زبدة التفاسير المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:الشریف الکاشاني، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان واسم المؤلف: زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشاني الشریف الکاشاني؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیة

تحرير الحالة: [ویرایش 2؟]

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 7

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیة؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

ISBN : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : الطبعة السابقة: مؤسسة التربية الإسلامية، 1378 (5 ج.)

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : کتابنامه

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن ق 10

المعرف المضاف: مؤسسة التربية الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP96/5/ک 2ز2 1381

تصنيف ديوي: 297/1726

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-26543

ص: 1

اشارة

زبدة التفاسير

تأليف

المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني قدس سره المتوفى سنة 988 ه_ . ق

الجزء الثالث

تحقيق ونشر

مؤسّسة المعارف الإسلامية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

[8] سورة الأنفال

اشارة

سورة الأنفال مدنيّة. و آيها خمس و سبعون.

و في خبر أبيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الأنفال و براءة فأنا شفيع له، و شاهد يوم القيامة أنّه بري ء من النفاق، و أعطي من الأجر بعدد كلّ منافق و منافقة، في دار الدنيا عشر حسنات، و محي عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات، و كان العرش و حملته يصلّون عليه أيّام حياته في الدنيا».

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأهما في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا، و كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا، و يأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم، حتّى يفرغ الناس من الحساب».

[سورة الأنفال [8]: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [1]

و لمّا قصّ اللّه سبحانه في سورة الأعراف قصص الأنبياء و ختمها بذكر

ص: 5

نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح سورة الأنفال بذكره، ثمّ ذكر ما جرى بينه و بين قومه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ أي: يسألك يا محمّد جماعة من أصحابك عَنِ الْأَنْفالِ أي: عن حكمها.

و اختلف في الأنفال ما هي؟ فقال ابن عبّاس و جماعة: إنّها غنيمة بدر. و قال قوم: هي أنفال السرايا. و قيل: هي ما شذّ عن المشركين من عبد و جارية من غير قتال. و قال قوم: هو الخمس.

و الصحيح ما قال الباقر و الصادق عليهما السّلام: إنّها كلّ ما أخذ من دار الحرب بغير قتال، و كلّ أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال أيضا، و يسمّيها الفقهاء فيئا، و الأرضون الموات، و الآجام، و بطون الأودية، و قطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة، و ميراث من لا وارث له.

قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ و لمن قام مقامه بعده من الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم، يصرفونها حيث شاؤا من مصالحهم و مصالح عيالهم. و قالا عليهما السّلام: «إنّ غنائم بدر كانت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاصّة، فقسّمها بينهم تفضّلا منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و هو مذهب أصحابنا الإماميّة. و يؤيّده أنّ الأنفال جمع نفل، و هي الزيادة على الشي ء، سمّي به لكونه زائدا على الغنيمة، كما سمّيت النافلة نافلة لزيادتها على الفرض، و سمّي ولد الولد نافلة لزيادته على الأولاد. و قيل: سمّيت النافلة نفلا، لأنّ هذه الأمّة فضّلت بها على سائر الأمم.

و اختلفوا في نسخ هذه الآية، فقال جماعة من المفسّرين: نعم، نسخت بآية وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ (1) الآية. و قال الطبري (2) و أصحابنا: ليست منسوخة. و هو الحقّ، لعدم المنافاة بينها و بين آية الخمس، لما ذكرنا من المغايرة بين الموضوعين.

ص: 6


1- الأنفال: 41.
2- تفسير الطبري 9: 119.

و قال سعيد بن المسيّب و جماعة: لا نفل بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و منعه جماعة من الفقهاء و أصحابنا، لما بيّنّا أنّها للإمام القائم مقامه.

و فائدة الجمع بين اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كفائدته في قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (1) على وجه يأتي إن شاء اللّه. فالمعنى: حكمها مختصّ باللّه تعالى و رسوله. و تخصيصها علم بفعل الرسول، فإنّ فعله حجّة كقوله. و في الكشّاف (2): أن حكمها مختصّ بهما، اللّه حاكم، و الرسول منفذ.

عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم بدر: من فعل كذا فله كذا.

فتسارع الشبّان فقتلوا سبعين و أسروا سبعين، ثمّ طلبوا نفلهم، و بقي الشيوخ و الوجوه تحت الرايات. فلمّا كانت الغنيمة جاء الشبّان يطلبون نفلهم. فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنّا كنّا ردءا، أي: عونا لكم، و لو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا. و جرى التشاجر بينهم، فنزلت. فقسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النفل بينهم بالسويّة.

و عن سعد بن أبي وقّاص: قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص، و أخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت له: إنّ اللّه قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: ليس لي هذا و لا لك. فما جاوزت إلّا قليلا حتّى جاءني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد أنزلت سورة الأنفال، فقال: يا سعد إنّك سألتني السيف و ليس لي، و إنّه قد صار لي، فاذهب فخذه.

و قال عبادة بن الصامت: اختلفنا في النفل و ساءت فيه أخلاقنا، فنزعه اللّه من أيدينا فجعله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقسّمه بيننا على السواء.

فخاطبنا بقوله:

فَاتَّقُوا اللَّهَ في الاختلاف و المشاجرة في الأنفال وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ الحال

ص: 7


1- الأنفال: 41، و سيأتي تفسيرها في ص: 42.
2- الكشّاف 2: 195.

الّتي بينكم من المنازعة بالمحابّة و الائتلاف، و المساعدة و المواساة فيما رزقكم اللّه تعالى، و تسليم أمره إلى اللّه و الرسول.

و قال الزّجاج: «ذات بينكم» أي: حقيقة وصلكم، و منه: لَقَدْ

تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ (1) أي: وصلكم و اجتماعكم على أوامر اللّه.

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان يقتضي ذلك.

أو إن كنتم كاملي الإيمان، فإنّ كمال الايمان بطاعة الأوامر، و الاتّقاء عن المعاصي، و إصلاح ذات البين بالعدل و الإحسان.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 2 الى 6]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [2] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [3] أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [4] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ [5] يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ [6]

ثمّ بيّن صفة خلّص المؤمنين بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: الكاملون في الإيمان الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ ذكر عندهم عقوبته و عدله، و وعيده على المعاصي بالعقاب، و اقتداره عليه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فزعت لذكره تهيّبا من جلاله، و استعظاما

ص: 8


1- الأنعام: 94.

له. و أمّا إذا ذكرت نعمة اللّه على عباده، و إحسانه إليهم، و فضله و رحمته عليهم، و ثوابه على الطاعات، اطمأنّت قلوبهم، كما قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (1)، و سكنت نفوسهم إلى عفو اللّه، فلا تنافي بين الآيتين.

و قيل: هو الرجل يهمّ بمعصية فيقال له: اتّق اللّه، فينزع عنها خوفا من عقابه.

وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً لزيادة المؤمن به، أي: ازدادوا يقينا و طمأنينة نفس و تصديقا بها، منضمّا إلى يقينهم بما أنزل قبل ذلك من القرآن، كما روي عن ابن عبّاس أنّ المعنى زادتهم تصديقا مع تصديقهم بما أنزل إليهم قبل ذلك. يعني: أنّهم يصدّقون

بالأولى و الثانية و الثالثة، و هكذا فكلّ ما يأتي من عند اللّه فيزداد تصديقهم كميّة لا كيفيّة، لأنّ الإيمان لا يقبل الزيادة و النقصان عندنا.

و قيل: إنّ المراد ازدياد الايمان، لاطمئنان النفس و رسوخ اليقين بتظاهر الأدلّة، أو بالعمل بموجبها. و هو قول من قال: إنّ الايمان يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية، بناء على أنّ العمل داخل فيه.

وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوّضون إليه أمورهم، و لا يخشون و لا يرجون إلّا إيّاه.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ إنّما خصّ فرض الصلاة و الزكاة بالذكر لعظم شأنهما، و تأكّد الأمر فيهما.

أُولئِكَ المستجمعون لهذه الخصال الحميدة هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا هم الّذين استحقّوا إطلاق اسم الإيمان حقيقة عليهم، لأنّهم حقّقوا إيمانهم، بأن ضمّوا

ص: 9


1- الرّعد: 28.

إليه مكارم أعمال القلوب، من الخشية و الإخلاص و التوكّل، و محاسن أفعال الجوارح الّتي هي المعيار عليها، من الصّلاة و الصدقة. و «حقّا» صفة مصدر محذوف، أي: إيمانا حقّا. أو مصدر مؤكّد للجملة الّتي هي «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ» كما تقول: هو عبد اللّه حقّا، أي: حقّ ذلك حقّا.

لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ شرف و كرامة و علوّ منزلة. و قيل: درجات الجنّة يرتقونها بأعمالهم. وَ مَغْفِرَةٌ و تجاوز لما فرط منهم من السيّئات وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ أي: حظّ عظيم أعدّ لهم فيها على سبيل التعظيم لا ينقطع عدده، و لا ينتهي أمده.

و هذا معنى الثواب.

كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ الكاف في محلّ الرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الحال كحال إخراجك. و المعنى: أنّ حالهم في كراهة ما حكم اللّه في الأنفال، مثل حالهم في كراهة خروجك من بيتك للحرب.

و يجوز أن يكون في محلّ النصب،

على أنّه صفة لمصدر الفعل المقّدر في قوله: «الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» أي: الأنفال استقرّت للّه و الرسول و ثبتت مع كراهتهم، ثباتا مثل ثبات إخراج ربّك إيّاك من بيتك مع كراهتهم، يعني: من المدينة، لأنّها مهاجره و مسكنه، أو بيته فيها.

بِالْحَقِ أي: إخراجا ملتبسا بالحكمة و الصواب الّذي لا محيد عنه.

و سبب كراهتهم أنّ عير قريش أقبلت من الشام و فيها تجارة عظيمة، و معها أربعون راكبا، منهم أبو سفيان و عمرو بن العاص و عمرو بن هشام، فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقّي العير، لكثرة المال و قلّة الرجال.

فلمّا خرجوا بلغ أهل مكّة خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل

ص: 10

مكّة النجاء (1) النجاء على كلّ صعب و ذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا.

و قد رأت عاتكة أخت العبّاس بن عبد المطّلب رؤيا قبل ذلك بثلاث ليال، فقالت لأخيها: إنّي رأيت عجبا، رأيت كأنّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثمّ حلق (2) بها، فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلّا اصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العبّاس، فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبّئوا حتّى تتنبّأ نساؤهم. و برواية أخرى قال: هذه نبيّة ثانية من بني عبد المطّلب.

فخرج أبو جهل بجميع أهل مكّة، و هم النفير في المثل السائر: لا في العير و لا في النفير. فقيل له: إنّ العير أخذت طريق الساحل و نجت، فارجع بالناس إلى مكّة. فقال: لا و اللّه لا يكون ذلك أبدا حتّى ننحر الجزور، و نشرب الخمور، و نقيم القينات (3) و المعازف ببدر،

فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، و إنّ محمّدا لم يصب العير، و إنّا قد أعضضناه (4). فمضى بهم إلى بدر. و بدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة.

و نزل جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ اللّه وعدكم إحدى الطائفتين: إمّا العير و إمّا قريشا. فاستشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه و قال: ما تقولون: إنّ القوم قد خرجوا من مكّة على كلّ صعب و ذلول، فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟

ص: 11


1- أي: أسرعوا أسرعوا.
2- أي: رمى بها إلى فوق.
3- أي: المغنّيات، و الواحدة: قينة.
4- في الصحاح (3: 1091- 1092): «أعضضته الشي ء فعضّه. و يقال: أعضضته سيفي، أي: ضربته به».

قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ.

فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ ردّد عليهم فقال: إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، و هذا أبو جهل قد أقبل.

فقالوا: يا رسول اللّه عليك بالعير ودع العدوّ.

فقام عند غضب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبو بكر و عمرو و قالا فأحسنا.

ثمّ قام سعد بن عبادة فقال: أنظر أمرك فامض، فو اللّه لو سرت إلى عدن أبين (1) ما تخلّف عنك رجل من الأنصار.

ثمّ قال المقداد بن عمرو: يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه، فإنّا معك حيث ما أحببت، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (2)، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، ما دامت عين منّا تطرف. فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال: أشيروا عليّ أيّها الناس و هو يريد الأنصار، لأنّهم كانوا

عدده، و قد قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنّا برآء من ذمامك حتّى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك ممّا نمنع منه أبناءنا و نساءنا.

فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتخوّف أنّ الأنصار لا يروا نصرته إلّا على عدوّ دهمه بالمدينة.

فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنّك تريدنا يا رسول اللّه؟

قال: أجل.

قال: قد آمنّا بك و صدّقناك، و شهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع و الطاعة، فامض يا رسول اللّه لما.

ص: 12


1- في الصحاح (5: 2082): «أبين اسم رجل نسب إليه عدن، يقال: عدن أبين».
2- المائدة: 24.

أردت، فو الّذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجل واحد، و ما نكره أن تلقى بنا عدوّنا، و إنّا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، و لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة اللّه.

ففرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نشّطه قول سعد ثم قال: سيروا على بركة اللّه و أبشروا، فإنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين، و اللّه لكأنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم.

و روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شي ء. فناداه العبّاس و هو في وثاقه: لا يصلح. فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لم؟ قال: لأنّ اللّه وعدك إحدى الطائفتين، و قد أعطاك ما وعدك.

و كانت تلك الكراهة من بعضهم لقوله: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ و هو في موقع الحال، أي: أخرجك في حال كراهتهم خروجك من بيتك إلى حرب مشركي مكّة في بدر.

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ ينازعونك في إيثارك الجهاد بإظهار الحقّ، لإيثارهم تلقّي العير عليه. بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لهم أنّهم ينصرون أينما توجّهوا، و ذلك بإعلام الرسول. و جدالهم قولهم: ما كان خروجنا إلّا للعير، و هلّا قلت لنا لنستعدّ و نتأهّب؟

و ذلك لكراهتهم القتال.

ثمّ شبّه حالهم في فرط فزعهم و رعبهم و هم يسار بهم إلى الظفر و الغنيمة، بحال من يجذب إلى القتل و يساق على الصغار إلى الموت المتيقّن، فقال: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ أي: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت و هو يشاهد أسبابه. و كان ذلك لقلّة عددهم، و عدم تأهّبهم، إذ روي أنّهم كانوا رجّالة، و ما كان فيهم إلّا فارسان. و فيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم و رعبهم.

ص: 13

[سورة الأنفال [8]: الآيات 7 الى 14]

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [7] لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [8] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [9] وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [10] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [11]

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ

وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [12] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [13] ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [14]

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمّا النفير أو العير. و هذا على إضمار «اذكر». و «إحدى» ثاني مفعولي «يعدكم»، و قد أبدل منها قوله: أَنَّها لَكُمْ بدل الاشتمال وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ يعني: العير، فإنّه لم يكن فيها إلّا أربعون فارسا، و لذلك يتمنّونها، و يكرهون الطائفة الّتي هي ذات الشوكة، لكثرة

ص: 14

عددهم و عدّتهم. و الشوكة الحدّة، مستعارة من واحدة الشوك.

وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ أن يثبته، أي: يعزّ الإسلام و يعليه بِكَلِماتِهِ بآياته المنزلة في محاربتهم، أو بأوامره للملائكة بالإمداد وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ باستئصالهم و قتلهم و أسرهم و طرحهم في قليب بدر. و الدابر: الآخر، من: دبر إذا أدبر. و قطع الدابر عبارة عن الاستئصال.

و المعنى: أنّكم تريدون الفائدة العاجلة، و لا تريدون مكروها، و اللّه يريد ما يرجع إلى علوّ أمور الدين و إظهار الحقّ، و ما يحصل لكم من فوز الدارين، فشتّان ما بين المرادين، و لذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، و كسر قوّتهم، و غلّبكم عليهم مع كثرتهم و قلّتكم، فأذلّهم و أعزّكم.

لِيُحِقَّ الْحَقَ متعلّق بمحذوف، تقديره: فعل ذلك لتثبيت دين الحقّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ أي: الشرك. و ليس بتكرير، لأنّ الأوّل لبيان المراد، و ما بينه و بين مرادهم من التفاوت، و الثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على اختيار ذات الشوكة و نصرتهم عليها وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

روي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نظر إلى المشركين و هم ألف، و إلى أصحابه و هم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، فاستقبل القبلة و مدّ يده و قال: اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف كذلك حتّى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل اللّه تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ و هذا بدل من «إذ يعدكم»، أو متعلّق بقوله: «ليحقّ الحقّ»، أو على إضمار «اذكر».

و قيل: استغاثتهم أنّهم لمّا علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون: أي ربّ انصرنا على عدوّك، أغثنا يا غياث المستغيثين.

فَاسْتَجابَ لَكُمْ فأغاثكم و أجاب دعوتكم أَنِّي مُمِدُّكُمْ بأنّي ممدّكم، فحذف الجارّ و سلّط عليه الفعل.

و قرأ أبو عمرو بالكسر (1) على إرادة القول، أو إجراء «استجاب» مجرى

ص: 15


1- أي: بكسر: إنّ.

«قال»، لأنّ الاستجابة من القول.

بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ عليهم ثياب بيض و عمائم بيض، قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم مُرْدِفِينَ متبعين المؤمنين، أو متبعين بعضهم بعضا، من: أردفته إذا جئت بعده، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين أو أنفسهم المؤمنين، من: أردفته إيّاه فردفه.

و قرأ نافع و يعقوب: مردفين بفتح الدال، أي: متبعين أو متّبعين، بمعنى: أنّهم كانوا مقدّمة الجيش أو ساقتهم.

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي: إمدادكم بالملائكة إِلَّا بُشْرى إلّا بشارة لكم بالنصر وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ فيزول ما بها من الوجل، لقلّتكم و ذلّتكم وَ مَا النَّصْرُ بالملائكة و غيرهم من الأسباب إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فينصر من يشاء، قلّ العدد أم كثر إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يمنع عن مراده حَكِيمٌ في أفعاله، يجريها على ما تقتضيه الحكمة.

و إمداد الملائكة و كثرة العدد و الأهب و نحوهما وسائط، فلا تحسبوا النصر منها حقيقة، و لا تيأسوا منه بفقدها.

و اختلف في أنّ الملائكة هل قاتلت يوم بدر أم لا؟ فقيل: ما قاتلت و لكن شجّعت و كثّرت سواد المسلمين و بشّرت بالنصر، و إلّا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلّهم، فإنّ جبرئيل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، و أهلك بلاد ثمود و قوم صالح بصيحة واحدة.

و قيل: إنّها قاتلت. و روي عن ابن مسعود أنّه سأله أبو جهل من أين يأتينا الضرب و لا نرى الشخص؟ فقال: من قبل الملائكة. فقال: هم غلبونا لا أنتم.

و عن ابن عبّاس أيضا: أنّ الملائكة قاتلت يوم بدر. و في رواية: قاتلت يوم بدر، و لم تقاتل يوم الأحزاب و يوم حنين.

و روي: أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خرّ مستلقيا و شقّ وجهه، فحدّث الأنصاري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: صدقت ذلك من مدد السّماء.

ص: 16

و عن أبي داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر، فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.

و قوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ بدل ثان من «إذ يعدكم»، أو متعلّق بالنصر، أو بما في «عند اللّه» من معنى الفعل، أو يجعل «أو» بإضمار «اذكر».

و قرأ نافع بالتخفيف، من: أغشيته الشي ء إذا غشّيته إيّاه. و الفاعل على القراءتين هو اللّه تعالى. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: يغشاكم النّعاس بالرفع.

أَمَنَةً مِنْهُ أمنا من اللّه تعالى. و هو مفعول له باعتبار المعنى، فإنّ

قوله «يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ» متضمّن معنى: تنعسون، و «يغشاكم» بمعناه، فيكون فاعل الفعل المعلّل و العلّة واحدا. و «منه» صفة ل «أمنة». و المعنى: إذ يتغشّون لأمنكم الحاصل من اللّه بإزالة الرعب من قلوبكم، فإنّ الإنسان لا يأخذه النوم في حال الخوف، فآمنهم اللّه تعالى بزوال الرعب عن قلوبهم، كما يقال: الخوف مسهر، و الأمن منيم.

و الأمنة الدعة الّتي تنافي المخافة.

و عن ابن عبّاس: النعاس في القتال أمنة من اللّه، و في الصلاة وسوسة الشيطان.

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الحدث و الجنابة وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يعني: الجنابة، لأنّه من تخييله أو وسوسته و تخويفه إيّاهم من العطش، و ذلك أنّ المشركين قد سبقوهم إلى الماء، و نزل المسلمون في كثيب (1) أعفر تسوخ فيه الأقدام، و ناموا فاحتلم أكثرهم، فتمثّل لهم إبليس و قال: يا أصحاب محمد أنتم تزعمون أنّكم على الحقّ، و أنتم تصلّون على الجنابة، و قد عطشتم، و لو كنتم على حقّ ما غلبكم هؤلاء على الماء، و ها هم الآن يمشون إليكم، فيقتلونكم و يسوقون بقيّتكم إلى مكّة. فحزنوا لذلك، فأنزل اللّه المطر، فمطروا ليلا حتّى جرى

ص: 17


1- الكثيب: التلّ من الرمل.

الوادي، و اغتسلوا و توضّؤوا، و اتّخذوا الحياض على عدوة (1) الوادي، و تلبّد (2) الرمل الّذي كان بينهم و بين العدوّ حتّى ثبتت عليه الأقدام، و زالت وسوسة الشيطان، و طابت النفوس.

وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ و ليشدّ عليها. و معناه: يشجّع قلوبكم، و يزيدكم قوّة قلب و سكون نفس، و الثقة على لطف اللّه وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي: بالمطر حتّى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتّى

تثبت في المعركة، فإنّ الجرأة تثبّت القدم في مواطن الحرب.

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ بدل ثالث، أو متعلّق ب «يثبّت» إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ في إعانتهم و تثبيتهم. و هو مفعول «يوحي». فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالبشارة، أو بتكثير سوادهم، أو بمجاهدة أعدائهم.

و قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ كالتفسير لقوله: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا. و لا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفّار، و لا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي: أعاليها الّتي هي المذابح، لأنّها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزّا و تطييرا للرؤوس، لأنّها فوق الأعناق وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أصابع، أي: حزّوا رقابهم و اقطعوا أطرافهم من اليدين و الرجلين، فإنّ الضرب إمّا واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا.

و فيه دليل على أنّهم قاتلوا. و من منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين، إمّا على تغيير الخطاب، أو على أنّ قوله: «سألقي» إلى قوله: «كلّ بنان» تلقين للملائكة ما يثبّتون المؤمنين به، كأنّه قال: قولوا لهم قولي هذا.

ذلِكَ إشارة إلى ما وقع بهم من القتل أو الأمر به. و الخطاب في «ذلك»

ص: 18


1- العدوة: المكان المتباعد، أو المرتفع.
2- تلبّد الرمل أي: تجمّع و لصق بعضه ببعض.

للرسول، أو لكلّ أحد من المخاطبين قبل بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي: ذلك العقاب العاجل أو أمر الملائكة به بسبب مشاقّتهم و مخالفتهم لهما. و اشتقاقه من الشقّ، لأنّ كلّا من المعاندين في شقّ خلاف شقّ الآخر، كالمعاداة من العدوة بمعنى الجانب، و المخاصمة من الخصم، و هو أيضا الجانب.

و قوله: وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تقرير للتعليل، أو وعيد بما أعدّ لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا.

ذلِكُمْ الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات. و محلّه الرفع، أي:

الأمر ذلكم، أو ذلكم واقع، أو نصب بفعل دلّ عليه قوله: فَذُوقُوهُ أو غيره، مثل:

باشروا أو عليكم، فتكون الفاء عاطفة وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عطف على «ذلكم»، أو نصب على المفعول معه. و المعنى: ذوقوا ما عجّل لكم مع ما أجّل لكم في الآخرة. و وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أنّ الكفر سبب العذاب الآجل، أو الجمع بينهما.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 15 الى 18]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [15] وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [16] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [17] ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [18]

و لمّا أمدّ سبحانه المسلمين بالملائكة، و وعدهم النصر و الظفر بالكفّار، نهاهم عقيبه عن الفرار، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً

ص: 19

متزاحفين. حال من «الَّذِينَ كَفَرُوا». و الزحف: الجيش الدهم (1) الّذي يرى لكثرته كأنّه يزحف، أي: يدبّ دبيبا، من: زحف الصبيّ إذا دبّ على استه قليلا قليلا، سمّي بالمصدر. و الجمع زحوف. و المعنى: إذا لقيتموهم للقتال و هم كثير جمّ و أنتم قليل. فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ فلا تنصرفوا عنهم منهزمين من العدوّ.

و يجوز أن يكون حالا من الفاعل و المفعول، أي: إذا لقيتموهم متزاحفين يدبّون إليكم و تدبّون إليهم فلا تنهزموا. أو حال من الفاعل، كأنّهم أخبروا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولّوا مدبرين و هم زحف اثنا عشر ألفا.

وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يريد الكرّ بعد الفرّ، يخيّل عدوّه أنّه منهزم ثمّ يعطف عليه، و هو باب من خدع الحرب و مكايدها. أو يكون التحرّف لأجل إصلاح لأمته (2) و سائر أسلحته أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أو منحازا إلى فئة اخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم. و انتصابهما على الحال، و «إلّا» لغو لا عمل لها. أو على الاستثناء من المولّين، أي: و من يولّهم إلّا رجلا منهم متحرّفا أو متحيّزا. و وزن متحيّز متفيعل لا متفعّل، لأنّه من: حاز يحوز، فبناء متفعّل منه متحوّز.

فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ هذا إذا لم يزد العدوّ على الضعف، لقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ (3) الآية.

و قيل: الآية مخصوصة بأهل بيته و الحاضرين معه في الحرب.

و عن ابن عبّاس: أنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر.

روي أنّه لمّا طلعت قريش من العقنقل قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم داعيا للّه تعالى: هذه قريش .

ص: 20


1- الدّهم: العدد الكثير.
2- اللأمة: الدرع.
3- الأنفال: 66.

جاءت بخيلائها و فخرها يكذّبون رسولك، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتني. فأتاه جبرئيل و قال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فلمّا التقى الجمعان قال لعليّ عليه السّلام:

أعطني قبضة من حصباء الوادي، فأعطاه فرمى بها في وجوههم، و قال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينيه فانهزموا، و ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم.

ثمّ لمّا انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل: قتلت و أسرت، فنزلت:

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الفاء جواب شرط محذوف،

تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم بقوّتكم وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بإنزال الملائكة و إلقاء الرعب في قلوبهم.

وَ ما رَمَيْتَ يا محمّد رمية توصلها إلى أحداقهم، و لم تقدر عليه إِذْ رَمَيْتَ أي: أتيت بصورة الرمي وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتّى انهزموا، و تمكّنت من قطع دابرهم. و هذا من عجائب المعجزات. و اللفظ كما يطلق على المسمّى، يطلق على ما هو كماله و المقصود منه.

و قيل: معناه: ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء، و لكنّ اللّه رمى بالرعب في قلوبهم.

و قيل: إنّه نزل في طعنة طعن بها أبيّ بن خلف يوم أحد و لم يخرج منه دم، فجعل يخور حتّى مات. أو في رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه. و أكثر المفسّرين على القول الأوّل.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي: و لكن بالتخفيف و رفع ما بعده في الموضعين.

وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً و لينعم عليهم نعمة عظيمة من ذلك النصر و الغنيمة و مشاهدة الآيات، أو من عنده تعالى. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم

ص: 21

و دعائهم عَلِيمٌ بنيّاتهم و أحوالهم.

ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. و محلّه الرفع، أي:

الغرض أو الأمر ذلكم. و و قوله: وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه، أي:

المقصود إبلاء المؤمنين، و توهين كيد الكافرين، و إبطال حيلهم.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو: موهّن بالتشديد، و حفص: موهن كيد بالإضافة و التخفيف.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 19 الى 23]

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ

لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [20] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ [21] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [22] وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [23]

ثمّ خاطب أهل مكّة على سبيل التهكّم بقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ و ذلك أنّهم حين أرادوا الخروج تعلّقوا بأستار الكعبة و قالوا: اللّهمّ انصر أعلى الجندين، و أهدى الفئتين، و أكرم الحزبين. و برواية أخرى: اللّهمّ انصر أقرانا للضيف، و أوصلنا للرحم، و أفكّنا للعاني، إن كان محمّد على حقّ فانصره، و إن كنّا على حقّ فانصرنا.

ص: 22

و روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللّهمّ أيّنا كان أهجر و أقطع للرحم فأحنه اليوم، أي: فأهلكه.

وَ إِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر و معاداة الرسول فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لتضمّنه سلامة الدارين و خير المنزلتين. و قيل: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا» خطاب للمؤمنين، و «إِنْ تَنْتَهُوا» للكافرين. وَ إِنْ تَعُودُوا لمحاربته نَعُدْ لنصره وَ لَنْ تُغْنِيَ و لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم شَيْئاً من الإغناء أو المضارّ وَ لَوْ كَثُرَتْ فئتكم وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر و المعونة.

و قرأ نافع و ابن عامر و حفص: و أنّ بالفتح، على تقدير: و لأنّ اللّه مع المؤمنين كان ذلك.

و قيل: الآية خطاب للمؤمنين. و المعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، و إن تنتهوا عن التكاسل في القتال و الرغبة عمّا يستأثره الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو خير لكم، و إن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدوّ، و لن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن اللّه معكم بالنصر، فإنّ اللّه مع الكاملين في إيمانهم.

و يؤيّد ذلك أمر اللّه سبحانه المؤمنين بالطاعة الّتي هي سبب النصرة، و نهيهم عن التولّي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد تلك الآية، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: لا تتولّوا عن الرسول، فإنّ المراد بالآية الأمر بطاعته و النهي عن الإعراض عنه. و ذكر طاعة اللّه للتوطئة و التنبيه على أنّ طاعة اللّه تعالى في طاعة الرسول، لقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (1).

و قيل: الضمير للجهاد، أو للأمر الّذي دلّ عليه الطاعة.

ص: 23


1- النساء: 80.

وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن و المواعظ سماع فهم و تصديق.

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا كالكفرة أو المنافقين الذين ادّعوا السماع وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ سماعا ينتفعون به، لأنّهم ليسوا بمصدّقين، فكأنّهم لا يسمعون رأسا.

و المعنى: أنّكم تصدّقون بالقرآن و النبوّة، فإذا تولّيتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور- من قسمة الغنائم و غيرها- كان تصديقكم كلا تصديق، و أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن به.

ثمّ قال ذمّا للمعرضين عن أمر اللّه و رسوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ أي:

شرّ ما يدبّ على الأرض، أو شرّ البهائم الصُّمُ عن سماع الحقّ الْبُكْمُ عن قراءته الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ شيئا منه. عدّهم من البهائم أوّلا ثمّ جعلهم شرّها، لإبطالهم ما ميّزوا به و فضّلوا لأجله، و هو العقل.

وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ في هؤلاء الصمّ البكم خَيْراً انتفاعا باللطف لَأَسْمَعَهُمْ للطف بهم حتّى يسمعوا سماع

المصدّقين وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ أي: و لو لطف بهم و قد علم أن لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا عنه و لم ينتفعوا به. أو و لو لطف بهم فصدّقوا لارتدّوا بعد التصديق و القبول، و كذّبوا فلم يستقيموا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ لعنادهم. و في هذا دلالة على أنّه سبحانه لا يمنع أحدا اللطف، إذا علم أنّه ينتفع به.

و قال الباقر عليه السّلام: «بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير و سويد بن حرملة». و كانوا يقولون: نحن صمّ بكم عمّا جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد قتلوا جميعا بأحد، و كانوا أصحاب اللواء.

و قيل: قالوا للنبيّ: أحي لنا قصيّا، فإنّه كان شيخا مباركا حتّى يشهد لك فنؤمن بك. فالمعنى: لأسمعهم كلام قصيّ.

و عن ابن جريج: هم المنافقون. و عن الحسن: هم أهل الكتاب.

ص: 24

[سورة الأنفال [8]: الآيات 24 الى 25]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [24] وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [25]

ثمّ أمر سبحانه عباده بطاعة رسوله، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ بالطاعة و الامتثال إِذا دَعاكُمْ و حّد الضمير فيه لما سبق، و لأنّ دعوة اللّه تسمع من الرسول لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم الدينيّة و الأحكام الشرعيّة، فإنّها حياة القلب، و الجهل موته، قال:

لا تعجبنّ الجهول حلّته فذاك ميت و ثوبه كفن

أو ممّا يورثكم الحياة الأبديّة في النعيم الدائم، من العقائد الحسنة المرضيّة و الأعمال السنيّة. أو من الجهاد، فإنّه سبب بقاء المؤمنين، إذ لو تركوه

لغلبهم العدوّ و قتلهم. أو الشهادة، لقوله: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (1).

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ تمثيل لغاية قربه من العبد، كقوله:

وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (2)، فإنّ الحائل بين الشي ء و غيره أقرب إلى ذلك الشي ء من ذلك الغير. و تنبيه على أنّه مطّلع على مكنونات القلوب و ضمائرها، ممّا عسى يغفل عنه صاحبها، فكأنّه بينه و بين قلبه.

أو حثّ على المبادرة إلى إخلاص القلوب و تصفيتها قبل أن يحول اللّه تعالى بينه و بين قلبه بالموت أو غيره، فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة.

أو تصوير و تخييل لتملّكه على العبد قلبه، فيفسخ عزائمه، و يغيّر مقاصده،

ص: 25


1- آل عمران: 169.
2- ق: 16.

و يبدله بالخوف أمنا، و بالأمن خوفا، و بالذكر نسيانا، و بالنسيان ذكرا، و ما أشبه ذلك ممّا هو جائز عليه تعالى. و منه

قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «عرفت اللّه بفسخ العزائم».

و ما

جاء في الدعاء: يا مقلّب القلوب.

و روى يونس بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أنّ اللّه يحول بين المرء و قلبه» معناه: لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبدا، و لا يستيقن القلب أنّ الباطل حقّ أبدا».

و روى هشام بن سالم عنه قال: «معناه: يحول بينه و بين أن يعلم أنّ الباطل حقّ». أوردهما العيّاشي في تفسيره (1).

وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم بأعمالكم على حسب سلامة القلوب و إخلاص الطاعة.

وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي: اتّقوا ذنبا يعمّكم أثره، كترك النهي عن المنكر، و المداهنة في الأمر بالمعروف، و افتراق الكلمة، و إظهار البدع، و التكاسل في الجهاد. و قيل: الفتنة العذاب.

و قوله: «لا

تصيبنّ» لا يخلو: إما أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر معطوفا عليه بحذف الواو، أو صفة ل «فتنة».

فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصّة، بل تعمّكم. و إنّما جاز دخول النون في جواب الشرط، مع أنّه متردّد لا يليق به النون المؤكّدة، لأنّ فيه معنى النهي فساغ، كقوله: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ (2)، و كما تقول: انزل عن الدابّة لا تطرحك، و يجوز، لا تطرحنّك.

و إذا كانت نهيا- بعد أمر باتّقاء الذنب- عن التعرّض للظلم، فإنّ وباله يصيب الظالم خاصّة و يعود عليه. فكأنّه قيل: و احذروا ذنبا أو عقابا، ثمّ قيل: لا تتعرّضوا

ص: 26


1- تفسير العيّاشي 2: 52 ح 36 و 39.
2- النمل: 18.

للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب و وباله من ظلم منكم خاصّة. و كذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنّه قيل: و اتّقوا فتنة مقولا فيها: لا تصيبنّ. و نظيره قوله:

حتّى إذا جنّ الظلام و اختلطجاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

و المذق اللبن المخلوط بالماء. و المعنى: بمذق مقول فيه هذا القول، لأنّ فيه لون الورقة (1) الّتي هي لون الذئب. و يعضده قراءة ابن مسعود: لتصيبنّ، على جواب القسم المحذوف. و يكون «من» للتبيين على هذا، لأنّ المعنى: لا تصيبنّكم خاصّة على ظلمكم، لأنّ الظلم أقبح منكم من سائر الناس، و للتبعيض على الوجه الأوّل.

و في الكشّاف: «روي عن الحسن: أنّها نزلت في عليّ و عمّار و طلحة و الزبير، و هو يوم الجمل خاصّة. قال الزبير: نزلت فينا و قرأناها زمانا، و ما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيّون بها».

و روي: أنّ الزبير كان يساير رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما، إذا أقبل عليّ عليه السّلام، فضحك إليه الزبير، فقال رسول اللّه: كيف حبّك لعليّ؟ فقال: يا رسول اللّه بأبي أنت و أمّي، إنّي أحبّه كحبّي لوالدي أو أشدّ حبّا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟». (2)

و قال في المجمع (3): «روى الثعلبي بإسناده عن حذيفة أنّه قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم، يهلك فيها كلّ شجاع بطل، و كلّ راكب موضع، و كلّ خطيب مصقع (4)».

و في حديث أبي أيّوب الأنصاري أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعمّار: «إنّه سيكون بعدي هنات، حتّى يختلف السيف فيما بينهم، و حتّى يقتل بعضهم بعضا، و حتّى يبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني عليّ بن أبي طالب،.

ص: 27


1- الورقة: سواد في غبرة، و الأورق: الذي لونه لون الرماد.
2- الكشّاف 2: 212.
3- مجمع البيان 4: 534.
4- راكب موضع أي: مسرع، و المصقع: البليغ.

فإن سلك الناس كلّهم واديا و سلك عليّ واديا فاسلك وادي علي، و خلّ عن الناس.

يا عمّار إنّ عليّا لا يردّك عن هدى، و لا يدلّك على ردى. يا عمّار طاعة عليّ طاعتي، و طاعتي طاعة اللّه» (1). رواه السيّد أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة و الأسود عن أبي أيّوب الأنصاري.

و في كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني رحمة اللّه، و حدّثنا عنه السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، حدّثني محمد بن القاسم ابن أحمد، قال: حدّثني أبو سعيد محمّد بن الفضيل بن محمّد، قال: حدّثنا محمّد ابن صالح العرزمي، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ،

عن أبي خلف الأحمر، عن إبراهيم بن طهمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عبّاس قال: «لمّا نزلت هذه الآية: «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً» قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء قبلي» (2).

و عن ابن عبّاس: أنّه سئل عن هذه الفتنة فقال: أبهموا ما أبهم اللّه.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لم يتّق المعاصي و المظالم.

[سورة الأنفال [8]: آية 26]

وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [26]

ثمّ عاد سبحانه إلى وقعة بدر، و بيّن حالتهم السالفة في القلّة و الضعف، و إنعامه عليهم بالنصر و التأييد و التكثير، فقال وَ اذْكُرُوا معشر المهاجرين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي: وقت كونكم أقلّة أذلّة مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أرض مكّة،

ص: 28


1- مجمع البيان 4: 534.
2- شواهد التنزيل 1: 271 ح 269.

يستضعفكم قريش قبل الهجرة. و «إذ» هنا مفعول به، و ليس بظرف ل «مستضعفون».

و قيل: الخطاب للعرب، كانوا أذلّاء في أيدي الفرس و الروم.

تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يستلبكم كفّار قريش إن خرجتم من مكّة، أو من عداهم، فإنّهم كانوا جميعا معادين مضادّين لهم.

فَآواكُمْ إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصّنون به عن أعاديكم وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ و قوّاكم على الكفّار بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إرادة أن تشكروا هذه النعم.

و عن قتادة: كانت العرب أذلّ الناس و أشقاهم عيشا، و أعراهم جلدا، يؤكلون و لا يأكلون، فمكّن اللّه لهم في البلاد، و وسّع عليهم في الرزق و الغنائم، و جعلهم ملوكا.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 27 الى 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [27] وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [28]

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاصر يهود قريظة إحدى و عشرين ليلة، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحا من أرض الشام. فأبى أن يعطيهم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.

ص: 29

فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة. و كان مناصحا لهم، لأنّ عياله و ماله و ولده كانت عندهم.

فبعثه رسول اللّه، فأتاهم. فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة أ ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أنّه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرئيل عليه السّلام فأخبره بذلك.

قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت اللّه و رسوله. فنزلت في شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ من الخون، و هو النقص، كما أنّ أصل الوفاء التمام. و منه: تخوّنه، أي: تنقّصه، ثمّ استعمل في ضدّ الأمانة و الوفاء، لأنّك إذا خنت الرجل في شي ء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.

و المعنى: لا تخونوا اللّه بترك أوامره، و الرسول بترك سننه و شرائعه.

و عن الحسن: أنّ من ترك شيئا من الدين و ضيّعه فقد خان اللّه

و رسوله.

وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ و لا تخونوا الأمانات فيما بينكم، بأن لا تحفظوها.

و هو مجزوم بالعطف على الأوّل، أو منصوب على الجواب بالواو. وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّكم تخونون. أو أنتم علماء تميّزون الحسن من القبيح. أو أنتم تعلمون ما في الخيانة من الذمّ و العقاب.

و لمّا نزلت هذه الآية شدّ أبو لبابة نفسه على سارية من سواري المسجد، و قال: و اللّه لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه عليّ، فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاما و لا شرابا، حتّى خرّ مغشيّا عليه، ثمّ تاب اللّه عليه. فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: لا و اللّه لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول اللّه هو الّذي يحلّني، فحلّه بيده.

ثمّ قال أبو لبابة: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها

ص: 30

الذنب، و أن انخلع عن مالي. فقال النبيّ: يجزيك الثلث أن تتصدّق به.

و هذه الرواية مرويّة أيضا عن الكلبي و الزهري.

و قال عطاء: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: إنّ أبا سفيان خرج من مكّة، فأتى جبرئيل عليه السّلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا و كذا، فاخرجوا إليه و اكتموا. قال: فكتب إليه رجل من المنافقين: إنّ محمّدا يريدكم فخذوا حذركم.

فأنزل اللّه هذه الآية.

و قال السدّي: كانوا يسمعون الشي ء من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيفشونه حتّى يبلغ المشركين، فنزلت.

و قيل: المراد بالخيانة الغلول في المغانم.

وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لأنّهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب، أو محنة من اللّه تعالى ليبلوكم فيهم، فلا يحملنّكم حبّهم على

الخيانة، كأبي لبابة وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر رضا اللّه تعالى عليهم، و راعى حدوده فيهم، فعليكم أن تزهدوا في الدنيا، و لا تحرصوا على جمع المال و حبّ الأولاد، و لا تؤثروهما على نعيم الأبد.

قال في المجمع: «بيّن سبحانه بهذه الآية أنّه يختبر خلقه بالأموال و الأولاد، ليتبيّن الراضي بقسمه ممّن لا يرضى به، و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، و لكن ليظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثواب و العقاب. و إلى هذا

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحد إلّا و هو مشتمل على فتنة، و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن، فإنّ اللّه سبحانه يقول: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ». و قد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا» (1).

ص: 31


1- مجمع البيان 4: 536.

[سورة الأنفال [8]: آية 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [29]

و لمّا أمر اللّه سبحانه بالطاعة و ترك الخيانة، بيّن بعده ما أعدّه لمن امتثل أمره في الدنيا و الآخرة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ إن تتّقوا عقابه باتّقاء معاصيه و أداء فرائضه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً هداية و نورا في قلوبكم، و شرحا في صدوركم بوسيلة التوفيق و اللطف، تفرّقون به بين الحقّ و الباطل. أو نصرا و فتحا، كقوله تعالى يَوْمَ الْفُرْقانِ (1) لأنّه يفرّق بين المحقّ و المبطل، بإعزاز المؤمنين و إذلال الكافرين. أو مخرجا من الشبهات. أو نجاة عمّا تحذرون في الدارين. أو ظهورا يشهّر أمركم في

أقطار الأرض و يبثّ صيتكم، من قوله: بتّ أفعل كذا حتّى سطع الفرقان، أي: الصبح.

وَ يُكَفِّرْ و يستر عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم بالتجاوز و العفو عنها. قيل: السيّئات الصغائر، و الذنوب الكبائر. و قيل: المراد ما تقدّم و ما تأخّر، لأنّها في أهل بدر، و قد غفرهما اللّه تعالى لهم.

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على خلقه بما أنعم عليهم في الدنيا من أنواع النعم من غير سبق استحقاق منهم، و في الآخرة بما زاد على قدر استحقاقهم.

[سورة الأنفال [8]: آية 30]

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [30]

روي أنّ قريشا- لمّا أسلمت الأنصار و بايعوه- خافوا أن يعلو أمره و يعظم

ص: 32


1- الأنفال: 41.

شأنه، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، و قال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة، دخلت مكّة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، و لن تعدموا منّي رأيا و نصحا.

فقال أبو البختري: رأيي أن تحبسوه في بيت، و تشدّوا وثاقه، و تسدّوا بابه غير كوّة، تلقون إليه طعامه و شرابه منها، و تتربّصوا به ريب المنون.

فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه و يخلّصه من أيديكم.

فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل و تخرجوه من بين أظهركم، فلا يضرّكم ما صنع و استرحتم.

فقال إبليس: بئس الرأي، يفسد قوما غيركم و يقاتلكم بهم.

فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كلّ بطن غلاما، و تعطوه سيفا صارما، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلّهم، فإذا

طلبوا العقل عقلناه و استرحنا.

فقال الشيخ: هذا الفتى هو أجودكم رأيا.

فتفرّقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، و أمره بالهجرة و أن يبيّت في مضجعه عليّا، فنام في مضجعه، و قال له: اتّشح ببردتي، فإنّه لن يصل إليك أمر تكرهه، و خرج مع أبي بكر إلى الغار.

و باتوا مترصّدين، فلمّا أصبحوا ساروا إلى مضجعه فأبصروا عليّا فبهتوا، و خيّب اللّه سعيهم، و اقتصّوا أثره، و أرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل و مرّوا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو كان ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثا، ثمّ قدم المدينة، فأبطل اللّه تعالى مكرهم.

فذكّر عزّ و جلّ ها هنا رسوله إنجاءه إيّاه من مكرهم حين كان بمكّة، ليشكر اللّه على خلاصه من مكرهم و استيلائه عليهم، فقال: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي:

اذكر إذ يحتال كفّار قريش في إبطال أمرك، و يدبّرون في هلاكك لِيُثْبِتُوكَ بالوثاق أو الحبس أو الإثخان بالجرح، من قولهم: ضربه حتّى أثبته لا حراك به و لا

ص: 33

براح (1). و الأوّل مرويّ عن ابن عبّاس. أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم و خناجرهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكّة.

وَ يَمْكُرُونَ و يخفون المكائد لك وَ يَمْكُرُ اللَّهُ و يخفي اللّه ما أعدّ لهم حتّى يأتيهم بغتة. أو المراد بمكر اللّه مجازاته إيّاهم على مكرهم، أو معاملته معهم معاملة الماكرين. وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي: مكره أنفذ من مكر غيره و أبلغ تأثيرا.

أو لأنّه لا ينزل إلّا ما هو حقّ و عدل. و إسناد أمثال هذا ممّا يحسن للمزاوجة، أو لضرب من التأويل. و لا يجوز إطلاقها ابتداء، لتضمّنه القبح و الذمّ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 31 الى 32]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [31] وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [32]

ثمّ أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفّار في الحقّ، فقال: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما سطره الأوّلون من القصص. قائله النضر بن الحارث بن كلدة، فإنّه حين سمع اقتصاص اللّه أحاديث القرون، قال: لو شئت لقلت مثل هذا. و هو الّذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم و إسفنديار، فزعم أنّ هذا مثل ذلك، و أنّه من جملة الأساطير.

و إسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنّه كان قاصّهم.

و قيل: هو قول الّذين ائتمروا في أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذا غاية مكابرتهم و فرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم عن أن يقولوا مثله؟! و قد تحدّاهم و قرعهم

ص: 34


1- أي: لم يبرح و لم يزل من مكانه.

بالعجز عشر سنين، ثمّ قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة، مع أنفتهم و فرط استنكافهم أن يغلبوا، خصوصا في باب البلاغة و الفصاحة.

وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا القرآن هُوَ الْحَقَ منزلا مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أي: حجارة من سجّيل عقوبة على إنكاره، كما فعلت بأصحاب الفيل أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ بنوع آخر من أنواع العذاب.

هذا أيضا من كلام النضر.

روي أنّه لمّا قال: «إِنْ هذا إِلَّا

أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويلك إنّه كلام اللّه. فقال ذلك.

و مراده من هذا القول التهكّم و إظهار اليقين و الجزم التامّ على كونه باطلا، فكان تعليق العذاب بكونه حقّا مع اعتقاد أنّه ليس بحقّ كتعليقه بالمحال عنده، كما في قولك: إن كان الباطل حقّا فأمطر علينا حجارة.

و فائدة تعريف الحقّ الدلالة على أنّ المعلّق به كونه حقّا بالوجه الّذي يدّعيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو تنزيله، لا الحقّ مطلقا، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل، كأساطير الأوّلين.

روي أنّ معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة!! قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول اللّه حين دعاهم إلى الحقّ: «إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة» و لم يقولوا: إن كان هذا هو الحقّ فاهدنا له.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 33 الى 34]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [33] وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [34]

ثمّ ذكر سبحانه سبب إمهالهم، و موجب التوقّف في إجابة دعائهم، مع فرط

ص: 35

عنادهم و شقاهم، فقال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ اللّام لتأكيد النفي، و الدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهرهم خارج عن عادة اللّه تعالى، غير مستقيم في قضائه، لفضله و حرمته. قال ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى لم يعذّب قومه حتّى أخرجوه من مكّة. و كذا لا يعذّبهم حين

الاستغفار عن الذنوب، لقوله: وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

و المراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين بعد خروجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكّة، كما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا خرج من مكّة بقيت فيها بقيّة من المؤمنين، و لم يهاجروا لعذر، و كانوا على عزم الهجرة، فرفع اللّه العذاب عن مشركي مكّة لحرمة استغفارهم، فلمّا خرجوا أذن اللّه في فتح مكّة.

و هذا منقول عن ابن عبّاس و عطيّة و الضحّاك. و اختاره الجبائي.

و قيل: معناه: و ما كان اللّه ليعذّبهم بعذاب الاستئصال في الدنيا و هم يقولون:

اللّهمّ غفرانك، و إنّما يعذّبهم في الآخرة. أو المراد فرض الاستغفار على معنى: لو استغفروا لم يعذّبوا، كقوله تعالى: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (1) أي: لو أصلحوا.

وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ و ما يمنع تعذيبهم متى لم تكن فيهم، و لم يمكن الاستغفار؟ و كيف لا يعذّبون وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و حالهم صدّ الناس عنه، و من صدّهم عنه إلجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين إلى الهجرة، و إحصارهم عام الحديبية. روي أنّهم قالوا: نحن ولاة البيت و الحرم، فنصدّ من نشاء، و ندخل من نشاء.

وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي: مستحقّين ولاية أمره مع شركهم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك، الّذين لا يعبدون فيه غير اللّه تعالى. أو إلّا المتّقون من

ص: 36


1- هود: 117.

المسلمين، فليس كلّ مسلم أيضا ممّن يصلح لأن يلي أمره، بل إنّما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا،

فكيف بالكفرة و عبدة الأصنام؟

وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم عليه. كأنّه استثنى من كان يعلم و يعاند لطلب الرئاسة. أو أراد بالأكثر الجميع، كما يراد بالقلّة العدم.

[سورة الأنفال [8]: آية 35]

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [35]

روي أنّهم كانوا يطوفون عراة، الرجال و النساء، مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها و يصفّقون، فنزلت: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أي: دعاؤهم، أو ما يسمّونه صلاة، أو ما يضعون موضعها إِلَّا مُكاءً صفيرا، من: مكا يمكو إذا صفر وَ تَصْدِيَةً تصفيقا. و هو ضرب اليد على اليد. تفعلة من الصدى، أو من: صدّ يصدّ، كقوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (1) أي: يصيحون، على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء.

و اعلم أنّ مساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب، أو عدم ولايتهم للمسجد، فإنها لا تليق ممّن هذه صلاته.

و قيل: كانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صلاته، لما

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، و رجلان عن يساره يصفّقان بأيديهما، فيخلطان عليه صلاته، فقتلهم اللّه جميعا ببدر،

كما قال: فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني: القتل و الأسر يوم بدر. و قيل:

عذاب الآخرة. و اللّام يحتمل أن تكون للعهد، و المعهود: ائتنا بعذاب أليم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اعتقادا و عملا.

ص: 37


1- الزخرف: 57.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [36] لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [37]

روي أنّ أبا سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش، و هم فرق مختلفون من قبائل شتّى، و منه يقال:

عندي أحبوش منهم، أي: جماعة منهم، سوى من استجاش (1) من العرب، و أنفق عليهم أربعين أوقية، و الأوقية اثنان و أربعون مثقالا، أو استأجرهم لأصحاب العير، فإنّه لمّا أصيب قريش ببدر قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لعلّنا ندرك منه ثأرنا، ففعلوا، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ليمنعوا بذلك الناس عن دين اللّه الّذي أتى به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، و كانوا اثني عشر رجلا من قريش، يطعم كلّ واحد منهم كلّ يوم عشر جزر (2). و غرضهم في هذا الإنفاق الصدّ عن اتّباع محمّد، و هو سبيل اللّه.

و إنّما قال: ليصدّوا، و إن كانوا لم يقصدوا ذلك، من حيث لم يعلموا أنّ ذلك دين اللّه، لأنّ فعلهم ذلك كان صدّا عن دين اللّه و إن لم يقصدوا ذلك.

فَسَيُنْفِقُونَها بتمامها. و يحتمل أن يكون الأوّل إخبارا عن إنفاقهم في تلك الحال، و هو إنفاق يوم بدر، و الثاني إخبارا عن إنفاقهم فيما يستقبل، و هو الإنفاق في يوم أحد. أو يراد بهما واحد، على أنّ مساق الأوّل لبيان غرض الإنفاق،

ص: 38


1- أي: جمع الجيش منهم.
2- الجزر جمع الجزور، و هو من الإبل يقع على الذكر و الأنثى.

و مساق الثاني لبيان عاقبته، و أنّه لم يقع بعد.

ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندما و غمّا، لفواتها من غير مقصود. و جعل ذاتها حسرة- و هي عاقبة إنفاقها- مبالغة. ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر، و إن كان الحرب بينهم

و بين المؤمنين سجالا قبل ذلك، أي: مرّة تكون لهم و مرّة عليهم.

و في هذا دلالة على صحّة نبوّة النبيّ، لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه، فوجد على ما أخبر به.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: ثبتوا على الكفر منهم، إذ أسلم بعضهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يساقون.

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي: الفريق الخبيث- و هم الكافرون- من الفريق الطيّب، و هم المؤمنون. أو يميز الفساد من الصلاح. و اللّام متعلّقة ب «يحشرون» أو «يغلبون»، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول اللّه ممّا أنفقه المسلمون في نصرته. و حينئذ اللّام متعلّقة بقوله: «ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً».

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب: ليميّز من التمييز، و هو أبلغ من الميز.

وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ و يجعل الفريق الخبيث من الكفّار بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فيجمعه و يضمّ بعضه إلى بعض حتّى يتراكبوا، لفرط ازدحامهم. أو يضمّ إلى الكافر ما أنفقه، ليزيد به عذابه، ليعاقبهم به، كما قال: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ (1) الآية. فَيَجْعَلَهُ كلّه فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ إشارة إلى الخبيث، لأنّه مقدّر بالفريق الخبيث، أو إلى المنفقين هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون في الخسران، لأنّهم خسروا أنفسهم و أموالهم.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 38 الى 40]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [38] وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ

ص: 39


1- التوبة: 35.

لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [39] وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ [40]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدعائهم إلى التوبة و الإيمان، فقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أبا سفيان

و أصحابه. و المعنى: قل لأجلهم، لقوله: إِنْ يَنْتَهُوا على صيغة الغائب، أي: ينتهوا عن معاداة الرسول بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الشرك و عداوة الرسول و سائر ذنوبهم. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الإسلام يجبّ ما قبله».

وَ إِنْ يَعُودُوا إلى قتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ الّذين تحزّبوا على الأنبياء بالتدمير، كما جرى على أهل بدر، فليتوقّعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.

وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ لا يوجد فيهم شرك وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ و يضمحلّ كلّ دين، و يبقى دين الإسلام وحده.

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لم يجي ء تأويل هذه الآية، و لو قد قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، و ليبلغنّ دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما بلغ الليل، حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض».

فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على انتهائهم عنه و إسلامهم. و عن يعقوب: تعملون بالتاء، على معنى: فإنّ اللّه بما تعملون من الجهاد و الدعوة إلى الإسلام، و الإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. و يكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنّه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة، يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبّب.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا و إن لم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم فثقوا بولاية اللّه و نصرته، و لا تبالوا بمعاداتهم نِعْمَ الْمَوْلى لا يضيع من تولّاه وَ نِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلب من نصره.

ص: 40

[سورة الأنفال [8]: الآيات 41 الى 44]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ

ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [41] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [42] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [43] وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [44]

و بعد الأمر بالجهاد بيّن ما يلحقه من حكم الغنيمة، فقال مخاطبا للمسلمين:

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «ما» موصولة، و «من شي ء» بيانه، أي: ممّا يقع عليه اسم الشي ء حتّى الخيط و المخيط، لا في الكنز و المعدن و الغوص، فإنّ النصاب شرط فيه، كما صرّح به فقهاؤنا في كتبهم. فلفظ «شي ء» و إن اقتضى العموم، لكن البيان من الأئمّة عليهم السّلام خصّصه.

و الغنيمة لغة: هي الفائدة. و اصطلاحا:

ما أخذ من الكفّار بقتال، و إلّا فهو في ء و نفل. و هو مذهب أصحابنا و الشافعي، و يروى عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و قيل:

ص: 41

إنّهما بمعنى واحد.

ثمّ إنّ عند أصحابنا أنّ الفي ء للإمام خاصّة، و الغنيمة يخرج منها الخمس، كما قال اللّه تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مبتدأ خبره محذوف، أي: فثابت أنّ للّه خمسه وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى و هذه الأسهم الثلاثة اليوم للإمام القائم مقام الرّسول صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم

وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ أي: ليتامى آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مساكينهم و أبناء سبيلهم، لا يشركهم في ذلك غيرهم، لأنّ اللّه سبحانه حرّم عليهم الصدقة، لكونها أوساخ الناس، و عوّضهم عن ذلك الخمس. و روى ذلك الطبري (1) عن عليّ بن الحسين زين العابدين و محمّد بن عليّ الباقر.

و عن أبي عبد اللّه عليهم السّلام أيضا أنّه قال: «لمّا حرّم اللّه علينا الصدقة أنزل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام، و الخمس لنا حلال».

و رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قيل له: «إنّ اللّه تعالى قال: «وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ» فقال: أيتامنا و مساكيننا» (2). فثلاثة أسهم أخر للطوائف المذكورين من بني هاشم.

و اعلم أيّدك اللّه تعالى أنّ علماء الجمهور على أنّ اسم اللّه هنا للتبرّك، و أنّ المراد قسم الخمس على الخمسة المذكورين في الآية في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّ المراد بذي القربى هم بنو هاشم و بنو المطّلب دون بني عبد شمس و بني نوفل،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ بني المطّلب ما فارقونا في جاهليّة و لا إسلام، و بنو هاشم و بنو المطّلب شي ء واحد، و شبك بين أصابعه».

و أن الثلاثة الباقية في باقي المسلمين.

و أمّا بعد حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال مالك: الأمر فيه إلى الإمام، يصرفه إلى ما يراه أهمّ من وجوه القرب.

ص: 42


1- راجع تفسير الطبري ج 10: 7.
2- رواه في الكشّاف 2: 222.

و قال أبو حنيفة: يسقط سهمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سهم

ذوي القربى، و صار الكلّ مصروفا إلى الثلاثة الباقية من المسلمين.

و قال الشافعي: إنّ سهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصرف إلى ما كان يصرفه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه من مصالح المسلمين. و قيل: إلى الإمام. و قيل: إلى الأقسام الأربعة.

و قال أصحابنا الإماميّة: إنّه يقسّم ستّة أقسام: ثلاثة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حياته، و بعده للإمام القائم مقامه، و هو المعنيّ بذي القربى، و الثلاثة الباقية لمن سمّاهم اللّه من بني عبد المطّلب خاصّة دون غيرهم.

و قولهم هو الحقّ. أمّا أوّلا: فلأنّه لا يلزمهم مخالفة للآية الكريمة بسبب إسقاط سهم اللّه من البين، و كذا إسقاط سهم الرسول بعد حياته.

و أمّا ثانيا: فلما ورد من النقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السّلام. و كذا نقله الخصم عن عليّ عليه السّلام، و عن ابن عبّاس، كما حكاه الزمخشري في الكشّاف (1).

و أمّا ثالثا: فلأنّا إذا أعطينا لفقراء ذي القربى من اليتامى و المساكين و أبناء السبيل جاز بالإجماع، و برئت الذمّة يقينا، و إذا أعطينا غيرهم لم يجز عند الإماميّة، فكان التخصيص بذي القربى أحوط. و لفظة الآية و إن كانت أعمّ، لكن ما من عامّ إلّا و قد خصّ كما في الأصول، فهذا مخصوص بما رويناه عن أئمّة الهدى كما مرّ.

على أنّا نقول لفظة الآية عامّ مخصوص بالاتّفاق، فإنّ ذا القربى مخصوص ببني هاشم، و اليتامى و المساكين و ابن السبيل عامّ في المشرك و الذميّ و غيرهم، مع أنّه مخصوص بمن ليس كذلك.

قال السيّد (2) قدّس سرّه: كون ذي القربى مفردا يدلّ على أنّه الامام القائم مقام

ص: 43


1- الكشّاف 2: 222.
2- الانتصار: 87.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ لو أراد الجمع لقال: ذوي القربى.

و فيه نظر، لجواز إرادة الجنس.

قوله: إذ لو كان المراد جميع قرابات بني هاشم، لزم أن يكون ما عطف عليه- أعني: اليتامى و المساكين و ابن السبيل- من غيرهم لا منهم، لأنّ العطف يقتضي المغايرة.

و أجيب بجواز عطف الخاصّ على العامّ، لمزيد فائدة و وفور عناية. فالأولى حينئذ الاعتماد في هذه المحتملات على بيانه عليه السّلام، و بيان الأئمّة بعده.

و في الآية المذكورة من التوكيد ما ليس في غيرها، فإنّه صدّرها بالأمر بالعلم، أي: تحقّق عندكم ذلك حتّى إنّه لم يرد لها ناسخ اتّفاقا. ثمّ أتى ب «أنّ» المؤكّدة في موضعين. ثمّ قال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ و هو متعلّق بمحذوف دلّ عليه «و اعلموا» أي: إن كنتم آمنتم باللّه فاعلموا أنّه جعل الخمس لهؤلاء، فسلّموه إليهم، و اقطعوا عنه أطماعكم، و اقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإنّ العلم للعمل، فإذا أمر به لم يرد منه العلم المجرّد، لأنّه مقصود بالعرض، و المقصود بالذات هو العمل.

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا معطوف على «باللّه» أي: إن كنتم آمنتم باللّه و بالمنزل على عبدنا من الآيات و الملائكة و النصرة يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر، فإنّه فرّق فيه بين الحقّ و الباطل يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ المسلمون و الكفّار، بدل منه وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على نصر القليل على الكثير، و الإمداد بالملائكة.

عن الكلبي: أنّها نزلت ببدر. و قال الواقدي: نزل الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر و ثلاثة أيّام، للنصف من شوّال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة.

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا من المدينة. و هو بدل ثان من «يَوْمَ الْفُرْقانِ».

ص: 44

و العدوة بالحركات الثلاث شطّ الوادي. و المشهور الضمّ و الكسر. و هو قراءة ابن كثير و أبي عمرو و يعقوب.

وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى البعدى من المدينة. تأنيث الأقصى. و كان قياسه قلب الواو ياء، كالدنيا و العليا، تفرقة بين الاسم و الصفة، فجاء على الأصل شاذّا كالقود، و هو أكثر استعمالا من القصيا، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجي ء «استصاب» و «أغيلت» مع «أغالت» (1).

وَ الرَّكْبُ أي: العير أو قوّادها أَسْفَلَ مِنْكُمْ في مكان أسفل من مكانكم، يعني: الساحل. قال الكلبي: كانوا على شطّ البحر بثلاثة أميال. و هو منصوب على الظرف، واقع موقع خبر المبتدأ، و الجملة حال من الظرف قبله.

و الفائدة في ذكر هذه المراكز الإخبار عن الحال الدّالة على قوّة المشركين و شوكتهم، و تكامل عدّتهم، و ضعف المسلمين، و أن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلّا بأمر إلهي، لم يتيسّر إلّا بحوله و قوّته، و ذلك أنّ العدوة القصوى الّتي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، و العدوة الدنيا رخوة تسوخ فيها الأرجل، و لا يمشى فيها إلّا بتعب و مشقّة، و ما كان فيها ماء، و كانت العير وراء ظهور العدوّ، مع كثرة عددهم، و فرط حمايتهم و حميّتهم، و غاية جهدهم في أن لا يبرحوا بهم إلى مكّة.

و أيضا لمثل هذه الفائدة قال: وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أي: لو تواعدتم أنتم و هم القتال، ثمّ علمتم حالهم و حالكم لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي: لثبّطكم قلّتكم و كثرتهم عن الوفاء بالموعد، هيبة منهم، و يأسا من الظفر عليهم، لتتحقّقوا أنّ ما اتّفق لكم من الفتح ليس إلّا صنعا من اللّه تعالى

خارقا للعادة، فتزدادوا إيمانا و شكرا.

وَ لكِنْ جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد، بل حين وعدكم إحدى

ص: 45


1- أغالت أو أغيلت المرأة ولدها: أرضعته و هي حامل.

الطائفتين مبهمة غير مبيّنة، حتّى خرجتم لتأخذوا العير راغبين في الخروج، و شخص (1) بقريش مخوّفين ممّا بلغهم من تعرّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأموالهم، حتّى نفروا ليمنعوا عيرهم، و سبّب الأسباب حتّى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا و هؤلاء بالعدوة القصوى، و وراءهم العير يحامون عليها، حتّى قامت الحرب على ساق و كان ما كان.

لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي: حقيقا بأن يفعل، و هو نصر أوليائه و قهر أعدائه.

و قوله: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل منه، أو متعلّق بقوله: «مفعولا».

و المعنى: ليموت من يموت عن بيّنة عاينها وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ و يعيش من يعيش عن حجّة شاهدها، لئلّا يكون له حجّة و معذرة، فإنّ وقعة بدر من الآيات الواضحة و المعجزات الباهرة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

أو المعنى: ليصدر كفر من كفر و إيمان من آمن عن وضوح بيّنة و قيام حجّة عليه، و يصدر إسلام من أسلم عن يقين و علم بأنّه الدين الحقّ الّذي يجب التمسّك به. فالهلاك و الحياة مستعارتان للكفر و الإسلام. و المعنيّ ب «من هلك» و «من حيّ» المشارف للهلاك الأبدي و الحياة السرمدي.

و قرأ ابن كثير برواية البزّي و نافع و أبو بكر و يعقوب: من حيي بفكّ الإدغام، للحمل على المستقبل.

وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لأقوال من كفر و آمن عَلِيمٌ بكفر من كفر و عقابه، و إيمان من آمن و ثوابه. فالجمع

بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول و الاعتقاد.

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدّر ب «اذكر». أو بدل ثان من «يوم

ص: 46


1- في هامش النسخة الخطيّة: «شخص به إذا أخرجه. منه».

الفرقان». أو متعلّق ب «عليم»، أي: يعلم المصالح، إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك، و ذلك أنّ اللّه سبحانه أراه إيّاهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، فكان تثبيتا لهم و تشجيعا على عدوّهم.

وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر القتال، و تفرّقت آراؤكم بين الثبات و الفرار وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أنعم بالسلامة من الفشل و التنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون و ما يغيّر أحوالها، من الجرأة و الجبن و الصبر و الجزع.

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضميران مفعولا «يري» إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا حال من المفعول الثاني. و إنّما قلّلهم في أعين المسلمين لا غير، لما روي عن ابن مسعود أنّه قال: لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجل إلى جنبي: أ تراهم سبعين؟

فقال: أ تراهم مائة؟ تصديقا لرؤيا رسول اللّه و تثبيتا لهم.

وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتّى قال أبو جهل: إنّ محمدا و أصحابه أكلة جزور.

و روي أيضا أنّه كان يقول: خذوهم بالأيدي أخذا، و لا تقاتلوهم.

و إنّما قلّلهم في أعينهم قبل القتال ليجترؤا عليهم، و لا يستعدّوا لهم بعد اللقاء، ثم كثّرهم حتّى يرونهم مثليهم، لتفجأهم الكثرة فتبهتهم، و تكسر قلوبهم، و تفلّ (1) شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم. و هذا من عظائم آيات تلك الوقعة، فإنّ البصر و إن كان قد يرى الكثير قليلا و القليل كثيرا، لكن لا على هذا الوجه و لا إلى هذا الحدّ،

و إنّما يتصوّر ذلك بصدّ اللّه الأبصار عن إبصار بعض دون بعض، مع التساوي في شروط الرؤية.

لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا كرّره لاختلاف المعلّل به. أو لأنّ المراد بالأمر ثمّ الاكتفاء على الوجه المحكي، و هاهنا إعزاز الإسلام و أهله، و إذلال الشرك و حزبه. وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ امور العباد، فيجازيهم على ما يستحقّونه.

ص: 47


1- أي: تكسر.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 45 الى 54]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [45] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [46] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [47] وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [48] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [49]

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [50] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [51] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [52] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [53] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ

ص: 48

بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ [54]

ثمّ أمر سبحانه بالقتال و الثبات في الحرب، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً أي: إذا حاربتم جماعة كافرة. و لم يصفها، لأنّ المؤمنين ما كانوا يحاربون إلّا الكفّار. و اللقاء ممّا غلب استعماله في القتال. فَاثْبُتُوا للقائهم، و لا تفرّوا.

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن القتال، مستعينين به، مستظهرين بذكره، مترقّبين لنصره، داعين له على عدوّكم، بأن تقولوا: اللّهمّ اخذلهم، اللّهمّ اقطع دابرهم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بمرادكم من النصرة و المثوبة.

و فيه تنبيه على أنّ العبد ينبغي أن لا يشغله شي ء عن ذكر اللّه تعالى، و أن يلتجئ إليه عند الشدائد، و يقبل عليه بشراشره (1) فارغ البال، واثقا بأنّ لطفه لا ينفكّ عنه في شي ء من الأحوال.

و ناهيك بما في خطب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في أيّام صفّين، و في مشاهده مع البغاة و الخوارج- من البلاغة و البيان، و لطائف المعاني، و بليغات المواعظ و النصائح- دليلا على أنّهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر اللّه شاغل و إن تفاقم الأمر.

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا لا تتنازعوا فيما بينكم باختلاف الآراء، كما فعلتم ببدر أو أحد فَتَفْشَلُوا فتجبنوا، و تضعفوا عن قتال عدوّكم. هذا جواب النهي منصوب بإضمار «أن». وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ و الريح مستعارة للدولة، شبّهت في تمشّي أمرها و نفاذه بهبوب الريح و نفوذها. فقيل: هبّت رياح فلان إذا دالت له الدولة و نفذ أمره، و ركدت ريحه إذا أدبر أمره.

ص: 49


1- الشراشر: النفس و جميع الجسد.

و قيل: المراد بها الحقيقة،

فإنّ النصرة لا تكون إلّا بريح يبعثها اللّه تعالى. و في الحديث: «نصرت بالصبا، و أهلكت عاد بالدبور».

وَ اصْبِرُوا على قتال الأعداء إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالحفظ و النصر.

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: أهل مكّة حين خرجوا منها لحماية العير بَطَراً للبطر و الطرب و الفخر، أو بطرين طربين متفاخرين وَ رِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة و السماحة. و ذلك أنّهم لمّا بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم. فقال أبو جهل: لا و اللّه حتّى تقدم بدرا، و نشرب بها الخمور، و تعزف علينا القيان (1)، و نطعم بها من حضرنا من العرب.

فوافوها فسقوا كأس المنايا، و ناحت عليهم النوائح مكان غناء القيان. فنهى اللّه تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، و أمرهم بأن يكونوا أهل تقوى و إخلاص، من حيث إنّ النهي عن الشي ء أمر بضدّه.

وَ يَصُدُّونَ و يمنعون غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ معطوف على «بطرا» إن جعل مصدرا في موضع الحال. و كذا إن جعل مفعولا له، لكن على تأويل المصدر.

وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عالم بأعمالكم، فيجازيكم على وفقها.

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أي: اذكر وقت تزيين الشيطان أَعْمالَهُمْ في معاداة الرسول و غيرها وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ لا يغلبكم أحد من الناس، لكثرة عددكم و قوّتكم. و «لكم» خبر «لا غالب» أو صفته، تقديره: لا غالب كائن لكم. و ليس مفعوله، و إلّا لانتصب، فقيل: لا غالبا لكم، بمعنى: لا غالبا إيّاكم، كقولك: لا ضاربا زيدا عندنا.

وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ أي: ناصركم و دافع عنكم السوء. و هذه وسوسة نفسانيّة.

و المعنى: أنّه ألقى في خاطرهم و خيّل إليهم أنّهم

لا يغلبون و لا يطاقون، لكثرة

ص: 50


1- القيان جمع القينة، و هي المغنيّة.

عددهم و عددهم، و أوهمهم أنّ اتّباعهم إيّاه فيما يظنّون أنّها قربات مجير لهم، حتّى قالوا: اللّهمّ انصر أهدى الفئتين، و أفضل الدينين، كما ذكر.

فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي: تلاقى الفريقان نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رجع القهقرى، أي: بطل كيده، و عاد ما خيّل إليهم أنّه مجيرهم سبب هلاكهم وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من إمداد الملائكة للمسلمين إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أخاف عذاب اللّه على أيدي من أراهم. يعني: تبرّأ منهم، و خاف عليهم، و أيس من حالهم، لمّا رأى إمداد اللّه تعالى المسلمين بالملائكة.

قيل: لمّا اجتمعت قريش على المسير ذكروا ما بينهم و بين كنانة من الحرب، و كاد ذلك يثبّطهم، فتمثّل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني- و كان من أشرافهم- في جند من الشياطين معه راية، و قال: لا غالب لكم اليوم، و إنّي مجيركم من بني كنانة، فلمّا رأى الملائكة تنزل نكص.

و روي: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلمّا نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أ تخذلنا في هذه الحال؟ قال: إنّي أرى ما لا ترون، و دفع في صدر الحارث و انطلق. و انهزموا، فلمّا بلغوا مكّة قالوا: هزم الناس سراقة. فبلغ ذلك سراقة فقال:

و اللّه ما شعرت بمسيركم حتّى بلغتني هزيمتكم. فلمّا أسلموا علموا أنّه الشيطان.

و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. و نقل عن الكلبي.

و هذا هو المشهور بين المفسّرين.

و على هذا يحتمل أن يكون معنى قوله: «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» أنّي أخافه أن يصيبني مكروها من الملائكة، أو يهلكني. و يكون الوقت في قوله: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (1) هذا الوقت الموعود، إذ رأى فيه ما لم ير قبله، فإنّ الملائكة لا ينزلون إلّا لقيام الساعة أو للعذاب. و الأوّل قول الحسن، و اختيار ابن بحر.

ص: 51


1- الحجر: 38.

و في الحديث: «ما رؤي إبليس يوما أصغر و لا أدحر و لا أغيظ من يوم عرفة، لما راى من نزول الرحمة، إلّا ما رؤي يوم بدر».

وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من كلامه، و أن يكون مستأنفا.

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ بالمدينة وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و الّذين لم يطمئنّوا إلى الإيمان بعد، و بقي في قلوبهم شكّ و شبهة في الإسلام. و قيل: هم المشركون. و قيل: المنافقون. و العطف لتغاير الوصفين.

غَرَّ هؤُلاءِ يعنون المؤمنين دِينُهُمْ أي: اغترّوا بدينهم، و أنّهم ينصرون من أجله، حتّى تعرّضوا لما لا يديّ (1) لهم به، فخرجوا و هم ثلاثمائة و بضعة عشر إلى زهاء ألف.

ثمّ قال جوابا لهم: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في أموره فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يذلّ من استجار به و إن قلّ، فيسلّط القليل الضعيف على الكثير القويّ. حَكِيمٌ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل و يعجز عن إدراكه.

وَ لَوْ تَرى و لو رأيت، فإنّ «لو» تجعل المضارع ماضيا عكس «إن» إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ببدر. و «إذ» ظرف «ترى» و المفعول محذوف، أي:

و لو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ. و «الملائكة» فاعل «يتوفّى». و يدلّ عليه قراءة ابن عامر بالتاء.

و يجوز أن يكون الفاعل ضميرا للّه، و قوله: «الملائكة» مبتدأ خبره:

يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ و الجملة حال من «الَّذِينَ كَفَرُوا» و استغني فيه بالضمير عن الواو. و هو على الأوّل حال

منهم، أو من الملائكة، أو منهما، لاشتماله على الضميرين.

ص: 52


1- يديّ و يديّ جمع اليد، و جمع الجمع الأيادي، يقال: لا يدين لك بهذا، أي: لا قوّة و لا طاقة لك به.

وَ أَدْبارَهُمْ ظهورهم أو أستاههم. و قيل: المراد تعميم الضرب، أي:

يضربون ما أقبل منهم و ما أدبر.

وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عطف على «يضربون» بإضمار القول، أي:

و يقولون: ذوقوا، بشارة لهم بعذاب الآخرة. و قيل: كانت مع الملائكة مقامع من حديد كلّما ضربوا التهبت النار منها في جراحاتهم. و جواب «لو» محذوف، لتفظيع الأمر و تهويله، تقديره: لرأيت أمرا فظيعا منكرا.

ذلِكَ الضرب و العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ بسبب ما كسبتم من الكفر و المعاصي. و هو خبر ل «ذلك». وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف عليه، أي: ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم و معاصيكم، و بأن اللّه يعذّب الكفّار بالعدل، لأنّه لا يظلم عباده في عقوبتهم، و قد بالغ في نفي الظلم عن نفسه بقوله: «ظلّام» فإنّه صيغة المبالغة. أو تكثير الظلم لأجل كثرة العبيد. أو لأنّ العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذّب بمثله ظلّاما بليغ الظلم متفاقمه.

و قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ مرفوع المحلّ بالخبر، تقديره: دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، و هو عملهم و طريقهم الّذي دأبوا فيه، أي: داموا عليه. وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل آل فرعون.

كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تفسير لدأبهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ هؤلاء إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ لا يغلبه في دفعه شي ء.

ذلِكَ إشارة إلى ما حلّ بهم، أي: ذلك العذاب بِأَنَّ اللَّهَ بسبب أنّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ مبدّلا إيّاها بالنقمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي:

لا يصحّ ذلك في حكمته حتّى يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ، كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم و الكفّ عن تعرّض الآيات و الرسل بمعاداة الرسول و من تبعه منهم، و السعي في إراقة دمائهم، و التكذيب بالآيات

ص: 53

و الاستهزاء بها، إلى غير ذلك ممّا أحدثوه بعد البعث.

و عن السدّي: النعمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أنعم اللّه به على قريش، فكفروا به و كذّبوه، فنقله إلى الأنصار.

و هذا من جري عادة اللّه تعالى، فإنّ عادته سبحانه جارية على تغيير نعمته متى غيّر العبد أعماله بأسوأ منه، فإنّه كما تغيّر الحال المرضيّة إلى المسخوطة، تغيّر الحال المسخوطة إلى أسخط منها. فكفرة قريش كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلمّا بعث إليهم النبيّ بالآيات البيّنات، فكذّبوه و عادوه، و تحزّبوا عليه ساعين في اراقة دمه، غيّروا حالهم إلى أسوأ ممّا كانت، فغيّر اللّه ما أنعم به عليهم من إمهالهم، و عاجلهم بالعذاب.

و أصل «يك» يكون، فحذفت الحركة للجزم، ثمّ الواو لالتقاء الساكنين، ثمّ النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا، مع أنّ كثرة الاستعمال أيضا مقتضية للتخفيف.

وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقول مكذّبو الرسل عَلِيمٌ بما يفعلون.

و قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ تكرير للتأكيد، و لما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: «بِآياتِ رَبِّهِمْ»، و بيان ما أخذ به آل فرعون.

و قيل: الأوّل لتشبيه الكفر و الأخذ به، و الثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم.

وَ كُلٌ من الفرق المكذّبة، أو من غرقى القبط و قتلى قريش كانُوا ظالِمِينَ أنفسهم

بالكفر و المعاصي، فلم يعاقبوا إلّا عن استحقاق.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 55 الى 56]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [55] الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ [56]

ص: 54

ثمّ ذمّ اللّه سبحانه الكفّار، فقال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ إنّ شرّ من يدبّ على وجه الأرض في معلوم اللّه أو في حكمه الَّذِينَ كَفَرُوا أصرّوا على الكفر و رسخوا فيه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لإصرارهم على الكفر، و لجاجهم و عنادهم فيه، فلا يتوقّع منهم إيمان، و هم قوم مطبوعون على الكفر بأنّهم لا يؤمنون. و ذكر الفاء العاطفة للتنبيه على أنّ تحقّق المعطوف عليه مستدع لتحقّق المعطوف.

و قوله: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بدل من «الَّذِينَ كَفَرُوا» بدل البعض، للبيان و التخصيص. و هم بنو قريظة، عاهدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أن لا يمالئوا عليه عدوّا فنكثوا، بأن أعانوا مشركي مكّة بالسلاح، و قالوا:

نسينا و أخطأنا، ثمّ عاهدهم فنكثوا و مالأوا عليه الأحزاب يوم الخندق، و ركب كعب بن الأشرف إلى مكّة فحالفهم.

و «من» لتضمين المعاهدة معنى الأخذ. و المراد بالمرّة مرّة المعاهدة أو مرّة المحاربة، أي: كلّما عاهدتم نقضوا العهد و لم يفوا به. و جعلهم اللّه شرّ الدّوابّ، لأنّ شرّ الناس الكفّار، و شرّ الكفّار المصرّون منهم، و شرّ المصرّين الّذين ينقضون العهد.

وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ لا يخافون عاقبة الغدر و تبعته، و لا يبالون ما فيه من العار و النار، أو نصر اللّه للمؤمنين و تسليطه إيّاهم عليهم.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 57 الى 58]

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [57] وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا

يُحِبُّ الْخائِنِينَ [58]

ثمّ حكم سبحانه في هؤلاء الناقضين للعهود، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَإِمَّا

ص: 55

تَثْقَفَنَّهُمْ فإمّا تصادفنّهم و تظفرنّ بهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ففرّق عن محاربتك و مناصبتك بقتلهم و النكاية فيهم مَنْ خَلْفَهُمْ من وراءهم من الكفرة. و التشريد تفريق على اضطراب. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لعلّ المشرّدين يتّعظون، فلا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتبارا بهم، و اتّعاظا بحالهم.

وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً نقض عهد بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ على طريق مقتصد مستو في العداوة، و ذلك بأن تخبرهم بنبذ العهد إخبارا ظاهرا مبيّنا لهم أنّك قطعت ما بينك و بينهم، و لا تبدأهم بالقتال و هم على توهّم بقاء العهد، فيكون ذلك خيانة منك. أو على سواء في الخوف، أو العلم بنقض العهد. و هو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأوّل، أي: ثابتا على طريق سويّ، أو من المنبوذ إليهم، أو منهما على غيره، أي: حاصلين على استواء في الخوف أو العلم.

و قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تعليل للأمر بالنبذ، و النهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال، على طريقة الاستئناف. و المعنى: فلا تخنهم، بأن تناجزهم القتال من غير إعلامهم بالنبذ.

قال الواقدي: هذه الآية نزلت في بني قينقاع، و بهذه الآية سار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 59 الى 63]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [59] وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [60] وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ

ص: 56

هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [61] وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ [62] وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [63]

و لمّا تقدّم الأمر بقتال الكفّار، عقّبه سبحانه بوعد النصر و الأمر بالإعداد لقتالهم، فقال مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا مفعولا «يحسبنّ»، أي: لا تحسبنّ يا محمّد الكافرين قد سبقوا أمر اللّه و أعجزوه، و أنّهم فاتوك، فإنّ اللّه تعالى يظفرك بهم كما وعدك، و يظهرك عليهم. و السبق و الفوت بمعنى واحد.

و قرأ ابن عامر و حمزة و حفص بالياء، على أنّ الفاعل ضمير أحد، أو «من خلفهم»، أو «الّذين كفروا» و المفعول الأوّل أنفسهم، فحذف للتكرار.

و قيل فيه: أصله أن سبقوا. و هو ضعيف، لأنّ «أن» المصدريّة كالموصول، فلا تحذف.

و قيل: وقع الفعل على إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ بالفتح على قراءة ابن عامر، و أنّ «لا» (1) صلة، و «سبقوا» حال، بمعنى: سابقين أو مفلتين.

و الأظهر أنّه تعليل للنهي، أي: لا تحسبنّهم سبقوا فأفلتوا، لأنّهم لا يفوتون اللّه، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. و كذا إن كسرت «إنّ» إلّا أنّه تعليل على سبيل الاستئناف. و لعلّ الآية إزاحة لما يحذر به من نبذ العهد و إيقاظ العدوّ.

و عن الزهري أنّها نزلت فيمن أفلت من فلّ المشركين.

ص: 57


1- أي: زائدة، فيكون المعنى: و لا يحسبنّ الذين كفروا أنهم يعجزون.

وَ أَعِدُّوا أيّها المؤمنون لَهُمْ لناقضي العهد أو الكفّار مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ من كلّ ما يتقوّى به في الحرب، من العدد و سائر آلات الحرب.

و عن عقبة بن عامر سمعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول على المنبر: «ألا إنّ القوّة الرمي، قالها ثلاثا». و مات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل اللّه.

و لعلّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خصّه بالذكر لأنّه أقواه.

وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه. فعال بمعنى مفعول، أو مصدر سمّي به. يقال: ربط ربطا و رباطا، و رابط مرابطة و رباطا. أو جمع ربيط، كفصيل و فصال. و عطفها على «قوّة» إذا فسّرت بكلّ ما يتقوّى به، كعطف جبرئيل و ميكائيل على الملائكة.

و جاء في الحديث: «أنّ الشيطان لا يقرب صاحب فرس، و لا دارا فيها فرس عتيق».

و روي: «أنّ صهيل الخيل يرهب الجنّ».

تُرْهِبُونَ بِهِ تخوّفون به. و عن يعقوب: ترهّبون بالتشديد. و الضمير ل «مَا اسْتَطَعْتُمْ» أو للإعداد عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ كفّار مكّة وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ و ترهبون كفّارا آخرين من غيرهم من الكفرة. قيل: هم اليهود. و قيل: المنافقون.

و قيل: الفرس. و قيل: كفرة الجنّ. لا تَعْلَمُونَهُمُ لا تعرفونهم بأعيانهم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ يعرفهم، لأنّه المطّلع على الأسرار.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يوفّر عليكم ثوابه وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بتضييع العمل أو نقص الثواب.

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ و إن مالوا للصلح أو الاستسلام، و منه الجناح.

و قد يعدّى باللام و إلى. و قرأ أبو بكر بكسر السين. فَاجْنَحْ لَها و عاهد معهم. و تأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها و هي الحرب، أو لأنّه بمعنى المسالمة.

ص: 58

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و لا تخف من إبطانهم خداعا فيه، فإنّ اللّه يعصمك من مكرهم، و يحيقه بهم. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بنيّاتهم.

و الآية مخصوصة بأهل الكتاب، لاتّصالها بقصّتهم. و قيل: عامّة نسختها آية السيف (1). و الأصحّ أنّها ليست بمنسوخة، لأنّها في الموادعة لأهل الكتاب، و آية السيف لعبّاد الأوثان.

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ في الصلح، بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن القتال، حتّى يقوى أمرهم فيبدؤوكم بالقتال بالاستعداد التامّ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ فإنّ محسبك اللّه تعالى و كافيك من مكرهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ جميعا، ينصرونك على أعدائك، يريد الأنصار، و هم الأوس و الخزرج.

وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع ما فيهم من العصبيّة و الضغينة في أدنى شي ء، و التهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، فإنّه لم يكن حيّان من العرب بينهما من العداوة مثل ما كان بين هذين الحيّين، فألّف اللّه بين قلوبهم حتّى صاروا كنفس واحدة في التحابّ و التوادّ، و هذا من معجزاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و بيانه قوله: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي: كان تناهي عداوتهم بحيث لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة و الإصلاح، و إزالة ضغائن الجاهليّة وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بقدرته البالغة، فإنّه المالك للقلوب، يقلبها كيف يشاء. فتصافوا، و صاروا أنصارا بميامن الإسلام، و بركة سيّد الأنام عليه و آله أفضل الصلاة و السلام.

إِنَّهُ عَزِيزٌ تامّ القدرة و الغلبة، لا يعصي عليه ما يريد حَكِيمٌ يعلم أنّه كيف ينبغي أن يفعل ما

يريده.

ص: 59


1- التوبة: 5 و 29.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 64 الى 69]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [64] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [65] الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [66] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [67] لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [68]

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [69]

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار، و حثّ عليه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كافيك. و قوله: وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إمّا في محلّ النصب على المفعول معه.

و المعنى: كفاك اللّه مع متّبعيك من المؤمنين ناصرا. أو في محلّ الجرّ عطفا على المكنيّ عند الكوفيّين. أو الرفع عطفا على اسم اللّه تعالى، أي: كفاك اللّه عزّ و جلّ و المؤمنون. و هذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بالغ في حثّهم عليه. و أصله الحرض، و هو أن ينهكه المرض حتّى يشفى- أي: يشرف- على الموت إِنْ يَكُنْ

ص: 60

مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ على القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من العدوّ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اللفظ لفظ الخبر، و المراد منه الأمر. و هذه عدة

من اللّه بأنّ الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفّار بتأييد اللّه و عونه.

و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر: تكن بالتاء في الآيتين. و وافقهم البصريّان في «و إن تكن منكم مائة».

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ بسبب أنّ الكفّار جهلة باللّه و اليوم الآخر، لا يثبتون ثبات المؤمنين، رجاء الثواب و عوالي الدرجات قتلوا أو قتلوا، و لا يستحقّون من اللّه تعالى إلّا الهوان و الخذلان، فيقاتلون على غير احتساب ثواب كالبهائم.

عن ابن جريج: كان عليهم أن لا يفرّوا، و يثبت الواحد منهم للعشرة. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث حمزة بن عبد المطّلب في ثلاثين راكبا، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب، فثقل ذلك عليهم و ضجّوا منه. و كان ذلك الحكم مدّة طويلة، ثمّ نسخ و خفّف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، بقوله عزّ و جلّ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فيه (1) لغتان: الفتح، و هو قراءة عاصم و حمزة. و الضمّ، و هو قراءة الباقين. و الضعف ضعف البدن. و قيل: ضعف البصيرة و الاستقامة في الدين، و كانوا متفاوتين فيها.

و قال في المجمع: «أراد به ضعف البصيرة و العزيمة، و لم يرد ضعف البدن، فإنّ الّذين أسلموا في الابتداء لم يكونوا كلّهم أقوياء البدن، بل كان فيهم القويّ و الضعيف، و لكن كانوا أقوياء البصيرة و اليقين، و لمّا كثر المسلمون و اختلط بهم من كان أضعف يقينا و بصيرة نزل: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» (2).

ص: 61


1- أي: في «ضعفا».
2- مجمع البيان 4: 557.

فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ

على القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من العدوّ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ صابرة يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ منهم بِإِذْنِ اللَّهِ بعلم اللّه أو بأمر اللّه وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر و المعونة، فكيف لا يغلبون؟ قيل: كان فيهم قلّة فأمروا بذلك، ثمّ لمّا كثروا خفّف عنهم. و تكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة قبل التخفيف و بعده، للدلالة على أنّ حكم القليل و الكثير واحد لا يتفاوت، لأنّ الحال قد يتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين و المائة الألف، و كذلك بين مقاومة المائة المائتين و الألف الألفين.

و اعلم أنّ هذه الآية ناسخة للأولى كما مرّ، و المعتبر في الناسخ و المنسوخ بالنزول دون التلاوة. و عن الحسن: أنّ التغليظ كان على أهل بدر، ثمّ جاءت الرخصة.

روي أنّه كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين، قتل منهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه سبعة و عشرين. و كان الأسرى أيضا سبعين، و لم يؤسر أحد من أصحاب رسول اللّه، فجمعوا الأسارى و قرنوهم في الحبال، و ساقوهم على أقدامهم. و قتل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسعة رجال، منهم سعد بن خيثمة، و كان من النقباء من الأوس.

و عن محمّد بن إسحاق: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا، أربعة من قريش و سبعة من الأنصار، و قيل: ثمانية. و قتل من المشركين بضعة و أربعون رجلا.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر و الناس محبوسون بالوثاق بات ساهرا أوّل الليل، فقال له أصحابه: مالك لا تنام؟ فقال عليه الصلاة و السلام: سمعت أنين عمّي العبّاس في وثاقه. فأطلقوه

فسكت، فنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 62

و في كتاب عليّ بن إبراهيم (1): لمّا قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى، فقالوا: يا رسول اللّه قتلنا سبعين منهم و هم قومك و أسرتك، فخذ من هؤلاء الفداء، و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر كره أخذ الفداء، حتّى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه، فقال: يا رسول اللّه هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين، و الإثخان في القتل أحبّ من استبقاء الرجال.

و كذا قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه كذّبوك و أخرجوك، فقدّمهم و اضرب أعناقهم، و مكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، و مكّنّي من فلان أضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر. و قال أبو بكر: أهلك و قومك؛ استبقهم و خذ منهم فدية تكون لنا قوّة على الكفّار.

و أيضا

في كتاب عليّ بن إبراهيم (2): كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، و أقلّه ألف درهم. فبعثت قريش بالفداء أوّلا فأوّلا، فبعثت زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، و بعثت قلائد لها كانت خديجة جهّزتها بها، و كان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلك القلائد قال: رحم اللّه خديجة هذه قلائد هي جهّزتها بها، فأطلقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشرط أن يبعث إليه زينب، و لا

يمنعها من اللحوق به، فعاهده على ذلك و وفى له.

و كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، و أقلّه ألف درهم.

ثمّ نزلت: ما كانَ لِنَبِيٍ ما استقام لنبيّ و ما صحّ له أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى

ص: 63


1- تفسير القمّي 1: 270.
2- لم نجده في تفسير عليّ بن إبراهيم، و الظاهر أنّه من كلام الطبري قدّس سرّه، إذ نقل أولا عن كتاب عليّ بن إبراهيم ثم عقّبه بما في المتن هنا، و حسبه المؤلّف قدّس سرّه أنّه من تتمّة المنقول عن تفسير القمّي. راجع مجمع البيان 4: 559.

من المشركين ليفديهم أو يمنّ عليهم. و قرأ البصريّان بالتاء. حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يكثر القتل و يبالغ فيه بإشاعته، حتّى يذلّ الكفر و يقلّ حزبه، و يعزّ الإسلام و يستولي أهله، من: أثخنه المرض إذا أثقله. و أصله الثخانة.

تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذكم الفداء. سمّي عرضا لأنّه حدث قليل اللبث. و الخطاب للمؤمنين الّذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى. وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يريد لكم ثواب الآخرة، أو سبب نيل ثواب الآخرة، من إعزاز دينه و قمع أعدائه.

وَ اللَّهُ عَزِيزٌ يغلّب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكلّ حال و يخصّه بها، و لهذا أمر بالإثخان و منع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين، و خيّر بينه و بين المنّ لمّا تحوّلت الحال و صارت الغلبة للمؤمنين.

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ أي: حكم فيه سَبَقَ في اللوح بإباحة الغنائم لكم، و من ذلك الفداء، و رفع التعذيب عن أهل بدر، أو عن قوم لم يصرّح لهم بالنهي عنه، أو عن الخطأ في اجتهادهم لأنّهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربّما كان سببا في إسلامهم

و توبتهم، و أنّ فداءهم يتقوّى به المسلمون على الجهاد في سبيل اللّه، و خفي عليهم أنّ قتلهم أعزّ للإسلام، و أهيب لمن وراءهم، و أفلّ لشوكتهم.

لَمَسَّكُمْ لنالكم فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ

قال ابن زيد: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول هذه الآية: «لو نزل عذاب من السماء لما نجا منكم غير عمر و سعد بن معاذ».

و قيل: معناه: لولا كتاب من اللّه في القرآن أنّه لا يعذّبكم و النبيّ بين أظهركم، حيث قال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ (1).

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الفدية، فإنّها من جملة الغنائم. و قيل: أمسكوا عن

ص: 64


1- الأنفال: 33.

الغنائم و لم يمدّوا أيديهم إليها بعد العتاب على الفداء، فنزلت. و الفاء للتسبيب، و السبب محذوف، تقديره: أبحت لكم الغنائم فكلوا. و بنحوه تشبّث من زعم أنّ الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة.

حَلالًا حال من المغنوم أو صفة للمصدر، أي: أكلا حلالا. و فائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، و لذلك وصفه بقوله: طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ غفر لكم ذنبكم رَحِيمٌ أباح لكم ما أخذتم.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [70] وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [71]

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّف العبّاس أن يفدي نفسه و ابني أخويه عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث.

فقال: يا محمّد

تركتني أتكفّف (1) قريشا ما بقيت.

فقال: فأين الذهب الّذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك، و قلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك و لعبد اللّه و عبيد اللّه و الفضل و قثم.

فقال: و ما يدريك؟

ص: 65


1- تكفّف الناس: مدّ كفّه إليهم يستعطي.

قال: أخبرني به ربّي.

قال: فأشهد أنّك صادق، لا إله إلّا اللّه و أنّك رسوله، و اللّه لم يطّلع عليه أحد إلّا اللّه، و لقد دفعته إليها في سواد الليل، و لقد كنت مرتابا في أمرك، و إذ أخبرتني بذلك فزال ريبي و شكّي في نبوّتك.

فنزلت: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى أي: أيديكم قابضة عليهم. و قرأ أبو عمرو: من الأسارى. و القراءة الأولى أولى، لأنّ الأسير فعيل بمعنى المفعول، و ذلك يجمع على فعلى، نحو جريح و جرحى. و قيل: وجه القراءة الثانية تشبيهه بكسالى، كما شبّهوا كسلى بأسرى.

إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً خلوص عقيدة و صحّة نيّة في الإيمان يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء إمّا بأن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. قال العبّاس: فأبدلني اللّه خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، إن أدناهم ليضرب- أي: ليسافر- في عشرين ألفا، و أعطاني زمزم ما أحبّ أن لي بها جميع أموال أهل مكّة، و أنا أنتظر المغفرة من ربّكم، يعني: الموعود بقوله:

وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

و روي أنّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضّأ لصلاة الظهر، و ما صلّى حتّى فرّقه، و أمر العبّاس أن يأخذ منه، فأخذ

ما قدر على حمله، و كان يقول: هذا خير ممّا أخذ منّي، و أرجو المغفرة.

وَ إِنْ يُرِيدُوا يعني: الأسرى خِيانَتَكَ نقض ما عاهدوك من الإسلام فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بأن خرجوا إلى بدر و قاتلوا مع المشركين، أو بأن نقضوا الميثاق المأخوذ بالعقل فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي: فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر، و سيمكّنك منهم ثانيا إن خانوك وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يقولونه، و بما في نفوسكم، و بجميع الأشياء حَكِيمٌ فيما يفعله.

ص: 66

[سورة الأنفال [8]: الآيات 72 الى 73]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [72] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ [73]

ثمّ ختم اللّه سبحانه السورة بإيجاب موالاة المؤمنين و قطع موالاة الكافرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا أي: فارقوا أوطانهم حبّا للّه تعالى و لرسوله. و هم المهاجرون من مكّة إلى المدينة. وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها في الكراع (1) و السلاح، و أنفقوها على المحاويج وَ أَنْفُسِهِمْ بمباشرة القتال فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم، و نصروهم على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي: يتولّى بعضهم بعضا في الميراث. و كان المهاجرون و الأنصار يتوارثون بالهجرة و النصرة دون الأقارب، أو بالمؤاخاة، و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام،

ثمّ نسخ بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ

(2) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي: من

ص: 67


1- الكراع: اسم يطلق على الخيل و البغال و الحمير، أو اسم لجماعة الخيل خاصّة.
2- الأنفال: 75.

تولّيهم في الميراث. و قرأ حمزة: ولايتهم بالكسر. قال الزجّاج: هي بفتح الواو من النصرة و النسب، و بالكسر هي بمنزلة الإمارة. و وجه الكسر أنّه شبّه تولّي بعضهم بعضا بالصناعة و العمل، لأنّ كلّ ما كان من هذا الجنس مكسور، كالصياغة و الكتابة، فكأنّ الرجل بتولّيه صاحبه يباشر أمرا و يزاول عملا.

وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ أي: و إن طلب المؤمنون الّذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفّار فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين إِلَّا عَلى قَوْمٍ من المشركين بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد، فلا يجوز لكم نصرهم عليهم، لأنّهم لا يبتدؤن بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الميراث أو المؤازرة. و هو بمفهومه يدلّ على نهي المسلمين عن موالاة الكفّار و معاونتهم، و إن كانوا أقارب إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي: إلّا تفعلوا ما أمرتم به من تواصل المسلمين و تولّي بعضهم بعضا حتّى في التوارث، و قطع العلائق بينكم و بين الكفّار، و جعل قرابتهم كلا قرابة في التوارث تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ تحصل فتنة عظيمة فيها، و هي ضعف الايمان و ظهور الكفر وَ فَسادٌ كَبِيرٌ في الدين.

[سورة الأنفال [8]: الآيات 74 الى 75]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [74] وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا

مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [75]

ص: 68

و لمّا قسّم المؤمنين ثلاثة أقسام، بيّن أنّ الكاملين في الايمان منهم هم الّذين حقّقوا إيمانهم، فقال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. ثمّ وعد لهم الموعد الكريم بقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ لا تبعة و لا منّة فيه، و ذلك لأنّهم حقّقوا إيمانهم بالهجرة و النصرة، و الانسلاخ من الأهل و المال لأجل الدين. و ليس بتكرار، لأنّ هذه الآية واردة للثناء عليهم و الشهادة لهم مع الموعد الكريم، و الآية الأولى للأمر بالتواصل.

ثمّ ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم و يتّسم بسمتهم، فقال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ من بعد فتح مكّة. و قيل: من بعد إيمانكم. وَ هاجَرُوا بعد هجرتكم وَ جاهَدُوا في الجهاد و بذل الأموال فيه مَعَكُمْ أيّها المؤمنون. يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله: وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ (1) فألحقهم اللّه بهم تفضّلا منه و ترغيبا، فقال: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي: من جملتكم أيّها المهاجرون و الأنصار، و حكمهم كحكمكم في وجوب موالاتهم و نصرتهم و إن تأخّر إيمانهم و هجرتهم.

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ و أولوا القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ في حكمه، أو في اللوح، أو في القرآن. و هذا نسخ للتوارث بالهجرة و النصرة كما مرّ آنفا. و فيه دلالة على أن من كان أقرب إلى الميّت في النسب كان أولى بالميراث.

إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من المواريث و الحكمة،

في إناطتها بنسبة الإسلام و المظاهرة أوّلا، و اعتبار القربة ثانيا.

ص: 69


1- الحشر: 10.

ص: 70

[9] سورة التوبة

[سورة التوبة [9]: الآيات 1 الى 2]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [1] فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ [2]

مدنيّة، و آياتها مائة و تسع و عشرون.

و لها أربعة (1) عشر اسما:

البراءة، لأنّها مفتّحة بها، و نزلت بإظهار البراءة من الكفّار.

و التوبة، لكثرة ما فيها من ذكر التوبة، كقوله تعالى: وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ (2) فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا (3).

و الفاضحة، لأنّها فضحت المنافقين بإظهار نفاقهم.

ص: 71


1- ذكر الشارح قدّس سرّه ثلاثة عشر اسما فقط، و سقط الرابع عشر من قلمه، و هو- كما في تفسير البيضاوي 3: 58- المخزية، لما فيها مما يخزي المنافقين.
2- التوبة: 15 و 74 و 118.
3- التوبة: 15 و 74 و 118.

و المبعثرة، لأنّها تبعثر عن أسرار المنافقين، أي: تبحث عنها.

و المنقّرة لذلك، لأنّ التنقير بمعنى البحث و التفتيش.

و المقشقشة، لأنّها تبرئ من آمن بها من النفاق و الشرك، لما فيها من الدعاء إلى الإخلاص. يقال: قشقشه إذا برّأه، و تقشقش المريض من علّته إذا برى ء منها و أفاق.

و البحوث، لأنّها تتضمّن ذكر المنافقين و البحث عن سرائرهم.

و المدمدمة، أي: المهلكة، و منه قوله: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ (1).

و الحافرة، لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا يسرّونه.

و المثيرة، لأنّها أثارت مخازيهم و مقابحهم.

و المنكّلة، لأنّها تنكّلهم.

و المشرّدة، إذ تشرّدهم.

و سورة العذاب، لأنّها نزلت بعذابهم.

و إنّما تركت التسمية فيها، لأنّها نزلت لرفع الأمان، و بسم اللّه أمان، كما

ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لم

ينزل بسم اللّه الرحمن الرحيم راس سورة براءة، لرفع الأمان و للسيف».

و هذا منقول عن سفيان بن عيينة. و اختاره أبو العبّاس المبرّد.

و قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزلت عليه سورة أو آية بيّن موضعهما، و توفّي و لم يبيّن موضعها.

و كانت قصّتها تشابه قصّة الأنفال و تناسبها، لأنّ في الأنفال ذكر العهود، و في براءة نبذها، فضمّت إليها، و لهذا سمّيتا قرينتين، و تعدّان السابعة من السبع الطوال.

و قيل: لمّا اختلفت الصحابة في أنّهما سورة واحدة- و هي سابعة السبع

ص: 72


1- الشمس: 14.

الطوال- أو سورتان تركت بينهما فرجة، و لم يكتب «بسم اللّه» لقول من قال: هما سورة واحدة.

و يؤيّد الأوّل ما

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الأنفال و براءة واحدة».

و روي ذلك عن سعيد بن المسيّب، عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأنفال و براءة فأنا شفيع له».

الخبر بتمامه مضى ذكره في صدر سورة الأنفال (1).

و روى الثعلبي بإسناده عن عائشة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما نزل عليّ القرآن إلّا آية آية و حرفا حرفا، خلا سورة البراءة و قل هو اللّه أحد، فإنّهما نزلتا و معهما سبعون ألف صفّ من الملائكة».

و على قول من قال إنّهما سورتان قيل: و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الأنفال بإيجاب البراءة من الكفّار، افتتح هذه السورة بأنّه تعالى و رسوله بريئان منهم، كما أمر المسلمين بالبراءة منهم في سورة الأنفال، فقال: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ أي: هذه براءة. و «من» ابتدائيّة متعلّقة بمحذوف تقديره: واصلة من اللّه وَ

رَسُولِهِ أي:

انقطاع منهما للعصمة، و رفع الأمان، و خروج من العهود. و يجوز أن تكون براءة مبتدأ، لتخصّصها بصفتها، و الخبر قوله: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما تقول: رجل من قريش في الدار. و المعنى: أنّ اللّه و رسوله برئا من العهد الّذي عاهدتم به المشركين.

و إنّما علّقت البراءة باللّه و رسوله و المعاهدة بالمسلمين، للدلالة على أنّه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، و إن كانت صادرة بإذن اللّه و اتّفاق الرسول، فإنّهما برئا الآن منها. و ذلك أنّهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلّا أناسا، منهم بنو ضمرة و بنو كنانة، فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين، و أمهل المشركين أربعة أشهر

ص: 73


1- راجع ص: 5.

ليسيروا أين شاؤا، فقال خطابا للمشركين: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ شوّال و ذي القعدة و ذي الحجّة و المحرّم، آمنين أين شئتم، و ذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل و القتال فيها.

و قيل: إنّ براءة نزلت في شوّال سنة تسع من الهجرة، و فتح مكّة سنة ثمان.

و قيل:

كان ابتداؤها من النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، لأنّ التبليغ كان يوم النحر.

و هو الأصحّ، لأنّه مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قال ابن عبّاس: إنّما أجّلهم الأشهر الأربعة من شوّال إلى آخر المحرّم، لأنّ هذه الآية نزلت في شوّال.

قال في الكشّاف: «كان نزول براءة سنة تسع من الهجرة، و فتح مكّة سنة ثمان، و كان الأمير عتّاب بن أسيد، فأمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا بكر على موسم الحجّ سنة تسع، ثمّ أتبعه عليّا عليه السّلام راكبا العضباء- و هي ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-

ليقرأها على أهل الموسم. فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر. فقال: لا يؤدّي عنّي إلّا رجل منّي. فلمّا دنا عليّ عليه السّلام سمع أبو بكر الرغاء فوقف، فقال: هذا رغاء ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور.

و روي: أنّ أبا بكر لمّا كان ببعض الطريق هبط جبرئيل، فقال: يا محمّد لا يبلّغ رسالتك إلّا رجل منك، فأرسل عليّا عليه السلام. فرجع أبو بكر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه أ شي ء نزل من السماء؟ قال: نعم، فسر و أنت على الموسم، و عليّ ينادي بالآي. فلمّا كان قبل التروية خطب أبو بكر و حدّثهم عن مناسكهم. و قام عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيّها الناس إنّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. و عن مجاهد ثلاث عشرة آية. ثمّ قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك. و لا يطوف بالبيت عريان. و لا يدخل الجنّة إلّا كلّ نفس مؤمنة. و أن يتمّ كلّ

ص: 74

ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك: يا عليّ أبلغ ابن عمّك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، و أنّه ليس بيننا و بينه عهد إلّا طعن بالرماح و ضرب بالسيوف» (1) انتهى كلامه.

و قال في المجمع: «روى عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن الباقر عليه السّلام قال: خطب عليّ عليه السّلام الناس يوم النحر، و اخترط سيفه فقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان، و لا يحجّنّ بالبيت مشرك، و من

كانت له مدّة فهو إلى مدّته، و من لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر، و قرأ عليهم سورة براءة» (2).

و قيل: إنّه أخذها من أبي بكر قبل الخروج و دفعها إلى عليّ عليه السّلام، و قال: لا يبلّغ عنّي إلّا أنا أو رجل منّي.

و روى أصحابنا: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ولّاه ايضا الموسم، و أنّه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن سماك بن حرب، عن أنس بن مالك: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكّة، فلمّا بلغ ذا الحليفة بعث إليه فردّه، و قال: لا يذهب بهذا إلّا رجل من أهل بيتي، فبعث عليّا عليه السّلام» (3).

و تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، و أبيح قتال المشركين فيها بعد ذلك.

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه و إن أمهلكم وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي: مذلّهم في الدنيا بالقتل و الأسر، و في الآخرة بالعذاب الأليم.

ص: 75


1- الكشّاف 2: 243- 244.
2- مجمع البيان 5: 3- 4.
3- شواهد التنزيل 1: 305 ح 309.

[سورة التوبة [9]: الآيات 3 الى 4]

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [3] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [4]

و لمّا أخبر بثبوت البراءة أخبر بعد ذلك بوجوب الإعلام بما ثبت، فقال:

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي: إعلام منهما إليهم. فعال بمعنى الإفعال، أي: الإيذان، كالأمان و العطاء بمعنى الإيمان و الإعطاء. و المراد من الناس الناكثون، أو جميع الناس من عاهد منهم و من لم يعاهد. و رفعه كرفع براءة بعينه على الوجهين، فالجملة معطوفة على مثلها.

يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قيل: يوم النحر، لأنّ فيه تمام الحجّ و معظم أفعاله، و لأنّ الإعلام كان فيه، و لما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجّة الوداع، فقال: هذا يوم الحجّ الأكبر.

و روي أنّ عليّا عليه السّلام أخذ رجل بلجام دابّته فقال: ما الحجّ الأكبر؟ فقال: يومك هذا، خلّ عن دابّتي. و قيل: يوم عرفة، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«الحجّ عرفة».

و وصف بالحجّ الأكبر لأنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر. أو لأنّ المراد بالحجّ ما يقع في ذلك اليوم من أعماله، فإنّه أكبر من باقي الأعمال. أو لأنّ ذلك الحجّ اجتمع فيه المسلمون و المشركون، و وافق عيده أعياد أهل الكتاب، و لم يتّفق ذلك

ص: 76

قبله و لا بعده، فعظم في قلب كلّ مؤمن و كافر، و ظهر فيه عزّ المسلمين و ذلّ المشركين.

أَنَّ اللَّهَ أي: بأنّ اللّه، حذف الباء تخفيفا. بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: من عهودهم وَ رَسُولِهِ عطف على الضمير المستكن في «بري ء» فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر و الغدر فَهُوَ فالتوب خَيْرٌ لَكُمْ من الإقامة عليهما، لأنّكم تنجون به من خزي الدنيا و عذاب الآخرة وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة، أو تبتم على التولّي و الإعراض عن الإسلام و الوفاء فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ غير سابقين اللّه هربا، و لا

فائتين أخذه و عقابه. و في هذا إعلام بأنّ الإمهال ليس بعجز، بل إنّما هو لإظهار الحجّة و المصلحة.

ثمّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الآخرة. و ذكر البشارة مكان النذارة للتهكّم.

و قوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استثناء من المشركين أو استدراك، فكأنّه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين: و لكن الّذين عاهدوا منهم ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد أصلا و لم ينكثوه، أو لم يقتلوا منكم و لم يضرّوكم قطّ وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إلى تمام مدّتهم الّتي وقع العهد إليها، و لا تجروهم مجرى الناكثين، و لا تجعلوا الوفيّ كالغادر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تعليل و تنبيه على أنّ إتمام عهدهم من باب التقوى.

و المراد بهم بنو كنانة و بنو ضمرة و أشباههم، فإنّهم قد بقي من أجلهم تسعة أشهر، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإتمامها لهم، لأنّهم لم يظاهروا على المؤمنين، و لم ينقضوا عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو المراد أهل هجر و أهل البحرين و أيلة و دومة الجندل، فإنّ له عليه السّلام عليهم عهودا بالصلح و الجزية، و لم ينبذ إليهم بنقض عهد و لا حاربهم بعد، لأنّهم لم ينقضوا العهود، و كانوا أهل ذمّة إلى أن مضى لسبيله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 77

[سورة التوبة [9]: الآيات 5 الى 6]

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

[5] وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [6]

ثمّ بيّن سبحانه الحكم في المشركين بعد انقضاء المدّة، فقال: فَإِذَا انْسَلَخَ انقضى. و أصل الانسلاح خروج الشي ء ممّا لابسه، من سلخ الشاة الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الّتي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها. و قيل: هي رجب و ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم، ثلاثة سرد، و واحد فرد. و هذا مخلّ بالنظم، لأنّ اللام في الأشهر الحرم إشارة إلى أربعة أشهر في قوله: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» فصرفه إلى غيرها مخلّ بالنظم، و أيضا مخالف للإجماع.

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين، وضعوا السيف فيهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حلّ أو حرم وَ خُذُوهُمْ و أسروهم. و الأخيذ الأسير. وَ احْصُرُوهُمْ و احبسوهم. أو حيلوا بينهم و بين المسجد الحرام. أو امنعوهم من التصرّف في البلاد. وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ كلّ ممرّ و طريق ترصدونهم، أي: ضيّقوا المسالك عليهم لئلّا يتبسّطوا في البلاد، فتتمكّنوا من أخذهم. و الأمر للتخيير. و انتصابه على

ص: 78

الظرف، كقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (1). و هذا ناسخ لكلّ آية وردت في الصلح و الإعراض عنهم.

فَإِنْ تابُوا من الشرك بالإيمان وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ تصديقا لتوبتهم و إيمانهم. و المعنى: قبلوا إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة، لأنّ عصمة الدم لا تقف على إقامة الصلاة و أداء الزكاة، فثبت أنّ المراد به القبول. فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فدعوهم و لا تتعرّضوا لهم بشي ء من ذلك، أو دعوهم يحجّوا و يدخلوا المسجد الحرام. و فيه دليل على أنّ تارك الصلاة و مانع الزكاة لا يخلّى سبيله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر، أي: فخلّوهم، لأنّ اللّه غفور رحيم، غفر لهم ما قد سلف من كفرهم و غدرهم، و وعد لهم الثواب بالتوبة.

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المأمور بالتعرّض لهم اسْتَجارَكَ استأمنك و طلب منك جوارك. و «أحد» رفع بفعل يفسّره ما بعده، لا بالابتداء، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. فتقدير الكلام: و إن استجارك أحد فَأَجِرْهُ فأمّنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ و يتدبّره، و يطّلع على حقيقة الأمر ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ موضع أمنه بعد ذلك- يعني: داره الّتي يأمن فيها- إن لم يسلم، ثمّ قاتله إن شئت من غير غدر و لا خيانة. و هذا الحكم ثابت في كلّ وقت. و عن الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة. و إنّما خصّ كلام اللّه لأنّ معظم الأدلّة فيه.

ذلِكَ الأمن أو الأمر بالاجارة بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ بسبب أنّهم قوم جهلة لا يعلمون ما الايمان، و ما حقيقة ما تدعوهم إليه؟ فلا بدّ من أمانهم ريثما يسمعون و يتدبّرون.

و عن سعيد بن جبير: «جاء رجل من المشركين إلى عليّ عليه السّلام فقال: إن أراد الرجل منّا أن يأتي محمّدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام اللّه، أو يأتيه لحاجة.

ص: 79


1- الأعراف: 16.

قتل؟ قال: لا، لأنّ اللّه يقول: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ» الآية».

و عن السدّي و الضحّاك: هي منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (1).

[سورة التوبة [9]: الآيات 7 الى 12]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [7] كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ [8] اشْتَرَوْا

بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [9] لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [10] فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [11]

وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [12]

و لمّا أمر سبحانه بنبذ العهود إلى المشركين، بيّن أنّ العلّة في ذلك ما ظهر منهم من الغدر، و أمر بإتمام العهد لمن استقام على الأمر، فقال: كَيْفَ يَكُونُ

ص: 80


1- التوبة: 5.

لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ استفهام بمعنى الإنكار و الاستبعاد لأن يكون لهم عهد و لا ينكثوه مع وغرة (1) صدورهم و غدرهم، أو لأن يفي اللّه و رسوله بالعهد و هم نكثوه. و خبر «يكون»: «كيف»، و قدّم للاستفهام، أو «للمشركين» أو «عند اللّه». و هو على الأوّلين صفة للعهد، أو ظرف له، أو لقوله: «يكون». و «كيف» على الأخيرين حال من العهد. و قوله: «للمشركين» إن لم يكن خبرا فتبيين.

إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هم المستثنون قبل من بني كنانة و بني ضمرة و نظرائهم. و محلّه النصب على الاستثناء، أو الجرّ على البدل، أو الرفع على أنّ الاستثناء منقطع، أي: و لكنّ الّذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام.

فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ما تحتمل الشرطيّة و المصدريّة، أي:

فتربّصوا أمرهم فلا تقاتلوهم، فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء. أو ما داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة فكونوا معهم كذلك. و هذا كقوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ (2) غير أنّه مطلق و هذا مقيّد. إِنَّ

اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ للنكث و الغدر، فإنّ التربّص بهم من أعمال المتّقين.

كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد، أو بقاء حكمه، مع التنبيه على العلّة. و حذف الفعل للعلم به، أي: كيف يكون لهم عهد؟ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي:

و حالهم أنّهم إن يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان و المواثيق لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ لا يراعوا و لا يحفظوا إِلًّا حلفا. و قيل: قرابة. و قيل: ربوبيّة. و لعلّه اشتقّ للحلف من الألّ، و هو الجؤار (3). يقال: له أليل، أي: أنين يرفع به صوته، لأنّهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم، ثم استعير للقرابة، لأنّها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف، ثمّ للربوبيّة و التربية. و قيل: اشتقاقه من: ألّل الشي ء إذا حدّده، أو من: ألّ

ص: 81


1- الوغر: الحقد و العداوة و الضغن، و وغرة الصدر: شدّة غيظه.
2- التوبة: 4.
3- جأر يجأر جؤارا إلى اللّه: رفع صوته بالدعاء.

البرق إذا لمع. وَ لا ذِمَّةً عهدا أو حقّا يعاب على إغفاله و إهماله.

و قوله: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ كلام مستأنف في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد، و إباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل، و هذه المخالفة موجبة لعدم مراقبتهم عند الظفر. و المعنى: يتكلّمون بكلام الموالين لترضوا عنهم وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ ما تتفوّه به أفواههم، للعداوة و الغدر و نقض العهد.

وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون في الكفر و الشرك، لأنّه لا عقيدة لهم تمنعهم، و لا مروءة تردعهم، و هم رؤساء الكفرة. أو خارجون عن طريق الوفاء بالعهد. و تخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التباعد

عن الغدر، و التعفّف عمّا يجرّ إلى أحدوثة السوء. و لا يجوز جعل هذه الجملة الفعليّة حالا من فاعل «لا يرقبوا»، فإنّهم بعد ظهورهم لا يرضون.

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ استبدلوا بالقرآن و الإسلام ثَمَناً قَلِيلًا عرضا يسيرا، و هو اتّباع الأهواء و الشهوات فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فعدلوا عن دينه الموصل إلى رحمته، و صرفوا غيرهم عنه، أو سبيل بيته بحصر الحجّاج و العمّار. و الفاء للدلالة على أن اشتراءهم أدّاهم إلى الصدّ.

إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ بئس العمل عملهم هذا، أو ما دلّ عليه قوله:

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً فهو تفسير لا تكرير. و قيل: الأوّل عامّ في الناقضين، و هذا خاصّ بالّذين اشتروا، و هم اليهود أو الأعراب الّذين جمعهم أبو سفيان و أطعمهم. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون الغاية في الظلم و الشرارة.

فَإِنْ تابُوا عن الكفر و الصدّ و نقض العهد وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم و عليهم ما عليكم وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ و نبيّنها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اعتراض للحثّ على تأمّل ما فصّل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين، فكأنّه قيل: و من تأمّل تفصيلها فهو العالم.

ص: 82

وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ و إن نقضوا ما بايعوا عليه من الأيمان أو الوفاء بالعهود مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ من بعد أن عقدوها وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بصريح التكذيب و تقبيح الأحكام فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي: فقاتلوهم. فوضع أئمّة الكفر موضع الضمير، للدلالة على أنّهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة و التقدّم في الكفر و الضلالة، أحقّاء بالقتل. و قيل: المراد بالأئمّة رؤساء المشركين. فالتخصيص إمّا لأنّ قتلهم أهمّ، و هم أحقّ به، أو للمنع من مراقبتهم.

و قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو: أئمّة، بتسهيل (1) الثانية بلا فصل بينهما.

و عاصم و ابن عامر و حمزة و الكسائي و روح عن يعقوب: أئمّة، بتحقيق الهمزتين على الأصل. و التصريح بالياء لحن.

و عن حذيفة: لم يأت أهل هذه الآية بعد. و قرأ عليّ عليه السّلام الآية يوم الجمل، ثمّ قال: «و اللّه لقد عهد إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لي: يا علي لتقاتلنّ الفئة الناكثة، و الفئة الباغية، و الفئة المارقة».

إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي: لا عهود لهم على الحقيقة- يعني: لا يحفظونها- و إلّا لما طعنوا و لم ينكثوا، فلا تعطوهم الأمان بعد النكث و الردّة. و فيه دليل على أنّ الذمّي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده. و قرأ ابن عامر: لا إيمان، بمعنى: لا أمان أو لا إسلام.

و على القراءة الأولى استشهد الحنفي على أنّ يمين الكافر ليس يمينا. و هو ضعيف، لأنّ المراد نفي الوثوق عليها، لا أنّها ليست بأيمان.

و على الثانية تشبّث بها من لم يقبل توبة المرتدّ. و هو أيضا ضعيف، لجواز أن يكون بمعنى: لا يؤمنون، على أنّ الإخبار عن قوم معيّنين، إذ ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله.

ص: 83


1- أي: تلفّظ الهمزة الثانية بين بين، أي: بين مخرج الهمزة و الياء.

و قوله: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلّق ب «قاتلوا» أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عمّا هم عليه، لا إيصال الأذيّة بهم كما هو طريقة المؤذين. و هذا من غاية كرمه العميم و فضله الجسيم، جلّ كرمه و عظم فضله.

[سورة التوبة [9]: آية 13]

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ

هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [13]

ثمّ حرّض المؤمنين على القتال، فقال: أَ لا تُقاتِلُونَ دخول الهمزة على «لا» للإنكار، فأفادت المبالغة في الفعل و التحريض فيه، أي: هلّا تقاتلون قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الّتي حلفوها مع الرسول و المؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، فأذن اللّه له في الهجرة، فخرج بنفسه، على ما مرّ ذكره في قوله: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (1). و قيل: هم اليهود نكثوا عهد رسول اللّه، و همّوا بإخراجه من المدينة.

وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالمعاداة و المقاتلة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدأهم بالدعوة و إلزام الحجّة بالكتاب و التحدّي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة و المقاتلة، و البادي أظلم، فما يمنعكم أن تقابلوهم و تقاتلوهم؟ أَ تَخْشَوْنَهُمْ الهمزة للتوبيخ الّذي يتضمّن التشجيع، أي: أ تتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فقاتلوا أعداءه و لا تتركوا أمره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ قضيّة الايمان أن لا يخشى المؤمن إلّا ربّه، و لا يبالي بمن سواه، كقوله: وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ (2).

ص: 84


1- راجع ص: 33 ذيل الآية 30 من سورة الأنفال.
2- الأحزاب: 39.

[سورة التوبة [9]: الآيات 14 الى 15]

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [14] وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [15]

ثمّ أمرهم بالقتال بعد بيان موجبه، و التوبيخ على تركه، و التوعيد عليه، فقال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ قتلا وَ يُخْزِهِمْ

أسرا وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ غلبة. هذا وعد للمؤمنين إن قاتلوهم بالنصر عليهم، و التمكّن من قتلهم و إذلالهم، ليثبّت قلوبهم و يصحّح نيّاتهم وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ طائفة منهم، يعني: بني خزاعة. و عن ابن عبّاس: هم بطون من اليمن و سبأ قدموا مكّة و أسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: أبشروا فإنّ الفرج قريب.

وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا منهم من المكروه، و قد أوفى اللّه تعالى بما وعدهم به. و الآية من المعجزات. وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ استئناف كلام. و فيه إخبار بأنّ بعضهم سيتوب عن كفره. و قد كان ذلك أيضا، فإنّ كثيرا منهم قد أسلموا و حسن إسلامهم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون كما يعلم ما كان حَكِيمٌ لا يفعل و لا يحكم إلّا على وفق الحكمة و المصلحة.

[سورة التوبة [9]: آية 16]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [16]

ثمّ نبّه سبحانه على جلالة موقع الجهاد، فقال خطابا للمؤمنين حين كره

ص: 85

بعضهم القتال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا أم منقطعة. و معنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان. و المعنى: لا تظنّوا أنّكم تتركون على ما أنتم عليه وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ و الحال أنّه لم يبيّن اللّه و لم يميّز الخلّص منكم، و هم المجاهدون في سبيل اللّه لوجه اللّه. نفى العلم و أراد نفي المعلوم للمبالغة، فإنّه كالبرهان عليه، من حيث إنّ تعلّق العلم به مستلزم لوقوعه، كما يقال: ما

علم اللّه ما قيل في فلان، أي: ما وجد ذلك. و «لمّا» معناها التوقّع، فدلّت على أنّ تميّز ذلك و إيضاحه متوقّع كائن.

وَ لَمْ يَتَّخِذُوا عطف على «جاهدوا» داخل في الصلة مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً هو الّذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به. شبّه ببطانة الثوب، كما شبّه بالشعار. فعيلة من: ولج، كالدخيلة من: دخل. يعني:

بطانة و أولياء يوالونهم و يفشون إليهم أسرارهم. وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعلم أعمالكم فيجازيكم عليها. و هو كالمزيح لما يتوهّم من ظاهر قوله: «وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ».

[سورة التوبة [9]: الآيات 17 الى 18]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ [17] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [18]

و لمّا أمر اللّه تعالى بقتال المشركين، و قطع العصمة و الموالاة عنهم، أمر بمنعهم عن المساجد، فقال: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صحّ لهم و ما استقام أَنْ

ص: 86

يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شيئا من المساجد، فضلا عن المسجد الحرام الّذي هو صدرها و مقدّمها. و قيل: هو المراد، و إنّما جمع لأنّه قبلة المساجد كلّها و إمامها، فعامره كعامر الجميع، أو لأنّ كلّ موضع منه مسجد. و يدلّ عليه قراءة ابن كثير و أبي عمرو و يعقوب بالتوحيد.

شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حال من الواو في «يعمروا». و معنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم و تكذيبهم الرسول، و أنّهم نصبوا أصنامهم حول البيت، و كانوا يطوفون حول البيت عراة، و كلّما طافوا بها شوطا سجدوا لها.

و قيل: هو قولهم: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك، تملكه و ما ملك.

و المعنى: ما استقام أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة بيت اللّه تعالى، و عبادة غيره.

روي أنّ المهاجرين و الأنصار عيّروا أسارى بدر، و وبّخ عليّ عليه السّلام العبّاس حين أسر بقتال رسول اللّه و قطيعة الرحم، و أغلظ له في القول. فقال العبّاس:

تذكرون مساوينا و تكتمون محاسننا. فقالوا: أ لكم محاسن؟ قالوا: نعم، و نحن أفضل منكم أجرا، إنّا لنعمر المسجد الحرام، و نحجب الكعبة، و نسقي الحجيج، و نفكّ العاني. فنزلت: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ

الّتي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك، لأنهم أوقعوها على الوجه الّذي لا يستحقّ لأجله الثواب عليها عند اللّه. وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ مقيمون مؤبّدون لأجله.

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ بحدودها المعتبرة في شرع الإسلام وَ آتَى الزَّكاةَ إن وجب عليه إلى مستحقّها. و المعنى:

إنّما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلميّة و العمليّة، لا لغيرهم. و من عمارتها: رمّ ما استهدم منها، و كنسها و تنظيفها، و تزيينها بالفرش، و تنويرها

ص: 87

بالسرج، و زيارتها للعبادة، و إدامة العبادة و الذكر و درس العلم، و صيانتها ممّا لم تبن له، كحديث الدنيا.

و في الحديث: يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا و حبّ الدنيا، لا تجالسوهم، فليس للّه بهم حاجة.

و روي أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش».

و قال أيضا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قال اللّه تعالى: إنّ بيوتي في أرضي المساجد، و إنّ زوّاري

فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، فحقّ على المزور أن يكرم زائره».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ألف المسجد ألفه اللّه».

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالايمان».

و عنه أيضا برواية أنس: «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة و حملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه».

و إنّما لم يذكر الإيمان بالرسول لما علم أنّ الايمان باللّه قرينه، و تمامه الإيمان به، و لدلالة قوله: «وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ» عليه.

وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أي: في أبواب الدين، فإنّ الخشية عن المحاذير جليّة لا يكاد الرجل يتمالك عنها. قيل: كانوا يخشون الأصنام و يرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم. فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ذكره بصيغة التوقّع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء و الانتفاع بأعمالهم، و توبيخا لهم بالقطع بأنّهم مهتدون، فإنّ هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرا بين عسى و لعلّ فما ظنّك بأضدادهم؟ و منعا للمؤمنين أن يغترّوا بأحوالهم و يتّكلوا عليها.

ص: 88

[سورة التوبة [9]: الآيات 19 الى 22]

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [19] الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [20] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [21] خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [22]

روي عن الحسن و الشعبي و محمّد بن كعب القرظي: أنّ عليّ

بن أبي طالب عليه السّلام و العبّاس بن عبد المطّلب و طلحة بن شيبة افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، و بيدي مفتاحه، و لو أشاء بتّ فيه. و قال العبّاس: أنا صاحب السقاية و القائم عليها. و قال عليّ عليه السّلام: ما أدري ما تقولان، لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس، و أنا صاحب الجهاد. فنزلت: أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

السقاية و العمارة مصدران من: سقى و عمر، فلا يشبّهان بالجثث، بل لا بدّ من إضمار، تقديره: أ جعلتم أهل سقاية الحاجّ كمن آمن؟ أو أ جعلتم سقاية الحاجّ كإيمان من آمن؟ و يؤيّد الأوّل قراءة من قرأ: سقاة الحاجّ و عمرة المسجد الحرام.

و معنى الهمزة إنكار أن يشبّه المشركون و أعمالهم المحبطة بالمؤمنين و أعمالهم المثبتة.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ و بيّن عدم تساويهم بقوله: وَ اللَّهُ

ص: 89

لا يَهْدِي إلى طريق الثواب الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الكفرة ظلمة بالشرك و معاداة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، منهمكون في الضلالة، فكيف يساوون الّذين هداهم اللّه و وفّقهم للحقّ و الصواب؟! و قيل: المراد بالظالمين الّذين يسوّون بينهم و بين المؤمنين.

عن ابن سيرين: أنّ عليّا عليه السّلام قال للعبّاس: يا عمّ ألا تهاجر، ألا تلحق برسول اللّه؟ فقال: أ لست في أفضل من الهجرة: أعمر المسجد الحرام، و أسقي حاجّ بيت اللّه؟ فنزلت.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن بريدة، عن أبيه قال: «بينا شيبة و العبّاس يتفاخران إذ مرّ بهما عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال:

بماذا تتفاخران؟

فقال العبّاس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد، سقاية الحاجّ.

و قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام.

فقال عليّ عليه السّلام: استحييت لكما، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا.

فقالا: و ما أوتيت يا عليّ؟

قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما باللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقام العبّاس مغضبا يجرّ ذيله حتّى دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: أما ترى إلى ما يستقبلني عليّ؟

فقال: ادعوا عليّا. فدعي له، فقال: ما حملك على ما استقبلت به عمّك؟

فقال: يا رسول اللّه صدمته بالحقّ، فمن شاء فليغضب و من شاء فليرض.

فنزل جبرئيل و قال: يا محمّد إنّ ربّك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عمّك:

«أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ» الآيات.

فقال العبّاس: قد رضينا، ثلاث مرّات» (1).

ص: 90


1- شواهد التنزيل 1: 328 ح 338.

الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أعلى رتبة و أكثر كرامة ممّن لم يستجمع هذه الصفات، أو من أهل السقاية و العمارة عندكم وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ المختصّون بالفوز بالثواب و نيل الحسنى عند اللّه دونكم.

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها في الجنّات نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم لا يزول. و قرأ حمزة: يبشرهم بالتخفيف. و تنكير المبشّر به من الرحمة و الرضوان و النعيم المقيم، إشعار بأنّها وراء صفة الواصف و تعريف المعرّف.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً أكّد الخلود بالتأبيد، لأنّه قد يستعمل للمكث الطويل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله، أو نعم الدنيا.

[سورة التوبة [9]: الآيات 23 الى 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى

الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [23] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [24]

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنها نزلت في ابن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش بخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أراد فتح مكّة، فنهاه اللّه تعالى و سائر المؤمنين عن موالاة الكفّار و إن كانوا في النسب الأقربين، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ إن اختاروه

ص: 91

و حرّضوا غيرهم عليه.

و قيل: نزلت نهيا عن موالاة التسعة الّذين ارتدّوا و لحقوا بمكّة. و المعنى: لا تتّخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإيمان و يصدّونكم عن الطاعة.

و قيل: نزلت في المهاجرين، فإنّهم لمّا أمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا و أبناءنا و عشائرنا، و ذهبت تجاراتنا، و بقينا ضائعين.

و روي: أنّ من المهاجرين من تعلّقت به زوجته، و منهم من تعلّق به أبواه و أولاده، فكانوا يمنعونهم من الهجرة، فيتركونها لأجهلهم. فبهذه الآية بيّن سبحانه أنّ أمر الدين مقدّم على النسب، و إذا وجب قطع قرابة الوالدين و الولد فالأجنبيّ أولى. و بعد نزولها هاجروا، فجعل الرجل يأتيه أبوه و ابنه و أخوه أو بعض أقربائه فلا يلتفت إليه و لا ينزله و لا ينفق عليه، و بعد ذلك رخّص لهم في الإنفاق.

ثمّ قال تأكيدا لهذا النهي بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ

فترك طاعة اللّه لأجلهم، أو اطّلعهم على أسرار المسلمين فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة في غير محلّها. و في الحديث: «لا يجد أحد طعم الإيمان حتّى يحبّ في اللّه و يبغض في اللّه، و حتّى يحبّ في اللّه أبعد الناس، و يبغض في اللّه أقرب الناس إليه».

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ أقرباؤكم.

مأخوذ من العشرة. و قيل: من العشيرة، فإنّ العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة. و قرأ أبو بكر: عشيراتكم. وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها و اقتطعتموها و جمعتموها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها تخافون أنّها تكسد إذا اشتغلتم بطاعة اللّه تعالى و الجهاد وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها اخترتموها لأنفسكم، و يعجبكم المقام فيها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ من طاعتهما وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ الحبّ الاختياري دون الطبيعي، فإنّه لا يدخل تحت التكليف في التحفّظ عنه فَتَرَبَّصُوا فانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ جواب الشرط متضمّن للوعيد. و الأمر بمعنى العقوبة

ص: 92

العاجلة أو الآجلة. و قيل: فتح مكّة. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يرشدهم، بل يخلّيهم لعنادهم.

و في الآية تشديد عظيم، فإنّ فيها تكليف المؤمن أن يتجرّد من الآباء و الأبناء و العشائر و جميع حظوظ الدنيا لأجل الدين، و قلّ من يتخلّص منه. اللّهمّ وفّقنا لما يوافق رضاك، حتى نحبّ فيك الأبعدين، و نبغض فيك الأقربين.

[سورة التوبة [9]: الآيات 25 الى 27]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [25] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ

[26] ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [27]

و لمّا تقدّم أمر المؤمنين بالقتال، ذكّرهم بعده ما أتاهم من النصرة حالا بعد حال، فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يعني: مواطن الحرب، و هي مواقعها و مواقفها. و روي عن الصادقين عليهم السّلام أنّهم قالوا: أنّها كانت ثمانين موطنا.

و روي أنّ المتوكّل اشتكى في مرضه شكاية شديدة، فنذر أن يتصدّق بمال كثير إن شفاه اللّه، فلمّا عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير، فاختلفت أقوالهم، فأشير عليه أن يسأل أبا الحسن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى عليه السّلام، و قد كان حبسه في داره، فأمر أن يكتب إليه، فكتب: يتصدّق بثمانين درهما. ثمّ سألوه عن العلّة في ذلك، فقرأ هذه الآية، و قال: عدّدنا تلك المواطن فبلغن ثمانين موطنا.

ص: 93

وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ و موطن يوم حنين. و يجوز أن يقدّر: في أيّام مواطن، أو يفسّر الموطن بالوقت، كمقتل الحسين عليه السّلام. و لا يمنع إبدال قوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ من «يوم حنين» أن يعطف على موضع «في مواطن» فإنّه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف، حتّى يقتضي كثرتهم و إعجابها إيّاهم في جميع المواطن.

و هذا قول القاضي في تفسيره (1)، ردّ بذلك قول الزمخشري في الكشّاف حيث قال: «الواجب أن يكون «يوم حنين» منصوبا بفعل مضمر لا بهذا الظاهر، و موجب ذلك أنّ قوله: «إذ أعجبتكم» بدل من «يوم حنين» فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ، لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، و لم يكونوا كثيرا في جميعها، فبقي أن يكون ناصبه فعلا خاصّا به، إلّا إذا نصبت «إذ» بإضمار:

اذكر» (2).

و حنين واد بين مكّة و الطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين- و هم اثنا عشر ألفا، منهم عشرة آلاف حضروا فتح مكّة، و قد انضمّ إليهم ألفان من الطلقاء- و بين هوازن و ثقيف، و هم أربعة آلاف.

فلمّا التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلّة. فساءت مقالته رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: قائلها أبو بكر. و قد روي عن أصحابنا: أن أبا بكر عانهم، و عليّا عليه السّلام أعانهم. فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المسلمون حتّى بلغ فلّهم (3) مكّة، و بقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مركزه، و بقي عليّ عليه السّلام و معه الراية يقاتلهم، و العبّاس بن عبد المطّلب آخذ بلجام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن يمينه، و أبو سفيان بن الحارث بن .

ص: 94


1- أنوار التنزيل 3: 64.
2- الكشّاف 2: 259.
3- فلّ القوم: هزمهم، و رجل فلّ و قوم فلّ: منهزم و منهزمون.

عبد المطّلب عن يساره في تسعة من بني هاشم، و عاشرهم أيمن بن أمّ أيمن.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعبّاس و كان صيّتا: صح بالناس. فنادى: يا معشر المهاجرين و الأنصار، يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فكرّوا و هم يقولون: لبّيك لبّيك. و نزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى قتال المسلمين فقال: الآن حمي الوطيس (1).

أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب

ثمّ أخذ كفّا

من تراب فرماهم به، ثمّ قال: انهزموا و ربّ الكعبة، فانهزموا و نزل النصر من عند اللّه، و انهزمت هوازن،

كما حكى اللّه تعالى ذلك بقوله: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ أي: الكثرة شَيْئاً من الإغناء، أو من أمر العدوّ وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ «ما» مصدريّة، و الباء بمعنى «مع»، أي: مع رحبها- أي:

سعتها- لا تجدون فيها مفرّا تطمئنّ إليه نفوسكم من شدّة الرعب، أي: لا تثبتون فيها، كمن لا يسعه مكانه، فكأنّها ضاقت عليكم. و الجارّ و المجرور في موضع الحال، أي: ملتبسة برحبها ثُمَّ وَلَّيْتُمْ الكفّار ظهوركم مُدْبِرِينَ منهزمين.

و الإدبار الذهاب إلى خلف، خلاف الإقبال.

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ رحمته الّتي سكنوا بها و آمنوا عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الّذين انهزموا. و إعادة الجارّ للتنبيه على اختلاف حاليهما. و قيل: هم الّذين ثبتوا مع الرسول و لم يفرّوا.

و روى الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «السكينة ريح من الجنّة تخرج منها طيّبة، لها صورة كصورة وجه الإنسان، تكون .

ص: 95


1- في هامش النسخة الخطّية: «الوطيس: التنّور، مثل في شدّة الحرّ، فجعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كناية عن شدّة الحرب. منه».

مع الأنبياء». رواه العيّاشي (1) مسندا.

وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها بأعينكم، يعني: الملائكة. و كانوا خمسة آلاف، أو ثمانية آلاف، أو ستّة عشر ألفا، على اختلاف الأقوال. عن الجبائي: أنّ الملائكة نزلوا يوم حنين بتقوية قلوب المؤمنين و تشجيعهم، و لم يباشروا القتال يومئذ، و لم يقاتلوا إلّا يوم بدر.

وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر، و سبي النساء و الذراري، و سلب الأموال وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي:

ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ منهم بالتوفيق للإسلام وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عنهم و يتفضّل عليهم.

روي: أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الإسلام، و قالوا: يا رسول اللّه أنت خير الناس و أبرّ الناس، و قد سبي أهلونا و أولادنا، و أخذت أموالنا، و قد سبي يومئذ ستّة آلاف نفس، و أخذ من الإبل و الغنم ما لا يحصى.

فقال: إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا إمّا ذراريكم و نساءكم و إمّا أموالكم.

فقالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا.

فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّ هؤلاء جاءوا مسلمين، و إنّا خيّرناهم بين الذراري و الأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده سبي و طابت نفسه أن يردّه فشأنه، و من لا فليعطنا، و ليكن قرضا علينا حتّى نصيب شيئا فنعطيه مكانه.

فقالوا: رضينا و سلّمنا.

فقال: إنّي لا أدري لعلّ فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك .

ص: 96


1- تفسير العيّاشي 2: 84 ح 39.

إلينا. فرفعت إليه العرفاء أنّهم قد رضوا.

[سورة التوبة [9]: آية 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [28]

و لمّا تقدّم النهي عن ولاية المشركين، أزال سبحانه ولايتهم عن المسجد الحرام، و حظر عليهم دخوله، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ مصدر، يقال نجس نجسا، و قذر قذرا. و معناه: ذووا نجس. فجعلوا نجاسة بعينها مبالغة في وصفهم- لفرط خبث باطنهم

و ظاهرهم- بها، كقولهم: زيد فسق، فإنّ معهم الشرك الّذي هو رأس النجاسات الّتي يجب الاجتناب عنها، فالاجتناب عنه بطريق أولى، و لأنّهم لا يجتنبون الأحداث و الأخباث.

و عن ابن عبّاس: أعيانهم نجسة كالكلاب و الخنازير. و عن الحسن: من صافح مشركا توضّأ. و عن الصادقين عليهما السّلام: من صافح الكافر و يده رطبة غسل يده.

و به قال فقهاؤنا، فإنّ الكفّار بأنواعهم كافر نجس العين، و ظاهر الآية يدلّ على ذلك، و به أيضا روايات متظافرة مرويّة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ لنجاستهم. و إنّما نهى عن الاقتراب للمبالغة، أو للمنع عن دخول الحرم، فلا يحجّوا و لا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهليّة بَعْدَ عامِهِمْ هذا و هو سنة براءة الّتي نادى فيها عليّ عليه السّلام بالبراءة، و قال: لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك،

و هو عام تسع من الهجرة. و قيل: سنة حجّة الوداع. و عندنا أنّهم كما منعوا من المسجد الحرام منعوا من جميع المساجد، لاشتراك العلّة، و هي النجاسة.

ص: 97

و قال قتادة: سمّاهم نجسا لأنّهم يجنبون و لا يغتسلون، و يحدثون و لا يتوضّئون، و لم يجتنبوا عن أنواع النجاسات، فمنعوا من دخول المسجد، كما أنّ الجنب و صاحب النجاسات لا يجوز لهم دخول المسجد.

و روي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب: امنعوا اليهود و النصارى من دخول مساجد المسلمين، و أتبع نهيه قول اللّه تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» الآية، للعلّة المشتركة.

وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فقرا بسبب منع المشركين من الحرم، و انقطاع ما كان لكم في قدومهم عليكم من الارفاق و المكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه، أو تفضّله على وجه آخر. و قد

أنجز اللّه وعده، بأن أرسل السماء عليهم مدرارا أكثر به خيرهم، و وفّق أهل جدّة و صنعاء و تبالة (1) و جرش فأسلموا و امتاروا (2) لهم. ثمّ فتح عليهم البلاد و الغنائم، و توجّه إليهم الناس من أقطار الأرض، فحملوا الطعام إلى مكّة، و كان ذلك أعود عليهم إِنْ شاءَ إن أوجبت الحكمة إغناءكم، و كان مصلحة لكم في دينكم.

و في الأنوار: «قيّده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى اللّه، و لينبّه على أنّه متفضّل في ذلك، و أنّ الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، و في عام دون عام» (3).

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ فيما يعطي و يمنع على وفق الحكمة و المصلحة.

ص: 98


1- في هامش النسخة الخطّية: «التبالة- بفتح التاء، و تخفيف الباء الموحّدة- بلدة صغيرة في اليمن. و الجرش- بضمّ الجيم، و فتح الراء- مخلاف من مخاليف اليمن. منه». و المخلاف: الكورة من البلاد- و هي: البقعة التي تجتمع فيها المساكن و القرى.
2- امتار أي: جمع الطعام و المئونة. و الميرة: الطعام الذي يدّخره الإنسان.
3- أنوار التنزيل 3: 65.

[سورة التوبة [9]: آية 29]

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ [29]

و عن ابن عبّاس: أنّ الشيطان ألقى في قلوبهم الخوف و قال: من أين تأكلون؟ فأمرهم اللّه بقتال أهل الكتاب، و أغناهم بالجزية. ثم بيّن أنّ من الكفّار من يجوز تبقيته بالجزية، فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: لا يؤمنون بهما على ما ينبغي، كما بيّنّاه في أوائل (1) سورة البقرة، فإنّ إيمانهم كلا إيمان، و لأنّ اليهود مثنّية و النصارى مثلّثة.

وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ما ثبت تحريمه بالكتاب و السنّة.

و قيل: رسوله هو الّذي يزعمون اتّباعه. و المعنى: أنّهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا و عملا.

وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ الثابت الّذي هو ناسخ سائر الأديان و مبطلها.

فالمعنى: و لا يعتقدون دين الإسلام الّذي هو الحقّ. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتّخذه دينه و معتقده.

و قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان ل «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ما تقرّر عليهم أن يعطوه. مشتقّ من: جزى دينه إذا قضاه، فإنّها قطعة من المال على أهل الذمّة أن يجزوه، أي: يقضوه عَنْ يَدٍ حال من الضمير، أي: عن يد مواتية غير ممتنعة، بمعنى: منقادين. أو عن يدهم، بمعنى: مسلّمين بأيديهم غير

ص: 99


1- راجع ج 1: 59.

باعثين بأيدي غيرهم، و لذلك منع من التوكيل فيه. أو عن غنى، و لذلك قيل: لا تؤخذ من الفقير. أو عن يد قاهرة عليهم، بمعنى: أذلّاء عاجزين. أو حال من الجزية، بمعنى: نقدا مسلّمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم، فإنّ إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة.

وَ هُمْ صاغِرُونَ أذلّاء. و هو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب، و يسلّمها و هو قائم و الآخذ جالس، و أن يؤخذ بتلبيبه (1) و يقال له: أدّها. و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: تؤخذ الجزية من الذمّي و توجأ (2) عنقه.

و مفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب. و يؤيّده أنّ عمر لم يكن يأخذ الجزية من المجوس، حتّى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذها من مجوس هجر، و أنّه

قال: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب،

و ذلك لأنّ لهم شبهة كتاب، فالحقوا بالكتابيّين. و هذا موافق لمذهب فقهائنا الاماميّة.

و أمّا سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا و عند الشافعي. و أمّا عند الحنفيّة فتؤخذ منهم إلّا من مشركي العرب. و عند مالك تؤخذ من كلّ كافر إلّا المرتدّ. و بيان كميّة الجزية و سائر ما يتعلّق بها من كيفيّة الأخذ و غيرها مذكور في كتب الفقه.

وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

ص: 100


1- لبّبت الرجل تلبيبا، إذا جمعت ثيابه عند صدره و نحره في الخصومة ثم جررته.
2- أي: تضرب باليد أو غيرها.

[سورة التوبة [9]: الآيات 30 الى 35]

[30] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [31] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [32] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [33] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [34]

يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [35]

ثمّ حكى اللّه سبحانه عن اليهود و النصارى أقوالهم الشنيعة، فقال: وَ قالَتِ

الْيَهُودُ أي: بعضهم لا كلّهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مبتدأ و خبر. و هو اسم أعجميّ، كعازر و عيزار و عزرائيل. و لعجمته و تعريفه امتنع من الصرف. و قرأ عاصم و الكسائي و يعقوب منوّنا على أنّه عربيّ. و إنّما قالوا ذلك لأنّه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصّر من يحفظ التوراة، و هو لمّا أحياه اللّه تعالى بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا، فتعجّبوا من ذلك و قالوا: ما هذا إلّا لأنّه ابن اللّه. و الدليل على أنّ هذا القول كان فيهم أنّ الآية قرئت عليهم فلم يكذّبوا، مع تهالكهم على التكذيب.

ص: 101

و عن ابن عبّاس: جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سلام بن مشكم و نعمان بن أوفى و شاس بن قيس و مالك بن الصيف فقالوا ذلك.

و قيل: قائله فنحاص. و سبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السّلام، فرفع اللّه عنهم التوراة و محاها من قلوبهم، فخرج عزير و هو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبرئيل فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفّظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا، فقالوا: ما جمع اللّه التوراة في صدره و هو غلام إلّا لأنّه ابنه.

وَ قالَتِ النَّصارى أي: بعضهم الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ و إنّما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب، أو لأنّه لا يفعل ما فعله من إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى من لم يكن إلها.

ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إمّا تأكيد لنسبة هذا القول إليهم، و نفي للتجوّز عنها، أو إشعار بأنّه قول مجرّد عن برهان و تحقيق، مماثل للمهمل الّذي يوجد في الأفواه و لا

يوجد مفهومه في الأعيان يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: يضاهي قولهم قول الّذين كفروا، بحذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه. و المضاهاة المشابهة، و الهمزة لغة فيه، و قد قرأ به عاصم، و منه قولهم: امرأة ضهياء على فعيل، للّتي شابهت الرجال في أنّها لا تحيض مِنْ قَبْلُ أي: من قبلهم. و المعنى: أنّ الّذين كانوا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليهود و النصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، على معنى أنّ الكفر قديم فيهم، أو قول المشركين الّذين قالوا: الملائكة بنات اللّه، أو قول اليهود على أنّ الضمير للنصارى.

قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإهلاك، فإنّ من قاتله اللّه تعالى هلك، أو تعجّب من شناعة قولهم. و قال ابن الأنباري: المقاتلة من القتل، فإذا أخبر عن اللّه بها كانت بمعنى اللعنة، لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف

ص: 102

يصرفون عن الحقّ إلى الباطل.

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحلّ اللّه و تحليل ما حرّم اللّه، أو بالسجود لهم، كما تطاع الأرباب في أوامرهم.

و لهذا يسمّى أتباع الشيطان فيما يوسوس به عباده، كما قال اللّه تعالى: يَعْبُدُونَ الْجِنَ (1). يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ (2).

روى الثعلبي بإسناده عن عديّ بن حاتم قال: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عديّ اطرح هذا الوثن من عنقك. قال:

فطرحته، ثمّ انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ». فقلت: إنّا لسنا نعبدهم. فقال: أ ليسوا يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه،

و يحلّون ما حرّمه فتحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّهما قالا: «أما و اللّه ما صاموا لهم و لا صلّوا، و لكنّهم أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا، فاتّبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون».

و عن فضيل: ما ابالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صلّيت لغير القبلة.

وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أهّلوه للعبادة حين جعلوه ابنا للّه تعالى. الا ترى إلى قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (3). وَ ما أُمِرُوا و ما أمر المتّخذون أو المتّخذون أربابا، فيكون كالدليل على بطلان الاتّخاذ إِلَّا لِيَعْبُدُوا ليطيعوا إِلهاً واحِداً و هو اللّه تعالى. و أمّا طاعة الرسول و سائر من أمر اللّه تعالى

ص: 103


1- سبأ: 41.
2- مريم: 44.
3- الزخرف: 81.

بطاعته فهو في الحقيقة طاعة اللّه تعالى. و الأمر هو أدلّة العقل و النصوص في الإنجيل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية، أو استئناف مقرّر للتوحيد سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له عن أن يكون له شريك.

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا يخمدوا نُورَ اللَّهِ حجّته الدّالة على وحدانيّته و تقدّسه عن الولد، أو القرآن، أو نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِأَفْواهِهِمْ بشركهم، أو بتكذيبهم وَ يَأْبَى اللَّهُ الإباء في الأصل المنع و الامتناع، و قد جرى مجرى عدم الإرادة و الرضا هاهنا. فالمعنى: و لا يريد و لا يرضى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء التوحيد و إعزاز الإسلام. و إنّما صحّ الاستثناء المفرّغ و الفعل موجب، لأنّه في معنى النفي كما فسّر.

و قيل: إنّه سبحانه مثّل حالهم في طلبهم إبطال نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتكذيبه، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثّ في الآفاق، يريد اللّه أن يزيده و يبلغه الغاية القصوى من الإضاءة و الإنارة، ليطفئه بنفخه و يطمسه.

وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ محذوف الجواب، و هو: لأتمّ، لدلالة ما قبله عليه.

و قوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى بالحجج و الدلائل المبيّنة وَ دِينِ الْحَقِ أي: الإسلام و ما تضمّنه من أحكامه لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كالبيان (1) لقوله: «وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» و لذلك كرّر وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ غير أنّه وضع «المشركون» موضع «الكافرون»، للدلالة على أنّهم ضمّوا الكفر بالرسول إلى الشرك باللّه. و الضمير في «ليظهره» للدّين الحقّ أو للرسول. و اللام في الدين للجنس، أي: ليعلي دين الإسلام على سائر الأديان بالحجّة و الغلبة فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم حتّى لا يبقى على وجه الأرض إلّا مغلوب، فلا يغلب أحد أهل الإسلام بالحجّة، و هم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجّة. و أمّا الظهور بالغلبة،

ص: 104


1- خبر لقوله: و قوله، في أوّل العبارة.

فهو أنّ كلّ طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك، و لحقهم قهر من جهتهم.

و قيل: أراد عند نزول عيسى عليه السّلام لا يبقى أهل دين إلّا أسلم أو أدّى الجزية.

و قال أبو جعفر عليه السّلام: «إنّ ذلك يكون عند خروج المهديّ من آل محمد عليه السّلام، فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و قال الكلبي: لا يبقى دين إلّا ظهر الإسلام عليه، و سيكون ذلك و لم يكن بعد، و لا تقوم الساعة حتّى يكون ذلك.

قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لا وبر إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام إما بعزّ عزيز و إمّا بذلّ ذليل، أمّا بعزّهم فيجعلهم اللّه من أهله فيعزّوا به، و أمّا بذلّهم فيدينون له».

و عن ابن عبّاس: أنّ الهاء في «ليظهره» عائد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي:

ليعلّمه اللّه الأديان كلّها حتّى لا يخفى عليه شي ء منها.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي: يأخذونها و يتناولونها من الجهة الّتي يحرم منها أخذه. و سمّى أخذ المال أكلا لأنّه الغرض الأعظم منه. و المعنى: أنّهم كانوا يأخذون الرشا في تبديل الأحكام و تخفيف الشرائع و المسامحة فيها من عوامهم وَ يَصُدُّونَ و يمنعون غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن اتّباع دينه الّذي هو الإسلام.

و قوله: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ يقتنون و يجمعون الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل أن يراد به الكثير من الأحبار و الرهبان، فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال و الضنّ بها. و أن يراد المسلمون الّذين يجمعون المال و يقتنونه و لا يؤدّون حقّه. و حينئذ اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ. و يدلّ عليه

أنّه لمّا نزل كبر على المسلمين، فذكر عمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: «إنّ اللّه لم

ص: 105

يفرض الزكاة إلّا ليطيب بها ما بقي من أموالكم».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أدّي زكاته فليس بكنز و إن كان باطنا، و ما بلغ أن يزكّى فلم يزكّ فهو كنز و إن كان ظاهرا»

معناه:

فليس بكنز أوعد اللّه عليه، فإنّ الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر اللّه تعالى أن ينفق فيه.

و كذلك

قوله عليه السّلام: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها».

و قوله: «تبّا للذهب و تبّا للفضّة. قالها ثلاثا. فقالوا له: أيّ مال نتّخذ؟ قال: لسانا ذاكرا، و قلبا خاشعا، و زوجة تعين أحدكم على دينه».

و توفّي رجل فوجد في مئزره دينار، فقال عليه الصلاة و السلام: «كيّة» (1). و توفّي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال عليه الصلاة و السلام: «كيّتان».

معناه: ما لم يؤدّ حقّها،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من صاحب ذهب و لا فضّة لا يؤدّي منها حقّها، إلّا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه و جنبه و ظهره».

و الضمير في «و لا ينفقونها» إلى المعنى، لأنّ المراد بهما دنانير و دراهم كثيرة، كما

قال عليّ عليه السّلام: «أربعة آلاف و ما دونها نفقة، و ما فوقها كنز».

و قيل: الضمير راجع إلى الأموال الّتي يتضمّنها الذهب و الفضّة. أو معناه: و لا ينفقونها و الذهب، كما أنّ معنى قوله: فإنّي و قيّار بها لغريب، أي: و قيّار كذلك.

و حينئذ تخصيص الضمير بالفضّة لقربها، و دلالة حكمها على أنّ الذهب أولى بهذا الحكم.

و إنّما خصّ الذهب و الفضّة من بين الأموال بالذكر، لأنّهما قانون التموّل، و أثمان الأشياء، و لا يكنزهما إلّا من فضلا عن حاجته.

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ و هو الكيّ بهما.

قوله: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي: يوم توقد النار ذات حمى شديد

ص: 106


1- الكيّة: اسم المرّة من: كوى.

عليها، من قوله: نار حامية. و لو قيل: يوم تحمى، لم يعط هذا المعنى. و أصله:

تحمى بالنار، فجعل الإحماء للنار مبالغة، ثم حذفت النار و أسند الفعل إلى الجارّ و المجرور، تنبيها على المقصود، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير، كما تقول: رفعت القصّة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصّة قلت: رفع إلى الأمير.

فَتُكْوى بِها بتلك الكنوز المحماة جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ تخصيص هذه المواضع، لأنّ جمعهم و إمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى عند الناس، و التنعّم بالمطاعم الشهيّة، بحيث يتضلّعون منها و ينفخون جنوبهم، و بالملابس البهيّة الّتي يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك. أو لأنّهم كانوا يعبسون وجوههم للسائل و يولّونه جنوبهم و ظهورهم في المجالس. أو لأنّها أشرف الأعضاء الظاهرة، فإنّها المشتملة على الأعضاء الرئيسة الّتي هي الدماغ و القلب و الكبد. أو لأنّها أصول الجهات الأربع الّتي هي مقاديم البدن و مآخيره و جنباه.

هذا ما كَنَزْتُمْ على إرادة القول، أي: يقال لهم: هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ لمنفعتها، و كان عين مضرّتها و سبب تعذيبها فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي: وبال كنزكم و المال الّذي تكنزونه و تجمعونه و تمنعون حقّ اللّه منه، فحذف لدلالة الكلام عليه.

أورد مسلم بن الحجّاج في الصحيح (1) أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و ما من عبد له مال لا يؤدّي زكاته إلّا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جبهته و جنباه و ظهره، حتّى يقضي اللّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثم يرى سبيله إمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار».

ص: 107


1- صحيح مسلم 2: 680 ح 24.

و روى ثوبان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

قال: «من ترك كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا (1) أقرع له ذنبان يتبعه، و يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الّذي تركت بعدك، فلا يزال يتبعه حتّى يلقمه يده فيقضمها، ثمّ يتبعه سائر جسده».

[سورة التوبة [9]: آية 36]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [36]

و لمّا ذكر سبحانه وعيد الظالم لنفسه بكنز المال من غير إخراج الزكاة و غيرها من حقوق اللّه منه، اقتضى ذلك أن يذكر النهي عن مثل حاله، و هو الظلم في الأشهر الحرم الّذي يؤدّي إلى مثل حاله أو شرّ منه في المنقلب، فقال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ مبلغ عدد شهور السنة عِنْدَ اللَّهِ في حكم اللّه و تقديره. و هو معمول «عدّة» لأنّها مصدر اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في اللوح المحفوظ، أو في القرآن، أو في جميع الكتب المنزلة على أنبيائه، أو فيما أثبته في حكمه و رآه حكمة و صوابا. و هو صفة ل «اثنا عشر».

و قوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ متعلّق بما فيه من معنى الثبوت، أو بالكتاب إن جعل مصدرا. و المعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق اللّه تعالى الأجرام و الأزمنة. و إنّما تعبّد اللّه المسلمين أن يجعلوا سنتهم اثني عشر شهرا

ص: 108


1- الشجاع: ضرب من الحيّات.

ليوافق ذلك عدد الأهلّة و منازل القمر، دون ما دان به أهل الكتاب. و الشهر مأخوذ من شهرة الأمر، لحاجة الناس إليه في معاملاتهم و غير ذلك من مصالحهم

المعلّقة بالشهور.

مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ واحد فرد و هو رجب، و ثلاثة سرد: ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم.

ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: تحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم، دين إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام. و العرب قد تمسّكت به وراثة منهما، فكانوا يعظّمون الأشهر الحرم، و يحرّمون القتال فيها، حتّى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهجه.

فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بهتك حرمتها و ارتكاب حرامها. و أكثر الأمّة على أنّ حرمة المقاتلة فيها منسوخة. و أوّلوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهنّ، فإنّه أعظم وزرا، كارتكابها في الحرم و حال الإحرام. و عن عطاء أنّه لا يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم و في الأشهر الحرم، إلّا أن يقاتلوا، و ما نسخت.

و يؤيّد الأوّل ما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاصر الطائف و غزا هوازن بحنين في شوّال و ذي القعدة.

وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً جميعا مؤتلفين غير مختلفين كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً جميعا. و هي مصدر: كفّ عن الشي ء، فإنّ الجميع مكفوف عن الزيادة، وقع موقع الحال من الفاعل أو المفعول وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ حثّهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الاعتبار في السنين بالشهور القمريّة لا الشمسيّة، و الأحكام الشرعيّة معلّقة بها، و ذلك لما علم اللّه تعالى فيه من المصلحة، و لسهولة معرفة ذلك على الخاصّ و العامّ.

ص: 109

[سورة التوبة [9]: آية 37]

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [37]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر السنة و الشهر، عقّبه بذكر

ما كانوا يفعلونه من النسي ء، فقال: إِنَّمَا النَّسِي ءُ أي: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. و ذلك أنّهم كانوا أصحاب حروب و غارات، و كانوا إذا جاء شهر حرام و هم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة، فكانوا يحلّونه و يحرّمون مكانه شهرا آخر، حتّى رفضوا خصوص الأشهر و اعتبروا مجرّد العدد، و ربما زادوا في عدد الشهور، فيجعلونها ثلاثة عشر شهرا ليتّسع لهم الوقت، و لذلك قال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً» يعني: من غير زيادة زادوها. و عن نافع برواية ورش: إنّما النسيّ بقلب الهمزة ياء و إدغام الياء فيها. زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأنّه تحريم ما أحلّه اللّه تعالى و تحليل ما حرّمه اللّه، و هو كفر آخر ضمّوه إلى كفرهم.

يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ضلالا زائدا. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص:

يضلّ على البناء للمفعول. و عن يعقوب: يضلّ على أنّ الفعل للّه تعالى على سبيل التخلية. يُحِلُّونَهُ عاماً يحلّون النسي ء من الأشهر الحرم سنة وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً و يحرّمون مكانه شهرا آخر في سنة اخرى، فيتركونه على حرمته.

و يروى أنّه حدث ذلك في كنانة، لأنّهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، و كان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في الجاهليّة، و كان يقوم على جمل في الموسم فينادي: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه، ثمّ ينادي في القابل: إنّ آلهتكم

ص: 110

قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه. و الجملتان تفسير للضلال أو حال.

لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ليوافقوا عدّة الأربعة المحرّمة و لا يخالفوها، و قد خالفوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم. و اللام متعلّقة ب «يحرّمونه»، أو بما دلّ عليه مجموع الفعلين فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ

بمواطاة العدّة وحدها من غير مراعاة الوقت.

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هداية موصلة إلى الاهتداء، تخلية و خذلانا، أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم. أو هداية موصلة إلى الجنّة، لفرط كفرهم و عنادهم.

قال ابن عبّاس: أوّل من سنّ النسي ء عمرو بن يحيى بن قمعة بن جندب، و قال مجاهد: كان المشركون يحجّون في كلّ شهرين، فحجّوا في ذي الحجّة عامين، ثمّ حجّوا في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا في صفر عامين، و كذلك في الشهور، حتّى وافقت الحجّة الّتي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة، ثمّ حجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في العام القابل حجّة الوداع فوافقت ذا الحجّة، فذلك حين

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خطبته: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات و الأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرّم، و رجب الّذي بين جمادى و شعبان».

أراد عليه السّلام بذلك أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، و عاد الحجّ إلى ذي الحجّة، و بطل النسي ء.

[سورة التوبة [9]: الآيات 38 الى 40]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي

ص: 111

الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [38] إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [39] إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ

اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [40]

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم،

و ذلك في زمان عسرة و قيظ و قحط و وقت إدراك الثمار، فأحبّوا المقام في المسكن و المال، و شقّ عليهم الخروج إلى القتال، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قلّما خرج في غزوة إلّا كنّى عنها و ورّى بغيرها إلّا غزوة تبوك، لبعد شقّتها و كثرة العدوّ، ليتأهّب الناس، فأخبرهم بالّذي يريد و استنفرهم. فلمّا علم اللّه سبحانه تثاقل الناس عاتبهم فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا اخرجوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد للقربة، و هو هنا غزوة تبوك اثَّاقَلْتُمْ أصله: تثاقلتم، فأدغمت التاء في الثاء ثمّ أدخلت همزة الوصل، أي: تباطأتم إِلَى الْأَرْضِ متعلّق به، كأنّه ضمّن معنى الإخلاد و الميل فعدّي ب «إلى» أي: ملتم إلى الإقامة بأرضكم و دياركم أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا و غرورها مِنَ الْآخِرَةِ بدل الآخرة و نعيمها فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فما التمتّع بها فِي الْآخِرَةِ في جنب الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر.

إِلَّا تَنْفِرُوا إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بالإهلاك بسبب فظيع، كقحط و ظهور عدوّ وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ و يستبدل بكم

ص: 112

آخرين مطيعين، كأهل اليمن و أبناء فارس وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أي: لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا، فإنّه الغنيّ عن كلّ شي ء و في كلّ أمر. و قيل: الضمير للرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم، أي: و لا تضرّوا الرسول، فإنّ اللّه وعد له بالعصمة و النصرة و وعده حقّ. و فيه سخط عظيم على المتثاقلين، حيث هدّدهم بعذاب عظيم مطلق يتناول عذاب الدارين، و أنّه يهلكهم و يستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم و أطوع، و أنّه غنيّ عنهم في نصرة دينه.

وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على التبديل و تغيير الأسباب و النصرة بلا مدد، كما قال جلّت قدرته: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أي: إن تركتم نصرته فسينصره اللّه، كما نصره و جعله منصورا على أعدائه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ حال كونه أحد اثنين، أي: لم يكن معه إلّا رجل واحد- و هو أبو بكر- فلن يخذله من بعد، فحذف الجزاء و أقيم ما هو كالدليل عليه- أعني: قوله: «فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ»- مقامه. و إن لم تنصروه فقد أوجب اللّه له النصر حتّى نصره في ذلك الوقت، فلن يخذله في غيره. و إسناد الإخراج إلى الكفرة لأنّ همّهم بإخراجه أو قتله تسبيب، لإذن اللّه له بالخروج.

إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من «إذ أخرجه» بدل البعض، إذ المراد به زمان متّسع. و الغار النقب العظيم في الجبل. و هو هاهنا نقب في أعلى ثور. و ثور جبل في يمنى مكّة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثا.

إِذْ يَقُولُ بدل ثان أو ظرف ل «ثاني» لِصاحِبِهِ و هو أبو بكر لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا مطّلع علينا و عالم بحالنا، يحفظنا و ينصرنا. و لمّا دخلا الغار بعث اللّه حمامتين فباضتا في أسفله، و العنكبوت فنسجت عليه. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللهمّ أعم أبصارهم.

فلمّا طلع سراقة بن مالك و نظراؤه فوق الغار جعلوا يتردّدون حوله، و لم يروه و لا يفطنون، و قد أخذ اللّه بأبصارهم عنه. و سراقة لمّا رأى بيض الحمام

ص: 113

و بيت العنكبوت قال: لو دخله أحد لانكسر البيض و تفسّخ بيت العنكبوت، فانصرفوا.

و روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: «كان رجل من خزاعة فيهم يقال له أبو كرز، فما زال يقفو أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى وقف بهم على باب الحجر، فقال:

هذه قدم محمّد، هي و اللّه أخت القدم الّتي في المقام، و هذه قدم أبي قحافة أو ابنه.

و قال: ما جازوا هذا المكان، إمّا أن يكونوا قد صعدوا في السماء، أو دخلوا في الأرض. و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار، و هو يقول لهم: اطلبوه في الشعاب فليس هاهنا، و كانت العنكبوت نسجت على باب الغار. و نزل رجل من قريش فبال على باب الغار، فقال أبو بكر: قد أبصرونا يا رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم».

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أمنته الّتي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأيقن أنّهم لا يصلون إليه.

و قال بعضهم (1): يجوز أن تكون الهاء الّتي في «عليه» راجعا إلى أبي بكر.

و هذا بعيد، لأن الضمائر قبل هذا و بعده تعود إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا خلاف، و ذلك في قوله: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» و في قوله: «إذ أخرجه» و في قوله: «لصاحبه» و قوله فيما بعد: «و أيّده» فكيف يتخلّلها ضمير عائد إلى

غيره؟! هذا، و قد قال اللّه تعالى في هذه السورة: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (2) و قال في سورة الفتح: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3).

وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني: الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار، أو

ص: 114


1- أنوار التنزيل 3: 68- 69.
2- التوبة: 26.
3- الفتح: 26.

ليعينوه على العدوّ يوم بدر و الأحزاب و حنين. و على هذا الوجه، الجملة معطوفة على قوله: «نصره اللّه». وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يعني: الشرك، أو دعوة الكفر وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا يعني: التوحيد، أو دعوة الإسلام. و المعنى: و جعل ذلك بتخليص الرسول عن أيدي المشركين إلى المدينة، فإنّه المبدأ له، أو بتأييده إيّاه بالملائكة في هذه المواطن، أو بحفظه و نصره له حيث حضر.

و قرأ يعقوب: كلمة اللّه بالنصب، عطفا على «كلمة الّذين». و الرفع أبلغ، لما فيه من الاشعار بأنّ كلمة اللّه عالية في نفسها و إن فاق غيرها، فلا ثبات لتفوّقه و لا اعتبار. و في توسيط ضمير الفصل تأكيد زيادة فضل كلمة اللّه في العلوّ، و أنّها المختصّة به دون سائر الكلم.

وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ في أمره و تدبيره.

[سورة التوبة [9]: الآيات 41 الى 42]

انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [41] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [42]

ثمّ بيّن تأكّد وجوب الجهاد على العباد فقال: انْفِرُوا خِفافاً لنشاطكم له وَ ثِقالًا عنه لمشقّته عليكم، أو لقلّة عيالكم و لكثرتها، أو ركبانا و مشاة، أو خفافا و ثقالا من السلاح، أو صحاحا و مراضا، أو شبّانا و شيوخا، و لذلك لمّا

قال ابن أمّ مكتوم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعليّ أن أنفر؟ قال: نعم، حتّى نزل قوله: لَيْسَ عَلَى

ص: 115

الْأَعْمى حَرَجٌ (1).

الآية. و عن ابن عبّاس نسخت بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى (2).

وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال. و هذا يدلّ على أنّ الجهاد بالنفس و المال واجب على من استطاع بهما أو بأحدهما ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من تركه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير، أو علمتم أنّه خير، إذ إخبار اللّه به صدق فبادروا إليه.

لَوْ كانَ ما دعوا إليه عَرَضاً نفعا دنيويّا قَرِيباً سهل المأخذ وَ سَفَراً قاصِداً وسطا لَاتَّبَعُوكَ لوافقوك طمعا في المال وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ المسافة الّتي تقطع بمشقّة.

وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي: المتخلّفون يحلفون باللّه إذا رجعت من تبوك معتذرين لَوِ اسْتَطَعْنا يقولون: لو كان لنا استطاعة العدّة أو البدن، فإنّهم تمارضوا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ هو سادّ مسدّ جوابي القسم و الشرط. و هذا من المعجزات، لأنّه إخبار عمّا وقع قبل وقوعه. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بإيقاعها في العذاب للأيمان الكاذبة، فإنّ الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك، أو لما أسرّوا به من الشرك. و هو بدل من «سيحلفون» أو حال من فاعله. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ذلك، لأنّهم كانوا مستطيعين الخروج.

[سورة التوبة [9]: آية 43]

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ [43]

ص: 116


1- النور: 61.
2- التوبة: 91.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما فيه شوب العتاب في إذنه لمّا استأذنوه في التأخّر عن الخروج معه إلى تبوك، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ هو من لطيف المعاتبة فيما غيره منه أولى، لا سيّما للأنبياء. و قد أخطأ جار اللّه (1) في أن «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ» كناية عن الجناية و الخطأ، و معناه: أخطأت و بئس ما فعلت جانيا. و حاشا سيّد الأنبياء و خير المرسلين أن ينسب إليه جناية و خطأ و سوء فعل، لثبوت عصمته بالأدلّة العقليّة المانعة عن الجناية و الخطأ. و قيل: معناه: أدام اللّه لك العفو.

لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كنّي عنه بالعفو من ترك الأولى. و المعنى: لأيّ شي ء أذنت لهم في القعود و التخلّف عنك حين استأذنوك و اعتلّوا بأكاذيب؟! و هلّا توقّفت! حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الاعتذار وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فيه، فإنّه أولى من إذنك في التخلّف.

قيل: إنّما فعل رسول اللّه شيئين و الحال أنّ تركهما أولى و أحسن: أخذه الفداء، و إذنه للمنافقين، فعاتبه تعالى عليهما ليلتزم بما هو أولى في الأمور.

[سورة التوبة [9]: الآيات 44 الى 45]

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [44] إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [45]

ثمّ بيّن سبحانه حال المؤمنين و المنافقين في الاستئذان، فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَ لا يطلب منك الإذن في العقود عن الجهاد معك بالمعاذير الفاسدة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي: ليس من

ص: 117


1- الكشّاف 2: 274.

عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، فإنّ الخلّص منهم يبادرون إليه و لا يوقفونه على الإذن فيه، فضلا أن يستأذنوك في التخلّف عنه، أو أن يستأذنوك في التخلّف كراهة أن يجاهدوا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ شهادة لهم بالانتظام في زمرة أهل التقوى، وعدة لهم بأجزل الثواب.

إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلّف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ تخصيص الإيمان باللّه و اليوم الآخر في الموضعين، للإشعار بأنّ الباعث على الجهاد و المانع عنه الإيمان و عدم الإيمان بهما وَ ارْتابَتْ و اضطربت و شكّت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ في شكّهم يَتَرَدَّدُونَ يتحيّرون، فإنّ التردّد صفة المتحيّر، كما أنّ الثبات صفة المستبصر. و المراد منهم المنافقون.

[سورة التوبة [9]: آية 46]

وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [46]

ثمّ أخبر سبحانه عن هؤلاء المنافقين، فقال: وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الجهاد لَأَعَدُّوا لَهُ للخروج عُدَّةً أهبة وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ نهوضهم للخروج إلى الغزو، لعلمه تعالى بأنّهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالنميمة بين المسلمين فَثَبَّطَهُمْ فحبسهم بالجبن و الكسل و خذلهم، لما علم منهم من الفساد.

و إنّما وقع الاستدراك ب «لكن» لأنّ قوله: «وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ» يعطي معنى النفي، و كأنّه قيل: ما خرجوا و لكن تثبّطوا عن الخروج، لأنّ اللّه كره انبعاثهم، فضعفت رغبتهم في الانبعاث.

وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ النساء و الصبيان و الزمنى. هذا ذمّ لهم و تعجيز، و هو إذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم في القعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو تمثيل لإلقاء اللّه تعالى كراهة الخروج في قلوبهم.

ص: 118

و في هذه الآية دلالة على أنّ إذنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم غير قبيح، و إن كان الأولى أن لا يأذن، ليظهر للناس نفاقهم.

[سورة التوبة [9]: الآيات 47 الى 52]

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [47] لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ [48] وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [49] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ [50] قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [51]

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [52]

ثمّ بيّن سبحانه وجه الحكمة في تثبيطهم عن الخروج، فقال: لَوْ خَرَجُوا لو خرج هؤلاء المنافقون إلى الجهاد فِيكُمْ ما زادُوكُمْ بخروجهم شيئا إِلَّا خَبالًا فسادا و شرّا. و لا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتّى لو خرجوا زادوه، لأنّ الزيادة باعتبار أعمّ العامّ الّذي وقع منه الاستثناء. و لأجل هذا التوهّم جعل

ص: 119

الاستثناء منقطعا. و ليس كذلك، لأنّ الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرا إلّا خبالا، و المستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، و إذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العامّ الّذي هو الشي ء، فكان استثناء متّصلا، لأنّ الخبال بعض أعمّ العامّ.

وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ و لأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة و التضريب و التفريق، أو الهزيمة و التخذيل، من: وضع البعير

وضعا إذا أسرع، و أوضعته أنا.

و المراد السرعة بالفساد، لأنّ الراكب أسرع من الماشي. يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم، و يفسدوا نيّاتكم في غزواتكم، أو الرعب في قلوبكم. و الجملة حال من الضمير في «أوضعوا». وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ضعفة من المسلمين يسمعون قولهم و يطيعونهم، أو نمّامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ بالمصرّين على الفساد، فيعلم ضمائرهم و ما يتأتّى منهم.

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ هي اسم يقع على كلّ شرّ و فساد، أي: نصبوا لك الغوائل، و سعوا في تشتيت شملك و تفريق أصحابك. مِنْ قَبْلُ يعني: يوم أحد، فإنّ ابن أبيّ و أصحابه كما تخلّفوا عن تبوك بعد ما خرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ذي جدة أسفل من ثنيّة الوداع، انصرفوا يوم أحد. و عن سعيد بن جبير: وقفوا في غزوة تبوك على الثنيّة ليلة العقبة ليفتكّوا به، و هم اثنا عشر رجلا.

وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ و دبّروا لك المكائد و الحيل، و احتالوا في إبطال أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُ أي: النصر و التأييد الإلهي وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ علا و غلب دينه و أهله وَ هُمْ كارِهُونَ أي: على رغم منهم. و هو في موضع الحال. و الآيتان لتسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على تخلّفهم، و بيان ما ثبّطهم اللّه لأجله و كره انبعاثهم له، و هتك استارهم و كشف اسرارهم، و إزاحة اعتذارهم، تداركا لإذن رسوله تخلّفهم، فعوتب عليه لترك الأولى.

ص: 120

وَ مِنْهُمْ و من هؤلاء المنافقين مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود عن الجهاد وَ لا تَفْتِنِّي و لا توقعني

في الفتنة. و هي الإثم الّذي يلزم العصيان و المخالفة، بأن لا تأذن لي، فإنّي إن تخلّفت بعد أمرك بالجهاد أثمت. و فيه إشعار بأنّه لا محالة متخلّف، أذن له أو لم يأذن. أو في الفتنة. بسبب ضياع المال و العيال، إذ لا كافل لهم بعدي. أو في الفتنة بنساء الروم، لما

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا استنفر الناس إلى تبوك فقال: انفروا لعلّكم تغنمون بنات الأصفر، يعني: نساء الروم، فقال جدّ بن قيس أخو بني سلمة من بني الخزرج: يا رسول اللّه ائذن لي و لا تفتنّي ببنات الأصفر، و لكنّي أعينك بمالي، فاتركني فإنّي أخاف أن أفتن بهنّ، لأنّي مستهتر بالنساء. فقال: أذنت لك.

أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي: الفتنة هي الّتي سقطوا فيها، و هي فتنة التخلّف أو ظهور النفاق، لا ما احترزوا عنه وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ جامعة لهم يوم القيامة أو الآن، لأنّ إحاطة أسبابها بهم كوجودها، فكأنّهم في وسطها.

