طاغ كافر. أو يعديهما بدائه، فيرتدّا بإضلاله، أو بممالأته على طغيانه و كفره حبّا له. و إنّما خشي ذلك لأنّ اللّه أعلمه بحاله، و اطّلعه على سريرة أمره.

ص: 138

و عن ابن عبّاس: أنّ نجدة الحروري (1) كتب إليه: كيف قتله- أي: قتل الخضر الغلام- و قد نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل.

و يجوز أن يكون قوله: «فخشينا» حكاية قول اللّه عزّ و جلّ. فمعنى «خشينا»: علمنا.

فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ أن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه زَكاةً طهارة من الذنوب و الأخلاق الرديئة وَ أَقْرَبَ رُحْماً رحمة و عطوفة على والديه. قيل:

ولدت لهما جارية، فتزوّجها نبيّ، فولدت له نبيّا هدى اللّه به أمّة من الأمم.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّهما أبدلا بالغلام المقتول جارية، فولدت سبعين نبيّا».

و قرأ نافع و أبو عمرو: يبدّلهما بالتشديد. و ابن عامر و يعقوب و عاصم: رحما بالتخفيف. و انتصابه على التمييز، و العامل اسم التفضيل. و كذلك «زكوة».

و في الآية دلالة على وجوب اللطف على ما نذهب إليه، لأنّ المفهوم من الآية أنّه تدبير من اللّه تعالى لم يكن يجوز خلافه، و أنّه إذا علم من حال الإنسان أنّه يفسد عند شي ء، يجب عليه في الحكمة أن يذهب ذلك الشي ء، حتّى لا يقع هذا الفساد.

وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ قيل: اسمهما أصرم و صريم، و اسم المقتول جيسور وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من ذهب و فضّة. روي ذلك مرفوعا.

و الذمّ على كنز الذهب و الفضّة في قوله: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ (2) لمن لا يؤدّي زكاتهما و ما تعلّق بهما من الحقوق.

و قيل: صحف فيها علم، كما روي عن ابن عبّاس: ما كان ذلك الكنز إلّا علما.

و قيل: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟! و عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟! و عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟!

ص: 139


1- في هامش النسخة الخطّية: «الحرورا قرية الخوارج. منه».
2- التوبة: 34.

و عجبت لمن يعرف الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟! لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه. و الظاهر لإطلاقه أنّه مال.

وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً تنبيه على أنّ سعيه ذلك كان لصلاحه. و كان سيّاحا، و اسمه كاشح.

و عن جعفر بن محمّد عليه السّلام: «كان بين الغلامين و بين الأب الّذي حفظا فيه سبعة آباء».

و معنى «حفظا فيه»: حفظا في حقّه. يقال: اللّهمّ احفظنا في نبيّك، أي: في حقّه و لأجله. و يقال: أخ في اللّه، أي: من أجل اللّه. و قال عليه السّلام: «إن اللّه ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ اللّه، لكرامته على اللّه تعالى».

فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي: الحلم و كمال الرأي وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مرحومين من ربّك. و يجوز أن يكون علّة أو مصدرا ل «أراد»، فإنّ إرادة الخير رحمة.

و قيل: متعلّق بمحذوف تقديره: فعلت ما فعلت رحمة من ربّك. و لعلّ إسناد الإرادة أوّلا إلى نفسه «لأنّه المباشر للتعييب، و ثانيا إلى اللّه و إلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام و إيجاد اللّه بدله، و ثالثا إلى اللّه وحده لأنّه لا مدخل له في بلوغ الغلامين. أو لأنّ الأوّل في نفسه شرّ، و الثالث خير، و الثاني ممتزج.

وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي عن رأيي و اجتهادي، و إنّما فعلته بأمر اللّه عزّ و جلّ. و مبنى ذلك على أنّه متى تعارض ضرران يجب تحمّل أهونهما لدفع أعظمهما. و هو أصل ممهّد، غير أنّ الشرائع في تفاصيله مختلفة. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي: ما لم تستطع، فحذف التاء تخفيفا.

و من فوائد هذه القصّة أن لا يعجب المرء بعلمه، و لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعلّ فيه سرّا لا يعرفه، و أن يداوم على التعلّم، و يتذلّل للمعلّم، و يراعي الأدب في المقال، و أن ينبّه المجرم على جرمه، و يعفو عنه حتّى يتحقّق إصراره، ثمّ

ص: 140

يهاجر عنه.

و اعلم أنّ المشهور بين الأمّة أنّ الخضر عليه السّلام موجود في زماننا. و لا ينافيه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا نبيّ بعدي»

لأنّ الخضر عليه السّلام كان قبل نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و شرعه لو كان شرعا خاصّا، فإنّه منسوخ بشريعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لو كان داعيا إلى شريعة من تقدّمه من الأنبياء، فإنّ شريعة نبيّنا ناسخة لها. فلا يرد ما قيل: لا يجوز أن يكون الخضر حيّا إلى وقتنا هذا، لأنّه لا نبيّ بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة الكهف [18]: الآيات 83 الى 98]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [83] إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً [84] فَأَتْبَعَ سَبَباً [85] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [86] قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً [87]

وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً [88] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً [89] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً [90] كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً [91] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً [92]

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا

ص: 141

يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً [93] قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا [94] قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً [95] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً [96] فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً [97]

قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [98]

ثمّ بيّن سبحانه قصّة ذي القرنين، فقال: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ يعني:

إسكندر الرومي ملك فارس و الروم. و قيل: ملك الدنيا مؤمنان: ذو القرنين و سليمان، و كافران: نمرود و بختنصّر، و كان بعد نمرود.

قيل: إنّه كان عبدا صالحا ملّكه اللّه الأرض، و أعطاه العلم و الحكمة، و ألبسه الهيبة، و سخّر له النور و الظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، و تحوطه الظلمة من ورائه. و قيل: كان نبيّا. و قيل: ملكا من الملائكة.

و عن عليّ عليه السّلام: «سخّر له السحاب، و مدّت له الأسباب، و بسط له النور، فكان الليل و النهار عليه سواء- و هذا معنى تمكّنه في الأرض- و سهّل عليه المسير فيها، و ذلّل له طريقها و حزونها» (1).

و سئل عنه فقال: «أحبّ اللّه فأحبّه».

ص: 142


1- الحزون جمع الحزن، و هو ما غلظ من الأرض.

و سأله ابن الكوّا ما ذو القرنين، أملك أم نبيّ؟ فقال: «ليس بملك و لا نبيّ، و لكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة اللّه فمات، ثمّ بعثه اللّه فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه اللّه فسمّي ذا القرنين، و فيكم مثله، أراد نفسه». قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه، فيحييه اللّه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سمّي ذا القرنين، لأنّه طاف قرني الدنيا- يعني: جانبيها- شرقها و غربها».

و قيل: له قرنان، أي: ضفيرتان (1). و قيل: انقرض في وقته قرنان من الناس، و عن وهب: لأنّه ملك الروم و فارس. و روي: الروم و الترك. و عنه: كانت صفحتا رأسه من نحاس. و قيل: كان لتاجه قرنان. و قيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. و يجوز أنه لقّب بذلك لشجاعته، كما يسمّى الشجاع كبشا، كأنّه ينطح أقرانه. و كان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره.

و عن وهب: أنّه رأى في منامه أنّه دنا من الشمس

حتّى أخذ بقرنيها في شرقها و غربها، فقصّ رؤياه على قومه، فسمّوه ذا القرنين.

و قيل: لأنّه كريم الطرفين، من أهل بيت الشرف من قبل أبيه و أمّه. و السائلون هم اليهود كما مرّ، سألوه امتحانا.

قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً خطاب للسائلين، و الهاء لذي القرنين.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي: مكّنّا له أمره من التصرّف فيها كيف شاء، فحذف المفعول وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ أراده و توجّه إليه، من أغراضه و مقاصده في ملكه سَبَباً طريقا موصلا إليه. و السّبب ما يتوصّل به إلى المطلوب، من العلم و القدرة و الآلة.

فلمّا أراد بلوغ المغرب فَأَتْبَعَ سَبَباً فأتبع سببا يوصل إليه حَتَّى إِذا بَلَغَ

ص: 143


1- الضفيرة: كل خصلة مما ضفر- أي: نسج- على حدتها من الشعر.

مَغْرِبَ الشَّمْسِ موضع غروبها. يعني: نهاية العمارة من جانب المغرب، لا أنّه بلغ موضع الغروب، لأنّه لا يصل إليه أحد. وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ذات حمأ، من: حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة (1).

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر: حامية، أي: حارّة. و لا تنافي بينهما، لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين.

و عن أبي ذرّ: «كنت رديف رسول اللّه على جمل فرأى الشمس حين غابت، فقال:

تدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: اللّه و رسوله أعلم. قال: فإنّها تغرب في عين حامية».

و لعلّه بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك، إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، و لذلك قال: وجدها تغرب، و لم يقل: كانت تغرب.

و قيل إنّ: ابن عبّاس سمع معاوية يقرأ: حامية، فقال: حمئة. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء و طين،

كذلك نجده في التوراة.

وَ وَجَدَ عِنْدَها عند تلك العين قَوْماً قيل: كان لباسهم جلود الوحش، و طعامهم ما لفظ البحر، و كانوا كفّارا، فخيّره اللّه بين أن يعذّبهم أو يدعوهم إلى الايمان، كما حكى بقوله: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل على كفرهم وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً بالإرشاد و تعليم الشرائع.

و قيل: خيّره اللّه بين القتل و الأسر. و سمّاه إحسانا في مقابلة القتل.

و يؤيّد الأوّل قوله: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي: فاختار الدعوة و قال: أمّا من دعوته فظلم نفسه بالإصرار على كفره، أو استمرّ على ظلمه الّذي هو الشرك، فنعذّبه أنا و من معي في الدنيا بالقتل، و يعذّبه اللّه في الآخرة عذابا منكرا لم يعهد مثله.

ص: 144


1- الحمأة: الطين الأسود.

وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً و هو ما يقتضيه الإيمان فَلَهُ في الدارين جَزاءً الْحُسْنى الفعلة الحسنة. و «أمّا» للتقسيم دون التخيير، أي: ليكن شأنك معهم إمّا التعذيب و إمّا الإحسان، فالأوّل لمن أصرّ على الكفر، و الثاني لمن تاب عنه.

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: جزاء، منوّنا منصوبا على الحال، أي:

فله المثوبة الحسنى مجزيّا بها، أو على المصدر لفعله المقدّر حالا، أي: يجزى بها جزاء.

و نداء اللّه إيّاه إن كان نبيّا فبوحي، و إن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبيّ.

وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا ممّا نأمر به يُسْراً سهلا ميسّرا غير شاقّ. و تقديره:

ذا يسر. أي: لا نأمره بالصعب الشاقّ، بل بالسهل المتيسّر، من الزكاة و الخراج و غير ذلك.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ثمّ أتبع طريقا يوصله إلى المشرق حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ يعني: الموضع الّذي تطلع الشمس عليه أوّلا من معمورة الأرض وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً من جنس اللباس و البناء، فإنّ أرضهم لا تمسك الأبنية. و عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لم يعلموا صنعة البيوت».

و قيل: لأنّهم اتّخذوا الأسراب (1) بدل الأبنية، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم.

و عن بعض الثقات: خرجت حتّى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء، فقيل:

بينك و بينهم مسيرة يوم و ليلة. فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه و يلبس الاخرى، و معي صاحب يعرف لسانهم. فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة (2)، فغشي عليّ، ثمّ أفقت و هم يمسحونني بالدهن، فلمّا طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت. فأدخلونا سربا لهم، فلمّا ارتفع النهار خرجوا إلى البحر، فجعلوا يصطادون السمك و يطرحونه في الشمس فينضج لهم.

ص: 145


1- السرب: الحفير تحت الأرض. و جمعه: أسراب.
2- صلصل الحليّ أو اللجام: صوّت.

كَذلِكَ أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان و بسطة الملك. أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير و الاختيار. و يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف ل «وجد»، أو «نجعل» أو صفة «قوم» أي: على قوم مثل ذلك القبيل الّذين تغرب عليهم الشمس في الكفر و الحكم.

وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ أي: علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجنود و الآلات و العدد و الأسباب خُبْراً علما تعلّق بظواهره و خفاياه. و المراد: أنّ كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلّا علم اللطيف الخبير.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً يعني: طريقا ثالثا معترضا بين المشرق و المغرب، أخذا من الجنوب إلى الشمال حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ هما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما.

و هما جبلا أرمينية و أذربيجان. و قيل: جبلان في أواخر الشمال، في منقطع أرض الترك، من ورائهما يأجوج و مأجوج. و قيل: إنّ هذا السدّ وراء بحر الروم، على مؤخّرهما البحر المحيط.

و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي و أبو بكر و يعقوب: بين السّدّين بالضمّ. و هما لغتان. و قيل: المضموم لما خلقه اللّه بمعنى المفعول، و المفتوح لما عمله الناس، لأنّه في الأصل مصدر سمّي به حدث يحدثه الناس. و قيل: بالعكس.

و «بين» هاهنا مفعول به، كما انجرّ على الإضافة، كقوله: هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ (1). و كما ارتفع في قوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ (2) لأنّه من الظروف الّتي تستعمل أسماء و ظروفا.

وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا إلّا بجهد و مشقّة، من إشارة و نحوها كما يفهم البكم، لغرابة لغتهم، و قلّة فطنتهم.

ص: 146


1- الكهف: 78.
2- الأنعام: 94.

و قرأ حمزة و الكسائي: يفقهون، أي: لا يفهمون السامع كلامهم و لا يبينونه، لتلعثمهم (1) فيه.

قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ أي: قال مترجمهم إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ قبيلتان من ولد يافث بن نوح. و قيل: يأجوج من الترك، و مأجوج من الجيل و الديلم. و هما اسمان أعجميّان بدليل منع الصرف. و قيل: عربيّان، من: أجّ الظليم (2) إذا أسرع. و أصلهما الهمز، كما قرأ عاصم. و منع صرفهما للتعريف و التأنيث. مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي: في أرضنا، بالقتل و التخريب و إتلاف الزروع. قيل: كانوا يخرجون في الربيع، فلا يتركون أخضر إلّا أكلوه، و لا يابسا إلّا احتملوه، و قيل: كانوا يأكلون الناس و الدوابّ.

ورد في الخبر عن حذيفة قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن يأجوج و مأجوج، فقال: «يأجوج أمّة و مأجوج أمّة، لا يموت منهم أحد حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّ قد حمل السلاح. قلت: يا رسول اللّه صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز. قلت: يا رسول اللّه و ما الأرز؟ قال: شجر بالشام طوال. و صنف منهم طولهم و عرضهم سواء، و هؤلاء الّذين لا يقوم لهم خيل و لا حديد. و صنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه و يلتحف بالأخرى، و لا يمرّون بفيل و لا وحش و لا جمل و لا خنزير إلّا أكلوه، و من مات منهم أكلوه، مقدّمتهم بالشام، و ساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق و بحيرة طبرية».

و في الكشّاف (3): «هم على صنفين: طوال مفرطو الطول، و قصار مفرطو القصر».

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا نخرجه من أموالنا. و قرأ حمزة و الكسائي: خراجا.

و كلاهما واحد، كالنول و النوال. و قيل: الخراج على الأرض و الذمّة، و الخرج المصدر.

ص: 147


1- تلعثم في الأمر: توقّف فيه و تأنّى.
2- الظليم: الذكر من النعام.
3- الكشّاف 2: 746- 747.

عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا يحجز دون خروجهم علينا. و قد ضمّه من ضمّ السدّين غير حمزة و الكسائي.

قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال و الملك خير ممّا تبذلون لي من الخراج، و لا حاجة بي إليه، كما قال سليمان عليه السّلام: فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ (1). و قرأ ابن كثير: مكّنني على الأصل.

فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي: بقوّة فعلة

و صنّاع يحسنون البناء، أو بما أتقوّى به من الآلات أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً حاجزا حصينا موثقا هو أكبر من السدّ، من قولهم:

ثوب مردّم إذا كان رقاعا فوق رقاع.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعه. و الزبرة القطعة الكبيرة. و هو لا ينافي ردّ الخراج و الاقتصار على المعونة، لأنّ الإيتاء بمعنى المناولة. و يدلّ عليه قراءة أبي بكر: ردما ائتوني، بكسر التنوين موصولة الهمزة، على معنى: جيئوني بزبر الحديد. و الباء محذوفة، حذفها في: أمرتك الخير. و لأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوّة، دون الخراج على العمل.

حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ سوّى بين جانبي الجبلين، بأن أمر بتنضيدها.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و البصريّان بضمّتين، و أبو بكر بضمّ الصاد و سكون الدال، من الصدف و هو الميل، لأنّ كلّا منهما منعزل عن الآخر، و منه التصادف للتقابل.

قالَ انْفُخُوا أي: قال للعملة: انفخوا في الأكوار (2) و الحديد حَتَّى إِذا جَعَلَهُ جعل المنفوخ فيه ناراً كالنار بالإحماء قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي:

آتوني قطرا- أي: نحاسا مذابا- أفرغ عليه قطرا، لينسدّ الثقب الّذي فيه، و يصير جدارا مصمتا. و كانت حجارته الحديد، و طينه النحاس الذائب. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الثاني عليه. و به تمسّك البصريّون على أنّ إعمال الثاني من العاملين المتوجّهين نحو

ص: 148


1- النمل: 36.
2- الكور: كور الحدّاد المبنيّ من الطين. و جمعه أكوار.

معمول واحد أولى، إذ لو كان «قطرا» مفعول «آتوني» لأضمر مفعول «أفرغ» حذرا من الالتباس. و قرأ حمزة و أبو بكر: قال ائتوني موصولة الألف.

و قيل: حفر للأساس حتّى بلغ الماء، و جعل الأساس من الصخر و النحاس المذاب، و البنيان من زبر الحديد بينها الحطب و الفحم، حتّى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتّى صارت كالنار، فصبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى، فاختلط و التصق بعضه ببعض، و صار جبلا صلدا.

و قيل: بعد ما بين السدّين مائة فرسخ، و مقدار ارتفاع السدّ مائتا ذراع، و عرض الحائط نحو من خمسين ذراعا.

قيل: بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض، بكلاليب من حديد و نحاس مذاب في تجاويفها.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ رجلا أخبره به، فقال: كيف رأيته؟ قال: كالبرد المحبّر، طريقة سوداء و طريقة حمراء، قال: قد رأيته».

فَمَا اسْطاعُوا بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين. و قرأ حمزة بالإدغام، جامعا بين الساكنين على غير حدّه. أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه بالصعود، لارتفاعه و انملاسه وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لثخنه و صلابته.

قالَ هذا هذا السدّ، أو الإقدار و التمكين على تسويته رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي على عباده فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي فإذا دنا وقت وعده بخروج يأجوج و مأجوج، أو بقيام الساعة، بأن شارف يوم القيامة جَعَلَهُ دَكَّاءَ مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض. مصدر بمعنى المفعول. و منه: جمل أدكّ لمنبسط السنام. و قرأ الكوفيّون: دكّاء بالمدّ، أي: أرضا مستوية. وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا كائنا لا محالة. و إنّما يكون ذلك بعد قتل عيسى بن مريم الدجّال.

و جاء في الحديث: «أنّهم يدأبون في حفره نهارهم، حتّى إذا أمسوا و كادوا

ص: 149

يبصرون شعاع الشمس قالوا: نرجع غدا و نفتحه و نخرج، و لا يستثنون. فيعودون من الغد قد استوى كما كان، حتّى إذا جاء وعد اللّه قالوا: غدا نفتح و نخرج إن شاء اللّه، فيعودون إليه و هو كهيئته حين تركوه بالأمس، فيخرقونه

و يخرجون على الناس، فينشفون المياه، و يتحصّن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع و فيها كهيئة الدماء، و يقولون: قد قهرنا أهل الأرض و علونا أهل السماء. فبعث اللّه عليهم نغفا (1) في أقفائهم، فيدخل آذانهم فيهلكون بها. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمد بيده إنّ دوابّ الأرض لتسمن و تسكر من لحومهم سكرا».

و في تفسير الكلبي: إنّ الخضر و اليسع يجتمعان كلّ ليلة على ذلك السدّ، يحجبان يأجوج و مأجوج عن الخروج».

[سورة الكهف [18]: الآيات 99 الى 106]

وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً [99] وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [100] الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً [101] أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً [102] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً [103]

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [104] أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

ص: 150


1- في هامش النسخة الخطّية: «النغف: دود يكون في أنف الغنم. منه».

وَزْناً [105] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً [106]

ثمّ أخبر سبحانه عن تلك الأمم، فقال: وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ و جعلنا بعض يأجوج و مأجوج حين يخرجون ممّا وراء السدّ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يموجون في بعض مزدحمين في البلاد. أو يموج بعض الخلق في بعض، فيضطربون و يختلطون إنسهم و جهنّم حيارى. و يؤيّده وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة.

و اختلفوا في الصور، فعن

ابن عبّاس: هو قرن ينفخ فيه. و عن الحسن: هو جمع صورة، و أنّ اللّه سبحانه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في الأرحام، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما ينفخ في أرحام أمّهاتهم.

و قيل: إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات. فالنفخة الأولى: نفخة الفزع.

و الثانية: نفخة الصعق الّتي يصعق من في السماء و الأرض بها فيموتون. و الثالثة: نفخة القيام، فيحشرهم بها في قبورهم لربّ العالمين.

فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً للحساب و الجزاء في صعيد واحد.

وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً و أبرزناها و أظهرناها لهم، فرأوها و شاهدوها مع ألوان عذابها قبل دخولها.

الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أي: غفلوا عن آياتي الّتي ينظر إليها، فأذكر بالتوحيد و التعظيم، فأعرضوا عن التفكّر فيها وَ كانُوا فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه من الإدراك لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي: يثقل عليهم استماع ذكري و كلامي، لإفراط صممهم عن الحقّ، فإنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، و هؤلاء كأنّهم أصمت مسامعهم بالكلّيّة، فلا استطاعة بهم للسمع.

أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أ فظنّوا، و الاستفهام للإنكار أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي و هم

ص: 151

الملائكة و المسيح مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ معبودين نافعهم؟ أو لا أعذّبهم به؟ فحذف المفعول الثاني كما يحذف الخبر للقرينة، أو سدّ «أن يتّخذوا» مسدّ مفعوليه. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ما يقام للنزيل، و هو الضيف. و فيه تهكّم. و نحوه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1). و تنبيه على أنّ لهم وراءها من العذاب ما تستحقرونه.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نصب على التمييز. و جمع لأنّه من أسماء الفاعلين، أو لتنوّع أعمالهم، أي: بأخسر الناس أعمالا.

الَّذِينَ ضَلَ ضاع و بطل سَعْيُهُمْ و

اجتهادهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لكفرهم و عجبهم، كالرهابنة، فإنّهم خسروا دنياهم و أخراهم. و محلّه الرفع على الخبر المحذوف، فإنّه جواب السؤال. أو الجرّ على البدل. أو النصب على الذمّ. وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً بعجبهم و اعتقادهم أنّهم على الحقّ.

روى العيّاشي بإسناده قال: «قام ابن الكوّاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فسأله عن أهل هذه الآية. فقال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربّهم، و ابتدعوا في دينهم، فحبطت أعمالهم.

و أهل النهر منهم ليسوا ببعيد. يعني: الخوارج» (2).

و في رواية أخرى قال عليه السّلام: «منهم أهل الحروراء» « (3)».

أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالقرآن، أو بدلائله المنصوبة على التوحيد و النبوّة وَ لِقائِهِ بالبعث على ما هو عليه، أو لقاء عذابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ضاعت و بطلت بكفرهم، فلا يثابون عليها، لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه الّذي أمرهم اللّه به فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فنزدري بهم، و لا نجعل لهم مقدارا و اعتبارا. و قيل: لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم، لانحباطها، لأن الميزان إنّما يوضع لأهل الحسنات و السيّئات من الموحّدين.

ص: 152


1- الانشقاق: 24.
2- تفسير العيّاشي 2: 352 ح 89، 90.
3- تفسير العيّاشي 2: 352 ح 89، 90.

و عن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمال يوم القيامة في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا.

و روي في الصحيح أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة».

ذلِكَ أي: الأمر ذلك الّذي ذكرت، من حبوط أعمالهم و خسّة قدرهم. و قوله:

جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مبيّنة له. و يجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ، و الجملة خبره، و العائد محذوف، أي: جزاؤهم به. أو «جزاؤهم» بدله، و «جهنّم» خبره. أو «جزاؤهم» خبره، و «جهنّم» عطف بيان للخبر. بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً أي:

بسبب ذلك.

[سورة الكهف [18]: الآيات 107 الى 108]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [107] خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً [108]

و لمّا تقدّم ذكر حال الكافرين، عقّبه سبحانه بذكر حال المؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا فيما سبق من حكم اللّه و وعده. و الفردوس أعلى درجات الجنّة و أفضلها. و أصله البستان الّذي يجمع الكرم و النخيل.

روى عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء و الأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنّة الأربعة، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس».

خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا تحوّلا، إذ لا يجدون أطيب منها حتّى تنازعهم إليه أنفسهم. و يجوز أن يراد به تأكيد الخلود. و هذه غاية الوصف، لأنّ الإنسان في الدنيا في أيّ نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه.

ص: 153

[سورة الكهف [18]: الآيات 109 الى 110]

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [109] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [110]

و اعلم أنّه قد مرّ (1) في سورة بني إسرائيل أنّ اليهود قالوا: في كتابكم: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (2) ثمّ تقرؤون: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (3)، فنزلت: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ جنس البحر مِداداً ما يكتب به. و هو اسم ما يمدّ به الشي ء، كالحبر للدواة، و السليط (4) للسراج. لِكَلِماتِ رَبِّي لكلمات علمه و حكمته، و

مقدوراته و عجائبه لَنَفِدَ الْبَحْرُ لنفد جنس البحر بأسره، لأنّ كلّ جسم متناه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي فإنّها غير متناهية فلا تنفد وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ بمثل البحر الموجود مَدَداً زيادة و معونة، لأنّ مجموع المتناهيين متناه، بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلّا متناهيا، للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد، و المتناهي ينفد قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة.

و نصبه للتمييز، كقولك: لي مثله رجلا. و هو مثل المدد معنى. و المعنى: أنّ الحكمة و إن كانت خيرا كثيرا في نفسه، لكنّه قطرة من بحر كلمات اللّه.

ص: 154


1- راجع ص 67- 68 ذيل الآية 85 من سورة الإسراء.
2- البقرة: 269.
3- الإسراء: 85.
4- في هامش النسخة الخطّية: «دهن الزيت. منه».

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا أدّعي الإحاطة على كلماته.

عن ابن عبّاس: علّم اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التواضع لئلّا يزهى على خلقه، فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميّ كغيره، إلّا أنّه أكرم بالوحي. و هو قوله: يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و إنّما ميّزت عنكم بذلك. يعني: لا فضل لي عليكم إلّا بالدين و النبوّة، و لا علم لي إلّا ما علّمنيه اللّه تعالى.

فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ يأمل حسن جزائه عند ربّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً خالصا للّه، يتقرّب به إليه، بحيث يرتضيه وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً من ملك أو بشر، أو حجر أو شجر. و الأكثر أنّ معناه لا يرائيه.

و عن عطاء، عن ابن عبّاس: أنّ اللّه تعالى قال: «وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» و لم يقل: و لا يشرك به، لأنّه أراد العمل الّذي يعمل للّه، و يحبّ أن يحمد عليه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اتّقوا الشرك الأصغر. قالوا: و ما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء».

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «قال اللّه عز و جل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بري ء، فهو للّذي أشرك». رواه مسلم في الصحيح (1).

و روي عن عبادة بن الصامت و شدّاد بن أوس قالا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك، و من صام صوما يرائي به فقد أشرك، ثمّ قرأ هذه الآية».

و روي أنّ جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي لأعمل العمل للّه، فإذا اطّلع عليه سرّني. فقال: إنّ اللّه لا يقبل ما شورك فيه. فنزلت تصديقا له».

و روي: «أنّ أبا الحسن الرضا عليه السّلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة و الغلام يصبّ على يده الماء، فقال: لا تشرك بعبادة ربّك أحدا. فصرف المأمون الغلام، و تولّى إتمام وضوئه بنفسه».

ص: 155


1- صحيح مسلم 4: 2289 ح 46.

و قيل: معناه: و لا يطلب منه أجرا. و يؤيّده ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «ما عبدتك طمعا لثوابك، و خوفا من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

و قيل: هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها- أي: هذه الآية- عند مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكّة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم. فإن كان مضجعه بمكّة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ».

و مثله ما روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه اللّه بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السّلام قال: «ما من عبد يقرأ «قل إنّما أنا بشر مثلكم» إلى آخر الآية، إلّا كان له نورا في مضجعه إلى بيت اللّه الحرام، فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نورا إلى بيت المقدس».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلّا يتيقّظ في الساعة الّتي يريدها».

قيل في وجه اتّصال «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي» بما قبلها: إنّه لمّا تقدّم الأمر و النهي و الوعد و الوعيد، عقّب ذلك سبحانه ببيان أنّ مقدوراته لا تتناهى، و أنّه قادر على ما يشاء في أفعاله و أوامره على حسب المصالح، فمن الواجب على المكلّف أن يمتثل أمره و نهيه، و يثق بوعده، و يتّقي وعيده.

تمّت هذه المجلّدة بحمد اللّه و حسن توفيقه، و الصلاة على محمد و آله الطيّبين الطاهرين

ص: 156

[19] سورة مريم

اشارة

مكّيّة بالإجماع. و هي ثمان و تسعون آية. و في حديث أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا و كذّب به، و بيحيى و مريم و عيسى و موسى و هارون و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل عشر حسنات، و بعدد من دعا اللّه في الدنيا، و بعدد من لم يدع اللّه».

و قال الصادق عليه السّلام: «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتّى يصيب ما يغنيه في ماله و ولده، و كان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم، و أعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا».

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الكهف بذكر التوحيد و الدعاء إليه، افتتح هذه السورة بذكر الأنبياء الّذين كانوا على تلك الطريقة، بعثا على الاقتداء بهم، و حثّا على الاهتداء بهديهم، فقال:

[سورة مريم [19]: الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص [1] ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [2] إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [3] قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ

ص: 157

بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [4] وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [5] يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص أمال أبو عمرو الهاء، لأنّ ألفات أسماء التهجّي عنده ياءات. و ابن عامر و حمزة الياء. و الكسائي و أبو بكر كليهما. و نافع بين بين.

و نافع و ابن كثير و عاصم يظهرون دال الهجاء عند الذال، و الباقون يدغمونها.

و قد ذكرنا في أوّل سورة البقرة اختلاف العلماء في حروف المعجم الّتي في أوائل السور، و شرحنا أقوالهم هناك. و قيل هاهنا: إنّها اسم هذه السورة، أو اسم القرآن.

و حدّث عطاء بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ «كاف» من كريم، و «ها» من هاد، و «يا» من حكيم، و «عين» من عليم، و «صاد» من صادق.

و في رواية عطاء و الكلبي عنه: أنّ معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريّته، صادق بوعده، فإنّ كلّ واحدة من هذه الحروف تدلّ على صفة من صفات اللّه عز و جلّ.

و عند بعضهم أنّ الياء إشارة إلى: يا من يجير و لا يجار عليه. و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال في دعائه: «أسألك يا كهيعص يا حمسق».

ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ خبر ما قبله إن أوّل بالسورة أو القرآن، فإنّه مشتمل عليه. أو خبر محذوف، أي: هذا المتلوّ ذكر رحمة ربّك. أو مبتدأ حذف خبره، أي: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربّك. عَبْدَهُ مفعول الرحمة أو الذكر، على أنّ الرحمة فاعل الذكر على الاتّساع، كقولك: ذكرني جود زيد زَكَرِيَّا بدل من «عبده»، أو عطف بيان له.

و المراد بالرحمة إجابته إيّاه حين دعاه و سأله الولد. و زكريّا اسم نبيّ من أنبياء بني

ص: 158

إسرائيل، كان من أولاد هارون بن عمران.

إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا دعا ربّه دعاء خفيّا. و الإخفاء و الجهر و إن كانا سيّان عند اللّه، لكن الإخفاء أشدّ إخباتا و أكثر إخلاصا. و في الحديث: «خير الدعاء الخفيّ، و خير الرزق ما يكفي».

و قيل: قيّد النداء به لئلّا يهزؤا به على طلب الولد وقت الشيخوخة، فيقولوا: انظروا إلى الشيخ الهمّ يسأل الولد على الكبر. أو لئلّا يطّلع عليه مواليه الّذين خافهم. أو لأنّ ضعف الهرم أخفى صوته.

و اختلف في سنّة حينئذ، فقيل: ستّون. و قيل: سبعون. و قيل: خمس و سبعون.

و قيل: خمس و ثمانون. و قيل: تسع و تسعون.

ثمّ فسّر النداء بقوله: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي: ضعف. و تخصيص العظم لأنّه دعامة البدن و قوامه و أصل بنيانه، فإذا وهن تساقطت قوّته. و لأنّه أصلب ما فيه، فإذا ضعف كان ما وراءه أضعف. و توحيده لأنّ الواحد هو الدالّ على معنى الجنس، و قصده إلى أنّ هذا الجنس الّذي هو العمود و القوام و أشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن. و لو جمع لكان يفيد معنى آخر، و هو أنّه لم يهن منه بعض عظامه و لكن كلّها.

وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أدغم أبو عمرو السين في الشين. شبّه الشيب في بياضه و إنارته بشواظ (1) النار، و انتشاره و فشوّه في الشعر و أخذه منه كلّ مأخذ باشتعالها.

ثمّ أخرجه مخرج الاستعارة، و أسند الاشتعال إلى الرأس الّذي هو مكان الشيب و منبته مبالغة. و جعله مميّزا إيضاحا للمقصود. و اكتفى باللام عن الإضافة، للدلالة على أنّ علم المخاطب بتعيّن المراد يغني عن التقييد. و لهذا فصحت هذه الجملة، و شهد لها بالبلاغة.

وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِ بدعائي إيّاك فيما مضى شَقِيًّا محروما، بل كلّما دعوتك استجبت لي. و هو توسّل بما سلف معه من الاستجابة، و تنبيه على أنّ المدعوّ له

ص: 159


1- الشواظ: لهب لا دخان فيه.

و إن لم يكن معتادا فإجابته معتادة، و أنّه تعالى عوّده بالإجابة و أطمعه فيها، و من حقّ الكريم أن لا يخيب من أطمعه. و المعنى: أنّك ما خيّبتني فيما سألتك، و لا حرّمتني الاستجابة.

و عن بعضهم: أنّ محتاجا سأله و قال: أنا الّذي أحسنت إليّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسّل بنا إلينا، فقضى حاجته.

وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ يعني: بني عمّه. و عن ابن عبّاس: هم الكلالة. و كانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف على الدين أن يغيّروه، و يبدّلوا على أمّته أحكام ملّته. مِنْ وَرائِي من بعد موتي. و عن ابن كثير: بالمدّ و القصر (1) و فتح الياء. و هذا الظرف لا يتعلّق ب «خفت»، لفساد المعنى، لأنّ بعد الموت لا يكون الخوف، و لكن بمحذوف، أو بمعنى الولاية في الموالي، أي: خفت فعل الموالي، و هو تبديلهم و سوء خلافتهم من ورائي، أو خفت الّذين يلون الأمر من ورائي.

وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا من صلبي، يليني و يكون أولى بميراثي، فإنّ مثل هذه الهيئة لا يرجى إلّا من فضلك و كمال قدرتك، فإنّي و امرأتي لا نصلح للولادة.

يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ صفتان له. و جزمهما أبو عمرو و الكسائي على أنّهما جواب الدعاء. و المراد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام، فإنّ زكريّا كان من ولد هارون، و هو من ولد لاوي بن يعقوب. و قيل: يعقوب أخو زكريّا، أو أخو عمران بن ماثان من نسل سليمان.

و اختلف في معنى هذا الإرث، فقيل: معناه: يرثني مالي، و يرث من آل يعقوب النبوّة. و قيل: يرثني نبوّتي و نبوّة آل يعقوب. و قيل: يرثني الحبورة، فإنّه كان حبرا، و يرث من آل يعقوب الملك.

ص: 160


1- أي: وراي.

و أصحابنا رضوان اللّه عليهم استدلّوا بهذه الآية على أنّ الأنبياء يرثون المال، و أنّ المراد بالإرث فيها المال دون العلم و النبوّة، لأنّ لفظ الميراث في اللغة و الشريعة لا يطلق إلّا على ما ينقل من الموروث إلى الوارث كالأموال، و لا يستعمل في غير المال إلّا على طريق المجاز، و لا يجوز الانتقال من الحقيقة إلى المجاز بغير دليل.

و أيضا فإنّ زكريّا عليه السّلام قال في دعائه: وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي: اجعل يا ربّ ذلك الوليّ الّذي يرثني مرضيّا عندك قولا و فعلا، ممتثلا لأمرك. و متى حملنا الإرث على النبوّة- كما

زعم العامّة- لم يكن لذلك معنى، و كان لغوا. ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد: اللّهمّ ابعث إلينا نبيّا و اجعله مرضيّا في أخلاقه، لأنّه إذا كان نبيّا فقد دخل الرضا و ما هو أعظم منه في النبوّة.

و يقوّي ما قلناه: أنّ زكريّا عليه السّلام صرّح بأنّه يخاف بني عمّه بعده بقوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي». و إنّما يطلب وارثا لأجل خوفه، و لا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوّة و العلم، لأنّه كان أعلم باللّه من أن يخاف أن يبعث نبيّا من ليس بأهل للنبوّة، و أن يورث علمه و حكمته من ليس لهما بأهل. و لأنّه إنّما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس، فكيف يخاف من الأمر الّذي هو الغرض في بعثته؟! فعلى هذا التحقيق: المراد بقوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ» خفت تضييع الموالي مالي، و إنفاقهم إيّاه في معصية اللّه عزّ و جلّ. فاستجاب اللّه دعاءه، و أوحى إليه وعدا بإجابة دعائه.

[سورة مريم [19]: الآيات 7 الى 10]

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [7] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ

ص: 161

الْكِبَرِ عِتِيًّا [8] قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً [9] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [10]

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى إنّا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور في وجهك، و هو أن يولد لك ابن اسمه يحيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا لم يسمّ أحد بيحيى قبله.

و قال الصادق عليه السّلام:

«و كذلك الحسين عليه السّلام لم يكن له من قبل سمّي، و لم تبك السماء إلّا عليهما أربعين صباحا. قيل له: و ما كان بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء، و كان قاتل الحسين ولد زنا، و قاتل يحيى ولد زنا».

و روى سفيان بن عيينة، عن عليّ بن زيد، عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: «خرجنا مع الحسين عليه السّلام، فما نزل منزلا و لا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا و قتله. و قال يوما:

و من هوان الدنيا على اللّه عزّ و جلّ أنّ رأس يحيى بن زكريّا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل».

و في الآية إشارة إلى أنّ التسمية بالأسامي النادرة الغريبة الّتي لم يسبق إليها أحد تنويه للمسمّى. و يحتمل أن يكون شرافته و فضله من حيث إنّ اللّه تولّى تسميته، و لم يكلها إلى الأبوين.

و هو منقول عن فعل، ك: يعيش و يعمر و يزيد. و قيل: سمّي به لأنّه حيي به رحم أمّه، أو لأنّ دين اللّه يحيى بدعوته. و الأظهر أنّه أعجميّ.

ص: 162

و قيل: «سميّا»: شبيها، كقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (1) لأنّ كلّ متشاكلين يسمّى كلّ واحد منهما باسم المثل و الشبيه و الشكل و النظير، فكلّ واحد منهما سمّي لصاحبه.

و قالوا: لم يكن له مثل في أنّه لم يعص، و لم يهتمّ بمعصية قطّ. و أنّه ولد بين شيخ فإن و عجوز عاقر. و أنّه كان حصورا، أي: كان على صفة العقر.

قالَ استعجابا لا استبعادا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا جساوة (2) و يبسا في المفاصل و العظام. و أصله:

عتوو، كقعود، فاستثقلوا توالي الضمّتين و الواوين، فكسروا التاء، فانقلبت الواو الأولى ياء، ثمّ قلبت الثانية و أدغمت. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: عتيّا بالكسر.

قال الحسن: إنّما قال ذلك على جهة الاستخبار، أي: أ تعيدنا شابّين أم ترزقنا الولد شيخين؟! و قيل: إنّما استعجب الولد من شيخ فان و عجوز عاقر، اعترافا بأنّ المؤثّر فيه كمال قدرته، و أنّ الوسائط عند التحقيق ملغاة، و لذلك قالَ أي: اللّه، أو الملك المبلّغ للبشارة، تصديقا له: كَذلِكَ الأمر كذلك.

و يجوز أن تكون الكاف منصوبة ب «قال» في قالَ رَبُّكَ و ذلك إشارة إلى مبهم يفسّره هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ فأردّ عليك قوّتك حتّى تقوى على الجماع، و أفتق رحم امرأتك بالولد، و لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب. و نحو ذلك قوله: وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (3) و «أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ» مفسّر لذلك.

و يجوز أن يكون مفعول «قال» الثاني محذوفا، أي: أفعل ذلك هو عليّ هيّن.

وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً بل كنت معدوما صرفا، و إزالة عقر زوجتك

ص: 163


1- مريم: 65.
2- الجساوة: اليبس و الصلابة.
3- الحجر: 66.

و إزالة ما يمنع قبول الولد أيسر في الاعتبار من ابتداء الإنشاء. و روى الحكم بن عيينة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما ولد يحيى بعد البشارة له من اللّه بخمس سنين».

و فيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشي ء. و قرأ حمزة و الكسائي: و قد خلقناك.

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة أعلم بها وقوع ما بشّرتني به قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا سويّ الخلق أي: علامتك أن تمنع الكلام، فلا تطيقه و أنت سليم الجوارح صحيح البنية و الآلات، ما بك من خرس و لا بكم. و إنّما ذكر الليالي هنا و الأيّام في آل عمران (1)، للدلالة على أنّه استمرّ عليه المنع من كلام الناس و التجرّد للذكر و الشكر ثلاثة أيّام و لياليهنّ.

قال ابن عبّاس: اعتقل لسانه من غير علّة و مرض ثلاثة أيّام، فإنّه كان يقرأ الزبور و يدعو إلى اللّه سبحانه و يسبّحه، و لا يمكنه أن يكلّم الناس. و هذا أمر خارج عن العادة.

[سورة مريم [19]: الآيات 11 الى 15]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا [11] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [12] وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا [13] وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا [14] وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [15]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ من المصلّى. سمّي محرابا لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته. و الأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّا عن أهله.

ص: 164


1- آل عمران: 41.

قالوا: و كان زكريّا قد أخبر قومه بما بشّر به، فلمّا خرج عليهم و امتنع من كلامهم علموا إجابة دعائه، فسرّوا به.

فَأَوْحى إِلَيْهِمْ بيده، لقوله: إِلَّا رَمْزاً (1). و عن ابن عبّاس: كتب لهم على الأرض. أَنْ سَبِّحُوا صلّوا. و تسمّى الصلاة سبحة و تسبيحا، لما فيها من التسبيح.

و قيل: أراد التسبيح بعينه كما هو الظاهر، أي: نزّهوا ربّكم. بُكْرَةً وَ عَشِيًّا طرفي النهار. و لعلّه كان مأمورا بأن يسبّح و يأمر قومه بأن يوافقوه. و «أن» تحتمل أن تكون مصدريّة، و أن تكون مفسّرة.

قال ابن جريج:

أشرف عليهم من فوق غرفة كان يصلّي فيها، لا يصعد إليها إلّا بسلّم، و كانوا يصلّون معه الفجر و العشاء، و كان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه، فلمّا اعتقل لسانه خرج على عادته و أذن لهم بغير كلام، فعرفوا عند ذلك أنّه قد جاء وقت حمل امرأته بيحيى، فمكث ثلاثة أيّام لا يقدر على الكلام معهم، و يقدر على التسبيح و الدعاء.

يا يَحْيى فيه اختصار عجيب، تقديره: فوهبناك يحيى، و أعطينا له العقل و الفهم، و قلنا له: يا يحيى خُذِ الْكِتابَ التوراة بِقُوَّةٍ بجدّ، و صحّة عزيمة، و استظهار بالتوفيق. أو بما قوّاك اللّه عليه و أيّدك.

وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا يعني: الحكمة. يقال: حكم حكما كحلم، أي: صار حكيما و حليما. و هو فهم التوراة، و الفقه في الدين، و العمل به. و قيل: النبوّة و أنّ اللّه أحكم عقله في صباه و استنبأه.

قيل: دعاه الصبيان إلى اللعب و هو صبيّ فقال: ما للعب خلقنا. و عن ابن عبّاس:

أنّه أوتي النبوّة و هو ابن ثلاث سنين. و روي ذلك عن أبي الحسن الرضا عليه الصلاة و السلام.

ص: 165


1- آل عمران: 41.

و روي العيّاشي بإسناده عن عليّ بن أسباط قال: «قدمت المدينة و أنا أريد مصر، فدخلت على أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام، و هو إذ ذاك خماسيّ، فجعلت أتأمّله لأصفه لأصحابنا بمصر، فنظر إليّ و قال يا عليّ: إنّ اللّه قد أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوّة، فقال: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا و قال: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً (1).

وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا عطف على الحكم، أي: و آتيناه رحمة منّا عليه. أو رحمة و تعطّفا في قلبه على أبويه و غيرهما، فإنّ «حنّ» في معنى: ارتاح و اشتاق، ثمّ استعمل في العطف و الرأفة، و قيل للّه: حنان، كما قيل: رحيم، على سبيل الاستعارة. و منه: حنين الناقة، و هو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها.

وَ زَكاةً و طهارة من الذنوب، أو صدقة، أي: تصدّق اللّه به على أبويه، أو مكّنه و وفّقه على أن يتعطّف على الناس و يتصدّق عليهم وَ كانَ تَقِيًّا مطيعا، متجنّبا عن المعاصي.

وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ و بارّا بهما و مطيعا وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً متكبّرا متطاولا على الناس عَصِيًّا عاقّا، أو عاصيا ربّه.

وَ سَلامٌ من اللّه عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم وَ يَوْمَ يَمُوتُ من عذاب القبر وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا من عذاب النار و هول القيامة.

و إنّما قال: «حيّا» تأكيدا لقوله: «يبعث».

خصّه سبحانه بالكرامة و السلامة في هذه المواطن الثلاثة الّتي هي أوحش المواطن، فإنّ يوم الولادة يوم يرى الإنسان نفسه خارجا ممّا كان فيه، و يوم الموت يوم يرى أشياء ليس له بها عهد، و يوم البعث يوم يرى نفسه في محشر عظيم.

ص: 166


1- القصص: 14.

[سورة مريم [19]: الآيات 16 الى 21]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا [16] فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [17] قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [18] قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [19] قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا [20] قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [21]

ثمّ عطف قصّة مريم و عيسى على قصّة زكريّا و يحيى عليهما السّلام، فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ في القرآن مَرْيَمَ يعني: قصّتها العجيبة، من ولادتها عيسى بلا أب، و فرط صلاحها ليقتدي الناس بها، و لتكون معجزة لك إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها إذ اعتزلت منهم و تخلّت للعبادة.

و هذا بدل من «مريم» بدل الاشتمال، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. و فيه: أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا، لوقوع هذه القضيّة العجيبة فيه. أو بدل الكلّ، لأنّ المراد بمريم قصّتها، و بالظرف الأمر الواقع فيه، و هما- أعني: قصّة مريم، و الأمر الواقع فيه- واحد. أو ظرف لمضاف مقدّر، أي: قصّة مريم إذ انتبذت.

و قيل: «إذ» بمعنى «أن» المصدريّة، كقولك: أكرمتك إذ لم تكرمني، فتكون بدلا لا محالة.

مَكاناً شَرْقِيًّا في مكان ممّا يلي شرقيّ بيت المقدس، أو شرقيّ دارها، و لذلك اتّخذ النصارى المشرق قبلة. و «مكانا» ظرف كما فسّر، أو مفعول، لأنّ «انتبذت»

ص: 167

متضمّن معنى: أتت.

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً سترا يستر خلفه فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعني:

جبرئيل. سمّاه اللّه الروح و أضافه إلى نفسه، لأنّ دينه يحيا به و بوحيه، أو محبّة له و تقريبا و تشريفا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي. فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا فانتصب بين يديها في صورة آدميّ صحيح لم ينتقص من الصورة البشريّة شي ء.

و قيل: قعدت في مشرفة (1) للاغتسال من الحيض في يوم شديد البرد، محتجبة بحائط أو بشي ء يسترها، و كان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينا هي في مغتسلها أتاها جبرئيل متمثّلا بصورة شابّ أمرد، وضي ء الوجه، جعد الشعر، سويّ الخلق، لتستأنس بكلامه و لا

تنفر عنه، و لو بدا لها في الصورة الملكيّة لنفرت و لم تقدر على استماع كلامه، و كان تمثيله على تلك الصورة الحسنة ابتلاء لها و سبرا (2) لعفّتها.

قيل: كانت في منزل زوج أختها زكريّا، و لها محراب على حدة تسكنه، و كان زكريّا عليه السّلام إذا خرج أغلق عليها الباب، فتمنّت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي (3) رأسها، فانشقّ السقف لها فخرجت و جلست في المشرفة وراء الجبل، فأتاها الملك.

و قيل: قام بين يديها في صورة ترب (4) لها اسمه يوسف، من خدم بيت المقدس.

و دلّ على عفافها و ورعها أنّها تعوّذت باللّه من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، بأن قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي: إن كان يرجى منك أن تتّقي اللّه

ص: 168


1- أي: في موضع عال مطلّ على غيره. و مشارف الأرض: أعاليها. و الواحدة: مشرفة.
2- سبر الأمر سبرا: جرّبه و اختبره.
3- فلى يفلي رأسه أو ثوبه: نقّاهما من القمل.
4- الترب: من ولد معك، و كان على سنّك. و جمعه: أتراب.

و تحتفل بالاستعاذة. و عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «علمت أنّ التقيّ ينهاه التقى عن المعصية».

و جواب الشرط محذوف بقرينة ما قبله، أي: فإنّي عائذة به منك. أو فتتّعظ بتعويذي، أو فلا تتعرّض بي. و يجوز أن يكون للمبالغة، أي: إن كنت تقيّا متورّعا فإنّي أعوذ منك، فكيف إذا لم تكن كذلك؟! فلمّا سمع جبرئيل منها هذا القول قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الّذي استعذت به لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً لأكون سببا في هبته بوسيلة النفخ في الدرع. و يجوز أن يكون حكاية لقول اللّه تعالى. و يؤيّده قراءة أبي عمرو و ابن كثير عن

نافع و يعقوب بالياء. زَكِيًّا طاهرا من الذنوب، أو ناميا على الخير، أي: مترقّيا من سنّ إلى سنّ على الخير و الصلاح.

و عن ابن عبّاس: يريد نبيّا.

قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: ولد وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ و لم يباشرني رجل بالحلال، فإنّ المسّ كناية عنه، كقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ (1) أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (2). أمّا الزنا فإنّما يقال فيه: خبث بها و فجر، و نحو ذلك. و يعضده عطف قوله:

وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا عليه، أي: فاجرة تبغي الزنا.

و هو فعول من البغي، قلبت واوه ياء و أدغمت، ثمّ كسرت الغين اتباعا للياء، و لذلك لم تلحقه التاء. أو فعيل بمعنى فاعل، و لم تلحقه التاء، لأنّه للمبالغة، أو للنسب كطالق. و المعنى: أنّي لست بذات زوج و غير ذات الزوج لا تلد إلّا عن فجور، و لست فاجرة.

قالَ كَذلِكِ أي: الأمر كما وصفت لك قالَ رَبُّكِ هُوَ أي: إحداث الولد من غير زوج عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل لا يشقّ عليّ وَ لِنَجْعَلَهُ تعليل معلّله محذوف، أي:

و نفعل ذلك لنجعله آية. أو معطوف على تعليل مضمر، أي: لنبيّن به قدرتنا و لنجعله آية.

ص: 169


1- البقرة: 237.
2- النساء: 43.

أو عطف على «لأهب» على طريقة الالتفات. آيَةً لِلنَّاسِ علامة لهم و برهانا على كمال قدرتنا وَ رَحْمَةً مِنَّا على العباد يهتدون بإرشاده وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا كائنا محتوما تعلّق به قضاء اللّه في الأزل، و قدّر و سطر في اللوح. أو كان أمرا حقيقا بأن يقضى و يفعل، لكونه آية و رحمة.

و في هذه الآيات دلالة على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، لأنّ من المعلوم أنّ مريم ليست بنبيّة، و

أنّ رؤية الملك على صورة البشر، و بشارة الملك إيّاها، و ولادتها من غير وطء، إلى غير ذلك من الآيات الّتي أتاها اللّه بها، من أكبر المعجزات. و من لم يجوّز إظهار المعجزات على غير الأنبياء، اختلفت أقوالهم في ذلك، فقال الجبائي و ابنه: إنّها معجزات لزكريّا. و قال البلخي: إنّها معجزات لعيسى على وجه الإرهاص (1) و التأسيس لنبوّته.

[سورة مريم [19]: الآيات 22 الى 34]

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا [22] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا [23] فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [24] وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا [25] فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [26]

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا

ص: 170


1- أرهص الشي ء: أسّسه و أثبته.

[27] يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [28] فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [29] قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا [30] وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [31] وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا [32] وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [33] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [34]

عن ابن عبّاس: لمّا سمعت مريم قول جبرئيل اطمأنّت إلى قوله، فدنا منها فأخذ ردن (1) قميصها بإصبعيه، فنفخ فيه فدخلت النفخة في جوفها فَحَمَلَتْهُ في ساعتها، و وجدت حسّ الحمل.

و روي عن الباقر عليه السّلام «أنّه تناول جيب مدرعتها (2) فنفخ فيه نفخة، فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر، فخرجت من المستحمّ (3) و هي حامل محج (4) مثقل، فنظرت إليها خالتها فأنكرتها، و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريّا».

و قيل: كان مدّة حملها ستّة أشهر. و قيل: سبعة. و قيل: ثمانية. و لم يعش مولود

ص: 171


1- الردن: أصل الكمّ. و جمعه أردان.
2- المدرعة: جبّة مشقوقة المقدّم، أو ثوب من كتّان كان يلبسه عظيم أحبار اليهود.
3- المستحمّ: موضع الاستحمام.
4- حجا يحجوا الأمر: ظنّه فادّعاه ظانّا و لم يستيقنه.

وضع لثمانية غيره. و قيل: ثلاث ساعات. و قيل: حملته في ساعة، و صوّر في ساعة، و وضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. و عن ابن عبّاس: مدّة الحمل ساعة واحدة، كما حملته نبذته. و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: تسع ساعات. و سنّها يومئذ ثلاث عشرة سنة.

و قيل: عشر. و قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل. و قالوا: ما من مولود إلّا يستهلّ (1) إلّا عيسى عليه السّلام.

فَانْتَبَذَتْ بِهِ فاعتزلت و تنحّت و هو في بطنها. و الجارّ و المجرور في موضع الحال. و نحوه قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (2) أي: تنبت و دهنها فيها. مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل. و قيل: أقصى الدار.

فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فألجاها الطلق، و هو وجع الولادة. و هو في الأصل منقول من: جاء، إلّا أنّه قد خصّ بالإلجاء في الاستعمال، ك: آتى في: أعطى. و المخاض مصدر:

مخضت المرأة إذا تحرّك الولد في بطنها للخروج. و منه: المخيض، لتقلقله في الظرف.

إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستتر به و تعتمد عليه عند الولادة. و هو ما بين العرق و الغصن. و كانت نخلة يابسة لا رأس لها و لا ثمرة و لا خضرة، و كان الوقت شتاء.

و التعريف إمّا للجنس، أي: جذوع هذه الشجرة خاصّة، أو للعهد، إذ لم يكن ثمّ غيرها، فكانت كالمتعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذاك دون غيره من جذوع النخل. و كأنّ اللّه تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها، و يطعمها الرطب الّذي هو خرسة (3) النفساء الموافقة لها.

قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا استحياء من الناس، و مخافة لومهم. و روي عن الصادق عليه السّلام: «تمنّت الموت لأنّها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزّهها من السوء».

و قرأ

ص: 172


1- استهلّ الصبيّ: رفع صوته بالبكاء عند الولادة.
2- المؤمنون: 20
3- الخرس: طعام الولادة. و الخرسة: طعام النفساء نفسها.

أبو عمرو و ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر: متّ، من: مات يموت.

وَ كُنْتُ نَسْياً ما من شأنه أن ينسى و يطرح و لا يطلب، كخرقة الطامث.

و نظيره: الذبح اسم ما من شأنه أن يذبح. و قرأ حمزة و حفص: نسيا بالفتح. و هو لغة فيه، أو مصدر- كالحمل- سمّي به. مَنْسِيًّا متروك الذكر بحيث لا يخطر ببالهم.

فَناداها مِنْ تَحْتِها و هو عيسى. و قيل: جبرئيل، كان يقبل الولد كالقابلة.

و قيل: «تحتها» أسفل من مكانها.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص و روح: من تحتها بالكسر و الجرّ، على أنّ في «نادى» ضمير أحدهما. و قيل: الضمير في «تحتها» للنخلة.

أَلَّا تَحْزَنِي أي: لا تحزني، أو بأن لا تحزني قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا جدولا. هكذا روي مرفوعا. قيل:

ضرب جبرئيل برجله، فظهر ماء عذب.

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «ضرب عيسى عليه السّلام برجله فظهرت عين ماء تجري».

و قيل: السريّ: السيّد الشريف، من السرو، و هو عيسى. و عن الحسن: كان و اللّه عبدا سريّا.

وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ و أميليه إليك. و الباء مزيدة للتأكيد، كقوله: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1). أو المعنى: افعلي الهزّ و الإمالة به، أو هزّي الثمرة بهزّه.

و الهزّ تحريك بجذب و دفع. تُساقِطْ عَلَيْكِ تتساقط، فأدغمت التاء الثانية في السين.

و حذفها حمزة. و قرأ يعقوب بالياء. و حفص: تساقط، من: ساقطت، بمعنى: أسقطت.

رُطَباً جَنِيًّا نضيجا. تمييز أو مفعول على حسب القراءة.

روي أنّها كانت نخلة يابسة لا رأس لها و لا ثمر، و كان الوقت شتاء، فهزّتها، فجعل اللّه لها رأسا و خوصا و رطبا في غير أو انه دفعة واحدة، فإنّ العادة أن يكون نورا أوّلا، ثمّ يصير بلحا، ثمّ بسرا في أوانه. و فيه: تسليتها بذلك، لما فيه من المعجزات الدالّة على براءة ساحتها، فإنّ مثلها لا يتصوّر لمن يرتكب الفواحش، و المنبّهة لمن رآها على أنّ من

ص: 173


1- البقرة: 195.

قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء، قدر أن يحبلها من غير فحل.

و لما كان في الرطب من الطعام و الشراب رتّب عليه الأمرين، فقال: فَكُلِي من الرطب وَ اشْرَبِي من عصير الرطب، أو من ماء السريّ وَ قَرِّي عَيْناً و طيبي نفسك، و ارفضي عنها ما أحزنك. و اشتقاقه من القرار، فإنّ العين إذا رأت ما تسرّ به النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره. أو من القرّ، فإنّ دمعة السرور باردة، و دمعة الحزن حارّة، و لذلك قالوا: قرّة

العين للمحبوب، و سخنتها للمكروه.

و عن الباقر عليه السّلام: «لم تستشف النفساء بمثل الرطب، لأنّ اللّه تعالى أطعمه مريم في نفاسها».

و قيل: إذا عسر ولادتها لم يكن لها خير من الرطب.

فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فإن تري آدميّا يسألك عن ولدك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً صمتا، أي: إمساكا عن الكلام، أو صياما، و كانوا لا يتكلّمون في صيامهم. و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن صوم الصمت، فنسخ هذا في شريعته. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا بعد أن أخبرتكم بنذري، و إنّما أكلّم الملائكة و أناجي ربّي.

و قيل: أخبرتهم بنذرها بالإشارة. و الأصحّ أنّه سوّغ لها ذلك بالنطق. و أمرها بذلك لكراهة المجادلة، و للاكتفاء بكلام عيسى، فإنّه كاف في قطع الطاعن.

فَأَتَتْ بِهِ مع ولدها قَوْمَها راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس تَحْمِلُهُ حاملة إيّاه ملفّا بخرقة. حال من الضمير المرفوع في «فأتت»، أو من الهاء المجرور في «به»، أو منهما جميعا.

قيل: احتمل يوسف النجّار مريم و ابنها إلى غار، فلبثوا فيه أربعين يوما حتّى سلمت من نفاسها، ثمّ جاءت تحمله، فكلّمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمّاه أبشري فإنّي عبد اللّه و مسيحه، فلمّا دخلت به على قومها و هم أهل بيت صالحون تباكوا.

قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا بديعا منكرا، من فري الجلد. يقال: فريت.

الجلد إذا قطعته، و فريت الشي ء، أي: حززته، أو من الافتراء، و هو الكذب.

يا أُخْتَ هارُونَ يعنون هارون النبيّ، و كانت من أعقاب من كان معه في طبقة

ص: 174

الإخوة، و بينها و بينه ألف سنة و أكثر.

و قيل: كانت من أولاد هارون. و إنّما قيل: أخت هارون، كما يقال: يا

أخا همدان، أي: يا واحدا منهم.

و قيل:

هو رجل صالح كان في زمانهم شبّهوها به، أي: كنت عندنا مثله في الصلاح، و لم ترد إخوة النسب. و هذا مرويّ عن ابن عبّاس و قتادة و كعب و ابن زيد و المغيرة، يرفعه إلى النبيّ.

و قيل: إنّه لمّا مات شيّعه أربعون ألفا كلّهم يسمّى هارون، تبرّكا به و باسمه. فقال قومها: كنّا نشبّهك بهارون هذا.

و قيل: كان هو رجلا فاسقا مشهورا بالعهر و الفساد، فنسبت إليه، و قيل لها: يا شبيهته في قبح فعله.

ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقرير لقولهم: إنّ ما جاءت به فريّ، و تنبيه على أنّ الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ إلى عيسى، أي: هو الّذي يجيبكم فكلّموه قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا و لم نعهد صبيّا في المهد كلّمه عاقل. و «كان» زائدة. و الظرف صلة «من». و «صبيّا» حال من المستكن فيه، أو تامّة، أو دائمة، كقوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (1). أو بمعنى: صار.

و في الكشّاف: «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه و بعيده. و هو هاهنا لقريبه خاصّة. و الدليل عليه مبنى الكلام، و أنّه مسوق للتعجّب.

و وجه آخر: أن يكون «نكلّم» حكاية حال ماضية، أي: كيف عهد قبل عيسى أن يكلّم الناس صبيّا في المهد فيما سلف من الزمان حتّى نكلّم هذا؟!» (2).

و عن قتادة: معناه: صبيّا في الحجر رضيعا. و كان المهد حجر أمّه الّذي تربّيه، إذ لم

ص: 175


1- النساء: 17.
2- الكشّاف 3: 15.

تكن هيّأت له المهد.

و عن السدّي: لمّا أشارت إليه غضبوا و قالوا: لسخريّتها بنا أشدّ علينا

من زناها.

و روي: أنّه كان يرضع، فلمّا سمع ذلك ترك الرضاع و أقبل عليهم بوجهه، و اتّكأ على يساره، و أشار بسبّابته.

ثمّ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنطقه اللّه أوّلا لأنّه أوّل المقامات، و للردّ على من يزعم ربوبيّته من النصارى آتانِيَ الْكِتابَ الإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا.

وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً نفّاعا معلّما للخير. و التعبير بلفظ الماضي إمّا باعتبار ما سبق في قضائه، أو بجعل المحقّق وقوعه كالواقع. و عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: أنّ اللّه أكمل عقله و استنبأه طفلا. و هو الظاهر. أَيْنَ ما كُنْتُ حيث كنت وَ أَوْصانِي و أمرني بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ زكاة المال إن ملكته. أو المراد تطهير النفس عن الرذائل.

ما دُمْتُ حَيًّا مكلّفا.

وَ بَرًّا بِوالِدَتِي عطوفا عليها، مؤدّيا شكرها. عطف على «مباركا». وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متجبّرا متكبّرا شَقِيًّا عند اللّه لفرط تكبّره. و المعنى: إنّي بلطفه و توفيقه كنت محسنا إلى والدتي، متواضعا في نفسي، حتّى لم أكن من الجبابرة و الأشقياء.

وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا كما هو على يحيى.

و التعريف للعهد، كقولك: جاءنا رجل، فكان من فعل الرجل كذا. فالمعنى: أنّ السلام الموجّه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجّه إليّ. و الأظهر أنّه للجنس و التعريض باللعن على أعدائه، فإنّه لمّا جعل جنس السلام على نفسه عرّض بأنّ ضدّه عليهم، كقوله تعالى:

وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (1) فإنّه تعريض بأنّ العذاب على من كذّب و تولّى.

قيل: كلّم عيسى بذلك القول، ثمّ لم يتكلّم حتّى بلغ مبلغا يتكلّم فيه الصبيان.

ذلِكَ أي: الّذي تقدّم نعته هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لا ما يصفه النصارى. و هو

ص: 176


1- طه: 47.

تكذيب لهم فيما يصفونه- من أنّه ابن اللّه و أنّه إله- على الوجه الأبلغ و الطريق الأوضح، حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه.

قَوْلَ الْحَقِ خبر محذوف، أي: هو قول الحقّ الّذي لا ريب فيه. و الإضافة للبيان. و الضمير للكلام السابق، أو لتمام القصّة. و قيل: صفة عيسى أو بدل، أو خبر ثان.

و معناه: كلمة اللّه.

و إنّما قيل لعيسى «كلمة اللّه» و «قول الحقّ» لأنّه لم يولد إلّا بكلمة اللّه وحدها، و هي قوله: «كن» من غير واسطة أب، تسمية للمسبّب باسم السبب.

و قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب: قول بالنصب، على أنّه المدح إن فسّر بكلمة اللّه، أو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات و الصدق، كقولك: هو عبد اللّه حقّا.

الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ في أمره يشكّون، من المرية، و هي الشكّ. أو يتنازعون، فقالت اليهود: ساحر كذّاب، و قالت النصارى: ابن اللّه و ثالث ثالثة.

[سورة مريم [19]: الآيات 35 الى 39]

ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [35] وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [36] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [37] أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [38] وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ [39]

ثمّ كذّب اللّه النصارى، و نزّه ذاته عمّا بهتوه، فقال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ يعني: ما كان ينبغي للّه أن يتّخذه، أي: ما يصلح له و لا يستقيم، فإنّ من اتّخذ

ص: 177

ولدا فإنّما يتّخذه من جنسه، لأنّ الولد مجانس للوالد، و اللّه تعالى ليس كمثله شي ء، فلا يكون له ولد، و لا يتّخذ ولدا.

ثمّ بكّتهم بالاستدلال على انتفاء الولد عنه بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: إذا أراد شيئا أوجده ب «كن»، و من كان كذلك كان منزّها عن شبه الخلق، أو الحاجة في اتّخاذ الولد بإحبال الإناث. و قرأ ابن عامر: فيكون بالنصب على الجواب.

و القول هاهنا مجاز. و معناه: أنّ إرادته للشي ء يتبعها كونه لا محالة من غير توقّف، فشبّه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل.

وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ طريق واضح فالزموه.

و قرأ الحجازيّان و البصريّان: و أنّ بالفتح، على: و لأنّ. و قيل: لأنّه معطوف على «الصلاة». و قرأ غيرهم بالكسر ليكون ابتداء كلامهم من اللّه.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ اليهود و النصارى. أو فرق النصارى. نسطوريّة قالوا: إنّه ابن اللّه. و يعقوبيّة قالوا: هو اللّه، هبط إلى الأرض ثمّ صعد إلى السماء. و ملكانيّة قالوا: هو عبد اللّه و نبيّه.

فَوَيْلٌ فشدّة عذاب لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ من شهود يوم عظيم هوله و حسابه، و هو يوم القيامة. أو من وقت الشهود. أو من مكانه فيه. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، و هو أن تشهد عليهم الملائكة و الأنبياء، و ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم، بكفرهم و سوء أعمالهم. أو من وقت الشهادة. أو من مكانها. و قيل أمر: هو ما شهدوا به في عيسى و أمّه.

أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ تعجّب. و لمّا كان اللّه سبحانه لا يوصف بالتعجّب، فالمراد أنّ أسماعهم و أبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجّب منهما. يَوْمَ يَأْتُونَنا أي: يوم القيامة بعد ما كانوا صمّا عميا في الدنيا. و المراد أنّهم في الدنيا جاهلون، و في الآخرة عارفون جدّا، حيث لا تنفعهم المعرفة.

و قيل: معناه: تهديد بما سيسمعون و يبصرون يومئذ ممّا يسوءهم و يصدع قلوبهم.

ص: 178

و قيل: أمر بأن يسمعهم الرسول و يبصرهم مواعيد ذلك اليوم و ما يحيق بهم فيه.

و الجارّ و المجرور على الأوّل في موضع الرفع، و على الثاني في محلّ النصب.

لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أوقع الظالمين موقع الضمير إشعارا بأن لا ظلم أعظم من ظلمهم أنفسهم، حيث أغفلوا الاستماع و النظر حين ينفعهم، و سجّل على إغفالهم بأنّه ضلال بيّن.

و المعنى: إنّ الكافرين في الدنيا آثروا الهوى على الهدى، و لم ينظروا إليه و لم يسمعوا به، فهم في ذهاب عن الدين و عدول عن الحقّ.

وَ أَنْذِرْهُمْ و خوّف يا محمّد كفّار مكّة يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسّر الناس، المسي ء على إساءته، و المحسن على قلّة إحسانه. و قيل: الحسرة يومئذ مختصّة بمن يستحقّ العقاب، و المؤمن الصالح لا يتحسّر أصلا.

إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب، و حكم بين الخلائق بالعدل، و تصادر الفريقان إلى الجنّة و النار. و «إذ» بدل من اليوم، أو ظرف للحسرة.

وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ حالان متعلّقان بقوله: «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»، و ما بينهما اعتراض. أو ب «أنذرهم»، أي: أنذرهم غافلين غير مؤمنين. فيكونان حالين متضمّنين للتعليل.

روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، قيل: يا أهل الجنّة، فيسرعون و ينظرون. و قيل: يا أهل النار، فيسرعون و ينظرون. فيجاء بالموت و كأنّه كبش

أملح (1)، فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا. و كلّ قد عرفه. قال: فيقدّم فيذبح. ثمّ يقال: يا أهل الجنّة! خلود فلا موت. و يا أهل النار! خلود فلا موت. قال: و ذلك قوله:

«وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ».

و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام. ثمّ جاء في آخره: «فيفرح أهل .

ص: 179


1- الكبش الأملح: إذا كان أسود يعلو شعره بياض.

الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا» (1).

[سورة مريم [19]: الآيات 40 الى 50]

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ [40] وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [41] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [42] يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [43] يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا [44]

يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا [45] قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا [46] قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [47] وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا [48] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا [49]

وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [50]

ص: 180


1- صحيح مسلم 4: 2188- 2189 ح 40- 41.

ثمّ أخبر سبحانه عن إفناء الدنيا و ما عليها الّذي هو مقدّمة وقوع يوم الحسرة، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها أي: نميت سكّانها، فلا يبقى فيها مالك و لا ملك. أو نتوفّى الأرض و من عليها بالإفناء و الإهلاك، توفّي الوارث لإرثه. وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ يردّون للجزاء بعد الموت، أي: إلى حيث لا يملك الأمر و النهي غيرنا.

ثمّ أخبر عن قصّة إبراهيم الّتي هي متضمّنة للتوحيد، الّذي هو منشأ الفلاح و الفوز يوم الحسرة، فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً ملازما للصدق، أو كثير التصديق، لكثرة ما صدّق به من غيوب اللّه و آياته و كتبه و رسله. و هو من أبنية المبالغة. و نظيره: النطّيق. نَبِيًّا رفيع الشأن برسالة اللّه تعالى.

إِذْ قالَ بدل من «إبراهيم»، و ما بينهما اعتراض. أو متعلّق ب «كان» أو ب «صدّيقا نبيّا». لِأَبِيهِ أي: لعمّه الّذي هو بمنزلة أبيه في تربيته، أو لجدّه لأمّه، فإنّ أباه الّذي ولده كان اسمه تارخ، لإجماع الطائفة الحقّة على أنّ آباء الأنبياء كلّهم إلى آدم كانوا مسلمين موحّدين. و قد بيّنّا ذلك في سورة الأنعام (1).

يا أَبَتِ التاء معوّضة من ياء الإضافة، و لذلك لا يقال: يا أبتي، لئلّا يجمع بين العوض و المعوّض منه، و يقال: يا أبتا. و إنّما تذكر للاستعطاف، و لذلك كرّرها.

لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ فيعرف حالك، و يسمع ذكرك، و يرى خضوعك وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً في جلب نفع أو دفع ضرّ.

دعاه إلى الهدى، و بيّن ضلاله، و احتجّ عليه أبلغ احتجاج و أرشقه، برفق و حسن أدب و خلق حسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربّه عزّ و علا، كما روى أبو هريرة أنّه قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أوحى اللّه إلى إبراهيم عليه السّلام: إنّك خليلي، حسّن خلقك و لو مع الكفّار، تدخل مداخل الأبرار، فإنّ كلمتي سبقت لمن حسن خلقه: أظلّه تحت عرشي، و أسكنه حظيرة القدس، و أدنيه من جواري».

ص: 181


1- راجع ج 2 ص 415 ذيل الآية 74 من سورة الأنعام.

و لهذا لم يصرّح بضلالة أبيه، بل طلب العلّة الّتي تدعوه إلى عبادة ما يستخفّ به العقل الصريح، و يأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته الّتي هي غاية التعظيم، و لا تحقّ إلّا لمن له الاستغناء التامّ و الإنعام العامّ، و هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المعاقب المثيب، الّذي منه أصول النعم و فروعها.

و نبّه على أنّ العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح. و الشي ء لو كان حيّا مميّزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع و الضرّ و لكن كان ممكنا، لاستنكف العقل القويم عن عبادته، و إن كان أشرف الخلق كالملائكة و النبيّين، لما يراه مثله في الحاجة و الانقياد للقدرة الواجبة، فكيف إذا كان جمادا لا يسمع و لا يبصر؟! ثمّ ثنّى بدعوته إلى الحقّ مترّفقا به متلطّفا، و دعاه إلى أن يتّبعه ليهديه إلى الحقّ القويم و الصراط المستقيم، لمّا لم يكن محظوظا من العلم الإلهي، مستقلّا بالنظر السويّ، فقال: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ باللّه سبحانه ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي على ذلك و اقتد بي فيه أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي: أوضح لك طريقا مستقيما. و لم يسم أباه بالجهل المفرط، و لا نفسه بالعلم الفائق، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق، كأنّه قال: لا تستنكف وهب أنّي و إيّاك في مسير، و عندي مزيّة معرفة بالهداية دونك.

ثمّ ثلّث تثبيطه عمّا كان عليه، بأنّه مع خلوّه عن النفع مستلزم للضرّ، فإنّه في الحقيقة عبادة الشيطان، من حيث إنّه الآمر به، فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لا تطعه فيما يدعوك إليه، فتكون بمنزلة من عبده، فإنّ الكافر لا يعبد الشيطان، و لكن يطيعه فيما أمره من الكفر و الشرك.

ثمّ بيّن وجه الضرّ فيه، بأنّ الشيطان مستعص على ربّك المولي للنعم كلّها، بقوله:

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا شديد العصيان. و معلوم أنّ المطاوع للعاصي عاص، و كلّ عاص حقيق بأن تستردّ منه النعم، و ينتقم منه.

ص: 182

ثمّ ربّع بتخويفه سوء عاقبته و ما يجرّ إليه من التبعة، و لم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرّح بأنّ العقاب لاحق له، و أنّ العذاب لاصق به، و لكنّه قال: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لإصرارك على الكفر. و ذكر الخوف و المسّ و تنكير العذاب للمجاهلة. فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ثابتا في موالاته، قرينا في اللعن و العذاب، تليه و يليك. و هو أكبر من العذاب، كما أنّ رضوان اللّه أكبر من الثواب.

قالَ أَ راغِبٌ أ معرض أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي عن عبادتها يا إِبْراهِيمُ قابل استعطافه و لطفه في الإرشاد بالفظاظة و غلظة العناد، فناداه باسمه، و لم يقابل «يا أبت» ب «يا بنيّ». و أخّره و قدّم الخبر على المبتدأ، و صدّره بالهمزة، لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجّب، كأنّها ممّا لا يرغب عنها عاقل.

ثمّ هدّده بقوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن مقالتك فيها، أو الرغبة عنها لَأَرْجُمَنَّكَ لأرمينّك بلساني- يعني: الشتم و الذمّ- أو بالحجارة حتّى تموت أو تبعد منّي وَ اهْجُرْنِي عطف على ما دلّ عليه «لأرجمنّك» أي: فاحذرني و اهجرني، لأنّ «لأرجمنّك» تهديد و تقريع مَلِيًّا زمانا طويلا من الملاوة. أو مليّا بالذهاب عنّي و الهجران قبل أن أثخنك بالضرب، حتّى لا تقدر أن تبرح. من قولهم: فلان مليّ بهذا الأمر إذا كان كاملا فيه مضطلعا به.

قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سلام توديع و متاركة و مباعدة منه، كقوله تعالى: لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (1). و قوله: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (2). أو سلام إكرام و مقابلة للسيّئة بالحسنة، أي: لا أصيبك بمكروه، و لا أقول لك بعد ما يؤذيك. و يجوز أن يكون دعا له بالسلامة استمالة له، ألا ترى أنّه وعده الاستغفار و قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي سأطلب لك التوفيق للإيمان، فإنّ

ص: 183


1- القصص: 55.
2- الفرقان: 63.

حقيقة الاستغفار للكافر استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته.

و الأصحّ أنّ الاستغفار له كان مشروطا بالتوبة عن الكفر. و دلّ عليه قوله تعالى:

وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ (1)، كما مرّ (2) في سورة التوبة.

إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البرّ و الألطاف. يقال: حفي به حفاوة، أشفق عليه و بالغ في إكرامه، و هو حفيّ.

وَ أَعْتَزِلُكُمْ و أتنحّى منكم جانبا وَ ما تَدْعُونَ تعبدون. و منه قوله عليه السّلام: «الدعاء هو العبادة».

مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني إلى الشام وَ أَدْعُوا رَبِّي أي: أعبده.

ثمّ عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا خائبا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتكم. و في تصدير الكلام ب «عسى» التواضع و هضم النفس، كقوله: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (3) مع تيقّنه بالغفران.

و يجوز أن يراد بالدعاء ما حكاه في سورة الشعراء حيث قال: وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ « (4)».

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ فارقهم وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالهجرة إلى الشام وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولده وَ يَعْقُوبَ ولد ولده، بدل من فارقهم من الكفرة. قيل: لأنّه لمّا قصد الشام أتى أوّلا حرّان، و تزوّج بسارة، و ولدت له إسحاق، و ولد منه يعقوب.

و لعلّ تخصيصهما بالذكر لأنّهما شجرتا الأنبياء، أو لأنّه أراد أن يذكر فضل إسماعيل على الانفراد. وَ كُلًّا و كلّا منهما، أو منهم جَعَلْنا نَبِيًّا.

ص: 184


1- التوبة: 114.
2- راجع ج 3 ص 173.
3- الشعراء: 82 .
4- الشعراء: 86.

وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا من نعمتنا النبوّة و الأموال و الأولاد، و كلّ خير دينيّ و دنيويّ وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ ثناء و حسنا في الناس عَلِيًّا مرتفعا سائرا بينهم، بحيث يفتخرون بهم و يثنون عليهم استجابة لدعوته، حيث قال: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (1). فكلّ أهل الأديان يتولّونه و ذرّيّته، و يدّعون أنّهم على دينهم.

و قيل: معناه: و أعلينا ذكرهم بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمّته يذكرونهم بالجميل إلى يوم القيامة.

و قيل: هو ما يقال في التشهّد: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم.

و عبّر باللسان عمّا يوجد به، كما عبّر باليد عمّا يطلق بها، و هي العطيّة. و لسان العرب لغتهم و كلامهم. و إضافته إلى الصدق، و توصيفه بالعلوّ، للدلالة على أنّهم أحقّاء بما يثنون عليهم، و أنّ محامدهم لا

تخفى على تباعد الأعصار و تحوّل الدول و تبدّل الملل.

[سورة مريم [19]: الآيات 51 الى 53]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا [51] وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا [52] وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [53]

ثمّ ذكر سبحانه حديث موسى عليه السّلام فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ في القرآن مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً موحّدا أخلص عبادته عن الشرك و الرياء، أو أسلم وجهه للّه، و أخلص نفسه عمّا سواه. و قرأ الكوفيّون بالفتح، على أنّ اللّه أخلصه. وَ كانَ رَسُولًا

ص: 185


1- الشعراء: 84.

نَبِيًّا أي: أرسله اللّه إلى الخلق فأنبأهم عنه، و لذلك قدّم «رسولا». قال في الجامع (1) و الكشّاف (2) ما حاصله: أنّ الرسول أخصّ و أعلى، من حيث إنّه صاحب شريعة و كتاب، بخلاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ من ناحيته اليمنى من اليمين، و هي الّتي تلي يمين موسى. أو من جانبه الميمون، من اليمن. و هو صفة للطور أو الجانب. و الطور جبل في أرض الشام.

وَ قَرَّبْناهُ تقريب تشريف، لا تقريب مكان و مسافة. و شبّهه بمن قرّبه الملك لمناجاته، حيث كلّمه بغير واسطة ملك، بأن خلق الكلام في الشجر نَجِيًّا مناجيا، حال من أحد الضميرين. و قيل: مرتفعا، من النجوة، و هو الارتفاع، لما روي عن أبي العالية: أنّه رفع فوق السماوات حتّى سمع صرير القلم الّذي كتبت به التوراة.

وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا من أجل رحمتنا أَخاهُ معاضدة أخيه و مؤازرته، إجابة لدعوته: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (3) و هو مفعول أو بدل. هارُونَ عطف بيان له نَبِيًّا حال منه.

و

عن ابن عبّاس: كان هارون عليه السّلام أسنّ من موسى عليه السّلام، فوقعت الهبة على معاضدته و مؤازرته.

[سورة مريم [19]: الآيات 54 الى 55]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا [54] وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [55]

ص: 186


1- جوامع الجامع 2: 18.
2- الكشّاف 3: 22.
3- طه: 29.

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ إذا وعد بشي ء و فى به و لم يخلف. ذكره بذلك لأنّه المشهور به، و إن كان موجودا في غيره من الأنبياء، فإنّه الموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره. و ناهيك (1) أنّه وعد الصبر على الذبح، فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (2) فوفى.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه واعد رجلا أن ينتظره في مكان و نسي الرجل، فانتظره مدّة كثيرة حتى أتاه الرجل».

و عن مقاتل: أقام أن ينتظره ثلاثة أيّام.

وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا يدلّ هذا على أنّ الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإنّ أولاد إبراهيم كانوا على شريعته.

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح و العبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، و لأنّهم أولى من سائر الناس، فإنّ الرجل يقبل على نفسه و من هو أقرب الناس إليه بالتكميل. قال اللّه تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (3).

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ (4) و قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (5). ألا ترى أنّهم أحقّ بالتصدّق عليهم، فالإحسان الديني أولى. و قيل: إنّه كان يأمر أهله بصلاة الليل و صدقة النهار.

و قيل: أهله أمّته كلّهم من القرابة و غيرهم، فإنّ الأنبياء آباء أممهم، و أممهم في عداد أهاليهم.

و فيه: أنّ من حقّ الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب، فضلا عن الأقارب

ص: 187


1- في هامش النسخة الخطّية: «النهاية: الغاية. و فلان ناهيك و نهيك، كما تقول: كافيك و حسبك. و تأويله: أنه غاية تنهاك عن تطلّب غيره. و التطلّب: الطلب مرّة بعد مرّة. منه».
2- الصافّات: 102.
3- الشعراء: 214.
4- طه: 132.
5- التحريم: 6.

و المتّصلين به، و أن يحظيهم بالفوائد الدينيّة، و لا يفرّط في شي ء من ذلك.

وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاستقامة أقواله و أفعاله كلّها.

روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه إبراهيم، و إنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه اللّه إلى قومه، فسلخوا جلدة وجهه و فروة رأسه، فخيّره اللّه فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه و رضي بثوابه، و فوّض أمرهم إلى اللّه في عفوه و عقابه. و قد أتاه ملك من ربّه يقرئه السلام و يقول: قد رأيت ما صنع بك، و قد أمرني بطاعتك، فمرني بما شئت. فقال: يكون لي بالحسين عليه السّلام قدوة».

[سورة مريم [19]: الآيات 56 الى 57]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [56] وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [57]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ و هو سبط شيث، و جدّ أبي نوح. و اسمه أخنوخ.

و اشتقاقه من الدرس يردّه منع صرفه. و كذلك إبليس أعجميّ، و ليس من الإبلاس كما يزعمون، و لا يعقوب من العقب، و لا إسرائيل من إسراءل، و الأسر القوّة، و الإل هو اللّه، كما زعم ابن السكّيت. و من لم يحقّق و لم يتدرّب بالصناعة كثر منه أمثال هذه الهنات.

و لا يبعد أن يكون إدريس في تلك اللغة ملقّبا به لكثرة درسه، إذ روي أنّه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، و أنّه أوّل من خطّ بالقلم، و نظر في علم النجوم و الحساب، و أوّل من خاط الثياب و لبسها، و كانوا يلبسون الجلود.

إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا رفيعا شريفا عند اللّه في رفعة الدرجة و مزيّة القربة. و قيل: المراد الجنّة. و قيل: السماء السادسة أو الرابعة، فإنّه رفع إليها كما رفع عيسى و هو حيّ لم يمت. و روي عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة».

و اعلم أنّه يجوز أن يكون تقديم ذكر إبراهيم على موسى، و موسى على إسماعيل،

ص: 188

و إسماعيل على إدريس، لأجل تقدّم شرف كلّ واحد منهم على الآخر، و مزيّة مرتبة بعضهم على بعض على الترتيب المذكور.

[سورة مريم [19]: الآيات 58 الى 62]

أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا [58] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [59] إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [60] جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [61] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا [62]

و لمّا فصّل سبحانه ذكر النبيّين، و وصف كلّا منهم بصفة تخصّه، جمعهم في المدح و الثناء، فقال: أُولئِكَ أي: هؤلاء المذكورون في السورة من زكريّا إلى إدريس الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النعم الدينيّة و الدنيويّة مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بدل منه بإعادة الجارّ. و يجوز أن تكون «من» فيه للتبعيض، لأنّ المنعم عليهم أعمّ من الأنبياء و أخصّ من الذرّيّة.

وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ من ذرّيّة من حملنا خصوصا. و هم من عدا إدريس، فإنّ إبراهيم كان من ذرّيّة سام بن نوح. وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ الباقون وَ إِسْرائِيلَ عطف على «إبراهيم» أي: و من ذرّيّة إسرائيل.

ص: 189

و إنّما فرّق سبحانه ذكر نسبهم، مع أنّ كلّهم كانوا من ذرّيّة آدم، لتبيان مراتبهم في شرف النسب، فإنّه كان لإدريس شرف القرب لآدم، لأنّه جدّ نوح عليه السّلام. و كان إبراهيم من ذرّيّة من حمل مع نوح، كما ذكر آنفا. و كان إسماعيل و إسحاق و يعقوب من ذرّيّة إبراهيم، فلمّا تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم. و كذلك كان موسى و هارون و زكريّا و يحيى و عيسى من ذرّيّة إسرائيل. و فيه دليل على أنّ أولاد البنات من الذرّيّة، فإنّ مريم من ذرّيّة إسرائيل.

وَ مِمَّنْ هَدَيْنا عطف على «من» الأولى أو الثانية، أي: هؤلاء من جملة من أرشدناه إلى الحقّ وَ اجْتَبَيْنا للنبوّة و الكرامة إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ من كتبه السماويّة خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا خبر ل «أولئك» إن جعل الموصول صفة، و استئناف إن جعل خبرا، لبيان أنّهم مع جلالة قدرهم و شرف نسبهم و كمال أنفسهم و زلفاهم من اللّه تعالى، كانوا يبكون عند ذكر آيات اللّه مخبتين خاشعين، و هؤلاء العصاة ساهون لاهون مع إحاطة السيّئات بهم.

و البكيّ جمع باك، كالسجود جمع ساجد. و قرأ حمزة و الكسائي: بكيّا بكسر الباء.

روي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه قال: «نحن عنينا بهذه الآية».

و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّ المراد من آيات الرحمن هاهنا القرآن. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتلوا القرآن و ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا».

و عن صالح المرّي: قرأت القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المنام، فقال لي: يا صالح هذه القراءة، فأين البكاء؟!

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا».

و عن ابن عبّاس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتّى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه.

ص: 190

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فعقّبهم و جاء بعدهم عقب سوء. يقال: خلف صدق بالفتح، و خلف سوء بالسكون، كما قالوا: وعد في الخير، و وعيد في الشرّ. أَضاعُوا الصَّلاةَ تركوها. و عن ابن مسعود: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن يتركوها أصلا. و يؤيّد الأوّل الاستثناء من بعده. وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أنفذوها فيما حرّم عليهم.

عن ابن عبّاس: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، و شربوا الخمر، و استحلّوا نكاح الأخت من الأب، و انهمكوا في المعاصي.

و عن قتادة: هم من هذه الأمّة عند قيام الساعة.

و عن علي عليه السّلام في قوله: وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من بني الشديد، و ركب المنظور، و لبس المشهور» (1).

فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا شرّا، فإنّ كلّ شرّ عند العرب غيّ، كقوله:

فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما أو جزاء غيّ، كقوله: يَلْقَ أَثاماً (2) أي: مجازاة أثام. أو غيّا عن طريق الجنّة.

و عن ابن مسعود: هو واد في جهنّم تستعيذ منه أوديتها.

إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً يدلّ على أنّ الآية في الكفرة فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب على البناء للمفعول، من:

أدخل. وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً و لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم. و يجوز أن ينتصب «شيئا» على المصدر، أي: ظلما حقيرا، فإنّ «شيئا» وقع موقعه. و فيه تنبيه على أنّ كفرهم السابق لا يضرّهم، و لا ينقص أجورهم.

ص: 191


1- رواه الزمخشري في الكشّاف (3: 26) بهذا اللفظ. و الشديد: الرفيع. و لعلّه إشارة إلى بناء القصور الرفيعة المشيّدة، و ركوب الحيوان للخيلاء و التبختر، و لباس الشهرة.
2- الفرقان: 68.

جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل من الجنّة بدل البعض، لأنّ الجنّة قد اشتملت عليها. أو منصوب على المدح.

و «عدن» بمعنى الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به. أو هو علم لأرض الجنّة، لكونها مكان إقامة، و لو لا ذلك لما ساغ الإبدال، لأنّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلّا موصوفة، و لما ساغ وصفها ب «الّتي» في قوله الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ أي: عباده المؤمنين بِالْغَيْبِ أي: وعدها إيّاهم و هي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها. أو وعدهم بإيمانهم بالغيب.

إِنَّهُ إنّ اللّه كانَ وَعْدُهُ الّذي هو الجنّة مَأْتِيًّا يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة. و قيل: هو مأخوذ من: أتى إليه إحسانا، أي: باشره و صنع إليه. و منه قوله تعالى:

وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ (1) أي: يباشرنها. و المعنى: و كان وعد اللّه مفعولا منجّزا.

و في المجمع: «المفعول هنا بمعنى الفاعل، لأن ما أتيته فقد أتاك، و ما أتاك فقد أتيته» (2).

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فضول كلام و ما لا طائل تحته. و فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنّب اللغو و اتّقائه، حيث نزّه اللّه عنه الدار الّتي لا تكليف فيها. و ما أحسن ما قال: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (3) وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (4) نعوذ باللّه من اللغو و الجهل، و الخوض فيما لا يعنينا.

إِلَّا سَلاماً و لكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب و النقيصة. أو تسليم

ص: 192


1- النساء: 15.
2- مجمع البيان 6: 521.
3- الفرقان: 72.
4- القصص: 55.

الملائكة عليهم. أو تسليم بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع. أو على معنى أنّ التسليم إن كان لغوا فلا يسمعون لغوا سواه، كقوله:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب أو على أنّ الدعاء بالسلامة و أهلها أغنياء عنه، فهو من باب اللغو ظاهرا، و إنّما فائدته الإكرام.

و لمّا كانت العرب تأكل الوجبة، و هي الأكلة الواحدة في اليوم، أخبر اللّه سبحانه بقوله: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا على العادة المحمودة بين المتنعّمين، و التوسّط بين الوجبة الّتي هي طرف التفريط، و بين دوام الأكل كلّ الأوقات كما هو عادة المنهومين و لا يكون ثمّ ليل و لا نهار، و لا قمر و شمس، ليكون لهم بكرة و عشيّ. و المراد: أنّهم يؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء و العشاء.

و قيل: إنّهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب و إغلاق الأبواب، و مقدار النهار برفع الحجب و فتح الأبواب.

و قيل: المراد دوام الرزق و دروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا و مساء و بكرة و عشيّا، تريد الديمومة، و لا تقصد الوقتين المعلومين.

[سورة مريم [19]: الآيات 63 الى 65]

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [63] وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [64] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [65]

قيل: إنّ العاص بن وائل السهمي لم يعط أجرة أجير استعمله، و قال: لو كان ما

ص: 193

يقوله محمد حقّا فنحن أولى بالجنّة و نعيمها! فحينئذ أوفّره أجره، فنزلت: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم، كما يبقى على الوارث مال مورّثه. و الوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملّك و الاستحقاق، من حيث إنّها لا تعقّب بفسخ و لا استرجاع، و لا تبطل بردّ و لا إسقاط.

و قيل: أورثوا من الجنّة المساكن الّتي كانت لأهل النار لو أطاعوا، زيادة في كرامتهم. و عن يعقوب: نورّث بالتشديد.

و اعلم أنّه قد مرّ (1) في سورة الكهف أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قصّة أصحاب الكهف و ذي القرنين و الروح، و لم يدر ما يجيب، و رجا أن يوحى إليه فيه، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما، و قيل: أربعين، حتّى قال المشركون: ودّعه ربّه و قلاه، فشقّ ذلك عليه مشقّة شديدة. ثمّ نزل جبرئيل ببيان ذلك. فقال رسول اللّه: أبطأت و إنّي اشتقت إليك. قال: إنّي كنت أشوق، و لكنّي عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، و إذا حبست احتبست. فنزلت: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فهو حكاية قول جبرئيل حين استبطأه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و التنزّل: النزول على مهل، لأنّه مطاوع: نزل. و قد يطلق بمعنى النزول مطلقا، كما يطلق «نزل» بمعنى: أنزل.

و المعنى: ما نتنزّل وقتا غبّ وقت إلّا بأمر اللّه على ما تقتضيه حكمته.

لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ما قدّامنا وَ ما خَلْفَنا من الجهات و الأماكن وَ ما بَيْنَ ذلِكَ و هو ما نحن فيه من الأماكن و الأحايين وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا لأعمال العاملين و غيرها، فإنّه لا يجوز عليه الغفلة و النسيان.

و المعنى: ما كان عدم نزولنا إليك إلّا لعدم الأمر به، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته، و نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة، و مكان إلى مكان، إلّا بأمر المليك و مشيئته، و هو الحافظ العالم بكلّ حركة و سكون. و ما يحدث و يتجدّد من الأحوال لا يجوز عليه الغفلة

ص: 194


1- راجع ص 100 ذيل الآية 24 من سورة الكهف.

و النسيان، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته إلّا إذا راى ذلك مصلحة و حكمة، و أطلق لنا الإذن فيه.

و قيل: معناه: و ما كان ربّك تاركا لك، كقوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (1) أي:

احتباس الوحي لم يكن عن ترك اللّه لك و توديعه إيّاك كما زعمت الكفرة، و إنّما كان لحكمة رآها فيه.

و قيل: أوّل الآية حكاية قول المتّقين حين يدخلون الجنّة. و المعنى: و ما ننزل الجنّة إلّا بأمر اللّه و لطفه، و هو مالك الأمور كلّها، السالفة و المترقّبة و الحاضرة، فما وجدناه و ما نجده من فضله و لطفه. و قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا تقرير من اللّه لقولهم:

أي: و ما كان ناسيا لأعمال العاملين، و ما وعد لهم من الثواب عليها، و كيف يجوز النسيان و الغفلة على ذي ملكوت السماوات و الأرض و ما بينهما؟! و قيل: ما

سلف من أمر الدنيا، و ما يستقبل من أمر الآخرة، و ما بين ذلك ما بين النفختين، و هو أربعون سنة.

و قيل: ما مضى من أعمارنا، و ما غبر منها، و الحال الّتي نحن فيها.

و قيل: ما قبل وجودنا، و ما بعد فنائنا، و حين حياتنا.

و قيل: الأرض الّتي بين أيدينا إذا نزلنا، و السّماء الّتي وراءنا، و ما بين السماء و الأرض.

و توضيح المعنى: أنّه المحيط بكلّ شي ء، لا تخفى عليه خافية، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلّا صادرا عمّا توجبه حكمته، و يأمرنا به، و يأذن لنا فيه؟! و قوله: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما بيان لامتناع النسيان عليه. و هو خبر محذوف، أو بدل من «ربّك» أي: كيف يجوز النسيان و الغفلة على من له ملك

ص: 195


1- الضّحى: 3.

السماوات و الأرض و ما بينهما؟! فحين عرفته بهذه الصفة فَاعْبُدْهُ وحده وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي: اصبر على تحمّل مشقّة عبادته، يثبك كما أثاب غيرك من المتّقين.

و هذا خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مرتّب على ما قبله، أي: لمّا عرفت ربّك بأنّه لا ينبغي له أن ينساك أو ينسى أعمال العمّال، فأقبل على عبادته، و اصطبر عليها، و لا تتشوّش بإبطاء الوحي و هزء الكفرة.

و إنّما عدّي باللام لتضمّنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد و المشاقّ، كقولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي: اثبت للعبادة، و لا تهن، و لا يضق صدرك عن إلقاء عداتك (1) من أهل الكتاب إليك الأغاليط (2)، و عن احتباس الوحي عليك مدّة، و عن شماتة المشركين بك.

هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مثلا و شبيها يستحقّ أن يسمّى إلها، أو أحدا سمّي اللّه؟! فإنّ المشركين و إن سمّوا الصنم إلها لم يسمّوه اللّه قطّ، و ذلك لظهور أحديّته، و تعالى ذاته عن المماثلة، بحيث لم يقبل اللبس و المكابرة. أو هل تعلم أحدا يسمّى خالقا رازقا، محييا مميتا، قادرا على الثواب و العقاب سواه حتّى تعبده؟ فإذا لم تعلم ذلك فالزم عبادته.

و الاستفهام لتقرير الأمر، أي: إذا صحّ أن لا أحد مثله، و لا يستحقّ العبادة غيره، لم يكن بدّ من التسليم لأمره، و الاشتغال بعبادته، و الاصطبار على مشاقّها.

[سورة مريم [19]: الآيات 66 الى 72]

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [66] أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً [67] فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ

ص: 196


1- في هامش النسخة الخطّية: «العداة جمع عاد، و هو الظالم، كقضاة جمع قاض. منه».
2- في هامش النسخة الخطية: «الأغاليط جمع أغلوط و أغلوطة. و في الحديث نهي عن المغلوطات و الأغلوطات. و هي المبهمة من المسائل. منه».

وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [68] ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [69] ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا [70]

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [71] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [72]

روي: أنّ أبيّ بن خلف الجمحي- و برواية ابن عبّاس: الوليد بن المغيرة- أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده و يذريه في الريح، و يقول: زعم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ اللّه يبعثنا بعد أن نموت و نكون عظاما مثل هذا، إنّ هذا شي ء لا يكون أبدا. فنزلت:

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ قيل: المراد به الجنس بأسره، فإنّ المقول مقول فيما بينهم و إن لم يقله كلّهم، كقولك: بنو فلان قتلوا فلانا، و القاتل واحد منهم. أو المراد بعضهم المعهود، و هم الكفرة.

أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا من الأرض، أو من حال الموت. و تقديم الظرف و إيلاؤه حرف الإنكار، لأنّ المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة. و انتصابه بفعل دلّ عليه «اخرج» لابه، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها، و لهذا لا يقال: اليوم لزيد قائم.

و «ما» في «أ إذا ما» للتأكيد. و اللام هنا مخلصة للتوكيد، مجرّدة عن معنى الحال، فلهذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال، كما خلصت الهمزة و اللام في «يا اللّه» للتعويض.

و روي عن ابن ذكوان: «إذا ما متّ» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر.

أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ عطف على «و يقول». و توسيط همزة الإنكار بينه و بين العاطف، مع أنّ الأصل أن يتقدّمهما و يقال: أ يقول ذلك و لا يتذكّر، للدلالة على أنّ المنكر بالذات هو المعطوف، و أنّ المعطوف عليه إنّما نشأ منه، فإنّه لو تذكّر و تأمّل أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً بل كان عدما صرفا لم يقل ذلك، فإنّه أعجب و أغرب من جمع

ص: 197

الموادّ بعد التفريق، و إيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض، و أدلّ على قدرة الخالق، حيث أخرج الجواهر و الأعراض من العدم إلى الوجود. ثمّ أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم الّتي تحار فيها الفطن، من غير حذو على مثال، و اقتداء بمؤلّف، و لكن اختراعا و إبداعا من عند قادر، جلّت قدرته، و دقّت حكمته.

و أمّا النشأة

الثانية فقد تقدّمت نظيرتها و عادت لها كالمثال المحتذى عليه، و ليس فيها إلّا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية و تركيبها، و ردّها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك و التفريق.

و قوله تعالى: «وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً» دليل على هذا المعنى. و كذلك قوله تعالى: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (1) على أنّ ربّ العزّة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب و السهل، و لا يحتاج إلى احتذاء على مثال، و لا استعانة بحكيم، و لا نظر في مقياس، و لكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته، و كشفا عن صفحة جهله.

و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و قالون عن يعقوب: يذّكّر، من التذكّر الّذي يراد به التفكّر.

ثمّ أقسم سبحانه باسمه مبالغة و تأكيدا لوقوع الحشر، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أضاف اسمه إلى نبيّه تفخيما لشأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قوله: وَ الشَّياطِينَ عطف على المفعول به، أو مفعول معه. و هذا أحسن، لما روي أنّ الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الّذين أغووهم، كلّ كافر مع شيطانه في سلسلة. هذا إذا كان المراد بالإنسان الكفرة خاصّة. أمّا إذا أريد الأناسي على العموم، فالمعنى: أنّهم إذا حشروا و فيهم الكفرة مقرونين بالشياطين، فقد صدق أنّهم حشروا جميعا معهم، كقوله: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً (2)، و إن كان القمر في فلك واحد.

ص: 198


1- الروم: 27.
2- نوح: 16.

ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ جميعا حَوْلَ جَهَنَّمَ ليرى السعداء ما نجّاهم اللّه منه، فيزدادوا غبطة و سرورا، و ليشمتوا بأعداء اللّه و أعدائهم، فتزداد مساءتهم، و ينال الأشقياء ما ادّخروا لمعادهم عدّة، فيزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب، و شماتتهم عليهم.

جِثِيًّا متجاثين (1) على ركبهم، لما يدهمهم من هول المطّلع. أو لأنّه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب و العقاب، فإنّ أهل الموقف كلّهم جاثون، لقوله: وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً (2) على المعتاد في مواقف التقاول. و إن كان المراد بالإنسان الكفرة، فيجوز أن يساقوا جثاة من الموقف إلى شاطئ جهنّم إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام، لما عراهم من الشدّة.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر الجيم. و كذا في: عتيّا و صليّا.

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ لنستخرجنّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فعلة بمعنى الطائفة التي شاعت، أي: تبعت. و المراد: من كلّ أمّة شاعت دينا. أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا من كان أعتى و أعصى منهم، فنطرحهم في جهنّم. و العتيّ مصدر، كالعتوّ، و هو التمرّد في العصيان.

و في ذكر الأشدّ تنبيه على أنّه تعالى يعفو كثيرا من أهل العصيان. و لو خصّ بالكفرة، فالمراد أنّه يميّز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم، و يطرحهم في النار على الترتيب، أو يدخل كلّا طبقتها الّتي تليق به.

و اختلفوا في «أيّهم»، فعند سيبويه أنّه مبنيّ على الضمّ، لأنّ حقّه أن يبنى كسائر الموصولات، لكنّه أعرب حملا على «كلّ» و «بعض» للزوم الإضافة، فإذا حذف صدر صلته زاد نقصه، فعاد إلى بنائه، لتأكّد شبه الحرف من جهة الاحتياج إلى أمر غير الصلة،

ص: 199


1- جثا جثوّا و جثيّا: جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه، فهو جاث، و جمعه: جثيّ و جثيّ.
2- الجاثية: 28.

فإنّ جزء الصلة غير الصلة. و بنيت على الضمّ تشبيها لها بالغايات، لأنّه حذف منها بعض ما يوضحها، كما حذف من الغايات ما يبيّنها، أعني: المضاف إليه.

و هو منصوب المحلّ ب «ننزعنّ». و عند الخليل مرفوع، إمّا بالابتداء على أنّه استفهاميّ، و خبره «أشدّ»، و الجملة محكيّة. و تقدير الكلام: لننزعنّ من كلّ شيعة الّذين يقال فيهم: أيّهم أشدّ. أو الجملة معلّق عنها ب «ننزعنّ»، لتضمّنه معنى التمييز اللازم للعلم. أو مستأنفة و الفعل واقع على «من كلّ شيعة»، على زيادة «من»، كما تقول: أكلت من كلّ طعام. أو على معنى: لننزعنّ بعض كلّ شيعة. و إمّا ب «شيعة» لأنّها بمعنى: تشيع، و «على» للبيان، أو متعلّق ب «أفعل» أي: عتوّهم أشدّ على الرحمن.

و كذا الباء في قوله: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي: أولى بالصليّ، أو صليّهم أولى بالنار، و هم المنتزعون. و يجوز أن يراد بهم و بأشدّهم عتيّا رؤساء الشيع، فإنّ عذابهم مضاعف، لضلالهم و إضلالهم.

و المعنى: نحن أعلم بالّذين هم أولى بشدّة العذاب، و أحقّ بعظيم العقاب، و أجدر بلزوم النار.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: صليّا بكسر الصاد. و هو لازم من باب: علم، بمعنى الدخول في النار و الحرق بها.

ثمّ التفت إلى الإنسان فقال خطابا لهم: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إلّا واصلها و حاضر عندها. و قيل: خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور، أمّا المؤمن منهم فيمرّ بها و هي خامدة، و أمّا الكافر فتنهار به.

و عن جابر أنّه سئل عليه السّلام عنه، فقال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال بعضهم لبعض:

أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال لهم: قد وردتموها و هي خامدة.

و عنه أيضا: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «الورود الدخول، لا يبقى برّ و لا فاجر إلّا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت

ص: 200

على إبراهيم عليه السّلام، حتّى إنّ للنار ضجيجا من بردها».

و روي مرفوعا عن يعلى بن منبّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي».

روي عنه عليه السّلام أيضا أنّه سئل عن معنى الآية فقال: «إنّ اللّه يجعل النار كالسمن الجامد، و يجمع عليها الخلق، ثمّ ينادي المنادي: أن خذي أصحابك و ذري أصحابي. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فو الّذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها».

و روي عن الحسن أنّه رأى رجلا يضحك، فقال: هل علمت أنّك وارد النار؟ قال:

نعم. قال: و هل علمت أنّك خارج منها؟ قال: لا. قال: فبم هذا الضحك؟ فكان الحسن لم ير ضاحكا حتّى مات.

و أمّا قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (1) فالمراد عن عذابها، لا عن ورودها.

و عن ابن مسعود و الحسن و قتادة: معنى الورود الجواز على الصراط، فإنّه ممدود عليها.

و عن ابن عبّاس: قد يرد الشي ء الشّي ء و لم يدخله، كقوله: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ (2)، و وردت القافلة البلد و إن لم تدخله و لكن قربت منه.

و عن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مسّ الحمّى جسده في الدنيا، لقوله عليه السّلام «الحمّى من فيح جهنّم».

و في الحديث: «الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النار».

كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا كان ورودهم واجبا أوجبه اللّه على نفسه و قضى به. و قيل: أقسم عليه. و الحتم مصدر: حتم الأمر إذا أوجبه، فسمّي به الموجب، كقولهم:

خلق اللّه، و ضرب الأمير.

ص: 201


1- الأنبياء: 101.
2- القصص: 23.

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك، فيساقون إلى الجنّة. و قرأ الكسائي و يعقوب:

ننجي بالتخفيف. وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا باركين على ركبهم، منها؟؟؟ رابهم كما كانوا.

و دلّ هذا على أنّ الورود بمعنى الجثوّ حواليها، و أنّ المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنّة بعد تجاثيهم، و تبقى الكفرة في مكانهم جاثين.

[سورة مريم [19]: آية 73]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا [73]

ثمّ بيّن مقال أهل الكفر و الطغيان عند العجز عن معارضة القرآن، فقال: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مرتلات الألفاظ، مبيّنات المعاني، ملخّصات المقاصد، إمّا محكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو بتبيين الرسول. أو المراد:

واضحات الإعجاز، قد تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حجبا و براهين. و على هذا فالوجه أن تكون حالا مؤكّدة، كقوله: وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً (1) لأنّ آيات اللّه لا تكون إلّا واضحة و حججا.

قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا بآياتنا لِلَّذِينَ آمَنُوا لأجلهم و في معناهم، كقوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا (2) أو معهم، أي:

يواجهونهم به و يناطقونهم. أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من المؤمنين بالآيات و الكافرين الجاحدين لها خَيْرٌ مَقاماً موضع قيام. و قرأ ابن كثير بالضمّ، أي: موضع إقامة و منزل. وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسا و مجتمعا للانتداء و التحديث.

و المعنى: أنّهم لمّا سمعوا الآيات الواضحات، و عجزوا عن معارضتها و الدخل

ص: 202


1- البقرة: 91.
2- الأحقاف: 11.

عليها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، و الاستدلال على أنّ زيادة حظّهم فيها يدلّ على فضلهم و حسن حالهم عند اللّه تعالى، لقصور نظرهم على الحال، و علمهم بظاهر من الحياة الدنيا.

[سورة مريم [19]: آية 74]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً [74] و قد روي أنّهم كانوا يرجّلون شعورهم و يدهنون و يتطيّبون و يتزيّنون بالزين الفاخرة، ثمّ يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنّهم أكرم على اللّه تعالى منهم. فردّ اللّه عليهم ذلك مع التهديد نقضا، فقال: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ «كم» مفعول «أهلكنا»، و «من قرن» تبيين لإبهامها، أي: كثيرا من القرون أهلكنا. و إنّما سمّي أهل كلّ عصر قرنا، لأنّهم يتقدّمون من بعدهم.

هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً في محلّ النصب صفة ل «كم». ألا ترى أنّك لو تركت «هم» لم يكن لك بدّ من نصب «أحسن» على الوصفيّة. و «أثاثا» تمييز عن النسبة. و هو متاع البيت. و قيل: هو ما جدّ (1) من الفرش، غير مبتذل و لا ممتهن. و الخرثي (2) ما ليس منها ورثّ.

وَ رِءْياً و هو المنظر و الهيئة. فعل بمعنى مفعول، من الرؤية لما يرى، كالطحن و الخبز. و قرأ قالون و ابن ذكوان: ريّا على قلب الهمزة ياء و إدغامها، أو على أنّه من الريّ الّذي هو النعمة و الترفّه، من قولهم: ريّان من النعيم. و أبو بكر: ريئا على القلب.

و المعنى: أنّا قد أهلكنا قبلهم أمما و جماعات كانوا أكثر أموالا و أحسن منظرا منهم، و لم تغن عنهم أموالهم و لا جمالهم، كذلك لا يغني عن هؤلاء.

ص: 203


1- في هامش النسخة الخطية: «من الجدة ضدّ الخلق. منه».
2- الخرثي: أردأ المتاع و سقطه، و العتيق من لوازم البيت و ما رثّ- أي: بلي- منها.

[سورة مريم [19]: آية 75]

قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً [75]

ثمّ بيّن أنّ تمتيعهم استدراج و ليس بإكرام، و إنّما العيار على الفضل و النقص ما يكون في الآخرة، فقال: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا فيمدّه و يمهله بطول العمر و التمتّع به.

و إنّما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بوجوب إمهاله، و أنّه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لأنّه تنقطع معاذير الضالّ، و يقال له يوم القيامة: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ (1).

أو المعنى: من كان في الضلالة فيمدّ له الرحمن، على معنى الدعاء عليه، بأن يمهله اللّه عزّ و جلّ، و يؤخّره في مدّة حياته خذلانا و استدراجا.

أو المعنى على التهديد، أي: فليعش ما شاء، فإنّه لا ينفعه طول عمره، بل يوجب مزيد عذابه و نكاله.

حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ غاية المدّ. و قيل: غاية قول الّذين كفروا للّذين آمنوا. و الآيتان اعتراض بينهما، أي: لا يزالون يقولون هذا القول حتّى إذا رأوا ما يوعدون.

ثمّ فصّل الموعود بقوله: إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا. و هو غلبة المسلمين عليهم، و تعذيبهم إيّاهم قتلا و أسرا. وَ إِمَّا السَّاعَةَ و إمّا يوم القيامة، و ما ينالهم فيه

ص: 204


1- فاطر: 37.

من الخزي و النكال.

فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدّروه، و عاد ما متّعوا به خذلانا و وبالا عليهم. و هو جواب الشرط. وَ أَضْعَفُ جُنْداً أي: فئة و أنصارا و أعوانا. قابل به «خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا» من حيث إنّ حسن النادي باجتماع وجوه القوم و أعيانهم و أعوانهم، و ظهور شوكتهم و استظهارهم.

[سورة مريم [19]: آية 76]

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا [76]

ثمّ بيّن سبحانه حال المؤمنين، فقال: وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً عطف على الشرطيّة المحكيّة بعد القول، كأنّه لمّا بيّن أنّ إمهال الكافر و تمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبيّن أنّ قصور حظّ المؤمن منها ليس لنقصه، بل لأنّ اللّه عزّ و جلّ أراد به ما هو خير له، و عوّضه منه.

و قيل: عطف على «فليمدد». و الآية في معنى الخبر. كأنّه قيل: من كان في الضلالة يزيد اللّه في ضلاله بالخذلان و التخلية، و يزيد المقابل له هداية.

وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ الطاعات الّتي تبقى عائدتها أبد الآباد في الآخرة.

و يدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس، و التسبيحات الأربع، أعني: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، و غير ذلك، كما مرّ في سورة الكهف (1).

خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً عائدة ممّا متّع به الكفرة، من النعم الناقصة الفانية الّتي يفتخرون بها، و مع ذلك مآل ذلك النعيم الأبدي، و مآل هذه الحسرة و العذاب الدائم، كما أشار إليه بقوله: وَ خَيْرٌ مَرَدًّا مرجعا و عاقبة. أو منفعة. من قولهم: ليس لهذا الأمر مردّ،

ص: 205


1- راجع ص 116- 117 ذيل الآية 46 من سورة الكهف.

أي: منفعة، و هو أردّ عليك، أي: أنفع. و الخير هنا إمّا لمجرّد الزيادة، أو على طريقة قولهم: الصيف أحرّ من الشتاء، أي: أبلغ في حرّه منه في برده.

[سورة مريم [19]: الآيات 77 الى 82]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً [77] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [78] كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا [79] وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً [80] وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [81]

كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [82]

روي أنّ الخباب بن الأرتّ كان له على العاص بن وائل مال، فتقاضاه.

فقال له: لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد.

فقال: لا و اللّه لا أكفر بمحمّد حيّا و لا ميّتا، و لا حين تبعث.

قال: فإنّي إذا متّ بعثت؟

قال: نعم.

قال: فإذا بعثت جئني، و سيكون لي ثمّ مال و ولد، فأعطيك. فنزلت: أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً لمّا كانت رؤية الأشياء أشدّ طريقا إلى الإحاطة بها علما، و أقوى سندا للإخبار، استعملوا «أ رأيت» بمعنى: أخبر، و الفاء جاءت لإفادة معناها الّذي هو التعقيب، كأنّه قال: أخبر أيضا بقصّة هذا الكافر عقيب حديث أولئك.

و قرأ حمزة و الكسائي: و ولدا. و هو جمع ولد، كأسد و أسد، أو لغة فيه،

ص: 206

كالعرب و العرب.

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ يقال: اطّلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه. فالمعنى: قد بلغ من عظمة شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الّذي توحّد به الواحد القهّار، حتّى ادّعى أن يؤتى في الآخرة مالا و ولدا، و أقسم عليه.

أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أو اتّخذ من عالم الغيوب عهدا بذلك، فإنّه لا يتوصّل إلى العلم به إلّا بأحد هذين الطريقين. و قيل: العهد كلمة الشهادة.

و عن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه، فهو يرجو بذلك ما يقول؟! فإنّ وعد اللّه بالثواب على الشهادة أو العمل الصالح كالعهد عليه.

كَلَّا ردع و تنبيه على أنّه مخطئ فيما يصوّره لنفسه و يتمنّاه، فليرتدع عنه سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ذكر سين التسويف، لأنّه بمعنى: سنظهر له أنّا كتبنا قوله. أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدوّ و حفظها عليه، فإنّ نفس الكتبة لا تتأخّر عن القول أبدا، لقوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (1).

وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا و نطوّل له من العذاب ما يستأهله. أو نزيد عذابه، و نضاعف له بعضا فوق بعض، لكفره و افترائه و استهزائه على اللّه. و لذلك أكّده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه. يقال: مدّه و أمدّه بمعنى.

وَ نَرِثُهُ بموته ما يَقُولُ يعني: المال و الولد وَ يَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال و لا ولد كان له في الدنيا، فضلا أن يؤتى ثمّة زائدا، كقوله: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى (2).

و قيل: معناه: إنّما يقوله ما دام حيّا، فإذا قبضناه حلنا بينه و بين أن يقوله، و يأتينا رافضا لهذا القول، منفردا عنه، غير قائل له.

ص: 207


1- ق: 18.
2- الأنعام: 94.

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ليتعزّزوا بهم، حيث يكونون لهم و صلة إلى اللّه، و شفعاء عنده، و أنصارا ينقذونهم من العذاب.

كَلَّا ردع و إنكار لتعزّزهم بها سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ستجحد الآلهة عبادتهم، و يقولون: ما عبدتمونا و أنتم كاذبون، لقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا (1).

أو سينكر الكفّار لسوء عاقبتهم أنّهم عبدوها، كقوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (2).

و قوله: وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا يؤيّد الأوّل، إذا فسّر الضدّ بضدّ العزّ، أي:

و يكونون عليهم ضدّا لما قصدوه و أرادوه، كأنّه قيل: و يكونون عليهم ذلّا و هوانا، لا لهم عزّا.

أو بضدّهم بمعنى. عونهم، كما يقال: من أضدادكم، أي: أعوانكم. و سمّي العون ضدّا، لأنّه يضادّ عدوّك و ينافيه بإعانته لك عليه، أي: أنّها تكون معونة عليهم في عذابهم، بأن توقد بها نيرانهم، فإنّهم وقود النار و حصب جهنّم، و لأنّهم عذّبوا بسبب عبادتها.

أو جعل الواو للكفرة، أي: يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها. و توحيده لوحدة المعنى الّذي به مضادّتهم، و هو اتّفاق كلمتهم، و فرط تضامّهم و توافقهم، فهم كشي ء واحد. و نظيره

قوله عليه السّلام: «و هم يد على من سواهم».

[سورة مريم [19]: الآيات 83 الى 84]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [83] فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [84]

ص: 208


1- البقرة: 166.
2- الأنعام: 23.

ثمّ عجّب اللّه سبحانه رسوله من أقاويل العتاة المردة من الكفرة، و تماديهم في الغيّ، و تصميمهم على الكفر، و اجتماعهم على دفع الحقّ بعد وضوحه و انتفاء الشكّ عنه، و انهماكهم في اتّباع الشياطين و ما تسوّل لهم، فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ بأن خلينا بينهم و بينهم و لم نمنعهم، و لم نحل بينهم و بينهم، و لو شاء لمنعهم قسرا و إجبارا، لكنّه مناف للتكليف الّذي هو مناط الثواب و العقاب.

تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تهزّهم و تغريهم و تهيّجهم على المعاصي بالتسويلات و تحبيب الشهوات. و الأزّ و الهزّ و الاستفزاز أخوات. و معناها: التهييج و شدّة الإزعاج.

فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حتّى تستريح أنت و المؤمنون من شرورهم، و تطهر الأرض من فسادهم بقطع دابرهم إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ أيّام آجالهم عَدًّا أي:

فلتطب نفسك يا محمّد و لا تستعجل بهلاكهم، فإنّه لم يبق لهم إلّا أيّام محصورة، و أنفاس معدودة، و ما دخل تحت العدّ فكان قد نفد. و هذا استقصار لمددهم.

و عن ابن عبّاس: أنّه كان إذا قرأها بكى و قال: آخر العدد خروج نفسك، أي:

روحك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك.

و عن ابن سماك: أنّه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، و لم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.

[سورة مريم [19]: الآيات 85 الى 87]

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [85] وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [86] لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [87]

ثمّ بيّن حال المطيعين المتّقين، و مآل المتمرّدين العاصين في الآخرة، بقوله:

ص: 209

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ إلى ربّهم الّذي غمرهم برحمته، و خصّهم برضوانه و كرامته. و ذكر هذا الاسم الشريف في هذه السورة مكرّرا، لأن مساق الكلام فيها، لتعداد نعمه الجسام، و شرح حال الشاكرين لها و الكافرين بها. وَفْداً وافدين عليه، كما يفد الوفّاد على الملوك منتظرين لكرامتهم و إنعامهم.

و عن عليّ عليه السّلام: «ما يحشرون و اللّه على أرجلهم، و لكنّهم على نوق رحالها ذهب، و على نجائب سروجها ياقوت».

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ بإهانة و استخفاف كما تساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً عطاشا، فإنّ من يرد الماء لا يرد إلّا لعطش. و حقيقة الورد المسير إلى الماء. يعني: كأنّهم نعم عطاش تساق إلى الماء.

لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ الضمير فيه للعباد المدلول عليها بذكر القسمين. و هو الناصب لليوم. و قيل: نصب بمضمر، أي: يوم نجمعهم و نسوقهم نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر.

إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً إلّا من تحلّى بما يستعدّ به و يستأهل أن يشفع للعصاة، من الإيمان و العمل الصالح على ما وعد اللّه. أو إلّا من اتّخذ من اللّه إذنا فيها، كالأنبياء و الأئمّة و خيار المؤمنين. فهو كقوله: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ (1). من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا، إذا أمره به.

و محلّه الرفع على البدل من الضمير. أو النصب على تقدير مضاف، أي: إلّا شفاعة من اتّخذ، أو على الاستثناء.

و قيل: الضمير للمجرمين. و المعنى: لا يملكون الشفاعة فيهم إلّا من اتّخذ عند الرحمن عهدا يستعدّ به أن يشفع له بالإسلام.

عن ابن مسعود: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه ذات يوم: «أ يعجز أحدكم أن يتّخذ.

ص: 210


1- طه: 109.

كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا؟

قالوا: و كيف ذلك؟

قال: يقول كلّ صباح و مساء: اللّهمّ فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، و أنّ محمّدا عبدك و رسولك، و أنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ و تباعدني من الخير، و أنّي لا أثق إلّا برحمتك، فصلّ على محمّد و آل محمّد، و اجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنّك لا تخلف الميعاد.

فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع و وضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الّذين لهم عند الرحمن عهد؟ فيدخلون الجنّة».

و قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: «حدّثني أبي، عن ابن محبوب، عن سليمان بن جعفر، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصا في مروءته.

قيل: يا رسول اللّه و كيف يوصي الميّت؟

قال: إذا حضرته وفاته و اجتمع الناس إليه قال: اللّهمّ فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم، إنّي أعهد إليك في دار الدنيا أنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، و أنّ محمدا عبدك و رسولك، و أنّ الجنّة حقّ و أن النار حقّ، و أن البعث حقّ، و الحساب حقّ، و القدر و الميزان حقّ، و أنّ الدين كما وصفت، و أنّ الإسلام كما شرعت، و أنّ القول كما حدّثت، و أنّ القرآن كما أنزلت، و أنّك أنت اللّه الحقّ المبين.

جزى اللّه عنّا محمّدا خير الجزاء، و حيّا اللّه محمّدا و آله بالسلام.

اللّهمّ يا عدّتي عند كربتي، و يا صاحبي عند شدّتي، و يا وليّي في نعمتي، يا إلهي و إله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنّك إن تكلني إلى نفسي كنت أقرب من الشرّ و أبعد من الخير. و آنس في القبر وحشتي، و اجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا.

ص: 211

ثمّ يوصي بحاجته.

و تصديق هذه الوصيّة في سورة مريم في قوله: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً». فهذا عهد الميّت. و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم، و حقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة و يتعلّمها. و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «علّمنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال:

علّمنيها جبرئيل» (1).

[سورة مريم [19]: الآيات 88 الى 95]

وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً [88] لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [89] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [90] أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [91] وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [92]

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [93] لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا [94] وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [95]

وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الضمير يحتمل لمطلق الإنسان، لأنّ هذا لمّا كان مقولا فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم. أو المراد الإخبار عن اليهود و النصارى و مشركي العرب، فإنّ اليهود قالوا: عزيز ابن اللّه، و قالت النصارى: المسيح ابن اللّه، و قال مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه.

ثمّ التفت إليهم للمبالغة في الذمّ، و التسجيل عليهم بالجرأة على اللّه، و قال خطابا لهم: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا شيئا منكرا عظيم النكارة شنيعا فظيعا، فإنّ الإدّ بالفتح

ص: 212


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 55- 56.

و الكسر العظيم المنكر. و الإدّة: الشدّة. و أدّني الأمر: أثقلني و عظم عليّ. و قيل: الإدّ:

العجب.

ثمّ بيّن عظم نكارته، و قرّر شدّة فظاعته و فرط شناعته بقوله: تَكادُ السَّماواتُ و قرأ نافع و الكسائي بالياء يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ يتشقّقن مرّة بعد أخرى.

و قرأ أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و أبو بكر و يعقوب: ينفطرن. و الأوّل أبلغ، لأنّ التفعّل مطاوع: فعل، و الانفعال مطاوع: فعل. يقال: فطره فانفطر إذا شقّه، و فطّره فتفطّر إذا شقّقه. و لأنّ أصل التفعّل التكلّف.

وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا تهدّ هدّا، أو مهدودة، أو لأنّها تهدّ، أي:

تكسر.

و معنى انفطار السماوات و انشقاق الأرض و خرور الجبال عند قولهم: «اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» من وجهين:

الأوّل: أن يكون استعظاما للكلمة، و تهويلا من فظاعتها، و تصويرا لأثرها في الدين، و هدمها لأركانه و قواعده. فالمعنى: أنّ هول هذه الكلمة و عظمها بحيث لو تصوّرت بصورة محسوسة، لم تتحمّلها هذه الأجرام العظام، و تفتّتت من شدّتها.

و الثاني: أنّ فظاعتها مجلبة لغضب اللّه، بحيث لو لا حلمه لخرّب الدنيا و بدّد قوائمه، غضبا على من تفوّه بها، فإنّها تؤثّر في هدم أركان الدين و قواعد التوحيد، الّتي هي سبب بناء العالم و علّة إيجاده و قوامه. فكأنّه قال سبحانه: كدت أفعل هذا بالسماوات و الأرض و الجبال عند وجود هذه الكلمة، غضبا منّي على من تقوّل بها لو لا حلمي و وقاري، و أنّي لا أعجل بالعقوبة، كما قال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (1).

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً يحتمل النصب على العلّة ل «تكاد»، أو ل «هدّا» على

ص: 213


1- فاطر: 41.

حذف اللام و إفضاء الفعل إليه. و الجرّ بإضمار اللام، أو بالإبدال من الهاء في «منه».

و الرفع على أنّه خبر محذوف، تقديره: الموجب لذلك أن دعوا، أو فاعل «هدّا» أي: هدّها دعاء الولد للرحمن.

و هو من: دعا، بمعنى: سمّى، المتعدّي إلى مفعولين. و إنّما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكلّ ما دعي له ولدا. أو من: دعا، بمعنى: نسب، الّذي مطاوعه: ادّعى إلى فلان إذا انتسب إليه.

وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «انبغى» مطاوع: بغى إذا طلب، أي: ما يتأتّى له اتّخاذ الولد، و ما ينطلب له لو طلب مثلا، لأنّه محال غير داخل تحت الإمكان.

أمّا الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. و أمّا التبنّي فلا يكون إلّا فيما هو من جنس المتبنّي، و ليس للقديم سبحانه جنس، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

و لعلّ ترتيب الحكم بصفة الرحمانيّة للإشعار بأنّ كلّ ما عداه نعمة و منعم عليه، فلا يجانس من هو مبدأ

النعم كلّها و مولي أصولها و فروعها، فكيف يمكن أن يتّخذه ولدا؟! ثمّ صرّح به في قوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: ما منهم إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً إلّا و هو مملوك له يأوي إليه بالعبوديّة و الانقياد، فكيف يكون له ولد؟! لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم و أحاط بهم بعلمه، بحيث لا يخرجون عن حوزة علمه و قبضة قدرته وَ عَدَّهُمْ عَدًّا عدّ أشخاصهم و أنفاسهم و أفعالهم، فإنّ كلّ شي ء عنده بمقدار.

قال في الكشّاف: «الّذين اعتقدوا في الملائكة و عيسى و عزير عليهم السّلام، أنّهم أولاد اللّه، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأنّ الرحمن يصحّ أن يكون والدا. و الثاني: إشراك الّذين زعموهم للّه أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم. فهدم اللّه الكفر الأوّل فيما تقدّم من الآيات، ثمّ عقّبه بهدم الكفر الآخر.

و المعنى: ما من معبود لهم في السماوات و الأرض- من الملائكة و من الناس- إلّا

ص: 214

و هو يأتي الرحمن، أي: يأوي إليه و يلتجئ إلى ربوبيّته، عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد، و كما يجب عليهم، لا يدّعي لنفسه ما يدّعيه له هؤلاء الضلّال. و نحوه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ (1) و كلّهم متقلّبون في ملكوته، مقهورون بقهره، و هو مهيمن عليهم، محيط بهم، و بجمل أمورهم و تفاصيلها و كيفيّتهم و كمّيّتهم، لا يفوته شي ء من أحوالهم» (2).

وَ كُلُّهُمْ و كلّ واحد منهم آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً منفردا عن الأتباع و الأنصار، فلا يجانسه شي ء من ذلك ليتّخذه ولدا، و لا يناسبه ليشرك به.

[سورة مريم [19]: الآيات 96 الى 98]

إِنَّ

الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [96] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [97] وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [98]

ثمّ ذكر سبحانه أحوال المؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا سيحدث لهم في القلوب مودّة، من غير تعرّض منهم لأسبابها، من صداقة أو قرابة أو اصطناع بمبرّة، أو غير ذلك، و إنّما هو اختراع منه ابتداء، كرامة لأوليائه، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب و الهيبة، إعظاما لهم و إجلالا لمكانهم.

و ذكر سين التسويف، لأنّ السورة مكّيّة، و كان المؤمنون ممقوتين حينئذ بين

ص: 215


1- الإسراء: 57.
2- الكشّاف 3: 46- 47.

الكفرة، فوعدهم ذلك إذا دجا (1) الإسلام. أو لأنّ الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد، فينزع ما في صدورهم من الغلّ.

و يؤيّد الأوّل ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا أحبّ اللّه عبدا يقول لجبرائيل: أحببت فلانا فأحبّه، فيحبّه. ثمّ ينادي في أهل السماء: ألا إنّ اللّه قد أحبّ فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء. ثمّ يضع له المحبّة في الأرض».

و عن قتادة: ما أقبل العبد إلى اللّه عزّ و جلّ، إلّا أقبل اللّه بقلوب العباد إليه.

و في تفسير أبي حمزة الثمالي: «حدّثني أبو جعفر عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ قل اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا.

فقال ذلك عليّ عليه السّلام، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية». ثمّ قال: «ما من مؤمن إلّا و في قلبه محبّة لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام».

و هذه الرواية مرويّة أيضا عن جابر بن عبد اللّه. و يؤيّده ما صحّ

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، و لو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، و ذلك أنّه قضي فانقضى على لسان النبيّ الأمّيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لا يبغضك مؤمن، و لا يحبّك منافق».

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ متعلّق بمحذوف تقديره: بلّغ هذا المنزل، أو بشّر به و أنذر، فإنّما يسّرناه بلسانك، بأن أنزلناه بلغتك. و الباء بمعنى «على». أو على أصله، لتضمّن «يسّرناه» معنى: أنزلناه بلغتك، و هو اللسان العربيّ المبين، و سهّلناه و فصّلناه لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الصائرين إلى التقوى وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا أشدّاء في الخصومة بالباطل، آخذين في كلّ لديد، أي: في كلّ شقّ من المراء و الجدال، لفرط لجاجهم. و هو جمع الألدّ، بمعنى: شديد الخصومة. يريد أهل مكّة.

ص: 216


1- في هامش النسخة الخطّية: «دجا الإسلام، أي: قوي و وفر و كثر و ألبس كلّ شي ء. منه».

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ تخويف للكفرة، و تجسير للرسول على إنذارهم هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ هل تشعر بأحد منهم و تراه؟ من: أحسّه إذا شعر به. و منه:

الحاسّة. أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً صوتا خفيّا. و أصله: الخفاء. و منه: ركز الرمح إذا غيّب طرفه في الأرض. و الركاز: المال المدفون.

و المعنى: أنّهم ذهبوا فلا يرى لهم عين و لا أثر، و لا يسمع لهم صوت، و كانوا أكثر أموالا، و أعظم أجساما، و أشدّ خصاما من هؤلاء، فحكم هؤلاء حكم أولئك بالأولى.

ص: 217

ص: 218

[20] سورة طه

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و خمس و ثلاثون آية.

في خبر أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين و الأنصار».

و روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى قرأ طه و يس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة نزل هذا عليها، و طوبى لأجواف تحمل هذا، و طوبى لألسن تتكلّم بهذا».

و عن الحسن قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلّا طه و يس».

و روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تدعوا قراءة طه، فإنّ اللّه تعالى يحبّها، و يحبّ من قرأها، و إن من قرأها أعطاه يوم القيامة كتابة بيمينه، و لم يحاسبه بما عمل في الإسلام، و أعطي من الأجر حتّى يرضى».

[سورة طه [20]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه [1] ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [2] إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى [3] تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى [4]

و لمّا ختم اللّه سورة مريم بذكر إنزال القرآن، و أنّه بشارة للمتّقين، و إنذار

ص: 219

للكافرين، افتتح هذه السورة بالقرآن، و أنّه أنزله لسعادته لا لشقاوته، فقال جلّ اسمه:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه فخّمها ابن كثير و ابن عامر و حفص عن عاصم و قالون عن نافع و يعقوب على الأصل. و فخّم الطاء وحده أبو عمرو، لاستعلائه. و كذا ورش عن نافع. و أمالهما الباقون. و هما من أسماء الحروف.

و ما قيل: إنّ طاها في لغة عكّ بن عدنان- أخي معدّ، أبي قبيلة من

اليمن- بمعنى:

يا رجل، فإن صحّ فلعلّ أصله: يا هذا، فتصرّف عكّ فيه بأن قلبوا الياء طاء، فقالوا: في «يا» «طا» و اختصروا «هذا» على: ها.

و استشهد بقوله:

إنّ السفاهة طاها في خلائقكم لا قدّس اللّه أخلاق الملاعين

و ضعّف بجواز أن يكون قسما، كقوله: حم لا ينصرون.

و يحتمل أن يكون أصل «طه»: طأها، أمر بالوطي، و الألف مبدلة من الهمزة، و الهاء كناية عن الأرض، لما

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقوم في تهجّده على إحدى رجليه حتّى تورّمت، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا».

لكن يردّ ذلك كتابتهما على صورة الحرف. و كذا التفسير ب: «يا رجل. و يجوز أنّه اكتفي بشطري الكلمتين، و عبّر عنهما باسمهما. و اللّه أعلم بصحّة هذين القولين. و الأقوال الّتي قدّمتها في أوّل سورة البقرة هي التي يعوّل عليها الألبّاء المتقنون.

ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خبر «طه» إن جعلته مبتدأ، على أنّه مأوّل بالسورة أو القرآن، و القرآن فيه واقع موقع العائد. و جواب إن جعلته مقسما به. و منادى له إن جعلته نداء. و استئناف إن كانت جملة فعليّة أو اسميّة بتقدير مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكيّة.

و المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسّفك على كفر قريش، إذ ما عليك إلّا أن تبلّغ و تذكّر، و لم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرّط في أداء الرسالة

ص: 220

و الموعظة الحسنة. أو بكثرة الرياضة، و كثرة التهجّد، و القيام على ساق.

قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي الليل كلّه، و يعلّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النوم، فأمره اللّه أن

يخفّف على نفسه، و قال: ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة، و تذيقها المشقّة الفادحة، و ما بعثت إلّا بالحنيفيّة السهلة السمحة.

و الشقاء شائع بمعنى التعب، و منه المثل:

أشقى من رائض (1) المهر، و سيّد القوم أشقاهم.

و قيل: ردّ و تكذيب للكفرة، فإنّهم لمّا رأوا كثرة عبادته قالوا: إنّك لتشقى بترك ديننا، و إنّ القرآن أنزل عليك لتشقى به.

إِلَّا تَذْكِرَةً أي: لكن تذكيرا. و انتصابها على الاستثناء المنقطع. و لا يجوز أن يكون بدلا من محلّ «لتشقى» لاختلاف الجنسين، و لا مفعولا له ل «أنزلنا» لأنّ الفعل الواحد لا يتعدّى إلى علّتين.

و يحتمل أن يكون المعنى: إنّا أنزلنا إليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ، و مقاولة العتاة من أعداء الإسلام و مقاتلتهم، و غير ذلك من أنواع المشاقّ و تكاليف النبوّة، و ما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاقّ إلّا ليكون تذكرة. و على هذا الوجه يجوز أن يكون «تذكرة» حالا و مفعولا له، أي: إلّا تذكّرا أو للتذكير.

لِمَنْ يَخْشى لمن في قلبه خشية و رقّة تتأثّر بالإنذار. أو لمن علم اللّه منه أنّه يخشى بالتخويف منه، فإنّه المنتفع به.

تَنْزِيلًا نصب بإضمار فعله، أي: نزّل تنزيلا. أو ب «يخشى» أي: لمن يخشى تنزيل اللّه. أو على المدح، أو البدل من «تذكرة» إن جعل حالا. و إن جعل مفعولا له فلا، لأنّ الشي ء لا يعلّل بنفسه و لا بنوعه. و قيل: قوله: «أنزلنا ... إلخ» حكاية لكلام جبرئيل و الملائكة النازلين معه.

مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى متعلّقه إمّا «تنزيلا» نفسه، فيقع صلة له.

ص: 221


1- راض المهر: ذلّله و طوّعه و علّمه السير، فهو رائض. و المهر: ولد الفرس.

و إمّا محذوف، فيقع صفة له، أي: تنزيلا

حاصلا ممّن. و وجه الالتفات من المتكلّم إلى الغائب، إمّا عادة الافتنان في الكلام، و ما يعطيه من الحسن و الروعة. و إمّا أنّ هذه الصفات إنّما تسرّدت في القرآن مع لفظ الغيبة. و إمّا أنّه قال أوّلا: أنزلنا، ففخّم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثمّ ثنّى بالنسبة إلى المختصّ بصفات العظمة و التمجيد، فضوعفت الفخامة من طريقين.

و هذه الصفات العظام و النعوت الفخام إلى قوله: «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تفخيم لشأن المنزل، لنسبته إلى من هذه أفعاله و صفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل. فبدأ بخلق الأرض و السماوات الّتي هي أصول العالم، و قدّم الأرض لأنّها أقرب إلى الحسّ، و أظهر عند العقل من السماوات العلى. و فيه تنبيه على أنّ القرآن واجب الإيمان به و الانقياد له، من حيث إنّه كلام من هذا شأنه.

و العلى جمع العليا، تأنيث الأعلى. وصفها بهذه الصفة للدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوّها و بعد مرتقاها، بحيث لا يصل رمي الفكر إلى هدفها.

[سورة طه [20]: الآيات 5 الى 7]

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [5] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى [6] وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى [7]

ثمّ أشار إلى وجه إحداث الكائنات و تدبير أمرها، بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام و التقادير، و أنزل منه الأسباب على ترتيب و مقادير، حسبما اقتضته حكمته، و تعلّقت به مشيئته، فقال: الرَّحْمنُ رفعه إمّا على المدح، تقديره: هو الرحمن. و إمّا أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. و قوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى خبر آخر للمبتدأ، أو خبره الأوّل. و لمّا كان الاستواء على العرش- و هو

سرير الملك- ممّا يردف

ص: 222

الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون: أنّه ملك و إن لم يقعد على السرير أصلا. و معنى الاستواء عليه و تحقيقه قد مرّ (1) غير مرّة.

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى ما تحت سبع الأرضين، فإنّ الثرى آخر الطبقات الترابيّة من الأرض. و عن السدّي: هو الصخرة الّتي تحت الأرض السابعة. و هذا أيضا يدلّ على كمال قدرته و إرادته.

و لمّا كانت القدرة تابعة للإرادة، و لا تنفكّ عن العلم، عقّب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليّات الأمور و خفيّاتها، فقال: وَ إِنْ تَجْهَرْ برفع صوتك بِالْقَوْلِ بذكر اللّه و دعائه فاعلم أنّه غنيّ عن ذلك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ و هو ما أسررته إلى غيرك، أو ما أسررته في نفسك. و قيل: هذا نهي عن الجهر، كقوله: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً (2). و المعنى: فلا تجهد نفسك برفع الصوت، فإنّك و إن لم تجهر علم اللّه السرّ.

وَ أَخْفى من ذلك، و هو ما أخطرته ببالك، أو ما ستسرّه فيها.

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «إنّ السرّ ما أخفيته في نفسك، و «أخفى»: ما خطر ببالك ثمّ أنسيته».

و فيه تنبيه على أنّ شرع الذكر و الدعاء و الجهر فيهما ليس لإعلام اللّه، بل لتصوير النفس بالذكر و رسوخه فيها، و منعها عن الاشتغال بغيره، و هضمها بالتضرّع و الجوار (3).

[سورة طه [20]: آية 8]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [8]

ثمّ إنّه لمّا ظهر بذلك أنّه المستجمع لصفات الألوهيّة، بيّن أنّه المتفرّد بها و المتوحّد بمقتضاها، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ

الْأَسْماءُ الْحُسْنى هو تأنيث الأحسن. و فضّل أسماء اللّه تعالى على سائر الأسماء في الحسن، لدلالتها على معان هي أشرف المعاني

ص: 223


1- راجع ج 2 ص 531.
2- الأعراف: 205.
3- جأر يجأر جؤارا إلى اللّه: رفع صوته بالدعاء و تضرّع إليه.

و أفضلها، لأنّها دالّة على التقديس و التمجيد و التعظيم و الربوبيّة، و الأفعال الّتي هي النهاية في الحسن.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ للّه سبحانه تسعة و تسعين اسما، من أحصاها دخل الجنّة».

قال الزّجاج: «تأويله: من وحّد اللّه، و ذكر هذه الأسماء الحسنى، يريد بها توحيد اللّه و إعظامه، دخل الجنّة». و قد جاء في الحديث: «من قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنّة».

فهذا لمن ذكر اللّه موحّدا له به، فكيف بمن ذكر أسماءه كلّها، يريد بها توحيده و الثناء عليه؟! و إنّما قال: «الحسنى» بلفظ التوحيد، و لم يقل: الأحاسن، لأنّ الأسماء مؤنّثة تقع عليها هذه كما تقع على الجماعة هذه، فيقال: الجماعة الحسنى، كأنّه اسم واحد للجمع. و مثل ذلك: حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ (1) و مَآرِبُ أُخْرى (2).

[سورة طه [20]: الآيات 9 الى 16]

وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [9] إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً [10] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى [11] إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [12] وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [13]

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [14] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [15] فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [16]

ص: 224


1- النمل: 60.
2- طه: 18.

ثمّ قصّ سبحانه على نبيّه قصّة موسى، ليأتمّ به في تحمّل أعباء النبوّة و تبليغ الرسالة، و الصبر على مقاساة الشدائد، و يكون تسلية له ممّا ناله من أذى قومه، و تثبيتا له بالصبر على أمر ربّه في تأدية أحكامه، فإنّ هذه السورة من أوائل ما نزل، كما صبر موسى عليه السّلام في أذيّة بني إسرائيل بسبب تبليغه أحكام اللّه تعالى، فقال:

وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى هذا ابتداء إخبار من اللّه تعالى على وجه التحقيق، إذ لم يبلغه حديث موسى، فهو كما يخبر الإنسان غيره بخبر على وجه التحقيق، فيقول:

هل سمعت بخبر فلان؟ و قيل: إنّه استفهام تقرير بمعنى الخبر، أي: و قد أتاك حديث موسى.

إِذْ رَأى ناراً ظرف للحديث، لأنّه حدث. أو لمضمر: أي: حين رأى نارا كان كيت و كيت. أو مفعول ل: اذكر.

عن ابن عبّاس: لمّا قضى موسى الأجل، و استأذن شعيبا عليه السّلام في الخروج إلى أمّه، و أخرج أهله، و فارق مدين و معه غنم له. و كان أهله على أتان، و على ظهرها جوالق فيها أثاث البيت، و كان رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلّا ترى امرأته. فأضلّ الطريق في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، و كانت ليلة الجمعة، و تفرّقت ماشيته، و لم ينقدح زنده (1)، و امرأته في الطلق، فولد له منها ابن في الظلمة. فرأى نارا من بعيد كانت عند اللّه نورا، و عند موسى نارا فَقالَ عند ذلك لِأَهْلِهِ لزوجته، و هي بنت شعيب كان تزوّجها بمدين و خدمه امْكُثُوا الزموا مكانكم. و الفرق بين المكث و الإقامة: أنّ الإقامة تدوم، و المكث لا يدوم.

و قرأ حمزة: لأهله امكثوا، هنا

و في القصص (2)، بضمّ الهاء في الوصل. و الباقون بكسرها فيه.

ص: 225


1- الزند: العود الذي يقتدح به النار. يقال: زند النار، أي: قدحها و أخرجها من الزند.
2- القصص: 29.

إِنِّي آنَسْتُ ناراً أبصرتها إبصارا بيّنا لا شبهة فيه. و منه إنسان العين، لأنّه يتبيّن به الشي ء. و الإنس، لظهورهم، كما قيل: الجنّ، لاستتار هم. و قيل: هو إبصار ما يؤنس به لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ بنار مقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً مصدر بمعنى الفاعل، أي: هاديا يدلّني على الطريق، أو ذوي هدى بحذف المضاف.

و عن مجاهد: هاديا يهديني أبواب الدين، فإنّ أفكار الأنبياء مغمورة بالهمّة الدينيّة في جميع أحوالهم، لا يشغلهم عنها شاغل.

و لمّا كان الإتيان بالقبس و وجود الهدى مترقّبين متوقّعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء و الطمع، و قال: لعليّ، و لم يقطع فيقول: إنّي آتيكم، لئلّا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به، بخلاف الإيناس، فإنّه كان محقّقا، و لذلك حقّقه لهم ب «إنّ» ليوطّن أنفسهم عليه.

و معنى الاستعلاء في «على النار»: أنّ أهلها مشرفون عليها، فإنّ المصطلين بها و المستمتعين بها إذا اكتنفوها قياما و قعودا كانوا مشرفين عليها. أو مستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد: إنّه لصوق بمكان يقرب منه.

فَلَمَّا أَتاها أتى النار وجد نارا بيضاء تتّقد في شجرة خضراء نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فتحه ابن كثير و أبو عمرو، أي: بأنّي. و كسره الباقون بإضمار القول، أو إجراء النداء مجراه. و تكرير الضمير لتوكيد الدلالة، و تحقيق المعرفة، و إماطة الشبهة.

روي: أنّه لمّا نودي: يا موسى، قال: من المتكلّم؟ قال: إنّي أنا اللّه.

فوسوس إليه إبليس: لعلّك تسمع كلام شيطان. فقال موسى: أنا عرفت أنّه كلام اللّه، بأنّي أسمعه من جميع الجهات و بجميع أعضائي.

و هو إشارة إلى أنّه تلقّى من ربّه كلامه تلقّيا روحانيّا، ثمّ تمثّل ذلك الكلام لبدنه، و انتقل إلى الحسّ المشترك، فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة.

و روي: أنّه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها، كأنّها نار بيضاء

ص: 226

تتّقد، و سمع تسبيح الملائكة، و رأى نورا عظيما، لم تكن الخضرة تطفئ النار، و لا النار تحرق الخضرة، فعلم أنّه لأمر عظيم، فخاف و بهت، فألقيت عليه السكينة، ثمّ نودي.

و كانت الشجرة عوسجة.

و روي: كلّما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت.

و عن ابن إسحاق: لمّا دنا استأخرت عنه، فلمّا رأى ذلك رجع و أوجس في نفسه خيفة، فلمّا أراد الرجعة دنت منه.

قال وهب: نودي من الشجرة فقيل: يا موسى. فقال: إنّي أسمع صوتك، و لا ارى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك و معك، و أمامك و خلفك، و أقرب إليك من نفسك.

فعلم أنّ ذلك لا ينبغي إلّا لربّه عزّ و جلّ، و أيقن به.

و قال ابن عبّاس: لمّا توجّه نحو النار فإذا النار في شجرة عنّاب، فوقف متعجّبا من حسن ضوء تلك النار، و شدّة خضرة تلك الشجرة، فسمع النداء: يا موسى أنا ربّك.

فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمره بذلك لأنّ الحفوة تواضع و أدب، و لذلك طاف السلف بالكعبة حافين. و عن السدّي: أمر بخلع النعلين لأنّهما كانتا من جلد حمار ميّت غير مدبوغ. و قيل: كانت من جلد بقرة ذكيّة، و لكنّه أمر بخلعهما ليباشر الوادي بقدميه متبرّكا به. و منهم من استعظم دخول

الكعبة بنعليه، و كان إذا ندر منه الدخول متنعّلا تصدّق.

و القرآن يدلّ على أنّ ذلك احترام للبقعة، و تعظيم لها، و تشريف لقدسها، فإنّه قال مستأنفا: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ تعليلا للأمر باحترام البقعة. و روي أنّه خلع نعليه و ألقاهما من وراء الوادي.

و قيل: معناه: فرّغ قلبك من الأهل و المال، و من جميع ما سوى اللّه، لأنّك جئت بالبقعة المقدّسة المباركة.

طُوىً عطف بيان للوادي. و نوّنه ابن عامر و الكوفيّون بتأويل المكان. و قيل:

هو كثنى (1)، من الطيّ، مصدر ل «نودي» أي: نودي نداءين. يقال: ناديته طوى، أي:

ص: 227


1- الثنى: الأمر يعاد مرّتين.

مرّتين. أو ل «المقدّس» أي: قدّس الوادي بالبركة كرّة بعد كرّة.

وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوّة. و قرأ حمزة: و إنّا اخترناك، بالجمع.

فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى للّذي يوحى إليك، أو للوحي. و اللام تحتمل أن تتعلّق بكلّ من الفعلين.

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي بدل ممّا يوحى، دالّ على أنّه مقصور على تقرير التوحيد الّذي هو منتهى العلم، و الأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل.

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خصّها بالذكر و أفردها بالأمر للعلّة الّتي أناط بها إقامتها، و هو تذكّر المعبود، و شغل القلب و اللسان بذكره.

و قيل: معنى «لذكري»: لتذكرني، فإنّ ذكري أن اعبد و يصلّى لي. أو لتذكرني فيها، لاشتمال الصلاة على الأذكار. أو لأنّي ذكرتها في الكتب، و أمرت بها. أو لأن أذكرك بالثناء و المدح. أو لذكري خاصّة، لا ترائي بها، و لا تشوبها بذكر غيري، و لا تقصد بها غرضا آخر.

و قيل: لأوقات ذكري، و هي مواقيت الصلاة، كقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (1). فاللام فيه كما في قولك: جئتك

لكذا، أي: لوقت كذا. و كذا:

لستّ مضين. و مثله قوله: قَدَّمْتُ لِحَياتِي (2).

أو لذكر صلاتي بعد نسيانها، على حذف المضاف، أي: أقمها متى ذكرت، كنت في وقتها أو لم تكن. و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام. و يعضده ما

رواه أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها».

و روي أيضا عنه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها، إنّ اللّه تعالى يقول: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة أَكادُ أُخْفِيها أريد أن أخفيها- أي: إخفاء وقتها- عن عبادي لئلّا تأتيهم إلّا بغتة. قال تغلب: هذا أجود الأقوال، و هو قول الأخفش

ص: 228


1- النساء: 103.
2- الفجر: 24.

و فائدة الإخفاء التهويل و التخويف، فإنّ الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة، كانوا على حذر منها كلّ وقت.

و قيل: معناه: أقرب أن أسترها، فلا أقول إنّها آتية، لفرط إرادتي إخفاءها، و لو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف و قطع الأعذار لما أخبرت به.

قال أبو عبيدة: معناه: أكاد أظهرها، من: أخفاه إذا سلب خفاءه (1).

و قال في المجمع: «يقال: أخفيت الشي ء كتمته و أظهرته جميعا، و خفيته بلا ألف أظهرته لا غير» (2).

و يؤيّد المعنى الأخير قراءة سعيد بن جبير: أخفيها، بفتح الهمزة، من: خفاه إذا أظهره، أي: قرب إظهارها، كقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ (3).

لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى بما تعمل من خير و شرّ. متعلّق ب «آتية»، أو ب «أخفيها» على المعنى الأخير.

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها فلا يصرفنّك عن تصديق الساعة، أو لا يمنعك عن الصلاة مَنْ

لا يُؤْمِنُ بِها نهى اللّه الكافر أن يصدّ موسى عنها. و المراد نهيه أن يصدّ عنها.

و تحقيق ذلك: أنّ صدّ الكافر مسبّب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبّب ليدلّ على السبب، كقولهم: لا أرينّك هاهنا، فإنّ المراد نهيه عن مشاهدته و الكون بحضرته، و ذلك سبب رؤيته إيّاه، فكان ذكر المسبّب دليلا على السبب، كأنّه قيل: فكن شديد الشكيمة، صليب النفس، راسخا في الدين، حتّى لا يطمع في صدّك عمّا أنت عليه من كفر بالبعث.

وَ اتَّبَعَ هَواهُ ميل نفسه إلى اللذّات المحسوسة المخدجة (4)، فقصر نظره عن

ص: 229


1- الخفاء: الغطاء. و جمعه: أخفية.
2- مجمع البيان 7: 4.
3- القمر: 1.
4- أي: الناقصة، من: خدج الشي ء: نقص.

غيرها، و لم يتّبع البرهان و التدبّر في الحقّ فَتَرْدى فتهلك بالانصداد بصدّه.

و في هذا حثّ عظيم على العمل بالدليل، و زجر بليغ عن التقليد، و إنذار بأنّ الهلاك و الردى مع التقليد و أهله.

[سورة طه [20]: الآيات 17 الى 35]

وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [17] قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [18] قالَ أَلْقِها يا مُوسى [19] فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [20] قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى [21]

وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى [22] لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [23] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [24] قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [25] وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي [26]

وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي [27] يَفْقَهُوا قَوْلِي [28] وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [29] هارُونَ أَخِي [30] اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [31] وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [32] كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً [33] وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً [34] إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً [35]

ثمّ بيّن سبحانه ما أعطى موسى من المعجزات، فقال: وَ ما تِلْكَ استفهام

ص: 230

يتضمّن استيقاظا لما يريه في عصاه من العجائب بِيَمِينِكَ حال من معنى الإشارة، كقوله: وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً (1). و يجوز أن تكون «تلك» اسما موصولا، و «بيمينك» صلته، أي: ما الّتي بيمينك يا مُوسى تكريره لزيادة الاستئناس و التنبيه.

قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا أعتمد عَلَيْها إذا عييت، أو وقفت على رأس القطيع، و عند الطفرة وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي و أخبط (2) الورق بها على رؤوس غنمي تأكله، من: هشّ الخبز يهشّ إذا انكسر لهشاشته (3).

وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى حاجات أخر، مثل إن كان إذا سار ألقاها على عاتقة، فعلّق بها أدواته، من القوس و الكنانة (4) و الحلاب (5) و غيرها، و عرض الزندين (6) على شعبتيها، و ألقى عليها الكساء و استظلّ به، و إذا قصر الرشاء و صله بها، و إذا تعرّضت السباع لغنمه قاتل بها.

و كأنّه عليه السّلام فهم أنّ المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها، و ما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة، و وجد منها خصائص اخرى خارقة للعادة، مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، و تصير دلوا عند الاستقاء، و تطول بطول البئر، و إذا ظهر عدوّ حاربت عنه، و ينبع الماء بركزها، و ينضب (7) بنزعها، و تورق و تثمر

ص: 231


1- هود: 72.
2- أي: أضرب، من: خبط الشي ء: ضربه ضربا شديدا. و هشّ ورق الشجر: خبطه بعصا ليتحاتّ و يسقط.
3- أي: لرخاوته و لينه.
4- جعبة من جلد أو خشب تجعل فيها السهام.
5- الحلاب: الإناء يحلب فيه.
6- في هامش النسخة الخطّية: «الزند: العود الذي يقدح به النار، و هو الأعلى، و الزندة السفلى فيها ثقب، و هي للأنثى، فإذا اجتمعا قيل: زندان، و لم يقل: زندتان. منه»
7- أي: يذهب ماؤه و يغور في الأرض.

إذا اشتهى ثمرة فركزها، و كانت تقيه الهوامّ، و تحدّثه و تؤنسه، علم أنّ ذلك آيات باهرة و معجزات قاهرة، أحدثها اللّه تعالى فيها لأجله، و ليست من خواصّها. فذكر قبل ظهور هذه الأمور العجيبة منها حقيقتها و منافعها مفصّلا و مجملا، على معنى أنّها من جنس العصا، تنفع منافع أمثالها، ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه من كلام ربّه.

و في الكشّاف: «يجوز أن يريد عزّ و جلّ أن يعدّد المرافق الكثيرة الّتي علّقها بالعصا، و يستكثرها و يستعظمها، ثمّ يريه على عقب ذلك الآية العظيمة. كأنّه يقول له: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى و المأربة الكبرى، المنسيّة عندها كلّ منفعة و مأربة كنت تعتدّ بها و تحتفل بشأنها؟ و نظير ذلك أن يريك الزرّاد (1) زبرة من حديد و يقول لك: ما هي؟

فتقول: زبرة حديد. ثمّ يريك بعد أيّام لبوسا مسردا فيقول لك: هي تلك الزبرة صيّرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة و أنيق السرد» (2).

و قيل: إنّما سأله ليبسط منه و يقلّل هيبته.

و قيل: إنّما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه.

و قيل: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل.

قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى تمشي بسرعة و خفّة حركة.

روي أنّه لمّا ألقاها انقلبت حيّة صفراء بغلظ العصا، ثمّ تورّمت و عظمت. فلذلك سمّاه جانّا تارة نظرا إلى المبدأ، و ثعبانا مرّة باعتبار المنتهى، و حيّة اخرى باعتبار الاسم الّذي يعمّ الحالين.

و قيل: كانت في ضخامة الثعبان و جلادة الجانّ، و لذلك قال: كأنّها جانّ.

قيل: كان لها عرف كعرف الفرس. و كان بين لحييها أربعون ذراعا.

و عن ابن عبّاس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر و الشجر، فلمّا رآها حيّة تسرع

ص: 232


1- الزرّاد: صانع الزرد، و هو الدرع. و السرد: الدرع.
2- الكشّاف 3: 57.

و تبتلع الحجر و الشجر خاف و هرب منها.

قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى هيأتها و حالتها المتقدّمة. و هي فعلة من السير. يقال: سار فلان سيرة حسنة. ثمّ اتّسع فيها، فنقلت إلى الطريقة و الهيئة.

و انتصابها على نزع الخافض، أي: سنعيدها في طريقتها الأولى، أي: في حال ما كانت عصا. أو على أن «أعاد» منقول من «عاده» بمعنى: عاد إليه. أو على تقدير فعلها، أي:

سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى، فتنتفع بها ما كنت تنتفعه كما أنشأناها أوّلا.

قيل: لمّا قال له ربّه ذلك اطمأنّت نفسه، حتّى أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها.

وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ إلى جنبك تحت العضد. يقال لكلّ ناحيتين:

جناحان، كجناحي العسكر. استعارة من جناحي الطائر. سمّيا جناحين، لأنّه يجنحهما- أي: يميلهما- عند الطيران.

تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها نور ساطع يضي ء بالليل و النهار، كضوء القمر و الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ صلة بيضاء، أي: ابيضّت من غير سوء، أي: من غير عاهة و قبح. كنّي به عن البرص، كما كنّي بالسوءة عن العورة. و البرص أبغض شي ء إلى طباع العرب، و لهم عنه نفرة عظيمة، و أسماعهم لاسمه مجّاجة (1)، فكان جديرا بأن يكنّى عنه.

و روي: أنّه عليه السّلام كان آدم اللون، فأخرج يده من مدرعته (2) بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر.

آيَةً أُخْرى معجزة ثانية. و هي حال من ضمير «تخرج» ك «بيضاء». أو من ضميرها. أو مفعول بإضمار: خذ أو دونك، حذف لدلالة الكلام عليه.

لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى بعض آياتنا. و هذا متعلّق بالمضمر، أو بما دلّ عليه «آية» أي: دلّلنا بها، أو فعلنا ذلك لنريك. و «الكبرى» صفة ل «آياتنا». أو مفعول «نريك»

ص: 233


1- أي: كارهة. يقال: هذا كلام تمجّه الأسماع، أي: تقذفه و تستكرهه.
2- المدرعة: ثوب من كتّان كان يلبسه عظيم أحبار اليهود. أو جبّة مشقوقة المقدّم.

و «من آياتنا» حال منها.

اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بهاتين الآيتين و ادعه إلى عبادتي إِنَّهُ طَغى عصى و تكبّر في كفره.

و لمّا أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي، عرف أنّه كلّف أمرا عظيما و خطبا جسيما، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلّا ذو قلب قويّ و صدر فسيح، فسأل ربّه أن يشرح صدره حتّى لا يضجر و لا يغتمّ، و يستقبل الشدائد بجميل الصبر، و أن يسهّل عليه أمره الّذي هو خلافة اللّه في أرضه، و ما يصحبها من مقاساة الخطوب الجليلة. قالَ رَبِّ اشْرَحْ أي: وسّع لِي صَدْرِي حتّى لا أضجر، و لا أخاف، و لا أغتمّ.

وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي و سهّل عليّ أداء ما كلّفتني من الرسالة، و الدخول على الطاغي، و دعائه إلى الحقّ. و فائدة «لي» إبهام المشروح و الميسّر أوّلا، ثمّ رفعه بذكر الصدر و الأمر تأكيدا و مبالغة، لأنّه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال و التفصيل.

وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي فإنّما يحسن التبليغ من البليغ. و كان في لسانه رتّة (1) من جمرة أدخلها فاه. و ذلك إنّ فرعون حمله يوما فأخذ بلحيته و نتفها، فغضب

و أمر بقتله. فقالت آسية: إنّه صبيّ لا يفرّق بين الجمرة و الدرّة. فأمر فرعون حتّى أحضرهما بين يديه. فأراد موسى أن يأخذ الدرّة، فصرف جبرئيل يده إلى الجمرة، فأخذها و وضعها في فيه فاحترق لسانه.

و قيل: احترقت يده، و اجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ. ثمّ لمّا دعاه قال: إلى أيّ ربّ تدعوني؟ قال: إلى الّذي أبرأ يدي و قد عجزت عنه.

و اختلف في زوال العقدة بكمالها. فمن قال به تمسّك بقوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (2). و من لم يقل احتجّ بقوله: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً (3) و قوله: وَ لا يَكادُ

ص: 234


1- الرتة: العجمة و الحكلة في اللسان. يقال: تكلم كلام الحكل، أي: كلاما لا يفهم.
2- طه: 36.
3- القصص: 34.

يُبِينُ (1). و أجاب عن الأوّل بأنّه لم يسأل حلّ عقدة لسانه مطلقا، بل عقدة تمنع الإفهام، و لذلك نكّرها، و جعل «يفقهوا» جواب الأمر. و «من لساني» يحتمل أن يكون صفة «عقدة». و أن يكون صلة «احلل».

وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي لأبي و أمّي، يعينني على ما كلّفتني به. و اشتقاق الوزير إمّا من الوزر، لأنّه يحمل عن أميره أوزاره و مؤنة. أو من الوزر، و هو الملجأ، لأنّ الأمير يعتصم برأيه و يلتجئ إليه في أموره. و منه: الموازرة، بمعنى المعاونة. و عن الأصمعي: أصله أزير، من الأزر بمعنى القوّة، فقلبت الهمزة إلى الواو.

و وجهه: أنّ فعيلا جاء بمعنى مفاعل، كقولهم: عشير و جليس و قعيد و خليل و صديق و نديم، فلمّا قلبت في موازر قلبت فيه. و حمل الشي ء على نظيره ليس بعزيز.

و مفعولا «اجعل»: وزيرا و هارون. قدّم ثانيهما عناية بأمر

الوزارة. و «لي» صلة، أو حال. أو مفعولاه «لي وزيرا»، و «هارون» عطف بيان للوزير. أو «وَزِيراً مِنْ أَهْلِي» و «لي» تبيين، كقوله: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». و «أخي» على الوجوه بدل من «هارون».

أو مبتدأ خبره اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي على لفظ الأمر. و الأزر: القوّة. يقال:

أزّره، أي: قوّاه. و المراد بالأمر الرسالة، أي: اجعله شريكي في الرسالة. و قرأهما ابن عامر بلفظ الخبر، على أنّهما جواب الأمر.

كَيْ نُسَبِّحَكَ ننزّهك عمّا لا يليق بك كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ و نحمدك و نثني عليك بما أوليت من نعمك كَثِيراً أي: لنتعاون على عبادتك و ذكرك، فإنّ التعاون يهيّج الرغبات، و يؤدّي إلى تكاثر الخيرات و تزايد المبرّات.

إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا، و بأنّ التعاون و التعاضد ممّا يصلحنا، و أنّ هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به، فإنّه أكبر منّي سنّا، و أفصح لسانا، و أتمّ طولا، و أبيض جسما، و أكثر لحما.

ص: 235


1- الزخرف: 52.

[سورة طه [20]: الآيات 36 الى 44]

قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [36] وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى [37] إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى [38] أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [39] إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى [40]

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [41] اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي [42] اذْهَبا إِلى

فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [43] فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [44]

قالَ سبحانه إجابة له قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أعطيت سؤلك. فعل بمعنى مفعول، كالخبز و الأكل بمعنى المخبوز و المأكول.

قال الصادق عليه السّلام: «حدّثني أبي، عن جدّي، عن أمير المؤمنين، قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنّ موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا، فكلّمه اللّه عزّ و جلّ، فرجع نبيّا. و خرجت ملكة سبأ لأمر، فأسلمت مع سليمان. و خرج سحرة فرعون يطلبون العزّة بفرعون، فرجعوا مؤمنين».

ص: 236

و لمّا أخبر سبحانه موسى بأنّه آتاه طلبته و أعطاه سؤله، عدّد عقيبه ما تقدّم ذلك من نعمه عليه و مننه لديه، فقال: وَ لَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى في وقت آخر، إنعاما متواليا من صغرك إلى الوقت الّذي أعطينا سؤلك فيه.

ثمّ بيّن سبحانه تلك النعمة بقوله: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ بإلهام، كقوله: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ (1). أو في منام. أو على لسان نبيّ في وقتها، كقوله: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ (2) أو على لسان ملك لا على وجه النبوّة، كما أوحى إلى مريم ما يُوحى أمرا لا يعلم إلّا بالوحي، أو ممّا ينبغي أن يوحى، لعظم شأنه، و فرط الاهتمام به، لأنّه يتضمّن مصلحة دينيّة، فوجب أن يوحى و لا يخلّ به.

ثمّ فسّر ذلك الإيحاء بقوله: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فإنّ «أن» هي المفسّرة و المعنى: اقذفيه، لأنّ الوحي بمعنى القول. فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ و القذف مستعمل في معنى الإلقاء و الوضع، كقوله: وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ (3). و كذلك الرمي، كقوله:

غلام رماه اللّه بالحسن يافعا (4) ... أي: حصل فيه و

وضعه فيه حال كونه غير بالغ.

و لمّا كان إلقاء اليمّ إيّاه إلى الساحل أمرا واجب الحصول، لتعلّق الإرادة به، جعل البحر كأنّه ذو تمييز مطيع أمره بالإلقاء، و أخرج الجواب مخرج الأمر، فقال: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ الضمائر كلّها لموسى عليه السّلام، لأنّ رجوع بعضها إليه و بعضها إلى التابوت فيه هجنة، لما يؤدّي إليه من تنافر النظم القرآني، و إن كان المقذوف في البحر و الملقى إلى الساحل التابوت بالذات و موسى بالعرض. و القانون الّذي وقع عليه التحدّي و مراعاته

ص: 237


1- النحل: 68.
2- المائدة: 111.
3- الأحزاب: 26.
4- لأسيد بن عنقاء الفزاري. و تمام البيت: له سيمياء لا تشقّ على البصر

أهمّ ما يجب على المفسّر.

يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ جواب «فليلقه». و تكرير «عدوّ» للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع و الثاني باعتبار المتوقّع.

روي أنّها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه، و جصّصته و قيّرته، ثمّ ألقته في اليمّ. و كان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فدفعه الماء إليه، فأدّاه إلى بركة في البستان. و كان فرعون جالسا على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبيّ أصبح الناس وجها، فأحبّه حبّا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه، كما قال:

وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي: محبّة كائنة منّي قد ركزتها أنا في القلوب و زرعتها فيها، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك، فلذلك أحبّك فرعون.

و روي أنّه كانت على وجهه مسحة جمال، و في عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه.

و يجوز أن يتعلّق «منّي» ب «ألقيت» أي: أحببتك، و من أحبّه اللّه أحبّته القلوب.

و ظاهر اللفظ على أنّ البحر ألقاه بساحله-

و هو شاطئه، لأنّ الماء يسحل (1) موسى- و قذف به ثمّة، فالتقط من الساحل، إلّا أنّه قد ألقاه اليمّ بموضع من الساحل فيه فوهة (2) نهر فرعون، ثمّ أدّاه النهر إلى حيث البركة.

وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي و لتربّى بمرأى منّي، و يحسن إليك و أنا مراعيك و مراقبك، كما يراعي الرجل الشي ء بعينيه إذا اعتنى به، و تقول للصانع: اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلّا تخالف به مرادي و بغيتي. و العطف على علّة مضمرة، مثل: ليتعطّف عليك. أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلّل، مثل: و لتصنع فعلت ذلك.

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ظرف ل «ألقيت» أو «لتصنع». أو بدل من «إذ أوحينا» على أنّ

ص: 238


1- أي: يقشره.
2- الفوهة و الفوّهة من الوادي و الطريق: فمها.

المراد بها وقت متّسع، كما يصحّ- و إن اتّسع الوقت و تباعد طرفاه- أن يقول لك الرجل:

لقيت فلانا سنة كذا، فتقول: و أنا لقيته في ذلك الوقت، و ربّما لقيه هو في أوّلها و أنت في آخرها.

فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ و ذلك أنّ أخته- و اسمها مريم- جاءت متعرّفة خبره، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها، و كان لا يقبل ثدي امرأة. فقالت:

هل أدلّكم على امرأة تربّيه و ترضعه؟ فقالوا: نعم. فجاءت بالأمّ، فقبل ثديها. و يروى أنّ آسية استوهبته من فرعون و تبنّته، و هي الّتي أشفقت عليه و طلبت له المراضع.

فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بقولنا: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك وَ لا تَحْزَنَ هي بفراقك و خوف غرقك. أو أنت على فراقها و فقد إشفاقها.

وَ قَتَلْتَ نَفْساً هي نفس القبطي الّذي استغاثه عليه الاسرائيلي، فقتله و هو ابن اثنتي

عشرة سنة فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ من غمّ قتله خوفا من الاقتصاص، بأن نأمرك بالهجرة إلى مدين وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً مصدر على فعول، كالثبور و الشكور و الكفور، أي:

ابتليناك ابتلاء. أو جمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز و بدور، في حجزة و بدرة.

و المعنى: فتنّاك أنواعا من الفتن، فخلّصناك مرّة بعد اخرى. و هو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، و مفارقة الالّاف (1)، و المشي راجلا على حذر، و فقد الزاد، و أجر نفسه، إلى غير ذلك.

روي أنّه سأل سعيد بن جبير ابن عبّاس فقال: خلّصناك من محنة بعد محنة، فإنّه ولد في عام كان يقتل فيه الولدان. فهذه فتنة يا ابن جبير. و ألقته أمّه في البحر. و همّ فرعون بقتله. و قتل قبطيّا. و أجر نفسه عشر سنين. و ضلّ الطريق، و تفرّقت غنمه في ليلة مظلمة.

و كان ابن عبّاس يقول عند كلّ واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير. و الفتنة: المحنة، و كلّ ما

ص: 239


1- الالّاف جمع آلف، و هو الصديق و المؤانس.

يشقّ على الإنسان، و كلّ ما يبتلي اللّه عزّ و جلّ عباده فتنة. قال: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً (1).

فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين.

و مدين على ثماني مراحل من مصر. و عن وهب: أنّه لبث عند شعيب ثمانيا و عشرين سنة، منها مهر ابنته.

ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدّرته ذلك القدر، و وقّتّه في سبق قضائي و قدري، لأن أكلّمك و أستنبؤك غير مستقدم وقته المعيّن و لا مستأخر. أو على مقدار من السنّ يوحى فيه إلى الأنبياء، و هو رأس أربعين سنة.

يا مُوسى كرّره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اتّخذتك صنيعتي و خالصتي. أو اصطنعتك لمحبّتي، و اختصصتك بكلامي. مثّله فيما خوّله من منزلة التكريم و التقريب و التكليم، بحال من يراه بعض الملوك- جوامع خصال فيه، و مزايا خصائص له- أهلا لئلّا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه، و لا ألطف محلّا، فيصطنعه بالكرامة و الأثرة، و يستخلصه لنفسه، و لا يبصر و لا يسمع إلّا بعينه و أذنه، و لا يأتمن على مكنون سرّه إلّا ضميره.

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي بمعجزاتي وَ لا تَنِيا و لا تفترا و لا تقصّرا، من الوني بمعنى الفتور فِي ذِكْرِي أي: لا تنسياني حيثما تقلّبتما، و اتّخذا ذكري جناحا تصيران به مستمدّين بذلك العون و التأييد منّي، معتقدين أنّ أمرا من الأمور لا يتمشّى لأحد إلّا بذكري.

و قيل: في تبليغ الرسالة و الدعاء إليّ، فإنّ الذكر يقع على سائر العبادات، و تبليغ الرسالة من أجلّها و أعظمها، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر.

اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى جاوز الحدّ في الطغيان. خاطب موسى أوّلا

ص: 240


1- الأنبياء: 35.

بالأمر وحده، و هاهنا إيّاه و أخاه، فلا تكرير. قيل: أوحى إلى هارون و هو بمصر أن يتلقّى موسى. و قيل: سمع بإقباله فاستقبله.

فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ارفقا به في الدعاء و القول، و لا تغلظا له في ذلك.

قيل: إنّ القول الليّن هو قوله: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (1) فإنّه دعوة في صورة مشورة، و عرض ما فيه الفوز العظيم، حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما، أو احتراما لما له من حقّ التربية عليك.

و قيل:

كنّياه. و هو من ذوي الكنى الثلاث: أبو العبّاس، و أبو الوليد، و أبو مرّة.

و قيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، و ملكا لا ينزع منه إلّا بالموت، و أن تبقى له لذّة المطعم و المشرب و المنكح إلى حين موته، و إذا مات دخل الجنّة جزاء لإيمانه.

فأعجبه ذلك، و كان لا يقطع أمرا دون هامان، و كان غائبا، فلمّا قدم هامان أخبره بالّذي دعاه إليه، و أنّه يريد أن يقبل منه. فقال هامان: قد كنت أرى أنّ لك عقلا، و أنّ لك رأيا بيّنا. أنت ربّ و تريد أن تكون مربوبا؟! و بينا أنت تعبد تريد أن تعبد؟! فقلّبه عن رأيه.

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى متعلّق ب «اذهبا» أو «قولا» أي: باشرا الأمر على رجائكما و طمعكما أنّه يثمر و لا يخيب سعيكما، فإنّ الراجي مجتهد، و الآيس متكلّف و الفائدة في إرسالهما، و المبالغة عليهما في الاجتهاد، مع علمه بأنّه لا يؤمن، إلزام الحجّة و قطع المعذرة، كما قال في موضع آخر: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ (2). و إظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات، و التذكّر للمتحقّق، و الخشية للمتوهّم. و لذلك قدّم الأوّل، أي: إن لم يتحقّق صدقكما و لم يتذكّر، فلا أقلّ من أن يتوهّمه فيخشى.

ص: 241


1- النازعات: 18- 19.
2- طه: 134.

و في قوله: «قَوْلًا لَيِّناً» دلالة على وجوب الرفق في الدعاء إلى اللّه، و في الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، ليكون أسرع إلى القبول، و أبعد من النفور.

[سورة طه [20]: الآيات 45 الى 52]

قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [45] قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [46] فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [47] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى [48] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى [49]

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [50] قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [51] قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى [52]

و لمّا أمر اللّه تعالى موسى و هارون أن يمضيا إلى فرعون، و يدعواه إليه قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أن يعجّل علينا بالعقوبة، و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار المعجزة. من: فرط إذا تقدّم. و منه: الفارط. و فرس فرط: يسبق الخيل. أَوْ أَنْ يَطْغى أن يزداد طغيانا فيتخطّى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي، لجرأته و قساوته. و في المجي ء به هكذا على الإطلاق و على سبيل الرمز باب من حسن الأدب، و تحاش عن التفوّه بالعظيمة.

قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما بالحفظ و النصرة، أي: إنّي ناصركما و حافظكما أَسْمَعُ وَ أَرى ما يجري بينكما و بينه من قول و فعل، فأحدث في كلّ حال ما يصرف

ص: 242

شرّه عنكما، و يوجب نصرتي لكما. و هذا مثل قوله: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما (1). و يجوز أن لا يقدّر المفعول، على معنى: إنّني حافظكما سامعا مبصرا. و الحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تمّ الحفظ، و صحّت النصرة، و ذهبت المبالاة بالعدوّ.

فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ فأطلق مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أعتقهم عن الاستعباد وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بالتكاليف الصعبة، من الحفر و

البناء و نقل الحجارة و نظائرها، و قتل الولدان، فإنّهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم و يتعبونهم في العمل، و يقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام. و تعقيب الإتيان بذلك دليل على أنّ تخليص المؤمنين من الكفرة أهمّ من دعوتهم إلى الإيمان. و يجوز أن يكون للتدريج في الدعوة.

قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ بدلالة واضحة، و معجزة لائحة مِنْ رَبِّكَ تشهد لنا بالنبوّة.

و هذه جملة مقرّرة لما تضمّنه الكلام السابق من دعوى الرسالة، فإنّ دعواها لا تثبت إلّا ببيّنتها. و إنّما وحّد الآية و كان معه آيتان، لأنّ المراد في هذا الموضع إثبات الدعوى ببرهانها، لا الإشارة إلى وحدة الحجّة، فكأنّه قال: قد جئناك بمعجزة و برهان و حجّة على ما ادّعيناه من الرسالة. و كذلك قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (2). فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (3). أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ « (4)».

وَ السَّلامُ و سلام الملائكة الّذين هم خزنة الجنّة عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى على المهتدين. أو السلامة في الدارين لهم.

و لمّا كان التهديد في أوّل الأمر أهمّ و أنجع، و بالواقع أليق و أنفع، غيّر النظم و صرّح بالوعيد، و قال تأكيدا فيه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عذاب الدارين عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى على المكذّبين للرسل، و المعرضين عنهم.

ص: 243


1- القصص: 35.
2- الأعراف: 105.
3- الشعراء: 154 .
4- الشعراء: 30.

فلمّا أتياه و قالا له ما أمرا به قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب موسى و هارون أوّلا، و خصّ موسى بالنداء ثانيا، لأنّه الأصل و هارون وزيره و تابعه. و يحتمل أن يحمله خبثه على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه، لما عرف من فصاحة هارون و رتّة لسان موسى. و يدلّ عليه قوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (1).

و المعنى: من أيّ جنس من الأجناس ربّكما حتّى أفهمه و أعرفه؟ فبيّن موسى أنّ اللّه تعالى ليس له جنس، و إنّما يعرف سبحانه بأفعاله.

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ من الأنواع خَلْقَهُ صورته و شكله الّذي يطابق المنفعة المنوطة به و كماله الممكن له، كما أعطى العين الهيئة الّتي تطابق الإبصار، و الأذن الشكل الّذي يوافق الاستماع، و كذلك الأنف و اليد و الرجل و اللسان، كلّ واحد منها مطابق لما علّق به من المنفعة. أو أعطى خليقته كلّ شي ء يحتاجون إليه و ينتفعون به.

و قدّم المفعول الثاني لأنّه المقصود بيانه.

و قيل: أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق و الصورة زوجا، كالناقة و البعير و الرجل و المرأة و غير ذلك، و لم يزاوج منها شيئا غير جنسه.

ثُمَّ هَدى ثمّ عرّفه كيف يرتفق بما أعطي؟ و كيف يتوصّل به إلى بقائه و كماله اختيارا أو طبعا؟ و للّه درّ هذا الجواب ما أخصره! و ما أجمعه! و ما أبينه! فإنّه مع نهاية و جازته و غاية اختصاره معرب عن الموجودات بأسرها على مراتبها، و دالّ على أنّ الغنيّ القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو اللّه تعالى، و أنّ جميع ما عداه مفتقر إليه، منعم عليه في حدّ ذاته و صفاته و أفعاله، و لذلك بهت فرعون، و أفحم عن الدخل عليه، فلم ير إلّا صرف الكلام عنه إلى غيره.

قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى سأله عن حال من تقدّم و خلا من القرون الماضية، كقوم نوح و عاد و ثمود، و نظائرهم الّذين لا يعبدون اللّه، و عن شقاء من شقي منهم، و سعادة من سعد. و المعنى: فما حالهم بعد موتهم من السعادة و الشقاوة؟

ص: 244


1- الزخرف: 52.

قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، و قد استأثر اللّه عزّ و جلّ به لا يعلمه إلّا هو، و ما أنا إلّا عبد مثلك، لا أعلم منه إلّا ما أخبرني به علّام الغيوب.

فِي كِتابٍ أي: علم أحوال القرون و أعمالهم مثبت في اللوح المحفوظ. و يجوز أن يكون هذا تمثيلا لتمكّنه في علمه بما استحفظه العالم و قيّده بالكتبة. و يؤيّده لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى و الضلال أن تخطئ الشي ء في مكانه فلم تهتد إليه، كقولك: ضللت الطريق و المنزل. و النسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك. و هما محالان على العالم بالذات.

و يجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة اللّه بالأشياء كلّها، و تخصيصه أبعاضها بالصور و الخواصّ المختلفة، بأنّ ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء و جزئيّاتها، و القرون الخالية مع كثرتهم و تمادي مدّتهم و تباعد أطراف عددهم، كيف أحاط علمه بهم و بأجزائهم و أحوالهم؟! فيكون معنى الجواب: أنّ علمه تعالى محيط بذلك كلّه، و أنّه مثبت عنده، و لا يجوز عليه الخطأ و النسيان، كما يجوزان عليك أيّها العبد الذليل و البشر الضئيل، أي: لا يضلّ كما تضلّ أنت، و لا ينسى كما تنسى يا مدّعي الربوبيّة بالجهل و الوقاحة.

و عن ابن عبّاس: معناه: لا يترك من كفر به حتّى ينتقم منه، و لا يترك من وحّده حتّى يجازيه.

[سورة طه [20]: الآيات 53 الى 55]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [53] كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [54] مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [55]

ص: 245

ثمّ زاد في الإخبار عن اللّه تعالى، فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مرفوع بأنّه صفة ل «ربّي» أو خبر لمبتدأ محذوف. أو منصوب على المدح. و المهد مصدر سمّي به ما يمهّد للصبيّ. و قرأ به الكوفيّون هنا و في الزخرف (1)، أي: كالمهد تتمهّدونها. و الباقون:

مهادا. و هو اسم ما يمهّد، كالفراش، أو جمع مهد. و لم يختلفوا في الّذي في النبأ (2).

وَ سَلَكَ و حصّل لَكُمْ فِيها سُبُلًا بين الجبال و الأودية و البراري، تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها.

وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَأَخْرَجْنا بِهِ التفت من لفظ الغيبة إلى صيغة التكلّم على الحكاية لكلام اللّه عزّ و جلّ، إيذانا بأنّه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، و تذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته، لا يمتنع شي ء على إرادته. و مثله قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ (3). أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها (4). أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ (5).

و فيه وجه تخصيص أيضا بأنّا نحن نقدر على مثل هذا، و لا يدخل تحت قدرة أحد.

أَزْواجاً أصنافا. سمّيت بذلك لازدواجها، و اقتران بعضها مع بعض مِنْ نَباتٍ بيان و صفة ل «أزواجا». و كذلك شَتَّى و يحتمل أن يكون صفة للنبات، فإنّه من حيث إنّه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد و الجمع.

و هو جمع شتيت، كمريض و مرضى، أي: متفرّقات و مختلفات في الصور و سائر الأغراض، من الطعوم و الألوان

ص: 246


1- الزخرف: 10.
2- النبأ: 6.
3- الأنعام: 99.
4- فاطر: 27.
5- النمل: 60.

و الروائح و المنافع، يصلح بعضها للناس و بعضها للبهائم. فلذلك قال: كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ و هو حال من ضمير «فأخرجنا» على إرادة القول، أي: أخرجنا أصناف النبات قائلين: كلوا و ارعوا. و المعنى: آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها و تعلفوا بعضها.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى لذوي العقول الناهية عن اتّباع الباطل و ارتكاب القبائح. جمع نهية.

مِنْها خَلَقْناكُمْ فإنّ التراب أصل خلقة أوّل آبائكم، و هو آدم عليه السّلام، و أوّل موادّ أبدانكم. و قيل: إنّ الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الّذي يدفن فيه، فيبدّدها على النطفة، فيخلق من التراب و النطفة معا. وَ فِيها نُعِيدُكُمْ بالموت و تفكيك الأجزاء وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بتأليف أجزائكم المتفتّتة المختلطة بالتراب على الصورة السابقة، و ردّ الأرواح إليها.

و الحاصل: أنّ موسى عليه السّلام عدّد عليهم في هذه الآيات ما علق بالأرض من مرافقهم، حيث جعلها اللّه لهم فراشا و مهادا يتقلّبون عليها، و سوّى لهم فيها مسالك يتردّدون فيها كيف شاؤوا، و أنبت فيها أصناف؟؟ النبات الّتي منها أقواتهم و علوفات بهائمهم، و هي أصلهم الّذي منه تفرّعوا، و أمّهم الّتي منها ولدوا، ثمّ هي كفاتهم (1) إذا ماتوا، و من ثمّ

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تمسّحوا بالأرض، فإنّها بكم برّة».

[سورة طه [20]: الآيات 56 الى 64]

وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى [56] قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى [57] فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ

ص: 247


1- كفات الأرض: ظهرها للأحياء، و بطنها للأموات.

مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً [58] قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [59] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [60] قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى [61] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى [62] قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [63] فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى [64]

وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا بصّرناه إيّاها، أو عرّفناه صحّتها كُلَّها تأكيد لشمول الأنواع، أو لشمول الأفراد، على أنّ المراد ب «آياتنا» آيات معهودة، و هي الآيات التسع المختصّة بموسى: العصا، و اليد، و فلق البحر، و الجراد، و الحجر، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و نتق الجبل.

و قيل: أراد عليه السّلام آياته و ما أوتيه غيره من الأنبياء من المعجزات، فإنّه نبيّ صادق، فلا فرق بين ما يخبر عنه و بين ما يشاهد به.

فَكَذَّبَ موسى من فرط عناده وَ أَبى الإيمان و الطاعة لعتوّه، كقوله:

وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (1).

قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا أرض مصر بِسِحْرِكَ يا مُوسى هذا تعلّل

ص: 248


1- النمل: 14.

و تحيّر، و دليل على أنّه علم كونه محقّا حتّى خاف منه على ملكه، فإنّ الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه، و يغلبه على ملكه بالسحر.

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ مثل سحرك فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً وعدا، لقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ فإنّ الإخلاف لا يلائم الزمان و المكان مَكاناً سُوىً أي: منصفا (1) يكون النصف بيننا و النصف الآخر بينك، فتستوي مسافته إلينا و إليك. و هو من النعت. و عن مجاهد: هو من الاستواء، لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها. و قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب بالضّم.

و انتصابه بفعل دلّ عليه المصدر لا به، فإنّه موصوف. و التقدير: نعد مكانا. أو بأنّه بدل من «موعدا» على تقدير: مكان موعد. فيجعل الضمير في «نخلفه» للموعد، و «مكانا» بدل من المكان المحذوف.

و على هذا يكون طباق الجواب في قوله: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ من حيث المعنى، فإنّ يوم الزينة يدلّ على مكان بعينه مشتهر باجتماع الناس فيه، فبذكر الزمان علم المكان. أو بإضمار مثل: مكان موعدكم، أو وعدكم وعد يوم الزينة.

و قيل: هو يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم عيد كانوا يتّخذون فيه سوقا، و يتزيّنون ذلك اليوم.

وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى عطف على اليوم أو الزينة. و إنّما واعدهم ذلك اليوم ليكون علوّ كلمة اللّه، و ظهور دينه، و كبت الكافر، و زهوق الباطل، على رؤوس الأشهاد، و في المجمع الغاصّ (2)، لتقوى رغبة من رغب في اتّباع الحقّ، و يكلّ حدّ المبطلين و أشياعهم، و يكثر المحدّث بذلك الأمر المشهور في كلّ بدو و حضر، و يشيع في جميع أهل الوبر و المدر.

ص: 249


1- في هامش النسخة الخطيّة: «المنصف: الموضع الذي ينتصف فيه المسافة. منه».
2- أي: المزدحم، من غصّ المكان بهم: امتلأ و ضاق عليهم، فهو غاصّ.

و تخصيص الضحو من بين ساعات النهار، لأنّ ذلك الوقت أضوؤها و أبينها، فيرى الناس المعجزة الموسويّة و غلبتها على الشوكة الفرعونيّة على أوضح وجه، فيكون أبلغ في الحجّة، و أبعد في الشبهة.

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ انصرف و فارق موسى على هذا الوجه فَجَمَعَ كَيْدَهُ ما يكاد به، يعني: السحرة و آلاتهم و أدواتهم ثُمَّ أَتى أي: حضر الموعد.

قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته سحرا فَيُسْحِتَكُمْ فيهلككم و يستأصلكم بِعَذابٍ

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص و يعقوب برواية ورش بالضمّ، من الإسحات. و هو لغة نجد و بني تميم. و السحت لغة الحجاز. يقال. سحته اللّه و أسحته إذا استأصله و أهلكه.