إِنْ تُصِبْكَ في بعض غزواتك حَسَنَةٌ ظفر و غنيمة تَسُؤْهُمْ لفرط حسدهم وَ إِنْ تُصِبْكَ في بعضها مُصِيبَةٌ كسر و شدّة و بليّة، كما أصاب يوم أحد يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا الّذي نحن متّسمون به، من الحذر و العمل بالحزم و التيقّظ مِنْ قَبْلُ من قبل ما وقع، أي: تبجّحوا (1) بانصرافهم، و استحمدوا رأيهم في التخلّف وَ يَتَوَلَّوْا عن مقام التحدّث بذلك و الاجتماع له إلى أهاليهم، أو عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هُمْ فَرِحُونَ مسرورون.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا إلّا ما اختصّنا بإثباته و إيجابه، من النصرة أو الشهادة، أو ما كتب لأجلنا في اللوح

المحفوظ، لا يتغيّر بموافقتكم و لا بمخالفتكم. هُوَ مَوْلانا متولّي أمورنا و ناصرنا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

ص: 121


1- تبجّح و تباجح أي: افتخر و تعظّم و تباهي.

لأنّ حقّهم أن لا يتوكّلوا على غيره تعالى، فليفعلوا ما هو حقّهم.

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا تنتظرون بنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إحدى العاقبتين اللّتين كلّ منهما حسنى العواقب: النصرة و الشهادة وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أيضا إحدى السوأيين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء، كما نزلت على عاد و ثمود أَوْ بِأَيْدِينا أو بعذاب بأيدينا، و هو القتل على الكفر فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم، فإنّه لا بدّ أن يلقى كلّنا ما يتربّصه و لا يتجاوزه. و المراد بالأمر التهديد، كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (1).

[سورة التوبة [9]: الآيات 53 الى 57]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ [53] وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَ هُمْ كارِهُونَ [54] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ [55] وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [56] لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ [57]

ثمّ بيّن سبحانه أنّ هؤلاء المنافقين لا ينتفعون بما ينفقونه مع إقامتهم على

ص: 122


1- فصّلت: 40.

الكفر، فقال: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ نفقاتكم. و الأمر في معنى الخبر، كقوله: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ

فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ (1). و معناه: لن يتقبّل منكم، أنفقتم طوعا أو كرها. و نحوه قوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ (2) أي: لن يغفر اللّه لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. و في تساوي الإنفاقين مبالغة في عدم القبول. و هذا جواب قول جدّ بن قيس: و أعينك بمالي. و نفي التقبّل يحتمل أمرين: أن لا يؤخذ منهم، و أن لا يثابوا عليه.

و قوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ تعليل له على سبيل الاستئناف، و ما بعده بيان و تقرير له، أعني: قوله: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ و قرأ حمزة و الكسائي: أن يقبل بالياء، لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقيّ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى متثاقلين وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ لأنّهم لا يرجون بهما ثوابا، و لا يخافون على تركهما عقابا.

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ الإعجاب بالشي ء أن يسرّ به سرور راض به متعجّب من حسنه. و الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد جميع المؤمنين. و المعنى: فلا تستحسنوا ما أوتوا به من زينة الدنيا، فإنّ ذلك استدراج و وبال لهم، كما قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب ما يكابدون لجمعها و حفظها من المتاعب، و ما يرون فيها من الشدائد و المصائب وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتّع عن النظر في العاقبة، فيكون ذلك استدراجا لهم.

و أصل الزهوق الخروج بصعوبة.

وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي: لمن جملة المسلمين وَ ما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون منكم أن تفعلوا بهم

ما تفعلون

ص: 123


1- مريم: 75.
2- التوبة: 80.

بالمشركين، فيظهرون الإسلام تقيّة.

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً حصنا يلجؤون إليه، متحصّنين به من راس جبل أو قلعة أَوْ مَغاراتٍ غيرانا (1)، من: أغار الرجل و غار إذا دخل الغور. و قيل: هو تعدية غار الشي ء و أغرته أنا، يعني: أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم. أَوْ مُدَّخَلًا مفتعل من الدخول. و أصله: مدتخلا، أبدل التاء بعد الدال دالا، أي: نفقا ينجحرون (2) فيه.

و قرأ يعقوب: مدخلا، من: دخل، أي: موضع دخول يأوون إليه. لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لأقبلوا نحوه وَ هُمْ يَجْمَحُونَ يسرعون إسراعا لا يردّهم شي ء، كالفرس الجموح.

[سورة التوبة [9]: الآيات 58 الى 59]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ [58] وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ [59]

روى الثعلبي في تفسيره: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقسّم غنائم حنين، فاستعطف قلوب أهل مكّة بتوفير الغنائم عليه. فقال ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج: اعدل يا رسول اللّه. فقال: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ فقال عمر: يا رسول اللّه ائذن لي فأضرب عنقه. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دعه، فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، و صيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ثمّ قال: رأسهم رجل أسود في إحدى ثدييه أو إحدى يديه مثل

ص: 124


1- جمع الغار.
2- انجحر أي: دخل الجحر.

ثدي المرأة، أو مثل البضعة (1) تدردر (2)، يخرجون على فترة من الناس. و في

حديث آخر: فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثمّ إذا خرجوا فاقتلوهم، ثمّ إذا خرجوا فاقتلوهم.

قال أبو سعيد الخدري: أشهد أنّي سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أشهد أنّ عليّا عليه السّلام حين قتلهم و أنا معه جي ء بالرجل على النعت الّذي نعته رسول اللّه.

و في ابن أبي خويصرة نزلت: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ يعيبك و يطعن عليك.

و قرأ يعقوب: يلمزك بالضمّ، و ابن كثير: يلامزك. فِي الصَّدَقاتِ في قسمتها.

ثمّ وصفهم بأنّ رضاهم و سخطهم لأنفسهم لا للدين، فقال: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا و طابت نفوسهم و أقرّوا باللّه وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ «إذا» للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائيّة.

و قيل: إنّها نزلت في أبي الجواظ المنافق، قال: الا ترون إلى صاحبكم إنّما يقسّم صدقاتكم في رعاة الغنم و يزعم أنّه يعدل. و قال ابن زيد: قال المنافقون: ما يعطيها محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا من أحبّ، و لا يؤثر بها إلّا من هواه، فنزلت.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ بما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة. و ذكر اللّه للتعظيم، و للتنبيه على أنّ ما فعله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بأمره تعالى وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ كفانا فضله سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ صدقة أو غنيمة اخرى وَ رَسُولُهُ فيؤتينا أكثر ممّا آتانا اليوم إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يغنينا من فضله. و الآية بأسرها في حيّز الشرط، و الجواب محذوف، تقديره: لكان خيرا لهم.

ص: 125


1- البضعة: القطعة من اللحم.
2- أي: ترجرج و تجي ء و تذهب. راجع لسان العرب 4: 283.

[سورة التوبة [9]: آية 60]

إِنَّمَا

الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [60]

ثمّ بيّن مصارف الصدقات تصويبا و تحقيقا لما فعله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دلالة على أنّ أهل النفاق ليسوا من مستحقّيها، و أنّهم بعداء عن مصارفها، فما لهم التكلّم فيها و لمن قاسمها، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ أي: الزكوات لهؤلاء الأصناف الثمانية مختصّة بهم، و لا يجوز صرفها في غيرهم، و نحوه: إنّما السخاء لحاتم، أي: ليس لغيره، و يحتمل أن يصرف إلى بعضها. و عن حذيفة و ابن عبّاس و غيرهما من الصحابة أنّهم قالوا: في أيّ صنف منها وضعتها أجزأك. و هو مذهبنا.

فأتى ب «إنّما» الّتي للحصر للدلالة على أنّه لا يستحقّها سوى هؤلاء المذكورين.

و اختلف في اللام في الفقراء هل للتمليك أو لبيان المصرف؟ فقال الشافعي:

بالأوّل، فيجب البسط على الأصناف، و يعطى من كلّ صنف ثلاثة لا أقلّ. و قال مالك و أبو حنيفة بالثاني، فلا يجب البسط، بل لو أعطى زكاته واحدا من أيّ صنف كان جاز، لكن أبو حنيفة لا يعطي ما يؤدّي إلى الغنيّ، فلو خالف فعل مكروها، و ملكه المعطى، و برئت الذمّة. و مالك يجوّز ذلك إذا أمّل إغناءه.

و قال أصحابنا: يجوز أيّ صنف كان و لو واحدا منهم، لكنّ البسط أفضل، و بذلك قال ابن عبّاس و حذيفة و غيرهما من الصحابة، لأنّ كون اللام للتمليك لا وجه له، فإنّ المستحقّ لا يملك قبل الأخذ، و لأنّ حملها على بيان المصرف موافق لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذي عابه المنافقون، فيكون أولى.

و الفقير من لا مال له و لا كسب يقع موقعا من حاجته، من الفقار، كأنّه أصيب

ص: 126

فقاره. و المسكين من له مال أو كسب لا يكفيه، من السكون، كأنّ العجز أسكنه.

و يدلّ عليه قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ (1). و أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يسأل المسكنة و يتعوّذ من الفقر. و قيل: بالعكس، لقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (2). أو الفقير الزمن المحتاج، و المسكين الصحيح المحتاج. أو الفقير هو المتعفّف الّذي لا يسأل، و المسكين الّذي يسأل. و روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام،

و منقول عن ابن عبّاس و الحسن و الزهري و مجاهد. و قيل: بالعكس. و قيل: إنّهما قسم واحد، و الثاني تأكيد الأوّل، كعطشان نطشان (3). و التحقيق: أنّهما يشتركان في معنى عدمي، و هو عدم ملك مؤونة السنة له و لعياله الواجبي النفقة لو كان غنيّا.

وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها الساعين في تحصيلها و جمعها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قوم أسلموا و نيّتهم ضعيفة فيه، فيستألف قلوبهم. أو أشراف من العرب يترقّب بإعطائهم و مراعاتهم إسلام نظرائهم. و قد أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس و العبّاس بن مرداس لذلك. و قيل: أشراف يستألفون على أن يسلموا، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعطيهم. و قيل: كان سهم المؤلّفة لتكثير سواد الإسلام و الاستعانة بهم، فلمّا أعزّه اللّه و أكثر أهله سقط.

وَ فِي الرِّقابِ و للصرف في فكّ الرقاب. و هم المكاتبون يعانون بشي ء من الزكاة على أداء النجوم ليفكّوا رقابهم من الرقّ.

و العبيد إذا كانوا في شدّة يشترون منها و يعتقون، و يكون ولاؤهم لأرباب الزكاة. و عندنا يجوز ابتياع العبيد مطلقا من الزكاة مع عدم المستحقّ، أمّا مع وجوده فلا. و العدول عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة للدلالة على أنّهم أحقّ بأن توضع فيهم الصدقات ممّن سبق ذكره، لأنّ «في» للوعاء، و على أنّ المستحقّين قسمان: قسم يقبض لنفسه، و هم الفقراء

ص: 127


1- الكهف: 79.
2- البلد: 16.
3- النطش: شدّة جبلة الخلق. و عطشان نطشان: إتباع. راجع لسان العرب 6: 354- 355.

و المساكين و العاملون و المؤلّفة. فهؤلاء يصرفونه في أيّ جهة شاؤا، فهم مختصّون به، فناسب ذلك اللام. و قسم يقبض لأجل جهة معيّنة يصرفه فيها، و لا يجوز صرفه في غيرها. و هم الرقاب و الغارمون و ابن السبيل، فناسب ذلك «في».

وَ الْغارِمِينَ هم الّذين ركبتهم الديون في غير معصية، إذا لم يكن لهم وفاء وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و للصرف في الجهاد بالإنفاق على ابتياع الكراع (1) و السلاح إجماعا. و قيل: يدخل فيه بناء القناطر و المصانع و سائر مصالح المسلمين.

وَ ابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع عن ماله في الغربة، و إن كان غنيّا في بلده.

و إنّما سمّي ابن السبيل للزومه الطريق، فنسب إليه. و يشترط في استحقاقه كون سفره مباحا. و الضيف إن كان منقطعا به في غير بلده فهو داخل في ابن السبيل.

و إنّما كرّر «في» الأخيرين، و لم يعطف على الرقاب كما عطف الغارمين عليه، لفضل ترجيح لهما.

فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر لما دلّ عليه الآية، أي: فرض لهم الصدقات فريضة. أو حال من الضمير المستكن في «للفقراء». وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يضع الأشياء في مواضعها.

[سورة التوبة [9]: آية 61]

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [61]

روي أنّ جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد و شاس بن قيس

ص: 128


1- الكراع: اسم يطلق على الخيل و البغال و الحمير.

و مخشى بن حمير و رفاعة بن عبد المنذر و غيرهم قالوا ما لا ينبغي للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذمّوه. فقال رجل منهم: لا تفعلوا فإنّا نخاف أن يبلغ محمّدا ما تقولون فيوقع بنا.

فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما شئنا ثمّ نأتيه فيصدّقنا بما نقول، فإنّ محمّدا أذن سامعة، فنزلت: وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ الاذن الرجل الّذي يصدّق كلّ ما يسمع، و يقبل قول كلّ أحد. و المعنى: هو يسمع كلّ ما يقال له و يصدّقه. سمّي بالجارحة للمبالغة، كأنّه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع، كما سمّي الجاسوس عينا لذلك. أو اشتقّ له فعل من: أذن اذنا إذا استمع، كأنف و شلل.

قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ تصديق لهم بأنّه أذن و لكن لا على الوجه الّذي ذمّوا به، بل من حيث إنّه يسمع الخير و يقبله.

ثمّ فسّر ذلك بقوله: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» يصدّق به، لما قام عنده من الأدلّة وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ و يصدّقهم، لما علم من خلوصهم. و اللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق، فإنّه بمعنى التسليم، و إيمان الأمان، كما في قوله: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا (1).

وَ رَحْمَةٌ أي: هو رحمة لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ لمن اظهر الايمان، حيث يقبله و لا يكشف سرّه و لا يفضحه، فلا يفعل به ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى اللّه من المصلحة في الإبقاء عليه. و فيه تنبيه على أنّه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم، بل رفقا بكم و ترحّما عليكم.

و قرأ حمزة: و رحمة بالجرّ، عطفا على «خير» أي: هو أذن خير و رحمة، و لا يسمع غيرهما. و قرأ نافع: أذن بالتخفيف فيهما.

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بإيذائه. و قيل: نزلت هذه الآية

ص: 129


1- يوسف: 17.

في رجل من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، و كان رجلا أدلم (1) أحمر العينين أسفع (2) الخدّين مشوّه الخلقة، و كان ينمّ حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المنافقين. فقيل له:

لا تفعل. فقال: إنّما محمد أذن، من حدّثه شيئا صدّقه، نقول ما شئنا ثمّ نأتيه و نحلف له فيصدّقنا. و هو الّذي

قال فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.

[سورة التوبة [9]: آية 62]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ [62]

و قيل: إنّ جلاس بن سويد و غيره من المنافقين قالوا: لئن كان ما يقول محمّد حقّا فنحن شرّ من الحمير. و كان عندهم غلام من الأنصار يقال له: عامر بن قيس، فقال: و اللّه ما يقول محمد حقّ، و أنتم شرّ من الحمير. ثمّ أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أنّ عامرا كذب. فنزلت: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ على معاذيرهم فيما قالوا لِيُرْضُوكُمْ لترضوا عنهم، و الخطاب للمؤمنين وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أحقّ بالإرضاء بالطاعة و الوفاق. و توحيد الضمير لتلازم الرضاءين. أو لأنّ الكلام في إيذاء الرسول و إرضائه. أو لأنّ التقدير: و اللّه أحقّ أن يرضوه، و الرسول كذلك. إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ باطنا و ظاهرا، مذعنين بنبوّة محمد مقرّين به.

و قيل: إنّها نزلت في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك، فلمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلّفهم و يحلفون.

ص: 130


1- الأدلم: الذي اشتدّ سواده في ملوسة.
2- الأسفع: أسود اللون إلى حمرة.

[سورة التوبة [9]: الآيات 63 الى 64]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [63] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [64]

ثمّ قال سبحانه على وجه التقريع و التوبيخ لهؤلاء المنافقين: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أنّ الشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يشاققهما، مفاعلة من الحدّ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها على حذف الخبر، أي: فحقّ أنّ له، أو على تكرير «أنّ» للتأكيد.

و يجوز أن يكون معطوفا على «أنّه»، و يكون الجواب محذوفا، تقديره: من يحادد اللّه و رسوله يهلك فأنّ له نار جهنّم خالدا فيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يعني: الهلاك الدائم.

روي: أنّ المنافقين كانوا يستهزؤن بالإسلام، فكانوا يحذرون أن يفضحهم اللّه بالوحي، فنزلت في شأنهم: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ و تهتك عليهم أستارهم. و يجوز أن تكون الضمائر للمنافقين، فإنّ النازل فيهم كالنازل عليهم، من حيث إنّه مقروء و محتجّ به عليهم.

و قيل: اللفظ لفظ الخبر و معناه الأمر، أي: ليحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة

تخبرهم بما في قلوبهم من النفاق. و هذا حسن، لأنّ موضع الكلام على التهديد، لقوله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا أي: اطلبوا الهزء، هو وعيد بلفظ الأمر إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مبرز أو مظهر ما تَحْذَرُونَ ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم.

و قيل: هذا الحذر أظهروه على وجه الاستهزاء لا على سبيل التصديق، لأنّهم

ص: 131

حين رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينطق في كلّ شي ء عن الوحي، قال بعضهم لبعض:

احذروا ألّا ينزل وحي فيكم، يتناجون بذلك و يضحكون به.

[سورة التوبة [9]: الآيات 65 الى 69]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ [65] لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ [66] الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ [67] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [68] كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [69]

روي عن ابن كيسان: أنّ اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند رجوعه من تبوك، فأخبر جبرئيل عليه السّلام رسول اللّه

ص: 132

بذلك، و أمره أن يرسل إليهم أحدا و يضرب وجوه رواحلهم. و عمّار كان يقود دابّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و حذيفة يسوقها. فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم.

فضربها حتّى نحّاهم. فلمّا نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه فلان و فلان، حتّى عدّهم كلّهم. فقال حذيفة: ألّا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه، و قال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنّما كنّا نخوض و نلعب، و إن لم يفطن نقتله. فنزلت:

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ

قيل: نزلت في ركب المنافقين مرّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غزوة تبوك، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام و حصونه، هيهات هيهات. فأخبر اللّه تعالى به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعاهم، فقال: قلتم كذا و كذا؟ فقالوا: لا و اللّه ما كنّا في شي ء من أمرك و أمر أصحابك، و لكن كنّا في شي ء ممّا يخوض فيه الركب ليقصّر بعضنا على بعض السفر، أي:

مشقّته.

قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ توبيخا على استهزائهم بمن لا يصحّ الاستهزاء به، و إلزاما للحجّة عليهم، و إشعارا بعدم الاعتداد باعتذارهم الكاذب.

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهؤلاء المنافقين: لا تَعْتَذِرُوا لا تشتغلوا باعتذاراتكم، فإنّها معلومة الكذب قَدْ كَفَرْتُمْ قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الطعن فيه بَعْدَ إِيمانِكُمْ بعد

إظهاركم الايمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم و إخلاصهم، أو لتجنّبهم عن الإيذاء و الاستهزاء نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرّين على النفاق، أو مقدمين على الإيذاء و الاستهزاء. و قرأ

ص: 133

عاصم بالنون فيهما (1) و نصب طائفة.

ثمّ بيّن أحوال المنافقين منهم بقوله: الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: متشابهة في النفاق و البعد عن الإيمان، كأبعاض الشي ء الواحد. و هو تكذيب لهم فيما حلفوا بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ (2) و تقرير لقوله: وَ ما هُمْ مِنْكُمْ (3)، و ما بعده كالدليل عليه، فإنّه يدلّ على مضادّة حالهم لحال المؤمنين، و هو قوله:

يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر و المعاصي وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عن الإيمان و الطاعات وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن المبرّات. و قبض اليد كناية عن الشحّ، أي:

شحّوا بالخيرات أو الصدقات و الإنفاق في سبيل اللّه نَسُوا اللَّهَ أغفلوا ذكر اللّه و تركوا طاعته فَنَسِيَهُمْ فتركهم من لطفه و فضله إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في التمرّد و الانسلاخ عن دائرة الخير.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: مقدّرين الخلود فيها هِيَ حَسْبُهُمْ عقابا و جزاء. و فيه دليل على عظم عذابها، و أنّه لا شي ء أبلغ منه، نعوذ باللّه منها وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته و أهانهم وَ لَهُمْ عَذابٌ و لهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار مُقِيمٌ دائم لا ينقطع في الآخرة عنهم، و هو عذاب النار. أو عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكّون عنه، و هو ما يقاسونه من تعب النفاق، و ما يخافونه من الفضيحة.

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ محلّ الكاف رفع، تقديره: أنتم مثل الّذين من قبلكم. أو نصب، تقديره: فعلتم

مثل فعل الّذين من قبلكم.

ثمّ بيّن تشبيههم بهم، و مثّل حالهم بحالهم، فقال: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ نصيبهم من ملاذ الدنيا. و اشتقاقه من الخلق

ص: 134


1- أي: قراءة «نعف» و «نعذّب» بالنون. و قرئ بالياء و بناء الفاعل فيهما.
2- التوبة: 56.
3- التوبة: 56.

بمعنى التقدير، فإنّه ما قدّر لصاحبه و نصب، أي: أثبت. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذمّ الأوّلين بحظوظهم الناقصة من الشهوات الفانية، و التهائهم بها عن النظر في العاقبة، و السعي في تحصيل اللذائذ الحقيقيّة، تمهيدا لذمّ المخاطبين بمشابهتهم و اقتفاء أثرهم.

وَ خُضْتُمْ دخلتم في الباطل كَالَّذِي خاضُوا كالّذين خاضوا. و إفراده باعتبار الفوج أو الخوض، أي: كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الّذي خاضوا.

أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لم يستحقّوا عليها ثوابا في الدارين وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الّذين خسروا أنفسهم في الدنيا و الآخرة.

عن ابن عبّاس أنّه قال في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة، «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم، لا أعلم إلّا

أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و الذي نفسي بيده لتتبعنّهم، حتّى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ لدخلتموه».

و روي مثل ذلك عن أبي هريرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لتأخذنّ كما أخذت الأمم من قبلكم، ذراعا بذراع و شبرا بشبر و باعا (1) بباع، حتّى لو أنّ أحدا من أولئك دخل جحر الضبّ لدخلتموه. قالوا يا رسول اللّه: كما صنعت فارس و الروم و أهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلّا هم؟!».

و قال عبد اللّه بن مسعود: أنتم أشبه الأمم

ببني إسرائيل سمتا و هديا، تتّبعون عملهم حذو القذّة (2) بالقذّة، غير أنّي لا أدري أ تعبدون العجل أم لا؟

و قال حذيفة: المنافقون الّذين فيكم اليوم شرّ من المنافقين الّذين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قلنا: و كيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، و هؤلاء أعلنوه. أورد جميعها الثعلبي في تفسيره.

ص: 135


1- الباع: قدر مدّ اليدين، و جمعه أبواع.
2- القذّة: ريش السهم. و حذو القذّة بالقذّة يضرب مثلا للشيئين يستويان و لا يتفاوتان، كما أن كلّ واحدة من القذّة تقدّر على قدر صاحبتها.

[سورة التوبة [9]: آية 70]

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [70]

ثمّ قال سبحانه تهديدا للمنافقين: أَ لَمْ يَأْتِهِمْ ألم يأت هؤلاء المنافقين نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَ عادٍ و قوم عاد أهلكوا بالريح الصرصر (1) وَ ثَمُودَ و قوم صالح أهلكوا بالرجفة وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ نمرود و أصحابه، فإنّهم أهلكوا بالبعوض وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ و أهل مدين، و هم قوم شعيب، أهلكوا بالنار يوم الظلّة وَ الْمُؤْتَفِكاتِ ثلاث قريات قوم لوط، ائتفكت بهم، أي: انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، و أمطروا حجارة من سجّيل. و قيل:

قريات المكذّبين المتمرّدين. و ائتفاكهنّ انقلاب أحوالهنّ من الخير إلى الشرّ.

أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالبراهين و الحجج و المعجزات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي: لم يكن من عادة اللّه ما شابه ظلم الناس، كالعقوبة بلا جرم، لأنّه حكيم لا يجوز أن يفعل القبيح وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرّضوها للعقاب

بالكفر و التكذيب و سائر أنواع المعاصي، و استحقّوا العقاب.

[سورة التوبة [9]: الآيات 71 الى 72]

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ

ص: 136


1- الريح الصرصر: الشديدة الهبوب أو البرد.

سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [71] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [72]

و لمّا ذكر اللّه سبحانه المنافقين و وصفهم بقبيح خصالهم، اقتضت الحكمة أن يذكر المؤمنين و يصفهم بضدّ أوصافهم، ليتّصل الكلام بما قبله اتّصال النقيض بالنقيض، فقال: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله:

«الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» أي: يلزم كلّ واحد منهم موالاة بعض و نصرته، فهم يد واحدة على سواهم يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأمور.

أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لا محالة، فإنّ السين مؤكّدة للوقوع، مفيدة لوجود الرحمة لا محالة. و نحوه: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (1) سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ (2) وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (3) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كلّ شي ء، لا يمتنع عليه ما يريده، فهو يقدر على الثواب و العقاب حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها على حسب الاستحقاق.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش. و في الحديث: أنّها قصور

ص: 137


1- مريم: 96.
2- النساء: 152.
3- الضحى: 5.

بناها اللّه من اللؤلؤ و الياقوت الأحمر و الزبرجد الأخضر فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة و خلود.

و في الكشّاف: «هو علم، لما روى أبو الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عدن دار اللّه تعالى الّتي لم ترها عين، و لم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيّون، و الصدّيقون، و الشهداء، يقول اللّه تعالى: طوبى لمن دخلك. و قيل: مدينة في الجنّة.

و قيل: نهر جنّاته على حافّاته» (1).

و في الأنوار: «مرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدّد الموعود لكلّ واحد، أو للجميع على سبيل التوزيع. أو إلى تغاير وصفه، فكأنّه وصفه أوّلا بأنّه من جنس ما هو أبهى الأماكن الّتي يعرفونها، لتميل إليه طبائعهم أوّل ما يقرع أسماعهم. ثمّ وصفه بأنّه محفوف بطيب العيش، معرّى عن شوائب الكدورات الّتي لا تخلو عن شي ء منها أماكن الدنيا، و فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين. ثمّ وصفه بأنّه دار إقامة و ثبات في جوار علّيين، لا يعتريهم فيها فناء و لا تغيّر. ثمّ وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ و شي ء من رضوان اللّه أكبر من ذلك كلّه، لأنّ رضاه مبدأ لكلّ سعادة، و سبب لكلّ فوز و كرامة» (2).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه تعالى يقول لأهل الجنّة: هل رضيتم؟

فيقولون: و ما لنا لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: و أيّ شي ء أفضل من ذلك؟ قال: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا».

ذلِكَ أي: الرضوان، أو جميع ما تقدّم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي تستحقر دونه الدنيا و ما فيها..

ص: 138


1- الكشّاف 2: 289- 290.
2- أنوار التنزيل 3: 74.

[سورة التوبة [9]: آية 73]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [73]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجهاد الّذي هو من أعظم الأسباب الموصلة إلى النعم المذكورة، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَ الْمُنافِقِينَ بإلزام الحجّة و إقامة الحدود وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ في الجهادين جميعا، و لا ترقّ بهم وَ مَأْواهُمْ و مأوى الفريقين جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.

[سورة التوبة [9]: آية 74]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [74]

و روي عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان جالسا في ظلّ حجرته، فقال: إنّه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم نظر الشيطان. فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا باللّه ما قالوا، فنزلت: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا

ما حكى عنهم وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ و أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام.

روي: أنّه عليه الصلاة و السلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن و يعيب المتخلّفين. فقال الجلاس بن سويد: لئن كان ما يقول محمّد لإخواننا حقّا

ص: 139

لنحن شرّ من الحمير، كما مرّ (1) آنفا. فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاستحضره، فحلف باللّه

ما قاله، فنزلت هذه الآية. فتاب الجلاس، و حسنت توبته.

و روي أن اثني عشر أو خمسة عشر منافقا توافقوا عند مرجعه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل، على نحو ما مرّ.

فأخذ عمّار بن ياسر بخطام (2) راحلته يقودها، و حذيفة خلفها يسوقها، كما سبق.

فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل و قعقعة (3) السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثّمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء اللّه، فهربوا.

و عن الباقر عليه السّلام: ثمانية منهم من قريش، و أربعة من العرب.

فنزلت فيهم: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: نزلت عند إرادتهم إخراجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إخراج المؤمنين من المدينة، أو عند إرادتهم أن يتوجّوا عبد اللّه بن أبيّ، أي: يجعلوه أميرا و إن لم يرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ ما نَقَمُوا و ما أنكروا و عابوا، أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش، فلمّا قدمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صاروا ذوي ثروة و غناء بالغنائم. و قتل مولى للجلاس، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بديته اثني عشر ألف درهم، فاستغنى. و الاستثناء مفرّغ من أعمّ المفاعيل أو العلل. و المعنى: أنّهم جعلوا موضع شكر النعمة كفرانها، و كان الواجب عليهم أن يقابلوها بالشكر.

فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ أي: التوب خَيْراً لَهُمْ هو الّذي حمل الجلاس على التوبة وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا بالإصرار على النفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا

ص: 140


1- في ص: 130.
2- الخطام: حبل يجعل في عنق البعير و يثنى في خطمه، و هو مقدم أنف الدابة و فمها.
3- قعقع السلاح: صوت.

وَ الْآخِرَةِ بالقتل و النار وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ فينجيهم من العذاب.

[سورة التوبة [9]: الآيات 75 الى 78]

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [75] فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [76] فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [77] أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [78]

روي أنّ ثعلبة بن حاطب قال: «يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا. فقال:

قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه. فراجعه، فقال: و الّذي بعثك بالحقّ لئن رزقني اللّه مالا لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه. فدعا له، فاتّخذ غنما فنمت كما ينمي الدود حتّى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا و انقطع عن الجماعة و الجمعة. فسأل عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد، فقال: يا ويح ثعلبة. فبعث رسول اللّه مصدّقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، و مرّا بثعلبة فسألاه و اقرءاه كتاب رسول اللّه الّذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلّا جزية، ما هذه إلّا أخت الجزية، و قال: ارجعا حتّى أرى رأيي. فلمّا رجعا قال لهما رسول اللّه قبل أن يكلّماه: يا ويح ثعلبة مرّتين. فنزلت: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ على الفقراء حقوقهم وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ بإنفاقه في طاعة اللّه.

فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ منعوا حقّ اللّه تعالى منه وَ تَوَلَّوْا عن

ص: 141

طاعة اللّه وَ هُمْ مُعْرِضُونَ و هم قوم عادتهم الإعراض عنها. و بعد نزول هذه الآية جاء ثعلبة بالصدقة،

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه منعني أن أقبل منك».

فجعل يحثوا التراب على رأسه. فقال: هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني. فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها، ثمّ جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، و هلك في زمان عثمان.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي: فجعل اللّه تعالى عاقبة فعلهم ذلك نفاقا و سوء اعتقاد في قلوبهم، و تخلية و خذلانا، يعني: خذلهم حتّى نافقوا فتمكّن النفاق في قلوبهم، لا ينفكّ عنها إلى أن يموتوا. و عن الحسن و قتادة: أن الضمير للبخل.

و المعنى: فأورثهم البخل نفاقا متمكّنا في قلوبهم إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يلقون عملهم، أي: جزاءه، و هو يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدّق و الصلاح وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ و بكونهم كاذبين فيه، فإنّ خلف الوعد متضمّن للكذب مستقبح، و منه جعل خلف (1) الوعد ثلث النفاق. أو في المقال مطلقا.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أي: المنافقون، أو من عاهد اللّه تعالى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ما أسرّوه في أنفسهم من النفاق، أو العزم على الإخلاف وَ نَجْواهُمْ و ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، أو تسمية الزكاة جزية وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه ذلك.

[سورة التوبة [9]: آية 79]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا

يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [79]

ص: 142


1- في هامش النسخة الخطّية: «لأن المنافق هو الذي إذا وعد أخلف، و إذا ائتمن خان، و إذا حدّث كذب».

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب، و قيل: بأربعة آلاف درهم، و قال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربّي أربعة، و أمسكت لعيالي أربعة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بارك اللّه لك فيما أعطيت و فيما أمسكت. فبارك اللّه له حتّى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم.

و تصدّق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر. و جاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر فقال: بتّ ليلتي أجرّ بالجرير (1) على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، و جئت بصاع. فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ينثره على الصدقات.

فلمزهم المنافقون و قالوا: ما أعطى عبد الرحمن و عاصم إلّا رياء، و لقد كان اللّه و رسوله لغنيّين عن صاع أبي عقيل، و لكنّه أحبّ أن يذكّر بنفسه ليعطى من الصدقات. فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ذمّ مرفوع أو منصوب، أو بدل من الضمير في «سرّهم»، أي: الّذين يعيبون و يطعنون الْمُطَّوِّعِينَ المتطوّعين المتبرّعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ إلّا طاقتهم، فيتصدّقون بالقليل فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يستهزؤن بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جازاهم على سخريّتهم، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (2) وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم.

[سورة التوبة [9]: آية 80]

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ

كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [80]

روي أنّ عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبيّ- و كان من المخلصين- سأل رسول

ص: 143


1- في هامش النسخة الخطّية: «الجرير: الحبل الذي يجرّ به البعير. و معناه: استقى للناس على أجر صاعين. منه».
2- البقرة: 15.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرض أبيه- لعنه اللّه- أن يستغفر له، فنزلت: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ

الأمر و النهي في معنى الخبر. و المعنى: لن يغفر اللّه لهم استغفرت أم لم تستغفر لهم. و فيه معنى الشرط و الجزاء. و المراد به المبالغة في اليأس من المغفرة بأنّه لو طلبها طلب المأمور بها و تركها ترك المنهيّ عنها لكان ذلك سواء في أنّ اللّه تعالى لا يفعلها، فيريد التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم، كما نصّ عليه بقوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ و قد شاع في كلامهم استعمال السبعة و السبعين و السبعمائة و نحوها في التكثير دون التحديد.

و ما قيل: من أنّه قال: لأزيدنّ على السبعين، فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لن يغفر اللّه لهم. و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهم من السبعين العدد المخصوص، لأنّه الأصل، فجوّز أن يكون ذلك حدّا يخالفه حكم ما وراءه، فبيّن له أنّ المراد به التكثير دون التحديد.

ضعيف (1)، لأنّه خبر واحد لا يعوّل عليه، لأنّه يتضمّن أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغفر للكفّار، و ذلك غير جائز بالإجماع. و كذا

أورد في الآحاد أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو علمت أنّه لو زدت على السبعين مرّة غفر لهم لفعلت.

و يحتمل أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرجو أن يكون لهم لطف يصلحون به، فعزم على الاستغفار لهم قبل أن يعلم بكفرهم و نفاقهم. و يمكن أن يكون قد استغفر لهم قبل أن يخبر بأنّ الكافر لا يغفر له، أو قبل أن يمنع منه. و يجوز أن يكون استغفاره لهم واقعا بشرط التوبة من الكفر، فمنعه اللّه منه، و أخبره بأنّهم لا يؤمنون أبدا، فلا فائدة في الاستغفار لهم.

و اللّه أعلم.

ذلِكَ أي: اليأس من المغفرة و عدم جواز استغفارك ليس لبخل منّا، و لا قصور فيك، بل بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ بسبب الكفر الصارف عنها وَ اللَّهُ لا

ص: 144


1- خبر ل «ما قيل» قبل أسطر.

يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المتمرّدين في كفرهم. و هو كالدليل على الحكم السابق، فإنّ مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر و الإرشاد إلى الحقّ، و المنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقلع و لا يهتدي. و يجوز أن يكون ذلك تنبيها على عذر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في استغفاره، و هو عدم يأسه عن إيمانهم ما لم يعلم أنّهم مطبوعون على الضلالة، و الممنوع هو الاستغفار بعد العلم، لقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (1).

[سورة التوبة [9]: الآيات 81 الى 83]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [81] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا

يَكْسِبُونَ [82] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [83]

ثمّ أخبر سبحانه عن المنافقين المخلّفين عن تبوك و ابتهاجهم بذلك، فقال:

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي: الّذين خلّفهم النبيّ و لم يخرجهم معه إلى تبوك، لأنّهم استأذنوه في التأخّر فأذن لهم، ففرحوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ بقعودهم عن

ص: 145


1- التوبة: 113.

الغزو خلفه. يقال: أقام خلاف الحيّ، أي بعدهم. و يجوز أن يكون بمعنى المخالفة، لأنّهم خالفوه حيث قعدوا، فيكون انتصابه على العلّة أو الحال، أي: قعدوا عن تبوك لمخالفة رسول اللّه، أو مخالفين.

وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيثارا للدعة و الراحة على طاعة اللّه. و فيه تعريض بالمؤمنين الّذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال و المهج وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي: قال بعضهم لبعض، أو قالوه للمؤمنين تثبيطا و إقعادا عن الجهاد. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ الّتي وجبت لهم بالتخلّف عن أمر اللّه أَشَدُّ حَرًّا من هذا الحرّ بمراتب غير متناهية، و قد آثرتموها بهذه المخالفة لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن مآبهم إليها، أو أنّها كيف اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.

ثمّ أخبر عمّا يئول إليه حالهم في الدنيا و الآخرة: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنّه حتم واجب. و يجوز أن يكون الضحك و البكاء كنايتين عن السرور و الغمّ. و المراد من القلّة العدم.

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فإن ردّك إلى المدينة و فيها طائفة من المتخلّفين، يعني: منافقيهم، فإنّ كلّهم لم يكونوا منافقين، أو من بقي

منهم، و كان المتخلّفون اثني عشر رجلا أو ثمانية عشر فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة اخرى بعد تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إخبار في معنى النهي للمبالغة إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ تعليل له. و كان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلّفهم. و أوّل مرّة هي الخرجة إلى غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي: المتخلّفين، لعدم لياقتكم للجهاد، كالنساء و الصبيان.

ص: 146

[سورة التوبة [9]: الآيات 84 الى 85]

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ [84] وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ [85]

روي أنّ ابن أبيّ المنافق دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرضه، فلمّا دخل عليه سأله أن يستغفر له، و يكفّنه في شعاره الّذي يلي جسده و يصلّي عليه، فلمّا مات أرسل قميصه ليكفّن فيه، و ذهب ليصلّي عليه، فأخذ جبرئيل بثوبه و تلا عليه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً

يعني: الموت على الكفر و النفاق.

و اعلم أنّ «مات» وقع صفة للنكرة و هو «أحد». و أتى بصيغة الماضي، و إن كان متعلّق النهي مستقبلا، نظرا إلى وقت إيقاع الصلاة، فإنّه بعد الموت، فيكون الموت ماضيا بالنسبة إليه.

و إنّما قال: «أبدا» و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس بأبديّ، لأنّ المراد: لا تصلّ أنت و لا أمّتك أبدا، أو يكون المراد أنّهم لا يستحقّون الصلاة أبدا لكفرهم. و الأولى أنّه قيّده بالثانية قطعا لأطماعهم في ذلك،

أو قطعا لتجويز النسخ. و في بعض الروايات أنّه صلّى عليه، فقال له عمر: أ تصلّي على عدوّ اللّه؟ فقال له: «و ما يدريك ما قلت؟ فإنّي قلت: اللّهمّ احش قبره نارا، و سلّط عليه الحيّات و العقارب».

و إنّما لم ينه عن التكفين في قميصه و نهي عن الصلاة عليه، لأنّ الضنّة بالقميص كان مخلّا بالكرم، و لأنّه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر.

روي أنّه قيل له: لم وجّهت إليه بقميصك و هو كافر؟ فقال: إنّ قميصي لن يغني عنه من اللّه شيئا، و إنّي أؤمّل من اللّه تعالى أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب. فيروى أنّه أسلم ألف من الخزرج.

ص: 147

وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ و لا تقف عند قبره للدفن، أو للزيارة و الدعاء.

روي: أنّه عليه السّلام كان إذا صلّى على ميّت وقف على قبره ساعة يدعو له، فنهي عن الأمرين في المنافقين بسبب كفرهم باللّه و موتهم على النفاق،

كما قال عزّ و جلّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ تعليل للنهي. و الفسق هنا الكفر، لأنّه أعمّ منه، و يجوز إطلاق العامّ على الخاصّ.

وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ كرّر للتأكيد. و الأمر حقيق به، فإنّ الأبصار طامحة إلى الأموال و الأولاد، و النفوس مغتبطة عليها. و يجوز أن تكون هذه في فريق غير الأوّل.

[سورة التوبة [9]: الآيات 86 الى 89]

وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ [86] رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ

[87] لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [88] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [89]

ثمّ بيّن سبحانه تمام أخبار المنافقين، فقال: وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن. و يجوز أن يراد بها بعضها، كما يقع القرآن و الكتاب على كلّه و على بعضه.

أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ بأن آمنوا. و يجوز أن تكون «أن» المفسّرة. وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ

ص: 148

اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ذووا الفضل و السعة، من: طال عليه طولا وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الّذين قعدوا عن الحرب.

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مع النساء. جمع خالفة. و قد يقال: الخالفة للّذي لا خير فيه. وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلانا و تخلية فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ما في الجهاد و موافقة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من السعادة، و ما في التخلّف عنه من الشقاوة.

لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي: إن تخلّف هؤلاء و لم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين: النصر و الغنيمة في الدنيا، و الجنّة و الكرامة في الآخرة. و قيل: الحور، لقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (1). و هي جمع خيرة تخفيف خيّرة. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطالب.

ثمّ بيّن ما لهم من الخيرات الأخرويّة بقوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[سورة التوبة [9]: آية 90]

وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [90]

روي أنّ أسدا و غطفان استأذنوا في التخلّف، معتذرين بالجهد و كثرة العيال، فنزلت فيهم: وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في التخلّف. و قيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت طيّ على أهالينا و مواشينا.

و المعذّر إمّا من: عذّر في الأمر إذا قصّر فيه موهما أنّ له عذرا و لا عذر له، أو من: اعتذر إذا مهّد العذر، بإدغام التاء في الذال و نقل حركتها إلى العين. و قرأ

ص: 149


1- الرحمن: 70.

يعقوب: المعذرون.

وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ نزل في غيرهم، و هم منافقوا الأعراب كذبوا اللّه و رسوله في ادّعاء الايمان. و إن كانوا هم الأوّلين فكذبهم بالاعتذار.

سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من الأعراب أو من المعذّرين، فإنّ منهم من اعتذر لكسله لا لكفره عَذابٌ أَلِيمٌ بالقتل و النار.

[سورة التوبة [9]: الآيات 91 الى 93]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [91] وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [92] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [93]

قيل: إنّ عبد اللّه بن أمّ مكتوم- و كان ضرير البصر- جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا نبيّ اللّه إنّي شيخ ضرير خفيف الحال خفيف الجسم و ليس لي قائد، فهل لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبيّ صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ

هم الّذين قوّتهم ناقصة بالزمانة و العجز، كالهرمى (1) وَ لا عَلَى الْمَرْضى هم أصحاب العلل المانعة من الخروج وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما

ص: 150


1- جمع الهرم، و هو الضعيف البالغ أقصى الكبر.

يُنْفِقُونَ لفقرهم، كجهينة و مزينة و بني عذرة حَرَجٌ إثم في التأخّر إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ خلصوا للّه و لرسوله بالإيمان و الطاعة في السرّ و العلانية، كما يفعل الموالي الناصح، أو بما قدروا عليه فعلا أو قولا يعود على الإسلام و المسلمين بالصلاح.

ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح، و لا إلى معاتبتهم سبيل المؤاخذة. و إنّما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنّهم منخرطون في سلك المحسنين، غير معاتبين لذلك. وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم أو للمسي ء، فكيف المحسن؟!

روي أنّ سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، و صخر بن خنساء، و عبد اللّه بن كعب، و سالم بن عمير، و ثعلبة بن غنمة، و عبد اللّه بن مغفل، و علية بن زيد، أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالوا: نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرفوعة و النعال المخصوفة نغز معك. فقال: لا أجد. فتولّوا و هم يبكون.

فنزلت فيهم:

وَ لا عَلَى الَّذِينَ عطف على الضعفاء، أو على المحسنين إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ أي: جاؤا يسألونك مركبا يركبونه فيخرجون معك إلى الجهاد، إذ ليس معهم من الأموال و الظهر ما يمكنهم للخروج في سبيل اللّه قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من الكاف في أتوك بإضمار «قد» تَوَلَّوْا جواب «إذا» أي: رجعوا عنك وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي:

من دمعها، فإنّ «من» للبيان، و هي مع المجرور في محلّ النصب على التمييز. و هذا ابلغ من: يفيض دمعها، لأنّه يدلّ على أنّ العين جعلت كأنّ كلّها دمعا فيّاضا حَزَناً نصب على العلّة أو الحال أو المصدر لفعل دلّ عليه ما قبله أَلَّا يَجِدُوا متعلّق ب «حزنا» أو ب «تفيض» على تقدير اللام، أي: لئلّا يجدوا ما يُنْفِقُونَ في مغزاهم.

عن الواقدي: أنّهم لمّا بكوا كثيرا حمل عثمان منهم رجلين، و العبّاس بن

ص: 151

عبد المطّلب رجلين، و يامين بن كعب النضري ثلاثة.

إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ واجدون الأهبة رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر، كأنّه قيل: ما بالهم استأذنوا و هم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة و الانتظام في سلك الخوالف إيثارا للدعة وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلانا و تخلية حتّى غفلوا عن وخامة العاقبة فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ عاقبته في التخلّف.

[سورة التوبة [9]: الآيات 94 الى 96]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [94] سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [95] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [96]

قيل: إنّ ثمانين رجلا من المنافقين، منهم جدّ بن قيس و معتب بن قشير، اعتذروا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تخلّفهم لمّا قدم راجعا من تبوك، فقال: لا تجالسوهم و لا تكلّموهم، فنزلت: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ

في التخلّف بالأباطيل إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من هذا السفر قُلْ لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة، لأنّه لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدّقكم، لأنّه قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ أعلمنا بالوحي مِنْ أَخْبارِكُمْ بعض أخباركم، و هو

ص: 152

ما في ضمائركم من الشرّ و الفساد وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ أ تتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه؟ فكأنّه استتابة و إمهال للتوبة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أي: إليه، فوضع الوصف موضع الضمير، للدلالة على أنّه مطّلع على سرّهم و علنهم، لا يفوت عن علمه شي ء من ضمائرهم و أعمالهم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالتوبيخ و العقاب عليه.

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عن جرمهم، فلا تعاتبوهم و لا تعنّفوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض ردّ و إنكار و تكذيب، فلا توبّخوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ نجس كالشي ء الخبيث الّذي يجب الاجتناب عنه، فاجتنبوهم كما تجتنب الأنجاس، فإنّه لا ينفع فيهم التوبيخ و التعيير، فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة، و هؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، فهو علّة الإعراض و ترك المعاتبة وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل، و كأنّه قال: إنّهم أرجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ و العتاب في الدنيا و الآخرة. أو تعليل ثان، و المعنى: أنّ النار كفتهم عتابا، فلا تتكلّفوا عتابهم جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يجوز أن يكون مصدرا، و أن يكون علّة.

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم، فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي: فإنّ رضاكم لا يستلزم رضا اللّه، و رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط اللّه تعالى و عقابه. أو إن أمكنهم أن يلبسوا

عليكم، لا يمكنهم أن يلبسوا على اللّه تعالى، فلا يهتك سترهم، و لا ينزل الهوان بهم. و المقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم و الاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض و عدم الالتفات نحوهم.

و في هذه الآية دلالة على أنّ من طلب بفعله رضا الناس و لم يطلب رضا اللّه تعالى، فإنّ اللّه يسخط الناس عليه، كما

جاء في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

ص: 153

«من التمس رضا اللّه بسخط الناس رضي اللّه عنه و أرضى عنه الناس، و من التمس رضا الناس بسخط اللّه سخط اللّه عليه و أسخط عليه الناس».

[سورة التوبة [9]: الآيات 97 الى 99]

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [97] وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [98] وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [99]

و لمّا تقدّم ذكر المنافقين بيّن سبحانه أنّ الأعراب منهم أشدّ في ذلك و أكثر جهلا، فقال: الْأَعْرابُ أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً من أهل الحضر، لتوحّشهم و قساوتهم، و عدم مخالطتهم لأهل العلم، و قلّة استماعهم للكتاب و السنّة وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا و أحقّ و أحرى بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الشرائع، فرائضها و سننها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ يعلم حال كلّ أحد من أهل الوبر و المدر حَكِيمٌ فيما يصيب به مسيئهم و محسنهم عقابا و ثوابا.

وَ مِنَ الْأَعْرابِ و من منافقي الأعراب مَنْ يَتَّخِذُ يعدّ ما يُنْفِقُ يصرفه في سبيل اللّه و يتصدّق به مَغْرَماً غرامة و خسرانا، و لا يحتسبه عند اللّه تعالى، و لا يرجو عليه ثوابا، و إنّما ينفق رياء أو تقيّة من أهل الإسلام، لا

ص: 154

لوجه اللّه وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان و حوادث الأيّام و عواقب الأمور من نوب الشدائد، لينقلب الأمر عليكم، و تذهب غلبتكم عليه، فيتخلّص من الإنفاق.

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربّصون، من قبيل:

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا (1). أو بالإخبار عن وقوع ما يتربّصون عليهم. و الدائرة في الأصل مصدر، أو اسم فاعل من: دار يدور. و سمّي به عقبة الزمان. و السّوء بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة، كقولك: رجل صدق. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: السّوء، هنا و في الفتح (2) بضمّ السين، و هو العذاب.

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون عند الإنفاق عَلِيمٌ بما يضمرون. قيل: هم أعراب أسد و غطفان و تميم.

ثمّ بيّن سبحانه من الأعراب المؤمنين المخلصين، فقال: وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ سبب قربات. و هي ثاني مفعولي «يتّخذ» عِنْدَ اللَّهِ صفتها، أو ظرف ل «يتّخذ» وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ و سبب صلواته، لأنّه كان يدعو للمتصدّقين بالخير و البركة و يستغفر لهم،

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى، لمّا أتاه أبو أوفى بصدقته.

أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ تقرّبهم إلى ثواب اللّه. و هذا شهادة من اللّه تعالى بصحّة معتقدهم، و تصديق لرجائهم على الاستئناف، مع حرف التنبيه، و «إنّ» المحقّقة للنسبة، و الضمير لنفقتهم. و قرأ ورش: قربة بضمّ الراء. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم. و السين لتحقيقه. و قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لتقريره. و هذه الآية في عبد اللّه ذي البجادين و رهطه.

ص: 155


1- المائدة: 64.
2- الفتح: 6.

[سورة التوبة [9]: آية 100]

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [100]

و لمّا تقدّم ذكر الأعراب بقسميهم، عقّبه بذكر السابقين إلى الايمان، فقال:

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ أي: السابقون إلى الايمان و إلى الطاعات. و إنّما مدحهم بالسبق لأنّ السابق إلى شي ء يتبعه غيره، فيكون متبوعا و غير تابع له، فهو إمام فيه و داع إلى الخير بسبقه إليه، و كذلك من سبق إلى الشرّ يكون أسوأ حالا لهذه العلّة.

مِنَ الْمُهاجِرِينَ من الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة و إلى الحبشة.

و هؤلاء السابقون هم الّذين صلّوا إلى القبلتين. و قيل: الّذين شهدوا بدرا، أو الّذين أسلموا قبل الهجرة.

وَ الْأَنْصارِ الّذين سبقوا نظراءهم من أهل المدينة إلى الإسلام. و هم أهل بيعة العقبة الأولى، و كانوا سبعة أو اثني عشر رجلا، و أهل العقبة الثانية، و كانوا سبعين. و الّذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير، فعلّمهم القرآن.

وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ لحقوا بالسابقين من القبيلتين، أو من اتّبعوهم بالإيمان و الطاعة إلى يوم القيامة.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم و ارتضاء أعمالهم وَ رَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدينيّة و الدنيويّة وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ. و قرأ ابن كثير: من تحتها، كما هو في سائر المواضع.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي يصغر في جنبه كلّ نعيم.

قال في المجمع: «و في هذه الآية دلالة على فضل السابقين و مزيّتهم على

ص: 156

غيرهم، لما لحقهم من أنواع المشقّة في نصرة الدين، فمنها مفارقة العشائر و الأقربين، و منها مباينة المألوف من الدين، و منها نصرة الإسلام مع قلّة العدد و كثرة العدوّ، و منها السبق إلى الايمان و الدعاء إليه.

و اختلف في أوّل من أسلم من المهاجرين. قيل: أوّل من آمن خديجة بنت خويلد، ثمّ عليّ بن أبي طالب. و هو قول ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه، و أنس، و زيد بن أرقم، و مجاهد، و قتادة، و ابن إسحاق، و غيرهم.

و قال أنس: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الاثنين، و أسلم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و صلّى خلف رسول اللّه يوم الثلاثاء.

و قال مجاهد و ابن إسحاق: إنّه أسلم و هو ابن عشر سنين، و كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أخذه من أبي طالب و ضمّه إلى نفسه يربّيه في حجره، و كان معه حتّى بعث نبيّا.

و قال الكلبي: إنّه أسلم و له تسع سنين. و قيل: اثنتا عشرة سنة، عن أبي الأسود. قال السيّد أبو طالب الهروي: و هو الصحيح.

و في تفسير الثعلبي روى إسماعيل بن أياس بن عفيف، عن أبيه، عن جدّه عفيف، قال: كنت امرءا تاجرا فقدمت مكّة أيّام الحجّ، فنزلت على العبّاس بن عبد المطّلب، و كان العبّاس لي صديقا، و كان يختلف إلى اليمن يشتري العطر فيبيعه أيّام الموسم. فبينما أنا و العبّاس بمنى إذ جاء رجل شابّ حين حلّقت

(1) الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء، ثمّ استقبل الكعبة فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشابّ فركع الغلام و المرأة، فخرّ الشابّ ساجدا فسجدا معه، فرفع الشابّ فرفع الغلام و المرأة..

ص: 157


1- أي: ارتفعت.

فقلت: يا عبّاس أمر عظيم.

فقال: أمر عظيم.

فقلت: ويحك ما هذا؟

فقال: هذا ابن أخي محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب يزعم أنّ اللّه بعثه رسولا، و أنّ كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه، و هذا الغلام عليّ بن أبي طالب، و هذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمّد، تابعاه على دينه، و أيم اللّه ما على ظهر الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء.

فقال عفيف الكندي بعد ما أسلم و رسخ الإسلام في قلبه: يا ليتني كنت رابعا.

و روي أنّ أبا طالب قال لعليّ عليه السّلام: أي: بنيّ ما هذا الدين الّذي أنت عليه؟

قال: يا أبة آمنت باللّه و رسوله، و صدّقته فيما جاء به، و صلّيت معه للّه. فقال له: ألا إنّ محمّدا لا يدعو إلّا إلى خير فالزمه.

و روى عبيد اللّه بن موسى، عن العلاء بن صالح، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد اللّه، قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: «أنا عبد اللّه و أخو رسوله، و أنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلّا كذّاب مفتر، صلّيت قبل الناس سبع سنين».

و في مسند السيّد أبي طالب الهروي مرفوعا إلى أبي أيّوب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «صلّت الملائكة عليّ و على عليّ سبع سنين، و ذلك أنّه لم يصلّ فيها أحد غيري و غيره».

و قيل: إنّ أوّل

من أسلم بعد خديجة أبو بكر. عن إبراهيم النخعي. و قيل: أوّل من أسلم بعدها زيد بن حارثة. عن الزهري و سليمان بن يسار و عروة بن أبي الزبير.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني (1) بإسناده مرفوعا إلى عبد الرحمن بن .

ص: 158


1- شواهد التنزيل 1: 333 ح 342.

عوف في قوله تعالى: «وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ» قال: «هم عشرة من قريش، أوّلهم إسلاما عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (1).

[سورة التوبة [9]: آية 101]

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ [101]

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المنافقين، فقال: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ من جملة من حول بلدتكم، يعني: المدينة مِنَ الْأَعْرابِ الّذين يسكنون البدو مُنافِقُونَ و هم جهينة و مزينة و أسلم و أشجع و غفار، كانوا نازلين حولها وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على خبر المبتدأ الّذي هو «ممّن حولكم». و يجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ و الخبر إذا قدّرت: و من أهل المدينة قوم. مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي تمرّنوا على النفاق، من قولهم: مرن فلان على عمله و مرد عليه، إذا درب به حتّى لان عليه و مهر فيه. فعلى الوجه الأخير «مردوا» صفة موصوف محذوف. و نظيره في حذف الموصوف و إقامة الصفة مقامه، قوله: أنا ابن جلا و طلّاع الثنايا، أي: أنا ابن رجل جلا و وضح أمره. و على الأوّل صفة للمنافقين فصّل بينها و بينه بالمعطوف على الخبر، أو كلام مبتدأ لبيان تمرّنهم و تمهّرهم في النفاق.

و دلّ على مهارتهم في النفاق قوله: لا تَعْلَمُهُمْ لا تعرفهم بأعيانهم، أي:

مهارتهم فيه و تنوّقهم في

تحامي مواقع التهم إلى حدّ أخفى عليك حالهم، مع كمال فطنتك و صدق فراستك.

ص: 159


1- مجمع البيان 5: 64- 65.

ثمّ قال: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ لا يعلمهم إلّا اللّه المطّلع على البواطن، لأنّهم يبطنون الكفر في ضمائرهم، و يظهرون لك الايمان و ظاهر الإخلاص الّذي لا تشكّ في أمرهم، فهم و إن لبسوا عليك لكن لم يقدروا أن يلبسوا علينا.

سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة و القتل على أيدي الملائكة، أو بأحدهما و عذاب القبر، أو بأخذ الزكاة و نهك الأبدان.

عن ابن عبّاس أنّهم اختلفوا في هاتين المرّتين فقال: قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطيبا يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان فإنّك منافق، اخرج يا فلان فإنّك منافق، و أخرج ناسا و فضحهم، فهذا العذاب الأوّل، و الثاني عذاب القبر.

ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو عذاب النار.

[سورة التوبة [9]: آية 102]

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [102]

روي أنّ ثلاثة من المتخلّفين و هم: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر و أوس بن ثعلبة و وديعة بن حزام، أو عشرة، و قيل: سبعة منهم هؤلاء الثلاثة، لمّا سمعوا ما نزل في المتخلّفين عن تبوك أيقنوا بالهلاك، و أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد توبة و ندما على فعلهم، و كان سبب تأخّرهم اشتغالهم بإصلاح أموالهم. فقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخل المسجد فصلّى ركعتين، و كانت عادته كلّما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم، فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الّذي يحلّهم. فقال: و أنا أقسم أن لا أحلّهم حتّى اومر فيهم، فنزلت:

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

و لم يعتذروا من تخلّفهم بالمعاذير الكاذبة خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً أي: خلطوا العمل الصالح الّذي هو إظهار الندم و الاعتراف بالذنب، بآخر سيّ ء هو التخلّف و موافقة أهل النفاق. و الواو إما بمعنى الباء، كما في قولهم: بعت الشاء شاة و درهما، أي: بدرهم، أو واقعة بمعناه الأصلي

ص: 160

للدلالة على أنّ كلّ واحد منهما مخلوط بالآخر، كما تقول: خلطت الماء و اللبن، تريد خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه، و فيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن، لأنّك جعلت الماء مخلوطا و اللبن مخلوطا به، و إذا قلته بالواو جعلت الماء و اللبن مخلوطين و مخلوطا بهما، كأنّك قلت: خلطت الماء باللبن و اللبن بالماء.

و فيه دلالة على بطلان القول بالإحباط، لأنّه لو كان أحد العملين محبطا لم يكن لقوله: «خلطوا» معنى، لأنّ الخلط يستعمل في الجمع مع امتزاج، كخلط الماء و اللبن، و بغير امتزاج، كخلط الدنانير و الدراهم.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أن يقبل توبتهم. و هي مدلول عليها بقوله:

«اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ». إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب و يتفضّل عليه.

[سورة التوبة [9]: الآيات 103 الى 105]

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [103] أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [104] وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [105]

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية أطلقهم رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنفسه النفيسة، و لمّا أطلقوا قالوا: يا رسول اللّه هذه أموالنا الّتي خلّفتنا فتصدّق بها و طهّرنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فنزلت: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ

من الذنوب، أو حبّ المال المؤدّي بهم إلى مثله. و الفعل صفة للصدقة، أي: صدقة مطهّرة. و يجوز

ص: 161

أن يكون التاء للخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي: تطهّرهم أنت.

وَ تُزَكِّيهِمْ بِها و تنمي بها حسناتهم، و ترفعهم إلى منازل المخلصين. و قيل:

التزكية بمعنى التطهير تأكيدا. و لا شبهة أنّ التأسيس أولى. و إنّما لم يجزم الفعلين ليكون جوابا للأمر، لأنّ في جعلهما صفتين فائدة زائدة، و هي أنّ المأمور أخذ صدقة مطهّرة، و هي الّتي تكون عن طيب نفس و انشراح صدر بنيّة خالصة، لا مطلق الصدقة، و مع الجزم لا يفيد إلّا مطلق الصدقة. فعلى هذا تكون التاء للخطاب.

وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ و ترحّم عليهم بالدعاء لهم بقبول صدقاتهم و الاستغفار لهم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ هو ما يسكن إليه. و المراد أنّهم تسكن إليها نفوسهم، و تطمئنّ بها قلوبهم، و تطيب بقبول صدقتهم. و جمعها لتعدّد المدعوّ لهم. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالتوحيد. وَ اللَّهُ سَمِيعٌ باعترافهم بذنوبهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من الندم و الغمّ لما فرط منهم.

و الأمر للوجوب عند أكثر أصحابنا، و عند آخرين للندب. و هذه مسألة أصوليّة، من أراد تحقيقها فليرجع إلى الكتب الأصوليّة. و هذا الحكم ثابت في أئمّتنا عليهم السّلام القائمين مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل في الفقير و الساعي، للتاسّي، و لجريان علّة الصلاة فيهم،

و هي تطييب النفوس و طمأنينة القلوب.

قال الزهري بعد ذكر ما تقدّم: قال أبو لبابة: يا رسول اللّه إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها الذنب، و أنا انخلع من مالي كلّه. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

يجزيك يا أبا لبابة الثلث. فأخذ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثلث أموالهم و ترك الثلثين،

لأنّ اللّه تعالى قال: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ» و لم يقل: خذ أموالهم.

و عن الحسن: المراد بها الأمر بأن يأخذ الصدقة من أموال هؤلاء التائبين تشديدا للتكليف، و ليست بالصدقة المفروضة، بل هي على سبيل الكفّارة للذنوب الّتي أصابوها.

ص: 162

و عن الجبّائي و أكثر المفسّرين أنّ المراد بهذه الصدقة الصدقة المفروضة، أعني: الزكاة. و هو الظاهر، لأنّ حمله على الخصوص بغير دليل لا وجه له، فيكون أمرا بأن يأخذ من المالكين للنصاب الزكاة من الورق إذا بلغ مائتي درهم، و من الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا، و من الإبل إذا بلغ خمسا، و من البقر إذا بلغت ثلاثين، و من الغنم إذا بلغت أربعين، و من الغلّات الأربع إذا بلغت خمسة أوسق.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا الضمير إمّا للمتوب عليهم، و الهمزة للتقرير و التنبيه على وجوب علمهم بأنّ اللّه تعالى هو يقبل التوبة، و هو الّذي يأخذ الصدقة. و المعنى: ألم يعلموا قبول توبتهم- قبل أن يتوب عليهم و تقبل صدقاتهم- و الاعتداد بصدقاتهم.

أو الضمير لغيرهم، و المراد به التحضيض عليهما.

أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إذا صحّت. و تعديته ب «عن» لتضمّنه معنى التجاوز. وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها إذا صدرت عن خلوص النيّة، قبول من يأخذ شيئا ليؤدّي بدله وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ

التَّوَّابُ الرَّحِيمُ و أنّ من شأنه قبول توبة التائبين و التفضّل عليهم.

و يجوز أن تكون الهمزة للإنكار لعدم علمهم، و ذلك أنّهم لمّا سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأخذ أموالهم و يقبل توبتهم كما تقدّم ذكره، و لم يعلموا أنّه لا يقبل التوبة غير اللّه و لا يأخذ الصدقة إلّا هو، أنكر ذلك عليهم. و فائدة لفظ «هو» للحصر، أي: لا يقبل إلّا هو.

و في الآية من المبالغة في وجوب العلم بقبول التوبة و أخذ الصدقة، و أنّه كثير القبول للتوبة و رحيم بعباده، ما يظهر لمن تدبّر تركيبها بإيراد الاستفهام بالمعنيين المذكورين، و إردافه بالعلم، ثمّ الإتيان بالجملة المؤكّدة ب «أنّ» و أداة الحصر، و ذلك غاية رأفته بعباده و رحمته لهم.

وَ قُلِ اعْمَلُوا ما شئتم فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فإنّه لا يخفى عليه، خيرا كان

ص: 163

أو شرّا وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ فإنّه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم و تبيّن لكم.

و إنّما أدخل السين لأنّ ما لم يحدث لا تتعلّق به الرؤية، فكأنّه قال: كلّ ما تعملونه يراه اللّه تعالى. و قيل: أراد بالمؤمنين الشهداء. و قيل: الملائكة الّذين هم الحفظة الّذين يكتبون الأعمال. و روى أصحابنا أنّ أعمال الأمّة تعرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ اثنين و خميس فيعرفها، و كذلك تعرض على أئمّة الهدى عليهم السّلام القائمين مقامه فيعرفونها،

و هم المعنيّون بقوله: «و المؤمنون». وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ بالموت فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة عليه.

[سورة التوبة [9]: آية 106]

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [106]

روي أنّ كعب بن مالك

و هلال بن أميّة و مرارة بن الربيع- و هم من الأوس و الخزرج- لمّا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم من تبوك، أتوا عنده و قالوا: يا رسول اللّه ما لنا من عذر، و لم نعتذر إليك بالكذب، و إنّما تخلّفنا توانيا عن الاستعداد حتّى فاتنا المسير. فقال: صدقتم قوموا حتّى يقضي اللّه حكمه. فنهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكالمتهم، و أمر نساءهم باعتزالهم، حتّى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. فأقاموا على ذلك خمسين ليلة، و بنى كعب خيمة على سلع (1) يكون فيها وحده.

فنزلت فيهم:

وَ آخَرُونَ من المتخلّفين مُرْجَوْنَ مؤخّرون، أي: موقوف أمرهم، من: أرجأته إذا أخّرته. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص: مرجون بالواو. و هما لغتان (2). لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إن بقوا على الإصرار على النفاق

ص: 164


1- السلع: جبل بالمدينة.
2- أي: قراءة مرجئون بالهمز و مرجون.

و لم يتوبوا وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن تابوا. و الترديد للعباد. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيما يفعل بهم. و لمّا أخلصوا نيّاتهم و فوّضوا أمرهم إلى اللّه تعالى رحمهم و قبل توبتهم. و تصدّق كعب بثلث ماله شكرا للّه على توبته.

و في هذه الآية دلالة على صحّة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة، لأنّه سبحانه بيّن أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى اللّه، إن شاء عذّبهم و إن شاء قبل توبتهم، فعفا عنهم. و يدلّ أيضا على أنّ قبول التوبة تفضّل من اللّه سبحانه، لأنّه لو كان واجبا لما جاز تعليقه بالمشيئة.

[سورة التوبة [9]: الآيات 107 الى 110]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ

الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [107] لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [108] أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [109] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [110]

قال المفسّرون: إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا، و بعثوا إلى رسول

ص: 165

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأتيهم، فأتاهم و صلّى فيه. فحسدهم إخوتهم المتخلّفون، و هم بنو غنم بن عوف، و كانوا من المنافقين، فقالوا: نبني مسجدا فيصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل و الزيادة على إخوتهم، و هو الّذي

سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفاسق.

و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمّا انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام، و أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة و سلاح، فإنّي ذاهب إلى قيصر و آت بجنود، و مخرج محمّدا و أصحابه من المدينة.

و كانوا اثني عشر رجلا. و قيل: خمسة عشر رجلا، منهم ثعلبة بن حاطب، و معتب بن قشير، و نبتل بن الحارث.

فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد

قبا، فلمّا فرغوا منه أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلّة و الحاجة و الليلة المطيرة و الليلة الشاتية، و إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه و تدعو لنا بالخير و البركة. فقال: إنّي على جناح سفر، و لو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم فيه.

فلمّا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك نزلت:

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً عطف على «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ». أو مبتدأ خبره محذوف، أي: و ممّن وصفنا الّذين اتّخذوا. أو منصوب على الاختصاص. و قرأ نافع و ابن عامر بغير واو. ضِراراً مضارّة للمؤمنين وَ كُفْراً و تقوية للكفر الّذي يضمرونه وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يريد الّذين كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قبا وَ إِرْصاداً ترقّبا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يعني: الراهب مِنْ قَبْلُ متعلّق ب «حارب» أي: لأجل من حارب اللّه و رسوله من قبل أن يتّخذوا المسجد، أو ب «اتّخذوا» أي: اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلّف.

قيل: أبو عامر كان قد ترهّب في الجاهليّة و لبس المسوح (1)، فلمّا قدم

ص: 166


1- المسوح جمع المسح، و هو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن زهدا و تقشّفا.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة حسده، و جمع الجيوش عليه يوم الأحزاب، فلمّا انهزموا خرج إلى الشام و لحق إلى الروم فتنصّر، و مات بقنّسرين وحيدا.

وَ لَيَحْلِفُنَ يعني: هؤلاء المنافقين إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ما أردنا ببنائه إلّا الخصلة الحسنى، أو لإرادة الحسنى، و هي الصلاة و الذكر و التوسعة على المصلّين وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم.

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً للصّلاة لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى يعني: مسجد قبا أسّسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلّى فيه أيّام مقامه بقبا من الاثنين إلى الجمعة. و قبا اسم قرية من قرى المدينة. و هذا أوفق للقصّة. و قيل: إنّه مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

لقول أبي سعيد: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه فقال: هو مسجدكم هذا مسجد المدينة.

مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيّام وجوده. و «من» يعمّ الزمان و المكان. أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أولى بأن تصلّي فيه فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من المعاصي و الخصال المذمومة طلبا لمرضاة اللّه. و قيل: من الجنابة، فلا ينامون عليها. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ يرضى عنهم و يدنيهم من جنابه إدناء المحبّ حبيبه.

و بعد نزول الآية عند قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك دعا بمالك بن الدخشم و معن بن عدي و عامر بن السكن و وحشي فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه و أحرقوه، ففعل و اتّخذ مكانه كناسة.

قيل: لمّا نزلت مشى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا، فإذا الأنصار جلوس، فقال: أ مؤمنون أنتم؟ فسكتوا، فأعادها.

فقال عمر: إنّهم مؤمنون و أنا معهم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ ترضون بالقضاء؟

قالوا: نعم.

قال: أ تصبرون على البلاء؟

ص: 167

قالوا: نعم.

قال: أ تشكرون في الرخاء؟

قالوا: نعم.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مؤمنون و ربّ الكعبة. فجلس ثمّ

قال: يا معشر الأنصار إنّ اللّه عزّ و جلّ قد أثنى عليكم فما الّذي تصنعون عند الوضوء و عند الغائط؟

فقالوا: يا رسول اللّه نتبع الغائط الأحجار الثلاث، ثم نتبع الأحجار الماء.

فتلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ».

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ بنيان دينه عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ على قاعدة محكمة، هي التقوى من اللّه تعالى و طلب مرضاته بالطاعة خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ على قاعدة هي أضعف القواعد و أرخاها و أقلّها بقاء، و هو الباطل. و الشفا: الشفير. و جرف الوادي: جانبه الّذي يتحفّر أصله بالماء و تجرفه السيول، فيبقى واهيا. و الهار: الهائر الّذي أشفى على السقوط و التهدّم. و وزنه فعل، قصر عن هائر، كخلف من خالف. و نظيره: شاك و صات في شائك و صائت. و ألفه ليس بألف فاعل. و أصله: هور و شوك و صوت.

و لمّا جعل الجرف مجازا عن الباطل قال: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ يوقعه ذلك البناء و يؤدّي به- لخوره (1) و قلّة استمساكه- إلى السقوط في النار. و إنّما وضع شفا الجرف- و هو ما جرفه الوادي الهائر- في مقابلة التقوى، تمثيلا لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان و سرعة الانطماس، ثمّ رشّحه بانهياره به في النار، فكأنّ المبطل أسّس بنيانا على شفير جهنّم فطاح به في قعرها. و وضعه في مقابلة الرضوان، تنبيها على أنّ تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار، و يوصله إلى رضوانه تعالى و مقتضياته الّتي الجنّة أدناها، و تأسيس هذا على ما هم بسببه على

ص: 168


1- خار خورا: فتر و ضعف و انكسر.

صدد الوقوع في النار ساعة فساعة، ثمّ إنّ مصيرهم إلى النار لا محالة.

و قرأ نافع و ابن عامر: اسّس على البناء للمفعول. و قرأ ابن عامر و حمزة و أبو بكر: جرف بالتخفيف.

و ملخّص معنى الآية: أنّ اللّه تعالى شبّه بنيانهم على نار جهنّم بالبناء على جانب نهر هذا صفته، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناؤه في الماء و لا يثبت، فكذلك بناء هؤلاء ينهار و يسقط في نار جهنّم. يعني: أنّه لا يستوي عمل المتّقي و عمل المنافق، فإنّ عمل المؤمن المتّقي ثابت مستقيم مبنيّ على أصل صحيح ثابت، و عمل المنافق ليس بثابت، بل واه ساقط.

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه صلاح و نجاة. روي عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: رأيت المسجد الّذي بنى ضرارا يخرج منه الدخان.

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا أي: بناؤهم الّذي بنوه. مصدر أريد به المفعول.

و ليس بجمع، و لذلك قد تدخله التاء، و وصف بالمفرد، و أخبر عنه بقوله: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: شكّا و نفاقا. و المعنى: أنّ بناءهم هذا لا يزال سبب شكّهم و تزايد نفاقهم، فإنّه حملهم على ذلك، ثمّ لمّا هدمه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسخ ذلك في قلوبهم و ازداد، بحيث لا يزول وسمه (1) عن قلوبهم. إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعا، و تفرّق أجزاء بحيث لا يبقى لها قابليّة الإدراك و الإضمار، و حينئذ يسلون عنه. و هذا في غاية المبالغة. و الاستثناء من أعمّ الأزمنة.

و قيل: المراد بالتقطّع ما هو كائن بالقتل، أو في القبر، أو في النار. و قيل:

التقطّع بالتوبة ندما و أسفا.

و قرأ يعقوب: إلى، بحرف الانتهاء- و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام-

و «تقطّع» بمعنى: تتقطّع. و هو قراءة ابن عامر و حمزة و حفص.

ص: 169


1- أى: علامته.

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بنيّاتهم حَكِيمٌ فيما أمر بهدم بنيانهم.

[سورة التوبة [9]: الآيات 111 الى 112]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [111] التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [112]

و لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و المنافقين عقّب سبحانه بالترغيب في الجهاد، فقال:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ عبّر سبحانه عن إثابتهم بالجنّة على بذلهم أنفسهم و أموالهم في سبيله بالاشتراء، و جعل الثواب ثمنا، و أعمالهم الحسنة مثمنا، تمثيلا لإثابته إيّاهم الجنّة على بذل أنفسهم و أموالهم في سبيله. عن الصادق عليه السّلام: «ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة، فلا تبيعوها إلّا بها».

يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ استئناف ببيان ما لأجله الشراء.

و قيل: «يقاتلون» في معنى الأمر. و قرأ حمزة و الكسائي بتقديم المبنيّ للمفعول.

و قد عرفت أنّ الواو لا توجب الترتيب، و أنّ فعل البعض قد يسند إلى الكلّ.

وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدر مؤكّد لما دلّ عليه الشراء، فإنّه في معنى الوعد، يعني: أنّ الوعد الّذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ

ص: 170

وَ الْقُرْآنِ أي: وعدا مذكورا فيهما كما أثبت في القرآن وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ مبالغة

في الإنجاز، و تقرير لكونه حقّا، أي: لا أحد أوفى بعهده من اللّه، لأنّ الخلف قبيح لا يقدم عليه كريم، فكيف بالكريم الغنيّ الّذي لا يجوز عليه فعل القبيح؟! فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ فافرحوا به غاية الفرح، فإنّه أوجب لكم عظائم المطالب، كما قال: وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و لا ترغيب في الجهاد أحسن و أبلغ منه.

ثمّ وصف اللّه تعالى المؤمنين الّذين اشترى منهم الأنفس و الأموال بأوصاف جليلة و نعوت جميلة، فقال: التَّائِبُونَ رفع على المدح، أي: هم التائبون الراجعون إلى طاعة اللّه، و المنقطعون إليه، النادمون على ما فعلوه من القبائح.

و المراد بهم المؤمنون المذكورون. و يجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف، تقديره:

التائبون من أهل الجنّة و إن لم يجاهدوا، لقوله: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى (1). أو خبره «العابدون» أي: التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال.

الْعابِدُونَ الّذين عبدوا اللّه مخلصين له الدين الْحامِدُونَ لنعمائه، أو لكلّ ما أصابهم من السرّاء و الضرّاء السَّائِحُونَ الصائمون،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سياحة أمّتي الصوم».

شبّهوا بذوي السياحة في الأرض من حيث إنّ الصوم يعوق عن الشهوات كالسياحة، أو لأنّه رياضة نفسانيّة يتوصّل بها إلى الاطّلاع على خفايا الملك و الملكوت، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم، أو الّذين يسيحون في الأرض فيعتبرون بعجائب اللّه. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في الصلاة.

الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإيمان و الطاعة وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن الشرك و المعاصي. و العاطف فيه للدلالة على أنّه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، كأنّه قال: الجامعون بين الوصفين. و أمّا العاطف في قوله تعالى:

ص: 171


1- الحديد: 10.

وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي: فيما بيّنه و عيّنه

من الحقائق و الشرائع، فللتنبيه على أنّ ما قبله مفصّل الفضائل و هذا مجملها. و قيل: للإيذان بأنّ التعداد قد تمّ بالسابع، من حيث إنّ السبعة هو العدد التامّ عندهم، و الثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه، و لذلك سمّي و او الثامنة.

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل. و وضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أنّ إيمانهم دعاهم إلى ذلك، و أنّ المؤمن الكامل من كان كذلك. و حذف المبشّر به للتعظيم، كأنّه قيل: و بشّرهم بما يجلّ عن إحاطة الأفهام و تعبير الكلام.

روى أصحابنا أنّ هذه صفات الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، لأنّه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها و كمالها غيرهم.

و لقي الزهري عليّ بن الحسين عليهما السّلام في طريق الحجّ فقال له: تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت على الحجّ، و اللّه سبحانه يقول: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الآية. فقال عليه السّلام: «أتمّ الآية الاخرى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... إلى آخرها، ثمّ قال:

إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ».

[سورة التوبة [9]: الآيات 113 الى 114]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [113] وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [114]

روي أنّ المسلمين قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا تستغفر لآبائنا الّذين ماتوا في

ص: 172

الجاهليّة؟ فأنزل اللّه سبحانه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ

أي: لا ينبغي لنبيّ و لا لمؤمن أن يطلب المغفرة و يدعو للكافر، و لا يصحّ

ذلك في حكم اللّه سبحانه. و هذا القول أبلغ من أن يقال: لا ينبغي للنبيّ، لأنّه يدلّ على قبحه و أنّ الحكمة تمنع منه، فلو قال: لا ينبغي، لم يدلّ على أنّ الحكمة تمنع منه، و إنّما كان يدلّ على أنّه لا ينبغي أن يختاره. فمعناه: لم يجعل اللّه في دينه و لا في حكمه أن يستغفروا للمشركين.

وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أقرب الناس إليهم في النسب، و دعتهم رقّة القرابة و شفقة الرحم إلى الاستغفار لهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي:

من بعد أن يعلموا أنّهم ماتوا على الشرك، فهم مستحقّون للخلود في النار، و يظهر أنّ لهم عذابا عظيما.

ثمّ بيّن سبحانه الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا، سواء كان أباه الّذي ولده كما قالت العامّة، أو جدّه لأمّه أو عمّه على ما رواه أصحابنا، فقال:

وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها أي: لم يكن استغفاره له إلّا صادرا عن موعدة وعدها إبراهيم إِيَّاهُ و هو قوله: لأستغفرنّ لك. و معناه:

لأطلبنّ لك التوفيق للإيمان الّذي هو سبب الإيمان الّذي يجبّ ما قبله. و يدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه. و قيل: صاحب الموعدة أبوه، فإنّه وعد إبراهيم أنّه يؤمن إن استغفر له، فاستغفر له لذلك.

فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ أي: أنّه مات مشركا، أو أوحي إليه بأنّه لا يفي بما وعد و لن يؤمن تَبَرَّأَ مِنْهُ و ترك الدعاء له. و القول الأوّل مرويّ عن ابن عبّاس، و منقول عن أبي جعفر عليه السّلام.

و الثاني مرويّ عن مجاهد و قتادة. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ يكثر التأوّه. و هو كناية عن فرط ترحّمه و رقّة قلبه. حَلِيمٌ

صبور على الأذى. و الجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع سوء خلقه معه، و استماع قوله:

ص: 173

«لأرجمنّك» منه.

و عن ابن عبّاس: الأوّاه بمعنى الدّعاء الكثير الدعاء و البكاء. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و عن كعب: أنّ الأوّاه هو الّذي إذا ذكر النار قال: أوّه. و روى عبد اللّه بن شدّاد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الأوّاه هو الخاشع المتضرّع.

[سورة التوبة [9]: آية 115]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [115]

روي: أنّ قوما من المسلمين ماتوا على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، فقال المسلمون: يا رسول اللّه إخواننا الّذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟

فنزلت: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً

أي: ليسمّيهم ضلّالا، و يؤاخذهم مؤاخذة الكفّار بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ حتّى يبيّن لهم حظر ما يجب اتّقاؤه، فقبل بيان ذلك لا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. و هذا دليل على أنّ الغافل غير مكلّف. و لا يخفى أنّ المراد بما يتّقون ما يجب اتّقاؤه للنهي، فأمّا ما يعلم بالعقل، كالصدق في الخبر وردّ الوديعة، فغير موقوف على النقل. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم أمرهم في الحالين.

[سورة التوبة [9]: آية 116]

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [116]

و لمّا منعهم عن الاستغفار للمشركين و إن كانوا أولي قربى، و تضمّن ذلك وجوب التبرّؤ عنهم رأسا، قال بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي

ص: 174

وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ ليبيّن لهم أنّ اللّه مالك كلّ موجود، و متولّي أمره و الغالب عليه، و لا يتأتّى لهم ولاية و لا نصرة إلّا منه، ليتوجّهوا بشراشرهم إليه، و يتبرّءوا عمّا عداه، حتّى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون و يذرون سواه.

[سورة التوبة [9]: الآيات 117 الى 118]

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [117] وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [118]

و لمّا ذكر سبحانه أنّ له ملك السموات و الأرض و ما بينهما، و لا متولّي و معطي نعمة و لا ناصر لأحد دونه، بيّن عقيبه رحمته بالمؤمنين و رأفته بهم في قبول توبتهم، فقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِ في ترك الأولى من إذن المنافقين في التخلّف قبل النهي عنه، كقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (1) وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ و تاب عليهما في المأثم.

و قيل: هو بعث على التوبة. و المعنى: ما من أحد إلّا و هو محتاج إلى

التوبة، حتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المهاجرين و الأنصار، لقوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً (2)

ص: 175


1- التوبة: 43.
2- النور: 31.

إذ ما من أحد إلّا و له مقام يستنقص دونه ما هو فيه، و الترقّي إليه توبة من تلك النقيصة، و إظهار لفضلها بأنّها مقام الأنبياء و الصالحين من عباده.

و قال في المجمع (1) و الجامع (2): «إنّما ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استفتاحا باسمه، و لأنّه سبب توبتهم، و إلّا فمن المعلوم أنّه لم يكن منه ما يوجب التوبة. و يؤيّده

أنّ الرضا عليه السّلام قرأ: لقد تاب اللّه بالنبيّ على المهاجرين و الأنصار.

الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ في وقتها. و قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق، كما تستعمل الغداة و العشيّة في اليوم. و المراد بالعسرة حالهم في غزوة تبوك، فإنّهم كانوا في عسرة المركب، حتّى يعتقب العشرة على بعير واحد.

و في عسرة الزاد، فإنّ زادهم الشعير المسوّس (3) و التمر المدوّد. و بلغت الشدّة بهم حتّى قيل: إنّ الرجلين كانا يقتسمان التمرة، ربّما مصّها جماعة ليشربوا عليها الماء.

و في عسرة من الماء في حمارّة (4) القيظ و الضيق الشديد من القحط، حتّى شربوا الفظّ، و هو ماء الكرش (5).

مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثبات على الجهاد و اتّباع الرسول في تلك الغزوة. و لم يرد بالزيغ هاهنا الزيغ عن الإيمان. و في «كاد» ضمير الشأن أو ضمير القوم. و العائد إليه الضمير في «منهم». و قرأ حمزة و حفص: يزيغ بالياء، لأنّ تأنيث القلوب غير حقيقيّ. قيل: إنّ قوما منهم همّوا بالانصراف عن غزاتهم

بغير استئذان، فعصمهم اللّه تعالى حتّى مضوا.

ص: 176


1- مجمع البيان 5: 80.
2- جوامع الجامع 1: 635.
3- المسوّس أي: الذي وقع فيه السوس. و هو دود يقع في الثياب و الشعير و الخشب و نحوها.
4- الحمارّة: شدّة الحرّ.
5- الكرش: هي لذي الخفّ و كلّ حيوان مجترّ بمنزلة المعدة للإنسان.

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتأكيد، و تنبيه على أنّه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تداركهم برأفته و رحمته.

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ و تاب اللّه على الثلاثة. و هم: كعب بن مالك، و هلال بن أميّة، و مرارة بن الربيع. الَّذِينَ خُلِّفُوا تخلّفوا عن الغزو، أو خلّف أمرهم، فإنّهم المرجون حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها، لإعراض الناس عنهم بالكلّيّة. و هو مثل لشدّة الحيرة، كأنّهم لا يجدون في الأرض موضع قرار وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ قلوبهم من فرط الوحشة و الغمّ بحيث لا يسعها أنس و سرور وَ ظَنُّوا و علموا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ من سخطه إِلَّا إِلَيْهِ إلّا إلى استغفاره.

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ رجع عليهم بالقبول و الرحمة كرّة بعد اخرى لِيَتُوبُوا ليستقيموا على توبتهم و يثبتوا، أو ليتوبوا أيضا في المستقبل إن فرطت منهم خطيئة.

أو المعنى: رجع عليهم بالتوفيق للتوبة ليتوبوا، أو أنزل قبول توبتهم، أو سهّل اللّه عليهم التوبة ليتوبوا. إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ لمن تاب و لو عاد في اليوم مائة مرّة الرَّحِيمُ المتفضّل عليهم بالنعم.

[سورة التوبة [9]: آية 119]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [119]

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين المصدّقين باللّه المقرّين بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فيما لا يرضاه

وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في إيمانهم و عهودهم، أو في دين اللّه نيّة و قولا و عملا، أي: في توبتهم و إنابتهم، فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة و أضرابهم.

ص: 177

[سورة التوبة [9]: الآيات 120 الى 121]

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [120] وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [121]

و لمّا قصّ اللّه سبحانه قصّة الّذين تأخّروا عن الخروج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى تبوك، ثمّ اعتذارهم عن ذلك و توبتهم منه، و أنّه قبل توبة من ندم على ما كان منه، لرأفته بهم و رحمته عليهم، ذكر عقيب ذلك على وجه التوبيخ لهم و الإزراء على ما كانوا فعلوه، فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عن حكمه. نهي عبّر عنه بصيغة النفي للمبالغة. وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لا يصونوا أنفسهم عمّا لم يصن رسول اللّه نفسه عنه، و يكابدوا ما يكابده من الأهوال.

روي أنّه كان أبو خيثمة عبد اللّه بن خيثمة تخلّف إلى أن مضى من مسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة أيّام، ثمّ دخل يوما على امرأتين له في يوم حارّ في عريشين لهما، قد رشّتاهما و برّدتا

الماء، و هيّأتا له الطعام. فقام على العريشين، و قد بلغ بستانه، فيأكل منه الرطب و يشرب الماء البارد، فنظر فقال: ظلّ ظليل، و رطب يانع، و ماء بارد، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مع أنّه قد غفر اللّه له ما

ص: 178

تقدّم من ذنبه و ما تأخّر- في الضحّ (1) و الريح و الحرّ و الغزو، يحمل سلاحه على عاتقه، و أبو خيثمة في ظلال بارد و طعام مهيّأ و امرأتين حسناوين، ما هذا بالنصف. ثمّ قال: و اللّه لا أكلّم واحدة منكما كلمة، و لا أدخل عريشا حتّى ألحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فأناخ ناضحه و اشتدّ عليه و تزوّد و ارتحل، و امرأتاه تكلّمانه و لا يكلّمهما. ثم سار حتّى إذا دنا من تبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كن أبا خيثمة. فلمّا دنا قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول اللّه.

فأناخ راحلته و سلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أولى لك. فحدّثه الحديث، فقال له خيرا و استغفر له.

ذلِكَ إشارة إلى ما دلّ عليه قوله: «ما كان» من النهي عن التخلّف أو وجوب المشايعة بِأَنَّهُمْ بسبب أنّهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ عطش وَ لا نَصَبٌ تعب وَ لا مَخْمَصَةٌ مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد تقرّبا إلى اللّه وَ لا يَطَؤُنَ و لا يدوسون بحوافر خيولهم و أخفاف رواحلهم مَوْطِئاً وطأ، أو مكان وطء يَغِيظُ الْكُفَّارَ يغضبهم وطؤهم، و لا يتصرّفون في أرضهم تصرّفا يضيق صدورهم وَ لا يَنالُونَ

مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالقتل و الأسر و النهب إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلّا استوجبوا به الثواب، و ذلك ممّا يوجب المشايعة إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم. و هو تعليل ل «كتب»، و تنبيه على أنّ الجهاد إحسان. أمّا في حقّ الكفّار، فلأنّه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المداوي للمجنون. و أمّا في حقّ المؤمنين، فلأنّه صيانة لهم عن سطوة الكفّار و استيلائهم.

وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً و لو تمرة وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً في

ص: 179


1- في هامش النسخة الخطّية: «الضحّ: ضوء الشمس إذا استمكن في الأرض. منه».

مسيرهم. و هو كلّ منفرج بين جبال و آكام يكون منفذا للسيل. و هو في الأصل اسم فاعل من: ودى إذا سال، فشاع بمعنى الأرض، أي: و لا يسيرون أرضا في ذهابهم و مجيئهم إِلَّا كُتِبَ أثبت ذلك لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلّق ب «كتب» أي:

أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أحسن جزاء أعمالهم.

[سورة التوبة [9]: آية 122]

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [122]

و لمّا تقدّم الترغيب في الجهاد بأبلغ أسباب الترغيب، و تأنيب من تخلّف عنه بأبلغ أسباب التأنيب، بيّن موضع الرخصة في تأخّر من تأخّر عنه، فقال: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً اللام لتأكيد النفي، أي: و ما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم، كما لا يستقيم أن يتثبّطوا جميعا، فإنّه يخلّ بأمر المعاش و انتظام العالم غالبا. و لو صحّ و أمكن خروج الجميع و لم يؤدّ إلى

مفسدة لوجب على الكافّة، لأنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم.