وَ قَدْ خابَ خسر مَنِ افْتَرى من كذب على اللّه و نسب إليه باطلا، كما خاب فرعون، فإنّه افترى و احتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه.

فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه، فقال بعضهم: ليس هذا من كلام السحرة وَ أَسَرُّوا النَّجْوى بأنّ موسى إن غلبنا اتّبعناه. و عن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه، و إن كان من السماء فله أمر. و عن وهب: لمّا قال: «ويلكم ...» الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر. و قيل: تنازعوا و اختلفوا فيما يعارضون به موسى و تشاوروا في السرّ. و قيل: الضمير لفرعون و قومه. و المعنى: أنّهم تشاوروا في السرّ، و تجاذبوا أهداب (1) القول.

و قوله: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ تفسير ل «أَسَرُّوا النَّجْوى أي: كانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام خوفا من غلبتهما، و تثبيطا للناس عن اتّباعهما. و على الأوّل معناه:

قال السحرة لفرعون: إن هذان لساحران، أو قاله بعضهم لبعض.

و «هذان» اسم «إن» على لغة بني حارث بن كعب، فإنّهم جعلوا الألف للتثنية،

ص: 250


1- أي: وجوه القول، استعارة من هدب الشجرة أي: طول أغصانها و تدلّيها، و جمعه: أهداب.

و أعربوا المثنّى تقديرا، نحو الأسماء الّتي آخرها ألف، كعصا و سعدى، فلم يقلبوها في الجرّ و النصب.

و قيل: اسمها ضمير الشأن المحذوف، و «هذان لساحران» خبرها.

و قيل: «إن» بمعنى: نعم، و ما بعدها مبتدأ و خبر. و فيهما: أنّ اللام لا تدخل خبر المبتدأ.

و قرأ أبو عمرو: إنّ هذين. و هو ظاهر. و ابن كثير و حفص: إن هذان، على أنّها هي المخفّفة و اللام هي الفارقة، أو النافية و اللام بمعنى: إلّا. و يشدّد ابن كثير «هذان». و هي لغة.

يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى بمذهبكم الّذي هو أفضل المذاهب، بإظهار مذهبهما، و إعلاء دينهما، لقوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ (1).

و قيل: أرادوا أهل طريقتكم الفضلى. و هم بنو إسرائيل، فإنّهم كانوا أرباب علم فيما بينهم، لقول موسى: أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (2).

و قيل: الطريقة اسم لوجوه القوم و أشرافهم، من حيث إنّهم قدوة لغيرهم. و المعنى:

يريدان أن يصرفا وجوه الناس إليهما. يقال: هم طريقة قومهم، أي: قدوتهم. و يقال للواحد أيضا: هو طريقة قومه. و المثلى هم الجماعة الأفضلون، تأنيث الأمثل بمعنى الأفضل، كالفضلى في تأنيث الأفضل.

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ فأزمعوه و اجعلوه مجمعا عليه لا يتخلّف عنه واحد منكم، كالمسألة المجمع عليها، أي: لا تدعوا من كيدكم شيئا إلّا جئتم به. و هذا قول فرعون للسحرة. و الضمير في «قالوا» إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض. و قرأ أبو عمرو:

ص: 251


1- غافر: 26.
2- الشعراء: 17.

فاجمعوا. و يعضده قوله: فَجَمَعَ كَيْدَهُ (1).

ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصطفّين، لأنّه أهيب في صدر الرائين، و أنظم لأموركم.

روي: أنّهم كانوا سبعين ألفا، مع كلّ واحد منهم حبل و عصا، و أقبلوا عليه إقبالة واحدة. وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ فاز بالمطلوب مَنِ اسْتَعْلى من علا و غلب. و هو اعتراض.

[سورة طه [20]: الآيات 65 الى 76]

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [65] قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [66] فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [67] قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [68] وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [69]

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى [70] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى [71] قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ

ص: 252


1- طه: 60

الدُّنْيا [72] إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [73] إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى [74]

وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى [75] جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى [76]

و بعد ما أتوا الموعد مجتمعين قالُوا مراعاة للأدب و التواضع و خفض الجناح يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى «أن» بما بعده منصوب بفعل مضمر، أو مرفوع بخبريّة مبتدأ محذوف، أي: اختر إلقاءك أوّلا أو إلقاءنا، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.

قالَ بَلْ أَلْقُوا مقابلة أدب بأدب، و عدم مبالاة بسحرهم، و إسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء، بذكرهم إيّاه أوّلا. و تغيير النظم ليكون على وجه أبلغ.

و قيل: ألهمهم ذلك و علّم موسى اختيار إلقائهم، ليبرزوا ما معهم من مكائد السحر أقصى وسعهم، ثمّ يظهر اللّه سبحانه سلطانه فيقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه، و يسلّط المعجزة على السحر فتمحقه، و تكون آية نيّرة للناظرين، و عبرة بيّنة للمعتبرين.

فألقوا ما معهم من الحبال و العصيّ فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «إذا» للمفاجأة. و التحقيق: أنّها أيضا ظرفيّة تستدعي متعلّقا ينصبها، و جملة تضاف إليها، لكنّها خصّت بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا، و هو فعل المفاجأة، و الجملة ابتدائيّة. فتقدير الآية: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم و عصيّهم

ص: 253

من سحرهم أنّها تعدو مثل عدو الحيّات. و ذلك لأنّهم لطخوها بالزئبق، فلمّا حميت الشمس طلب الزئبق الصعود في أجوافها، فاضطربت و اهتزّت، فخيّل أنّها تتحرّك.

و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان و روح: تخيّل بالتاء، على إسناده إلى ضمير الحبال و العصيّ، و إبدال «أنّها تسعى» بدل الاشتمال، كقولك: أعجبني زيد كرمه.

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى إيجاس الخوف إضمار شي ء منه. و المعنى:

فأضمر فيها خوفا من مفاجأته، على ما هو مقتضى الجبلّة البشريّة عند رؤية أمر غريب و شي ء عجيب في أوّل وهلة.

و قيل: خاف أن يخالج الناس شكّ، بأن يلتبس عليهم أمره، فيتوهّموا أنّهم فعلوا مثل ما فعله، فيشكّوا فعلا يتّبعوه.

قُلْنا لا تَخَفْ ما توهّم إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى تعليل للنهي، و تقرير لغلبته، مؤكّدا بالاستئناف، و حرف التحقيق، و تكرير الضمير، و تعريف الخبر، و لفظ العلوّ الدالّ على الغلبة الظاهرة، و صيغة التفضيل.

وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أيهمه و لم يقل: ألق عصاك، تحقيرا لها، أي: لا تبال بكثرة حبالهم و عصيّهم، و ألق العويد (1) الفرد الصغير الجرم الّذي في يمينك. أو تعظيما لها، أي:

لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام و عظمها، فإنّ في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه.

تَلْقَفْ ما صَنَعُوا تبتلع ما افتعلوا و زوّروا بقدرة اللّه، على وحدته و صغره و كثرة ما فعلوا و عظمه. و أصله: تتلقّف، فحذفت إحدى التاءين. و تاء المضارعة تحتمل التأنيث، و الخطاب على إسناد الفعل إلى المسبّب.

و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع، على الحال أو الاستئناف. و حفص بالجزم و التخفيف، على أنّه من: لقفته، بمعنى: تلقّفته. و البزّي بتشديد التاء.

إِنَّما صَنَعُوا أي: الّذي افتعلوا كَيْدُ ساحِرٍ قرأ حمزة و الكسائي: سحر،

ص: 254


1- العويد: مصغّر العود.

بمعنى: ذي سحر. أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة. أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان، لأنّه يكون سحرا و غير سحر، كما تبيّن المائة بدرهم. و نحوه: علم فقه و علم نحو.

و إنّما وحّد الساحر، لأنّ المراد به الجنس المطلق، لا معنى العدد، فلو جمع لخيّل أنّ المقصود هو العدد. و لذلك قال: وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي: هذا الجنس. و تنكير الأوّل لتنكير المضاف، لا من أجل تنكيره في نفسه، كقول العجاج:

يوم ترى النفوس ما أعدّت في سعي دنيا طالما قد مدّت (1)

أي: في سعي دنيويّ. فكأنّه قيل: إن ما صنعوا كيد سحريّ.

حَيْثُ أَتى حيث كان و حيث أقبل. و قيل: معناه: لا يفوز الساحر حيث أتى بسحره، لأنّ الحقّ يبطله.

روي: أنّه لمّا ألقى موسى عصاه صارت حيّة و طافت حول الصفوف حتّى رآها الناس كلّهم، ثمّ قصدت الحبال و العصيّ فابتلعتها كلّها على كثرتها، و لم يبق منها شي ء على وجه الأرض، ثمّ أخذها موسى فعادت عصاه كما كانت، فتحقّق عند السحرة أنّه ليس بسحر، و إنّما هو من آيات اللّه و معجزة من معجزاته.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ فألقاهم ذلك على وجوههم سُجَّداً ساجدين للّه توبة عمّا صنعوا، و إعتابا (2) للّه، و تعظيما لما رأوا.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى قدّم هارون لكبر سنّه، أو لرؤوس الآي. أو لأنّ فرعون ربّى موسى في صغره، فلو اقتصر على موسى أو قدّم ذكره فربما توهّم أنّ المراد فرعون و ذكر هارون على الاستتباع.

و في الكشّاف: «سبحان اللّه ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم و عصيّهم للكفر و الجحود، ثمّ ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر و السجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!

ص: 255


1- في هامش النسخة الخطّية: «أي: أمهلت، من: مدّه اللّه في الغيّ، أمهله. منه».
2- أي: إرضاء له. من: أعتبه، أزال عتبه، و ترك ما كان يغضب عليه لأجله و أرضاه.

روي: أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم حتّى رأوا الجنّة و النار، و رأوا ثواب أهلها. و عن عكرمة:

لمّا خرّوا سجّدا أراهم اللّه في سجودهم منازلهم الّتي يصيرون إليها في الجنّة» (1).

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ لموسى. و اللام لتضمّن الفعل معنى الاتّباع، أي: قال فرعون للسحرة: صدّقتم و اتّبعتم لموسى. و قرأ حفص و قنبل: آمنتم له على الخبر. و الباقون على الاستفهام. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان له.

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ لعظيمكم في فنّكم، و أعلاكم و أعلمكم في صناعتكم. أو لمعلّمكم و أنتم تلامذته، و قد يعجز التلميذ عمّا يفعله الأستاذ. يقال: قال لي كبيري كذا، أي: معلّمي و استاذي. الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ و أنتم تواطأتم على ما فعلتم. و قيل:

معناه: إنّه لرئيسكم و متقدّمكم، و أنتم أشياعه و أتباعه، ما عجزتم عن معارضته، و لكنّكم تركتم معارضته احتشاما له و احتراما. و إنّما قال ذلك ليوهم العوام أنّ ما أتوا به إنّما هو لتواطئهم على ما فعلوا ليصرفوا وجوه الناس إليهم.

فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ اليد اليمنى و الرجل اليسرى، لأنّ كلّ واحد من العضوين خالف الآخر، بأنّ هذا يمين و ذاك شمال. و «من» ابتدائيّة، لأنّ القطع مبتدأ و ناشئ من مخالفة العضو العضو. و هي مع المجرور بها في حيّز النصب على الحال، أي: لأقطّعنّها مختلفات.

وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ شبّه تمكّن المصلوب في الجذع بتمكّن المظروف بالظرف. و هو أوّل من صلب.

وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا يريد نفسه و موسى، لقوله: «آمنتم له» فإنّ اللام مع الإيمان في كتاب اللّه لغير اللّه، و الباء معه للّه، كقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (2). و فيه

ص: 256


1- الكشّاف 3: 75- 76.
2- التوبة: 61.

صلف (1) و اختيال باقتداره و قهره، و ما ألفه و ضرى (2) به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، و توضيع لموسى و هزء به، فإنّه لم يكن قطّ من التعذيب في شي ء. و قيل: يريد ربّ موسى الّذي آمنوا به. أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى و أدوم عقابا: أنا على إيمانكم، أو موسى و ربّه على ترككم الإيمان به.

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك عَلى ما جاءَنا موسى به. و يجوز أن يكون الضمير فيه ل «ما». مِنَ الْبَيِّناتِ

من المعجزات الواضحات على صدق موسى و صحّة نبوّته وَ الَّذِي فَطَرَنا عطف على «ما جاءنا» أو قسم، أي: و على أنّه الّذي خلقنا، أو نقسم به على أنّا لا نختارك على ما جاء به موسى و ما ظهر لنا من الحقّ.

فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ قاضيه، أي: صانعه على إتمام و إحكام، فإنّا لا نرجع عن الإيمان إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إنّما تصنع ما تهواه، أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا. و هو كالتعليل لما قبله، و التمهيد لما بعده.

إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر و المعاصي وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ من معارضة موسى.

روي أنّ السحرة- يعني: رؤوسهم- كانوا اثنين و سبعين، اثنان من القبط، و سائرهم من بني إسرائيل، و كان فرعون أكرههم على تعلّم السحر. و كذا الملوك السالفين كانوا يجبرون الرعايا على تعلّم السحر، لئلّا يخرج السحر من أيديهم.

روي أنّهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما. ففعل فوجدوه تحرسه عصاه. فقالوا: ما هذا بسحر الساحر، لأنّ الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى فرعون إلّا أن يعارضوه، فذلك إكراههم.

ص: 257


1- صلف صلفا: تمدّح بما ليس فيه، و ادّعى فوق ذلك إعجابا و تكبّرا. و الاختيال: التبختر و التكبّر.
2- ضرى بالشي ء، أي: تعوّده و أولع به.

وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى جزاء. أو خير ثوابا للمؤمن، و أبقى عقابا للكافر. و هذا جواب لقوله: «وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى .

إِنَّهُ الشأن و الأمر مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن يموت على كفره فَإِنَّ لَهُ نار جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العقاب وَ لا يَحْيى حياة مهنّأة فيها راحة.

وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بأن

أدّى الفرائض في الدنيا فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جمع العليا، و هي تأنيث الأعلى، أي: المنازل الرفيعة في الجنّة، بعضها أعلى من بعض.

جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة. بدل «الدرجات». تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال، و العامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار وَ ذلِكَ الثواب الّذي ذكر جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهّر من أدناس الكفر و المعاصي.

قيل في هذه الآيات الثلاث: هي حكاية قول السحرة. و قيل: ابتداء كلام من اللّه، لا على وجه الحكاية.

[سورة طه [20]: الآيات 77 الى 79]

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى [77] فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [78] وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى [79]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال بني إسرائيل، فقال: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي: من مصر فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً أي: فاجعل لهم، من قولهم: ضرب له في ماله سهما. أو فاتّخذ، من: ضرب اللبن إذا عمله. فِي الْبَحْرِ يَبَساً مصدر وصف به.

يقال: يبس يبسا و يبسا، كسقم سقما و سقما. و من ثمّ وصف به المؤنّث فقيل: شاتنا يبس

ص: 258

و ناقتنا يبس، إذا جفّ لبنها. و المعنى: اجعل أو اتّخذ لهم طريقا في البحر يابسا بضربك العصا لينفلق البحر.

لا تَخافُ دَرَكاً حال من الضمير في «فاضرب». و الدرك اسم من الإدراك، أي:

حال كونك آمنا من أن يدرككم العدوّ. أو صفة ثانية، و العائد محذوف.

و قرأ حمزة: لا تخف، على أنّه جواب الأمر. و على هذا قوله: وَ لا تَخْشى استئناف، أي: و أنت لا تخشى. يعني: من شأنك أنّك آمن و لا تخشى من الغرق. أو عطف، و

الألف فيه للإطلاق من أجل الفاصلة، كقوله: وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (1) فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (2). أو حال بالواو.

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فأتبعهم فرعون نفسه و معه جنوده، فحذف المفعول الثاني. و قيل: «فأتبعهم» بمعنى: فاتّبعهم، و الباء للتعدية. و قيل: الباء مزيدة. و المعنى:

فاتّبعهم جنوده.

روي: أن موسى خرج ببني إسرائيل أوّل الليل، فأخبر فرعون بذلك، فاتّبع أثرهم بجنوده، و لمّا جاوز البحر موسى و قومه، و لج فرعون و جنوده فيه فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ الضمير له و لجنوده، أي: لحقهم منه ما لحقهم، و جاءهم منه ما جاءهم. و هذا من باب الاختصار، و من جوامع الكلم الّتي تستقلّ مع قلّتها بالمعاني الكثيرة، أي:

غشيهم ما سمعتم قصّته و ما لا يعرف كنهه إلّا اللّه.

وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى أي: أضلّهم في الدين، و ما هداهم إلى الخير و الرشد و طريق النجاة. و هو تهكّم به في قوله: وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (3). أو أضلّهم في البحر و ما نجا.

ص: 259


1- الأحزاب: 10.
2- الأحزاب: 67.
3- غافر: 29.

[سورة طه [20]: الآيات 80 الى 82]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى [80] كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى [81] وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [82]

ثمّ خاطب سبحانه بني إسرائيل بعد إنجائهم من البحر، و هلاك فرعون و قومه، و عدّد نعمه عليهم، فقال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ على إضمار القول، أي: قلنا لهم يا أولاد يعقوب. و قيل: الخطاب للّذين كانوا منهم في عهد

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، منّ اللّه عليهم بما فعل بآبائهم. و الوجه هو الأوّل.

قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون و قومه وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ بمناجاة موسى، و إنزال التوراة عليه. و إنّما عدّى المواعدة إليهم، و هي لموسى أو له و للسبعين المختارين، لأنّها لابستهم، و اتّصلت بهم، حيث كانت لنبيّهم و نقبائهم، و إليهم رجعت منافعها الّتي قام بها دينهم و شرعهم.

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى يعني: في التيه. و قد مرّ ذلك مفصّلا في سورة البقرة (1).

كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لذائذه المحلّلة. و قرأ حمزة و الكسائي: أنجيتكم ... و واعدتكم ... و ما رزقتكم، على التاء. وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فيما رزقناكم بالكفران، و الإخلال بشكره، و التعدّي لما حدّ اللّه لكم فيه، بأن تنتفعوا به في المعاصي، و تمنعوه من حقوق الفقراء فيه، و تسرفوا في إنفاقه، و تبطروا فيه و تتكبّروا.

ص: 260


1- راجع ج 1 ص 153.

فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي فيجب عليكم عقوبتي، من: حلّ الدّين يحلّ إذا وجب أداؤه وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى هلك. و أصله: أن يسقط من جبل فيهلك. أو سقط سقوطا لا نهوض بعده. و قيل: وقع في الهاوية. و قرأ الكسائي: فيحلّ ... و يحلل بالضمّ، من: حلّ يحلّ إذا نزل.

وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ عن الشرك وَ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ثمّ استقام و ثبت على الهدى حتّى يموت.

و عن الباقر عليه السّلام: «ثمّ اهتدى إلى و لا يتنا أهل البيت عليهم السّلام، فو اللّه لو أنّ رجلا عبد اللّه عمره ما بين الركن و المقام، ثمّ

مات و لم يجي ء بولايتنا، لأكبّه اللّه في النار على وجهه».

رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني (1) بإسناده. و أورده العيّاشي (2) في تفسيره من عدّة طرق.

و كلمة التراخي دلّت على تباين المنزلتين، دلالتها على تباين الوقتين في:

جاءني زيد ثم عمرو. أعني: أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه، لأنّها أعلى منها و أفضل. و نحوه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا (3).

[سورة طه [20]: الآيات 83 الى 89]

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [83] قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [84] قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ

ص: 261


1- شواهد التنزيل 1: 491 ح 518- 519 و لم يذكر ذيل الحديث.
2- المطبوع من تفسير العيّاشي إلى آخر سورة الكهف، و لم يصل إلينا و يا للأسف بقيّة الكتاب.
3- فصّلت: 30.

وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [85] فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [86] قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [87] فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ [88] أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً [89]

روي: أنّ اللّه سبحانه واعد موسى جانب الطور الأيمن، فتعجّل موسى من بينهم- و هم السبعون الّذين اختارهم موسى- شوقا إلى ربّه، و خلّفهم ليلحقوا به. فقال اللّه سبحانه له سائلا عن سبب العجلة: وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أيّ شي ء عجّل بك؟ و بأيّ سبب خلّفتهم و سبقتهم و جئت وحدك؟ فيه إنكار، من حيث إنّ العجلة نقيصة في نفسها، مع انضمام إغفال القوم إليها، و إيهام التعظّم عليهم، فلذلك أجاب موسى عن الأمرين.

و قدّم الجواب ببسط العذر. و تمهيد العلّة في نفس ما أنكر عليه، لأنّه أهمّ.

قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي من ورائي يدركونني عن قريب، ما تقدّمتهم إلّا بخطى يسيرة لا يعتدّ بها عادة، و ليس بيني و بينهم إلّا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم و مقدّمهم. و عن أبي عمرو و يعقوب: إثري بالكسر. و الإثر أفصح من الأثر. هكذا في الكشّاف (1).

ص: 262


1- الكشّاف 3: 80.

ثمّ اعتذر للعجلة بقوله: وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى حرصا على تعجيل رضاك، أي: لأزداد رضا إلى رضاك، فإنّ المسارعة إلى امتثال أمرك و الوفاء بعهدك توجب مزيّة مرضاتك.

قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ أي: ابتليناهم و امتحنّاهم بعبادة العجل، و بما حدث فيهم من أمره، بأن شدّدنا عليهم التكليف، و ألزمناهم عند ذلك النظر ليعلموا أنّه ليس بإله مِنْ بَعْدِكَ من بعد انطلاقك وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ أي: دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه، و ضلّوا عند دعائه. أضاف سبحانه الفتنة إلى نفسه و الضلال إلى السامريّ، ليدلّ على أنّ الفتنة غير الإضلال كما فسّرنا.

و قيل: المعنى: عامله بهم معاملة المختبر المبتلي، ليظهر لغيرنا المخلص منهم من المنافق، فيوالي المخلص، و يعادي المنافق.

و أراد بالقوم المفتونين الّذين خلّفهم موسى عليه السّلام مع هارون. و كانوا ستّمائة ألف، ما نجا من عبادة العجل منهم إلّا اثنا عشر ألفا.

و السامريّ منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. و قيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم. و قيل:

كان من أهل باجرما (1) بالقصر، و هو موضع. و قيل: كان علجا (2) من كرمان، و اسمه موسى بن ظفر، و كان منافقا قد أظهر الإسلام، و كان من قوم يعبدون البقر.

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين: ذا القعدة و عشر ذي الحجّة، و أخذ التوراة غَضْبانَ عليهم أَسِفاً حزينا، أو جزعا متلهّفا بما فعلوا. و في الكشّاف: «الأسف: الشديد الغضب. و منه

قوله عليه السّلام في موت الفجأة: رحمة للمؤمن،.

ص: 263


1- باجرما: قرية من أعمال البليخ قرب الرقّة من أرض الجزيرة. معجم البلدان 1: 313.
2- العلج: الرجل الضخم القويّ من كفّار العجم. و بعضهم يطلقه على الكافر عموما.

و أخذة أسف للكافر» (1).

قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بأن يعطيكم التوراة فيها هدى و نور، و لا وعد أحسن من ذاك و أجمل. و روي أنّها كانت ألف سورة، كلّ سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا. و قيل: أربعون.

أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: الزمان. يعني: زمان مفارقته لهم. يقال: طال عهدي بك، أي: طال زماني بسبب مفارقتك.

أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ يجب عليكم غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بعبادة ما هو مثل في الغباوة فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي وعدكم إيّاي بالثبات على الإيمان باللّه، و القيام على ما أمرتكم به.

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا و خلّينا و رأينا، و لم يسأل لنا السامريّ، لما أخلفناه، و لكن غلبنا من جهة السامريّ.

و قرأ نافع و عاصم: بملكنا بالفتح. و حمزة و الكسائي بالضمّ. و تثليثها في الأصل لغات في مصدر: ملكت الشي ء.

وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً أحمالا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ من حليّ القبط الّتي استعرناها منهم حين قصدنا الخروج من مصر باسم العرس. و قيل: استعاروا لعيد كان لهم، ثمّ لم يردّوا عند الخروج مخافة أن يعلموا بخروجهم، فحملوها. و قيل: هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه.

و قيل: سمّوها أوزارا، لأنّها آثام، فإنّ الغنائم لم تكن تحلّ بعد، أو لأنّهم كانوا مستأمنين في دار الحرب، و ليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربيّ.

و قرأ ابن عامر و حفص و نافع و ابن كثير: حمّلنا، بضمّ الحاء و كسر الميم و التشديد، على بناء المجهول من التحميل، أي: جعلنا أن نحمل. و قرأ أبو عمرو و حمزة

ص: 264


1- الكشّاف 3: 82.

و الكسائي و أبو بكر و روح: حملنا بالفتح و التخفيف.

فَقَذَفْناها ألقيناها في نار السامريّ الّتي أوقدها في الحفرة، و أمرنا أن نطرح فيها الحليّ فَكَذلِكَ فمثل ما ألقينا نحن من هذه الحليّ في النار أَلْقَى السَّامِرِيُ ما كان معه من الحليّ. و عن الجبائي: ألقى السامريّ أيضا ليوهم أنّه منهم.

و في الكشّاف: «أراهم أنّه يلقي حليّا في يده مثل ما ألقوا، و إنّما ألقى التربة الّتي أخذها من موطئ حيزوم (1) فرس جبرئيل عليه السّلام، أوحى إليه وليّه الشيطان أنّها إذا خالطت مواتا صار حيوانا. و هذه كرامة آثر اللّه روح القدس بهذه الكرامة الخاصّة. ألا ترى كيف أنشأ المسيح من غير أب عند نفخه في الدرع» (2).

و قيل: إنّ هذا الكلام مبتدأ من اللّه، حكى عنهم أنّهم ألقوا، ثمّ قال: و كذلك ألقى السامريّ.

و روي: أنّهم لمّا حسبوا أنّ العدّة قد كملت، لأنّهم حسبوا عشرين ليلة بأيّامها أربعين، قال لهم السامريّ: إنّما أخلف موسى ميقاتكم لما معكم من حليّ القوم، و هو حرام عليكم، فالرأي أن نحفر حفيرة و نسجّر فيها نارا و نقذف كلّ ما معنا فيها، ففعلوا.

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً من تلك الحليّ المذابة في الحفرة لَهُ خُوارٌ صوت العجل فَقالُوا يعني: السامريّ و من افتتن به أوّل ما رآه هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي: فنسيه موسى هاهنا، و ذهب يطلبه عند الطور. و قيل: إنّه قول اللّه تعالى.

و المعنى: فنسي السامريّ، أي: ترك ما كان عليه من إظهار الإيمان.

أَ فَلا يَرَوْنَ يعلمون أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أنّه لا يرجع إليهم كلاما، و لا يردّ

ص: 265


1- في هامش النسخة الخطّية: «حيزوم: علم لفرس جبرئيل عليه السّلام. و سبب منع الصرف التأنيث و العلميّة، لأن جبرئيل عليه السّلام نزل راكب الماذيانة. منه». و الماذيانة معرّبة: ماديان الفارسيّة، و هي بمعنى: الأنثى.
2- الكشّاف 3: 82.

عليهم جوابا. و لا يجوز أن تكون «أن» ناصبة، لأنّها لا تقع بعد أفعال اليقين. وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً و لا يقدر على إنفاعهم و إضرارهم، و من كان بهذه الصفة فإنّه لا يصلح للعبادة.

روي عن مقاتل: لمّا مضى من موعد موسى خمسة و ثلاثون يوما، أمر السامريّ بني إسرائيل أن يجمعوا ما استعاروه من حليّ آل فرعون، و صاغه عجلا في السادس و الثلاثين و السابع و الثامن، و دعاهم إلى عبادته في التاسع، فأجابوه، و جاءهم موسى بعد استكمال الأربعين.

[سورة طه [20]: الآيات 90 الى 94]

وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي [90] قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [91] قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا [92] أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي [93] قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [94]

وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ قبل عود موسى إليهم، أو من قبل أن يقول لهم السامريّ ما قال. كأنّه أوّل ما وقع عليه بصره حين طلع من الحفرة توهّم ذلك، و بادر تحذيرهم بقوله: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ بالعجل. يعني: أنّ اللّه شدّد عليكم التعبّد، فلا تعبدوا العجل وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لا غير فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي في الثبات على الدين.

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ لا نزال عَلَيْهِ على العجل و عبادته عاكِفِينَ مقيمين

ص: 266

حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى و هذا الجواب يؤيّد الوجه الأوّل.

فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا. فلمّا رجع موسى و هو ممتلئ غيظا منهم و من عبادتهم العجل، و سمع الصياح، إذ كانوا يرقصون حول العجل و يضربون الدفوف و المزامير، فلمّا سمع موسى منهم ما سمع ألقى الألواح و أخذ يعاتب هارون قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ أن تتّبعني في الغضب للّه، و شدّة زجرهم عن الكفر، و مقاتلتهم. أو أن تأتي عقبي و تلحقني. و «لا» مزيدة، كما في قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ (1).

أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين، و المحاماة عليه، و إصلاحهم. يريد به قوله: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (2).

هذا في صورة الاستفهام، و المراد به التقرير و الفرض، لأنّ موسى عليه السّلام كان يعلم أنّ هارون نقيّ الجيب من الذنوب، بري ء الساحة من العيوب، فلا يعصيه في أمره.

و لمّا كان موسى

رجلا حديدا، شديد الغضب للّه و لدينه، مجبولا على الحدّة و الخشونة و التصلّب في ذات اللّه، لم يتمالك حين رأى القوم يعبدون العجل- بعد رؤيتهم المعجزات و الآيات- أن ألقى الألواح، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، لفرط غضبه للّه و حميّة لدينه، و عنّف بأخيه و خليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدوّ المجاهر بالعداوة، قابضا على شعر رأسه، إذ أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على شعر رأسه و وجهه، و لذلك أخذ رأس أخيه يجرّه إليه، كما أنّ من صدر من قومه و أهله شي ء قبيح مستهجن غاية القبح و الاستهجان، فعل ذلك و إن كان صديقا محبّا له غاية الصداقة و المحبّة.

قالَ يَا بْنَ أُمَ قال هارون لموسى: يا ابن أمّ. خصّ الأمّ- و إن كان من الأب و الأمّ- استعطافا و ترقيقا، ليسكن شدّة غضبه. لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي أي: بشعر

ص: 267


1- الأعراف: 12 و 142.
2- الأعراف: 12 و 142.

رأسي. يعني: لا تقبض عليهما، و اسكن عن شدّة الغضب.

إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض لتفرّقوا فرقا. ففريق يلحقون بك معي، و فريق يقيمون مع السامريّ على عبادة العجل، و فريق يتوقّفون شاكّين في أمره. مع أنّي لم آمن إن تركتهم أن يصيروا بالخلاف إلى تسافك الدماء، و شدّة التصميم و الثبات على اتّباع السامريّ، فتقول عتابا: فرّقت بينهم.

وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي لم تعمل بوصيّتي و لم تحفظها حين قلت: اخلفني في قومي و أصلح، فإنّ الإصلاح كان في حفظ الدهماء و حقن الدماء و المداراة لهم إلى أن ترجع إليهم، فتتدارك الأمر برأيك.

و قال القاضي النيشابوري: للشيعة في هذا المقام مباحث مع الطائفة الضالّة بهذا الكلام «قال أهل السنّة هاهنا: إنّ الشيعة تمسّكوا بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

ثمّ إنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع، بل صعد المنبر و صرّح بالحقّ، و دعا الناس إلى متابعته، فلو كانت أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الخطأ لكان يجب على عليّ أن يفعل ما فعل هارون من غير تقيّة و خوف.

و للشيعة أن يقولوا: إنّ هارون صرّح بالحقّ، ثمّ خاف و سكت، و لهذا عاتبه موسى بما عاتب، فاعتذر ب إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي (1). و هكذا عليّ عليه السّلام امتنع أوّلا من البيعة، فلمّا آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا» (2). انتهى كلامه.

و ما أحسن إنصافه و مقاله، و إن ذيّله بقوله: و إنّما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصّب.

و تفصيل هذا المجمل ذكره ابن أبي الحديد، و هو أيضا من أعيان أهل السنّة في .

ص: 268


1- الأعراف: 150.
2- تفسير غرائب القرآن للنيسابوري 4: 567.

شرح نهج البلاغة، قائلا: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا أخرج من بيته، و جاؤا به إلى أبي بكر، اخرج ملبّبا يرفض رفضا. فما مرّ على ملأ إلّا قالوا: اذهب و بايع.

فمرّ على مربض غنم فوجد شياها، فقال: لو أنّ لي بعدد هذه الشياه أنصارا لأزلت ابن آكلة الأكباد عن مكانه. فلمّا وافى المسجد وجد سيوف بني أميّة مشهورة.

فقال له عمر منتهرا: إلى كم تقيم في بيتك تنتظر نزول الوحي عليك؟ مدّ يدك فبايع، و ادخل فيما دخل فيه الناس. قال: فإن لم

أبايع؟ قال: تقتل صغارا لك و ذلّا». (1)

[سورة طه [20]: الآيات 95 الى 98]

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ [95] قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [96] قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [97] إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً [98]

و لمّا سمع موسى عليه السّلام اعتذار هارون أقبل على السامريّ قالَ منكرا فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ ما طلبك له؟ و ما الّذي حملك عليه؟ و هو مصدر: خطب الشي ء إذا طلبه.

قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي: علمت ما لم يعلم بنو إسرائيل، و فطنت لما

ص: 269


1- راجع شرح النهج لابن أبي الحديد 6: 45. ففيه ما يقرب المتن هنا. و الظاهر أن جملة «لو أنّ لي- إلى- ابن آكلة الأكباد عن مكانه» زائدة من زلّة القلم أو زيادات النسّاخ، إذ لم يكن لمعاوية حينذاك شأن يذكر حتى يخاطبه عليه السّلام بهذا الكلام.

لم يفطنوا له، و هو أنّ الرسول الّذي جاءك روحانيّ محض لا يمسّ أثره شيئا إلّا أحياه. أو رأيت ما لم تروه، و هو أنّ جبرئيل جاءك على فرس الحياة. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء، خطابا لموسى و بني إسرائيل.

و قيل: إنّما عرفه لأنّ أمّه ألقته حين ولدته خوفا من فرعون، فكان جبرئيل يغذوه حتى استقلّ.

فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ من تربة موطئه. و القبضة المرّة من القبض فأطلق على المقبوض، كضرب الأمير. و الرسول جبرئيل. و لم يسمّه لأنّه أراد أن ينبّه على الوقت، و هو حين حلّ ميعاد الذهاب إلى الطور، فأرسل اللّه عزّ و جلّ إلى موسى جبرئيل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامريّ فقال: إنّ لهذا شأنا. فقبض قبضة من تربة موطئه. فلمّا سأله موسى عن قصّته قال: قبضت من أثر فرس الرسول الذي جاء به إليك يوم حلول الميعاد. و لعلّه لم يعرف أنّه جبرئيل عليه السّلام.

فَنَبَذْتُها في الحليّ المذاب، أو في جوف العجل حتّى حيي وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي زيّنته و حسّنته إليّ.

قال الصادق عليه السّلام: «إنّ موسى قصد أن يقتل السامريّ، فأوحى اللّه تعالى إليه: لا تقتله يا موسى، فإنّه سخيّ».

فعند ذلك قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ عقوبة على ما فعلته أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ خوفا من أن يمسّك أحد فيأخذك الحمّى و من مسّك. فصار السامريّ يهيم في البرّيّة مع الوحش و السباع، و لا يمسّ أحدا، و لا يمسّه أحد. يعني: عاقبه اللّه تعالى في الدنيا بعقوبة لا شي ء أطمّ (1) منها و أوحش، فإنّه منع من مخالطة الناس منعا كلّيا، و حرّم عليهم ملاقاته و مكالمته و مبايعته و مواجهته، و كلّ ما يعايش به الناس بعضهم بعضا. و إذا اتّفق أن يماسّ أحدا- رجلا أو امرأة- حمّ الماسّ و الممسوس، فتحامى الناس و تحاموه.

ص: 270


1- أي: أعظم و أدهى، من: طمّ الأمر، إذا عظم و تفاقم. و لذا قيل للقيامة: الطامّة الكبرى.

و كان يصيح: لا مساس. و صار في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، و من الوحشيّ النافر في البرّيّة. و يقال: إنّ قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم، إن مسّ واحد من غيرهم واحدا منهم حمّ كلاهما في الوقت.

وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ لن يخلفك اللّه موعده الّذي وعدك على جزاء الشرك و الفساد في الأرض، ينجّزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا. فأنت ممّن خسر الدنيا و الآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

و قرأ ابن كثير و البصريّان بكسر اللام، أي: لن تخلف الواعد إيّاه، و سيأتيك لا محالة. فحذف المفعول الأوّل، لأنّ المقصود هو الموعد. و يجوز أن يكون من: أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا.

وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً ظللت على عبادته مقيما. فحذف اللام الأولى تخفيفا. لَنُحَرِّقَنَّهُ أي: بالنار. و هذا يدلّ على أنّه كان حيوانا: لحما و دما.

أو لنبردنّه بالمبرد (1)، من: حرق إذا برد. و هذا يدلّ على أنّه كان ذهبا و فضّة، و لم يصر حيوانا. ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ لنذرينّه رمادا أو مبرودا فِي الْيَمِّ نَسْفاً ذريّا، فلا يبقى منه شي ء. من: نسفت الريح إذا ذرت (2). و هذه عقوبة ثالثة. و هي إبطال ما افتتن (3) به و فتن، و إهدار سعيه. و المقصود من ذلك زيادة عقوبته، و إظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر.

ثمّ أقبل موسى عليه السّلام على قومه فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ المستحقّ لعبادتكم اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم و القدرة وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً

ص: 271


1- المبرد: آلة البرد. و برد الحديد: أخذ منه بالمبرد. و حرقه بالمبرد: برده.
2- ذرت الريح التراب: أطارته و فرّقته.
3- في هامش النسخة الخطّية: «افتتن الرجل: إذا اصابته فتنة، فذهب ماله أو عقله. و كذلك: فتن. منه».

تمييز. و هو في المعنى فاعل، أي: وسع علمه كلّ ما يصحّ أن يعلم، لا العجل الّذي يصاغ و يحرق، و إن كان حيّا في نفسه كان مثلا في الغباوة.

[سورة طه [20]: الآيات 99 الى 104]

كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً [99] مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً [100] خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً [101] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [102] يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً [103] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً [104]

ثمّ قال لنبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَذلِكَ مثل ذلك الاقتصاص، و نحو ما اقتصصنا عليك من قصّة موسى و فرعون نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ من سائر أخبار الأمور الماضية، و أحوال الأمم السالفة، تبصرة لك، و زيادة في علمك، و تكثيرا لمعجزاتك، و تذكيرا للمستبصرين من أمّتك، و تأكيدا للحجّة على من عاندك و كابرك.

وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً التنكير للتعظيم، أي: كتابا عظيما، و قرآنا كريما مشتملا على ذكر هذه الأقاصيص و الأخبار، حقيقا بالتفكّر و الاعتبار. و قيل: ذكرا جميلا مرضيّا عظيما بين الناس، من أقبل عليه نجا و سعد في الدارين.

مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عن الذكر الجامع لوجوه السعادة و النجاة. و قيل: عن اللّه.

فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً عقوبة ثقيلة على كفره و معاصيه. سمّاها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب، و صعوبة احتمالها، بالحمل الّذي يثقل الحامل و ينقض ظهره، و يلقي عليه ضيق النفس. أو إثما عظيما، هو جزاء الوزر.

ص: 272

خالِدِينَ فِيهِ في الوزر، أو في حمله. و الجمع فيه و التوحيد في «أعرض» للحمل على المعنى و اللفظ، فإنّ «من» مطلق متناول للواحد و الكثير. و نحوه قوله تعالى:

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها (1).

وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي: بئس لهم. و فيه ضمير مبهم يفسّره «حملا».

و المخصوص بالذمّ محذوف، لدلالة الوزر السابق عليه، تقديره: ساء حملا وزرهم، كما حذف في قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (2) أي: نعم العبد أيّوب. و منه قوله تعالى:

وَ ساءَتْ مَصِيراً (3) أي: و ساءت مصيرا جهنّم. و اللام في «لهم» للبيان، كما في هَيْتَ لَكَ (4).

و لا يجوز أن يكون في «ساء» ضمير شي ء بعينه غير مبهم، و هو الوزر، و الحال أنّ حكمه حكم «بئس». و لو نقل عن ظاهره، و حمل على معنى: أحزن، كما وقع في قوله تعالى: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (5) بمعنى: أهمّ و أحزن، و أرجع الضمير الّذي فيه للوزر. أشكل (6) أمر اللام، و نصب «حملا»، و لم يفد مزيد معنى.

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل من «يَوْمَ الْقِيامَةِ» و قرأ أبو عمرو بالنون، على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له، أو للنافخ، لأنّ الملائكة المقرّبين و إسرافيل منهم بالمنزلة الّتي هم مخصوصون بها من ربّ العزّة، فصحّ لكرامتهم عليه و قربهم منه أن يسند ما يتولّونه إلى ذاته تعالى. و الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل يوم القيامة لبعث الموتى.

وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي: الكافرين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً زرق العيون. و معنى

ص: 273


1- الجنّ: 23.
2- ص: 44.
3- النساء: 97.
4- يوسف: 23.
5- الملك: 27.
6- جواب «و لو نقل» قبل سطرين.

الزرقة الخضرة في سواد العين، كعين السنّور. و صفوا بذلك لأنّ الزرقة أسوأ ألوان العين و أبغضها إلى العرب، لأنّ الروم كانوا أعدى أعدائهم و هم زرق العيون. و لذلك قالوا في صفة العدوّ: أسود الكبد، أصهب (1) السبال، أزرق العين. و قيل: «زرقا» بمعنى: عميا، لأنّ حدقة من ذهب نور بصره تزراقّ. و قيل: عطاشا يظهر في عيونهم كالزرقة، مثل قوله:

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (2).

يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ يخفضون أصواتهم مسارّة بينهم، لما يملأ صدورهم من الرعب و الهول. من الخفت، و هو خفض الصوت و إخفاؤه. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ليال عشر. يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، إمّا لما يعاينون من الشدائد الّتي تذكّرهم أيّام النعمة و السرور، فيتأسّفون عليها، و يصفونها بالقصر، لأنّ أيّام السرور قصار، كقوله:

تمتّع بأيّام السرور فإنّهاقصار و أيّام الهموم طوال و إمّا لأنّها ذهبت عنهم و تقضّت، و الذاهب و إن طالت مدّته قصير بالانتهاء. و إمّا لاستطالتهم مدّة الآخرة، و أنّها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، و يستقلّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ و هو مدّة لبثهم. ثمّ استرجح اللّه قول من يكون أشدّ رأيا و صوابا منهم في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أو فرهم عقلا، و أصوبهم رأيا. و قيل: أكثرهم سدادا عند نفسه. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً و نحوه قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (3). و قوله:

لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (4). و إنّما قال ذلك لأنّ اليوم الواحد و العشرة إذا قوبلا

ص: 274


1- أي: أشقر الشوارب.
2- مريم: 86.
3- المؤمنون: 112- 113.
4- النازعات: 46.

بيوم القيامة و ما لهم من الإقامة في النار، كان اليوم الواحد أقرب إليه.

و قيل: إنّهم قالوا ذلك بعد انقطاع عذاب القبر عنهم، لأنّ اللّه يعذّبهم ثمّ يعيدهم.

و روي عن ابن عبّاس: يعني: من النفخة الأولى إلى الثانية، و ذلك لأنّه يكفّ عنهم العذاب فيما بين النفختين، و هو أربعون سنة.

[سورة طه [20]: الآيات 105 الى 113]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [105] فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً [106] لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً [107] يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [108] يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً [109]

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [110] وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [111] وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً [112] وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [113]

روي: أنّ رجلا من ثقيف سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها، و ما يكون حالها؟ فنزلت: وَ يَسْئَلُونَكَ أي: و يسألك منكروا البعث عند ذكر القيامة عَنِ الْجِبالِ ما حالها؟ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يقلعها من أماكنها، ثمّ

ص: 275

يجعلها كالرمل، ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما تذرى الحبوب.

فَيَذَرُها فيذر مقارّها، أو الأرض. و إضمارها و إن لم يجر ذكرها لدلالة الجبال عليها، كقوله تعالى: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ (1) قاعِداً خالية ملساء صَفْصَفاً أي: أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر، كأنّ أجزاءها على صفّ واحد. قال في الصحاح: «الصفصف: المستوي من الأرض» (2). لا تَرى فِيها عِوَجاً اعوجاجا وَ لا أَمْتاً و لا نتوّا يسيرا.

و اعلم أنّ هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء و الملاسة، و نفي الإعوجاج عنها على أبلغ ما يكون. و ذلك أنّك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها، و بالغت في التسوية على عينك و عيون البصراء من الفلّاحة (3)، و اتّفقتم على أنّه لم يبق فيها اعوجاج قطّ، ثمّ استطلعت رأي المهندس فيها، و أمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسيّة، لعثر في مواضع كثيرة منها على عوج لا يدرك بحاسّة النظر أو البصر، و لكن بالقياس الهندسي. فنفى اللّه عزّ و جلّ ذلك العوج الّذي دقّ و لطف عن الإدراك، اللّهمّ إلّا بالقياس الّذي يعرفه صاحب التقدير و الهندسة.

و لمّا كان ذلك الاعوجاج لم يدرك إلّا بالقياس دون الإحساس ألحقه بالمعاني، فقال فيه: عوجا بالكسر، لأنّه يخصّ بالمعاني، لا العوج بالفتح، لأنّه يخصّ بالأعيان.

فالأحوال الثلاثة مترتّبة، لأنّ الأوّلين باعتبار الاحساس، و الثالث باعتبار المقياس، كما ذكرنا.

و قال الحسن و المجاهد: العوج ما انخفض من الأرض، و الأمت ما ارتفع من

ص: 276


1- فاطر: 45.
2- الصحاح 4: 1387.
3- في هامش النسخة الخطّية: «الفلّاحة كالنسّابة، صفة الجماعة. و أصل الفلح: الشقّ. منه». و الفلّاحة جمع الفلّاح.

الروابي (1). يعني: لا ترى فيها واديا و لا رابية. و قيل: «لا ترى» استئناف مبيّن للحالين.

يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ نسفت، على إضافة اليوم إلى وقت النسف. و يجوز أن يكون بدلا ثانيا من «يَوْمَ الْقِيامَةِ». يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ داعي اللّه إلى المحشر. قيل: هو إسرافيل يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس، فيقبلون من كلّ أوب إلى صوبه.

لا عِوَجَ لَهُ لا يعوّج له مدعوّ، و لا يعدل عن ندائه، و لا يلتفتون يمينا و لا شمالا، بل يستوون إليه من غير انحراف، متّبعين لصوته.

وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ و خفضت الأصوات من شدّة الفزع لمهابته فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً صوتا خفيّا. و منه الحروف المهموسة. و قيل: هو من همس الإبل، و هو صوت أخفافها إذا مشت، أي: لا تسمع إلّا خفق أقدامهم و نقلها إلى المحشر.

يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ استثناء من الشفاعة بتقدير مضاف، أي: إلّا شفاعة من أذن. أو من أعمّ المفاعيل، أي: لا تنفع الشفاعة شخصا من الأشخاص إلّا من اذن في أن يشفع له، فإنّ الشفاعة تنفعه. ف «من» على الأوّل مرفوع على البدليّة. و على الثاني منصوب على المفعوليّة. و «أذن» يحتمل أن يكون من الإذن، كقوله:

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (2). أو من الأذن بمعنى الاستماع.

وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي: و رضي لمكانه عند اللّه قوله في الشفاعة، من الأنبياء و الأولياء و الصدّيقين و الشهداء. أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه. أو قوله لأجله و في شأنه.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما تقدّمهم من الأحوال وَ ما خَلْفَهُمْ و ما بعدهم ممّا لا يستقبلونه وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً و لا يحيط علمهم بمعلوماته. و قيل: بذاته. و قيل:

الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما، فإنّهم لم يعلموا جميع ذلك، و لا تفصيل ما

ص: 277


1- الروابي جمع الرابية، و هي ما ارتفع من الأرض.
2- البقرة: 255.

علموا منه.

وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ذلّت و خضعت له في عبادته خضوع الأسير في يد الملك القهّار. و ظاهرها يقتضي العموم.

و قيل: المراد بالوجوه الرؤساء و القادة و الملوك، أي: يذلّون و ينسلخون عن ملكهم و عزّهم.

و يجوز أن يراد بها وجوه المجرمين، فإنّهم إذا عاينوا- يوم القيامة- الخيبة و الشقوة و سوء الحساب صارت وجوههم عانية، أي: ذليلة خاشعة مثل وجوه العناة، و هم الأسارى. و نحوه قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (1).

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (2). و على هذا يكون اللام بدل الاضافة. و إنّما أسند الفعل إلى الوجوه، لأنّ أثر الذلّ يظهر عليها. و حقيقة المعنى: خضع أرباب الوجوه، و استسلموا لحكم الّذي لم يمت و لا يموت.

و يؤيّد الأخير ذكر الوعيد عقيبه بقوله: وَ قَدْ خابَ عن ثواب اللّه مَنْ حَمَلَ ظُلْماً شركا أو ظلما على العباد. و هذا استئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم، أو حال.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ يعني: بعض الطاعات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إذ الإيمان شرط في صحّة الطاعات و قبول الخيرات فَلا يَخافُ ظُلْماً منع ثواب مستحقّ بالوعد وَ لا هَضْماً و لا كسرا منه بنقصان، فإنّ الظلم أن تأخذ من صاحبك فوق حقّك، أو تمنع من حقّه، و الهضم أن تكسر من حقّ أخيك فلا توفيه له.

و قيل: لا يخاف أن يؤخذ بذنب لم يعمله، و لا أن تبطل حسنة عملها.

و قيل: المراد جزاء ظلم و هضم، لأنّه لم يظلم غيره، و لم يهضم حقّه.

و قرأ ابن كثير: فلا يخف على النهي. و المعنى: فليأمن من الظلم و الهضم.

ص: 278


1- الملك: 27.
2- القيامة: 24.

وَ كَذلِكَ عطف على كَذلِكَ نَقُصُ (1) أي: مثل إنزال هذه الآيات المتضمّنة للوعيد أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا كلّه على هذه الوتيرة وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كرّرنا فيه آيات الوعيد، و بيّنّاها على وجوه مختلفة و بألفاظ متفرّقة لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي، فتصير التقوى لهم ملكة أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً عظة و اعتبارا يذكّرهم عقاب اللّه للأمم فيثبّطهم عن النواهي. و لهذه النكتة أسند التقوى إليهم، و الإحداث إلى القرآن.

[سورة طه [20]: آية 114]

فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [114]

و لمّا صرّف اللّه سبحانه آياته من أوامره و نواهيه و وعده و وعيده و ثوابه و عقابه على حسب أعمالهم، بيّن لهم عقيبها أمر ملكوته و كبرياء شأنه و جبروت سلطانه عليهم، فقال: فَتَعالَى اللَّهُ في ذاته و صفاته عن مماثلة المخلوقين، لا يماثل كلامه كلامهم، كما لا تماثل ذاته ذاتهم الْمَلِكُ النافذ أمره و نهيه، الحقيق بأن يرجى وعده و يخشى وعيده الْحَقُ الثابت في ملكوته و يستحقّ الملك لذاته. أو الثابت في ذاته و صفاته.

و لمّا ذكر القرآن و إنزاله، نهى على سبيل الاستطراد عن الاستعجال في تلقّي الوحي من جبرئيل، و مساوقته في القراءة حتّى يتمّ وحيه، فقال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مخافة نسيانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي: إذا لقّنك جبرئيل عليه السّلام ما يوحي إليك من القرآن فلا تعجل في قراءته قبل تقضّيه، بل كن مستمعا غير متكلّم حين يسمعك و يفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفّظ بعد ذلك.

و قيل: المراد النهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتيه بيانه. فمعناه: لا تقرأه لأصحابك حتّى يتبيّن لك ما كان منه مجملا.

ص: 279


1- طه: 99.

وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: سل اللّه زيادة العلم بدل الاستعجال، فإنّ ما أوحي إليك تناله لا محالة. قيل: ما أمر اللّه رسوله بطلب الزيادة في شي ء إلّا في العلم.

روت عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى اللّه، فلا بارك اللّه لي في طلوع شمسه».

[سورة طه [20]: الآيات 115 الى 119]

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [115] وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى [116] فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [117] إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى [118] وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى [119]

و لمّا ذكر تصريف الآيات، و أمر عباده بالتذكّر بها، و أن لا يتركوها و ينسوها، لئلّا يتورّطوا في المنهيّات، عقّبه بذكر قصّة آدم و نسيانه الّذي كان سببا في نقص حظّه، و فرط ندامته على فوت ما أمر به، تأكيدا أو مبالغة لهم في التزام المأمورات و اجتناب المنهيّات، فقال عطفا على قوله: «و صرّفنا فيه»: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ و لقد أمرناه. و يقال في أوامر الملوك و وصاياهم: تقدّم الملك إلى فلان، و أوعز إليه، و عزم عليه، و عهد إليه، إذا أمره.

و اللام جواب قسم محذوف، أي: و أقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم.

مِنْ قَبْلُ من قبل وجودهم، و من قبل أن نتوعّدهم، و وصّيناه أن لا يقرب الشجرة، و توعّدناه بالدخول في الظالمين إن قربها فَنَسِيَ العهد، و لم يهتمّ به، و لم يستوثق منها بعقد القلب عليها و ضبط النفس، حتّى غفل عنه، و تولّد من ذلك النسيان. أو ترك ما وصّى به من الاحتراز عن الشجرة و أكل ثمرتها، فخالف إلى ما نهي عنه، و توعّد في ارتكابه مخالفتهم، و لم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون إليه. كأنّه يقول: إنّ أساس

ص: 280

أمر بني آدم على ذلك، و عرقهم راسخ فيه.

وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً عقدا لازما، و تصميم رأي، و ثباتا على الأمر، إذ لو كان ذا عزيمة و تصلّب لم يزلّه الشيطان، و لم يستطع تغريره. و يحتمل أن يكون ذلك في بدء أمره، قبل أن يجرّب الأمور، و يذوق شريها و أريها (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه، و قد قال اللّه تعالى: «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً».

و قيل: عزما على الذنب، لأنّه أخطأ و لم يتعمّد. و «لم نجد» إن كان من الوجود الّذي بمعنى العلم ف «له عزما» مفعولاه. و إن كان من الوجود المناقض للعدم- بمعنى:

و عدمنا له عزما- ف «له» حال من «عزما» أو متعلّق ب «نجد».

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ مقدّر ب: «اذكر، أي: و اذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس، و وسوسته إليه، و تزيينه له الأكل من الشجرة، و طاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة و الموعظة البليغة، و التحذير من كيده، حتّى يتبيّن لك أنّه نسي و لم يكن من أولي العزيمة و الثبات.

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ و في الكشّاف: «إن قلت: إبليس كان جنّيّا، بدليل قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (2). فمن أين تناوله الأمر و هو للملائكة خاصّة؟

قلت: كان في صحبتهم، و كان يعبد اللّه تعالى عبادتهم، فلمّا أمروا بالسجود لآدم عليه السّلام و التواضع له كرامة له، كان الجنّي الّذي معهم أجدر بأن يتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية (3) أهله و سراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة

ص: 281


1- الشري: الحنظل. و الأري: العسل. و المعنى: أن ذلك قبل أن يجرّب الأمور، و يذوق مرّها و حلوها.
2- الكهف: 50.
3- علية القوم: جلّتهم و أشرافهم. و السراة: السيّد الشريف.

أوجب، حتى إن لم يقم عنّف و قيل له: قد قام فلان و فلان فمن أنت حتّى تترفّع عن القيام؟

فإن قلت: فكيف صحّ استثناؤه و هو جنّي من الملائكة؟

قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم و عليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلّا فلانة، لامرأة بين الرجال» (1).

و مزيد تحقيق البحث في هذا المبحث قد سبق (2) في سورة البقرة.

و قوله: أَبى جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، و هو الاستكبار، كأنّه جواب قائل قال: لم لم يسجد؟ و الوجه أن لا يقدّر له مفعول، و هو السجود المدلول عليه بقوله: «فسجدوا»، و أن يكون معناه: أظهر الإباء عن المطاوعة.

فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما فلا يكوننّ سببا.

لإخراجكما. و المراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يسبّب الشيطان إلى إخراجهما. مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى فتحرم من نعيمها. أفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج، اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها، من حيث إنّه قيّم عليها، فإنّ الرجل قيّم أهله، لقوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ (3). فشقاوتها و سعادتها في ضمن شقاوته و سعادته. مع المحافظة على الفواصل. أو لأنّ المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش و الاكتساب، و ذلك وظيفة الرجال.

و عن سعيد بن جبير: أنّه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه و يمسح العرق من جبينه، فذلك هو الشقاوة.

و يؤيّده قوله مستأنفا لتذكير ما له في الجنّة بلا تعب: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها في الجنّة وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا لا تعطش فِيها وَ لا تَضْحى و لا يصيبك حرّ

ص: 282


1- الكشّاف 3: 91.
2- راجع ج 1 ص 132.
3- النساء: 34.

الشمس، فإنّه ليس فيها شمس، و إنّما فيها ضياء و نور و ظلّ ممدود. يعني: أنّ لك أسباب الكفاية في الجنّة، و الأقطاب الّتي يدور عليها كفاف الإنسان، من الشبع و الريّ و الكسوة و الكنّ (1). فذكر سبحانه استجماعها له في الجنّة، و أنّه مكفيّ لا يحتاج إلى كفاية كاف، و لا إلى كسب كاسب، كما أنّ أهل الدنيا يحتاجون إلى ذلك. و ذكرها بلفظ النفي لنقائضها الّتي هي الجوع و العرى و الظمأ و الضحو، ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة الّتي حذّره منها، حتّى يتحذّر عن السبب الموقع فيها كراهة لها.

و الواو العاطفة و إن نابت عن «إنّ» لكنّها نابت من حيث إنّها نابت عن كلّ عامل، و لم يكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصّة. فدخولها على «أن» لا من حيث إنّها حرف تحقيق، فلا يمتنع اجتماعها مع «أن» كما امتنع اجتماع «إنّ» و «أن». فلا يرد أنّ «إنّ» لا تدخل على «أن»، فلا يقال: إنّ أن زيدا منطلق، و الواو نائبة عن «إنّ» و قائمة مقامها، فلم أدخلت عليها؟

و قرأ نافع و أبو بكر: و إنّك لا تظمأ، بكسر الهمزة. و الباقون بفتحها.

[سورة طه [20]: الآيات 120 الى 123]

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى [120] فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [121] ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى [122] قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى [123]

ص: 283


1- الكنّ: البيت.

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فأنهى إليه الوسوسة، فإنّ وسوسة الشيطان كولولة الثكلى و وعوعة الذئب و وقوقة الدجاجة، في أنّها حكايات للأصوات، و حكمها حكم:

صوّت و أجرس. فإذا قلت: وسوس له، فمعناه: لأجله. و إذا قلت: وسوس إليه، معناه:

أنهى إليه الوسوسة، كقولك: حدّث إليه، و أسرّ إليه. و كذلك الولولة و الوقوقة و الوعوعة.

قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ الشجرة الّتي من أكل منها خلد و لم يمت أصلا. فأضافها إلى الخلد- و هو الخلود- لأنّها سببه بزعم الشيطان. وَ مُلْكٍ لا يَبْلى لا يزول و لا يضعف.

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما فظهرت لهما عوراتهما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستّر. و هو ورق التين.

و حكم «طفق» حكم «كاد» في وقوع الخبر فعلا مضارعا. و بينهما مسافة قصيرة، فإنّ «طفق» للشروع في أوّل الأمر، و «كاد» لمشارفته و الدنوّ منه.

قيل: كان الورق مدوّرا، فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. و قيل: كان لباسهما الظفر، فلمّا أصابا الخطيئة نزع عنهما، و تركت هذه البقايا في أطراف الأصابع.

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ بأكل الشجرة، أي: خالف ما أمره به ربّه. و المعصية مخالفة الأمر، سواء كان الأمر واجبا أو ندبا. فَغَوى أي: خاب من الثواب الّذي كان يستحقّه على الفعل المأمور به. أو خاب ممّا كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود. أو عن المأمور به. أو عن الرشد، حيث اغترّ بقول العدوّ. و في إسناد العصيان و الغواية إليه، مع صغر زلّته الّتي هي ترك الأولى، تعظيم للزلّة، و زجر لأولاده عنها.

و عن ابن عبّاس: لا شبهة في أنّ آدم عليه السّلام لم يمتثل ما رسم اللّه له، و تخطّى فيه ساحة الطاعة- يعني: الطاعة المندوبة- و ذلك هو العصيان.

و لمّا عصى خرج فعله من أن يكون رشدا و خيرا، و كان غيّا لا محالة، لأنّ الغيّ خلاف الرشد، و لكن في قوله: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى بهذا الإطلاق و بهذا التصريح-

ص: 284

حيث لم يقل: و زلّ آدم و أخطأ، و ما أشبه ذلك ممّا يعبّر به عن الزلّات الّتي هي ارتكاب ما هو تركه أولى و أصوب- لطف بالمكلّفين، و زجر بليغ، و موعظة كافّة. و كأنّه قيل لهم:

انظروا و اعتبروا كيف نعيت على النبيّ المعصوم حبيب اللّه عزّ و جلّ و صفيّه، الّذي لا يجوز عليه اقتراف الكبيرة و الصغيرة، و زجرته عن ترك الأولى بهذه الغلطة و بهذا اللفظ الشنيع؟! فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيّئات و الصغائر، فضلا عن التجسّر على التورّط في الكبائر.

ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ اصطفاه و قرّبه إليه بالتوبة عمّا صدر منه من ترك الندب. من:

جبى إليّ كذا فاجتبيته، مثل: جليت عليّ العروس فاجتليتها. و أصل الكلمة الجمع.

يقال: اجتبت الفرس نفسها، إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. فَتابَ عَلَيْهِ رجع إليه، و قبل توبته لمّا تاب وَ هَدى إلى الثبات على التوبة، و وفّقه لحفظها، و التشبّث بأسباب التقوى. و قيل: هداه إلى الكلمات الّتي تلقّاها منه.

قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً الخطاب لآدم و حوّاء، أو له و لإبليس. و لمّا كان آدم و حوّاء أصلي البشر، و السّببين اللّذين منهما نشؤا و تفرّعوا، جعلا كأنّهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب و التحارب. أو لاختلال حال كلّ من النوعين بواسطة الآخر. أو الخطاب لآدم و حوّاء و إبليس. و يؤيّد الأوّل قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً كتاب و رسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ في الدنيا عن طريق الدين وَ لا يَشْقى في الآخرة عن الثواب الدائم.

عن ابن عبّاس: ضمن اللّه لمن اتّبع القرآن أن لا يضلّ في الدنيا و لا يشقى في الآخرة. ثمّ تلا قوله: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى .

و المعنى: أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتّبع كتاب اللّه عزّ و جلّ، و امتثل أوامره، و انتهى عن نواهيه، نجا من الضلال و من عقابه.

ص: 285

[سورة طه [20]: الآيات 124 الى 127]

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [124] قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً [125] قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [126] وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى [127]

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي عن الهدى الذاكر لي، و الداعي إلى عبادتي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيّقا. مصدر وصف به، و لذلك يستوي فيه المذكّر و المؤنّث. و ذلك لأنّ المعرض عن الدين مجامع همّته و مطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا، متهالكا مفرط الحرص على ازديادها، خائفا على انتقاصها، شحيحا على إنفاقها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، فإن مع الدين التسليم و القناعة و التوكّل

على اللّه و على قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح و سهولة، فيعيش عيشا رافها، كما قال عزّ و جلّ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً (1). مع أنّه تعالى قد يضيّق بشؤم الكفر، و يوسّع ببركة الإيمان، كما قال:

وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ (2). و قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (3). وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ (4). و قال: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ

ص: 286


1- النحل: 97.
2- البقرة: 61.
3- المائدة: 66.
4- الأعراف: 96.

غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (1). و قال: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (2).

و عن بعض العلماء: لا يعرض أحد عن ذكر ربّه إلّا أظلم عليه وقته، و تشوّش عليه رزقه. و عن الحسن: المعيشة الضنك هي طعام الضريع و الزقّوم في النار. و عن أبي سعيد الخدري: هو عذاب القبر.

وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أعمى البصر. و هذا مثل قوله: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا (3).

روى معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل لم يحجّ و له مال؟

قال: هو ممّن قال اللّه تعالى: و نحشره يوم القيمة أعمى فقلت: سبحان اللّه أعمى؟ قال:

أعماه اللّه عن طريق الحقّ».

و عن مجاهد: أعمى عن الحجّة. يعني: أنّه لا حجّة له يهتدي إليها. و الأوّل هو الوجه، لأنّه الظاهر، و لا مانع منه. و يدلّ عليه الآية المذكورة و قوله: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً و قد أمالهما حمزة و الكسائي، لأنّ الألف منقلبة من الياء. و فرّق أبو عمرو بأنّ الأوّل رأس الآية و محلّ الوقف، فهو جدير بالتغيير.

قالَ كَذلِكَ أي: مثل ذلك فعلت أنت. ثمّ فسّره فقال: أَتَتْكَ آياتُنا واضحة نيّرة فَنَسِيتَها فلم تنظر إليها بعين المعتبر، و لم تتبصّر، و تركتها و عميت عنها، فكأنّك نسيتها وَ كَذلِكَ و مثل تركك إيّاها الْيَوْمَ تُنْسى أي: جعلناك في العمى و العذاب كالشي ء المنسيّ. يعني: نتركك في العمى و العذاب، و لا نزيل الغطاء عن عينيك.

وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الجزاء نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ بالانهماك في الشهوات

ص: 287


1- نوح: 10- 11.
2- الجنّ: 16.
3- الإسراء: 97.

المنهيّة، من الشرك و فرط الإعراض عن الآيات الناهية وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ و لم يصدّقها، بل كذّب بها و خالفها.

و لمّا توعّد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، و حشره أعمى في الآخرة، ختم آيات الوعيد بقوله: وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ و هو الحشر على العمى الّذي لا يزول ابدا، أو عذاب النار الدائمي، أو كلاهما أَشَدُّ وَ أَبْقى من ضنك العيش المنقضي.

أو: و لتركنا إيّاه في العمى أشدّ و أبقى من تركه لآياتنا.

[سورة طه [20]: الآيات 128 الى 129]

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [128] وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى [129]

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مسند إلى ما دلّ عليه قوله: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي:

إهلاكنا إيّاهم. أو إلى الجملة، أي ألم يهد لهم هذا الكلام؟ و نظيره قوله تعالى: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (1) أي: تركنا عليه هذا الكلام. و يجوز

أن يكون فيه ضمير اللّه أو الرسول. و يدلّ عليه قراءته بالنون. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يمرّون بمساكن عاد و ثمود، و يشاهدون علامات هلاكهم حين يتّجرون إلى الشام.

إِنَّ فِي ذلِكَ في إهلاكنا إيّاهم لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى لذوي العقول الناهية عن التغافل و التعامي. و فيه تنبيه لهم و تخويف، أي: أ فلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بهؤلاء؟! وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ و هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمّة إلى الآخرة

ص: 288


1- الصافّات: 78- 79.

لَكانَ لِزاماً لكان مثل ما نزل بعاد و ثمود لازما لهؤلاء الكفرة. و هو مصدر وصف به. أو فعال بمعنى مفعل، أي: ملزم. و هو اسم آلة سمّي به اللازم، لفرط لزومه. وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عطف على «كلمة» أي: و لو لا العدة بتأخير العذاب، و أجل مسمّى لأعمارهم أو لعذابهم، و هو يوم القيامة أو يوم بدر، لكان العذاب لزاما. و الفصل للدلالة على استقلال كلّ منهما بنفي لزوم العذاب. و يجوز عطفه على المستكن في «كان» أي: لكان الأخذ العاجل و أجل مسمّى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد و ثمود.

[سورة طه [20]: الآيات 130 الى 132]

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [130] وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى [131] وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [132]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالصبر على أذاهم، فقال: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من تكذيبك، و أذاهم إيّاك وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ و صلّ و أنت حامد لربّك على هدايته لك، و توفيقك لأداء الصلاة، و إعانتك عليه. أو المراد التسبيح على ظاهره، أي: نزّهه عن الشرك و سائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامدا له على ما ميّزك بالهدى، معترفا بأنّه مولي النعم كلّها.

و يؤيّد الأوّل ظاهر قوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني: الفجر وَ قَبْلَ غُرُوبِها يعني: الظهر و العصر، لأنّهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس

ص: 289

و غروبها. أو العصر وحده.

وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ و من ساعاته. جمع إنى بالكسر و القصر، أو أناء بالفتح و المدّ.

فَسَبِّحْ فصلّ. يعني: المغرب و العشاء، فإنّ «من» للابتداء. و المعنى: إنّ أوّل الليل ابتداء وقت العشاءين. و عن ابن عبّاس رضى عنه اللّه: صلاة الليل. و «من» للتبعيض.

و إنّما قدّم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل، لأنّ القلب فيه أجمع، و النفس فيه أميل إلى الاستراحة، فالعبادة فيه على النفس أشقّ و أحمز، و للبدن أتعب و أنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف و أفضل، كما

قال عليه السّلام: «أفضل الأعمال أحمزها».

و لذلك قال اللّه تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا (1).

وَ أَطْرافَ النَّهارِ تكرير لصلاتي الصبح و المغرب، إرادة الاختصاص، كما اختصّت في قوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (2). و مجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، كقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (3). و قول الشاعر: ظهراهما مثل ظهور الترسين (4).

و فيه نظر، لأنّ طرفي الشي ء منه لا خارج عنه. و صلاة المغرب يقع في الليل، فكيف يكون في النهار؟ اللّهمّ إلّا أن يكون إسناد الطرف إلى وقت المغرب على سبيل التجوّز، تسمية باسم مجاوره و ملاصقه. أو يراد بالنهار من الصبح إلى ذهاب الحمرة

ص: 290


1- المزّمّل: 6.
2- البقرة: 238.
3- التحريم: 4.
4- لخطام المجاشعي، صدره: و مهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين و المهمه: المفازة و الصحراء. يقال: فلاة قذف أو قذف، أي: تتقاذف بمن سلكها. و المرت: القفر و الصحراء لا ماء فيه و لا نبات. و الترس: حيوان ناتئ الظهر. ثنّى الشاعر «ظهراهما» على الأصل، و جمع فيما بعد لأمن اللبس.

المغربيّة، كما قال بعضهم.

و قيل: المراد منه الأمر بصلاة الظهر، فإنّه نهاية النصف الأوّل من النهار و بداية النصف الأخير. و جمعه باعتبار النصفين، أو لأنّ النهار جنس. أو المراد العصر، و إعادتها لأنّها الوسطى عند الأكثر. و على هذا جمعه باعتبار أنّها أوقات العصر في النصف الأخير من النهار، فيصدق على كلّ ساعة أنّها طرف. أو المراد التطوّع في أجزاء النهار. و من حمل التسبيح على الظاهر، أراد المداومة على التسبيح و التحميد على عموم الأوقات.

لَعَلَّكَ تَرْضى متعلّق ب «سبّح» أي: سبّح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند اللّه ما به ترضى نفسك، من الشفاعة و الدرجة الرفيعة و المرتبة العليّة. و قيل: بجميع ما وعدك اللّه به، من النصر و إعزاز الدين في الدنيا، و الشفاعة و سموّ المرتبة في العقبى.

و قرأ أبو بكر و الكسائي بالبناء للمفعول، أي: يرضيك ربّك.

روي عن أبي رافع: نزل برسول اللّه ضيف، فبعثني إلى يهوديّ، فقال: قل: إنّ رسول اللّه يقول: أقرضني كذا من الدقيق إلى هلال رجب. فأتيته فقلت له. فقال: و اللّه لا أقرضه إلّا برهن. فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرته. فقال: و اللّه لو أسلفني لقضيته، و إنّي لأمين في السماء و أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه. فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسلية له عن حطام الدنيا:

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي: نظر عينيك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ استحسانا له، و تمنّيا أن يكون لك مثله، فإنّ مدّ النظر هاهنا عبارة عن تطويله بحيث لا يكاد يردّه، استحسانا للمنظور إليه و إعجابا به، و تمنّيا أن يكون له، كما فعل نظّارة قارون حين قالوا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (1) حتّى واجههم أولوا العلم و الإيمان ب وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً « (2)».

ص: 291


1- القصص: 79.
2- القصص:80.

و فيه: أنّ النظر غير الممدود معفوّ عنه، و ذلك مثل نظر من باده (1) الشي ء بالنظر ثمّ غضّ الطرف، و منه: النظرة الأولى لك لا الثانية. و لمّا كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، و أن من أبصر منها شيئا أحبّ أن يمدّ إليه نظره و يملأ منه عينيه، قيل: «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» أي: لا تفعل ما كان من عادة الطبيعة و مقتضاها.

أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة. و يجوز أن يكون حالا من الضمير في «به»، و المفعول «منهم». كأنّه قيل: إلى الّذي متّعنا به. و هو أصناف بعضهم، أو ناسا منهم.

زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا منصوب بالذمّ، و هو من أنواع النصب على الاختصاص.

أو بالبدل من محلّ به، أو من أزواجا، بتقدير مضاف، أي: ذوي زهرة. أو مفعول ثان ل «متّعنا» على تضمين معنى: أعطينا و خوّلنا. و هي الزينة و البهجة.

و قرأ يعقوب بفتح الهاء. و هي لغة، كالجهرة و الجهرة.

أو جمع زاهر، وصفا لهم بأنّهم زاهر و هذه الدنيا، لتنعّمهم، و بهاء زيّهم، و صفاء ألوانهم، و تهلّل (2) وجوههم، و طراوة نظرهم ممّا يلهون و يتنعّمون، بخلاف ما عليه المؤمنون الزهّاد.

و لقد شدّد العلماء من أهل التقوى و الزهّاد في وجوب غضّ البصر عن أبنية الظلمة، و عدد الفسقة في اللباس و المراكب و غير ذلك، لأنّهم إنّما اتّخذوا هذه الأشياء لعيون النظّارة، فالناظر إليها محصّل لغرضهم، و كالمغري لهم على اتّخاذها.

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبلوهم و نختبرهم فيه، أي: لنعاملهم معاملة المختبر، بشدّة التعبّد في أداء الحقوق، و صرفه في مصرفه المأمور به.

و قيل: معناه: لنشدّد عليهم التعبّد، بأن نكلّفهم متابعتك و الطاعة لك، مع كثرة أموالهم و قلّة مالك، فيستوجبوا العذاب الأليم عند تمرّدهم و استكبارهم.

و قيل: معنى الفتنة: العذاب، أي: لنعذّبهم في الآخرة بسببه، لأنّ اللّه قد يوسّع

ص: 292


1- باده الشي ء: بغته و فاجأه.
2- تهلّل وجه فلان: تلألأ من السرور.

الرزق على بعض أهل الدنيا تعذيبا له، كما قال: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (1).

وَ رِزْقُ رَبِّكَ و ما ادّخر لك في الآخرة خَيْرٌ ممّا منحهم في الدنيا وَ أَبْقى فإنّه لا ينقطع. أو ما رزقك من نعمة الإسلام و النبوّة خير منه و أدوم. أو ما رزقك من الحلال الطيّب خير من أموالهم المحرّمة الخبيثة، فإنّ الغالب عليها الغصب و السرقة و الربا، و أبقى بركة.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يأمر أهل بيته بالصلاة، بعد ما أمره بها، ليتعاونوا على الاستعانة بها على فقرهم، و لا يهتمّوا بأمر المعيشة، و لا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، فقال:

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أي: أهل بيتك. و قيل: التابعين من أمّتك. وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها و اصبر على فعلها، و داوم عليها.

لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي: أن ترزق نفسك و لا أهلك نَحْنُ نَرْزُقُكَ و إيّاهم، فلا تهتمّ بأمر الرزق و المعيشة، و فرّغ بالك لأمر الآخرة وَ الْعاقِبَةُ المحمودة لِلتَّقْوى لذوي التقوى.

و يؤيّد أنّ الآية نزلت في أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما روي عن أبي سعيد الخدري: «لمّا نزلت هذه الآية كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأتي باب فاطمة و عليّ عليهما السّلام تسعة أشهر وقت كلّ صلاة، فيقول: الصلاة رحمكم اللّه إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ (2) الآية».

و ما روي عن أبي جعفر عليه السّلام: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخصّ أهله دون الناس، ليعلم الناس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست للناس، فأمرهم مع الناس عامّة، ثمّ أمرهم خاصّة».

و روي أيضا أنّه إذا أصاب أهله فقرا أمرهم بالصلاة، و تلا هذه الآية.

ص: 293


1- الأعراف: 182- 183.
2- الأحزاب: 33.

و عن بكر بن عبد اللّه المزني قال: كان إذا أصابت أهله خصاصة قال: قوموا فصلّوا، بهذا أمر اللّه رسوله، ثمّ يتلو هذه الآية.

و عن بعضهم: من دان (1) في عمل اللّه، كان اللّه في عمله.

و عن عروة بن الزبير: أنّه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» الآية، ثمّ ينادي الصلاة الصلاة.

[سورة طه [20]: الآيات 133 الى 135]

وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى [133] وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى [134] قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى [135]

و لمّا اقترح الكفّار المعاندون على عادتهم في التعنّت آية على النبوّة، مع وضوحها عندهم بالمعجزات الباهرة، قال اللّه تعالى في عنادهم و لجاجهم:

وَ قالُوا أي: كفّار قريش لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ مقترحة، إنكارا لما جاء به من الآيات، أو للاعتداد به تعنّتا و عنادا. فألزمهم اللّه بإتيانه بالقرآن الّذي هو أمّ المعجزات و أعظمها و أبقاها، فقال: أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى من التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماويّة، فإنّ اشتمال القرآن على زبدة ما فيها من العقائد و الأحكام الكلّيّة، مع أنّ الآتي بها أمّي لم يرها و لم يتعلّم ممّن علمها، إعجاز بيّن.

ص: 294


1- أي: أطاع و ذلّ.

و فيه إشعار بأنّه كما يدلّ على نبوّته، برهان لما في سائر الكتب المنزلة، و دليل صحّته، لأنّه معجزة، و تلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى حجّة تشهد على صحّتها.

و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص: أو لم تأتهم بالتاء. و الباقون بالياء.

و لمّا كان حقيقة المعجزة اختصاص مدّعي النبوّة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة، و لاخفاء على من له أدنى مسكة أنّ العلم أصل العمل، و أعلى منه قدرا، و أبقى أثرا، فالقرآن الّذي أعجزهم عن إتيان مثل آية منه، مع أنّهم أفصح فصحاء العرب و أبلغ بلغائهم، المشتمل على خلاصة العقائد الحقّة و قواعد الأحكام السنيّة التي في الكتب السالفة، مع أميّة الآتي به، أبين المعجزات و أمتن البيّنات.

و قيل: معناه: أو لم يأتهم في القرآن

بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم الّتي أهلكناهم، لمّا اقترحوا الآيات ثمّ كفروا بها، فما ذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أولئك؟

وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ من قبل بعث محمد، أو البيّنة و التذكير، لأنّها في معنى البرهان. أو المراد بها نزول القرآن. لَقالُوا يوم القيامة رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إلى طاعتك، و يرشدنا إلى دينك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ فنعمل بما فيها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ بالقتل و السبي في الدنيا وَ نَخْزى بدخول النار يوم القيامة. فقطعنا عذرهم بإرسال الرسل، فلم يبق لهم معذرة.

و فيه دلالة على وجوب اللطف، فإنّه إنّما بعث الرسول لكونه لطفا، و لو لم يبعثه لكان للخلق حجّة عليه سبحانه، فكان في البعثة قطع العذر و إزاحة العلّة.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قُلْ كُلٌ أي: كلّ واحد منّا و منكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لما يؤول إليه أمرنا و أمركم. فنحن ننتظر وعد اللّه لنا فيكم، و أنتم تتربّصون بنا الدوائر.

فَتَرَبَّصُوا أمر على وجه التهديد فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ

ص: 295

الدين المستقيم. و السويّ بمعنى الوسط، أي: الخيار و الجيّد، أو المستوي. وَ مَنِ اهْتَدى من الضلالة. أو من اهتدى إلى طريق الجنّة، نحن أم أنتم.

و «من» في الموضعين للاستفهام. و محلّها الرفع بالابتداء. و يجوز أن تكون الثانية موصولة، بخلاف الأولى، لعدم العائد. فتكون معطوفة على محلّ الجملة الاستفهاميّة المعلّق عنها الفعل، على أنّ العلم بمعنى المعرفة. أو على «أصحاب» أو على «الصراط» على أنّ المراد به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 296

[21] سورة الأنبياء

اشارة

مكّيّة كلّها. و هي مائة و اثنتا عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه اللّه حسابا يسيرا، و صافحه و سلّم عليه كلّ نبيّ ذكر اسمه في القرآن».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان ممّن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم، و كان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا».

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [1] ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ [2] لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [3]

ص: 297

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة طه بذكر الوعيد، افتتح هذه السورة بذكر القيامة، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ اقتربه بالإضافة إلى ما مضى، لأنّ ما بقي من الدنيا أقصر و أقلّ ممّا سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الموعود مبعثه في آخر الزمان. و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بعثت في نسم الساعة»

أي: أوّلها. و قال أيضا: «بعثت أنا و الساعة كهاتين»

و أشار إلى إصبعيه. و من خطبة أمير المؤمنين عليه السّلام: «ولّت الدنيا حذّاء، و لم تبق إلّا صبابة كصبابة الإناء» (1).

و إذا كانت بقيّة الشي ء- و إن كثرت في نفسها- قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليفة بأن توصف بالقلّة.

أو المراد اقترابه عند اللّه، لقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً (2).

و قوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (3). أو لأنّ كلّ ما هو آت قريب، و إنّما البعيد ما انقرض و مضى.

و المراد اقتراب الساعة، و إذا اقتربت فقد اقترب ما فيها من الحساب و الثواب و العقاب، و غير ذلك. و نحوه: وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ (4).

و اللام صلة ل «اقترب». أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم. و أصله: اقترب حساب الناس، ثم اقترب للناس الحساب، ثمّ اقترب للناس حسابهم، كقولك: أزف (5) للحيّ رحيلهم. الأصل: أزف رحيل الحيّ، ثمّ أزف للحيّ الرحيل، ثمّ أزف للحيّ رحيلهم.

و منه قولهم: لا أبالك، لأنّ اللام مؤكّدة لمعنى الإضافة. و هذا الوجه أغرب من أن يكون للصلة.

ص: 298


1- نهج البلاغة (محمد عبده) 93. و الحذّاء: الماضية السريعة.
2- المعارج: 6- 7.
3- الحجّ: 47.
4- الأنبياء: 97.
5- أي: اقترب.

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالناس المشركون. و هذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه.

و وجه اختصاصهم بالكفّار تقييدهم بقوله: وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عن الحساب مُعْرِضُونَ عن التفكّر في عاقبته، و لا يتفطّنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنّه لا بدّ من جزاء المحسن و المسي ء. و هما خبران للضمير. و يجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في «معرضون». و قد تضمّنت الآية الحثّ على الاستعداد ليوم القيامة.

ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ينبّههم عن سنة الغفلة و الجهالة. و هو طائفة نازلة من القرآن. مِنْ رَبِّهِمْ صفة ل «ذكر» أو صلة ل «يأتيهم» مُحْدَثٍ يحدث اللّه لهم آية بعد آية، و يجدّد لهم سورة بعد سورة إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ يستهزؤن به و يستسخرون منه، لتناهي غفلتهم، و فرط إعراضهم عن النظر في الأمور، و التفكّر في العواقب.

و عجز الآية حال من الواو. و كذلك لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي: استمعوه جامعين بين الاستهزاء و التلهّي و الذهول عن التفكّر فيه. و يجوز أن يكون حالا من واو «يلعبون».

و تنقيح المعنى: أنّهم إذا نبّهوا عن سنة الغفلة، و فطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات و النذر، أعرضوا عن التفكّر، و سدّوا أسماعهم و نفروا. و قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبّه و إيقاظ الموقظ، بأنّ اللّه يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا، و يحدث لهم آية بعد آية، و سورة بعد سورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه و الموعظة، لعلّهم يتّعظون. فما يزيدهم استماع الآي و السور، و ما فيها من فنون المواعظ و البصائر الّتي هي أحقّ الحقّ و أجدّ الجدّ، إلّا لعبا و تلهّيا و استهزاء و استسخارا.

وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى ذكر التناجي بعد الإسرار- و إن لم يكن إلّا إسرارا- للمبالغة. و المعنى: بالغوا في إخفائها، أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم، و لا

ص: 299

يعلم أنّهم متناجون.

الَّذِينَ ظَلَمُوا بدل من واو «و أسرّوا» للإيماء بأنّهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو فاعل له، و الواو لعلامة الجمع على لغة من قال: أكلوني البراغيث. أو مبتدأ و الجملة المتقدّمة خبره. و أصله: و هؤلاء أسرّوا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر، تسجيلا على فعلهم بأنّه ظلم. أو منصوب على الذمّ.

و قوله: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في موضع النصب بدلا من النجوى، أو مفعولا لقول مقدّر. كأنّهم استدلّوا بكونه بشرا على كذبه في ادّعاء الرسالة، لاعتقادهم أنّ الرسول لا يكون إلّا ملكا، و استلزموا منه أنّ ما جاء به من الخوارق- كالقرآن- سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: أ فتحضرون السحر و أنتم تشاهدون و تعاينون أنّه سحر؟! و إنّما أسرّوا بهذا الحديث و بالغوا في إخفائه، تشاورا في استنباط ما يهدم أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يظهر فساده للناس عامّة، فينفّروهم عنه بشيئين: أحدهما: أنّه بشر.

و الآخر: أنّ ما أتى به سحر.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 4 الى 7]

قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [4] بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [5] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ [6] وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [7]

ثم أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: قالَ يا محمّد. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص:

قال، بالإخبار عن رسوله. يعني: قال محمّد لهؤلاء الكفرة المتشاورين سرّا: رَبِّي يَعْلَمُ

ص: 300

الْقَوْلَ جهرا كان أو سرّا فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ و إنّما لم يقل: يعلم السرّ، ليطابق قوله: و أسرّوا النجوى، لأنّ القول عامّ يشمل السرّ و الجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ و زيادة. فكان آكد في بيان الاطّلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ، كما أنّ قوله: يعلم السرّ، آكد من أن يقول: يعلم سرّهم.

فلذلك اختير القول هاهنا، و ليطابق قوله: «وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى» في المبالغة.

ثمّ بيّن ذلك بقوله: وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بضمائرهم و أفعالهم، فلا يخفى عليه ما يسرّون و لا ما يضمرون.

بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ إضراب لهم عن قولهم: هو سحر، إلى أنّه تخاليط أحلام خيّلت إليه في المنام. ثمّ إلى أنّه كلام اختلقه من تلقاء نفسه.

ثمّ إلى أنّه كلام شعريّ يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها و يرغّبه فيها. و هكذا المبطل متحيّر، رجّاع، غير ثابت على قول واحد.

و الظاهر أنّ «بل» الأولى لتمام حكاية ما مضى و الابتداء بأخرى. أو للإضراب عن تحاورهم في شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما ظهر عليه من الآيات، إلى تقاولهم في أمر القرآن.

و يجوز أن يكون الكلّ من اللّه، تنزيلا لأقوالهم في درج الفساد، لأنّ كونه شعرا ابعد من كونه مفترى، لأنّه مشحون بالحقائق و الحكم، و ليس فيه ما يناسب قول الشعراء.

و المفترى أبعد من كونه أحلاما، لأنّه مشتمل على مغيّبات كثيرة طابقت الواقع، و المفترى لا يكون كذلك، بخلاف الأحلام. و لأنّهم جرّبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نيّفا و أربعين سنة، و ما سمعوا منه كذبا قطّ. و أضغاث الأحلام أبعد من كونه سحرا، لأنّه يجانسه من حيث إنّهما من الخوارق.

فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي: كما أرسل به الأولون، مثل اليد البيضاء و العصا و إبراء الأكمه و إحياء الموتى. و صحّة التشبيه من حيث إنّ الإرسال في معنى: كما

ص: 301

أتى الأوّلون بالآيات، لأنّ إرسال الرسل متضمّن للإتيان بالآيات. ألا ترى أنّه لا فرق بين أن تقول: أرسل محمّد، و بين قولك: أتى محمد بالمعجزة.

ثمّ بيّن علّة عدم إيتاء الآيات المقترحة بقوله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية أَهْلَكْناها باقتراح الآيات لمّا جاءتهم أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ لو جئتهم بها و هم أعتى منهم.

و فيه تنبيه على أنّ عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم، إذ لو

أتى به و لم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم، و قد حكم سبحانه في هذه الأمّة أن لا يعذّبهم عذاب الاستئصال.

ثمّ أجاب سبحانه عن قولهم: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا من بني آدم نُوحِي إِلَيْهِمْ قرأ حفص: نوحي بالنون فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أهل الكتاب، فإنّ الذكر التوراة و الإنجيل. و قيل: هم أهل العلم بأخبار من مضى، سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر حال الرسل المتقدّمة، حتّى يعلموهم أنّ رسل اللّه الموحى إليهم كانوا بشرا، و لم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا. و الإحالة عليهم إمّا للإلزام، فإنّ المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل يثقون بقولهم. و أمّا لأنّ إخبار الجمّ الغفير يوجب العلم، و إن كانوا كفّارا.

و عن ابن زيد: أن أهل الذكر هم أهل القرآن. يعني: العلماء بالقرآن الّذي بيّن فيه أحوال الأنبياء و أممهم السالفة.

و روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: نحن أهل الذكر. و روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 8 الى 9]

وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ [8] ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [9]

ص: 302

ثمّ نفى لما اعتقدوا من أنّ الوحي و الرسالة و النبوّة من خواصّ الملائكة الّذين لا يحتاجون إلى الطعام، و لا يليق بحالهم الموت، فقال: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ أي: ما أخرجناهم عن حدّ البشريّة و لوازمها بالوحي و إعطاء النبوّة.

و قيل: هذا جواب لقولهم: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ (1)

و ما كانُوا خالِدِينَ تأكيد و تقرير له، فإنّ التعيّش بالطعام من توابع التحليل المؤدّي إلى الفناء.

و توحيد الجسد لإرادة الجنس. أو لأنّه مصدر في الأصل. أو على حذف المضاف، أي: ذوي جسد. و هو جسم ذو لون، و لذلك لا يطلق على الماء و الهواء. و منه:

الجساد للزعفران. و قيل: جسم ذو تركيب، لأنّ أصله لجمع الشي ء و اشتداده.

ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي: في الوعد. مثل: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ (2) أي:

من قومه. و المعنى: أنجزنا ما وعدناهم به من النصر و الظهور على الأعداء.

فَأَنْجَيْناهُمْ من كيد أعدائهم وَ مَنْ نَشاءُ و أنجينا المؤمنين بهم، و من في إيقائه حكمة، كمن سيؤمن هو أو أحد من ذرّيّته. و لذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال.

وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ على أنفسهم، بتكذيبهم الأنبياء و سائر معاصيهم. و هذا تخويف لكفّار قريش.

[سورة الأنبياء [21]: آية 10]

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [10]

ثمّ ذكر نعمته على العباد بإنزال القران، فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا قريش كِتاباً يعني: القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ شرفكم وصيتكم، كما قال: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ (3). أو فيه موعظتكم و ما تحتاجون إليه من أمر دينكم و دنياكم. أو فيه مكارم

ص: 303


1- الفرقان: 7.
2- الأعراف: 155.
3- الزخرف: 44.

الأخلاق الّتي كنتم تطلبون بها الثناء و حسن الذكر، كحسن الجوار، و الوفاء بالعهد، و صدق الحديث، و أداء الأمانة، و السخاء، و ما أشبه ذلك من الأخلاق السنيّة، و الخلال المرضيّة، و الخصال المحمودة. أَ فَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنون.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 11 الى 15]

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ [11] فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ [12] لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ [13] قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [14] فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ [15]

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بالمكذّبين، ليتخوّفوا و يجتنبوا من الكفر و المعاصي، فقال:

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ هذا كلام وارد عن غضب شديد عظيم، لأنّ القصم أفظع الكسر، و هو الكسر الّذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم، فإنّه من غير أن يبين. و أراد بالقرية أهلها، و لذلك وصفهم بالظلم بقوله: كانَتْ ظالِمَةً فإنّها صفة لأهلها حقيقة، وصفت بها لمّا أقيمت مقامه. فالمعنى: أهلكنا قوما ظالمين. وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ مكانهم.

و عن ابن عبّاس: أنّه حضور. و هي و سحول قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب.

في الحديث: كفّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ثوبين سحوليّين.

و روي: حضوريّين.

قيل: إنّ اللّه تعالى بعث إلى الحضوريّين نبيّا فقتلوه، فسلّط اللّه عليهم بختنصّر، كما سلّطه على أهل بيت المقدس، فاستأصلهم. و روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف، و نادى مناد من السماء: يا لثارات الأنبياء، ندموا و اعترفوا بالخطإ، و ذلك حين لم ينفعهم الندم.

و صدر الآية يدلّ على كثرة القرى. و لعلّ ابن عبّاس ذكر «حضور» بأنّها إحدى

ص: 304

القرى الّتي أرادها اللّه بهذه الآية.

ثمّ بيّن حالهم و مقالهم حين مشاهدة العذاب بقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا فلمّا أدرك أهل القرى شدّة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس. يعني: فلمّا علموا شدّة عذابنا و بطشتنا علم حسّ و مشاهدة، لم يشكّوا و أدركوا بحواسّهم. إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يهربون مسرعين راكضين دوابّهم. أو مشبّهين بهم من فرط إسراعهم. و الركض ضرب الدابّة بالرجل.

فقيل لهم استهزاء: لا تَرْكُضُوا إمّا بلسان الحال، أي: إنّهم خلقاء (1) بأن يقال لهم ذلك. أو المقال، و القائل ملك أو من ثمّ من المؤمنين. وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من التنعّم و التلذّذ. و الإتراف: إبطار النعمة، و هي: الترفة. وَ مَساكِنِكُمْ الّتي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ

تهكّم بهم و توبيخ، أي: ارجعوا إلى نعيمكم و مساكنكم لعلّكم تسألون عن أموالكم، و عمّا جرى عليكم و نزل بأموالكم و مساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم و مشاهدة، و تجتهدوا في دفع هذه البليّة و العقوبة عنكم. أو تعذّبون، فإنّ السؤال من مقدّمات العذاب.

أو ارجعوا و اجلسوا كما كنتم في مجالسكم، و ترتّبوا في مراتبكم، حتّى يسألكم عبيدكم و حشمكم، و من تملكون أمره و ينفذ فيه أمركم و نهيكم، و يقولوا لكم: بم تأمرون كعادة المتنعّمين؟ أو يسألكم الناس

في نوازل الخطوب، و يستشيرونكم في المهمّات و النوازل، و يستشفون بتدابيركم، و يستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم و الطمّاع، و يستمطرون سحائب أكفّكم، و يمترون (2) أخلاف معروفكم و أياديكم. و ذلك إمّا لأنّهم كانوا أسخياء، ينفقون أموالهم رئاء الناس و طلب الثناء. أو كانوا بخلاء، فقيل لهم

ص: 305


1- جمع خليق بمعنى: جدير، أي: جدراء.
2- أي: يستدرّون. و الخلف: حلمة ضرع الناقة. و جمعه: أخلاف.

ذلك تهكّما إلى تهكّم، و توبيخا إلى توبيخ.

و لمّا رأوا العذاب، و لم يروا وجه النجاة، فلم ينفعهم الركض و الانهزام قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حيث كذّبنا رسل ربّنا. و المعنى: أنّهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب. و الويل: الوقوع في الهلكة.