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ فهلّا نفر من كلّ جماعة كثيرة- كقبيلة أو أهل بلدة- جماعة قليلة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليتكلّفوا الفقاهة فيه، و يتحمّلوا مشاقّ تحصيلها وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ و ليجعلوا غاية سعيهم و معظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم و إنذارهم. و تخصيصه بالذكر لأنّه أهمّ. و فيه دليل على أنّ التفقّه و التذكير من فروض الكفاية، و أنّه ينبغي أن يكون غرض المتعلّم فيه أن يستقيم و يقيم، لا الترفّع على الناس، و التبسّط في البلاد، و الترأّس فيهم، و التشبّه بالظلمة في ملابسهم و مراكبهم. لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرادة أن يحذروا عمّا ينذرون منه.

و استدلّ به على أنّ أخبار الآحاد حجّة، لأنّ عموم كلّ فرقة يقتضي أن ينفر

ص: 180

من كلّ ثلاثة تفرّدوا بقرية طائفة إلى التفقّه، لتنذر فرقتها كي يتذكّروا و يحذروا، فلو لم يعتبر الإخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك.

قال في الكشّاف (1): و للآية معنى آخر، و هو أنّه لمّا نزل في المتخلّفين ما نزل استبق المؤمنون إلى النفير، و انقطعوا جميعا عن التفقّه و استماع الوحي، فأمروا أن ينفر من كلّ فرقة طائفة إلى الجهاد، و يبقى أعقابهم يتفقّهون حتّى لا ينقطعوا عن التفقّه الّذي هو الجهاد الأكبر، لأنّ الجدال بالحجّة هو الأصل و المقصود من البعثة.

و يكون الضمير في «ليتفقّهوا» و «لينذروا» لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو، و في «رجعوا» للطوائف، أي: و لينذر البواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا في أيّام غيبتهم من العلوم. و على الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقّه.

[سورة التوبة [9]: الآيات 123 الى 125]

يا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [123] وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [124] وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ [125]

ثمّ بيّن سبحانه ما يجب تقديمه في القتال و القتل، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ يقربون منكم مِنَ الْكُفَّارِ فإنّ القتال و إن كان واجبا مع

ص: 181


1- الكشّاف 2: 323.

جميع الكفّار لكن الأقرب منهم فالأقرب، كما أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّلا بإنذار عشيرته ثمّ غيرهم من العرب، فحارب قومه ثمّ غيرهم من عرب الحجاز، ثمّ غزا الشام، و ذلك لأنّ الأقرب أحقّ بالشفقة و الاستصلاح. و هكذا المفروض على أهل كلّ ناحية أن يقاتلوا من وليهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى.

و قيل: هم يهود حوالي المدينة، كقريظة و النضير و خيبر. و قيل: الروم، فإنّهم كانوا يسكنون الشام، و هو قريب من المدينة.

و الأوّل أصحّ، لأنّ السورة نزلت في سنة تسع، و قد فرغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أولئك. و كان الحسن إذا سئل عن قتال الروم و الترك و الديلم تلا هذه الآية.

وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدّة و شجاعة و صبرا على القتال. و نحوه: وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (1). وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالحراسة و الإعانة.

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ بعضهم لبعض إنكارا و استهزاء باعتقاد المؤمنين أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً

أي: تصديقا و يقينا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً بزيادة العلم الحاصل من تدبّر السورة، و انضمام الايمان بها و بما فيها إلى إيمانهم وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها، أي:

يسرّون، و يبشّر بعضهم بعضا، قد تهلّلت وجودهم و فرحوا بنزولها، لأنّه سبب لزيادة كمالهم و ارتفاع درجاتهم.

وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر و نفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها، فإنّهم بتجديد الوحي جدّدوا كفرا و نفاقا فازداد كفرهم عنده و استحكم وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ و استحكم و تضاعف ذلك منهم حتّى ماتوا عليه.

ص: 182


1- التوبة: 73.

[سورة التوبة [9]: الآيات 126 الى 127]

أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [126] وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [127]

ثمّ نبّه سبحانه على إعراض المنافقين عن النظر و التدبّر لما ينبغي أن ينظروا و يتدبّروا فيه، فقال: أَ وَ لا يَرَوْنَ يعني: المنافقين. و قرأ حمزة بالتاء أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البليّات، كالمرض و القحط، أو بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يعاينون أمره و ما ينزل عليه من النصرة و التأييد، أو يفتنهم الشيطان فينقضون عهودهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقتلهم و ينكل بهم فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ لا يتنبّهون و لا يتوبون من نفاقهم وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ و لا يعتبرون.

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ من المسلمين إِلى بَعْضٍ أي:

تغامزوا بعيونهم إنكارا للوحي و سخريّة،

أو غيظا لما فيها من عيوبهم، قائلين: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف، فإنّا لا نصبر على استماعه، و يغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج و الانسلال لواذا (1)، فإن لم يرهم أحد قاموا، و إن يرهم أحد أقاموا. ثُمَّ انْصَرَفُوا عن حضرته مخافة الفضيحة صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الايمان خذلانا و تخلية. و هو يحتمل الإخبار و الدعاء. بِأَنَّهُمْ بسبب أنّهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يتدبّرون حتّى يفقهوا و يعلموا.

ص: 183


1- أي: مستترين.

[سورة التوبة [9]: الآيات 128 الى 129]

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [128] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [129]

ثمّ خاطب اللّه جميع الخلق، و أكّد خطابه بالقسم، فقال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم من البشر، ثمّ من العرب، ثمّ من بني إسماعيل. و قيل:

الخطاب للعرب، و ليس في العرب قبيلة إلّا و قد ولدت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و له فيهم نسب.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ شديد شاقّ ما عَنِتُّمْ عنتكم و مشقّتكم و لقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة و الوقوع في العذاب بترك الإيمان حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ على إيمانكم و صلاح شأنكم، حتّى لا يخرج أحد منكم من الاستسعاد به و بدينه الّذي جاء به بِالْمُؤْمِنِينَ منكم و من غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ قدّم الأبلغ منهما و هو الرؤوف، لأنّ الرّأفة شدّة الرحمة، محافظة على الفواصل.

قال بعض السلف: لم يجمع اللّه سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه قال: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ»، و قال:

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (1).

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فاستعن باللّه و فوّض إليه أمرك، فإنّه يكفيك معرّتهم (2)، و يعينك عليهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كالدليل عليه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو و لا أخاف إلّا منه وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الملك العظيم، أو الجسم العظيم الّذي تنزل منه الأحكام و المقادير.

قيل: إنّ هذه الآية آخر آية نزلت من السماء. و آخر سورة كاملة نزلت سورة براءة.

ص: 184


1- البقرة: 143.
2- المعرّة: الأذى و المساءة و الإثم.

[10] سورة يونس

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و تسع آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس و كذّب به، و بعدد من غرق مع فرعون.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة يونس في كلّ شهرين أو ثلاثة لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، و كان يوم القيامة من المقرّبين».

[سورة يونس [10]: الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [1] أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ [2]

لمّا ختم اللّه سورة براءة بذكر الرسول، افتتح هذه السورة بذكره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما أنزل عليه من القرآن، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تعديد للحروف على طريق التحدّي. و قيل: معناه: أنا اللّه ارى. و بواقي وجوه التفسير فيه مذكورة في

ص: 185

صدر سورة البقرة. فخّمها ابن كثير و نافع برواية قالون و حفص. و قرأ ورش بين بين. و أمالها الباقون، إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء.

تِلْكَ إشارة إلى ما تضمّنته السورة أو القرآن من الآي آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ المراد بالكتاب السورة، أو القرآن كلّه، أو اللوح المحفوظ، فإنّ القرآن منزل منه. و وصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم، أو لأنّه كلام حكيم، أو محكم آياته لم ينسخ شي ء منها.

أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً استفهام إنكار للتعجّب. و «عجبا» خبر «كان»، و اسمه أَنْ أَوْحَيْنا. و ذكر اللام للدلالة على أنّهم جعلوه أعجوبة لهم يوجّهون نحوه إنكارهم و استهزاءهم

إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ من جنس رجالهم، دون أن يكون عظيما من عظمائهم.

قيل: كانوا يقولون: العجب أنّ اللّه تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلّا يتيم أبي طالب. و هو من فرط حماقتهم، و قصور نظرهم على الأمور العاجلة، و جهلهم بحقيقة الوحي و النبوّة. هذا و إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلّا في المال، و خفّة الحال أعون شي ء في هذا الباب، و لذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك.

و قيل: تعجّبوا من أنّه عزّ و جلّ بعث بشرا رسولا، كما سبق (1) في سورة الأنعام.

أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «أن» هي المفسّرة ل «أن أوحينا» فيه معنى القول، أو المخفّفة من الثقيلة، فتكون في موضع مفعول «أوحينا». و أصله: أوحينا أنّ الشأن قولنا: أنذر الناس.

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عمّم الإنذار، إذ قلمّا من أحد ليس فيه ما ينبغي أن

ص: 186


1- راجع ج 2 ص 427 ذيل الآية 91 من سورة الأنعام.

ينذر منه. و خصّص البشارة بالمؤمنين، إذ ليس للكفّار ما يصحّ أن يبشّروا به أَنَّ لَهُمْ بأنّ لهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ سابقة و منزلة رفيعة. سمّيت قدما لأنّ السبق و السعي بها، كما سمّيت النعمة يدا، لأنّها تعطى باليد. و إضافتها إلى الصدق لتحقّقها، و التنبيه على أنّهم إنّما ينالونها بصدق القول و النيّة.

و عن أبي سعيد الخدري: أنّ معنى قدم صدق شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و لمّا قال: «أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً» قالوا: و كيف لا نعجب و لا علم لنا بالمرسل؟! فقال: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ

هذا يعنون الكتاب و ما جاء به الرسول لَساحِرٌ مُبِينٌ و قرأ ابن كثير و الكوفيّون: لساحر، على أنّ الإشارة إلى الرسول. و فيه اعتراف بأنّهم صادفوا من الرسول أمورا خارقة للعادة، معجزة إيّاهم عن المعارضة، و إن كانوا كاذبين في تسميته سحرا.

[سورة يونس [10]: الآيات 3 الى 6]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [3] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [4] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [5] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [6]

ص: 187

ثمّ بيّن صفاته الكماليّة المنضمّة لاستحقاقه العبوديّة لا غير، المقتضية للحكم و المصالح و التدابير الّتي من جملتها إعطاء النبوّة لمن يليق بحاله، فقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الّتي هي اصول الممكنات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة. و الوجه في ذلك دلالة صريحة على أنّه قادر مختار لا موجب، و تعليما لعباده التأنّي في الأمور. و في الحديث: «التأنّي من الرحمن، و العجلة من الشيطان».

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مرّ تفسيره مرارا (1) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يقدّر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته و سبقت به كلمته، و يهيّ ء بتحريكه أسبابها و ينزلها منه.

و التدبير النظر في أدبار الأمور لتجي ء محمودة العاقبة. ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته و عزّ جلاله، و ردّ على من زعم أنّ آلهتهم تشفع لهم عند اللّه.

و فيه إثبات الشفاعة لمن أذن له.

ذلِكُمُ أي: الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهيّة و الربوبيّة اللَّهُ رَبُّكُمْ لا غير، إذ لا يشاركه أحد في شي ء من ذلك فَاعْبُدُوهُ وحّدوه بالعبادة، و لا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلا عن جماد لا يضرّ و لا ينفع أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتفكّرون أدنى تفكّر، فينبّهكم على أنّه المستحقّ للربوبيّة و العبادة لا ما تعبدونه.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً في العاقبة بالموت أو النشور، لا إلى غيره، فاستعدّوا للقائه وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكّد لنفسه، لأنّ قوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» وعد من اللّه تعالى حَقًّا مصدر آخر مؤكّد لغيره، و هو ما دلّ عليه وعد اللّه عزّ و جلّ.

إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد بدئه و إهلاكه لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ

ص: 188


1- راجع ج 2/ 531.

أي: بعدله. أو بعدالتهم و قيامهم على العدل في أمورهم. أو بإيمانهم، لأنّه العدل القويم، كما أنّ الشرك ظلم عظيم. و هو الأوجه، لمقابلة قوله:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فإنّ معناه:

ليجزي الّذين كفروا بشراب من حميم و عذاب أليم بسبب كفرهم. لكنّه غيّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب، و التنبيه على أنّ المقصود بالذات من الإبداء و الإعادة هو الإثابة، و العقاب واقع بالعرض، و أنّه تعالى يتولّى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه و كرمه، و لذلك لم يعيّنه. و أمّا عقاب الكفرة فكأنّه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم و شؤم أفعالهم.

و الآية كالتعليل لقوله تعالى: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» فإنّه لمّا كان المقصود من الإبداء و الإعادة مجازاة اللّه المكلّفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة.

ثمّ زاد سبحانه في الاحتجاج للتوحيد، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي: ذات ضياء. و هو مصدر كقيام، أو جمع ضوء، كسياط و سوط. و الياء فيه منقلبة عن الواو، لكسرة ما قبلها. و عن ابن كثير برواية قنبل: ضئاء بهمزتين، في كلّ القرآن، على القلب بتقديم اللام على العين. وَ الْقَمَرَ نُوراً أي: ذا نور.

و سمّي نورا للمبالغة. و هو أعمّ من الضوء. و قيل: ما بالذات ضوء، و ما بالعرض نور. و نبّه سبحانه بذلك على أنّه خلق الشمس نيّرة في ذاتها، و القمر نيّرا بعرض مقابلة الشمس و الاكتساب منها.

وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير لكلّ واحد، أي: قدّر مسير كلّ واحد منهما منازل، كقوله: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ (1). أو قدّره ذا منازل. أو الضمير للقمر. و تخصيصه بالذكر لسرعة سيره، و معاينة منازله، و إناطة أحكام الشرع به، و لذلك علّله بقوله:

ص: 189


1- يس: 39.

لِتَعْلَمُوا به و بمنازله عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ أي: حساب الأوقات من الأشهر و الأيّام في معاملاتكم و تصرّفاتكم.

ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ أي: المذكور إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِ الّذي هو الحكمة البالغة، و لم يخلقه عبثا يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنّهم المنتفعون بالتأمّل فيها.

و قرأ ابن كثير و البصريّان و حفص: يفصّل بالياء.

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من أنواع الكائنات فيهما لَآياتٍ على وجود الصانع و وحدته، و كمال علمه و قدرته لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ العواقب. و خصّهم لأنّهم يحذرون

العاقبة، فيدعوهم ذلك إلى النظر و التأمّل.

[سورة يونس [10]: الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ [7] أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [8]

ثمّ إنّه سبحانه أوعد الغافلين عن الأدلّة المتقدّمة المكذّبين بالمعاد، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقّعون جزاءنا، لإنكارهم البعث، و ذهولهم بالمحسوسات عمّا وراءها وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا من الآخرة، لغفلتهم عنها، و اختاروا القليل الفاني على الكثير الباقي وَ اطْمَأَنُّوا بِها و سكنوا إليها، مقصّرين هممهم على لذائذها و زخارفها. أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها. وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ لا يتفكّرون فيها، لانهماكهم فيما يضادّها.

و العطف إمّا لتغاير الوصفين، و التنبيه على أنّ الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات و الانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا. و إمّا لتغاير الفريقين، فإنّ المراد بالأوّلين من أنكر البعث و لم ير إلّا الحياة الدنيا، و بالآخرين من ألهاه حبّ العاجل عن التأمّل في الآجل و الإعداد له.

ص: 190

أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بما واظبوا عليه، و تمرّنوا به من المعاصي.

[سورة يونس [10]: الآيات 9 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [9] دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [10]

ثمّ وعد سبحانه المؤمنين بعد ما أوعد الكافرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدّي إلى الجنّة. أو لإدراك الحقائق، كما

قال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم».

أو لما يريدونه في الجنّة. و مفهوم الترتيب

و إن دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان و العمل الصالح، لكن دلّ منطوق قوله: «بإيمانهم» على استقلال الإيمان بالسببيّة، و أنّ العمل الصالح كالتتمّة و الرديف له.

و قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف، أو خبر ثان، أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير.

و قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر، أو حال اخرى منه أو من الأنهار، أو متعلّق ب «تجري» أو ب «يهدي».

دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَ اللّهمّ إنّا نسبّحك تسبيحا.

و ذلك لا على وجه العبادة، فإنّه لا تكليف في الجنّة، بل على طريق التلذّذ من غير كلفة. وَ تَحِيَّتُهُمْ ما يحيّي به بعضهم بعضا، أو تحيّة الملائكة إيّاهم فِيها سَلامٌ قيل: هي تحيّة اللّه لهم. و المعنى: سلمتم من الآفات و المكاره الّتي ابتلي بها

ص: 191

أهل النار.

وَ آخِرُ دَعْواهُمْ و آخر دعائهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: أن يقولوا ذلك. و قيل: إنّهم إذا دخلوا الجنّة و عاينوا عظمة اللّه و كبرياءه مجّدوه و نعتوه بنعوت الجلال، ثمّ حيّاهم الملائكة بالسلامة عن الآفات و الفوز بأصناف الكرامات، أو اللّه تعالى (1)، فحمدوه و أثنوا عليه بصفات الإكرام. و «أن» هي المخفّفة من الثقيلة.

و أصله: أنّه الحمد، على أنّ الضمير للشأن.

[سورة يونس [10]: آية 11]

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [11]

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المائلين إلى الدنيا، المطمئنّين إليها، الغافلين عن الآخرة، فقال: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ و لو يسرعه إليهم إذا دعوا به على أنفسهم أو على أهاليهم عند الغيظ و الضجر، مثل قول الإنسان: رفعني اللّه من بينكم، و قوله لولده: اللّهمّ

العنه و لا تبارك فيه اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي: كما يعجّل لهم إجابة الدعوة بالخير إذا استعجلوها. فوضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير، حتّى كأنّ استعجالهم به تعجيل لهم، أو بأنّ المراد شرّ استعجلوه، كقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء. و تقدير الكلام: لو يعجّل اللّه للناس الشرّ تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه.

و المعنى: لو عجّلنا لهم الشرّ الّذي دعوا به كما نعجّل لهم الخيرات و نجيبهم إليه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا و أهلكوا. و قرأ ابن عامر و يعقوب: لقضى على

ص: 192


1- أي: حيّاهم اللّه تعالى.

البناء للفاعل، و هو اللّه تعالى.

فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ عطف على فعل محذوف دلّت عليه الشرطيّة. كأنّه قيل: و لكن لا نعجّل و لا نقضي، فنذرهم إمهالا لهم و استدراجا، لإلزام الحجّة عليهم.

[سورة يونس [10]: آية 12]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [12]

ثمّ أخبر سبحانه عن قلّة صبر الإنسان على الضرّ و الشدائد، فقال: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ المشقّة و البلاء دَعانا لإزالته مخلصا فيه لِجَنْبِهِ ملقيا بجنبه، أي: مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً و فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال. و المعنى: أنّه لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتّى يزول عنه الضرر، فهو يدعو في حالاته كلّها يستدفع البلاء. و اللام في الإنسان للجنس.

فَلَمَّا كَشَفْنا أزلنا عَنْهُ ضُرَّهُ و وهبنا له العافية مَرَّ مضى على طريقته الاولى، أي: استمرّ على كفره كما كان قبل أن

يمسّه الضرّ. أو مرّ عن موقف الدعاء و التضرّع لا يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أي: كأنّه لم يدعنا، فخفّف و حذف ضمير الشأن، كقوله:

و نحر مشرق اللون كأن ثدياه حقّان

إِلى ضُرٍّ إلى كشف ضرّ مَسَّهُ كَذلِكَ مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي: زيّن الشيطان بوسوسته لهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك في

ص: 193

الشهوات و الأماني الباطلة، و الإعراض عن العبادات عند الرخاء.

[سورة يونس [10]: الآيات 13 الى 14]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [13] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [14]

ثمّ أخبر سبحانه عمّا نزل بالأمم الماضية من المثلات، و حذّر هذه الأمّة عن مثل مصارعهم، فقال: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكّة بأنواع العذاب لَمَّا ظَلَمُوا حين ظلموا بالتكذيب و فرط العصيان، و استعمال القوى و الجوارح لا على ما ينبغي. و هو ظرف ل «أهلكنا». وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الدالّة على صدقهم. و هو حال من الواو بإضمار «قد»، أو عطف على «ظلموا». وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي، أي: و ما كانوا يؤمنون حقّا. و المعنى: أنّ السبب في هلاكهم تكذيبهم الرسل، و علم اللّه إصرارهم على الكفر، و أنّه لا فائدة في إمهالهم بعد أن لزمهم الحجّة بإرسال الرسل.

كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء، و هو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل و إصرارهم عليه، بحيث تحقّق أنّه لا فائدة في إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ نجزي كلّ مجرم، أو نجزيكم. فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على كمال جرمهم و أنّهم أعلام فيه. و هو وعيد لأهل مكّة.

ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ

بَعْدِهِمْ استخلفناكم في الأرض من بعد القرون الّتي أهلكناها استخلاف من يختبر لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي: أ تعملون خيرا أم شرّا؟ فنعاملكم على حسب أعمالكم. و «كيف» في محلّ النصب حالا

ص: 194

ب «تعملون»، فإنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يعمل فيه ما قبله. و النظر هنا مستعار، بمعنى العلم المحقّق الّذي هو العلم بالشي ء موجودا، شبّه بنظر الناظر و عيان المعاين في تحقّقه.

[سورة يونس [10]: الآيات 15 الى 17]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [15] قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [16] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [17]

روي أنّ خمسة نفر من المشركين، و هم: عبد اللّه بن أميّة المخزومي، و الوليد ابن المغيرة، و مكرز بن حفص، و عمرو بن عبد اللّه بن أبي قيس العامري، و العاص ابن عامر بن هاشم، قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزّى و مناة و هبل، و ليس فيه عيبها، و لا ما نستبعده من الآخرة و أحوالها، أو بدّله فتكلّم به عن تلقاء نفسك. فنزلت: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ

واضحات الدلالات في الحلال و الحرام و سائر الشرائع قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا لا يؤمنون بالبعث و النشور و ما يتعلّق به، يعني: المشركين ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا

بكتاب آخر نقرؤه، و ليس فيه ما نكرهه من معايب آلهتنا، و ما نستبعده من البعث و الثواب و العقاب بعد

ص: 195

الموت أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية اخرى. و لعلّهم سألوا ذلك لكي يسعفهم إليه فيلزموه.

قُلْ ما يَكُونُ لِي ما يصحّ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي.

و هو مصدر استعمل ظرفا. و إنّما اكتفى بالجواب عن التبديل لأنّ هذا داخل تحت مقدور الإنسان، بأن يضع مكان آية عذاب آية رحمة ممّا أنزل، و أن يسقط ذكر الآلهة، فأمّا الإتيان بقرآن آخر فغير مقدور عليه للإنسان.

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ تعليل لقوله: «ما يَكُونُ لِي»، فإنّ المتّبع لغيره في أمر لا يستبدّ بالتصرّف فيه بوجه. و جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض، أي:

إن نسخت آية تبعت النسخ، و إن بدّلت آية مكان آية تبعت التبديل، و ليس إليّ نسخ و لا تبديل. و ردّ لما عرضوا له بهذا السؤال من أنّ القرآن كلامه و اختراعه، و لذلك قيّد التبديل في الجواب و سمّاه عصيانا فقال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي:

بالتبديل من عند نفسي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و فيه إيماء بأنّهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ غير ذلك ما تَلَوْتُهُ ما قرأت هذا القرآن عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ و لا أعلمكم اللّه به على لساني بأن لا ينزله عليّ، فلا أقرأ عليكم فلا تعلمونه. و عن ابن كثير برواية قنبل و البزّي مع خلاف: و لأدراكم بلام التأكيد، أي:

لو شاء اللّه ما تلوته عليكم و لأعلمكم اللّه به على لسان غيري، و لكنّه خصّني بهذه الكرامة، يعني: أنّه الحقّ الّذي

لا محيص عنه، لو لم أرسل به لأرسل به غيري.

و ملخّص المعنى: أنّ تلاوته ليست إلّا بمشيئة اللّه، لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ فقد أقمت فيما بينكم عُمُراً مقدار عمر أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن لا أتلوه و لا أعلمه. فهذا دلالة على أنّ القرآن معجز خارق للعادة، فإن من عاش بين أظهركم أربعين سنة لم يمارس فيها

ص: 196

علما، و لم يشاهد عالما، و لم ينشئ شعرا و لا خطبة، ثمّ قرأ عليهم كتابا بذّت (1) فصاحته فصاحة كلّ منطيق فصيح، و علا عن كلّ منثور و منظوم، و احتوى على قواعد علمي الأصول و الفروع، و أعرب عن أقاصيص الأوّلين و أحاديث الآخرين على ما هي عليه، علم أنّه معلّم به من اللّه تعالى. أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي: أ فلا تستعملون عقولكم بالتدبّر و التفكّر فيه لتعلموا أنّه ليس إلّا من اللّه تعالى؟! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: لا أحد أظلم ممّن اخترع على اللّه كذبا. و هذا تفاد ممّا أضافوه إليه كناية، أو تظليم للمشركين بافترائهم على اللّه في قولهم: إنّه لذو شريك و ذو ولد. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي: المشركون المتوغّلون في الطغيان و العصيان.

[سورة يونس [10]: الآيات 18 الى 21]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [18] وَ ما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما

فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [19] وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [20] وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ [21]

ص: 197


1- بذّ يبذّ: غلب وفاق.

روي: أنّ أهل الطائف كانوا يعبدون اللّات، و أهل مكّة العزّى و مناة و هبل و أسافا و نائلة، و كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، فنزلت فيهم:

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ

لأنّه جماد لا يقدر على نفع و لا ضرّ، و المعبود ينبغي أن يكون مثيبا و معاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضرّ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ تشفع لنا فيما يهمّنا من أمور الدنيا أو الآخرة إن يكن بعث. و هذا من فرط جهالتهم، حيث تركوا عبادة الموجد الضارّ النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنّه لا يضرّ و لا ينفع، على توهّم أنّه ربما يشفع لهم عنده.

قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ أ تخبرونه بِما لا يَعْلَمُ و هو أنّ له شريكا. و فيه تقريع و تهكّم بهم. أو هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه. و ما لا يعلمه العالم بالذات المحيط بجميع المعلومات لا يكون له تحقّق. فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف في «لا يعلم» أي: لا يعلمه، مؤكّدة للنفي، منبّهة على أنّ ما يعبدون من دون اللّه إما سماويّ أو أرضيّ، و لا شي ء من الموجودات فيهما إلّا و هو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «ما» مصدريّة، أي:

عن إشراكهم. أو موصولة، أي: عن الشركاء الّذين يشركونهم به. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في الموضعين في أوّل النحل (1) و الروم (2) بالتاء.

وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً متّفقين على ملّة واحدة، موحّدين كلّهم على الفطرة. و ذلك في عهد آدم عليه السّلام إلى أن قتل قابيل هابيل، أو بعد الطوفان حين لم يذر اللّه من الكافرين ديّارا. أو مجتمعين على الضلال في فترة من الرسل. فَاخْتَلَفُوا باتّباع الهوى و الأباطيل، أو ببعثة الرسل، فتبعتهم طائفة و أصرّت اخرى.

ص: 198


1- النحل: 1.
2- الروم: 40.

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنّه يوم الفصل و الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل و إبقاء المحقّ، و لكنّ الحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار للتكليف، و تلك للثواب و العقاب.

ثمّ حكى سبحانه عن هؤلاء الكفّار فقال: وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي: من الآيات التي اقترحوها. و كانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظيمة المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، لفرط عنادهم و تماديهم في التمرّد، و انهماكهم في الغيّ. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختصّ بعلمه، فلعلّه يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد تصرف عن إنزالها فَانْتَظِرُوا لنزول ما اقترحتموه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل اللّه بكم بجحودكم ما نزل عليّ من الآيات العظام، و اقتراحكم غيره.

ثمّ أخبر سبحانه عن ذميم فعالهم فقال: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ يريد بالناس الكفّار رَحْمَةً صحّة وسعة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ كمرض و قحط إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا

احتيال في دفعها و الطعن فيها.

قيل: قحط أهل مكّة سبع سنين حتّى كادوا يهلكون، ثمّ رحمهم اللّه بغزارة المطر، فصاروا يطعنون في آيات اللّه، و يكيدون رسوله و يعادونه.

قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم، قد دبّر عقابكم قبل أن تدبّروا كيدكم في إطفاء نور الإسلام. و إنّما دلّ على سرعتهم المفضّل عليها كلمة «إذا» المفاجأة الواقعة جوابا ل «إذا» الشرطيّة. و المكر إخفاء الكيد. و هو من اللّه تعالى إمّا الاستدراج، أو الجزاء على المكر. إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ هذا إعلام للانتقام، و تنبيه على أنّ ما دبّروا في إخفائه لم يخف على الحفظة، فضلا أن يخفى على اللّه تعالى. و عن يعقوب: يمكرون بالياء، ليوافق ما قبله.

ص: 199

[سورة يونس [10]: الآيات 22 الى 23]

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [22] فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [23]

ثمّ امتنّ اللّه سبحانه على خلقه، بأن عدّد نعمه الّتي يعطيهم في كلّ حال، فقال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ يحملكم على السير، و يمكّنكم منه بما هيّأ لكم من أسباب السير. و قرأ ابن عامر: ينشركم، بالنون و الشين من النشر. فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ في السفن وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بمن فيها. عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنّه تذكرة لغيرهم

ليتعجّب من حالهم و ينكر عليهم. بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ليّنة الهبوب يستطيبونها وَ فَرِحُوا بِها سرّوا بتلك الريح، لأنّها تبلغهم مقصودهم جاءَتْها جواب «إذا». و الضمير للفلك أو الريح الطيّبة. بمعنى: تلقّتها. رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف، شديدة الهبوب، هائلة.

وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أمكنة الموج. يعني: الموج من الجوانب الأربع. وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ و أيقنوا أنّهم دنوا من الهلاك. و هو مثل في الهلاك، أي: أنّهم أهلكوا، و سدّت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاطت به أعداؤه.

ص: 200

دَعَوُا اللَّهَ عند نزول هذه الشدائد مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك، لتراجع الفطرة، و زوال المعارض من شدّة الخوف. و هو بدل من «ظنّوا» بدل الاشتمال، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنّهم الهلاك، فهو ملتبس به. و الجملة الشرطيّة بعد «حتّى» بما في حيّزها غاية للتسيير، فكأنّه قال: هو الّذي يسيّركم حتّى وقعت هذه الحادثة، و كان كيت و كيت، من مجي ء الريح العاصف، و تراكم الأمواج، و الظنّ بالهلاك، و الدعاء بالإنجاء خالصا و مخلصا.

لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربّ مِنْ هذِهِ الشدّة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: من جملة من يشكرك، على إرادة القول، أو مفعول «دعوا» لأنّه من جملة القول.

فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أخلصهم اللّه تعالى من تلك المحن إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ فاجئوا الفساد فيها، و سارعوا إلى ما كانوا عليه بِغَيْرِ الْحَقِ مبطلين فيه. و هو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة و إحراق زروعهم و قلع أشجارهم، فإنّها إفساد بحقّ.

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإنّ و باله عليكم، و إنّما بغيكم على أمثالكم و أبناء جنسكم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا منفعة الحياة الدّنيا لا تبقى، و يبقى عقابها.

و رفعه على أنّه خبر «بغيكم» و «على أنفسكم» صلته، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ذلك متاع الحياة الدنيا، و «على أنفسكم» خبر «بغيكم» و نصبه حفص على أنّه مصدر مؤكّد، أي: تمتّعون متاع الحياة الدنيا. أو مفعول البغي، لأنّه بمعنى الطلب، فيكون الجارّ من صلته و الخبر محذوف، تقديره: بغيكم متاع الحياة الدّنيا محذور أو ضلال. أو مفعول فعل دلّ عليه البغي، و «على أنفسكم» خبر.

ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء عليه.

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ثنتان يعجّلهما اللّه في الدنيا: البغي، و عقوق الوالدين».

و عن ابن عبّاس: لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي.

ص: 201

[سورة يونس [10]: آية 24]

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [24]

و لمّا تقدّم ما يوجب الترغيب في الآخرة و التزهيد في الدنيا، عقّبه سبحانه بذكر صفة الدارين، فقال: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا حالها العجيبة في سرعة تقضّيها، و ذهاب نعيمها بعد إقبالها، و اغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فاشتبك بسببه حتّى خالط بعضه بعضا مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ من الزروع و البقول و الحشيش.

حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ تزيّنت بأصناف النبات و أشكالها و ألوانها المختلفة، كعروس أخذت ألوان الثياب و الزينة و تزيّنت بها. و أصل «ازّيّنت» تزيّنت، فأدغم ثمّ أدخل عليه الهمزة المكسورة، لتعذّر الابتداء بالساكن.

وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ

عَلَيْها متمكّنون من حصدها و رفع غلّتها أَتاها أَمْرُنا هو ضرب زرعها ببعض العاهات و الآفات بعد أمنهم و إيقانهم أن قد سلم لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها فجعلنا زرعها حَصِيداً شبيها بما حصد من أصله و استؤصل كَأَنْ لَمْ تَغْنَ زرعها، أي: لم ينبت. و المضاف محذوف في الموضعين للمبالغة.

بِالْأَمْسِ فيما قبيله. و هو مثل في الوقت القريب، كأنّه قيل: كأن لم تغن آنفا.

و اعلم أنّ الممثّل به مضمون الحكاية، و هو زوال خضرة النبات فجأة، و ذهابه حطاما، بعد ما كان غضّا و التفّ و زيّن الأرض حتى طمع فيه أهله، و ظنّوا

ص: 202

أنّه قد سلم من الجوائح (1)، لا الماء و إن وليه حرف التشبيه، لأنّه من التشبيه المركّب.

كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنّهم المنتفعون به.

[سورة يونس [10]: الآيات 25 الى 27]

وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [25] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [26] وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [27]

و لمّا بيّن سبحانه أنّ الدنيا تنقطع و تفنى بالموت كما يفنى هذا النبات بفنون الآفات، و نبّه على التوقّع لزوالها و التحرّز عن الاغترار بأحوالها، رغّب عقيبه في الآخرة، فقال: وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ دار السلامة من التقضّي و الآفة، أو دار اللّه. و تخصيص هذا الاسم أيضا للتنبيه على ذلك. أو دار يسلّم اللّه و الملائكة فيها على من يدخلها. و المراد الجنّة. وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ

بالتوفيق. و هو الّذي علم أنّ اللطف يجدي عليه، فإنّ مشيئته تابعة لحكمته. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريقها الّذي هو الإسلام و التدرّع بلباس التقوى.

ص: 203


1- الجوائح جمع الجائحة، و هي البليّة و التهلكة.

و المعنى: يدعو العباد كلّهم إلى دار السلام، و لا يدخلها إلّا الّذي استرشد فوفّق بالاهتداء، فإنّ الحكمة الإلهيّة مقتضية أن يوفّق طالب الحقّ و يهديه، و يخذل المعاند المكابر و يمنع لطفه و توفيقه عنه.

ثمّ بيّن حال أهل دار السلام فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا المثوبة الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ و ما يزيد على المثوبة تفضّلا، لقوله: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (1). و عن عليّ عليه السّلام «الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعة أبواب».

و عن ابن عبّاس:

الحسنى مثل حسناتها، و الزيادة عشر أمثالها. و عن الحسن: عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف و أكثر. و عن مجاهد: الزيادة مغفرة من اللّه و رضوان. و عن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنّة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلّا أمطرتهم. و عن أبي جعفر عليه السّلام: «الزيادة هي ما أعطاهم اللّه تعالى من النعم في الدنيا، لا يحاسبهم به في الآخرة».

وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ لا يغشاها قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَ لا ذِلَّةٌ هوان و أثر كآبة. و المعنى: لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، كقوله: تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (2) و تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ (3).

روى الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من عين ترقرقت (4) بمائها إلّا حرّم اللّه ذلك الجسد على النار، فإن فاضت من خشية اللّه لم يرهق ذلك الوجه قتر و لا ذلّة».

أُولئِكَ أَصْحابُ

الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها، و لا انقراض

ص: 204


1- النساء: 173.
2- عبس: 41.
3- القلم: 43.
4- ترقرقت العين: دمعت.

لنعيمها، بخلاف الدنيا و زخارفها.

وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوّز: في الدار زيد و الحجرة عمرو. أو «الّذين» مبتدأ، و الخبر «جزاء سيّئة» على تقدير: و جزاء الّذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة بمثلها. و المعنى: جزاؤهم أن تجازى سيّئة بسيّئة مثلها لا يزاد عليها. أو «الّذين» مبتدأ، و الخبر «كأنّما أغشيت» أو «أولئك أصحاب النار»، و ما بينهما اعتراض.

ف «جزاء سيّئة» مبتدأ خبره محذوف، أي: فجزاء سيّئة بمثلها واقع، أو بمثلها، على زيادة الباء أو تقدير مقدّر: بمثلها.

و في هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل، لأنّه دلّ بترك الزيادة على السيّئة على عدله، و دلّ ثمّة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله.

وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ما من أحد يعصمهم من سخط اللّه، أو من جهة اللّه تعالى و من عنده، كما يكون للمؤمنين كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً لفرط سوادها و ظلمتها. و «مظلما» حال من الليل، و العامل فيه «أغشيت»، لأنّه العامل في «قطعا»، و هو موصوف بالجارّ و المجرور، و العامل في الموصوف عامل في الصفة. أو العامل معنى الفعل في «من الليل».

و قرأ ابن كثير و الكسائي و يعقوب: قطعا بسكون الطاء. و على هذا يصحّ أن يكون «مظلما» صفة له أو حالا منه.

أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و هذه الآية في المشركين، فلا تكون ممّا يحتجّ به الوعيديّة.

[سورة يونس [10]: الآيات 28 الى 30]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا

مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [28] فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً

ص: 205

بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ [29] هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [30]

و لمّا تقدّم ذكر الجزاء بيّن سبحانه وقت الجزاء، فقال: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً نجمع الخلائق أجمعين من كلّ أوب إلى الموقف ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ الزموا مكانكم حتّى تنظروا ما يفعل بكم أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله، لأنّه سدّ مسدّ: الزموا وَ شُرَكاؤُكُمْ عطف عليه فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرّقنا بينهم، و قطّعنا الوصل الّتي كانت بينهم وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم، فإنّهم عبدوا في الحقيقة أهواءهم، لأنّها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به.

و قيل: ينطق اللّه الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة الّتي توقّعوا منها.

و قيل: المراد بالشركاء الملائكة و المسيح. و قيل: الشياطين.

فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ فإنّه العالم بكنه الحال إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، و اللام هي الفارقة.

هُنالِكَ في ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ تختبر ما قدّمت من عمل، فتعاين نفعه و ضرّه، مقبوله و مردوده، و منه يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (1). و قرأ حمزة و الكسائي: تتلو، من التلاوة، أي: تقرأ ذكر ما قدّمت، أو من التلو، أي: تتبع عملها فيقودها إلى الجنّة أو إلى النّار. وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إيّاهم بما اسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِ ربّهم الثابتة ربوبيّته، و متولّي أمورهم على الحقيقة، لا ما اتّخذوه مولى. أو الّذي يتولّى حسابهم، العدل

الّذي لا يجوز. وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و ضاع عنهم

ص: 206


1- الطارق: 9.

ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أنّ آلهتهم تشفع لهم، أو ما كانوا يدّعون أنّها آلهة.

[سورة يونس [10]: الآيات 31 الى 33]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ [31] فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [32] كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [33]

ثمّ قرّر سبحانه أدلّة التوحيد و البعث عليهم، فقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي: منهما جميعا، فإنّ الأرزاق تحصل بأسباب سماويّة و موادّ أرضيّة، أو من كلّ واحد منهما توسعة عليكم. و قيل: «من» لبيان «من» على حذف المضاف، أي: من أهل السماء و الأرض.

أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ أم من يستطيع خلقهما و تسويتهما؟ أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها و سرعة انفعالهما من أدنى شي ء؟

وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أي: و من يحيي و يميت؟ و من ينشئ الحيوان من النطفة، و النطفة منه؟ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ و من يلي تدبير أمر العالم. و هو تعميم بعد تخصيص.

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ إذ لا يقدرون على المكابرة و العناد في ذلك، لفرط وضوحه فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ أنفسكم عقابه بإشراككم إيّاه ما لا يشاركه في شي ء من ذلك.

ص: 207

فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ أي: المتولّي لهذه الأمور المستحقّ للعبادة هو ربّكم الثابت ربوبيّته، لأنّه الّذي أنشأكم و أحياكم و رزقكم و دبّر أموركم فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ

إِلَّا الضَّلالُ استفهام إنكار، أي: ليس بعد الحقّ إلّا الضلال، فمن تخطّى الحقّ- الّذي هو عبادة اللّه- وقع في الضلال فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحقّ إلى الضلال.

كَذلِكَ أي: كما حقّت الربوبيّة للّه تعالى، أو أنّ الحقّ بعده الضلال، أو أنّهم مصروفون عن الحقّ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: ثبت حكمه بالعذاب عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا تمرّدوا في كفرهم، و خرجوا عن حدّ الاستصلاح أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة، أي: حقّ عليهم انتفاء الإيمان. أو تعليل لحقّيتها، أي: حقّ عذاب اللّه على الّذين فسقوا، لعدم إيمانهم.

[سورة يونس [10]: الآيات 34 الى 36]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [34] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [35] وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ [36]

ثمّ احتجّ سبحانه عليهم في التوحيد باحتجاج آخر، فقال: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ من هذه الأصنام التي جعلتموها شركاء للّه تعالى مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل إعادة الخلق كالإبداء في الإلزام بها، لظهور برهانها، و مكابرة دافعها، و عدم مساعدته عليها، و لذلك أمر الرسول بأن ينوب عنهم في الجواب، فقال: قُلِ

ص: 208

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن لجاجهم و مكابرتهم لا يدعهم أن يعترفوا بها فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عن قصد السبيل.

ثمّ استأنف الحجاج بنوع آخر، فقال: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ إلى الرشد و ما فيه من الصلاح و النجاة، بنصب الحجج و إرسال الرسل، و التوفيق للنظر و التدبّر. و «هدى» كما يعدّى ب «إلى» لتضمّنه معنى الانتهاء، يعدّى باللام، للدلالة على أنّ المنتهى غاية الهداية، و أنّها لم تتوجّه نحوه على سبيل الاتّفاق، و لذلك عدّي بها ما أسند إلى اللّه تعالى، و قال: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ بما ركّب في المكلّفين من العقول، و مكّنهم من النظر في الأدلّة، و وقفهم على الشرائع.

أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي لا يهتدي إِلَّا أَنْ يُهْدى من قولهم: هدى بنفسه إذا اهتدى. أو لا يهدي غيره إلّا أن يهديه اللّه. و هذا حال أشراف شركائهم، كالملائكة و المسيح و عزير.

و قرأ ابن كثير و ورش عن نافع و ابن عامر: لا يهدّي، بفتح الهاء و تشديد الدال. و يعقوب و حفص بالكسر و التشديد. و الأصل: يهتدي، فأدغم، و فتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين. و روى أبو بكر: يهدّي باتّباع الهاء. و قرأ أبو عمرو بالإدغام المجرّد عن الفتحة أو الكسرة، و لم يكن يبال بالتقاء الساكنين، لأنّ المدغم في حكم المتحرّك. و عن نافع برواية قالون مثله.

فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما يقتضي صريح العقل بطلانه، كقولهم: إنّ هذه الأصنام آلهة، و أنّها شفعاء عند اللّه. و الاستفهام للتعجيب.

وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فيما يعتقدونه إِلَّا ظَنًّا مستندا إلى خيالات فارغة و أقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، و الخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهومة. و المراد بالأكثر الجميع، أو من ينتمي إلى تمييز و نظر، و لا يرضى بالتقليد الصرف.

ص: 209

إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ من العلم و الاعتقاد الحقّ الثابت شَيْئاً من الإغناء. و يجوز أن يكون مفعولا

به، و «من الحقّ» حالا منه. و فيه دليل على أنّ تحصيل العلم في الأصول واجب، و الاكتفاء بالتقليد و الظنّ غير جائز. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد على اتّباعهم للظنّ، و إعراضهم عن البرهان.

[سورة يونس [10]: الآيات 37 الى 39]

وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [37] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [38] بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [39]

ثمّ ردّ اللّه سبحانه على الكفّار قولهم: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ»، و قولهم:

إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم افترى هذا القرآن، فقال: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ و ما صحّ و ما استقام و كان محالا أن يكون مثله في علوّ أمره و إعجازه مفترى من الخلق وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مطابقا لما تقدّمه من الكتب الإلهيّة المشهود على صدقها، و لا يكون كذبا، كيف و هو- لكونه معجزا دونها- عيار عليها، شاهد على صحّتها. و نصبه بأنّه خبر ل «كان» مقدّرا، أو علّة لفعل محذوف، تقديره: لكن أنزله اللّه تصديق الّذي بين يديه.

وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ و تفصيل ما حقّق و أثبت من العقائد و فرض الأحكام، و بيان سائر الشرائع لا رَيْبَ فِيهِ منتفيا عنه الشكّ. و هو خبر ثالث داخل في

ص: 210

حكم الاستدراك. و يجوز أن يكون حالا من «الكتاب»، فإنّه مفعول في المعنى، و أن يكون

استئنافا.

مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر، تقديره: كائنا من ربّ العالمين. أو متعلّق ب «تصديق» أو ب «تفصيل»، و «لا رَيْبَ فِيهِ» اعتراض. أو بالفعل المعلّل بالتصديق و التفصيل، أي: أنزله اللّه كائنا من ربّ العالمين. و يجوز أن يكون حالا من الكتاب، أو من الضمير في «فيه». و مساق الآية بعد المنع من اتّباع الظنّ لبيان ما يجب اتّباعه و البرهان عليه.

أَمْ يَقُولُونَ بل أ يقولون افْتَراهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و معنى الهمزة فيه للإنكار. قُلْ إن افتريته كما زعمتم فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة و حسن النظم و قوّة المعنى على وجه الافتراء، فإنّكم مثلي في العربيّة و الفصاحة، و أشدّ تمرّنا في النظم و العبارة وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ و مع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به مِنْ دُونِ اللَّهِ سوى اللّه تعالى، فإنّه وحده قادر على أن يأتي بمثله، و لا يقدر على ذلك أحد غيره إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ محمدا اختلقه.

بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بالقرآن الّذي لم يعلموه من جميع وجوهه أوّل ما سمعوه، قبل أن يتدبّروا آياته، و يحيطوا بالعلم بشأنه و كنه أمره، من كيفيّة نظمه و صحّة معانيه. أو بما جهلوه و لم يحيطوا به علما، من ذكر البعث و سائر ما يخالف دينهم.

وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ و لم يقفوا بعد على حقيقته، و لم تبلغ أذهانهم معانيه، لنفورهم عمّا يخالف ما ألفوه من آبائهم. أولم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الإخبار بالغيوب حتّى يتبيّن لهم أنّه صدق أو كذب. و المعنى: أنّ القرآن معجز من جهة اللفظ و المعنى. ثمّ إنّهم فاجئوا تكذيبه قبل

أن يتدبّروا نظمه و يتفحّصوا معناه.

و معنى التوقّع في «لمّا» أنّه قد ظهر لهم بالأخرة إعجازه لمّا كرّر عليهم التحدّي، فجرّبوا قواهم في معارضته فضعفت دونها، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر

ص: 211

به طبقا لإخباره مرارا، فلم يقلعوا عن التكذيب تمرّدا و عنادا.

كَذلِكَ أي: مثل ذلك التكذيب كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.

[سورة يونس [10]: الآيات 40 الى 47]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ [40] وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [41] وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ [42] وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ [43] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [44]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ [45] وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ [46] وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [47]

ثمّ أخبر سبحانه أنّ من جملة هؤلاء الكفّار الّذين كذّبوا بالقرآن و نسبوه إلى الافتراء من سيؤمن به في المستقبل، و يصدّق بأنّه من عند اللّه، و منهم من يموت

ص: 212

على كفره، فقال: وَ مِنْهُمْ و من المكذّبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ من سيؤمن و يتوب عن كفره، أو يصدّق به في نفسه

و يعلم أنّه حقّ و لكن يعاند وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ فيما يستقبل، بأن يموت على الكفر، أو لا يؤمن به في نفسه، لقلّة تدبّره فيه وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين أو بالمصرّين.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: وَ إِنْ كَذَّبُوكَ و إن اصرّوا على تكذيبك بعد إلزام الحجّة فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ لي جزاء عملي و لكم جزاء عملكم، حقّا كان أو باطلا أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لا تؤاخذون بعملي، و لا أؤاخذ بعملكم. و مثله: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (1). و قوله:

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة.

و ملخّص المعنى: إن عاندوا و أصرّوا على تكذيبك فتبرّأ منهم و خلّهم، فقد أعذرت في التبليغ إليهم. و هذا وعيد لهم من اللّه تعالى، كقوله تعالى: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ (2). و لا تنافي بين هذه الآية و آية القتال، لأنّه براءة و وعيد، و ذلك لا ينافي الجهاد، فلا تكون منسوخة بإنزال آية (3) السيف كما توهّم بعضهم.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن و علمت الشرائع، و لكن لا يقبلون و لا يعون، كالأصمّ الّذي لا يسمع أصلا أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ أ تقدر على إسماعهم وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ و لو انضمّ إلى صممهم عدم تعقّلهم، لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرّس و استدلّ و علم إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب العقل و السمع جميعا فقد تمّ الأمر.

و فيه تنبيه على أنّ حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه، و لذلك لا

ص: 213


1- الشعراء: 216.
2- الأنعام: 135.
3- التوبة: 5 و 29.

توصف به البهائم، و هو لا يتأتّى إلّا باستعمال العقل السليم في تدبّره، و عقولهم لمّا كانت مؤفة بمعارضة الوهم و مشايعة الإلف و التقليد تعذّر إفهامهم الحكم و المعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق، و هو مجرّد استماع الصوت.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعاينون دلائل نبوّتك و لكن لا يصدّقونك أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ أ تقدر على هدايتهم وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ و إن انضمّ إلى عدم البصر عدم البصيرة، فإنّ المقصود من الإبصار هو الاعتبار و الاستبصار، و العمدة في ذلك البصيرة، و لذلك يحدس الأعمى المستبصر و يتفطّن لما لا يدركه البصير الأحمق. يعني: أنّهم في اليأس من قبولهم و تصديقهم الحقّ كالصمّ و العمي الّذين لا عقول لهم و لا بصائر. و الآية كالتعليل للأمر بالتبرّي و الإعراض عنهم. و الاستفهام في الآيتين للإنكار.

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسّهم و عقولهم وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها و تفويت منافعها عليهم. أو لا يظلمهم في تعذيبهم يوم القيامة، بل العذاب لا حق بهم على سبيل العدل و الاستحقاق. و قرأ حمزة و الكسائي بتخفيف «لكن» و رفع الناس.

ثمّ بيّن حالهم يوم الجمع بقوله: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يعني: يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا أو في القبور، لهول ما يرون.

و الجملة التشبيهيّة في موضع الحال، أي: يحشرهم مشبّهين بمن لم يلبث إلّا ساعة.

أو صفة ل «يوم»، و العائد محذوف تقديره: كأن لم يلبثوا قبله، أو لمصدر محذوف، أي: حشرا كأن لم يلبثوا قبله.

يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضا كأنّهم لم يتفارقوا إلّا قليلا،

و ذلك عند خروجهم عن القبور، ثمّ ينقطع التعارف بينهم، لشدّة العذاب عليهم. و هي حال

ص: 214

أخرى مقدّرة، نحو: خرجت مع البازي صائدا، و الصيد لا يكون حين الخروج بل بعده. أو بيان لقوله: «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا». أو متعلّق الظرف، و التقدير: يتعارفون يوم يحشرهم.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ على إرادة القول. و المعنى: يتعارفون بينهم قائلين ذلك. أو هي شهادة من اللّه على خسرانهم. و المعنى: قد خسروا في تجارتهم و بيعهم الإيمان بالكفر. وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ لطرق استعمال ما منحوا من القوى في تحصيل المعارف، فاستكسبوا بها جهالات أدّت بهم إلى الردى و العذاب الدائم، فما كانوا عارفين بالتجارة المربحة، و المثمرة للسعادة الأبديّة.

وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ نبصّرنّك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة.

و هو جواب «نتوفّينّك». و جواب «نرينّك» محذوف، مثل: فذاك. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ أي: مجاز عليه. ذكر الشهادة و أراد نتيجتها و مقتضاها، فكأنّه قال: ثمّ اللّه معاقب على ما يفعلون، و لذا رتّبها على الرجوع ب «ثمّ». أو معناه: مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة.

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية رَسُولٌ يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحقّ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبيّنات فكذّبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الرسول و مكذّبيه بِالْقِسْطِ بالعدل، فأنجي الرسول و أهلك المكذّبون وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ

و قيل: معناه لكلّ أمّة يوم القيامة رسول تنسب إليه، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر و الإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمن و عقاب الكافر، كقوله: وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ (1).

ص: 215


1- الزمر: 69.

[سورة يونس [10]: الآيات 48 الى 56]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [48] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ [49] قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [50] أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [51] ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [52]

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [53] وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [54] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [55] هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [56]

و لمّا وعد سبحانه المكذّبين بيّن عقيبه أنّهم استعجلوا ذلك على سبيل التكذيب و الردّ، فقال: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعادا له و استهزاء به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطاب منهم للنبيّ و المؤمنين.

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من فقر أو مرض وَ لا نَفْعاً من غنى أو صحّة، فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم؟! إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه، أو و لكن ما شاء اللّه من ذلك كائن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مضروب محدود من الزمان

ص: 216

لهلاكهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ لا يتأخّرون و لا يتقدّمون، فلا تستعجلوا فسيحين (1) وقتكم و ينجز وعدكم.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الّذي تستعجلون به بَياتاً وقت بيات و اشتغال بالنوم. و هو بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. أَوْ نَهاراً حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أيّ شي ء من العذاب يستعجلونه، و ليس شي ء منه يوجب الاستعجال، فإنّ كلّه مكروه، فلا يلائم الاستعجال؟! و هو متعلّق ب «أرأيتم» لأنّه بمعنى: أخبروني. و المجرمون وضع موضع الضمير، للدلالة على أنّهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجي ء الوعيد، لا أن يستعجلوه. و يجوز ان يكون معناه التعجّب، كأنّه قال: أي هول شديد يستعجلون منه؟

و قيل: الضمير في «منه» للّه تعالى، و تعلّق الاستفهام ب «أرأيتم». و المعنى:

أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون؟ و جواب الشرط محذوف، و هو: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه.

و يجوز أن يكون «ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثمّ تتعلّق الجملة ب «أرأيتم» أو بقوله: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ بمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. و «ماذا يستعجل» اعتراض. و دخول حرف الاستفهام على «ثمّ» لإنكار التأخير.

آلْآنَ تؤمنون و قد اضطررتم لحلوله. و هو على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: الآن آمنتم به. و عن نافع: الآن بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على اللام. وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ أي: بالعذاب تَسْتَعْجِلُونَ تكذيبا و استهزاء.

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على «قيل» المقدّر ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ

ص: 217


1- أي: سيأتي و يقرب وقتكم، من: حان يحين أي: قرب.

المؤلم على الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الكفر و المعاصي.

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ و يستخبرونك أَ حَقٌّ هُوَ أحقّ ما تقول من الوعد أو ادّعاء النبوّة، تقوله بجدّ أم باطل تهزل به. قاله حييّ بن أخطب لمّا قدم مكّة. و الأظهر أنّ الاستفهام فيه على أصله، لقوله: «و يستنبؤنك». و قيل: إنّه للإنكار. و «أحقّ» مبتدأ، و الضمير مرتفع به سادّ مسدّ الخبر، أو خبر مقدّم، و الجملة في موقع النصب ب «يستنبؤنك».

قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ إنّ العذاب لكائن لا شكّ فيه، أو ما ادّعيته لثابت.

و قيل: كلا الضميرين للقرآن. و «إي» بمعنى «نعم» و هو من لوازم القسم، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصّة، و لذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال:

إي و اللّه، و لا يقال: إي وحده. وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين العذاب، و هو لاحق بكم لا محالة.

وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ صفة نفس، أي: لكلّ نفس ظالمة بالشرك أو التعدّي على الغير ما فِي الْأَرْضِ من خزائنها و أموالها على كثرتها لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها من العذاب، من قولهم: افتداه بمعنى: فداه وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنّهم بهتوا بما عاينوا ممّا لم يحتسبوه من فظاعة الأمر و هوله، و رأوا من تفاقم الأمر ما سلبهم قواهم، فلم يطيقوا عنده بكاء و لا صراخا، و لم يقدروا أن ينطقوا سوى إسرار الندامة في القلوب.

و قيل: أسرّ الرؤساء منهم الندامة من أتباعهم، حياء منهم و خوفا من توبيخهم.

و قيل: أسرّوا الندامة أخلصوها، لأنّ إخفاءها إخلاصها، أو لأنّه يقال: سرّ الشي ء لخالصته، من حيث إنّها تخفى و يضنّ بها.

و قيل: معناه: أظهروها، من قولهم: أسرّ الشي ء و أشرّه إذا أظهره. فهو من

ص: 218

لغات الأضداد.

و يؤيّد المعنى الأوّل ما

روي عن أبي

عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إنّما اسرّوا الندامة و هم في النار كراهية لشماتة الأعداء».

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ليس فيه تكرار، لأنّ الأوّل قضاء بين الأنبياء و مكذّبيهم، و الثاني مجازاة المشركين على الشرك، أو الحكومة بين الظالمين و المظلومين. و الضمير إنّما يتناولهم و الحال أنّهم لم يذكروا لدلالة الظلم عليهم.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة و العقاب أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ من الثواب و العقاب حَقٌ ثابت كائن لا خلف فيه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لعدم تدبّرهم و تفكّرهم في العقبى، و قصر همّتهم إلى متاع الحياة الدنيا.

هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ في الدنيا، فهو يقدر عليهما في العقبى، لأنّ القادر لذاته لا يزول قدرته، و المادّة القابلة للحياة و الموت قابلة لهما أبدا وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالموت أو النشور.

[سورة يونس [10]: الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [57] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [58]

و لمّا تقدّم ذكر القرآن و ما فيه من الوعد و الوعيد، عقّبه سبحانه بذكر جلالة موقع القرآن و عظم محلّه في باب الأدّلة، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ

ص: 219

مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العمليّة الكاشفة عن محاسن الأعمال و مقابحها، و المرغّبة في المحاسن، و الزاجرة عن القبائح، و الحكمة النظريّة الّتي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك و سوء الاعتقاد، و هدى إلى الحقّ و اليقين، و رحمة للمؤمنين، حيث

أنزل عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، و تبدّلت مقاعدهم من دركات النيران بمصاعد من درجات الجنان. و التنكير في الجميع للتعظيم. و خصّ المؤمنين بالذكر، و إن كان القرآن عظة و رحمة لجميع الخلق، لأنّهم الّذين انتفعوا به.

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ بإنزال القرآن. و الباء متعلّقة بفعل يفسّره قوله:

فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أصل الكلام: بفضل اللّه و رحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا.

و التكرير لتأكيد التقرير، و للبيان بعد الإجمال، و إيجاب اختصاص الفضل و الرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا. فأحد الفعلين حذف لدلالة الآخر عليه.

و دخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنّه قيل: إن فرحوا بشي ء فليخصّوهما بالفرح، فإنّه لا مفروح به أحقّ منهما. و عن يعقوب: فلتفرحوا بالتاء على الأصل المرفوض.

و عن أبي سعيد الخدري و الحسن: فضل اللّه هو القرآن، و رحمته هو الإسلام. و عن مجاهد و قتادة و غيرهما: فضل اللّه الإسلام، و رحمته القرآن.

و روى أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من هداه اللّه للإسلام، و علّمه القرآن، ثمّ شكا الفاقة كتب اللّه عزّ و جلّ الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة، ثمّ تلا: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» إلى آخر الآية».

و روى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عبّاس: فضل اللّه رسول اللّه، و رحمته عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. و هو أيضا مرويّ عن الباقر عليه السّلام.

هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا، فإنّها منتهية إلى الزوال. و ضمير «هو» راجع إلى ذلك. و قرأ ابن عامر: تجمعون، على معنى: فبذلك فليفرح

ص: 220

المؤمنون، فهو خير ممّا تجمعونه أيّها المخاطبون.

[سورة يونس [10]: الآيات 59 الى 60]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ

اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [59] وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ [60]

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخاطب كفّار مكّة، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ جعل الرزق منزلا لأنّه مقدّر في السماء، محصّل بأسباب منها. و «ما» في موضع النصب ب «أنزل» أو ب «أرأيتم»، فإنّه بمعنى: أخبروني. و «لكم» دلّ على أنّ الرزق لا يكون إلّا حلالا، و لذا وبّخ على التبعيض فقال: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا مثل: هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ (1) ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا « (2)» و كالسائبة و البحيرة و الوصيلة و الحام و نحوها.

قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في التحريم و التحليل، فتقولون ذلك بحكمه أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في نسبة ذلك إليه؟! و يجوز أن تكون المنفصلة متّصلة ب «أرأيتم»، و «قل» تكرير للتأكيد، و أن يكون الاستفهام للإنكار و «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على اللّه تعالى.

و كفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجوّز فيما يسأل عنه من الأحكام، و باعثة على وجوب الاحتياط فيه، و أن لا يقول أحد في شي ء جائز أو غير جائز

ص: 221


1- الأنعام: 138.
2- الأنعام: 139.

إلّا بعد إيقان و إتقان، و من لم يوقن فليتّق اللّه و ليصمت، و إلّا فهو مفتر على اللّه.

وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أيّ شي ء ظنّهم يَوْمَ الْقِيامَةِ أي:

أ يحسبون أنّهم لا يجازون عليه يوم الجزاء؟ و هو منصوب بالظنّ. و في إبهام الوعيد تهديد عظيم.

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل، و هداهم بإرسال الرسل و إنزال الكتب وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعم الجليلة.

[سورة يونس [10]: آية 61]

وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [61]

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إمهاله إيّاهم ليس لجهل بحالهم، فقال: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي: لا تكون يا محمّد في أمر من أمور الدين و حال من أحواله، من تبليغ الرسالة و تعليم الشريعة و غير ذلك. و أصله الهمزة، من: شأنت شأنه إذا قصدت قصده. و الضمير في قوله: وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ للشأن، لأنّ تلاوة القرآن معظم شأن الرسول، أو لأنّ القرآن يكون لشأن، فيكون التقدير: من أجله. و مفعول «تتلو»:

مِنْ قُرْآنٍ على أنّ «من» تبعيضيّة، أو مزيدة لتأكيد النفي. أو للقرآن، و إضماره قبل الذكر ثمّ بيانه تفخيم له. أو للّه تعالى.

وَ لا تَعْمَلُونَ أنتم جميعا مِنْ عَمَلٍ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، و لذلك ذكر حيث خصّ ما فيه فخامة، و ذكر حيث عمّ ما يتناول الجليل

ص: 222

و الحقير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين مطّلعين عليه إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ تخوضون فيه و تندفعون، من: أفاض في العمل إذا اندفع فيه.

وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ و لا يبعد عنه، و لا يغيب عن علمه. و قرأ الكسائي

بكسر الزاي هنا و في سبأ (1). مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ في موضع الرفع، و «من» زائدة.

و الذرّة ما يوازن نملة صغيرة أو هباء. فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ أي: في الوجود و الإمكان، فإنّ العامّة لا تعرف ممكنا غيرهما ليس فيهما و لا متعلّقا بهما. و تقديم الأرض لأنّ الكلام في شؤون أهلها و أحوالهم و أعمالهم. و المقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه بها. وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلام برأسه مقرّر لما قبله. و «لا» نافية، و «أصغر» اسمها، و «في كتاب» خبرها.

و قرأ حمزة و يعقوب بالرفع على الابتداء و الخبر. و من عطف على لفظ «مثقال ذرّة» و جعل الفتح بدل الكسر، لامتناع الصرف، أو على محلّه مع الجارّ، جعل الاستثناء منقطعا. و المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.

[سورة يونس [10]: الآيات 62 الى 65]

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [62] الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [63] لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [64] وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [65]

و لمّا ذكر أنّه يحصي أعمال خلقه بشّر من تولّاه و ذكر ما أعدّ لهم، فقال:

ص: 223


1- سبأ: 3.

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الّذين يتولّونه بالطاعة، و يتولّاهم بالكرامة.

و عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير: هم قوم ذكر هم اللّه بما هم عليه من سيماء الخير و الإخبات. و قيل: هم المتحابّون في اللّه. ذكر ذلك في خبر مرفوع.

و عن عليّ بن الحسين عليه السّلام: أنّهم الّذين أدّوا فرائض اللّه، و أخذوا بسنن رسول اللّه، و تورّعوا

عن محارم اللّه، و زهدوا في عاجل هذه الدنيا، و رغبوا فيما عند اللّه، و اكتسبوا الطيّب من رزق اللّه لمعايشهم، لا يريدون به التفاخر و التكاثر، ثمّ أنفقوه فيما يلزمهم من حقوق واجبة، فأولئك الّذين يبارك اللّه لهم فيما اكتسبوا، و يثابون على ما قدّموا لآخرتهم.

لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات مأمول.

و عن ابن زيد: أولياء اللّه هم الّذين قال اللّه تعالى في شأنهم: الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ فالآية الأولى مجملة، و هذه مفسّرة لها.

لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هو ما بشّر به المتّقين في كتابه و على لسان نبيّه، و ما يريهم من الرؤيا الصالحة، و ما يسنح لهم من المكاشفات، و بشرى الملائكة لهم عند النزع بأن لا تخافوا و لا تحزنوا وَ فِي الْآخِرَةِ بتلقّي الملائكة إيّاهم مسلمين مبشّرين بالفوز و الكرامة. و قيل: «الَّذِينَ آمَنُوا» بيان لتولّيهم لربّهم، و هذه الآية بيان لتولّيه لهم.

و روى عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «يا عقبة لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الدين الّذي أنتم عليه، و ما بين أحدكم و بين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن يبلغ نفسه إلى هذه، و أومأ بيده إلى الوريد، ثمّ قال: إنّ هذا في كتاب اللّه، و قرأ: الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ».

و محلّ «الّذين آمنوا» النصب أو الرفع على المدح، أو على وصف الأولياء، أو على الابتداء، و خبره «لهم البشرى».

لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لا تغيير لأقواله، و لا إخلاف لمواعيده ذلِكَ إشارة

ص: 224

إلى كونهم مبشّرين

في الدارين هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هذه الجملة و الّتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشّر به و تعظيم شأنه، و ليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتّصل بما قبله.

وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إشراكهم و تكذيبهم و تهديدهم و تدبيرهم في إبطال أمرك، و سائر ما يتكلّمون في شأنك. و قرأ نافع: يحزنك، من: أحزنه. و كلاهما بمعنى. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً استئناف بمعنى التعليل، كأنّه قيل: لا تحزن بقولهم و لا تبال بهم، لأنّ الغلبة و القهر جميعا للّه و في ملكه، لا يملك غيره شيئا منها، فهو يقهرهم و ينصرك عليهم هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بعزماتهم، فيكافئهم عليها.

[سورة يونس [10]: آية 66]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [66]

و لمّا سلّى اللّه سبحانه نبيّه بقوله: «وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» فإنّهم لا يفوتونني، بيّن بعد ذلك ما يدلّ على صحّته، فقال: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعني: العقلاء و الثقلين. و إذا كان العقلاء عبيده و في مملكته، و لا يصلح أحد منهم للإلهيّة، فما وراءهم ممّا لا يعقل و لا يميّز أحقّ أن لا يكون له ندّا و لا شريكا، فمن اتّخذ غيره ربّا من ملك أو إنسيّ أو جنّيّ فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد و ترك النظر.

وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي شركاء على الحقيقة، و إن كانوا يسمّونها شركاء. و يجوز أن يكون «شركاء» مفعول «يدعون»، و مفعول «يتّبع» محذوف دلّ عليه إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي: ما

يتّبعون يقينا، و إنّما يتّبعون ظنّهم أنّها شركاء. و يجوز أن تكون «ما» استفهاميّة منصوبة ب «يتّبع»، أي: أيّ شي ء

ص: 225

يتّبعون، و موصولة معطوفة على «من»، أي: ألا أنّ للّه الّذي يتّبعون من الأصنام.

وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون فيما ينسبون إلى اللّه تعالى، أو يحزرون و يقدّرون أنّها شركاء تقديرا باطلا.

[سورة يونس [10]: آية 67]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [67]

ثمّ نبّه على عظيم نعمه و كمال قدرته المتوحّد هو بهما، ليدلّهم على تفرّده باستحقاق العبادة، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ممّا تقاسون في نهاركم من تعب التردّد في المعاش وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي: مضيئا تبصرون فيه مطالب أرزاقكم و مكاسبكم، و تهتدون بها. و إنّما قال: «مبصرا» و لم يقل: لتبصروا فيه، تفرقة بين الظرف المجرّد عن السبب و الظرف الّذي هو سبب. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبّر و اعتبار.

[سورة يونس [10]: الآيات 68 الى 70]

قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [68] قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [69] مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [70]

ثمّ حكى اللّه سبحانه عن صنف من الكفّار بأنّهم أضافوا إليه اتّخاذ الولد، و هم طائفتان: إحداهما: كفّار قريش و العرب، فإنّهم قالوا: الملائكة بنات اللّه،

ص: 226

و الأخرى: النصارى الّذين قالوا: المسيح ابن اللّه، فقال: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي:

تبنّاه سُبْحانَهُ تنزيه له عن التبنّي، فإنّه لا يصحّ إلّا ممّن يتصوّر له الولد، و تعجّب من كلمتهم الحمقاء.

ثمّ علّل لتنزيهه عن الولد بقوله: هُوَ الْغَنِيُ فإنّ اتّخاذ الولد مسبّب عن الحاجة الّتي تنزّه اللّه سبحانه عنها، لأنّه الغنيّ بالذات مستغن عن جميع الممكنات لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ تقرير لغناه إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا ما عندكم من حجّة بهذا القول. و الباء متعلّق ب

«سلطان»، أو بقوله: «إن عندكم» على أن يجعل القول مكانا للسلطان، كقولك: ما عندكم بأرضكم موز، كأنّه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان. و هذا نفي لمعارض ما أقامه من البرهان، مبالغة في تجهيلهم، و تحقيقا لبطلان قولهم.

ثمّ وبّخ و قرّع على اختلافهم و جهلهم، فقال: أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ و فيه دليل على أنّ كلّ قول لا دليل عليه فهو جهالة، و أنّ العقائد لا بدّ لها من دليل قاطع، و أنّ التقليد فيها غير جائز.

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتّخاذ الولد و إضافة الشريك إليه لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من النار، و لا يفوزون بالجنّة.

مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف، أي: افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر، أو حياتهم أو تقلّبهم عن الحقّ متاع. أو مبتدأ خبره محذوف، أي: لهم تمتّع في الدنيا. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت فيلقون الشقاء المؤبّد بعده ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.

[سورة يونس [10]: الآيات 71 الى 74]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ

ص: 227

أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ [71] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [72] فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [73] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [74]

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه أن يقرأ عليهم أخبار نوح و قومه ليعتبروا من حالهم و يدعوا الشرك، فقال: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ خبره مع قومه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم و شقّ عليكم مَقامِي أي: نفسي، تسمية للشي ء باسم لازمه، فإنّ المقام لازم للنفس و لا ينفكّ منه، كقولهم: فعلت كذا لمكان فلان، أي: لنفسه. أو يكون مصدرا ميميّا، و معناه: كوني و إقامتي بينكم مدّة مديدة، أو قيامي على القدمين بالدعوة، فإنّهم كانوا إذا وعظوا قاموا على أرجلهم ليكون كلامهم مسموعا. وَ تَذْكِيرِي إيّاكم بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ وثقت به و اعتمدت.

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فاعزموا عليه، من: أجمع الأمر و أزمعه إذا نواه و عزم عليه وَ شُرَكاءَكُمْ أي: مع شركائكم، أي: احتشدوا كلّكم فيما تريدون من إهلاكي، و ابذلوا وسعكم فيه. و هذا على وجه التهكّم، كقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ

ص: 228

ثُمَّ كِيدُونِ (1). و قيل: إنّه معطوف على «أمركم» بحذف المضاف، أي: و أمر شركائكم. و قيل: إنّه منصوب بفعل محذوف، تقديره: و ادعوا شركاءكم. و عن نافع:

فاجمعوا من الجمع. و المعنى: أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده، و السعي في إهلاكه على أيّ وجه يمكنهم.

ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ قصدكم إلى إهلاكي عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستورا، و اجعلوه ظاهرا مكشوفا، من: غمّه إذا ستره. و في الحديث: «لا غمّة في الفرائض». و إنّما قال ذلك إظهارا لقلّة مبالاته، و ثقته بما وعده ربّه من كلاءته و عصمته إيّاه، و أنّهم لن يجدوا إليه سبيلا. أو المعنى: ثمّ لا يكن حالكم عليكم غمّا و همّا إذا أهلكتموني، و تخلّصتم من ثقل مقامي و تذكيري.

ثُمَّ اقْضُوا أدّوا إِلَيَ ذلك الأمر الّذي تريدون بي وَ لا تُنْظِرُونِ و لا تمهلوني.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن تذكيري و نصيحتي، و عن اتّباع الحقّ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يوجب تولّيكم لثقله عليكم، و اتّهامكم إيّاي لأجله إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي في الآخرة على الدعوة و التذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ لا تعلّق له بكم، يثيبني به آمنتم أو تولّيتم. و المعنى: ما نصحتكم إلّا لوجه اللّه لا لغرض من أغراض الدنيا.

وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المستسلمين المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره و لا أرجو غيره.

فَكَذَّبُوهُ فأصرّوا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجّة، و بيّن أنّ تولّيهم ليس إلّا لعنادهم و تمرّدهم، لا جرم حقّت عليهم كلمة العذاب فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من الغرق فِي الْفُلْكِ في السفينة، و كانوا ثمانين وَ جَعَلْناهُمْ و جعلنا الّذين نجوا مع نوح خَلائِفَ خلفا لمن هلك بالغرق وَ أَغْرَقْنَا بالطوفان الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ أيّها السامع كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ هذا تعظيم لما جرى

ص: 229


1- الأعراف: 195.

عليهم، و تحذير لمن كذّب الرسول، و تسلية له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ يعني: هودا و صالحا و إبراهيم و لوطا و شعيبا، كلّ رسول إلى قومه فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة، و الحجج المبيّنة، المثبتة لدعواهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فما استقام لهم أن يؤمنوا، لشدّة شكيمتهم في الكفر، و تصميمهم على العناد و المكابرة، كما قال: بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي: بسبب تعوّدهم تكذيب الحقّ، و تمرّنهم عليه قبل بعثة الرسل إليهم. يعني: لم يكن بين حالتيهم فرق قبل البعثة و بعدها.

كَذلِكَ أي:

مثل ذلك الطبع و الخذلان و التخلية نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي نخذلهم و نسدّ عليهم أبواب التوفيق و أسباب اللطف، لانهماكهم في الضلال، و توغّلهم في اتّباع الغيّ و العناد و اللجاج. أو نجعل على قلوبهم سمة و علامة على كفرهم ليعرفهم بها الملائكة فيلعنوهم. و باقي وجوه المعاني في الطبع قد مرّ (1) في أوائل سورة البقرة.

[سورة يونس [10]: الآيات 75 الى 86]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ [75] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [76] قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ [77] قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا

ص: 230


1- راجع ج 1: 54.

وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [78] وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ [79]

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [80] فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [81] وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [82] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [83] وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [84]

فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [85] وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [86]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد هؤلاء الرسل مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ رؤساء قومه و أهل مجلسه بِآياتِنا

بالآيات التسع فَاسْتَكْبَرُوا عن اتّباعهما بعد تبيّنها لهم وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ معتادين الإجرام، فلذلك تهاونوا برسالة ربّهم، و اجترءوا على ردّها.

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا و عرفوه بتظاهر الآيات الواضحة، و تتابع المعجزات القاهرة المزيحة للريب و الشكّ قالُوا من فرط تمرّدهم إِنَّ هذا

ص: 231

لَسِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر أنّه سحر، أو فائق فيه، واضح فيما بين إخوانه.

قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِ للمعجز الثابت لَمَّا جاءَكُمْ إنّه لسحر، فحذف المحكيّ المقول لدلالة ما قبله عليه. و لا يجوز أن يكون أَ سِحْرٌ هذا، لأنّهم جزموا القول، بل هو استئناف بإنكار ما قالوه من عيبه و الطعن عليه. اللّهمّ إلّا أن يكون الاستفهام فيه للتقرير و المحكيّ مفهوم قولهم. و يجوز أن يكون معنى «أ تقولون»: أ تعيبونه و تطعنون فيه؟ من قولهم: فلان يخاف القالة، أي: العيب، كقوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (1)، فيستغنى عن المفعول.

وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ من تمام كلام موسى عليه السّلام، للدلالة على أنّه ليس بسحر، فإنّه لو كان سحرا لاضمحلّ و لم يبطل سحر السحرة، و لأنّ العالم بأنّه لا يفلح الساحر لا يسحر. و يجوز أن يكون قوله: «أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» حكاية من تمام قولهم، كأنّهم قالوا: أ جئتما بالسحر تطلبان به الفلاح و لا يفلح الساحرون، كما قال موسى للسحرة: «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ».

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا لتصرفنا. و اللّفت و الفتل أخوان، و مطاوعهما الالتفات و الانفتال. عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أي: الملك فيها. سمّي بها لأنّ الملوك موصوفون بالكبر أو التكبّر على الناس فيها باستتباعهم. وَ ما نَحْنُ

لَكُما بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين فيما جئتما به.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ و قرأ حمزة و الكسائي: بكلّ سحّار عَلِيمٍ حاذق فيه.

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم

ص: 232


1- الأنبياء: 60.

و عصيّهم المجوّفة المملوءة بالزئبق، كما وقع في سورة طه (1) قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي: الّذي جئتم به هو السحر، لا الّذي سمّيتموه سحرا من المعجزات الباهرة.

و قرأ أبو عمرو: السحر، على أنّ «ما» استفهاميّة مرفوعة بالابتداء، و «جئتم به» خبرها، و «السحر» بدل منه. أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أهو السحر؟ أو مبتدأ خبره محذوف، أي: السحر هو؟ و يجوز أن ينتصب «ما» بفعل يفسّره ما بعده، تقديره: أيّ شي ء جئتم به أهو السحر؟

إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه و يدمّر عليه، أو سيظهر بطلانه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته و لا يقوّيه. و فيه دليل على أنّ السحر إفساد و تمويه لا حقيقة له.

وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَ و يثبته بِكَلِماتِهِ بأوامره و قضاياه، و مواعيده بالنصر وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

فَما آمَنَ لِمُوسى فما صدّقه في مبدأ أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ إلّا طائفة من ذراري بني إسرائيل، و ذلك أنّ موسى عليه السّلام دعا الآباء فلم يجيبوه إلّا طائفة من شبّانهم. و قيل: الضمير لفرعون، و الذرّية: مؤمن آل فرعون، و امرأته آسية، و خازنه، و زوجة خازنه، و ماشطته.

عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أي: مع خوف منهم. و الضمير لفرعون.

و جمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو المراد بفرعون آله، كما يقال:

ربيعة و مضر. أو للذريّة أو للقوم، أي: على خوف من فرعون و خوف

من أشراف بني إسرائيل، لأنّهم كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم و على أنفسهم. أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي: يعذّبهم فرعون. و هو بدل منه، أو مفعول «خوف». و إفراده بالضمير

ص: 233


1- طه: 66.

للدلالة على أنّ الخوف من الملأ كان بسببه.

وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ لغالب فيها وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الكبر و العتوّ و الظلم و الفساد، حتّى ادّعى الربوبيّة و استرقّ أسباط الأنبياء.

وَ قالَ مُوسى لمّا رأى تخوّف المؤمنين به يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ صدّقتم به و بآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا اسندوا أمركم في العصمة من فرعون و اعتمدوا عليه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مستسلمين منقادين لقضاء اللّه تعالى، مخلصين له العبادة، بحيث لا حظّ للشيطان فيها أصلا و رأسا. و ليس هذا من تعليق الحكم بشرطين، فإنّ المعلّق بالايمان وجوب التوكّل، فإنّه المقتضي له، و المشروط بالإسلام حصول التوكّل، فإنّه لا يوجد مع التخليط. و نظيره: إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت، و إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوّة.

فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لأنّهم كانوا مؤمنين مخلصين، و لذلك أجيبت دعوتهم، فنجّاهم من فرعون و قومه، و جعلهم خلفاء في أرضه. فمن أراد أن يصلح للتوكّل على ربّه و التفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص.

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً موضع فتنة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تسلّطهم علينا تخلية فيفتنونا عن ديننا أو يعذّبونا.

وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من كيد فرعون و قومه، و من شؤم مشاهدتهم و استعبادهم إيّانا. و في تقديم التوكّل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكّل أوّلا لتجاب دعوته.

[سورة يونس [10]: الآيات 87 الى 89]

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [87] وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ

ص: 234

آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [88] قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [89] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أي: اتّخذا مباءة و مرجعا، كقولك:

توطّنه، إذا اتّخذه وطنا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً تسكنون فيها، أو ترجعون إليها للعبادة وَ اجْعَلُوا أنتما و قومكما بُيُوتَكُمْ تلك البيوت قِبْلَةً مصلّى. و قيل:

مساجد متوجّهة نحو القبلة، لما روي أنّه دخل موسى مصر بعد ما أهلك اللّه فرعون، أمروا باتّخاذ مساجد يذكر فيها اسم اللّه تعالى، و أن يجعلوا مساجدهم نحو القبلة، يعني: الكعبة، و كان موسى و من معه يصلّون إلى الكعبة. و قيل: معناه. اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها، و داوموا على فعلها في البيوت.

و عن ابن عبّاس: إنّ فرعون أمر بتخريب مساجد بني إسرائيل و منعهم من الصلاة، فأمروا أن يتّخذوا مساجد في بيوتهم يصلّون فيها خوفا من فرعون، و ذلك قوله: «وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» أي: صلّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف. و هذا القول أنسب لسوق كلام ما قبله و ما بعده.

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة في الدنيا و الجنّة في العقبى. ثنّى الضمير أوّلا لأنّ التبوّء للقوم و اتّخاذ المعابد ممّا يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور. ثم جمع لأنّ جعل البيوت مساجد و الصلاة فيها ممّا ينبغي أن يفعله كلّ أحد. ثمّ وحّد لأنّ

ص: 235

البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة.

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً ما يتزيّن به من اللباس و المراكب و نحوهما وَ أَمْوالًا و أنواعا من المال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء عليهم بلفظ الأمر حين لم يبق له طمع في إيمانهم، فاشتدّ غضبه عليهم لمّا علم من ممارسة أحوالهم أنّه لا يكون غير الضلال، فدعا عليهم بما علم أنّه لا يكون غيره، ليشهد عليهم أنّهم لا يستحقّون إلّا الخذلان، و أن يخلّي بينهم و بين ضلالهم.

و قيل: اللام للعاقبة، و هي متعلّقة ب «آتيت». و قيل: للتعليل، على أنّهم جعلوا نعمة اللّه سببا في الضلال، فكأنّهم أعطوها ليضلّوا.

و يؤيّد الأوّل قوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أهلكها. و الطمس: المحق.

قيل: المراد بالطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها. قال مجاهد و قتادة و عامّة أهل التفسير: صارت جميع أموالهم بعد ذلك الدعاء حجارة، حتّى السكّر و الفانيذ (1).

وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي: و اقسها و اطبع عليها على وجه الخذلان حتّى لا تنشرح للايمان فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ جواب للدعاء، أو دعاء عليهم بلفظ النهي، أو عطف على «ليضلّوا» و ما بينهما دعاء معترض. و قرأ الكوفيّون: ليضلّوا من الضلال. و فائدة هذا الدعاء إظهار التبرّي منهم.

قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما يعني: موسى و هارون، لأنّه كان يؤمّن فسمّاهما داعيين فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة و الزيادة في إلزام الحجّة، فقد لبث نوح في قومه ألف عام إلّا قليلا، و لا تستعجلا، فإنّ ما طلبتماه كائن و لكن في وقته.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه مكث فرعون فيهم بعد.

ص: 236


1- الفانيذ: ضرب من الحلواء، فارسيّ معرّب.

الدعاء أربعين سنة».

وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الجهلة في الاستعجال، فإنّ العجلة ليست بمصلحة. و هذا كما قال لنوح: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (1) أو في عدم الوثوق و الاطمئنان بوعد اللّه تعالى.

و عن ابن عامر برواية ابن ذكوان: و لا تتّبعان بالنون الخفيفة و كسرها، لالتقاء الساكنين، تشبيها بنون التثنية. و لا تتبعانّ من: تبع. و لا تتبعان أيضا.

[سورة يونس [10]: الآيات 90 الى 92]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [90] آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [91] فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [92]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي: جوّزناهم في البحر، بأن يبّسنا لهم البحر، و فرقنا لهم اثني عشر فرقة حتّى بلغوا الشطّ حافظين لهم فَأَتْبَعَهُمْ فأدركهم. يقال: تبعته حتّى أتبعته. فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً باغين و عادين، أو للبغي و العدو.

روي أنّ اللّه سبحانه لمّا أجاب دعاء موسى أمره بإخراج بني إسرائيل من

ص: 237


1- هود: 46.

مصر ليلا، فخرج معهم، و تبعهم فرعون و جنوده مشرقين حتّى انتهوا إلى البحر، و أمر اللّه سبحانه موسى عليه السّلام فضرب البحر بعصاه فانفلق اثني عشر فرقا، و صار لكلّ سبط طريق يابس، و ارتفع الماء بين كلّ طريقين كالجبل، و صار في الماء شبه الخروق، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض. فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر فرأوا البحر بتلك الهيئة فهابوا دخول البحر، و كان فرعون على حصان أدهم (1)، فجاء جبرئيل على فرس وديق (2)، و خاض البحر و ميكائيل يسوقهم، فلمّا شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل انسلّ (3) خلفه في الماء، و اقتحمت الخيول خلفه، فلمّا دخل آخرهم البحر و همّ أوّلهم أن يخرج انطبق الماء عليهم.

حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ لحقه الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ أي: بأنّه لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ و قرأ حمزة و الكسائي: إنّه بالكسر، على إضمار القول، أو الاستئناف بدلا و تفسيرا ل «آمنت».

و المعنى: نكث فرعون عن الإيمان أوان القبول، و بالغ فيه حين لا يقبل، بأن كرّر المعنى الواحد ثلاث مرّات في ثلاث عبارات حرصا على القبول، فلم يقبل منه حيث أخطأ وقته، و قاله حين لم يبق له اختيار قطّ، و كانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار و عند بقاء التكليف. و يحكى أنّه حين قال: آمنت باللّه وحده، أخذ جبرئيل من رمل البحر فدسّه في فيه، و قال: آلْآنَ أ تؤمن الآن و قد أيست من نفسك، و لم يبق لك اختيار؟! وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ قبل ذلك مدّة عمرك وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الضالّين المضلّين عن الإيمان.

روي أنّ جبرئيل أتاه على صورة مستفت حال جلوسه على سرير السلطنة،.

ص: 238


1- أي: يضرب لونه إلى السواد. و الدهمة: السواد.
2- ودقت ذات الحافر: أرادت الفحل، فهي وديق.
3- أي: خرج.

و قال: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله و نعمته فكفر نعمته في حقّه و ادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العبّاس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيّده الكافر نعماءه أن يغرّق

في البحر. فلمّا ألجمه (1) الغرق ناوله جبرئيل خطّه فعرفه ثمّ غرق.

و روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: ما أتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا كئيبا حزينا، و لم يزل كذلك منذ أهلك اللّه فرعون، فلمّا أمره اللّه سبحانه بنزول هذه الآية نزل و هو ضاحك مستبشر، فقال: حبيبي جبرئيل ما أتيتني إلّا و تبيّنت الحزن في وجهك حتّى الساعة. قال: نعم يا محمّد لمّا أغرق اللّه فرعون قال: آمنت أنّه لا إله إلّا الّذي آمنت به بنو إسرائيل، فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، فقلت: الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين، ثمّ خفت أن تلحقه الرحمة من عند اللّه و يعذّبني على ما فعلت، فلمّا كان الآن و أمرني أن أودّي إليك ما قلته أنا لفرعون أمنت و علمت أنّ ذلك كان للّه رضا.

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ننقذك ممّا وقع فيه قومك من قعر البحر و نجعلك طافيا، أو نلقيك على نجوة من الأرض- و هي المكان المرتفع- ليراك بنو إسرائيل. و قرأ يعقوب: ننجيك، من: أنجى. بِبَدَنِكَ في موضع الحال، أي: في الحال الّتي لا روح فيك، يعني: عاريا عن الروح، و إنّما أنت بدن فقط. أو كاملا سويّا، لم ننقص منه شيئا و لم يتغيّر. أو عريانا من غير لباس. أو بدرعك، و كانت له درع من ذهب يعرف بها.

لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن وراءك علامة. و هم بنو إسرائيل، إذ كان في أنفسهم أنّ فرعون أجلّ شأنا من أن يغرق، حتّى كذّبوا موسى عليه السّلام حين أخبرهم بغرقه، فألقاه اللّه على الساحل حتّى عاينوه مطروحا على ممرّهم من الساحل. أو

ص: 239


1- ألجم الماء فلانا: بلغ فاه.

لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك، عبرة و نكالا عن الطغيان، فلا يجترأ على نحو ما اجترأت عليه. أو حجّة تدلّهم على أنّ الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن و كبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظانّ الربوبيّة، فما الظنّ بغيره؟! وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها.

[سورة يونس [10]: آية 93]

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [93]

ثمّ بيّن سبحانه حال بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون، فقال: وَ لَقَدْ بَوَّأْنا أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا صالحا مرضيّا. و هو الشام و مصر.

وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ فَمَا اخْتَلَفُوا في أمر دينهم، و ما تشعّبوا فيه شعبا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إلّا من بعد ما قرءوا التوراة و علموا أحكامها. أو في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا من بعد ما علموا صدقه بنعوته و تظاهر معجزاته. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيميز المحقّ من المبطل بالإنجاء و الإهلاك.

[سورة يونس [10]: الآيات 94 الى 97]

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [94] وَ لا تَكُونَنَّ

ص: 240

مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ [95] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [96] وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [97]

ثمّ بيّن سبحانه صحّة نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القصص. و هذا على سبيل الفرض و التقدير، كما تقول لعبدك: إن كنت عبدي فأطعني، و لأبيك: إن كنت والدي فتعطّف عليّ، و لولدك: إن كنت ابني فبرّ بي، و يريد بذلك المبالغة. فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فاسأل علماء أهل الكتاب، كعبد اللّه بن سلام و كعب الأحبار و تميم الداري و غيرهم، فإنّه محقّق عندهم، ثابت

في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك. و المراد تحقيق ذلك، و الاستشهاد بما في الكتب المتقدّمة، و أنّ القرآن مصدّق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحّة ما أنزل إليه، أو تهييج الرسول و زيادة تثبيته، كما ازداد إبراهيم بمعاينة إحياء الموتى، لا إمكان وقوع الشكّ له، و لذلك

قال عليه السّلام: «لا أشكّ و لا أسأل».