فَما زالَتْ أي: كلمة «يا ويلنا» تِلْكَ دَعْواهُمْ دعوتهم. و إنّما سمّيت دعوى، لأنّ المولول كأنّه يدعو الويل و يقول: يا ويل تعال فهذا أوانك. و كلّ من «تلك» و «دعواهم» يحتمل الاسميّة و الخبريّة.

حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً مثل الحصيد، و هو النبت المحصود، و لذلك لم يجمع.

فشبّههم في استئصالهم و اقتطاعهم بالمحصود، كما تقول: جعلناهم رمادا، أي: مثل الرماد. خامِدِينَ ميّتين. من: خمدت النار إذا انطفأت. و هو مع «حصيدا» بمنزلة المفعول الثاني، أي: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد و الخمود، كقولك: جعلته حلوا حامضا، أي: جامعا للطعمين. فلا يقال: كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ و الحاصل:

أنّ حكم الأخيرين حكم الواحد، فيكون «جعل» متعدّيا إلى مفعولين.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 16 الى 18]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [16] لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ [17] بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [18]

ثمّ بيّن أنّ الغرض من خلق أصناف الممكنات المشحونة بضروب البدائع و عجائب الصنائع، أن يستدلّوا بها على وجود صانعها، ليتخلّصوا بها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، و يتعرّجوا بها من كدورات الشكوك و الأوهام إلى مدارج الإيقان، فقال:

ص: 306

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خلقنا هذا السقف المرفوع، و هذا المهاد الموضوع، و ما بينهما من أصناف الخلائق، منطوية على البدائع الغريبة، مشحونة بالصنائع العجيبة، للهو و اللعب، كما صنع الجبابرة سقوفهم المرفوعة و فرشهم الممهّدة للعب و اللهو، بل إنّما خلقناهما تبصرة للناظرين، و تذكرة للمعتبرين، و تسبّبا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش و المعاد. فينبغي أن يتوسّلوا بها إلى تحصيل الكمال، و لا يغترّوا بزخارفها السريعة الزوال.

ثمّ بيّن أنّ السبب في ترك اتّخاذ اللهو و اللعب في أفعاله هو أنّ الحكمة صارفة عنه، و إلّا فهو قادر على اتّخاذه، فقال: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ما يتلهّى به و يلعب لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا من جهة قدرتنا، لأنّا على كلّ شي ء قادرون، كقوله: رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا (1) أي: من جهة قدرتنا.

و قيل: معناه: لاتّخذناه من عندنا، ممّا يليق بحضرتنا من المجرّدات، لا من الأجسام المرفوعة، و الأجرام السفليّة المبسوطة، كعادتكم في رفع السقوف و تزويقها (2)، و تسوية الفرش و تزيينها.

و عن ابن عبّاس: اللهو الولد بلغة اليمن. و عن الحسن: الزوجة. و المعنى: لو اتّخذنا نساء و ولدا لاتّخذناه من أهل السماء، و لم نتّخذه من أهل الأرض. يريد: لو كان ذلك جائزا عليه لم يتّخذه بحيث يظهر لهم، بل يسرّ ذلك بحيث لم يطّلعوا عليه. و هذا ردّ على النصارى و اليهود في أنّ المسيح و عزيز ابنا اللّه.

و قوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ محذوف الجواب، أي: إن كنّا فاعلين ذلك لاتّخذناه، فحذف لدلالة الجواب المتقدّم عليه.

و عن مجاهد و قتادة: معناه: ما كنّا فاعلين اللعب. ف «إن» نافية، و الجملة كالنتيجة

ص: 307


1- القصص: 57.
2- أي: تنقيشها.

للشرطيّة.

ثمّ أضرب عن اتّخاذ اللهو، و نزّه ذاته عن اللعب، و قال: سبحاننا أن نتّخذ اللهو و اللعب بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ بل من شأننا و عادتنا و موجب حكمتنا و استغنائنا عن القبيح، أن نغلب الحقّ الّذي من جملته الجدّ على الباطل الّذي من عداده اللهو، بأن نورد الأدلّة القاهرة على الباطل فَيَدْمَغُهُ فيمحقه.

استعار لذلك القذف، و هو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرميّ، و الدمغ الذي هو كسر الدماغ بحيث يشقّ غشاءه المؤدّي إلى زهوق الروح، تصويرا لإبطاله به و محقه، و مبالغة فيه، لأنّه جعل الحقّ كالجرم الصلب مثل الصخر، فقذف به على جرم رخو أجوف فدمغه.

ثمّ ذكر ترشيح المجاز بقوله: فَإِذا هُوَ زاهِقٌ هالك مضمحلّ. و إذا كان اللّه سبحانه يظهر الحقّ بأدلّته الواضحة و حججه النيّرة، و يبطل الباطل بهذه المثابة، فكيف يفعل الباطل و اللعب؟! وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ممّا تصفونه به ممّا لا يجوز عليه. و هو في موضع الحال. و «ما» مصدريّة أو موصولة أو موصوفة.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 19 الى 20]

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ [19] يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [20]

و لمّا ذكر سبحانه هلاك الكفّار، بيّن بعده أنّه ما يهلكهم إلّا بالاستحقاق، لأنّه ما خلق العباد و ما لأجلهم من السماء و الأرض و ما بينهما

إلّا للعبادة، فلمّا كفروا جازاهم بكفرهم، فقال:

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا و ملكا وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني:

جنس الملائكة المكرّمين المنزّلين منه- لكرامتهم عليه و شرفهم- منزلة المقرّبين عند الملوك، على طريق التمثيل و البيان، لشرفهم و فضلهم. أو المراد به نوع من الملائكة

ص: 308

متعال عن التبوّء (1) في السماء و الأرض.

و هو معطوف على «مَنْ فِي السَّماواتِ». و إفراده للتعظيم. أو مبتدأ خبره لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لا يأنفون و لا يتعظّمون عنها وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ و لا يعيون و لا يملّون منها.

و إنّما جي ء بالاستحسار الّذي هو مبالغة في الحسور، مع أنّ الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور، تنبيها على أنّ عبادتهم بثقلها و دوامها حقيقة بأن يستحسر منها و لا يستحسرون.

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ ينزّهونه و يعظّمونه في جميع أوقاتهم عن جميع ما لا يليق به لا يَفْتُرُونَ حال من الواو في «يسبّحون». و هو استئناف، أو حال من ضمير قبله (2).

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 21 الى 24]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [21] لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [22] لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ [23] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ [24]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً بل اتّخذوا. و الهمزة لإنكار اتّخاذهم، فإنّ «أم» المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» و الهمزة قد آذنت بالإضراب عمّا قبلها و الإنكار لما بعدها، و هو اتّخاذهم آلهة مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ صفة ل «آلهة» كقولك: فلان من مكّة أو من

ص: 309


1- أي: الإقامة.
2- أي: «يسبّحون» حال من الضمير فيما قبله من «يستحسرون» و غيره.

المدينة. تريد: مكّي أو مدنيّ.

و معنى نسبتها إلى الأرض: الإيذان بأنّها الأصنام الّتي تعبد في الأرض، لأنّ الآلهة على ضربين: أرضيّة و سماويّة. و من ذلك

حديث الأمة الّتي قال لها رسول اللّه: «أين ربّك؟ فأشارت إلى السماء. فقال: إنّها مؤمنة».

لأنّه فهم منها أنّ مرادها نفي الآلهة الأرضيّة الّتي هي الأصنام، لا إثبات السماء مكانا للّه عزّ و جلّ. ففائدة قوله: «من الأرض» التحقير دون التخصيص.

و يجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنّها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة، أو تعمل من بعض جواهر الأرض.

ثمّ دلّ سبحانه على توحيده، فقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ غير اللّه. وصفت ب «إلّا» لمّا تعذّر الاستثناء، لعدم الجزم بشمول ما قبلها لما بعدها ليكون متّصلا، و لا بعدمه ليكون منفصلا. و لا يجوز الرفع على البدل، لأنّ «لو» بمنزلة «إن» في أنّ الكلام معه موجب، و البدل لا يسوغ إلّا في كلام غير موجب، كقوله تعالى: وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ (1). و ذلك لأنّ أعمّ العامّ يجوز نفيه، و لا يصحّ إيجابه، لأنّه يصحّ أن يقال: ما في الدار إلّا زيد، و لا يصحّ: في الدار جميع الأشياء إلّا زيد.

و المعنى: لو كان يتولّاهما و يدبّر أمرهما آلهة شتّى غير الواحد الّذي هو فاطرهما لَفَسَدَتا لبطلتا، لما يكون بينهما من الاختلاف و التمانع، فإن توافقت على المراد تطاردت عليه القدر، و إن تخالفت تعاوقت عنه.

و فيه دلالة على أمرين: أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبّرهما إلّا واحدا. و الثاني:

أن لا يكون ذلك الواحد إلّا إيّاه وحده، لقوله: «إلّا اللّه». و ذلك لعلمنا أنّ الرعيّة تفسد بتدبير الملكين، لما يحدث بينهما من التغالب و التناكر و الاختلاف. و هو ظاهر.

و في هذا دليل التمانع الّذي بنى عليه المتكلّمون مسألة التوحيد.

ص: 310


1- هود: 81.

و تقرير ذلك: أنّه لو كان مع اللّه سبحانه إله آخر لكانا قديمين، و القدم من أخصّ الصفات، فالاشتراك فيه يوجب التماثل، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيّين. و من حقّ كلّ قادرين أن يصحّ كون أحدهما مريدا لضدّ ما يريده الآخر، من إماتة و إحياء، أو تحريك و تسكين، أو إفقار و إغناء، و نحو ذلك. فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو: إمّا أن يحصل مرادهما، و ذلك محال، لاجتماع النقيضين. و إمّا أن لا يحصل مرادهما، فينتقض كونهما قادرين. و إمّا أن يقع مراد أحدهما و لا يقع مراد الآخر، فينتقض كون من لم يقع مراده قادرا. فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلّا واحدا.

و لو قيل: إنّهما لا يتمانعان، لأنّ ما يريده أحدهما يكون حكمة، فيريده الآخر بعينه.

و الجواب: أنّ كلامنا في صحّة التمانع، لا في وقوع التمانع. و صحّة التمانع يكفي في الدلالة، لأنّه يدلّ على أنّه لا بدّ من أن يكون أحدهما متناهي المقدور دون الآخر، فلا يجوز أن يكون إلها.

ثمّ نزّه سبحانه ذاته عن أن يكون معه إله، فقال: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ المحيط بجميع الأجسام، الّذي هو محلّ التدابير، و منشأ التقادير. و لهذا خصّه بالذكر.

عَمَّا يَصِفُونَ من اتّخاذ الشريك و الصاحبة و الولد.

لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته، و قوّة سلطانه، و تفرّده بالألوهيّة و السلطنة الذاتيّة.

و إذا كانت عادة الملوك و الجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم، و عمّا يوردون و يصدرون من تدبير ملكهم، تهيّبا و إجلالا، مع جواز الخطأ و الزلل و أنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك و ربّ الأرباب و خالقهم و رازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله، مع ما علم و استقرّ في العقول من أنّ ما يفعله كلّه مفعول بدواعي الحكمة، و لا يجوز عليه الخطأ و لا فعل القبائح.

وَ هُمْ يُسْئَلُونَ لأنّهم مملوكون مستعبدون خطّاؤن. فما أخلقهم بأن يقال لهم:

ص: 311

لم فعلتم؟ في كلّ شي ء فعلوه. و يحتمل أن يكون الضمير للآلهة.

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كرّره استعظاما لكفرهم، و استفظاعا لأمرهم، و تبكيتا لقولهم، و إظهارا لجهلهم، أو ضمّا لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلا من العقل. على معنى: أوجدوا آلهة ينشرون الموتى، فاتّخذوهم آلهة، لما وجدوا فيهم من خواصّ الألوهيّة؟ أو وجدوا في الكتب الإلهيّة الأمر بإشراكهم، فاتّخذوهم متابعة للأمر؟ و يعضد ذلك أنّه رتّب على الأوّل ما يدلّ على فساده عقلا، و على الثاني ما يدلّ على فساده نقلا.

قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما وصفتم اللّه عزّ و جلّ بأنّ له شريكا، إمّا من العقل أو من النقل، فإنّه لا يصحّ القول بما لا دليل عليه، كيف و قد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا و نقلا. و في هذا دلالة على فساد التقليد، لأنّه طالبهم بالحجّة على صحّة قولهم، فإنّ البرهان هو الدليل المؤدّي إلى العلم.

هذا أي: هذا الوحي الوارد عليّ. أو هذا الشي ء الموجود في القرآن و الكتب الثلاثة الّتي بين أظهركم، من معنى توحيد اللّه و نفي الشركاء عنه. ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ عظة للّذين معي. يعني: أمّته. وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي و عظة للّذين قبلي.

يعني: أمم الأنبياء.

فانظروا هل تجدون في الكتب السالفة إلّا الأمر بالتوحيد و النهي عن الإشراك؟ و إضافة الذكر إليهم لأنّه عظتهم.

فلمّا توجّهت الحجّة عليهم ذمّهم سبحانه على جهلهم، فقال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ و لا يميّزون بينه و بين الباطل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التوحيد و اتّباع الرسول تقليدا و عنادا. و إنّما خصّ الأكثر منهم لأنّ فيهم من آمن.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 25 الى 29]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [25] وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ

ص: 312

[26] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [27] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [28] وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [29]

ثمّ قرّر ما سبق من آي التوحيد بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ لا معبود على الحقيقة إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ فوجّهوا العبادة إليّ دون غيري. و هذا تعميم بعد تخصيص، فإنّ ذكر «من قبلي» من حيث إنّه خبر لاسم الاشارة مخصوص بالموجود بين أظهرهم، و هو الكتب الثلاثة.

ثمّ ردّ قول خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه، فقال: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك بَلْ عِبادٌ بل هم عباد من حيث إنّهم مخلوقون، و المعبوديّة تنافي الولادة مُكْرَمُونَ مقرّبون مفضّلون على سائر العباد، لما هم عليه من أحوال و صفات ليست لغيرهم، فذلك هو الّذي غرّ منهم من زعم أنّهم أولاد اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يقولون

شيئا حتّى يقوله، كما هو عادة العبيد المؤدّبين.

و أصله: لا يسبق قولهم قوله، فنسب السبق إليه و إليهم، و جعل القول محلّه و أداته، تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على اللّه ما لم يقله. و أنيبت اللام مناب الإضافة اختصارا، و احترازا عن تكرير الضمير.

وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يعملون قطّ ما لم يأمرهم به. يعني: كما أنّ قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنيّ على أمره.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ لا تخفى عليه خافية ممّا قدّموا و أخّروا. و هو كالعلّة لما قبله، و التمهيد لما بعده. كأنّه قال: لمّا علمت الملائكة يقينا بأنّ جميع ما يأتون

ص: 313

و يذرون ممّا قدّموا و أخّروا بعين اللّه، و هو مجازيهم عليه، فيضبطون أنفسهم، و يراعون أحوالهم، و يحافظون أوقاتهم. و من تحفّظهم أنّهم لا يجسرون أن يشفعوا، مع أنّهم أشرف الخلائق و أعلى مرتبة منهم، كما قال: وَ لا يَشْفَعُونَ مهابة منه إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى لمن ارتضاه اللّه أن يشفع له.

وَ هُمْ مع هذا كلّه مِنْ خَشْيَتِهِ من خشيته و مهابته و عظمته مُشْفِقُونَ خائفون وجلون مرتعدون من التقصير في عبادته.

و أصل الخشية خوف مع تعظيم، و لذلك خصّ بها العلماء. و الإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدي ب «من» فمعنى الخوف فيه أظهر، و إن عدي ب «على» فبالعكس.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس (1) من خشية اللّه عزّ و جلّ».

و بعد أن وصف كرامتهم عليه، و قرب منزلتهم عنده، و أثنى عليهم، و أضاف إليهم تلك الأفعال السنيّة، و الأعمال المرضيّة، عقّبها بالوعيد الشديد، و

أنذر بعذاب جهنّم من أشرك منهم، و إن كان ذلك على سبيل الفرض و التمثيل، مع إحاطة علمه بأنّه لا يكون، قصدا بذلك تفظيع أمر الشرك، و تهديد أهله، و تعظيم شأن التوحيد و أهله، فقال:

وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من الملائكة. أو منهم و من سائر الخلائق. إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ يريد به نفي البنوّة، و نفي ادّعاء ذلك عن الملائكة، و تهديد المشركين كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ من ظلم بالإشراك و ادّعاء الربوبيّة.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 30 الى 33]

أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [30] وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ

ص: 314


1- الحلس: ما يوضع على ظهر الدابّة، أو يبسط في البيت على الأرض تحت الثياب و المتاع.

رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [31] وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [32] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [33]

ثمّ قال تقريعا للكفرة: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أو لم يعلموا. و قرأ ابن كثير بغير واو. أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً ذواتي رتق، أو مرتوقتين، و هو الضمّ و الالتحام، أي: كانتا شيئا واحدا، و حقيقة متّحدة. فَفَتَقْناهُما بالتنويع و التمييز، و جعلنا كلّا منهما سبع طبقات. أو كانت السماوات واحدة، ففتقت بالتحريكات المختلفة حتّى صارت أفلاكا. و كانت الأرضون واحدة، فجعلت باختلاف كيفيّاتها و أحوالها طبقات أو أقاليم.

و قيل: كانت السماء لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما، ففرّج.

و قيل: كانتا رتقا لا تمطر و لا تنبت، ففتقناهما بالمطر و

النبات. و هو المرويّ عنهم عليهم السّلام. فيكون المراد بالسماوات سماء الدنيا، كما نقل عن عكرمة و عطيّة و ابن زيد. و جمعها باعتبار الآفاق. أو السماوات بأسرها، على أنّ لها مدخلا مّا في الأمطار.

و الكفرة و إن لم يعلموا ذلك، فهم متمكّنون من العلم به نظرا، فإنّ تلاصق الأرض و السماء و تباينهما جائز في العقل، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصّص، و هو القديم سبحانه. و أيضا الفتق عارض مفتقر إلى مؤثّر واجب ابتداء أو بوسط. أو استفسارا من العلماء، أو مطالعة الكتب السالفة، أو القرآن الّذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئيّ المشاهد.

و إنّما قال: «كانتا» و لم يقل: «كنّ» لأنّ المراد جماعة السماوات و جماعة الأرض.

ص: 315

وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ و خلقنا من الماء كلّ حيوان، كقوله: وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ (1). و ذلك لأنّه من أعظم موادّه، فكأنّما خلقناه من الماء، أو لفرط احتياجه إليه، و انتفاعه به بعينه، و قلّة صبره عنه. و إن كان جعل متعدّيا إلى مفعولين، فمعناه: و صيّرنا كلّ شي ء حيّ كائنا بسبب من الماء لا يحيا دونه.

و قيل: معناه: و جعلنا من الماء حياة كلّ ذي روح و نماء كلّ نام، فيدخل فيه الحيوان و النبات و الأشجار.

أَ فَلا يُؤْمِنُونَ مع ظهور الآيات.

ثمّ بيّن كمال قدرته و شمول نعمته، فقال: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا راسيات ثابتات. من: رسا إذا ثبت. أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ كراهة أن تميل بهم و تضطرب. أو لأن لا تميد، فحذف اللام للقياس، و «لا» لأمن الإلباس، كما تزاد لذلك في نحو قوله:

لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (2). و هذا مذهب الكوفيّين.

وَ جَعَلْنا فِيها في الأرض، أو الرواسي فِجاجاً سُبُلًا مسالك واسعة، فإنّ الفجّ هو الطريق الواسع. و إنّما قدّم «فجاجا» و هو وصف له، كما في قوله: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (3) ليصير حالا، فيدلّ على أنّه حين خلقها خلقها على تلك الصفة. أو ليبدل منها «سبلا» فيدلّ ضمنا على أنّه خلقها و وسّعها للسابلة، مع ما يكون فيه من التأكيد. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى مصالحهم.

وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً و خلقناها رفيعا فوق الخلق كالسقف مَحْفُوظاً عن الوقوع على الأرض بقدرته، كما قال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا (4)

ص: 316


1- النور: 45.
2- الحديد: 29.
3- نوح: 20.
4- فاطر: 41.

الآية. أو عن الفساد و الانحلال إلى الوقت المعلوم. أو البلى و الانهدام على طول الدهر. أو عن تسمع الشياطين على سكّانه من الملائكة بالشهب الثواقب، كما قال: وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (1).

وَ هُمْ عَنْ آياتِها عمّا وضع اللّه عزّ و جلّ فيها من الأحوال العجيبة، و عبرها الغريبة، و سائر الحالات الحادثة فيها، من الشمس و القمر و سائر النيّرات، و مسايرها طلوعا و غروبا، على النهج البديع، و الترتيب العجيب، الدالّ على وجود صانعها القديم، و وجوب وجوده، و كمال علمه و قدرته، و تناهي حكمته، الّتي يحسّ ببعضها، و يبحث عن بعضها في علم الهيئة.

مُعْرِضُونَ غير متفكّرين. و أيّ جهل أعظم من جهل من أعرض عنها، و لم يذهب به وهمه إلى تدبّرها، و الاعتبار بها، و الاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن العدم، و دبّرها، و نصبها هذه النصبة، و أودعها ما أودعها ممّا لا يعرف كنهه إلّا هو عزّت قدرته، و لطف علمه، و جلّت حكمته.

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ اللّتان هما بعض الآيات السّماويّة كُلٌّ فِي فَلَكٍ كلّ واحد منهما. و التنوين بدل من المضاف إليه. و المراد بالفلك الجنس، كقولهم: كساهم الأمير حلّة و قلّدهم سيفا، أي: كساهم و قلّدهم هذين الجنسين. يَسْبَحُونَ يسرعون على سطح الفلك إسراع السابع على سطح الماء.

و هو خبر «كلّ». و الجملة حال من «الشمس و القمر». و جاز انفرادهما بها عن الليل و النهار، لعدم الإلباس، كما تقول: رأيت زيدا و هندا متبرّجة، و نحو ذلك إذا جئت بصفة يختصّ بها بعض ما تعلّق به العامل، و منه قوله تعالى في هذه السورة: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً (2). فضمير «يسبحون» لهما. و الجمع باعتبار كثرة المطالع. و إنّما

ص: 317


1- الحجر: 17.
2- الأنبياء: 72.

جعل الضمير واو العقلاء لوصفهما بفعلهم، و هو السباحة، كما قال: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (1).

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 34 الى 35]

وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [34] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ [35]

روي أنّ المشركين مع وضوح تلك الآيات الدالّة على وجوب صانعها و وحدانيّتها عندهم، توغّلوا في العناد و المكابرة، و لم يصدّقوا الرسول في ذلك، و كانوا يقدّرون أنّه سيموت، و يقولون: نتربّص به ريب المنون، فيشمتون بموته، فنفى اللّه عنه الشماتة بقوله:

وَ ما جَعَلْنا و ما قضينا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ دوام البقاء في الدنيا. فلا أنت و لا هم إلّا عرضة للموت، فإذا كان الأمر كذلك أَ فَإِنْ مِتَ على ما يتوقّعونه و ينتظرونه فَهُمُ الْخالِدُونَ يخلدون بعدك؟ و

في معناه قول القائل:

فقل للشامتين بنا أفيقواسيلقى الشامتون كما لقينا و المعنى: لئن متّ فإنّهم أيضا يموتون، فأيّة فائدة لهم في تمنّي موتك. و الفاء الداخلة على «إن» الشرطيّة لتعلّق الشرط بما قبله. و الهمزة لإنكاره بعد ما تقرّر ذلك.

ثم برهن عليه بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ذائقة مرارة مفارقتها جسدها وَ نَبْلُوكُمْ و نختبركم بِالشَّرِّ بما يجب فيه الصبر من البلايا وَ الْخَيْرِ و بما يجب فيه الشكر من النعم فِتْنَةً ابتلاء و اختبارا. مصدر من غير لفظه وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ و إلى حكمنا تردّون، فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر و الشكر. و إنّما سمّى ذلك ابتلاء، و هو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنّه في صورة الاختبار.

ص: 318


1- يوسف: 4.

و المعنى: نعاملكم معاملة المختبر بالفقر و الغنى، و بالشدّة و الرخاء، ليظهر على العالمين صبركم على ما تكرهون اللّه، و شكركم فيما تحبّون.

و فيه إيماء بأنّ المقصود من هذه الحياة الابتلاء، و التعريض للثواب و العقاب، تقريرا لما سبق.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرض فعاده إخوانه، فقالوا: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشّر. قالوا: ما هذا كلام مثلك. فقال عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى يقول: «و نبلوكم بالشرّ و الخير فتنة». فالخير الصحّة و الغناء، و الشرّ المرض و الفقر».

[سورة الأنبياء [21]: آية 36]

وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ [36]

و قال بعض الزهّاد: الشرّ غلبة الهوى على النفس، و الخير العصمة عن المعاصي».

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ يوما على جماعة من صناديد قريش، منهم أبو جهل، فضحك أبو جهل عليه، و قال لقرنائه على سبيل الاستهزاء به: هو نبيّ بني عبد مناف.

فنزلت: وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً

ما يتّخذونك إلّا مهزوءا به، و يقولون: أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي: بسوء، و يقول: إنّها جمادات لا تنفع و لا تضرّ.

و إنّما أطلقه لدلالة الحال، فإنّ ذكر العدوّ لا يكون إلّا بسوء، و إن كان مطلقا، كقولك للرجل: سمعت فلانا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، و إن كان عدوّا فذمّ.

و منه قولهم في إبراهيم: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (1). و قولهم: «أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ».

وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ بالتوحيد. أو بإرشاد الخلق، ببعث الرسل و إنزال الكتب رحمة عليهم. أو بالقرآن. هُمْ كافِرُونَ منكرون.

ص: 319


1- الأنبياء: 60.

و المعنى: أنّهم عاكفون بهممهم على ذكر آلهتهم، و ما يجب أن لا تذكر به، من كونهم شفعاء و شهداء، و يسوؤهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. و أمّا ذكر اللّه عزّ و جلّ، و ما يجب أن يذكر به من الوحدانيّة، فهم به كافرون، لا يصدّقون به أصلا. فهم أحقّ بأن يتّخذوا هزوا منك، فإنّك محقّ و هم مبطلون.

و تكرير الضمير للتأكيد و التخصيص، و لحيلولة الصلة بين الضمير و بين الخبر.

و الجملة في موضع الحال، أي: يتّخذونك هزوا و هم على حال هي أصل الهزء و السخريّة.

و هي الكفر باللّه.

و قيل: يعني «بذكر الرحمن» قولهم: ما نعرف الرحمن إلّا مسيلمة. و قولهم: وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا (1).

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 37 الى 40]

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [37] وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [38] لَوْ

يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ [39] بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ [40]

روي عن عطاء: أنّ النضر بن الحرث و أضرابه استعجلوا العذاب عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إنكارا و استهزاء، و يقولون: متى هذا الوعد؟ فأراد اللّه سبحانه زجرهم و نهيهم عن الاستعجال، فقدّم أوّلا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة، و أنّ لزومها له على وجه كأنّه مطبوع عليها، فقال:

ص: 320


1- الفرقان: 60.

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ

كأنّه قيل: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا العذاب، فإنّ إفراط العجلة من الإنسان، و قلّة تأنّيه في الأمور، على وجه كأنّه خلق منه. و هذا كقولك:

خلق زيد من الكرم، فجعل ما لا ينفكّ عنه إلّا نادرا بمنزلة المطبوع منه، مبالغة في لزومه.

و من عجلته مبادرته إلى الكفر و استعجال الوعيد.

سَأُرِيكُمْ آياتِي نقماتي في الدنيا، كوقعة بدر، و في الآخرة عذاب النار فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها.

و على ما فسّرنا؛ لا يرد أنّ ذلك من باب تكليف ما لا يطاق، لأنّ النهي متعلّق بما هو مخلوق و مجبول في الإنسان. سلّمنا أنّه مجبول و مطبوع، لكن ذلك لا يستلزم التكليف بالمحال، لأنّه من قبيل أنّه سبحانه ركّب فيه الشهوة و أمره أن يغلبها. و لا شبهة أنّه لا يستلزم التكليف بالمحال، لأنّه أعطاه القدرة الّتي يستطيع بها قمع الشهوة و ترك العجلة.

و عن ابن عبّاس: أنّه أراد بالإنسان آدم، و أنّه حين بلغ الروح شراسيف (1) صدره، أراد أن يقوم فلم يتمكّن منه.

و روي: أنّه لمّا دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنّة، و لمّا دخل جوفه اشتهى الطعام.

و قيل: خلقه اللّه في آخر النهار يوم الجمعة، قبل غروب الشمس. فأسرع في خلقه قبل مغيبها.

و قيل: العجل الطين، بلغة حمير. و قال شاعرهم: و النخل ينبت بين الماء و العجل (2). فالمعنى: خلق آدم من طين.

وَ يَقُولُونَ إنكارا و استبعادا مَتى هذَا الْوَعْدُ وقت وعد العذاب، أو القيامة

ص: 321


1- شراسيف جمع شرسوف، و هو طرف الضلع المشرف على البطن.
2- صدره: النبع في الصخرة الصمّاء منبته

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون: النبيّ و أصحابه.

لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ يعني: أنّ النار تحيط بهم من جميع جوانبهم وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ جواب «لو» محذوف، و «حين» مفعول ل «يعلم» أي: لو يعلمون الوقت الّذي يستعجلون منه بقولهم: متى هذا الوعد؟ و هو وقت صعب شديد، تحيط بهم النار من ورائهم و قدّامهم، بحيث لا يقدرون على دفعها من أنفسهم، و لا يجدون ناصرا ينصرهم، لمّا كانوا بتلك الصفة من الكفر و الاستهزاء و الاستعجال، و لكن جهلهم به هو الّذي هوّنه عندهم.

و يجوز أن يترك مفعول «يعلم». و المعنى: لو كان معهم علم و لم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. و «حين» منصوب بمضمر، أي: حين لا يكفّون عن وجوههم النار يعلمون أنّهم كانوا على الباطل، و ينتفي عنهم هذا الجهل العظيم.

و إنّما وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على أنّ ما أوجب لهم ذلك هو الكفر.

بَلْ تَأْتِيهِمْ العدة، أو النار، أو الساعة بَغْتَةً فجأة. مصدر أو حال.

فَتَبْهَتُهُمْ فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجّة: مبهوت. و منه: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ (1) أي: غلب إبراهيم عليه السّلام الكافر. أو فتحيّرهم.

فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي: ردّ الوعد، فإنّه بمعنى النار أو العدة. أو ردّ الحين، فإنّه بمعنى الساعة، و يجوز أن يكون للنار أو للبغتة. وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون. و فيه تذكير بإمهالهم في الدنيا.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 41 الى 44]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [41] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ

ص: 322


1- البقرة: 258.

رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ [42] أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ [43] بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ [44]

ثمّ سلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن استهزائهم به بقوله: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ هؤلاء بك، فلك بالأنبياء أسوة فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فحلّ بهم جزاء استهزائهم. و فيه وعد له بأنّ ما يفعلون به- يعني: جزاءه- يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء.

قُلْ يا محمد للمستهزئين مَنْ يَكْلَؤُكُمْ يحفظكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ من بأسه و عذابه إن أراد بكم. و الاستفهام في معنى النفي، تقديره: قل لا حافظ لكم من الرحمن. و في لفظ «الرحمن» تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامّة، و أنّ اندفاعه بمهلته.

بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يخطرونه ببالهم، و لا يتفكّرون فيه، فضلا أن يخافوا بأسه، حتّى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ، و صلحوا للسؤال عنه.

و المراد أنّه أمر رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسؤالهم عن الكالئ.

ثمّ بيّن أنّهم لا يصلحون لذلك، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. ثمّ أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل»، و قال توبيخا و تقريعا: أَمْ لَهُمْ أي: بل ألهم آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ من العذاب مِنْ دُونِنا تتجاوز منعنا و حفظنا. أو من عذاب يكون من عندنا. و الإضرابان عن الأمر بالسؤال على الترتيب، فإنّه عن المعرض الغافل عن الشي ء بعيد، و عن المعتقد لنقيضه أبعد.

ثمّ استأنف إبطال ما اعتقدوه بقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ و منعها عن

ص: 323

العذاب. و لا يقدرون على دفع ما ينزل بهم عن نفوسهم. وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ و لا يصحبهم النصر و التأييد من اللّه. و من لا يقدر على نصر نفسه، و لا يصحبه نصر من اللّه، فكيف يمنع غيره و ينصره؟! ثمّ أضرب عمّا توهّموا، ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم، و هو الاستدراج و التمتيع بما قدّر لهم من الأعمار. أو أضرب عن الدلالة على بطلانه، ببيان ما أوهمهم ذلك، فقال:

بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ أمهلناهم حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي: بل ما هم فيه من الحفظ و الكلاءة إنّما هو بتمتيعنا إيّاهم بالحياة الدنيا و إمهالنا، كما متّعنا غيرهم من الكفّار، و أمهلناهم حتّى طال عليهم الأمد، و امتدّت بهم أيّام الروح و الطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا كذلك، لا يغلبون، و لا ينزع عنهم ثوب أمنهم و استمتاعهم، و ذلك طمع فارغ، و أمل كاذب.

ثمّ عقّبه بما يدلّ على أنّه أمل كاذب، فقال: أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي:

يأتي أمرنا أرض الكفرة نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بتسليط المسلمين عليها، و إظهارهم على أهلها، و ردّها إلى دار الإسلام. أسند سبحانه الإتيان و النقص إلى

ذاته تعالى، تصويرا لما كان اللّه يجريه على أيدي المسلمين، و أنّ عساكرهم و سراياهم كانت تغزوا أرض المشركين، و تأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها، أرضا فأرضا، و قوما فقوما، فيأخذون قراهم و أرضهم.

أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين. الهمزة للإنكار، أي: ليسوا بغالبين، و لكنّهم المغلوبون، و رسول اللّه و ناصروه هم الغالبون.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 45 الى 47]

قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ [45] وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ

ص: 324

[46] وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [47]

قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ بما أوحي إليّ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ و قرأ ابن عامر: و لا تسمع، على خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و اللام في «الصمّ» إشارة إلى هؤلاء المنذرين، فهي للعهد لا للجنس. و الأصل: و لا يسمعون، فوضع الظاهر موضع ضميرهم.

و سمّاهم الصمّ للدلالة على تصامّهم، و سدّهم أسماعهم إذا انذروا، و عدم انتفاعهم بما يسمعون، فهم في ذلك بمنزلة الأصمّ الّذي لا يسمع.

إِذا ما يُنْذَرُونَ منصوب ب «يسمع» أو بالدعاء. و التقييد به، لأنّ الكلام في الإنذار، أو للمبالغة في تصامّهم و تجاسرهم، أي: هم على صفة التصامّ و صدّ الأسماع من آيات الإنذار جرأة و جسارة.

وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أدنى شي ء. و فيه مبالغات ثلاث: ذكر المسّ، و ما في النفحة من معنى القلّة، فإنّ أصل النفخ هبوب رائحة الشي ء، و البناء الدالّ على المرّة.

مِنْ عَذابِ رَبِّكَ

من الّذي ينذرون به لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لدعوا على أنفسهم بالويل، و اعترفوا عليها بالظلم، حتّى تصامّوا و أعرضوا.

ثمّ قال: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ العدل توزن بها الأعمال. و هو ميزان له كفّتان و لسان.

يروى: «أنّ داود عليه السّلام سأل ربّه أن يريه الميزان، فلمّا رآه غشي عليه ثمّ أفاق، فقال: يا إلهي من الّذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة».

و في وزن الأعمال مع أنّها أعراض قولان: أحدهما: توزن صحائف الأعمال.

و الثاني: أن تجعل في كفّة الحسنات جواهر بيض مشرقة، و في كفّة السيّئات جواهر سود

ص: 325

مظلمة.

و إفراد القسط لأنّه مصدر وصف به للمبالغة، كأنّها في نفسها قسط، أو على حذف المضاف، أي: ذوات القسط.

و قيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السويّ، و الجزاء على حسب الأعمال بالعدل و النصفة، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرّة. فمثّل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. و مصداقه قول قتادة: إنّ معناه: نضع العدل في المجازاة بالحقّ لكلّ أحد على قدر استحقاقه، فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقّه، و لا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقّه.

لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لجزاء يوم القيامة. أو لأهله، أي: لأجلهم. أو فيه، كقولك: جئت لخمس خلون من الشهر.

فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي: لا ينقص من إحسان محسن، و لا يزيد في إساءة مسي ء وَ إِنْ كانَ العمل أو الظلم مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ و رفع نافع «مثقال» على «كان» التامّة، كقوله: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ (1). أَتَيْنا بِها أحضرنا المثقال. و تأنيثه لإضافته إلى الحبّة، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ إذ لا مزيد

على علمنا و عدلنا.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 48 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [48] الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [49] وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [50]

ص: 326


1- البقرة: 280.

و لمّا تقدّم ذكر الوحي بيّن عقيبه أنّ إنزال القرآن على نبيّه ليس ببدع، فقد أنزل على موسى و هارون التوراة، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي: أعطيناهما الكتاب الجامع، لكونه فارقا بين الحقّ و الباطل، و ضياء يستضاء به في ظلمات الحيرة و الجهالة، و ذكرا يتّعظ به المتّقون. أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع. أو ذكر الشرف.

و عن ابن عبّاس: الفرقان: الفتح و النصر، كقوله: يَوْمَ الْفُرْقانِ (1). و عن الضحّاك: فلق البحر. و عن محمّد بن كعب: المخرج من الشبهات.

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ صفة للمتّقين. أو مدح لهم منصوب أو مرفوع.

بِالْغَيْبِ حال من الفاعل، أو المفعول وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ من القيامة و أهوالها مُشْفِقُونَ خائفون. و في تصدير الضمير، و بناء الحكم عليه، مبالغة و تعريض.

و لمّا وصف التوراة أتبعه ذكر القرآن الّذي آتاه نبيّنا، فقال: وَ هذا ذِكْرٌ يعني:

القرآن مُبارَكٌ كثير خيره، و غزير منفعته، من المواعظ و الزواجر، و الأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق و الأفعال أَنْزَلْناهُ على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام توبيخ، أي: فلما ذا تنكرونه و تجحدونه مع كونه معجزا؟!

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 51 الى 54]

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ [51] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [52] قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ [53] قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [54]

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من قصّة موسى و هارون بقصّة إبراهيم عليه السّلام، الّذي

ص: 327


1- الأنفال: 41.

هو من أجداد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و العرب كانوا يفتخرون به، لانتهاء أنسابهم إليه، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ الاهتداء لوجوه الصلاح. و قيل: هو الحجج الموصلة إلى التوحيد. و قيل: النبوّة. و إضافته إليه ليدلّ على أنّه رشد مثله، و أنّ له شأنا.

مِنْ قَبْلُ من قبل موسى و هارون، أو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: من قبل استنبائه، أو بلوغه حيث قال: إنّي وجّهت.

وَ كُنَّا بِهِ أي: بأنّه أهل لما آتيناه من الخلّة و النبوّة عالِمِينَ يعني: علمنا منه أحوالا بديعة، و أسرارا عجيبة، و صفات قد رضينا بها و نحمدها، حتّى أهّلناه لخلّتنا و مخالصتنا. و هذا كقولك في خيّر من الناس: أنا عالم بفلان. فكلامك هذا دالّ على علمك بمحاسن أوصافه و مكارم خصاله. و فيه إشارة إلى أنّ فعله تعالى باختيار و حكمة، و أنّه عالم بالجزئيّات.

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في تربيته بعد موت أبيه. و الظرف متعلّق ب «آتينا» أو ب «رشده» أو بمحذوف، أي: اذكر من أوقات رشده وقت قوله لأبيه وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فيه تحقير لشأن آلهتهم المصوّرة بصور أجسام ذوات أرواح، و توبيخ لإجلالهم لها، فإنّ التمثال صورة لا روح فيها، فلا يضرّ و لا ينفع.

و أصله الشي ء المصنوع مشبّها بخلق من خلق اللّه. من: مثّلت الشي ء بالشي ء إذا شبّهته به. و اسم ذلك الممثّل تمثال، و جمعه تماثيل. و قيل: إنّهم جعلوها أمثلة للأجسام العلويّة.

و اللام للاختصاص، لا للتعدية، فإنّ تعدية العكوف ب «على». و المعنى: و أنتم فاعلون العكوف لها، أو واقفون لها. فلو قصد تعدية العكوف لعدّاه بصلته الّتي هي «على»، كقوله: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ (1). أو يضمّن العكوف معنى العبادة.

روى العيّاشي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بقوم .

ص: 328


1- الأعراف: 138.

يلعبون الشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل الّتي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم اللّه و رسوله».

و لمّا كان الاستفهام مستلزما لسؤاله إيّاهم عمّا اقتضى عبادتها و حملهم عليها قالُوا في جواب إبراهيم حين لم يجدوا حجّة في عبادتها: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فقلّدناهم.

قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أراد أنّ المقلّدين و المقلّدين جميعا منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، لعدم استناد الفريقين إلى دليل، بل إلى هوى متّبع، و شيطان مطاع. و التقليد إن جاز فإنّما يجوز لمن علم في الجملة أنّه على حقّ، كتقليد المقلّد المجتهد في فروع الإسلام لا في أصوله. و ما أعظم كيد الشيطان للمقلّدين حين استدرجهم إلى أن قلّدوا آباءهم في عبادة التماثيل، و عفّروا لها جباههم، و هم معتقدون أنّهم على شي ء، و جادّون في نصرة مذهبهم، و مجادلون لأهل الحقّ عن باطلهم. و كفى أهل التقليد عارا و سبّة (1) أن عبدة الأصنام منهم.

و «أنتم» من التأكيد الّذي لا يصحّ الكلام مع الإخلال به، لأنّ العطف على ضمير مستتر هو في حكم بعض الفعل ممتنع. و نحوه: اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ (2).

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 55 الى 58]

قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ [55] قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [56] وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [57] فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [58]

ص: 329


1- السبّة: العار، و من يكثر الناس سبّه.
2- البقرة: 35.

و لمّا استبعدوا أن يكون ما هم عليهم ضلالا، بقوا متعجّبين من تضليله إيّاهم، و حسبوا أنّ ما قاله إنّما قاله على وجه المزاح و المداعبة، لا على طريق الجدّ قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أجادّ أنت فيما تقول محقّ عند نفسك، أم لاعب مازح؟

قالَ إضرابا عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادّعاه: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ الضمير للسّماوات و الأرض، أو للتماثيل. و هو أدخل في تضليلهم، و إلزام الحجّة عليهم.

وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ المذكور من التوحيد مِنَ الشَّاهِدِينَ المتحقّقين له، و المبرهنين عليه، فإنّ الشاهد من تحقّق الشي ء عنده و حقّقه. فشهادته على ذلك احتجاجه عليه، و تصحيحه بالحجّة، كما تصحّح الدعوى بالشهادة. كأنّه قال: و أنا أبيّن ذلك و أبرهن عليه، كما تبيّن الدعاوي بالبيّنات، لأنّي لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجّة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، و لم تزيدوا على أنّكم وجدتم عليه آباءكم.

وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأجتهدنّ في كسرها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا عنها مُدْبِرِينَ إلى عيدكم. و إيثار التاء على الباء- مع أنّ الباء هي الأصل، فإنّ التاء بدل من الواو المبدلة منها- لما في التاء من زيادة معنى، و هو التعجّب. و ذكر الكيد لتوقّفه على نوع من الحيل، فكأنّه تعجّب من تسهّل الكيد على يده و تأتّيه، لأنّ ذلك كان أمرا مقنوطا منه، لصعوبته و تعذّره. و لعمري أنّ مثله صعب متعذّر في كلّ زمان، خصوصا في زمن نمرود، مع عتوّه و استكباره و قوّة سلطانه، و حرصه على نصرة دينه، و لكن: إذا اللّه سنّى (1) عقد شي ء تيسّرا (2).

ص: 330


1- في هامش النسخة الخطّية: «سنّى الأمر: إذا سهّله. و سنّى العقدة إذا حلّها. منه».
2- تمام البيت: و أعلم علما ليس بالظنّ أنّه إذا اللّه .......... أي: إذا سهّل اللّه صعوبة شي ء و أزالها سهل تحصيله أو دفعه.

عن قتادة و مجاهد: إنّما قال ذلك سرّا من قومه، و لم يسمع ذلك إلّا رجل منهم فأفشاه.

فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قطاعا. فعال بمعنى مفعول، كالحطام. من: الجذّ، و هو القطع.

و قرأ الكسائي بالكسر. و هو لغة، أو جمع جذيذ، كخفاف و خفيف. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ للأصنام. يعني: كسر غيره و استبقاه.

روي أنّ آزر خرج بإبراهيم في يوم عيد لهم، فبدءوا ببيت الأصنام فدخلوه و سجدوا لها، و وضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم، و قالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا. فذهبوا و بقي إبراهيم، فنظر إلى الأصنام، و كانت سبعين صنما مصطفّة، و ثمّ صنم عظيم مستقبل الباب، و كان من ذهب، و في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلّها بفأس في يده، حتّى لم يبق إلّا الكبير، فعلّق الفأس في عنقه.

لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ لأنّه عليه السّلام غلب على ظنّه أنّهم لا يرجعون إلّا إليه، لتفرّده و اشتهاره بينهم بعداوة آلهتهم، فيحاجّهم بقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ» فيحجّهم.

و عن الكلبي: الضمير للكبير، أي: لعلّهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن كاسرها، إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حلّ العقد، فيبكّتهم بذلك إذا تبيّن لهم أنّه عاجز لا ينفع و لا يضرّ، و ظهر أنّهم في عبادته على جهل عظيم. أو إلى اللّه، أي: يرجعون إلى توحيده عند تحقّقهم عجز آلهتهم.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 59 الى 65]

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [59] قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [60] قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ

ص: 331

يَشْهَدُونَ [61] قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [62] قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [63]

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [64] ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [65]

قالُوا حين رجعوا إلى معبدهم و رأوا ما رأوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ لشديد الظلم، معدود في الظلمة بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإعظام، أو إفراطه في حطمها، و تماديه في الاستهانة بها، أو بتوريط نفسه للهلاك. و «من» يحتمل الاستفهام و الموصول.

قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يعيبهم فلعلّه فعله. و «يذكر» صفة «فتى» مصحّحة لأن يتعلّق به السمع. و هو أبلغ في نسبة الذكر إليه. يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ هو إبراهيم.

و يجوز رفعه بالفعل، لأنّ المراد به الاسم لا المسمّى. و هذا أيضا صفة «فتى»، إلّا أنّه لا يحتاج السمع إليه في تعلّقه، بخلاف الأوّل.

قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ في محلّ الحال، بمعنى: معاينا مشاهدا، أي:

بمرأى منهم و منظر. و «على» وارد على طريق التشبيه، أي: يثبت إتيانه في الأعين، و تتمكّن صورته فيها تمكّن الراكب على المركوب. لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بفعله، أو يحضرون عقوبتنا له.

روي: أنّ الخبر بلغ نمرود و أشراف قومه، فأمروا بإحضاره، فلمّا حضر قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ هذا من معاريض الكلام، و لطائف هذا النوع، لا يتغلغل فيها إلّا أذهان

ص: 332

الراضة (1) من علماء المعاني.

و تنقيح الكلام فيه: أنّ قصد إبراهيم عليه السّلام لم يكن إلى أن ينسب العقل الصادر عنه إلى الصنم، و إنّما قصد تقريره لنفسه، و إثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجّة و تبكيتهم. و هذا كما لو قال لك صاحبك و قد كتبت كتابا بخطّ رشيق- و أنت شهير بحسن الخطّ-: أ أنت كتبت هذا، و صاحبك أمّي لا يحسن الخطّ، و لا يقدر إلّا على خرمشة (2) فاسدة؟ فقلت له: بل كتبته أنت. كأنّ قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك و إثباته للأمّي أو المخرمش، لأنّ إثباته- و الأمر دائر بينكما للعاجز منكما- استهزاء به و إثبات للقادر.

و لقائل أن يقول: غاضته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفّة مرتّبة، و كان غيظ كبيرها أكبر و أشدّ، لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه، لأنّه هو الّذي تسبّب لاستهانته بها و حطمه لها، و الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه.

و يجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم إلزاما لهم. كأنّه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم؟ فإنّ من حقّ من يعبد و يدعى إلها أن يقدر على هذا و أشدّ منه.

و يحكى أنّه قال: فعله كبيرهم هذا حين غضب أن تعبد معه هذه الصغار و هو أكبر منها.

و قيل: إنّه في المعنى متعلّق بقوله: «إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» و ما بينهما اعتراض. فعلّق الكلام بشرط لا يوجد، فلا يكون كذبا، كقول القائل: فلان

صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء.

و قيل: الضمير ل «فتى» أو إبراهيم، و لذلك وقف على «فعله»، و يبتدأ فيقرأ:

«كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ».

ص: 333


1- أي: المهرة الخبراء في تذليل صعاب المسائل و تطويعها. جمع رائض.
2- في هامش النسخة الخطّية: «قال الأزهري: الخرمشة إفساد الكتاب و العمل و نحوه. منه». انظر تهذيب اللغة للأزهري 7: 646.

فلمّا ألقمهم الحجر، و أخذ بمخانقهم، و حاروا عن جوابه فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ و راجعوا عقولهم فَقالُوا فقال بعضهم لبعض إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ على الحقيقة بهذا السؤال، أو بعبادة من لا ينطق و لا يضرّ و لا ينفع، لا من ظلمتموه بقولكم: من فعل بهذا بآلهتنا إنّه لمن الظالمين.

ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ النكس: القلب. تقول: نكسته أي: قلبته، فجعلت أسفله أعلاه. و انتكس: انقلب.

و المعنى: استقاموا اوّلا حين رجعوا إلى أنفسهم و جاؤا بالفكرة الصالحة، ثمّ انتكسوا و انقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل و المكابرة. فشبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشي ء مستعليا على أعلاه. فقالوا جدالا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فكيف تأمر بسؤالها؟! أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة، لفرط إطراقهم خجلا و انكسارا و انخزالا (1) ممّا بهتهم به إبراهيم عليه السّلام. فما أحاروا جوابا إلّا ما هو حجّة عليهم، لأنّهم نفوا عن آلهتهم القدرة على النطق، و اعترفوا بأنّها- مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق- آلهة معبودة.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 66 الى 73]

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ [66] أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [67] قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ [68] قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ

[69] وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ [70] وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى

ص: 334


1- أي: انقطاعا.

الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ [71] وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ [72] وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [73]

قالَ إنكارا لعبادتهم لها، بعد اعترافهم بأنّها جمادات أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ لا تنفع و لا تضرّ، بعيدة جدّا عن رتبة الألوهيّة، و تضجّرا ممّا رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، و بعد وضوح الحقّ و زهوق الباطل.

أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «أفّ» صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجّر. و اللام لبيان المتأفّف به، أي: لكم و لآلهتكم هذا التأفّف. أَ فَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم.

و لمّا عجزوا عن المحاجّة و غلبوا، أجمعوا رأيهم بإهلاكه قالُوا حَرِّقُوهُ فإنّ النار أهول ما يعاقب به وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ناصرين لها نصرا مؤزّرا، فاختاروا له أهول المعاقبات، و هي الإحراق بالنار، و إلّا فرّطتم في نصرتها. و لهذا عظّموا النار، و تكلّفوا في تشهير أمرها، و تفخيم شأنها، و لم يألوا جهدا في ذلك. و هكذا حال المبطل إذا قرعت شبهته بالحجّة و افتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحقّ، و لم يبق له مفزع إلّا مناصبته، كما فعلت قريش برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين عجزوا عن المعارضة.

و القائل بالتحريق فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون، خسف به الأرض، فهو يتجلجل (1) فيها إلى يوم القيامة.

و قيل: نمروذ.

ص: 335


1- تجلجل في الأرض أي: ساخ فيها و دخل.

روي أنّهم حين همّوا بإحراقه حبسوه، ثمّ بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى (1)، و جمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتّى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عوفيت لأجمعنّ حطبا لإبراهيم. ثمّ أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها (2). و لمّا أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدلّهم على المنجنيق، و هو أوّل منجنيق صنعت، فوضعوه فيها مقيّدا مغلولا، فرموا به فيها.

فناداه جبرئيل حين أشرف على النار: يا إبراهيم هل لك حاجة؟

فقال: أمّا إليك فلا.

فقال: فسل ربّك.

قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.

فببركة هذا القول قُلْنا بواسطة جبرئيل يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً ذات برد و سلام عَلى إِبْراهِيمَ أي: ابردي بردا غير ضارّ.

و فيه مبالغات: جعل النار المسجّرة مسخّرة لقدرته، مأمورة مطيعة له، و إقامة:

كوني ذات برد، مقام: ابردي، ثمّ حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه.

و عن ابن عبّاس: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها.

و قيل: نصب «سلاما» بفعله، أي: و سلّمنا سلاما عليه.

و عن ابن عبّاس: إنّما نجا إبراهيم بقوله: حسبي اللّه و نعم الوكيل.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «يا اللّه، يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد. فحسرت النار عنه».

روي: أنّه لما ادني إبراهيم عليه السّلام إلى حظيرة النار، جعلها اللّه روضة لم يحترق منه إلّا وثاقه (3).

ص: 336


1- كوثى: محلّة بالعراق، و محلّة بمكّة لبني عبد الدار. القاموس 1: 173.
2- وهج النار: اتّقادها، أو حرّها من بعيد.
3- الوثاق: ما يشدّ به من قيد و حبل و نحوهما.

و روى الواحدي بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ نمروذ الجبّار لمّا ألقى إبراهيم في النار، أتى إليه جبرئيل بقميص من الجنّة، و طنفسة (1) من الجنّة، فألبسه القميص، و أقعده على الطنفسة، و قعد معه يحدّثه» (2).

روي: أنّ نمرود اطّلع عليه من الصرح فإذا هو في روضة خضراء، و معه جليس له من الملائكة، فقال: عظيم ربّك يا إبراهيم، إنّي مقرّب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة، و كفّ عن إبراهيم. و كان إبراهيم إذ ذاك ابن ستّ عشرة سنة.

و انقلاب النار هواء طيّبا ليس ببدع، غير أنّه هكذا على خلاف المعتاد، فهو إذن من معجزاته.

و قيل: كانت النار بحالها، لكنّه تعالى نزع عنها طبعها الّذي طبعها عليه من الحرّ و الإحراق، و أبقاها على الإضاءة و الإشراق و الاشتعال كما كانت، و اللّه على كلّ شي ء قدير. و يجوز أن يدفع اللّه تعالى بقدرته عن جسم إبراهيم أذى حرّها، و يذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنّم، و كما ترى في السمندر.

وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً مكرا في إضراره فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أخسر من كلّ خاسر، لمّا عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنّهم على الباطل و إبراهيم على الحقّ، و موجبا لمزيد درجته و استحقاقهم أشدّ العذاب.

قال ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى سلّط على نمروذ و خيله البعوض، حتّى أخذت لحومهم، و شربت دماءهم، و وقعت واحدة في دماغه حتّى أهلكته، و ذلك معنى قوله:

«فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ».

وَ نَجَّيْناهُ من نمروذ و كيده وَ لُوطاً و هو ابن أخيه إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ بأن أمرناهما أن يذهبا من العراق إلى الشام. و بركاته الواصلة إلى

ص: 337


1- الطنفسة: البساط و الحصير.
2- تفسير الوسيط 3: 244.

العالمين: أنّ أكثر الأنبياء بعثوا فيه، فانتشرت في العالمين شرائعهم الّتي هي مبادئ الكمالات و الخيرات الدينيّة و الدنيويّة.

و قيل: بارك اللّه فيه بكثرة الماء و الشجر و الثمر، و الخصب الغالب، و طيب عيش الغنيّ و الفقير.

و عن سفيان: أنّه خرج إلى الشام، فقيل له: إلى أيّ موضع؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب (1) بدرهم.

و قيل: ما من ماء عذب إلّا و ينبع أصله من تحت الصخرة الّتي ببيت المقدس.

و روي: أنّه نزل بفلسطين، و لوط بالمؤتفكة، و بينهما مسيرة يوم و ليلة.

و عن ابن عبّاس: نجّاهما إلى مكّة، كما قال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (2).

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً عطيّة محض تفضّل منّا زائدة. فهي حال منهما. أو أعطيناه يعقوب هبة زائدة، فإنّه سألنا ولدا حين قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (3). و نحن وهبناه ولدا و ولد ولد. فعلى هذا الحال تختصّ بيعقوب. و لا بأس به، للقرينة.

وَ كُلًّا يعني: الأربعة جَعَلْنا صالِحِينَ للنبوّة. أو وفّقناهم للصلاح، و حملناهم عليه، فصاروا كاملين.

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم يَهْدُونَ الناس إلى طريق الحقّ بِأَمْرِنا لهم بذلك، و إرسالنا إيّاهم، حتّى صاروا مكمّلين عبادنا.

و فيه إشارة إلى أنّ من صلح ليكون قدوة في دين اللّه عزّ و جلّ، فالهداية محتومة عليه،

ص: 338


1- الجراب: وعاء من جلد. و جمعه أجربة.
2- آل عمران: 96.
3- الصافّات: 100.

مأمور هو بها من جهة اللّه، ليس له أن يخلّ بها، و يتثاقل عنها. و أوّل ذلك أن يهتدي بنفسه، لأنّ الانتفاع بهداية المهتدي أعمّ، و النفوس إلى الاقتداء بالمهديّ أميل.

و لهذا قال عزّ و جلّ: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ليحثّوهم عليه، فيتمّ كمالهم بانضمام العمل إلى العلم. و عن ابن عبّاس: هي شرائع النبوّة. و أصله: أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثمّ فعل الخيرات. و كذلك قوله: وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ. و هو من عطف الخاصّ على العامّ، للتفضيل. و حذفت تاء الإقامة المعوّضة من إحدى الألفين، لقيام المضاف إليه مقامها.

وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ موحّدين مخلصين في العبادة. و لذلك قدّم الصلة.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 74 الى 75]

وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ [74] وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [75] وَ لُوطاً منصوب بفعل يفسّره قوله: آتَيْناهُ حُكْماً حكمة، أو نبوّة، أو فصلا بين الخصوم وَ عِلْماً بما ينبغي علمه للأنبياء.

وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ قرية سدوم، من أعظم القرى بالمؤتفكة الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني: اللواط، و التضارط في أنديتهم، و قطع الطريق، و غير ذلك من القبائح. و أراد بالقرية أهلها، فوصفها بصفة أهلها، أو أسندها إليها على حذف المضاف و إقامتها مقامه. و يدلّ عليه قوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه تعالى. و هو كالتعليل لقوله: «تَعْمَلُ الْخَبائِثَ».

وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا في أهل رحمتنا و نعمتنا. أو في جنّتنا. و منه الحديث:

ص: 339

«هذه- يعني: الجنّة- رحمتي أرحم بها من أشاء».

إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى، أي: بسبب أنّه من الصالحين الّذين أصلحوا أفعالهم، فعملوا بما هو الحسن منها دون القبيح. و قيل: أراد أنّه من النبيّين.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 76 الى 77]

وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [76] وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ [77]

ثمّ عطف سبحانه قصّة نوح و داود على قصّة إبراهيم، لما بينهما من الشبه في تحمّل المشاقّ العظيمة و الأذى الكثيرة من الأمّة، فقال: وَ نُوحاً إِذْ نادى إذ دعى اللّه على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (1) مِنْ قَبْلُ من قبل هؤلاء المذكورين فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الغمّ الشديد الّذي يصل حرّه إلى القلب و يقلقه. و هو الطوفان، أو أذى قومه.

وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من: نصرته فانتصر، بمعنى: منعته فامتنع. فهو من النصر الّذي يطاوعه الانتصار، لا من النصر الذي بمعنى الإعانة، لأنّ «من» آبية عنه. يقال: اللّهمّ انصرني منه، أي: اجعلني منتصرا منه. فالمعنى: جعلناه منتصرا منهم. و عن أبي عبيدة: «من» بمعنى «على». فعلى هذا يكون المعنى: أعنّاه عليهم، بأن نغلبه و نسلّطه عليهم بعد أن كان مغلوبا في أيديهم.

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ لاجتماع الأمرين: تكذيب الحقّ، و الانهماك في الشرّ فيهم، فإنّهما لم يجتمعا في قوم إلّا و أهلكهم اللّه.

ص: 340


1- نوح: 26.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 78 الى 82]

وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [78] فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ [79] وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ [80] وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ [81] وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ [82]

ثمّ عطف على قصّة نوح عليه السّلام، قصّة داود و سليمان. و وجه تخصيصهما بالذكر بعد قصّته: مزيّة علوّ رتبتهما دينا و دنيا على أنبياء بني إسرائيل، و تنبيه نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أنّهما مع كونهما ملكين عظيمين، لا يمنع ملكهما و حشمتهما عن تبليغ الأحكام الشرعيّة و سائر وظائف العبوديّة، فينبغي أن يكون اهتمامك في أداء وظائف العبادة و تبليغ الرسالة أبلغ منهما، لقلّة سعيك بالأمور الدينيّة، فقال:

وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ أي: اذكرهما إِذْ يَحْكُمانِ و هو بدل منهما، أي: و اذكر حين يحكم داود و سليمان فِي الْحَرْثِ في الزرع. و قيل: في كرم تدلّت عناقيده. إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ حين رعته ليلا. يقال: نفشت الغنم و الإبل، تنفش نفشا، إذا رعت ليلا بلا راع، فلا يكون النفش إلّا بالليل. وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ لحكم الحاكمين و المتحاكمين إليهما شاهِدِينَ عالمين، لم يغب عنّا منه شي ء.

ص: 341

فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ الضمير للحكومة أو الفتوى.

روي أنّ داود حكم بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان- و هو ابن إحدى عشرة سنة-: غير هذا يا نبيّ اللّه أرفق بالفريقين.

قال: و ما ذاك؟

قال: تدفع الغنم إلى صاحب الزرع، فينتفع بألبانها و أولادها و أشعارها، و الحرث إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتّى يعود كهيئة يوم أفسد، ثمّ يترادّان.

فقال داود: القضاء ما قضيت، و أمضى الحكم بذلك.

و الصحيح أنّهما جميعا حكما بالوحي، إلّا أنّ حكومة سليمان نسخت حكومة داود، لأنّ الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظنّ و الاجتهاد و لهم طريق إلى العلم.

و في قوله: وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً دليل على أنّ كليهما كانا مصيبين، و يبطل قول البلخي و أضرابه من العامّة أنّه يجوز أن يكون ذلك الحكم عن اجتهاد.

و تنقيح المبحث: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان يوحى إليه، و له طريق إلى العلم بالحكم، فلا يجوز أن يحكم بالظنّ. على أنّ الحكم بالظنّ و الاجتهاد و القياس، قد بيّن أصحابنا في كتبهم أنّه لم يتعبّد بها في الشرع إلّا في مواضع مخصوصة. و لأنّه لو جاز للنبيّ أن يجتهد، لجاز لغيره أن يخالفه، كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا، و مخالفة الأنبياء عليهم السّلام تكون كفرا.

هذا و قد قال اللّه سبحانه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1). فأخبر سبحانه أنّه إنّما ينطق عن جهة الوحي.

إن قلت: لم لا يجوز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة و فقد الوحي، و كان تأخير الحكم ضررا؟ و حينئذ لا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم، إذ الفرض عدمه.

قلت: إنّ الحكم حينئذ ليس باجتهاد، لدلالة الوحي على نفي الضرر، فيكون حكما بالنصّ النوعي.

ص: 342


1- النجم: 3- 4.

و اعلم أنّ حكم هذه المسألة في شرعنا ضمان مالك الماشية مع التفريط لا بدونه، تمسّكا بالروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و قال بعض أصحابنا و الشافعي، يضمن ليلا لا نهارا، تمسّكا بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين دخلت ناقة البراء حائطا فأفسدته:

«على أهل الأموال حفظها بالنهار، و على أهل الماشية حفظها بالليل».

و عند أبي حنيفة: لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «جرح العجماء جبار (1)».

وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ يقدّسن اللّه معه، بأن يخلق اللّه فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلّم موسى. و هو حال بمعنى مسبّحات. أو استئناف لبيان وجه التسخير، كأنّ قائلا يقول: كيف سخّرهنّ؟ فقال: يسبّحن. و «مع» متعلّقة به، أو ب «سخّرنا».

و قيل: معنى التسبيح السير، يعني: يسرن معه حيث شاء. من السباحة.

و قيل: معناه: يسبّح من رآها تسير بتسيير اللّه عزّ و جلّ. فلمّا حملت على التسبيح و صفت به.

وَ الطَّيْرَ عطف على الجبال، أو مفعول معه. و قدّم الجبال على الطير، لأنّ تسخيرها و تسبيحها أعجب و أدلّ على القدرة، و أدخل في الإعجاز، لأنّها جماد، و الطير حيوان، إلّا أنّه غير ناطق.

و روي: أنّه كان يمرّ بالجبال مسبّحا و هي تجاوبه. و كذلك الطير يسبّح معه بالغداة و العشيّ معجزة له.

وَ كُنَّا فاعِلِينَ لأمثاله، فليس ببدع منّا، و إن كان عجبا عندكم.

وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ عمل الدرع. و هو في الأصل اللباس. قال:

ص: 343


1- العجماء: البهيمة. و الجبار: الهدر. أي: جرح البهيمة هدر، لأنّها لا تقاصّ بما فعلت.

البس لكلّ حالة لبوسهاإمّا نعيمها و إمّا بوسها

قال قتادة: أوّل من صنع الدروع داود، و إنّما كانت صفائح، جعل اللّه سبحانه الحديد في يده كالعجين، فهو أوّل من سردها (1) و حلقها، فجمعت الخفّة و التحصين.

لَكُمْ متعلّق ب «علّم». أو صفة للبوس. لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ليحرزكم و يمنعكم من وقع السلاح. و قيل للسلاح: بأسكم. و قيل: معناه: من حربكم، أي: في حالة الحرب و القتال، فإنّ البأس في اللغة هو شدّة القتال. و هذا بدل من «لكم» بدل الاشتمال، بإعادة الجارّ. و الضمير لداود، أو للبوس.

و قرأ ابن عامر و حفص بالتاء للصنعة، أو للبوس على تأويل الدرع. و في قراءة أبي بكر و رويس بالنون للّه عزّ و جلّ.

فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة و التقريع.

روي: أنّ سبب إلانة الحديد لداود عليه السّلام أنّه كان نبيّا ملكا، و كان يطوف في ولايته متنكّرا يتعرّف أحوال عمّاله و متصرّفيه، ليدفع المنكر إن صدر منهم. فاستقبله جبرئيل عليه السّلام ذات يوم على صورة آدميّ، فسلّم عليه. فردّ السلام، و قال: ما سيرة داود؟

فقال: نعمت السيرة لو لا خصلة فيه.

قال: و ما هي؟

فقال: إنّه يأكل من بيت مال المسلمين.

فتنكّره و أثنى عليه، و قال: لقد أقسم داود إنّه لا يأكل من بيت مال المسلمين.

فعلم اللّه سبحانه صدقه، فألان له الحديد، كما قال: وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (2).

و روي: أنّ لقمان الحكيم حضره فرآه يفعل ذلك، فصبر و لم يسأله حتّى فرغ من ذلك، فقام و لبس و قال: نعمت الجنّة للحرب. فقال لقمان: الصمت حكمة، و قليل فاعله.

ص: 344


1- سرد الدرع: نسجها. و يقال لصانع الدرع: سرّاد.
2- سبأ: 10.

وَ لِسُلَيْمانَ عطف على «مَعَ داوُدَ الْجِبالَ». و يحتمل أن يكون اللام فيه دون الأوّل، لأنّ الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له، و في الأوّل أمر يظهر في الجبال و الطير مع داود و بالإضافة إليه الرِّيحَ عاصِفَةً شديدة الهبوب، من حيث إنّها مرّت بكرسيّه و أبعدت به في مدّة يسيرة، كما قال تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ (1). فكانت عاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان، رخاء في نفسها، طيّبة كالنسيم.

و قال ابن عبّاس: كانت رخاء في وقت، و عاصفة في وقت آخر، حسب إرادته.

و ذلك قوله: رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (2).

تَجْرِي بِأَمْرِهِ بمشيئته. حال ثانية، أو بدل من الأولى، أو حال من ضميرها.

إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منه بكرة وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ فنجري الأشياء كلّها على ما تقتضيه حكمتنا و علمنا. فإنّما أعطيناه ما أعطيناه، لما علمناه من المصلحة.

قال وهب: و كان سليمان يخرج إلى مجلسه، فتعكف عليه الطير، و يقوم له الإنس و الجنّ، حتّى يجلس على سريره، و يجتمع معه جنوده، ثمّ تحمله الريح إلى حيث أراد.

وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في البحار، و يستخرجون جواهرها النفيسة. و الغوص هو النزول إلى تحت الماء. و «من» عطف على الريح. أو مبتدأ خبره ما قبله. و هي نكرة موصوفة.

وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ سواه، أي: يتجاوزون ذلك إلى أعمال أخر، كبناء المدن و القصور، و اختراع الصنائع الغريبة، كقوله: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ

ص: 345


1- سبأ: 12.
2- ص: 36.

وَ تَماثِيلَ (1).

وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره، أو يفسدوا فيما هم مسخّرون فيه، على ما هو مقتضى جبلّتهم، أو يهربوا منه و يمتنعوا عليه.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 83 الى 84]

وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [83] فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ [84]

ثمّ عطف قصّة أيّوب على القصص السابقة، و بيّن فيها شدّة ابتلائه، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في احتمال شدّة المتاعب، فقال: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي: اذكر يا محمّد أيّوب حين دعا ربّه لمّا امتدّت المحنة به أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ بأنّي نالني الضرّ، و أصابني الجهد. و الضرّ بالضمّ خاصّ بما في النفس، كمرض و هزال، و بالفتح شائع في كلّ ضرر.

وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: و لا أحد أرحم منك. وصف ربّه بغاية الرحمة، بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها. و اكتفى بذلك التعريض عن التصريح بالمطلوب- الّذي هو إزالة ما به من البلاء- لطفا في السؤال.

و كان روميّا من ولد عيص بن إسحاق بن يعقوب، استنباه اللّه، و كثر أهله و ماله.

و كان له سبعة بنين، و سبع بنات، و له أصناف البهائم، و خمسمائة فدان (2)، يتبعها خمسمائة عبد، لكلّ عبد امرأة و ولد و

نخيل. فابتلاه اللّه بهلاك أولاده، بأن انهدم عليهم البيت فهلكوا، و بذهاب أمواله، و بالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. و عن قتادة: ثلاث

ص: 346


1- سبأ: 13.
2- في هامش النسخة الخطّية: «الفدان: البقر مع آلاته للحرث. و الفدادين جمعه. منه».

عشرة سنة. و عن مقاتل: سبعا و سبعة أشهر و سبع ساعات.

و روي: أنّ امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف، أو رحمة بنت افرائيم بن يوسف، قالت له يوما: لو دعوت اللّه؟ فقال لها: كم كانت مدّة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة، فقال:

أنا أستحي من اللّه أن أدعوه، و ما بلغت مدّة بلائي مدّة رخائي.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أزلنا ما به من الأوجاع و الأمراض، و نشفيه منها، لينقطعوا إلينا، و يتوكّلوا علينا في حالة الشدّة وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ بأن ولد له ضعف ما كان. و روي: أنّ اللّه تعالى أحيا ولده، و رزقه مثلهم، و نوافل منهم. و روي: أنّ امرأته ولدت بعد ذلك ستّة و عشرين ابنا.

و عن ابن عبّاس و ابن مسعود: ردّ اللّه سبحانه أهله بأعيانهم و أشخاصهم، و أعطاه مثلهم معهم. و كذلك ردّ اللّه عليه أمواله و مواشيه بأعيانها، و أعطاه مثلها معها. و به قال الحسن و قتادة. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

رَحْمَةً على أيّوب مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ و تذكرة له و لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب في الدارين. أو لرحمتنا للعابدين، و ذكرنا إيّاهم بالإحسان.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 85 الى 86]

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [85] وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [86]

ثمّ ذكر غيرهم من الأنبياء الصابرين على

مشاقّ التكاليف و حسن عواقبهم ببركة صبرهم، فقال: وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ يعني: إلياس. و قيل:

يوشع بن نون.

رواه ابن بابويه عن الرضا عليه السّلام في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السّلام.

و قيل: زكريّا.

سمّي به لأنّه كان ذا حظّ من اللّه. و قيل: كفل مائة نبيّا، أي: ضمّهم إلى نفسه حتّى نجّاهم من القتل، أو تكفّل مريم. و قيل: لأنّه كان له ضعف عمل أنبياء زمانه، و ضعف

ص: 347

ثوابهم. و الكفل يجي ء بمعنى النصيب و الكفالة و الضعف.

و روي: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل و يعقوب، إلياس و ذو الكفل، عيسى و المسيح، يونس و ذو النون، محمّد و أحمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين.

و قيل: إنّ ذا الكفل نبيّ كان بعد سليمان، و كان يقضي بين الناس كقضاء داود، و لم يغضب قطّ إلّا للّه عزّ و جلّ.

و قيل: هو اليسع بن خطوب الّذي كان مع إلياس، تكفّل لملك جبّار إن هو تاب دخل الجنّة، و دفع إليه كتابا بذلك. فتاب الملك، و كان اسمه كنعان، فسمّي ذا الكفل.

و عن مجاهد: أوحى اللّه إلى اليسع أنّي أريد قبض روحك، فأعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن يكفل لك أن يصلّي بالليل و لا يفتر، و يصوم بالنهار و لا يفطر، و يقضي بين الناس و لا يغضب، فادفع ملكك إليه، ففعل ذلك. فقام شابّ فقال: أنا أتكفّل لك هذا، فتكفّل و وفى به. فشكر اللّه ذلك له و أثنى عليه. و لذلك سمّي ذا الكفل. و العلم عند اللّه.

كُلٌ أي: كلّ هؤلاء مِنَ الصَّابِرِينَ على التكاليف الشاقّة و النوائب الشديدة.

وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أي: غمرناهم بالرحمة. و هي نعمة الآخرة. فلو قال:

رحمناهم لما أفاد ذلك، بل أفاد أنّه فعل بهم الرحمة. و قيل: المراد بالرحمة النبوّة. إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح. و هم الأنبياء، فإنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 87 الى 88]

وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [87] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [88]

ص: 348

و بعد ذكر الأنبياء الصابرين على البلاء، بيّن قصّة يونس، و ترك ندبه الّذي هو عدم ثباته على الصبر، تنبيها للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الإقدام بفعل الذنب، لئلّا يعاتب كما عوتب يونس، فقال:

وَ ذَا النُّونِ و اذكر يا محمّد صاحب الحوت يونس بن متّى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً لقومه، لمّا برم (1) بقومه، لطول ما ذكّرهم فلم يذكروا، لفرط عنادهم، و شدّة شكيمتهم، فهاجر عنهم قبل أن يؤمر.

و قيل: و عدهم بالعذاب، فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم، و لم يعرف الحال، فظنّ أنّه كذبهم، و غضب من ذلك. و المغاضبة من بناء المغالبة للمبالغة، أو لأنّه أغضبهم بالمهاجرة، لخوفهم لحوق العذاب عندها.

فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيّق عليه، من القدر بسكون الدال. أو لن نقضي عليه بالابتلاء، من القدر بمعنى القضاء. أو لن نعمل فيه قدرتنا.

و قيل: هو من باب التمثيل. بمعنى: كانت حاله ممثّلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمرنا. و ذلك لحسبانه أنّ ذلك يسوغ له، حيث لم يفعله إلّا غضبا للّه، و أنفة لدينه، و بغضا للكفر و أهله. و لكن كان الأولى به أن يصابر، و ينتظر الإذن من اللّه في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت.

و من قال: إنّه خرج مغاضبا لربّه، و أنّه ظنّ أن لن يقدر اللّه على أخذه، بمعنى أنّه يعجز عنه، فقد أسند الكفر إلى الأنبياء و العياذ باللّه، فإنّ مغاضبة اللّه كفر أو كبيرة عظيمة، و تجويز العجز على اللّه سبحانه أيضا كذلك. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا، و تبرّأ أنبياؤه عن هذه المظنّة الفاسدة.

و عن ابن عبّاس: أنّه دخل على معاوية، فقال له: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلّا بك. قال: و ما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه

ص: 349


1- أي: سئم و ضجر.

الآية. و قال: أ يظنّ نبيّ اللّه أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر، لا من القدرة. يعني: أن لن نضيّق عليه، كما في قوله: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ (1).

و روي: أنّه أتى ببحر الروم، و إذا سفينة محشوّة، فركب فيها حتّى إذا توسّطت الماء ركدت لا تتقدّم و لا تتأخّر. فقال أهل السفينة: إنّ لسفينتنا شأنا.

قال يونس: قد عرفت شأنها.

قالوا له: و ما شأنها؟

قال: ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة.

قالوا: و من هو؟

قال: لأنا، فاقذفوني من سفينتكم في البحر.

قالوا: ما نطرحك من بيننا حتّى نعذر في شأنك.

فقال لهم: فاستهموا حتّى تنظروا إلى من يقع عليه السهم.

فاقترعوا، فادحض (2) سهم يونس. ففعلوا ذلك مرارا، و خرجت القرعة عليه في كلّ مرّة. فألقى نفسه في البحر، فإذا حوت فاغر فاه (3) فالتقمه.

فَنادى فِي الظُّلُماتِ في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت. و قيل:

ظلمات ثلاث: بطن الحوت، و البحر، و الليل. كذا قاله ابن عبّاس. و قيل: ابتلع

حوته حوت آخر أكبر منه، فحصل في ظلمتي بطني الحوتين.

أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ بأنّه لا إله إلّا أنت. أو بمعنى «أي» التفسيريّة. سُبْحانَكَ أن يعجزك شي ء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة قبل أن تأذن لي.

ص: 350


1- الطلاق: 7.
2- أي: أزلق، من: أدحض الرجل: أزلقها.
3- أي: فاتح.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له، لقوله تعالى عقيب ذلك: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه. و قيل: ثلاثة أيّام. و قيل: أربعين يوما. و بقاؤه في بطن الحوت في هذه المدّة معجزة له. و الغمّ غمّ الالتقام. و قيل: غمّ ترك الندب.

وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من الغموم إذا دعونا بالإخلاص، كما أنجينا ذا النون.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 89 الى 90]

وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [89] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ [90]

ثمّ قصّ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قصّة زكريّا، و انقطاعه إلى اللّه عمّا سواه، فقال:

وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدا بلا ولد يرثني وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي: إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي، فإنّك خير وارث.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي: أصلحناها للولادة بعد عقرها. أو لزكريّا بتحسين خلقها، و كانت سيّئة الخلق.

إِنَّهُمْ يعني: الأنبياء المذكورين كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يبادرون إلى أبواب الخير وَ يَدْعُونَنا رَغَباً ذوي رغب. أو راغبين في الثواب، راجين للإجابة.

أو في الطاعة. أو يرغبون رغبا. وَ رَهَباً ذوي رهب. أو راهبين. أو يرهبون رهبا من العقاب أو المعصية.

وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ ذللا لأمر اللّه. و عن ابن عبّاس: متواضعين. و عن مجاهد: الخشوع: الخوف الدائم في القلب. يعني: دائمي الوجل. و معنى الآية: إنّهم نالوا

ص: 351

من اللّه ما نالوا بهذه الخصال.

و في الآية دلالة على أنّ المسارعة إلى كلّ طاعة مرغّب فيها، و على أن الصلاة في أوّل الوقت أفضل.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 91 الى 92]

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [91] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [92]

و لمّا كان عيسى و أمّه متأخّرين عن الأنبياء السابقة بالزمان، قال بعد ذكر قصصهم: وَ الَّتِي أي: اذكرها. و هي مريم بنت عمران. أَحْصَنَتْ فَرْجَها إحصانا كلّيّا من الحلال و الحرام جميعا، كما قالت: وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (1).

فَنَفَخْنا فِيها أي: نفخنا الروح في عيسى فيها، أي: أحييناه في جوفها. و نحو ذلك أن يقول الزمّار: نفخت في بيت فلان، أي: نفخت في المزمار في بيته. فالنفخ بمعنى الإحياء، كما في قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (2) أي: أحييته. أو معناه: فعلنا النفخ فيها.

مِنْ رُوحِنا أي: أجرينا فيها روح المسيح، كما يجري الهواء بالنفخ. و إضافة الروح إلى نفسه على وجه الملك، أي: من الروح الّذي هو بأمرنا. أو المعنى: من جهة روحنا، و هو جبرئيل، يعني: أمرنا جبرئيل فنفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.

وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها أي: قصّتهما. أو حالهما. و لذلك وحّد قوله: آيَةً لِلْعالَمِينَ و هي ولادتها إيّاه من غير فحل، و تكلّمه في المهد بما يوجب براءة ساحتها من العيب، فإنّ من تأمّل حالهما تحقّق كمال قدرة الصانع تعالى.

ص: 352


1- مريم: 20.
2- الحجر: 29.

إِنَّ هذِهِ أي: ملّة الإسلام الّتي جميع الأنبياء المذكورين عليها أُمَّتُكُمْ أي:

ملّتكم الّتي يجب عليكم أن تكونوا عليها. و الخطاب للناس كافّة. أُمَّةً واحِدَةً ملّة واحدة، غير مختلفة فيما بين الأنبياء، و لا مشاركة لغيرها في صحّة الاتّباع. و أصل الأمّة الجماعة الّتي على مقصد واحد. فجعلت الشريعة أمّة لاجتماعهم بها على مقصد واحد.

وَ أَنَا رَبُّكُمْ الّذي خلقكم، لا إله لكم غيري فَاعْبُدُونِ لا غير.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 93 الى 94]

وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ [93] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ [94]

ثمّ ذكر حال اليهود و النصارى بالاختلاف، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة لينعى عليهم تفرّقهم في دينهم إلى المؤمنين، و يقبّح عندهم فعلهم، فقال: وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: جعلوا أمر دينهم قطعا موزّعة بقبيح فعلهم.

و المعنى: ألا ترون أيّها المؤمنون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين اللّه، و هو أنّهم جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزّع الجماعة الشي ء و يقسّمونه، فيصير لهذا نصيب و لذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه و صيرورتهم فرقا و أحزابا شتّى، متبرّأ بعضهم من بعض، بالشي ء المتوزّع.

ثم توعّدهم بقوله: كُلٌ من الفرق المتحزّبة إِلَيْنا الى حكمنا في وقت لا يقدر على الحكم سوانا راجِعُونَ فنجازيهم بأعمالهم.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ شيئا، مثل صلة الرحم، و معونة الضعيف، و نصر المظلوم، و التنفيس عن المكروب، و غير ذلك من أنواع الطاعات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و رسله، لأن هذه الأشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند اللّه، فهذا لقطع طمع الكفّار الثواب لهذه المذكورات فَلا كُفْرانَ فلا تضييع لِسَعْيِهِ استعير الكفران لمنع الثواب، كما استعير الشكر لإعطائه إذا قيل: إنّ اللّه شكور. و نفى نفي الجنس ليكون أبلغ

ص: 353

من أن يقول: فلا نكفر سعيه. وَ إِنَّا لَهُ لسعيه كاتِبُونَ مثبتون في صحيفة عمله، بأن نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك و يثبتوه، و ما نحن مثبتوه فهو غير ضائع، و يثاب عليه صاحبه.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 95 الى 97]

وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [95] حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [96] وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ [97]

ثم هدّد كفّار مكّة بأنّهم إن عذّبوا و أهلكوا، لم يرجعوا إلى الدنيا لجبران ما فات منهم من الإيمان و العمل الصالح، كغيرهم من الأمم المهلكة السابقة، فقال: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي: ممتنع على أهلها غير متصوّر منهم. فاستعير الحرام للممتنع وجوده.

و منه قوله عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (1) أي: منعهما منهم، و أبى أن يكونا لهم.

و قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي: و حرم، بكسر الحاء و سكون الراء. و هما لغتان، كحلال و حلّ.

أَهْلَكْناها حكمنا بإهلاكها، أو وجدناها هالكة بالعقوبة أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «لا» مؤكّدة لمعنى الامتناع، و الجملة الاسميّة مرفوع المحلّ بالابتداء، و «حرام» خبره، أو بأنّه فاعل له سادّ مسدّ خبره. و المعنى: ممتنع عليهم البتّة رجوعهم إلى الدنيا للتوبة عن الكفر و المعاصي، و كسب الايمان و العمل الصالح.

ص: 354


1- الأعراف: 50.

روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «كلّ قرية أهلكهم اللّه بعذاب فإنّهم لا يرجعون».

يعني: أنّ قوما عزم اللّه على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا و ينيبوا، إلى أن تقوم القيامة، فحينئذ يبعثون و يقولون: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (1).

و قيل: «لا» غير مزيدة. و المعنى: ممتنع عليهم أنّهم لا يرجعون إلى الجزاء في الآخرة. و يجوز أن يكون التقدير: و حرام عليها ذلك المذكور في الآية المتقدّمة من السعي المشكور غير المكفور، لأنّهم لا يرجعون عن الكفر. و حينئذ «حرام» مسند بضميره، و «أنّهم» مقدّر بحرف الجرّ لتعليل الحرام.

و قوله: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ متعلّق ب «حرام». أو بمحذوف دلّ عليه الكلام. أو ب «لا يرجعون» أي: يستمرّ الامتناع أو الهلاك أو عدم الرجوع إلى أن فتحت يأجوج و مأجوج، أي: سدّهما بحذف المضاف. يعني: إلى ظهور أمارة قيام الساعة، و هو فتح سدّهما. و هما قبيلتان من الإنس. روي: أنّ الناس عشرة أجزاء: تسعة منها يأجوج و مأجوج. و «حتّى» هي التي يحكى الكلام بعدها، و المحكيّ هي الجملة الشرطيّة. و قرأ ابن عامر و يعقوب: فتّحت بالتشديد.

وَ هُمْ يعني: يأجوج و مأجوج مِنْ كُلِّ حَدَبٍ مكان مرتفع من الأرض يَنْسِلُونَ يسرعون. من نسلان (2) الذئب. يعني: أنّهم يتفرّقون في الأرض، فلا ترى أمكنة إلّا و قوم منهم يصعدون منها مسرعين. و عن مجاهد: الضمير للناس كلّهم. يعني:

يخرجون كلّهم من قبورهم إلى الحشر.

وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ و هو القيامة فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب الشرط. و «إذا» للمفاجأة، تسدّ مسدّ الفاء الجزائيّة، كقوله تعالى: إِذا هُمْ

ص: 355


1- الأنبياء: 97.
2- نسل في مشيه نسلانا: أسرع.

يَقْنَطُونَ (1). فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكّد. و لو قيل: إذا هي شاخصة، أو فهي شاخصة، كان سديدا. و الضمير للقصّة، أو مبهم يفسّره الأبصار.

يا وَيْلَنا أي: يقولون هذه الكلمة. و هو واقع موقع الحال من الموصول، تقديره: قائلين يا ويلنا. قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي: غفلنا عن هذا اليوم و صحّة وقوعه، لاشتغالنا بأمور الدّنيا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا بالإخلال بالنظر و التفكّر فيه.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 98 الى 100]

إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [98] لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ [99] لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ [100]

ثمّ هدّد سبحانه مشركي مكّة، فقال خاطبا لهم: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأوثان حَصَبُ جَهَنَّمَ ما يحصب به، أي: ما يرمى به إليها و تهيج به. من:

حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء.

و يحتمل أن يراد بقوله: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» الأصنام و إبليس و أعوانه، لأنّهم بطاعتهم لهم و اتّباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. و يصدّقه ما

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل المسجد و صناديد قريش في الحطيم، و حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فجلس إليهم، فعرض له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النظر بن الحارث، فكلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أسكته، ثمّ تلا عليهم إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية.

فأقبل عبد اللّه بن الزبعرى فرآهم يتسارّون. فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن

ص: 356


1- الروم: 36.

المغيرة بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال عبد اللّه: أما و اللّه لو وجدته لخصمته. فدعوه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال له ابن الزّبعرى: أ أنت قلت ذلك؟

قال: نعم.

قال: قد خصمتك و ربّ الكعبة. أليس اليهود عبدوا عزيرا، و النصارى عبدوا المسيح، و بنو مليح عبدوا الملائكة؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ (1) الآية.

و روي أنّ ابن الزبعرى قال بعد نزول هذه الآية: هذا شي ء لآلهتنا خاصّة أو لكلّ من عبد من دون اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكلّ من عبد من دون اللّه».

فيكون قوله: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى بيانا للتجوّز أو التخصيص تأخّر عن الخطاب.

و الفائدة في مقارنتهم بآلهتهم أنّهم قدّروا أنّهم يشفعون لهم عند اللّه، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدّروا لم يكن شي ء أبغض إليهم منهم. و لأنّهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ و حسرة، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم، و النظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب.

و قوله: أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ استئناف، أو بدل من «حصب». و اللّام معوّضة من «على» للاختصاص. و المعنى: أنتم أيّها المشركون مع آلهتكم مخصوصون بدخول جهنّم لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما تزعمون ما وَرَدُوها ما دخلوا النار، لأنّ المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها وَ كُلٌ من العابد و المعبود فِيها خالِدُونَ لا خلاص لهم عنها.

لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ صوت كصوت الحمير. و هو أنينهم، و شدّة تنفّسهم. و هو من إضافة فعل البعض إلى الكلّ للتغليب، إن أريد ب «ما تعبدون» الأصنام، فإنّه إذا كانوا هم و أصنامهم في قرن (2) واحد جاز أن يقال: لهم زفير، و إن لم يكن الزافرين إلّا هم دون

ص: 357


1- الأنبياء: 101.
2- القرن: حبل يقرن به البعيران.

الأصنام، للتغليب، و لعدم الإلباس.

وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ لشدّة الهول و العذاب. و قيل: لا يسمعون ما يسرّهم و يتنعّمون به، و إنّما يسمعون صوت المعذّبين، و صوت الملائكة الّذين يعذّبونهم. و قيل:

يجعلون في توابيت من نار، فلا يسمعون شيئا، و لا يرى أحد منهم أنّ في النار أحدا يعذّب غيره. و يجوز أن يصمّهم اللّه كما يعميهم.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 101 الى 106]

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [101] لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ [102] لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [103] يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [104] وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [105]

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [106]

ثمّ قال اللّه تعالى ردّا لقول ابن الزبعرى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الخصلة المفضّلة في الحسن، تأنيث الأحسن. و هي السعادة، أي: علمنا بسعادتهم، أو التوفيق للطاعة، أو البشرى بالجنّة. يعني: عزيرا و عيسى و الملائكة. أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لأنّهم يرفعون إلى أعلى علّيّين. و قيل: الآية عامّة في كلّ من سبقت له السعادة.

لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها صوتها الّذي يحسّ. و هو بدل من «مبعدون»، أو حال من ضميره، سيق للمبالغة في إبعادهم عنها. وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من نعيم

ص: 358

الجنّة خالِدُونَ دائمون في غاية التنعّم. و تقديم الظرف للاختصاص، أو الاهتمام به.

و الشهوة طلب النفس اللذّة.

لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الخوف الأعظم. و هو النفخة الأخيرة، لقوله: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ (1). و عن الحسن:

الانصراف إلى النار. و عن الضحّاك: هو عذاب النار حين تطبق على أهلها. و قيل: هو أن يذبح الموت على صورة كبش أملح، و ينادى: يا أهل الجنّة خلود لا موت، و يا أهل النار خلود لا موت.

و روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ثلاثة على كثبان من مسك، لا يحزنهم الفزع الأكبر، و لا يكترثون للحساب: رجل قرأ القرآن محتسبا، ثمّ أمّ به قوما محتسبا، و رجل أذّن محتسبا، و مملوك أدّى حقّ اللّه عزّ و جلّ و حقّ مواليه».

وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي: تستقبلهم مهنّئين لهم على أبواب الجنّة، و يقولون:

هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ به في الدّنيا.

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ مقدّر ب: اذكر. أو ظرف ل «لا يحزنهم» أو «تتلقّاهم». أو حال مقدّرة من العائد المحذوف من «توعدون» أعني: توعدونه. و الطيّ ضدّ النشر.

يعني: أنّ السماء نشرت مظلّة لبني آدم، فإذا انتقلوا قوّضت عنهم و طويت. كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي: طيّا كطيّ الصحيفة. و هي الطومار المجعول للكتابة، أي: ليكتب، أو لما يكتب فيه. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: للكتب، على الجمع، بمعنى المكتوبات، أي: المعاني الكثيرة المكتوبة فيه.

و قيل: السجلّ ملك يطوي كتب أعمال بني آدم إذا رفعت إليه. و في رواية عن ابن عبّاس: كاتب كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و على هذا، فالكتاب اسم الصحيفة المكتوب فيها.

كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ «ما» كافّة، أو مصدريّة. و «أوّل» مفعول «نعيد» الّذي يفسّره «نعيده»، و الكاف متعلّق به. و المعنى: نعيد أوّل الخلق مثل ما بدأنا، أو مثل

ص: 359


1- النمل: 87.

بدئنا إيّاه. شبّه الإعادة بالإبداء في كونهما إيجادا عن العدم. و المقصود بيان صحّة الإعادة بالقياس المنصوص العلّة على الإبداء، لشمول الإمكان الذاتي المصحّح للمقدوريّة، و تناول القدرة القديمة لهما على السواء.

و يجوز أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسّره «نعيده» و «ما» موصولة، أي: نعيد مثل الّذي بدأناه. و «أوّل خلق» ظرف ل «بدأنا» أي: أوّل ما خلق. أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى.

و «أوّل خلق» بمعنى أوّل الخلائق، كقولك: زيد أوّل رجل جاءني، تريد أوّل الرجال، و لكنّك نكّرته و وحّدته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا.

و المراد بأوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أوّلا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم.

و روي مرفوعا: أنّ معناه: كما بدأناهم في بطون أمّهاتهم حفاة عراق غرلا (1)، كذلك نعيدهم.

وَعْداً مقدّر بفعله تأكيدا ل «نعيده» أي: وعدناكم ذلك وعدا. أو منتصب به، لأنّه عدة بالإعادة. عَلَيْنا أي: علينا إنجازه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ذلك لا محالة.

وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ في كتاب داود مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي: التوراة. و قيل:

المراد بالزبور جنس الكتب المنزلة، و بالذكر اللوح المحفوظ. أَنَّ الْأَرْضَ أرض الجنّة. و قيل: الأرض المقدّسة. يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ يعني: عامّة المؤمنين المطيعين.

و قيل: أمّة موسى عليه السّلام، لقوله تعالى: الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا (2)؟ و قوله: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ « (3)».

و قيل: المراد جميع أرض الدنيا يرثها أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالفتوح بعد إجلاء الكفّار،

ص: 360


1- غرلا جمع أغرل، و هو الصبيّ الذي لم يختن.
2- الأعراف: 137 .
3- الأعراف: 128.

كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «زويت (1) لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها، و سيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».

و قال أبو جعفر عليه السّلام: «هم أصحاب المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان».

و يدلّ على ذلك ما رواه الخاصّ و العامّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل اللّه تعالى ذلك اليوم، حتّى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا».

و قد أورد أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث و النشور أخبارا كثيرة في هذا المعنى. و كذا ورد من طرقنا أحاديث كثيرة في ذلك، و من أراد الاطّلاع عليها فليرجع إلى كتب أصحابنا، مثل كتاب الغيبة، و كشف الغمّة، و غيرهما من الكتب المطوّلة في هذا الباب.

إِنَّ فِي هذا فيما ذكر من الأخبار، و المواعيد الزاجرة، و المواعظ البالغة لَبَلاغاً لكفاية موصلة إلى البغية لِقَوْمٍ عابِدِينَ للّه مخلصين له. قال كعب: هم أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين يصلّون الصلوات الخمس، و يصومون شهر رمضان.

[سورة الأنبياء [21]: الآيات 107 الى 112]

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [107] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [108] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ [109] إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ [110] وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [111] قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [112]

ص: 361


1- زوى الشي ء: جمعه و قبضه.

وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ لأنّ ما بعثت به سبب لإسعادهم، و موجب لصلاح معاشهم و معادهم. فمن تبعك فإنّه فائز سعيد في الدارين، و من لم يتّبع فإنّه شقيّ محروم حيث ضيّع نصيبه. و مثاله: أن يفجّر اللّه عينا غزيرة وسيعة، فيسقى ناس زروعهم و مواشيهم بمائها فيفلحوا، و يبقى ناس مفرّطون عن السقي فيضيعوا. فالعين المفجّرة في نفسها نعمة من اللّه و رحمة للفريقين، و لكنّ الكسلان أوقع المحنة العظيمة على نفسه، حيث حرّمها من الرحمة الجليلة.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للبرّ و الفاجر، و المؤمن و الكافر. فهو رحمة للمؤمن في الدنيا و الآخرة، و رحمة للكافر بأن عوفي ممّا أصاب الأمم من الخسف و المسخ.

و روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل لمّا نزلت هذه الآية: «هل أصابك من هذه الرحمة شي ء؟ قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله:

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (1). و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّما أنا رحمة مهداة».

قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي: ما يوحى إليّ إلّا أنّه لا إله لكم إلّا إله واحد.

و اعلم أنّ «إنّما» لقصر الحكم على شي ء، أو لقصر الشي ء على حكم، كقولك: إنّما زيد قائم، أي: لا يفعل سوى القيام، و إنّما يقوم زيد، أي: يقوم زيد لا غير. و قد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأنّ «إِنَّما يُوحى إِلَيَّ» مع فاعله بمنزلة: إنّما يقوم زيد، و «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» بمنزلة: إنّما زيد قائم. و فائدة اجتماعهما: الدلالة على أنّ المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد، و أنّ الوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقصور على استئثار اللّه بالوحدانيّة.

و يجوز أن يكون المعنى: أن الّذي يوحى إليّ. فتكون «ما» موصولة. و في الآية

ص: 362


1- التكوير: 20.

دلالة على أنّ صفة الوحدانيّة يصحّ أن تكون طريقها السمع.

فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون العبادة للّه على مقتضى الوحي المصدّق بالحجّة.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ما أمرت به، أو حربي لكم.

منقول من: أذن إذا علم، و لكنّه كثر استعماله فيما يجري مجرى الإنذار. و منه قوله تعالى:

فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (1).

عَلى سَواءٍ مستوين في الإعلام به، لم أطوه عن أحد منكم، بل أكشفه لكم كلّكم. أو مستوين أنا و أنتم في العلم بما أعلمتكم به، أو في المعاداة. أو إيذانا على سواء، لم ابيّن الحقّ لقوم دون قوم. و قيل: أعلمتكم أنّي على سواء، أي: عدل و استقامة رأي بالبرهان النيّر.

وَ إِنْ أَدْرِي ما أدري أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين، أو الحشر، و لكنّه كائن لا محالة.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ من الإحن و الأحقاد للمسلمين، فيجازيكم عليه.

وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ و ما أدري لعلّ تأخير هذا الموعد استدراج لكم، و زيادة في افتتانكم، لينظر كيف تعملون وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ و تمتيع إلى أجل مقدّر تقتضيه مشيئته، ليكون ذلك حجّة عليكم، و ليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.

قل قرأ حفص: قال، على حكاية قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ اقض بيننا و بين أهل مكّة بالعدل، المقتضي لاستعجال العذاب، و التشديد عليهم. و هذا كدعائه عليهم

بقوله: «اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعل سنيّهم كسنيّ يوسف».

فماتوا بجدب حتّى أكلوا العلهز (2).

ص: 363


1- البقرة: 279.
2- العلهز: طعام من الدم و الوبر كان يتّخذ في المجاعة. القاموس 2: 184.

وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ كثير الرّحمة على خلقه الْمُسْتَعانُ المطلوب منه المعونة عَلى ما تَصِفُونَ من أنّ الشوكة لكم، و أنّ راية الإسلام تخفق أيّاما ثمّ تسكن، و أنّ الموعد به لو كان حقّا لنزل بالمسلمين. فأجاب اللّه دعوة رسوله، و خيّب أمانيّهم، و نصر رسوله عليهم و خذلهم، فعذّبوا ببدر.

ص: 364

[22] سورة الحجّ

اشارة

مدنيّة، و هي ثمان و سبعون آية.

في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الحجّ أعطي من الأجر كحجّة حجّها، و عمرة اعتمرها، بعدد من حجّ و اعتمر فيما مضى و فيما بقي».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأها في كلّ ثلاثة أيّام، لم يخرج من سنته حتّى يخرج إلى بيت اللّه الحرام، و إن مات في سفره أدخل الجنّة».

و لمّا ختم سبحانه سورة الأنبياء بالتوحيد، و الإعلام بأنّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للعالمين، افتتح هذه السورة بخطاب المكلّفين، ليتّقوا الشرك و مخالفة دين الإسلام، فقال:

[سورة الحج [22]: الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ [1] يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [2]

ص: 365

يا أَيُّهَا النَّاسُ المراد المكلّفون، لأنّ غيرهم خارجون عن دائرة الخطاب.

فكأنّه قال: يا أيّها العقلاء البالغون. اتَّقُوا رَبَّكُمْ عذاب ربّكم باجتنابكم المعصية، كما يقال: احذر الأسد، و المراد: احذر افتراسه لا عينه.

ثمّ علّل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة، ليتصوّروها بعقولهم، و يعلموا أنّه لا يؤمنهم سوى التدرّع بلباس التقوى، فقال: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي: شدّة تحريكها للأشياء، بحيث انزعج جميع الأشياء عن مقارّها و مراكزها. و الإسناد مجازيّ. أو تحريك الأشياء فيها. فأضيفت إليها إضافة معنويّة، بتقدير «في». أو إضافة المصدر إلى الظرف على طريقة الاتّساع في الظرف، و إجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى:

بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ (1) أي: مكرهم فيهما. و قيل: هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها. و أضافها إلى الساعة لأنّها من أشراطها و آيات مجيئها. شَيْ ءٌ عَظِيمٌ هائل لا يطاق.

يَوْمَ تَرَوْنَها ترون الزلزلة أو الساعة. و الظرف متعلّق بقوله: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ و الذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة. و فيه دلالة على أنّ الزلزلة تكون في الدنيا، فإنّ الإرضاع إنّما يتصوّر في الدنيا. و عن الأكثر أنّ ذلك يوم القيامة. فيكون تصويرا لهولها، و تفخيما لما يكون من الشدائد، أي: لو كانت ثمّ مرضعة لذهلت.

و «ما» موصولة، أي: عن الّذي أرضعته. و هو الطفل. أو مصدريّة، أي: إرضاعها الولد.

و ذكر مرضعة دون مرضع، لأنّ المرضعة هي الّتي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبيّ، و المرضع الّتي من شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به.

فقيل: مرضعة، ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة.

ص: 366


1- سبأ: 33.

وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها جنينها لشدّة هولها. وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى على التشبيه، أي: كأنّهم سكارى من شدّة الخوف و فرط الفزع وَ ما هُمْ بِسُكارى على الحقيقة، بل يضطربون اضطراب السكران وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فأرهقهم هوله بحيث طيّر عقولهم، و أذهب تمييزهم.

و قرأ حمزة و الكسائي: سكرى، كعطشى و جوعى في عطشان و جوعان، إجراء للسكرى مجرى العلل.

و ذكر الرؤية أوّلا على صيغة الجمع و ثانيا على الإفراد، لأنّها أوّلا علّقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعا رائين لها، و هي معلّقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بدّ أن يرى أثره كلّ أحد غيره.

روي عن عمران بن الحصين و أبي سعيد الخدري: نزلت هاتان الآيتان ليلا في غزوة بني المصطلق، و هم حيّ من خزاعة، و الناس يسيرون، فنادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فحثّوا المطيّ حتّى كانوا حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقرأهما عليهم، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة.

فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدوابّ، و لم يضربوا الخيام، و الناس من بين باك و جالس حزين متفكّر. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تدرون أيّ يوم ذاك؟

قالوا: اللّه و رسوله أعلم.

قال: ذلك يوم يقول اللّه تعالى لآدم: ابعث إلى النار من ولدك. فيقول آدم: من كم و كم؟ فيقول عزّ و جلّ: من كلّ ألف تسعمائة و تسعة و تسعين إلى النار، و واحد إلى الجنّة.

فكبر ذلك على المسلمين و بكوا، و قالوا: فمن ينجو يا رسول اللّه؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبشروا فإنّ معكم خليقتين يأجوج و مأجوج، ما كانتا في شي ء إلّا كثّرتاه. ما أنتم في الناس إلّا كشعرة بيضاء في الثور الأسود، أو كرقم في ذراع البكر (1)، أو كشامة (2) في جنب البعير..

ص: 367


1- البكر: الفتيّ من الإبل.
2- الشامة: الخال، و هو أثر السواد في البدن.

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا أربع أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، و إنّ أهل الجنّة مائة و عشرون صفّا، ثمانون منها أمّتي. ثمّ قال: و يدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب.

و في بعض الروايات أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا رسول اللّه سبعون ألفا؟

قال: نعم، و مع كلّ واحد سبعون ألفا.

فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول اللّه ادع اللّه أن يجعلني منهم.

فقال: اللّهم اجعله منهم.

فقام رجل من الأنصار فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم.

فقال: سبقك بها عكاشة.

قال ابن عبّاس: كان الأنصاري منافقا، فلذلك لم يدع له.

[سورة الحج [22]: الآيات 3 الى 4]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [3] كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [4]

روي أنّ النضر بن الحرث كان جدلا يقول: الملائكة بنات اللّه، و القرآن أساطير الأوّلين، و اللّه غير قادر على إحياء من بلي و صار ترابا. فنزلت فيه و أضرابه:

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ فيما يجوز عليه و ما لا يجوز من الصفات و الأفعال بِغَيْرِ عِلْمٍ بلا دليل يرجع إليه، بل محض جهل و تقليد. فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحقّ و الباطل.

وَ يَتَّبِعُ في المجادلة، أو في عامّة أحواله كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ خطوات كلّ شيطان عات (1) متجرّد عن جميع الخير، متمحّض للشرّ و الفساد. و أصله: العري.

ص: 368


1- أي: مستكبر قاسي القلب غير ليّن.

كُتِبَ عَلَيْهِ على الشيطان في اللوح المحفوظ. و قيل: الضمير للمجادل.

فالمعنى: كتب على هذا المجادل الجاهل. أَنَّهُ الضمير للشأن مَنْ تَوَلَّاهُ جعله وليّا و تبعه فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ خبر ل «من» إن كانت موصولة، أو جواب لها إن كانت شرطيّة، على تقدير: فشأنه إضلاله.

و قيل: الكتبة عليه تمثيل، أي: كأنّما كتب إضلال من يتولّاه عليه و رقم به، لظهور ذلك في حاله، فإنّ ثمرة ولايته إنّما هي أن يضلّ من تبعه عن طريق الجنّة. وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ بالحمل

على ما يؤدّي إليه.

[سورة الحج [22]: الآيات 5 الى 7]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [5] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [6] وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [7]

ثمّ بيّن صحّة البعث بالبرهان الباهر، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ

ص: 369

الْبَعْثِ من إمكانه، و كونه مقدورا للّه تعالى. و الريب أقبح الشكّ. فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي:

فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، فإنّا خلقناكم مِنْ تُرابٍ بخلق آدم منه، أو الأغذية الّتي يتكوّن منها المنّي ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ من منيّ. من النطف، و هو الصبّ. ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قطعة من الدم جامدة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ قطعة صغيرة من اللحم. و هي في الأصل قدر ما يمضغ. مُخَلَّقَةٍ مسوّاة ملساء لا نقص فيها و لا عيب، أو تامّة، أو مصوّرة وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ و غير مسوّاة، أو ساقطة، أو غير مصوّرة. يقال: خلق العود إذا سوّاه و ملّسه. و صخرة خلقاء: إذا كانت ملساء.

و قيل: إنّ اللّه تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، و منها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم و صورهم، و طولهم و قصرهم، و تمامهم و نقصانهم.

و إنّما نقلناكم من خلقة إلى خلقة و من حال إلى حال لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدريج قدرتنا و حكمتنا، و أنّ ما قبل التغيّر و الفساد و التكوّن مرّة قبلها اخرى. و أنّ من قدر على خلق البشر من تراب أوّلا، ثمّ من نطفة ثانيا، و لا تناسب بين الماء و التراب، و قدر على أن يجعل النطفة علقة، و بينهما تباين ظاهر، ثمّ يجعل العلقة مضغة، و المضغة عظاما، مع عدم التناسب بين كلّ منهما، قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا ادخل في القدرة من تلك، و أهون في القياس.

و حذف المفعول إيماء إلى أنّ أفعاله هذه يتبيّن بها من قدرته و حكمته ما لا يحيط به الذكر و البيان، و لا يكتنهه الوصف.

وَ نُقِرُّ و نبقي فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن نقرّه و نبقيه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا نصبه على الحال. و وحّده لأنّه في الأصل مصدر، كقولهم: رجل عدل و رجال عدل. أو لدلالته على الجنس. أو على تأويل كلّ واحد.

ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي: حال اجتماع كمال العقل و القوّة و التمييز، و تمام

ص: 370

الخلق. جمع شدّة، كالأنعم جمع نعمة، كأنّها شدّة في الأمور. و قيل: هو من ألفاظ الجموع الّتي لم يستعمل لها واحد، كالأسدّة بمعنى العيوب، و القتود بمعنى خشب الرجل، و غير ذلك.

وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى أي: يتوفّاه اللّه عند بلوغ الأشدّ أو قبله وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أسوأ العمر و أحقره و أهونه. و هي حال الهرم و الخرف.

لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفوليّة، من ضعف البنية و سخافة العقل و قلّة الفهم، أي: يصير نسّاء بحيث إذا كسب علما في شي ء زلّ عنه من ساعته، و نسي ما علمه، و أنكر ما عرفه، فلا يستفيد علما. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.

بيّن سبحانه أنّه كما قدر على أن يرقّيه في درجات الزيادة حتّى يبلغه حدّ التمام، فهو قادر على أن يجعله حتّى ينتهي به إلى الحالة السفلى. و فيه استدلال ثان على إمكان البعث، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة و الأحوال المتضادّة، فإنّ من قدر على ذلك قدر على نظائره.

ثمّ ذكر سبحانه دلالة ثالثة على صحّة البعث، فقال: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ميّتة يابسة. من: همدت النار إذا صارت رمادا. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ هو المطر اهْتَزَّتْ تحرّكت بالنبات. و الاهتزاز شدّة الحركة في الجهات. وَ رَبَتْ و انتفخت وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن رائق سارّ للناظر إليه. و لظهور هذه الدلالة على البعث، و كونها مشاهدة معاينة، كرّرها اللّه تعالى في كتابه.

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة، و تحويله على أحوال متضادّة، و إحياء الأرض بعد موتها، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم البديعة، و أنواع اللطائف العجيبة. و هو مبتدأ خبره بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ أي: بسبب أنّه الثابت الوجود في نفسه، الّذي به تتحقّق الأشياء وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى و إلّا لما أحيا النطفة و الأرض الميّتة وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إيجادا و إفناء، لأنّ قدرته لذاته الّذي

ص: 371

نسبته إلى الكلّ على سواء، فلمّا دلّت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات، لزم اقتداره على إحياء كلّها.

وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها فإن التغيّر من مقدّمات الانصرام و طلائعه وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الّذي لا يقبل الخلف، فلا بدّ من أن يفي به.

[سورة الحج [22]: الآيات 8 الى 10]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ [8] ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ [9] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [10]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ كرّره للتأكيد، كسائر الأقاصيص، و لما نيط به من الدلالة بقوله: وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ على أنّه لا سند له من استدلال أو وحي، فإنّ المراد بالعلم هو العلم الضروري، و بالهدى الاستدلال و النظر الّذي يهدي إلى المعرفة، و بالكتاب المنير الوحي، أي: يجادل بظنّ و تخمين، لا بأحد هذه الثلاثة.

و قيل: الآية الأولى (1) في المقلّدين، و الثانية في المقلّدين. و عن ابن عبّاس: أنّه أبو جهل بن هشام.

و في الآية دلالة على أنّ الجدال بالعلم صواب، و بغير العلم خطأ، لأنّ الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحقّ، و بغير العلم يدعو إلى اعتقاد الباطل.

ص: 372


1- أي: قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ. الحجّ: 3.

ثانِيَ عِطْفِهِ أي: متكبّرا، فإنّ ثني العطف (1) كناية عن الكبر و الخيلاء، كليّ الجيد و تصعير الخدّ. يقال: ثنى فلان عطفه، إذا أمال جانبيه إلى اليمين و الشمال. أو كناية عن الإعراض

عن الحقّ. فالمعنى: معرضا عن الحقّ استخفافا به. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ علّة للجدال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس بفتح الياء، على أنّ إعراضه عن الهدى المتمكّن منه- بالإقبال على الجدال الباطل- خروج من الهدى إلى الضلال، و لمّا كان جداله مؤدّيا إلى الضلال، جعل كأنّه غرضه. و لمّا كان الهدى معرضا له، فتركه و أعرض عنه، و أقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.

فعلى هذا التأويل؛ لا يرد: ما كان غرضه من جداله الضلال عن سبيل اللّه، فكيف علّل به؟ و ما كان أيضا مهتديا حتّى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال.

لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ و هو ما أصابه يوم بدر من الصغار و القتل وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق. و هو النار.

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ على الالتفات. أو إرادة القول، أي: يقال له يوم القيامة ذلك الخزي و التعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر و المعاصي. وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ في تعذيبهم، لأنّ اللّه لا يعاقب ابتداء، و لا يزيد على الجزاء، بل على طريق العدالة. أو لأنّ عدله في معاقبته الفجّار، و إثابته الأبرار. و المبالغة لكثرة العبيد.

روي عن ابن عبّاس: أنّ من الأعاريب قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة، فكان أحدهم إذا صحّ جسمه، و نتجت فرسه مهرا (2) سريّا، و ولدت امرأته غلاما سويّا، و كثر ماله و ماشيته، قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلّا خيرا، و اطمأنّ به. و إن كان .

ص: 373


1- العطف: جانب كلّ شي ء. و الجيد: العنق. و صعّر خدّه: أماله عن النظر إلى الناس.يقال: مرّ ثاني عطفه، أي: لاويا عنقه، و مائلا بخدّه عن النظر إلى الناس، متكبّرا معرضا.
2- المهر: ولد الفرس. و السريّ: الجيّد من كلّ شي ء.

الأمر بخلافه قال: ما أصبت في هذا الدين إلّا شرّا. فنزلت:

[سورة الحج [22]: الآيات 11 الى 13]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [11] يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [12] يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ [13]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ على طرف من الدين، لا في وسطه و قلبه. و هذا مثل لكونهم على قلق و اضطراب في دينهم، لا على سكون و طمأنينة و ثبات فيه، كالّذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر اطمأنّ و قرّ، و إلّا انهزم و فرّ.

فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ عافية و خصب و كثرة مال اطْمَأَنَ على عبادته بِهِ بذلك الخير وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اختبار بسقم و قلّة مال و جدب انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ انصرف إلى وجهه الّذي توجّه منه. يعني: رجع عن دينه إلى الكفر.

و عن أبي سعيد الخدري: أنّ يهوديّا أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أقلني. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الإسلام لا يقال». فنزلت هذه الآية.

خَسِرَ الدُّنْيا بذهاب عصمته، و إباحة قتله و أخذ أمواله بارتداده وَ الْآخِرَةَ بحبوط عمله و دخوله في النار أبدا. و قيل: خسر في الدنيا العزّ و الغنيمة، و في الآخرة الثواب و الجنّة.

ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ إذ لا خسران مثله.

يَدْعُوا هذا المرتدّ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ أي: يعبد جمادا

ص: 374

لا يضرّ بنفسه و لا ينفع ذلِكَ الّذي فعل هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن المقصد. مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالّا.

يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ بكونه معبودا يوجب القتل في الدنيا و العذاب في الآخرة أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ الّذي يتوقّع من عبادته. و هو الشفاعة و التوسّل بها إلى اللّه. و اللام معلّقة ل «يدعو» من حيث إنّه بمعنى يزعم، و الزعم قول مع اعتقاد. أو اللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا، إجراء له مجرى: يقول، أي: يقول الكافر ذلك بدعاء و صراخ حين يرى استضراره به، و ذلك بعد دخوله النار بعبادة الأصنام، و اليأس من شفاعتهنّ. أو مستأنفة على أن «يدعو» تكرير للأول. كأنّه قال: يدعو من دون اللّه و يدعو. ثم قال: لمن ضرّه ... إلخ. و حينئذ «من» مبتدأ خبره لَبِئْسَ الْمَوْلى الناصر وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ الصاحب المعاشر المخالط. يعني: الصنم، كقوله: فَبِئْسَ الْقَرِينُ (1).

[سورة الحج [22]: الآيات 14 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ [14] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ [15]

و لمّا ذكر الشاكّ في الدّين بالخسران، ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان، فقال:

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة الموحّد الصّالح، و عقاب المشرك الطالح، لا يدفعه دافع، و لا

ص: 375


1- الزخرف: 38.

يمنعه مانع.

ثم قال: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أي: لن ينصر رسوله فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ و هذا كلام فيه اختصار. و المعنى: إن اللّه ناصر رسوله في الدنيا و الآخرة، فمن كان يظنّ من حاسديه و أعاديه أن اللّه يفعل خلاف ذلك، و يتوقّع ذلك، و يغيظه أنّه يظفر بمطلوبه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي: فليستقص وسعه، و ليستفرغ مجهوده في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلئ غيضا أو المبالغ جزعا، حتّى يمدّ حبلا إلى سماء بيته، أي: سقفه ثُمَّ لْيَقْطَعْ ليختنق. من: قطع إذا اختنق، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. و منه قيل للبهر: القطع. و هو العلّة الّتي تمنع التنفّس. أو فليمدد حبلا إلى السماء الدنيا، ثمّ ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها، فيجتهد في دفع نصره. أو ليصعد إلى السماء، فليقطع الوحي أن ينزل على الرسول. و قرأ و رش و أبو عمرو و ابن عامر: ليقطع بكسر اللام على أصله.

فَلْيَنْظُرْ فليتصوّر في نفسه أنّه إن فعل ذلك هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ فعله ذلك.

و سمّاه كيدا لأنّه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، فهو منتهى ما يقدر عليه.

أو على سبيل الاستهزاء، لأنّه لم يكد به محسوده، بل إنّما كاد به نفسه. و المراد: ليس في يده إلّا ما ليس بمذهب. ما يَغِيظُ غيظه، أو الّذي يغيظه. و المعنى: لا يتهيّأ له إزالة ما يغيظ من أمر الرسول و نصره على أعدائه، و إن سعى به غاية سعيه و نهاية جهده.

قيل: نزلت في قوم من المسلمين استبطئوا نصر اللّه، لاستعجالهم و شدّة غيظهم على المشركين.

و قيل: المراد بالنصر الرزق، و الضمير ل «من». و المعنى:

أنّ الأرزاق بيد اللّه، لا تنال إلّا بمشيئته، و لا بدّ للعبد من الرضا بقسمته. فمن ظنّ أنّ اللّه عزّ و جلّ غير رازقه، و ليس به صبر و استسلام، فليبلغ غاية الجزع، و هو الاختناق، فإنّ ذلك لا يقلب القسمة، و لا يردّه مرزوقا.

ص: 376

[سورة الحج [22]: الآيات 16 الى 18]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ [16] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [17] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ [18]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه نزّل الآيات حجّة على الخلق، فقال: وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ أنزلنا القرآن كلّه آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على التوحيد و سائر أحكام الشرائع وَ أَنَّ اللَّهَ و لأنّ اللّه يَهْدِي بالقرآن مَنْ يُرِيدُ من الّذين يعلم أنّهم يؤمنون. أو يثبت الّذين آمنوا و يزيدهم هدى.

و قيل: عطف على مفعول «أنزلنا». و معناه: أنزلنا إليك أنّ اللّه يهدي إلى الدين من يريد. أو إلى النبوّة. أو إلى الثواب.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بين المؤمنين و الكافرين بأنواعهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بإظهار المحقّ منهم على المبطل. أو بالجزاء، فيجازي كلّا ما يليق به، و يدخله المحلّ المعدّ له. فعلى هذا، الفصل بينهم في الأحوال و الأماكن. و إنّما أدخلت «إنّ» على كلّ واحد من جزئي الجملة لمزيد التأكيد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ عليم به، مراقب لأحواله.

ص: 377

أَ لَمْ تَرَ ألم تعلم؟ الخطاب للرسول، و المراد أمّته. أو الخطاب إلى كلّ واحد من المكلّفين. أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ يتسخّر لقدرته، لا يتأنّى عن تدبيره مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أو يدلّ بذلّته على عظمة مدبّره. و «من» يجوز أن يعمّ أولي العقل و غيرهم على التغليب. فيكون قوله: وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ إفرادا لها بالذكر، لشهرتها، و استبعاد ذلك منها. سمّيت مطاوعتها و ذلّتها له فيما يحدث فيها من أفعاله، و يجريها عليه من تدبيره، و تسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلّف في باب الطاعة و الانقياد، و هو السجود الّذي كلّ خضوع دونه.

وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عطف على «يسجد» بتقدير فعل مضمر يدلّ عليه المعطوف عليه، أي: و يسجد له كثير من الناس سجود طاعة و عبادة. و لا يجوز أن يكون «يسجد» الأوّل عامله، لأنّه قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس و الجنّ أوّلا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة. و أيضا تخصيص الكثير يدلّ على خصوص المعنى المسند إليهم، و ما هو إلّا سجود الطاعة و العبادة. و لا يفسّر بمعنى الطاعة و العبادة في حقّ هؤلاء، و في حقّ غيرهم بمعنى الانقياد و المطاوعة، لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين.

و يجوز أن يكون رفعه على الابتداء، و خبره محذوف دلّ عليه خبر قسيمه، نحو:

حقّ له الثواب.

وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ بكفره و إبائه عن الطاعة. و يجوز أن يجعل «و كثير» تكريرا للأوّل، مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف «كثير» على «كثير» ثمّ يخبر عنهم بقوله: «حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ». كأنّه قيل: و كثير و كثير من الناس حقّ عليهم العذاب.

وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن يحكم بشقاوته، و يدخله النار لأجل عناده و عتوّه فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بالسعادة و بإدخال الجنّة، لأنّه لا يملك العقوبة و المثوبة سواه إِنَّ اللَّهَ

ص: 378

يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام و الإنعام، و الإهانة و الانتقام، بالفريقين من المؤمنين و الكافرين.

[سورة الحج [22]: الآيات 19 الى 24]

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [19] يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ [20] وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [21] كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [22] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [23]

وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ [24]

روي: أنّ اليهود و المؤمنين تخاصموا، فقال اليهود: نحن أحقّ باللّه، و أقدم منكم كتابا و نبيّا. و قال المؤمنون: نحن أحقّ باللّه، آمنّا بمحمد و نبيّكم، و بما أنزل اللّه من كتاب، و أنتم تعرفون كتابنا و نبيّنا، ثمّ كفرتم به حسدا. فنزلت بعد الآيات السابقة بيانا لما أعدّه لكلّ من الفريقين:

هذانِ إشارة إلى فرقة المؤمنين و فرقة الكافرين خَصْمانِ أي: فوجان، أو فريقان مختصمان. و الخصم مصدر وصف به. اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في دينه، أو في ذاته و صفاته. و التثنية باعتبار اللفظ، و الجمع باعتبار المعنى، كقوله تعالى: وَ مِنْهُمْ

ص: 379

مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ (1). و لو عكس و قيل: هؤلاء خصمان، لكان جائزا أيضا.

قيل: نزلت في ستّة نفر من المؤمنين و الكافرين، تبارزوا يوم بدر، و هم: حمزة بن عبد المطلّب قتل عتبة بن ربيعة، و عليّ عليه السّلام قتل الوليد بن عتبة، و عبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب قتل شيبة بن ربيعة. رواه أبو ذرّ الغفاري و عطاء. و كان أبو ذرّ يقسم باللّه تعالى إنّها نزلت فيهم. و رواه أيضا البخاري في الصحيح (2).

فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل لخصومتهم. و هو المعنيّ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (3). قُطِّعَتْ لَهُمْ قدّرت لهم على مقادير جثثهم ثِيابٌ مِنْ نارٍ نيران تحيط بهم و تشتمل عليهم، كما تقطع الثياب الملبوسة. و يجوز أن تظاهر على كلّ واحد منهم تلك النيران، كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض.

و نحوه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ (4). و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّهم حين صاروا إلى جهنّم البسوا مقطّعات النيران. و هي: الثياب القصار. و عن سعيد بن جبير:

يجعل لهم ثياب نحاس من نار. و هي أشدّ ما يكون حرّا.

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ حال من الضمير في «لهم». أو خبر ثان.

و الحميم: الماء الحارّ.

يُصْهَرُ بِهِ يذاب به. من الصهر، و هو إذابة الشي ء. ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ أي: يؤثّر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم. عن ابن عبّاس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا

ص: 380


1- محمّد: 16.
2- صحيح البخاري 6: 123- 124.
3- الحجّ: 17.
4- إبراهيم: 50.

لأذابتها. و الجملة حال من «الحميم» أو من ضمير «هم».

وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ سياط منه يجلدون بها. جمع مقمعة و حقيقتها ما يقمع به، أي: يكفّ بعنف. و في الحديث: «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلّوها من الأرض»

أي: ما رفعوها، كأنّهم استقلّوا قواهم لرفعها من الأرض.

و عن الحسن: أنّ النار ترميهم بلهبها فترفعهم، حتّى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع، فهووا فيها سبعين خريفا، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها، فلا يستقرّون ساعة. فذلك قوله: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها من النار مِنْ غَمٍ من غمومها.

بدل من الهاء بإعادة الجارّ. أُعِيدُوا فِيها أي: فخرجوا أعيدوا، لأنّ الإعادة لا تكون إلّا بعد الخروج وَ ذُوقُوا أي: و قيل لهم: ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي: النار البالغة في الإحراق. هذا لأحد الخصمين.

ثمّ قال في الخصم الّذين هم المؤمنون: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ غيّر الأسلوب فيه، و أسند الإدخال إلى اللّه تعالى، و أكّده ب «إنّ»، إحمادا لحال المؤمنين، و تعظيما لشأنهم.

يُحَلَّوْنَ فِيها من: حليت المرأة، فهي حال، إذا لبست الحليّ مِنْ أَساوِرَ صفة مفعول محذوف. و هي حليّ اليد. جمع أسورة، و هي جمع سوار. مِنْ ذَهَبٍ بيان له وَ لُؤْلُؤاً عطف عليها، لا على ذهب، لأنّه لم يعهد السوار منه، إلّا أن يراد المرصّعة به. و نصبه نافع و عاصم عطفا على محلّها، أو إضمار الناصب، مثل: و يؤتون. و روي عن حفص بهمزتين. و ترك أبو بكر و السوسي عن أبي عمرو الهمزة الأولى.

وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ غيّر أسلوب الكلام فيه، للدلالة على أنّ الحرير ثيابهم المعتادة، أو للمحافظة على هيئة الفواصل. و لمّا حرّم اللّه سبحانه لبس الحرير على الرجال في الدنيا، شوّقهم إليه في الآخرة، فأخبر أنّ لباسهم في الجنّة حرير.

وَ هُدُوا أرشدوا في الجنّة إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ إلى التحيّات الحسنة،

ص: 381

يحيّي بعضهم بعضا، و يحيّيهم اللّه و ملائكته بها. و قيل: معناه: أرشدوا إلى كلمة لا إله إلّا اللّه و الحمد للّه. و عن ابن عبّاس: هداهم اللّه و ألهمهم أن يقولوا: الحمد للّه الّذي صدقنا وعده. و قيل: إلى القول الّذي يلتذّونه و يشتهونه، أو تطيب به نفوسهم. و قيل: إلى ذكر اللّه، فهم به يتنعّمون.

وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ المحمود نفسه، أو عاقبته، و هو الجنّة. أو صراط المستحقّ لذاته الحمد، و هو اللّه تعالى.

[سورة الحج [22]: آية 25]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [25]

ثمّ بيّن سبحانه الأفعال القبيحة الصادرة عن الكفرة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طاعة اللّه. لا يريد به الحال و الاستقبال، و إنّما يريد استمرار الصدّ منهم، كقولهم: فلان يحسن إلى الفقراء، أي: يستمرّ وجود الإحسان في جميع أزمنته، و لذلك حسن عطفه على الماضي.

و قيل: هو حال من فاعل «كفروا» و خبر «إنّ» محذوف دلّ عليه آخر الآية، أي:

معذّبون.

وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على «سَبِيلِ اللَّهِ» الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ المقيم فِيهِ وَ الْبادِ الطارئ أي: الّذي وقع عليه اسم الناس، من غير فرق بين مقيم و طارى ء، و مكّيّ و آفاقي. و «سواء» خبر مقدّم، و الجملة مفعول ثان ل «جعلناه» إن جعل «للناس» حالا من الهاء، و إلّا فحال من المستكن فيه. و نصبه حفص على أنّه

ص: 382

المفعول أو الحال، و «العاكف» مرتفع به، أي: جعلناه للناس مستويا العاكف فيه و البادي.

و خبر «إنّ» محذوف، لدلالة جواب الشرط عليه، تقديره: إنّ الّذين كفروا و يصدّون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم.

و اعلم أنّه خلاف بين علماء الأمّة أنّ المراد بالمسجد الحرام نفسه، كما هو الظاهر.

و المعنى: جعلناه للناس قبلة لصلاتهم، و منسكا لحجّهم، و العاكف و الباد سواء في حكم النسك. و كان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام و الطواف به، و يدّعون أنّهم أربابه و ولاته.

أو المراد (1) الحرم، كما قال: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (2) فإنّه كان الإسراء من مكّة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في بيت خديجة بنت خويلد. و قيل: في الشعب، أو في بيت أم هانئ.

و الأوّل مرويّ عن الحسن و مجاهد و الجبائي. و به قال الشافعي، و بعض أصحابنا.

و يتفرّع عليه جواز بيع مكّة و إجارتها، و عدم جواز سكنى الحاجّ في بيوتها مع عدم رضا أهلها.

و الثاني عن ابن عبّاس و ابن جبير و قتادة. و به قال أبو حنيفة، و بعض أصحابنا.

و يتفرّع على هذا تحريم بيع بيوت مكّة، و جواز سكنى الحاجّ فيها و إن لم يرض أهلها.

و يضعّف الثاني- على تقدير صحّة النقل- بأن التسمية مجاز، و الأصل في الكلام الحقيقة. و لذلك نقل عن بعض الصحابة أنّه اشترى فيها دارا. و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما ترك لنا

عقيل من دار».

و شراء عمر دارا يسجن فيها من غير نكير.

وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ ترك مفعوله ليتناول كلّ متناول. كأنّه قال: و من يرد فيه مرادا مّا.

بِإِلْحادٍ بعدول عن القصد بِظُلْمٍ بغير حقّ. و هما صفتان للمفعول المحذوف أقيمتا

ص: 383


1- عطف على قوله: أن المراد بالمسجد الحرام نفسه ...، قبل ثلاثة أسطر.
2- الإسراء: 1.

مقامه. أو حالان مترادفان، أي: ملحدا عن القصد ظالما. أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجارّ، أي: و من يرد فيه مطلوبا ظالما. أو صلة له، أي: ملحدا بسبب الظلم، كالإشراك و اقتراف الآثام. نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ في الدنيا و الآخرة. و هو جواب ل «من».

يعني: أنّ الجواب على من كان فيه أن يضبط نفسه، و يسلك طريق السداد و العدل في جميع ما يهمّ به و يقصده.

و قيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته. و عن سعيد بن جبير: الاحتكار.

و عن عطاء: قول الرجل في المبايعة: لا و اللّه، و بلى و اللّه.

و عن عبد اللّه بن عمر: أنّه كان له فسطاطان، أحدهما في الحلّ و الآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ. فقيل له: فقال: كنّا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: لا و اللّه، و بلى و اللّه.

و قيل: هو كلّ شي ء نهي عنه، حتّى شتم الخادم، لأنّ الذنوب هناك أعظم. و هذا أولى.

و قيل: نزلت الآية في الّذين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكّة عام الحديبيّة.

و قيل: الإلحاد هو الميل عن قانون الأدب، كالبزاق و عمل الصنائع و غيرهما.

و الظلم: ما يتجاوز فيه قواعد الشرع. و الحاصل من هذا القول أنّ

الإلحاد فعل المكروهات، و الظّلم فعل المحرّمات. و هو بناء على أنّ المراد بالمسجد نفسه.

[سورة الحج [22]: الآيات 26 الى 33]

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ [26] وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [27] لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ

ص: 384

وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ [28] ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [29] ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [30]

حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [31] ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [32] لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [33]

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ و اذكر إذ جعلناه له مباءة، أي: مرجعا يرجع إليه. و قيل: اللام زائدة، «و مكان» ظرف، أي: و إذ أنزلناه فيه.

قيل: رفع البيت إلى السماء أيّام الطوفان، و كان من ياقوتة حمراء، فأعلم اللّه إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها: الخجوج (1)، فكنست ما حوله، فبناه على أسّه القديم.

أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً «أن» مفسّرة ل «بوّأنا» من حيث إنّه تضمّن معنى: تعبّدنا،

ص: 385


1- في هامش النسخة الخطّية: «الخجوج: الريح الشديدة الحرّ. منه».

لأنّ التبوئة من أجل العبادة، فكأنّه قيل: تعبّدنا إبراهيم بأن قلنا له: لا تشرك بي شيئا.

وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان و الأقذار. و قرأ نافع و حفص و هشام: بيتي بفتح الياء.

لِلطَّائِفِينَ لمن يطوفون به وَ الْقائِمِينَ و يقيمون حوله وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ و لمن يصلّون فيه. سمّى الصلاة بهما تسمية للشي ء باسم أشرف أجزائه، فإنّهما أعظم أركانها.

وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ ناد فيهم بِالْحَجِ بدعوة الحجّ و الأمر به.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صعد أبا قبيس، و وضع إصبعيه في أذنيه، فقال: «يا أيها الناس حجوا بيت ربكم» فأسمعه اللّه من أصلاب الرجال و أرحام النساء، فيما بين المشرق و المغرب، ممّن سبق في علمه أن يحجّ، كما أسمع سليمان، مع ارتفاع منزلته و كثرة جنوده حوله، صوت النملة مع خفضه. و أوّل من أجابه أهل اليمن.

و عن الحسن: الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أمر بذلك في حجّة الوداع.

و روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مناديه أن يؤذّن في الناس بالحجّ، فاجتمع بالمدينة خلق كثير من الأعراب و غيرهم، و أكثر أهل الأموال من أهل المدينة، و خرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأربع بقين من ذي القعدة، فلمّا انتهى إلى مسجد الشجرة، و كان وقت الزوال، اغتسل و نوى حجّ القرآن بعد أن صلّى الظهرين». و القول الأوّل مرويّ عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس.

يَأْتُوكَ رِجالًا مشاة. جمع راجل، كقائم و قيام. وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ أي:

و ركبانا على كلّ بعير مهزول، أتعبه بعد السفر فهزله.

و روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال لبنيه: يا بنيّ حجّوا من مكّة مشاة حتّى ترجعوا إليها مشاة، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «للحاجّ الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، و للحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. قيل: و ما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة».

و كان الحسن بن عليّ عليه السّلام يمشي في الحجّ و البدن تساق بين يديه.

و الحقّ أنّ

ص: 386

المشي إذا لم يضعف عن العبادة فهو أفضل.

يَأْتِينَ صفة ل «كلّ ضامر» محمولة على معناه، فإنّه في معنى الجمع مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ طريق بعيد. يقال: بئر بعيدة إذا بعد قعرها.

و روي مرفوعا عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه يقول: «إنّ اللّه تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثا غبرا، أقبلوا يفدون إليّ من كلّ فجّ عميق، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم، و شفعت رغبتهم، و وهبت مسيئهم لمحسنهم، و أعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات الّتي بينهم. فإذا أفاض القوم إلى جمع، وقفوا و عادوا في الرغبة و الطلب إلى اللّه، يقول: يا ملائكتي عبادي وقفوا و عادوا من الرغبة و الطلب، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم، و شفعت رغبتهم، و وهبت مسيئهم لمحسنهم، و أعطيت محسنهم جميع ما سألني، و كفلت عنهم بالتبعات الّتي بينهم».

لِيَشْهَدُوا ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ دينيّة و دنيويّة. و تنكيرها لأنّ المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة. و قيل: هو منافع الآخرة، من العفو و المغفرة. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و قيل: التجارات، ترغيبا فيها، لكون مكّة واديا غير ذي زرع، و لو لا الترغيب لتضرّر سكّانها. و لذلك قال إبراهيم: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (1). و لو حمل على منفعتي الدنيا و الآخرة ما كان بعيدا عن الصواب.

و تنكيرها دالّ عليه، كما فسّرنا أوّلا.

وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند إعداد الهدايا و الضحايا و ذبحها. و قيل: كنّى بالذكر عن النحر، لأنّ ذبح المسلمين لا ينفكّ عنه، تنبيها على أنّه المقصود ممّا يتقرّب به إلى اللّه.

فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ معدودات، هي عشر ذي الحجّة. سمّيت معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحجّ. و به قال أبو حنيفة.

ص: 387


1- إبراهيم: 37.

و قيل: إنّها يوم النحر و الثلاثة بعده أيّام التشريق، و الأيّام المعدودات عشر ذي الحجّة. و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام،

و المأثور عن ابن عبّاس، و اختاره الزجّاج. قال: لأنّ الذكر هنا يدلّ على التسمية على ما يذبح و ينحر، و هذه الأيّام تختصّ بذلك.

و عن الصادق عليه السّلام: «هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة، أوّلها صلاة الظهر من يوم النحر، يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، اللّه أكبر و للّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا، و الحمد للّه على ما أبلانا. و اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام»

وفق قوله:

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ علّق الفعل بالمرزوق، و بيّنه بالبهيمة، تحريضا على التقرّب، و تنبيها على مقتضى الذكر.

و البهيمة من الإبهام، بمعنى المبهمة من كلّ ذات أربع في البرّ و البحر. و إنّما سمّيت بالبهيمة، لأنّها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق. و أصل الأنعام في الإبل. و اشتقاقها من النعمة، و هي اللين. سمّيت بذلك للين خفافها. و قد يجتمع معها البقر و الغنم، فيسمّى الجميع أنعاما اتّساعا. و إن انفردا لم يسمّيا أنعاما. و إضافة البهيمة للبيان.

فَكُلُوا مِنْها من لحومها. أمر بذلك إباحة و إزاحة لما عليه أهل الجاهليّة من التحرّج فيه، أو ندبا إلى مواساة الفقراء و مساواتهم. و هذا في المتطوّع به دون الواجب.

وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الّذي أصابه بؤس، أي: شدّة الْفَقِيرَ المحتاج الّذي أضعفه الإعسار. مشتقّ من فقار الظهر، كأنّه كسر فقاره، لفرط احتياجه. و الأمر في الإطعام للندب إن كان الذبح بغير الهدي، و إلّا فالأمران للوجوب.

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ثمّ ليزيلوا وسخهم بقصّ الشارب و الأظفار، و نتف الإبط و حلق العانة عند الإحلال، فإنّ التفث بمعنى الوسخ. و عن الزجّاج: التفث كناية عن الخروج من الإحرام إلى الإحلال.

و قيل: المراد به بقيّة أعمال الحجّ بعد الذبح، من الحلق و الرمي و غيرهما من المناسك. و على هذا يكون عطف الطواف من باب عطف: جبرئيل و ميكائيل، و فاكهة

ص: 388

و نخل و رمّان.

وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ و ليتمّوا ما ينذرون من البرّ في حجّهم. و قيل: مواجب الحجّ. و قرأ أبو بكر بفتح الواو و تشديد الفاء.

وَ لْيَطَّوَّفُوا طواف الإفاضة الّذي به تمام التحلّل. و هو طواف الزيارة الّذي هو من أركان الحجّ، و يقع به تمام التحلّل. و قيل: طواف الصدر. و هو طواف الوداع. و روى أصحابنا أنّه طواف النساء الّذي يستباح به وطء النساء، و ذلك بعد طواف الزيارة الّذي يحلّ له كلّ شي ء إلّا النساء. و قرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيها. بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ القديم، لأنّه أوّل بيت وضع للناس. أو المعتق من تسلّط الجبابرة، فكم من جبّار سار إليه ليهدمه فمنعه اللّه.

و أمّا الحجّاج فقيل: إنّما قصد بنقضه إخراج ابن الزبير منه، و لم يقصد التسلّط عليه، و لهذا لمّا قبضه بناه. و لمّا قصد أبرهة التسلّط عليه فعل به ما فعل. و ليس بشي ء، لأنّ إقدامه على تلك الفعلة قبيح، و مخالف لقوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (1).

بل الأولى في الجواب: أنّه إنّما لم يهلكه لبركة سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ هذه الأمّة معصومة من عذاب الاستئصال.

و قيل: معناه: لم يملك قطّ. و قيل: أعتق من الغرق. و قيل: بيت كريم، من قولهم:

عتاق الخيل و الطير.

ذلِكَ خبر محذوف، أي: الأمر أو الشأن ذلك. و هو و أمثاله يطلق للفصل بين كلامين. وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أحكامه و سائر ما لا يحلّ هتكه. أو الحرم و ما يتعلّق بالحجّ من التكاليف. أو الكعبة و المسجد الحرام و البلد الحرام و الشهر الحرام و المحرّم، فإنّ الحرمة ما لا يحلّ هتكه، فيشمل جميع ما كلّفه اللّه تعالى بهذه الصفة من مناسك الحجّ و غيرها. و معنى تعظيمها: العلم بأنّها واجبة المراعاة و الحفظ و القيام بمراعاتها. يعني: من

ص: 389


1- آل عمران: 97.

يراعي ما يجب القيام به من أحكام اللّه تعالى، و امتثل به.

فَهُوَ فالتعظيم الّذي هو القيام بأوامر اللّه و نهيه خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ثوابا.

و لمّا حثّ على تعظيم الحرمات، ردّ على الكفرة ما كانوا عليه، فقال: وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلّا المتلوّ عليكم تحريمه. و ذلك قوله في سورة المائدة:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1). و المعنى: إنّ اللّه قد أحلّ لكم الأنعام كلّها إلّا ما استثناه في كتابه، فحافظوا على

حدوده، و إيّاكم أن تحرّموا ممّا أحلّ شيئا، كتحريم البحيرة و السائبة و غير ذلك، و أن تحلّوا ممّا حرّم اللّه، كإحلالهم أكل الموقوذة و الميتة و غير ذلك.

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي: الرجس الّذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس. و هو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها، و التنفير عن عبادتها.

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قول الكذب. تعميم بعد تخصيص، فإنّ عبادة الأوثان رأس الزور، لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحقّ له العبادة، و هو محض الكذب.

و قيل: المراد شهادة الزور، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه، و تلا هذه الآية».

و الزّور من الزّور، و هو الانحراف، كما أنّ الإفك من الإفك، و هو الصرف، فإنّ الكذب مصروف عن الواقع.

و قيل: قول الزور قول أهل الجاهليّة: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك.

حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين له غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ و هما حالان من الواو، أي:

اجتنبوا الأوثان و قول الزور، مستقيمي الطريقة على أمر اللّه، مائلين عن سائر الأديان.

وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ لأنّه سقط من أوج سماء الإيمان إلى

ص: 390


1- المائدة: 3.

حضيض شقاوة الكفر فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ فإنّ الأهواء المردية توزّع أفكاره. و قرأ نافع وحده: فتخطّفه، بفتح الخاء و تشديد الطاء. أصله: تختطفه. أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ تسقطه فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد مفرط في البعد، فإنّ الشيطان قد طوّح (1) به في الضلالة البعيدة.

و هذا التشبيه يكون من التشبيهات المفردة، لأنّه شبّه الإيمان في علوّه بالسماء، و الّذي ترك الإيمان و أشرك باللّه بالساقط من السماء، و الأهواء الّتي تتوزّع أفكاره بالطير المختطفة، و

الشيطان الّذي يطوّح به في وادي الضلالة بالريح الّتي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المهلكة.

و يجوز أن يكون من التشبيهات المركّبة. فيكون المعنى: و من أشرك باللّه فقد أهلك نفسه إهلاكا يشبه بصورة حال من خرّ من السماء، فاختطفته الطير، فتفرّق مزعا (2) في حواصلها، أو عصفت به الريح حتّى هوت به في بعض المطاوح (3) البعيدة.

و «أو» للتخيير، كما في قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ (4). أو للتنويع، فإنّ من المشركين من لا خلاص له أصلا، و منهم من يمكن خلاصه بالتوبة و لكن على بعد.

ذلِكَ أي: الأمر ذلك الّذي ذكرناه وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ معالم دين اللّه، و الأعلام الّتي نصبها لطاعته. و تعظيمها التزامها. و قيل: هي مناسك الحجّ كلّها. و عن ابن عبّاس و مجاهد:

هي الهدايا، لأنّها من معالم الحجّ. جمع شعيرة. و هي البدن إذا أشعرت، أي: أعلمت عليها، بأن يشقّ سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنّها هدي. و هذا هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و ذهب إليه الشافعي. و هو أوفق لظاهر ما بعده.

و تعظيمها أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا غالية الأثمان، و يترك

ص: 391


1- طوّح: رمى و قذف. و المطاوح: المهالك. و الواحدة: مطاحة.
2- في هامش النسخة الخطّية: «المزعة: قطعة من اللحم. منه» و جمعها: مزع و مزع.
3- طوّح: رمى و قذف. و المطاوح: المهالك. و الواحدة: مطاحة.
4- البقرة: 19.

المكاس (1) في شرائها.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهدى مائة بدنة، فيها جمل في أنفه برّة (2) من ذهب.

و كان ابن عمر يسوق البدن مجلّلة بالقباطي (3)، فيتصدّق بلحومها و بجلالها (4).

فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ فإنّ تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. فحذفت هذه المضافات. و لا يستقيم المعنى إلّا بتقديرها، لأنّه لا بدّ من عائد من الجزاء إلى «من» ليرتبط به. و ذكر القلوب لأنّها مراكز التقوى الّتي إذا ثبت فيها و تمكّنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء، فإنّها منشأ التقوى و الفجور، و الآمرة بهما.

لَكُمْ فِيها في الهدايا مَنافِعُ من درّها و نسلها و صوفها و ظهرها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن تنحر، و يتصدّق بلحومها، و يؤكل منها ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ثمّ وقت نحرها منتهية إلى البيت من الحرم، فإنّ المراد نحرها في الحرم الّذي هو في حكم البيت، لأنّ الحرم هو حريم البيت. و مثل هذا في الاتّساع قولك: بلغنا البلد. و إنّما شارفتموه، و اتّصل مسيركم بحدوده.

و «ثمّ» تحتمل التراخي في الوقت، و التراخي في الرتبة، أي: لكم فيها منافع دنيويّة إلى وقت النحر، و بعده منافع دينيّة أعظم منها. و هو على القولين الأولين إمّا متّصل بحديث الأنعام، و الضمير فيه لها. أو المراد على الأول: لكم فيها منافع دينيّة تنتفعون بها إلى أجل مسمّى هو الموت، ثم محلّها منتهية إلى البيت العتيق الّذي ترفع إليه الأعمال، أو يكون فيه ثوابها، و هو البيت المعمور أو الجنّة. و على الثّاني: لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة، ثمّ وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة. و لا يخفى أنّ المعنى الأوّل أظهر و أنسب كما قلنا،

ص: 392


1- المكاس: استحطاط الثمن و استنقاصه في البيع.
2- أي: حلقة.
3- القباطيّ: ثياب من كتّان، منسوبة إلى القبط. و الواحدة: القبطيّة.
4- الجلال: للدابّة كالثوب للإنسان تصان به. و الواحدة: الجلّ.

فيكون المراد بشعائر اللّه الهدايا.

و اعلم أنّ عند أصحابنا إن كان الهدي للحجّ فمحلّه منى، و إن كان للعمرة المفردة فمحلّه مكّة قبالة الكعبة بالحزورة (1). و هذا القول ثابت بالروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

[سورة الحج [22]: الآيات 34 الى 35]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [34] الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [35]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ و لكلّ أهل دين جَعَلْنا مَنْسَكاً شرعنا أن ينسكوا، أي: يتعبّدوا، أو يذبحوا لوجه اللّه. و قرأ حمزة و الكسائي بالكسر، أي: موضع نسك. لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ على النسائك دون غيره، و يجعلوا نسيكتهم لوجه اللّه. و تعليل الجعل به للتنبيه على أنّ المقصود من المناسك تذكّر المعبود. عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي: عند ذبحها. و فيه تنبيه على أنّ القربان يجب أن يكون نعما.

فَإِلهُكُمْ فمعبودكم الّذي توجّهون إليه العبادة إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَلَهُ أَسْلِمُوا أخلصوا له الذكر، و لا تشوبوه بالإشراك وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ المتواضعين، أو المخلصين، فإنّ الإخبات صفتهم. و هو من الخبت، و هو المطمئنّ من الأرض. و قيل: هم الّذين لا يظلمون، و إذا ظلموا لم ينتصروا.

ص: 393


1- الحزورة: كانت سوق مكّة، و قد دخلت في المسجد لمّا زيد فيه. معجم البلدان 2: 255.

و في الآية دلالة على أنّ الذبائح غير مختصّة بهذه الأمّة، و أنّ التسمية على الذبح كانت مشروعة قبلنا.

ثمّ وصف المخبتين بقوله: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إذا خوّفوا باللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ هيبة منه، لإشراق اشعّة جلاله على قلوبهم وَ الصَّابِرِينَ و بشّرهم عَلى

ما أَصابَهُمْ من التكاليف في طاعة اللّه، و سائر المصائب و النوائب وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها، كما أمر اللّه تعالى بها وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير.

[سورة الحج [22]: آية 36]

وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [36]

ثمّ عاد إلى ذكر الشعائر بقوله: وَ الْبُدْنَ جمع بدنة، كخشب و خشبة. و أصله الضمّ من: بدن بدانة. سمّيت بها الإبل، لعظم بدنها. و انتصابه بفعل يفسّره جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ من أعلام الشريعة الّتي شرعها اللّه تعالى. و إضافته إلى اسمه تعظيم لها.

و «من» متعلّقة بفعل محذوف، أي: جعلنا لكم و جعلناها من شعائر اللّه.

لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي: منافع دينيّة و دنيويّة، كقوله تعالى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ (1) فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي: في حال نحرها. قال ابن عبّاس: بأن تقول عند ذبحها:

اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، اللّهمّ منك و إليك. صَوافَ قائمات قد صففن ايديهنّ و أرجلهنّ، و ربطت اليدان من كلّ واحد منها ما بين الرسغ (2) إلى الركبة.

ص: 394


1- الحجّ: 33.
2- الرسغ: الموضع المستدقّ بين الحافر و موصل الوظيف من اليد و الرجل. و المفصل ما بين الساعد و الكفّ أو الساق و القدم. و مثل ذلك من الدابّة.

فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها سقطت على الأرض. من: وجب الحائط وجبة إذا سقط.

و وجبت الشمس وجبة: غربت. و وجوب الجنوب فيها كناية عن تمام خروج الروح منها.

فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ الراضي بما عنده، و بما يعطي من غير مسألة وَ الْمُعْتَرَّ و المتعرّض للسؤال. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «القانع: الّذي يسأل فيرضى بما أعطي، و المعتر: الّذي يعتري و لا يسأل».

و الأمر في الثلاثة للوجوب في حجّ التمتّع عندنا، لقول الصادق عليه السّلام: «إذا ذبحت و نحرت فكل و أطعم، كما قال اللّه تعالى:

فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ».

كَذلِكَ مثل ما وصفناه من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ مع عظمها و قوّتها، حتّى تأخذوها منقادة، فتعقلوها و تحبسوها صافّة قوائمها، ثمّ تطعنون في لبّاتها (1).

و لو لا تسخير اللّه لم تطق، و لم تكن بأعجز من بعض الوحوش الّتي هي أصغر منها جرما و أقلّ قوّة. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إنعامنا عليكم بالتقرّب و الإخلاص.

[سورة الحج [22]: آية 37]

لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [37]

قيل: كان أهل الجاهليّة إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها للتقرّب، فهمّ به المسلمون، فنزلت: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لن يصيب رضاه، و لن يقع منه موقع القبول لُحُومُها المتصدّق بها وَ لا دِماؤُها المهراقة بالنحر من حيث إنّها لحوم و دماء وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ و لكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم الّتي تدعوكم إلى تعظيم أمر اللّه، و التقرّب إليه و الإخلاص له.

و تنقيح المعنى: لن يرضي المضحّون و المقرّبون ربّهم بهذه الأعمال إلّا بمراعاة نيّة

ص: 395


1- اللّبّة: المنحر و موضع القلادة من الصدر. و جمعها: لبّات.

الإخلاص، و قصد الاحتفاظ بشرط التقوى في حلّ ما قرّب به، و هي امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و إخراج ملك البدن من مال طيّب لا شبهة فيه، عن سخاء نفس، فإنّ الطبيعة شحيحة، و مخالفتها من التقوى، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية.

كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرّره تذكيرا للنعمة، و تعليلا له بقوله: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي:

لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحّدوه بالكبرياء. و قيل: هو التكبير عند الإحلال أو الذبح. عَلى ما هَداكُمْ أرشدكم إلى طريق تسخيرها، و كيفيّة التقرّب بها. و «ما» تحتمل المصدريّة و الخبريّة. و «على» متعلّقة ب «تكبّروا» لتضمّنه معنى الشكر. وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ المخلصين فيما يأتونه و يذرونه.

[سورة الحج [22]: الآيات 38 الى 40]

إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [38] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [39] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [40]

ثمّ بيّن سبحانه دفع غائلة المشركين عن المؤمنين، بشارة لهم بالنصر، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا يمنعهم عن شرور الكفّار و أذيّاتهم، و ينصرهم عليهم. و قرأ نافع و ابن عامر و الكوفيّون: يدافع، أي: يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه، لأنّ فعل المغالب أقوى و أبلغ.

ثمّ جعل العلّة في اختصاص المؤمنين بدفعه عنهم، و نصرته لهم، بالجملة

ص: 396

المستأنفة، و هي قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كأنّه قيل: لم خصّ المؤمنين بالنصرة و الدفع. فأجيب: إنّ اللّه لا يحبّ كلّ خوّان- أي: كثير الخيانة- في أمانة اللّه. كَفُورٍ كثير الكفران لنعمه. و هم الكفرة الّذين يخونون اللّه بالإشراك، و الرسول بالإنكار و الجحود و الكفران، و يتقرّبون إلى الأصنام بذبيحتهم و يعظّمونها، و يكفرون نعم اللّه، فلا يرتضي فعلهم و لا ينصرهم.

ثمّ بيّن إذنه لهم في قتال الكفّار بعد تقدّم بشارتهم بالدفع عنهم، فقال: أُذِنَ أي: رخّص. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي على البناء للفاعل، أي: أذن اللّه.

لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ المشركين. حذف المأذون فيه- و هو القتال- لدلالة «يقاتلون» عليه.

و قرأ نافع و ابن عامر و حفص بفتح التاء، أي: للّذين يقاتلهم المشركون. بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا بسبب كونهم مظلومين.

و هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. كان المشركون يؤذونهم، و لا يزال يجي ء مشجوج و مضروب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يتظلّم إليه،

فيقول لهم: اصبروا فإنّي لم أؤمر بالقتال حتّى هاجر، فأنزلت.

و في أوّل آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيّف (1) و سبعين آية.

ثمّ صرّح بالوعد لهم بالنصر، كما وعد بدفع أذى الكفّار عنهم، فقال: وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ سيغلبهم و يقهرهم على أعدائهم.

ثمّ بيّن علّة إذن القتال، فقال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: مكّة بِغَيْرِ حَقٍ بغير موجب استحقّوه به. و عن أبي جعفر عليه السّلام: «نزلت في المهاجرين، و جرت في آل محمّد الّذين أخرجوا من ديارهم و أخيفوا».

إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ في محلّ الجرّ على الإبدال من «حقّ» أي: بغير موجب سوى التوحيد الّذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار و التمكين، لا موجب الإخراج.

ص: 397


1- في هامش النسخة الخطّية: «النيّف مثقّل، في قولهم: مائة و نيّف. قال أبو زيد: كلّ ما بين عقدين نيّف. منه».

و التسيير و مثله: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ (1). و هذا استثناء متّصل على طريقة قول النابغة (2):

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب و قيل: منقطع.

وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ قرأ نافع: دفاع اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة لَهُدِّمَتْ لخرّبت باستيلاء المشركين على أهل الملل. و قرأ نافع و ابن كثير: لهدمت بالتخفيف. صَوامِعُ صوامع الرهبان وَ بِيَعٌ و بيع النصارى وَ صَلَواتٌ و كنائس اليهود. سمّيت بها لأنّها يصلّى فيها. و قيل: هي كلمة معرّبة، أصلها بالعبرانيّة: صلوتا. وَ مَساجِدُ و مساجد المسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً صفة للأربع، أو ل «مساجد» خصّت بها تفضيلا.

و المعنى: لو لا دفع اللّه ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، و على متعبّداتهم فهدّموها، و لم يتركوا للنصارى بيعا، و لا لرهبانهم صوامع، و لا لليهود صلوات، و لا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون في أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المسلمين، و على أهل الكتاب الّذين في ذمّتهم، و هدّموا متعبّدات الفريقين.

وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ من ينصر دينه و أولياءه. و هو إخبار من اللّه عزّ و جلّ بظهر الغيب عمّا سيكون. و قد أنجز وعده، بأن سلّط المهاجرين و الأنصار على صناديد العرب، و أكابر أكاسرة العجم و قياصرتهم، و أورثهم أرضهم و ديارهم. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ على نصرهم عَزِيزٌ لا يمانعه شي ء.

ص: 398


1- المائدة: 59.
2- ديوان النابغة (طبعة دار صادر): 11.

[سورة الحج [22]: آية 41]

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [41]

ثمّ وصف المهاجرين المخرجين من ديارهم بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ لو أعطيناهم في الدنيا كمال المكنة و الاقتدار، و التسلّط في القيام بأمور الدين أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ أي: و لأقدموا على أنواع طاعتنا البدنيّة و الماليّة، و أمروا عبادنا بأوامرنا، و نهوهم عمّا نهينا عنه. قيل:

الموصول مع الصلة منصوب بدل من «من ينصره». و الظاهر أنّه مجرور تابع ل «الّذين أخرجوا». و عن الباقر عليه السّلام: «نحن هم و اللّه».

ثمّ أكّد ما وعده من إظهار أوليائه، و إعلاء كلمتهم، بقوله: وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فإنّ مرجعها إلى حكمه.

[سورة الحج [22]: الآيات 42 الى 45]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ [42] وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ [43] وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [44] فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ [45]

ثمّ خوّف مكذّبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذكر من كذّبوا أنبياءهم فأهلكوا، فقال: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ رسلهم و فيه أيضا تسلية لرسوله، كأنّه قال: إنّ قومك إن كذّبوك فأنت ليس بأوحديّ في التكذيب، فإنّ هؤلاء قد كذّبوا رسلهم قبل قومك، فكفاك بهم أسوة.

ص: 399

وَ كُذِّبَ مُوسى غيّر فيه النظم، و بنى الفعل للمفعول، لأنّ قومه بنو إسرائيل و لم يكذّبوه، و إنّما كذّبه القبط. و لأنّ تكذيبه كان اشنع، لأنّ آياته كانت أعظم و أشيع.

فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ فأمهلتهم حتّى انصرمت آجالهم المقدّرة. يقال: أملى اللّه لفلان في العمر،

إذا أخّر عنه أجله. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة، و الحياة هلاكا، و العمارة خرابا. و الاستفهام للتقرير.

ثمّ بيّن كيفيّة تعذيب المكذّبين بقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بإهلاك أهلها وَ هِيَ ظالِمَةٌ أي: أهلها. في محلّ النصب على الحال. فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة، من: خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من: خوى المنزل إذا خلا من أهله. و خوى بطن الحامل. و العرش: كلّ ما أظلّك من سقف بيت أو خيمة أو ظلّة أو كرم.

و الجملة معطوفة على «أهلكناها». و «على» إمّا متعلّق ب «خاوية». فيكون المعنى: أنّها ساقطة حيطانها على سقوفها، بأن تعطّل بنيانها فخرّت سقوفها ثم انهدمت حيطانها، فسقطت فوق السقوف. أو خالية مع بقاء عروشها و سلامتها. ف «على» تكون بمعنى مع، و إما خبر بعد خبر، كأنّه قيل: هي خالية و هي على عروشها، أي: مطلّة على عروشها، بأن سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان، و بقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها.

و لا يجوز أن تكون الجملة معطوفة على «وَ هِيَ ظالِمَةٌ»، لأنّها حال، و الإهلاك ليس حال خوائها. فلا محلّ لها إن نصبت «كأيّن» بمقدّر يفسّره أهلكناها، و إن رفعته بالابتداء فمحلّها الرفع.

وَ بِئْرٍ عطف على قرية، أي: و كم من بئر عامرة في البوادي، فيها الماء الغزير، و معها آلات الاستقاء مُعَطَّلَةٍ عطّلت و تركت لا يستقى منها، لهلاك أهلها وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ مجصّص، من الشيد بمعنى الجصّ. أو مرفوع البنيان، من: شاد بمعنى: ارتفع.

و المعنى: كم من قرية أهلكناها؟ و كم بئر عطّلنا عن سقاتها؟ و كم قصر مشيد أخليناه عن

ص: 400

ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة «معطّلة» عليه.

و روي: أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السّلام مع أربعة آلاف نفر ممّن آمن به، و نجّاهم اللّه من العذاب. و هي بحضرموت. و إنّما سمّيت بذلك، لأنّ صالحا حين حضرها مات.

و قيل: بئر في سفح جبل بحضرموت، و قصر مشرف على قلّته.

و قيل: بلدة عند البئر اسمها: حاضوراء، بناها قوم صالح، و أمّروا عليهم جلهس بن جلّاس، و أقاموا بها زمانا، ثمّ كفروا و عبدوا صنما، و أرسل اللّه إليهم حنظلة بن صفوان نبيّا فقتلوه، فأهلكهم اللّه، و عطّل بئرهم، و خرّب قصورهم.

و قيل: أصحاب الآبار ملوك البدو، و أصحاب القصور ملوك الحضر.

[سورة الحج [22]: آية 46]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [46]

ثمّ حثّ سبحانه على الاعتبار بمصارع من أهلكهم اللّه من الكفّار الّذين كذّبوا رسلهم، فقال: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أ فلم يسافروا فيها ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا؟ و هم و إن كانوا سافروا، لكن لم يسافروا على وجه الاعتبار و التأمّل. و يحتمل أنّهم لم يسافروا، فحثّوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم اللّه بكفرهم، و يشاهدوا آثارهم فيعتبروا.

فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يعقل من التوحيد، بما حصل لهم من الاستبصار، و الاستدلال بما نزل على من أشرك قبلهم أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من الوحي و التذكير بحال من شاهدوا آثارهم.

فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الضمير للقصّة. أو مبهم يفسّره «الأبصار». و في «تعمى» راجع إليه. و المعنى: فإنّ إبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ عن الاعتبار، أي: ليس الخلل في مشاعرهم، و إنّما إيفت عقولهم باتّباع الهوى، و الانهماك في التقليد. و ذكر الصدور للتأكيد، و نفي التجوّز، كقوله:

ص: 401

يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ (1)، و قوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ (2). و فضل التنبيه على أنّ العمى الحقيقي مكانه القلب، لا المتعارف الّذي هو البصر.

و توضيحه: أنّ الّذي قد تعورف و اعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، و هو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، و استعماله في القلوب استعارة و مثل. فلمّا أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة و نفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين و فضل تعريف، ليتقرّر أن مكان العمى حقيقة هو القلوب في الصدور لا الإبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف، و لكنّه للسانك الّذي بين فكّيك.

فقولك: «الّذي بين فكّيك» تقرير لما ادّعيته للسانه و تثبيت، لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير.

روي: أنّه لمّا نزلت: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى (3)، قال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إنّما أنا في الدنيا أعمى، أ فأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».

[سورة الحج [22]: آية 47]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [47] ثمّ أنكر استعجالهم بالعذاب المتوعّد به عاجلا أو آجلا، فقال: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعّد به وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الخلف في خبره، فيصيبهم ما أوعدهم به و لو بعد حين، لكنّه صبور حليم لا يعجل بالعقوبة.

ثمّ بيّن تناهي صبره، و تأنّيه في أموره، فقال استقصارا للمدد الطوال: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ يعني: من حلمه و وقاره، و استقصاره المدد الطوال، أنّ

ص: 402


1- آل عمران: 167.
2- الأنعام: 38.
3- الإسراء: 72.

يوما واحدا عنده كألف سنة عندكم.

و قيل: معناه: كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيّام عذابه في طول ألف سنة من سنّيكم؟ من حيث إنّ اليوم الواحد لشدّة عذابه كألف سنة من سنيّ العذاب.

و قرأ ابن كثير و الكسائي و حمزة بالياء.

[سورة الحج [22]: آية 48]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [48]

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الإملاء و الإهمال لا يمنعهم من العذاب، كما لا يمنع الأمم السالفة منه، فقال: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كم من أهل قرية. فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب و رجع الضمائر و الأحكام، مبالغة في التعميم و التهويل.

و إنّما عطف الأولى بالفاء و هذه بالواو، لأنّ الأولى بدل من قوله: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ»، و هذه حكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني: قوله:

وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ و إنّ يوما عند ربّك كألف سنة لبيان أن المتوعّد به يحيق بهم لا محالة، و أنّ تأخيره لعادته تعالى. و المعنى: و كم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين.

أَمْلَيْتُ لَها أنظرتهم حينا كما أمهلتكم وَ هِيَ ظالِمَةٌ و هم ظالمون مثلكم ثُمَّ أَخَذْتُها أخذتهم بالعذاب وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ و إلى حكمي مرجع الجميع.

[سورة الحج [22]: الآيات 49 الى 51]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [49] فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [50] وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [51]

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: قُلْ لهم يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: أوضح لكم ما أنذركم به. و الاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب- الّذي

ص: 403

يقتضي أن يقال: إنّما أنا لكم بشير و نذير، لذكر الفريقين بعده- لأنّ صدر الكلام و مساقه للمشركين، و إنّما ذكر المؤمنين و ثوابهم زيادة في غيظهم.

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من السيّئات وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ هي الجنّة، فإنّها أكرم نعيم. و الكريم من كلّ نوع ما يجمع فضائله.

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي: بذلوا الجهد في إبطال آياتنا و ردّها. و أصل السعي الإسراع في المشي. مُعاجِزِينَ مسابقين. من: عاجزه إذا سابقه، لأنّ كلّ واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه و عجزه. و المعنى:

سعوا في معناها بالفساد، من الطعن فيها حيث سمّوها سحرا و شعرا و أساطير الأوّلين، و من تثبيط الناس عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم، و تقديرهم طامعين أنّ كيدهم للإسلام يتمّ لهم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: معجزين.

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ النار الموقدة. و قيل: اسم دركة.

[سورة الحج [22]: الآيات 52 الى 55]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [52] لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [53] وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [54] وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [55]

ص: 404

روي عن ابن عبّاس و غيره: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلا سورة و النجم و بلغ إلى قوله:

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (1) ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق (2) العلى، و إنّ شفاعتهنّ لترتجى. فسرّ بذلك المشركون. فلمّا انتهى إلى السجدة سجد المسلمون، و سجد أيضا

المشركون لمّا سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم.

فهذا الخبر إن صحّ فمحمول على أنّه كان يتلو القرآن، فلمّا بلغ هذا الموضع، و ذكر أسماء آلهتهم، و قد علموا من عادته أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين:

تلك الغرانيق العلى، و ألقى ذلك في تلاوته يوهم أنّ ذلك من القرآن، فأضافه سبحانه إلى الشيطان، لأنّه إنّما حصل بإغوائه و وسوسته.

و هذا أورده المرتضى قدّس روحه في كتاب التنزيه (3). و هو قول الناصر للحقّ من أئمّة الزيديّة. و هو وجه حسن في التأويل.

فأنزل اللّه سبحانه في ذلك: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍ الرسول:

من بعثه اللّه بشريعة مجدّدة يدعو الناس إليها. و النبيّ يعمّه و من بعثه لتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الّذين كانوا بين موسى و عيسى عليه السّلام. و لذلك شبّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علماء أمّته بهم، و قال: «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل».

فالنبيّ أعمّ من الرسول. و يدلّ عليه أيضا

أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن الأنبياء، فقال: «مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا. قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر جمّا غفيرا».

و قيل: الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه. و النبيّ من لا كتاب له.

و قيل: الرسول من يأتيه الملك بالوحي. و النبيّ يقال له و لمن يوحى إليه في المنام.

ص: 405


1- النجم: 19- 20.
2- الغرنوق: الشابّ الأبيض الجميل. و جمعه: غرانيق.
3- تنزيه الأنبياء: 108.

إِلَّا إِذا تَمَنَّى إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه، فإنّ التمنّي بمعنى التلاوة، كما قال حسّان بن ثابت:

تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلةو آخره لاقى حمام المقادر و في رواية أخرى:

تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلةتمنّي داود الزبور على رسل أَلْقَى الشَّيْطانُ أي: زاد عليه بعض المشركين- الّذين هم بمنزلة الشيطان- الكلمات الباطلة و الأقوال المضلّة فِي أُمْنِيَّتِهِ في تلاوته ليوهموا أنها من جملة الوحي. و لمّا وقع ذلك منهم بغرور الشيطان أسند إليه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فيزيله و يدحضه بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان و ترك استماع غروره. و خرج هذا على وجه التسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا كذب المشركون عليه، و أضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ما لم يكن فيها.

و عن مجاهد: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا تأخّر عنه الوحي تمنّى أن ينزل عليه، فيلقي الشيطان في أمنيّته بأنّ الوحي يمكن أن ينقطع.

و على هذا، فالمعنى: إذا تمنّى بقلبه ما يتمنّاه من الأمور، وسوس إليه الشيطان و يدعوه إلى الباطل.

و قال صاحب المجمع بعد نقل الرواية المذكورة

عن ابن عبّاس: «و قد جاء في بعض الأحاديث أنّه صدر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تلك الغرانيق العلى، و إنّ شفاعتهنّ لترتجى»

و أراد بذلك الملائكة، فتوهّم المشركون أنّه يريد آلهتهم.

و قيل: إنّ ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة، فلمّا ظنّ المشركون أنّ المراد به آلهتهم، نسخت تلاوته.

و قال البلخي: يجوز أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمع هاتين الكلمتين من قومه و حفظهما، فلمّا قرأها ألقاها الشيطان في ذكره، فكاد أن يجريهما على لسانه، فعصمه اللّه و نبّهه، و نسخ وسواس الشيطان و أحكم آياته، بأن قرأها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محكمة سليمة ممّا أراد الشيطان.

ص: 406

و يجوز أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا انتهى إلى ذكر اللّات و العزّى، قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بهما صوته، فألقاهما في تلاوته في مجمع الناس، فظنّ الجهّال أنّ ذلك من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسجدوا عند ذلك» (1).

و هذا الوجه مردود بأنّه يخلّ بالوثوق على القرآن. و لا يندفع بقوله: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ».

ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لأنّه أيضا يحتمله.

و الغرانيق: جمع غرنوق، و هو الحسن الجميل. يقال: شابّ غرنوق، إذا كان ممتلئا ريّا.

و يدلّ على أنّ الملقى أمر ظاهر عرفه المحقّ و المبطل، لا محض الوسوسة، قوله:

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً. ابتلاء و امتحانا، أي: تشديدا في التعبّد لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ، و نفاق وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ المشركين. يعني: ليشدّد التكليف على الّذين في قلوبهم شكّ، و على الّذين قست قلوبهم من الكفّار، فيلزمهم التمييز بين ما يحكمه اللّه، و بين ما يلقيه الشيطان، بالأدلّة المستنبطة عن دقائق الفكر و لطائف التأمّل.

وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ يعني: هؤلاء المنافقين و المشركين. فوضع الظاهر موضع ضمير «هم» قضاء عليهم بالظلم. لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عن الحقّ، أو عن الرسول و المؤمنين.

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ باللّه و بتوحيده و بحكمته أَنَّهُ الْحَقُ أنّ القرآن هو الحقّ مِنْ رَبِّكَ النازل من عند اللّه، و لا يجوز عليه التبديل و التغيير. أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحقّ من ربّك و الحكمة.

فَيُؤْمِنُوا بِهِ فيصدّقوا به، أو يثبتوا على إيمانهم به فَتُخْبِتَ فتطمئنّ لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد و الخشية وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فيما أشكل إِلى صِراطٍ

ص: 407


1- مجمع البيان 7: 91- 92.

مُسْتَقِيمٍ إلى أن يتأوّلوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة بوسيلة النظر الصحيح، و يطلبوا لما أشكل منه المحمل الّذي تقتضيه الأصول المحكمة و القوانين الممهّدة، لئلّا تعتريهم شبهة، و لا تخالجهم مرية، و لا تزلّ أقدامهم.

وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ في شكّ مِنْهُ من القرآن، أو الرسول، أو ممّا ألقى الشيطان في أمنيّته. يقولون: ما باله ذكرها بخير ثمّ ارتدّ عنها؟ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ القيامة، أو أشراطها، أو القيامة الصغرى، و هي الموت بَغْتَةً فجأة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ يوم حرب، كيوم بدر. سمّي به، لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنّهنّ لم يلدن. أو لأنّ المقاتلين أبناء الحرب، فإذا قتلوا صارت عقيما، فوصف اليوم بوصفها تجوّزا. أو لأنّه لا خير لهم فيه. و منه: الريح العقيم لما لم تنشئ مطرا و لم تلقح شجرا. أو لأنّه لا مثل له في عظم أمره، لقتال الملائكة فيه. أو يوم القيامة، على أنّ المراد بالساعة الموت أو أشراطها. أو على وضعه موضع ضميرها للتهويل. كأنّه قيل:

تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها.

[سورة الحج [22]: الآيات 56 الى 59]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [56] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [57] وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [58] لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [59]

و لمّا تقدّم ذكر القيامة بيّن صفتها، فقال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ التنوين فيه ينوب عن الجملة الّتي دلّت عليها الغاية، أي: الملك يوم تزول مريتهم لا يملك أحد سواه شيئا،

ص: 408

بخلاف ظاهر الحياة الدنيا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يفصل بين المؤمنين و الكافرين.

ثمّ بيّن تفصيل حكمه فيها بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يتنعّمون فيها وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلّهم. أدخل الفاء في الخبر الثاني دون الأوّل، لينبّه على أنّه يثيب المؤمنين زيادة على قدر عملهم بمراتب تفضّلا منه، و أنّ عقاب الكفّار مسبّب عن أعمالهم و على وفقها لا أزيد. و لذلك قال: «لهم عذاب» و لم يقل: هم في عذاب.

روي: أنّ بعض الصحابة حين رأوا الّذين استشهدوا في سبيل اللّه قالوا: يا رسول اللّه هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير في جنّات النعيم، و نحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا؟ فنزلت:

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد أَوْ ماتُوا في الغربة حتف أنفهم لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً الجنّة و نعيمها.

فسوّى بين من قتل في الجهاد، و بين من مات حتف أنفه في الوعد، لاستوائهما في القصد و أصل العمل. و الرزق الحسن:

ما إذا رآه لا تمتدّ عينه إلى غيره. و هذا لا يقدر عليه غير اللّه تعالى، و لذلك قال: وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنّه يرزق بغير حساب.

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ هو الجنّة، فيها ما يحبّونه، فإنّ فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين. و المدخل يجوز أن يكون بمعنى المكان، و بمعنى المصدر.

وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بدرجات العاملين، أو بأحوالهم و أحوال معادهم و مراتب استحقاقهم حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة أعدائهم.

[سورة الحج [22]: الآيات 60 الى 62]

ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [60]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ

ص: 409

وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [61] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [62]

ذلِكَ الأمر ذلك الّذي قصصنا عليك. روي: أنّ جماعة من مشركي مكّة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم، فقالوا: إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر، فحملوا عليهم. فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبوا، فأظهر اللّه المسلمين عليهم، فنزلت:

وَ مَنْ عاقَبَ أي: جازى الظالم بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ بمثل ما ظلمه، و لم يزد في الاقتصاص. و إنّما سمّى الابتداء بالعقاب- الّذي هو الجزاء- للمزاوجة، أو لملابسته له، من حيث إنّه سبب و ذاك مسبّب عنه، كما يحملون النظير على النظير، و النقيض على النقيض للملابسة.

ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ على المجازي بمعاودة الظالم على عقوبته لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ لينصرنّ المظلوم الّذي بغي عليه لا محالة إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ للمنتصر حيث اتّبع هواه في الانتقام، و حرّم نفسه عمّا يوجبه العفو من المدح عند اللّه، و أعرض عمّا ندب إليه بقوله: وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (1). و لم ينظر إلى قوله: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ « (2)». وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (3).

و فيه تعريض بالحثّ على العفو و المغفرة، فإنّه تعالى مع كمال قدرته و علوّ شأنه لمّا كان يعفو و يغفر، فغيره بذلك أولى. و تنبيه على أنّه قادر على العقوبة، إذ لا يوصف بالعفو إلّا القادر على ضدّه.

ص: 410


1- الشورى: 43 .
2- الشورى: 40.
3- البقرة: 237.

ذلِكَ أي: ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بسبب أنّ اللّه قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض، جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة على وفق حكمته. و من ذلك إيلاج أحد الملوين (1) في الآخر، بأن يزيد فيه ما ينقص منه، أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس، و عكس ذلك باطلاعها. أو بسبب أنّه خالق الليل و النهار و مصرّفهما، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير و الشرّ و البغي و الإنصاف، فيجازيهم وفق أعمالهم. وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون بَصِيرٌ بما يفعلون.

ذلِكَ أي: ذلك الوصف بكمال القدرة و العلم. أو الوصف بخلق الليل و النهار، و الإحاطة بما يجري فيهما، و إدراك كلّ قول و فعل. بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ الثابت في نفسه، الواجب لذاته وحده، فإنّ وجوب وجوده و وحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكلّ ما يوجد سواه، عالما بذاته و بما عداه، قادرا على كلّ ما يشاء. أو الثابت الالهيّة بالذات، و لا يصلح لها إلّا من كان قادرا عالما بالذات.

وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلها. و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو بكر بالتاء، على مخاطبة المشركين. هُوَ الْباطِلُ هو المعدوم في حدّ ذاته، أو باطل الألوهيّة وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ على الأشياء الْكَبِيرُ عن أن يكون له شريك، و لا شي ء أعلى منه شأنا و أكبر سلطانا.

[سورة الحج [22]: الآيات 63 الى 66]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [63] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ

ص: 411


1- الملوان: الليل و النهار. و الواحد: ملا.

الْحَمِيدُ [64] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [65] وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [66]

ثمّ بيّن قدرته بالدلالة الواضحة، فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً استفهام تقرير، و لذا رفع قوله: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً عطفا على «أنزل»، إذ لو نصب جوابا لدلّ على نفي الاخضرار، و المقصود إثباته بالنبات لا نفيه، كما تقول لصاحبك: ألم تر أنّي أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، و إن رفعته فأنت مثبت للشكر. و إنّما عدل عن صيغة الماضي، للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح و أغدو شاكرا له. فلو قلت:

فرحت و غدوت، لم يقع ذلك الموقع.

إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه أو لطفه إلى كلّ ما جلّ و دقّ خَبِيرٌ بالتدابير الظاهرة و المصالح الباطنة.

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ له التصرّف في جميع ذلك خلقا و ملكا وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُ في ذاته عن كلّ شي ء الْحَمِيدُ المستوجب للحمد بصفاته و أفعاله.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الحيوانات و الجمادات، و جعلها معدّة لمنافعكم وَ الْفُلْكَ عطف على «ما» أو على اسم «أنّ» تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ حال منها أو خبر.

ص: 412

وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ من أن تقع، أو كراهة أن تقع عَلَى الْأَرْضِ

بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك إِلَّا بِإِذْنِهِ إلّا بمشيئته. و ذلك يوم القيامة.

و فيه ردّ لاستمساكها بذاتها، فإنّها مساوية لسائر الأجسام في الجسميّة، فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها.

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث هيّأ لهم أسباب الاستدلال، و فتح عليهم أبواب المنافع، و دفع عنهم أنواع المضارّ.

وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم جمادا عناصر و نطفا و علقا و مضغا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة للجزاء. و فيه بيان أنّ من قدر على ابتداء الإحياء، قدر على إعادتهم. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم مع ظهورها.

[سورة الحج [22]: الآيات 67 الى 70]

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ [67] وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ [68] اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [69] أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [70]

ثمّ نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أن يلتفت إلى قول الكفّار الجاحدين المعاندين، و تمكينهم من أن ينازعوه، فقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ أهل دين جَعَلْنا مَنْسَكاً متعبّدا، أو شريعة تعبّدوا بها. و قيل: هو موضع قربان. هُمْ ناسِكُوهُ ينسكونه و يتعبّدون به. فَلا

ص: 413

يُنازِعُنَّكَ سائر أرباب الملل فِي الْأَمْرِ في أمر الدين، أو النسائك. يعني: لا تلتفت إلى قولهم، و لا تمكّنهم من أن يناظروك، لأنّ مناظرتهم مؤدّية إلى نزاعهم، فإنّها إنّما تنفع طالب الحقّ، و هؤلاء أهل مراء و عناد و جهالة. و هذا كقولك: لا يضاربنّك زيد، أي: لا تضاربه. و هذا إنّما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم.

و قيل: هذا زجر عن التعريض لرسول اللّه بالمنازعة في الدين، لأنّهم جهّال و أهل عناد، أو لأنّ أمر الإسلام أظهر من أن يقبل النزاع. و ترك واو العطف في صدر الآية، و ذكرها في نظيرها، و هو قوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ (1) لأنّ نظيرها وقعت مع ما يدانيها و يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك، فعطفت على أخواتها، بخلاف هذه الآية.

و قيل: نزلت في بديل بن ورقاء و بشر بن سفيان الخزاعيّين و غيرهما، فإنّهم قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، و لا تأكلون ما قتله اللّه؟ يعنون الميتة.

و قيل: معنى الآية: أنّه ليس لهم أن ينازعوك في شريعتهم، لأنّها قد نسخت شريعتك الشرائع المتقدّمة.

و فيها زيادة التثبيت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما يهيّج حميّته الدينيّة، و يلهب غضبه للّه و لدينه. و منه قوله تعالى: وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ ... وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (2). فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ « (3)». و هيهات هيهات أن ترتع همّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حول ذلك الحمى، و لكنّه وارد على إرادة التهييج.

وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى توحيده و عبادته إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ طريق سويّ إلى الحقّ.

وَ إِنْ جادَلُوكَ خاصموك في أمر الذبيحة و غيرها من أمور الدين على سبيل .

ص: 414


1- الحجّ: 34.
2- القصص: 87، .
3- القصص: 86 .

المراء و التعنّت، بعد ظهور الحقّ بالحجج البيّنة و الأدلّة الباهرة، فلا تجادلهم على هذا الوجه فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من المجادلة الباطلة و غيرها، فيجازيكم

عليها. و هو و عيد و إنذار لكن برفق و لين.

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يفصل بين المؤمنين منكم و الكافرين بالثواب و العقاب يَوْمَ الْقِيامَةِ كما فصّل في الدنيا بالحجج و الآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ من قليل و كثير، أي: كيف تخفى عليه أعمالهم، و قد علمت بالدليل الواضح أنّه سبحانه يعلم كلّ ما يحدث في السماء و الأرض، و لا يخفى عليه شي ء منهما؟! إِنَّ ذلِكَ ثبت فِي كِتابٍ هو اللوح، أي: كتبه فيه قبل حدوثه، فلا يهمنّك أمرهم مع علمنا به و حفظنا له.

إِنَّ ذلِكَ إنّ الإحاطة به و إثباته في اللوح، أو الحكم بينكم عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلّق بكلّ المعلومات على سواء.

[سورة الحج [22]: الآيات 71 الى 72]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [71] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [72]

ثمّ بيّن تقليد عبدة الأوثان بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ما لم يتمسّكوا في صحّة عبادته ببرهان سماويّ من جهة الوحي و السمع وَ ما

ص: 415

لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ و لا ألجأهم إلى عبادته علم ضروريّ، و لا حملهم عليها دليل عقلي وَ ما لِلظَّالِمِينَ و ما للذّين ارتكبوا مثل هذا الظلم مِنْ نَصِيرٍ ناصر ينصرهم و يصوّب مذهبهم، أو يدفع عنهم العذاب.

ثمّ أخبر عن شدّة عناد هؤلاء المقلّدين، فقال:

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على العقائد الأصوليّة الحقّة، و الأحكام الفرعيّة الإلهيّة تَعْرِفُ يا محمّد فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الفظيع من التهجّم و العبوس. أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام، لفرط نكيرهم و غيظهم، لأباطيل أخذوها تقليدا. و هذا منتهى الجهالة، و للإشعار بذلك وضع «الّذين كفروا» موضع الضمير.

يَكادُونَ يَسْطُونَ يثبون من شدّة الغيظ و فرط الحقد، و يبطشون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يقال: سطا عليه وسطا به، إذا تناوله بالبطش.

قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين و سطوتكم عليهم. أو ممّا أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم.

ثمّ فسّر ذلك بقوله: النَّارُ أي: هو النار. كأنّه جواب سائل قال: ما هو؟ فقيل:

النار، أي: هو النار. و يجوز أن يكون مبتدأ خبره وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ النار. و على الأوّل استئناف كلام.

[سورة الحج [22]: الآيات 73 الى 74]

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ [73] ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [74]

ص: 416

ثمّ بيّن عجز الأصنام، فقال خطابا لجميع المكلّفين: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ للأصنام و عبدتها، أي: بيّن لكم حال مستغربة أو قصّة رائعة، و لذلك سمّاها مثلا فَاسْتَمِعُوا لَهُ للمثل استماع تدبّر و تفكّر.

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام. و كانت ثلاثمائة و ستّين صنما حول الكعبة. و قرأ يعقوب و أبو عمرو و حفص و حمزة بالياء. و الرّاجع إلى الموصول محذوف.

لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً لا يقدرون على خلقه مع صغره، لأنّ

«لن» بما فيها من تأكيد النفي دالّة على أنّ خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم. كأنّه قال: محال أن يخلقوا الذباب. و هو من الذبّ، لأنّه يذبّ. و جمعه أذبّة و ذبّان.

وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ هذا بجوابه المقدّر في موضع الحال جي ء به للمبالغة، أي: لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟! هذا من أبلغ ما أنزله اللّه في تجهيل قريش و استركاك عقولهم، و الشهادة على أنّ الشيطان قد خزمهم (1) بخزائمه، حيث وصفوا بالإلهيّة- الّتي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلّها، و الإحاطة بالمعلومات عن آخرها- صورا و تماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقلّ ما خلقه اللّه عزّ و جلّ، و أذلّه و أصغره و أحقره، و لو اجتمعوا لذلك و تساندوا.

وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً أي: و أدلّ من ذلك على عجزهم و انتفاء قدرتهم، أنّ الذباب الّذي هو الخلق الأقلّ الأذلّ، لو اختطف منهم شيئا، فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لا يقدرون على استنقاذه و استخلاصه منه.

قيل: كانوا يطلونها بالزعفران و رؤوسها بالعسل و يغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيختلسه و يأكله.

ص: 417


1- يقال: خزم أنف فلان، أي: أذلّه و تسخّره. و الخزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير يشدّ فيها الزمام. و جمعها: خزائم.

ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ ضعف الذباب الّذي يطلب ما يسلب عن الصنم من العسل و الطيب، و ضعف الصنم الّذي يطلب الذباب منه السلب. أو ضعف الصنم أن يطلب الذباب ليستنقذ منه ما سلبه. و لو حقّقت وجدت الطالب أضعف بدرجات، لأنّ الذباب حيوان، و هو جماد، و هو غالب، و ذاك مغلوب.

و قيل: معناه: ضعف عابد الصنم الّذي يطلب إليه التقرّب، و معبوده الّذي هو المطلوب إليه.

ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عرفوه حقّ معرفته. أو ما عظّموه حقّ عظمته. أو ما وصفوه حقّ صفته، حيث أشركوا به، و سمّوا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة.

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ قادر على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ لا يغلبه شي ء.

و آلهتهم الّتي يعبدونها عاجزة عن أقلّها، مقهورة من أذلّها، فكيف يتّخذونها آلهة شبيهة به؟!

[سورة الحج [22]: الآيات 75 الى 76]

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [75] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [76]

و لمّا قرّر وحدانيّته في الألوهيّة، و نفى أن يشاركه غيره في صفاتها، بيّن أنّ له عبادا مصطفين للرسالة يتوسّل بإجابتهم، و الاقتداء بهم إلى عبادة اللّه سبحانه، تقريرا للنبوّة، و ردّا لإنكار هم أن يكون الرسول من البشر، و تزييفا لقولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (1). و الملائكة بنات اللّه تعالى، و نحو ذلك. فقال:

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسّطون بينه و بين الأنبياء بالوحي وَ مِنَ النَّاسِ يعني: الأنبياء، يدعون سائرهم إلى الحقّ، و يبلّغون إليهم ما نزل عليهم إِنَّ اللَّهَ

ص: 418


1- الزمر: 3.

سَمِيعٌ بَصِيرٌ مدرك للأشياء كلّها من المسموعات و المبصرات.

ثمّ ذكر اللّه سبحانه أنّه عالم بأحوال المكلّفين من مضى منهم و من غبر، فقال:

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ عالم بواقعها و مترقّبها، لا يخفى عليه خافية وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلّها، لأنّه مالكها بالذات، لا يسال عمّا يفعل من الاصطفاء و غيره، و هم يسألون. فليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه و تدابيره، و

اختيار رسله.

[سورة الحج [22]: الآيات 77 الى 78]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [77] وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ [78]

و بعد إبطال الشرك و إثبات التوحيد بالأدلّة الواضحة و الحجج الباهرة، دعا المؤمنين أوّلا إلى الصلاة الّتي هي أجلّ الطاعات و أفضلها، ثمّ بغيرها من العبادات، كالصوم و الحجّ و الزكاة، ثمّ عمّ بالحثّ على سائر الخيرات، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا في صلاتكم. أمرهم بهما لأنّهم ما كانوا يفعلونهما أوّل الإسلام. و عبّر عن الصلاة بهما لأنّهما أعظم أركانها. قيل: المراد: اخضعوا للّه و خرّوا له سجّدا.

ص: 419

وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر ما تعبّدكم به وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و تحرّوا ما هو خير و أصلح فيما تأتون و تذرون، كنوافل الطاعات، و صلة الأرحام، و مكارم الأخلاق، و إغاثة الملهوف، و إعانة الضعيف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: افعلوا هذه كلّها و أنتم راجون الفلاح، غير متيقّنين له، واثقين على. أعمالكم.

و السجدة في موضعين من هذه السورة مندوبة بإجماع الإماميّة، أحدهما: في هذه الآية. و الآخر: في قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ (1) الآية.

و أمّا ما روي عن عقبة بن عامر قال: «قلت: يا رسول اللّه في سورة الحجّ سجدتان؟ قال: نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما».

و في رواية اخرى: «فضّلت سورة الحجّ بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأها».

فمحمول على تأكّد الاستحباب. و عند الشافعي أيضا مندوبة بالرواية.

و أبو حنيفة و أصحابه لا يرون فيها إلّا سجدة واحدة، لأنّهم يقولون: قرن السجود هاهنا بالركوع، فدلّ ذلك على أنّها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة. و الحقّ الأوّل، لإجماع الطائفة الحقّة.

وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ و من أجله أعداء دينه الظاهرة، كأهل الكفر و الزيغ، و الباطنة كالهوى و النفس. و عنه أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع من غزوة تبوك فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

حَقَّ جِهادِهِ أي: جاهدوا جهادا في اللّه حقّا خالصا لوجهه.

فعكس و أضيف الحقّ إلى الجهاد مبالغة، كما يقال: هو حقّ عالم و جدّ عالم، أي: عالم حقّا و جدّا. و أضيف الجهاد إلى الضمير، مع أنّ القياس أن يقال: حقّ الجهاد فيه، أو حقّ جهادكم فيه، كما قال: «وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ» لأنّ الجهاد كان مختصّا باللّه من حيث إنّه مفعول لوجه اللّه و من أجله. أو للاتّساع، فإنّه يجوز أن يتّسع في الظرف.