و عن الصادق عليه السّلام: «لم يشكّ عليه السلام و لم يسأل».

و قيل: الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد أمّته أو كلّ من يسمع، أي: إن كنت أيّها السامع في شكّ ممّا أنزلنا على لسان نبيّنا إليك. و فيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلّها بالرجوع إلى أهل العلم.

و على المعنى المذكور أيضا قوله: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: ثبت عندك بالآيات القاطعة و البراهين الساطعة أنّ ما أتاك هو الحقّ الواضح الّذي لا مدخل للمرية فيه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ بالتزلزل عمّا أنت عليه من الحزم و اليقين.

ص: 241

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ هذا أيضا من باب التهييج و التثبيت و قطع أطماع الكفّار عنه، كقوله: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (1).

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ثبتت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ قول اللّه الّذي كتبه في اللوح و أخبر به الملائكة من أنّهم يموتون على الكفر و يخلدون في العذاب لا يُؤْمِنُونَ إذ لا يكذّب كلامه.

وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ كلّ معجزة و دلالة واضحة ممّا يقترحونها حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فيصيروا ملجئين إلى الإيمان، و حينئذ لا ينفعهم كما لم ينفع فرعون.

[سورة يونس [10]: آية 98]

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ

آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [98]

و لمّا ذكر سبحانه أنّ إيمان فرعون لم يقبل عند معاينة العذاب، وصل ذلك بذكر إيمان قوم يونس عليه السّلام قبيل نزول العذاب، فقال: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ فهلّا كانت قرية- أي: أهل قرية- من القرى الّتي أهلكناها آمَنَتْ وقت بقاء التكليف قبل معاينة العذاب، و لم يؤخّروا التوبة إليها كما أخّر فرعون فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله اللّه تعالى منها و يكشف العذاب عنها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا أوّل ما رأوا أمارة العذاب و لم يؤخّروه إلى حلوله كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.

و يجوز أن تكون الجملة في معنى النفي، لتضمّن حرف التحضيض معناه،

ص: 242


1- القصص: 86.

فيكون الاستثناء متّصلا، لأنّ المراد من القرى أهاليها، كأنّه قال: ما من أهل قرية من القرى العاصية الهالكة أهلها حين مشاهدة العذاب فنفعهم إيمانهم إلّا قوم يونس لمّا آمنوا رفعنا عنهم العذاب وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إلى آجالهم.

روي أنّ يونس عليه السّلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فكذّبوه و أصرّوا عليه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث، و قيل: إلى أربعين، فذهب عنهم مغاضبا، فقالوا:

إن رأينا أسباب الهلاك آمنّا بك. فلمّا مضى اثنان أو مضت خمس و ثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا، ثمّ يهبط حتّى يغشى مدينتهم، و يسوّد سطوحهم، فهابوا و طلبوا يونس فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، و برزوا إلى الصعيد بأنفسهم و نسائهم و صبيانهم و دوابّهم، و فرّقوا بين النساء و الصبيان، و بين الدوابّ و أولادها، فحنّ بعضها إلى بعض، و علت الأصوات و العجيج، و أظهروا الإيمان و التوبة و تضرّعوا، فرحمهم اللّه و كشف عنهم، و كان يوم عاشوراء يوم الجمعة.

و عن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتّى إنّ الرجل كان ليأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيردّه.

و قيل: خرجوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم، فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، و يا حيّ محيي الموتى، و يا حيّ لا إله إلّا أنت. فقالوها فكشف عنهم العذاب.

و عن الفضيل بن عياض: قالوا: إنّ ذنوبنا قد عظمت و جلّت، و أنت أعظم منها و أجلّ، افعل بنا ما أنت أهله، و لا تفعل بنا ما نحن أهله.

و روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان فيهم رجلان، اسم أحدهما مليخا عابد، و الآخر اسمه روبيل عالم، و كان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، و كان العالم ينهاه و يقول له: لا تدع عليهم، فإنّ اللّه يستجيب لك، و لا يحبّ هلاك عباده. فقبل يونس قول العابد،

ص: 243

فدعا عليهم، فأوحى اللّه تعالى إليهم أنّه يأتيهم العذاب في شهر كذا في يوم كذا.

فلمّا قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، و بقي العالم فيهم. فلمّا كان اليوم الّذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم: افزعوا إلى اللّه لعلّه يرحمكم و يردّ العذاب عنكم، و اخرجوا إلى المفازة، و فرّقوا بين النساء و الأولاد و بين سائر الحيوانات و أولادها، ثمّ ابكوا و ادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب، و كان قد نزل و قرب منهم.

و مرّ يونس على

وجهه مغاضبا كما حكى اللّه تعالى عنه حتّى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا سفينة قد شحنت (1) و أرادوا أن يدفعوها، فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه، فلمّا توسّط البحر بعث اللّه عليهم حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة، فتساهموا فوقع سهم يونس، و أخرجوه فألقوه في البحر، فالتقمه الحوت و مرّ به في الماء» (2).

و قيل: إنّ الملّاحين قالوا: نقرع فمن أصابته القرعة ألقيناه في الماء، فإنّ ها هنا عبدا عاصيا آبقا، فوقعت القرعة سبع مرّات على يونس. فقام و قال عليه السّلام: أنا العبد الآبق، و ألقى نفسه في الماء و ابتلعه الحوت، فأوحى اللّه إلى ذلك الحوت: لا تؤذ شعرة منه، فإنّي جعلت بطنك سجنه و لم أجعله طعامك، فلبث في بطنه ثلاثة أيّام، و قيل: سبعة أيّام، و قيل: أربعين يوما.

و قد سأل بعض اليهود أمير المؤمنين عليه السّلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه. فقال: يا يهوديّ هو الحوت الّذي حبس يونس في بطنه، فدخل في بحر قلزم، ثمّ خرج إلى مصر، ثمّ سار منها إلى بحر طبرستان، ثمّ خرج من الدجلة.

قال عبد اللّه بن مسعود: ابتلع الحوت حوت آخر، فأهوى به إلى قرار الأرض، فكان في بطنه أربعين ليلة، فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين. فاستجاب اللّه له، فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر،

ص: 244


1- أي: ملئت.
2- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 317.

و هو كالفرخ المتمعّط (1)، فأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، فجعل يستظلّ تحتها، و وكلّ اللّه به وعلا (2) يشرب من لبنها. فيبست الشجرة، فبكى عليها، فأوحى اللّه تعالى إليه: تبكي على شجرة يبست، و لا تبكي على مائة

ألف أو يزيدون أردت أن أهلكهم. فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت؟ قال: من قوم يونس.

قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنّك لقيت يونس. فأخبرهم الغلام، وردّ اللّه عليه بدنه، و رجع إلى قومه و آمنوا به. و قيل: إنّه عليه السّلام أرسل إلى قوم غير قومه الأوّلين.

[سورة يونس [10]: الآيات 99 الى 100]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [99] وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [100]

و لمّا تقدّم أنّ إيمان الملجأ غير نافع، بيّن سبحانه أنّ ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه، فقال: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ مشيئة إلجاء و قسر لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذّ منهم أحد جَمِيعاً مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه، كما قال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (3). و لكنّ الإلجاء مناف للتكليف الاختياري الّذي هو مناط الأعمال و مدارها. و لو كان المراد بالمشيئة مشيئة أزليّة- كما قال الأشاعرة- لم يصحّ تعليقها بالشرط، ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: لو علم سبحانه و لو قدر، كما صحّ: لو شاء و لو أراد.

ص: 245


1- أي: الساقط شعره، من: تمعّط الشعر، أي: سقط.
2- الوعل: تيس الجبل، له قرنان.
3- الشعراء: 4.

أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يعني: إنّما يقدر على إكراههم و اضطرارهم إلى الإيمان هو سبحانه لا أنت. و إيلاء حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه، و إنّما المكره هو وحده لا يشارك فيه، لأنّه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون

عنده إلى الإيمان، و ذلك غير مستطاع للبشر.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان حريصا على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت هذه الآية.

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ من النفوس الّتي علم اللّه أنّها تؤمن أَنْ تُؤْمِنَ باللّه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بتسهيله و منح الطافه و توفيقه و تمكينه منه، و دعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ العذاب أو الخذلان، فإنّه سببه عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج و الآيات عنادا و لجاجا.

قابل الإذن بالرّجس و هو الخذلان، و النفس المعلوم إيمانها بالّذين لا يعقلون، و هم المصرّون على الكفر، كقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (1).

[سورة يونس [10]: الآيات 101 الى 103]

قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [101] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [102] ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [103]

ثمّ بيّن سبحانه ما يزيد في تنبيه القوم و إرشادهم، فقال: قُلِ انْظُرُوا

ص: 246


1- البقرة: 171.

تفكّروا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من عجائب صنعه، كاختلاف الليل و النهار، و مجاري النجوم و الأفلاك، و ما خلق من الجبال و البحار، و أنبت من الأشجار و الثمار، و أخرج من أنواع الحيوانات و غيرها، لتدلّكم على وحدته و كمال قدرته، فإنّ النظر في افرادها و جملتها يدعو إلى الإيمان إلى معرفة الصانع و وحدانيّته و علمه و حكمته و قدرته. و «ماذا» إن جعلت استفهاميّة علّقت «انظروا» عن العمل.

وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ الرسل

المنذرون أو الإنذارات عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي: لا يتوقّع إيمانهم، لعنادهم و لجاجهم و مكابرتهم. و «ما» نافية، أو استفهاميّة في موضع النصب.

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ مثل وقائعهم و نزول بأس اللّه تعالى بهم، إذ لا يستحقّون غيره، من قولهم: أيّام العرب لوقائعها قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لذلك. أو فانتظروا هلاكي، إنّي معكم من المنتظرين هلاككم.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على محذوف دلّ عليه «إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا». كأنّه قيل: نهلك الأمم ثمّ ننجّي رسلنا و من آمن بهم، على حكاية الحال الماضية. كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي: كذلك الإنجاء، أو إنجاء كذلك ننجّي محمدا و صحبه حين نهلك المشركين. و «حقّا علينا» اعتراض، و نصبه بفعله المقدّر، أي: حقّ ذلك علينا حقّا. و قيل: بدل من «كذلك». و قرأ حفص و الكسائي: ننجي مخفّفا.

[سورة يونس [10]: الآيات 104 الى 106]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

ص: 247

[104] وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [105] وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ [106]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالبراءة عن كلّ معبود سواه، فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لأهل مكّة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أي: من صحّته فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فهذا خلاصة ديني اعتقادا و عملا، فأعرضوها على

العقل الصرف، و انظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا صحّتها، و هو أنّي لا أعبد ما تخلقونه- كالأصنام المنحوتة من الحجارة و الخشب- و تعبدونه، و لكن أعبد خالقكم الّذي هو يوجدكم و يتوفّاكم. و إنّما خصّ التوفّي بالذكر للتهديد. وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بالتوحيد الّذي دلّ عليه العقل، و نطق به الوحي. و حذف الجارّ من «أن» و «أنّ» مطّرد، و مع غيرهما غير مطّرد، كقوله: أمرتك الخير، أي: بالخير.

وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ عطف على «أن أكون» غير أنّ صلة «أن» محكيّة بصيغة الأمر، و لا فرق بينهما في الغرض، لأنّ المقصود وصلها بما يتضمّن معنى المصدر لتدلّ معه عليه، و صيغ الأفعال كلّها كذلك، سواء الخبر منها و الطلب.

و المعنى: و أمرت بالاستقامة في الدين و الاستبداد فيه، و بإقبالي عليه، قائما بأعباء الرسالة و تحمّل أمر الشريعة، من أداء الفرائض و الانتهاء عن القبائح غير عوج عنه، أو في الصلاة باستقبال القبلة حَنِيفاً حال من الدين أو الوجه، أي: مستقيما في الدين وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

ص: 248

وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ إن أطعته وَ لا يَضُرُّكَ إن عصيته و تركته فَإِنْ فَعَلْتَ فإن دعوته فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ جزاء للشرط، و جواب لسؤال مقدّر عن تبعة الدعاء، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة غير اللّه. و جعل من الظالمين، لأنّه لا ظلم أعظم من الشرك، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (1). و الخطاب و إن كان متوجّها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الظاهر لكنّ المراد به أمّته.

[سورة يونس [10]: آية 107]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ

هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [107]

ثمّ عقّب النهي عن عبادة ما لا ينفع و لا يضرّ، بأنّ اللّه هو الضارّ و النافع الّذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلّا هو، و إن أرادك بخير لم يردّه أحد، فقال: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ و إن يصبك بضرر، كالمرض و الفقر فَلا كاشِفَ لَهُ برفعه إِلَّا هُوَ إلّا اللّه وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ كالصحّة و الغنى فَلا رَادَّ فلا دافع لِفَضْلِهِ الّذي أرادك به، فهو الحقيق بأن يعبد دون الأوثان.

و لعلّه ذكر الإرادة مع الخير و المسّ مع الضرّ مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أنّ الخير مراد بالذات، و أنّ الضرّ إنّما مسّهم لا بالقصد الأوّل. و وضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنّه متفضّل بما يريد بهم من الخير، لا استحقاق لهم عليه.

يُصِيبُ بِهِ بالخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم. فتعرّضوا لرحمته بالطاعة، و لا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.

و المراد بالمشيئة مشيئة المصلحة.

ص: 249


1- لقمان: 13.

[سورة يونس [10]: الآيات 108 الى 109]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [108] وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [109]

ثمّ ختم اللّه سبحانه السورة بالموعظة الحسنة، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الوعد للمؤمنين و الوعيد للمشركين، فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ أي:

الرسول أو القرآن مِنْ رَبِّكُمْ فلم يبق لكم عذر، و لا

لكم على اللّه حجّة فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان و المتابعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأنّ نفعه لها وَ مَنْ ضَلَ بالكفر بهما فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأنّ وبال الضلال عليها. و اللام و «على» دليلان على معنى النفع و الضرّ. وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إلى أمركم لأحملكم على ما أريد، و إنّما أنا بشير و نذير، فليس عليّ إلّا البلاغ، و لا يلزمني أن أجعلكم مهتدين، و أن أنجيكم من النار، كما يجب على من وكّل على متاع أن يحفظه من الضرر.

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ بالامتثال و التبليغ وَ اصْبِرْ على دعوتهم و تحمّل أذيّتهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالأمر بالقتال وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لا يحكم إلّا بالحقّ و العدل، إذ لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطّلاعه على السرائر اطّلاعه على الظواهر.

ص: 250

[11] سورة هود

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و ثلاث و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و كذّب به، و بهود و صالح و شعيب و لوط و إبراهيم و موسى، و كان يوم القيامة من السعداء».

و روى الثعلبي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: «قيل: يا رسول اللّه قد أسرع إليك الشيب، قال: شيّبتني سورة هود و أخواتها».

و في رواية اخرى عن أنس بن مالك، عن أبي بكر قال: «قلت: يا رسول اللّه عجّل إليك الشيب. قال: شيّبتني سورة هود و أخواتها: الحاقّة، و الواقعة، و عمّ يتساءلون، و هل أتيك حديث الغاشية».

و روى العيّاشي عن الحسن بن عليّ بن الوشّاء، عن ابن سنان، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من

قرأ سورة هود في كلّ جمعة بعثه اللّه يوم القيامة في زمرة النبيّين، و حوسب حسابا يسيرا، و لم يعرف له خطيئة عملها يوم القيامة» (1).

ص: 251


1- تفسير العيّاشى 2: 139 ح 1.

[سورة هود [11]: الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [1] أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ [2] وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [3] إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [4]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة يونس بذكر الوحي في قوله: «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ» افتتح هذه السّورة ببيان ذلك الوحي، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ مبتدأ و خبر، أو «كتاب» خبر محذوف أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظما محكما لا يعرضه نقض، و لا يعتريه خلل من جهة اللفظ و المعنى، كالبناء المحكم. أو منعت من الفساد و النسخ. من: أحكم الدابّة وضع عليها الحكمة (1) لتمنعها من الجماح، أو جعلت حكيمة، منقول من: حكم بالضمّ إذا صار حكيما، لأنّها مشتملة على أمّهات الحكم النظريّة و العمليّة.

ثُمَّ فُصِّلَتْ بالفوائد، من دلائل التوحيد و الأحكام و المواعظ و القصص. أو بجعلها سورة سورة و آية آية. أو بالإنزال نجما نجما. أو فصّل فيها و لخّص ما يحتاج إليه العباد. و «ثمّ» للتفاوت في الحال، كما تقول: هي

ص: 252


1- الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه يمنعه من مخالفة راكبه.

محكمة أحسن الإحكام ثمّ مفصّلة أحسن التفصيل، و فلان كريم الأصل ثمّ كريم الفعل.

مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أحكمها خَبِيرٍ فصّلها و بيّنها. هذه صفة اخرى ل «كتاب»، أو خبر بعد خبر، أو صلة ل «أحكمت» أو «فصّلت». و هو تقرير لإحكامها و تفصيلها على أكمل ما ينبغي، باعتبار ما ظهر أمره و ما خفي.

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مفعول له، أي: لأن لا تعبدوا. و قيل: «أن» مفسّرة، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنّه قيل: قال لا تعبدوا إلّا اللّه، أو أمركم أن لا تعبدوا إلّا اللّه، أي: أمركم بالتوحيد. و يجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء على التوحيد، أو الأمر بالتبرّي من عبادة الغير، كأنّه قيل: ترك عبادة غير اللّه، بمعنى:

الزموه. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ من اللّه نَذِيرٌ بالعقاب على الشرك وَ بَشِيرٌ بالثواب على التوحيد.

وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عطف على «أَلَّا تَعْبُدُوا» ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثمّ توصّلوا إلى مطلوبكم بالتوبة، فإن المعرض عن طريق الحقّ لا بدّ له من الرجوع.

و المعنى: استغفروا من الشرك ثمّ توبوا إلى اللّه تعالى بالطاعة. أو استغفروا، و الاستغفار توبة، ثمّ أخلصوا التوبة- الّتي هي الاستغفار- و استقيموا عليها. فإيراد «ثمّ» لتفاوت ما بين الأمرين.

يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يعيّشكم في الدنيا بالنعم السابغة، و المنافع المتتابعة الدينيّة و الماليّة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو آخر أعماركم المقدّرة، كقوله:

فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً (1). أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال. و الأرزاق و الآجال و إن كانت متعلّقة بالأعمار، كما ورد في الحديث أنّ الصدقة تزيد

ص: 253


1- النحل: 97.

في العمر و تلاوة القرآن تزيد في الرزق، لكنّها مسمّاة بالإضافة إلى كلّ واحد فلا تتغيّر.

وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ و يعط كلّ ذي فضل في دينه و عمله جزاء فضله في الدنيا و الآخرة لا

يبخس منه، أو فضله في الثواب و الدرجات تتفاضل في الجنّة على قدر تفاضل الطاعات. و هو وعد للموحّد التائب بخير الدارين.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا و إن تتولّوا عمّا أمرتم به فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ أي: كبير شأنه. و هو يوم القيامة. و قيل: يوم الشدائد. و قد ابتلوا بالقحط حتّى أكلوا الجيفة.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في ذلك اليوم. و قياس المصدر الميمي أن يكون على وزن مفعل بالفتح، نحو مدخل، فالمرجع شاذّ عن القياس.

وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على تعذيبكم أشدّ عذاب، و كأنّه تقرير لكبر اليوم.

[سورة هود [11]: آية 5]

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [5]

روي أنّ طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا و استغشينا ثيابنا و طوينا صدورنا على عداوة محمّد كيف يعلم؟ و هذا من شدّة جهلهم باللّه، فظنّوا أنّهم إذا ثنوا صدورهم على سبيل الإخفاء لم يعلم اللّه تعالى أسرارهم، فنزلت: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يطوونها و يعطفونها على الكفر و عداوة النبيّ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ من اللّه بسرّهم، فلا يطلع رسوله و المؤمنين عليه.

و قيل: إنّ الأخنس بن شريق كان حلو الكلام، يلقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما

ص: 254

يحبّ و ينطوي بقلبه على ما يكره، و يضمر خلاف ما يظهر، فنزلت هذه الآية.

و قيل: نزلت في المنافقين. و فيه نظر، إذ الآية مكّيّة و النفاق حدث بالمدينة.

و يؤيّد الأوّل ما

روى العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أخبرني جابر بن عبد اللّه أنّ المشركين إذا مرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طأطأ

أحدهم رأسه و ولّى ظهره و غطّى رأسه بثوبه حتّى لا يراه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأنزل اللّه هذه الآية».

أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي: حين يتغطّون بثيابهم يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في قلوبهم وَ ما يُعْلِنُونَ بأفواههم. يعني: يستوي في علمه سرّهم و علنهم، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه؟! إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بأسرار ذات الصدور، أو بالقلوب و أحوالها.

[سورة هود [11]: آية 6]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [6]

ثمّ بيّن أنّه عالم بجميع المعلومات كلّها، تقريرا لعلمه بأسرار العباد و إعلانهم، فقال: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غذاؤها و معاشها، لتكفّله إيّاه تفضّلا و رحمة. و لمّا ضمن سبحانه أن يتفضّل بالرزق عليهم و تكفّل به صار التفضّل واجبا، فلذلك جاء بلفظ الوجوب، كالنذور الواجبة على العباد.

وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها مواضع قرارها و مسكنها من الأرض وَ مُسْتَوْدَعَها حيث كانت مودعة. قيل: الاستقرار في أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات. أو المراد منهما أماكنهما في الحياة و الممات. كُلٌ كلّ واحد من الدوّاب و أحوالها فِي كِتابٍ مُبِينٍ مذكور في اللوح المحفوظ.

ص: 255

[سورة هود [11]: الآيات 7 الى 8]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [7] وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [8]

ثمّ بين كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد، فقال: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: خلقهما و ما فيهما مقدار ستّة أيّام، لأنّها لم تكن هناك بعد، فإنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الشمس و غروبها. أو ما في جهتي العلوّ و السفل. و جمع السموات دون الأرض، لاختلاف العلويّات بالذات دون السفليّات.

وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل خلقهما، لم يكن حائل بينهما، لا أنّه كان موضوعا على متن

الماء. و استدلّ به على إمكان الخلا، و أنّ الماء أوّل حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم، و أنّ العرش و الماء كانا مخلوقين قبل السماوات و الأرض، و أنّ الماء قائم بقدرة اللّه تعالى على غير موضع قرار، بل كان اللّه يمسكه بكمال قدرته. و قيل: كان الماء على متن الريح. و كيف كان، فاللّه ممسك كلّ ذلك بقدرته.

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا متعلّق ب «خلق» أي: خلق ذلك ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون؟ فإنّ جملة ذلك أسباب و موادّ لوجودكم و معاشكم و ما تحتاج إليه أعمالكم، و دلائل و أمارات تستدلّون بها و تستنبطون منها.

ص: 256

و إنّما جاء تعليق فعل البلوى ب «خلق» لما فيه من معنى العلم، من حيث إنّه طريق إليه، كالنظر و الاستماع، كما في قولك: أنظر أيّهم أحسن وجها و اسمع أيّهم أحسن صوتا. و إنّما ذكر صيغة التفضيل و الاختبار شامل لفرق المكلّفين باعتبار الحسن و القبح، للتحريض على أحاسن المحاسن، و التحضيض على الترقّي دائما في مراتب العلم و العمل، فإنّ المراد بالعمل ما يعمّ عمل القلب و الجوارح، و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه تعالى؟».

و المعنى: أيّكم أكمل علما و عملا؟

وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ فتوقّعوه لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي: ما البعث، أو القول به. أو القرآن المتضمّن لذكره إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ إلّا كالسحر في الخديعة أو البطلان. و قرأ حمزة و الكسائي: إلّا ساحر، على أنّ الإشارة إلى قائل هذا القول، و هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الموعود إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ إلى جماعة متعاقبة من الأوقات قليلة.

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: «أنّ الأمّة المعدودة هم أصحاب المهدي في آخر الزمان، ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا، كعدّة أهل بدر، يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع (1) الخريف».

لَيَقُولُنَ استهزاء ما يَحْبِسُهُ أيّ شي ء يمنعه من الوقوع استعجالا أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ كيوم بدر لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ليس العذاب مدفوعا عنهم. و «يوم» منصوب بخبر «ليس» مقدّم عليه. و هو دليل على جواز تقديم خبرها عليها، و ذلك لأنّه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها كان ذلك دليلا على جواز تقديم خبرها، إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلّا حيث يقع العامل.

ص: 257


1- القزع: قطع من السحاب صغار متفرّقة.

وَ حاقَ بِهِمْ و أحاط بهم. و إنّما وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا و مبالغة في التهديد. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: العذاب الّذي كانوا به يستعجلون. فوضع «يستهزءون» موضع: يستعجلون، لأنّ استعجالهم كان استهزاء.

[سورة هود [11]: الآيات 9 الى 11]

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ [9] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [10] إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ [11]

ثمّ بيّن سبحانه حال الإنسان فيما قابل به نعمه من الكفران، فقال: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً و لئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذّتها ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ثمّ سلبنا تلك النعمة منه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ قطوع رجاءه من فضل اللّه تعالى أن يعود إليه تلك النعمة المنزوعة، لقلّة صبره و عدم ثقته به كَفُورٌ مبالغ في كفران

ما سلف له من النعمة.

وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كصحّة بعد سقم، و غنى بعد فقر. و في إسناد إذاقة النعماء إليه تعالى في قوله: «أذقناه» دون الضرّاء في قوله «مسّته» إيماء إلى أنّ النعمة من جانبه تعالى مقصود أصليّ له، و الضرّاء كداء ساقه إليهم سوء أفعالهم.

لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي: المصائب الّتي ساءتني إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر بالنعم مغترّ بها فَخُورٌ على الناس بما أنعم اللّه عليه، مشغول عن الشكر و القيام بحقّها. و في لفظ الإذاقة و المسّ تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم و المحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، و أنّه يقع في الكفران و البطر بأدنى شي ء،

ص: 258

لأنّ الذوق إدراك أوّل الطعم، و المسّ مبدأ الوصول.

إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على الضرّاء، إيمانا بقدره و استسلاما لقضائه وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكرا لآلائه السابقة و اللاحقة أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ أقلّه الجنّة. و الاستثناء من الإنسان، لأنّ المراد به الجنس، فإذا كان محلّى باللام أفاد الاستغراق. و من حمله على الكافر، لسبق ذكرهم، جعل الاستثناء منقطعا.

[سورة هود [11]: الآيات 12 الى 14]

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ [12] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [13] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [14]

روي عن ابن عبّاس: أنّ رؤساء مكّة من قريش أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم فقالوا:

يا محمّد إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكّة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوّة، فنزلت: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ

أي: تترك بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ و هو ما يخالف رأي المشركين، مخافة ردّهم و استهزائهم به. و لا يلزم من توقّع الشي ء- لوجود ما يدعو إليه- وقوعه، لجواز أن يكون ما يصرف عنه- و هو عصمة الرسل من الخيانة في الوحي، و الثقة في التبليغ- مانعا.

وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أي: عارض لك أحيانا ضيّق صدرك، بأن تتلوه

ص: 259

عليهم مخافة- فللدلالة على أنّه ضيق عارض غير ثابت عدل عن ضيّق إلى ضائق- أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ينفقه في الاستتباع كالملوك أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدّقه. و قيل: الضمير في «به» مبهم يفسّره «أن يقولوا». إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ليس عليك إلّا الإنذار بما أوحي إليك، و لا عليك ردّوا أو اقترحوا، فما بالك يضيق به صدرك؟! وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ فتوكّل عليه، فإنّه عالم بحالهم، و فاعل بهم جزاء أقوالهم و أفعالهم.

روى العيّاشي بإسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: إنّي سألت ربّي أن يؤاخي بيني و بينك ففعل، و سألت ربّي أن يجعلك وصيّي ففعل. فقال بعض القوم: و اللّه لصاع من تمر في شنّ (1) بال أحبّ إلينا ممّا سال محمّد ربّه، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوّه أو كنزا يستغني به على فاقته، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

ثمّ قال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أم» منقطعة، و الهاء ل «ما يوحى» قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ كلّ واحدة منها

مِثْلِهِ في البيان و حسن النظم. تحدّاهم أوّلا بعشر سور، ثمّ لمّا عجزوا عنها سهّل الأمر عليهم و تحدّاهم بسورة. و توحيد المثل مقام الأمثال باعتبار كلّ واحدة، لأنّه أراد مماثلة كلّ واحدة منها له. مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم، إن صحّ أنّي اختلقته من عند نفسي كما زعمتم، فإنّكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر، لتعلّمكم القصص و الأشعار، و تعوّدكم نسق النظم و إنشاء الكلام المنثور الّذي كاللآلي وَ ادْعُوا في المعاونة على المعارضة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّه مفترى.

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بإتيان ما دعوتم إليه. و جمع الضمير لأنّ المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم، و كان أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متناولا لهم، من حيث إنّه يجب

ص: 260


1- الشّنّ: القربة الخلق الصغيرة.

اتّباعه عليهم في كلّ أمر إلّا ما خصّه الدليل، و للتنبيه على أنّ التحدّي ممّا يوجب رسوخ إيمانهم و قوّة يقينهم، فلا يغفلون عنه. و يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يؤيّد الأوّل قوله بعد ذلك: فَاعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ملتبسا بما لا يعلمه إلّا اللّه، و لا يقدر عليه سواه، من نظم معجز لجميع الخلق، و إخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و اعلموا أن لا إله إلّا اللّه وحده، لأنّه العالم القادر بما لا يعلم، و لا يقدر عليه غيره، و لظهور عجز آلهتهم، و لتنصيص هذا الكلام الثابت صدقه بإعجازه عليه. و فيه تهديد و إقناط من أن يجيرهم من بأس اللّه آلهتهم. فَهَلْ

أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام، راسخون مخلصون فيه، إذا تحقّق عندكم إعجازه مطلقا.

و يجوز أن يكون الخطاب للكفّار، و الضمير في «لم يستجيبوا» ل «من استطعتم»، فيكون المعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلى المظاهرة على المعارضة لعجزهم، و قد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة، فاعلموا أنّه نظم لا يعلمه إلّا اللّه، و أنّه منزل من عنده، و أنّ ما دعاكم إليه من التوحيد حقّ، فهل أنتم مسلمون داخلون في الإسلام، معتقدون للتوحيد، بعد قيام الحجّة القاطعة؟! و في مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ، لما فيه من معنى الطلب، و التنبيه على قيام الموجب و زوال العذر.

[سورة هود [11]: الآيات 15 الى 16]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [15] أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [16]

ص: 261

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها و حسن بهجتها، بإحسانه تعالى و برّه نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها نوفّر عليهم أجور أعمالهم في الدنيا و ما يرزقون فيها، من الصحّة و سعة الرزق و الرئاسة و كثرة الأولاد وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون شيئا من أجورهم. قيل: هذه الآية في أهل الرياء. و قيل: في المنافقين.

و قيل: في الكفرة و برّهم.

أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ مطلقا في مقابلة ما عملوا، لأنّهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة، و بقيت لهم أوزار العزائم السيّئة وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا ما صنعوه، أي: لم يكن لصنيعهم ثواب فِيها في الآخرة، لأنّهم لم يريدوا به وجه اللّه، و العمدة في اقتضاء ثوابها هو الإخلاص. و يجوز

تعليق الظرف ب «صنعوا» على أنّ الضمير للدّنيا. وَ باطِلٌ في نفسه ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنّه لم يعمل على الوجه الصحيح الّذي هو ابتغاء وجه اللّه، و العمل الباطل لا ثواب له.

و كأنّ كلّ واحدة من الجملتين علّة لما قبلها.

[سورة هود [11]: آية 17]

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [17]

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ على برهان و حجّة من اللّه يدلّه على أنّ دين الإسلام هو الحقّ و الصواب فيما يأتيه و يذره. و هو دليل العقل. و الهمزة لإنكار أن يتّبع من هذا شأنه هؤلاء المقصّرين هممهم و أفكارهم على الدنيا، و أن يقارب بينهم في المنزلة. يريد أنّ بين الفريقين تفاوتا بعيدا و تباينا بيّنا، و هو الّذي

ص: 262

أغنى عن ذكر الخبر، و تقديره: أ فمن كان على بيّنة كمن كان يريد الحياة الدنيا؟! و هو حكم يعم كلّ مؤمن مخلص. و قيل: المراد به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: مؤمنوا أهل الكتاب.

وَ يَتْلُوهُ و يتبع ذلك البرهان الّذي هو دليل العقل شاهِدٌ مِنْهُ شاهد من اللّه يشهد بصحّته، و هو القرآن وَ مِنْ قَبْلِهِ و من قبل القرآن كِتابُ مُوسى يعني: التوراة، فإنّها أيضا تتلوه في التصديق. أو البيّنة هو القرآن، و «يتلوه» من التلاوة، و الشاهد جبرئيل، أو لسان الرسول. و هذا منقول عن الحسين بن عليّ عليه السّلام و محمد بن الحنفيّة. أو من التلو، و الشاهد ملك يحفظه.

و قيل:

الشاهد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، يشهد للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو منه.

و هذا مرويّ عن أبي جعفر و عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام. و رواه الطبري (1) بإسناده عن جابر بن عبد اللّه عن عليّ عليه السّلام.

و الضمير في «يتلوه» إمّا ل «من» أو للبيّنة باعتبار المعنى، و هو البرهان.

و يجوز أن يكون «وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى جملة مبتدأة.

إِماماً كتابا مؤتمّا به في الدين وَ رَحْمَةً و نعمة عظيمة على المنزل عليهم، لأنّه الوسيلة إلى الفوز بخير الدارين.

أُولئِكَ إشارة إلى من كان على بيّنة يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ من أهل مكّة و من ضامّهم من المتحزّبين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يردها لا محالة فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ من الموعد، أو القرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ و الخطاب للنبيّ، و المراد أمّته، أو المراد كلّ سامع وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ صحّته و صدقه عنادا و جحودا و لجاجا.

ص: 263


1- تفسير الطبري 12: 11.

[سورة هود [11]: الآيات 18 الى 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [18] الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [19] أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ [20] أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [21]

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ [22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله، أي: لا أحد أظلم منه. و إخراجه مخرج الاستفهام ليكون أبلغ.

أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ في الموقف، بأن يحبسوا و يعرضوا و يوقفوا موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا، أو تعرض أعمالهم وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة و الحفظة و النبيّين، أو شهد كل إمام عصر من أئمّة المؤمنين، أو من جوارحهم. و هو جمع شاهد كأصحاب، أو شهيد كأشراف. هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ و قوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ابتداء كلام، أو تتمّة كلام الأشهاد. و فيه تهويل عظيم ممّا يحيق بهم حينئذ، لظلمهم بالكذب على اللّه تعالى.

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه الإسلام وَ يَبْغُونَها عِوَجاً و يصفونها بالاعوجاج عن الحقّ و الصواب و هي مستقيمة. أو يبغون أهلها أن يعوّجوا عن الحقّ بالردّة، و هم الثابتة عليه. وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و الحال

ص: 264

أنّهم كافرون بالآخرة. و تكرير «هم» لتأكيد كفرهم و اختصاصهم به.

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي: ما كانوا معجزين اللّه تعالى في الدنيا أن يعاقبهم، بأن يفوتوا منه هربا إذا أراد إهلاكهم، كما يهرب الهارب من عدوّ و قد جدّ في طلبه. و إنّما خصّ الأرض بالذكر و إن كانوا لا يفوتون اللّه و لا يخرجون عن قبضته على كلّ حال، لأنّ معاقل الأرض هي الّتي يهرب إليها البشر، فكأنّه سبحانه نفى أن يكون لهؤلاء الكفّار عاصم عنه و مانع من عذابه.

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ بأن يتولّوهم فينصروهم و يمنعوهم من العذاب، و لكنّه سبحانه أخّر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشدّ و أدوم.

يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ استئناف. و قرأ ابن كثير و يعقوب و ابن عامر: يضعّف بالتشديد. و معناه: أنّه لا يقتصر بهم على عذاب الكفر، بل يعاقبون عليه و على سائر المعاصي، كما قال في موضع آخر: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (1). أو كلّما مضى ضرب من العذاب يعقبه ضرب آخر منه مثله أو فوقه، كذلك دائما مؤبّدا، و كلّ ذلك على قدر الاستحقاق.

ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لفرط تصامّهم عن استماع الحقّ و بغضهم له، كأنّهم لا يستطيعون السمع وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ لفرط تعاميهم عن آيات اللّه، و كأنّه العلّة لمضاعفة العذاب. و قيل: هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله: «وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» فإنّ ما لا يسمع و لا يبصر لا يصلح للولاية. و قوله:

«يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» اعتراض.

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باشتراء عبادة الآلهة بعبادة اللّه تعالى وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة و شفاعتها، أو خسروا بما بدّلوا، و ضاع عنهم ما حصّلوا، فلم يبق معهم سوى الندامة و الحسرة.

ص: 265


1- النحل: 88.

لا جَرَمَ قال الزجّاج: «لا» نفي لما ظنّوا أنّه ينفعهم، فكأنّ المعنى: لا ينفعهم ذلك. و «جرم» بمعنى: حقّ و ثبت. أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ بحيث لا أحد أبين و أكثر خسرانا منهم. و قال غير الزجّاج: معناه: لا بدّ و لا محالة أنّهم.

و قيل: معناه: حقّا. و يستعمل في أمر يقطع عليه و لا يرتاب فيه، أي: لا شكّ أنّ هؤلاء الكفّار هم أخسر الناس في الآخرة.

[سورة هود [11]: الآيات 23 الى 24]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [23] مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [24]

و لمّا تقدّم ذكر الكفّار و ما أعدّ لهم من العذاب، عقّبه سبحانه بذكر المؤمنين، إجراء على عادته تعالى أنّه يذكر الوعد مع الوعيد و بالعكس، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ اطمأنّوا إليه، و خشعوا له و انقطعوا إلى عبادته، من الخبت، و هي الأرض المطمئنّة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.

ثمّ ضرب مثلا للكافر و المؤمن بقوله: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ الكافر و المؤمن كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ فشبّه فريق الكفّار بالأعمى و الأصمّ، و فريق المؤمنين بالبصير و السميع. و هو من اللفّ و الطباق. و فيه وجهان: أحدهما:

تشبيه الكافر بالأعمى، لتعاميه عن آيات اللّه تعالى، و بالأصمّ لتصامّه عن استماع كلام اللّه تعالى، و تأبيّه عن تدبّر معانيه، و تشبيه المؤمن بالبصير و السميع، لأنّ أمره بالضدّ. فيكون كلّ منهما مشبّهين باثنين باعتبار وصفين. و ثانيهما: أن يشبّه الكافر بالجامع بين العمى و الصمم، و المؤمن بين ضدّيهما.

ص: 266

هَلْ يَسْتَوِيانِ هل يستوي الفريقان عند العقلاء مَثَلًا تمثيلا، أو صفة أو حالا أَ فَلا تَذَكَّرُونَ بضرب الأمثال و التأمّل فيها، فتعلموا صحّة ما ذكرنا.

[سورة هود [11]: الآيات 25 الى 28]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [25] أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [26] فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا

مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ [27] قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [28]

و لمّا تقدّم ذكر الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب، عقّب ذلك سبحانه بذكر أخبار الأنبياء، تأكيدا لذلك، و تخويفا للخلق، و تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بدأ بقصّة نوح عليه السّلام، لأنّه شيخ الأنبياء و أبوهم بعد الطوفان و أسبقهم، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ بأنّي لكم، أي: ملتبسا بهذا الكلام. و قرأ نافع و عاصم و ابن عامر و حمزة بالكسر على إرادة القول نَذِيرٌ مُبِينٌ أبيّن لكم موجبات العذاب و وجه الخلاص.

أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من «إنّي لكم»، أو مفعول «مبين». و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة متعلّقة ب «أرسلنا» أو ب «نذير». إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم. و هو في الحقيقة صفة المعذّب، لكن يوصف به العذاب و زمانه على طريقة: جدّ جدّه، و نهارك صائم و ليلك قائم، للمبالغة.

ص: 267

فَقالَ الْمَلَأُ أي: الأشراف، لأنّهم يملؤن القلوب هيبة و هيئة الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا مزيّة لك علينا تخصّك بالنبوّة و وجوب الإطاعة، و ذلك لظنّهم أنّ الرسول ينبغي أن يكون من غير جنس المرسل إليه وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أخسّاؤنا. جمع أرذل، فإنّه بالغلبة صار مثل الاسم، كالأكبر. أو أرذل جمع رذل. بادِيَ الرَّأْيِ ظاهر الفكر من غير تعمّق، من البدوّ بمعنى الظهور، أو أوّل الرأي من البدء. و الباء مبدلة من الهمزة، لانكسار

ما قبلها.

و قرأ أبو عمرو بالهمزة. و انتصابه بالظرف، على حذف المضاف، أي: وقت حدوث بادي الرأي. و العامل فيه «اتّبعك».

و إنّما استرذلوهم لذلك أو لفقرهم، فإنّهم لمّا لم يعلموا إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا، كان الأحظّ بها أشرف عندهم، و المحروم منها أرذل، كما ترى أكثر المتّسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، و يبنون عليه إكرامهم و إهانتهم. و لقد زلّ عنهم أنّ التقدّم في الدنيا لا يقرّب أحدا من اللّه، و إنّما يبعّده، و لا يرفعه بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوّة و التأهيل لها، على أنّ الأنبياء بعثوا مرغّبين في طلب الآخرة و رفض الدنيا، مزهّدين فيها، مصغّرين لشأنها و شأن من أخلد إليها.

وَ ما نَرى لَكُمْ لك و لمن اتّبعك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يؤهّلكم للنبوّة و استحقاق المتابعة بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ إيّاك في دعوى النبوّة، و إيّاهم في دعوى العلم بصدقك، فغلّب المخاطب على الغائبين.

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجّة شاهدة بصحّة دعواي مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء المعجزة البيّنة، أو النبوّة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فخفيت عليكم، فلم تهدكم. و توحيد الضمير لأنّ البيّنة في نفسها هي الرحمة. أو لأنّ خفاءها يوجب خفاء النبوّة. أو على تقدير: فعميت بعد البيّنة، و حذفها للاختصار، أو لأنّه لكلّ واحدة منهما. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص:

فعميت، أي: أخفيت.

أَ نُلْزِمُكُمُوها أ نلزمكم قبولها، و نجبركم على الاهتداء بها وَ أَنْتُمْ لَها

ص: 268

كارِهُونَ تكرهونها و لا تختارونها، و لا تتأمّلون فيها. و حيث اجتمع ضميران، و ليس أحدهما مرفوعا، و قدّم الأعرف منهما، جاز في الثاني الفصل و الوصل.

[سورة هود [11]: الآيات 29 الى 31]

وَ يا قَوْمِ

لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ [29] وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [30] وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [31]

ثمّ أنكر نوح على قومه استثقالهم التكليف، و العاقل إنّما يستثقل الأمر إذا لزمته مؤونة ثقله، فقطع عليه السّلام هذا العذر بقوله: وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ. و هو و إن لم يذكر إلّا أنّه معلوم ممّا ذكر. مالًا جعلا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فإنّه المأمول منه.

قيل: إنّهم كانوا يسألونه طرد المؤمنين ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء. فقال نوح في جوابهم: وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصمون طاردهم عنده تعالى. أو إنّهم يلاقونه و يفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟! وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ بلقاء ربّكم، أو بأقدارهم و أنّهم خير منكم، أو في التماس طردهم، أو تتسفّهون عليهم، بأن تدعوهم أراذل.

وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من انتقام اللّه و عذابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ و هم بتلك الصفة و المثابة أَ فَلا تَذَكَّرُونَ لتعرفوا أنّ التماس الطرد و توقيف الايمان عليه ليس بصواب، بل محض خطأ.

ص: 269

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ خزائن رزقه و أمواله، فأدّعي فضلا عليكم كما تقولون في الدنيا، حتّى تجحدوا فضلي بقولكم: «وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» وَ

لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على «عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» أي: و لا أقول أنا أعلم الغيب حتّى تكذّبوني استبعادا. أو حتّى أطّلع على ما في نفوس أتباعي و ضمائر قلوبهم، و أعلم أنّ هؤلاء اتّبعوني بادي الرأي من غير بصيرة و عقد قلب. و على الثاني يجوز عطفه على «أقول».

وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتّى تقولوا: «ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي: لا أحكم في شأن من استرذلتموهم و تعيب أعينكم لفقرهم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً فإنّ ما أعدّه اللّه لهم في الآخرة خير ممّا آتاكم في الدنيا.

و الازدراء افتعال، من: زرى عليه إذا عابه، قلبت تاؤه دالا لتجانس الراء في الجهر.

و الإسناد إلى الأعين للمبالغة، و للتنبيه على أنّهم استرذلوهم من غير رؤية، بما عاينوا من رثاثة حالهم و قلّة منالهم، دون تأمّل في كمالاتهم و معانيهم. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ بما في قلوبهم من الإخلاص و غيره إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن قلت شيئا من ذلك المذكور.

[سورة هود [11]: الآيات 32 الى 35]

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [32] قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [33] وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [34] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [35]

ص: 270

ثمّ حكى سبحانه جواب قوم نوح عمّا قاله لهم، فقال: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فأطلته، أو أتيت بأنواعه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب، فإنّا لا نؤمن بك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

في الدعوى و الوعيد، فإنّ مناظرتك لا تؤثّر فينا.

قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ أي: ليس الإتيان بالعذاب إليّ، بل إنّما هو إلى من كفرتم به و عصيتموه إِنْ شاءَ إن اقتضت حكمته عاجلا و آجلا وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بدفع العذاب، أو الهرب منه.

وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط، و جزاؤه محذوف دلّ عليه ما قبله. و الجملة جواب قوله: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ و تقدير الكلام:

إن كان اللّه يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي. و معنى الإغواء: أنّه إذا عرف اللّه من الكافر الإصرار و العناد فخلّاه و شأنه و لم يلجئه سمّي ذلك إغواء و إضلالا، كما أنّه إذا عرف منه أنّه يتوب و يرعوي فلطف به سمّي إرشادا و هداية. و قيل: «أن يغويكم» أن يهلككم، من: غوى الفصيل غوى إذا بشم (1) من كثرة شرب اللبن فهلك. و معناه: أنّكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة الّتي لا تنفعكم نصائح اللّه و مواعظه و سائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟! و هذا جواب لما أوهموا من أنّ جداله كلام باطل.

هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم و المتصرّف فيكم وفق حكمته وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ إن صحّ و ثبت أنّي افتريته فَعَلَيَّ إِجْرامِي عقوبة إجرامي و افترائي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ، فلا وجه لإعراضكم عنّي.

ص: 271


1- في هامش النسخة الخطّية: «البشم- محرّكة- مرض يقال له التخمة. منه».

[سورة هود [11]: الآيات 36 الى 43]

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [36] وَ

اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [37] وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [38] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [39] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [40]

وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [41] وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ [42] قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [43]

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إلّا من قد وجد منه ما كان يتوقّع من إيمانه. و «قد» للتوقّع. فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن حزن بائس مستكين بِما كانُوا يَفْعَلُونَ بما فعلوه من تكذيبك و إيذائك و معاداتك، فقد حان وقت

ص: 272

الانتقام لك منهم. فأقنطه اللّه من إيمانهم، و أعلمه أنّ إيمانهم كالمحال الّذي لا يتعلّق به التوقّع، و نهاه أن يغتمّ بما فعلوه من التكذيب و الإيذاء.

وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا ملتبسا بمرأى منّا، أي: بحفظنا إيّاك من أن تزيغ في صنعتك عن الصواب، و أن يحول بينك و بين عملك أحد من أعدائك، حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه. و ذكر

الأعين لتأكيد الحفظ. فعبّر بكثرة آلة الحسّ- الّذي يحفظ به الشي ء و يراعى عن الاختلال و الزيغ- عن المبالغة في الحفظ و الرعاية، على طريق التمثيل. وَ وَحْيِنا إليك، و إلهامنا لك كيف تصنعها، فأوحى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.

وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا و لا تراجعني فيهم، و لا تدعني باستدفاع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ محكوم عليهم بالإغراق، فلا سبيل إلى كفّه.

وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ استهزؤا به لعمله السفينة، فإنّه كان يعملها في برّية بعيدة من الماء جدّا أوان عزّته، فكانوا يضحكون منه و يقولون له: صرت نجّارا بعد ما كنت نبيّا قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في المستقبل إذا أخذكم الغرق في الدنيا و الحرق في الآخرة كَما تَسْخَرُونَ منّا الساعة. و قيل: المراد بالسخريّة الاستجهال.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ في محلّ النصب ب «تعلمون» أي: تعلمون الّذي يأتيه عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني به إيّاهم، و بالعذاب الغرق وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ و ينزل أو يحلّ عليه حلول الدين الّذي لا انفكاك عنه عَذابٌ مُقِيمٌ دائم، و هو عذاب النار.

و يجوز أن تكون «من» استفهاميّة، و تكون تعليقا.

قال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع و مائتي ذراع، و عرضها ستّمائة ذراع.

ص: 273

و قال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، و عرضها خمسين ذراعا، و ارتفاعها ثلاثين ذراعا، و بابها في عرضها.

و قال ابن عبّاس: كانت ثلاث طبقات: طبقة للناس، و طبقة للأنعام، و طبقة للهوامّ و الوحش. و جعل أسفلها للوحوش و السباع و الهوامّ، و أوسطها للدوابّ و الأنعام، و ركب هو و من معه في الأعلى

مع ما يحتاج إليه من الزاد. و كانت من خشب الساج.

و روت عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «مكث نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه تعالى، حتّى إذا كان آخر زمانهم غرس شجرة فعظمت و ذهبت كلّ مذهب فقطعها، و جعل يعمل على سفينته، و قومه يمرّون عليه فيسألونه فيقول: أعمل سفينة. فيسخرون منه و يقولون: تعمل سفينة على البرّ فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون. فلمّا فرغ منها و فار التنّور و كثر الماء في السكك خشيت أمّ صبيّ عليه، فكانت تحبّه حبّا شديدا، فخرجت إلى الجبل حتّى بلغت ثلثه، فلمّا بلغها الماء خرجت به حتّى استوت على الجبل، فلمّا بلغ الماء رقبتها رفعت بيديها حتّى ذهب بها الماء، فلو رحم اللّه منهم أحدا لرحم أمّ الصبيّ».

و روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن صفوان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا أراد اللّه هلاك قوم نوح عقّم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يلد لهم مولود. فلمّا فرغ نوح من اتّخاذ السفينة أمره اللّه تعالى أن ينادي بالسريانيّة أن يجمع إليه جميع الحيوان، فلم يبق حيوان إلّا و قد حضر، و أدخل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين ما خلا الفار و السنّور. و لمّا شكا أهل السفينة إليه سرقين الدوابّ و القذر، دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج فارة فتناسل، فلمّا كثروا و شكوا إليه منهم دعا بالأسد فمسح جبينه فعطس فسقط من

ص: 274

أنفه زوج سنّور، و كان الّذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلا (1).

و في حديث آخر: أنّهم شكوا إليه العذرة،

فأمر اللّه الفيل فعطس فسقط الخنزير.

و روى الشيخ أبو جعفر في كتاب النبوّة، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «آمن مع نوح ثمانية نفر».

قيل: إن الحواريّين قالوا لعيسى عليه السّلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدّثنا عنها. فانطلق بهم حتّى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفّا من ذلك التراب فقال:

أ تدرون من هذا؟

قالوا: اللّه و رسوله أعلم.

قال: هذا كعب بن حام.

قال: فضرب الكثيب بعصاه فقال: قم بإذن اللّه، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه و قد شاب.

فقال له عيسى: أ هكذا هلكت؟

قال: لا، متّ و أنا شابّ، و لكنّي ظننت أنّها الساعة فمن ثمّ شبت.

قال: حدّثنا عن سفينة نوح.

قال: كان طولها ألف ذراع و مائتي ذراع، و عرضها ستّمائة ذراع، و كانت ثلاث طبقات: طبقة للدوابّ و الوحوش، و طبقة للإنس، و طبقة للطير.

ثمّ قال عليه السّلام: عد بإذن اللّه كما كنت، فعاد ترابا.

و قوله عزّ اسمه: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله: «وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ» و ما بينهما حال من الضمير فيه. أو «حتّى» هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط و الجزاء. وَ فارَ التَّنُّورُ نبع الماء منه و ارتفع بشدّة اندفاع،

ص: 275


1- تفسير القمّي 1: 326- 327.

كالقدر تفور. و التنّور تنّور الخبز، و هو تنّور كان لآدم ابتدأ منه النبوع على خرق العادة، و كان في الكوفة في موضع مسجدها. و هو مرويّ عن ائمّتنا عليهم السّلام.

أو في الهند، أو بعين وردة من أرض الجزيرة في دار نوح. و قيل: التنّور وجه الأرض، أو أشرف موضع فيها.

و روى المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل

قال: «كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة مسجد الكوفة.

قال: قلت: و كيف كان بدء خروج الماء من ذلك التنّور؟

قال: نعم إنّ اللّه أحبّ أن يري قوم نوح آية، ثم إنّ اللّه سبحانه أرسل عليهم المطر يفيض فيضا، و فاض الفرات فيضا، و فاضت العيون كلّها فيضا فغرقهم، و أنجى نوحا و من معه في السفينة.

فقلت: فكم لبث نوح في السفينة حتّى نضب الماء فخرجوا منها؟

فقال: لبث فيها سبعة أيّام بلياليها.

فقلت له: إنّ مسجد الكوفة لقديم؟

قال: نعم، و هو مصلّى الأنبياء، و لقد صلّى فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أسري به إلى السماء. قال له جبرئيل: يا محمّد هذا مسجد أبيك آدم، و مصلّى الأنبياء، فانزل فصلّ فيه. ثمّ إنّ جبرئيل عرج به إلى السماء».

و في رواية: أنّ السفينة استقلّت بما فيها، فجرت على ظهر الماء مائة و خمسين يوما بلياليها.

و روى أبو عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «مسجد كوفان وسطه روضة من رياض الجنّة، الصلاة فيه بسبعين صلاة، صلّى فيه ألف نبيّ و سبعون نبيّا، و فيه فار التنّور و جرت السفينة، و هو سرّة بابل و مجمع الأنبياء عليهم السّلام».

و قيل: معنى «فارَ التَّنُّورُ» طلع الفجر و ظهرت أمارات دخول النهار و تقضّي

ص: 276

الليل، من قولهم: نوّر الصبح تنويرا. روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

و قيل: معناه: اشتدّ غضب اللّه عليهم، و وقعت نقمته بهم.

قُلْنَا احْمِلْ فِيها في السفينة مِنْ كُلٍ من كلّ نوع من الحيوانات المنتفع بها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكرا و أنثى. هذا على قراءة حفص، و الباقون أضافوا (1)، على معنى: احمل اثنين من كلّ زوجين، أي: من

كلّ صنف ذكر و صنف أنثى. و على القراءة الأولى «اثنين» مفعول «احمل». و على الثانية صفة «زوجين».

وَ أَهْلَكَ عطف على «زوجين» على القراءة الاولى، و «اثنين» على الثانية.

و المراد امرأته و بنوه و نساؤهم. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين. يريد ابنه كنعان و أمّه واعلة، فإنّهما كانا كافرين. وَ مَنْ آمَنَ و المؤمنين من غيرهم وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا تسعة و سبعين، زوجته المسلمة، و بنوه الثلاثة:

سام و حام و يافث، و نساؤهم، و اثنان و سبعون رجلا و امرأة من غيرهم.

وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها أي: صيروا فيها. جعل ذلك ركوبا، لأنّها في الماء كالمركوب في الأرض. بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها متّصل ب «اركبوا» حال من الواو، أي: اركبوا فيها مسمّين اللّه، أو قائلين بسم اللّه، وقت إجرائها و إرسائها أو مكانهما، على أنّ المجرى و المرسى للوقت أو المكان أو المصدر، و المضاف محذوف، كقولهم: آتيك خفوق النجم. و انتصابهما بما قدّرناه حالا. و يجوز رفعهما ب «بسم اللّه»، على أنّ المراد بهما المصدر. أو جملة من مبتدأ و خبر، أي: إجراؤها بسم اللّه، على أنّ بسم اللّه خبر، أو صلة و الخبر محذوف. و هي إمّا جملة مرتجلة لا تعلّق لها بما قبلها، أو حال مقدّرة من الواو أو الهاء.

روي أنّه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم اللّه فجرت، و إذا أراد أن ترسو قال: بسم اللّه فرست. و يجوز أن يكون .

ص: 277


1- أي: قرءوا «كلّ زوجين» مضافا.

الاسم مقحما، كقوله (1): ثمّ اسم السلام عليكما.

و قرأ حمزة و الكسائي و عاصم: مجراها بالفتح، من: جرى. و اتّفقوا

على ضمّ الميم في «مرساها» إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لولا مغفرته لذنوبكم و رحمته إيّاكم لما نجّاكم.

وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ متّصل بمحذوف دلّ عليه «اركبوا»، أي: فركبوا مسمّين و هي تجري و هم فيها فِي مَوْجٍ من الطوفان. و هو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه. كَالْجِبالِ أي: موجة منها كجبل في تراكمها و ارتفاعها و عظمها. روي عن الحسن: أنّ الماء ارتفع فوق كلّ شي ء و فوق كلّ جبل ثلاثين ذراعا. و قيل:

خمسة عشر ذراعا.

و قيل: إنّ سفينة نوح سارت لعشر مضين من رجب، فسارت ستّة أشهر حتّى طافت الأرض كلّها لا يستقرّ في موضع، حتّى أتت الحرم فطافت بموضع الكعبة أسبوعا، و كان اللّه تعالى رفع البيت إلى السماء، ثمّ سارت بهم حتّى انتهت إلى الجوديّ، و هو جبل بأرض الموصل، و استقرّت عليه اليوم العاشر من المحرّم.

و روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أن نوحا عليه السّلام ركب السفينة في أوّل يوم من رجب، فصام و أمر من معه أن يصوموا ذلك اليوم. و قال: من صام ذلك اليوم تباعد عنه النار مسيرة سنة. فصارت سنّة».

وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه. و مفعل للمكان، من: عزله عنه إذا أبعده. يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا اركب معنا في السفينة بشرط الإيمان لتسلم من الغرق. قيل: هو منافق و أبوه لم يعلم نفاقه.

و الجمهور كسروا الياء ليدلّ على ياء الإضافة المحذوفة في جميع القرآن،ر

ص: 278


1- للبيد بن ربيعة العامري، و تمامه: إلى الحول ثم اسم السلام عليكماو من يبك حولا كاملا فقد اعتذر

غير ابن كثير، فإنّه وقف عليها

في لقمان، في الموضع (1) الأوّل باتّفاق الرواة، و في الثالث « (2)» في رواية قنبل، و غير عاصم، فإنّه فتح ها هنا اقتصارا على الفتح من الألف المبدلة من ياء الإضافة، و اختلفت الرواية عنه في سائر المواضع.

و قد أدغم (3) الباء في الميم أبو عمرو و الكسائي و حفص، لتقاربهما.

وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ في الدين و الانعزال.

قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أن يغرقني قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي: من الطوفان الّذي هو بأمره إِلَّا مَنْ رَحِمَ إلّا الراحم، و هو اللّه تعالى.

أو إلّا مكان من رحمهم اللّه، و هم المؤمنون، أي: لا يعصمك اليوم معتصم قطّ من جبل و نحوه سوى معتصم واحد، و هو مكان من رحمهم و نجّاهم، يعني: السفينة.

فردّ بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل و نحوه يعصم العائذ به إلّا معتصم المؤمنين، و هو السفينة. و قيل: «لا عاصم» بمعنى: لا ذا عصمة، كقوله: في عيشة راضية. و قيل: الاستثناء منقطع، أي: لكن من رحمه فهو معصوم.

وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ بين نوح و ابنه، أو ابنه و الجبل فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فصار من المهلكين بالماء.

[سورة هود [11]: آية 44]

وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [44]

ثمّ بيّن سبحانه الحال بعد انتهاء الطوفان، فقال: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ انشفي ماءك الّذي نبعت به العيون، و اشربيه حتّى لا يبقى على وجهك شي ء منه،

ص: 279


1- لقمان: 13.
2- لقمان: 17.
3- أي: باء «اركب» في ميم «معنا».

من البلع بمعنى النشف وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي أمسكي

عن المطر، من الإقلاع بمعنى الإمساك. نوديا بما ينادى به أولوا العلم، و أمرا بما يؤمرون، تمثيلا لكمال قدرته و انقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، بالآمر المطاع الّذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر امتثال أمره، مهابة من عظمته، و خشية من أليم عقابه.

و في الكشّاف: «أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز و العقل من الدلالة على الاقتدار العظيم، و أنّ الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه، كأنّها عقلاء مميّزون، قد عرفوا عظمته و جلالته و ثوابه و عقابه و قدرته على كلّ مقدور، و تبيّنوا تحتّم طاعته عليهم و انقيادهم له. و هم يهابونه و يفزعون من التوقّف دون الامتثال له، و النزول على مشيئته على الفور من غير ريث» (1).

وَ غِيضَ الْماءُ نقص، من: غاضه إذا نقصه وَ قُضِيَ الْأَمْرُ و أنجز ما وعد من إهلاك الكافرين و إنجاء المؤمنين وَ اسْتَوَتْ استوت السفينة عَلَى الْجُودِيِ جبل بالموصل. و قيل: بالشام. و قيل: بآمد. وَ قِيلَ بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يقال: بعد بعدا إذا بعّده بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثمّ استعير للهلاك، و خصّ بدعاء السوء.

و في الأنوار: «هذه الآية في غاية الفصاحة، لفخامة لفظها، و حسن نظمها، و الدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. و في إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، و أنّه متعيّن في نفسه، مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره، للعلم بأنّ مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهّار» (2).

و قال في المجمع: «و في الآية من بدائع الفصاحة و عجائب البلاغة ما لا

ص: 280


1- الكشّاف 2: 397.
2- أنوار التنزيل 3: 110.

يقاربه كلام البشر و لا يدانيه. منها: أنّه خرج مخرج الأمر، و إن كانت الأرض و السماء من الجماد، ليكون أدلّ على الاقتدار. و منها: حسن تقابل المعنى و ائتلاف الألفاظ. و منها: حسن البيان في تصوير الحال. و منها: الإيجاز من غير إخلال، إلى غير ذلك ممّا يعلمه من تدبّره، و له معرفة بكلام العرب و محاوراتهم. و يروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ و لحوم الضأن و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية، فقال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا» (1).

[سورة هود [11]: الآيات 45 الى 47]

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ [45] قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [46] قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ [47]

ثمّ حكى اللّه سبحانه تمام قصّة نوح، فقال: وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ أي: أراد نداءه، بدليل عطف قوله: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فإنّه النداء وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ و إن كلّ وعد تعده حقّ لا يتطرّق إليه الخلف، و قد وعدت أن تنجي أهلي،

ص: 281


1- مجمع البيان 5: 165.

فما حاله أو فماله لم ينج؟ و يجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنّك أعلمهم و أعدلهم. أو لأنّك أكثر حكمة من ذوي الحكم، على أنّ

الحاكم من الحكمة، كالدارع من الدرع.

قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لقطع الولاية بين الكافر و المؤمن. و أشار إليه بقوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فإنّه تعليل لنفي كونه من أهله. و أصله: إنّه ذو عمل فاسد، فجعل ذاته ذات العمل الفاسد للمبالغة. ثمّ بدّل الفاسد بغير الصالح، تصريحا بالمناقضة بين وصفي الأهليّة و غير الصلاح، و انتفاء ما أوجب النجاة- من صالح العمل- لمن نجا من أهله عنه. و قرأ الكسائي و يعقوب: إنّه عمل، أي: عمل عملا غير صالح.

و فيه إيذان بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب. و في الحديث القدسي: «خلقت الجنّة لمن أطاعني و لو كان عبدا حبشيّا، و خلقت النار لمن عصاني و لو كان سيّدا قرشيّا».

فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تلتمس منّي التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتّى تقف على كنهه. و إنّما سمّى نداءه سؤالا لتضمّن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده، أو استفسار المانع للإنجاز في حقّه. و إنّما سمّاه جهلا و زجر عنه بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ لأنّ استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دلّه على الحال، و أغناه عن السؤال، لكن أشغله عنه حبّ الولد حتّى اشتبه الأمر عليه.

و قرأ ابن كثير بفتح اللام و النون المشدّدة. و كذا نافع و ابن عامر، غير أنّهما كسرا النون، على أنّ أصله: تسألنّني، فحذفت نون الوقاية، لاجتماع النونات، و كسرت الشديدة للياء، ثمّ حذفت اكتفاء بالكسرة. و عن نافع إثباتها في الوصل.

و الوعظ: الدعاء إلى الحسن، و الزجر عن القبيح، على وجه الترغيب

ص: 282

و الترهيب. و معنى الكلام: إنّي أدعوك

إلى الحسن، و أزجرك عن القبائح، كراهة أن تكون، أو لئلّا تكون من الجاهلين الّذين يسألون شيئا قبل أن يتأمّلوا فيه تأمّلا تامّا، ليعلموا صحّة سؤالهم عن فسادهم. و لا شكّ أنّ وعظه سبحانه يصرف عن الجهل و ينزّه عن القبيح.

قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ أن أطلب منك فيما يستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحّته، تأدّبا بأدبك و اتّعاظا بموعظتك وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي و إن لم تغفر لي ما فرط منّي في السؤال الّذي يكون تركه أولى. و المراد بالغفران هنا لازمه، و هو إعطاء الثواب على فعل الأولى، و عدم حرمانه منه لتركه.

وَ تَرْحَمْنِي بالتوبة عن ترك الندب أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا، لتفويتي الثواب الّذي يترتّب على فعل الأولى. و قيل: قاله على سبيل الخضوع للّه عزّ اسمه و التذلّل له و الاستكانة، و إن لم يسبق منه ذنب لعصمته.

[سورة هود [11]: الآيات 48 الى 49]

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ [48] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [49]

ثمّ حكى اللّه سبحانه ما أمر به نوحا حين استقرّت سفينته على الجبل بعد خراب الدنيا بالطوفان، فقال: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا انزل من السفينة مسلما محفوظا من المكاره من جهتنا، أو مسلّما عليك مكرّما وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ و مباركا عليك حالا بعد حال. و البركات: الخيرات الناميات. أو زيادات في نسلك

ص: 283

حتّى تصير آدما ثانيا. وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ و على أمم هم الّذين معك.

سمّوا أمما لتحزّبهم، أو لأنّ الأمم تتشعّب منهم. ف «من» للبيان. و الأوجه أن تكون للابتداء.

و المعنى: و على أمم ناشئة ممّن معك إلى آخر الدهر. و المراد بهم المؤمنون، لقوله:

وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي: و ممّن معك أمم سنمتّعهم في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. و المراد بهم الكفّار من ذرّيّة من معه. و قيل: هم قوم هود و صالح و لوط و شعيب صلوات اللّه عليهم، و العذاب ما نزل بهم.

تِلْكَ إشارة إلى قصّة نوح. و محلّها الرفع بالابتداء، و خبرها مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي: بعضها نُوحِيها إِلَيْكَ خبر ثان. و الضمير للقصّة، أي: موحاة إليك.

أو حال من الأنباء. أو هو الخبر و «من أنباء» متعلّق به. أو حال من الهاء في «نوحيها». ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا خبر آخر، أي: مجهولة عندك و عند قومك من قبل إيحائنا إليك. أو حال من الهاء في «نوحيها» أو الكاف في «إليك» أي: جاهلا أنت و قومك بها. و في ذكر القوم تنبيه على أنّه لم يتعلّمها، إذ لم يخالط غيرهم، و أنّهم مع كثرتهم لمّا لم يسمعوها فكيف بواحد منهم؟ فَاصْبِرْ على مشاقّ الرسالة و أذيّة القوم كما صبر نوح عليه السّلام إِنَّ الْعاقِبَةَ في الدنيا بالظفر و النصرة، و في الآخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ عن الشرك و المعاصي.

[سورة هود [11]: الآيات 50 الى 60]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ [50] يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ [51] وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ

يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [52]

ص: 284

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [53] إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [54]

مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [55] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [56] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ [57] وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [58] وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [59]

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [60]

ثمّ عطف سبحانه قصّة هود عليه السّلام على قصّة نوح، فقال: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ في النسب هُوداً عطف على قوله: «نُوحاً إِلى قَوْمِهِ». و «هودا» عطف بيان.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحّدوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على اللّه تعالى كذبا، باتّخاذكم الأوثان له شركاء، و جعلها شفعاء.

يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خاطب كلّ رسول به قومه إزاحة للتهمة و تمحيضا للنصيحة، فإنّها لا تنجع ما دامت مشوبة

ص: 285

بالمطامع أَ فَلا تَعْقِلُونَ أ فلا تستعملون عقولكم، فتعرفوا المحقّ من المبطل، و الصواب من الخطأ.

وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا

رَبَّكُمْ اطلبوا مغفرة اللّه بالإيمان ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثمّ توسّلوا إليها بالتوبة، فإنّ التبرّي عن الغير إنّما يكون بعد الإيمان باللّه و الرغبة فيما عنده يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدرور، كالمغزار وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ و يضاعف قوّتكم. و إنّما رغّبهم بكثرة المطر و زيادة القوّة، لأنّهم كانوا أصحاب زروع و بساتين و عمارات، حرّاصا عليها أشدّ الحرص، فكانوا أحوج إلى الماء و القوّة في صنع العمارات.

و قيل: حبس اللّه عنهم القطر و أعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين، فوعدهم هود عليه السّلام على الإيمان و التوبة كثرة الأمطار و تضاعف القوّة على النكاح بالتناسل.

وَ لا تَتَوَلَّوْا لا تعرضوا عمّا أدعوكم إليه مُجْرِمِينَ مصرّين على إجرامكم.

و في الكشّاف عن الحسن بن عليّ عليه السّلام: «أنّه وفد على معاوية فلمّا خرج تبعه بعض حجّابه فقال: إنّي رجل ذو مال و لا يولد لي، فعلّمني شيئا لعلّ اللّه يرزقني ولدا. فقال: عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتّى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرّة، فولد له عشرة بنين. فبلغ ذلك معاوية فقال: هلّا سألته ممّ قال ذلك؟، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود عليه السّلام: «و يزدكم قوّة إلى قوّتكم» و قول نوح عليه السّلام: وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ (1)» (2).

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بحجّة تدلّ على صحّة دعواك. و هو لفرط عنادهم و عدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات، كما قالت قريش لرسول

ص: 286


1- نوح: 12.
2- الكشّاف 2: 402.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لولا أنزل عليه آية من ربّه، مع كثرة آياته من ربّه و معجزاته. وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي

عبادتهم عَنْ قَوْلِكَ صادرين عن قولك. حال من الضمير في «تاركي». وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إقناط له من الإجابة و التصديق.

و في المجمع: «إنّما حملهم على دفع البيّنة مع ظهورها أشياء، منها: تقليد الآباء و الرؤساء. و منها: اتّهامهم لمن جاء بها، حيث لم ينظروا فيها نظر تأمّل.

و منها: أنّه دخلت عليهم الشبهة في صحّتها. و منها: اعتقادهم لأصول فاسدة دعتهم إلى جحدها. و إنّما حملهم على عبادة الأوثان أشياء، منها: اعتقادهم أن عبادتها تقرّبهم إلى اللّه زلفى. و منها: أن الشيطان ربما ألقى إليهم أنّ عبادتها تحظيهم في الدنيا. و منها: أنّهم ربما اعتقدوا مذهب المشبّهة، فاتّخذوا الأوثان على صورته عندهم فعبدوها» (1).

إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ ما نقول إلّا قولنا: اعتراك، أي: أصابك، من: عراه يعروه إذا أصابه بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون، لسبّك إيّاها و صدّك عن عبادتها، و من ذلك تهذي و تتكلّم بالخرافات. و الجملة مقول القول، و إلّا لغو، لأنّ الاستثناء مفرّغ، أي: ما نقول شيئا إلّا قولنا: اعتراك بعض آلهتنا بسوء.

قالَ إِنِّي أي: أجاب عن مقالتهم الحمقاء بأنّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ أي: أشهد اللّه على براءتي من آلهتكم و فراغي عن إضراركم، تأكيدا لذلك و تثبيتا له. و أمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بدينهم، و قلّة مبالاة بهم.

قال فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي: اجتمعوا على الكيد في إهلاكي ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ لا تمهلوني، فإنّي لا ابالي بكم و بكيدكم. و إنّما قال: «و اشهدوا» و لم يقل: و أشهدكم على طبق «أشهد اللّه»، لأنّ إشهاد اللّه على البراءة من الشرك إشهاد

ص: 287


1- مجمع البيان 5: 170.

صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد

و شدّ معاقده، و أمّا إشهادهم فما هو إلّا تهاون بدينهم، دلالة على قلّة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، و جي ء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن لا يحبّه: اشهد على أنّي لا أحبّك، تهكّما به و استهانة بحاله.

و الّذي بعثه على هذا القول أنّهم إذا اجتهدوا في إهلاكه، و رأوا أنّهم عجزوا من أوّلهم إلى آخرهم- و هم الأقوياء الأشدّاء- أن يضرّوه، لم يبق لهم شبهة أنّ آلهتهم الّتي هي جماد لا يضرّ و لا ينفع لا تتمكّن من إضراره انتقاما منه، فلزمت الحجّة عليهم. و هذا من جملة معجزاته، فإنّ مواجهة الواحد الجمّ الغفير من الجبابرة الفتّاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلّا لثقته باللّه تعالى، و تثبّطهم عن إضراره ليس إلّا بعصمته إيّاه، و لذلك عقّبه بقوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ تقريرا له.

و المعنى: أنّكم و إن بذلتم غاية وسعكم لن تضرّوني، فإنّي متوكّل على اللّه تعالى، واثق بحفظه، و هو مالكي و مالككم، فلا يحيق بي ما أردتم، و لا تقدرون على إهلاكي، لأنّه يصرف كيدكم عنّي.

ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي: إلّا و هو مالك لها قادر عليها، فهي ذليلة مقهورة له. و الأخذ بالنواصي تمثيل لذلك، فإنّ من أخذ بناصية غيره فقد قهره و أذلّه.

و لمّا ذكر توكّله على اللّه و ثقته بحفظه و كلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكّل عليه من قهره و سلطانه، فقال: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: إنّه على الحقّ و العدل، لا يضيع عنده معتصم، و لا يفوته ظالم.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولّوا لم أعاتب على التفريط

في الإبلاغ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ فقد أدّيت ما عليّ من الإبلاغ و إلزام الحجّة، فأبيتم إلّا تكذيب

ص: 288

الرسالة، فلا تفريط منّي و لا عذر لكم وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم، بأنّ اللّه يهلكهم و يستخلف قوما آخرين في ديارهم و أموالهم، يوحّدونه و يعبدونه وَ لا تَضُرُّونَهُ بتولّيكم و إعراضكم شَيْئاً من الضرر، أي:

لا ضرر عليه في إهلاككم، لأنّه لم يخلقكم لحاجة منه إليكم إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ رقيب، فلا تخفى عليه أعمالكم، و لا يغفل عن مجازاتكم. أو حافظ مستول عليه، فلا يمكن أن يضرّه شي ء.

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا، أو أمرنا بالعذاب نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا و كانوا أربعة آلاف وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ تكرير لبيان ما نجّاهم منه. و هو السموم، كانت تدخل أنوف الكفرة و تخرج من أدبارهم، فتتقطّع أعضاؤهم. و قيل: أراد بالتنجية الثانية إنجاءهم من عذاب الآخرة، تعريضا بأنّ المهلكين كما عذّبوا في الدنيا بالسموم، فهم معذّبون في الآخرة بالعذاب الغليظ.

[سورة هود [11]: الآيات 61 الى 68]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [61] قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [62] قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [63] وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً

ص: 289

فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ [64] فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [65]

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [66] وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [67] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ [68]

وَ تِلْكَ عادٌ أنّث اسم الإشارة باعتبار القبيلة، أو لأنّ الإشارة إلى قبورهم جَحَدُوا كفروا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ لأنّهم عصوا رسولهم، و من عصى رسولا فكأنّما عصى الكلّ، لأنّهم أمروا بطاعة كلّ رسول وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يعني: كبراءهم الطاغين. و «عنيد» من: عند يعند عنودا إذا طغى. و المعنى:

عصوا من دعاهم إلى الإيمان و ما ينجيهم، و أطاعوا من دعاهم الى الكفر و ما يرديهم.

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين، يكبّهم في العذاب أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا

رَبَّهُمْ جحدوه، أو كفروا نعمه، أو كفروا به، فحذف الجارّ أَلا بُعْداً لِعادٍ دعاء عليهم بالهلاك. و المراد به الدلالة على أنّهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما صدر عنهم من الآثام العظام. و كرّر «ألا»، و أعاد ذكر عاد، و لم يكتف بالضمير، تفظيعا لأمرهم، و حثّا على الاعتبار بحالهم قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد. و فائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم

ص: 290

و الإيماء إلى أنّ استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم و بين هود.

ثمّ عطف على ذلك قصّة صالح و قومه فقال: وَ إِلى ثَمُودَ منع صرفه باعتبار التعريف و التأنيث، فإنّه بمعنى القبيلة أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ هو كوّنكم منها لا غيره، فإنّه خلق آدم و موادّ النطف الّتي خلق نسله منها من التراب وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها عمّركم فيها و استبقاكم، من العمر. و عن الضحّاك: كانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة. أو أقدركم على عمارتها و أمركم بها. و قيل: هو من العمري، بمعنى أعمركم فيها دياركم، و يرثها منكم بعد انصرام أعماركم. أو جعلكم معمرين دياركم، بأن تسكنوها مدّة عمركم ثمّ تتركونها لغيركم، فإنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنّما أعمره إيّاها، لأنّه يسكنها عمره ثمّ يتركها لغيره.

فَاسْتَغْفِرُوهُ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي: دوموا على التوبة إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قريب الرحمة مُجِيبٌ لداعيه.

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا لما نرى فيك من مخائل رشدك و السداد، أن تكون لنا سيّدا و مستشارا في الأمور، و أن توافقنا في الدين، فلمّا سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على حكاية الحال الماضية وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد و التبرّؤ عن الأوثان مُرِيبٍ موقع في الريبة، من: ارابه إذا أوقعه، أو ذي ريبة على الإسناد المجازي، من: أراب في الأمر إذا كان ذا ريبة.

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ بيان و بصيرة مِنْ رَبِّي حرف الشكّ باعتبار المخاطبين وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوّة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ فمن يمنعني من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ في تبليغ رسالته و المنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي حينئذ باستتباعكم إيّاي غَيْرَ تَخْسِيرٍ غير أن تخسروني

بإبطال ما منحني اللّه به

ص: 291

و التعرّض لعذابه. أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران.

و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس أنّ معناه: ما تزيدونني إلّا بصيرة في خسارتكم.

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أشار الى ناقته الّتي جعلها معجزته، لأنّه سبحانه أخرجها لهم من جوف صخرة يشاهدونها على تلك الصفة، و خرجت كما طلبوه و هي حامل، و كانت تشرب يوما جميع الماء فتنفرد به و لا ترد الماء معها دابّة، فإذا كان يوم لا ترد فيه وردت الواردة كلّها الماء، و هذا أعظم آية و معجزة.

و أضافها إلى اللّه تشريفا لها، كما يقال: بيت اللّه. و نصب «آية» على الحال، و عاملها معنى الإشارة. و «لكم» حال منها، تقدّمت عليها لتنكيرها.

فَذَرُوها فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ترع نباتها، و تشرب ماءها وَ لا تَمَسُّوها و لا تصيبوها بِسُوءٍ قتل أو جرح أو غيره فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يتراخى عن مسّكم لها بالسوء إلّا يسيرا، و هو ثلاثة أيّام.

فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ عيشوا في منازلكم. سمّي المنزل و البلد دارا لأنّه يدار فيه بالتصرّف. أو في داركم الدنيا. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء و الخميس و الجمعة، ثمّ تهلكون. قيل: عقروها يوم الأربعاء، و هلكوا يوم السبت.

روي أنّهم لمّا عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل و رغا ثلاث مرّات، فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم. فاصفرّت ألوانهم أوّل يوم، ثمّ احمرّت من الغد، ثم اسودّت اليوم الثالث، فهو قوله: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي: غير مكذوب فيه، فاتّسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود. أو غير مكذوب على المجاز، و كأنّ الواعد قال

له: أفي بك، فإن وفى به صدّقه، و إلّا كذّبه. أو وعد غير كذب، على أنّه مصدر، كالمجلود بمعنى الجلد، و المعقول بمعنى الإدراك، و المصدوقة بمعنى الصدق.

روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزل الحجر في غزوة

ص: 292

تبوك قام فخطب الناس، و قال: أيّها الناس لا تسألوا نبيّكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث لهم الناقة، و كانت ترد من الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها، و يحلبون من لبنها مثل الّذي كانوا يشربون من مائها يوم غبّها، فعتوا عن أمر ربّهم، فقال: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» و كان وعدا من اللّه غير مكذوب. ثمّ جاءتهم الصيحة فأهلك اللّه من كان في مشارق الأرض و مغاربها منهم إلّا رجلا كان في حرم اللّه، فمنعه حرم اللّه من عذاب اللّه، يقال له: أبو رغال. قيل: يا رسول اللّه من أبو رغال؟ قال: أبو ثقيف.

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي: و نجّيناهم من خزي يومئذ، و هو هلاكهم بالصيحة، أو ذلّهم و فضيحتهم يوم القيامة، و لا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب اللّه و باسمه. و قرأ نافع:

يومئذ بالفتح، على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ القادر على كلّ شي ء الْعَزِيزُ الغالب عليه.

وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أمر اللّه سبحانه جبرئيل فصاح بهم صيحة ماتوا عندها فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ في منازلهم ميّتين واقعين على وجوههم. و قيل: قاعدين على ركبهم.

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يكونوا في منازلهم قطّ، لانقطاع آثارهم بالهلاك، من: غنى

بالمكان أي: أقام، و غنى أي: عاش أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ نوّنه أبو بكر ها هنا و في النجم (1) و الكسائي في جميع القرآن، و ابن كثير و نافع و أبو عمرو في قوله (2): أَلا بُعْداً لِثَمُودَ ذهابا إلى الحيّ، فإنّه مذكّر، أو الأب (3) الأكبر.

ص: 293


1- النجم: 51.
2- أي: قرءوا: لثمود.
3- أي: على هذين التقديرين يكون «ثمود» منصرفا، لأنّه مذكّر. و أمّا إذا فسّر بالقبيلة، يكون غير منصرف بالتأنيث و العلميّة، فلا يدخله التنوين.

[سورة هود [11]: الآيات 69 الى 76]

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [69] فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [70] وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [71] قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ [72] قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [73]

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [74] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [75] يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [76]

ثمّ ذكر سبحانه قصّة إبراهيم و لوط، فقال: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ يعني: الملائكة. قيل:

كانوا أربعة رابعهم اسمه كروبيل. و هذا منقول عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: تسعة. و قيل: أحد عشر. بِالْبُشْرى ببشارة الولد قالُوا سَلاماً سلّمنا عليك سلاما. و يجوز نصبه ب «قالوا» على معنى: ذكروا سلاما، لتضمّن الذكر القول. قالَ سَلامٌ أي: أمركم أو جوابي سلام، أو و عليكم سلام.

رفعه إجابة بأحسن من تحيّتهم. و قرأ حمزة و الكسائي: سلم. و كذلك في

ص: 294

الذاريات (1). و هما لغتان، كحرم و حرام. و المراد به الصلح.

فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فما ابطأ مجيئه به، أو فما أبطأ في المجي ء به، أو فما تأخّر عنه. و الجارّ في «أن» مقدّر. و الحنيذ المشويّ بالرضف، و هو الحجارة المحماة في أخدود من الأرض. و قيل: الّذي يقطر دسمه، من: حنذت الفرس إذا عرّقته بالجلّ (2)، لقوله: بعجل سمين.

فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ فلمّا راى إبراهيم أيدي الملائكة لا تَصِلُ إِلَيْهِ لا يمدّون إلى العجل الحنيذ أيديهم نَكِرَهُمْ أنكر ذلك، فإنّ نكر و أنكر و استنكر بمعنى وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً و خاف أن يريدوا به مكروها، و ذلك أنّ أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض أمنه صاحب الطعام على نفسه. و قيل: إنّه ظنّهم لصوصا يريدون به سوء. و الإيجاس الإدراك. و قيل: الإضمار.

قالُوا له لمّا أحسّوا منه أثر الخوف لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ إنّا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب، و إنّما لم نمدّ إليه أيدينا لأنّا لا نأكل. قيل: إنّهم دعوا اللّه فأحيا العجل الّذي كان ذبحه إبراهيم و شواه فرغا، فعلم حينئذ أنّهم رسل اللّه.

وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وراء الستر تسمع محاورتهم، أو على رؤوسهم للخدمة فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث، أو بإصابة رأيها، فإنّها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطا، فإنّي أعلم أنّ العذاب ينزل بهؤلاء القوم.

و قيل: «فضحكت» من الضحك بفتح الضاد بمعنى: حاضت. يقال: ضحكت الأرنب إذا حاضت. و منه: ضحكت السمرة إذا سال

صمغها. و هي: سارة بنت هارون بن يا حور بن ساروع بن فالع. و هي كانت ابنة عمّ إبراهيم.

فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ نصب «يعقوب» ابن عامر و حمزة و حفص بفعل يفسّره ما دلّ عليه الكلام. و تقديره: و وهبنا من وراء إسحاق

ص: 295


1- الذاريات: 25.
2- أي: ألقيت عليه الجلّ و أجريته حتى عرق.

يعقوب. و قيل: إنّه معطوف على موضع «بإسحاق»، فإنّه مفعول بواسطة الجرّ، أو على لفظ «إسحاق»، و فتحته للجرّ، فإنّه غير منصرف. و ردّ للفصل بينه و بين ما عطف عليه بالظرف. و قرأ الباقون بالرفع، على أنّه مبتدأ خبره الظرف، أي:

و يعقوب مولود من بعده.

و عن ابن عبّاس: الوراء ولد الولد. و لعلّه سمّي به لأنّه بعد الولد. و على هذا تكون إضافته إلى إسحاق ليس من حيث إنّ يعقوب وراءه، بل من حيث إنّه وراء إبراهيم من جهة إسحاق. و عن الشعبي: أنّه قيل له: هذا ابنك؟ قال: نعم من الوراء، و كان ولد ولده. و توجيه البشارة إليها للدلالة على أنّ الولد المبشّر به يكون منها، و لأنّها كانت عقيمة حريصة على الولد.

قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجبا. و أصله في الشرّ، فأطلق على كلّ أمر فظيع.

و الألف فيه مبدلة عن ياء الإضافة. و كذلك: يا لهفا و يا عجبا. أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين، أو تسعة و تسعين وَ هذا بَعْلِي زوجي. و أصله القائم بالأمر.

شَيْخاً ابن مائة و عشرين. و نصبه على الحال، و العامل فيها معنى اسم الاشارة.

إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ يعني: الولد من الهرمين.

و هو استعجاب من حيث العادة الّتي أجراها اللّه، دون القدرة، و لذلك قالُوا

قالت الملائكة منكرين عليها: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ بكثرة خيراته النامية الباقية عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أي: إنّ هذه و أمثالها ممّا يكرمكم اللّه به أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب، فإنّ خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوّة و مهبط المعجزات، و تخصيصهم بمزيد النعم و الكرامات، ليس ببدع و عجيب، و لا حقيق بأن يستغربه عاقل، فضلا عمّن نشأت و شابت في ملاحظة الآيات.

قال في الكشّاف: «قوله: رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مستأنف علّل به إنكار التعجّب، كأنّه قيل: إيّاك و التعجّب، فإنّ أمثال هذه الرحمة و البركة متكاثرة من اللّه عليكم. و قيل: الرحمة النبوّة، و البركات الأسباط من بني إسرائيل،

ص: 296

لأنّ الأنبياء منهم، و كلّهم من ولد إبراهيم» (1).

و نصب «أهل البيت» على المدح، أو النداء لقصد التخصيص، كقولهم: اللّهم اغفر لنا أيّتها العصابة.

روي: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بقوم فسلّم عليهم، فقالوا: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه. فقال عليه السّلام: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم: و رحمة اللّه و بركاته أهل البيت».

إِنَّهُ حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد مَجِيدٌ كثير الخير و الإحسان.

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ ما أوجس من الخيفة، و اطمأنّ قلبه بعرفانهم أنّهم الملائكة وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى بدل الروع يُجادِلُنا يجادل رسلنا فِي قَوْمِ لُوطٍ في شأنهم. و كانت مجادلته إيّاهم قوله لهم: إن كان فيها خمسون من المؤمنين أ تهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. فما زال ينقص حتّى قال:

فواحد؟ قالوا: لا. فقال: إنّ فيها لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجّينّه و أهله.

و قيل: إنّه

جادلهم و قال: بأيّ شي ء استحقّوا عذاب الاستئصال؟ و هل ذلك واقع لا محالة، أم هو تخويف ليرجعوا إلى الطاعة؟ و بأيّ شي ء يهلكون؟ و كيف ينجي المؤمنين؟

و قوله: «يجادلنا» إمّا جواب «لمّا»، جي ء به مضارعا على حكاية الحال. أو لأنّه في سياق الجواب بمعنى الماضي، كجواب «لو». أو دليل جوابه المحذوف، مثل: اجترأ على خطاب رسلنا، أو شرع في جدالهم. أو متعلّق بالجواب أقيم مقامه، مثل: أخذ أو أقبل يجادل رسلنا.

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسي ء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوّه من الفرطات، و التاسّف على صدور ما هو تركه أولى مُنِيبٌ راجع إلى اللّه تعالى بما يحبّ و يرضى. و فيه بيان الحامل له على المجادلة، و هو رقّة قلبه و فرط

ص: 297


1- الكشّاف 2: 411.

ترحّمه، رجاء أن يرفع العذاب عنهم.

يا إِبْراهِيمُ على إرادة القول، أي: قالت الملائكة: يا إبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا عن الجدال، و إن كانت الرحمة ديدنك إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ قضاؤه و حكمه الّذي لا يصدر إلّا عن حكمة، و العذاب نازل بهم لا محالة، و هو أعلم بحالهم وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال و لا دعاء و لا غير ذلك.

[سورة هود [11]: الآيات 77 الى 83]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ [77] وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [78] قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ [79] قالَ لَوْ أَنَّ لِي

بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [80] قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [81]

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [82] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [83]

ص: 298

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم، لأنّهم جاؤوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظنّ أنّهم أناس، فخاف عليهم خبث قومه و سوء سيرتهم، فيعجز عن مدافعتهم. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: سي ء و سيئت بإشمام السين الضمّ، و في العنكبوت (1) و الملك (2). و الباقون باختلاس حركة السين.

وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و ضاق بمكانهم صدره. و هو كناية عن شدّة الانقباض، للعجز عن مدافعة المكروه و الاحتيال فيه. وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد، من:

عصبه إذا شدّه.