ص: 420


1- الحجّ: 18.

ثمّ نبّه على مقتضى الجهاد و الداعي إليه بقوله: هُوَ اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه و لنصرته وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي: ضيق بتكليف ما يشتدّ القيام به عليكم. و فيه إشارة إلى أنّ التكليف بالجهاد حيث شقّ عليهم لا مانع لهم عنه، و لا عذر لهم في تركه أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم».

و قيل: عدم الحرج بأن جعل اللّه تعالى لهم من كلّ ذنب مخرجا، بأن رخّص لهم عند الضرورات، كالتيمّم و القصر و أكل الميتة و غير ذلك، و فتح عليهم باب التوبة، و شرع لهم الكفّارات في حقوقه، و الأروش و الديات في حقوق العباد. و نحوه قوله تعالى:

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (1). و في الحديث: «إنّ أمّتي أمّة مرحومة».

و الحاصل: أنّ اللّه لم يضيّق عليكم أمر الدين، فلن يكلّفكم ما لا تطيقون، بل كلّف دون الوسع، فلا عذر لأحد منكم في ترك الاستعداد للآخرة.

و قوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ منصوب على المصدر بفعل مقدّر دلّ عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف، أي: وسّع دينكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم، ثمّ حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه. أو على الإغراء و الاختصاص، أي: أعني بالدين ملّة أبيكم، كقولك: الحمد للّه الحميد.

و إنّما جعله أباهم لأنّه أبو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو كالأب لأمّته، من حيث إنّه سبب لحياتهم الأبديّة، و وجودهم على الوجه المعتدّ به في الآخرة أو لأنّ أكثر العرب كانوا من ذرّيّة إسماعيل، و أكثر العجم من ولد إسحاق، فغلّبوا على غيرهم.

هُوَ أي: اللّه سبحانه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ من قبل القرآن في الكتب المتقدّمة وَ فِي هذا و في القرآن، أي: سمّاكم بهذا الاسم الأكرم في جميع كتبه المنزلة.

ص: 421


1- البقرة: 185.

أو الضمير لإبراهيم. و تسميتهم بمسلمين في القرآن و إن لم تكن منه، لكن كانت بسبب تسميته من قبل في قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ (1). و قيل: معناه: و في هذا بيان تسميته إيّاكم مسلمين.

لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلّق ب «سمّاكم» أي: سمّاكم المسلمين و فضّلكم ليكون رسولنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة شَهِيداً عَلَيْكُمْ بأنّه بلّغكم، و قبلتم تبليغه مسلمين منقادين له، فتقبل شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته. أو بطاعة من أطاع، و عصيان من عصى.

وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل إليهم. و مثله قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ (2).

و قيل: معناه: لتكونوا شهداء على الّذين بعدكم، بأن تبلّغوا إليهم ما بلّغه الرسول إليكم، إذ خصّكم بهذه الكرامة و الفضل و الشرف.

فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فتقرّبوا إلى اللّه بأنواع الطاعات البدنيّة و الماليّة، و تمسّكوا بدينه وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ وثقوا به في مجامع أموركم، و لا تطلبوا الإعانة و النصرة إلّا منه هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم و متولّي أموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ هو، إذ لا مثل له في الولاية و النصرة، بل لا مولى و لا نصير سواه في الحقيقة.

و قيل: فنعم المولى إذ لم يمنعكم الرزق حين عصيتموه، و نعم النصير إذ أعانكم لمّا أطعتموه.

ص: 422


1- البقرة: 128.
2- البقرة: 143.

[23] سورة المؤمنون

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و ثماني عشرة آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح و الريحان، و ما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة، ثمّ قرأ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» حتّى ختم العشر».

و روي: «أنّ أوّلها و آخرها من كنوز الجنّة، من عمل بثلاث آيات من أوّلها، و اتّعظ بأربع من آخرها، فقد نجا و أفلح».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة المؤمنين ختم اللّه له بالسعادة، إذا كان يدمن قراءتها في كلّ جمعة، و كان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين و المرسلين».

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [1] الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [2]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الحجّ بأمر المكلّفين بالعبادة و أفعال الخير على طريق

ص: 423

الإجمال، افتتح هذه السورة بتفصيل تلك الجملة و بيان تلك الأفعال، و لمّا كان المؤمنون متوقّعين من فضل اللّه، صدّر هذه السورة ببشارتهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «قد» تثبت المتوقّع، كما أنّ «لمّا» تنفيه، و تدلّ على ثباته إذا دخلت على الماضي، و لذلك تقّربه من الحال. و الفلاح الظفر بالمراد. و قيل: البقاء في الخير. و يقال: أفلح إذا دخل في الفلاح، كأبشر إذا دخل في البشارة. و المؤمن لغة: المصدّق. و شرعا: الّذي صدّق بوحدانيّته و برسله و بجميع ما جاؤا به.

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ خائفون من اللّه خاضعون، متذلّلون له، ملزمون أبصارهم مساجدهم.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي رافعا بصره إلى السماء، فلمّا نزلت رمى ببصره نحو مسجده. و أنّه رأى رجلا يبعث بلحيته في الصلاة، فقال: «لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت جوارحه».

و في هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون بالقلب و بالجوارح. أمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمّة لها و الإعراض عمّا سواها، فلا يكون فيه غير العبادة و المعبود. و أمّا الجوارح فهو أن يلتزم كلّ جارحة بما أمر به في الصلاة، و يستعمل الآداب، فيتوقّى من العبث بجسده و ثيابه، و الالتفات، و التمطّي، و التثاؤب، و التغميض، و الفرقعة، و التشبيك، و تقليب الحصى، و غير ذلك.

و نظر الحسن البصري إلى رجل يعبث بالحصى و هو يقول: اللّهمّ زوّجني من الحور العين. فقال: بئس الخاطب أنت! تخطب و أنت تعبث.

و أضيفت الصلاة إليهم لأنّهم المنتفعون بها فقط، و هي عدّتهم و ذخيرتهم، و أمّا المصلّى له فغنيّ متعال عن الحاجة إليها و الانتفاع بها.

و عن ابن عبّاس: الخاشع في الصلاة هو الّذي لا يعرف من على يمينه، و لا من على يساره.

ص: 424

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 3 الى 11]

وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [3] وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ [4] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [5] إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [6] فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ [7]

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ [8] وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ [9] أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ [10] الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [11]

و لمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل و الترك الشاقّين على الأنفس، اللّذين هما قاعدتا بناء التكليف، فقال: وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ عمّا لا يعنيهم من قول أو فعل، كالهزل و اللعب مُعْرِضُونَ لما بهم من الجدّ في الطاعات ما شغلهم عنه.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «هو أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه للّه». و في رواية أخرى: «أنّه الغناء و الملاهي».

و إيثاره على: الّذين لا يلهون، لأنّه أبلغ منه من وجوه، و هي: جعل الجملة اسميّة، و بناء الحكم على الضمير، و التعبير عنه بالاسم، و تقديم الصلة عليه، و إقامة الإعراض مقام الترك ليدلّ على بعدهم عنه رأسا، مباشرة و تسبّبا، و ميلا و حضورا، فإنّ الإعراض أبلغ من الترك لغة و عرفا.

و كذلك قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة، ليدلّ على أنّهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنيّة و الماليّة، و التجنّب

ص: 425

عن المحرّمات، و سائر ما توجب المروءة اجتنابه. و الزكاة اسم مشترك بين عين و معنى.

فالعين: القدر الّذي يخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير. و المعنى: فعل المزكّي الّذي هو التزكية، فإنّه هو الّذي أراده اللّه عزّ و جلّ، لأنّ الفاعل فاعل الحدث، لا المحلّ الّذي هو موقعه. أو المراد الأوّل على تقدير مضاف، أي: لأداء الزكاة فاعلون.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ لا يبذلونها إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ سريّاتهم. و «على» صلة ل «حافظون». من قولك: احفظ عليّ عنان فرسي. على تضمينه معنى النفي، كما ضمّن قولهم: نشدتك باللّه إلّا فعلت، معنى: ما طلبت منك إلّا فعلك.

أو حال، أي: إلّا والين على أزواجهم، أو قوّامين عليهنّ. من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها فخلّف عليها فلان. و منه قولهم: فلانة تحت فلان. و من ثمّ سمّيت المرأة فراشا. و المعنى: أنّهم لفروجهم حافظون في كافّة الأحوال، إلّا في حال التزوّج أو التسرّي.

أو تعلّق «على» بمحذوف يدلّ عليه «غير ملومين». كأنّه قيل: يلامون إلّا على أزواجهم، أي: يلامون على كلّ مباشر إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.

و إنّما قال: «ما» و هنّ من جنس العقلاء، إجراء للمماليك مجرى غير العقلاء، إذ الملك أصل شائع فيه. و إفراد ذلك بعد تعميم قوله: «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» لأنّ المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس و أعظمها خطرا.

فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ الضمير ل «حافظون».

أو لمن دلّ عليه الاستثناء، أي: فإن بذلوها لأزواجهم أو إمائهم، فإنّهم غير ملومين على ذلك.

و إنّما أطلق سبحانه إباحة وطء الأزواج و الإماء، و إن كانت لهنّ أحوال يحرم وطؤهنّ فيها، كحال الحيض و العدّة للجارية من زوج لها، و ما أشبه ذلك، لأنّ الغرض بالآية بيان جنس من يحلّ وطؤها، دون الأحوال الّتي لا يحلّ فيها الوطء.

ص: 426

فَمَنِ ابْتَغى طلب وَراءَ ذلِكَ الحدّ المستثنى مع فسحته و اتّساعه. و هو إباحة أربع من الحرائر، و من الإماء ما شاء. فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الكاملون في العدوان، المتناهون فيه.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ لما يؤتمنون عليه و ما يعاهدون، من جهة الحقّ، من العهود في أداء الطاعات و ترك المنكرات و المواثيق، أو الخلق، من الأمانات و عهودهم. و مثله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ (1). وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ (2). راعُونَ قائمون بحفظها و إصلاحها، كراعي الغنم و راعي الرعيّة.

و قرأ ابن كثير: لأمانتهم على الإفراد، لأمن الإلباس، أو لأنّها في الأصل مصدر.

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ يواظبون عليها، و يؤدّونها في أوقاتها.

و الإتيان بلفظ الفعل هاهنا لما في الصلاة من التجدّد و التكرّر، و لذلك جمعه غير حمزة و الكسائي. و ليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أوّلا، لأنّ الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها. و في تصدير الأوصاف و ختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها.

أُولئِكَ الجامعون لهذه الصفات هُمُ الْوارِثُونَ الأحقّاء بأن يسمّوا ورّاثا دون غيرهم.

ثمّ بيّن الوارثين بقوله: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ و في التبيين بعد الإجمال تفخيم لوراثتهم لا يخفى على المتأمّل. و هي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس لأجل أعمالهم، مبالغة فيه.

و قيل: إنّهم يرثون من الكفّار منازلهم فيها حيث فوّتوها على أنفسهم، لأنّه تعالى خلق لكلّ إنسان منزلا في الجنّة و منزلا في النار، لما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما منكم من أحد إلّا له منزلان: منزل في الجنّة، و منزل في النار، فإن مات و دخل النار ورث .

ص: 427


1- النساء: 58.
2- الأنفال: 27.

أهل الجنّة منزله».

و قال الجبائي: معنى الوراثة هاهنا أنّ الجنّة و نعيمها يؤول إليهم من غير اكتساب، كما يؤول المال إلى الوارث من غير اكتساب. و الفردوس: هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمار.

هُمْ فِيها في الفردوس خالِدُونَ أنّث الضمير لأنّه اسم للجنّة، أو لطبقتها العليا.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه عزّ و جلّ بنى جنّة الفردوس لبنة من ذهب و لبنة من فضّة، و جعل خلالها المسك الأذفر» (1).

و في رواية: «و لبنة من مسك مذرّى (2)، و غرس فيها من جيّد الفاكهة».

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 12 الى 16]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [12] ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [13] ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [14] ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ [15] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ [16]

ثمّ استدلّ على قدرته على إعادة الإيجاد بقدرته على الإبداء، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ أي: من خلاصة، لأنّها سلّت من بين الكدر. و الفعالة بناء

ص: 428


1- أي: الشديد الرائحة.
2- أي: مفرّق، من: ذرّت الريح التراب: فرّقته.

لقلّة، كالقلامة و القمامة. مِنْ طِينٍ متعلّق بمحذوف، لأنّه صفة ل «سلالة». أو «من» بيانيّة. أو بمعنى سلالة، لأنّها في معنى: مسلولة، فتكون «من» ابتدائيّة كالأولى.

و المراد بالإنسان آدم عليه السّلام، خلق من صفوة سلّت من الطين. أو الجنس، فإنّهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار. قيل: المراد بالطين آدم، لأنّه خلق منه، و السلالة: نطفته.

ثُمَّ جَعَلْناهُ أي: جعلنا نسله، فحذف المضاف نُطْفَةً بأن خلقناه منها.

يعني: خلقنا جوهر الإنسان أوّلا طينا، ثمّ جعلنا جوهره بعد ذلك نطفة، أو ثمّ جعلنا السلالة نطفة. و تذكير الضمير على تأويل الجوهر، أو المسلول، أو الماء. فِي قَرارٍ مَكِينٍ مستقرّ حصين. يعني: الرحم. و صفت بالمكانة الّتي هي صفة المستقرّ فيها مبالغة، مثل: طريق سائر، و نهر جار، و ميزاب سائل.

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فصيّرناها قطعة لحم فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً بأن صلّبناها فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أي: فأنبتنا اللحم عليها كاللباس ممّا بقي من المضغة، أو ممّا أنبتنا عليها ممّا يصل إليها من المائيّة. و اختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات. و جمع العظام لاختلافها في الهيئة و الصلابة. و قرأ ابن عامر و أبو بكر على التوحيد فيهما، اكتفاء باسم الجنس عن الجمع.

ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ خلقا مباينا للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها، حيث نفخنا فيه الروح، و جعلناه حيوانا ناطقا سميعا بصيرا، بعد أن كان جمادا أبكم أصمّ أكمه.

و المراد مجموع صورة البدن و الرّوح و القوى، و سائر ما أودع فيه من عجائب فطرة و غرائب حكمة، لا تدرك بوصف الواصف، و لا تبلغ بشرح الشارح. و إيراد «ثمّ» لما بين الخلقين من التفاوت.

فَتَبارَكَ اللَّهُ فتعالى شأنه في قدرته و حكمته، و دام خيره أَحْسَنُ الْخالِقِينَ

ص: 429

المقدّرين تقديرا. فحذف المميّز لدلالة «الخالقين» عليه.

روي: أنّ عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اكتب هكذا نزلت».

و على رواية اخرى: فلمّا بلغ إلى قوله: «خلقا آخر» خطر بباله: فتبارك اللّه أحسن الخالقين، فلمّا أملاها رسول اللّه كذلك قال عبد اللّه: إن كان محمّد نبيّا يوحى إليه فأنا نبيّ يوحى إليّ. فلحق بمكّة كافرا، ثمّ أسلم يوم الفتح.

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ بعد ما ذكرنا من تمام الخلق لَمَيِّتُونَ لصائرون إلى الموت لا محالة، و لذلك ذكر النعت الّذي للثبوت دون اسم الفاعل.

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ للمحاسبة و المجازاة. أخبر سبحانه بذلك أنّ هذه البنية العجيبة، المبنيّة على أحسن إتقان و إحكام، تنقض بالموت لغرض صحيح، و هو البعث و الإعادة. و ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة الّتي هي حياة القبر، فإنّ إثبات البعث يوم القيامة لا يدلّ على نفي ما عداه، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك و طويت ذكر ثلثه، لم يكن دليلا على أنّ الثلث ليس عندك. و أيضا الغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء و الإماتة و الإعادة، و المطويّ ذكرها من جنس الإعادة.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 17 الى 22]

وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [17] وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [18] فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ [19] وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ [20] وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي

ص: 430

بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ [21]

وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [22]

ثمّ ذكر قدرته على وجوه أخر ليستدلّ بها على قدرته على البعث، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي: سبع سماوات، لأنّها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل بالنعل، و كلّ ما فوقه مثله فهو طريقة. أو لأنّها طرق الملائكة و متقلّباتهم، أو طرق الكواكب في السماوات و مسايرها.

وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ عن ذلك المخلوق الّذي هو السماوات غافِلِينَ مهملين أمرها، بل نحفظها عن الزوال و الاختلال بقدرتنا، حتّى تبلغ منتهى ما قدّر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة و تعلّقت به المشيئة. أو ما كنّا عن خلق الناس و سائر المخلوقات غافلين، و إنّما خلقنا السماوات السّبع فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق و البركات منها، و ينفعهم بأنواع منافعها.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ بتقدير يصلون إلى المنفعة العظيمة، و يسلمون معه من المضرّة. أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم و مصالحهم. فَأَسْكَنَّاهُ فجعلناه ثابتا مستقرّا فِي الْأَرْضِ بأن جعلنا له الأرض مسكنا جمعناه فيه لينتفع به. يريد ما يبقى من المستنقعات و الآبار و الدّحلان (1)، فإنّ اللّه أقرّ الماء فيها لينتفع الناس بها في الصيف عند انقطاع المطر.

و روى مقاتل عن عكرمة، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ اللّه تعالى أنزل من الجنّة خمسة أنهار: سيحون و هو نهر الهند، و جيحون و هو نهر بلخ، و دجلة.

ص: 431


1- الدّحلان جمع الدّحل، و هو النقب الضيّق الأعلى و الواسع الأسفل، أو البئر الواسعة الجوانب الضيّقة الرأس.

و الفرات و هما نهرا العراق، و النيل و هو نهر مصر. أنزلها اللّه من عين واحدة، و أجراها في الأرض، و جعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم، فذلك قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ

وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ على إزالته بالإفساد، أو التصعيد، أو التعميق، بحيث يتعذّر استنباطه لَقادِرُونَ كما كنّا قادرين على إنزاله. و في تنكير الذهاب إيماء إلى كثرة طرق الذهاب، و كمال اقتدار مذهبه، و مبالغة في الإيعاد به. و لذلك جعل أبلغ من قوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (1). فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء، و يقيّدوها بالشكر الدائم، و يخافوا نفارها إذا لم تشكر.

و في الحديث: «النعم و حشيّة فقيّدوها بالشكر».

و قال بعض العلماء: الشكر للنعمة الحاضرة قيد، و للمترقّبة صيد، فإذا شكرت قرّت، و إذا لم تشكر فرّت.

فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ بالماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها في الجنّات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكّهون بها وَ مِنْها و من الجنّات ثمارها و زروعها تَأْكُلُونَ تغذّيا. أو ترتزقون و تحصّلون معايشكم. من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، و من ضيعة يغتلّها، و من تجارة يتربّح بها. يعنون: أنّها طعمته و جهته الّتي منها يحصّل رزقه.

كأنّه قال: و هذه الجنّات وجوه أرزاقكم و معايشكم، منها ترتزقون و تتعيّشون.

و يجوز أن يكون الضميران للنخيل و الأعناب، أي: لكم في ثمراتها. فوصفهما بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: فاكهة يتفكّه بها، و طعام يؤكل رطبا و يابسا، و عنبا و تمرا و زبيبا.

وَ شَجَرَةً عطف على «جنّات». و هي الزيتون. تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ جبل موسى بين مصر و أيلة. و قيل: بفلسطين. و قد يقال له: طور سينين.

و لا يخلو إمّا أن يكون الطور اسم الجبل، و سيناء اسم بقعة، فأضيف إليها. و إمّا أن

ص: 432


1- الملك: 30.

يكون المركّب منهما علما له، كامرئ القيس و بعلبك.

و منع صرفه للتعريف و العجمة، أو التأنيث على تأويل البقعة، لا للألف، لأنّه فيعال كد يماس، من السناء بالمدّ و هو الرفعة، أو بالقصر و هو النور، أو ملحق بفعلال- كعلباء- من السين، و لا يجي ء فعلاء بألف التأنيث. بخلاف «سيناء» على قراءة الكوفيّين و الشامي و يعقوب، فإنّه فيعال ككيسان، أو فعلاء كصحراء، لا فعلال، إذ ليس في كلامهم.

و تخصيص هذه الأنواع الثلاثة لأنّها أكرم الشجر و أفضلها، و أجمعها للمنافع.

تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي: تنبت ملتبسة بالدهن و مستصحبة له. و يجوز أن يكون الباء صلة معدّية ل «تنبت»، كما في قولك: ذهبت بزيد.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب في رواية: تنبت. و هو إمّا من: أنبت بمعنى:

نبت، كقول زهير:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتّى إذا أنبت البقل أي: نبت. أو تنبت زيتونها ملتبسا بالدهن.

وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، جار على إعرابه، و عطف أحد و صفي الشي ء على الآخر، أي: تنبت بالشي ء الجامع بين كونه دهنا يدهن به و يسرج منه، و كونه إداما يصبغ فيه الخبز، أي: يغمس فيه للائتدام. قيل: هي أوّل شجرة تنبت بعد الطوفان، و وصفها اللّه عزّ و جلّ بالبركة في قوله: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ (1). و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «الزيت شجرة مباركة، فأتدموا به و ادّهنوا».

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً تعتبرون بحالها، و تستدلّون بها على كمال قدرته نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها من الألبان أو من العلف، فإنّ اللبن يتكوّن منه. ف «من»

ص: 433


1- النور: 35.

للتبعيض أو للابتداء. و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب: نسقيكم بفتح النون. و من قرأ بضمّ النون أراد: إنّا جعلنا ما في ضروعها من اللبن سقيا لكم. و من فتح النون جعل ذلك مختصّا بالسقاة. وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ فتنتفعون بأعيانها من اللحوم و الشحوم.

وَ عَلَيْها و على الأنعام، فإنّ منها ما يحمل عليه كالإبل و البقر. و قيل: المراد الإبل، لأنّها هي المحمول عليها عندهم، أو للمناسبة للفلك، كأنّها سفائن البرّ. وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ في البرّ و البحر. و على الوجه الأخير فالضمير في «عليها» كالضمير في وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ (1).

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 23 الى 30]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ [23] فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [24] إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [25] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [26] فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ

ص: 434


1- البقرة: 228.

مُغْرَقُونَ [27]

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [28] وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [29] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [30]

و لمّا عدّد النعم المذكورة على الكفّار، خوّفهم على كفرانها، بذكر قوم نوح و غيرهم من أمم الأنبياء، و ما حاق بهم من زوال النعم بسبب كفرانها، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الّذي هو ربّكم و خالقكم و رازقكم، و شكر نعمته الّتي لا تحصونها واجب عليكم ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استئناف يجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة أَ فَلا تَتَّقُونَ أ فلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه، فيهلككم و يعذّبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره، و كفرانكم نعمه الّتي لا تحصوها؟

فَقالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لعوامهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: يطلب الفضل عليكم و يسودكم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يرسل رسولا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً رسلا و لم يرسل بشرا آدميّا ما سَمِعْنا بِهذا إشارة إلى نوح عليه السّلام، أو إلى ما كلّمهم به من الحثّ على عبادة اللّه وحده، أي: ما سمعنا بأنّه نبيّ، أو بالّذي يدعونا إليه من عبادة اللّه و نفي إله غيره فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ و ذلك إمّا لفرط عنادهم، أو لأنّهم كانوا في فترة متطاولة.

و ما أعجب شأنهم! إنّهم لم يرضوا للنبوّة ببشر و قد رضوا به للإلهيّة، بل بأدون من البشر، و هو الجمادات، لانهماكهم في الغيّ، و تشمّرهم أن يدفعوا الحقّ بما أمكنهم. ألا تراهم كيف جنّنوه و قد علموا أنّه أرجح الناس عقلا و أوزنهم قولا! فقالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي: به جنون، أو به جنّ يخبّلونه، و لأجله يقول: إنّي رسول اللّه فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروا و اصبروا عليه حَتَّى حِينٍ حتّى يتجلّى أمره بأن يفيق من

ص: 435

جنونه، و إلّا اقتلوه أو انتظروا موته فتستريحوا منه.

قالَ بعد ما يئس من إيمانهم رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إيّاي، أو انصرني بدل ما كذّبوني، كما يقال: هذا بذاك، أي: بدل ذاك و مكانه. و المعنى:

أبدلني من غمّ تكذيبهم بي سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، و هو ما كذّبوه فيه حين قال لهم: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (1).

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا بمرأى منّا و بحفظنا تحفظ. و ذكر الجمع للمبالغة في الحفظ، كأنّ معه من اللّه حفّاظا يكلؤونه بعيونهم، لئلّا يتعرّض له، و لا يفسد عليه مفسد عمله، أو لا تخطئ فيه. و منه قولهم: عليه من اللّه عين كالئة. وَ وَحْيِنا و أمرنا و تعليمنا كيف تصنع. روي أنّه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ (2) الطائر، فصنعها كما أمر.

فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب، أو بنزول العذاب وَ فارَ التَّنُّورُ أصله: و نوّر، قلبت الواو تاء، كما في تراث و تولج (3) و تيقور و تخمة و تكلة فَاسْلُكْ فِيها فأدخل فيها. يقال: سلك فيه و سلك غيره. و منه قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (4). مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ من كلّ أمّتي زوجين. و هما: أمّة الذكر و أمّة الأنثى، كالجمال و النوق، و الحصن و الرّماك (5). اثْنَيْنِ واحدين مزدوجين، كالجمل و الناقة، و الحصان و الرمكة. و قرأ حفص: من كلّ بالتنوين، أي: من كلّ نوع زوجين، و «اثنين» تأكيد

ص: 436


1- الشعراء: 135.
2- الجؤجؤ من الطائر و السفينة: الصدر.
3- التولج: كناس الوحش أي: بيته. و أصله: الوولج. و التيقور: الوقار. و أصله و يقور، قلبت الواو ياء. و التخمة: الداء يصيب الإنسان من الطعام الوخيم. و أصلها: الوخمة. و التكلة: العاجز الذي يكل أمره إلى غيره و يتّكل عليه.
4- المدّثّر: 42.
5- الرماك جمع الرمكة، و هي الفرس تتّخذ للنسل.

و زيادة بيان. و روي أنّه لم يحمل إلّا ما يلد و يبيض. وَ أَهْلَكَ و أهل بيتك، أو من آمن معك.

و قيل: إنّه قيل لنوح: إذا فار الماء من التنّور اركب أنت و من معك، فلمّا نبع الماء منه أخبرته امرأته، فركب هو و من معه.

و عن الشعبي: محلّ التنّور في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ممّا يلي باب كندة، و كان نوح عليه السّلام عمل السفينة وسط المسجد. و قيل: عين وردة بالشام. و قيل: بالهند. و عن ابن عبّاس: التنّور وجه الأرض. و عن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أي: أعلاه. و عن عليّ عليه السّلام: فار التنّور: طلع الفجر.

و قيل: معناه: أن فوران التنّور كان عند تنوير الفجر.

و القول الأوّل أشهر.

إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي: القول من اللّه بإهلاكه لكفره. و إنّما جي ء ب «على» لأنّ السابق ضارّ، كما جي ء باللام حيث كان نافعا، كما في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى (1) وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (2).

وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بالدعاء لهم بالإنجاء إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة، لظلمهم بالإشراك، و من هذا شأنه لا يشفع له و لا يشفع فيه. و لهذا أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بعد النهي عن الدعاء لهم بالإنجاء، فقال: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ كقوله: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (3).

ثمّ أمره أن يدعوه بدعاء هو أهمّ و أنفع له، فقال: وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في السفينة، أو في الأرض عند خروجه منها مُنْزَلًا مُبارَكاً إنزالا مباركا، أو موضع إنزال يبارك له

ص: 437


1- الأنبياء: 101.
2- الصافّات: 171.
3- الأنعام: 45.

فيه، و يعطيه فيه مزيد الخير في الدارين. و قرأ عاصم برواية أبي بكر: منزلا بفتح الميم و كسر الزاي، بمعنى: نزولا مباركا، أو موضع نزول. وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ثناء مطابق لدعائه. أمره بأن يشفع الدعاء بالثناء عليه مبالغة فيه، و توسّلا به إلى الإجابة.

و إنّما آثر «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ» لأنّه في معنى: فإذا استويتم، لأنّه نبيّهم و إمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة و إظهار كبرياء الربوبيّة، و أنّ رتبة تلك المخاطبة لا يترقّى إليها إلّا ملك أو نبيّ.

روي عن الحسن: كان في السفينة سبعة أنفس من المؤمنين و نوح ثامنهم. و قيل:

ثمانون.

إِنَّ فِي ذلِكَ في ما فعل بنوح و قومه لَآياتٍ يستدلّ بها و يعتبر أولوا الاستبصار و الاعتبار وَ إِنْ و إن الشأن و القصّة كُنَّا لَمُبْتَلِينَ لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم و عقاب شديد، أو مختبرين عبادنا بهذه الآيات لننظر من يعتبر و يذّكّر، كقوله تعالى: وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (1). و «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 31 الى 41]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [31] فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ [32] وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما

هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [33] وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [34] أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً

ص: 438


1- القمر: 15.

أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [35]

هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ [36] إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [37] إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [38] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [39] قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [40]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [41]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ هم عاد قوم هود، لأنّ صالحا مبعوث بعد نوح. و قيل: ثمود، لأنّهم أهلكوا بالصيحة.

فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود أو صالح. و إنّما جعل القرن و إلزامه موضع الإرسال، و حقّه أن يعدّى ب «إلى» كأخواته الّتي هي: وجّه و أنفذ و بعث، ليدلّ على أنّه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، و إنّما أوحي إليه و هو بين أظهرهم. و مثل ذلك قوله:

وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (1). أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ «أن» مفسّرة ل «أرسلنا» أي: قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا اللّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه.

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ذكر الواو هنا، و الفاء في قوم نوح (2)، لأنّ كلامهم لم يتّصل بكلام الرسول، بخلاف قول قوم نوح، و ما صدر في مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف و سورة هود بغير واو، حيث قال: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 439


1- الفرقان: 51.
2- المؤمنون: 24.

مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ (1) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ (2)، و ها هنا مع الواو، لأنّ الّذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال قومه؟ فقيل له: قالوا: كيت و كيت، و الّذي مع الواو فهو عطف لما قالوه على ما قاله. و معناه: أنّه اجتمع في الحصول هذا الحقّ و هذا الباطل، و شتّان ما بينهما.

وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بلقاء ما فيها من الثواب و العقاب، أو بمعادهم إلى الحياة الثابتة بالبعث وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و نعّمناهم بضروب الملاذّ، من كثرة الأموال النفيسة و الأولاد الرشيدة ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفة و الحالة. ثمّ بيّنوا المثليّة بقولهم: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ فليس هو أولى بالرسالة منّا. و العائد إليه محذوف، أي: من الّذي تشربونه، أو تشربون منه.

و هذا الكلام منهم لإنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر. و لتقريرهم أنّه لا بدّ أن يكون من المماثلة قالوا تأكيدا لإنكارهم: وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم به إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ حيث أذللتم أنفسكم و غبنتم في آرائكم. و «إذا» جزاء للشرط، و جواب للّذين قاولوهم من قومه.

ثمّ أنكروا ما قال لهم من وقوع البعث، فقالوا: أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً مجرّدة عن اللحوم و الأعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من القبور، أو من العدم تارة اخرى إلى الوجود. و «أنّكم» تكرير للأوّل للتأكيد، لمّا طال الفصل بينه و بين خبره. أو «أنّكم مخرجون» مبتدأ، و خبره الظرف المقدّم.

هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم فعل بمعنى: بعد. و تكريره للتأكيد. و من حقّه أن يرتفع اسم بعده ليكون فاعلا له، كما ارتفع في قوله (3): فهيهات هيهات العقيق و أهله. و لا يجوز

ص: 440


1- الأعراف: 66.
2- هود: 53.
3- لجرير. و عجزه: و هيهات خلّ بالعقيق نواصله

أن يكون قوله: لِما تُوعَدُونَ فاعله، لمكان اللام. ففاعله مقدّر، تقديره: بعد جدّا الإخراج من الأجداث. أو «ما توعدون»، و الجارّ و المجرور لبيان المستبعد.

إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هذا الضمير لا يعلم ما يعنى به إلّا بما يتلوه من بيانه. و أصله: إن الحياة إلّا حياتنا الدنيا. فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها، حذرا عن التكرّر، و إشعارا بأن تعيّنها مغن عن التصريح بها. و منه: هي النفس ما حمّلتها تتحمّل. فمعناه: لا حياة إلّا هذه الحياة الدنيا. لأنّ «إن» نافية دخلت على «هي» الّتي في معنى الحياة الدالّة على الجنس، فكانت مثل «لا» الّتي تنفي ما بعدها نفي الجنس.

نَمُوتُ وَ نَحْيا يموت بعضنا و يولد بعض، ينقرض قرن و يأتي قرن آخر، و هكذا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت.

ثمّ قالوا عنادا: إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدّعيه من إرساله له، و فيما يعدنا من البعث وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين فيما يقول.

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عليهم، و انتقم لي منهم بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إيّاي.

قالَ عَمَّا قَلِيلٍ أي: عن زمان قليل. ف «قليل» صفة لزمان، كقديم و حديث في قولك: ما رأيته قديما و لا حديثا، و عن قريب. و «ما» زائدة لتوكيد قلّة المدّة. و يجوز أن تكون نكرة موصوفة. لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ على التكذيب.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ صيحة جبرئيل، صاح عليهم صيحة هائلة تصدّعت منها قلوبهم فماتوا بِالْحَقِ بالوجه الثابت الواجب الّذي لا دافع له، لأنّهم قد استوجبوا الهلاك. أو بالعدل من اللّه، كقولك:

فلان يقضي بالحقّ، إذا كان عادلا في قضاياه. أو بالوعد الصدق. فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً هلكى. شبّههم في دمارهم بالغثاء، و هو حميل السيل ممّا بلي و اسودّ من الأوراق و العيدان، كقولهم: سال به الوادي لمن هلك.

ص: 441

فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يحتمل الإخبار و الدعاء. و «بعدا» مصدر: بعد إذا هلك. يقال: بعد بعدا و بعدا، نحو: رشد رشدا و رشدا. و هو من المصادر الّتي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها. و اللام لبيان من دعي عليه بالبعد، نحو: هَيْتَ لَكَ (1).

و «لما توعدون». و وضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 42 الى 44]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ [42] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ [43] ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [44]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد قوم هود، أو صالح قُرُوناً آخَرِينَ يعني: قوم صالح على الأوّل، و لوط و شعيب و غيرهم. و عن ابن عبّاس: بني إسرائيل.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها الوقت الّذي حدّ لهلاكها. و «من» مزيدة للاستغراق، وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ الأجل.

ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا متواترين واحدا بعد واحد. من الوتر، و هو الفرد.

و التاء بدل من الواو، كتولج و تيقور (2). و الألف للتأنيث، على وزن فعلى، لأنّ الرسل جماعة. و قرأ أبو عمرو بالتنوين، على أنّه مصدر بمعنى المتواترة، وقع حالا.

كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ إضافة الرسول مع الإرسال إلى المرسل، و مع المجي ء إلى المرسل إليهم، لأنّ الإرسال الّذي هو مبدأ الأمر منه و المجي ء الّذي هو منتهاه إليهم.

ص: 442


1- يوسف: 23.
2- انظر الهامش [3] في ص: 436

فَأَتْبَعْنا الأمم و القرون بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي: لم نبق منهم إلّا أحاديث يسمر بها و يتعجّب منها. و هو اسم جمع للحديث.

و منه أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو جمع أحدوثة، و هي ما يتحدّث به تلهّيا و تعجّبا، مثل الألعوبة و الأعجوبة و الأضحوكة. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ مرّ آنفا.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 45 الى 49]

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ [45] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ [46] فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [47] فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [48] وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [49]

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا بالآيات التسع وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة ملزمة للخصم. و يجوز أن يراد به العصا. و إفرادها لأنّها أوّل المعجزات و أمّها، حيث تعلّقت بها معجزات شتّى، كانقلابها حيّة، و تلقّفها ما أفكته السحرة، و انفلاق البحر، و انفجار العيون من الحجر بضربهما بها، و حراستها، و مصيرها شمعة، و شجرة خضراء مثمرة، و رشاء و دلوا. و جعلت كأنّها ليست من جنس آيات أخر، لما استبدّت به من مزيّة الفضل، فلذلك عطفت عليها، كقوله تعالى: وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ (1).

و يجوز أن يراد به المعجزات، و بالآيات الحجج. و أن يراد بهما المعجزات، فإنّها آيات النبوّة، و حجّة بيّنة على ما يدّعيه موسى.

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ خصّ الملأ- و هم الأشراف- بالذكر، لأنّ الآخرون كانوا

ص: 443


1- البقرة: 97.

أتباعا لهم فَاسْتَكْبَرُوا تجبّروا و تعظّموا عن الإيمان و المتابعة وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ متكبّرين، كقوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ (1). أو متطاولين على الناس، قاهرين بالبغي و الظلم.

فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ثنّى البشر، لأنّه يطلق للواحد، كقوله: بَشَراً سَوِيًّا (2)، كما يطلق للجمع، كقوله: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً « (3)». و لم يثنّ المثل، لأنّه في حكم المصدر. و كذا يوصف به الجمع، و المذكّر، و المؤنّث. و منه قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ (4). وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ (5). و يقال أيضا: هما مثلاه، و هم أمثاله. و منه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ (6).

و اعلم أنّ هذه القصص- كما ترى- تشهد بأنّ قصارى شبه المنكرين للنبوّة قياس حال الأنبياء على أحوالهم، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة. و فساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمّل، فإنّ النفوس البشريّة و إن تشاركت في أصل القوى و الإدراك، لكنّها متباينة الأقدام جدّا فيهما قوّة و ضعفا، فكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا ينفعهم التفكّر في تحصيل شي ء، ترى في طرف الكمال أغنياء عن التعلّم و التفكّر في أكثر الأشياء و أغلب الأحوال، فيدركون ما لا يدرك غيرهم، و يعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم.

وَ قَوْمُهُما يعني: بني إسرائيل لَنا عابِدُونَ خادمون منقادون متذلّلون، على وجه كأنّهم يعبدوننا. أو لأنّ فرعون كان يدّعي الألوهيّة، فادّعى للناس عبادتهم إيّاه، و أنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.

ص: 444


1- القصص: 4.
2- مريم: 17 .
3- مريم: 26.
4- النساء: 140.
5- الطلاق: 12.
6- الأعراف: 194.

فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في بحر قلزم.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ لعلّ بني إسرائيل يَهْتَدُونَ إلى المعارف الإلهيّة، و الأحكام الشرعيّة، و المواعظ السنيّة، و الحكم الزاجرة. و لا يجوز عود الضمير إلى فرعون و قومه، لأنّ التوراة نزلت بعد إغراقهم، كما قال اللّه تعالى:

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى (1).

[سورة المؤمنون [23]: آية 50]

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ [50]

و لمّا كان موسى صاحب شريعة مستمرّة إلى زمن عيسى، و شريعة عيسى ناسخة لشريعته، قال بعد قصّة موسى: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً على كمال قدرتنا، بولادتها إيّاه من غير مسيس. فالآية أمر واحد مضاف إليهما، لأنّ عيسى خلق من غير ذكر، و مريم من غير فحل. أو جعلنا ابن مريم آية، بأن تكلّم في المهد، و ظهرت منه معجزات أخر، و أمّه آية اخرى، بأن ولدت من غير مسيس، فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها.

وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ أرض مرتفعة. و عن كعب: أنّها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. و هي أرض بيت المقدس، أو دمشق، أو رملة فلسطين. و عن أبي هريرة: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين، فإنّها الربوة الّتي ذكرها اللّه عزّ و جلّ. و قيل: مصر، فإنّ قراها على الربى. و قيل: حيرة الكوفة و سوادها. و قرأ ابن عامر و عاصم بفتح الراء.

و هما لغتان.

ذاتِ قَرارٍ مستقرّ من الأرض، منبسطة مستوية. و عن قتادة: ذات ثمار و زروع و ماء. يعني: أنّه لأجل الثمار يستقرّ فيها ساكنوها. وَ مَعِينٍ و ماء ظاهر جار

ص: 445


1- القصص: 43.

على وجه الأرض. فعيل من: معن الماء إذا جرى. و أصله: الإبعاد في الشي ء. أو من الماعون، و هو المنفعة، لأنّه نفّاع. أو مفعول من: عانه إذا أدركه بعينه، لأنّه لظهوره مدرك بالعيون. وصف ماءها بذلك، لأنّه الجامع لأسباب التنزّه و طيب المكان.

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «القرار مسجد الكوفة، و المعين الفرات».

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 51 الى 54]

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [51] وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [52] فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [53] فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [54]

و لمّا أخبر سبحانه عن إيتائه الكتاب للاهتداء، ثمّ عمّا أولاه من سابغ النعماء، خاطب الرسل بعد ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ خصّ الرسل بهذا النداء، مع أنّ غيرهم أيضا مأمورون بهذا الأمر، لأنّ أممهم أتباع لهم، و مقتفون بهم في الأعمال، فيدخلون تحت هذا النداء. و لم يخاطبوا بذلك دفعة، لأنّهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على معنى أنّ كلّا منهم خوطب به في زمانه، و ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له جميع الرسل و وصّوا به، حقيق أن يؤخذ به و يعمل عليه.

و فيه دلالة على أنّ إباحة الطيّبات للأنبياء شرع قديم، و احتجاج على الرهبانيّة في رفض الطيّبات. و في اتّصال هذا الكلام بقصّة عيسى تنبيه على أنّ تهيئة أسباب التنعّم لم تكن خاصّة له. و قيل: النداء لعيسى، و لفظ الجمع للتعظيم.

و عن الحسن و مجاهد و قتادة و الكلبي: أنّه سبحانه أراد بهذا النداء من الطيّبات محمّدا صلّى اللّه عليه و آله سلم، على مذهب العرب في مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع.

ص: 446

و الطيّبات ما يستطاب و يستلذّ به من المآكل و الفواكه. و يشهد له مجيئه عقيب قوله: «وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ».

و قيل: طيّبات الرزق: حلال، و صاف، و قوام. فالحلال: ما لا يعصى اللّه فيه.

و الصافي: ما لا ينسى اللّه فيه. و القوام ما يمسك النفس و يحفظ العقل.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا، فإنّه أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ .

و عن الحسن: أما و اللّه ما عنى به أصفركم و لا أحمركم، و لا حلوكم و لا حامضكم، و لكنّه قال: انتهوا إلى الحلال من الأكل.

وَ اعْمَلُوا صالِحاً فإنّه المقصود منكم. و النافع عند ربّكم إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فأجازيكم عليه. هذا هو السبب الداعي إلى إصلاح العمل، فإنّ العاقل إذا عمل لمن يعلم عمله، و يجازيه على حسب ما عمل، فقد أصلح العمل.

وَ إِنَّ هذِهِ أي: و لأنّ هذه. و المعلّل به «فاتّقون». أو و اعلموا أنّ هذه. و قيل: إنّه معطوف على «ما تعملون». و قرأ ابن عامر بالتخفيف. و الكوفيّون بالكسر على الاستئناف. أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ملّتكم ملّة واحدة، أي: متّحدة في العقائد و اصول الشرائع. و مثل ذلك قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ (1)، أي: على ملّة و دين. أو هذه جماعتكم جماعة واحدة متّفقة على الإيمان و التوحيد في العبادة.

و نصب «أمّة» على الحال. وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ عن المعصية و مخالفة الكلمة، أي:

فلأجل هذا فاتّقون.

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أمر دينهم بَيْنَهُمْ أي: جعلوه أديانا مختلفة. أو فتفرّقوا و تحزّبوا. و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض أو التمييز. و الضمير لما دلّ عليه الأمّة من أربابها، أولها. زُبُراً قطعا. جمع الزبور الّذي بمعنى الفرقة. و هو حال من «أمرهم» أو

ص: 447


1- الزّخرف: 23.

من الواو، أو مفعول ثان ل «تقطّعوا» فإنّه متضمّن معنى: جعل. و قيل: كتبا، من: زبرت الكتاب. فيكون مفعولا ثانيا، أو حالا من «أمرهم» على تقدير مثل: كتبا مختلفة.

كُلُّ حِزْبٍ من هؤلاء المتحزّبين المتقطّعين دينهم بِما لَدَيْهِمْ من الدين فَرِحُونَ راضون بما عندهم من الأديان الباطلة، معتقدون أنّهم على الحقّ.

فَذَرْهُمْ يا محمّد فِي غَمْرَتِهِمْ في جهالتهم. شبّهها بالماء الّذي يغمر القامة، لأنّهم مغمورون فيها. أو شبّهوا باللاعبين في غمرة الماء، لما هم عليه من الباطل، كقوله:

كأنّني ضارب في غمرة لعب (1) حَتَّى حِينٍ إلى أن يقتلوا أو يموتوا فيجازوا.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 55 الى 61]

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ [55] نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [56] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [57] وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [58] وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [59]

وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [60] أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ [61]

ثمّ سلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و نهاه عن الاستعجال بعذابهم، و الجزع من تأخيره، فقال: أَ يَحْسَبُونَ هؤلاء الكفرة أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أنّ ما نجعله مددا لهم، بأن نعطيهم

ص: 448


1- لذي الرمّة. و تمامه: ليالي اللّهو يعطبيني فأتبعه كأنّني ضارب .......... أي: اللهو يدعوني في ليال كثيرة فأتبعه، كأنّني سابح في لجّة من الماء تغمر القامة، لعب فيها.

مستمرّا مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ بيان ل «ما». و ليس خبرا له، فإنّه غير معاتب عليه، و إنّما المعاتب عليه اعتقادهم أنّ ذلك خير لهم. فخبره قوله: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ و الراجع محذوف، كما في قولهم: السمن منوان بدرهم، أي: يحسبون أنّ الّذي نمدّهم به نسارع به لهم فيها فيه خيرهم و إكرامهم. و الهمزة للإنكار عمّا يحسبون.

و المعنى:

أنّ هذا الإمداد ليس إلّا استدراجا لهم إلى المعاصي، و استجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، و فيما لهم فيه نفع و إكرام، و معاجلة بالثواب قبل وقته.

بَلْ لا يَشْعُرُونَ استدراك لقوله: «أ يحسبون». يعني: بل هم كالبهائم، لا فطنة لهم و لا شعور، ليتأمّلوا أنّ ذلك استدراج لا مسارعة في الخير.

روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّ اللّه تعالى يقول: يحزن عبدي المؤمن إذا اقترت عليه شيئا من الدنيا، و ذلك أقرب له منّي، و يفرح إذا بسطت له الدنيا، و ذلك أبعد له منّي. ثمّ تلا هذه الآية إلى قوله:

«بل لا يشعرون». ثمّ قال: إنّ ذلك فتنة لهم».

ثمّ بيّن حال الأخيار الأبرار بعد بيان أحوال الكفّار الفجّار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ من خوف عذابه مُشْفِقُونَ حذرون، فيفعلون ما أمرهم به، و ينتهون عمّا نهاهم عنه.

وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة و المنزلة يُؤْمِنُونَ بتصديق مدلولها.

وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ شركا جليّا و لا خفيّا.

وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا يعطون ما أعطوه من الصدقات المفروضة و المندوبة.

و قيل: أعمال البرّ كلّها. وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة أن لا يقبل منهم، و أن لا يقع على الوجه اللائق، فيؤاخذوا به أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي: لإيقانهم بأنّهم. أو لأنّهم راجعون إلى اللّه وجلت قلوبهم.

ص: 449

أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي: يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها. أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيويّة الموعودة على الأعمال الصالحة بالمبادرة إليها، كقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ (1). وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (2). و هذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدّمة، لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفّار للمؤمنين.

عن الحسن: المؤمن جمع إحسانا و شفقة، و المنافع جمع إساءة و أمنا.

وَ هُمْ لَها سابِقُونَ لأجلها فاعلون السبق. أو لأجلها سابقون الناس إلى الطاعة، أو الثواب و الجنّة. أو إيّاها سابقون، أي: ينالونها قبل الآخرة، حيث عجّلت لهم في الدنيا، كقوله: هُمْ لَها عامِلُونَ (3).

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 62 الى 70]

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [62] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ [63] حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [64] لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ [65] قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ [66]

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ

ص: 450


1- آل عمران: 148.
2- العنكبوت: 27.
3- المؤمنون: 63.

[67] أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [68] أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [69] أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [70]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يكلّف أحدا إلّا دون الطاقة، بعد أن أخبر عن حال الكافرين و المؤمنين، فقال: وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قدر طاقتها يعني: أنّ هذا الّذي وصف به الصالحين غير خارج عن حدّ الوسع و الطاقة، و كذلك كلّ ما كلّفه عباده.

وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ بالصدق. لا يقرؤن منه يوم القيامة إلّا ما هو صدق و عدل، لا زيادة فيه و لا نقصان، و لا يوجد فيه ما يخالف الواقع.

وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثوابهم، و لا يزاد في عقابهم، و لا يؤاخذون بذنب غيرهم. فما عملوه من الأعمال غير ضائع عندنا، بل كلّ ما كلّفنا عبادنا في الدنيا مثبت في اللوح أو صحف أعمالهم، و نجازيهم على وفقه.

بَلْ ردّ لما سبق من الكلام المشتمل على الوعد و الوعيد في القرآن قُلُوبُهُمْ قلوب الكفّار فِي غَمْرَةٍ في غفلة غامرة لها مِنْ هذا من الّذي وصف به هؤلاء المؤمنون. أو من كتاب الحفظة. وَ لَهُمْ أَعْمالٌ خبيثة مِنْ دُونِ ذلِكَ متجاوزة لما وصف به المؤمنون. أو متخطّية عمّاهم عليه من الشرك. هُمْ لَها عامِلُونَ معتادون فعلها، و صارت الأعمال القبيحة و الأفعال الخبيثة دأبهم.

حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ متنعّميهم بِالْعَذابِ يعني: القتل يوم بدر، أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال: «اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». فابتلاهم اللّه بالقحط، حتّى أكلوا الجيف و الكلاب و العظام

ص: 451

المحترقة و القدّ (1) و الأولاد.

أو المراد عذاب الآخرة.

إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ يضجّون و يجزعون، و يصرخون باستغاثة، لشدّة العذاب.

و الجؤار: الصراخ باستغاثة. و «إذا» للمفاجأة، أي: فاجئوا الصراخ بالاستغاثة. و هو جواب الشرط. و «حتّى» هذه هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام. و يجوز أن يكون الجواب لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فإنّه مقدّر بالقول، أي: قيل لهم: لا تجأروا.

ثمّ علّل للنهي عن الجؤار بقوله: إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي: لا تجأروا، فإنّ الجواب غير نافع لكم، إذ لا تغاثون و لا تمنعون منّا، أو من جهتنا لا يلحقكم نصر و لا معونة. و هذا إيئاس لهم من دفع العذاب عنهم.

ثمّ

بيّن علّة الإيئاس بقوله: قَدْ كانَتْ آياتِي يعني: القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ تتأخّرون و تعرضون، مدبرين عن سماعها و تصديقها و العمل بها. و النكوص: الرجوع قهقرى.

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ الضمير للبيت العتيق. أو للحرم، فإنّهم كانوا يقولون: لا يغلب علينا أحد، لأنّا أهل الحرم. و استكبارهم بالبيت، و افتخارهم بأنّهم ولاته و قوّامه، مشهور معروف. فبهذا أغنى عن سبق ذكر مرجعه. و يجوز أن يرجع إلى آياتي، فإنّها بمعنى كتابي.

و الباء متعلّقة بالمستكبرين. و معنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكبارا.

ضمّن «مستكبرين» معنى: مكذّبين، فعدّي تعديته. أو المعنى: مستكبرين بسببه، فإنّه يحدث لهم استماعه استكبارا و عتوّا منهم، فهم كانوا يستكبرون على المسلمين بسببه.

و يجوز أنّ تكون متعلّقة بقوله: سامِراً. و هو في الأصل مصدر بمعنى السمر، و هو التحديث في الليل، جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة، و لهذا يطلق على الجمع.

فالسامر هم القوم الّذين يسمرون. و المعنى: يتحدّثون في الليل بذكر القرآن و الطعن فيه.

ص: 452


1- القدّ: جلد السخلة. و القدّ: السير يقدّ- أي: يقطع- من الجلد غير المدبوغ.

تَهْجُرُونَ من الهجر بالفتح، إمّا بمعنى القطيعة أو الهذيان، أي: تعرضون عن القرآن، أو تهذون في شأنه. أو الهجر بالضمّ، أي: الفحش. و يؤيّد الثاني قراءة نافع:

تهجرون، من: أهجر في منطقه إذا أفحش.

روي: أنّهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، و كانت عامّة سمرهم ذكر القرآن، و تسميته سحرا و شعرا، و سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

ثمّ قال سبحانه ردّا عليهم: أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي: أ فلم يتدبّروا القرآن ليعلموا أنّه الحقّ من ربّهم، بإعجاز لفظه و متانة معناه و وضوح مدلوله، فيصدّقوا به، أو ليخافوا

عند تدبّر آياته أَمْ جاءَهُمْ بل أجاءهم ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ من الرسول و الكتاب، فلذلك أنكروه و استبدعوه. أو من الأمن من عذاب اللّه، فلذلك لم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون، و هم إسماعيل و أعقابه من عدنان و قحطان، فآمنوا به و كتبه و رسله و أطاعوه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا تسبّوا مضر و لا ربيعة، فإنّهما كانا مسلمين. و لا تسبّوا قسّا، فإنّه كان مسلما. و لا تسبّوا الحارث بن كعب و لا أسد بن خزيمة و لا تميم بن مرّ، فإنّهم كانوا على الإسلام. و ما شككتم فيه من شي ء فلا تشكّوا في أنّ تبّعا كان مسلما».

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ محمّدا بأمانته، و صدقه، و حسن خلقه، و كمال علمه، و وفور فضله، مع عدم تعلّمه، و اتّسامه بينهم بأنّه خير فتيان قريش، إلى غير ذلك ممّا هو صفة الأنبياء فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دعواه لأحد هذه الوجوه، إذ لا وجه له غيرها، فإنّ إنكار الشي ء قطعا أو ظنّا إنّما يتمّ إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص، أو بحث عمّا يدلّ عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد.

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ جنون، فلا يبالون بقوله، و قد كانوا يعلمون أنّه أرجحهم عقلا، و أدقّهم نظرا. و في هذا دلالة على جهلهم، حيث أقرّوا له بمتانة العقل و رزانة الرأي، ثمّ نسبوه إلى الجنون.

ص: 453

بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ الدين القويم و الطريق المستقيم. و هو وحدانيّته تعالى عن الشرك و الندّ. وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنّه يخالف شهواتهم و أهواءهم، و لم يوافق ما ألفوه و نشأوا عليه، و خلط بلحومهم و دمائهم من اتّباع الباطل، و لم يمكنهم دفعه، لأنّه الحقّ الأبلج و الصراط المستقيم، فمالوا إلى البهت، و عوّلوا على كذبهم من النسبة إلى الجنون و السحر و الشعر.

و إنّما قيّد الحكم بالأكثر، لأنّه كان من الصناديد و الرؤساء من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه، بأن يقولوا: ترك دين آبائه و تديّن بالدين المستحدث، لا كراهة للحقّ.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 71 الى 74]

وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [71] أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [72] وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [73] وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ [74]

ثمّ دلّ سبحانه على عظم شأن الحقّ بأنّ السماوات و الأرض ما قامت و لا من فيهنّ إلّا بالحقّ، فقال: وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ بأن كان في الواقع آلهة شتّى لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ كما سبق تقريره في قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (1).

و قيل: لو اتّبع الحقّ أهواءهم و انقلب باطلا، لذهب ما قام به العالم، فلا يبقى له

ص: 454


1- راجع ص 310 ذيل الآية [22] من سورة الأنبياء.

بعده قوام. أو لو اتّبع الحقّ الّذي جاء به محمّد- و هو الإسلام- أهواءهم، و انقلب شركا، لجاء اللّه بالقيامة، و لأهلك العالم، و لم يؤخّرها من فرط غضبه.

و عن قتادة: الحقّ هو اللّه. و معناه: لو كان اللّه إلها يتّبع أهواءهم، بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك و المعاصي، لخرج عن الألوهيّة، و لما قدر أنّ يمسك السماوات و الأرض.

بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ بالكتاب الّذي هو ذكرهم، أي: وعظهم. أوصيتهم و شرفهم و

فخرهم. أو الذكر الّذي تمنّوه بقولهم: لو أنّ عندنا ذكرا من الأوّلين لكنّا عباد اللّه المخلصين. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ لا يلتفتون إليه، و راضون بالباطل أو بالذلّ.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أجرا على أداء الرسالة فَخَراجُ رَبِّكَ رزقه في الدنيا، أو ثوابه في العقبى خَيْرٌ لسعته و دوامه، ففيه مندوحة لك عن عطائهم. و الخرج بإزاء الدخل، يقال لكلّ ما تخرجه إلى غيرك. و الخراج غالب في الضريبة على الأرض. و هي ما تخرجه إلى الإمام، أو إلى كلّ عامل، من زكاة الأرض و أجرتها و جعلها. ففيه إشعار بالكثرة و اللزوم، فيكون ابلغ من الخرج، فإنّ زيادة اللفظ لزيادة المعنى.

و المعنى: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق؟ فإنّ الكثير من عطاء الخالق خير لوسعته.

و قرأ ابن عامر: خرجا فخرج ربّك. و حمزة و الكسائي: خراجا فخراج ربّك، للمزاوجة.

وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تقرير لخيريّة خراجه.

وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تشهد العقول السليمة على استقامته، لا عوج فيه يوجب اتّهامهم له.

و اعلم أنّه سبحانه ألزمهم الحجّة في هذه الآيات، و قطع معاذيرهم و عللهم، بأنّ الّذي أرسل إليهم رجل معروف أمره و حاله، مخبور سرّه و علنه، خليق بأن يجتبى مثله

ص: 455

للرسالة من بين ظهرانيّهم. و أنّه لم يعرض له حاجة حتّى يدّعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، و لم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم و استعطاء أموالهم، و لم يدعهم إلّا إلى دين الإسلام الّذي هو الصراط المستقيم. و هم لفرط شغفهم بدين آبائهم الضلّال من غير برهان، و توغّلهم في العتوّ و الاستكبار، تعلّلوا بأنّه مجنون، بعد ظهور الحقّ و ثبات التصديق من اللّه، بالمعجزات الباهرة و الآيات النيّرة، و أعرضوا عمّا فيه حظّهم من الذكر و الشرف، و مزيّة المرتبة في الدارين.

و لمّا كان خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحقّ و سلوك طريقة، قال:

وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ عن الصراط السويّ و الطريق القويم لَناكِبُونَ لعادلون عنه.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 75 الى 77]

وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [75] وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ [76] حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [77]

روي: أنّه لمّا أسلم ثمامة بن أثال الحنفي و لحق باليمامة، و منع الميرة من أهل مكّة، و أخذهم اللّه بالسنين إجابة لدعوة رسوله، حتّى أكلوا العلهز (1)، فجاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال: أنشدك اللّه و الرحم أ لست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال:

بلى. فقال: قتلت الآباء بالسيف، و الأبناء بالجوع. فنزلت:

وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ يعني: القحط لَلَجُّوا لتمادوا عنادا فِي طُغْيانِهِمْ إفراطهم في الكفر، و الاستكبار عن الحقّ، و عداوة الرسول و المؤمنين

ص: 456


1- العلهز: طعام كانوا يتّخذونه من الدم و وبر البعير في سنّي المجاعة.

يَعْمَهُونَ عن الهدى.

ثمّ استشهد على هذا القول بقوله: وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعني: قتل صناديدهم و أسرهم يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ و ما يقيمون على التضرّع، بل أقاموا على عتوّهم و استكبارهم. و الاستكان استفعال من الكون، بمعنى الانتقال من كون إلى كون، كالاستحالة بمعنى الانتقال من حال إلى حال، فإنّ المفتقر انتقل من كون إلى كون.

أو افتعال من السكون، أشبعت فتحته. و لم يقل: و ما تضرّعوا، أو فما يستكينون، لأنّ المعنى: محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، و ما من عادة هؤلاء أن يستكينوا أو يتضرّعوا.

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ يعني: الجوع، فإنّه أشدّ من الأسر و القتل إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ آيسون من كلّ خير، حتّى جاءك أعتاهم يستعطفك. أو محنّاهم بكلّ محنة من القتل و الجوع، فما رؤي منهم لين مقادة، و هم كذلك حتّى إذا عذّبوا بنار جهنّم فحينئذ يبلسون، كقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (1). لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (2).

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 78 الى 80]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ [78] وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [79] وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [80]

ص: 457


1- الروم: 12.
2- الزّخرف: 75.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المنعم على ما خلقه بأنواع النعم، ليتدبّروا فيها و يمتثلوا أوامره، فقال: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ لتحسّوا بها ما نصب من الآيات وَ الْأَفْئِدَةَ لتتفكّروا فيها، و تستدلّوا بها، إلى غير ذلك من المنافع الدينيّة و الدنيويّة ما لا يتعلّق بغيرها، فإنّ الدلائل كلّها مبنيّة عليها، و لهذا خصّت بالذكر قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تشكرونها شكرا قليلا، لأنّ العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله، و الإذعان لما نحها من غير إشراك، و من لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها. و «ما» زائدة للتأكيد.

وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ خلقكم و بثّكم فيها بالتناسل وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم.

وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي يحييكم في أرحام أمّهاتكم وَ يُمِيتُ و يميتكم عند انقضاء آجالكم وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ مختصّ به تعاقبهما، و لا يقدر غيره على تصريفهما. أو لأمره و قضائه تعاقبهما، أو انتقاص أحدهما و ازدياد الآخر. أَ فَلا تَعْقِلُونَ بالنظر و التأمّل أنّ الكلّ منّا، و أنّ قدرتنا تعمّ الممكنات كلّها، و أنّ البعث من جملتها.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 81 الى 83]

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ [81] قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [82] لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [83]

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار المكذّبين بالبعث، فقال: بَلْ قالُوا أي: كفّار مكّة مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ آباؤهم و من دان بدينهم.

ص: 458

قالُوا استبعادا: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ و لم يتأمّلوا أنّهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا فخلقوا.

لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ إلّا أكاذيبهم الّتي كتبه الأوّلون ممّا لا حقيقة له. جمع أسطورة، لأنّه يستعمل فيما يتلهّى به، كالأعاجيب و الأضاحيك. و قيل: جمع أسطار جمع سطر.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 84 الى 90]

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [84] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [85] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [86] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ [87] قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [88]

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [89] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [90]

ثمّ احتجّ على هؤلاء المنكرين للبعث و النشور، فقال: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم، أو من العالمين بذلك، أي: أجيبوني عمّا استعلمتكم منه إن كان عندكم فيه علم. فيكون استهانة بهم، و تقريرا لفرط جهالتهم، حتّى جهلوا مثل هذا الجليّ الواضح، و إلزاما بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنّكاره. و لذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا، فقال: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ لأنّ العقل الصريح

قد اضطرّهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنّه خالقها.

قُلْ بعد ما قالوه أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فتعلموا أنّ من فطر الأرض و من فيها ابتداء قدر على إيجادها ثانيا، فإن بدء الخلق ليس أهون من إعادته.

ص: 459

ثمّ زاد في الحجّة فقال: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ من مالكها و المتصرّف فيها. و العرش أعظم من السماوات السبع.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إيراد اللام على المعنى، لأنّ قولك: من ربّه، و لمن هو، في معنى واحد. و قرأ أبو عمرو و يعقوب بغير لام فيه و فيما بعده، على ما يقتضيه ظاهر لفظ السؤال.

قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ أي: أ فلا تخافون عقابه، فلا تشركوا بعض مخلوقاته، و لا تنكروا قدرته على جميع الممكنات، و لا تعصوا رسله؟

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ هو من صفات المبالغة في الملك، كالجبروت و الرهبوت. و قال مجاهد: ملكوت كلّ شي ء خزائن كلّ شي ء.

وَ هُوَ يُجِيرُ يغيث من يشاء على من يشاء، و يحرسه عنه وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ و لا يغاث و لا يمنع منه أحد، أي: و لا يغيث أحد أحدا، و لا يمنعه منه. يقال: أجرت فلانا على فلان، إذا أغثته و منعته من المكروهات. و تعديته ب «على» لتضمين معنى النصرة.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك فأجيبوا.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فمن أين تخدعون عن توحيده و طاعته، و يموّه عليكم، فتصرفون عن الرشد، مع ظهور الأمر و تظاهر الأدلّة؟ قال امرئ القيس (1): و نسحر بالطعام و بالشراب ... أي: نخدع. و الخادع هو الشيطان و الهوى. بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ من التوحيد و الوعد بالنشور وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ حيث أنكروا ذلك، و ادّعوا له ولدا،

و معه شريكا.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 91 الى 95]

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [91] عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [92] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ [93] رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [94] وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ [95]

ص: 460


1- ديوان امرئ القيس (طبعة دار بيروت): 72. و صدره: أرانا موضعين لأمر غيب.

ثمّ أكّد سبحانه ما قدّمه من أدلّة التوحيد، فقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتقدّسه عن مماثلة أحد وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يساهمه في الألوهيّة إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ جزاء شرط محذوف، لدلالة ما قبله عليه، أي: لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كلّ واحد منهم بما خلقه، أي: لانفرد كلّ واحد من الآلهة بخلقه الّذي خلقه و استبدّ به، و لرأيتم ملك كلّ واحد منهم متميّزا عن ملك الآخرين.

وَ لَعَلا و لغلب بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و وقع بينهم التجاذب و التحارب، و ظهر التغالب، كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة و هم متغالبون، فلم يكن بيده وحده ملكوت كلّ شي ء. و اللازم باطل بالإجماع و الاستقراء، و قيام البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجب واحد، فما كان معه من إله. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الولد و الشريك، لما سبق من الدليل على فساده.

عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عالم ما غاب و ما حضر، فلا يخفى عليه شي ء. و قد جرّ ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص على الصفة. و

هو دليل آخر على نفي الشريك، بناء على توافقهم في أنّه المنفرد بذلك. و لهذا رتّب عليه قوله: فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ بالفاء.

روي: أنّه سبحانه أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن له في أمّته نقمة، و لم يخبره أفي حياته أم بعد وفاته، فأمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي «ما» و النون مؤكّدتان، أي: إن كان لا بدّ من أن ترينّي ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا و الآخرة.

ص: 461

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قرينا لهم في العذاب، فأخرجني من بينهم إذا أردت إحلال العذاب بهم. و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان معصوما من نزول العذاب عاجلا و آجلا، لكن صدور هذا القول منه لأنّه يجوز أن يسأل العبد ربّه ما علم أن يفعله، و أن يستعيذ به ممّا علم أنّه لا يفعله، هضما لنفسه، و إظهارا للعبوديّة، و تواضعا لربّه، و إخباتا له. و منه استغفاره إذا قام من مجلسه سبعين مرّة أو مائة مرّة. و قول إبراهيم عليه السّلام: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (1).

و تكرير النداء، و تصدير كلّ واحد من الشرط و الجزاء، حثّ على فضل تضرّع و جؤار (2).

وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ لكنّا نؤخّره، علما بأنّ بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون. أو لأنّا لا نعذّبهم و أنت فيهم. قيل: ردّ لإنكار هم الموعود، و استعجالهم له استهزاء به. و قيل: قد أراه، و هو قتل بدر أو فتح مكّة.

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح، عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في حجّة الوداع و هو بمعنى: «و لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنّي في كتيبة يضاربونكم. قال: فغمز من خلفه منكبه الأيسر، فالتفت فقال: أو عليّ. فنزلت الآيات المذكورة» (3).

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 96 الى 100]

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ [96] وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [97] وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ

ص: 462


1- الشعراء: 87.
2- جأر يجأر جؤارا إلى اللّه: رفع صوته بالدعاء و تضرّع.
3- شواهد التنزيل 1: 526 ح 559.

[98] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [99] لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [100]

ثمّ أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب، فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي بالخصلة أو الفعلة الّتي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ و هي الصفح عن إساءة المسي ء، و الإحسان في مقابلتها.

قيل: هي منسوخة بآية السيف (1). و قيل: محكمة، لأنّ المداراة محثوث عليها، لكن بحيث لم يؤدّ إلى وهن في الدين.

و قيل: ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه و أوضحها، و أقربها إلى الإجابة و القبول.

و عن ابن عبّاس: هي كلمة التوحيد، و السيّئة الشرك. و قيل: هو الأمر بالمعروف، و السيّئة المنكر. و هو أبلغ من: ادفع بالحسنة السيّئة، لما فيه من التنصيص على التفصيل.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي: بما يصفونك به. أو بوصفهم إيّاك على خلاف حالك، و أقدر على جزائهم، فكل إلينا أمرهم.

وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ و نزعاتهم و وساوسهم. و أصل الهمز:

النخس. و منه: مهماز (2) الرائض. شبّه حثّهم الناس على المعاصي بهمز الراضة للدوابّ

ص: 463


1- التوبة: 5 و 29.
2- المهماز: عصا في رأسها حديدة تنخس بها الدابّة. و الرائض: معلّم الدوابّ و سائسها.

حثّا لها على المشي. و نحو الهمز الأزّ في قوله: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (1). و الجمع للمرّات، أو لتنوّع الوساوس، أو لتعدّد المضاف إليه.

وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ يحوموا حولي في شي ء من الأحوال. و قيل:

حال الصلاة. و عن ابن عبّاس: عند قراءة القرآن. و عن عكرمة: عند حلول الأجل. و وجه التخصيص أنّها أقوى الأحوال بأن يخاف عليه.

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ متعلّق ب «يصفون» أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت. و ما بينهما اعتراض، لتأكيد الإغضاء عنهم بالاستعاذة باللّه من الشيطان أن يزلّه عن الحلم، و يغريه على الانتقام منهم. أو بقوله: وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (2).

قالَ تحسّرا عند الموت على ما فرّط فيه من الإيمان و الطاعة لمّا اطّلع على حقيقة الأمر رَبِّ ارْجِعُونِ ردّوني إلى الدنيا. و الواو لتعظيم المخاطب، كقوله: فإن شئت حرّمت النساء سواكم (3) .... و قوله: ألا فارحموني يا إله محمّد (4) ... و كما قال:

قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ (5).

لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ في الإيمان الّذي تركته، أي: لعلّي آتي بالإيمان و أعمل فيه، كما تقول: لعلّي أبني على أسّ. و قيل: فيما تركت من المال، أو في الدنيا. و قال الصادق عليه السّلام: «إنّه في مانع الزكاة، يسأل الرجعة عند الموت».

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: أ نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول:.

ص: 464


1- مريم: 83.
2- المؤمنون: 90.
3- للعرجي. و عجزه: و إن شئت لم أطعم نقاخا و لا بردا. و النقاخ: الماء العذب البارد. و البرد: النوم.
4- و عجزه:فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل.
5- القصص: 9.

إلى دار الهموم و الأحزان! بل قدوما إلى اللّه. و أمّا الكافر فيقول: ربّ ارجعون».

كَلَّا ردع عن طلب الرجعة، و إنكار و استبعاد لها إِنَّها كَلِمَةٌ يعني قوله:

«رَبِّ ارْجِعُونِ» إلى آخره. و الكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض. هُوَ قائِلُها لا محالة، لا يسكت عنها، لتسلّط الحسرة عليه، و استيلاء الندم، و لا فائدة له في ذلك.

وَ مِنْ وَرائِهِمْ أمامهم. و الضمير للجماعة. بَرْزَخٌ حائل بينهم و بين الرجعة. و هو الزمان الّذي يكون بين الموت و البعث، فمن مات فقد وقع في البرزخ. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يوم القيامة. و هو إقناط كلّي عن الرجوع إلى الدنيا، لما علم أنّه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، و إنّما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.

و في الآية دلالة على أنّ أحدا لا يموت حتّى يعرف منزلته عند اللّه تعالى، و أنّه من أهل الثواب أو العذاب.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 101 الى 108]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ [101] فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [102] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ [103] تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ [104] أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [105]

قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [106] رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [107] قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ [108]

ص: 465

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين يوم البعث، فقال: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة بالصوت الهائل العظيم. و هو شبه قرن لنفخة إسرافيل عليه السّلام. و في الحديث: «كيف أنعم و صاحب الصور التقم الصور، أو التقمه».

و قيل: هي جمع الصورة. و المعنى: إذا أعيدت الأرواح إلى الأبدان. فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ينفعهم، لزوال التعاطف و التراحم من فرط الحيرة و استيلاء الدهشة، بحيث يفرّ المرء من أخيه، و أمّه و أبيه، و صاحبته و بنيه. أو يفتخرون بها. يَوْمَئِذٍ كما ينتفعون اليوم بها. و يحتمل أن تقاطع الأنساب يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين و مثابين، فتلغوا الأنساب و تبطل.

وَ لا يَتَساءَلُونَ و لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله و خبره، لاشتغاله بنفسه. و هو لا يناقض قوله: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ (1). وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (2). لأنّه عند النفخة، و ذلك بعد المحاسبة، فإنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة و أحوال مختلفة، يتساءلون و يتعارفون في بعضها، و في بعضها لا يفطنون لذلك، لشدّة الهول و الفزع. أو التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا من القبور فتعارفوا و تساءلوا. أو عدم التساؤل يكون في القيامة، و التساؤل بعد دخول أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار.

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون. و هي الموزونات من عقائده و أعماله.

يعني: من كانت له عقائد صحيحة و أعمال صالحة، يكون لها وزن و قدر عند اللّه. أو جمع ميزان، كمواعيد جمع ميعاد. و هو القرسطون (3) الّذي توزن به الأعمال. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة و الدرجات.

ص: 466


1- يونس: 45.
2- الصافّات: 27.
3- القرسطون معرّب: كرستون. فارسيّة بمعنى الميزان الكبير، فرهنگ فارسى للدكتور معين 3: 2941.

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي: و من لم يكن له ما يكون له وزن. و هم الكفّار، لقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (1). فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها، حيث ضيّعوا زمان استكمالها، و أبطلوا استعدادها لنيل كمالها فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل من «خسروا أنفسهم». أو خبر ثان ل «أولئك». أو خبر مبتدأ محذوف.

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تحرقها. و اللفح كالنفح، إلّا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا. وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ من شدّة الاحتراق. و الكلوح تقلّص الشفتين عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشويّة.

عن مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنّه مرّ في السوق برأس أخرج من التنّور، فغشي عليه ثلاثة أيّام و لياليهنّ.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «تشويه النار فتقلّص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه، و تسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته».

أَ لَمْ تَكُنْ أي: يقال لهم: ألم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ تأنيب و تذكير لهم بما استحقّوا هذا العذاب لأجله.

قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا استعلت علينا سيّئاتنا الّتي أوجبت لنا الشقاوة. و هي: سوء العاقبة و المضرّة اللاحقة. و قرأ حمزة و الكسائي: شقاوتنا بالفتح، كالسعادة وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ عن الحقّ. و لمّا كانت سيّئاتهم الّتي شقوا بها سبب شقاوتهم سمّيت شقاوة توسّعا. و من أكبر الشقاء أن يترك عبادة اللّه إلى عبادة غيره، و يترك الأدلّة و يتّبع الهوى.

رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها من النار فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا.

قالَ اخْسَؤُا اسكتوا سكوت هوان فِيها في النار، فإنّها ليست مقام سؤال.

ص: 467


1- الكهف: 105.

يعني: ذلّوا فيها و انزجروا، كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. من: خسأت الكلب إذا زجرته، فخسأ بنفسه. لازم و متعدّ، فإن أصل هذه اللفظة زجر الكلاب، و إذا قيل ذلك للإنسان يكون للإهانة المستحقّة للعقوبة. وَ لا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب، فإنّه لا يرفع و لا يخفّف أبدا. أو لا تكلّمون رأسا.

و عن ابن عبّاس: إنّ لهم ستّ دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا (1).

فيجابون: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي (2).

فينادون ألفا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ (3).

فيجابون: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ « (4)».

فينادون ألفا: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ (5).

فيجابون: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ « (6)».

فينادون ألفا: رَبَّنا أَخِّرْنا (7) فيجابون: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا « (8)».

فينادون ألفا: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً (9).

فيجابون: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ « (10)».

فينادون ألفا: رَبِّ ارْجِعُونِ (11).

ص: 468


1- السجدة: 12- 13.
2- السجدة: 12- 13.
3- غافر: 11.
4- غافر: 12.
5- الزخرف: 77.
6- الزخرف: 77.
7- إبراهيم: 44.
8- إبراهيم: 44.
9- فاطر: 37.
10- فاطر: 37.
11- المؤمنون: 99.

فيجابون: اخْسَؤُا فِيها.

و هو آخر كلام يتكلّمون به، ثمّ لا كلام بعد ذلك إلّا الشهيق و الزفير و العواء كعواء الكلاب، لا يفهمون و لا يفهمون.

[سورة المؤمنون [23]: الآيات 109 الى 118]

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [109] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [110] إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ [111] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [112] قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [113]

قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [114] أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [115] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [116] وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [117] وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [118]

ثمّ بيّن علّة استحقاقهم الهوان الشديد و العذاب الأليم بقوله: إِنَّهُ إنّ الشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يعني: المؤمنين. و قيل: هم أهل الصفّة خاصّة. يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ يعني: يدعون بهذه الدعوات في الدنيا

ص: 469

طلبا لما عندي من الثواب.

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا هزؤا. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي بالضمّ. و هما مصدر سخر كالسخر، إلّا أن في ياء النسبة زيادة قوّة في الفعل و مبالغة، كما قيل: الخصوصيّة في الخصوص. و عند الكوفيّين المكسور بمعنى الهزء، و المضموم من السخرة بمعنى الانقياد و العبوديّة، أي: تسخّروهم و استعبدوهم. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم على تلك الصفة، أي: تركتم أن تذكروني لاشتغالكم بالسخريّة منهم.

فنسب الإنساء إلى عبادة المؤمنين و إن لم يفعلوا، لمّا كانوا السبب في ذلك. وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ استهزاء بهم.

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ يعني: يوم الجزاء بِما صَبَرُوا على أذاكم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي: فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. و هو ثاني مفعولي «جزيتهم».

و قرأ حمزة و الكسائي بالكسر استئنافا، أي: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء قالَ أي: اللّه، أو الملك المأمور بسؤالهم، توبيخا و تبكيتا لمنكري البعث. و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: قل، على الأمر للملك، أو لبعض رؤساء أهل النار. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أحياء أو أمواتا في القبور عَدَدَ سِنِينَ تمييز ل «كم».

قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصارا لمدّة لبثهم في الدنيا أو القبور بالنسبة إلى خلودهم في النار. أو لأنّها كانت أيّام سرورهم، و أيّام السرور قصار، كما أنّ أيّام المحنة مستطيلة. أو لأنّها منقضية، و المنقضي في حكم المعدوم.

فَسْئَلِ الْعادِّينَ الحسّاب الّذين يتمكّنون من عدّ أيّامها إن أردت تحقيقها، فإنّا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكّرها و إحصائها، إلّا أنّا نستقلّها و نحسبها يوما أو بعض يوم. أو الملائكة الّذين يعدّون أعمار الناس، و يحصون أعمالهم.

و يدلّ على أنّ المراد مدّة لبثهم في القبور، ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: أنساهم

ص: 470

ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.

فصدّقهم اللّه في تقالهم (1) لسني لبثهم في الدنيا، و وبّخهم على غفلتهم الّتي كانوا عليها، فقال: قالَ أي: اللّه أو الملك. و قرأ الكوفيّون: قل إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لأنّ مكثكم في الدنيا أو في القبور و إن طال، فإنّه متناه قليل بالإضافة إلى طول مكثكم في عذاب جهنّم لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صحّة ما أخبرناكم به. أو قصر أعماركم في الدنيا، و طول مكثكم في الآخرة في العذاب، لمّا اشتغلتم بالكفر و المعاصي، و آثرتم الفاني على الباقي.

ثمّ وبّخهم على تغافلهم بقوله: أَ فَحَسِبْتُمْ معاشر الجاحدين للبعث و النشور، الظانّين دوام الدنيا أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً حال أو مفعول له، أي: عابثين أو للعبث، أي:

لم يدعنا إلى خلقكم إلّا حكمة اقتضت ذلك، و هي أن نتعبّدكم و نكلّفكم المشاقّ، من الطاعات و ترك المعاصي، ثمّ نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن و نعاقب المسي ء. و هو كالدليل على البعث. و مثل ذلك قوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (2).

وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوف على «أَنَّما خَلَقْناكُمْ» أو «عبثا». و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب بفتح التاء و كسر الجيم.

فَتَعالَى اللَّهُ عمّا يصفه به الجهّال من الشريك و الولد و الصاحبة. أو من أن يعمل عبثا. الْمَلِكُ الْحَقُ الّذي يحقّ له الملك مطلقا، لأنّ ما عداه مملوك بالذات مالك بالعرض، و من وجه دون وجه، و في حال دون حال، و لأنّ كلّ شي ء منه و إليه. أو الثابت الّذي لا يزول هو بنفسه، و لا يزول ملكه.

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإنّ ما عداه عبيد له رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ الّذي يحيط بجميع

ص: 471


1- تقالّ الشي ء: عدّه قليلا.
2- الذاريات: 56.

الأجرام، و ينزل منه محكمات الأقضية و الأحكام. و لذلك وصفه بالكرم، و هو كثرة الخير. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.

وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي: يعبده لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة اخرى ل «إلها» لازمة له، نحو قوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ (1). و بناء الحكم عليه، تنبيها على أنّ التديّن بما لا دليل عليه ممنوع، فضلا عمّا دلّ الدليل على خلافه. و يجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط و الجزاء لذلك، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحقّ بالإحسان منه، فاللّه مثيبه.

فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ فهو مجاز له مقدار ما يستحقّه إِنَّهُ إن الشأن لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وضع «الكافرون» موضع الضمير، لأنّ «من يدع» في معنى الجمع.

و كذلك «حسابه».

و اعلم أنّه سبحانه بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين، و ختمها بنفي الفلاح عن الكافرين، فشتّان ما بين الفاتحة و الخاتمة.

و لمّا حكى اللّه سبحانه أحوال الكفّار أمر رسوله بأن يتبرّأ منهم، و أن ينقطع إليه عمّا سواه و يسترحمه، فقال: وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ ذنوب عبادك وَ ارْحَمْ و أنعم على خلقك وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أفضل المنعمين، و أكثرهم نعمة، و أوسعهم فضلا.

ص: 472


1- الأنعام: 38.

[24] سورة النور

اشارة

و هي أربع و ستّون آية.

عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ مؤمن و مؤمنة، فيما مضى و فيما بقي».

و روى الحاكم أبو عبد اللّه في الصحيح بالإسناد عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تنزلوهنّ الغرف، و لا تعلّموهنّ الكتابة، و علّموهنّ المغزل و سورة النور» (1).

يعني: النساء.

و روى عبد اللّه بن مسكان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النور، و حصّنوا بها نساءكم، فإنّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت، فإذا مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك، يدعون و يستغفرون اللّه له حتّى يدخل إلى قبره».

[سورة النور [24]: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [1]

ص: 473


1- مستدرك الحاكم 2: 396.

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المؤمنين بأنّه لم يخلق الخلق للعبث، بل للأمر و النهي، ابتدأ هذه السورة بذكر الأوامر و النواهي و بيان الشرائع، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أي: هذه سورة. أو فيما أوحينا إليك سورة. أَنْزَلْناها صفتها، أي: أنزلها جبرئيل بأمرنا وَ فَرَضْناها و فرضنا ما فيها من الأحكام. و أصل الفرض القطع، أي:

جعلناها واجبة مقطوعا بها. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بتشديد الراء، لكثرة فرائضها، أو المفروض عليهم، أو للمبالغة في إيجابها.

وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على وحدانيّتنا و كمال قدرتنا، أو حدودنا و أحكامنا الّتي شرعنا فيها لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكي تتّعظوا و تتّقوا بما فيها.

[سورة النور [24]: الآيات 2 الى 3]

الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [2] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [3]

ثمّ شرع في بيان الأحكام، و ابتدأ بحكم الزنا الّذي هو أفحش الفواحش، فقال:

الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي مرفوعان بالابتداء، و خبرهما محذوف عند الخليل و سيبويه، أي:

ممّا فرضنا أو أنزلنا حكمه حكم الزانية و الزاني، و هو الجلد. و يجوز أن يرفعا بالابتداء، و الخبر قوله: فَاجْلِدُوا أيّها الحكّام كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. و على الأوّل جملة اخرى معطوفة على الأولى. و الثاني قول المبرّد.

و على هذا لمّا كان المبتدأ متضمّنا معنى الشرط، لأنّ اللام بمعنى اسم الموصول، كما تقول: من زنى فاجلدوه، أتى بالفاء، أي: الّتي زنت و الّذي زنى فاجلدوهما.

ص: 474

و إنّما قدّم الزانية، لأنّ الزنا في الأغلب يكون بتعرّضها للرجل و عرض نفسها عليه، و لأنّ مفسدته تتحقّق بالإضافة إليها. و الجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللحم، فلا يجوز التبريح (1).

و هذا الحكم مخصّص بالسنّة و الكتاب. أمّا السنّة فبالزيادة تارة، كما في حقّ البكر الذكر، فإنّه يزاد التغريب سنة، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام».

و منعه أبو حنيفة. و الخبر يبطل قوله. و كذا عمل الصحابة. و قوله: إنّ الآية ناسخة، ضعيف، لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه، لتكون ناسخة له. و فعل الصحابة متأخّر عن الآية، فكيف يكون

التغريب منسوخا؟! و بالرجم تارة، كما في حقّ المحصن و المحصنة، فإنّ حدّهما الرجم. هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرجم، و إلّا فهو أيضا زيادة، و قيل: الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة.

و قيل: عامّ. و هو الحقّ، لأنّ عليّا عليه السّلام جلد سراقة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة، و قال: «جلدتها بكتاب اللّه، و رجمتها بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و كانت سراقة شابّة، و فعله عليه السّلام حجّة.

و المراد بالمحصن من له فرج مملوك، بالعقد الدائم أو بملك اليمين، يغدو عليه و يروح. و بالمحصنة من لها فرج بالعقد الدائم، تغدو عليه و تروح. و البكر قيل: هو ما عدا المحصن. و قيل: من أملك و لم يدخل. و الطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة، بخلاف البائن.

و عندنا لا جزّ على المرأة و لا تغريب. و أمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة، لقوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (2). و اختلف في العبد، فقيل: كالحرّ. و قيل: كالأمة. و هو الأقوى، للرواية المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام.

ص: 475


1- التبريح: الشدّة و الأذى. و برّح به: أتعبه و جهده و آذاه أذى شديدا.
2- النساء: 25.

وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ رحمة و شفقة فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته و إقامة حدّه و حفظه، فتعطّلوه أو تسامحوا فيه. و قرأ ابن كثير بفتح الهمزة (1). إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّ الإيمان بالمبدأ و المعاد يقتضي الجدّ في طاعة اللّه، و الاجتهاد في إقامة أحكامه و حدوده. و هو من باب التّهييج في إجراء الحكم، و التشديد في أمر الزنا

و حسم مادّته، لينحفظ النسب، و تجري الأحكام الشرعيّة المترتّبة على أصولها. و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا معشر الناس اتّقوا الزنا، فإنّ فيه ستّ خصال: ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة. فأمّا اللّاتي في الدنيا: فإنّه يذهب البهاء، و يورث الفقر، و ينقص العمر. و أمّا اللّاتي في الآخرة: فإنّه يوجب السخطة، و سوء الحساب، و الخلود في النار».

و في الآية دلالة على أنّه يضرب أتمّ الضرب، فلا ينقص من الحدّ شي ء. و لا تجوز الشفاعة في إسقاطه. و في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا، فيقول: رحمة لعبادك. فيقول اللّه له: أ أنت أرحم بهم منّي، فيؤمر به إلى النار.

و يؤتى بمن زاد سوطا، فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيؤمر به إلى النار».

وَ لْيَشْهَدْ و ليحضر عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ زيادة في التنكيل، فإنّ التفضيح قد ينكل أكثر ما ينكل التعذيب. و في تسمية الحدّ العذاب دليل على أنّه عقوبة.

و يجوز أن يسمّى عذابا، لأنّه يمنع المعاودة، كما سمّي نكالا. و قيّد الطائفة بالمؤمنين، لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار من الإسلام. و لذلك كره إقامته في أرض العدوّ.

و الطائفة: الفرقة الحافّة حول الشي ء. و اختلف في كمّيتها.

فعن الباقر عليه السّلام و ابن عبّاس و الحسن و غيرهم: أقلّها واحد.

و به قال مجاهد. و قال عكرمة: اثنان. و الزهري:

ثلاثة. و في رواية اخرى عن ابن عبّاس: أربعة. لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحدّ. و هو قريب، لكن قول الباقر عليه السّلام أقوى. و يؤيّده أنّ الفرقة جمع أقلّه ثلاثة، و الطائفة بعضها، فيكون واحدا. فمعنى الطائفة: النفس الّتي من شأنها أن تكون حافّة حول الشي ء. و يدلّ

ص: 476


1- أي: همزة: رأفة.

عليه أيضا قوله تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (1) فإنّ هذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجمع.

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ إذ الغالب أنّ المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح، و المسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإنّ المشاكلة علّة للألفة و التضامّ، و المخالفة سبب للنفرة و الافتراق.

و كان حقّ المقابلة أن يقال: و الزانية لا تنكح إلّا من هو زان أو مشرك، لكنّ المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهنّ، لأنّ الآية نزلت في ضعفة المهاجرين، لمّا همّوا أن يتزوّجوا بغايا يكرين أنفسهنّ، لينفقن عليهم من أكسابهنّ على عادة الجاهليّة، و لذلك قدّم الزاني.

و معنى الجملة الاولى: وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف، بل في الزواني. و معنى الثانية: وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفّاء، بل للزناة. و بينهما فرق.

و قال في الجامع: «و إنّما قدّمت الزانية على الزاني في الأولى، لأنّ الآية مسوقة لعقوبتهما على جنايتهما، و المرأة منها منشأ الجناية، و هي الأصل و المادّة في ذلك. ثمّ قدّم الزاني عليها في الثاني، لأنّ الآية مسوقة لذكر النكاح، و الرجل هو الأصل فيه و المخاطب، و منه مبدأ الطلب» (2).

و عن ابن عبّاس و ابن عمر و مجاهد و قتادة و الزهري: أنّ رجلا من المسلمين استأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يتزوّج أمّ مهزول، و هي امرأة كانت تسافح و لها راية على بابها تعرف بها، فنزلت هذه الآية.

و المراد بها النهي و إن كان ظاهرها الخبر، و يؤيّده ما روي عن أبي جعفر و أبي .

ص: 477


1- الحجرات: 9.
2- جوامع الجامع 2: 136.

عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشهورين بالزنا، فنهى اللّه عن أولئك الرجال و النساء، و الناس اليوم على تلك المنزلة، فمن شهر بشي ء من ذلك، و أقيم عليه الحدّ، فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته».

و لا يجوز أن تحمل الآية على ظاهر الخبر، لأنّا نجد الزاني يتزوّج غير الزانية.

وَ حُرِّمَ ذلِكَ نكاح المشهورات بالزنا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لأنّه تشبّه بالفسّاق، و تعرّض للتهمة، و تسبّب لسوء المقالة و الطعن في النسب، و غير ذلك من المفاسد، و لذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم مبالغة.

و قيل: الحرمة على ظاهرها. و قيل: الحكم مخصوص بالسبب الّذي ورد فيه.

و قيل: منسوخ بقوله: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (1) فإنّه يتناول المسافحات. و يؤيّده

أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن ذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أوّله سفاح، و آخره نكاح، و الحرام لا يحرّم الحلال».

و قيل: المراد بالنكاح الوطء. و قوله: «ذلك» إشارة إلى الزنا.

[سورة النور [24]: الآيات 4 الى 5]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [4] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5]

و لمّا تقدّم ذكر حدّ الزنا عقّبه سبحانه بذكر حدّ القاذف بالزنا، فقال: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يقذفون العفائف من النساء بالزنا و الفجور ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على صحّة ما رموهنّ به من الزنا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون في مجلس واحد غير متفرّقين و متّفقين على أنّهم شاهدوهنّ يفعلن ذلك كالميل في المكحلة فَاجْلِدُوهُمْ

ص: 478


1- النور: 32.

ثَمانِينَ جَلْدَةً سواء كانوا أحرارا أو عبيدا، رجالا أو نساء، لعموم اللفظ. و التنصيف في العبد إنّما جاز في الزنا للنصوص.

وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ما لم يتب، لدلالة الاستثناء عليه بعد وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ نهى سبحانه عن قبول شهادة القاذف على التأبيد، و حكم عليهم بالفسق.

و اعلم أنّ نظم هذه الآية يقتضي أن تكون هذه الجمل الثلاث بأجمعها جزاء للشرط. فيكون التقدير: من قذف المحصنات فاجلدوهم و ردّوا شهادتهم و فسّقوهم، أي: فاجمعوا لهم الجلد و ردّ الشهادة و التفسيق. ثمّ استثنى من ذلك بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن القذف مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا أعمالهم، بأن استمرّوا على التوبة. و في هذا دلالة على أنّ بمجرّد التوبة لا تقبل الشهادة، بل لا بدّ و أن يحصل للتائب ملكة راسخة في النفس.

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علّة للاستثناء، أي: يغفر لهم فلا يجلدون، و لا تردّ شهادتهم و لا يفسّقون. و الأبد اسم لزمان طويل انتهى أو لم ينته. فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، سواء حدّ أو لم يحدّ، عند أئمّة الهدى عليهم السّلام و ابن عبّاس. و هو مذهب الشافعي.

و اعلم أنّ حدّ القذف حقّ لازم يتوقّف إقامته على المطالبة، و لا يسقط بالتوبة، إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده، و رضاه جزء من التوبة. و حدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا، و التخطئة إن كان صادقا، فلا تقبل شهادته بدون ذلك.

[سورة النور [24]: الآيات 6 الى 10]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ

شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [6] وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ [7] وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [8] وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ

ص: 479

كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [9] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [10]

روي: أنّه لمّا نزلت آية القذف قام عاصم بن عديّ الأنصاري و قال: يا رسول اللّه إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى، جلد ثمانين جلدة و ردّت شهادته و فسّق، و إن ضربه بالسيف قتل به، و إن سكت سكت على غيظ، و إلى أن يجي ء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته و مضى. قال: كذلك أنزلت يا عاصم. فخرج فلم يصل إلى منزله حتّى استقبله هلال بن أميّة يسترجع. فقال: ما وراءك؟ فقال: شرّ وجدت على بطن امرأتي خولة شريك بن سحماء. فقال: هذا و اللّه سؤالي، فرجعا. فأخبر عاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعث إليها. فقال: ما يقول زوجك؟ فقالت: لا أدري أ لغيرة أدركته، أم بخلا على الطعام؟ و كان شريك نزيلهم. فنزلت:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ

بالزنا وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون لهم على صحّة ما قالوا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ هذا بدل من «شهداء» أو صفة لهم على أن «إلّا» بمعنى: غير فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي: فالواجب شهادة أحدهم، أو فعليهم شهادة أحدهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ نصب على المصدر بتقدير: يشهد. و لا يجوز انتصابه ب «شهادة أحدهم» لأنّ المصدر لا ينصب مصدرا. و قد رفعه حمزة و الكسائي و حفص على أنّه خبر «شهادة».

بِاللَّهِ متعلّق ب «شهادات» لأنّها أقرب. و قيل: ب «شهادة» لتقدّمها. إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي: فيما رماها به من الزنا. و أصله: على أنّه، فحذف الجارّ و كسرت «إنّ»، و علّق العامل عنه باللام تأكيدا.

وَ الْخامِسَةُ أي: الشهادة الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ في الرمي. و قرأ يعقوب و نافع بالتخفيف في «أن» و رفع اللعنة.