قال الصادق عليه السّلام: «جاءت الملائكة لوطا و هو في زراعة قرب القرية فسلّموا عليه، و رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض. فقال لهم: ائتوا المنزل، فتقدّمهم و مشوا خلفه. فقال في نفسه: أيّ شي ء صنعت؟! آتي بهم قومي و أنا أعرفهم، فالتفت إليهم فقال: لتأتون شرارا من خلق اللّه. و كان قد قال اللّه لجبرئيل:

لا تهلكهم حتّى يشهد لوط عليهم ثلاث مرّات. فقال جبرئيل: هذه واحدة. ثمّ مشى لوط ثم التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه. فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثمّ مشى و لمّا بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال مثل ذلك. فقال جبرئيل عليه السّلام:

هذه الثالثة. ثمّ دخل و دخلوا معه حتّى دخل منزله، و لمّا رأت امرأته هيئة حسنة صعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا، فدخنت، فلمّا رأوا الدخان أقبلوا يهرعون، فذلك قوله: وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يسرعون إليه، كأنّهم يدفعون دفعا لشدّة طلب الفاحشة من أضيافه.

ص: 299


1- العنكبوت: 33.
2- الملك: 27.

وَ مِنْ قَبْلُ أي: و من قبل ذلك الوقت كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش مع الذكور، فتمرّنوها و لم يستحيوا منها، حتّى جاؤا يهرعون لها مجاهرين.

قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي فتزوّجوهنّ. و كانوا يطلبونهنّ قبل فلا يجيبهم، لخبثهم و عدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفّار كما قيل، فإنّه شرع مجدّد في الإسلام. و كذا كان أيضا في مبدأ الإسلام،

فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زوّج ابنتيه من عتبة بن أبي لهب و أبي العاص بن الربيع قبل أن يسلما و هما كافران، ثمّ نسخ ذلك.

أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه، حتّى إنّ ذلك أهون منه. أو إظهار لشدّة غيظه من ذلك كي يرقّوا له. و قيل: المراد بالبنات نساء قومه، فإنّ كلّ نبيّ أبو أمته من حيث الشفقة و التربية.

هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا، و أحلّ عملا. و هذا مثل قولك: الميتة أطيب من المغصوب و أحلّ منه، و لا يلزم أن يكون في المغصوب طيب و حلّية. فالأطهر بمعنى كثير النزاهة و الطيب في نفسه.

فَاتَّقُوا اللَّهَ في مواقعة الذكران، أو بترك جميع الفواحش وَ لا تُخْزُونِ و لا تفضحوني، من الخزي. أو و لا تخجلوني، من الخزاية بمعنى الحياء. فِي ضَيْفِي في شأن أضيافي، فإنّ إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي:

في جملتكم رجل واحد يهتدي إلى سبيل الرشد و فعل الجميل، و الكفّ عن القبيح.

قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ من حاجة، لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الّذي نحن عليه، فإنّا نرغب عن نكاح الإناث بنكاح الذكران وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ و هو إتيان الذكران.

قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي: لو قويت بنفسي على دفعكم أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ إلى قويّ أتمنّع به عنكم. شبّهه بركن الجبل في شدّته و منعته. قال جبرئيل

ص: 300

في جوابه: إنّ ركنك لشديد. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رحم اللّه أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد».

و جواب «لو» محذوف، تقديره: لدفعتكم.

روي أنّ لوطا أغلق بابه دون أضيافه، و أخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوّروا الجدار، فلمّا رأت الملائكة ما على لوط من الكرب قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لهلاكهم فلا تغتمّ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ إلى إضرارك، و لن يقدروا عليه بإضرارنا، فهوّن عليك، و دعنا و إيّاهم، فخلّاهم أن يدخلوا، ففتح الباب فدخلوا.

فاستأذن جبرئيل ربّه في عقوبتهم، فأذن له، فقام في الصورة الّتي يكون فيها فنشر جناحه- و له جناحان، و عليه و شاح من درّ منظوم، و هو براق الثنايا- فضرب جبرئيل بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال اللّه عزّ و جلّ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «كابر قوم لوط معه حتّى دخلوا البيت، فصاح به جبرئيل أن يا لوط دعهم يدخلوا، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم، فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا يقولون: النجاء النجاء (2)، فإنّ في بيت لوط سحرة».

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقطع الهمزة من الإسراء.

و قرأ ابن كثير و نافع بالوصل حيث وقع في القرآن (3) من السرى. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بطائفة منه. و عن ابن عبّاس: في ظلمة الليل. وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ و لا يتخلّف، أو لا ينظر إلى ورائه. و الأوّل قول ابن عبّاس، و الثاني قول مجاهد. و النهي في اللفظ ل «أحد» و في المعنى للوط.

و على هذا، كأنّهم تعبّدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة. إِلَّا امْرَأَتَكَ استثناء

ص: 301


1- القمر: 37.
2- أي: أسرعوا أسرعوا.
3- الحجر: 65، طه: 77، الشعراء: 52، الدخان: 23.

من قوله: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ».

قال في الأنوار: «و هذا إنّما يصحّ على تأويل الالتفات بالتخلّف، فإنّه إن فسّر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير و أبي عمرو بالرفع على البدل من «أحد». و لا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنّ الملائكة أمروا لوطا أن يخلّفها في المدينة مع قومها أو يخرجها، فلمّا سمعت صوت العذاب التفتت و قالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها- كما قال صاحب الكشّاف (1)- لأنّ القواطع لا يصحّ حملها على المعاني المتناقضة. و الأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله: «لا يلتفت» مثله في قوله: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ (2).

و لا يبعد أن يكون أكثر القرّاء على غير الأفصح. و لا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات، بل عدم نهيها عنه استصلاحا، و لذلك علّله على طريقة الاستئناف- لبيان هلاكها معهم- بقوله: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ و لا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع (3).

إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنّه علّة الأمر بالإسراء. روي: أنّه قال لوط:

متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح. فقال: أريد أسرع من ذلك، لضيق صدره بهم. فقالوا: أَ لَيْسَ

الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فهذا جواب لاستعجال لوط و استبطائه العذاب.

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا، أو أمرنا بالعذاب. و يؤيّده الأصل، و جعل التعذيب مسبّبا عنه بقوله: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها فإنّه جواب «لمّا». و كان حقّه:

جعلوا عاليها، أي: الملائكة المأمورون به، فأسند سبحانه إلى نفسه من حيث إنّه

ص: 302


1- الجملة المعترضة من كلام المؤلّف، و ليست من كلام البيضاوي، راجع الكشّاف 2: 416.
2- النساء: 66.
3- أنوار التنزيل 3: 116.

المسبّب، تعظيما للأمر، فإنّه

روي أنّ جبرئيل عليه السّلام ادخل جناحه تحت مدائنهم الأربع و رفعها إلى السماء، حتّى سمع أهل السماء نباح الكلاب و صياح الديكة، ثمّ قلبها عليهم.

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها على المدن بعد التقليب، تغليظا للعقوبة. أو على شذاذها.

حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجّر، لقوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ (1). و هذا معرّب، و أصله: سنگ گل. و قيل: إنّه من: أسجله إذا أرسله، أو أدرّ عطيّته. و المعنى: من مثل الشي ء المرسل، أو من مثل العطيّة في الإدرار. أو من السجلّ، أي: ممّا كتب اللّه تعالى أن يعذّبهم به. و قيل: أصله من سجّين، أي: من جهنّم، فأبدلت نونه لاما.

مَنْضُودٍ نضد معدّا لعذابهم في السماء. أو نضد في الإرسال بتتابع بعضه بعضا، كقطار الأمطار. أو نضد بعضه على بعض، و ألصق به.

مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب. و قيل: معلمة ببياض و حمرة، أو بسيماء تتميّز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمى بها. عِنْدَ رَبِّكَ في خزائنه، أي: فيها علامات يدلّ على أنّها معدّة للعذاب وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ فإنّهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم. روي أنّ حجرا بقي معلّقا بين السماء و الأرض أربعين يوما، يتوقّع به رجل من قوم لوط كان

في الحرم، حتّى خرج منها فأصابه. قال قتادة: و كانوا أربعة ألف ألف.

و في خاتمة الآية وعيد لكلّ ظالم. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سأل جبرئيل عليه السّلام فقال:

«يعني ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلّا و هو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة».

و قيل: الضمير للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكّة، يمرّون بها في

ص: 303


1- الذاريات: 33.

أسفارهم إلى الشام. و تذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.

[سورة هود [11]: الآيات 84 الى 88]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [84] وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [85] بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [86] قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [87] قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ [88]

ثمّ عطف سبحانه قصّة شعيب على ما تقدّمها من قصص الأنبياء عليهم السّلام، فقال:

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أراد أولاد مدين بن إبراهيم، أو أهل مدين. و هو بلد بناه، فسمّي باسمه. قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ

الْمِيزانَ أمرهم بالتوحيد أوّلا، فإنّه أصل الأمر. ثمّ نهاهم عمّا اعتادوه من البخس المنافي للعدل، المخلّ بحكمة التعاوض. ثمّ علّل لهذا النهي بقوله: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بسعة و ثروة من الأموال تغنيكم عن البخس و التطفيف. أو بنعمة حقّها

ص: 304

أن تتفضّلوا على الناس شكرا عليها، لا أن تنقصوا حقوقهم. أو بسعة من اللّه، فلا تزيلوها عنكم بما أنتم عليه من البخس.

وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ لا يشذّ منه أحد منكم. و قيل: عذاب مهلك، من قوله: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ (1). و المراد عذاب يوم القيامة، أو عذاب الاستئصال. و أصله من إحاطة العدوّ. و توصيف اليوم بالإحاطة- و هي صفة العذاب- لاشتماله عليه، فإنّ الزمان يشتمل على ما يحدث فيه.

ثمّ صرّح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضدّه مبالغة، فقال: وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ أي: أوفوا حقوق الناس في المكيلات و الموزونات بِالْقِسْطِ بالعدل و السويّة من غير زيادة و نقصان، فإنّ الازدياد فوق أصل الإيفاء مندوب غير مأمور به. و فيه تنبيه على أنّه لا يكفيهم الكفّ عن تعمّد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء، و لو بزيادة لا يتأتّى الإيفاء بدونها، كغسل اليد من باب المقدّمة.

و قوله: وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ تعميم بعد تخصيص، فإنّه أعمّ من أن يكون في المقدار أو في غيره. و كذا قوله: وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإنّ العثوّ يعمّ تنقيص الحقوق و غيره من أنواع الفساد.

و قيل: المراد بالبخس مكس درهم مثلا، إذ كانوا يأخذون من كلّ شي ء يباع شيئا، كما تفعل السماسرة، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. و العثوّ: السرقة

و قطع الطريق و الغارة. و فائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعله الخضر عليه السّلام.

و قيل: معناه: و لا تعثوا في الأرض مفسدين أمر دينكم و مصالح آخرتكم.

بَقِيَّتُ اللَّهِ ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزّه عمّا حرّم عليكم خَيْرٌ لَكُمْ ممّا تجمعون بالتطفيف.

ص: 305


1- الكهف: 42.

قال في الكشّاف: «إضافة البقيّة إلى اللّه من حيث إنّها رزقه الّذي يجوز أن يضاف إليه. و أمّا الحرام فلا يضاف إلى اللّه، و لا يسمّى رزقا على مذهبنا» (1).

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا، فإنّ خيريّتها باستتباع الثواب مع النجاة، و ذلك مشروط بالإيمان. أو إن كنتم مصدّقين لي في قولي لكم. و قيل: البقيّة الطاعة، فإنّه يبقى ثوابها أبدا و الدنيا تفنى. و يؤيّده قوله تعالى: وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ (2).

وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها، و إنّما أنا ناصح مبلّغ، و قد أعذرت حين أنذرت. أو لست بحافظ عليكم نعم اللّه لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

قالُوا إنما أجابوه بعد أمرهم بالتوحيد استهزاء و تهكّما بصلاته يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام. أشعروا بذلك أنّ مثل قولك لا يدعو إليه داع عقليّ، و أنّ ما دعاك إليه وساوس من جنس ما تواظب عليه. و كان عليه السّلام كثير الصلاة، فلذلك جمعوا و خصّوا الصلاة بالذكر. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص على الإفراد. و المعنى: أ صلوتك الّتي تداوم عليها ليلا و نهارا تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف، لأنّ الرجل لا يؤمر بفعل غيره. و إسناد الأمر إلى الصلاة على طريق المجاز، كإسناد النهي إليها

في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (3).

أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا عطف على «ما»، أي: و أن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا. و هذا جواب النهي عن التطفيف و الأمر بالإيفاء. و قيل: كان شعيب

ص: 306


1- الكشّاف 2: 419.
2- الكهف: 46.
3- العنكبوت: 45.

ينهاهم عن تقطيع الدراهم و الدنانير، فأرادوا به ذلك. ثمّ قالوا تهكّما به: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ لأنّهم قصدوا بذلك وصفه بضدّ ذلك، و هو غاية السّفه و الغيّ، فعكسوا ليتهكّموا به، كما يقال للشحيح: لو أبصرك حاتم لسجد لك. أو علّلوا إنكار ما سمعوا منه و استبعاده بأنّه موسوم بالحلم و الرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجّة واضحة مِنْ رَبِّي إشارة إلى ما آتاه اللّه من العلم و النبوّة وَ رَزَقَنِي مِنْهُ من عنده و بإعانته، بلا كدّ منّي في التحصيل رِزْقاً حَسَناً إشارة إلى ما آتاه اللّه تعالى من المال الحلال الطيّب غير مشوب بالنجس. و جواب الشرط محذوف، تقديره: فهل يصحّ لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانيّة و الجسمانيّة أن أخون في وحيه، و أخالفه في أمره و نهيه؟ و هل يصحّ لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان و الكفّ عن المعاصي، و الأنبياء لا يبعثون إلّا لذلك؟ و هو اعتذار عمّا أنكروا عليه من تغيير مألوفهم، و النهي عن دين آبائهم.

وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي: ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم الّتي نهيتكم عنها و أختارها لنفسي، فاستبدّ بها دونكم، فلو كانت صوابا لآثرتها و لم أعرض عنها، فضلا عن أن

أنهى عنها. يقال: خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته و هو مولّ عنه، و خالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس.

إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ما أريد إلّا أن أصلحكم أموركم بأمري بالمعروف و نهيي عن المنكر مَا اسْتَطَعْتُ ما دمت أستطيع الإصلاح، أي: فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه. و «ما» مصدريّة واقعة موقع الظرف، اي: مدّة استطاعتي و تمكّني منه. و قيل: خبريّة بدل من لإصلاح، أي: المقدار الّذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته، فحذف المضاف.

ص: 307

و لهذه الأجوبة الثلاثة على هذا الترتيب شأن، و هو التنبيه على أنّ العاقل يجب أن يراعي في كلّ ما يفعله و يتركه أحد حقوق ثلاثة، أهمّها و أعلاها حقّ اللّه.

و ثانيها: حقّ النفس. و ثالثها: حقّ الناس. فقال شعيب: كلّ ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به، و أنهاكم عمّا نهيتكم عنه.

وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ و ما كوني موفّقا لإصابة الحقّ و الصواب إلّا بهدايته و معونته. و المعنى: أنّي أطلب التوفيق من ربّي في إمضاء الأمر على سننه، و أطلب منه التأييد و الإظهار على عدوّه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و فوّضت الأمور إليه، فإنّه القادر المتمكّن من كلّ شي ء، و ما عداه عاجز في حدّ ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار. و فيه إشارة إلى محض التوحيد الّذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ.

وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ إشارة إلى معرفة المعاد. و هو يفيد الحصر بتقديم الصلة على «أنيب»، كتقديم الصلة على «توكّلت».

و في هذه الكلمات الثلاثة طلب التوفيق لإصابة الحقّ فيما يأتيه و يذره من اللّه عزّ و جلّ، و الاستعانة به في مجامع أمره، و الإقبال عليه بشراشره، و حسم

أطماع الكفّار، و إظهار الفراغ عنهم، و عدم المبالاة بمعاداتهم و تهديدهم، بالرجوع إلى اللّه تعالى للجزاء.

[سورة هود [11]: الآيات 89 الى 95]

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [89] وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [90] قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ

ص: 308

[91] قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [92] وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [93] وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [94] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ [95] وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنّكم خلافي و معاداتي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة. و «أن» بصلتها ثاني مفعولي «جرم» فإنّه يعدّى إلى واحد و إلى اثنين، ككسب. و عن ابن كثير: لا يجر منّكم بضمّ الياء. و هو منقول من المتعدّي إلى مفعول واحد، كما نقل أكسبه المال و كسب المال. و الأوّل أفصح، كما أنّ «كسبته مالا» أفصح من: أكسبته، فإن «أجرم و أكسب» أقلّ دورانا على ألسنة الفصحاء.

وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زمانا أو مكانا، فإن لم تعتبروا بمن

قبلهم فاعتبروا بهم. و عن قتادة: أن دارهم قريبة من داركم. أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر و المساوئ، فلا يبعد عنكم ما أصابهم. و إفراد البعيد لأنّ المراد: و ما إهلاكهم أو و ما هم بشي ء بعيد. و لا يبعد أن يسوّى في أمثاله- كقريب و كثير و قليل- بين المذكّر و المؤنّث، لأنّها على زنة المصادر، كالصهيل و هو صوت الفرس، و النهيق صوت الحمار.

ص: 309

وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ داوموا على الاستغفار و التوبة عمّا أنتم عليه إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للتائبين وَدُودٌ فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة لمن يودّه من اللطف و الإحسان. و هو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.

قالُوا قال قوم شعيب له حين سمعوا منه الوعظ و التخويف يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كوجوب التوحيد و حرمة البخس، و ما ذكرت دليلا عليهما، و ذلك لقصور عقولهم و عدم تفكّرهم. و قيل: قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنّهم لم يلقوا إليه أذهانهم، لشدّة نفرتهم عنه.

وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوّة لك فتمتنع منّا إن أردنا بك سوء، أو مهينا لا عزّ لك فيما بيننا. و قيل: أعمى بلغة حمير، كما يسمّى ضريرا، أي: ضرّ بذهاب بصره. و هو مع عدم مناسبته يردّه التقييد بالظرف و هو «فينا»، فإن من كان أعمى يكون كذلك كيف كان غير مختصّ ببعض مكان.

وَ لَوْ لا رَهْطُكَ قومك و عزّتهم عندنا، لكونهم على ملّتنا لا لخوف من شوكتهم، فإنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة، و قيل: إلى التسعة لَرَجَمْناكَ لقتلناك برمي الأحجار، أو بأصعب وجه. وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أي:

لا تعزّ علينا و لا تكرم، فتمنعنا عزّتك عن الرجم. و هذا من عادة السفيه المحجوج اللجوج يقابل الحجج و الآيات بالسبّ و التهديد.

و قد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل، كأنّه قيل: و ما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزّة علينا، و لذلك قالَ في جوابهم يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ أعظم حرمة عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ و لو قيل: و ما عززت علينا، لم يصحّ هذا الجواب.

وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا و جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر، لا يعبأ به بإشراككم به و إهانتكم رسوله. و هو يحتمل الإنكار و التوبيخ، و الردّ

ص: 310

و التكذيب. و الظهريّ منسوب إلى الظهر، و الكسر من تغييرات النسب، كالأمس يقال له: امسيّ بالكسر.

إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط بأعمالكم علما، فلا يخفى عليه شي ء منها، فيجازي عليها.

ثمّ قال تهديدا لهم: وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان و مكانة و مقام و مقامة، أو يكون مصدرا من: مكن مكانة فهو مكين. و المعنى: اعملوا قارّين على جهتكم الّتي أنتم عليها من الشرك و الشنآن لي، أو اعملوا متمكّنين من عداوتي مطيعين لها.

إِنِّي عامِلٌ على حسب ما يؤتيني اللّه من النصرة و التأييد و يمكّنني سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يجوز أن تكون «من» استفهاميّة معلّقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنّه قيل: سوف تعلمون أيّنا يأتيه عذاب يخزيه و أيّنا هو كاذب. و أن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنّه قيل: سوف تعلمون الشقيّ الّذي يأتيه عذاب يخزيه و الّذي هو كاذب. و ذكر

الفاء في «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» في سورة الأنعام (1) للتصريح بأنّ الإصرار و التمكّن فيما هم عليه سبب لذلك، و حذفها هاهنا لأنّه جواب سائل قال: فما ذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل.

وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على «مَنْ يَأْتِيهِ» لا لأنّه قسيم له، كقولك: ستعلم الكاذب و الصادق، بل لأنّهم لمّا أوعدوه و كذّبوه قال: سوف تعلمون من المعذّب و الكاذب منّي و منكم. و قيل: كان قياسه: و من هو صادق، لينصرف الأوّل إليهم و الثاني إليه، لكنّهم لمّا كانوا يدعونه كاذبا قال: «وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ» على زعمهم.

وَ ارْتَقِبُوا و انتظروا ما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر. فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير بمعنى المعاشر، أو المرتقب كالرفيع بمعنى

ص: 311


1- الأنعام: 135.

المرتفع.

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إنّما ذكره بالواو لا بالفاء كما في قصّة لوط و صالح، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له، بخلاف قصّتي صالح (1) و لوط « (2)»، فإنّه ذكر بعد الوعد، و ذلك قوله: وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (3) و قوله: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ « (4)»، فلذلك جاء بفاء السببيّة.

وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل: صاح بهم جبرئيل عليه السّلام فهلكوا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميّتين. و أصل الجثوم اللزوم في المكان.

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يقيموا فيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبّههم بهم، لأنّ عذابهم كان أيضا بالصيحة، غير أنّ صيحتهم كانت من تحتهم، و صيحة مدين كانت من فوقهم. و «بعد» بالكسر مخصوص، بمعنى البعد الّذي يكون بسبب الهلاك. و البعد بالضمّ مصدر: بعد و بعد. و البعد بالفتح مصدر المكسور خاصّة. يقال: بعد بعدا و بعدا، إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده.

[سورة هود [11]: الآيات 96 الى 99]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ [96] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [97] يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [98] وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [99]

ثمّ عطف سبحانه قصّة موسى عليه السّلام على ما تقدّم من قصص الأنبياء، فقال:

ص: 312


1- هود: 66 .
2- هود: 82.
3- هود: 65 .
4- هود: 81.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بالتوراة أو المعجزات وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ هو المعجزة القاهرة المخلصة من التلبيس و التمويه على أتمّ وجه. و هي العصا.

و إفرادها بالذكر لأنّها أبهرها. و يجوز أن يراد بهما واحد، أي: و لقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا و سلطانا له على نبوّته، واضحا في نفسه، أو موضحا نبوّته، فإنّ «أبان» جاء لازما و متعدّيا. و الفرق بين الآيات و السلطان المبين: أنّ الآية تعمّ الأمارة و الدليل القاطع، و السلطان يخصّ بالقاطع، و المبين يخصّ بما فيه جلاء، كالعصا.

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فاتّبعوا أمره بالكفر بموسى عليه السّلام. أو فما اتّبعوا موسى الهادي إلى الحقّ المؤيّد بالمعجزات القاهرة الباهرة، و اتّبعوا- لفرط جهالتهم- طريقة فرعون المنهمك في الضلال و الطغيان، الداعي إلى مالا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل. و ذلك أنّه ادّعى الإلهيّة و هو بشر مثلهم، و جاهر بالعسف و الظلم و الشرّ الّذي لا يأتي إلّا من شيطان مارد، و مثله بمعزل عن الإلهيّة ذاتا و أفعالا.

وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ

مرشد، أو ذي رشد، و إنّما هو غيّ محض و ضلال صريح. و فيه تجهيل لمتّبعيه حيث شايعوه على أمره، و هو ضلال مبين.

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى النار، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال.

يقال: قدم، بمعنى: تقدّم. و المعنى: أنّ فرعون يمشي بين يدي قومه يوم القيامة على قدميه حتّى يهجم بهم على النار، كما كان يقدمهم في الدنيا يدعوهم إلى طريق النار. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه. و نزّل النار لهم منزلة الماء، فسمّى إتيانها ورودا، تهكّما. وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي: بئس المورد الّذي وردوه، فإنّ الورد إنّما يراد لتبريد الأكباد و تسكين العطش، و النار بالضدّ.

و الآية كالدليل على قوله: «وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ»، فإنّ من كان هذه عاقبته

ص: 313

لم يكن في أمره رشد. أو تفسير له، على أنّ المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ أي: هذه الدنيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: يلعنون في الدنيا و الآخرة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ بئس العون المعان، أو العطاء المعطى. و أصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، فإنّ رفد الدنيا عون و معين لعذاب الآخرة و مدد له، و رفد الآخرة معان لرفد الدنيا. و إنّما سمّاه رفدا، لأنّه في مقابلة ما يعطى أهل الجنّة من أنواع النعم. و المخصوص بالذمّ محذوف، أي: رفدهم، و هو اللعنة في الدارين.

[سورة هود [11]: الآيات 100 الى 108]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ [100] وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [101] وَ كَذلِكَ

أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [102] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [103] وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [104]

يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ [105] فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ [106] خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما

ص: 314

شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [107] وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [108]

ذلِكَ ذلك النّبأ مِنْ أَنْباءِ بعض الْقُرى أنباء بعض القرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص عليك مِنْها من تلك القرى قائِمٌ باق، كالزرع القائم على ساقه وَ حَصِيدٌ و منها عافي الأثر، كالزرع المحصود. و هذه الجملة مستأنفة لا محلّ لها. و قيل: حال من الهاء في «نقصّه». و ليس بصحيح، إذ لا واو و لا ضمير.

وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إيّاهم وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن عرّضوها للهلاك بارتكاب ما يوجبه فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ فما قدرت أن تدفع عنهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ شيئا من بأس اللّه. هي حكاية حال ماضية. لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي: عذابه. و «لمّا» منصوب ب «ما أغنت». وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هلاك و تخسير. يقال: تبّ إذا خسر، و تبّبه غيره إذا أوقعه في الخسران.

وَ كَذلِكَ مرفوع المحلّ، أي: مثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى أي: أهلها وَ هِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى. و هي في الحقيقة لأهلها، لكنّها لمّا أقيمت

مقامه أجريت عليها. و فائدة هذه الحال الإشعار بأنّهم أخذوا لظلمهم، و إنذار كلّ ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العاقبة. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع غير مرجوّ الخلاص منه. و هو مبالغة في التهديد و التحذير.

إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما قصّ اللّه من قصص الأمم الهالكة بذنوبها، أو إلى

ص: 315

ما نزل بالأمم الهالكة لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ يعتبر به عظمته، لعلمه بأنّ ما حاق بهم أنموذج ممّا أعدّ اللّه تعالى للمجرمين في الآخرة، أو ينزجر به عن موجباته، لعلمه بأنّها من إله مختار، يعذّب من يشاء و يرحم من يشاء، فإنّ من أنكر الآخرة و أحال فناء هذا العالم- كالفلاسفة- لم يقل بالفاعل المختار، و جعل تلك الوقائع لأسباب فلكيّة اتّفقت في تلك الأيّام، لا لذنوب المهلكين بها.

و نحو ذلك قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (1).

ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة، و إن لم يذكر صريحا لكن دلّ عليه قوله:

«عَذابَ الْآخِرَةِ» و قوله: يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ و التغيير من الفعليّة إلى الاسميّة للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، و أنّ الثبات من شأنه لا محالة، و أنّ الناس لا ينفكّون عن هذا اليوم. فهو أبلغ من قوله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ (2). و معنى الجمع له: الجمع لما فيه من المحاسبة و المجازاة.

وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي: مشهود فيه أهل السماوات و الأرضين بحيث لا يغيب عنه غائب، فاتّسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به. و لو جعل اليوم مشهودا في نفسه لا مشهودا فيه، لبطل الغرض من تعظيم اليوم و تمييزه عن سائر الأيّام، فإنّ سائرها كذلك.

ثمّ أخبر سبحانه عن اليوم

المشهود، و هو يوم القيامة، فقال: وَ ما نُؤَخِّرُهُ أي: ذلك اليوم إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ إلّا لانتهاء مدّة معدودة متناهية، على حذف المضاف و إرادة مدّة التأجيل كلّها بالأجل، من زمان حياتهم إلى المقدّر، لا منتهاها، فإنّه غير معدود.

ص: 316


1- النّازعات: 26.
2- التغابن: 9.

يَوْمَ يَأْتِ أي: اليوم، كقوله تعالى: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ (1). و المراد بإتيانه إتيان هوله و شدائده، إذ لولا هذا التقدير لزم أن يكون الزمان ظرفا لنفسه. أو المراد: يأتي اللّه، أي: أمره تعالى، كقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ (2).

و قرأ ابن كثير و عاصم و حمزة: يأت بحذف الياء، اجتزاء عنها بالكسرة.

و انتصب الظرف ب «أذكر» أو بقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ لا تتكلّم بما ينفع و ينجي، من جواب أو شفاعة إِلَّا بِإِذْنِهِ إلّا بإذن اللّه تعالى، كقوله: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ (3). و هذا في موقف. و قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (4) في موقف آخر، فإنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف و مواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، و في بعضها يكفّون عن الكلام، فلا يؤذن لهم، و في بعضها يؤذن لهم فيتكلّمون، و في بعضها يختم على أفواههم، و تكلّم أيديهم و تشهد أرجلهم. أو المأذون فيه هي الجوابات الحقّة، و الممنوع عنه- في قوله: «وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ»- هي الأعذار الباطلة.

فَمِنْهُمْ الضمير لأهل الموقف. و لم يذكروا، لأنّ ذلك معلوم مدلول عليه بقوله: «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ». أو للناس في قوله: «مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ». شَقِيٌ وجبت له النار بإساءته وَ سَعِيدٌ وجبت له الجنّة بإحسانه.

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ و هو إخراج النفس وَ شَهِيقٌ و هو ردّ النفس. و استعمالهما في أوّل النهيق و آخره. و المراد بهما الدلالة على شدّة كربهم و غمّهم، و تشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه و انحبس فيه روحه،

ص: 317


1- يوسف: 107.
2- البقرة: 210.
3- النبأ: 38.
4- المرسلات: 35- 36.

أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير.

خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ليس ذلك لارتباط دوامهم في النار بدوامهما، فإنّ النصوص القاطعة دالّة على تأبيد دوامهم و على انقطاع دوامهما.

فالمراد منه التعبير عن التأبيد و المبالغة بما كان العرب يعبّرون به عنه على سبيل التمثيل، كما قالوا: هو دائم و مؤبّد ما دام جبل قبيس باقيا، و ما أقام ثبير، و ما لاح كوكب، و غير ذلك من كلمات التأبيد عندهم، و معلوم أنّها فانية. و على تقدير الارتباط لم يلزم أيضا من زوال السماوات و الأرض زوال عذابهم، و لا من دوامه دوامهما، إلّا من قبيل مفهوم المخالف، و دلالة المفهوم ليست بحجّة على المذهب الصحيح. و على تقدير حجّيّته لا يقاوم المنطوق الصريح القاطع الدالّ على التأبيد المؤبّد، و عدم الانقطاع.

أو المراد سماوات الآخرة و أرضها، و يدلّ عليه قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ (1). و هما مخلوقتان للأبد. و أيضا لا بدّ لأهل الآخرة من مظلّ و مقلّ. و كلّ ما علاك و أظلّك سماء، و كلّ ما أقلّك أرض.

و هذا القول مرجوح، من حيث إنّه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلائق وجوده و دوامه، و من عرفه فإنّما يعرفه بما يدلّ على دوام الثواب و العقاب، فكيف يجوز له التشبيه، إذ لا بدّ من وجود الشبه فيه؟

إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ

استثناء من الخلود في النار، لأنّ بعضهم- و هم فسّاق الموحّدين- يخرجون منها، و ذلك كاف في صحّة الاستثناء، لأنّ زوال الحكم عن الكلّ يكفيه زواله عن البعض. و هم المراد بالاستثناء الثاني، فإنّهم مفارقون عن الجنّة أيّام عذابهم، فإنّ التأبيد من مبدأ معيّن ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، و هؤلاء و إن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم.

ص: 318


1- إبراهيم: 48.

و هذا مرويّ عن ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه، و أبي سعيد الخدري، و قتادة، و السدّي، و الضحّاك، و جمع من المفسّرين.

إن قيل: فعلى هذا لم يكن قوله: «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ» تقسيما صحيحا، لأنّ شرط التقسيم أن تكون صفة كلّ قسم منتفية عن قسيمه.

قلنا: ذلك الشرط من حيث التقسيم، لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، و هاهنا المراد مانع الخلوّ، فإنّ المعنى المراد: أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، و حالهم لا يخلو عن السعادة و الشقاوة، و ذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين.

و قيل: الاستثناء من الخلود باعتبار أنّ أهل النار لا يخلّدون في عذاب النار وحده، بل يعذّبون بالزمهرير، و بأنواع أخر من العذاب سوى عذاب النار، و بما هو أغلظ منها كلّها، و هو سخط اللّه عليهم و خسئه لهم و إهانته إيّاهم، كما أنّ أهل الجنّة لهم سوى الجنّة ما هو أكبر منها و أجلّ موقعا منهم، و هو رضوان اللّه، كما قال:

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (1). فلهم ما يتفضّل اللّه به عليهم سوى ثواب الجنّة ممّا لا يعرف كنهه

إلّا هو. فهو المراد من الاستثناء. و الدليل عليه قوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي: إنّه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب المخلّد، كما يعطي أهل الجنّة عطاءه الّذي لا انقطاع له.

وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا بطاعات اللّه، و انتهائهم عن المعاصي فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع. و هو تصريح بأنّ الثواب لا ينقطع.

و قيل: «إلّا» بمعنى: سوى، كقولك: عليّ ألف إلّا الألفين القديمين. و المعنى:

ص: 319


1- التوبة: 72.

سوى ما شاء ربّك من الزيادة الّتي لا آخر لها على مدّة بقاء السماوات و الأرض.

و قرأ حمزة و حفص: سعدوا على البناء للمفعول، من: سعده اللّه تعالى، بمعنى: أسعده. و «عطاء» نصب على المصدر المؤكّد، أي: اعطوا عطاء، أو الحال من «الجنّة»، فإنّه مفعول بواسطة.

[سورة هود [11]: آية 109]

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [109]

و لمّا قصّ سبحانه قصص الكفّار، و ما أحلّ بهم من نقمه، و ما أعدّ لهم من عذابه، قال تسلية لرسوله، وعدة بالانتقام منهم، و وعيدا لهم: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شكّ بعد ما أنزل إليك من مآل الناس، من الشقاوة و السعادة مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ «ما» مصدريّة، أي: من عبادة هؤلاء المشركين، في أنّها ضلال مؤدّ إلى مثل ما حلّ بمن قبلهم ممّن قصصنا عليك سوء عاقبة عبادتهم. أو موصولة، أي: من حال ما يعبدونه في أنّه يضرّ و لا ينفع.

ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ استئناف، معناه: تعليل النهي عن المرية، أي: هم و آباؤهم سواء في الشّرك، ما يعبدون إلّا كعبادة آبائهم، على تقدير المصدريّة. أو ما يعبدون شيئا إلّا مثل ما عبدوه من الأوثان، على تقدير الموصوليّة.

و قد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك، فسيلحقهم مثله، لأنّ التماثل في الأسباب- و هي عبادة الأوثان هنا- يقتضي التماثل في المسبّبات، و هي العقوبات. و معنى «كما يعبد»: كما كان يعبد، فحذف لدلالة «من قبل» عليه.

وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ حظّهم من العذاب كما وفّينا ءاباءهم. أو من الرزق، فيكون عذرا لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه. غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب، لإفادة معنى التوفية حقيقة، و رفع توهّم المعنى المجازي، فإنّك تقول:

ص: 320

وفّيته حقّه، و تريد به وفاء بعضه و لو مجازا.

[سورة هود [11]: الآيات 110 الى 111]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [110] وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [111]

ثمّ بيّن أنّ تكذيب هؤلاء الكفّار بالّذي آتيناك، كتكذيب أولئك بالكتاب الّذي آتيناه موسى، فقال: لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فآمن به قوم و كفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن.

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني: كلمة إنظار العذاب إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين قوم موسى، أو بين قومك، بإنزال ما يستحقّه المبطل ليتميّز به عن المحقّ وَ إِنَّهُمْ و إن كفّار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من القرآن مُرِيبٍ موقع في الريبة.

وَ إِنَّ كُلًّا التنوين عوض المضاف إليه، أي: و إن كلّ المختلفين فيه، المؤمنين منهم و الكافرين. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو بكر بالتخفيف (1) مع الإعمال، اعتبارا للأصل. لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ربّهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ

اللام في «لمّا» موطّئة للقسم، و الثانية للتأكيد، أو بالعكس. و «ما» مزيدة بين اللامين للفصل. و المعنى:

و إنّ جميعهم و اللّه ليوفّينّهم ربّك جزاء أعمالهم، من حسن و قبح، و إيمان و كفر.

و قرأ ابن عامر و عاصم و حمزة: لمّا بالتشديد، على أنّ أصله: لمن ما، فقلبت النون ميما للإدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت أولاهنّ. و المعنى: لمن الّذين

ص: 321


1- أي: بتخفيف «إنّ».

يوفّينّهم ربّك جزاء أعمالهم.

إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يفوته شي ء منه و إن خفي.

[سورة هود [11]: آية 112]

فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [112]

و لمّا بيّن أمر المختلفين في التوحيد و النبوّة، و أطنب في شرح الوعد و الوعيد، أمر رسوله بالاستقامة مثل ما أمر بها، فقال: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي:

فاستقم مثل الاستقامة الّتي أمرت بها، على جادّة الحقّ، غير عادل عنها.

و هذه الاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسّط بين التشبيه و التعطيل، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين، و في الأعمال، من تبليغ الوحي و بيان الشرائع كما أنزل، و القيام بوظائف العبادات، من غير إفراط و تفريط مفوّت للحقوق و نحوها. و هي في غاية العسر، و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «شيّبتني سورة هود»،

كما نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: ما نزلت آية كانت أشدّ و لا أشقّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هذه الآية. و لهذا

قال: «شيّبتني سورة هود و الواقعة و أخواتهما».

و روي أنّ بعض أصحابه قال: «قد أسرع فيك الشيب. فقال: شيّبتني سورة هود. فقال: ما الّذي شيّبك منها، أ قصص الأنبياء و هلاك الأمم؟ قال: لا،

و لكن قوله: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ».

و عن الصادق عليه السّلام: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» معناه: افتقر إلى اللّه بصحّة العزم» (1).

وَ مَنْ تابَ مَعَكَ عطف على المستكن في «استقم» و إن لم يؤكّد بمنفصل، لقيام الفاصل مقامه. و المعنى: فاستقم أنت ليستقم من تاب من الشرك

ص: 322


1- رواه في الكشّاف 2: 433.

و الكفر و آمن معك.

وَ لا تَطْغَوْا و لا تخرجوا عمّا حدّ لكم من حدود اللّه إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو مجازيكم عليه. و هو في معنى التعليل للأمر و النهي.

و في الآية دليل على وجوب اتّباع النصوص من غير تصرّف و انحراف، بنحو قياس و استحسان.

[سورة هود [11]: الآيات 113 الى 115]

وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [113] وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [114] وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [115]

ثمّ نهى اللّه سبحانه عن المداهنة في الدين و الميل إلى الظالمين، فقال: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا و لا تميلوا إلى الّذين وجد منهم الظلم ادنى ميل، فإنّ الركون هو الميل اليسير، كالتزيّي بزيّهم، و تعظيم ذكرهم، و كذا الرضا بفعلهم، و مصاحبتهم و مداهنتهم، و مدّ العين إلى زهرتهم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بركونكم إليهم.

و إذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمّى ظلما كذلك، فما ظنّك بالركون إلى الظالمين- أي: الموسومين بالظلم- ثمّ بالميل إليهم كلّ الميل، ثمّ بالظلم نفسه، و الانهماك فيه؟! و قال سفيان: في جهنّم واد لا يسلكها إلّا القرّاء الزائرون للملوك. و عن الأوزاعي: ما من شي ء أبغض إلى اللّه من عالم يزور

عاملا. و عن محمّد بن مسلمة:

الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء.

ص: 323

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى اللّه في أرضه».

و قد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برّيّة هل يسقى شربة ماء؟

قال: لا. فقيل: يموت؟ فقال: دعه يموت.

و الآية أبلغ ما يتصوّر في النهي عن الظلم و التهديد عليه. و خطاب الرسول و من معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة الّتي هي العدل، فإنّ الزوال عن الاستقامة بالميل إلى أحد طرفي إفراط و تفريط.

وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم. و الواو للحال من قوله: «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» أي: فتمسّكم النار و أنتم على هذه الحال. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي: ثمّ لا ينصركم اللّه، إذ سبق في حكمه أن يعذّبكم و لا يبقي عليكم.

و «ثمّ» لاستبعاد نصره إيّاهم، و قد أوعدهم بالعذاب عليه و أوجبه لهم.

قال في المجمع: «الركون إلى الظالمين المنهيّ عنه هو الدخول معهم في ظلمهم، و إظهار الرضا بفعلهم، أو إظهار موالاتهم. فأمّا الدخول عليهم أو مخالطتهم و معاشرتهم دفعا لشرّهم فجائز. و قريب منه ما روي عن أئمّتنا عليهم السّلام» (1).

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة و عشيّة. و انتصابه على الظرف، لأنّه مضاف إلى النهار، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، و أتيته نصف النهار و أوّله و آخره. وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ و ساعات منه قريبة من النهار، فإنّه من: أزلفه إذا قربه.

و هو جمع زلفة.

و صلاة الغداة صلاة الصبح، لأنّها أقرب الصلوات من أوّل النهار. و صلاة العشيّة العصر. و قيل: المغرب. و قيل:

الظهر و العصر، لأنّ ما بعد الزوال عشيّ.

ص: 324


1- مجمع البيان 5: 200.

و صلاة الزلف: العشاء الآخرة. و قيل: صلاة طرفي النهار: الغداة و الظهر و العصر. و صلاة زلف الليل: المغرب و العشاء الآخرة.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المغرب و العشاء زلفتا الليل».

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفّرنها. قال أكثر المفسّرين: إن الصلوات الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب، لأنّ الحسنات معرّفة باللام. و قد تقدّم ذكر الصلوات.

ذلِكَ إشارة إلى قوله: «فاستقم» و ما بعده. و قيل: إلى القرآن. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتّعظين.

قيل: نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر، فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إنّ في البيت أجود من هذا التمر. فذهبت إلى بيته، فضمّها إلى نفسه و قبّلها. فقالت له: اتّق اللّه. فتركها و ندم، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بما فعل. فقال: أنتظر أمر ربّي. فلمّا صلّى صلاة العصر نزلت هذه الآية. فقال: نعم، اذهب فإنّها كفّارة لما عملت.

و روى الواحدي بإسناده عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن أبي عثمان، قال: «كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا يابسا منها فهزّه حتّى تحاتّ ورقه، ثمّ قال: يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله؟ قال:

إنّ المسلم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق، ثمّ قرأ هذه الآية: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ» إلى آخرها» (1).

و بإسناده عن أبي أمامة قال: «بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي

أصبت حدّا فأقمه. فقال: هل شهدت .

ص: 325


1- الوسيط 2: 595- 596.

الصلاة معنا؟ قال: نعم، يا رسول اللّه. قال: فإنّ اللّه قد غفر لك حدّك، أو قال:

ذنبك» (1).

و بإسناده عن الحارث، عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: «كنّا مع رسول اللّه في المسجد ننتظر الصلاة، فقام رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي أصبت ذنبا. فأعرض عنه. فلمّا قضى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلاة قام الرجل فأعاد القول. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أليس قد صلّيت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنّها كفّارة ذنبك» (2).

و رووا عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أحدهما عليهما السّلام يقول: إنّ عليّا عليه السّلام أقبل على الناس فقال: أيّ آية في كتاب اللّه أرجى عندكم؟

فقال بعضهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (3).

فقال: حسنة، و ليست إيّاها.

و قال بعضهم: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ (4).

قال: حسنة، و ليست إيّاها.

و قال بعضهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ (5) الآية.

فقال: حسنة، و ليست إيّاها.

و قال بعضهم: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا (6) الآية.

قال: حسنة، و ليست إيّاها..

ص: 326


1- الوسيط 2: 594- 595.
2- الوسيط 2: 595.
3- النساء: 48 و 110.
4- النساء: 48 و 110.
5- الزمر: 53.
6- آل عمران: 135.

قال: ثمّ أحجم (1) الناس. فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟

فقالوا: لا و اللّه ما عندنا شي ء.

قال: سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أرجى آية في كتاب اللّه: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ. و قرأ

الآية كلّها. يا عليّ، و الذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل اللّه بوجهه و قلبه، لم ينفتل (2) و عليه من ذنوبه شي ء كما ولدته أمّه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك، حتّى عدّ الصلوات الخمس.

ثمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لأمّتي كنهر جار على باب أحدكم، فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن (3)، ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات، أ كان يبقى في جسده درن؟! فكذلك و اللّه الصلوات الخمس لأمّتي».

و قيل: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» معناه: أنّ الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيّئات، فكأنّها تذهب بها.

و قيل: إنّ المراد بالحسنات التوبة، فإنّها تذهب السيّئات، بأن تسقط عقابها، لأنّه لا خلاف في أنّ العقاب يسقط عند التوبة.

وَ اصْبِرْ على الطاعات، و عن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عدول عن المضمر ليكون كالبرهان على المقصود- و الّذي هو الأمر بالصبر- و دليلا على أنّ الصلاة و الصبر إحسان دائما.

و هذه الآيات اشتملت على الاستقامة، و إقامة الصلوات، و الانتهاء عن الطغيان، و عن الركون إلى الظلمة، و غير ذلك من الحسنات.

ص: 327


1- أي: كفّوا و امتنعوا.
2- أي: لم ينصرف.
3- الدرن: الوسخ.

[سورة هود [11]: الآيات 116 الى 117]

فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ [116] وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ [117]

و لمّا ذكر سبحانه إهلاك الأمم الماضية و القرون الخالية، عقّب ذلك بأنّهم أتوا في هلاكهم من قبل

نفوسهم، و لو كان فيهم مؤمنون يأمرون بالصلاح و ينهون عن الفساد لما استأصلناهم رحمة منّا، و لكنّهم لمّا عمّهم الكفر استحقّوا عذاب الاستئصال، فقال بيانا لذلك: فَلَوْ لا كانَ أي: فهلّا كان. و قد حكوا عن الخليل كلّ «لولا» في القرآن فمعناها: هلّا، إلّا الّتي في الصافّات (1)، لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ (2) وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ (3) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ (4).

مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ من الرأي و العقل، أو أولوا فضل و خير.

و إنّما سمّي بقيّة لأنّ الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه و أجوده، فصار مثلا في الفضل و الجودة، و منه يقال: فلان من بقيّة القوم، أي: من خيارهم. و يجوز أن يكون مصدرا بمعنى البقوى، كالتقيّة بمعنى التقوى، أي: ذوو بقاء على أنفسهم

ص: 328


1- الصافّات: 57.
2- القلم: 49.
3- الفتح: 25.
4- الإسراء: 74.

و صيانة لها من العذاب.

يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ لكن قليلا منهم أنجيناهم، لأنّهم كانوا كذلك. و لا يصحّ اتّصال «إلّا» إلّا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض.

وَ اتَّبَعَ عطف على مضمر دلّ عليه الكلام، إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد و اتّبع الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما انعموا فيه من الشهوات، و اهتمّوا بتحصيل أسبابها، و أعرضوا عمّا وراء ذلك وَ كانُوا مُجْرِمِينَ عطف على «اتّبع» أو اعتراض. و معنى «مجرمين»: كافرين. كأنّه أراد أن يبيّن ما كان سببا لاستئصال الأمم السالفة، و هو فشوّ الظلم فيهم، و اتّباعهم للهوى، و ترك النهي عن المنكرات، مع الكفر.

وَ ما كانَ رَبُّكَ و ما صحّ و ما

استقام لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اللام لتأكيد النفي. و الظلم بمعنى الشرك، أي: لا يصحّ في حكمته أن يهلك أهل القرى بسبب شركهم وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ يتعاطون الحقّ فيما بينهم، و لا يضمّون إلى شركهم فسادا و تباغيا، كما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «و أهلها مصلحون»

أي:

أنصف بعضهم بعضا، و ذلك لفرط رحمته و مسامحته في حقوقه، و من ذلك قدّم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقّ العباد. و قيل: الملك يبقى مع الكفر، و لا يبقى مع الظلم.

و قيل: معناه: و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم منه، و لكن إنّما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم، كما قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً (1).

و قيل: المعنى لا يؤاخذهم بظلم واحد مع أنّ أكثرهم مصلحون، و لكن إذا عمّ الفساد و ظلم الأكثرون عذّبهم.

ص: 329


1- يونس: 44.

[سورة هود [11]: الآيات 118 الى 123]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ [118] إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ [119] وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [120] وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ [121] وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [122]

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [123]

ثمّ أخبر سبحانه عن كمال قدرته، فقال: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً لاضطرّ الناس و قسرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة، أي: ملّة واحدة، و هي ملّة الإسلام،

كقوله: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً (1). و ذلك بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنّهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه. و لكن ذلك ينافي التكليف، و يبطل الغرض بالتكليف، لأنّ الغرض استحقاق الثواب، و الإلجاء يمنع من استحقاق الثواب، فلذلك لم يشأ اللّه ذلك، بل مكّنهم من الاختيار الّذي هو أساس التكليف، ليستحقّوا الثواب، فاختار بعضهم الحقّ و بعضهم الباطل.

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي: في الأديان، يهوديّ و نصرانيّ و مجوسيّ و غير ذلك إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي: إلّا ناسا من المؤمنين، فإنّه سبحانه هداهم و لطف بهم،

ص: 330


1- الأنبياء: 92.

فاتّفقوا على ما هو أصول دين الحقّ، غير مختلفين فيه. و المعنى: و لا يزالون مختلفين بالباطل إلّا من رحم اللّه بفعل اللطف لهم، و هم الّذين يؤمنون بجميع أنبيائه و رسله و كتبه، فإنّ من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل.

وَ لِذلِكَ إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأوّل. يعني: و لذلك التمكين و الاختيار الّذي كان عنه الاختلاف خَلَقَهُمْ ليثيب الّذي يختار الحقّ بحسن اختياره، و يعاقب من يختار الباطل بسوء اختياره.

أو إشارة إلى الرحمة في قوله: «رحم ربّك». و عدم تأنيث اسم الاشارة باعتبار معناه، و هو الفضل و الإنعام و الإحسان، كقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ (1) بتذكير الخبر باعتبار معناه.

و قيل: إشارة إلى الاختلاف، و اللام للعاقبة. يريد: أنّ اللّه خلقهم و علم أنّ عاقبتهم تؤل إلى الاختلاف المذموم، كما قال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ « (2)».

أو إشارة إلى اجتماعهم على الإيمان، و كونهم فيه أمّة واحدة، لقوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (3).

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده، أو قوله للملائكة: لَأَمْلَأَنَّ

جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ من عصاتهما أَجْمَعِينَ لعلمه بكثرة من يختار الباطل. و معنى «تمّت»:

وقع مخبرها على ما اخبر به، أو وجب قول ربّك، أو مضى حكم ربّك.

وَ كُلًّا و كلّ نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ نخبرك به مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان ل «كلّا» أو بدل منه. و فائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص، و هو زيادة يقينه، و طمأنينة قلبه، و ثبات نفسه على أداء الرسالة، و احتمال أذى الكفّار، فإنّ تكاثر الأدلّة أثبت للقلب، و أرسخ للعلم. أو مفعول، و «كلّا» منصوب

ص: 331


1- الأعراف: 56 .
2- الأعراف: 179.
3- الذاريات: 56.

على المصدر، بمعنى: كلّ نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك ما نثبّت به فؤادك من أنباء الرسل.

وَ جاءَكَ فِي هذِهِ السورة، أو الأنباء المقتصّة عليك بالأساليب المختلفة الْحَقُ أي: ما هو حقّ و صدق وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى و تذكرة لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى سائر فوائده العامّة.

وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ من أهل مكّة و غيرهم اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم الّتي أنتم عليها، مثل قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (1).

إِنَّا عامِلُونَ على حالنا ممّا أمرنا اللّه به.

وَ انْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما قصّ اللّه من النقم النازلة على أمثالكم.

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خاصّة، لا يخفى عليه خافية ممّا فيهما، فلا يخفى عليه أعمالكم.

و ما نقل عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، و رواه (2) عنه الخاصّ و العامّ من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم و غيرها، و كذا ما نقل عن أولاده المعصومين عليهم السّلام من الأمور الغيبيّة، فهو متلقّى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا اطّلعه

اللّه عليه.

فلا معنى لنسبة من روى عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب، كما اعترض ذلك بعض المخالفين على الشيعة الإماميّة عنادا و تعصّبا و عداوة. و هل هذا إلّا سبب قبيح و تضليل لهم، بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذهب خبير؟ و اللّه يحكم بينه و بينهم و إليه المصير، كما قال: وَ إِلَيْهِ و إلى حكمه يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرهم و أمرك إليه، فينتقم لك منهم.

ص: 332


1- فصّلت: 40.
2- انظر الأحاديث الغيبيّة 2: 129 و بعدها.

و قرأ نافع و حفص: يرجع على البناء للمفعول.

فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنّه كافيك أمرهم و ناصرك عليهم. و في تقديم الأمر بالعبادة على التوكّل تنبيه على أنّ التوكّل إنّما ينفع العابد. وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت و هم، فيجازي ما تستحقّه. و قرأ نافع و ابن عامر و حفص هنا و في آخر النمل بالياء.

روي عن كعب الأحبار أنّه قال: خاتمة التوراة خاتمة هود.

ص: 333

ص: 334

[12] سورة يوسف

اشارة

آيها مائة و إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «علّموا أرقّاءكم سورة يوسف، فإنّه أيّما مسلم تلاها و علّمها أهله و ما ملكت يمينه هوّن اللّه تعالى عليه سكرات الموت، و أعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، بعثه اللّه يوم القيامة و جماله مثل جمال يوسف، و لا يصيبه فزع يوم القيامة، و كان من خيار عباد اللّه الصالحين. و قال: إنّها كانت في التوراة مكتوبة».

و روى إسماعيل

بن أبي زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تنزلوا نساءكم الغرف، و لا تعلّموهنّ الكتابة، و لا تعلّموهنّ سورة يوسف، و علّموهنّ المغزل و سورة النور».

[سورة يوسف [12]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [1] إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [2] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [3]

ص: 335

و لمّا ختم اللّه تعالى سورة هود بذكر قصص الرسل، افتتح هذه السورة بأنّ من تلك القصص قصّة يوسف و إخوته، و أنّها من أحسن القصص، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ «تلك» إشارة إلى آيات السورة، و هي المراد بالكتاب، أي: تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها في الإعجاز، أو الواضحة معانيها، أو المبيّنة لمن تدبّرها أنّها من عند اللّه، أو لليهود ما سألوا، إذ روي أنّ علماءهم قالوا لكبراء المشركين: اسألوا محمّدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، و عن قصّة يوسف؟ فنزلت.

إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي: الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا بدل من الهاء، أو حال. و هو في نفسه إمّا توطئة للحال الّتي هي «عربيّا»، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، فإنّ «رجلا» توطئة للحال، و هو «صالحا». أو هو الحال، لأنّه مصدر بمعنى مفعول، أي: مقروءا، و «عربيّا» صفة له. أو حال من الضمير في القرآن. أو حال بعد حال.

و في كلّ ذلك خلاف.

و سمّى البعض قرآنا، لأنّه في الأصل اسم جنس يقع على الكلّ و البعض.

و صار علما للكلّ بغلبة الاسميّة، كالنجم للثريّا.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ علّة لإنزاله

بهذه الصفة، أي: أنزلناه مجموعا أو مقروءا بلغتكم كي تفهموه و تحيطوا بمعانيه، أو تستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أنّ اقتصاصه كذلك ممّن لم يتعلّم القصص معجز لا يتصوّر إلّا بالإيحاء.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ أحسن الاقتصاص، لأنّه اقتصّ على أبدع أسلوب و أعجب نظم. و هو مصدر، تقول: قصّ الحديث يقصّه قصصا، كقولهم: شلّه يشلّه شللا إذا طرده. أو «فعل» بمعنى مفعول، كالنقض و السّلب، و نحوه النّبأ و الخبر بمعنى: المنبأ و المخبر به، أي: أحسن ما يقصّ، لاشتماله على الحكم و الآيات، و العبر و النكت، و سائر العجائب الّتي ليست في غيرها. و اشتقاقه

ص: 336

من: قصّ أثره، إذا اتّبعه، لأنّ الّذي يقصّ الحديث يتّبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، كما يقال: تلا القرآن إذا قرأه، لأنّه يتلو- أي: يتبع- ما حفظ منه آية بعد آية.

بِما أَوْحَيْنا مصدريّة، أي: بإيحائنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يعني: السورة.

و يجوز أن يكون «هذا» مفعول «نقصّ» على أن «أحسن القصص» نصب على المصدر.

ثمّ علّل لكونه موحى، فقال: وَ إِنْ كُنْتَ و إنّ الشأن كنت مِنْ قَبْلِهِ قبل إيحائنا هذه القصّة إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ عنها، و لم تخطر ببالك، و لم تقرع سمعك قطّ. و «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، و اللام هي الفارقة.

[سورة يوسف [12]: الآيات 4 الى 6]

إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [4] قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [5] وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ

إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [6]

ثمّ ابتدأ بقصّة يوسف، فقال: إِذْ قالَ يُوسُفُ منصوب بتقدير: اذكر. أو بدل من «أحسن القصص»- إن جعل مفعولا- بدل الاشتمال، لأنّ الوقت يشتمل على ما يقصّ فيه. و يوسف عبريّ، و لو كان عربيّا لصرف.

لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

ص: 337

يا أَبَتِ أصله: يا أبي، فعوّض عن الياء تاء التأنيث، لتناسبهما في الزيادة، و لذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب. و كسرها، لأنّها عوض حرف يناسب الكسرة، إلّا ابن عامر فإنّه فتحها في كلّ القرآن، لأنّها حركة أصلها، أو لأنّه كان: يا أبتا، فحذف الألف و بقي الفتحة. و إنّما جاز: يا أبتا، و لم يجز: يا أبتي، لأنّه جمع بين العوض و المعوّض. و إنّما لم تسكن التاء كأصلها، و هو: يا أبي، لأنّ التاء حرف صحيح نزّل منزلة الاسم، فيجب تحريكها، ككاف الخطاب.

إِنِّي رَأَيْتُ من الرؤيا لا من الرؤية، لقوله: «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ»، و قوله:

«هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ». أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ.

روي عن جابر أنّ يهوديّا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «أخبرني يا محمّد عن النجوم الّتي رآهنّ يوسف. فسكت، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك. فقال: إن أخبرتك فهل تسلم؟ قال: نعم. قال عليه السّلام: جريان، و الطارق، و الذيّال، و قابس، و عمودان، و الفليق، و المصبح، و الضروح، و الفرغ، و وثاب، و ذو الكتفين، رآها يوسف عليه السّلام، و الشمس و القمر

نزلن من السماء و سجدن له. فقال اليهوديّ: إي و اللّه إنّها لأسماؤها».

و عن ابن عبّاس: أنّ يوسف رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له، و رأى الشمس و القمر نزلا من السماء فسجدا له، فالشمس و القمر أبواه، و الكواكب إخوته الأحد عشر.

و قيل: الشمس أبوه، و القمر خالته، و ذلك أنّ أمّه راحيل قد ماتت.

و يجوز أن يكون الواو في «و القمر و الشمس» بمعنى «مع» أي: رأيت الكواكب مع الشمس و القمر. و أخّر الشمس و القمر ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بيانا لفضلهما و استبدادهما بالمزيّة على غيرهما من الطوالع،

ص: 338

كما أخّر جبرئيل و ميكائيل عن الملائكة ثمّ عطفهما عليها لذلك.

و قوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ كلام مستأنف لبيان حالهم الّتي رآهم عليها- على تقدير سؤال- وقع جوابا، كأنّه قال له يعقوب: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين، فلا تكرير. و إنّما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم.

عن وهب: أنّ يوسف رأى و هو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة، فإذا عصا صغيرة تثب عليها حتّى اقتلعتها و غلبتها. فوصف ذلك لأبيه، فقال: إيّاك أن تذكر هذا لإخوتك. ثمّ رأى و هو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس و القمر و الكواكب تسجد له، فقصّها على أبيه. فقال له: لا تقصّها عليهم، فيبغوا لك الغوائل.

و قيل: كان بين رؤيا يوسف و مصير إخوته إليه أربعون سنة. و قيل: ثمانون.

و قال في الكشّاف (1) و الأنوار (2): «إنّ يعقوب عليه السّلام عرف دلالة الرؤيا على أنّ يوسف يبلغه اللّه مبلغا من الحكمة، و يصطفيه للنبوّة،

و يفوّقه على إخوته، و ينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة و بغيهم».

قالَ يا بُنَيَ تصغير ابن، صغّره للشفقة أو لصغر السنّ، لأنّه كان ابن اثنتي عشرة سنة. و قرأ حفص هاهنا و في الصافّات (3) بفتح الياء. لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فيحتالوا لإهلاكك حيلة.

قال في الأنوار: «الرؤيا كالرؤية، غير أنّها مختصّة بما يكون في النوم، ففرّق بينهما بحرفي التأنيث، كالقربة و القربى. و هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيّلة إلى الحسّ المشترك. و الصادقة منها إنّما تكون باتّصال النفس بالملكوت،

ص: 339


1- الكشّاف 2: 444.
2- أنوار التنزيل 3: 127.
3- الصافّات: 102.

و هي عالم المجرّدات، لما بينهما من التناسب، عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فتتصوّر بما فيها ممّا يليق بها من المعاني الحاصلة هناك. ثمّ إنّ المتخيّلة تحاكيه بصورة تناسبه، فترسلها إلى الحسّ المشترك، فتصير مشاهدة. ثمّ إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى، بحيث لا يكون التفاوت إلّا بالكلّية و الجزئيّة، استغنت الرؤيا عن التعبير، أي: وقع ما رآه بعينه، و إلّا احتاجت إليه» (1).

و إنّما عدّي «كاد» باللّام، و هو متعدّ بنفسه، لتضمّنه معنى فعل يتعدّى به، و هو: يحتالوا، ليفيد معنى الفعلين تأكيدا، و لذلك أكّد بالمصدر، و علّل بقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، لما فعل بآدم و حوّاء، فلا يألوا جهدا في تسويلهم، و إثارة الحسد فيهم، حتّى يحملهم على الكيد.

روى أبو حمزة الثمالي عن زين العابدين عليه السّلام: «أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به، و يأكل هو و عياله منه، و أنّ سائلا مؤمنا صوّاما اعترّ (2) ببابه عشيّة جمعة عند

أوان إفطاره، و كان مجتازا غريبا، فهتف على بابه و استطعمهم و هم يسمعون، فلم يصدّقوا قوله. فلمّا يئس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر، و شكا جوعه إلى اللّه تعالى، و بات طاويا، و أصبح صائما حامدا للّه. و بات يعقوب و آل يعقوب بطانا، و أصبحوا و عندهم فضلة من طعامهم، فابتلاه اللّه سبحانه بيوسف عليه السّلام، و أوحى إليه أن استعدّ لبلائي، و ارض بقضائي، و اصبر للمصائب.

فرأى يوسف هذه الرؤيا في تلك الليلة».

وَ كَذلِكَ أي: و كما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالّة على شرف و عزّ، و كمال نفس و كبرياء شأن يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوّة و الملك، أو لأمور عظام. و الاجتباء من:

جبيت الشّي ء إذا حصّلته لنفسك.

ص: 340


1- أنوار التنزيل 3: 127.
2- اعترّ به: أتاه للمعروف من غير أن يسأل. و المعترّ: الفقير.

وَ يُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه الّذي يفهم من «كذلك»، لأنّه يلزم أن يكون تعليم التعبير أيضا سابقا، فيلزم أن يعلم تعبير رؤياه قبل ذلك الوقت، و ليس كذلك، لأنّ هذا التعليم في مستقبل الزمان، لقوله: وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ (1). كأنّه قيل: و هو يعلّمك.

مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ من تعبير الرؤيا. سمّى التعبير تأويلا، لأنّه يؤول أمره إلى ما رأى في المنام. و سمّى الرؤيا أحاديث، لأنّها أحاديث تلك الرؤيا إن كانت صادقة، و أحاديث النّفس أو الشيطان إن كانت كاذبة. أو من تأويل غوامض كتب اللّه تعالى، و سنن الأنبياء، و كلمات الحكماء. و هو اسم جمع للحديث، كأباطيل اسم جمع للباطل.

روي: أنّ يوسف أعبر الناس للرؤيا، و أصحّهم عبارة لها.

وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ

عَلَيْكَ معنى إتمام النعمة: أنّه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، فجعلهم أنبياء و ملوكا، ثمّ نقلهم إلى نعيم الآخرة و الدرجات العلى من الجنّة وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ يريد أهله و نسله، بأن يثبّتهم على ملّة الإسلام، و يشرّفهم بمكانك، و يجعل فيهم النبوّة. و أصل آل: أهل، بدليل أن تصغيره اهيل، إلّا أنّه لا يستعمل إلّا فيمن له خطر، فيقال: آل النبيّ و آل الملك.

كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ بالرسالة. و قيل: على إبراهيم عليه السّلام بالخلّة و الإنجاء من النار، و على إسحاق بإنقاذه من الذبح، و فدائه بذبح عظيم.

و قيل: بإخراج يعقوب و الأسباط من صلبه. و القول الأخير قول أكثر المفسّرين.

مِنْ قَبْلُ من قبلك، أو من قبل هذا الوقت إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ عطف بيان ل «أبويك» إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحقّ الاجتباء حَكِيمٌ يفعل الأشياء على ما ينبغي.

ص: 341


1- يوسف: 21.

[سورة يوسف [12]: آية 7]

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [7]

ثمّ أنشأ سبحانه في ذكر قصّة يوسف، فقال: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ أي: في قصّتهم آياتٌ دلائل قدرة اللّه تعالى و حكمته، أو عبر و أعاجيب، أو علامات نبوّتك لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن قصّتهم فأخبرهم بالصحّة من غير سماع و لا قراءة كتاب.

و المراد بالإخوة بنو علّاته الأحد عشر. و العلّات إخوة من أمّهات شتّى.

و هم: يهوذا، و روبيل، و شمعون، و هو أكبرهم، و لاوي، و زبالون، و يشخر، و دينة.

و هذه السبعة كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، تزوّجها أوّلا، فلمّا توفّيت تزوّج أختها راحيل، فولدت له بنيامين و يوسف. و قيل: جمع بينهما، و لم يكن الجمع محرّما حينئذ. و أربعة آخرون: جاد، و دان، و نفتالى، و آشر، من سرّيتين: زلفة و بلهة.

[سورة يوسف [12]: الآيات 8 الى 9]

إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [8] اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ [9]

ثم أخبر سبحانه عمّا قال إخوة يوسف حين سمعوا منام يوسف و تأويل يعقوب إيّاه، فقال: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ اللام للابتداء. و فيها تأكيد و تحقيق لمضمون الجملة. وَ أَخُوهُ بنيامين. و تخصيصه بالاضافة لاختصاصه بالأخوّة من الطرفين. أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وحّده لأنّ «أفعل من» لا يفرّق فيه بين الواحد و ما فوقه، و التذكير و التأنيث، بخلاف أخويه، فإنّ الفرق واجب في المحلّى باللام جائز في المضاف.

ص: 342

وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ و الحال أنّا جماعة أقوياء، أحقّ بالمحبّة من صغيرين لا كفاية للمهمّات فيهما. و العصبة و العصابة العشرة فصاعدا. سمّوا بذلك لأنّ الأمور تعصب بهم، أي: تشتدّ. إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن طريق الحقّ و الصواب، لتفضيله المفضول، أو لترك التعديل في المحبّة.

روي أنّه كان أحبّ إليه، لما يرى فيه من الخصال الحسنة الرضيّة، و الخلال السنيّة المرضيّة، و كان إخوته يحسدونه، فلمّا رأى الرؤيا ضاعف له المحبّة بحيث لم يصبر عنه، فزاد حسدهم حتّى حملهم على التعرّض له.

اقْتُلُوا يُوسُفَ من جملة المحكيّ بعد قوله: «إِذْ قالُوا»، كأنّهم اتّفقوا على ذلك إلّا من قال: لا تقتلوا. و قيل: إنّما قاله شمعون. و قيل: دان و رضي به الآخرون.

أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً منكورة مجهولة بعيدة عن العمران. و هو معنى تنكيرها و إبهامها، و لذلك نصبت كالظروف المبهمة. يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ جواب الأمر.

و المعنى: يخلص لكم وجه

أبيكم، فيقبل بكلّيته عليكم، و لا يلتفت عنكم إلى غيركم، و لا ينازعكم في محبّته أحد. فذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأنّ الرجل إذا أقبل على الشي ء أقبل بوجهه. و قيل: «يخل» يفرغ لكم من الشغل بيوسف.

وَ تَكُونُوا جزم بالعطف على «يخل»، أو نصب بإضمار أن مِنْ بَعْدِهِ بعد يوسف، أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى اللّه تعالى عمّا جنيتم. أو صالحين مع أبيكم، يصلح ما بينكم و بينه بعذر تمهّدونه. أو صالحين في أمر دنياكم، فإنّه ينتظم لكم بعد يوسف بخلوّ وجه أبيكم.

و اعلم أنّ أكثر المفسّرين على أنّ إخوة يوسف كانوا أنبياء. و قال بعضهم: لم يكونوا أنبياء، لأنّ الأنبياء لا تقع منهم القبائح. و هذا موافق لأصول مذهب الإماميّة.

و قال علم الهدى قدّس سرّه: «لم تقم لنا الحجّة بأنّ إخوة يوسف الّذين فعلوا به ما فعلوا كانوا أنبياء. و لا يمتنع أن يكون الأسباط الّذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الإخوة

ص: 343

الّذين فعلوا بيوسف ما قصّه اللّه عنهم. و ليس في ظاهر الكتاب أنّ جميع إخوة يوسف و سائر الأسباط فعلوا بيوسف ما حكاه اللّه تعالى من الكيد. و يجوز أن يكون هؤلاء الإخوة في تلك الحال لم يكونوا بلغوا الحلم، و لا توجّه إليهم التكليف، و قد يقع ممّن قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال، و يعاتب على ذلك و يلام و يضرب» (1). و هذا الوجه قول البلخي و الجبائي. و يدلّ عليه قوله: «يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ».

و قوله: «وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» لا ينافي ذلك، فإنّ المراهق يجوز أن يعلم ذلك خاصّة، خصوصا إذا كان مربّى في حجر

الأنبياء و من أولادهم.

و روى أبو جعفر بن بابويه رحمه اللّه في كتاب النبوّة بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن حنان بن سدير، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام أ كان أولاد يعقوب أنبياء؟

فقال: لا، و لكنّهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يفارقوا الدنيا إلّا سعداء، تابوا و تذكّروا ما صنعوا».

و قال الحسن: كانوا رجالا بالغين، و وقعت ذلك منهم صغيرة.

[سورة يوسف [12]: آية 10]

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ [10]

ثمّ أخبر سبحانه عن واحد من جملتهم بقوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي: من إخوة يوسف، و هو يهوذا. و كان أحسنهم فيه رأيا، و هو الّذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ (2) الآية. و قيل: روبيل، و هو ابن خالة يوسف. و قيل: لاوي. رواه عليّ بن إبراهيم (3) في تفسيره. لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإنّ القتل أمر عظيم وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ في قعره. سمّي به لغيبوبته عن عين الناظر. و قرأ نافع غيابات في الموضعين

ص: 344


1- تنزيه الأنبياء: 43- 44.
2- يوسف: 80.
3- تفسير القمّي 1: 340.

على الجمع، كأنّه لتلك الجبّ غيابات، أي: أسافل. و الجبّ البئر التي لم تطو، لأنّ الأرض تجبّ جبّا، أي: تقطع. يَلْتَقِطْهُ يأخذه بَعْضُ السَّيَّارَةِ بعض الذين يسيرون في الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ بمشورتي. أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، و هو التفريق بينه و بين أبيه، فإنّ هذا رأيي.

و اختلف في ذلك الجبّ، فقال قتادة: هو بئر بيت القدس. و عن كعب: بئر بين مدين و مصر. و عن وهب: بئر بأرض الأردنّ. و قال مقاتل: بئر على رأس ثلاث فراسخ

من منزل يعقوب.

[سورة يوسف [12]: الآيات 11 الى 18]

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ [11] أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [12] قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ [13] قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ [14] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [15]

وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ [16] قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ [17] وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [18]

ص: 345

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم عند اتّفاق آرائهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف، كيف سألوا أباهم، فقال: قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ لم تخافنا عليه؟

وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مخلصون في إرادة الخير له و الشفقة عليه. و في هذا دلالة على أنّه عليه السّلام كان يأبى عليهم أن يرسله معهم، لظهور حسدهم ليوسف عليه، فأرادوا استنزاله عن رأيه و عادته في حفظه منهم، لما تنسّم (1) من حسدهم. و المشهور «تأمنّا» بالإدغام مع الإشمام. و عن نافع ترك الإشمام.

أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ نتّسع في أكل الفواكه و نحوها، من الرتعة، و هي الخصب وَ يَلْعَبْ بالاستباق و الانتضال لقتال العدوّ، لا لمجرّد اللهو. و إنّما سمّوه لعبا لأنّه في صورته. و قرأ ابن كثير: نرتع بكسر العين، على أنّه من: ارتعى

يرتعي. و نافع بالكسر و الياء فيه و في «نلعب». و قرأ الكوفيّون و يعقوب بالياء و سكون العين، على إسناد الفعل إلى يوسف. وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أن يناله مكروه.

قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لشدّة مفارقته عليّ، و قلّة صبري عنه وَ أَخافُ عليه إن ذهبتم به إلى الصحراء أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لأنّ الأرض كانت مذأبة. و قيل: لأنّ يعقوب رأى في منامه كأنّ يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه، و إذا ذئب يحمي عنه، و كأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف، فلم يخرج منها إلّا بعد ثلاثة أيّام. و قد همزها على الأصل ابن كثير و نافع في رواية اليزيدي، و أبو عمرو درجا و وقفا، و عاصم و حمزة درجا. و اشتقاقه من: تذاءبت الريح إذا هبّت من كلّ جهة. وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرتع و اللّعب، أو لقلّة اهتمامكم بحفظه.

قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ اللام موطّئة للقسم، و جوابه: إِنَّا إِذاً

ص: 346


1- تنسم فلان الخبر: تلطف في التماسه شيئا فشيئا.

لَخاسِرُونَ ضعفاء عجزة مغبونون، كالّذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم. أو مستحقّون لأن يدعى عليهم بالخسارة و الدمار. و الواو في «و نحن» للحال.

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ و عزموا على إلقائه فيها. و جواب «لمّا» محذوف، مثل: فعلوا به ما فعلوا من الأذى.

فقد روي أنّهم لمّا برزوا به إلى البرّيّة أظهروا له العداوة، و أخذوا يؤذونه و يضربونه، و كلّما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلّا بالإهانة و الضرب، حتّى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح: يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا: أما أعطيتموني موثقا ألّا

تقتلوه؟

فلمّا أرادوا إلقاءه في الجبّ تعلّق بثيابهم، فنزعوها من يديه، فتعلّق بحائط البئر، فربطوا يديه و نزعوا قميصه. فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به. و إنّما نزعوه ليلطّخوه بالدم، و يحتالوا به على أبيهم. فقالوا له: ادع الشمس و القمر و الأحد عشر كوكبا يلبسوك و يؤنسوك. و دلوه في البئر، فلمّا بلغ نصفها ألقوه ليموت، و كان في البئر ماء فسقط فيه، ثمّ آوى إلى صخرة، فقام عليها و هو يبكي. فنادوه، فظنّ أنّها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه، فمنعهم يهوذا، و كان يأتيه بالطعام.

و قيل: إنّ الجبّ أضاء له و عذب ماؤه حتّى أغناه عن الطعام و الشراب. و عن مقاتل: كان الماء كدرا فصفا و عذب، و وكّل اللّه به ملكا يحرسه و يطعمه.

و يروى أنّ إبراهيم صلوات اللّه عليه حين القي في النار جرّد عن ثيابه، فأتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه، فدفعه إلى إسحاق، و إسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة (1) علّقها في عنق يوسف، فجاءه جبرئيل فألبسه إيّاه، و هو القميص الّذي وجد يعقوب ريح يوسف فيه.

و أوحى إليه كما قال عزّ

ص: 347


1- التميمة: خرزة أو ما يشبهها كان الأعراب يضعونها على أولادهم للوقاية من العين و دفع الأرواح.

اسمه: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ و كان ابن سبع عشرة سنة. و قيل: كان مراهقا أوحي إليه في صغره، كما اوحي إلى يحيى و عيسى عليهم السّلام لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا لتحدّثنّهم بما فعلوا بك بعد أن تتخلّص ممّا أنت فيه وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّك يوسف، لعلوّ شأنك، و كبرياء سلطانك، و بعده عن أوهامهم، و طول العهد المغيّر للحلّي و الهيئات.

و ذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين- أي: يشترون الغلّة- فعرفهم و هم له منكرون. فبشّره جبرئيل عليه السّلام في البئر بما يئول إليه أمره إيناسا له و تطييبا لقلبه. و قيل: «و هم لا يشعرون» متّصل ب «أوحينا»، أي: آنسناه بالوحي و هم لا يشعرون ذلك.

و في كتاب النبوّة عن الحسن بن محبوب، عن الحسن بن عمارة، عن مسمع أبي سيّار، عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا ألقى إخوة يوسف إيّاه في الجبّ نزل عليه جبرئيل فقال له: يا غلام من طرحك؟

فقال: إخوتي، لمنزلتي من أبي حسدوني، و لذلك طرحوني.

فقال: أ تحبّ أن تخرج من هذا الجبّ؟

قال: ذلك إلى إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

فقال له جبرئيل: فإنّ إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب يقول لك قل: اللّهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلّا أنت، بديع السموات و الأرض، يا ذا الجلال و الإكرام، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و أن تجعل من أمري فرجا و مخرجا، و ترزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب.

فقالها يوسف، فجعل اللّه له من الجبّ يومئذ فرجا، و من كيد المرأة مخرجا، و أتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب».

و روى عليّ بن إبراهيم: «أنّ يوسف عليه السّلام قال في الجبّ: يا إله إبراهيم

ص: 348

و إسحاق و يعقوب، ارحم ضعفي و قلّة حيلتي و صغري» (1).

وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً آخر النهار يَبْكُونَ متباكين ليوهموه أنّهم صادقون. و فيه دلالة على أنّ البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه.

روي أنّه لمّا سمع بكاءهم فزع و قال: ما لكم يا بنيّ هل أصابكم في غنمكم؟ قالوا:

لا قال: فما لكم و أين يوسف؟

قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ نتسابق في العدو أو في الرمي. و قد يشترك الافتعال و التفاعل، كالانتضال و التناضل. وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بمصدّق لنا، لسوء ظنّك بنا، و فرط محبّتك ليوسف وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ من أهل الصدق و الثقة عندك.

وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي: ذي كذب، بمعنى مكذوب فيه.

و يجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة، كزيد عدل. و «على قميصه» في موضع النصب على الظرف، أي: فوق قميصه، أو على الحال من الدم إن جوّز تقديمها على المجرور.

روي أنّهم ذبحوا سخلة و لطخوا قميصه بدمها، و زلّ عنهم أن يمزّقوه، و لمّا سمع يعقوب بخبر يوسف صاح و سأل قميصه، فأخذه و ألقاه على وجهه و بكى حتّى خضب وجهه بدم القميص، و قال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني و لم يمزّق عليه قميصه،

و لذلك قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي:

سهّلت لكم أنفسكم، و هوّنت في أعينكم أمرا عظيما، من السول، و هو الاسترخاء.

قيل: إنّه كان في قميص يوسف ثلاث آيات: حين قدّ من دبر، و حين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيرا، و حين جاءوا عليه بدم كذب. فتنبّه يعقوب على أنّ الذئب لو أكله لخرق قميصه.

ص: 349


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 341.

و قيل: لمّا قال لهم يعقوب ذلك قالوا: بل قتله اللصوص. فقال عليه السّلام: فكيف قتلوه و تركوا قميصه، و هم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله؟! فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل

أو أحسن أو أمثل أو أولى. و في الحديث: «الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه إلى الخلق».

وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي: باللّه أستعين على دفع ما تصفونه، أو على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف.

[سورة يوسف [12]: الآيات 19 الى 22]

وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ [19] وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [20] وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [21] وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [22]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد إلقائه في الجبّ، فقال: وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر، فنزلوا قريبا من الجبّ، و كان ذلك بعد ثلاثة أيّام من إلقائه فيه، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا منه، و كان الجبّ في قفره بعيدة من العمران، و إنّما هو للرعاة، و كان ماؤه ملحا فعذب فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ

ص: 350

الّذي يرد الماء و يستقي لهم. و كان هو مالك بن ذعر الخزاعي. فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسلها في الجبّ ليملأها، فتدلّى يوسف بالحبل، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ نادى: البشرى، بشارة لنفسه أو لقومه، كأنّه قال للبشارة: تعالي فهذا أوانك. و قيل: هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. و قرأ غير الكوفيّين: يا بشراي بالإضافة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعطي

يوسف شطر الحسن، و النصف الآخر لسائر الناس».

و قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جدّا، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين و العضدين، خميص البطن، صغير السرّة. و كان إذا تبسّم رأيت النور في ضواحكه، و إذا تكلّم رأيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه. و كان حسنه كضوء النهار عند الليل. كان يشبه خلق آدم عليه السّلام يوم خلقه اللّه عزّ و جلّ و صوّره و نفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية.

و يقال: إنّه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة، و كانت قد أعطيت سدس الحسن.

فلمّا رآه المدلي وَ أَسَرُّوهُ أي: الوارد و أصحابه من سائر الرفقة. و قيل:

أخفوا أمره، و قالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. و عن ابن عبّاس:

الضمير لإخوة يوسف، و ذلك أنّ يهوذا كان يأتيه كلّ يوم بالطعام، فأتاه يومئذ فلم يجده فيها، فأخبر إخوته فأتوا الرفقة و أسرّوه، أي: كتموا أنّه أخوهم، فقالوا: هذا غلامنا أبق منّا، فاشتروه من إخوته، و سكت يوسف مخافة أن يقتلوه.

بِضاعَةً نصب على الحال، أي: أخفوه متاعا للتجارة. و اشتقاقه من البضع، بمعنى القطع، فإنّه ما بضع من المال للتجارة. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ بما يصنعون، لم يخف عليه أسرارهم، أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم و أخيهم.

وَ شَرَوْهُ أي: باعوه، أو اشتروه من إخوته. و في مرجع الضمير الوجهان.

ص: 351

بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس، لزيفه أو نقصانه نقصانا ظاهرا دَراهِمَ بدل من الثمن مَعْدُودَةٍ قليلة، فإنّهم كانوا يزنون ما بلغ الاوقية، و يعدّون ما دونها. قيل: كان عشرين درهما. و قيل: اثنين و عشرين. و قيل: عشرة. فاقتسموها درهمين درهمين.

وَ كانُوا

فِيهِ في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين عنه. و الضمير في «و كانوا» إن كان للإخوة فظاهر. و إن كان للرفقة و كانوا بائعين من العزيز، فزهدهم فيه لأنّهم التقطوه و الملتقط للشي ء متهاون به، خائف من انتزاعه، مستعجل في بيعه و إن كانوا مبتاعين من الإخوة، فلأنّهم اعتقدوا أنّه آبق. و «فيه» متعلّق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف. و إن جعل بمعنى «الّذي» فهو متعلّق بمحذوف يبيّنه «الزاهدين»، لأنّ متعلّق الصلة لا يتقدّم على الموصول.

وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ و هو العزيز الّذي كان على خزائن مصر.

و اسمه قطفير أو اطفير، و العزيز لقبه، و من كان بمكانه يسمّى بالعزيز، لعزّته عند الناس، و لهذا لمّا عبّر يوسف رؤيا الملك سمّي العزيز و جعل مكان العزيز. و كان الملك يومئذ ريّان بن الوليد العمليقي، و قد آمن بيوسف حين شاهد منه المعجزات، و مات في حياته.

و قيل: كان فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة، و كان إلى زمن موسى، بدليل قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ (1).

و المشهور أنّ فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، و الآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.

روي أنّه اشتراه العزيز و هو ابن سبع عشر سنة، و لبث في منزله ثلاث عشرة سنة، و استوزره الريّان و هو ابن ثلاثين سنة، و آتاه العلم و الحكمة و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، و توفّى و هو ابن مائة و عشرين سنة.

ص: 352


1- غافر: 34.

و اختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه غير الأوّل، فقيل: عشرون دينارا، و زوجا نعل، و ثوبان أبيضان. و قيل: وزنه فضّة. و قيل: ذهبا. و قيل: أدخلوه السوق يعرضونه، فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا و ورقا و حريرا، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ.

لِامْرَأَتِهِ راعيل، و لقبها زليخا. و هي المشهورة. أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي مقامه عندنا كريما، أي: حسنا مرضيّا. و المعنى: أحسني تعهّده حتّى تكون نفسه طيّبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. روي: أنّه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه، فعرفه و أمر زوجته بإكرامها له. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في ضياعنا و أموالنا، و نستظهر به في مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نتبنّاه، و كان عقيما، لما تفرّس فيه من الرشد.

وَ كَذلِكَ أي: و كما مكّنّا محبّة يوسف في قلب العزيز، أو كما مكّنّاه في منزله، أو كما أنجيناه و عطفنا عليه العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ جعلناه ملكا يتصرّف فيها بأمره و نهيه وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عطف على مضمر، تقديره: ليتصرّف فيها بالعدل و لنعلّمه، أي: كان القصد في إنجائه و تمكينه إلى أن يقيم العدل، و يدبّر أمور الناس، و يعلّم كتاب اللّه و أحكامه فينفذها، أو يعبّر المنامات المنبّهة على الحوادث الكائنة ليستعدّ لها و يشتغل بتدبيرها قبل أن تحلّ، كما فعله لسنوات القحط.

وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ لا يردّه شي ء، و لا ينازعه فيما يشاء. أو على أمر يوسف، يعني: إخوة يوسف أرادوا به شيئا، و أراد اللّه تعالى غيره، فلم يكن إلّا ما أراده و دبّره. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنّ الأمر كلّه بيده، أو لطائف صنعه و خفايا لطفه.

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه و قوّته، و هو سنّ الوقوف ما بين الثلاثين و الأربعين. و قيل: سنّ الشباب، و مبدؤه بلوغ الحلم. و قيل: الأشدّ ثماني

ص: 353

عشرة سنة، و عشرون، و ثلاث و ثلاثون، و أربعون. و قيل: أقصاه ثنتان و ستّون.

آتَيْناهُ حُكْماً حكمة، و هو العلم المؤيّد بالعمل. أو حكما بين الناس، أو النبوّة.

وَ عِلْماً يعني: علم تأويل الأحاديث، أو علم الشريعة وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تنبيه على أنّه تعالى إنّما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله، و اتّقائه في عنفوان أمره. و عن الحسن: من أحسن عبادة ربّه في شيبته، آتاه اللّه الحكمة في اكتهاله.

[سورة يوسف [12]: الآيات 23 الى 25]

وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [23] وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [24] وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ [25]

ثمّ أخبر سبحانه عن امرأة العزيز و ما همّت به، فقال: وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ طلبت منه و تمحّلت (1) أن يواقعها، من: راد يرود إذا جاء و ذهب لطلب شي ء، و منه: الرائد. كأنّ المعنى: خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشي ء الّذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه

ص: 354


1- تمحّل الشي ء: احتال في طلبه.

و يأخذه منه، و هي ها هنا عبارة عن التمحّل لمواقعته إيّاها. و هذا الكلام أبلغ من:

راودته امرأة العزيز أو زليخا، لاستهجان ذكر المرأة في المراودة.

وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قيل: كانت سبعة. و التشديد للتكثير، أو للمبالغة في إيثاقها. وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ أي: أقبل و بادر، أو تهيّأت. و «هيت» على الوجهين اسم فعل بني على الفتح، ك: أين. و اللام للتبيين، كالّتي في: سقيا لك، كأنّه قال يوسف:

لمن تهيّأت؟ فقالت: لك. و كذا في: سقيا.

و قرأ ابن كثير بضمّ التاء و فتح الهاء، تشبيها له ب «حيث». و نافع و ابن عامر برواية ابن ذكوان بفتح التاء و كسر الهاء من غير همز، ك: عيط صوت يصاح به الغنم.

و هي لغة فيه. و هشام كذلك، إلّا أنّه يهمز. و قد روي عنه ضمّ التاء.

قالَ مَعاذَ اللَّهِ أعوذ باللّه معاذا إِنَّهُ إنّ الشّأن رَبِّي سيّدي قطفير أَحْسَنَ مَثْوايَ أحسن تعهّدي، إذ قال لك فيّ: أكرمي مثواه، فليس جزاؤه أن أخونه في أهله. و قيل: الضمير للّه تعالى، أي: أنّه خالقي و أحسن منزلتي، بأن عطف عليّ قلب قطفير، فلا أعصيه. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: المجازون الحسن بالسيّ ء. و قيل: الزناة.

و في هذه دلالة على أنّ يوسف لم يهمّ بالفاحشة و لم يردها بقبيح، لأنّ من همّ بالقبيح لا يقول مثل ذلك. فقوله: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ معناه: قصدت مخالطته قصدا اختياريّا، فإنّ الهمّ بالشي ء قصده و العزم عليه، و منه الهمّام الّذي إذا همّ بشي ء أمضاه. وَ هَمَّ بِها و مال إلى مخالطتها ميلا طبيعيّا بشريّا غير اختياريّ، مع المنازعة إليها عن شهوة الشباب الّتي هي تحت القدرة و الاختيار.

فالمراد بهمّه إيّاها ميل الطبع البشري مع الامتناع عنه، لا القصد الاختياري و العزم على الفعل الّذي هو ممّا يدخل تحت التكليف. و الحقيق بالمدح الجميل و الأجر الجزيل من اللّه الجليل من يكفّ نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ، و لو لم

ص: 355

يكن ذلك الميل الشديد- المسمّى همّا لشدّته- لما كان صاحبه ممدوحا عند اللّه بالامتناع عنه، لأنّ استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء و شدّته.

و لو كان همّه كهمّها عن عزيمة اختياريّة، لما مدحه اللّه بأنّه من عباده الصالحين.

أو المراد بهمّه مشارفة الهمّ، كقولك: قتلته لو لم أخف اللّه تعالى، تريد مشارفة القتل. أو من قبيل: هممت بفلان، أي: بضربه و إيقاع المكروه به. و من حقّ القارئ أن يقف على «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» و يبتدئ قوله «وَ هَمَّ بِها»، لاختلاف معنى الهمّين.

و لا يخفى على من له أدنى مسكة لو وجدت من يوسف عليه السّلام أدنى زلّة لنعيت عليه، و ذكرت توبته و استغفاره، كما نعيت على آدم عليه السّلام زلّته، و هي ترك الأولى، و كذا على داود، و على نوح و على أيّوب و على ذي النون، و ذكرت توبتهم و استغفارهم. كيف و قد أثني عليه و سمّي مخلصا؟! فعلم بالقطع أنّه ثبت في هذا المقام الدّحض (1)، و هو أنّه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوّة و العزم، ناظرا في دليل التحريم و وجه القبح، حتى استحقّ من اللّه الثناء فيما أنزل من كتب الأوّلين، ثمّ في القرآن الّذي هو حجّة على سائر كتبه و مصداق لها، و لم يقتصر إلّا على استيفاء قصّته و ضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السّلام، و ليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفّة و طيب الإزار.

لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ في قبح الزنا و سوء عاقبته لخالطها، لشبق (2) الغلمة و كثرة

المبالغة منها. و لا يجوز أن يجعل «و همّ بها» جواب «لولا»، فإنّها في حكم أدوات الشرط، فلا يتقدّم عليها جوابها، بل الجواب محذوف يدلّ عليه قوله:

ص: 356


1- المكان الدحض: إذا كان مزلّة لا تثبت عليها الأقدام.
2- أي: اشتداد الشهوة.

«و همّ بها» كما عرفت.

كَذلِكَ الكاف في محلّ النصب، أي: مثل ذلك التثبيت ثبّتناه، أو في محلّ الرفع، أي: الأمر مثل ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ خيانة السيّد وَ الْفَحْشاءَ الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصهم اللّه تعالى لطاعته. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب بالكسر في كلّ القرآن إذا كان محلّى باللام، أي: الّذين أخلصوا دينهم للّه تعالى.

فأخزى اللّه الحشويّة و الجبريّة حيث أوردوا هذه القصّة على وجه يؤدّي إلى أنّ يوسف صلوات اللّه عليه عزم على ارتكاب الزنا الّذي هو أقبح القبائح و أفحش الفواحش، فقالوا: إنّه حلّ تكّة سراويله، و جلس من زليخا مجلس المجامع، و قعد بين شعبها الأربع و هي مستلقية على قفاها. و فسّروا البرهان بأنّه سمع صوتا: إيّاك و إيّاها، فلم يكترث، فسمعه ثانيا فلم يعمل به، فسمع ثالثا: أعرض عنها، فلم ينجع فيه، حتّى مثّل له يعقوب عاضّا على أنملته، و ضرب بيده في صدره، فخرجت شهوته من أنامله.

و قالوا: كلّ ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلّا يوسف، فإنّه ولد له أحد عشر ولدا، من أجل ما نقص من شهوته حين همّ.

و قالوا صيح بيوسف: لا تكن كالطائر كان له ريش فلمّا زنى قعد لا ريش له.

و قالوا: بدت كفّ فيما بينهما ليس لها عضد و لا معصم، مكتوب فيها: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ (1) فلم

ينصرف. ثمّ رأى فيها: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا (2) فلم ينتبه. ثمّ رأى فيها: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى

ص: 357


1- الانفطار: 10- 11.
2- الإسراء: 32.

اللَّهِ (1) فلم ينجع فيه. فقال اللّه لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة.

فانحطّ جبرئيل و هو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟! و قالوا: رأى تمثال العزيز.

و غير ذلك من الأقاويل الباطلة و تقوّلاتهم الحشويّة. فيا له من مذهب ما أفحشه! و من ضلال ما أبينه! الّذي يتضمّن الجبر و القسر الّذي يرتفع معه الاختيار الّذي هو مناط التكليف، و يقتضي أن لا يستحقّ على الامتناع من القبيح مدحا و لا ثوابا. فلعنة اللّه عليهم، و على من يعتقد معتقدهم، حتى قال قائل من قبلهم: إنّ قوله: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها» خرجا مخرجا واحدا، فلم جعلتم همّها به متعلّقا بالقبيح، و همّه بها متعلّقا بغيره؟

قلنا: إنّ من الظاهر أنّ الظاهر لا يكون دليلا و حجّة إذا عارضه الدليل العقلي و النقلي. أمّا النقلي على أنّه ما همّ بالفاحشة فقوله: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ و قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ (2)، و قوله: قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (3). و لا شبهة في أن العزم على الفاحشة من السوء. و أمّا العقلي فلأنّه عليه السّلام نبيّ، و النبيّ لا بدّ أن يكون معصوما من جميع الصغائر و الكبائر، و القبائح و الفواحش، كما قرّر في الكتب الكلاميّة بأوضح وجه.

وَ اسْتَبَقَا الْبابَ أي: تسابقا إلى الباب. فحذف الجارّ، أو ضمّن الفعل معنى الابتدار، فلا يحتاج إلى تقدير صلة. و ذلك أنّ يوسف عليه السّلام فرّ منها ليخرج و يتخلّص

ص: 358


1- البقرة: 281.
2- يوسف: 52.
3- يوسف: 51.

منها، و أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. روي عن كعب أنّه لمّا هرب يوسف جعل فراش (1) القفل يتناثر و يسقط حتى خرج من الباب.

وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اجتذبته من ورائه فانقدّ قميصه. و القدّ الشقّ طولا، و القطّ الشقّ عرضا. وَ أَلْفَيا سَيِّدَها و صادفا زوجها لَدَى الْبابِ عنده. و تسمية الزوج بالسيّد لأنّه مالك أمرها، أو لأنّ المرأة تقول لبعلها: سيّدي. و قيل: إنّما لم يقل سيّدهما لأنّ ملك يوسف لم يصحّ، فلم يكن سيّدا له على الحقيقة.

قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ إيهاما بأنّها فرّت منه، تبرئة لساحتها عند زوجها، و تغييره على يوسف، و إغراءه به انتقاما منه.

و «ما» نافية أو استفهاميّة، بمعنى: أيّ شي ء جزاؤه إلّا السجن؟ كما تقول: من في الدار إلّا زيد؟ و قيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط ضربا وجيعا.

[سورة يوسف [12]: الآيات 26 الى 29]

قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ [26] وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [27] فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [28] يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ [29]

و لمّا عرّضته له من السجن أو العذاب، و أغرته به، و وجب عليه دفع هذا

ص: 359


1- فراش القفل: ما ينشب و يدخل فيه، سمّي بذلك لرقّته.

الضرر عن نفسه قالَ لدفعه هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي طالبتني بالمؤاتاة وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل: ابن عمّها، و كان حكيما يرجع إليه الملك و يستشيره، و هو جالس مع زوجها عند الباب. و قيل: ابن خالها صبيّا في المهد. و هذا أصحّ.

و يؤيّده ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تكلّم أربعة صغارا: ابن ماشطة فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريج، و عيسى».

و إنّما ألقى اللّه الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها حجّة، و أوثق دليلا، و أنفى للتهمة عنه.

إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ لأنّه يدلّ على أنّها قدّت قميصه من قدّامه بالدفع عن نفسها، أو أنّه أسرع خلفها فتعثّر بذيله فانقدّ جيبه.

وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ لأنّه يدلّ على أنّها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدّته. و الشرطيّة محكيّة على إرادة القول، أو على أنّ فعل الشهادة من القول، كأنّه قيل: و شهد شاهد فقال: إن كان قميصه. و تسميتها شهادة و إن لم يكن بلفظ الشهادة، و لم يكن مرئيّا، لأنّها أدّت مؤدّاها. و الشّرط و إن كان ماضيا و لكنّه في تأويل المضارع، و هو: إن يعلم أنّه كان. فجاز الجمع بين «إن» الّذي هو للاستقبال و بين «كان». و نظيره قولك: إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل، أي: و إن تمنن عليّ بإحسانك امنن عليك بإحساني السابق.

فَلَمَّا رَأى قطفير قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ و به علم براءة يوسف و صدقه و كذبها قالَ إِنَّهُ إن قولك: «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً»، أو إنّ السّوء، أو إنّ هذا الأمر مِنْ كَيْدِكُنَ من حيلتكنّ. و الخطاب لها و لأمثالها، أو لسائر النساء.

إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ استعظم كيد النساء و إن كان في الرجال، لأنّ كيدهنّ أعلق بالقلب، و ألطف به، و أشدّ تأثيرا في أنفس الرجال، فإنّ قليل حيل النساء أسبق إلى

ص: 360

قلوب الرجال من كثير حيل الرجال، و لأنهنّ يواجهن به الرجال، و الشيطان يوسوس به مسارقة، و منه قوله تعالى: وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (1). و عن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر من أن أخاف من الشيطان، لأنّ اللّه تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (2)، و قال للنساء: «إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ».

يُوسُفُ حذف منه حرف النداء، لقربه و تفطّنه للحديث أَعْرِضْ عَنْ هذا اكتمه و لا تحدّث به وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ يا راعيل إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من القوم المتعمّدين الذنب. يقال: خطئ إذا أذنب متعمّدا. و التذكير للتغليب.

قيل: إنّ قطفيرا لم يكن غيورا، سلبه اللّه الغيرة لطفا منه بيوسف، حتّى كفى شرّه، و لذلك قال ليوسف: «أَعْرِضْ عَنْ هذا» و اقتصر على هذا القدر.

[سورة يوسف [12]: الآيات 30 الى 35]

وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [30] فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [31] قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [32] قالَ

ص: 361


1- الفلق: 4.
2- النساء: 76.

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [33] فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [34]

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [35]

ثمّ ذكر سبحانه شياع هذه القصّة، فقال: وَ قالَ نِسْوَةٌ هي اسم لجمع امرأة لا جمع، من قبيل القوم و الرهط للرجال. و تأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقيّ، و لذلك جرّد فعله عن التاء. فِي الْمَدِينَةِ ظرف ل «قال»، أي: أشعن الحكاية في مصر. أو صفة ل «نسوة» أي: نسوة كائنة في المدينة. و كنّ خمسا: زوجة الحاجب، و الساقي، و الخبّاز، و السجّان، و صاحب الدوابّ، أي: رائضها (1).

امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ تطلب مواقعة غلامها إيّاها. يقال:

فتاي و فتاتي، أي: غلامي و جاريتي. و العزيز بلسان العرب الملك. و أصل فتى فتي، لقولهم: فتيان. و الفتوّة شاذّة. قَدْ شَغَفَها حُبًّا شقّ شغاف قلبها- و هو حجابه- حتّى وصل إلى فؤادها حبّا. و نصبه على التمييز، لصرف الفعل عن يوسف، و يعلم أنّ الحبّ شغفها، إذ التمييز في الأصل فاعل. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في ضلال عن الرشد، و بعد عن الصواب.

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ باغتيابهنّ، و هو قولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني. و إنّما سمّاه مكرا لأنّهنّ أخفينه، كما يخفي الماكر مكره. أو قلن ذلك لتريهنّ يوسف. أو لأنّها استكتمتهنّ سرّها، فأفشينه عليها. أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ

ص: 362


1- الرائض: الذي يعلّم الدوابّ السير و يذلّلها و يطوّعها.

تدعوهنّ لاستضافتهنّ. قيل: دعت أربعين امرأة فيهنّ الخمس المذكورات.

وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ما يتّكئن عليه من الوسائد وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً حتّى يتّكئن و السكاكين بأيديهنّ،

ليقطعن به الأترج (1) و غيره من الفواكه، كما هو العادة بين الناس.

و قيل: «متّكئا» يعني: طعاما أو مجلس طعام، لأنّهم كانوا يتّكئون للطعام و الشراب ترفا و استراحة، كعادة المترفين، و لذلك نهي أن يأكل الرجل متّكئا.

و قيل: المتّكأ طعام يحزّ حزّا، كأنّ القاطع يتّكئ عليه بالسّكين.

وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ عظّمنه، و هبن حسنه الفائق، و جماله الرائق. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت يوسف في السماء الثانية ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر».

و قيل: كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها. و قيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف، فيبهتن و يشغلن عن نفوسهنّ، فتقع أيديهنّ على أيديهنّ، لزوال اقتدارهنّ، و ذهاب عقولهنّ.

و قيل: أكبرن بمعنى: حضن، من: أكبرت المرأة إذا حاضت، لأنّها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر. و الهاء ضمير مصدر: أكبرن، أو ليوسف على حذف اللام، أي: حضن له من شدّة الشبق، كما قيل: المرأة إذا اشتدّت غلمتها حاضت، أي: كلّما رأين حسنه الفائق حضن لشدّة الشبق.

وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له من صفات العجز، و تعجّبا من قدرته على خلق مثله. و أصله: حاشا، كما قرأه أبو عمرو في الدرج لا في الوقف، فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا. و هو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، تقول: أساء القوم حاشا زيد، فوضع موضع التنزيه. و اللام للبيان، كما في قولك: سقيا لك. فمعنى حاشا للّه: براءة اللّه و تنزيهه

ص: 363


1- الأترج: واحدته الاترجّة، شجر من جنس الليمون.

عن صفات العجز، و التعجّب من قدرته على خلق مثله في فرط الحسن و غاية الجمال.

و قيل: «حاشا» فعل من الحشا الّذي هو الناحية، و فاعله ضمير يوسف، أي:

صار في ناحية بعيدة للّه تعالى ممّا يتوهّم فيه من عجزه عن خلق جميل مثله. و أمّا قوله: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (1) فتعجّب من قدرته على خلق عفيف مثله.

ما هذا بَشَراً لأنّ هذا الجمال غير معهود للبشر. و هو على لغة الحجاز في إعمال «ما» عمل «ليس»، لمشاركتهما في نفي الحال. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فإنّ الجمع بين الجمال الرائق و الكمال الفائق و العصمة البالغة من خواصّ الملائكة. أو لأنّ جماله فوق جمال البشر، و لا يفوقه فيه إلّا الملك، لما هو مركوز في الطباع أنّه لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، و لذلك يشبّه كلّ متناه في الحسن و القبح بهما.

قالَتْ فَذلِكُنَ أي: فهو ذلك العبد الكنعاني الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ في الافتتان به قبل أن تتصوّرنه حقّ تصوّره، و لو تصوّرتنّه بما عاينتنّ لعذرتنّني. أو فهذا هو الّذي لمتنّني فيه، فوضع «ذلك» موضع «هذا» رفعا لمنزلة المشار إليه.

وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فامتنع أشدّ امتناع، و اجتهد في الاستزادة من العصمة طالبا لها. و نحوه: استمسك. أقرّت لهنّ حين عرفت أنّهنّ يعذرنها، كي يعاونّها على إلانة عريكته. و هذا برهان قويّ على أنّ يوسف بري ء ممّا أضاف إليه الحشويّة من همّ المعصية.

وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ أي: ما آمر به، فحذف الجارّ. أو أمري إيّاه، بمعنى: موجب أمري، فيكون الضمير ليوسف عليه السّلام. لَيُسْجَنَنَ ليحبسنّ في

ص: 364


1- يوسف: 51.

السجن وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلّاء. و هو من: صغر بالكسر يصغر صغرا و صغارا. و الصغير من: صغر بالضمّ صغرا.

فلمّا رأى يوسف إصرارها على ذلك و تهديدها له اختار السجن على المعصية قالَ رَبِّ السِّجْنُ قرأ يعقوب بفتح السين على المصدر أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أي: أخفّ عليّ و أسهل من مواتاتها زنا، نظرا إلى العاقبة، و إن كان هذا ممّا تشتهيه النفس، و ذلك ممّا تكرهه. و إسناد الدعوة إليهنّ جميعا لأنّهن خوّفنه من مخالفتها، و زيّنّ له مطاوعتها، و قلن له: أطع مولاتك، فإنّها مظلومة و أنت تظلمها. أو دعونه إلى أنفسهنّ، لما روى أبو حمزة عن عليّ بن الحسين عليه السّلام:

«أنّ النسوة لمّا خرجن من عنده أرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف- سرّا من صاحبته- تسأله الزيارة».

و قيل: إنّما ابتلي بالسجن لقوله: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ»، و إنّما كان الأولى به أن يسأل اللّه تعالى العافية، و لذلك ردّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على من كان يسأل الصبر.

وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي و إن لم تصرف عنّي كَيْدَهُنَ في تحبيب ذلك إليّ و تحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. فزع منه إلى ألطاف اللّه و عصمته، كعادة الأنبياء و الصالحين فيما عزموا عليه و وطّنوا عليه أنفسهم، أَصْبُ إِلَيْهِنَ أمل إلى جانبهنّ، أو إلى أنفسهنّ، بطبعي و مقتضى شهوتي. و الصبوة الميل إلى الهوى. و منه الصبا، لأنّ النفوس تستطيبها و تميل إليها. وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإنّ الحكيم لا يفعل القبيح. أو من الّذين لا يعملون بما يعلمون، فإنّهم و الجهّال سواء.

فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فأجاب اللّه دعاءه الّذي تضمّنه قوله: «وَ إِلَّا تَصْرِفْ»، لأنّ فيه معنى طلب

الصرف و الدعاء باللطف فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ فثبّته بالعصمة حتّى وطّن نفسه على مشقّة السجن، و آثرها على اللذّة المتضمّنة للعصيان إِنَّهُ هُوَ

ص: 365

السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين إليه الْعَلِيمُ بأحوالهم و ما يصلحهم.

ثُمَّ بَدا لَهُمْ ثمّ ظهر للعزيز و أهله مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الشواهد الدالّة على براءة يوسف، كشهادة الصبيّ، و قدّ القميص، و قطع النساء أيديهنّ، و استعصامه عنهنّ. و فاعل «بدا» مضمر، و هو: رأي، يفسّره قوله: لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ و ذلك لأنّ راعيل خدعت زوجها، و حملته على سجنه زمانا حتّى تبصر ما ترصّدت منه، أو يحسب الناس أنّه المجرم، فلبث في السجن سبع سنين.

[سورة يوسف [12]: الآيات 36 الى 42]

وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [36] قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [37] وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [38] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [39] ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ

ص: 366

ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [40]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [41] وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [42]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال يوسف في السجن، فقال: وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي: اتّفق أن أدخل مع يوسف السجن حينئذ آخران من عبيد الملك، فإنّ «مع» يدلّ على معنى الصحبة، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له.

و هما شرابيّه و خبّازه، للاتّهام بأنّهما يريدان أن يسمّاه. قالَ أَحَدُهُما يعني:

الشرابي إِنِّي أَرانِي أي: في المنام. و هي حكاية حال ماضية. أَعْصِرُ خَمْراً أي: عنبا. و سمّاه بما يئول إليه، كما يقال: فلان يطبخ الدبس و الآجرّ، و إنّما يطبخ العصير و اللبن. وَ قالَ الْآخَرُ أي: الخبّاز إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ تنهش (1) منه.

عن الشعبي أنّهما تحالما له ليمتحناه، فقال الشرابي: إنّي أراني في المنام في بستان فإذا أنا بأصل حبلة (2) عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها و عصرتها في كاس الملك، و سقيته إيّاه. و قال الخبّاز: إنّي أراني في المنام فوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، فإذا سباع الطير تنهش منها.

ص: 367


1- في هامش النسخة الخطّية: «النهش أول ما يأخذ الطير بمنقاره. منه».
2- في هامش النسخة الخطّية: «الحبلة- بالتحريك- القضيب من الكرم. و ربما جاء بالتسكين. منه».

ثمّ قالا ليوسف: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ بتعبير ما نقصّ عليك و ما يئول إليه أمره إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الّذين يحسنون تأويل الرؤيا. أو من العالمين، يقال:

أحسنه إذا علمه. و إنّما قالا ذلك لأنّهما رأياه في السجن يعظ الناس و يعبّر رؤياهم.

أو من المحسنين إلى أهل السجن، فأحسن

إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.

روي أنّه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، و إذا ضاق أوسع له، و إذا احتاج جمع له.

قيل: إنّ الفتيين قالا له: إنّا لنحبّك من حين رأيناك. فقال: أنشدكما باللّه أن لا تحبّاني، فو اللّه ما أحبّني أحد قطّ إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء، لقد أحبّتني عمّتي فدخل عليّ من حبّها بلاء، ثمّ أحبّني أبي فقد دخل عليّ من حبّه بلاء، ثمّ أحبّتني زوجة صاحبي فدخل علىّ بلاء، فلا تحبّاني بارك اللّه فيكما.

و لمّا استعبراه ابتدأ بوصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، و هو الإخبار بالغيب، ليتيقّنا صدق تعبيره و وقوع ما يعبّره عليهما، و ليدعوهما إلى التوحيد، و يرشدهما إلى الطريق القويم، قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه، كما هو طريقة الأنبياء و النازلين منازلهم من العلماء في الهداية و الإرشاد. فلهذا قالَ أولا: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ بتأويل الطعام، يعني: ماهيّته و كيفيّته، فإنّه يشبه تفسير المشكل و الإعراب عن معناه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما أي: لا يأتيكما طعام من منزلكما إلّا أخبرتكما بصفة ذلك الطعام و كيفيّته قبل أن يأتيكما ذلك الطعام. و هذا مثل قول عيسى عليه السّلام: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ (1).

و قيل: معناه: لا يأتيكما طعام ترزقانه في منامكما إلّا نبّأتكما بتأويله و بيان عاقبته في اليقظة قبل أن يأتيكما التأويل. و الأوّل أشهر و أصحّ.

ص: 368


1- آل عمران: 49.

ذلِكُما أي: ذلك التأويل. مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالإلهام و الوحي، و ليس من قبيل التكهّن أو التنجيم.

إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ تعليل لما

قبله، أي: علّمني ذلك لأنّي تركت ملّة الّذين لا يؤمنون بالوحدانيّة و بيوم البعث و النشور.

أراد بهؤلاء القوم أهل مصر، و من كان الفتيان على دينهم.

وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة و إظهار أنّه من أهل بيت النبوّة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه و الوثوق عليه.

و لذلك جوّز للخامل أن يصف نفسه حتّى يعرف فيقتبس منه و ينتفع به في الدين، و لم يكن ذلك من باب التزكية. و تكرير ضمير «هم» للدلالة على تأكيد كفرهم بالآخرة.

ما كانَ لَنا ما صحّ لنا معشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أيّ شي ء كان، من ملك أو جنّيّ أو إنسيّ، فضلا أن نشرك به صنما لا يسمع و لا يبصر.

ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي وَ عَلَى النَّاسِ و على سائر الناس ببعثنا لإرشادهم، و تثبيتهم عليه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوثون نحن إليهم لا يَشْكُرُونَ هذا الفضل، فيعرضون عنه و لا يتنبّهون.

و قيل: معناه: ذلك فضل اللّه علينا و عليهم بنصب الأدلّة و إنزال الآيات، و لكنّ أكثرهم لا ينظرون إليها، و لا يستدلّون بها، فيلغونها، كمن يكفر النعمة و لا يشكرها.

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي: يا ساكنيه، كقوله عزّ اسمه: أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ (1). أو يا صاحبيّ فيه، فأضافهما إليه على الاتّساع، كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار. فكما أنّ الليل مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، و إنّما المصحوب غيره، و هو يوسف عليه السّلام. أَ أَرْبابٌ

ص: 369


1- الحشر: 20.

مُتَفَرِّقُونَ أ ملّاك شتّى متعدّدة متباينة، من حجر و خشب و غيرهما خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتوحّد

بالألوهيّة الْقَهَّارُ الغالب الّذي لا يعادله و لا يقاومه غيره؟! و الهمزة للإنكار. و هذا مثل ضربه لعبادة اللّه وحده و لعبادة الأصنام.

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ خطاب لهما و لمن على دينهما من أهل مصر إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ من حجّة غالبة، أي: إلّا أشياء باعتبار أسامي أطلقتم عليها، من غير حجّة تدلّ على تحقّق مسمّياتها فيها، فكأنّكم لا تعبدون إلّا الأسماء المجرّدة. و المعنى: أنّكم سمّيتم ما لم يدلّ على استحقاقه الألوهيّة عقل و لا نقل آلهة، ثمّ أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها.

إِنِ الْحُكْمُ في أمر العبادة إِلَّا لِلَّهِ لأنّه المستحقّ لها بالذات، من حيث إنّه الواجب لذاته، و الموجد للكلّ، و المالك لأمره أَمَرَ على لسان أنبيائه أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الحقّ الثّابت بالدلائل، و أنتم لا تميّزون المعوجّ عن القويم.

و هذا من التدرّج في الدعوة و إلزام الحجّة، لأنّه بيّن لهم أوّلا رجحان التوحيد على اتّخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثمّ برهن على أنّ ما يسمّونها آلهة و يعبدونها لا تستحقّ الإلهيّة، فإنّ استحقاق العبادة إمّا بالذات و إمّا بالغير، و كلا القسمين منتف عنها، ثمّ نصّ على ما هو الحقّ القويم و الدين المستقيم الّذي لا يقتضي العقل غيره، و لا يرتضي العلم دونه.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لعدولهم عن النظر و الاستدلال، فيخبطون في جهالاتهم.

ثمّ عبّر رؤياهما فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما يعني: الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ أي: سيّده خَمْراً كما كان يسقيه قبل، و يعود إلى ما كان عليه وَ أَمَّا الْآخَرُ يريد به الخبّاز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ

ص: 370

روي أنّه قال يوسف في تعبير الساقي: أمّا العناقيد الثلاثة فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن، ثمّ يخرجك الملك اليوم الرابع و تعود إلى ما كنت عليه. و قال للخبّاز: بئس ما رأيت، أمّا السلال الثلاث فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن، ثمّ يخرجك الملك فيصلبك فتأكل الطير من رأسك. فقال عند ذلك: ما رأيت شيئا و كنت ألعب.

فقال يوسف: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي: قطع الأمر الّذي تستفتيان فيه، و هو ما يئول إليه أمركما، و لذلك وحّده، فإنّهما و إن استفتيا في أمرين، لكنّهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما.

وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَ أي: علم بطريق الوحي أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا كما في قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (1) أي: علمت. و قيل: المراد بالظانّ الناجي الّذي هو الشرابي لا يوسف، ف «ظنّ» باق على معناه الحقيقي. اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ اذكر حالي عند الملك الّذي يربّيك بأنّي محبوس ظلما كي يخلّصني فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فأنسى الشرابيّ أن يذكره لربّه. فأضاف إليه المصدر لملابسته له، فإنّ الربّ لا يكون فاعلا و لا مفعولا. أو على تقدير: ذكر أخبار ربّه. قيل:

أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه في تلك الحال حين و كل أمره إلى غيره و استغاث بمخلوق. و الأوّل أليق بمذهبنا. و الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد و إن كانت محمودة في الجملة، لكنّها لا تليق بمنصب الأنبياء، و تركه أولى.

فَلَبِثَ لأجل ذلك فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، من البضع و هو القطع، كأنّه يقطع من العشرة. و قيل: البضع ما بين الثلاث إلى الخمس. و قيل: إلى السبع. و قيل: لبث في السجن سبع سنين بعد أن كان خمسا.

و الأصحّ أن مدّة مكثه في السجن سبع سنين، فإنّه منقول عن عليّ بن الحسين و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، و مأثور عن ابن عبّاس.

ص: 371


1- الحاقّة: 20.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «عجبت من أخي يوسف كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق».

و روي أنّه عليه السّلام قال: «لولا كلمته ما لبث».

يعني قوله: «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «جاء جبرئيل إلى يوسف فقال: يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال: ربّي. قال: فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوتك؟ قال:

ربّي. قال: فمن ساق إليك السيّارة؟ قال: ربّي. قال: فمن صرف عنك الحجارة؟

قال: ربّي. قال: فمن أنقذك من الجبّ؟ قال: ربّي. قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال: ربّي. قال: فإنّ ربّك يقول: ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟! البث في السجن بما قلت بضع سنين».

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى قال: «فبكى يوسف عند ذلك حتّى بكى لبكائه الحيطان، فتأذّى ببكائه أهل السجن، فصالحهم على أن يبكي يوما و يسكت يوما، فكان في اليوم الّذي يسكت أسوء حالا».

و على تقدير صحّة هذه الروايات، فإنّما عوتب يوسف عليه السّلام في ترك عادته الجميلة في الصبر و التوكّل على اللّه سبحانه في كلّ أموره دون غيره، و إنّما يكون قبيحا لو ترك التوكّل على اللّه سبحانه و اقتصر على غيره. و في هذا ترغيب في الاعتصام باللّه تعالى، و الاستعانة به دون غيره عند نزول الشدائد، و إن جاز أيضا أن يستعان بغيره.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «علّم جبرئيل عليه السّلام يوسف في محبسه فقال:

قل في دبر كلّ صلاة فريضة:

اللّهمّ اجعل لي فرجا و مخرجا، و ارزقني من حيث أحتسب، و من حيث لا أحتسب».

و روى شعيب العقرقوفي عنه عليه السّلام قال: «لمّا انقضت المدّة و أذن له في دعاء الفرج وضع خدّه على الأرض، ثمّ قال: اللّهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي

ص: 372

عندك، فإنّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ففرّج اللّه عنه. قال: فقلت له: جعلت فداك أ ندعوا نحن بهذا الدعاء؟

فقال: ادعوا بمثله: اللّهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت عندك وجهي، فإنّي أتوجّه إليك بوجه نبيّك نبيّ الرحمة و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة عليهم السّلام».

[سورة يوسف [12]: الآيات 43 الى 49]

وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [43] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [44] وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ [45] يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ [46] قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ [47]

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ [48] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ [49]

ثمّ أخبر سبحانه عن سبب نجاة يوسف وقت دنوّها، فقال: وَ قالَ الْمَلِكُ

ص: 373

الريّان بن الوليد إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خرجن من نهر يابس، و سبع بقرات مهازيل يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي: ابتلعت المهازيل السمان وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ و أرى في منامي سبع سنبلات قد انعقد حبّها وَ أُخَرَ يابِساتٍ و سبعا أخر يابسات قد أدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبت عليها. و إنّما استغنى عن بيان حالها- و هي سبع يابسات كالخضر- بما قصّ من حال البقرات. و أجرى السمان على المميّز دون المميّز و هو «سبع»، لأنّ التمييز بها. و وصف السبع الثاني بالعجاف، لتعذّر التمييز بها مجرّدا عن الموصوف، فإنّ التمييز لبيان الجنس. و قياس عجاف عجف، لأنّه جمع عجفاء، و أفعل فعلاء لا يجمع على فعال، لكنّه حمل على سمان، لأنّه نقيضه، و من دأبهم حمل النظير على النظير و النقيض على النقيض.

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أشراف قومي. و قيل: هم السحرة و الكهنة. أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ عبّروها إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ إن كنتم عالمين بعبارة (1) الرؤيا. و هي الانتقال من الصور الخياليّة إلى المعاني النفسانيّة الّتي هي مثالها، من العبور، و هو المجاوزة. و «عبرت الرؤيا عبارة» أثبت (2) من: عبّرتها تعبيرا، كما قال صاحب الكشّاف (3) من أنّه لم ينقل من الأثبات (4) التعبير و المعبّر، بل العبارة و العابر، لأنّه من العبور. و حقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها، كما يقال: عبرت النهر إذا قطعته حتّى تبلغ آخر عرضه. و اللام للبيان أو لتقوية العامل، فإنّ الفعل لمّا أخّر عن مفعوله ضعف فقوّي باللام، كاسم الفاعل إذا قيل: هو عابر للرؤيا، لانحطاطه عن الفعل في القوّة. أو لتضمّن «تعبرون» معنى فعل يعدّى باللام، كأنّه قيل: إن كنتم

ص: 374


1- مصدر: عبر يعبر عبرا و عبارة.
2- في هامش النسخة الخطّية: «أي: أشدّ تثبّتا و حجّة. منه».
3- الكشّاف 2: 474.
4- الأثبات: ثقات القوم، جمع الثبت، و هو الثقة.

تجيبون لعبارة الرؤيا.

قالُوا هي أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي: تخاليطها. جمع ضغث. و أصله ما جمع من أخلاط النبات و حزم، فاستعير للرؤيا الكاذبة. و إنّما جمعوا الأحلام للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان، كقولهم: فلان يركب الخيل، و إنّما يركب فردا منها. أو لتضمّن الحلم أشياء مختلفة. و الإضافة بمعنى «من» أي: أضغاث من أحلام. وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصّة، أي: ليس لها تأويل عندنا، و إنّما التأويل للمنامات الصادقة. فهو كأنّه مقدّمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله.

و عند ذلك تذكّر الساقي حديث يوسف، فجثا بين يدي الملك و قال:

أيّها الملك إنّي قصصت أنا و صاحب الطعام على رجل في السجن منامين، فخبّرنا بتأويلهما، و صدق في جميع ما وصف، فإن أذنت مضيت إليه و أتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا. و ذلك قوله عزّ اسمه: وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما من صاحبي السجن، و هو الشرابي وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ و تذكّر يوسف عليه السّلام بعد جماعة من الزمان مجتمعة، أي: مدّة طويلة. و الجملة اعتراض، و مقول القول قوله: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ فابعثوني إلى من عنده علمه، أو إلى السجن.

فأرسل إلى يوسف فجاء، فقال له: يُوسُفُ أي: يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ البليغ في الصدق. و إنّما وصفه بصيغة المبالغة، لأنّه جرّب أحواله، و عرف صدقه في تأويل رؤياه و رؤيا صاحبه. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ أي: في رؤيا ذلك لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أعود إلى الملك و من عنده، أو إلى أهل البلد، إذ روي عن ابن عبّاس أنّ السجن لم يكن فيه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها، أو فضلك و مكانك، فيطلبوك

ص: 375

و يخلّصوك من محنتك. و إنّما لم يجزم الكلام فيهما، لأنّه لم يكن جازما بالرجوع، فربما اخترم دونه، و لا بعلمهم، فربما لم يعلموا.

قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي: على عادتكم المستمرّة. و انتصابه على الحال، بمعنى: دائبين. أو المصدر، بإضمار فعله، أي: تدأبون دأبا، و تكون الجملة حالا. و قرأ حفص: دأبا بفتح الهمزة. و كلاهما مصدر: دأب في العمل إذا اعتاد فيه. و قيل: «تزرعون» خبر في معنى الأمر، أخرجه في صورة الخبر مبالغة في تحقّق الفعل، لقوله: فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ كيلا يأكله السوس. و هو- على أنّه خبر لا أمر- نصيحة خارجة عن العبارة. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنين.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ أي: يأكل أهلهنّ ما ادّخرتم لأجلهنّ، و ذلك متعارف، كما يقال: ادّخرت الحبوب للسنين و إن كان في الحقيقة لأهلها. فأسند إليهنّ على المجاز تطبيقا بين المعبّر- و هو البقرات و السنبلات- و المعبّر به، و هو السنين. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون و تخبؤن لبذور الزراعة.

ثمّ بشّرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثاني يجي ء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم، فقال: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ يمطرون، من الغيث. أو يغاثون من القحط، من الغوث. وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ما يعصر، كالعنب و الزيتون و السمسم، لكثرة الثمار. و قيل: يحلبون الضروع. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء على تغليب المستفتي. و هذه بشارة بشّرهم بها بعد أن أوّل البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة. و علم ذلك كلّه بالوحي. و يحتمل أن علم ذلك بأن انتهاء الجدب

ص: 376

بالخصب، أو بأن السنّة الإلهيّة على أن يوسّع على عباده بعد ما ضيّق عليهم.

و الأوّل موافق لمذهبنا.

[سورة يوسف [12]: الآيات 50 الى 51]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [50] قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [51]

و لمّا رجع الرسول إلى الملك، و قصّ عليه ما سمع من يوسف من التعبير، اشتاق لقاءه وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه من السجن قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ سيّدك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ و إنّما تأنّى في الخروج، و قدّم سؤال النسوة و فحص حالهنّ، لتظهر براءة ساحته و طهارة ذيله، و يعلم أنّه سجن ظلما، فلا يقدر الحاسد أن يتوسّل به إلى تقبيح أمره. و فيه دليل على أنّه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم، و يتّقي مواقعها. و إنّما قال: «فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ» و لم يقل: فاسأله أن يفتّش عن حالهنّ أو عن شأنهنّ، تهييجا له على البحث و تحقيق الحال. و إنّما لم يتعرّض لسيّدته مع ما صنعت به كرما و مراعاة للأدب، فإنّها سيّدته و زوجة خليفة الملك.

إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لي: أطع مولاتك. و فيه تعظيم كيدهنّ،

ص: 377

و الاستشهاد بعلم اللّه تعالى عليه، و على أنّه بري ء ممّا قذف به، و الوعيد لهنّ على كيدهنّ.

عن ابن عبّاس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حالة، يقول: هذا الّذي راود امرأتي.

و قيل: أشفق يوسف من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره متّهم بفاحشة، فأحبّ أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لقد عجبت من يوسف و كرمه و صبره- و اللّه يغفر له- حين سئل عن البقرات العجاف و السمان، و لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتّى أشترط أن يخرجوني من السجن. و لقد عجبت من يوسف و صبره و كرمه- و اللّه يغفر له- حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربّك، و لو كنت مكانه و لبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة، و بادرتهم الباب، و ما ابتغيت العذر، إنّه كان لحليما ذا أناة».

قالَ ما خَطْبُكُنَ قال الملك لهنّ: ما شأنكنّ. و الخطب أمر يحقّ أن يخاطب فيه صاحبه. إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيه له تعالى و تعجّب من قدرته على خلق عفيف مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ من ذنب. قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ ثبت و استقرّ، من: حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ. أو ظهر، من حصّ شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي». و لا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة و النزاهة، و اعترافهنّ على أنفسهنّ بأنّه لم يتعلّق بشي ء ممّا قرفنه

(1) به، لأنّهنّ خصومه، و إذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحقّ و هو على الباطل لم يبق لأحد مقال.

ص: 378


1- قرف فلانا بكذا: عابه أو اتّهمه به.

[سورة يوسف [12]: الآيات 52 الى 53]

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [52] وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [53]

ثمّ قال يوسف لمّا عاد إليه الرسول و أخبره بكلامهنّ: ذلِكَ أي: ذلك الّذي فعلت من التأنّي في السجن، و عدم سرعة الإجابة إلى الخروج منه، و ردّ رسول الملك إليه في شأن النسوة لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بظهر الغيب. و هو حال من الفاعل أو المفعول، أي: لم أخنه و أنا غائب عنه، أو و هو غائب عنّي. أو ظرف، أي: بمكان الغيب، و هو الخفاء و الاستتار وراء الأستار و الأبواب المغلقة. وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه و لا يسدّده. أو لا يهدي الخائنين بكيدهم، فأوقع الفعل على الكيد مبالغة.

و فيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها، و توكيد لأمانته، و أنّه لو كان خائنا لما هدى اللّه كيده و لا سدّده.

ثمّ أراد أن يتواضع للّه و يهضم نفسه، لئلّا يكون لها مزكّيا، و بحالها في الأمانة معجبا و مفتخرا، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا سيّد ولد آدم و لا فخر»، و ليبيّن أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده، و إنّما هو بتوفيق اللّه و لطفه و عصمته، فقال: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي و لا أنزّهها إِنَّ النَّفْسَ أراد جنس النفس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ من حيث إنّها بالطبع مائلة إلى الشهوات، فتهمّ بها، و تستعمل القوى و الجوارح في أثرها كلّ الأوقات. و عن ابن كثير و نافع: بالسوّ، على قلب الهمزة واوا ثمّ الإدغام. إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلّا وقت رحمة ربّي، أو إلّا ما رحمه اللّه تعالى من النفوس، فعصمه من تلك التهم.

ص: 379

و قيل: الاستثناء منقطع، أي: و لكن رحمة ربّي هي الّتي تصرف الإساءة.

و قيل: الآية حكاية قول راعيل، و المستثنى نفس يوسف و أضرابه. و المعنى:

ذلك الّذي قلت من براءة ساحة يوسف، و إسناد المراودة إلى نفسي، ليعلم يوسف أنّي لم أكذب عليه في حال الغيبة، و صدقت فيما سئلت عنه، و ما أبرّئ نفسي من الخيانة، فإنّي خنته حين قذفته و قلت: «ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلّا أن يسجن». ثمّ قالت اعتذارا ممّا كان منها: إنّ كلّ نفس لأمّارة بالسوء إلّا نفسا رحمها اللّه بالعصمة، كنفس يوسف.

إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر همم النفوس، و يرحم من يشاء بالعصمة. و على القول الأخير: يغفر للمستغفر لذنبه، المعترف على نفسه، و يرحمه ما استرحمه ممّا ارتكبه. و القول الأوّل أشهر، و الثاني أجود.

[سورة يوسف [12]: الآيات 54 الى 57]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [54] قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [55] وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [56] وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [57] وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ أجعله خالصا لِنَفْسِي و أرجع إليه في تدبير مملكتي فَلَمَّا كَلَّمَهُ فلمّا أتوا به و كلّمه، و شاهد منه الرشد و ذكاء العقل و فطانة الفهم قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة و منزلة أَمِينٌ

ص: 380

مؤتمن على كلّ شي ء.

روي أنّه لمّا خرج من السجن كتب على بابه: «هذا قبور الأحياء، و بيت الأحزان، و تجربة الأصدقاء، و شماتة الأعداء». ثمّ اغتسل و تنظّف و لبس ثيابا جددا، و هو يومئذ كان ابن ثلاثين سنة، فلمّا رآه الملك شابّا حدث السنّ قال: يا غلام أنت مأوّل رؤياي؟ قال: نعم. فأقعده قدّامه، و قصّ عليه رؤياه.

و روي: أنّه لمّا دخل على الملك قال: اللّهمّ إنّي أسألك بخيرك من خيره، و أعوذ بعزّتك و قدرتك من شرّه. ثمّ سلّم عليه و دعا له بالعبرانيّة.

فقال: ما هذا اللسان؟

قال: لسان آبائي. و كان الملك يعرف سبعين لسانا، فكلّمه بها، فأجابه بجميعها. فتعجّب منه، فقال: أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاها.

فقال يوسف: نعم، أيّها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب حسان، كشف لك عنهنّ النيل، فطلعن عليك من شاطئه، تشخب أخلافهنّ (1) لبنا.

فبينا تنظر إليهنّ و يعجبك حسنهنّ، إذ نضب (2) النيل فغار ماؤه و بدا يبسه، فخرج من حمئه و وحله سبع بقرات عجاف شعث غبر، مقلّصات (3) البطون، ليس لهنّ ضروع و أخلاف، و لهنّ أنياب و أضراس، و أكفّ كأكفّ الكلاب، و خراطيم كخراطيم السباع. فاختلطن بالسمان، فافترستهنّ افتراس السبع، فأكلن لحومهنّ، و مزّقن جلودهنّ، و حطّمن عظامهنّ، و تمشّشن (4) مخّهنّ.

فبينا أنت تنظر و تتعجّب إذا سبع سنابل خضر و أخر سود في منبت واحد،.

ص: 381


1- الأخلاف جمع الخلف، و هو: حلمة ضرع الناقة، أي: مكان مصّ الحليب من الثدي.
2- نضب الماء: غار في الأرض.
3- أي: انكمشت بطونهنّ هزالا.
4- تمشّش العظم: مصّه و استخرج منه المخّ.

عروقهنّ في الثرى و الماء.

فبينا أنت تقول في نفسك: أنّى هذا و هؤلاء خضر مثمرات، و هؤلاء سود يابسات، و المنبت واحد، و أصولهنّ في الماء؟ إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الثمرات الخضر، فاشتعلت فيهنّ النار و أحرقتهنّ، و صرن سودا متغيّرات. فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا، ثمّ انتبهت من نومك مذعورا.

فقال الملك: و اللّه ما شأن هذه الرؤيا بأعجب ممّا سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيّها الصديق؟

فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، و تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، فتجمع الحبوب بقصبها و سنبلها لتأمن من السوس، و يكون القصب و السنبل علفا للدوابّ. و يأتيك الخلق من النواحي، فيمتارون منك بحكمك، و يجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك.

فقال الملك: و من لي بهذا؟ و من يجمعه و يبيعه، و يكفي الشغل فيه؟

فعند ذلك قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ولّني أمر أرض مصر إِنِّي حَفِيظٌ لها ممّن لا يستحقّها عَلِيمٌ بوجوه التصرّف فيه. و إنّما قال ذلك لأنّه عليه السّلام لمّا رأى أنّه يستعمله لا محالة آثر ما تعمّ فوائده و تجلّ عوائده، فيتوصّل بذلك إلى إمضاء أحكام اللّه، و بسط العدل، و وضع الحقوق موضعها.

و فيه دليل على جواز طلب التولية، و إظهار أنّه مستعدّ لها، و التولّي من يد الكافر، إذا علم أنّه لا سبيل إلى إقامة الحقّ و سياسة الخلق إلّا بالاستظهار به.

روي: أنّ الملك أجلسه على السرير، و فوّض إليه أمره. و قيل: توفّي قطفير في تلك السنين فنصبه في منصبه، و زوّج منه راعيل، فوجدها عذراء، و ولدت له أفرائيم و ميشا.

و روي: أنّ الملك كان يصدر عن رأيه، و لا يعترض عليه في كلّ ما رأى،

ص: 382

فكان في حكم التابع له و المطيع. و عن مجاهد: أنّ الملك أسلم على يده.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: «لمّا مات العزيز و ذلك في سنيّ الجدبة افتقرت امرأة العزيز و احتاجت حتّى سألت الناس. فقالوا لها: ما يضرّك لو قعدت للعزيز؟ و كان يوسف يسمّى العزيز، و كلّ ملك كان لهم سمّوه بهذا الاسم.

فقالت: استحي منه. فلمّا كثر اضطرارها و عجزها قعدت له. فأقبل يوسف في موكبه فقامت إليه زليخا، و قالت: سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا، و جعل العبيد بالطاعة ملوكا. فقال لها يوسف: أ أنت تيك؟ قالت: نعم. فقال لها: هل لك فيّ؟ قالت: دعني أ تهزأ بي؟ قال: لا. قالت: نعم. فأمر بها فحوّلت إلى منزله، و كانت هرمة. فقال لها يوسف: أ لست فعلت بي كذا و كذا؟ قالت: يا نبيّ اللّه لا تلمني، فإنّي بليت ببليّة لم يبتل بها أحد. قال: و ما هي؟ قالت: بليت بحبّك، و بليت بزوج عنّين. فقال لها يوسف: فما حاجتك؟ قالت: تسأل اللّه أن يردّ عليّ شبابي.

فسأل اللّه فردّ عليها، فتزوّجها و هي بكر شابّة» (1).

روي عن ابن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» لولّاه من ساعته، و لكنّه أخّر ذلك سنة».

قال ابن عبّاس: فأقام في بيت الملك سنة، فلمّا انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة، دعاه الأمير فتوّجه و ختّمه بخاتمه و أعطاه سيفه، و أمر بأن يوضع له سرير من ذهب مكلّل بالدرّ و الياقوت، و يضرب

عليه كلّة (2) من إستبرق، ثمّ أمره أن يخرج متوّجا، لونه كالثلج، و وجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه.

فانطلق حتّى جلس على السرير، و دانت له الملوك، فعدل بين الناس، و أحبّه الرجال و النساء. و ذلك قوله عزّ اسمه: وَ كَذلِكَ مثل ذلك الإنعام الّذي أنعمنا على

ص: 383


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 357.
2- الكلّة: ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقّى به من البعوض.

يوسف مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أقدرناه ما يريد فِي الْأَرْضِ في أرض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ينزل من بلادها في كلّ مكان يهوى، لاستيلائه على جميعها.

و قرأ ابن كثير: نشاء بالنون. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا بعطائنا مَنْ نَشاءُ في الدنيا و الآخرة وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفي أجورهم عاجلا و آجلا.

وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشرك و الفواحش، لعظمه و دوامه.

روي: أنّه لمّا استوزره الملك أقام العدل، و اجتهد في تكثير الزراعات و ضبط الغلّات، حتّى دخلت السنون المجدبة، و عمّ القحط مصر و الشام و نواحيهما، و توجّه إليه الناس، فباعها.

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن بنت إلياس، قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام، فجمع في السبع سنين المخصبة، فكبسه في الخزائن. فلمّا مضت تلك السنون و أقبلت المجدبة، أقبل يوسف على بيع الطعام، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلا صار في مملكته.

ثمّ باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جواهر إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة الثالثة بالدوابّ و المواشي، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دابّة و لا ماشية إلا صارت في مملكته.

و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء، حتّى لم يبق بمصر عبد و لا أمة إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة الخامسة بالدور و العقار، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دار

ص: 384

و لا عقار إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة السابعة برقابهم، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حرّ إلا صار عبد يوسف، فملك أحرارهم و عبيدهم. و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه اللّه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا.

ثمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و أهلها، أشر علينا برأيك، فإنّي لم أصلحهم لأفسدهم، و لم أنجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم، و لكنّ اللّه تعالى أنجاهم على يديّ.

قال له الملك: الرأي رأيك.

قال: أشهد اللّه و أشهدك أيّها الملك بأنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك أيّها الملك خاتمك و سريرك و تاجك، على أن لا تسير إلّا بسيرتي، و لا تحكم إلا بحكمي.

قال له الملك: إنّ ذلك لزيني و فخري، فلا أسير إلا بسيرتك، و لا أحكم إلا بحكمك، و لولاك ما قويت عليه و لا اهتديت له، و لقد جعلت سلطاني عزيزا لا يرام، و إنّي أشهد أن لا إله إلّا

اللّه وحده لا شريك له، و أنّك رسوله، فأقم على ما ولّيتك، فإنّك لدينا مكين أمين».

و قيل إن يوسف عليه السّلام كان لا يمتلي شبعا من الطعام في تلك الأيّام المجدبة، فقيل له: تجوع و بيدك خزائن الأرض؟ فقال: إنّي أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.

[سورة يوسف [12]: الآيات 58 الى 67]

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [58] وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي

ص: 385

الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [59] فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ [60] قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ [61] وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [62]

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [63] قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [64] وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ [65] قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ [66] وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [67]

و كان في السنين المجدبة قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد، فجمع يعقوب بنيه غير بنيامين، و قال: بلغني أنّه يباع الطعام بمصر و أنّ صاحبه رجل

ص: 386

صالح، فاذهبوا إليه. فتجهّزوا و ساروا حتّى وردوا مصر للميرة (1)، كما قال عزّ و جلّ:

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ليمتاروا من مصر كما امتار غيرهم. و كان لا يبيع أحدا من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطا بين الناس. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي: عرفهم يوسف و لم يعرفوه، لطول العهد و مفارقتهم إيّاه في سنّ الحداثة، و نسيانهم إيّاه، و توهّمهم أنّه هلك، و بعد حاله الّتي رأوه عليها من حاله حين فارقوه، و قلّة تأمّلهم في حاله، و لأنّ الملك ممّا يبدّل الزيّ و يلبس صاحبه من المهابة و الاستعظام ما ينكر له المعروف.

و قيل: رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير، جالسا على سرير، في عنقه طوق من ذهب، و على رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنّه هو.

و قيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم و بينه مسافة و حجاب، و ما وقفوا إلا حيث يقف طلّاب الحوائج. و إنّما عرفهم لأنّه فارقهم و هم رجال، و رأى زيّهم قريبا من زيّهم إذ ذاك، و لأنّ همّته كانت معقودة بهم و بمعرفتهم، فكان يتأمّل و يتفطّن.

وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ و الجهاز ما يعدّ من الأمتعة للنقلة، كعدد السفر، و ما يحمل من بلدة إلى اخرى، و ما تزفّ به المرأة إلى زوجها. و المعنى: و لمّا أصلحهم بعدّتهم، و أوقر ركائبهم بما جاؤا لأجله قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يعني: بنيامين.

و الباعث على صدور هذا القول منه- على ما

قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره (2)، و الزمخشري في

الكشّاف (3)- أنّهم لمّا دخلوا عليه قال: من أنتم و ما.

ص: 387


1- في هامش النسخة الخطّية: «الميرة: الامتيار. و هو ابتياع الغلّات. و الميرة: الغلّة التي تطلب. منه».
2- لم نجده في تفسيره.
3- الكشّاف 2: 484.

أمركم، فإنّي أنكركم؟

قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار.

فقال: لعلّكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟

قالوا: معاذ اللّه نحن بنو أب واحد، و هو شيخ صدّيق، نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب.

قال: كم أنتم؟

قالوا كنّا اثني عشر، فذهب أحدنا إلى البرّيّة فهلك.

قال: فكم أنتم هنا؟

قالوا: عشرة.

قال: فأين الحادي عشر؟

قالوا: عند أبينا يتسلّى به عن الهالك.

قال: فمن يشهد لكم؟

قالوا: لا يعرفنا ها هنا من يشهد لنا.

قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة، و ائتوني بأخيكم من أبيكم حتّى أصدّقكم. فاقترعوا فأصابت شمعون.

و قيل: كان يوسف يعطي لكلّ نفس حملا، فسألوا حملا زائدا لأخ لهم من أبيهم، فأعطاهم و شرط عليهم أن يأتوه به ليعلم صدقهم. ثمّ رغّبهم في أن يأتوا بأخيهم، فقال: أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أتمّه وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ للضيف و المضيفين لهم. و كان عليه السّلام أحسن إنزالهم و ضيافتهم.

ثمّ رهّبهم من حرمانهم عن الكيل إن لم يأتوا به، فقال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ فليس لكم عِنْدِي طعام أكيله عليكم وَ لا تَقْرَبُونِ أي: لا تقربوني، و لا تدخلوا دياري. و هو إمّا نهي، أو نفي مجزوم معطوف على الجزاء،

ص: 388

و هو قوله: «فَلا كَيْلَ لَكُمْ». كأنّه قال: فإن لم تأتوني تحرموا و لا تقربوا.

قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنجتهد في طلبه من أبيه وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك لا نتوانى فيه.

وَ قالَ لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيّالين. جمع فتى (1).

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: لفتيانه على جمع الكثرة، ليوافق الرحال في قوله: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فإنّه و كلّ بكلّ رحل واحدا يعبّئ فيه بضاعتهم الّتي شروا بها الطعام، أي:

يجعل في رحالهم خفية كيلا يفهموا. واحدها: رحل. يقال للوعاء رحل، و للمسكن رحل. و أصله: الشي ء المعدّ للرحيل. و كانت البضاعة نعالا و أدما. و إنّما ردّ عليهم البضاعة توسيعا و تفضّلا عليهم، و ترفّعا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم، و خوفا من أن لا يكون عند أبيهم ما يعيشون به.

لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها لعلّهم يعرفون حقّ ردّها، أو لكي يعرفوها إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا و رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ و فتحوا أوعيتهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعلّ معرفتهم ذلك الإحسان التامّ تدعوهم إلى الرجوع إلينا لطلب الميرة ثانيا.

قيل: معناه: أنّ ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة الّتي لا يستحلّون إمساكها، فيرجعون لأجلها. و لم يعرّف يوسف نفسه، مع علمه بشدّة حزن أبيه و قلقه و احتراقه على ألم فراقه، لأنّه لم يؤذن له في التعريف، استتماما للمحنة عليه و على يعقوب، و لما علم اللّه من الحكمة و الصلاح في تشديد البليّة، تعريضا للمنزلة السنيّة.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب بنيامين فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين نَكْتَلْ أي: نأخذ ما نحتاج إليه من الطعام بالكيل، و نرفع المانع منه. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء، على إسناده إلى

ص: 389


1- أي: على قراءة: لفتيته.

الأخ، أي: يكتل لنفسه، فينضمّ اكتياله إلى اكتيالنا. وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه.

قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ على بنيامين إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ و قد قلتم

في يوسف: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ثمّ لم تفوا بضمانكم فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً فأتوكّل عليه، و أفوّض أمري إليه. و انتصابه على التمييز. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: حافظا. و هو يحتمل التمييز و الحال، كقولهم: للّه درّه فارسا. وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجو أن يرحم ضعفي و كبر سنّي، فيحفظه و يردّه عليّ، و لا يجمع عليّ مصيبتين.

وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي استفهاميّة، أي: ماذا نطلب؟ هل من مزيد على ذلك، أكرمنا، و أحسن مثوانا، و باع منّا، و ردّ علينا متاعنا؟! أو نافية، أي: لا نطلب وراء ذلك إحسانا. أو لا نبغي في القول، و لا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه.

ثمّ استأنفوا كلاما موضحا لقولهم: «ما نبغي»، فقالوا: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا فلا ينبغي أن تخاف على أخينا ممّن قد أحسن إلينا هذا الإحسان وَ نَمِيرُ أَهْلَنا و نجلب إليهم الطعام. و هو معطوف على محذوف، أي: ردّت إلينا، فنستظهر بها، و نمير أهلنا بالرجوع إلى الملك. وَ نَحْفَظُ أَخانا عن المخاوف في ذهابنا و إيابنا وَ نَزْدادُ باستصحاب أخينا كَيْلَ بَعِيرٍ وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا، فأيّ شي ء نطلب وراء هذه المباغي الّتي نستصلح بها أحوالنا؟! ذلِكَ الّذي جئناك به كَيْلٌ يَسِيرٌ أي: مكيل قليل لا يكفينا. استقلّوا ما كيل لهم، فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك، و يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو «ذلك» إشارة إلى «كيل بعير»، أي: ذلك شي ء قليل لا يضايقنا فيه الملك و لا يتعاظمه، بل يستقلّه. و يجوز أن يكون «كيل يسير» من كلام يعقوب عليه السّلام. و معناه: أنّ حمل بعير

ص: 390

شي ء يسير لا يخاطر لمثله بالولد.

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ إذ رأيت منكم ما رأيت في يوسف حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ حتّى تعطوني ما أتوثّق به من عند اللّه، أي: عهدا مؤكّدا بذكر اللّه تعالى لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب القسم، إذ المعنى: حتّى تحلفوا باللّه لتأتنّني به، أي:

لتردّونه إليّ. روي عن ابن عبّاس: يعني: حتّى تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيّين و سيّد المرسلين ألّا تعذروا بأخيكم. إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن تغلبوا فلم تقدروا على الإتيان به، أو إلا أن تهلكوا جميعا. و هو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال.

و التقدير: لتأتنّني به على كلّ حال من الأحوال إلا حال الإحاطة بكم. أو من أعمّ العلل، على أنّ قوله: «لَتَأْتُنَّنِي بِهِ» في تأويل النفي، أي: لا تمتنعون من الإتيان به لعلّة من العلل إلا لعلّة الإحاطة بكم، كقولهم: أقسمت باللّه إلا فعلت، أي: ما أطلب إلا فعلك.

فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ما يوثق به من العهود و الأيمان قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق و إتيانه وَكِيلٌ رقيب مطّلع، إن أخلفتم بعد ما أحلفتم.

وَ لمّا تجهّزوا للمسير إلى مصر قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لأنّهم كانوا ذوي جمال و أبّهة، مشتهرين في مصر بالقربة و الكرامة عند الملك، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا. و إنّما لم يوصّهم بذلك في الكرّة الأولى، لأنّهم كانوا مجهولين حينئذ، أو كان الداعي إليها خوفه على بنيامين.

و اعلم أنّه خلاف بين العلماء في تأثير العين، و جوّزه كثير من المحقّقين.

و روي فيه الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ العين حقّ، و العين تستنزل الحالق».

و الحالق:

المكان المرتفع من الجبل و غيره. فجعل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل، من قوّة أخذها و شدّة بطشها.

ص: 391

و روي في الخبر: أنّه كان يعوّذ الحسن و الحسين عليهما السّلام، بأن يقول: أعيذكما بكلمات اللّه التامّة، من كلّ شيطان و هامّة، و من كلّ عين لامّة.

و روي أنّ إبراهيم عليه السّلام عوّذ ابنيه، و أنّ موسى عليه السّلام عوّذ ابني هارون بهذه العوذة.

و روي أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا، فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول اللّه إنّ العين إليهم سريعة، أ فأسترقي لهم من العين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

نعم.

و روي أنّ جبرئيل عليه السّلام رقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و علّمه الرقية. و هي: بسم اللّه أرقيك من كلّ عين حاسد، اللّه يشفيك.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لو كان شي ء يسبق القدر لسبقته العين».

ثمّ اختلفوا في وجه الإصابة بالعين، فروي عن عمرو بن بحر الجاحظ أنّه قال: لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشي ء المستحسن أجزاء لطيفة، فتتّصل به و تؤثّر فيه، و يكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعين، كالخواصّ في الأشياء. و ليس ببعيد أن يحدث اللّه تعالى عند النظر إلى الشي ء و الإعجاب به نقصانا فيه و خللا من بعض الوجوه، و يكون ذلك ابتلاء من اللّه و امتحانا لعباده. و اللّه أعلم بحقائق الأمور.

وَ ما أُغْنِي و ما أدفع عَنْكُمْ بما أشرت به إليكم من التفرّق مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ممّا قضى عليكم من المصيبة، فإنّ الحذر لا يمنع القدر إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا

لِلَّهِ يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم سوءا، و لا ينفعكم ذلك عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوّضت إليه أمري وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ جمع بين الواو و الفاء في عطف الجملة على الجملة، لتقدّم الصلة، لاختصاص التوكّل به، فكأنّ الواو للعطف، و الفاء لإفادة التسبّب، فإنّ فعل الأنبياء صلّى اللّه عليهم سبب لأن يقتدى بهم.

ص: 392

[سورة يوسف [12]: الآيات 68 الى 76]

وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [68] وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [69] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [70] قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ [71] قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ [72]

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ [73] قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ [74] قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [75] فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [76]

وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي: من أبواب متفرّقة في البلد ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ رأي يعقوب و اتّباعهم له في دخولهم متفرّقين مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ

ص: 393

ممّا قضاه عليهم، فسرّقوا (1) و افتضحوا بذلك، و أخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله، و تضاعفت المصيبة على يعقوب إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أظهرها و وصّى بها. و الاستثناء منقطع، أي: و لكن حاجة في نفسه، يعني: إظهار شفقته عليهم، و دغدغته من أن يعانوا.

وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أي: حصل له العلم بتعليمنا إيّاه بطريق الوحي و نصب الحجج، و لذلك قال: «وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ»، و لم يغترّ بتدبيره وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ سرّ القدر، و أنّه لا يغني عنه الحذر. أو لا يعلمون مرتبة يعقوب في العلم، أو ما ألهم اللّه أولياءه.

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضمّ إليه بنيامين على الطعام، أو في المنزل.

روي أنّهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به. فقال لهم: أحسنتم و أصبتم، و ستجدون أجره عندي. فأنزلهم و أكرمهم، ثمّ أضافهم فأجلسهم مثنى مثنى على مائدة. و لمّا أجلس كلّ اثنين على مائدة و بقي بنيامين وحيدا بكى و قال: لو كان أخي يوسف حيّا لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته، و جعل يؤاكله. ثمّ قال:

لينزل كلّ اثنين منكم بيتا، و هذا لا ثاني له فيكون معي، فبات عنده. و قال له:

أ تحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك؟! و لكن لم يلدك يعقوب و لا راحيل. فبكى يوسف و قام إليه و عانقه.

قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن. افتعال من البؤس، و هو الحزن. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعمل إخوتنا في حقّنا، فإنّ اللّه قد أحسن إلينا و جمعنا.

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ المشربة فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي: أمر حتّى جعلها في متاع أخيه. و إنّما

أضاف اللّه تعالى ذلك إليه لوقوعه بأمره. روي أنّها

ص: 394


1- في هامش النسخة الخطّية: «التسريق إسناد السرقة إلى الغير. منه».

مشربة جعلت صاعا في السنين الشداد القحاط يكال بها، فهي الصواع. و قيل: كان يسقى بها الملك، ثمّ جعلت صاعا يكال به. و قيل: كانت الدوابّ تسقى بها، و يكال بها. روي أنّها كانت إناء مستطيلا يشبه المكّوك (1). و قيل: هي المكّوك الفارسي الّذي يلتقي طرفاه، تشرب به الأعاجم، و كانت من فضّة مموّهة بالذهب. و قيل:

كانت من ذهب مرصّعة بالجواهر. و روي أنّهم ارتحلوا و أمهلهم يوسف حتّى انطلقوا، ثمّ أمر بردّهم فأدركوا و حبسوا.

ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد. يقال: أذنه إذا أعلمه، و أذّن: إذا أكثر الإعلام، و منه: المؤذّن، لكثرة ذلك منه. أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ و العير القافلة. و هو اسم الإبل الّتي عليها الأحمال، لأنّها تعير، أي: تذهب و تجي ء، فقيل لأصحاب العير، كقوله عليه السّلام: يا خيل اللّه اركبي، بمعنى: يا صاحب الخيل. و قيل: جمع عير.

و أصله: فعل، كسقف و سقف، فعل به ما فعل ببيض. يطلق على قافلة الحمير، ثمّ استعير لكلّ قافلة.

قيل: إنّما قال ذلك بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير أمره، و لم يعلم بما أمر به يوسف من جعل الصاع في رحالهم.

و قيل: إنّ يوسف أمر المنادي بأن ينادي به، و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف عن أبيه و ألقيتموه في الجبّ.

و قيل: إنّ الكلام يجوز أن يكون خارجا مخرج الاستفهام، كأنّه قال: أ إنّكم لسارقون، فأسقط همزة الاستفهام.

و يؤيّده ما روي عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «ما سرقوا و لا كذب».

ص: 395


1- المكّوك: مكيال يسع صاعا و نصف صاع، أو نحو ذلك، أو طاس يشرب فيه. و جمعه مكاكيك.

و قيل: كان تعبئة السقاية و النداء على السرقة برضا بنيامين.

و كانت عبارة الكشّاف هكذا: «و روي أنّه قال له: أنا لا أفارقك. قال: قد علمت اغتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمّه، و لا سبيل إلى ذلك إلّا أن أنسبك إلى ما لا يجمل. قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك. قال: فإنّي أدسّ صاعي في رحلك، ثمّ أنادي عليك بأنّك قد سرقته، ليتهيّأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال: افعل» (1).

انتهى كلامه.

أقول: ظاهر هذه الرواية غير مطابق لأصول الكلام كما لا يخفى.

و قال في المجمع: «و يجوز أن يكون ذلك بأمر اللّه تعالى. و روي أنّه أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسّك به» (2).

قالُوا قال أصحاب العير وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ حال كونهم مقبلين على أصحاب يوسف ما ذا تَفْقِدُونَ أيّ شي ء ضاع عنكم؟ و الفقد غيبة الشي ء عن البصر بحيث لا يعرف مكانه.

قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام، جعلا له وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل أؤدّيه إلى من ردّه. و فيه دليل على جواز الجعالة و ضمان الجعل قبل تمام العمل.

قالُوا تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجّب. و التاء بدل من الباء، مختصّة باللّه سبحانه. لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم، لما عرفوا منهم في كرّتي مجيئهم و مداخلتهم للملك ممّا يدلّ على فرط أمانتهم، كردّ البضاعة الّتي جعلت في رحالهم، و كعم (3) أفواه الدوابّ لئلّا تتناول

ص: 396


1- الكشّاف 2: 489.
2- مجمع البيان 5: 252.
3- كعم البعير كعما: شدّ فمه لئلّا يعضّ أو يأكل.

زرعا أو طعاما لأحد من أهل الأسواق. وَ ما كُنَّا سارِقِينَ و ما كنّا نوصف قطّ بالسرقة، فالسرقة منافية لحالنا.

قالُوا فَما جَزاؤُهُ فما جزاء السارق أو السرق أو الصواع، على حذف المضاف، أي: جزاء سرقة الصواع إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في ادّعاء البراءة.

قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي: جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، و استرقاقه سنة. هكذا كان شرع يعقوب عليه السّلام. و قوله: «فهو جزاؤه» تقرير للحكم و إلزام له، أو خبر «من» و الفاء لتضمّنها معنى الشرط، أو جواب لكلمة «من» على أنّها شرطيّة. و الجملة كما هي خبر «جزاؤه» على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير، كأنّه قيل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. كَذلِكَ مثل ما ذكرناه من الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة، يعني: إذا سرقوا استرقّوا.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ فبدأ المؤذّن. و قيل: بدأ يوسف بأوعيتهم، لأنّهم ردّوا إلى مصر. قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين نفيا للتهمة ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي: السقاية أو الصواع، لأنّه يذكّر و يؤنّث مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ

كَذلِكَ مثل ذلك الأمر الخفيّ الّذي هو في صورة الكيد و البهتان لا حقيقة، كما مرّ (1) في تفسير قوله: «ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ... إلخ» كِدْنا لِيُوسُفَ بأن علّمناه إيّاه و أوحينا به إليه ليتوصّل بما يتهيّأ له أن يحبس أخاه، ليكون ذلك سببا لوصول خبره إلى أبيه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ملك مصر، لأنّ دينه الضرب و تغريم ضعف ما أخذ، دون الاسترقاق. و هو بيان للكيد إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلّا بمشيئة اللّه و إذنه أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك. فالاستثناء من أعمّ الأحوال.

و يجوز أن يكون منقطعا، أي: لكن أخذه بمشيئة اللّه تعالى و إذنه.

نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم، كما رفعنا درجة يوسف وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي

ص: 397


1- راجع ص: 395.

عِلْمٍ عَلِيمٌ أرفع درجة منه في علمه، حتّى ينتهي إلى اللّه تعالى العالم لذاته، فلا يختصّ بمعلوم دون معلوم، فيقف عليه و لا يتعدّاه.

[سورة يوسف [12]: الآيات 77 الى 79]

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ [77] قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [78] قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ [79]

روي: أنّهم لمّا استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء، و أقبلوا عليه و قالوا له: ما الّذي صنعت؟ فضحتنا و سوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع؟

ثمّ قالُوا إِنْ يَسْرِقْ بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ يعنون يوسف مِنْ قَبْلُ فليست سرقته بأمر بديع، فإنّه اقتدى بأخيه يوسف.

قيل: ورثت عمّته من أبيها منطقة (1) إبراهيم، و كانت تحضن يوسف و تحبّه حبّا شديدا، فلمّا ترعرع أراد يعقوب انتزاعه منها، فشدّت المنطقة على وسطه ثمّ أظهرت ضياعها، فتفحّص عنها فوجدت محزومة عليه، فصارت أحقّ به في شريعتهم.

ص: 398


1- المنطقة: ما ينتطق به، اي: يشدّ على الوسط.

و قيل: كان لأبي أمّه صنم، فسرقه و كسره و ألقاه في الجيف. و قيل: كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل.

و القول الأوّل أشهر و أكثر، و مرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام و ابن

عبّاس و الضحّاك و الجبائي.

فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ فأخفى يوسف تلك الكلمة الّتي قالوها، أو تلك الإجابة، أو نسبة السرقة إليه وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ و لم يظهرها لهم. و قيل: الضمير كناية بشريطة التفسير، و تفسيرها قوله: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً فإنّه بدل من «أسرّها». و المعنى: قال في نفسه: أنتم شرّ مكانا، أي: منزلة في السرقة، لسرقتكم أخاكم، أو في سوء الصنيع ممّا كنتم عليه من ظلمكم على أخيكم و عقوق أبيكم.

و تأنيث هذا القول باعتبار الكلمة أو الجملة. و فيه نظر، إذ المفسّر بالجملة لا يكون إلّا ضمير الشأن. وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ و هو يعلم أنّه ليس الأمر كما تصفون، و لم يصحّ لي و لأخي سرقة.

ثمّ رقّقوا في القول و استعطفوه بذكر أبيهم قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في القدر أو السنّ فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد، فإنّ أباه ثكلان على أخيه الهالك، مستأنس به إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إمّا متعدّ، و معناه: من المحسنين إلينا، فأتمم إحسانك. أو لازم، و معناه: من الّذين عادتهم الإحسان، فلا تغيّر عادتك.

قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ نعوذ باللّه معاذا من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به، و حذف «من» إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ هذا كلام موجّه بوجهين، ظاهره: أنّ أخذ غيره ظلم على فتواكم، فلو أخذنا أحدكم مكانه إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ في مذهبكم هذا، فلا تطلبوا منّي ما تعرفون أنّه ظلم. و باطنه: أنّ اللّه تعالى أذن في أخذ من وجدنا الصاع في رحله، لمصلحته و رضاه عليه، فلو أخذت غيره كنت ظالما عاملا بخلاف ما أمرت به.

ص: 399

[سورة يوسف [12]: الآيات 80 الى 82]

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [80] ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [81] وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ [82]

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يئسوا من يوسف و إجابته إيّاهم. و زيادة السين و التاء للمبالغة، مثل: استعصم. و عن البزّي: استأيس، بالألف و فتح الياء من الهمزة. و إذا وقف حمزة ألقى حركة الهمزة على الياء على أصله. خَلَصُوا انفردوا عن الناس و اعتزلوا بحيث لا يخالطهم سواهم نَجِيًّا متناجين. و إنّما وحّده لأنّه مصدر أو بزنته، كما قيل: هم صديق. و جمعه أنجية، ك: نديّ و أندية. أو كان التقدير: ذوي نجوى، أو فوجا نجيّا، أي: متناجيا. و كان تناجيهم في تدبير أمرهم، أ يرجعون أم يقيمون؟ و إذا رجعوا فما ذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟

قالَ كَبِيرُهُمْ في السنّ، و هو روبيل ابن خالة يوسف، و هو الّذي نهى إخوته عن قتله. أو في الرأي و العلم، و هو شمعون، و كان رئيسهم. و قيل: في الشجاعة، و هو يهوذا. و عن محمّد بن إسحاق و عليّ بن إبراهيم بن هاشم (1) أنّه

ص: 400


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 349.

لاوي. أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا وثيقا. و إنّما جعل حلفهم باللّه موثقا

منه، لأنّه بإذن منه و تأكيد من جهته. وَ مِنْ قَبْلُ و من قبل هذا ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ قصّرتم في شأنه.

و «ما» مزيدة. و يجوز أن تكون مصدرا، على أنّ محلّ المصدر الرفع على الابتداء، و خبره الظرف، و هو «من قبل». و معناه: و وقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفا على مفعول «ألم تعلموا»، و هو «أنّ أباكم». و لا بأس بالفصل بين العاطف و المعطوف بالظرف. كأنّه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا و تفريطكم من قبل في يوسف. و أن تكون موصولة، بمعنى: و من قبل هذا ما قدّمتموه في حقّه من الخيانة العظيمة. و محلّه ما تقدّم.

فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أو يقضي لي بالخروج منها، أو بخلاص أخي منهم، أو بالمقاتلة معهم لتخليصه وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنّ حكمه لا يكون إلّا بالحقّ.

ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ على ما شاهدناه من ظاهر الأمر وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا بأن رأينا أنّ الصواع استخرج من وعائه وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ للأمر الخفيّ حافِظِينَ فلا ندري أنّه سرق، أو سرق و دسّ الصواع في رحله. أو و ما كنّا للعواقب عالمين، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنّه سيسرق، أو أنّك تصاب به كما أصبت بيوسف.

وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر. و العرب تسمّي الأمصار و المدائن قرى. أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها لطلب السقاية. و المعنى: أرسل إلى أهلها و اسألهم عن القصّة. وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها و أصحاب العير الّتي توجّهنا فيهم و كنّا معهم. و هم كانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب. و قيل: من

ص: 401

أهل صنعاء. و إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا أهل تهمة عند يعقوب. وَ إِنَّا لَصادِقُونَ تأكيد في محلّ القسم.

[سورة يوسف [12]: الآيات 83 الى 84]

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [83] وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [84]

فلمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا له ما قال أخوهم قالَ ما عندي أنّ الأمر على ما تقولونه بَلْ سَوَّلَتْ أي: زيّنت و سهّلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه فقدّرتموه، و إلّا فما أدرى الملك أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا تعليمكم فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف و بنيامين و أخيهما الّذي توقّف بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي في الحزن و الأسف، و بحالهم الْحَكِيمُ في تدبيره، لم يبتلني إلّا بحكمة و مصلحة.

وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ و أعرض عنهم كراهة لما صادف منهم وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ أي: يا أسفا، تعال فهذا أوانك. و الأسف أشدّ الحزن و الحسرة. و الألف بدل من ياء المتكلّم. و إنّما تأسّف على يوسف دون أخويه و الأمر الحادث هو مصيبتهما، لأنّ مصيبة يوسف و إن كانت قديمة، لكن كانت قاعدة المصيبات الّتي ترتّبت عليها الرزايا في ولده. أو لأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضّا طريّا عنده، آخذا بمجامع قلبه. و لأنّه كان واثقا بحياتهما دون حياته.

عن ابن عبّاس أنّه قال: لم تعط أمّة من الأمم «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» عند

ص: 402

،

ص: 403

المصيبة إلّا أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع و قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ».

وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ لكثرة بكائه مِنَ الْحُزْنِ و الغمّ الشديد، فكأنّ العبرة محقت سواد العين، و قلبته إلى بياض كدر. و قيل: ضعف بصره، و كان لا يرى إلا رؤية ضعيفة. و قيل: إنّه عمي ستّ سنين. و روي: ما جفّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، و ما على الأرض أكرم على اللّه من يعقوب.

قيل اشترى يعقوب يوما جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتّى عميت، و لأجل ذلك ابيضّت عيناه من كثرة البكاء في فراق يوسف.

و فيه دليل على جواز التأسّف و البكاء عند التفجّع. و لعلّ أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف، فإنّه قلّ من يملك نفسه عند الشدائد، و لقد بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ولده إبراهيم و قال: القلب يجزع، و العين تدمع، و لا نقول ما يسخط الربّ، و إنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون.

فَهُوَ كَظِيمٌ مملوء من الغيظ على أولاده، ممسك له في قلبه، و لا يظهره.

فعيل بمعنى مفعول، كقوله تعالى: وَ هُوَ مَكْظُومٌ (1). من: كظم السقاء إذا شدّه على ملئه. أو بمعنى فاعل، كقوله: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ (2). من: كظم الغيظ إذا اجترعه.

و أصله: كظم البعير جرّته (3) إذا ردّها في جوفه.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أنّه سأل جبرئيل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال: وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، و ما ساء ظنّه باللّه ساعة

قطّ».

ص: 403


1- القلم: 48.
2- آل عمران: 134.
3- الجرّة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.

[سورة يوسف [12]: الآيات 85 الى 87]

قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ [85] قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [86] يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [87]

قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي: لا تفتأ و لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجّعا عليه.

فحذف «لا»، كما في قول امرئ القيس (1)- حين ذهب ذات ليلة إلى قصر بنت قيصر ملك الروم، فقالت: حضرت الرقباء، و لم يتيسّر الوصال-:

فقلت يمين اللّه أبرح قاعداو لو قطّعوا رأسي لديك و أوصالي لأنّه لا يلتبس بالإثبات، فإنّ القسم إذا لم تكن معه علامة الإثبات كان على النفي، و لو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللام و النون.

حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشرفا على الهلاك. و قيل: الحرض الّذي أذابه همّ أو مرض. و هو في الأصل مصدر، و لذلك لا يؤنّث و لا يجمع. و النعت بالكسر، كدنف و دنف. و هو المرض الّذي لا يرجى زواله. أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ من الميّتين.

قيل: دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب قد تهشّمت و فنيت، و بلغت من السنّ ما بلغ أبوك. فقال: هشمني و أفناني ما ابتلاني اللّه به من همّ يوسف.

فأوحى اللّه إليه: يا يعقوب، أ تشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي. فكان بعد ذلك إذا سئل قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي همّي الّذي لا أقدر الصبر

ص: 404


1- ديوان امرئ القيس: 141.

عليه، من البثّ بمعنى النشر وَ حُزْنِي و شدّة غمّي إِلَى اللَّهِ لا إلى أحد منكم و من غيركم، فخلّوني و شكايتي وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ من صنعه و رحمته، و أنّه لا يخيب داعيه، و لا يدع الملتجئ إليه. أو و أعلم من اللّه بنوع من الإلهام. ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف.

و قيل: إنّه أوحي إلى يعقوب: إنّما وجدت عليكم لأنّكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، و إن أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين، فاصنع طعاما و ادع عليه المساكين لأرجع إليك يوسف، فصنع ذلك. و لهذا قال: «وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».

و قيل: رأى ملك الموت في المنام فسأله عن يوسف، فقال: هو حيّ.

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ يعقوب دعا اللّه سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت، فأجابه. فقال: ما حاجتك؟

قال: أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح؟ فقال: لا. فعلم أنّه حيّ.

و قيل: علم من رؤيا يوسف أنّه لا يموت حتّى يخرّ له إخوته سجّدا، و لذلك قال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا أي: فتجسّسوا و تفحّصوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ فتعرّفوا منهما. و التحسّس تطلّب الإحساس، و هو المعرفة. و كذا بالجيم. وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ و لا تقنطوا من فرجه و تنفيسه. و قيل: من رحمته. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ باللّه تعالى و صفاته، فإنّ المؤمن لا يقنط من رحمته في شي ء من الأحوال عند البلاء.

قال الجبائي: العلّة في خفاء أخبار يوسف على يعقوب في المدّة الطويلة مع قرب المسافة، و عدم إخبار يوسف حاله له، أنّه حمل إلى مصر فبيع من عزيز فألزمه داره، ثمّ لبث في السجن بضع سنين، فانقطعت أخبار الناس عنه، فلمّا تمكّن احتال في إيصال خبره بأبيه على الوجه الّذي أمكنه، و كان لا يأمن لو بعث

ص: 405

رسولا إليه أن لا يمكّنه إخوته من الوصول إليه.

و قال المرتضى قدّس سرّه: «يجوز أن يكون ذلك ليوسف ممكنا، و كان عليه قادرا، لكن اللّه سبحانه أوحى إليه بأن يعدل عن اطّلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه، و للّه سبحانه أن يصعب التكليف و أن يسهّله» (1).

[سورة يوسف [12]: آية 88]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [88]

و لمّا قال يعقوب لبنيه: «اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ» رجعوا إلى مصر رجعة ثانية فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ على يوسف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ الهزال من شدّة الجوع. شكوا إلى يوسف ما نالهم من القحط و هلاك المواشي. وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ رديئة أو قليلة، تردّ و تدفع رغبة عنها، من:

أزجيته إذا دفعته، و منه تزجية الزمان. قيل: كانت دراهم زيوفا (2) لا تنفق في ثمن الطعام. و قيل: صوفا و سمنا. و قيل: الصنوبر و الحبّة الخضراء. و قيل: الأقط (3) و سويق المقل.

فَأَوْفِ فأتمم لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة و قبول المزجاة، و الإغماض عن رداءته، أو بالزيادة على ما يساويها. و قيل: بردّ أخينا. إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أحسن الجزاء. و التصدّق التفضّل مطلقا. و منه

قوله عليه السّلام في القصر (4): «هذه صدقة تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته».

لكنّه اختصّ عرفا

ص: 406


1- تنزيه الأنبياء: 57.
2- الزيوف جمع الزائف، و هو: الدرهم الردي ء المردود الذي دخله غشّ.
3- الأقط: الجبن.
4- أي: في قصر الصلاة في السفر.

بعطيّة يبتغى بها ثواب من اللّه. و تسميتهم ما هو فضل و زيادة صدقة، لا يلزمها صدقة حقيقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء. و قيل: كانت تحلّ لغير نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة يوسف [12]: الآيات 89 الى 92]

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [89] قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [90] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [91] قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [92] و لمّا رأى يوسف من عجزهم و تمسكنهم لم يتمالك إلّا أن عرّفهم نفسه و قالَ لهم استفهاما عن وجه القبح هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من إذلاله و إبعاده عن أبيه، و إلقائه في البئر، و الاجتماع على قتله، و بيعه بثمن بخس وَ أَخِيهِ من إفراده عن يوسف، و التفريق بينهما، حتّى صار ذليلا فيما بينكم، لا يستطيع أن يكلّمكم إلا بعجز و ذلّة إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، أو عاقبته. و إنّما قال ذلك تنصيحا لهم، و تحريضا على التوبة، و شفقة عليهم، لا معاتبة و تثريبا. و إنّما جهّلهم لأنّ فعلهم كان فعل الجهّال، أو لأنّهم كانوا حينئذ صبيانا مشرفين الحلم طيّاشين (1).

ص: 407


1- الطيّاش: من لا يقصد وجها واحدا لخفّة عقله.

و قيل: أعطوه كتاب يعقوب مضمونه: من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن إبراهيم خليل اللّه، إلى عزيز مصر. أمّا بعد، فإنّا أهل بيت موكّل بنا البلاء. أمّا جدّي، فشدّت يداه و رجلاه و رمي به في النار ليحرق، فنجّاه اللّه، و جعلت النار عليه بردا و سلاما. و أمّا أبي، فوضع السكّين على قفاه ليقتل، ففداه اللّه. فأمّا أنا، فكان لي ابن و كان أحبّ أولادي إليّ و قرّة عيني و ثمرة فؤادي، فذهب به إخوته إلى البرّيّة، ثمّ أتوني بقميصه ملطّخا بالدم، و قالوا: قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه. ثمّ كان لي ابن، و كان أخاه من أمّه، و كنت أتسلّى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا و قالوا: إنّه سرق، و إنّك حبسته عنّي و فجعتني به. و قد اشتدّ لفراقه حزني، حتّى تقوّس لذلك ظهري. و إنّا أهل بيت لا نسرق و لا نلد سارقا، فإن رددته عليّ و إلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، و السلام.

فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك و زال صبره، و وضعه على عينيه، و انتحب حتّى بلّت دموعه القميص الذي عليه. ثمّ أقبل عليهم فقال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون؟

قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير، و لذلك حقّق ب «إنّ» و دخول اللام عليه. و قرأ ابن كثير على الإيجاب (1). قيل: عرفوه بزيّه و شمائله حين كلّمهم به و قيل: تبسّم فعرفوه بثناياه، فإنّها كانت كاللؤلؤ المنظوم. و قيل: رفع التاج عن رأسه، فرأوا علامة بناصيته تشبه الشامة (2) البيضاء، و كانت لسارة و يعقوب مثلها.

قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي من أبي و أمّي. ذكره تعريفا لنفسه به، و تفخيما لشأنه، و إدخالا له في قوله:

قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالسلامة و الكرامة، و الاجتماع بعد طول الفرقة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ يخف اللّه وَ يَصْبِرْ على البليّات، أو على الطاعات

ص: 408


1- أي: إنّك، بدون همزة الاستفهام.
2- الشامة: الخال، أي: بثرة سوداء في البدن حولها شعر.

و عن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وضع «المحسنين» موضع الضمير للتنبيه على أنّ المحسن من جمع بين التقوى و الصبر.

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اختارك و فضّلك علينا بالحلم و العقل و العلم و الملك، و حسن الصورة و كمال السيرة وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ و الحال إنّ شأننا أنّا كنّا مذنبين عمدا بما فعلنا معك، فلا جرم أنّ اللّه أعزّك و أذلّنا.

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تعيير عليكم. تفعيل من الثرب، و هو الشحم الّذي يغشي الكرش. و معناه: إزالة الثرب، فاستعير للتقريع الّذي يمزّق العرض و يذهب ماء الوجه. الْيَوْمَ متعلّق بالتثريب، أو بالمقدّر للجارّ الواقع خبرا ل «لا تثريب».

و المعنى: لا أثرّبكم اليوم الّذي هو مظنّة التثريب، فما ظنّكم بسائر الأيّام؟! أو بقوله: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ لأنّه صفح عن جريمتهم حين اعترفوا بها.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظنّ خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم، و قد قدرت. فقال: أقول ما قال أخي يوسف: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ».

وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإنّه يغفر الصغائر و الكبائر، و يتفضّل على التائب.

و من جملة كرم يوسف أنّهم لمّا عرفوه أرسلوا إليه و قالوا: إنّك تدعونا بالبكرة و العشيّ إلى الطعام، و نحن نستحي منك لما فرط منّا فيك. فقال:

إنّ أهل مصر كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى، و يقولون: سبحان من بلّغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلّغ، و لقد شرّفت بكم و عظّمت في عيونهم حيث علموا أنّكم إخوتي، و أنّي من حفدة إبراهيم عليه السّلام.

[سورة يوسف [12]: الآيات 93 الى 98]

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [93] وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ

ص: 409

تُفَنِّدُونِ [94] قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [95] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [96] قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ [97]

قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [98]

و روي أنّه عليه السّلام لمّا عرّفهم نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي بعدي؟

قالوا: ذهبت عيناه. فقال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا و هو القميص الّذي كان عليه.

قيل: القميص المتوارث من إبراهيم الّذي كان في التعويذ. و هو الأصحّ. و هذا كان معجزا منه، إذ لا يعرف أنه يعود بصيرا بإلقاء القميص على وجهه إلّا بالوحي، كما قال مجاهد: إنّ جبرئيل أمره أن أرسل إليه قميصك، فإنّ فيه ريح الجنّة، لا يقع على مبتلى و لا سقيم إلّا صحّ و عوفي.

فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً يرجع ذا بصر، أو يأت أبي و هو بصير وَ أْتُونِي أنتم و أبي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ بنسائكم و ذراريكم و مواليكم.

قيل: يهودا هو حامل القميص، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطّخا بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته.

و قيل: حمله و هو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، و بينهما مسيرة ثمانين فرسخا، و كان معه سبعة أرغفة، فلم يستوف الأرغفة في الطريق.

وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ من مصر، و خرجت من عمرانها. يقال: فصل من البلد فصولا، إذا انفصل منه و جاوز حيطانه. قالَ أَبُوهُمْ لمن حضره من حفده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «وجد يعقوب ريح يوسف حين

ص: 410

فصلت العير من مصر و هو بفلسطين، من مسيرة عشرة ليال».

و عن ابن عبّاس:

مسيرة ثمان ليال. و عنه أيضا أنّ ريحا هاجت فحملت ريح يوسف من قميصه.

و ذكر أنّ الصبا استأذنت ربّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها، فأتته بها، و لذلك يتروّح كلّ محزون بريح الصبا.

فلمّا وصلت الريح إلى يعقوب قال: إنّي لأجد ريح يوسف لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ لو لا أن تنسبوني إلى الفند. و هو نقصان عقل يحدث من هرم، و لذلك لا يقال: عجوز مفنّدة، لأنّ نقصان عقلها ذاتيّ. و جواب «لولا» محذوف، تقديره:

لصدّقتموني، أو لقلت: إنّه قريب.

قالُوا أي: الحاضرون تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ لفي ذهابك عن الصواب قدما، بإفراط محبّتك ليوسف، و إكثار ذكره، و توقّعك للقائه، و كان عندهم أنّه قد مات.

فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ يهوذا أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً عاد بصيرا لما انتعش فيه من القوّة قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف و إنزال الفرج. و قيل: «إني أعلم» كلام مبتدأ، و المقول «لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ»، أو «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ».

روي: أنّه سأل البشير كيف يوسف؟ قال: هو ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك؟! على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال:

الآن تمّت النعمة.

و لمّا اجتمع الإخوة عند أبيهم قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ و من حقّ المعترف بذنبه أن يصفح عنه و يسأل له المغفرة.

قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أخّره إلى السحر، أو إلى صلاة الليل، أو إلى ليلة الجمعة، تحرّيا لوقت الإجابة، أو ليتعرّف حالهم في صدق التوبة و إخلاصها، أو إلى أن يستحلّ لهم يوسف، أو يعلم أنّه عفا عنهم، فإنّ

ص: 411

عفو المظلوم شرط المغفرة.

و قيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلمّا فرغ رفع يديه فقال: اللّهمّ اغفر لي جزعي على يوسف، و قلّة صبري عنه، و اغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم. فأوحي إليه: أنّ اللّه قد غفر لك و لهم أجمعين.

و روي: أنّهم قالوا ليعقوب و قد علتهم الكآبة: إن لم يوح إليك بالعفو عنّا فلا قرّت لنا عين أبدا. فاستقبل القبلة قائما يدعو، و قام يوسف خلفه يؤمّن، و قام إخوته خلفهما، أذلّة خاشعين عشرين سنة، حتّى بلغ جهدهم، و ظنّوا أنّ الهلكة وقعت عليهم. فنزل جبرئيل عليه السّلام: قد أجاب دعوتك في ولدك.

و روي: أنّ يوسف وجّه إلى أبيه جهازا و مائتي راحلة ليتجهّز إليه بمن معه، و خرج يوسف و الملك في أربعة آلاف من الجند، و العظماء و أهل مصر بأجمعهم، فلقوا يعقوب و هو يمشي يتوكّأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل و الناس، فقال يا يهوذا:

أ هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ولدك.

[سورة يوسف [12]: الآيات 99 الى 100]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [99] وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ

مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [100]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ فلمّا لقيه يعقوب و أهله في موضع خارج من

ص: 412

مصر أو في بيت هناك، قال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان.