و توضيح المعنى: أنّ الرجل يقول أربع مرّات مرّة بعد اخرى: أشهد باللّه أنّي لمن

ص: 480

الصادقين فيما رميتها به من الفجور. ثمّ يقول في المرّة الخامسة: لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا.

و هذا لعان الرجل، و به سقط حدّ القذف عنه، و حصلت الفرقة بينهما- فرقة فسخ عندنا و عند الشافعي، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا»،

و بتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة- و نفي الولد عنه. و ثبت حدّ الزنا على المرأة إلّا بالشهادة، لقوله:

وَ يَدْرَؤُا و يسقط عَنْهَا الْعَذابَ أي: حدّ الزنا أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ بأن تقول أربع مرّات مرّة بعد اخرى: أشهد باللّه أنّه لمن الكاذبين فيما رماني به.

وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ في ذلك. و رفع الخامسة بالابتداء، و ما بعدها الخبر. أو بالعطف على «أن تشهد». و نصبها حفص عطفا على «أربع».

و قرأ نافع: أن غضب اللّه، بتخفيف النون، و كسر الضاد، و فتح الباء، و رفع الهاء من اسم اللّه تعالى. و الباقون: بتشديد النون، و نصب الباء، و فتح الضاد، و جرّ الهاء.

و تخصيص الملاعنة بغضب اللّه للتغليظ عليها، لأنّها هي أصل الفجور بإطماعها الرجل، و لذلك كانت مقدّمة في آية الجلد كما مرّ.

و إذا وقع اللعان بينهما على النهج المذكور فرّق الحاكم بينهما، و لا تحلّ له أبدا، و كان عليها العدّة من وقت اللعان.

روي أن بعد نزول آية اللعان أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هلالا و خولة باللعان، فلاعنها، ففرّق بينهما.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ جواب «لو لا» محذوف، أي: لفضحكم و عاجلكم بالعقوبة. و تركه دالّ على أمر عظيم بحيث لا يكتنه. و شرائط اللعان و الأحكام المتفرّعة عليه مذكورة في كتب الفقه.

ص: 481

[سورة النور [24]: الآيات 11 الى 16]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [11] لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ [12] لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [13] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [14] إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [15]

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [16]

روى الزهري عن عروة بن الزبير و سعيد بن المسيّب و غيرهما: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها. فأقرع بينهنّ في غزوة بني المصطلق، فخرج فيها سهم عائشة، فخرجت مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لمّا نزلوا منزلا من منازلهم خرجت عائشة لقضاء حاجة ثمّ عادت إلى الرحل، فلمست صدرها

ص: 482

فإذا عقد من جزع (1) ظفار قد انقطع، فرجعت، و حمل هودجها على بعيرها ظنّا منهم أنّها فيه، فلمّا عادت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا، فجلست كي يرجع إليها أحد. و كان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلمّا وصل إلى ذلك الموضع وجدهم قد رحلوا و عرفها، فأناخ بعيره حتّى ركبته و هو يقوده حتّى أتى الجيش، و قد نزلوا في وقت الظهيرة، فاتّهمت به. فنزلت:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ بأبلغ ما يكون من الكذب. و أصله الإفك، و هو الصرف، لأنّه قول مأفوك عن وجهه. و المعنى: بالكذب العظيم الّذي قلب فيه الأمر عن وجهه. و المراد ما أفك به على عائشة. عُصْبَةٌ مِنْكُمْ جماعة منكم. و هي من العشرة إلى الأربعين. و كذلك العصابة. يقال: اعصوصبوا، أي: اجتمعوا. و هم: عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين، و زيد بن رفاعة، و حسّان بن ثابت، و مسطح بن أثاثة، و حمنة بنت جحش، و من ساعدهم. و هي خبر «إنّ».

و قوله: لا تَحْسَبُوهُ مستأنف، أي: لا تحسبوا غمّ الإفك شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاكتسابكم به الثواب العظيم، و ظهور كرامتكم على اللّه بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم و تعظيم شأنكم، و تهويل الوعيد لمن تكلّم في ذلك و سمع به فلم تمجّه أذناه، و الثناء على من ظنّ بكم خيرا. و تضمّنت كلّ واحدة منها مسألة و فائدة بيّنة، و حكما شرعيّا، مستقلّة بما هو تعظيم شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تسلية له، و تنزيه لعائشة، و تطهير ذيلها. و الخطاب لعائشة و صفوان، لأنّهما المقصودان بالإفك، و لمن ساءه ذلك من المؤمنين، و خاصّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصّا به.

ص: 483


1- في هامش النسخة الخطّية: «الجزع بالفتح الخرز اليماني، الواحدة جزعة. ظفار بوزن قطام، هي اسم مدينة. منه».

وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ تحمّل معظمه. و قرأ يعقوب بالضمّ (1). و هو لغة فيه.

مِنْهُمْ من الخائضين. و هو ابن أبيّ، لأنّ معظم الشرّ كان منه، فإنّه الّذي كان يشيع ذلك بين الناس، لما روي: أنّ صفوان مرّ بهودجها عليه و هو في ملأ من قومه، فقال: من هذه؟

فقالوا: عائشة. فقال: و اللّه ما نجت منه و لا نجا منها. ثمّ قال: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتّى أصبحت، ثمّ جاء يقودها. و قيل: هو و حسّان و مسطح، فإنّهما شايعاه بالتصريح به.

و على هذا «الّذي» بمعنى: الّذين.

لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة أو في الدنيا، بأن جلدوا، و صار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق، و حسّان أعمى و أشلّ اليدين، و مسطح مكفوف البصر.

لَوْ لا هلّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ حين سمعتم هذا الإفك من القائلين له ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ أي: بالّذين هم كأنفسهم من المؤمنين و المؤمنات خَيْراً فإنّ المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنّها جرت على جماعتهم. و هذا كقوله: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ (2)، وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (3).

و إنّما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة، و عن الضمير إلى الظاهر، مبالغة في التوبيخ، و إشعارا بأنّ الإيمان يقتضي ظنّ الخير بالمؤمنين، و الكفّ عن الطعن فيهم و ذبّ الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم.

و إنّما جاز الفصل بين «لو لا» و فعله بالظرف لأنّه منزّل منزلته، من حيث إنّه لا ينفكّ عنه، و لذلك يتّسع فيه ما لا يتّسع في غيره. و فائدة تقديمه على الفعل هنا، بيان أنّه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أوّل ما سمعوا بالإفك عن التكلّم به، فلمّا كان ذكر

ص: 484


1- أي: كبره.
2- النور: 61.
3- الحجرات: 11.

الوقت أهمّ وجب التقديم.

وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي: هلّا قالوا: هذا القول كذب ظاهر، تصريحا ببراءة ساحة إخوانهم المؤمنين منهم، و تكذيبا لقاذفيهم، كما يقول المستيقن المطّلع على الحال. و الخطاب لمن سمعه فسكت و لم يصدّق و لم يكذّب.

و قيل: هو خطاب لمن أشاعه. و المعنى: هلّا إذا سمعتم هذا الحديث ظننتم بها ما تظنّون بأنفسكم لو خلوتم بها. و ذلك لأنّها كانت أمّ المؤمنين، و من خلا بأمّه فإنّه لا يطمع فيها و هي لا تطمع فيه. و هذا من الأدب الحسن الّذي قلّ القائم به و الحافظ له.

و «لو لا» هذه للتحضيض. و كذا في قوله: لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ أي: هلّا جاؤا على ما قالوه من القذف بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يشهدون بما قالوه فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فحين لم يأتوا بالشهداء فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أي: في حكمه هُمُ الْكاذِبُونَ هذا الكلام التحضيضي أيضا من جملة المقول تقريرا لكونه كذبا، فإنّ ما لا حجّة عليه مكذّب في حكم اللّه، و لذلك رتّب الحدّ عليه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ «لولا» هذه لامتناع الشي ء لوجود غيره. و المعنى: لو لا أنّي قضيت أن أتفضّل عليكم في الدنيا بأنواع النعم الّتي من جملتها الإمهال للتوبة، و أن أترحّم عليكم في الآخرة بالعفو و المغفرة المقدّرين لكم لَمَسَّكُمْ عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ خضتم من حديث الإفك. يقال: أفاض في الحديث و اندفع و هضب (1) و خاض. عَذابٌ عَظِيمٌ شديد لا انقطاع له، بحيث يستحقر دونه اللوم و الجلد.

ثمّ ذكر الوقت الّذي كان يصيبهم العذاب فيه لو لا فضله، فقال: إِذْ ظرف ل «مسّكم» أو «أفضتم» تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ يأخذه و يرويه بعضكم عن بعض بالسؤال

ص: 485


1- هضب القوم في الحديث: أفاضوا فيه، و ارتفعت أصواتهم.

عنه. يقال: تلقّى القول و تلقّفه و تلقّنه.

وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ أي: و تقولون كلاما مختصّا بالأفواه، بلا مساعدة من القلوب ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لأنّه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم، كقوله:

يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (1).

وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً سهلا لا تبعة له وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر و استجرار العذاب. وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام مترتّبة، و علّق بها مسّ العذاب العظيم: تلقّي الإفك بألسنتهم، و التحدّث بما لا علم لهم به، و استصغار هم لذلك و هو عند اللّه عظيم.

ثمّ زاد سبحانه في الإنكار عليهم، فقال: وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ هلّا قلتم حين سمعتم ذلك الحديث ما يَكُونُ لَنا ما ينبغي و ما يصحّ لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا بهذا القول المخصوص أو نوعه، فإنّ قذف آحاد الناس محرّم شرعا، فضلا عن تعرّض زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حرمة الحريمة.

سُبْحانَكَ ربّنا، تعجّب ممّن يقول ذلك. و أصله أن يذكر عند كلّ متعجّب تنزيها للّه تعالى من أن يصعب عليه مثله، ثمّ كثر استعماله لكلّ متعجّب. أو تنزيه للّه من أن تكون حرمة نبيّه فاجرة، فإنّ فجورها ينفّر الناس عنه، و هذا مخلّ بالبعثة و التبليغ، بخلاف كفرها، فإنّ الأنبياء بعثوا ليدعوهم، و هم يعظّمونهم و ينقادون لما أرسلوا له، و يميلون إليهم، و يقبلون عليهم بالقلب، فيجب أن لا يكون معهم ما ينفّرهم عنهم، و لم يكن الكفر عندهم ممّا ينفرّهم، و أمّا الكشخنة (2)- و العياذ باللّه- فمن أعظم المنفّرات.

و السبحلة تكون تقريرا لما قبلها، و تمهيدا لقوله: هذا الّذي قالوه بُهْتانٌ كذب و زور عَظِيمٌ عقابه، لعظمة المبهوت عليه، فإنّ حقارة الذنوب و عظمها باعتبار متعلّقاتها.

ص: 486


1- آل عمران: 167.
2- الكشخنة: الدياثة. و الكشخان: الّذي امرأته فاجرة.

[سورة النور [24]: الآيات 17 الى 20]

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [17] وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [18] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [19] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [20]

ثمّ وعظ سبحانه الّذين خاضوا في الإفك، فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ كراهة أن تعودوا، أو في أن تعودوا، من قولك: وعظت فلانا في كذا فتركه أَبَداً ما دمتم أحياء مكلّفين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان يمنع عنه. و فيه تهييج لهم، و تذكير بما يوجب ترك العود، و يصرف عن القبيح.

وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الأوامر و النواهي الدالّة على الشرائع الجميلة، و الآداب الحسنة، و المواعظ الشافية، كي تتّعظوا و تتأدّبوا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بدواعي الحكم في الأحوال كلّها حَكِيمٌ في تدابيره، فلا يجوّز الكشخنة على نبيّه، و لا يقرّره عليها.

ثمّ هدّد القاذفين فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أن تنتشر، أي:

يشيعونها عن قصد و إرادة و محبّة لها فِي الَّذِينَ آمَنُوا بأن ينسبوها إليهم، و يقذفوهم بها لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بإقامة الحدّ عليهم وَ الْآخِرَةِ بعذاب السعير وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما في القلوب من الأسرار و الضمائر وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك. يعني: أنّه قد علم محبّة من أحبّ الإشاعة، و ما يستحقّ عليه من شدّة العقاب.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضرب عبد اللّه بن أبيّ و حسّانا و مسطحا. و قعد صفوان لحسّان فضربه ضربة بالسيف، و كفّ بصره.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ كرّر المنّة بترك المعاجلة بالعقاب الدالّة على

ص: 487

عظم الجريمة، و عطف قوله: وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ على حصول فضله و رحمته عليهم، و حذف الجواب- أعني: لعاجلكم بالعقوبة- للمبالغة العظيمة في ذلك.

[سورة النور [24]: آية 21]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [21]

و لمّا بيّن سبحانه أحكام قذف المحصنات و عظم أمره، و عقّب ذلك بأحكام قذف الزوجات، ثمّ عظّم بعد ذلك قذف أزواج النبيّ اللاتي هنّ أمّهات المؤمنين، نهى عن متابعة الشيطان المستلزمة لارتكاب صنوف الفحشاء و أنواع المنكرات، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ آثاره و طرقه الّتي تؤدّي إلى مرضاته، و من جملتها إشاعة الفاحشة و غيرها. و قرأ نافع و البزّي و أبو عمرو و أبو بكر و حمزة بسكونها (1).

وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ هذا بيان لعلّة النهي عن اتّباعه. و الفاحشة و الفحشاء: ما أفرط قبحه. و المنكر: ما أنكره الشرع. أو ما تنكره النفوس، فتنفر عنه و لا ترتضيه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بتوفيق التوبة الماحية للذنوب، و شرع الحدود المكفّرة لها ما زَكى ما طهر من دنسها مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً آخر الدهر وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يطهّر مَنْ يَشاءُ من الذنوب، بحمله على التوبة و قبولها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهم عَلِيمٌ بنيّاتهم و إخلاصهم.

ص: 488


1- أي: بسكون طاء: خطوات.

و في الآية دلالة على أنّ اللّه سبحانه يريد من خلقه خلاف ما يريده الشيطان، لأنّه إذا ذمّ سبحانه الأمر بالفحشاء و المنكر، فخالقهما و مريدهما أولى بالذمّ، تعالى و تقدّس عن ذلك، و فيها دلالة على أنّ أحدا لا يصلح إلّا بلطفه.

[سورة النور [24]: آية 22]

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [22]

روي: أنّ مسطحا كان ابن خالة أبي بكر، و كان فقيرا من فقراء المهاجرين و من جملة البدريّين، و كان أبو بكر ينفق عليه، فلمّا خاض في الإفك الى أن لا ينفق عليه بعد، فنزلت:

وَ لا يَأْتَلِ افتعال من الأليّة بمعنى القسم، أي: لا يحلف. و قيل: من الألو.

يقال: ما ألوت جهدا، إذا لم تقصّر. فالمعنى: لا يقصّر.

أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ أولوا التفضّل و الإحسان وَ السَّعَةِ في المال أَنْ يُؤْتُوا على أن لا يؤتوا، أو في أن يأتوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صفات لموصوف واحد، أي:

ناسا جامعين لها، لأنّ الكلام فيمن كان كذلك، و هو مسطح. أو لموصوفات أقيمت مقامها، فيكون أعمّ.

وَ لْيَعْفُوا ما فرط منهم وَ لْيَصْفَحُوا بالإغماض عنه أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ معاصيكم جزاء على عفوكم و صفحكم و إحسانكم إلى من أساء إليكم. و قد أجمعت الأمّة على أنّ المغفرة إنّما تكون متفرّعة على الإيمان المستمرّ إلى حين الموت.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مع كمال قدرته، فتخلّقوا بأخلاقه.

ص: 489

و روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأها على أبي بكر، فقال أبو بكر: بلى أحبّ أن يغفر لي، و رجع إلى مسطح بالإنفاق.

و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدّقوا على من تكلّم بشي ء من الإفك، و لا يواسوهم.

[سورة النور [24]: الآيات 23 الى 26]

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [23] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [24] يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [25] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [26]

ثمّ أكّد النهي عن قذف المحصنات بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ العفائف الْغافِلاتِ عمّا قذفن به الْمُؤْمِناتِ باللّه و برسوله، استباحة لعرضهنّ، و طعنا في الرسول و المؤمنين، كابن أبيّ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ابعدوا من رحمة اللّه في الدارين. و قيل: عذّبوا في الدنيا بالجلد و ردّ الشهادة، و في الآخرة بعذاب النار.

وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم.

و قيل: هو حكم كلّ قاذف ما لم يتب. و قيل: مخصوص بمن قذف أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لذلك قال ابن عبّاس: لا توبة له. و لو فتّشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ

ص: 490

ممّا نزل في إفك عائشة.

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ظرف لما في «لهم» من معنى الاستقرار، لا للعذاب، لأنّه موصوف. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء، للتقدّم و الفصل. أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعترفون بها بإنطاق اللّه إيّاها بغير اختيارهم، أو بظهور آثاره عليها.

و في ذلك مزيد تهويل للعذاب. و أمّا قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ (1) فإنّه يجوز أن تخرج الألسنة و يختم على الأفواه. أو يكون الختم على الأفواه في حال شهادة الأيدي و الأرجل. أو يكون الختم في وقت و الإنطاق في وقت آخر، فإنّ أوقات الساعة متطاولة.

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ جزاءهم الواجب الّذي مستحقّوه و أهله وَ يَعْلَمُونَ لمعاينتهم الأمر أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الثابت بذاته الظاهر ألوهيّته، لا يشاركه في ذلك غيره، و لا يقدر على الثواب و العقاب سواه. أو ذو الحقّ البيّن، أي:

العادل الظاهر عدله، و من كان هذا شأنه لا ظلم في حكمه، و ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة.

ثمّ دلّ على تبرئة أهل بيت الرسالة من الإفك بقوله: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ النساء الخبيثات للرجال الخبيثين وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ و الرجال الخبيثون للنساء الخبيثات وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ و النساء الطيّبات للرجال الطيّبين وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ و الرجال الطيّبون للنساء الطيّبات، فإنّ الخبائث يتزوّجن الخباث، و بالعكس للجنسيّة. و كذلك أهل الطيّب.

و قيل: المراد الأقوال الخبيثات و الأقوال الطيّبات. فالمعنى: الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال، و الخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم، و الطيّبات من الكلم للطيّبين من الرجال، و الطيّبون من الرجال للطيّبات من الكلم.

ص: 491


1- يس: 65.

و القول الأوّل مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. قالا: «هي مثل قوله:

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً (1). إنّ أناسا همّوا أن يتزوّجوا منهنّ، فنهاهم اللّه عن ذلك، و كره ذلك لهم».

أُولئِكَ يعني: أهل بيت النبيّ، أو الرسول و عائشة و صفوان مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ يقول الآفكون فيهم، إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه السّلام، و لم يقرّر عليها. و قيل:

«أولئك» إشارة إلى الطيّبين، و الضمير في «يقولون» للخبيثين، أي: الطيّبون مبرّؤن ممّا يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. لَهُمْ لهؤلاء الطيّبين من الرجال و النساء مَغْفِرَةٌ من اللّه لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ عطيّة من اللّه كريمة، يعني: الجنّة.

و في الآيات مبالغات كثيرة في أمر الإفك، فإنّه سبحانه أوجز في ذلك و أشبع، و فصّل و أجمل، و أكّد و كرّر، و جاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلّا ما هو دونه في الفظاعة.

و عن ابن عبّاس: أنّه كان بالبصرة يوم عرفة، و كان يسأل عن تفسير القرآن، حتّى سئل عن هذه الآيات، فقال: من أذنب ذنبا ثمّ تاب منه قبلت توبته، إلّا من خاض في أمر عائشة.

و هذه منه مبالغة و تعظيم لأمر الإفك. و لقد برّأ اللّه أربعة بأربعة: برّأ يوسف عليه السّلام بلسان الشاهد: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها (2). و برّأ موسى عليه السّلام من قول اليهود بالحجر الّذي

ذهب بثوبه. و برّأ مريم عليهما السّلام بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ» (3).

و برّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات.

ص: 492


1- النور: 3.
2- يوسف: 26.
3- مريم: 30.

فانظر كم بينها و بين تبرئة أولئك؟ و ما ذاك إلّا لإظهار علوّ منزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و التنبيه على إنافة محلّ سيّد ولد آدم، و خيرة الأوّلين و الآخرين، و حجّة اللّه على العالمين، و من أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تقدّم قدمه، و إحرازه لقصب السبق دون كلّ سابق، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك، و ليتأمّل كيف غضب اللّه له في حرمته؟! و كيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه؟!

[سورة النور [24]: الآيات 27 الى 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [27] فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [28] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ [29]

و لمّا كان النظر جاسوس الفواحش و مقدّمتها، نهى اللّه تعالى العباد عن الدخول في البيوت من غير إذن أهلها، لئلّا ينظروا إلى سواكنها، و تميل قلوبهم إليهنّ، فقال عقيب آيات الإفك:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الّتي لا تسكنونها، فإنّ الآجر و المعير أيضا لا يدخلان إلّا بإذن حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام، أي: حتّى تستعلموا

و تستكشفوا الحال. من: آنس الشي ء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، فإنّ المستأذن مستعلم للحال، مستكشف أنّه هل يراد دخوله أو يؤذن له؟ و منه قولهم:

استأنست فلم أر أحدا، أي: استعلمت و تعرّفت. أو من الاستئناس الّذي هو خلاف

ص: 493

الاستيحاش، فإنّ المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له، فإذا أذن له استأنس.

و يجوز أن يكون معناه: حتّى تتعرّفوا هل ثمّ إنسان؟ من الإنس.

عن أبي أيّوب الأنصاري: قلنا: «يا رسول اللّه ما الاستئناس؟ قال: يتكلّم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و يتنحنح، يؤذن أهل البيت».

وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها بأن تقولوا: السلام عليكم أ أدخل؟ و عنه عليه السّلام: «التسليم أن يقول: السلام عليكم أ أدخل؟ ثلاث مرّات، فإن أذن له دخل و إلّا رجع».

روي: أنّ رجلا استأذن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتنحنح، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلّميه، و قولي له: قل: السلام عليكم أ أدخل؟ فسمعها الرجل فقال ذلك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أدخل».

و لا يخفى أنّ الاستئذان للدخول واجب، و التسليم مستحبّ إجماعا منّا.

ذلِكُمْ أي: الاستئذان، أو التسليم خَيْرٌ لَكُمْ من أن تدخلوا بغتة. أو من تحيّة الجاهليّة، فإنّه كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال: حيّيتم صباحا أو حيّيتم مساء و دخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف.

و روي: أنّ رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أ أستأذن على أمّي؟ قال: نعم. قال: لا خادم لها غيري أ أستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال عليه السّلام: أ تحبّ أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال:

فاستأذن».

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ متعلّق بمحذوف، أي: أنزل عليكم هذا أو قيل لكم هذا، إرادة أن تذكروا و تتّعظوا و تعملوا بما هو أصلح لكم.

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً يأذن لكم فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ حتّى يأتي من يأذن لكم، فإنّ المانع من الدخول ليس الاطّلاع على العورات فقط، بل و على ما يخفيه الناس عادة عن غيرهم، مع أنّ التصرّف في ملك الغير بغير إذنه حرام.

وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا فانصرفوا و لا تلحّوا، لما فيه من سلامة الصدور و البعد من الريبة. و استثني من ذلك ما إذا عرض في دار حريق، أو هجوم سارق،

ص: 494

أو ظهور منكر يجب إنكاره. هُوَ أي: الرجوع أَزْكى لَكُمْ من الإلحاح و الوقوف على الباب منتظرين، لأنّ هذا ممّا يجلب الكراهة. أو أنفع لدينكم و دنياكم. و إذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة، وجب الانتهاء عن كلّ ما يؤدّي إليها، من قرع الباب بعنف، و التصحيح بصاحب الدار، و أمثال ذلك.

ثمّ أوعد المخاطبين بدخول بيت الغير بغير إذنه، فقال: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيعلم ما تأتون و ما تذرون ممّا خوطبتم به، فيجازيكم عليه.

ثمّ استثنى من البيوت الّتي يجب على داخلها الاستئذان ما ليس بمسكون منها، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالربط و الخانات، و حوانيت البيّاعين، و الأرحية و الحمّامات فِيها مَتاعٌ استمتاع لَكُمْ كالاستكنان من الحرّ و البرد، و إيواء الرحال و الأمتعة، و الجلوس للمعاملة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ هذا وعيد لمن دخل مدخلا لفساد، أو تطلّع على عورات.

[سورة النور [24]: الآيات 30 الى 31]

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ

بِما يَصْنَعُونَ [30] وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ

ص: 495

يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [31]

ثمّ بيّن سبحانه ما يحلّ من النظر و ما لا يحلّ منه، فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ عمّا لا يحلّ لهم النظر إليه وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إلّا على أزواجهم، أو ما ملكت أيمانهم. و لمّا كان المستثنى منه كالشاذّ النادر- بخلاف الغضّ- لأنّ أطلقه، و قيّد الغضّ بحرف التبعيض، دلالة على أنّ أمر النظر أوسع من حفظ الفرج، لأنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ و صدورهنّ و أعضادهنّ و ثديهنّ و أسوقهنّ و أقدامهنّ، و غير ذلك ما عدا فروجهنّ، و أمّا أمر الفروج فمضيّق على الأزواج أو ما ملكت أيمانهم.

و عن ابن زيد: كلّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو الزنا إلّا هذا، فإنّه أراد به الاستتار.

و أيضا

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «حفظ الفروج عبارة عن التحفّظ من الزنا في جميع القرآن إلّا هنا، فإنّ المراد به الستر حتّى لا ينظر إليها أحد، فلا يحلّ للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه، و لا للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها».

و إنّما قدّم الغضّ على حفظ الفرج لكونه داعيا إلى الجماع.

ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أنفع لهم أو أطهر، لما فيه من البعد عن الريبة، و القرب إلى التقوى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى عليه إجالة أبصارهم، و استعمال حواسّهم، و تحريك جوارحهم و ما يقصدون بها، و حفظ فروجهم، و غضّ أبصارهم، فليكونوا على حذر منه في كلّ حركة و سكون.

ثمّ أمر النساء بذلك كما أمر الرجال، فقال: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ فلا ينظرن إلى ما لا يحلّ لهنّ النظر إليه من الرجال و النساء.

عن أمّ سلمة قالت: «كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده ميمونة، فأقبل ابن أمّ مكتوم-

ص: 496

و ذلك بعد أن أمرنا بالحجاب- فدخل علينا، فقال: احتجبا. فقلنا: يا رسول اللّه! أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أ فعمياوان أنتما؟ أ لستما تبصرانه؟».

وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ بالتستّر. و قيل: بالتحفّظ عن الزنا. و إنّما قدّم الغضّ على حفظ الفرج، لأنّ النظر بريد الزنا و رائد الفجور، و البلوى فيه و أشدّ و أكثر، و لا يكاد يقدر على الاحتراس منه.

وَ لا يُبْدِينَ و لا يظهرن زِينَتَهُنَ أي: الباطنة، كالخلخال و السوار (1) و القرط، و جميع ما هو مباشر للبدن، فضلا عن مواضعها الّتي هي الذراع و الساق و العضد و العنق و الرأس و الصدر و الأذن. فنهى عن إبداء الزين نفسها، ليعلم أنّ النظر إذا لم يحلّ إليها لملابستها تلك المواضع، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكّنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، لمن لا يحلّ أن تبدي له. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب، فإنّ في سترها حرجا.

و قيل: المراد بالزينة مواقعها على حذف المضاف. و الأصحّ أنّ المراد نفس الزينة، إذ لو أبيح النظر إليها لكان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها.

و قيل: المستثنى هو الوجه و الكفّان، لأنّها ليست بعورة. و الصحيح أنّ هذا في الصلاة لا في النظر، فإنّ بدن الحرّة عورة لا يحلّ لغير الزوج و المحرم النظر إلى شي ء منها إلّا لضرورة، كالمعالجة و تحمّل الشهادة.

وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ أي: و ليسدلن أقناعهنّ (2) على أعناقهنّ و صدورهنّ، لتسترا عن نظر الأجانب. و قرأ نافع و عاصم و أبو عمرو و هشام بضمّ الجيم على الأصل، فإنّ كسرها لأجل مناسبة الياء.

ص: 497


1- السوار: حلية كالطوق تلبسه المرأة في زندها أو معصمها. و القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.
2- جمع القناع، و هو ما تغطّي به المرأة رأسها

وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ كرّره لبيان من يحلّ له الإبداء و من لا يحلّ له. إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ فإنّهم المقصودون بالزينة، لأنّ ذلك يحرّك شهواتهم، و يدعو إلى المباشرة المقصودة، و لهذا لهم أن ينظروا إلى جميع البدن حتّى الفرج.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعن السلتاء من النساء و المرهاء. فالسلتاء: هي الّتي لا تختضب.

و المرهاء: هي الّتي لا تكتحل. و لعن المسوّفة و المفسّلة. فالمسوّفة: هي الّتي إذا دعاها زوجها إلى المباشرة قالت: سوف أفعل. و المفسّلة: هي الّتي إذا دعاها قالت: أنا حائض، و هي غير حائض.

أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ و هم الّذين يحرم عليهم نكاحهنّ. و يدخل أجداد البعولة فيه و إن علوا، و أحفادهم و إن سفلوا. و إنّما يجوز إبداء الزينة الباطنة لهم لكثرة مداخلتهم عليهنّ، و احتياجهنّ إلى مداخلتهم، و قلّة توقّع الفتنة من قبلهم، لما في الطباع من النفرة عن مماسّة القرائب. و لهم أن ينظروا منهنّ ما يبدو عند المهنة و الخدمة.

و إنّما لم يذكر الأعمام و الأخوال، لأنّهم في معنى الإخوان. و سئل عن الشعبي لم لم يذكر اللّه الأعمام و الأخوال؟ قال: لئلّا يصفوهنّ لأبنائهم. و هذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهنّ في التستّر.

أَوْ نِسائِهِنَ يعني: المؤمنات، فإنّ الكافرات لا يتحرّجن عن وصفهنّ للرجال. فيكون الوصف كالنظر، إلّا إذا كنّ إماء، لعموم قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ أي: من الإماء خاصّة. فلا يجوز أن ينظر العبد إلى مولاته. و هو قول أكثر أصحابنا، و عليه الفتوى. و به قال أبو حنيفة. حتّى إنّه قال: لا يحلّ إمساك الخصيان و لا استخدامهم و بيعهم و شراؤهم. و ينبغي أن يحمل ذلك على بيعهم لأجل إدخالهم على النساء، لأنّ ما كان لأجل المحرّم فهو محرّم، كبيع العنب ليعمل خمرا.

أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي: غير أولي الحاجة إلى النساء.

ص: 498

و هم الشيوخ الهمّ (1) الّذين ليس لهم حاجة إلى النساء. و هو مرويّ عن الكاظم عليه السّلام.

و قيل:

هم البله الّذين يتّبعون الناس لفضل طعامهم، و لا يعرفون شيئا من أمور النساء. و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام

و ابن عبّاس.

و قيل: منهم الممسوحون و المجبوبون و الخصيان. و الأصحّ أنّهم كالرجال الأجانب، للرواية.

و قرأ ابن عامر و أبو بكر: غير بالنصب على الحال.

أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم تمييزهم. من الظهور بمعنى الاطّلاع. أو لعدم بلوغهم حدّ الشهوة. من الظهور بمعنى الغلبة. فإذا

بلغوا مبلغ الشهوة فحكمهم حكم الرجال. و الطفل جنس وضع موضع الجمع، اكتفاء بدلالة الوصف.

روي عن قتادة: أنّ في الجاهليّة كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع قعقعة (2) الخلخال فيها، فنهاهنّ عن ذلك بقوله تعالى: وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ ليتقعقع خلخالها فيعلم أنّها ذات خلخال، فإنّ ذلك يورث ميلا إلى الرجال.

و هو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة، و أدلّ على المنع من رفع الصوت.

وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إذ لا يكاد يخلو أحد منكم من تفريط، سيّما في الكفّ عن الشهوات. و الخطاب للمؤمنين و المؤمنات، فغلّب التذكير.

و قيل: توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهليّة، فإنّه و إن جبّ بالإسلام، لكن يجب الندم عليه و العزم على الكفّ عنه كلّما يتذكّر.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بسعادة الدارين. و قرأ ابن عامر: «أيّه المؤمنون» و في الزخرف: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ (3) و في الرحمن: أَيُّهَ الثَّقَلانِ (4) بضمّ الهاء في الوصل

ص: 499


1- الهمّ: الشيخ الفاني.
2- أي: صوته.
3- الزخرف: 49.
4- الرحمن: 31.

في الثلاثة. و وجهه: أنّها كانت مفتوحة، لوقوعها قبل الألف، فلمّا سقطت الألف لالتقاء الساكنين، اتبعت حركتها حركة ما قبلها. و الباقون بفتحها. و وقف أبو عمرو الكسائي عليهنّ بالألف. و وقف الباقون بغير الألف.

و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أيّها الناس توبوا إلى ربّكم، فإنّي أتوب إلى اللّه في كلّ يوم مائة مرّة». أورده مسلم في الصحيح (1).

و المراد بتوبته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الانقطاع إلى اللّه تعالى.

[سورة النور [24]: آية 32]

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [32]

و لمّا نهى سبحانه عمّا عسى أن يفضي إلى السفاح المخلّ بالنصب، المقتضي للألفة و حسن التربية و مزيد الشفقة، المؤدّية إلى بقاء النوع، بعد الزجر عنه مبالغة فيه، عقّبه بأمر النكاح الحافظ له، فقال خطابا للأولياء و السادة:

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ جمع الأيّم. مقلوب أيايم، كيتامى و يتايم. و هو العزب، ذكرا كان أو أنثى. يقال: آم و آمت و تأيّما إذا لم يتزوّجا، بكرين كانا أو ثيّبين.

فالمعنى: زوّجوا من تأيّم منكم.

وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ أي: زوّجوا المستورين من عبيدكم و جواريكم. خصّص الصالحين لأنّ إحصان دينهم و الاهتمام بشأنهم أهمّ. و قيل: المراد الصالحون للنكاح و القيام بحقوقه. و لا يخفى أنّ هذين التفسيرين يوجبان التخصيص.

و الأولى أنّه ترغيب في الصلاح، لأنّهم إذا علموا ذلك رغبوا في الصلاح. أو من باب

ص: 500


1- صحيح مسلم 4: 2075 ح 42.

تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه، فإنّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام.

و هذا الأمر للندب عندنا، للروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام. و قد يكون للوجوب، خوفا من العنت. و فيه فضل كثير، و ثواب جزيل. و ورد فيه أخبار كثيرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام. منها:

«من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، و هي النكاح».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كان له ما يتزوّج فلم يتزوّج، فليس منّا».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا تزوّج أحدكم عجّ (1) شيطانه: يا ويله عصم ابن آدم منّي ثلثي دينه».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا عياض لا تزوّجنّ عجوزا و لا عاقرا، فإنّي مكاثر بكم».

و قال عليه السّلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، و أحصن للفرج، و من لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء» (2).

و روى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: لقيني ابن عبّاس في حجّة حجّها، فقال هل تزوّجت؟ قلت لا. قال: فتزوّج. قال: و لقيني في العام المقبل فقال: هل تزوّجت؟ قلت: لا. فقال: اذهب فتزوّج، فإنّ خير هذه الأمّة كان أكثرها نساء. يعني:

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد للقيت اللّه بزوجة، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «شراركم عزّابكم».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما يمنع المرء أن يتّخذ أهلا؟ لعلّ اللّه يرزقه نسمة يثقل الأرض ب: لا إله إلّا اللّه».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما بني في الإسلام أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من التزويج. و لركعتان يصلّيهما.

ص: 501


1- أي: صاح و رفع صوته.
2- الوجاء: رضّ البيضتين و دقّها، فهو كالخصاء. شبّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصوم بوجاء البيضتين، لأنّه يكسر الشهوة.

متزوّج أفضل من رجل عزب يقوم ليله و يصوم نهاره».

و عن أبي امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه، و أمّنت عليه ملائكته: الّذي يحصر نفسه و لا يتزوّج و لا يتسرّى، لئلّا يولد له. و الرجل يتشبّه بالنساء، و قد خلقه اللّه ذكرا. و المرأة تتشبّه بالرجال، و قد خلقها اللّه أنثى. و مضلّل الناس. يريد:

الّذي يهزأ بهم. يقول للمسكين: هلمّ أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شي ء. و يقول للمكفوف: اتّق الدابّة، و ليس بين يديه شي ء. و الرجل يسأل عن دار القوم، فيضلّله».

و عن الصادق عليه السّلام: «من ترك التزوّج مخافة العيلة فقد أساء الظنّ بربّه عزّ و جلّ».

لقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ لا سعة لهم للتزويج يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ردّ لما عسى أن يمنع من النكاح، أي: لا يمنعنّ فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة، فإنّ في فضل اللّه غنية عن المال، فإنّه غاد و رائح.

أو وعد من اللّه تعالى بالإغناء عند التزويج، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اطلبوا الغنى في هذه الآية».

لكنّه مشروط بالمشيئة، كقوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ (1). و يؤيّد هذا الشرط أنّ هذه قضيّة مهملة في قوّة الجزئيّة، أي: قد يكون إذا كانوا فقراء يغنهم اللّه، لا كلّما كانوا فقراء يغنهم اللّه. فلا يرد: كان فلان غنيّا فأفقره النكاح.

وَ اللَّهُ واسِعٌ ذو سعة، لا تنفد نعمته، إذ لا تنتهي قدرته عَلِيمٌ يبسط الرزق و يقدر، على ما تقتضيه الحكمة.

[سورة النور [24]: الآيات 33 الى 34]

وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ

ص: 502


1- التوبة: 28.

مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [33] وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [34]

ثمّ بيّن حكم من لا يجد أسباب النكاح من المهر و النفقة، فقال: وَ لْيَسْتَعْفِفِ و ليجتهد في العفّة و منع النفس، كأنّ المستعفف طالب من نفسه العفاف و حاملها عليه الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أسبابه. و يجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال، أو بالوجدان التمكّن منه. حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيجدوا ما يتزوّجون به.

و فيه ترجية للمستعفّين، و تقدمة وعد بالتفضّل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك و تأميله لطفا لهم في استعفافهم، و ربطا على قلوبهم.

و لا يرد: لزوم التناقض بين هذه الآية و الّتي قبلها، فإنّه أمر في الأولى بالتزويج مع الفقر، و في الثانية أمر بالصبر عنه مع الفقر.

لأنّا نقول: إنّ الأولى وردت للنهي عن ردّ المؤمن لأجل فقره، و ترك تزويج المرأة لأجل فقرها. و الثانية وردت لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح حذرا من تعبه حالة الزواج. فلا تناقض حينئذ. على أنّا نقول: إنّهما مهملتان فلا تتناقضان.

و ما أحسن ما رتّب هذه الأوامر! حيث أمر أوّلا بما يعصم من الفتنة، و يبعّد من مواقعة المعصية، و هو غضّ البصر. ثمّ بالنكاح الّذي يحصّن به الدين، و يقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام. ثمّ بالحمل على النفس الأمّارة بالسوء. ثمّ تزهيدها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه.

ص: 503

ثمّ أمر الموالي بكتابة عبادهم و إمائهم، الّتي يوجب الاستقلال بالزواج و الاستبداد بالنكاح، فقال: وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ يطلبون المكاتبة، كالعتاب و المعاتبة. و هو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا إلى كذا. و إن قال: فإن عجزت فأنت رقّ، فهي مشروطة. و حكم الأولى أنّه يتحرّر منه بقدر ما يؤدّي. و حكم الثانية أنّه رقّ ما بقي عليه شي ء .و اشتقاقه من الكتاب، لأنّ السيّد كتب على نفسه عتقه إذا أدّى، فإنّ معنى «كاتبتك» كتبت لك على نفسي أن تعتق منّي إذا وفيت بالمال، و كتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال، و كتبت عليّ العتق. أو لأنّه ممّا يكتب لتأجيله.

أو من الكتب بمعنى الجمع، لأنّ العوض فيه يكون منجّما بنجوم يضمّ بعضها إلى بعض غالبا.

مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عبدا كان أو أمة. و الموصول بصلته مبتدأ خبره فَكاتِبُوهُمْ كقولك: زيد فاضربه، أي: زيد مقول في حقّه: اضربه. أو منصوب بفعل يفسّره «فكاتبوهم». كقولك: زيدا فاضربه. و دخلت الفاء لتضمّن معنى الشرط. و الأمر للندب عندنا و عند العامّة. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أمانة و قدرة على أداء مال الكتابة بالاكتساب. و قد روي مثله (1) مرفوعا. و لو لم يكن العبد أمينا و لا كسبوا فهي مباحة.

روي: أنّ عبد سلمان قال له: كاتبني؟ قال: أ لك مال؟ قال: لا. قال: تطعمني أوساخ الناس، فأبى عليه.

و قيل: صلاحا في الدين، إذ الكافر لا خير فيه، و لأنّه يعطى من الزكاة، و الكافر لا يعطى منها. و لا يرد: المؤلّف قلبه، إذ إعطاؤه لغرض التقوّي به على الجهاد. و المراد بالعلم هنا الظنّ المتاخم للعلم.

وَ آتُوهُمْ أيّها الموالي مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ مال الزكاة الّذي فرض اللّه

ص: 504


1- أي: ورد تفسير الخبر بالأمانة و القدرة على الأداء في خبر مرفوع.

عليكم، أو غيره، فإنّه يستحبّ للمولى إعانة المولّى عليه من مال نفسه و قيل: المراد: ضعوا عنهم شيئا من نجومهم. فقيل: الربع. و قيل: الثلث. و قيل:

ليس بمقدّر.

و قال الفقهاء: السيّد إن وجب عليه الزكاة وجب عليه إعانته. و هذا قول أكثر أصحابنا. و قال بعضهم: يجب الإيتاء مطلقا. و به قال الشافعي. و قيل: يستحبّ مطلقا.

و به قال أبو حنيفة.

و قيل: هذا الأمر غير مختصّ بالموالي، بل عامّ لكافّة المسلمين بإعانة المكاتبين و إعطائهم سهمهم من الزكاة.

و منشأ الأقوال من أصلين:

الأوّل: هل الأمر للوجوب أو الاستحباب؟ قيل: بالأوّل، لأنّه حقيقة فيه، كما قرّر في الأصول، و به قال الأكثر. و قيل: بالثاني، لأصالة البراءة، و لأنّ أصل الكتابة ليس بواجب، فلا يجب تابعه.

الثاني: هل المراد بمال اللّه هو الزكاة، لأنّه المتبادر إلى الفهم، أو المال مطلقا، لأنّ اللّه تعالى هو المالك لجميع الأشياء، و نحن المنفقون؟ قيل: بالأوّل. و قيل: بالثاني.

و اعلم أنّ من قال بوجوب الإعانة مطلقا قال: إنّ الأمر هنا للوجوب، و إنّ المال ليس هو الزكاة. و من قال بالاستحباب مطلقا قال: إنّ الأمر للندب، و المال ليس هو الزكاة. و من قال: إنّ المال هو الزكاة و الأمر للوجوب، فذلك ظاهر. و من قال: إنّ المال هو الزكاة و إنّ الأمر للندب، جعل تخصيص المكاتبة أولى، لأنّه إعانة له على فكّ رقبته.

و الحقّ أنّ الأمر حقيقة في الوجوب، فيكون مشروطا بوجوب حصول المال، و هو الزكاة، لأنّ شرط الوجوب واجب. و أمّا إذا لم تجب الزكاة بوجه استحبّ الإعطاء، لأنّه تعاون على البرّ، فيدخل تحت قوله: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى (1). و لأنّه فكّ

ص: 505


1- المائدة: 2.

رقبة، فيدخل تحت قوله: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (1).

و قيل: المراد أنّه يستحبّ للموالي الإنفاق على المكاتبين بعد أن يؤدّوا و يعتقوا.

و روي: أنّه كان لعبد اللّه بن أبيّ ستّ جوار:

معاذة، و مسيكة، و اميمة، و عمرة، و أروى، و قتيلة، يكرههنّ على الزنا، و ضرب عليهنّ الضرائب، فشكت معاذة و مسيكة إلى رسول اللّه، فنزلت: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ لا تجبروا إماءكم. جمع الفتاة، و هي الأمة. عَلَى الْبِغاءِ على الزنا. و هو مصدر البغيّ. إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً تعفّفا.

و اعلم أنّه لمّا كان الإكراه على الزنا لا يمكن إلّا مع إرادة التحصّن، كان آمر الطيّعة المواتية للبغاء لا يسمّى مكرها، و لا أمره إكراها، فقيّد الأمر بالإكراه بإرادة التحصّن. فلا يرد: أن الشرطيّة منافية للمعنى المقصود، و هو النهي عن الإكراه على الزنا مطلقا.

و في إيثار «إن» على «إذا» فائدة جليلة، و هي الإشارة إلى أنّهنّ راغبات في الزنا مائلات إلى البغاء. فكأنّه قيل لتوبيخهنّ و ردعهنّ و تعييرهنّ: هؤلاء الفتيات مائلات إلى الفجور، راغبات إلى الفواحش، فإن كان في بعضهنّ إرادة التحصّن- و ذلك نادر شاذّ- فلا تكرهوهنّ على البغاء.

لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَ و من يجبرهنّ على الزنا من سادتهنّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ لهنّ لا للمكره، لأنّ الوزر عليه لا عليهنّ رَحِيمٌ بهنّ، فإنّ الإكراه رافع للإثم، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رفع عن أمّتي: الخطأ، و النسيان، و ما استكرهوا عليه».

و في ذكر المغفرة هاهنا، و هي في الأصل تكون فرعا على وجود الذنب، مبالغة في تعظيم حوب (2) البغاء، حتّى كان المكرهات أيضا لا تخلو عن التبعات. و يجوز أن يكون الإكراه دون ما اعتبرته الشريعة، من الإكراه بقتل، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب

ص: 506


1- البلد: 13- 14.
2- الحوب و الحوب: الإثم.

العضو، من ضرب عنيف أو

غيره، حتّى يسلمن من الإثم، فربما قصرن عن الحدّ الّذي يعذرن، فيكنّ آثمات.

و قيل: المراد إنّ اللّه غفور للمكرهين إنّ تابوا، و إلّا على وجه التفضّل. و الأوّل أوفق للظاهر.

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ يعني: الآيات الّتي بيّنت في هذه السورة، و أوضحت فيها الأحكام و الحدود. و قرأ ابن عامر و حفص هنا و في الطلاق (1) بالكسر، من: بيّن بمعنى: تبيّن، لأنّها واضحات تصدّقها الكتب المتقدّمة و العقول السليمة. أو من:

بيّن المتعدّي، لأنّها بيّنت الأحكام و الحدود. جعل الفعل لها على المجاز.

وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ و مثلا من أمثال من قبلكم، أي: قصّة عجيبة مثل قصصهم. و هي قصّة عائشة، فإنّها كقصّة يوسف و مريم.

وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ و ما وعظ به في تلك الآيات لأهل التقوى، من قوله: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (2). لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ (3). يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً (4). و تخصيص المتّقين لأنّهم المنتفعون بها.

و قيل: المراد بالآيات القرآن، و الصفات المذكورة صفاته.

[سورة النور [24]: الآيات 35 الى 38]

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي

ص: 507


1- الطلاق: 11.
2- النور: 2، 12، 17.
3- النور: 2، 12، 17.
4- النور: 2، 12، 17.

اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [35] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ [36] رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ [37] لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [38]

و لمّا بيّن تعالى وجوه المنافع و المصالح و علم الشرائع فيما سبق، بيّن بعده أنّ منافع أهل السماوات و الأرض منه، فقال:

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: ذو نورهما. أو منوّرهما لوجوه انتفاع العباد بالكواكب، و ما يفيض عنها من الأنوار، أو بالملائكة و الأنبياء، فإنّ النور في الأصل كيفيّة تدركها الباصرة أوّلا، و بواسطتها سائر المبصرات، كالكيفيّة الفائضة من النيّرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما. و هو بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على اللّه تعالى إلّا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم وجود. أو على تجوّز، إمّا بمعنى: منوّر السموات و الأرض. أو مدبّرهما. من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم، لأنّهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما، فإنّ النور ظاهر بذاته مظهر لغيره. و أصل الظهور هو الوجود، كما أنّ أصل الخفاء هو العدم. و اللّه سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه.

أو الّذي به تدرك أو يدرك أهل السماوات و الأرض، من حيث إنّه يطلق على الباصرة، لتعلّقها به، أو لمشاركتها له في توقّف الإدراك عليه، ثمّ على البصيرة، لأنّها أقوى إدراكا، فإنّها تدرك نفسها و غيرها من الكلّيّات و الجزئيّات، الموجودات

ص: 508

و المعدومات، و تغوص في بواطنها، و تتصرّف فيها بالتركيب و التحليل. و هذه الإدراكات ليست لذاتها، و إلّا لما فارقتها، فهي إذن من سبب يفيضها عليها، و هو اللّه سبحانه ابتداء، أو بتوسّط من الملائكة و الأنبياء، و لذلك سمّوا أنوارا.

و يقرب

منه قول ابن عبّاس: معناه: هادي من فيها إلى ما فيه مصالحهم، كالنور الّذي به يهتدى إلى المطلوب، فهم بنوره يهتدون. و إضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه، أو لاشتمالهما على الأنوار الحسّيّة و العقليّة.

و قيل: اللّه مزيّن السماوات بالملائكة، و مزيّن الأرض بالأنبياء و العلماء.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أن معناه: «إنّ اللّه سبحانه نشر الحقّ في السماوات و الأرض حتى يستضيئا بنور الحقّ، فأضاءت بنوره، أو نوّر قلوب أهلها به».

و قال صاحب التبيان (1): معناه: اللّه مدلول السماوات و الأرض، فإنّ كلّ شي ء من بدائعه و صنائعه يدلّ دلالة واضحة على وجوب وجوده و علمه و حكمته.

ففي كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد

و إضافة النور إلى السماوات و الأرض لأحد معنيين: إمّا لأنّ المراد أهلهما، و أنّهم يستضيئون بنوره. و إمّا للدلالة على عموم إضاءته، و شيوع إشراقه.

مَثَلُ نُورِهِ صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة و الإشراق، و إضافته إلى ضميره سبحانه و تعالى دليل على أنّ إطلاق النور عليه لم يكن على ظاهره.

كَمِشْكاةٍ كصفة مشكاة. و هي الكوّة في الجدار غير النافذة. و قرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة. فِيها مِصْباحٌ سراج ضخم ثاقب. و قيل: المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل. و المصباح: الفتيلة المشتعلة.

الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ في قنديل من الزجاج. و فائدة اختصاص الزجاجة بالذكر أنّه أصفى الجواهر، فالمصباح فيه أضوأ.

ص: 509


1- لم نجده فيه.

الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ مضي ء متلألئ، كالزهرة و المشتري و المرّيخ و سهيل- و نحوها من الكواكب المشهورة- في مزيد صفائه و زهرته. منسوب إلى الدرّ، لفرط ابيضاضه و نوره و نقائه. أو فعيل، كمريق (1)، من الدرء، فإنّه يدفع الظلام بضوئه و لمعانه، إلّا أنّه قلبت همزته ياء. و يدلّ عليه قراءة حمزة و أبي بكر على الأصل. و قرأ أبو عمرو و الكسائي: درّي ء، كشرّيب.

يُوقَدُ هذا المصباح مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ أي: ابتداء توقّد المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه، بأن رويت ذبالته (2) بزيتها. و في إيهام الشجرة، و وصفها بالبركة، ثمّ إبدال الزيتونة عنها، تفخيم لشأنها. و قيل: بارك فيها سبعون نبيّا منهم إبراهيم عليه السّلام. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون، فتداووا به، فإنّه مصحّة من الباسور» (3).

و قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي: توقد بالتأنيث، على أنّ الفاعل الزجاجة أو المشكاة. و الباقون بالتذكير على حذف المضاف، إلّا أنّ أبا عمرو و ابن كثير قرءا: توقّد على وزن تفعّل، و الفاعل المصباح على القراءتين.

لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ أي: ليست من شجرة تطلع عليها الشمس في وقت شروقها و غروبها فقط، بل تقع عليها طول النهار، كالّتي تكون على قلّة أو صحراء واسعة، فإنّ ثمرتها تكون أنضج و زيتها أصفى. أو لا نابتة في شرق المعمورة و غربها، بل في وسطها و هو الشام، فإنّ زيتونه أجود الزيتون. أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها، أو في مفيأة (4) تغيب عنها دائما فتتركها نيئا، بل الظلّ و الشمس يتناوبان

ص: 510


1- المريق: العصفر. و هع صبغ أصفر اللون.
2- الذبالة: الفتيلة.
3- الباسور: علّة في المقعدة يسبّبها تمدّد عروق المقعدة، و يحدث فيها نزف دم. و جمعه بواسير.
4- المفيأة: المكان الذي لا تطلع عليه الشمس.

عليها، و ذلك أجود لكمامها، و أصفى لدهنها. و في الحديث: «لا خير في شجرة و لا نبات في مفيأة، و لا خير فيهما في مضحى».

يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ تصبه أي: يكاد يضي ء بنفسه من غير نار، لتلألئه و فرط وبيصه (1) نُورٌ عَلى نُورٍ نور متضاعف، فإنّ نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، و زهرة القنديل، و ضبط المشكاة لأشعّته، فتناصر فيه المشكاة و الزجاجة و المصباح و الزيت، حتّى لم تبق ممّا يقوّي النور و يزيده إشراقا و يمدّه بإضاءة بقيّة. و ذلك أنّ المصباح إذا كان في مكان متضائق كالمشكاة، كان أضوأ له و أجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع، فإنّ الضوء ينبثّ فيه و ينتشر، و القنديل أعون شي ء على زيادة الإنارة، و كذلك الزيت و صفاؤه.

و قد ذكر في معنى التمثيل وجوه:

الأوّل: أنّه تمثيل للهدى الّذي دلّ عليه الآيات المبيّنات، في جلاء مدلولها و ظهور ما تضمّنته من الهدى، بالمشكاة المنعوتة.

و الثاني: تشبيه للهدى، من حيث إنّه محفوف بظلمات أوهام الناس و خيالاتهم، بالمصباح. و إنّما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه.

و الثالث: تمثيل لما نوّر اللّه به قلب المؤمن من المعارف و العلوم بنور المشكاة المنبثّ فيها من مصباحها. و يؤيّده قراءة أبيّ: مثل نور المؤمن.

يعني: النور مثل ضربه اللّه للمؤمن. فالمشكاة نفسه، و الزجاجة صدره، و المصباح الإيمان، و القرآن في قلبه يوقد من شجرة مباركة، هي الإخلاص للّه وحده لا شريك له.

فهي خضراء ناعمة، كشجرة التفّ بها الشجر، فلا يصيبها إحراق الشمس و آفتها و أذيّتها على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت، و لا إذا غربت. و كذلك المؤمن قد احترز من أن يصيبه شي ء من الفتر (2). فهو بين أربع خلل: إن أعطي شكر، و إن ابتلي صبر، و إن حكم

ص: 511


1- الوبيص: البريق و اللمعان.
2- الفتر: الضعف و الفتور.

عدل، و إن قال صدق. فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي بين القبور. نور على نور، كلامه نور، و علمه نور، و مدخله نور، و مخرجه نور، و مصيره إلى الجنّة نور إلى يوم القيامة.

و الرابع: أنّه مثّل القرآن في قلب المؤمن. فكما أنّ هذا المصباح يستضاء به و هو كما هو لا ينقص، فكذلك القرآن يهتدى به و يعمل به. فالمصباح هو القرآن، و الزجاجة قلب المؤمن، و المشكاة لسانه و فمه، و الشجرة المباركة شجرة الوحي: «يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ» يكاد حجج القرآن تتّضح و إن لم تقرأ. و قيل: يكاد حجج اللّه على خلقه تضي ء لمن تفكّر فيها و تدبّرها و لو لم ينزل القرآن. «نُورٌ عَلى نُورٍ» يعني: أنّ القرآن نور مع سائر الأدلّة قبله، فازدادوا به نورا على نور.

و الخامس: أنّه تمثيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته، لما روي عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «نحن المشكاة فيها، و المصباح محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يهدي اللّه لولايتنا من أحبّ».

و في كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه بالإسناد عن عيسى بن راشد، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ قال: «نور العلم إلى صدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزجاجة صدر عليّ عليه السّلام صار علم النبيّ إلى صدر عليّ عليه السّلام، علّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ قال: نور العلم. لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ قال: لا يهوديّة و

لا نصرانيّة. يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قال: يكاد العالم من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل. نُورٌ عَلى نُورٍ إمام مؤيّد بنور العلم و الحكمة في أثر إمام من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة» (1).

فهؤلاء الأوصياء الّذين جعلهم اللّه خلفاء في أرضه، و حججه على خلقه، لا تخلو

ص: 512


1- التوحيد: 158.

الأرض في كلّ عصر من واحد منهم.

و تحقيق هذه الجملة يقتضي أنّ الشجرة المباركة المذكورة هي دوحة التقى و الرضوان، و عترة الهدى و الإيمان، شجرة أصلها النبوّة، و فرعها الإمامة، و أغصانها التنزيل، و أوراقها التأويل، و خدمها جبرائيل و ميكائيل.

و السادس: أنّ عند أكثر المفسّرين أنّ النور الّذي أضافه اللّه سبحانه إلى نفسه و ما شبّهه به نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فكأنّه قال: اللّه منوّر السماوات و الأرض بنور وجود محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بدنه الأطهر كالمشكاة، و قلبه المصباح، و الزجاجة صدره، ثمّ شبّهه بالكوكب الدرّيّ.

ثمّ رجع إلى قلبه المشبّه بالمصباح، فقال: يوقد هذا المصباح من شجرة مباركة يعني:

إبراهيم عليه السّلام، لأنّ أكثر الأنبياء عليهم السّلام من صلبه. و شجرة الوحي لا شرقيّة و لا غربيّة، أي: لا نصرانيّة و لا يهوديّة، لأنّ النصارى تصلّي إلى الشرق، و اليهود إلى الغرب. يكاد أعلام نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تتبيّن للناس قبل أن يتكلّم و ترى معجزته، كما أنّ ذلك الزيت يكاد زيتها يضي ء و لو لم تمسسه نار.

السابع: أنّ المشكاة إبراهيم، و الزجاجة إسماعيل، و المصباح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما سمّي سراجا منيرا في موضع آخر (1). «مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ» إبراهيم، لأنّ أكثر الأنبياء من صلبه. «يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ» أي: يكاد محاسن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تظهر قبل أن يوحى إليه. «نُورٌ عَلى نُورٍ» أي: نبيّ من نسل نبيّ.

و الثامن: أنّ المشكاة عبد المطلّب، و الزجاجة عبد اللّه، و المصباح هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

«لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ» بل مكّيّة، لأنّ مكّة وسط الدنيا. «نُورٌ عَلى نُورٍ» مبالغة في كثرة الأشعّة و الأنوار الإلهيّة في ذاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و التاسع: تمثيل لما منح اللّه تعالى به عباده من القوى الدرّاكة الخمس المترتبّة،

ص: 513


1- الأحزاب: 46.

الّتي منوط بها المعاش و المعاد. و هي: الحسّاسة الّتي تدرك بها المحسوسات بالحواسّ الخمس. و الخياليّة الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات، لتعرضها على القوّة العقليّة متى شاءت. و العاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلّيّة. و المفكّرة الّتي تؤلّف المعقولات لتستنتج منها ما لم تعلم. و القوّة القدسيّة الّتي تتجلّى فيها لوائح الغيب و أسرار الملكوت، المختصّة بالأنبياء و الأولياء، المعنيّة بقوله: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (1).

بالأشياء (2) الخمسة المذكورة في الآية، و هي: المشكاة، و الزجاجة، و المصباح، و الشجرة، و الزيت. فإنّ الحاسّة كالمشكاة، لأنّ محلّها كالكوى، و وجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها، و إضاءتها بالمعقولات لا بالذات. و الخياليّة كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب، و ضبطها للأنوار العقليّة، و إنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات. و العاقلة كالمصباح، لإضاءتها بالإدراكات الكلّيّة، و المعارف الإلهيّة.

و المفكّرة كالشجرة المباركة، لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها، الزيتونة المثمرة بالزيت الّذي هو مادّة المصابيح، الّتي لا تكون شرقيّة و لا غربيّة، لتجرّدها عن اللواحق الجسمانيّة، أو لوقوعها بين الصور و المعاني، متصرّفة في القبيلين، منتفعة من الجانبين.

و القوّة القدسيّة كالزيت، فإنّها لصفائها و شدّة ذكائها تكاد تضي ء بالمعارف من غير تفكّر و لا تعلّم.

و العاشر: تمثيل للقوّة العقليّة في مراتبها بذلك، فإنّها في بدء أمرها خالية عن العلوم، مستعدّة لقبولها كالمشكاة. ثمّ تنتقش بالعلوم الضروريّة بتوسّط إحساس الجزئيّات، بحيث تتمكّن من تحصيل النظريّات، فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها

ص: 514


1- الشورى: 52.
2- متعلّق بقوله: تمثيل لما منح ...، في أوّل الفقرة السابقة. وضعناه في فقرة مستقلّة، لتسهيل الأمر على المطالع.

قابلة للأنوار. و ذلك التمكّن إن كان بفكر و اجتهاد فهو كالشجرة الزيتونة. و إن كان بالحدس فكالزيت. و إن كان بقوّة قدسيّة فكالّتي يكاد زيتها يضي ء، لأنّها تكاد تعلم، و لو لم تتّصل بملك الوحي و الإلهام الّذي مثله النار، من حيث إنّ العقول تشتعل عنه. ثمّ إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكّن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نورا على نور.

يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ يوفّق لهذا النور الثاقب الباهر الغالب مَنْ يَشاءُ من الّذين يتدبّرون فيه، و ينظرون بعيون عقولهم، و ينصفون من أنفسهم، و لم يذهبوا عن الجادّة الموصلة إليه يمينا و شمالا، لا الّذين لم يتدبّروا فيه، بل يعاندونه، فإنّهم لا يستحقّون التوفيق و اللطف، بل يستوجبون الخذلان و التخلية، فإنّهم كالعمي الّذين سواء عليهم جنح الليل الدامس و ضحوة النهار الشامس.

وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا للمعقول من المحسوس، توضيحا و بيانا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا، ظاهرا كان أو خفيّا. و فيه وعد و وعيد لمن تدبّرها، و لمن لم يكترث بها.

فِي بُيُوتٍ متعلّق بما قبله، أي: كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بعض بيوت. فيكون تقييدا للممثّل به بما يكون تحبيرا (1) و مبالغة فيه، فإنّ قناديل المساجد تكون أعظم.

و البيوت هي المساجد، لأنّ الصفة الآتية تلائمها. و قيل: المساجد الثلاثة (2).

و التنكير للتعظيم. و لا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة، إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة و كثرة.

ص: 515


1- تحبير الكلام: تحسينه و تزيينه.
2- هي: المسجد الحرام، و المسجد الأقصى، و مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: المراد بيوت الأنبياء. و روي ذلك مرفوعا. و هو أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ هذه الآية سئل أيّ بيوت هذه؟ «فقال: بيوت الأنبياء. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه هذا البيت منها؟

و أشار إلى بيت عليّ عليه السّلام و فاطمة. فقال: نعم منها و أفضلها».

أو متعلّق بما بعده، و هو «يسبّح». و فيها تكرير، كما يقال: زيد في الدار جالس فيها. و لا يجوز أن يكون «في بيوت» معمول «يذكر» لأنّ ما بعد «أن» لا يعمل فيما قبله.

أو بمحذوف، مثل: سبّحوا في بيوت.

أَذِنَ اللَّهُ أي: أمر اللّه أَنْ تُرْفَعَ بالبناء، كقوله: رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (1).

و قوله: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ (2) فإنّ الرفع هنا بمعنى البناء. و عن ابن عبّاس: هي المساجد، أمر اللّه أن تبنى. أو المراد تعظيمها، و الرفع من قدرها، كما روي عن الحسن:

ما أمر اللّه أن ترفع بالبناء، و لكن بالتعظيم.

و قوله: وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أوفق له. و هو عامّ في كلّ ما يتضمّن ذكره، حتّى المذاكرة في أفعاله، و المباحثة في أحكامه. و عن ابن عبّاس: معناه أن يتلى فيها كتابه.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ ينزّهونه، أي: يصلّون له فيها بالغدوات و العشيّات. و الغدوّ مصدر أطلق للوقت، و لهذا حسن اقترانه بالآصال. و هو جمع أصيل، و هو العشيّ. و قرأ أبو بكر و ابن عامر: يسبّح بالفتح، على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني: له، فيها، بالغدوّ. و رفع رجال بما يدلّ عليه «يسبّح». كأنّه قيل:

من يسبّح؟ فقيل: رجال، أي: يسبّح له رجال.

لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ لا تشغلهم معاملة رابحة وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص، إن أريد به مطلق المعاوضة، أو بإفراد ما هو الأهمّ من قسمي التجارة، فإنّ الربح يتحقّق بالبيع و يتوقّع بالشراء. و قيل: المراد بالتجارة الشراء، فإنّه

ص: 516


1- النازعات: 28.
2- البقرة: 127.

أصلها و مبدؤها. و قيل: الجلب، لأنّه الغالب فيها، و منه يقال: تجر في كذا إذا جلبه. و فيه إيماء بأنّهم تجّار.

وَ إِقامِ الصَّلاةِ عوّض فيه الإضافة من التاء، المعوّضة عن العين، الساقطة بالإعلال وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ ما يجب إخراجه من المال للمستحقّين.

يَخافُونَ يَوْماً يعني: يوم القيامة مع ما هم عليه من الذكر و الطاعة تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ تضطرب و تتغيّر من الهول و الفزع و تشخص، كقوله: وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (1). أو تتقلّب أحوالها، فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه، و تبصر الأبصار ما لم تكن تبصر. أو تتقلّب القلوب من توقّع النجاة و خوف الهلاك، و الأبصار من أيّ ناحية يؤخذ بهم و يؤتى كتابهم. و قيل: تتقلّب القلوب ببلوغها الحناجر، و الأبصار بالعمى بعد الإبصار.

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلّق ب «يسبّح» أو «لا تلهيهم» أو «يخافون» أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنّة وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم، و لم تخطر ببالهم.

ثمّ قرّر الزيادة، و نبّه على كمال القدرة، و نفاذ المشيئة، و سعة الإحسان، فقال:

وَ اللَّهُ يَرْزُقُ يعطي مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير مجازاة على عمل، بل تفضّلا منه سبحانه، فإنّ الثواب لا يكون إلّا بحساب، لكونه على حسب الاستحقاق، و التفضّل يكون بغير حساب.

[سورة النور [24]: الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ

ص: 517


1- الأحزاب: 10.

[39] أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [40]

و بعد ذكر حال المؤمنين الأبرار، بيّن حال الكافرين الفجّار، فقال: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ أي: و الّذين كفروا حالهم على ضدّ حال الّذين آمنوا، فإنّ أعمالهم الّتي يحسبونها صالحة نافعة عند اللّه منجية لهم، يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب، و هو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة، فيظنّ أنّه ماء يسرب، أي: يجري. و القيعة بمعنى القاع. و هو الأرض المستوية. و قيل: جمع القاع، كجار و جيرة.

يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً أي: العطشان. و تخصيصه لتشبيه الكافر به في شدّة الخيبة عند الحاجة إليه. حَتَّى إِذا جاءَهُ إذا انتهى إلى ما توهّمه ماء أو موضعه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ممّا يظنّه و يرتجيه وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ عند عمله فجازاه على كفره. أو وجد زبانيته يأخذونه، فيعتلونه (1) إلى جهنّم، فيسقونه الحميم و الغسّاق. و هم الّذين قال اللّه فيهم: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (2). وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (3). وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (4).

فَوَفَّاهُ اللّه حِسابَهُ استعراضا أو مجازاة وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لا

ص: 518


1- عتله أي: جذبه و جرّه عنيفا. يقال: عتله إلى السجن، أي: دفعه بعنف.
2- الغاشية: 3.
3- الكهف: 104.
4- الفرقان: 23.

يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الجميع على أفعالهم في حالة واحدة. و سئل أمير المؤمنين عليه السّلام: كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: «كما يرزقهم في حالة واحدة».

ثمّ ذكر مثلا آخر لأعمال الكفّار، فقال عطفا على «كسراب»: أَوْ كَظُلُماتٍ و «أو» للتخيير، فإنّ أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، و لكونها خالية عن نور الحقّ كالظلمات المتراكمة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ عميق كثير الماء. منسوب إلى اللجّ، و هو معظم ماء البحر.

يَغْشاهُ يغشى البحر. يعني: يعلو ذلك البحر. مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي:

أمواج مترادفة متراكمة مِنْ فَوْقِهِ من فوق الموج الثاني سَحابٌ غطّى النجوم و حجب أنوارها. و الجملة صفة اخرى للبحر. فالظلمات: ظلمة من لجّ البحر، و ظلمة الأمواج، و ظلمة السحاب.

و يحتمل أن تكون «أو» للتنويع، فإنّ أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، و إن كانت قبيحة فكالظلمات. أو للتقسيم باعتبار وقتين، فإنّها كالظلمات في الدنيا، و كالسراب في الآخرة.

ظُلُماتٌ أي: هذه ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ و قرأ ابن كثير: ظلمات بالجرّ، على إبدالها من الأولى، أو

بإضافة السحاب إليها في رواية البزّيّ.

إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ الّتي هي أقرب ما يرى إليه. و الضمير للواقع في البحر و إن لم يجر ذكره، لدلالة المعنى عليه. و كذا الضميران في قوله: لَمْ يَكَدْ يَراها أي: لم يقرب أن يراها، فضلا أن يراها. و هذا مبالغة في عدم رؤية اليد، كقوله (1):

إذا غيّر النأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

ص: 519


1- لذي الرمّة. و ميّة اسم محبوبته. و النأي: البعد. و المعنى: إن العشّاق إذا ابتعدوا عن محبوبهم زالت محبّته عنهم، و أما أنا فلا يزول حبّها عن قلبي. و رسيس الحبّ و الهوى: بقيّته و أثره.

و خلاصة المعنى: أنّ الكافر كمن في هذه الظلمات، لأنّه من عمله و كلامه و اعتقاده متقلّب في ظلمات متراكمة.

و روي عن أبيّ أنّه قال: الكافر يتقلّب في خمس ظلمات: كلامه ظلمة، و عمله ظلمة، و مدخله ظلمة، و مخرجه ظلمة، و مصيره يوم القيامة إلى ظلمة، و هي النار.

ثمّ قال: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً و من لم يولّه نور توفيقه و عصمته و لطفه.

يعني: لم يوفّقه لأسباب الهداية في ظلمة الباطل، لفرط عناده، و توغّله في عتوّه و تمرّده.

فَما لَهُ مِنْ نُورٍ بخلاف الموفّق الّذي له نور على نور.

[سورة النور [24]: الآيات 41 الى 46]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ [41] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [42] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [43] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [44] وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ

ص: 520

عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [45]

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [46]

ثمّ ذكر سبحانه الآيات الّتي جعلها نورا للعقلاء العارفين باللّه و صفاته، فقال: أَ لَمْ تَرَ الخطاب للنبيّ، و المراد به جميع المكلّفين. و «رأى» بمعنى: علم، أي: ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين و الوثاقة بالوحي أو الاستدلال أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ ينزّه ذاته عن كلّ نقص و آفة مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: أهلهما. و إيراد «من» لتغليب العقلاء. أو المراد الملائكة و الثقلان بما يدلّ عليه من المقال أو دلالة حال.

وَ الطَّيْرُ عطف على «من». تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر و الدليل الباهر، و لذلك قيّدها بقوله: صَافَّاتٍ فإنّ إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجوّ صافّة- أي: باسطة- أجنحتها بما فيها من القبض و البسط، حجّة قاطعة على كمال قدرة الصانع و لطف تدبيره.

كُلٌ كلّ واحد ممّا ذكر، أو من الطير قَدْ عَلِمَ أي: علم اللّه صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ دعاءه و تنزيهه اختيارا أو طبعا، لقوله: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أو علم كلّ دعاء نفسه و صلاة نفسه، على تشبيه حاله في الدلالة على الحقّ و الميل إلى النفع، على وجه يخصّه، بحال من علم ذلك. مع أنّه لا يبعد أن يلهم اللّه تعالى الطير دعاء و تسبيحا، كما ألهمها علوما دقيقة في أسباب تعيّشها، لا يكاد يهتدي إليها العقلاء.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّه الخالق لهما، و لما فيهما من الذوات و الصفات و الأفعال، من حيث إنّها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ مرجع الجميع.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد. و منه البضاعة المزجاة الّتي يزجيها كلّ أحد لا يرضاها. و السحاب يكون واحدا كالعماء، و جمعا،

ص: 521

كالرباب جمع ربابة، بمعنى السحاب الأبيض. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بأن يكون قطعا رقيقة فيضمّ بعضها إلى بعض، فيجعل القطع المتفرّقة منه قطعة واحدة. و بهذا الاعتبار صحّ «بينه» و هو واحد، إذ المعنى: بين أجزائه. و قرأ نافع برواية ورش: يولّف غير مهموز.

ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما متراكبا بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فتوقه و مخارجه. جمع خلل، كجبال جمع جبل.

وَ يُنَزِّلُ مبتدأ مِنَ السَّماءِ أي: من الغمام، فإنّ كلّ ما علاك فهو سماء مِنْ جِبالٍ فِيها بعضها من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها، كما يقال: فلان يملك جبالا من ذهب مِنْ بَرَدٍ بيان للجبال. الأولى لابتداء الغاية، و الثانية للتبعيض، و الثالثة للتبيين.

و يجوز أن تكون الأوليان للابتداء، و الأخيرة للتبعيض، واقعة موقع المفعول.

و على الأوّل مفعول «ينزّل»: «من جبال». و على الثاني محذوف، أي: ينزّل البرد مبتدأ من السماء من جبال فيها من برد.

و قيل: المراد أنّ اللّه يخلق في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر، فينزّلها بقدر ما يشاء.

و المشهور بين أرباب العلوم العقليّة أنّ الأبخرة إذا تصاعدت، و لم تحلّلها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، و قوي البرد هناك اجتمع و صار سحابا. فإن لم يشتدّ البرد تقاطر مطرا. و إن اشتدّ، فإن وصل إلى الأجزاء البخاريّة قبل اجتماعها نزل ثلجا، و إلّا نزل بردا. و قد يبرد الهواء بردا مفرطا، فينقبض و ينعقد سحابا، و ينزل منه المطر أو الثلج. و كلّ ذلك لا بدّ و أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم، لقيام الدليل على أنّها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالّها و أوقاتها. و إليه أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ فيهلك زرعه و ماله وَ يَصْرِفُهُ و يصرف ضرره عَنْ مَنْ يَشاءُ فيكون إصابته نقمة، و صرفه نعمة.

ص: 522

يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يقرب ضوء برقه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة و شدّة اللمعان. و ذلك أقوى دليل على كمال قدرته، من حيث إنّه توليد للضدّ من الضدّ.

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ يصرفهما بالمعاقبة بينهما، أو بنقص أحدهما و زيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحرّ و البرد و الظلمة و النور، أو بما يعمّ ذلك.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما تقدّم ذكره من تسبيح من في السماوات و الأرض، و كلّ ما يطير بين السماء و الأرض، و دعائهم له، و ابتهالهم إليه. و أنّه سخّر السحاب التسخير الّذي وصفه، و ما يحدث فيه من أفعاله، حتّى ينزل المطر منه. و أنّه يقسّم رحمته بين خلقه، و يقبضها و يبسطها على ما تقتضيه حكمته. و يريهم البرق في السحاب الّذي يكاد يخطف أبصارهم ليحذروا، و ليتنبّهوا و يمتثلوا أمره. و أنّه يعاقب بين الليل و النهار، و يخالف بينهما بالطول و القصر.

لَعِبْرَةً لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم، و كمال قدرته، و إحاطة علمه، و نفاذ مشيئته، و تنزّهه عن الحاجة و ما يفضي إليها لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي البصائر و العقول، أي: لمن يرجع إلى بصيرة، فنظر و فكّر، و تبصّر و تدبّر.

وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ حيوان يدبّ على الأرض. و قرأ حمزة و الكسائي: خالق كلّ دابّة، بالإضافة. مِنْ ماءٍ هو جزء مادّته. أو ماء مخصوص هو النطفة، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكلّ، إذ من الحيوانات ما يتولّد لا عن النطفة.

و قيل: «من ماء» متعلّق ب «دابّة» و ليس صلة ل «خلق».

و تنكير الماء ليدلّ على أنّه خلق كلّ دابّة من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابّة. أو خلقها من ماء مخصوص، و هو النطفة. و لمّا كان اسم الدابّة موقعا على المميّز و غير المميّز، غلّب المميّز، فأعطى ما وراءه حكمه، كأنّ الدوابّ كلّهم مميّزون.

فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيّة و الدود. فذكر «من» و ذكّر الضمير

ص: 523

للتغليب. و كذا سمّي الزحف مشيا على الاستعارة، كما يقال: فلان لا يتمشّى أمره. أو للمشاكلة، لأنّه ذكر مع الماشين.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس و الطير وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم و الوحش. و يندرج فيه ماله أكثر من أربع، كالعناكب، فإنّ اعتمادها إذا مشت على أربع. و ذكر الأجناس الثلاثة على الترتيب المذكور، لتقديم ما هو أعرف في القدرة.

يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ ممّا ذكر و ممّا لم يذكر، من الحيوان و غيره، بسيطا و مركّبا، على اختلاف الصور و الأعضاء و الهيئات و الحركات و الطبائع و القوى و الأفعال، مع اتّحاد العنصر بمقتضى مشيئته إِنَّ اللَّهَ عَلى

كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء.

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ للحقائق بأنواع الدلائل وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق للنظر فيها، و التدبّر لمعانيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو دين الإسلام، الموصل إلى درك الحقّ و الفوز بالجنّة.

[سورة النور [24]: الآيات 47 الى 50]

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [47] وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [48] وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [49] أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [50]

روي: أنّ بشر المنافق خاصم يهوديّا في أرض، فجعل اليهوديّ يجرّه إلى رسول

ص: 524

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المنافق يدعوه إلى كعب بن الأشرف و يقول: إنّ محمّدا يحيف علينا.

و حكى البلخي أنّه كانت بين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و عثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ عليه السّلام، فخرجت فيها أحجار، و أراد ردّها بالعيب فلم يأخذها. فقال: بيني و بينك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له، فلا تحاكمه إليه. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و في رواية اخرى: أنّ المغيرة بن وائل كان بينه و بين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خصومة في ماء و أرض، فقال المغيرة: أمّا محمّد فلست آتية، و لا أحاكم إليه، فإنّه يبغضني، و أنا أخاف أن يحيف عليّ. فنزلت:

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ صدّقنا بتوحيد اللّه وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا فيما حكما ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض عن طاعتهما بالامتناع عن قبول حكمه فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ بعد قولهم: آمنّا وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى جميع القائلين. فيكون إعلاما من اللّه بأنّ جميعهم و إن آمنوا بلسانهم لم يؤمنوا بقلوبهم، لا الفريق المتولّي وحده.

أو إلى الفريق منهم. و سلب الإيمان عنهم لتولّيهم.

و التعريف فيه للدلالة على أنّهم ليسوا بالمؤمنين الّذين عرفتهم. و هم المخلصون في الإيمان، الثابتون عليه، الموصوفون في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا (1).

و في هذا إشارة إلى أنّ القول المجرّة لا يكون إيمانا، إذ لو كان كذلك لما صحّ النفي بعد الإثبات.

وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي: ليحكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كقولك:

أعجبني زيد و كرمه، تريد: أعجبني كرم زيد، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحاكم ظاهرا و المدعوّ إليه.

و ذكر اللّه لتعظيمه و الدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم اللّه.

ص: 525


1- الحجرات: 15.

إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فاجأه فريق منهم الإعراض عمّا يدعون إليه، إذا كان الحقّ عليهم، لعلمهم بأنّك لا تحكم لهم. و هو بيان للتولّي، و مبالغة فيه.

وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ أي: الحكم، لا عليهم يَأْتُوا إِلَيْهِ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُذْعِنِينَ و «إليه» إمّا صلة ل «يأتوا» لأنّ «أتى» و «جاء» قد جاءا معدّيين ب «إلى». أو يتّصل ب «مذعنين» لأنّه في معنى: مسرعين في الطاعة. و هذا أحسن، لتقدّم صلته و دلالته على الاختصاص.

و المعنى: أنّهم لمعرفتهم أنّه ليس معك إلّا الحقّ المرّ و العدل البحت، يزورّون (1) عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحقّ، لئلّا تنتزع الحقّ من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم. و إن ثبت لهم حقّ على خصم أسرعوا إليك، و لم يرضوا إلّا بحكومتك، لتأخذ لهم ما كان لهم في ذمّة الخصم.

ثمّ قسّم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم، بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوّته، أو خائفين الحيف في قضائه، فقال:

أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر، أو ميل إلى الظلم؟ أَمِ ارْتابُوا بأن رأوا منك تهمة، فزالت ثقتهم و يقينهم بك؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ في الحكومة؟

ثمّ أبطل ارتيابهم و خوفهم حيفه، فقال إضرابا عن هذين القسمين لتحقيق القسم الأوّل: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: لا يخافون أن يحيف عليهم، لمعرفتهم بحاله.

و إنّما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحقّ عليهم، و يتمّ لهم جحوده، و ذلك شي ء لا يستطيعونه في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمن ثمّ يأبون المحاكمة إليه.

و وجه التقسيم في الآية: أنّ امتناعهم إمّا لخلل فيهم، أو في الحاكم. و الثاني إمّا أن يكون محقّقا عندهم، أو متوقّعا. و كلاهما باطل، لأنّ منصب نبوّته و فرط أمانته يمنعه، فتعيّن الأوّل. و ظلمهم يعمّ خلل عقيدتهم، و ميل نفوسهم إلى الحيف و الفصل، لنفي ذلك

ص: 526


1- ازورّ عنه: عدل و انحرف.

عن غيرهم، سيّما المدعوّ إلى حكمه.

[سورة النور [24]: الآيات 51 الى 52]

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [51] وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [52]

و لمّا كان من عادة اللّه أن يتبع ذكر المحقّ المبطل، و أن ينبّه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، مدح المؤمنين الصادقين في إيمانهم، و ذمّ الكافرين الراسخين في كفرهم، فقال:

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَطَعْنا أمره، و إن كان فيما يضرّهم. و عن أبي جعفر عليه السّلام:

«أنّ المعنيّ بالآية أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام». وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمر. و عن ابن عبّاس: من يطع اللّه في فرائضه، و رسوله في سننه. وَ يَخْشَ اللَّهَ على ما صدر عنه من الذنوب وَ يَتَّقْهِ فيما بقي من عمره.

و قرأ يعقوب و قالون عن نافع بلا ياء. و أبو عمرو و أبو بكر بسكون الهاء. و حفص بسكون القاف. فشبّه «تقه» بكتف فخفّف. و الهاء في الوقف ساكنة بالاتّفاق. و قرأ أبو بكر و أبو عمرو و خلّاد بخلاف عنه: و يتّقه بإسكان الهاء. و قالون باختلاس كسرتها. و الباقون بصلتها.

فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم. قد جمع اللّه سبحانه في هذه الآية أسباب الفوز. و عن بعض الملوك أنّه سأل عن آية كافية، فتليت له هذه الآية.

ص: 527

[سورة النور [24]: الآيات 53 الى 57]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [53] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [54] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [55] وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [56] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ [57]

و لمّا بيّن سبحانه كراهة الكفّار و المنافقين لحكمه، قال المنافقون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و اللّه لو أمرتنا بالخروج من ديارنا و أموالنا لفعلنا، فقال اللّه سبحانه:

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ إنكار للامتناع عن حكمه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مستعار من: جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، لأنّهم أقسموا يجهدون أيمانهم جهدا. فحذف الفعل، و قدّم

ص: 528

المصدر، فوضع موضعه مضافا إلى المفعول. كقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ (1). و هذا المنصوب في حكم الحال، كأنّه قال: جاهدين أيمانهم.

لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج عن ديارهم و أموالهم لَيَخْرُجُنَ جواب ل «أقسموا» على الحكاية.

قُلْ لا تُقْسِمُوا على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أي مطلوب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشكّ فيها و لا يرتاب، كطاعة الخلّص من المؤمنين الّذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا اليمين على الطاعة النفاقيّة المنكرة. أو طاعتكم طاعة معروفة. أو طاعة معروفة أمثل و أولى لكم من الإيمان الكاذبة. أو لتكن طاعة معروفة.

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه سرائركم، و أنّه فاضحكم لا محالة، و مجازيكم على نفاقكم.

ثمّ أمر اللّه رسوله بتبليغ ما خاطبهم به، مبالغة في تبكيتهم، فقال: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم به وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما آتاكم به، و احذروا المخالفة فَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولّوا فحذف أحد التاءين، أي: فإن تعرضوا عن طاعة اللّه و طاعة رسوله فَإِنَّما عَلَيْهِ على محمّد ما حُمِّلَ من التبليغ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال.

وَ إِنْ تُطِيعُوهُ في حكمه تَهْتَدُوا إلى الحقّ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الموضح لما كلّفتم به و قد أدّى، و إنّما بقي عليكم ما حمّلتم، فإن لم تفعلوا و تولّيتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط اللّه و عذابه، و إن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى.

ثمّ خاطب الرسول و الأئمّة، أو الرسول و من معه، فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: وعد اللّه المؤمنين المطيعين للّه و رسوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ليجعلنّهم خلفاء متصرّفين في الأرض تصرّف الملوك. و هو جواب قسم

ص: 529


1- محمّد: 4.

مضمر، تقديره: وعدهم اللّه و أقسم ليستخلفنّهم. أو الوعد في تحقّقه منزّل منزلة القسم، فتلقّي بما يتلقّى به القسم.

كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: بني إسرائيل استخلفهم في مصر و الشام بعد الجبابرة، و أورثهم أرضهم و أموالهم.

و قرأ أبو بكر بضمّ التاء و كسر اللام، و إذا ابتدأ ضمّ الألف. و الباقون بفتحهما. و إذا ابتدءوا كسروا الألف.

وَ لَيُمَكِّنَنَ ليثبتنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ دينهم الّذي أمرهم أن يتديّنوا به- و هو الإسلام- بالتقوية و التثبيت، و إظهاره على الدّين كلّه، كما

قال عليه السّلام: «زويت (1) لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها، و سيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».

و روى المقداد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لا يبقى على الأرض بيت مدر و لا وبر، إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام، بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل. إمّا أن يعزّهم اللّه فيجعلهم من أهلها، و إمّا أن يذلّهم فيدينون بها».

وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء. و قرأ ابن كثير و أبو بكر بالتخفيف.

أَمْناً منهم. و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه مكثوا بمكّة عشر سنين خائفين، و لمّا هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح و يمسون فيه، حتّى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، و نضع السلاح. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تغبرون (2) إلّا يسيرا حتّى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا (3) ليس فيه حديدة. فأنجز اللّه وعده، و أظهر هم على جزيرة العرب، و افتتحوا بعد بلاد المشرق و المغرب، و مزّقوا ملك الأكاسرة، و ملكوا خزائنهم، و استولوا على الدنيا.

ص: 530


1- أي: جمعت و قبضت.
2- أي: لا تبقون.
3- أي: مشتملا بثوب و نحوه.

و فيه دليل على صحّة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، للإخبار عن الغيب على ما هو به.

و قيل: المراد الخوف من العذاب، و الأمن منه في الآخرة.

يَعْبُدُونَنِي حال من «الّذين» لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد. أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف و الأمن. كأنّ قائلا قال: ما لهم يستخلفون و يؤمنون؟ فقال: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الواو في «يعبدونني» أي: غير مشركين.

روي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه قال: «هم و اللّه شيعتنا أهل البيت، يفعل اللّه ذلك بهم على يدي رجل منّا. و هو مهديّ هذه الأمّة. و هو الّذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، و كنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما». و روي ذلك عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

قال النيشابوريّ في تفسيره: «قال أهل السنّة: في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين، لأنّ قوله: «منكم» للتبعيض، و ذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب. و معلوم أنّ الأئمّة الأربعة كانوا من أهل الإيمان و العمل الصّالح، و كانوا حاضرين وقتئذ، و قد حصل لهم الاستخلاف و الفتوح، فيجب أن يكونوا مرادين من الآية. و اعترض بأن قوله: «منكم» لم لا يجوز أن يكون للبيان؟ و لم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرّف و التوطّن فيها، كما في حقّ بني إسرائيل؟

سلّمنا، لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة عليّ عليه السّلام، و الجمع للتعظيم؟ أو يراد هو و أولاده الأحد عشر بعده؟» (1).

وَ مَنْ كَفَرَ و من ارتدّ، أو كفر هذه النعم بَعْدَ ذلِكَ بعد الوعد، أو حصول الخلافة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في فسقهم، حيث ارتدّوا بعد وضوح مثل

ص: 531


1- تفسير غرائب القرآن 5: 209.

هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة الجليلة.

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في سائر ما أمركم به. و هذا معطوف على «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ». و ليس ببعيد أن يقع بين المعطوف و المعطوف عليه فاصل و إن طال، لأنّ حقّ المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. و كرّرت طاعة الرسول تأكيدا لوجوبها. و علّقت الرحمة بها بقوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ كما علّق به الهدى.

لا تَحْسَبَنَ يا محمّد الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ معجزين للّه عن إدراكهم و إهلاكهم فِي الْأَرْضِ صلة «معجزين». و قرأ ابن عامر و حمزة بالياء. و فاعله

ضمير راجع إلى الرسول. أو فاعله الموصول بعده، فيكون «مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ» مفعوليه. أو و لا يحسبونهم، فحذف المفعول الأوّل، لأنّ الفاعل و المفعولين لشي ء واحد، فاكتفي بذكر اثنين عن الثالث.

وَ مَأْواهُمُ النَّارُ عطف عليه من حيث المعنى. كأنّه قيل: الّذين كفروا ليسوا بمعجزين، و مأواهم النار، لأنّ المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإعجاز وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ المأوى الّذي يصيرون إليه. و إنّما وصفها بذلك، و إن كانت حكمة و صوابا من فعل اللّه، لما ينال الصائر إليها من الشدائد و الآلام.

[سورة النور [24]: الآيات 58 الى 60]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ

ص: 532

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [58] وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [59] وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [60]

ثمّ تمّم الأحكام السالفة بعد الفراغ عن الآيات الدالّة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام و غيرها، و الوعد عليها، و الوعيد على الإعراض عنها، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ قال القاضي (1): هذا الخطاب للرجال ظاهرا، و لكنّه من باب التغليب، فيدخل فيه النساء. و قال الرازي: «الحكم يثبت للنساء بقياس جليّ، لأنّهنّ في الحفظ أشدّ حالا من الرجال» (2).

الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي: عبيدكم و إماؤكم، غلّب فيه العبيد. قيل:

أراد العبيد خاصّة. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و روي: أنّ غلام أسماء بنت أبي مرشد دخل عليها في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ خدمنا و غلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. فنزلت.

و قيل: أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدلج بن عمرو الأنصاري- و كان غلاما- وقت الظهيرة ليدعوا عمر، فدخل و هو نائم و قد انكشف عنه ثوبه. فقال عمر: لوددت أنّ اللّه عزّ و جلّ نهى آباءنا و أبناءنا و خدمنا، أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلّا بإذن. ثمّ انطلق معه إلى النبيّ، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية.

ص: 533


1- أنوار التنزيل 4: 86.
2- التفسير الكبير 24: 28.

وَ الَّذِينَ و الصبيان الّذين لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ من الأحرار. فعبّر عن البلوغ بالاحتلام، لأنّه أقوى دلائله و أكثرها.

ثَلاثَ مَرَّاتٍ في اليوم و الليلة. مرّة مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنّه وقت القيام من المضاجع، و طرح ثياب النوم، و لبس ثياب اليقظة. و محلّه النصب بدلا من «ثلاث مرّات». أو الرفع خبرا لمحذوف، أي: هي من قبل صلاة الفجر. وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ أي: ثيابكم لليقظة، للقيلولة مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنّه وقت التجرّد عن لباس اليقظة و الالتحاف باللحاف.

ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي: هي ثلاث أوقات يختلّ فيها تستّركم و تحفّظكم. و أصل العورة: الخلل. و منها: أعور المكان، أي: اختلّ مكانه. و رجل أعور: إذا اختلّت عينه.

و قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي: ثلاث بالنصب، بدلا من «ثلاث مرّات».

ثمّ عذّرهم في ترك الاستئذان وراء هذه الأوقات، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان.

ثمّ استأنف الكلام لبيان وجه العذر، فقال: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي: هم طوّافون.

يعني: أنّ بكم و بهم حاجة إلى المخالطة و المداخلة. و لمّا لم يكن الطواف مخصوصا بأحد الفريقين، بل هو شامل لهما، لم يكتف بقوله: «طوّافون» فقال بدلا منه: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بعضكم طائف على بعض، أو بعضكم يطوف على بعض. فحذف لدلالة «طوّافون» عليه.

كَذلِكَ مثل ذلك التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي: الأحكام وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ فيما شرع لكم.

و اعلم أنّ الآية في الصبيان و المماليك الداخلين على أهل بيتهم و مواليهم. ثمّ قال في الأحرار البالغين: وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي: من الأحرار فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الأحرار الّذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلّها.

ص: 534

و المعنى: أنّه يجوز دخول الأطفال على آبائهم و أمّهاتهم بدون الاستئذان، إلّا في الأحوال الثلاث، فإذا خرجوا من حدّ الطفوليّة فليستأذنوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار.

و قال في كنز العرفان: «إنّ المراد الأطفال الأحرار، لأنّ بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستئذان بالأوقات الثلاثة. و أمّا بلوغ الأرقّاء، فالحكم باق كما كان في التخصيص، لأجل بقاء السبب المذكور» (1).

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كرّره تأكيدا و مبالغة في الأمر بالاستئذان.

و اعلم أنّ بعضهم ظنّ أنّ الآية منسوخة. و ليست كذلك. قال ابن جبير: يقولون هي منسوخة، لا و اللّه ما هي منسوخة، لكنّ الناس تهاونوا بها. و قيل: للشعبي: إنّ الناس لا يعملون بها. فقال: اللّه المستعان.

و أنا أقول:

يمكن أن يقال: إنّ ثبوت هذا الحكم في الأوقات الثلاثة المذكورة- كما دلّ عليه سبب نزول الآية- إنّما هو بسبب مظنّة انكشاف العورة، و إذا انعدم سببه- كما يكون في أكثر بلادنا- فينتفي هذا الحكم، لانتفاء المسبّب بانتفاء سببه.

ثمّ بيّن حكما آخر من هذا الباب، فقال: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ العجائز اللّاتي قعدن عن الحيض و الحمل اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن فيه لكبرهنّ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ أي: الثياب الظاهرة، كالملحفة و الجلباب الّذي فوق الخمار. و الفاء فيه لأنّ اللام في القواعد بمعنى اللّاتي، أو لوصفها بها.

غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ غير مظهرات زينة ممّا أمرن بإخفائه في قوله تعالى:

وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ (2) بل قاصدات به التخفيف عن أنفسهنّ. و أصل

ص: 535


1- كنز العرفان 2: 225- 226.
2- النور: 31.

التبرّج التكلّف في إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارجة لا غطاء عليها.

و البرج: سعة العين، بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كلّه لا يغيب منه شي ء، إلّا أنّه خصّ بكشف المرأة زينتها و محاسنها للرجال.

و لمّا ذكر رفع الحظر الّذي يستلزم الجواز، عقّبه باستحباب التستّر بالثياب عليهنّ، بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال و أحسنها، فقال: وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ و أن يطلبن العفّة من وضع الثياب خَيْرٌ لَهُنَ من الوضع، لأنّه أبعد من التهمة وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهنّ للرجال عَلِيمٌ بمقصودهنّ.

[سورة النور [24]: آية 61]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [61]

روي: أنّ المؤمنين كانوا يذهبون بالضعفاء و ذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم و أولادهم، و إلى بيوت أقربائهم و أصدقائهم، فيطعمونهم منها، فخافوا أن يلحقهم فيه حرج، فنزلت:

ص: 536

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ من البيوت الّتي فيها أزواجكم و أولادكم، فإنّ بيت الولد كبيته،

لقوله عليه السّلام: «أنت و مالك لأبيك».

و قوله: «إنّ أطيب ما يأكل المرء من كسبه، و إنّ ولده من كسبه».

أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ و هو ما يكون تحت أيديكم و تصرّفكم، من ضيعة أو ماشية، و كالة أو حفظا.

و قيل: بيوت المماليك. و ليس بشي ء، لأنّ العبد لا يملك، فماله مال السيّد. و المفاتح جمع مفتح، و هو ما يفتح به.

أَوْ صَدِيقِكُمْ أو بيوت صديقكم. و هو يقع على الواحد و الجمع، كالخليط.

قيل: إنّ ذوي العاهات كانوا يتحرّجون عن مؤاكلة الأصحّاء حذرا من استقذارهم، و قوم آخرون لا يأكلون من بيت من يدفع إليهم المفتاح، فنفى اللّه الحرج عنهم بهذه الآية.

و قيل: كانوا يخرجون إلى الغزو و يخلّفون الضعفاء في بيوتهم، و يدفعون إليهم المفاتيح، و يأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرّجون، فبهذه الآية رفع التحرّج.

و هذا كلّه إنّما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن، أو قرينة مقاليّة أو حاليّة، أو عدم ظهور كراهية منه، و لذلك خصّص هؤلاء، فإنّه يعتاد التبسّط بينهم. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه». و هو مرويّ أيضا عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و روي: أنّ الرجل من الصحابة كان يدخل دار صديقه و هو غائب، فيسأل جاريته كيسه، فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك.

و روي عن الصادق عليه السّلام: «أ يدخل أحدكم يده إلى كم صاحبه أو جيبه فيأخذ منه؟

ص: 537

قالوا: لا. قال: فلستم بأصدقاء».

و الأصل أنّه إذا تأكّدت الصداقة علم الرضا بالأكل، فيقوم العلم مقام الإذن.

و عن ابن عبّاس: أنّ الصداقة أقوى من النسب، فإنّ أهل النار لا يستغيثون بالآباء و الأمّهات، بل بالأصدقاء، فيقولون: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (1).

قيل: إذا كان شرط الإباحة عدم كراهة المالك، فأيّ فرق بين بيوت المذكورين و بين بيوت غيرهم؟

أجيب: الفرق أنّ في بيوت غير المذكورين يشترط العلم بالرضا، و أمّا بيوت الأقارب المذكورين فيكفي عدم العلم بالكراهة. و ما روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره اللّه تعالى بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف، مشروط بالشرط المذكور.

و قيل: إنّهم كانوا يتحرّجون من المؤاكلة مع ذوي العاهات، و يقولون: إنّ الأعمى لا يبصر، فنأكل جيّد الطعام دونه، و الأعرج لا يتمكّن من الجلوس، و المريض يضعف عن الأكل. فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً مجتمعين أو متفرّقين.

قيل: نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من الأنصار، إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلّا معه. أو في قوم تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام و المؤاكلة، لما عسى أن يؤدّي إلى الكراهة من قبلهم. و قيل:

كان ذلك في أوّل الإسلام فنسخ.

فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ على أهلها الّذين هم منكم دينا و قرابة تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه. و انتصابها بالمصدر، لأنّها بمعنى التسليم، كما تقول: حمدت شكرا. مُبارَكَةً لأنّها دعوة مؤمن

ص: 538


1- الشعراء: 100- 101.

لمؤمن، يرجى بها من اللّه زيادة الخير و الثواب و طيب الرزق طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع.

و عن أنس أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «متى لقيت من أمّتي أحدا فسلّم عليه يطل عمرك، و إذا دخلت بيتك فسلّم عليهم يكثر خير بيتك».

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ كرّره ثلاثا لمزيد التأكيد، و تفخيم الأحكام المختتمة به. و فصّل الأوّلين (1) بما هو المقتضي لذلك، و هذا بما هو المقصود منه، فقال:

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الحقّ و الخير في الأمور.

[سورة النور [24]: آية 62]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [62]

و لمّا تقدّم ذكر المعاشرة مع الأقرباء و المسلمين، بيّن سبحانه كيفيّة المعاشرة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: ليس الكاملون في الإيمان إلّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ من صميم قلوبهم.

وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي: أمر يجمع له الناس، و يقتضي اجتماعهم عليه، كالحروب و المشاورة في الأمور المهامّ، و غير ذلك. و وصف الأمر بالجامع على سبيل المجاز مبالغة. لَمْ يَذْهَبُوا لم ينصرفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حَتَّى

ص: 539


1- النور: 58- 59.

يَسْتَأْذِنُوهُ يستأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيأذن لهم، فإنّ ذلك كالمصداق لصحّة كمال الإيمان، و المميّز للمخلص فيه عن المنافق، فإنّ عادتهم التسلّل و الفرار.

و فيه تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بغير إذنه. و لذلك جعل ترك ذهابهم حتّى يستأذنوه ثالث الإيمان باللّه و الإيمان برسوله، و جعلهما كالتشبيب (1) له و البساط لذكره، مع تصدير الجملة ب «إنّما»، و إيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر المؤمنين.

ثمّ عقّبه بما يزيده توكيدا و تشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر أبلغ من الأوّل بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فإنّه يفيد أنّ المستأذن مؤمن لا محالة، و أنّ الذاهب بغير إذن ليس كذلك.

فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ لما يعرض لهم من المهامّ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ و فيه أيضا مبالغة و تضييق للأمر، حيث فوّض الأمر إلى رسوله، و لم يأمره بالإذن.

وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ بعد الإذن، فإنّ الاستئذان و لو لعذر قصور، لأنّه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ بالتيسير عليهم.

و اعلم أنّ الأمر الجامع لمّا كان خطبا جليلا، لا بدّ للرسول فيه من ذوي رأي و قوّة، يظاهرونه عليه و يعاونونه، و يستضي ء بآرائهم و معارفهم و تجاربهم في كفايته. فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ممّا يشقّ على قلبه، و يشتّت عليه رأيه. فمن ثمّ غلّظ عليهم، و ضيّق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط، و مساس الحاجة إليه، و أكّد زيادة تأكيد في النهي عن الذهاب، حيث جعل عدم الذهاب ثالث الإيمانين كما ذكر. ثمّ لم يأمره بالإذن، بل جعله مخيّرا بين المعذورين. ثمّ أمر رسوله بالاستغفار، و ذكر المغفرة للمعذورين الذاهبين، الدالّ على أنّهم مع الاستئذان بالذهاب كأنّهم مذنبون. و هذا الحكم

ص: 540


1- أي: الابتداء به. من: شبّ الكتاب: ابتدأ به.

ثابت لمن قام مقامه من الأئمّة الهادين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

[سورة النور [24]: الآيات 63 الى 64]

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [63] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [64]

ثمّ عظّم و وقّر رسوله بين عباده، و لينتهوا عن رجوعهم عن الأمر الجامع بغير إذنه، فقال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي: إذا احتاج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم، فلا تفرّقوا عنه إلّا بإذنه. و لا تقيسوا دعاءه إيّاكم على دعاء بعضكم بعضا، و في جواز الإعراض، و المساهلة في الإجابة، و الرجوع عن المجمع بغير إذنه، فإنّ المبادرة إلى إجابته واجبة، و المراجعة بغير إذنه محرّمة.

و قيل: معناه: لا تجعلوا نداءه و تسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه، و رفع الصوت به، و النداء وراء الحجرات، و لكن بلقبه المعظّم له، مثل: يا نبيّ اللّه و يا رسول اللّه، مع قصد التوقير و التواضع، و خفض الصوت. أو لا تجعلوا دعاءه ربّه كدعاء صغير كم كبير كم، يجيبه مرّة و يردّه اخرى، فإنّ دعاءه مستجاب. أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تبالوا بسخطه، فإنّ دعاءه عليكم موجب السخط و الغضب.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ أي: ينسلون و يخرجون قليلا قليلا من الجماعة. و نظيره: تدرّج و تدخّل. لِواذاً ملاوذة. و هو أن يلوذ هذا بذاك و ذاك بهذا.

ص: 541

يعني: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة و استتار بعضهم ببعض حتّى يخرج. أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه، كأنّه تابعه. و انتصابه على الحال، أي:

ملاوذين.

قيل: نزلت في حفر الخندق، و كان قوم يتسلّلون بغير إذن. و قيل: كانوا يتسلّلون عن الجهاد و يرجعون عنه. و قيل: عن خطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الجمعة.

ثمّ حذّرهم عن مخالفة أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي: يخالفون أمره بترك مقتضاه، و يذهبون سمتا خلاف سمته. و هم المنافقون.

و «عن» لتضمّنه معنى الإعراض. أو يصدّون المؤمنين عن أمره. من: خالفه عن الأمر إذا صدّ عنه. و الأصل: يخالفون المؤمنين صادّين عن أمره. و حذف المفعول، لأنّ المقصود بيان المخالف و المخالف عنه. و الضمير للّه، فإنّ الأمر له في الحقيقة، أو للرسول، فإنّه المقصود بالذكر.

أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ محنة و بليّة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. عن ابن عبّاس: الفتنة القتل. و عن عطاء: هي زلازل و أهوال. و عن الصادق عليه السّلام: «يسلّط عليهم سلطان جائر».

و استدلّ به على أنّ الأمر للوجوب، فإنّه يدلّ على أنّ ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين، فإنّ الأمر بالحذر عنه يدلّ على خشية المشروط بقيام المقتضي له، و ذلك يستلزم الوجوب.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيّها المكلّفون من المخالفة و الموافقة، و النفاق و الإخلاص، و ذكر «قد» ليؤكّد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين و النفاق. و مرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. و ذلك أنّ «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير.

و المعنى: أنّ جميع ما في السماوات و الأرض مختصّ به خلقا و ملكا و علما،

ص: 542

فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، و إن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون و إخفائها؟! وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. و يجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات. و قرأ يعقوب بفتح الياء و كسر الجيم.

فَيُنَبِّئُهُمْ يوم القيامة بِما عَمِلُوا بما أبطنوا من سوء أعمالهم، بالتوبيخ و المجازاة عليه وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية.

ص: 543

ص: 544

[25] سورة الفرقان

اشارة

مكّيّة. و هي سبع و سبعون آية بلا خلاف.

في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة و هو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور، و دخل الجنّة بغير حساب».

و روى إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «يا ابن عمّار لا تدع قراءة تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ فإنّ من قرأها كلّ ليلة لم يعذّبه اللّه أبدا و لم يحاسبه، و كان منزلته في الفردوس الأعلى».

و اعلم أنّ هذه السورة متّصلة بسورة النور اتّصال النظير بالنظير، فإن مختتم تلك السورة تضمّن أنّ للّه ما في السماوات و الأرض، و أنّه بكلّ شي ء عليم، و مفتتح هذه السورة أنّ له ملك السماوات و الأرض.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [1] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [2]

ص: 545

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ تكاثر خيره.

من البركة، و هي كثرة الخير. و منها: تبارك اللّه، أي: عظمت خيراته و كثرت. أو تزايد على كلّ شي ء، و تعالى عنه في صفاته و أفعاله، فإنّ البركة تتضمّن معنى الزيادة. و ترتيبه على إنزاله الفرقان، لما فيه من كثرة الخير و تزايده، أو لدلالته على تعاليه. و قيل: دام و ثبت.

من بروك الطير على الماء. و منه: البركة، لدوام الماء فيها. و هو لا يتصرّف فيه، و لا يستعمل إلّا للّه.

و الفرقان مصدر: فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما. سمّي به القرآن، لفصله بين الحقّ و الباطل بتقريره، أو المحقّ و المبطل بإعجازه. أو لكونه مفروقا، مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال، كقوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (1).

لِيَكُونَ العبد، أو الفرقان لِلْعالَمِينَ نَذِيراً للجنّ و الإنس منذرا. أو إنذارا، كالنكير بمعنى الإنكار.

قال النيشابوري: «قالت المعتزلة: لو لم يرد الإيمان من الكلّ لم يكن الرسول نذيرا للكلّ. و عورض بنحو قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ (2). (3) انتهى كلامه.

أقول: إنّما تتمّ المعارضة إذا كانت اللام للتعليل، و لم لا يجوز أن تكون للمال؟ كقوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (4). و هذا البحث ممّا سنح للطبيعة، و سمحت به القريحة أو ان الكتابة، و أرجو أن يكون صوابا إن شاء اللّه العزيز.

ص: 546


1- الإسراء: 106.
2- الأعراف: 179.
3- تفسير غرائب القرآن 5: 221.
4- القصص: 8.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بدل من الأوّل. و إبدال التعليل للمبدل منه لا يستلزم الفصل بينه و بين بدله، لأنّه من تمام المبدل منه، فلا يكون كلاما أجنبيّا قادحا، لإيراد البدل بعده من معلّله. أو مدح مرفوع أو منصوب.

وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كزعم النصارى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كقول الثنويّة.

و لمّا أثبت لذاته الملك مطلقا، و نفى ما يقوم مقامه و ما يقاومه فيه، نبّه على ما يدلّ عليه، فقال:

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ أحداثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقة الإنسان من موادّ مخصوصة، و صور و أشكال معيّنة فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فهيّأه لما يصلح له و يراد منه من الخصائص و الأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك و الفهم، و النظر و التدبير، و استنباط الصنائع المتنوّعة، و مزاولة الأعمال المختلفة، إلى غير ذلك. و كذلك كلّ حيوان و جماد جاء به على الجبلّة المستوية المقدّرة بأمثله الحكمة و التدبير، فقدّره لأمر مّا و مصلحة، مطابقا لما قدّر له، غير متجاف عنه.

أو فقدّره للبقاء إلى أجل مسمّى. و قد يطلق الخلق لمجرّد الإيجاد و الإحداث، من غير نظر إلى معنى التقدير. فيكون المعنى: و أوجد كلّ شي ء فقدّره في إيجاده حتّى لا يكون متفاوتا.

و

تفسير الخلق و التقدير بهذه الوجوه جواب من قال: إنّ الخلق في معنى التقدير، فيصير المعنى: قدّر كلّ شي ء فقدّره.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 3 الى 6]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً [3] وَ قالَ

ص: 547

الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً [4] وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً [5] قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [6]

و لمّا تضمّن الكلام إثبات التوحيد و النبوّة، أخذ في الرّد على المخالفين فيهما، فقال: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً من الأوثان لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ لأنّ عبدتهم ينحتونهم و يصوّرونهم وَ لا يَمْلِكُونَ و لا يستطيعون لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا دفع ضرّ عنها وَ لا نَفْعاً و لا جلب نفع وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً أي: لا يقدرون على إماتة أحد و إحيائه أوّلا، و لا بعثه ثانيا.

و الحاصل: أنّهم آثروا على عبادة اللّه عبادة آلهة، لا عجز أبين من عجزهم، فإنّهم لا يقدرون على شي ء من أفعال العباد، فضلا عن أفعال اللّه سبحانه. و من كان كذلك فبمعزل عن الألوهيّة، لعرائه عن لوازمها، و اتّصافه بما ينافيها. فكيف يعبدون من لا يقدر على شي ء من ذلك، و يتركون عبادة ربّهم الّذي يملك ذلك كلّه؟! ثمّ أخبر عن تكذيبهم بالقرآن، فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مصروف عن وجهه افْتَراهُ اختلقه وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي: اليهود، فإنّهم يلقون إليه أخبار الأمم، و هو يعبّر عنها بعبارته. و قيل: جبر مولى عامر، و يسار غلام العلاء بن الحضرمي، و عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، قاله النضر بن الحارث بن عبد الدار. و قيل: أبو فكيهة الرومي. و قد سبق ذلك في قوله تعالى: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ (1).

ص: 548


1- النحل: 103.

فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً قولا متجاوزا عن الحقّ، بجعل الكلام الّذي أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، إفكا مختلقا متلقّفا من اليهود أو الروميّ العجمي. وَ زُوراً بنسبة ما هو بري ء منه إليه. و «أتى» و «جاء» يستعملان في معنى: فعل، فيعدّيان تعديته.

و لمّا تقدّم التحدّي و عجزهم عن الإتيان بمثله، اكتفى اللّه سبحانه ها هنا بهذا القدر تنبيها على ذلك.

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما سطره المتقدّمون، من نحو أحاديث رستم و إسفنديار. جمع أسطار، أو أسطورة كأحدوثة. اكْتَتَبَها كتبها لنفسه و أخذها، فإنّ «افتعل» قد يكون للاتّخاذ، نحو: اشترى. و مثله: استكبّ الماء و اصطبّه، إذا سكبه و صبّه لنفسه و أخذه. أو استكتبها. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ليحفظها، فإنّه أمّي لا يقدر أن يكتب بُكْرَةً وَ أَصِيلًا طرفي النهار، أي: دائما. أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، و حين يأوون إلى مساكنهم.

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأنّه أعجزكم عن آخر كم بفصاحته، و تضمّنه إخبارا عن مغيّبات مستقبلة، و أشياء مكنونة لا يعلمها إلّا من هو يعلم ما تسرّونه أنتم من الكيد لرسوله، مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل و زور. و كذلك يعلم باطن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و براءته ممّا تبهتونه به. و هو

يجازيكم و يجازيه على ما علم منكم و علم منه.

إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون، مع كمال قدرته عليها، و استحقاقكم أن يصبّ عليكم العذاب صبّا، لإسنادكم كلامه الفائق على كلّ كلام لفظا و معنى إلى أساطير الأوّلين.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 7 الى 10]

وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [7] أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها

ص: 549

وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً [8] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [9] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [10]

وَ قالُوا و قال النضر بن الحارث و عبد اللّه بن أبيّ و نوفل بن خويلد و من تابعهم استهانة و تهكّما و استهزاء: ما لِهذَا الرَّسُولِ الّذي يزعم الرسالة يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لطلب المعاش كما نمشي، أي: إن صحّ دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا؟ يعنون أنّه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل و التعيّش.

و ذلك لعمههم و قصور نظرهم على المحسوسات، فإنّ تميّز الرسول عمّا عداه ليس بأمور جسمانيّة، و إنّما هو بأحوال نفسانيّة، كما أشار إليه بقوله: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (1).

ثمّ تحوّلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، فقالوا: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً حتّى يتساندا في الإنذار و التخويف، و لنعلم صدقه بتصديق الملك.

ثمّ تنزّلوا عنه فقالوا:

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي: إن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء فيستظهر به، و لا يحتاج إلى تحصيل المعاش.

ثمّ تنزّلوا عنه أيضا فقالوا: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي: إن لم يلق إليه كنز فلا أقلّ من أن يكون رجلا له بستان يأكل منه و يرتزق من ريعه، فيستغني عن طلب المعيشة، كما للدهاقين. و قرأ حمزة و الكسائي بالنون، و الضمير للكفّار، أي: نأكل معه من ذلك البستان، فننتفع به في دنيانا و معاشنا.

وَ قالَ الظَّالِمُونَ وضع «الظّالمون» موضع ضمير هم تسجيلا عليهم بالظلم فيما

ص: 550


1- الكهف: 110.

قالوه إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتّبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله. و قيل: ذا سحر، و هو الرّئة، أي: بشرا لا ملكا، لأنّ الرئة مختصّة بجنس البشر، أي: الحيوان.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي: قالوا فيك تلك الأقوال الشاذّة، و اخترعوا لك الأحوال النادرة، من نبوّة مشتركة بين إنسان و ملك، و إلقاء كنز عليك من السّماء، و غير ذلك فَضَلُّوا عن الطريق الموصل إلى معرفة خواصّ النبيّ، و المائز بينه و بين المتنبّئ، فبقوا متحيّرين لا يجدون قولا يستقرّون عليه فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى القدح في نبوّتك أو إلى الرشد و الهدى.

تَبارَكَ الَّذِي تكاثر خير الّذي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ وهب لك في الدنيا خَيْراً مِنْ ذلِكَ ممّا قالوا، و إنّما أخّره إلى الآخرة لأنّه خير و أبقى جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بدل من «خيرا» وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً عطف على محلّ الجزاء.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر بالرفع، لأنّ الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الجزم و الرفع.

و يجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 11 الى 16]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [11] إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً [12] وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [13] لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [14] قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً [15] لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً [16]

ص: 551

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على ما حكى عنهم، أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كلّه، و هو تكذيبهم بالساعة، فلا تعجب من تكذيبهم إيّاك. و يجوز أن يتّصل بما يليه، كأنّه قال: بل كذّبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ و كيف يصدّقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة و هم لا يؤمنون بالآخرة؟ أو لأجل تكذيبهم الساعة قصرت أنظارهم على الحطام الدنيويّة، و ظنّوا أنّ الكرامة إنّما هي بالمال، فطعنوا فيك لفقرك. أو فلذلك كذّبوك، لا لما تمحّلوا من المطاعن الفاسدة.

وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً نارا شديدة الاستعار. و قيل: هو اسم لجهنّم. فيكون صرفه باعتبار المكان.

ثمّ وصف ذلك السعير فقال: إِذا رَأَتْهُمْ إذ كانت السعير بمرأى منهم، كقولهم:

دورهم تترى، أي: تتناظر. و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تراءى نارهما»

أي: لا تتقارب نار المسلمين و الكافرين بحيث تكون إحداهما بمرأى من الاخرى، على المجاز. و التأنيث لأنّه بمعنى النار أو جهنّم.

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من مسيرة سنة».

و قال السدّي و الكلبي: من مسيرة مائة سنة. و حقيقة المعنى: أنّهم يرونها من أقصى مكان. و المعنى المجازي أبلغ، فإنّ معناه أنّها كأنّها تراهم رؤية الغضبان، كما قال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً صوت تغيّظ و غليان. شبّه صوت غليانها بصوت المغتاظ.

وَ زَفِيراً و صوت زفير. و هو صوت يسمع من جوفه. روي: أنّ جهنّم لتزفر زفرة لا يبقى نبيّ و لا ملك إلّا خرّ لوجهه. و لا يبعد من قدرة اللّه تعالى أن يخلق في النار حياة فترى و تتغيّظ و تزفر.

و قيل: إنّ ذلك لزبانيتها، فنسب إليها على حذف المضاف. و المعنى: إذا رأتهم زبانيتها تغيّظوا و زفروا على الكفّار للانتقام منهم.

وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً أي: في مكان. و «منها» بيان له تقدّم عليه فصار حالا.

ص: 552

ضَيِّقاً لزيادة العذاب، فإنّ الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة. و لذلك وصف اللّه الجنّة بأنّ عرضها كعرض السماوات و الأرض. و قرأ ابن كثير و الكسائي بسكون الياء.

و في الحديث: «إن لكلّ مؤمن من القصور و الجنان كذا و كذا».

و لقد جمع اللّه على أهل النار أنواع التضييق و الإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيّق يتراصّون (1) فيه تراصّا. كما روي عن ابن عبّاس في تفسيره: أنّه يضيّق عليهم كما يضيّق الزجّ (2) في الرمح.

مُقَرَّنِينَ قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. و عن الجبائي: و يقرن مع كلّ كافر شيطانه في سلسلة، و في أرجلهم الأصفاد (3).

دَعَوْا هُنالِكَ في ذلك المكان ثُبُوراً هلاكا. أي: يتمنّون هلاكا و ينادونه، فيقولون: يا ثبوراه تعال فهذا أوانك.

فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً إنّهم أحقّاء بأن يقال لهم ذلك، و إن لم يكن ثمّ قول وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً لأنّ عذابكم أنواع كثيرة، كلّ نوع منها ثبور، لشدّته و فضاعته، كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلودا غيرها، فلا غاية لهلاكهم، فهم في كلّ وقت في ثبور.

قُلْ أَ ذلِكَ أي: ذلك العذاب، أو الّذي اقترحتموه من الكنز و الجنّة خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الاستفهام و التفضيل و الترديد للتقريع و التهكّم. و الراجع إلى الموصول محذوف، أي: وعدها المتّقون. و إضافة الجنّة إلى الخلد للمدح، أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنّات الدنيا.

كانَتْ لَهُمْ في علم اللّه، أو اللوح قبل أن يريهم. أو لأنّ ما وعده اللّه في تحقّقه كالواقع. جَزاءً على أعمالهم بالوعد وَ مَصِيراً مرجعا و مستقرّا ينقلبون إليه. و هذا

ص: 553


1- أي: يتلاصقون. من: تراصّ القوم إذا تضامّوا و تلاصقوا.
2- الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح.
3- الأصفاد جمع الصفد. و هو الوثاق، و ما يوثق به الأسير من قيد أو غلّ.

كقوله: نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (1) فإنّه مدح الثواب و مكانه، كما قال: بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (2). فذمّ العقاب و مكانه، لأنّ النعيم لا يتمّ للمتنعّم إلّا بطيب المكان وسعته و موافقته للمراد، و كذلك العقاب يتضاعف يضيق الموضع و ظلمته، و جمعه لأسباب الكراهة. و لذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ما يشاؤنه من النعيم. و في تقديم الظرف تنبيه على أن كلّ المرادات لا تحصل إلّا في الجنّة. خالِدِينَ حال من أحد الضمائر كانَ الضمير ل «ما يشاءون»، أي: كان ذلك عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا موعودا حقيقا بأن يسأل و يطلب. أو مسئولا سأله الناس في دعائهم: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ (3). أو الملائكة يقولون: رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ

(4). و «على» يتضمّن معنى الوجوب، أي: واجبا على ربّك إنجازه، لامتناع الخلف في وعده.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 17 الى 19]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [17] قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً [18] فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً [19]

ص: 554


1- الكهف: 31 و 29.
2- الكهف: 31 و 29.
3- آل عمران: 194.
4- غافر: 8.

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نجمعهم للجزاء. و قرأ ابن كثير و يعقوب و حفص بالياء وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعمّ كلّ معبود سواه. و استعمال «ما» إمّا لأنّ وضعه أعمّ، و لذلك يطلق لكلّ شبح يرى و لا يعرف. أو لأنّه أريد به الوصف، كأنّه قيل: و معبودهم.

كما تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعني: أ طويل أم قصير؟ أ فقيه أم طبيب؟ أو لتغليب الأصنام تحقيرا، أو اعتبارا لغلبة عبّادها. أو يخصّ الملائكة و عزيزا و المسيح بقرينة السؤال و الجواب. و ذكر «ما» لإرادة وصف المعبوديّة كما عرفت. أو الأصنام ينطقها اللّه تعالى، أو تتكلّم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي و الأرجل.

فَيَقُولُ أي: للمعبودين. و هو على تلوين الخطاب. و قرأ ابن عامر بالنون.

أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ضلّوا عن سبيل الحقّ، لإخلالهم بالنظر الصحيح، و إعراضهم عن المرشد النصيح. و هو استفهام تقريع و تبكيت للعبدة.

و الفائدة في ذكر «أنتم» و «هم» و إيلائهما حرف الاستفهام، أن يعلم أنّ السؤال ليس عن الفعل، و إنّما هو عن متولّيه، فلا بدّ من ذكره و إيلائه حرف الاستفهام، حتّى يعلم أنّه المقصود بالسؤال عنه. و تركت صلة الضلالة للمبالغة.

قالُوا سُبْحانَكَ تعجّبا ممّا قيل لهم، لأنّهم إمّا ملائكة، أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شي ء. أو إشعارا بأنّهم الموسومون بتسبيحه و توحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ أو تنزيها للّه عن الأنداد.

ثمّ قالوا: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ما يصحّ لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ للعصمة. فكيف يصحّ لنا أن ندعو غيرنا أن يتولّى أحدا دونك؟ و الأخذ هنا متعدّ إلى مفعول واحد، و هو «من أولياء». و الأصل: أن نتّخذ أولياء، فزيدت «من» لتأكيد معنى النفي.

وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ بأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ حتّى غفلوا عن ذكرك. أو التذكّر لآلائك، و التدبّر في آيات كتابك. وَ كانُوا

ص: 555

قَوْماً بُوراً هالكين فاسدين. مصدر وصف به، و لذلك يستوي فيه الواحد و الجمع. أو جمع بائر، كعائذ و عوذ.

و اعلم أنّ في هذه الآية دلالة على بطلان قول من يزعم أنّ اللّه سبحانه يضلّ عباده على الحقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أ أنتم أضللتم أم هم ضلّوا بأنفسهم؟

فيتبرّءون من إضلالهم، و يستعيذون به أن يكونوا مضلّين. و يقولون: بل أنت تفضّلت على هؤلاء و آبائهم، فجعلوا النعمة الّتي هي سبب الشكر سببا للكفر و نسيان الذكر، فكان ذلك سبب هلاكهم. فبرّءوا أنفسهم من الإضلال، و نزّهوه سبحانه أيضا منه، حيث أضافوا إليه التمتيع بالنعمة، و أضافوا نسيان الذكر الّذي هو سبب البوار إليهم. فشرحوا الإضلال المجازيّ الّذي نسبة اللّه إلى ذاته في قوله: يُضِلُّ مَنْ

يَشاءُ (1). و لو كان هو المضلّ على الحقيقة لكان الجواب أن يقولوا: بل أنت أضللتهم بما يقولون.

ثمّ التفت إلى العبدة احتجاجا و إلزاما، فقال: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي: فقد كذّبكم المعبودون أيّها المشركون بِما تَقُولُونَ في قولكم: إنّهم آلهة، أو هؤلاء أضلّونا. و الباء بمعنى «في». أو مع المجرور بدل من الضمير، كأنّه قيل: فقد كذّبوا بما يقولون. و عن ابن كثير بالياء، أي: كذّبوكم بقولهم: «سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ».

فَما تَسْتَطِيعُونَ أي: المعبودون. و قرأ حفص بالتاء على الخطاب للعابدين.

صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم. و قيل: لصرف التوبة. و قيل: حيلة. من قولهم: إنّه ليتصرّف، أي: يحتال. وَ لا نَصْراً فيعينكم عليه.

وَ مَنْ يَظْلِمْ على نفسه بالشرك و المعاصي مِنْكُمْ أيّها المكلّفون نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً شديدا عظيما، و هو النار. و الشرط و إن عمّ كلّ من كفر و فسق، لقوله: إِنَّ

ص: 556


1- الرعد: 27، و غيرها.

الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (1)، و لقوله: وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (2). لكنّه في اقتضاء الجزاء مقيّد بعدم المزاحم وفاقا، و هو التوبة إجماعا، و عفو المؤمن الفاسق عندنا.

[سورة الفرقان [25]: آية 20]

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً [20]

ثمّ رجع سبحانه إلى مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال جوابا لقولهم: «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ»: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي: إلّا رسلا إنّهم ... فحذف الموصوف لدلالة «المرسلين» عليه، و أقيمت الصفة مقامه، كقوله

تعالى: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (3).

على معنى: و ما منّا أحد. و يجوز أن تكون حالا اكتفي فيها بالضمير.

وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ أيّها الناس لِبَعْضٍ فِتْنَةً ابتلاء. و من ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، و المرسلين بالمرسل إليهم، و مناصبتهم لهم العداوة، و إيذاؤهم لهم أنواع الأذى. و هو تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما استبدعوه من أكله الطعام، و مشيه في الأسواق، بعد ما احتجّ عليهم بسائر الرسل، أو ما عيّروه من الفقر حين قالوا: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ (4).

أَ تَصْبِرُونَ علّة للجعل. و المعنى: و جعلنا بعضكم لبعض فتنة لنعلم أيّكم يصبر. و نظيره قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (5). أو حثّ على الصبر على ما

ص: 557


1- لقمان: 13.
2- الحجرات: 11.
3- الصافّات: 164.
4- الفرقان: 8.
5- الملك: 2.

افتتنوا به. وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر، أو بالصواب فيما يبتلي به و غيره، فلا يضيقنّ صدرك، و لا يستخفّنّك أقاويلهم، فإنّ في صبرك عليها سعادتك و فوزك في الدارين.

و قيل: معناه: جعلناك فتنة لهم، لأنّك لو كنت غنيّا صاحب كنوز و جنان، لكان ميلهم إليك و طاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بها، فبعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا، من غير طمع و غرض دنيويّ.

و قيل: كان أبو جهل و أضرابه يقولون: إن أسلمنا و قد أسلم قبلنا عمّار و صهيب و بلال و فلان و فلان، و سائر موالينا و رذالنا، ترفّعوا علينا إذلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض. فقال اللّه لهؤلاء: أ تصبرون على الأذى و الاستهزاء لتفوزوا بسعادة الدارين، فإنّ ربّكم عالم بأحوالكم، و مجاز لأعمالكم؟

[سورة الفرقان [25]: الآيات 21 الى 23]

وَ

قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [21] يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [22] وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [23]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لا يأملون لِقاءَنا لقاء جزائنا بالخير، لكفرهم بالبعث. أو لا يخافون لقاء جزائنا بالشرّ على لغة تهامة، فإنّ الرجاء في لغتهم بمعنى الخوف، و به فسّر قوله تعالى: لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (1). و أصل اللقاء الوصول إلى

ص: 558


1- نوح: 13.

الشي ء. و فيه دلالة على أنّهم كانوا مجسّمة، فلذلك جوّزوا الرؤية على اللّه.

لَوْ لا هلّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فيخبرنا بصدق محمد. و قيل: فيكونوا رسلا إلينا. أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة فيأمرنا بتصديقه و اتّباعه.

ثمّ أقسم اللّه عزّ و جلّ فقال: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا بهذا القول فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أضمروا الاستكبار عن الحقّ- و هو الكفر و العناد- في قلوبهم و اعتقدوه وَ عَتَوْا و تجاوزوا الحدّ في الظلم عُتُوًّا كَبِيراً بالغا أقصى مراتبه. يعني: أنّهم لم يجسروا على هذا القول العظيم، إلّا لأنّهم بلغوا غاية الاستكبار و أقصى العتوّ، حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، و اقترحوا لأنفسهم الخبيثة غيرها، كما فعل قوم موسى حين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (1).

و اللام جواب قسم محذوف. و في الاستئناف بالجملة إشعار بالتعجّب من استكبار هم و عتوّهم من غير لفظ التعجّب. ألا ترى أنّ المعنى: ما أشدّ استكبارهم! و ما أكبر عتوّهم! ثمّ أعلم سبحانه أنّ الوقت الّذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، و أنّ اللّه تعالى قد حرّمهم البشرى في ذلك اليوم، فقال:

يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يعني: يوم القيامة. و المراد ملائكة الموت، أو ملائكة العذاب. و «يوم» نصب ب: اذكر، أو بما دلّ عليه قوله: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنّه بمعنى: يمنعون البشرى، أو يعدمونها. و «يومئذ» تكرير، أو خبر. و «للمجرمين» تبيين.

أو خبر ثان. أو ظرف لما يتعلّق به اللام، أو ل «بشرى» إن قدّرت منوّنة غير مبنيّة مع «لا» فإنّها لا تعمل.

و «للمجرمين» إمّا عامّ شامل لكلّ مجرم، كافرا كان أو مؤمنا. و لا يلزم من نفي البشرى لعامّة المجرمين حينئذ، نفي البشرى بالعفو و الشفاعة في وقت آخر. و إمّا خاصّ

ص: 559


1- البقرة: 55.

وضع موضع ضميرهم، تسجيلا على جرمهم، و إشعارا بما هو المانع للبشرى، و الموجب لما يقابلها.

وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً عطف على المدلول، أي: و يقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، استعاذة و طلبا من اللّه أن يمنع لقاء هم العذاب. و هي ممّا كانوا يقولون عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة. يعني: كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل و يفزعون: حجرا محجورا دماؤنا، قالوا تلك الكلمة عند مشاهدة العذاب.

و قال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الّذي يخاف منه القتل في الجاهليّة في الأشهر الحرام فيقول: حجرا محجورا، أي: حرام عليك حرمتي في هذا الشهر أن تبدأ بشرّ، فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة، فقالوا ذلك ظنّا منهم أنّه ينفعهم.

و قيل: هي من قول الملائكة. و معناه حينئد: حراما عليكم الجنّة و البشرى، أي: جعل اللّه ذلك حراما عليكم.

قال سيبويه في باب المصادر غير المتصرّفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، نحو: معاذ اللّه، و عمرك، و حجرا محجورا. يقول الرجل للرجل: أ

تفعل كذا و كذا؟ فيقول:

حجرا. و هي من: حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من اللّه أن يمنع المكروه، فلا يلحقه. فكان المعنى: أسأل اللّه أن يحجر ذلك حجرا، أي: يمنعه منعا. و وصفه محجورا للتأكيد، كقولهم: موت مائت.

وَ قَدِمْنا و عمدنا و قصدنا إِلى ما عَمِلُوا في كفرهم مِنْ عَمَلٍ من المكارم و المحاسن، كقرى الضيف، و صلة الرحم، و إغاثة الملهوف، و فداء الأسير، و غير ذلك فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فأحبطناه، لفقد ما هو شرط اعتباره، و هو الإيمان.

و ليس هنا قدوم و لا ما يشبه القدوم، و لكن مثّلت حال هؤلاء و أعمالهم الّتي عملوا في كفرهم من محاسنهم، بحال قوم خالفوا سلطانهم و استعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، و قصد إلى ما تحت أيديهم، فمزّقها كلّ ممزّق، و أبطلها و لم يبق لها أثرا.

ص: 560

و الهباء ما يخرج من الكوّة مع شعاع الشمس، شبيه بالغبار. من الهبوة، و هي الغبار. و في أمثالهم: أقلّ من الهباء و «منثورا» صفة للهباء. شبّه أوّلا عملهم المحبط بالهباء في حقارته و عدم نفعه. ثمّ بالمنثور منه في انتثاره بحيث لا يمكن نظمه، بل ذهب كلّ مذهب. و نحوه قوله:

كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (1)، فإنّه لم يكف أن شبّههم بالعصف حتّى جعله مؤوفا بالأكال. أو مفعول ثالث ل «جعلناه» أي: فجعلناه جامعا لحقارة الهباء و التناثر، كقوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (2). أي: جامعين للمسخ و الخس ء (3).

[سورة الفرقان [25]: الآيات 24 الى 29]

أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً [24] وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً [25] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [26] وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ

يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [27] يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [28]

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً [29]

ثمّ ذكر سبحانه فضل أهل الجنّة على أهل النار، فقال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ

ص: 561


1- الفيل: 5.
2- البقرة: 65.
3- خسأ يخسأ خسأ: طرد و أبعد.

خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا مكانا يستقرّون فيه في أكثر أوقاتهم للتجالس و التحادث وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يأوون إليه للاسترواح بأزواجهم و التمتّع بهنّ. تجوّزا له من مكان القيلولة، على التشبيه بالمترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب، إذا لا نوم في الجنّة. و إنّما سمّي مكان دعتهم و استرواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه. و في لفظ الأحسن رمز إلى ما يتزيّن به مقيلهم، من حسن الوجوه و ملاحة الصور، إلى غير ذلك من التحاسين و الزين.

و يحتمل أن يراد بهما المصدر أو الزمان، إشارة إلى أنّ مكانهم و زمانهم أطيب ما يتخيّل من الأمكنة و الأزمنة. و التفضيل إمّا لإرادة الزيادة مطلقا، أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدنيا.

و قال ابن عبّاس و ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتّى يقيل أهل الجنّة في الجنّة، و أهل النار في النار. و في معناه قوله عزّ و جلّ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (1).

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ أصله: تتشقّق، فحذفت التاء. و أدغمها ابن كثير و نافع و ابن عامر و يعقوب. بِالْغَمامِ بسبب طلوع الغمام منها. و هو الغمام المذكور في قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ (2). و المعنى:

أنّ السماء تنفتح بغمام يخرج منها. و قيل: هو غمام أبيض دقيق مثل الضبابة، و لم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم.

وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا في ذلك الغمام إلى الأرض بصحائف أعمال العباد.

و قرأ ابن كثير: و ننزل الملائكة.

قال ابن عبّاس: تتشقّق السماء الدنيا فينزل أهلها، و هم أكثر ممّن في الأرض من

ص: 562


1- يس: 55
2- البقرة: 210.

الجنّ و الإنس. ثمّ تتشقّق السماء الثانية فينزل أهلها، و هم أكثر ممّن في السماء الدنيا، و من الجنّ و الإنس. ثمّ كذلك حتّى تتشقّق السماء السابعة. و أهل كلّ سماء يزيدون على أهل السماء الّتي قبلها.

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ الثابت له، لأنّ كلّ ملك يبطل يومئذ، و لا يبقى إلّا ملكه. فهو خبر الملك، و «للرحمن» صلته، و «يومئذ» معمول «الملك» لا «الحقّ» لأنّه متأخّر. أو صفته، و الخبر «يومئذ» أو «للرحمن».

وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً شديدا. و يهون على المؤمنين، كأدنى صلاة صلّوها في دار الدنيا. و في هذا بشارة للمؤمنين، حيث خصّ تشدّد ذلك اليوم بالكافرين.

وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ من فرط الحسرة. و عضّ اليدين و الأنامل، و السقوط في اليد، و أكل البنان، و حرق الأسنان و نحوها، كنايات عن الغيظ و الحسرة، لأنّها من روادفها، فيذكر الرادفة و يدلّ بها على المردوف، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، و يجد السامع عنده في نفسه من الروعة و الاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنّي عنه. و المراد بالظالم الجنس.

و قيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط بن أميّة بن عبد شمس، كان يكثر مجالسة النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقدم من سفره ذات يوم، فصنع طعاما و دعا الناس إلى ضيافته، فدعا إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأبى أن يأكل طعامه حتّى ينطق بالشهادتين، ففعل.

و كان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه، فقال: صبأت يا عقبة؟

فقال: لا، و لكن آلى أن لا يأكل من طعامي و هو في بيتي، فاستحييت منه فشهدت له، و الشهادة ليست في نفسي.

فقال: لا أرضى منك إلّا أن تأتيه فتطأ قفاه و تبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف. فأسر يوم بدر،

ص: 563

فأمر عليّا عليه السّلام بقتله. و طعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبيّا بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكّة و مات.

قال الضحّاك: لمّا بزق عقبة في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خدّيه، و كان أثر ذلك فيه حتّى قتل.

يَقُولُ يوم البعث يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي: تمنّى أن لو صحب الرسول و سلك معه طريقا واحدا، و هو طريق الحقّ الموصل إلى النجاة، و لم يتشعّب به طرق الضلالة و الهوى.

يا وَيْلَتى أي: ينادي ويلته- و هي هلكته- و يقول لها: تعالي فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني: من أضلّه. و فلان كناية عن الأعلام، كما أن أ لهن كناية عن الأجناس.

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ عن ذكر اللّه، أو كتابه، أو موعظة الرسول، أو كلمة الشهادة بَعْدَ إِذْ جاءَنِي و تمكّنت منه وَ كانَ الشَّيْطانُ يعني: الخليل المضلّ. سمّاه شيطانا لأنّه أضلّه كما يضلّ الشيطان، ثمّ خذله و

لم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس، لأنّه حمله على مخالّته و مخالفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو كلّ من تشيطن من جنّ و إنس.

لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يواليه حتّى يؤدّيه إلى الهلاك، ثمّ يتركه مخذولا و لا ينفعه. فعول من الخذلان.

و هذه الجملة الفعليّة يحتمل أن تكون حكاية كلام الظالم، و أن تكون كلام اللّه.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 30 الى 31]

وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [30] وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً [31]

ص: 564

وَ قالَ الرَّسُولُ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ، أو في الدنيا بثّا إلى اللّه يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قريشا اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً بأن تركوه و صدّوا عنه و عن الإيمان.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من تعلّم القرآن و علّق مصحفه، و لم يتعاهده و لم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلّقا به، يقول: يا ربّ العالمين عبدك هذا اتّخذني مهجورا، اقض بيني و بينه».

و قيل: هو من: هجر إذا هذى، أي: جعلوه مهجورا فيه، فحذف الجارّ.

و هو على وجهين:

أحدهما: زعمهم أنّه هذيان و باطل و أساطير الأوّلين.

و الثاني: أنّهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، كقوله: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ (1).

و يجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر، كالمعقول. و المعنى: اتّخذوه هجرا.

و في هذه الحكاية تعظيم للشكاية، و تخويف لقومه، لأنّ الأنبياء صلّى اللّه عليهم إذا شكوا إلى اللّه قومهم عجّل لهم العذاب و لم ينظروا.

ثمّ سلّى سبحانه رسوله، و وعده النصرة عليهم، فقال: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ كما جعلناه لك، فاصبر كما صبروا. و العدوّ يحتمل الواحد و الجمع، كقوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي (2).

و ملخّص المعنى: أنّ اللّه سبحانه أمر الأنبياء أن يدعوهم إلى الإيمان باللّه تعالى، و ترك ما ألفوه من دينهم و دين آبائهم، و إلى ترك عبادة الأصنام و ذمّها، و كانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة، فإذا أمرهم بها فقد جعلهم عدوّا لهم.

وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً إلى طريق قهرهم و الانتصار منهم وَ نَصِيراً لك عليهم.

ص: 565


1- فصّلت: 26.
2- الشعراء: 77.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 32 الى 34]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً [32] وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً [33] الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً [34]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أي: أنزل، كخبّر بمعنى: أخبر، لئلّا يناقض قوله: جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة، كالكتب الثلاثة.

و هذا أيضا من اعتراضاتهم و اقتراحاتهم على شرادهم عن الحقّ، و تجافيهم عن اتّباعه. و لا طائل تحته، لأنّ الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرّقا. و هم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، و تحدّوا بسورة واحدة من أصغر السّور، فأبرزوا صفحة عجزهم حين لاذوا بالمناصبة و المنازعة، و فزعوا إلى المحاربة. فاقتراحهم إنزاله جملة واحدة محض شراد و عناد.

مع أنّ للتفريق فوائد. منها: ما أشار إليه بقوله: كَذلِكَ صفة مصدر محذوف.

و الإشارة إلى ما فهم من قولهم، فإنّ قولهم: لو لا أنزل عليه جملة، معناه: لم أنزل مفرّقا؟

فيكون المعنى: كذلك أنزلناه إنزالا كذلك، أي: أنزلناه على التفريق.

لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنقوّي بتفريقه فؤادك على حفظه و فهمه، لأنّ حاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخالف حال عيسى و موسى و داود عليهم السّلام، حيث كان أمّيّا و كانوا يكتبون، فلو ألقي إليه جملة لدهش بحفظه، فلم يكن له بدّ من التلقّن و التحفّظ على وجه النجوم. و لأنّ فيه مزيد بصيرة و غوص في المعنى. و لأنّ نزوله على حسب الوقائع و جوابات السائلين.

و لأنّه إذا نزّل منجّما و هو يتحدّى بكلّ نجم، فيعجزون عن معارضته، و زاد ذلك قوّة قلبه.

و لأنّه إذا نزّل به جبرائيل حالا بعد حال يثبت به فؤاده. و لأنّ فيه معرفة الناسخ و المنسوخ.

و غير ذلك من الفوائد.

ص: 566

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا معطوف على الفعل الّذي تعلّق به «كذلك». كأنّه قال: كذلك فرقناه و رتّلناه ترتيلا، أي: قرأناه عليك شيئا فشيئا على تؤده و تمهّل، في عشرين سنة، أو ثلاث و عشرين سنة. و أصله: الترتيل في الأسنان، و هو تفليجها (1). يقال: ثغر مرتّل و رتل.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يا ابن عبّاس إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا. قال: و ما الترتيل؟ قال: بيّنه تبيينا، و لا تنثره نثر الدقل (2)، و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب، و لا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة».

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة- كأنّه مثل في البطلان- يريدون به القدح في نبوّتك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ أتيناك نحن بالجواب الحقّ الّذي لا محيد لهم عنه، الدافع لسؤالهم وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً و بما هو أحسن معنى من سؤالهم.

و لمّا كان التفسير هو التكشيف عمّا يدلّ عليه الكلام، وضع موضع: معناه، فقالوا:

تفسير هذا الكلام كيت و كيت، كما قيل: معناه كذا و كذا.

أو لا يأتونك بحال عجيبة يقولون: هلّا كانت هذه صفتك و حالك، من مقارنة ملك بك ينذر معك، و إلقاء كنز إليك، أو كون الجنّة لك، أو إنزال القرآن عليك جملة، إلّا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحقّ لك في حكمتنا و مشيئتنا أن تعطاه، و ما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه. و لهذا ينزّل عليك القرآن منجّما، لأنّ تنزيله مفرّقا، و تحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلّما نزل شي ء منها، أدخل في الإعجاز، و أنور للحجّة من أن ينزّل كلّه جملة.

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي: مقلوبين، أو مسحوبين عليها.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدوابّ، و صنف على الأقدام، و صنف على الوجوه».

و هو ذمّ مرفوع أو منصوب. أو مبتدأ خبره أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا

ص: 567


1- المفلّجة من الأسنان: المنفرجة.
2- الدقل: أردأ التمر. و الهذّ: سرعة القراءة.

و المفضّل عليه هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على طريقة قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ (1). كأنّه قيل: إنّما يحملهم على هذه السؤالات أنّهم يضلّلون سبيله، و يحتقرون مكانه و منزلته، و إذا سحبوا على وجوههم إلى جهنّم علموا أنّ مكانهم شرّ من مكانه، و سبيلهم أضلّ من سبيله.

و قيل: إنّه متّصل بقوله: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا (2). و وصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.

أورد البخاري في الصحيح عن أنس: «أنّ رجلا قال: يا نبيّ اللّه كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال:

إن الّذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» (3).

[سورة الفرقان [25]: الآيات 35 الى 39]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً [35] فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً [36] وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً [37] وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [38] وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً [39]

ثمّ ذكر حديث الأنبياء و أممهم تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى

ص: 568


1- المائدة: 60.
2- الفرقان: 24.
3- صحيح البخاري 6: 137.

الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً يوازره، أي: معينا يعينه في الدعوة و إعلاء الكلمة. و الوزارة لا تنافي النبوّة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، و يؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا.

فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا يعني: فرعون و قومه بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي: فذهبا إليهم فكذّبوهما فدمّرناهم، أي: فأهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة.

فاقتصر على حاشيتي القصّة اكتفاء بما هو المقصود منها، و هو إلزام الحجّة ببعثة الرّسل، و استحقاق التدمير بتكذيبهم. و مثله قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ (1) أي: فضرب فانفلق.

وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ كذّبوا نوحا و من قبله من الرسل صريحا. أو نوحا وحده، و لكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الجميع. أو كذّبوا بعثة الرسل مطلقا، كالبراهمة. أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَ جَعَلْناهُمْ و جعلنا إغراقهم، أو قصّتهم لِلنَّاسِ آيَةً عبرة وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي: لجميع الظلمة من أمم الأنبياء. أو لجميع قوم نوح، فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر، تظليما لهم.

وَ عاداً وَ ثَمُودَ عطف على «هم» في «جعلناهم» وَ أَصْحابَ الرَّسِ قوم كانوا عبدة الأصنام، و أصحاب آبار و مواش، و لهم بئر غير مطويّة يسكنون عليها، و يعبدون الأصنام، فبعث اللّه إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام، فتمادوا في طغيانهم و في إبذائه، فانهارت البئر، فخسف بهم و بديارهم.

و قيل: الرّسّ قرية بفلج اليمامة، كان فيها بقايا ثمود، فبعث إليهم نبيّ فقتلوه فهلكوا.

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ نساءهم كنّ سحّاقات».

و قيل: هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبيّ، ابتلاهم اللّه بطير عظيم كان فيها من

ص: 569


1- الشعراء: 63.

كلّ لون، و سمّوها عنقاء لطول عنقها، و كانت تسكن جبلهم الّذي يقال له: فتح أو دمح، و تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد، و لذلك سمّيت مغربا. فدعا عليها حنظلة، فأصابتها الصاعقة. ثمّ إنّهم قتلوا حنظلة فأهلكوا.

و قيل: هم أصحاب الأخدود. و الرسّ: هو الأخدود (1). و قيل: الرسّ بأنطاكية، قتلوا فيها حبيبا النجّار. و قيل: قوم كذّبوا نبيّهم، و رسّوه في بئر، أي: دسّوه فيها.

وَ قُرُوناً و أهل أعصار. و قيل: القرن أربعون سنة. و قيل: سبعون. و قيل: مائة و عشرون. بَيْنَ ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر، فإنّه قد يذكر الذاكر أشياء مختلفة، ثمّ يشير إليها بذلك، أي: ذلك المذكور. و كذا يحسب الحاسب أعدادا متكاثرة، ثمّ يقول: فذلك كيت و كيت. على معنى: فذلك المحسوب أو المعدود. كَثِيراً لا يعلمها إلّا اللّه.

وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بيّنّا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين، و وصفنا لهم ما أجروا إليه من تكذيب الأنبياء إنذارا و إعذارا، فلمّا أصرّوا أهلكوا، كما قال عزّ اسمه: وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً فتتناه تفتيتا.

و منه: التبر لفتات الذهب و الفضّة و الزجاج.

و «كلّا» الأوّل منصوب بما دلّ عليه «ضربنا»، و هو: أنذرنا. و الثاني ب «تبّرنا» لأنّه فارغ له، بخلاف الأوّل.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 40 الى 42]

وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً [40] وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً [41] إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً [42]

ص: 570


1- الأخدود: الحفرة المستطيلة.

وَ لَقَدْ أَتَوْا يعني: قريشا مرّوا مرارا في متاجرهم إلى الشام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني: سدوم عظمى قرى قوم لوط. و كانت خمسا، أهلك اللّه أربعا بأهلها، و بقيت واحدة أمطرت عليها الحجارة.

أَ فَلَمْ يَكُونُوا في مرار مرورهم يَرَوْنَها ينظرون إليها، فيتّعظون بما يشاهدون فيها من آثار عذاب اللّه بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً بل كانوا كفرة لا يتوقّعون نشورا و لا عاقبة، فلذلك لم ينظروا و لم يتّعظوا، فمرّوا بها كما مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب. أو لا يخافونه، على اللغة التهاميّة.

وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ما يتّخذونك إلّا موضع هزؤ، أو مهزوءا به.

يعني: يستهزؤن بك. أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكيّ بعد قول مضمر، أي: يقولون:

أ هذا. و الهمزة و الاشارة للإنكار و الاستحقار. و إخراج بعث اللّه رسولا في معرض التسليم و الإقرار، و هم على غاية الإنكار، تهكّم و استهزاء. و لو لاه لقالوا: هذا الّذي زعم أنّه بعثه اللّه رسولا.

إِنْ كادَ إنّه كاد لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا ليصرفنا عن عبادتها، بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد، و كثرة ما يوردها ممّا يسبق إلى الذهن بأنّها حجج و معجزات لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ثبتنا عليها و استمسكنا بعبادتها لأزالنا عن ذلك.

و حذف الجواب لدلالة الكلام السابق عليه. ف «لو لا» جار من حيث المعنى- لا من حيث اللفظ- مجرى التقييد للحكم المطلق، لأنّ صناعة النحو تقتضي أنّ كلمات الشرط تأتي بعدها جملتان: شرط و جزاء. و قد يأتي في بعض المواضع الّذي يراد به تقييد الجملة المتقدّمة محذوفا جوابها، فيقيّد بها الجملة المذكورة قبلها، و يكون جوابها محذوفا. و كما تكون كلمات الشرط بهذه الحيثيّة، فكذلك «لو لا»، فإنّ حكمها حكم كلمات الشرط في اقتضاء الجملتين، و تقدير الربط بينهما.

روي: أنّ هذا من قول أبي جهل لعنه اللّه. فقال سبحانه متوعّدا عليه: وَ سَوْفَ

ص: 571

يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا من أخطأ طريقا عن الهدى، أنتم أم المؤمنون؟ و هو كالجواب لقولهم: «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا»، فإنّه يفيد نفي ما يلزمه و يكون الموجب له. و فيه وعيد و دلالة على أنّه لا يهملهم و إن أمهلهم.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 43 الى 44]

أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [43] أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [44]

روي: أنّ الرجل من المشركين كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به و أخذ يعبد الآخر، و منهم الحرث بن قيس السهمي، فعجّب اللّه سبحانه نبيّه من نهاية جهلهم، فقال:

أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن أطاعه و بنى عليه دينه، و يتّبعه في كلّ ما يأتي و يذر، لا يسمع حجّة، و لا يتبصّر دليلا، و لا يصغي إلى برهان. و إنّما قدّم المفعول الثاني للعناية به، كما تقول: علمت منطلقا زيدا، لفرط عنايتك بالمنطلق.

أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا قادرا على أن تمنعه عن الشرك و المعاصي.

و الاستفهام الأوّل للتقرير و التعجيب. و الثاني للإنكار، أي: كيف تستطيع أن تدعو من لا يرى معبوده إلّا الهوى إلى الهدى، و تجبره على الإسلام؟ و تسمية الحفيظ بالوكيل، لأنّ الوكيل هو الكافي للشي ء، و لا يكون كذلك إلّا و هو قادر عليه.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أَمْ تَحْسَبُ بل تظنّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ما تقوله سماع طالب للإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقوله لهم، و تقرأه عليهم، فتجدي لهم الآيات أو الحجج، فتهتمّ بشأنهم، و تطمع في إيمانهم. و هذا أشدّ ندامة ممّا قبله، حتّى حقّ بالإضراب عنه إليه. و تخصيص الأكثر لأنّه كان منهم من آمن، و منهم من عقل الحقّ و كابر استكبارا و خوفا على الرئاسة.

ثمّ شبّههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم، و عدم تدبّرهم فيما

ص: 572

شاهدوا من الدلائل و المعجزات، فقال:

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي: ما هم إلّا كالبهائم الّتي تسمع النداء و لا تعقل.

ثمّ جعلهم أضلّ منها، فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا من الأنعام، لأنّها تنقاد لمن يتعهّدها، و تميّز من يحسن إليها ممّن يسي ء إليها، و تطلب ما ينفعها، و تتجنّب ما يضرّها. و هم لا ينقادون لربّهم، و لا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان الّذي هو أعدى أعدائهم، و لا يطلبون الثواب الّذي هو أعظم المنافع، و لا يتّقون العقاب الّذي هو أشدّ المضارّ و المهالك. و لأنّها إن لم تعتقد حقّا، و لم تكتسب

خيرا، لم تعتقد باطلا، و لم تكتسب شرّا، بخلاف هؤلاء. و لأنّ جهالتها لا تضرّ بأحد، و جهالة هؤلاء تؤدّي إلى هيج الفتن، و صدّ الناس عن الحقّ. و لأنّها غير متمكّنة من طلب الكمال، فلا تقصير منها و لا ذمّ. و هؤلاء مقصّرون و مستحقّون أعظم العقاب على تقصير هم، فبينهما بون بعيد.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 45 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً [45] ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً [46] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [47] وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً [48] لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً [49]

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [50]

ص: 573

ثمّ نبّه سبحانه على النظر فيما يدلّ على وحدانيّته و كمال قدرته بطريق آخر، ليستوفي الإلزام عليهم، فقال:

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ ألم تنظر إلى صنعه و قدرته كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ كيف جعله منبسطا ممتدّا لينتفع به الناس؟ أو ألم تنظر إلى الظلّ كيف مدّه ربّك؟ فغيّر النظم إشعارا بأنّه المعقول من هذا الكلام، لوضوح برهانه، و هو دلالة حدوثه و تصرّفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة، على أنّ ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي، فكيف بالمحسوس منه. أو ألم ينته علمك إلى أنّ ربّك كيف مدّ الظلّ؟ و هو ظلّ الأجرام، من نحو الجبال و الحيطان و الأشجار.

و عن ابن عبّاس و الضحّاك و سعيد بن جبير: المراد الظلّ من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. و هو أطيب الأحوال، فإنّ الظلمة الخالصة تنفّر الطبع و تسدّ النظر، و شعاع الشمس يسخن الجوّ و يبهر البصر. و لذلك وصف به الجنّة فقال: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (1).

وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثابتا، من السكنى، أي: لاصقا بأصل كلّ مظلّ، من جبل و بناء و شجرة، غير منبسط، فلم ينتفع به أحد. سمّي انبساط الظلّ و امتداده تحرّكا، و عدم ذلك سكونا، تجوّزا. أو جعله غير متقلّص، من السكون، بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد.

ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فإنّه لا يظهر للحسّ حتّى تطلع، فيقع ضوءها على بعض الأجرام. أو لا يوجد و لا يتفاوت إلّا بسبب حركتها. يعني: أنّ الناس يستدلّون بالشمس و أحوالها في مسيرها على أحوال الظلّ، من كونه ثابتا في مكان و زائلا، و متّسعا و متقلّصا. و لو لا الشمس لما عرف الظلّ، و لو لا النور لما عرفت الظلمة. فيبنون حاجتهم إلى الظلّ على حسب ذلك.

و لمّا عبّر عن إحداثه بالمدّ بمعنى التسيير، عبّر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي

ص: 574


1- الواقعة: 30.

هو في معنى الكفّ، فقال:

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا أي: أنزلناه بإيقاع الشمس موقعه قَبْضاً يَسِيراً قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس، لينتظم بذلك مصالح الكون، و يتحصّل به ما لا يحصى من منافع الخلق. و لو قبض دفعة واحدة لتعطّلت مرافق الناس بالظلّ و الشمس جميعا.

و «ثمّ» في الموضعين لبيان تفاضل الأمور الثلاثة، فإنّ الثاني أعظم من الأوّل، و الثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت.

و قيل: حدّ الظلّ حين بنى السماء كالقبّة المضروبة بلا نيّر، و دحا الأرض تحتها، فألقت القبّة ظلّها على الأرض، و لو شاء لجعله ساكنا ثابتا على تلك الحالة. ثمّ خلق الشمس عليه دليلا، أي: سلّطها عليه و نصبها دليلا مستتبعا إيّاه، كما يستتبع الدليل المدلول، فهو يزيد بها و ينقص، و يمتدّ و يتقلّص. ثمّ نسخه بها، فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير، إلى أن تنتهي غاية نقصانه. أو يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه، و هي الأجرام الّتي تبقي الظلّ. فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه. و في قوله: «قبضناه إلينا» دلالة عليه. و كذلك في قوله: «يسيرا»، كقوله:

ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (1).

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شبّه ظلامه باللباس في ستره، أي: غطاء ساترا للأشياء بالظلام، كاللباس الّذي يشتمل على لابسه.

وَ النَّوْمَ سُباتاً راحة للأبدان بقطع المشاغل. و أصل السبت القطع. أو موتا، كقوله: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ (2) لأنّه قطع الحياة. و منه: المسبوت للميّت.

وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ذا نشور، أي: انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش، أو

ص: 575


1- ق: 44.
2- الأنعام: 60.

تنتشر الأرواح في اليقظة. أو بعث من النوم بعث الأموات. فيكون إشارة إلى أنّ النوم و اليقظة أنموذج للموت و النشور. و عن لقمان: «يا بنيّ كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر».

وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ و قرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس بُشْراً ناشرات للسحاب. جمع نشور (1). و قرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف. و حمزة و الكسائي به و بفتح النون، على أنّه مصدر وصف به. و عاصم: بشرا، تخفيف بشر جمع بشور، بمعنى المبشّر.

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني: قدّام المطر وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً بليغا في طهارته. بمعنى: طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره، مزيلا للأحداث و الأخباث. و يعضده قوله تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ (2).

و قيل: هو اسم لمال يتطهّر به، كالوضوء و الوقود و السحور، بمعنى ما يتوضّأ به و يتوقّد به و يتسحّر به. أو بمعنى الطهارة،

كقوله عليه السّلام: «لا صلاة إلّا بطهور».

و استدلّوا بالنقل و الاستعمال.

أمّا الأوّل فلما ذكره اليزيدي من أنّ الطهور بالفتح من الأسماء المتعدّية، بمعنى المطهّر غيره. و هو أحد أئمّة اللغة، و من القرّاء السبعة.

و أمّا الثاني فلأنّه مراد في الاستعمال، فيكون حقيقة. أمّا إرادته فلقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا، و ترابها طهورا».

و لو أراد الطاهر لم يكن له مزيّة. و لأنّهم يقولون: ماء طهور، و لا يقولون: ثوب طهور، فلا بدّ من فائدة تختصّ بالماء، و لا تظهر الفائدة إلّا مع إفادة التطهير لغيره، فهو من الوضع الثاني.

ص: 576


1- النشور من الرياح: الّتي تنشر السحاب. و جمعها: نشر. و قرئ: نشرا، نشرا، بشرا. و الأخيرة هي القراءة المتّبعة في المصحف الشريف.
2- الأنفال: 11.

و قال بعض الحنفيّة: إنّ طهورا فعول يفيد المبالغة في فائدة فاعل، كما يقال:

ضروب و أكول لزيادة الضرب و الأكل، و لا يفيد شيئا مغايرا له. فعلى هذا لا يكون بمعنى المطهّر، لأنّ كونه مطهّرا مغاير لمعنى الطاهر، فلا تتناوله المبالغة. و لأنّه قد يستعمل فيما لا يفيد التطهير، كقوله تعالى: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (1). و قول الشاعر:

عذب الثنايا ريقهنّ طهور.

و الحقّ أنّ التعدّي في الحقيقة لمطهّر، و ألحقوا طهورا به توقيفا. و توصيف الماء به إشعار بالنعمة، و تتميم للمنّة فيما بعده، فإنّ الماء الطهور أهنأ و أنفع ممّا خالطه ما يزيل طهوريّته، و تنبيه على أنّ ظواهرهم لمّا كانت ممّا ينبغي أن يطهّروها، فبواطنهم بذلك أولى.

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً بالنبات. و تذكير «ميتا» لأنّ البلدة في معنى البلد. و لأنّه غير جار على الفعل، كفعول و مفعال و مفعيل، و غيرها من أبنية المبالغة، فأجري مجرى الجامد.

وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً يعني: أهل البوادي الّذين يعيشون بالمطر، و لذلك نكّر الأنعام و الأناسيّ. و هو جمع إنسيّ أو إنسان. و نحوه ظرابي في ظربان. و هو دويبّة منتنة الريح. فقلبت النون ياء حين جمع.

و وصف بالكثرة، لأنّ كثيرا منهم لا يعيشون إلّا بما ينزل اللّه من رحمته و سقيا سمائه. كأنّه قال: لنحيي به بعض البلاد الميتة، و نسقيه بعض الأنعام و الأناسيّ، و ذلك البعض كثير.

و أمّا تخصيص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب، لأنّ الطير و الوحش تبعد في طلب الماء، فلا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام.

ص: 577


1- الإنسان: 21.

و قدّم إحياء الأرض و سقي الأنعام على سقي الأناسيّ، لأنّ حياة الأناسيّ بحياة أرضهم و حياة أنعامهم، فقدّم ما هو سبب حياتهم و تعيّشهم على سقيهم. و لأنّهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم و مواشيهم، لم يعدموا سقياهم.

و اعلم أنّ مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة، فهو أيضا لتعداد أنواع النعمة.

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ صرّفنا هذا القول بين الناس في القرآن، و سائر الكتب و الصحف الّتي أنزلت على الرسل. و هو ذكر إنشاء السحاب و إنزال القطر.

و قيل: معناه: صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، و الأوقات المتغايرة، و على الصفات المتفاوتة، من وابل (1) و طلّ و ديمة، و أمثالها في القوّة و الضعف.

و عن ابن عبّاس: ما عام أمطر من عام، و لكنّ اللّه قسّم ذلك بين عباده على ما شاء.

و تلا هذه الآية.

و روي: أنّ الملائكة يعرفون عدد المطر و مقداره في كلّ عام. أو صرّفنا المطر في الأنهار و المنافع (2) على سعة قدرتنا.

لِيَذَّكَّرُوا ليتفكّروا و يعرفوا كمال القدرة و حقّ النعمة في ذلك، و يقوموا بشكره. أو ليعتبروا بالصرف عنهم و إليهم. و قرأ حمزة و الكسائي بسكون الذال و ضمّ الكاف مخفّفة.

فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلّا كفران النعمة و قلّة الاكتراث لها. أو جحودها، بأن يقولوا: مطرنا بنوء (3) كذا، و لا يذكروا صنع اللّه و رحمته. و من لا يرى الأمطار إلّا من

ص: 578


1- الوابل: المطر الشديد. و الطلّ: المطر الضعيف. و الديمة: مطر يدوم في سكون بلا رعد و لا برق.
2- المنافع جمع المنقع. و هو البحر، أو الموضع يستنقع فيه الماء.
3- النوء: النجم، المطر. كانت العرب في الجاهليّة إذا سقط من الأنواء نجم و طلع آخر قالوا: لا بدّ من أن يكون عند ذلك مطر، فينسبون كلّ غيث يكون عند ذلك إلى النجم، فيقولون: مطرنا بنوء الثريّا أو بنوء الدبران.

الأنواء كافر، بخلاف من يرى أنّها من خلق اللّه بوسائط، يجعلها اللّه دلائل و أمارات عليها، فإنّه لم يكفر بهذا الاعتقاد.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 51 الى 52]

وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً [51] فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [52]

ثمّ وقّر اللّه رسوله و عظّمه و كرّمه بقوله: وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيّا ينذر أهلها، فيخفّ عليك أعباء النبوّة. لكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك، و تعظيما لشأنك، و تفضيلا لك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالثبات و التشدّد، و التصبّر و الاجتهاد، في صدوع الدعوة و إظهار الحقّ.

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه. و هو تهييج له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للمؤمنين.

وَ جاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن. أو بترك طاعتهم الّذي يدلّ عليه «فلا تطع».

و المعنى: أنّهم يجتهدون في توهين أمرك و إبطال حقّك، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم و إزاحة باطلهم.

جِهاداً كَبِيراً لأنّ مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر و أشقّ من مجاهدة الأعداء بالسيف.

و يحتمل أن يكون ضمير «به» يرجع إلى ما دلّ عليه «وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» من كونه نذير كافّة القرى. فالمعنى: لو بعثنا في كلّ قرية نذيرا لوجبت على كلّ نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت عليك تلك المجاهدات كلّها، فكبر جهادك من أجل ذلك و عظم.

ص: 579

[سورة الفرقان [25]: الآيات 53 الى 54]

وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً [53] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [54]

ثمّ بيّن قدرة اخرى من أقداره الكاملة، فقال: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلّاهما و أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان. من: مرج دابّته إذا خلّاها.

هذا عَذْبٌ طيّب ذو حلاوة فُراتٌ قامع للعطش من فرط عذوبته، فإنّ أصله القمع وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ بليغ الملوحة.

وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً حاجزا من قدرته، كقوله تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها (1) و هو قدرته وَ حِجْراً مَحْجُوراً و تنافرا بعيدا، كأنّ كلّا منهما يقوله للآخر ما يقوله المتعوّذ للمتعوّذ عنه. و هي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كما قال: لا يَبْغِيانِ (2) أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة. فانتفاء البغي ثمّة كالتعوّذ هاهنا. فجعل كلّ واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوّذ منه. و هي من أحسن الاستعارات، و أشهدها على البلاغة.

و قيل: معناه: حدّا محدودا. و ذلك كدجلة تدخل البحر فتشقّه، فتجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها.

و قيل: المراد بالبحر العذاب النهر العظيم مثل النيل، و بالبحر الملح البحر الكبير، و بالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض، فتكون القدرة في الفصل و اختلاف الصفة، مع أنّ

ص: 580


1- الرعد: 2.
2- الرحمن: 20.

مقتضى طبيعة أجزاء كلّ عنصر أن تضامّت و تلاصقت و تشابهت في الكيفيّة.

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً يعني: الماء الّذي خمّر به طينة آدم. أو جعله جزءا من مادّة البشر، لتجتمع و تسلس و تقبل الأشكال و الهيئات بسهولة. أو النطفة.

فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً أي: قسّمه قسمين: ذوي نسب، أي: ذكورا ينسب إليهم. و ذوات صهر، أي: إناثا يصاهر بهنّ، و يحصل منهنّ الختونة (1)، كقوله تعالى:

فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (2).

و قيل: النسب: الّذي لا يحلّ نكاحه. و الصهر: النسب الّذي يحل نكاحه، كبنات العمّ و الخال.

و قال ابن سيرين: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، زوّج فاطمة عليها السّلام عليّا عليه السّلام، فهو ابن عمّه و زوج ابنته، فكان نسبا و صهرا.

وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً على ما أراد، حيث خلق من مادّة- أي: نطفة- واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة، و طباع متباعدة، و جعله قسمين متقابلين، و ربّما يخلق من نطفة واحدة توأمين مختلفين.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 55 الى 58]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [55] وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً [56] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً [57] وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً [58]

ص: 581


1- الختونة مصدر: ختنه، أي: تزوّج إليه و صاهره. و الختن: زوج الابنة.
2- القيامة: 39.

و بعد ذكر كمال قدرته و أنواع نعمه، أخبر عن الكفّار الّذين- مع ظهور قدرته الكاملة، و صنوف نعمه المتكاثرة عندهم- يشركون به، و يرتكبون أنواع المعاصي، فقال:

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ من الأصنام، أو كلّ ما عبد من دون اللّه تعالى، إذ ما من مخلوق يستقلّ بالنفع و الضرّ وَ كانَ الْكافِرُ جنس الكافر.

و قيل: أبو جهل. عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً مظاهرا للشيطان بالعداوة و الشرك. أو مظاهرا لأبناء جنسه في إطفاء نور دين اللّه.

و في الكشّاف: «الظهير و المظاهر، كالعوين و المعاون. و فعيل بمعنى مفاعل غير عزيز. و مثله: الصديق و الخليط. و يجوز أن يريد بالظهير الجماعة، كقوله:

وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (1). و قيل. هيّنا مهينا لا وقع له عنده، كالمطرح المتروك. من قولهم: ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك لا تلتفت إليه، فيكون كقوله:

وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ (2). و منه: وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا (3)» (4).

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمؤمنين وَ نَذِيراً للكافرين قُلْ لهؤلاء الكفرة ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة الّذي يدلّ عليه «إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» مِنْ أَجْرٍ تعطونيه إِلَّا مَنْ شاءَ إلّا فعل من شاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أن يتقرّب به إليه، أي: يطلب الزلفى عنده بالإيمان و الطاعة البدنيّة و الماليّة. فصوّر ذلك بصورة الأجر من حيث إنّه مقصود فعله. و استثناه منه قلعا لشبهة الطمع، و إظهارا لغاية الشفقة، حيث اعتدّ بإنفاعك- بالتعرّض للثواب، و التخلّص عن العقاب- أجرا وافيا مرضيّا به مقصورا عليه.

ص: 582


1- التحريم: 4.
2- آل عمران: 77.
3- هود: 92.
4- الكشّاف 3: 287.

و قيل: الاستثناء منقطع. و معناه: لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا فليفعل.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يثق به، و يسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسّك بقاعدة التوكّل و أساس الالتجاء، و هو طاعته و عبادته و تنزيهه و تحميده، فقال:

وَ تَوَكَّلْ و فوّض أمورك عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ لأنّه الحقيق بأن يتوكّل عليه، دون الأحياء الّذين يموتون، فإنّهم إذا ماتوا ضاع من توكّل عليهم. و عن بعض السلف أنّه قرأها فقال: لا يصحّ لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ و نزّهه عن صفات النقصان، مثنيا عليه بأوصاف الكمال، طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه.

ثمّ أراه أن ليس إليه من أمره عباده شي ء، آمنوا أم كفروا، فقال: وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منها و ما بطن خَبِيراً بأحوالهم، كافيا في جزاء أعمالهم، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 59 الى 60]

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [59] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً [60]

ثمّ ذكر أوصافه الحاثّة على التوكّل عليه بقوله: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يعني: في مدّة مقدارها هذه المدّة، لأنّه لم يكن حينئذ نهار و لا ليل. و قيل: ستّة أيّام من أيّام الآخرة. و كلّ يوم ألف سنة. و الظاهر أنّها من أيّام الدنيا.

و عن مجاهد: أوّلها يوم الأحد، و آخرها الجمعة. و وجهه أن يسمّي اللّه تعالى لملائكته تلك الأيّام المقدّرة بهذه الأسماء، فلمّا خلق الشمس و أدارها و ترتّب أمر العالم على ما

ص: 583

هو عليه، جرت التسمية على هذه الأيّام.

و أمّا الداعي إلى هذا العدد- أعني: الستّة- دون سائر الأعداد، فلا نشكّ أنّه داعي حكمة، لعلمنا أنّه لا يقدّر تقديرا إلّا بداعي حكمة، و إن كنّا لا نطّلع عليه، و لا نهتدي إلى معرفته، فإنّ خفاء الحكمة علينا لا يقتضي نفيها، و من ذلك تقدير الملائكة الّذين هم أصحاب النار تسعة عشر، و حملة العرش ثمانية، و الشهور اثني عشر، و السماوات سبعا، و غير ذلك. و الإقرار بدواعي الحكمة في جميع أفعاله، و بأنّ ما قدّره حقّ و صواب و حكمة، هو الإيمان. و قد نصّ عليه في قوله: وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا (1). و هو الجواب أيضا في أنّه لم يخلقها لحظة، و هو قادر على ذلك.

و عن سعيد بن جبير: إنّما خلقها في ستّة أيّام، و هو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليما لخلقه الرفق و التثبّت.

و قيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة، فجعله اللّه عيدا

للمسلمين.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد سبق (2) معنى الاستواء على العرش غير مرّة الرَّحْمنُ خبر «الّذي» إن جعلته مبتدأ. أو بدل من المستكن في «استوى» فَسْئَلْ بِهِ بسؤال ما ذكر. أو الباء بمعنى «عن». يعني: فاسأل عمّا ذكر من الخلق و الاستواء خَبِيراً عالما يخبرك بحقيقة، و هو اللّه تعالى، أو جبرئيل، أو من وجده في الكتب المتقدّمة، ليصدّقك فيه.

و قيل: الضمير للرحمن. و المعنى: إن أنكروا إطلاقه على اللّه تعالى، فاسأل عنه من

ص: 584


1- المدّثّر: 31.
2- راجع ج 2 ص 531 ذيل الآية 54 من سورة الأعراف، و ج 3 ص 188 ذيل الآية 3 من سورة يونس، و ص 425 ذيل الآية 2 من سورة الرعد، و ج 4 ص 222 ذيل الآية 5 من سورة طه.

يخبرك من أهل الكتاب، ليعرفوا مجي ء ما يرادفه في كتبهم.

و على هذا، يجوز أن يكون «الرحمن» مبتدأ، و الخبر ما بعده. و السؤال كما يعدّى ب «عن» لتضمّنه معنى التفتيش، يعدّى بالباء، لتضمّنه معنى الاعتناء و الاهتمام.

و قيل: إنّه صلة «خبيرا» أي: فاسأل رجلا خبيرا به.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ لأنّهم ما كانوا يطلقونه على اللّه. أو لأنّهم ظنّوا أنّه أراد به غيره، فإنّهم كانوا يقولون: ما نعرف الرّحمن إلّا الّذي باليمامة، يعنون مسيلمة. و لذلك قالوا: أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي: للّذي تأمرناه. يعني:

تأمرنا بسجوده. أو لأمرك لنا من غير عرفان، على أنّها مصدريّة. و قيل: لأنّه كان معربا لم يسمعوه. و قرأ حمزة و الكسائي: يأمرنا بالياء، على أنّه قول بعضهم لبعض. وَ زادَهُمْ نُفُوراً عن الإيمان.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 61 الى 62]

تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً [61] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [62]

ثمّ مدح اللّه سبحانه نفسه بصفات الكمال و نعوت الجلال الدالّة على رحمانيّته، فقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني: منازل الكواكب السبعة السيّارة:

الحمل، و الثور، و الجوزاء، و السرطان، و الأسد، و السنبلة، و الميزان، و العقرب، و القوس، و الجدي، و الدلو، و الحوت. سمّيت بالبروج الّتي هي القصور العالية، لأنّها لهذه الكواكب كالمنازل لسكّانها. و اشتقاق البرج من التبرّج، لظهوره.

وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً يعني: الشمس، لقوله تعالى: وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (1). و قرأ حمزة و الكسائي: سرجا. و هي: الشمس و الكواكب الكبار معها.

ص: 585


1- نوح: 16.

وَ قَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أي: ذوي خلفة يخلف كلّ منهما الآخر، بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، أي: ذوي عقبة، بأن يعقب هذا ذاك و ذاك هذا.

و منه قوله تعالى: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ (1) و الفعلة للحالة، كالركبة و الجلسة.

و المعنى: جعلهما للحالة الّتي يخلف عليها كلّ واحد منهما الآخر.

لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي: يتذكّر آلاء اللّه، و يتفكّر في صنعه، بأن ينظر في اختلافهما، فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال و تغيّرهما من ناقل و مغيّر، و يستدلّ بذلك على وجود صانع حكيم، واجب بالذات، رحيم على العباد أَوْ أَرادَ شُكُوراً أن يشكر اللّه على ما فيه من النعم. أو ليكونا وقتين للمتذكّرين و الشاكرين، من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركه في الآخر. كما نقل عن الحسن: من فاته عمله من التذكّر و

الشكر بالنهار، كان له في الليل مستعقب، و من فاته بالليل كان له في النهار مستعقب.

و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، حيث قال: «تقضى صلاة النهار بالليل، و صلاة الليل بالنهار».

و قرأ حمزة: أن يذكر، من: ذكر، بمعنى: تذكّر، و كذلك: ليذكّروا. و وافقه الكسائي فيه.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 63 الى 67]

وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [63] وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً [64] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [65]

ص: 586


1- البقرة: 164.

إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً [66] وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [67]

وَ عِبادُ الرَّحْمنِ مبتدأ خبره أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا (1) و ما بينهما صفات لهم. و يجوز أن يكون خبره قوله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ و إضافتهم إلى الرحمان للتخصيص و التفضيل، فيريد أفاضل عباده. و هذا كما يقال: ابني من يطيعني، أي: ابني الّذي أنا عنه راض، و يكون توبيخا لأولاده الّذين لا يطيعونه. أو لأنّهم الراسخون في عبادته، على أنّ عباد جمع عابد، كتاجر و تجار.

هَوْناً حال، أي: هيّنين. أو صفة للمشي، أي: مشيا هيّنا. و على التقديرين مصدر وصف به. و الهون: الرفق و اللين. و المعنى: أنّهم يمشون بسكينة و تواضع، لا يضربون بأقدامهم أشرا و بطرا. و لذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، لقوله:

وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ (2).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «هو الرجل يمشي بسجيّته الّتي جبل عليها، لا يتكلّف و لا يتبختر».

وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً تسلّما منكم لا نجاهلكم، و متاركة لكم، لا خير بيننا و لا شرّ، أي: نتسلّم منكم تسلّما. فأقيم السلام مقام التسلّم.

و قيل: معناه: قالوا سدادا من القول، يسلمون فيه من الإيذاء و الإثم. و يؤيّده قوله:

ص: 587


1- و هي الآية 75 في آخر هذه السورة.
2- الفرقان: 20.

وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ (1).

و المراد بالجهل السفه و قلّة الأدب. و ليس ما قال أبو العالية: من أنّها نسخت بآية (2) القتال، بشي ء، لأنّ المراد هو الإغضاء عن السفهاء و ترك مقابلتهم في الكلام، و هو لا ينافيها.

وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً في الصلاة. و تخصيص البيتوتة، لأنّ العبادة بالليل أحمز، و أبعد عن الرياء. و تأخير القيام للرويّ. و هو جمع قائم، أو مصدر أجري مجراه.

قيل: من قرأ شيئا من القرآن في الصلاة و إن قلّ فقد بات ساجدا و قائما.

و قيل: هما الركعتان بعد المغرب، و الركعتان بعد العشاء. و الظاهر أنّه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره. يقال: فلان يظلّ صائما، و يبيت قائما.

ثمّ أشعر بأنّهم مع حسن مخالطتهم مع الخلق نهارا، و اجتهادهم في عبادة الحقّ ليلا، وجلون من العذاب، متضرّعون إلى اللّه في استدفاعه عنهم، لعدم اعتدادهم بأعمالهم، و وثوقهم على استمرار أحوالهم، فقال:

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً لازما دائما غير مفارق. و منه: الغريم، لملازمته و عدم مفارقته.

إِنَّها ساءَتْ إنّ جهنّم بئست مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً. و في «ساءت» ضمير مبهم يفسّره «مستقرّا». و المخصوص بالذمّ ضمير محذوف، به ترتبط الجملة باسم «إنّ» أي:

بئست جهنّم موضع قرار و إقامة هي. و يجوز أن يكون «ساءت» بمعنى:

أحزنت، و فيها ضمير اسم «إنّ»، و «مستقرّا» حال أو تمييز. و الجملة تعليل للعلّة الأولى، أو تعليل ثان.

ص: 588


1- القصص: 55.
2- التوبة: 5 و 29.

و كلاهما يحتملان حكاية لقولهم، و ابتداء من اللّه.

وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا لم يجاوزوا حدّ الكرم وَ لَمْ يَقْتُرُوا و لم يضيّقوا تضييق الشحيح.

و قيل: الإسراف هو الإنفاق في المحارم، و أمّا في القرب فلا إسراف. و سمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير. و التقتير منع الواجب.

و روي عن معاذ أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك، فقال: «من أعطي في غير حقّ فقد أسرف، و من منع عن حقّ فقد قتر».

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء و كسر التاء. و نافع و ابن عامر: و لم يقتروا، من:

أقتر بمعنى: قتر.

وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وسطا عدلا. سمّي به لاستقامة الطرفين و اعتدالهما، كما سمّي سواء لاستوائهما. و القوام من العيش ما أقامك و أغناك. و هو خبر ثان، أو حال مؤكّدة. و يجوز أن يكون خبرا، و «بين ذلك» ظرف لغو. و أجاز الفرّاء أن يكون «بين ذلك» اسم «كان» لكنّه مبنيّ، لإضافته إلى غير متمكّن. و هو ضعيف، لأنّه بمعنى القوام، فيكون كالإخبار بالشي ء عن نفسه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أربعة لا يستجاب لهم دعوة: رجل فاتح فاه جالس في بيته يقول: يا ربّ ارزقني. فيقول له: ألم آمرك بالطلب؟ و رجل كانت له امرأة يدعو عليها، يقول: يا ربّ أرحني منها. فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك؟ و رجل كان له مال فأفسده، فيقول: يا ربّ ارزقني. فيقول: ألم آمرك بالاقتصاد؟ و رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة.

فيقول: ألم آمرك بالشهادة؟».

[سورة الفرقان [25]: الآيات 68 الى 71]

وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [68] يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ

ص: 589

الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [69] إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [70] وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً [71]

عن ابن مسعود: «قلت: يا رسول اللّه أيّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل للّه ندّا و هو خلقك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: إن تزاني حليلة جارك».

فصدّقه اللّه بذلك فقال:

وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا يجعلون للّه سبحانه شريكا، بل إنّما يوجّهون عبادتهم إليه وحده وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي: حرّمها، بمعنى حرّم قتلها إِلَّا بِالْحَقِ متعلّق بهذا القتل المحذوف، أو ب «لا يقتلون». وَ لا يَزْنُونَ

نفى هذه المقبّحات العظام- الّتي هي أمّ المعاصي- عن الموصوفين بأصول الطاعات، الّتي هي الخلال العظيمة في الدين، إظهارا لكمال إيمانهم، و إشعارا بأنّ الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك، و تعريضا للكفرة بأضداده. و لذلك عقّبه بالوعيد تهديدا لهم، فقال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي: جزاء إثم، على حذف المضاف، بوزن الوبال و النكال و معناهما. عن مجاهد و عكرمة: أنّ أثاما اسم واد في جهنّم.

يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بدل من «يلق» لأنّه في معناه. و قرأ أبو بكر بالرفع على الاستئناف أو الحال. و كذلك وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً و يدوم في العذاب مستحقّا به.

و قرأ ابن كثير و يعقوب: يضعّف بالتشديد و الجزم. و ابن عامر بالرفع فيهما مع التشديد.

و تضعيف العذاب لارتكابهم الشرك و المعاصي، فيعذّبون على الشرك و على

ص: 590

المعاصي، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. و ملخّص المعنى: أنّهم يستحقّون على كلّ معصية منها عقوبة، فيضاعف عليه العذاب.

إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة، أو بدونها تفضّلا، و يثبت مكانها الحسنات: الإيمان، و الطاعة، و التقوى. أو يبدّل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة. و قيل: بأن يوفّقه لأضداد ما سلف منه. أو بأن يثبت له بدل كلّ عقاب ثوابا.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً ساترا لمعاصي عباده رَحِيماً منعما عليهم بالرحمة و الفضل، فلذلك يعفو عن السيّئات، و يثيب على الحسنات.

وَ مَنْ تابَ عن المعاصي، بأن يتركها و يندم عليها وَ عَمِلَ صالِحاً بأن يتلافى به ما فرط. أو خرج عن المعاصي، و دخل في الطاعة. فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ يرجع إلى امتثال أمره بذلك مَتاباً رجوعا مرضيّا عند اللّه، ماحيا للعقاب، محصّلا للثواب. أو فإنّه يرجع بالتوبة إلى ثواب اللّه مرجعا حسنا، و أيّ مرجع. و هذا تعميم بعد تخصيص.

[سورة الفرقان [25]: الآيات 72 الى 74]

وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [72] وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً [73] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [74]

ثمّ عاد سبحانه إلى وصف عباده المخلصين، فقال: وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: لا يحضرون محاضر الكذب و الفسق، و لا يقربونها تنزّها عن مخالطة الشرّ و أهله، و صيانة لدينهم عمّا يثلمه، لأنّ مشاهدة الباطل في حكم الشركة فيه. و لذلك قيل في

ص: 591

النظّارة إلى كلّ ما لم يسوّغه الشرع: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأنّ حضورهم و نظرهم دليل الرضا به، و سبب الزيادة فيه، لأنّ استحسان النظّارة و رغبتهم في النظر إليه يبعث مزيّة رغبة الفاعل فيه. و في مواعظ عيسى بن مريم عليه السّلام: «إيّاكم و مجالسة الخطّائين».

و روي عن الصادقين عليهما السّلام: «الزور هو الغناء».

و قيل: الشرك. و عن الزجّاج: الزور في اللغة الكذب، و لا كذب فوق الشرك باللّه. و قيل: الزور أعياد أهل الذمّة. و قيل: المراد شهادة الزور، على حذف المضاف. و أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ.

وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ بأهل اللغو و المشتغلين به. و هو ما يجب أن يلغى و يطرح.

مَرُّوا كِراماً مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه و الخوض فيه، معرضين عنه. و من ذلك: الإغضاء عن الفواحش، و الصفح عن الذنوب، و الكناية عمّا يستهجن التصريح به.

كما روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ المعنى: إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه. و أصل اللغو هو الفعل الّذي لا فائدة فيه.

وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالوعظ أو القراءة لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً لم يقعوا عليها غير واعين لها، و لا متبصّرين بما فيها، كمن لا يسمع و لا يبصر، بل أكبّوا عليها، حرصا على استماعها، و أقبلوا على المذكّر بها، و هم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية. فالمراد من النفي: نفي الحال دون الفعل، كما تقول: لا يلقاني زيد مسلّما، فإنّ المراد هو نفي السلام لا اللقاء. و قيل: الهاء للمعاصي المدلول عليها باللغو. عن الحسن: كم من قارئ يقرؤها فخرّ عليها أصمّ و أعمى.

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ما تقرّبه عيوننا بتوفيقك إيّاهم للطاعة و حيازة الفضائل و الفواضل، فإنّ المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة اللّه سرّ بهم قلبه، و قرّت بهم عينه، لما يرى من مساعدتهم له في الدين، و توقّع لحوقهم به في الجنّة.

ص: 592

و «من» ابتدائيّة، أي: هب لنا من جهتهم. أو بيانيّة، كقولك: رأيت منك أسدا، أي:

أنت أسد. كأنّه قيل: هب لنا قرّة أعين، ثمّ بيّنت القرّة بقوله: «مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا».

و قرأ ابن عامر و الحرميّان و حفص و يعقوب: و ذرّيّاتنا، و هم الأزواج و الأعقاب.

و تنكير الأعين لإرادة تنكير القرّة تعظيما، كأنّه قال: هب لنا منهم سرورا عظيما و فرحا كثيرا. و إنّما قال: أعين، دون عيون، لتقليلها، لأنّ المراد أعين المتّقين، و هي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. قال اللّه تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (1).

وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي: أئمّة يقتدون بنا في أمر الدين، بإفاضة العلم و التوفيق للعمل. و توحيده للدلالة على الجنس، و عدم اللبس، كقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا (2). أو لأنّه مصدر في أصله. أو لأنّ المراد: و اجعل كلّ واحد منّا. أو لأنّهم كنفس واحدة، لاتّحاد طريقتهم و اتّفاق كلمتهم. و فيه تنبيه على استحباب طلب الرئاسة في الدين، و الرغبة فيها. و قيل: جمع آمّ. كصائم و صيام. و المراد: قاصدين لهم، مقتدين بهم.

عن الصادق عليه السّلام في قوله: «وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً»: إيّانا عنى. و روي عنه أيضا أنّه قال: «هذه فينا».

[سورة الفرقان [25]: الآيات 75 الى 77]

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً [75] خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً [76] قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [77]

ص: 593


1- سبأ: 13.
2- الحجّ: 5.

و لمّا وصف عبادة العباد، و عدّد صالحاتهم و حسناتهم، أثنى عليهم من أجلها، و وعدهم الترفّع من درجاتهم في الجنّة و الخلود فيها، فقال:

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أعلى مواضع الجنّة. و هي اسم جنس أريد به الجمع، كقوله تعالى: وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (1). و قيل: هي من أسماء الجنّة. بِما صَبَرُوا بصبرهم على المشاقّ من مضض (2) الطاعات، و رفض الشهوات، و تحمّل المجاهدات، من أذى الكفّار، و مقاساة الفقر، و سائر مشاقّ الدين. و إطلاقه لأجل الشياع في كلّ مصبور عليه.

وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً دعاء بالتعمير و بالسلامة، أي: يحيّيهم الملائكة و يسلّمون عليهم. أو يحيّي بعضهم بعضا و يسلّم. أو يعطون التبقية و التخليد مع السلامة عن كلّ آفة. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر: و يلقون، من: لقي.

خالِدِينَ فِيها لا يموتون فيها و لا يخرجون حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً موضع استقرار و موضع إقامة. و هذا مقابل «ساءَتْ مُسْتَقَرًّا» معنى، و مثله إعرابا.

قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي ما يصنع بكم. من: عبأت الجيش إذا هيّأته. أو لا يعتدّ بكم. لَوْ لا دُعاؤُكُمْ لو لا عبادتكم، فإنّ شرف الإنسان و كرامته بالمعرفة و الطاعة، و إلّا فهو و سائر الحيوانات سواء. و قيل: معناه: ما يصنع بعذابكم لو لا دعاؤكم معه آلهة.

و «ما» إن جعلت استفهاميّة فمحلّها النصب على المصدر. كأنّه قيل: أيّ عب ء يعبأ بكم لو لا دعاؤكم؟ يعني: أنّكم لا تستأهلون شيئا من العب ء بكم لو لا عبادتكم. و فيه دلالة على أنّ من لا يعبد اللّه و لا يطيعه فلا وزن له عند اللّه.

و قيل: معناه: لو لا دعاؤكم له إذا مسّكم ضرّ أو أصابكم سوء، رغبة إليه و خضوعا له.

ص: 594


1- سبأ: 37.
2- المضض: الألم و الوجع.

روى العيّاشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: «كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدعاء؟ فقال: كثرة الدعاء أفضل. و قرأ هذه الآية».

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بما أخبرتكم به حيث خالفتموه. و قيل: فقد قصّرتم في العبادة. من قولهم: كذّب القتال إذا لم يبالغ فيه. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً يكون جزاء التكذيب لازما يحيق بكم لا محالة. أو العذاب لازما بكم حين تكبّون في النار. و إنّما أضمر اسم «كان» غير منطوق به، بعد ما علم أنّه ممّا توعّد به من غير ذكر، للتهويل، و التنبيه على أنّه ممّا لا يكتنهه الوصف. و قيل: المراد قتل يوم بدر، و أنّه لوزم بين القتلى لزاما.

ص: 595

ص: 596

فهرس الموضوعات

الصورة

ص: 597

الصورة

ص: 598

الصورة

ص: 599

الصورة

ص: 600

الصورة

ص: 601

الصورة

ص: 602

الصورة

ص: 603

الصورة

ص: 604

الصورة

ص: 605

الصورة

ص: 606

الصورة

ص: 607

الصورة

ص: 608

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.