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لما أقبل يعقوب إلى مصر خرج يوسف ليستقبله، فلمّا رآه همّ أن يترجّل له، ثمّ نظر إلى ما هو فيه من الملك فلم يفعل. فلمّا سلّم على يعقوب نزل عليه جبرئيل، فقال له: يا يوسف إنّ اللّه جلّ و علا يقول: منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ما أنت فيه، أبسط يدك، فبسطها فخرج من بين أصابعه نور، فقال:

ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا إنّه لا يخرج من صلبك نبيّ أبدا، عقوبة بما صنعت بيعقوب، إذ لم تنزل إليه».

و على تقدير صحّة هذه الرواية فالعتاب على يوسف لأجل ترك ندب و أدب صدر منه، لا ترك واجب، لمكان العصمة فيه.

قيل: إنّ يوسف قال له لمّا التقيا: يا أبت بكيت عليّ حتّى ذهب بصرك، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، و لكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني و بينك.

و قيل: إنّ يعقوب و ولده و سائر أهله دخلوا مصر، و هم اثنان و سبعون رجلا و امرأة، و كانوا حين خرجوا مع موسى ستّمائة ألف و خمسمائة و بضعة و ستّين رجلا، سوى الذرّيّة و الهرمى، و كانت الذرّيّة

ألف ألف و مائتي ألف.

و حين دخلوا على يوسف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمّ إليه أباه و خالته و اعتنقهما. نزّلها اللّه تعالى منزلة الأمّ تنزيل العمّ منزلة الأب في قوله: وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ (1). أو لأنّ يعقوب تزوّجها بعد أمّه، و الرابة تدعى أمّا.

وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من القحط و أصناف المكاره. و حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه. و المشيئة متعلّقة بالدخول المكيّف بالأمن.

ص: 413


1- البقرة: 133.

و لمّا دخلوا مصر عظّمهم و كرّمهم وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً تحيّة و تكرمة له، فإنّ السجود كان عندهم يجري مجراها. و قيل: معناه:

خرّوا لأجله سجّدا للّه شكرا. و قيل:

الضمير للّه تعالى، و الواو لأبويه و إخوته. و هذا مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قال عليّ بن إبراهيم: «حدّثني محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين أنّ يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمّد بن عليّ بن موسى مسائل، فعرضها على أبي الحسن عليّ بن محمّد عليه السّلام، فكان إحداها أن قال: أخبرني أسجد يعقوب و ولده ليوسف؟

فأجاب أبو الحسن عليه السّلام: أمّا سجود يعقوب و ولده فإنّه لم يكن ليوسف، و إنّما كان ذلك منهم طاعة للّه و تحيّة ليوسف، كما أنّ السجود من الملائكة لآدم كان منهم طاعة للّه و تحيّة لآدم، فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا للّه لاجتماع شملهم» (1).

وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ رأيتها أيّام الصبا قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي يقال: أحسن بي و إليّ، و أساء بي و إليّ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ و لم يذكر الجبّ لئلّا يكون تثريبا عليهم وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ من البادية، لأنّهم كانوا أصحاب المواشي و أهل البدو مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي أفسد بيننا و حرش، من: نزغ الرائض (2) الدابّة، إذا نخسها و حملها على الجري.

إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ لطيف في تدبير عباده، إذ ما من صعب إلّا و تنفذ فيه مشيئته و يتسهّل دونها إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح في تدابير العباد الْحَكِيمُ الّذي يفعل كلّ شي ء في وقته، و على وجه تقتضي الحكمة.

روي: أنّ يوسف عليه السّلام أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن .

ص: 414


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 356.
2- الرائض: الذي يعلّم الدوابّ السير و يذلّلها و يطوّعها.

الورق و الذهب و خزائن الحليّ و خزائن الثياب و خزائن السلاح، و غير ذلك. فلمّا أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنيّ ما أعقك! عندك هذه القراطيس و ما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبرئيل. قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط منّي إليه فاسأله. فقال جبرئيل: اللّه أمرني بذلك، لقولك: «وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ».

قال: فهلّا خفتني.

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قلت له: كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر؟ قال: عاش حولين. قلت: فمن كان الحجّة للّه في الأرض، يعقوب أم يوسف؟ قال: كان يعقوب الحجّة، و كان الملك ليوسف، فلمّا مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس، و كان يوسف بعد يعقوب الحجّة. قلت: و كان يوسف رسولا نبيّا؟ قال:

نعم، أما تسمع قوله عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ

جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ».

و في رواية اخرى: أنّ يعقوب أقام معه أربعا و عشرين سنة ثمّ مات، و أوصى أن يدفنه في الشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه و دفنه، ثمّ عاد إلى مصر، و عاش بعد أبيه ثلاثا و عشرين سنة.

و بالإسناد عن أبي خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دخل يوسف السجن و هو ابن اثنتي عشرة سنة، و مكث فيها ثماني عشرة سنة، و بقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك مائة و عشر سنين».

[سورة يوسف [12]: آية 101]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [101]

و لمّا جمع اللّه سبحانه له شمله، و أقرّ له عينه، و أتمّ له رؤياه، و وسّع عليه في

ص: 415

ملك الدنيا و نعيمها، علم أنّ ذلك لا يبقى له و لا يدوم، فطلب من اللّه سبحانه نعيما لا يفنى، و تاقت نفسه إلى الجنّة، فتمنّى الموت و دعا به، و لم يتمنّ ذلك من قبله و لا بعده أحد من الأنبياء، فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ بعض ملك الدنيا، و هو ملك مصر وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الكتب أو الرؤيا. و «من» أيضا للتبعيض، لأنّه لم يؤت كلّ التأويل.

فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما. و انتصابه على أنّه صفة المنادى، أو منادى برأسه. أَنْتَ وَلِيِّي ناصري، أو متولّي أمري فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ أو الّذي يتولّاني بالنعمة فيهما تَوَفَّنِي اقبضني عند انقضاء أجلي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي، أو بعامّة الصالحين في الرتبة و الكرامة.

روي أنّ يوسف لمّا توفّاه اللّه طيّبا طاهرا تخاصم أهل

مصر في مدفنه حتّى همّوا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر و يدفنوه في النيل بحيث يمرّ عليه الماء، ثمّ يصل إلى مصر، ليكونوا شرعا فيه. ثمّ نقله موسى عليه السّلام إلى مدفن آبائه. و قد ولد له من راعيل ميشا و أفرائيم. و هو جدّ يوشع بن نون و رحمة امرأة أيّوب عليه السّلام.

[سورة يوسف [12]: آية 102]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ [102]

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف. و الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو مبتدأ، و قوله: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبران له. و قوله: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ لدى إخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ كالدليل على هذين الخبرين.

و المعنى: أنّ هذا النبأ غيب لم تعرفه إلّا بوحي، لأنّك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما همّوا به من أن يجعلوه في غيابة الجبّ، و هم يمكرون به و بأبيه

ص: 416

ليرسله معهم، و من المعلوم الّذي لا يخفى على مكذّبيك أنّك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلّمته منه. و إنّما حذف هذا الشقّ استغناء بذكره في غير هذه القصّة، كقوله:

ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (1). و هذا تهكّم بقريش و بمن كذّبوه.

[سورة يوسف [12]: الآيات 103 الى 107]

وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [103] وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [104] وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [105] وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [106] أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [107]

و لمّا تقدّم ذكر الآيات و المعجزات الّتي لو تفكّروا فيها عرفوا الحقّ من جهتها فلم يتفكّروا، بيّن عقيبها أنّ التقصير من جهتهم حيث رضوا بالجهل، و ليس من جهته سبحانه، لأنّه نصب الأدلّة و البيّنات، و لا من جهتك، لأنّك دعوتهم، فقال:

وَ ما أَكْثَرُ

النَّاسِ يريد العموم. و عن ابن عبّاس: أراد أهل مكّة. وَ لَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم، و بالغت في إظهار الآيات عليهم بِمُؤْمِنِينَ لعنادهم، و تصميمهم على الكفر. و الشرطيّة معترضة.

وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على الأنباء، أو القرآن مِنْ أَجْرٍ جعل، كما يعطى حملة الأخبار، فيصدّهم ذلك عن الإيمان، فأعذارهم منقطعة إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة

ص: 417


1- هود: 49.

من اللّه لِلْعالَمِينَ عامّة.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ و كم من علامة و دلالة من الدلائل على وجود الصانع و حكمته، و كمال قدرته و توحيده فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الشمس و القمر، و السحاب و النجوم و الجبال، و الشجر و ألوان النبات، و أحوال المتقدّمين، و آثار الأمم السالفة في الأرض يَمُرُّونَ عَلَيْها على الآيات و يشاهدونها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها.

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ في إقرارهم بوجوده و خالقيّته إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ بعبادة غيره، أو باتّخاذ الأحبار أربابا، أو نسبة التبنّي إليه، أو القول بالنور و الظلمة، أو النظر إلى الأسباب كأهل التنجيم، أو الّذين يشبّهون اللّه بخلقه.

و قيل: هم مشركو مكّة. و قيل: المنافقون. و قيل: أهل الكتاب.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّه شرك الطاعة لا شرك العبادة، أطاعوا الشيطان في ارتكاب المعاصي».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في شأن رجل يقول: لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لضاع عيالي، جعل للّه شريكا في ملكه تعالى، يرزقه و يدفع عنه».

و روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «إنّه شرك لا يبلغ به الكفر».

أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ عقوبة تغشاهم و تشملهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ

بَغْتَةً فجأة من غير سابقة علامة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها، غير مستعدّين لها.

[سورة يوسف [12]: الآيات 108 الى 109]

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [108] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي

ص: 418

إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ [109]

قُلْ هذِهِ يعني: الدعوة إلى التوحيد و الإعداد للمعاد سَبِيلِي ثم فسّر السبيل بقوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ إلى توحيده و عدله. قيل: هو حال من الياء. عَلى بَصِيرَةٍ بيان و حجّة واضحة غير عمياء أَنَا تأكيد للمستتر في «أدعو» أو «على بصيرة». أو مبتدأ خبره «على بصيرة». وَ مَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه وَ سُبْحانَ اللَّهِ و أنزّه اللّه من الشركاء وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ و أنزّهه تنزيها من الشركاء.

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ردّ لقولهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً (1).

و قيل: معناه نفي استنباء النساء. نُوحِي إِلَيْهِمْ كما يوحى إليك، و يميّزون بذلك عن غيرهم. و قرأ حفص: نوحي، في كلّ القرآن. و وافقه حمزة و الكسائي في سورة الأنبياء (2). مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأنّ أهلها أعلم و أحلم من البدو، و أهل البوادي من أهل الجفاء و القسوة.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذّبين بالرسل و الآيات، فيحذروا تكذيبك. أو من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها، فيقلعوا عن حبّها وَ لَدارُ الْآخِرَةِ و لدار الحال، أو الساعة، أو الحياة الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و المعاصي أَ فَلا تَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم ليعرفوا أنّها خير.

ص: 419


1- فصّلت: 14.
2- الأنبياء: 7.

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «شي ء يسير من الجنّة خير من الدنيا و ما فيها».

و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالتاء، حملا على قوله: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي»، أي: قل لهم: أ فلا تعقلون.

[سورة يوسف [12]: الآيات 110 الى 111]

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [110] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [111]

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الرسل مع أممهم تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ غاية محذوف دلّ عليه الكلام، أي: لا يغررهم تمادي أيّامهم، فإنّ من قبلهم أمهلوا حتّى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا، أو عن إيمانهم، لانهماكهم في الكفر، مترفّهين متمادين فيه من غير مانع. أو التقدير: و ما أرسلنا قبلك إلّا رجالا قد تأخّر نصرنا إيّاهم، كما أخّرناه عن هذه الأمّة، حتّى إذا استيأس الرسل.

وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي: كذّبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنّهم ينصرون. أو كذّبهم القوم بوعد الإيمان. و قيل: الضمير للمرسل إليهم، أي: و ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذّبوهم بالدعوة و الوعيد. و قيل: الأوّل للمرسل إليهم، و الثّاني للمرسل، أي: و ظنّوا أن الرسل قد كذبوا و أخلفوا فيما وعد لهم من النصر، و خلط الأمر عليهم.

ص: 420

و ما روي عن ابن عبّاس: أنّ الرسل ظنّوا أنّهم أخلفوا ما

وعدهم اللّه من النصر، إن صحّ فقد أراد بالظنّ ما يخطر بالبال و يهجس في القلب من شبه الوسوسة و حديث النفس على ما عليه البشريّة، و أما الظنّ الّذي هو ترجيح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل اللّه الّذين هم أعرف الناس بربّهم، و أنّه متعال عن خلف الميعاد، منزّه عن كلّ قبيح؟! و قرأ غير الكوفيّين بالتشديد، أي: و ظنّ الرسل أنّ القوم قد كذّبوهم فيما أوعدوهم.

جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ النبيّ و المؤمنين. و إنّما لم يعيّنهم للدلالة على أنّهم الّذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم، لا يشاركهم فيه غيرهم. و قرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب: فنجّي (1)، على لفظ الماضي المبنيّ للمفعول. وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا نزل بهم.

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ في قصص الأنبياء و أممهم، أو في قصّة يوسف و إخوته عِبْرَةٌ و بصيرة و موعظة لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول المبرّأة عن الشوائب، و الركون إلى الحسّ و سائر الأغراض، فإنّ من تفكّر بالعقل الخالص أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقرأ كتابا، و لا سمع حديثا، و لا خالط أهله، ثمّ حدّثهم به في حسن نظمه و معانيه بحيث لم يقدر أحد من إتيان مثل ذلك، لعلم أنّه أوضح برهان على صحّة نبوّته.

ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ما كان القرآن حديثا مفترى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهيّة وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه في الدين، إذ ما من أمر دينيّ إلا و له سند من القرآن، فإنّه القانون الّذي يستند إليه السنّة و الإجماع و القياس المنصوص العلّة وَ هُدىً

من الضلال وَ رَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقونه. إنّما خصّهم بذلك لأنّهم المنتفعون به دون غيرهم.

ص: 421


1- و في قراءة اخرى: فننجّي، على لفظ المضارع.

ص: 422

[13] سورة الرعد

اشارة

مكّيّة، و هي ثلاث و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الرعد اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى و كلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، و كان يوم القيامة من الموفين بعهد اللّه تعالى».

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من أكثر قراءة الرعد لم يصبه اللّه بصاعقة أبدا، و إن كان مؤمنا أدخل الجنّة بغير حساب، و شفع في جميع من يعرف من أهل بيته و إخوانه».

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة يوسف عليه السّلام بذكر قصص الأنبياء عليهم السّلام، افتتح هذه السورة بأنّ جميع ذلك آيات الكتاب، و أنّ الّذي أنزله هو الحقّ، فقال:

[سورة الرعد [13]: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر قد فسّرناه في أوّل سورة البقرة، و بيّنّا ما

ص: 423

قيل فيه. روي أن معناه: أنا اللّه أعلم و أرى. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني بالكتاب السورة. و «تلك» إشارة إلى آياتها، أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة، أو القرآن.

وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و هو القرآن. و محلّه الجرّ بالعطف على الكتاب، عطف العامّ على الخاصّ، أو عطف إحدى الصفتين على الأخرى. أو الرفع بالابتداء، و خبره الْحَقُ و الجملة كالحجّة على الجملة الأولى. و على الأوّل خبر مبتدأ محذوف، أي: الآيات الجامعة للوصفين هي الحقّ. و تعريف الخبر و إن دلّ على اختصاص المنزل بكونه حقّا، فهو أعمّ من المنزل صريحا أو ضمنا، كالمثبت بالقياس المنصوص العلّة و الإجماع، و غير ذلك ممّا نطق المنزل

بحسن اتّباعه. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لإخلالهم بالتأمّل و النظر فيه.

[سورة الرعد [13]: الآيات 2 الى 4]

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [2] وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [3] وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [4]

ص: 424

و لمّا ذكر سبحانه أنّهم لا يؤمنون، بيّن الدليل الّذي يوجب التصديق بالخالق، فقال: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ مبتدأ و خبر. و يجوز أن يكون الموصول صفة، و الخبر «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ». بِغَيْرِ عَمَدٍ أساطين (1). جمع عماد، كإهاب و أهب. أو جمع عمود، كأديم و أدم. تَرَوْنَها صفة ل «عمد». أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك.

و هو دليل على وجود الصانع الحكيم، فإنّ ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرميّة، و اختصاصها بما يقتضي ذلك، لا بدّ و أن يكون بمخصّص ليس بجسم و لا جسماني، يرجّح بعض الممكنات على بعض بإرادته.

و على هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات الآتية.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بالحفظ و التدبير. و قد مضى (2) تفسير استوائه على العرش غير مرّة.

وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذلّلهما لما أراد منهما، كالحركة المستمرّة على حدّ معيّن من السرعة تنفع في حدوث الكائنات و بقائها كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدّة معيّنة يتمّ

فيها أدواره. أو لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره، و هي: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (3).

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر ملكوته و أمور خلقه، من الإيجاد و الإعدام و الإحياء و الإماتة، و غير ذلك، على الوجه الّذي توجبه الحكمة يُفَصِّلُ الْآياتِ يبيّنها مفصّلة في كتبه المنزلة، أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لكي تتفكّروا فيها، و تتحقّقوا كمال قدرته، فتعلموا أنّ من قدر على خلق

ص: 425


1- في هامش النسخة الخطّية: «أساطين جمع أسطون، معرّب ستون. منه».
2- راجع ج 2 ص 531.
3- التكوير: 1- 2.

هذه الأشياء و تدبيرها قدر على الإعادة و الجزاء، و أنّ هذا المدبّر و المفصّل لا بدّ لكم من الرجوع إليه.

وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولا و عرضا لتثبت عليها الأقدام، و يتقلّب عليها الحيوان وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، من: رسا الشي ء إذا ثبت، جمع راسية. و التاء للتأنيث، على أنّها صفة أجبل، أو للمبالغة. وَ أَنْهاراً ضمّها إلى الجبال، لأنّ الجبال أسباب لتولّدها.

وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلّق بقوله: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: و جعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين اثنين، كالحلو و الحامض، و الأسود و الأبيض، و الرطب و اليابس، و الصغير و الكبير، و ما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. و ذكر «اثنين» للتأكيد.

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يلبس ظلمة الليل ضياء النهار، فيصير الجوّ مظلما بعد ما كان مضيئا. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر: يغشّي بالتشديد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها، فإنّ تكوّنها و تخصّصها بوجه دون وجه دليل على وجود الصانع الحكيم الّذي دبّر أمرها و هيّأ أسبابها.

وَ فِي الْأَرْضِ

قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متقاربة، بعضها طيّبة، و بعضها سبخة، و بعضها رخوة، و بعضها صلبة، و بعضها يصلح للزرع دون الشجر، و بعضها بالعكس، و لو لا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه لم تكن كذلك، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضيّة، و ما يلزمها و يعرض لها بتوسّط ما يعرض من الأسباب السماويّة، من حيث إنّها متضامّة متشاركة في النسب و الأوضاع.

وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ أي: و بساتين فيها أنواع الأشجار و الزروع. و توحيد الزرع لأنّه مصدر في أصله. صِنْوانٌ نخلات أصلها واحد،

ص: 426

فإنّها جمع صنو (1)، و هي النخلة الّتي لها رأسان و أصلهما واحد وَ غَيْرُ صِنْوانٍ و متفرّقات مختلفات الأصول. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب و حفص: زرع و نخيل و صنوان و غير صنوان بالرفع عطفا على «جنّات». و قرأ حفص: صنوان بالضمّ. و هو لغة تميم، كقنوان (2) جمع قنو.

يُسْقى ما ذكر من الأعناب و الزروع و النخيل المختلفة بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ في الثمر شكلا و قدرا و رائحة و طعما. و ذلك أيضا من أوضح الدلالات على الصانع الحكيم، فإنّ اختلافها مع اتّحاد الأصول و الأسباب لا يكون إلّا بتخصيص قادر مختار. و قرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب:

يسقى بالتذكير، على تأويل: ما ذكر. و قرأ حمزة و الكسائي: يفضّل بالياء، ليطابق قوله: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ».

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالتفكّر فيها، و يستدلّون بها.

روي عن جابر قال: «سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لعليّ عليه

السّلام: الناس من شجر شتّى، و أنا و أنت من شجرة واحدة. و قرأ: وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ الآية».

[سورة الرعد [13]: الآيات 5 الى 7]

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

ص: 427


1- الصنو: إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو، و جمعها: صنوان.
2- القنو: العذق، و هو من النخل كالعنقود من العنب، و جمعه: قنوان.

فِيها خالِدُونَ [5] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [6] وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [7]

و لمّا تقدّم ذكر الأدلّة على أنّه سبحانه قادر على الإنشاء و الإعادة، عقّبه بالتعجّب من تكذيبهم بالبعث و النشور، فقال: وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من قول هؤلاء الكفّار في إنكارهم البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي:

حقيق بأن يتعجّب منه، فإنّ من قدر على إنشاء ما قصّ عليك من الصنائع العجيبة و الفطرة البديعة، و لم يعي بخلقهنّ، كانت الإعادة أهون شي ء عليه و أيسره. و الآيات المعدودة كما هي دالّة على وجود المبدأ، فهي دالّة على إمكان الإعادة، من حيث إنّها تدلّ على كمال علمه و قدرته، و قبول الموادّ لأنواع تصرّفاته.

و قوله: أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بدل من «قولهم»، أو مفعول له.

و الفاعل في «إذا» محذوف دلّ عليه «أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ». و معناه: أنبعث

و نعاد بعد ما صرنا ترابا؟! هذا ممّا لا يمكن. و هذا القول منهم نهاية في الأعجوبة، فإنّ الماء إذا حصل في الرحم استحال علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما، فإذا مات و دفن استحال ترابا، فإذا جاز أن يتعلّق الإنشاء بالاستحالة الأولى، فلم لا يجوز تعلّقه بالاستحالة الثانية؟! أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أولئك المتمادون في كفرهم الكاملون فيه، لأنّهم كفروا بقدرته على البعث مع وجود هذه الدلالات الواضحة على صحّته

ص: 428

وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مقيّدون بالضلال تخلية و خذلانا، لا يرجى خلاصهم. أو يغلّون يوم القيامة. وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا ينفكّون عنها. و توسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفّار.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعقوبة قبل العافية، و ذلك أنّهم استعجلوا ما هدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاء وَ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ العقوبات لأمثالهم من المكذّبين، فما لهم لم يعتبروا بها، و لم يجوّزوا حلول مثلها عليهم؟! و المثلة- بفتح الثاء و ضمّها، كالصدقة و الصدقة-: العقوبة، لما بين العقاب و المعاقب عليه من المماثلة وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (1). و منه المثال للقصاص. يقال: أمثلت الرجل من صاحبه، إذا اقتصصته منه.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أي: ظلمهم أنفسهم بالذنوب.

و محلّه النصب على الحال، بمعنى: ظالمين لأنفسهم. و العامل فيه المغفرة. و التقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة، فإنّ التائب ليس على ظلمه، كما قال المرتضى قدّس سرّه: في هذا دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين، لأنّ قوله: «على ظلمهم» إشارة إلى الحال الّتي يكونون فيها ظالمين.

و من منع ذلك خصّ الظلم بالصغائر المكفّرة لمجتنب الكبائر، أو أوّل المغفرة بالستر و الإمهال.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ للكفّار، أو لمن يشاء قبل التوبة.

و عن سعيد بن المسيّب: لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو لا عفو اللّه و تجاوزه لما هنأ أحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لاتّكل كلّ أحد».

و تلا مطرف يوما هذه الآية فقال: لو يعلم الناس قدر رحمة اللّه و مغفرة اللّه و عفو اللّه و تجاوز اللّه لقرّت أعينهم، و لو يعلم الناس قدر عذاب اللّه و بأس اللّه و نكال

ص: 429


1- الشورى: 40.

اللّه و نقمة اللّه ما رقأ (1) لهم دمع، و لا قرّت أعينهم بشي ء.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه، و اقتراحهم لنحو ما أوتي موسى و عيسى عليهما السّلام، من نحو تفجير العيون، و إحياء الموتى، و جعل الصفا ذهبا، و غير ذلك.

و لا يخفى على من له أدنى مسكة أنّ الآيات متساوية في حصول صحّة الدعوى بها، فلذا خاطبه اللّه سبحانه بقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل للإنذار من سوء العاقبة كغيرك من الرسل، و ما عليك إلا الإتيان بما يصحّ به أنّك رسول منذر، من جنس المعجزات، لا بما يقترح عليك.

وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ عطف على «منذر» أي: إنّما أنت لكلّ قوم هاد، لأنّك مبعوث إلى الناس جميعا إلى يوم القيامة. أو يكون «هاد» مبتدأ و «لكلّ قوم» خبره.

و معناه: لكلّ أمّة من الأمم نبيّ مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم، يهديهم إلى الحقّ، و يدعوهم إلى الصواب، و لم يجعل اللّه الأنبياء شرعا سواء في الآيات و المعجزات. أو قادر على هدايتهم، و هو اللّه.

و قرأ ابن كثير: هاد، و وال (2)، و واق « (3)»، وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (4) بالتنوين في الوصل، و إذا وقف وقف بالياء في هذه الأربعة الأحرف حيث وقعت لا غير.

و الباقون يصلون بالتنوين، و يقفون بغير ياء.

عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت هذه الآية قال رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا المنذر، و عليّ الهادي من بعدي، يا عليّ بك يهتدي المهتدون».

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن .

ص: 430


1- رقأ الدمع: جفّ و انقطع.
2- الرعد: 11.
3- الرعد: 34.
4- النحل: 96.

أبي إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن حكيم بن جبير، عن أبي بردة الأسلمي، قال: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالطهور و عنده عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بعد ما تطهّر فألزقها بصدره، ثمّ قال: إنّما أنت منذر. ثمّ ردّها إلى صدر عليّ، ثم قال: لكلّ قوم هاد. ثمّ قال: إنّك منارة الأنام، و غاية الهدى، و أمير القرّاء، و أشهد على ذلك أنّك كذلك يا عليّ» (1).

[سورة الرعد [13]: الآيات 8 الى 11]

اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [8] عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [9] سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ [10] لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [11]

ثمّ أردف اللّه سبحانه ذلك بما يدلّ على كمال علمه و قدرته، و شمول قضائه و قدره، تنبيها على أنّه قادر على إنزال ما اقترحوه، و إنّما لم ينزل لعلمه بأنّ اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد، و أنّه قادر على هدايتهم جبرا و قسرا، و إنّما لم يهدهم لعلمه بمنافاة الجبر للتكليف الّذي مناطه الاختيار، فقال: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى «ما» مصدريّة أو موصولة، أي: يعلم حملها، أو ما تحمله على أيّ حال،

ص: 431


1- شواهد التنزيل 1: 301 ح 414.

ذكورة و أنوثة، و تماما و خداجا (1)، و حسنا و قبحا، و طولا و قصرا، و غير ذلك من الأحوال الحاضرة و المترقّبة.

وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ نقصها و ازديادها. أو ما تنقصه و ما تزداده في الجنّة، و المدّة، و أقصى مدّة الحمل و أقلّها، و عدد الولد، فإنّ الرحم يشتمل على واحد و اثنين و ثلاثة و أكثر. و قال الشافعي: أخبرني شيخ باليمن أنّ امرأته ولدت بطونا، في كلّ بطن خمسة. و قيل: المراد نقصان دم الحيض و ازدياده.

و «غاض» جاء متعدّيا و لازما. يقال: غاض الماء و غضته أنا. و منه:

وَ غِيضَ الْماءُ (2). و كذا: ازداد. يقال: زدته فزاد بنفسه، و ازداد، و ازددت منه كذا.

و منه: قوله تعالى: وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (3). فإن جعلتهما لازمين تعيّن أن تكون «ما» مصدريّة. و إسنادهما إلى الأرحام على المجاز، من قبيل تسمية الشي ء بما

يجاوره، أو تسمية المحاط بما يحيط به.

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ بقدر لا يجاوزه و لا ينقص عنه، كقوله تعالى:

إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (4)، فإنّه تعالى خصّ كلّ حادث بوقت و حال معيّنين، و هيّأ له أسبابا مسوقة إليه، تقتضي ذلك على ما توجبه الحكمة.

عالِمُ الْغَيْبِ الغائب عن الحسّ وَ الشَّهادَةِ الحاضر له الْكَبِيرُ العظيم الشأن، الّذي لا يخرج عن علمه شي ء الْمُتَعالِ المستعلي على كلّ شي ء بقدرته. أو الّذي كبر عن نعت المخلوقين و تعالى عنه.

ص: 432


1- خدجت الدابّة: ألقت ولدها ناقص الخلق أو قبل تمام الأيّام. فهي خادج، و ولدها خدوج، و جمعه خداج.
2- هود: 44.
3- الكهف: 25.
4- القمر: 49.

ثمّ قرّر كمال علمه و شموله بقوله: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ طالب للخفاء في مختبأ بالليل و مظلمة وَ سارِبٌ و ذاهب في سربه بالفتح، أي: في طريقه. يقال: سرب في الأرض سروبا، إذا برز في ذهابه، أي: بارز في الذهاب بِالنَّهارِ بحيث يراه كلّ أحد. فهو عطف على «من» أو «مستخف»، على أنّ «من» في معنى الاثنين، كأنّه قال: سواء منكم اثنان مستخف بالليل و سارب بالنهار.

لَهُ لمن أسرّ أو جهر أو استخفى أو سرب مُعَقِّباتٌ ملائكة تعتقب في حفظه. جمع معقّبة، من: عقّبه مبالغة: عقبه، إذا جاء على عقبه، كأنّ بعضهم يعقّب بعضا، أو لأنّهم يعقّبون أقواله و أفعاله، فيكتبونها و يحفظونها. أو من: اعتقب، فأدغمت التاء في القاف. و التاء للمبالغة، أو لأنّ المراد بالمعقّبات جماعات.

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ من جوانبه، أو من الأعمال ما قدّم و أخّر يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

من بأسه و نقمته متى أذنب باستمهالهم، أي: مسألتهم ربّهم أن يمهله رجاء أن يتوب و ينيب. أو استغفارهم له. أو يحفظونه من المضارّ. قال كعب: لو لا أنّ اللّه و كلّ بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم و مشربكم و عوراتكم، لتخطّفتكم الجنّ. أو يراقبون أحواله من أجل أمر اللّه تعالى.

و عن الحسن:

هم أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. و هو معنى قوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (1). و قد روي ذلك أيضا عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن ابن جبير و قتادة و مجاهد: أنّها الملائكة يتعاقبون، تعقّب ملائكة الليل ملائكة النهار، و ملائكة النهار ملائكة الليل، و هم الحفظة، يحفظون على العبد عمله.

و قيل: إنّهم الأمراء و الملوك في الدنيا، الّذين يمنعون الناس عن المظالم،

ص: 433


1- الإسراء: 78.

و يكون لهم الأحراس و الشرط يحفظونهم. و هذا مرويّ عن عكرمة، و مرويّ عن ابن عبّاس أيضا. و تقديره: و من هو سارب بالنهار، له أحراس و أعوان يحرسونه.

و قيل: «من» بمعنى الباء. و قيل: «من أمر اللّه» صفة ثانية ل «معقّبات».

إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية و النعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة.

عن ابن عبّاس: إذا أنعم اللّه على قوم فشكروها زادهم، و إذا كفروا سلبهم.

و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: «إذا أقبلت عليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر».

وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فلا رادّ له. و العامل في «إذا» ما دلّ عليه الجواب. وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ممّن يلي أمرهم، فيدفع عنهم السوء.

[سورة الرعد [13]: الآيات 12 الى 15]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [12] وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [13] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [14] وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ [15]

ص: 434

ثمّ أخبره سبحانه و تعالى عن كمال قدرته، فقال: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من أذاه وَ طَمَعاً في الغيث. و انتصابهما على العلّة بتقدير المضاف، أي:

إرادة خوف و طمع، أو بتأويلهما بالإخافة و الإطماع. أو على الحال من البرق، كأنّه في نفسه خوف و طمع، أو المخاطبين على إضمار «ذو». أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. و قيل: يخاف المطر من يضرّه، و يطمع فيه من ينفعه.

وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الغيم المنسحب في الهواء الثِّقالَ بالماء. و هو جمع ثقيلة. يقال: سحابة ثقيلة و سحاب ثقال، كما يقال: امرأة كريمة و نساء كرام. و إنّما وصف به السحاب، لأنّه اسم جنس في معنى الجمع.

وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ و يسبّح سامعوه بِحَمْدِهِ ملتبسين به، فيضجّون ب «سبحان اللّه و الحمد للّه». و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يقول: «سبحان من يسبّح الرّعد بحمده».

و عن علي عليه السّلام أنّه كان يقول: «سبحان من سبّحت له إذا اشتدّ الرعد».

أو يدلّ الرعد بنفسه على وحدانيّته تعالى و كمال قدرته، ملتبسا بالدلالة على فضله و نزول رحمته.

و عن ابن عبّاس: أنّ اليهود سألت

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك موكّل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب».

و المخاريق: جمع مخراق، و هو الخشب، أو الخرقة الملفوفة الّتي يلعب بها الصبيان. و المراد هنا آلة يزجر بها الملائكة ليسوقه.

و قالت المتصوّفة: الرعد صعقات الملائكة، و البرق زفرات أفئدتهم، و المطر بكاؤهم.

وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ من خوف اللّه تعالى و إجلاله. و قيل: الضمير للرعد.

وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث يكذّبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يصفه به من كمال العلم و القدرة، و التفرّد

ص: 435

بالألوهيّة، و إعادة الناس و مجازاتهم.

و الجدال التشدّد في الخصومة، من الجدل (1)، و هو الفتل. و الواو إمّا لعطف الجملة على الجملة، أو للحال، فإنّه

روي: «أنّ عامر بن الطفيل و أربد بن ربيعة أخا لبيد و فدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قاصدين لقتله، فأخذه عامر بالمجادلة، و دار أربد من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبّه له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: اللّهمّ اكفنيهما بما شئت.

فأرسل اللّه تعالى على أربد صاعقة فقتلته، و رمى عامرا بغدّة فمات في بيت سلوليّة. و كان يقول: غدّة كغدّة البعير، و موت في بيت سلوليّة. فنزلت هذه الآية».

و الغدّة طاعون الإبل، قلّما سلم منه. و سلوليّة امرأة من قبيلة بني سلول، و هم موصوفون بالذلّ.

وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ شديد المماحلة و المماكرة و المكائدة لأعدائه، من:

محل بفلان، إذا كايده و عرّضه للهلاك. و منه: تمحّل إذا تكلّف استعمال الحيلة.

و لعلّ أصله المحل، بمعنى القحط.

و المعنى: أنّه شديد المكر بأعدائه، يأتيهم بالهلاك من حيث لا يحتسبون.

و قيل: فعال من المحل بمعنى القوّة.

و قيل: مفعل من الحول أو الحيلة، أعلّ على غير قياس.

و يجوز أن يكون بمعنى شديد الفقار، فيكون مثلا في القوّة و القدرة، كقولهم:

فساعد اللّه أشدّ، و موساه (2) أحدّ.

و ما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام معناه: شديد الأخذ،

و عن قتادة: شديد القوّة، يقوّي القولين الأخيرين.

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ الدعاء الحقّ، فإنّه الّذي يحقّ أن يعبد، أو يدعى إلى

ص: 436


1- جدل الحبل: فتله، أي: لواه.
2- الموسى: آلة من فولاذ يحلق بها.

عبادته دون غيره. أوله الدعوة المجابة، فإنّ من دعاه أجابه. و يؤيّده ما بعده.

و الحقّ على الوجهين ما يناقض الباطل. و إضافة الدعوة إليه لكونها مختصّة به، و بينهما ملابسة، و هو بمعزل عن الباطل. أو على تأويل دعوة المدعوّ الحقّ الّذي يسمع و يجيب.

و عن الحسن: الحقّ هو اللّه، و كلّ دعاء إليه دعوة الحقّ. و عن ابن عبّاس: أنّ دعوة الحقّ هي كلمة التوحيد.

و المراد بالجملتين إن كانت الآية عامّة، وعيد الكفرة على مجادلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحلول محاله بهم، و تهديدهم بإجابة دعاء الرسول عليهم. أو المراد بيان ضلالهم و فساد رأيهم. و إن كانت في عامر و أربد، فالمراد أنّ إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من اللّه، و إجابة لدعوة رسوله.

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: يدعوهم المشركون، فحذف الراجع. أو و المشركون الّذين يدعون الأصنام، فحذف المفعول، لدلالة «من دونه» عليه. لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ من الطلبات إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي: إلّا استجابة كاستجابة الماء من بسط كفّيه إليه لِيَبْلُغَ

فاهُ يطلب منه أن يبلغه وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ لأنّه جماد لا يشعر بدعائه، و لا ببسط كفّيه، و لا بعطشه و حاجته إليه، و لا يقدر على إجابته و الإتيان بغير ما جبل عليه. و كذلك ما يدعونه من جماد، فإنّه جماد لا يحسّ بدعائهم، و لا يستطيع إجابتهم، و لا يقدر على نفعهم.

و قيل: شبّهوا في قلّة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسط كفّيه ليشربه ناشرا أصابعه، فلم تلق كفّاه منه شيئا، و لم يبلغ طلبته من شربه.

وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ إلّا في ضياع و خسار و باطل.

وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً طائعين و كارهين، أو

ص: 437

لطوعهم و لكراهتهم. و يحتمل أن يكون السجود على حقيقته، فإنّه يسجد له الملائكة و المؤمنون من الثقلين طوعا حالتي الشدّة و الرخاء، و الكفرة كرها حال الشدّة و الضرورة، فإنّهم لا يمكنهم أن يمتنعوا من الخضوع للّه تعالى، لما يحلّ بهم من الآلام و الأسقام.

وَ ظِلالُهُمْ و يسجد له ظلال من فيهما بالعرض. و أن يراد بالسجود انقيادهم لإحداث ما أراده منهم من أفعاله، شاؤا أو كرهوا، و انقياد ظلالهم لتصريفه إيّاها بالمدّ و التقليص على وفق مشيئته.

و قوله: بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ظرف ل «يسجد». و المراد بهما الدوام. أو حال من الظلال. و تخصيص الوقتين لأنّ الامتداد و التقلّص أظهر فيهما. و الغدوّ جمع غداة، كقنيّ جمع قناة. و الآصال جمع اصيل. و هو ما بين العصر و المغرب. و قيل: الغدوّ مصدر.

[سورة الرعد [13]: آية 16]

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا

يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [16]

لمّا بيّن سبحانه في الآية الأولى أنّه المستحقّ للعبادة، و أنّ له من في السماوات و الأرض، عقّبه بما يجري مجرى الحجّة على ذلك، فقال: قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و مدبّرهما و متولّي

ص: 438

أمرهما، فإذا استعجم (1) عليهم الجواب، و لم يمكنهم أن يقولوا: الأصنام قُلِ اللَّهُ أجب عنهم بأنّ ربّهما اللّه، إذ لا جواب لهم سواه، و لأنّه البيّن الّذي لا مراء فيه. أو لقّنهم الجواب به.

قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: ألزمهم بأن اتّخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل، فإنّهم لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لا يقدرون أن يجلبوا إليها نَفْعاً وَ لا ضَرًّا و لا يدفعوا عنها ضرّا، فكيف يستطيعون إنفاع الغير و دفع الضرّ عنه، و قد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب؟ فما أبين ضلالتكم! و هو دليل ثان على ضلالهم و فساد رأيهم في اتّخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم.

ثمّ ضرب سبحانه لهم مثلا بعد إلزام الحجّة، فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى أي: المشرك الجاهل بحقيقة العبادة و الموجب لها. و قيل: المعبود الغافل عنكم.

وَ الْبَصِيرُ و الموحّد العالم بذلك، أو المعبود المطّلع على أحوالكم.

ثمّ زاد في الإيضاح بقوله: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ الشرك و التوحيد. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالياء.

أَمْ جَعَلُوا الهمزة للإنكار، أي: بل أ جعلوا لِلَّهِ شُرَكاءَ؟ و قوله: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة ل «شركاء»

داخلة في حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ خلق اللّه و خلقهم.

و المعنى: أنّهم ما اتّخذوا للّه شركاء خالقين مثله حتّى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق اللّه، حتّى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر اللّه عليه، فاستحقّوا العبادة كما استحقّها. و لكنّهم اتّخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا عمّا يقدر عليه الخالق.

قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا خالق غيره فيشاركه في العبادة. جعل الخلق

ص: 439


1- أي: صعب و استبهم، أو عجزوا عن الجواب.

موجب العبادة و لازم استحقاقها، ثم نفاه عمّن سواه، ليدلّ على قوله: وَ هُوَ الْواحِدُ المتوحّد بالألوهيّة و الربوبيّة الْقَهَّارُ الغالب على كلّ شي ء، و ما عداه مربوب مقهور.

استدلّت المجبّرة بقوله: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» على أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه، لأنّ ظاهر العموم يقتضي دخول أفعال العباد فيه. و بقوله: «أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ». قالوا: لأنّه أنكر أن يكون خالق خلق كخلقه.

و أجيبوا عن ذلك: بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار، و لو كان المراد ما قالوا لكان فيها حجّة لهم على اللّه، لا له عليهم، لأنّه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو اللّه، فلا يتوجّه التوبيخ إلى الكفّار، و لا يلحقهم اللوم بذلك، بل يكون لهم أن يقولوا: إنّك خلقت فينا ذلك، فلم توبّخنا على فعل فعلته فينا؟ فيبطل حينئذ فائدة الآية. و أيضا عند الأكثر معنى الخلق الاختراع، و لا يقدر العباد عليه، و ما أسند إلى العباد هو الفعل و الإحداث.

[سورة الرعد [13]: الآيات 17 الى 18]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [17] لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ [18]

ص: 440

ثمّ ضرب سبحانه مثلين للحقّ و أهله و الباطل و أهله، فقال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من السحاب، أو من جانب السماء، أو من السماء نفسها، فإنّ المبادئ منها ماءً مطرا فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أنهار. جمع واد. و هو الموضع الّذي يسيل الماء فيه بكثرة، فاتّسع فيه و استعمل للماء الجاري فيه. و تنكيرها لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع، فيسيل بعض الأودية دون بعض.

بِقَدَرِها بمقدارها الّذي علم اللّه تعالى أنّه نافع غير ضارّ. أو بمقدارها في الصغر و الكبر، أي: الصغير على قدره و الكبير على قدره، فسال كلّ نهر بقدره فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رفعه. و الزبد و ضر (1) الغليان رابِياً أي: منتفخا مرتفعا.

فشبّه سبحانه الحقّ و الإسلام بالماء الصافي النافع، و الباطل بالزبد الذاهب غير النافع.

ثمّ ذكر المثل الآخر بقوله: وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ عبارة جامعة لأنواع الفلزّات، كالذهب و الفضّة و الحديد و النحاس، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به، كما هو هجّير (2) الملوك ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب حليّ أَوْ مَتاعٍ كالأواني و آلات الحرب و الحرث. و المقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ أي: و ممّا يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء، و هو خبثه. و «من» للابتداء أو للتبعيض. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالياء،

على أنّ الضمير للناس.

و إضماره للعلم به.

كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ مثّل الحقّ و الباطل، فإنّه مثّل الحقّ في إفادته و ثباته بالماء الّذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة و المصلحة، فينتفع به أنواع المنافع، و يمكث في الأرض، بأن يثبت بعضه في

ص: 441


1- الوضر: خبث الغليان، و وسخ الدسم.
2- الهجّير: العادة و الدأب.

مناقعه (1)، و يسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون و القنيّ و الآبار. و بالفلزّ الّذي ينتفع به في صوغ الحليّ، و اتّخاذ الأمتعة المختلفة، و يدوم ذلك مدّة متطاولة. و مثّل الباطل في قلّة نفعه و سرعة زواله بزبدهما.

و بيّن ذلك بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يجفأ به، أي: يرمي به السيل أو الفلزّ المذاب. و انتصابه على الحال. وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ كالماء الصافي و خلاصة الفلزّ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ينتفع به أهلها كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لإيضاح المشتبهات.

لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا للمؤمنين الّذين استجابوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي:

الاستجابة الحسنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ و هم الكفرة. و اللام متعلّقة ب «يضرب»، على أنّه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما.

قال قتادة: هذه ثلاثة أمثال ضربها اللّه تعالى في مثل واحد. شبّه نزول القرآن بالماء الّذي ينزل من السماء، و شبّه القلوب بالأودية و الأنهار. فمن استقصى في تدبّره و تفكّر في معانيه أخذ حظّا عظيما منه، كالنهر الكبير الّذي يأخذ الماء الكثير.

و من رضي بما أدّاه إلى التصديق بالحقّ على الجملة، كان أقلّ حظّا منه، كالنهر الصغير. فهذا مثل واحد.

ثمّ شبّه الخطرات و وساوس الشيطان بالزبد يعلو على الماء، و ذلك من خبث التربة لا عين الماء. و كذلك

ما يقع في النفس من الشكوك فمن ذاتها لا من ذات الحقّ. فكما يذهب الزبد باطلا و يبقى صفوة الماء، كذلك يذهب مخائل الشكّ هباء باطلا و يبقى الحقّ. فهذا مثل ثان.

و المثل الثالث قوله: «وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ» إلى آخره. فالكفر مثل هذا الخبث الّذي لا ينتفع به، و الإيمان مثل الماء الصافي الّذي ينتفع به.

ص: 442


1- المناقع جمع المنقع، و هو الموضع يستنقع- أي: يجتمع- فيه الماء.

و تمّ الكلام عند قوله: «يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ»، ثمّ استأنف بقوله: «لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا».

و قيل: «وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا» مبتدأ خبره لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ و هو على الأوّل كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين.

أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ و هو المناقشة فيه، بأن يحاسب الرجل بذنبه، لا يغفر منه شي ء، كما

في الحديث: «من نوقش في الحساب عذّب».

و عن النخعي أيضا: أنّ سوء الحساب هو أن يحاسب الرجل بذنبه كلّه، لا يغفر منه شي ء. و عن الصادق عليه السّلام: «سوء الحساب أن لا يقبل لهم حسنة، و لا يغفر لهم سيّئة»

لسوء عقيدة صاحبه.

وَ مَأْواهُمْ و مرجعهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ المستقرّ. و المخصوص بالذمّ محذوف. و أصل المهاد الفراش الّذي يوطّأ لصاحبه.

[سورة الرعد [13]: الآيات 19 الى 24]

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [19] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ [20] وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ [21] وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [22] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ

ص: 443

يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ [23] سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [24]

ثمّ بيّن سبحانه الفرق بين المؤمن و الكافر بقوله: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ فيستجيب كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب، لا يستبصر فيستجيب.

و الهمزة لإنكار أن تقع شبهة في تشابههما بعد ما ضرب من المثل. يعني: لا شبهة في أنّ حال من علم أنّ ما أنزل إليك من ربّك فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الّذي لم يستبصر فيستجيب، كبعد ما بين الزبد و الماء، و الخبث غير النافع و خلاصة الفلزّة الّتي ينتفع بها.

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول المبرّأة عن مشايعة الأهواء و معارضة الأوهام، فإنّ أرباب العقول الصافية يتفكّرون و يستبصرون، فيعلمون قضايا عقولهم.

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيّته حين قالوا «بلى». أو ما عهد اللّه عليهم في كتبه. وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوه من المواثيق بينهم و بين اللّه تعالى و بين العباد. و هو تعميم بعد تخصيص.

وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم، و موالاة المؤمنين، و الإيمان بجميع الأنبياء. و منه وصل قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هم أهل بيته المعصومون عليهم السّلام و ذرّيّتهم، و الإحسان إليهم، و الذبّ عنهم، و نصرتهم، و النصيحة لهم، و عيادة مرضاهم، و حضور جنائزهم.

روى محمد بن الفضيل عن موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام في هذه الآية قال: هي صلة آل محمّد معلّقة بالعرش تقول: اللهمّ صل من وصلني، و اقطع من قطعني».

و يندرج فيه أيضا مراعاة صلة الرحم و جميع حقوق الناس.

ص: 444

روى أصحابنا أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام لمّا حضرته الوفاة قال: «أعطوا الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين- و هو الأفطس- سبعين دينارا. فقالت له أمّ ولد له:

تعطي رجلا حمل عليك بالشفرة! فقال: ويحك أما تقرئين قول اللّه تعالى: «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»؟!».

وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وعيده كلّه عموما وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ خصوصا.

فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

وَ الَّذِينَ صَبَرُوا على ما تكرهه النفس و يخالفه الهوى، من أوامر اللّه و سائر مشاقّ التكليف، و المصائب في النفوس و الأموال، و عن المعاصي ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلبا لرضاه، لا لغرض آخر من الأغراض الدنيويّة، كسمعة و طمع عوض و غيرهما.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ بعضه الّذي وجب عليهم إنفاقه من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقا سِرًّا لمن لم يعرف بالمال وَ عَلانِيَةً لمن عرف به، دفعا للتهمة.

وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ و يدفعونها بها، فيجازون الإساءة بالإحسان.

عن ابن عبّاس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سّي ء غيرهم. و عن الحسن إذا حرموا أعطوا، و إذا ظلموا عفوا، و إذا قطعوا و صلوا. أو يتبعون السيّئة الحسنة، فتمحوها، كما

في الحديث: «أتبع السيّئة الحسنة تمحقها».

و أيضا

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ بن جبل: «إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها».

أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدار و ما ينبغي أن يكون مآل أهلها، و هي الجنّة، لأنّها الّتي أراد اللّه أن تكون عاقبة الدنيا و مرجع أهلها. الجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء. و إن جعلت

صفات ل «أُولُوا الْأَلْبابِ» فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.

ص: 445

جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من «عُقْبَى الدَّارِ». أو مبتدأ خبره يَدْخُلُونَها. و العدن الإقامة، أي: جنّات يقيمون فيها. و قيل: هو بطنان الجنّة، أي: وسطها. و عن ابن عبّاس: هي الدرجة العليا، و سكّانها الشهداء و الصدّيقون. و قيل: قصر من ذهب، لا يدخله إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حاكم عدل.

وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على المرفوع في «يدخلون». و إنّما ساغ للفصل بالضمير الآخر. أو مفعول معه. و الآباء جمع أبوي كلّ واحد منهم، فكأنّه قال: من آبائهم و أمّهاتهم. و المعنى: أنّه يلحق بهم من صلح من أهلهم و إن لم يبلغ مبلغ فضلهم، تبعا لهم و تعظيما لشأنهم، كما قال: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (1). و هو دليل على أنّ الدرجة تعلو بالشفاعة. أو أنّ الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض- لما بينهم من القرابة و الوصلة- في دخول الجنّة زيادة في أنسهم. و في التقييد بالصلاح دلالة على أنّ مجرّد الأنساب لا تنفع.

وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل، أو من أبواب الفتوح و التحف، قائلين: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة بِما صَبَرْتُمْ على الطاعة، و عن المعاصي. و هو متعلّق ب «عليكم»، أو بمحذوف، أي: هذا بما صبرتم لا بسلام، فإنّ الخبر فاصل. و الباء للسببيّة، أو للبدليّة.

فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الأصل: نعم، فسكّن العين بنقل كسرتها إلى الفاء بعد حذف الفتحة.

[سورة الرعد [13]: الآيات 25 الى 29]

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [25]

اللَّهُ

ص: 446


1- الطور: 21.

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ [26] وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [27] الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [28] الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ [29]

و لمّا ذكر سبحانه الّذين يوفون بعهد اللّه، و وصفهم بالصفات الّتي يستحقّون بها الجنّة، عقّبه بذكر الّذين حالهم على خلاف حالهم، فقال: وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ يعني: مقابلي الأوّلين مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد ما أوثقوه به من الإقرار و القبول وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بظلم العباد، و تهييج الفتن بينهم، و إضلالهم عن الحقّ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ عذاب جهنّم، أو سوء عاقبة الدنيا.

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسّعه و يضيّقه وفق المصلحة، دون غيره وَ فَرِحُوا أهل مكّة بِالْحَياةِ الدُّنْيا بما بسط لهم في الدنيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ متعة لا تدوم، كعجالة (1) الراكب و زاد الراعي. و المعنى: أنّهم أشروا (2) بما نالوا من الدنيا، و لم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة، و اغترّوا بما هو في جنب نعيم الآخرة حقير قليل النفع

ص: 447


1- عجالة الراكب: ما يتعجّله من طعام أو شراب.
2- أي: فرحوا فرح بطر و أشر و تكبّر.

سريع الزوال.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ اقترحناها مِنْ رَبِّهِ لمّا جحدوا آياته الكثيرة الّتي لم يؤتها نبيّ قبله، و من أعظمها القرآن الّذي يعجزون عن الإتيان بمثله مع أنّهم أبلغ بلغاء زمانهم، و لم يعتدّوا بها عنادا و إنكارا و لجاجا، فجعلوها كأنّها لم تنزل عليه قطّ، و قالوا ذلك تعجّبا و استنكارا.

قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ خذلانا و تخلية، باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أقبل إلى الحقّ و رجع عن العناد. و هذا جواب يجري مجرى التعجّب من قولهم، كأنّه قال: قل لهم ما أعظم عنادكم! إنّ اللّه يضلّ من يشاء ممّن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائكم و إن أنزلت كلّ آية، و يهدي إليه من أناب بما جئت به من الآيات.

الَّذِينَ آمَنُوا بدل من «من»، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الّذين آمنوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أنسا به، و اعتمادا عليه، و رجاء منه. أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، كقوله: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (1). أو بذكر دلائله الدالّة على وجوده و وحدانيّته. أو بكلامه، يعني: القرآن الّذي هو أقوى المعجزات أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ تسكن إليه.

و هذا حثّ للعباد على تسكين القلب إلى ما وعد اللّه به من النعيم و الثواب، و الطمأنينة إليه، فإنّ وعده سبحانه صادق، و لا شي ء تطمئنّ النفس إليه أبلغ من الوعد الصادق.

الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بدل من «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ». أو مبتدأ خبره طُوبى لَهُمْ هو فعلى من الطيب، قلبت ياؤه واوا، لضمّة ما قبلها. مصدر ل «طاب»، كبشرى و زلفى. و معنى «طوبى لك»: أصبت خيرا و طيبا.

ص: 448


1- الزمر: 23.

و اللام للبيان، مثلها في: سقيا لك. و معناه: لهم عيش طيّب و قرّة عين. و يجوز فيه النصب.

و قيل: إنّ طوبى شجرة في الجنّة، أصلها في دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و في دار كلّ مؤمن منها غصن. و هو قول عبيد بن عمير، و وهب، و أبي هريرة، و شهر بن حوشب. و رواه أبو سعيد الخدري. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. قال: لو كان راكب مجدّ سار في ظلّها مائة عام ما خرج منها. و لو أنّ غرابا طار من أصلها ما بلغ أعلاها حتّى يبيضّ هرما. ألا في هذا فارغبوا، إنّ المؤمن نفسه منه في شغل و الناس منه في راحة.

و روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكثر تقبيل فاطمة عليهما السّلام، فأنكرت عليه بعض نسائه ذلك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه لمّا أسري بي إلى السماء دخلت الجنّة، فأدناني جبرئيل عليه السّلام من شجرة طوبى، و ناولني منها تفّاحة، فأكلتها، فحوّل اللّه ذلك في ظهري ماء، فهبطت الى الأرض و واقعت خديجة، فحملت بفاطمة عليها السّلام، فكلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها، و ما قبّلتها إلّا وجدت رائحة شجرة طوبى منها، فهي حوراء إنسيّة».

و روى الثعلبي بإسناده عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: طوبى شجرة أصلها في دار عليّ عليه السّلام في الجنّة، و في دار كلّ مؤمن منها غصن.

و رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن موسى بن جعفر عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه، قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن طوبى. قال: شجرة أصلها في داري، و فرعها على أهل الجنّة. ثمّ سئل عنها مرّة اخرى. فقال: هي في دار

ص: 449

عليّ عليه السّلام. فقيل له في ذلك. فقال: إنّ داري و دار عليّ عليه السّلام في الجنّة بمكان واحد» (1).

وَ حُسْنُ مَآبٍ و لهم حسن مرجع.

[سورة الرعد [13]: آية 30]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ [30]

و لمّا ذكر سبحانه النعمة على من تقدّم ذكره بالثواب و حسن المآب، عقّبه بذكر النعمة على من أرسل إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: كَذلِكَ مثل إرسال الرسل قبلك أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أي: في أمّة قد تقدّمتها أُمَمٌ كثيرة أرسلوا إليهم، فليس ببدع إرسالك إليها، و هي آخر الأمم، و أنت خاتم الأنبياء عليهم السّلام لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الّذي أوحيناه إليك وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و حال هؤلاء أنّهم يكفرون باللّه الواسع الرحمة البليغ الإحسان، الّذي أحاطت بهم نعمته، و وسعت كلّ شي ء رحمته، فلم يشكروا نعمه، و خصوصا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم، و إنزال القرآن المعجز الّذي هو مناط المنافع الدينيّة و الدنيويّة عليهم.

قيل: نزلت في مشركي أهل مكّة حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن، فقالوا:

و ما الرحمن؟

قُلْ هُوَ رَبِّي أي: الرحمن خالقي و متولّي أمري لا إِلهَ

إِلَّا هُوَ لا مستحقّ للعبادة سواه، متعاليا عن الشركاء و الأنداد عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي

ص: 450


1- شواهد التنزيل 1: 396 ح 417.

عليكم وَ إِلَيْهِ مَتابِ مرجعي و مرجعكم، فيثيبني على مصابرتكم و مجاهدتكم.

[سورة الرعد [13]: آية 31]

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [31]

و لمّا تقدّم كفرهم بالرحمن عظّم شأن القرآن، و بالغ في رسوخهم في الكفر، و توغّلهم في العناد، و تصميمهم على الإنكار، مع وضوح حقيقة القرآن، فقال:

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ شرط حذف جوابه، أي: و لو أنّ كتابا زلزلت و زعزعت به الجبال عن مقارّها.

أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ تصدّعت من خشية اللّه تعالى عند قراءته. أو شقّقت فجعلت أنهارا و عيونا.

أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتقرؤه به، أو فتسمع، و تجيب عند قراءته، لكان هذا القرآن، لأنّه الغاية في الإعجاز، و النهاية في التذكير و الإنذار، كما قال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (1). أو لما آمنوا به، كقوله: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ (2) الآية. و تذكير «كلّم» خاصّة لاشتمال الموتى على المذكّر الحقيقي.

و قيل: إنّ أبا جهل و طائفة من قريش قالوا: يا محمّد: إن سرّك أن نتّبعك فسيّر بقرآنك الجبال عن مكّة، حتّى تتّسع لنا فنتّخذ فيها بساتين و قطائع، أو سخّر

ص: 451


1- الحشر: 21.
2- الأنعام: 111.

لنا به الريح لنركبها و نتّجر إلى الشام، أو ابعث لنا به قصيّ بن كلاب و غيره من آبائنا ليكلّمونا في صدقك، فنزلت. و على هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير.

و قيل: الجواب مقدّم، و هو قوله: «وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ»، و ما بينهما اعتراض.

ثمّ أضرب عمّا تضمّنته «لو» من معنى النفي، فقال: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً بل للّه القدرة على كلّ شي ء، فإنّه قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكنّ الإرادة لم تتعلّق بذلك، لعلمه بأنّه لا تلين له شكيمتهم، و لا يزول رسوخ عنادهم و شدّة كفرهم. أو قادر على أن يلجئهم إلى الايمان، و لكن بناء أمر التكليف على الاختيار، فلم يلجئهم. و لذلك قال: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أ فلم يقنطوا عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم.

و ذهب أكثرهم إلى أنّ معناه: أ فلم يعلم؟ لما روي أنّ عليّا عليه السّلام و ابن عبّاس و جماعة من الصحابة و التابعين قرءوا: أ فلم يتبيّن.

و هو تفسيره و إنّما استعمل اليأس بمعنى العلم، لأنّه مسبّب عن العلم، فإنّ اليائس عن الشي ء عالم بأنّه لا يكون، كما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لذلك.

و على هذا قوله: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً متعلّق ب «ييأس»، أي: أ فلم يعلم المؤمنون أن لو يشاء اللّه مشيئة جبر و قسر لهداهم؟ و على الأوّل متعلّق بمحذوف تقديره: أ فلم ييأس الّذين آمنوا عن إيمانهم، علما منهم أن لو يشاء اللّه مشيئة جبر لهداهم جميعا. و يجوز أن يكون المعنى: لو أراد أن يهدي الخلق كلّهم إلى جنّته لهداهم، لكنّه كلّفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الاستحقاق.

وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر و سوء الأعمال قارِعَةٌ داهية تقرعهم و تقلقلهم، من صنوف المصائب في نفوسهم و أموالهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها، و يتطاير إليهم شررها.

و قيل: الآية في كفّار مكّة، فإنّهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه كان لا يزال يبعث السرايا فينزلون حواليهم، و يختطفون مواشيهم.

ص: 452

و على هذا يجوز أن يكون «تحلّ» خطابا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه حلّ بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية.

حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الموت، أو القيامة، أو فتح مكّة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لامتناع الكذب في كلامه.

[سورة الرعد [13]: آية 32]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ [32]

ثمّ قال تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و توعّدا للمشركين المقترحين عليه: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الإملاء أن يترك شي ء ملاوة- أي:

مقدارا- من الزمان في دعة و أمن، كالبهيمة تملى في المرعى ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي: عقابي إيّاهم.

[سورة الرعد [13]: الآيات 33 الى 34]

أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [33] لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ [34]

ثمّ احتجّ على المشركين في إشراكهم باللّه، فقال: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ أي:

ص: 453

رقيب عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير أو شرّ، بحيث لا يخفى عليه شي ء من أعمالهم، و لا يفوت عنده شي ء من جزائهم. و الخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك. وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ استئناف، أو عطف على «كسبت» إن جعلت «ما» مصدريّة. أو تقدير الخبر: لم يوحّدوه، «و جعلوا» عطف عليه. و يكون الظاهر فيه موضع المضمر للتنبيه على أنّه المستحقّ للعبادة.

ثمّ نبّه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقّون العبادة، فقال: قُلْ سَمُّوهُمْ بالأسماء الّتي هي صفاتهم، أي: صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقّون به العبادة و يستأهلون الشركة؟ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بل أ تنبّئونه بِما بشركاء له يستحقّون العبادة، أو بصفات لهم يستحقّونها لأجلها لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ لا يعلمهم فيها، و هو العالم

بكلّ شي ء، فإذا لم يعلمهم فإنّهم ليسوا بشي ء يتعلّق بهم العلم. و المراد نفي أن يكون له شركاء. و نحوه: قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ (1).

أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أم تسمّونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة و اعتبار معنى، كتسمية الزنجي كافورا، كقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ (2) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها (3).

و هذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب، ينادي بلسان فصيح أنه ليس من كلام البشر، بل محض الإعجاز.

بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ تمويههم، فتخيّلوا أباطيل ثمّ خالوها حقّا، أو كيدهم للإسلام بشركهم وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ سبيل الحقّ. و قرأ نافع و أبو عمرو

ص: 454


1- يونس: 18.
2- التوبة: 30.
3- يوسف: 40.

و ابن عامر: و صدّوا بالفتح، أي: و صدّوا الناس عن الإيمان.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يخذله في الضلالة و يخلّه فيها، لفرط عناده و رسوخ كفره فَما لَهُ مِنْ هادٍ يوفّقه للهدى، أو يقدر على هدايته.

لَهُمْ عَذابٌ بالقتل و الأسر و سائر ما يصيبهم من المصائب فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أغلظ و أبلغ، لشدّته و دوامه وَ ما لَهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ مِنْ واقٍ حافظ يدفع عنهم عذابه.

[سورة الرعد [13]: آية 35]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ [35]

و لمّا ذكر ما أعدّ للكفّار عقّبه بذكر ما أعدّ للمؤمنين، فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: صفتها الّتي هي مثل في الغرابة. و هو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه، أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنّة. و عند غيره خبره تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على

طريقة قولك: صفة زيد أسمر. و عن الزجّاج الموصوف محذوف، أي: مثل الجنّة جنّة تجري من تحتها الأنهار. أو على زيادة المثل. و هو على قول سيبويه حال من العائد المحذوف، أو من الصلة.

أُكُلُها دائِمٌ لا ينقطع ثمرها، كقوله: لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ (1) وَ ظِلُّها أي: و ظلّها كذلك، لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس.

تِلْكَ أي: الجنّة الموصوفة عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا مآلهم و منتهى أمرهم وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا غير. و في ترتيب النظمين إطماع للمتّقين و إقناط للكافرين.

ص: 455


1- الواقعة: 33.

[سورة الرعد [13]: الآيات 36 الى 37]

وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ [36] وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ [37]

و لمّا تقدّم ذكر الوعد و الوعيد أخبر سبحانه عن حال المتّقين و الكافرين في الدنيا، فقال: وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني: المسلمين من أهل الكتاب، كابن سلام و أصحابه، و من آمن من النصارى، و هم ثمانون رجلا:

أربعون بنجران، و ثمانية باليمن، و اثنان و ثلاثون بالحبشة. أو عامّتهم، فإنّهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم.

وَ مِنَ الْأَحْزابِ يعني: كفرتهم الّذين تحزّبوا على عداوة رسول اللّه، ككعب بن الأشرف و أصحابه و السيّد و العاقب و أشياعهما مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ و هو ما يخالف شرائعهم، أو ما يوافق لما حرّفوه منها، فإنّ الأقاصيص و الأحكام الّتي هي ثابتة في كتبهم لا ينكرونها.

قُلْ في جواب المنكرين إِنَّما أُمِرْتُ فيما أنزل

إليّ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ بأن أعبد اللّه و أوحّده. و هو العمدة في الدين، و لا سبيل لكم إلى إنكاره.

و أمّا ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم، فليس ببدع مخالفة الشرائع و الكتب الإلهيّة في جزئيّات الأحكام.

إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره وَ إِلَيْهِ مَآبِ و إليه مرجعي للجزاء، لا إلى غيره.

و هذا هو القدر المتّفق عليه بين الأنبياء، و أما ما عدا ذلك من التفاريع فممّا يختلف

ص: 456

بالأعصار و الأمم، فلا معنى لإنكاركم المخالفة فيه.

وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها، أو كما أنزل الكتب إلى من تقدّم من الأنبياء بلسانهم أَنْزَلْناهُ حُكْماً يحكم في القضايا و الوقائع بما تقتضيه الحكمة عَرَبِيًّا مترجما بلسان العرب، ليسهل لهم فهمه و حفظه. و انتصابه على الحال.

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الّتي يدعونك إليها، كتقرير دينهم، و الصلاة إلى قبلتهم حين حوّلت عنها بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بنسخ ذلك ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ ينصرك و يمنع العقاب عنك. و هو حسم لأطماعهم، و تهييج للمؤمنين على التصلّب في دينهم، و التثبّت فيه من الزلّة عند الشبهة بعد الاستمساك بالحجّة، و إلّا فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من شدّة الشكيمة بمكان عظيم.

[سورة الرعد [13]: الآيات 38 الى 40]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [38] يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [39] وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ [40]

روي أنّهم كانوا يعيبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكثرة تزوّج النساء، كما كانوا يقولون: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ (1). و كانوا يقترحون عليه الآيات، و ينكرون النسخ. فقال اللّه سبحانه ردّا عليهم: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ بشرا مثلك وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً نساء و أولادا، كما هي لك.

ص: 457


1- الفرقان: 7.

وَ ما كانَ لِرَسُولٍ و ما صحّ له و لم يكن في وسعه أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تقترح عليه، و بحكم يلتمس منه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإنّه المقتدر لا غيره.

ثمّ ردّ إنكار النسخ بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لكلّ وقت و أمد حكم يكتب على العباد، على ما يقتضيه استصلاحهم.

يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ينسخ ما يستصوب نسخه وَ يُثْبِتُ ما تقتضيه حكمته.

و قيل: يمحو سيّئات التائب، و يثبت الحسنات مكانها، كقوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ (1).

و قيل: يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلّق به جزاء، و يترك غيره مثبتا، فإنّهم مأمورون بكتبة كلّ قول و فعل.

أو يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا، فيسقط عقابها، و يثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا.

عن ابن مسعود: أنّه عامّ في كلّ شي ء، فيمحو من الرزق و يزيد فيه، و يمحو من الأجل و يثبت، و يمحو السعادة و الشقاوة و يثبتهما. أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه.

و قيل: يمحو ما يشاء من القرون، و يثبت ما يشاء منها، كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (2).

و قيل: يمحو الفاسدات، و يثبت الكائنات.

و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: و يثبّت بالتشديد.

وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل الكتب، و هو اللوح المحفوظ، إذ ما من كائن إلّا و هو مكتوب فيه.

ص: 458


1- الفرقان: 70.
2- المؤمنون: 31.

روى أبو قلابة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء، فامحني من الأشقياء، و اثبتني في السعداء، فإنّك تمحو ما تشاء و تثبت، و عندك أمّ الكتاب. و روي مثل ذلك عن أئمّتنا عليهم السّلام في دعواتهم المأثورة.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: للّه كتابان: كتاب سوى أمّ الكتاب، يمحو اللّه منه ما يشاء و يثبت، و أمّ الكتاب لا يغيّر منه شي ء. و رواه عمران بن حصين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن ليلة القدر. فقال:

ينزل اللّه فيها الملائكة و الكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من أمر السنة، و ما يصيب العباد، و أمر ما عنده موقوف له فيه المشيئة، فيقدّم منه ما يشاء و يؤخّر ما يشاء، و يمحو و يثبت، و عنده أمّ الكتاب».

و روى الفضيل قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: العلم علمان: علم علّمه ملائكته و رسله و أنبياءه، و علم عنده محزون لم يطّلع عليه أحد، يحدث فيه ما يشاء».

و روى زرارة عن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «هما أمران: موقوف و محتوم، فما كان من محتوم أمضاه، و ما كان من موقوف فله فيه المشيئة، يقضي فيه ما يشاء».

و قيل: المراد من الآية أنّ اللّه يغيّر الأرزاق و المحن و المصائب، و يثبته في الكتاب، ثمّ يزيله بالدعاء و الصدقة. ففيه حثّ على الانقطاع إليه سبحانه.

وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و كيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم، أو توفّيناك قبله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ لا غير وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ للمجازاة لا عليك، فلا تحزن- أي: بإعراضهم- و لا تستعجل بعذابهم، فإنّا فاعلون له إمّا عاجلا و إمّا آجلا.

و في هذه دلالة على أنّ الإسلام سيظهر على سائر الأديان، و يبطل الشرك

ص: 459

في أيّامه و بعد وفاته، و قد وقع المخبر به على وفق الخبر.

[سورة الرعد [13]: آية 41]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [41]

ثمّ ذكر سبحانه ما يكون للكفّار كالبيّنة على الاعتبار، فقال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أرض الكفّار نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي: ننقص دار الحرب، و نزيد في دار الإسلام بما نفتحه على المسلمين منها. و المعنى: عليك البلاغ، و لا يهمّنّك ما وراء ذلك، فنحن نكفيكه، و نتمّ ما وعدناك من الظفر و إعلاء كلمة الإسلام، فلا يضجرك تأخّره، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح الّتي لا تعلمها.

وَ اللَّهُ يَحْكُمُ يفصّل الأمر لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا ناقض لحكمه، و لا رادّ لقضائه. و حقيقته الّذي يعقّب الشي ء و يكرّ عليه ليبطله، و منه قيل لصاحب الحقّ:

معقّب، لأنّه يقفو غريمه بالاقتضاء. و المعنى: أنه حكم للإسلام بالإقبال، و على الكفر بالإدبار، و ذلك كائن لا يمكن تغييره. و محلّ «لا» مع المنفيّ النصب على الحال، أي: يحكم نافذا حكمه.

وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيحاسبهم عمّا قليل في الآخرة، بعد ما عذّبهم بالقتل و الإجلاء في الدنيا.

[سورة الرعد [13]: الآيات 42 الى 43]

وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [42] وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [43]

ص: 460

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مكرهم يضمحلّ عند نزول العذاب بهم، فقال: وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنبيائهم و المؤمنين منهم فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، فإنّه يردّ مكرهم و يعذّبهم من حيث لا يشعرون.

يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فلا يخفى عليه ما يكتسبه الإنسان من خير و شرّ، لأنّه عالم بجميع المعلومات، فيعدّ جزاءها.

و قيل: يعلم ما يمكرونه في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيبطل أمرهم، و يظهر أمره و دينه.

وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ من الحزبين حيثما يأتيهم من العذاب المعدّ لهم، و هم في غفلة منه. و هذا كالتفسير لمكر اللّه تعالى بهم، لأنّ من علم ما تكسب كلّ نفس و أعدّ لها جزاءها فهو المكر كلّه، لأنّه يأتيهم من حيث لا يشعرون ممّا يراد بهم. و اللام تدلّ على أنّ المراد بالعقبى العاقبة المحمودة، مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو: الكافر على إرادة الجنس.

و في الآية تهديد لهم بأنّهم سوف يعلمون من تكون عاقبته الجنّة، حين يدخل المؤمنون الجنّة و الكافرون النار.

و قيل: معناه: سيعلمون لمن العاقبة المحمودة، لكم أم لهم، إذا اظهر اللّه دينه.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قيل: المراد بهم رؤساء اليهود قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فإنّه أظهر من الدلالات على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ علم القرآن و ما ألف عليه من النظم المعجز.

أو علم التوراة، و هو ابن سلام و أضرابه. أو علم اللوح المحفوظ، و هو اللّه تعالى.

و المعنى: كفى بالّذي يستحقّ العبادة، و بالّذي لا يعلم ما في اللوح المحوظ إلّا هو، شهيدا بيني و بينكم، فيخزى الكاذب منّا. و ارتفاع علم الكتاب بالظرف، فإنّه معتمد

ص: 461

على الموصول.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ المراد بمن عنده علم الكتاب عليّ بن أبي طالب و أئمّة الهدى

عليهم السّلام».

روى بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إيّانا عنى، و علي أوّلنا، و أفضلنا، و خيرنا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و روى عنه عبد اللّه بن كثير: «أنّه وضع يده على صدره ثمّ قال: عندنا و اللّه علم الكتاب كملا».

و يؤيّد ذلك ما

روي عن الشعبي أنّه قال: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد النبيّ من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و روى عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحدا أقرأ من عليّ بن أبي طالب للقرآن.

ص: 462

[14] سورة إبراهيم

اشارة

مكّية، و هي اثنتان و خمسون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة إبراهيم عليه السّلام أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من عبد الأصنام، و بعدد من لم يعبدها».

و روى عيينة بن مصعب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة إبراهيم في ركعتين جميعا في كلّ جمعة، لم يصبه فقر و لا جنون و لا بلوى».

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [1] اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ [2] الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [3]

ص: 463

و لمّا ختم اللّه سورة الرعد بإثبات الرسالة و إنزال الكتاب، افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة و الكتاب، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر أنا اللّه أعلم و أرى. و باقي الوجوه فيه مزبور في أوّل سورة البقرة.

كِتابٌ أي: هو كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إيّاهم إلى ما تضمّنه مِنَ الظُّلُماتِ من أنواع الضلال إِلَى النُّورِ إلى الهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتيسيره و تسهيله. مستعار من الإذن الّذي هو تسهيل الحجاب. و المراد ما يمنحهم من التوفيق و الألطاف. و هذا صلة «لتخرج»، أو حال من فاعله أو مفعوله.

إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله: «إلى النور» بتكرير العامل. أو استئناف على أنّه جواب لمن يسأل عنه. و إضافة الصراط إلى اللّه تعالى، إمّا لأنّه مقصده، أو المظهر له. و تخصيص الوصفين للتنبيه على

أنّه لا يذلّ سالكه، و لا يخيب سابله.

اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ قرأ نافع و أبو عمرو بالرفع، على أنّه مبتدأ و الموصول خبره، أو خبر مبتدأ محذوف و الموصول صفته، أي: هو اللّه الّذي. و قرأ الباقون بالجرّ، على أنّه عطف بيان للعزيز، لأنّه كالعلم- كما غلّب النجم في الثريّا- لاختصاصه بالمعبود على الحقّ.

ثمّ أوعد لمن كفر بالكتاب و لم يخرج به من الظلمات إلى النور، فقال:

وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الويل نقيض الوأل، و هو النجاة. و أصله النصب، لأنّه مصدر، إلّا أنّه لم يشتقّ منه فعل، لكنّه رفع لإفادة الثبات، كما يقال: سلام عليك. و المعنى: أنّهم يولولون من عذاب شديد، و يضجّون منه فيقولون: يا ويلاه، كقوله: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (1).

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ يختارونها عليها، فإنّ المختار

ص: 464


1- الفرقان: 13.

للشي ء يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها من غيره وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويق الناس عن الإيمان وَ يَبْغُونَها عِوَجاً و يبغون لها زيغا و نكوبا عن الحقّ ليقدحوا فيه. فحذف الجارّ و أوصل الفعل إلى الضمير. و الموصول بصلته يحتمل الجرّ صفة للكافرين، و النصب على الذمّ، و الرفع عليه، أو على أنّه مبتدأ خبره أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: ضلّوا عن الحقّ، و وقفوا دونه بمراحل. و البعد في الحقيقة للضالّ، لأنّه متباعد عن الطريق، فوصف به فعله للمبالغة، كما تقول: جدّ جدّه. و يجوز أن يراد: في ضلال ذي بعد، أو للأمر الّذي به الضلال، فوصف به للملابسة.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 4 الى 6]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ

يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [4] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [5] وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [6]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ إلّا بلغة قومه الّذي هو منهم و بعث فيهم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما أمروا به، فيفقهوه عنه بيسر و سرعة، ثمّ ينقلوه و يترجموه لغيرهم، فإنّهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم، و أحقّ بأن ينذرهم، و لذلك أمر

ص: 465

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإنذار عشيرته أوّلا. و لو نزّل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقلّ ذلك بنوع من الإعجاز، و لكن أدّى إلى اختلاف الكلمة، و إضاعة فضل الاجتهاد في تعلّم الألفاظ و معانيها و العلوم المتشعّبة منها، و ما في إتعاب القرائح و كدّ النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب.

و قيل: الضمير في «قومه» لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنه تعالى أنزل الكتب كلّها بالعربيّة، ثمّ ترجمها جبرئيل عليه السّلام أو كلّ نبيّ بلغة المنزل عليهم.

فَيُضِلُّ اللَّهُ فيخلّي في الضلال خذلانا، بمنع الألطاف و أسباب التوفيق مَنْ يَشاءُ من هو راسخ في الكفر و مصمّم على العناد وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و يوفّق للهداية من هو طالب الرشاد و الصواب، مثل قوله: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ (1) وَ هُوَ الْعَزِيزُ فلا يغلب على مشيئته الْحَكِيمُ فلا يخذل إلّا أهل الخذلان، و لا يلطف إلّا بأهل اللطف.

ثمّ ذكر سبحانه إرسال موسى عليه السّلام تخصيصا بعد التعميم، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني: اليد و العصا و سائر معجزاته أَنْ أَخْرِجْ «أن» مفسّرة، فمعناه: أي أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، فكأنّه قال: أرسلناه و قلنا له: أن أخرج قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ إلى نور الإسلام. و يجوز أن تكون مصدريّة، أي: بأن أخرج، فإنّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر، فيصحّ أن توصل بها «أن» الناصبة.

وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ بوقائعه الّتي وقعت على الأمم الدارجة، و منه أيّام العرب، أي: حروبها و ملاحمها. و عن ابن عبّاس: هي نعماؤه و بلاؤه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر على بلائه شَكُورٍ يشكر على نعمائه، فإنّه إذا سمع بما نزل على من قبله من البلاء، و أفيض عليهم من النعماء، اعتبر و تنبّه لما يجب عليه

ص: 466


1- التغابن: 2.

من الصبر و الشكر.

و قيل: المراد لكلّ مؤمن، و إنّما عبّر عنهم بذلك تنبيها على أنّ الصبر و الشكر عنوان المؤمن و من سجاياه، فإنّ التكليف لا يخلو من الصبر و الشكر.

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه إيّاكم. و يجوز أن ينتصب ب «عليكم» إن جعلت مستقرّة غير صلة للنعمة، لأنّه إذا كان صلة لم يعمل فيه، أي: اذكروا نعمة اللّه مستقرّة عليكم وقت إنجائكم، و ذلك إذا أريدت بها العطيّة دون الإنعام. و يجوز أن يكون بدلا من «نعمة اللّه» بدل الاشتمال، أي: اذكروا وقت إنجائكم.

و قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ

وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أحوال من آل فرعون، أو من ضمير المخاطبين. و المراد بالعذاب ها هنا غير المراد به في سورة البقرة (1) و الأعراف (2)، لأنّه ثمّ مفسّر بالتذبيح و القتل، و معطوف عليه التذبيح هنا. و هو إمّا جنس العذاب، أو استعبادهم و استعمالهم بالأعمال الشاقّة.

وَ فِي ذلِكُمْ من حيث استعبادهم بإقدار اللّه تعالى إيّاهم، و تمكينهم و إمهالهم فيه بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ابتلاء منه. و يجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء. و المراد بالبلاء النعمة.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 7 الى 9]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [7] وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ

ص: 467


1- البقرة: 49.
2- الأعراف: 141.

حَمِيدٌ [8] أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [9]

و لمّا تقدّم ذكر النعم أتبعه سبحانه بذكر ما يلزم عليها من الشكر، فقال: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ هو ايضا من كلام موسى عليه السّلام. و «تأذّن» بمعنى: آذن، ك: توعّد و أوعد، غير أنّه أبلغ، لما في التفعّل من معنى التكلّف و المبالغة، و لا بدّ في «تفعّل» من زيادة معنى ليس في «أفعل». كأنّه قال: و إذ أذن ربّكم إيذانا بليغا تنتفي عنده الشكوك.

لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ جحدتم نعمتي إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ بمعنى: أعذّبكم على الكفران عذابا شديدا. و من عادة أكرم

الأكرمين أن يصرّح بالوعد و يعرّض بالوعيد.

و الجملة مقول قول مقدّر، أو مفعول «تأذّن»، على أنّه جار مجرى «قال»، لأنّه ضرب منه.

وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌ عن شكركم، و أنتم محاويج إليه حَمِيدٌ مستحقّ للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة، و تنطق بنعمته ذرّات المخلوقات، فما ضررتم بكفرانكم إلّا أنفسكم، حيث حرّمتموها مزيد الإنعام، و عرّضتموها للعذاب الشديد.

قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أيّما عبد أنعمت عليه نعمة فأقرّ بها بقلبه، و حمد اللّه تعالى عليها بلسانه، لم ينفذ كلامه حتّى يأمر اللّه له بالزيادة».

ص: 468

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من اللّه خطابا لأمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة وقعت اعتراضا. أو «الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» في محلّ الجرّ عطفا على قوم نوح، و «لا يعلمهم» اعتراض. و المعنى: أنّهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلّا اللّه تعالى. و لذلك قال ابن مسعود حين قرأ هذه الآية: كذب النسّابون.

و قيل: إنّ بين عدنان و إسماعيل ثلاثين أبا لا يعرفون. و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لا يجاوز في انتسابه معد بن عدنان.

جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فعضّوا على أصابع أيديهم من شدّة الغيظ و الضجر ممّا جاءت به الرسل، كقوله: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ (1). أو وضعوها عليها تعجّبا منه، أو استهزاء عليه، كمن غلبه الضحك، أو إسكاتا للأنبياء و أمرا لهم بإطباق الأفواه،

أي: اسكتوا عمّا تدعوننا إليه. أو أشاروا بها إلى ألسنتهم و ما نطقت به، من قولهم: إنّا كفرنا، تنبيها على أن لا جواب لهم سواه، أوردوها في أفواه الأنبياء عليهم السّلام يمنعونهم من التكلّم.

و قيل: الأيدي بمعنى الأيادي، أي: ردّوا أيادي الأنبياء الّتي هي أجلّ النعم، و هي مواعظهم و ما أوحي إليهم من الحكم و الشرائع في أفواههم، لأنّهم إذا كذّبوها و لم يقبلوها فكأنّهم ردّوها إلى أفواههم، و رجعوها إلى حيث جاءت منه، على طريق المثل.

وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان مُرِيبٍ موقع في الريبة، أو ذي ريبة. و هي قلق النفس بحيث لا تطمئنّ إلى شي ء.

ص: 469


1- آل عمران: 119.

[سورة إبراهيم [14]: آية 10]

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [10]

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌ ادخلت همزة الإنكار على الظرف، لأنّ الكلام في المشكوك فيه و أنّه لا يحتمل الشكّ، لا في الشكّ، أي: إنّما يدعوكم إلى اللّه، و هو لا يتطرّق إليه الشكّ، لكثرة الأدلّة، و ظهور دلالتها عليه. و أشاروا إلى ذلك بقولهم: فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ صفة أو بدل. و «شكّ» مرتفع بالظّرف.

يَدْعُوكُمْ إلى الإيمان ببعثه إيّانا لِيَغْفِرَ لَكُمْ أو يدعوكم إلى المغفرة، كقولك: دعوته لينصرني، على إقامة المفعول له مقام المفعول به مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، و هو ما بينكم و بينه، فإنّ الإسلام يجبّه دون المظالم. و قيل: جي ء ب «من» في خطاب الكفّار دون

المؤمنين في جميع القرآن، تفرقة بين الخطابين.

و يحتمل أن يكون المعنى فيه: أنّ المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفّار مرتّبة على الإيمان، و حيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة و التجنّب عن المعاصي، فتتناول الخروج عن المظالم.

وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت سمّاه اللّه تعالى، و جعله آخر أعماركم.

و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر و الشرك، و إنّما يريد الخير و الإيمان، و أنّه إنّما بعث الرسل إلى الكفّار رحمة و فضلا، و إنعاما عليهم ليؤمنوا، فإنّه قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ» إلى آخرها.

قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فضل لكم علينا، فلم تخصّون بالنبوّة دوننا؟

ص: 470

و لو شاء اللّه أن يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل، و هم الملائكة تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا بهذه الدعوى فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يدلّ على فضلكم و استحقاقكم لهذه المزيّة، أو على صحّة ادّعائكم النبوّة. و قد جاءتهم رسلهم بالبيّنات و الحجج لكن لم يعتبروها عنادا، و اقترحوا عليهم آية اخرى تعنّتا و لجاجا.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 11 الى 12]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [11] وَ ما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [12]

ثمّ حكى جواب الرسل للكفّار، فقال: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ سلّموا مشاركتهم إيّاهم في البشريّة، و جعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوّة فضل اللّه تعالى و منّه

عليهم، و لم يذكروا فضلهم تواضعا منهم، فاقتصروا على قولهم: «وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ» مِنْ عِبادِهِ بالنبوّة، لأنّه قد علم أنّه لا يختصّهم بتلك الكرامة إلّا و هم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم.

وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: ليس إلينا الإتيان بالآيات، و لا يستبدّ به استطاعتنا حتّى نأتي بما اقترحتموه، و إنّما هو أمر يتعلّق بمشيئة اللّه تعالى، فيخصّ كلّ نبيّ بنوع من الآيات.

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ عمّموا الأمر بالتوكّل للإشعار بما يوجب

ص: 471

التوكّل، و قصدوا به أنفسهم قصدا أوّليّا، و أمروها به، كأنّهم قالوا: و من حقّنا أن نتوكّل على اللّه في الصبر على معاندتكم و معاداتكم، و لهذا قالوا بعد ذلك: وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي: أيّ عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا و قد فعل بنا ما يوجب توكّلنا عليه، و هو التوفيق لهداية كلّ واحد منّا إلى السبيل الّذي يجب عليه سلوكه في الدين. و قرأ أبو عمرو بالتخفيف هاهنا و في العنكبوت (1).

وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا جواب قسم محذوف، أكّدوا توكّلهم و عدم مبالاتهم بما يجري من الكفّار عليهم وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فليثبت المتوكّلون على ما استحدثوه من توكّلهم المسبّب عن إيمانهم. فالمراد بالتوكّل الأوّل استحداثه، و بالثاني التوكّل عليه.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 13 الى 17]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [13] وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ [14] وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [15]

مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [16] يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [17]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا حلفوا

ص: 472


1- العنكبوت: 69.

على أنّه لا بدّ من أحد الأمرين: إمّا إخراجهم للرسل من بلادهم، أو عودهم إلى ملّتهم. و العود هاهنا بمعنى الصيرورة، لأنّهم لم يكونوا على ملّتهم قطّ. و يجوز أن يكون الخطاب لكلّ رسول و لمن آمن معه، فغلّبوا الجماعة على الواحد.

فَأَوْحى إِلَيْهِمْ إلى رسلهم رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ على إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجراه، لأنّه نوع منه.

وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: أرضهم و ديارهم، كقوله: وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا (1). و في الحديث: «من آذى جاره ورّثه اللّه داره».

ذلِكَ إشارة إلى الموحى به، و هو إهلاك الظالمين و إسكان المؤمنين لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي، و هو الموقف الّذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة. أو قيامي عليه، و حفظي لأعماله. و قيل: المقام مقحم.

وَ خافَ وَعِيدِ أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفّار.

وَ اسْتَفْتَحُوا سألوا من اللّه الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم و بين أعاديهم، من الفتاحة، كقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ (2). و هو معطوف على «فأوحى». و الضمير للأنبياء. و قيل: للكفرة، ظنّا منهم بأنّهم على الحقّ و الرسل على الباطل. و قيل: للفريقين، فإنّ كلّهم سألوه أن ينصر المحقّ و يهلك المبطل.

وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي: ففتح لهم فأفلح المؤمنون، و خاب كلّ جبّار عات متكبّر على اللّه عزّ و جلّ معاند

للحقّ فلم يفلح.

مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي: من بين يدي هذا الجبّار، فإنّه مرصد بها، واقف على

ص: 473


1- الأعراف: 137.
2- الأعراف: 89.

شفيرها في الدنيا، مبعوث إليها في الآخرة. و قيل: من وراء حياته و حقيقته ما توارى عنك. وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ عطف على محذوف تقديره: من ورائه جهنّم يلقى فيها ما يلقى، و يسقى من ماء صَدِيدٍ عطف بيان ل «ماء». و هو ما يسيل من جلود أهل النار من القيح و الدم.

و عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «هو الدم و القيح من فروج الزواني في النار».

و هذا قول أكثر المفسّرين.

روى أبو امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: «وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ»، قال:

«يقرّب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، و وقعت فروة (1) رأسه، و إذا شرب قطع أمعاءه حتّى يخرج من دبره.

يقول اللّه تعالى: وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (2). و يقول: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ (3)».

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن مات و في بطنه شي ء من ذلك كان حقّا على اللّه عزّ و جلّ أن يسقيه من طينة خبال، و هي صديد أهل النار، و ما يخرج من فروج الزناة، يجمع ذلك في قدور جهنّم، فيشربه أهل النار، فيصهر به ما في بطونهم و الجلود». رواه شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام، عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

يَتَجَرَّعُهُ يتكلّف جرعه. و هو صفة ل «ماء»، أو حال من الضمير

في «يسقى». وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ و لا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه؟ كقوله: لَمْ يَكَدْ يَراها (4) أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ بل يغصّ به فيطول عذابه.

ص: 474


1- الفروة: جلدة الرأس بشعرها.
2- محمد: 15.
3- الكهف: 29.
4- النور: 40.

و السوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة و قبول نفس.

وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي: أسبابه من الشدائد، فتحيط به من جميع الجهات. و قيل: من كلّ مكان من جسده، حتّى من أصول شعره و إبهام رجله.

وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح وَ مِنْ وَرائِهِ و من بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ يستقبل في كلّ وقت عذابا أشدّ و أغلظ ممّا هو عليه. عن ابن عبّاس: هو الخلود في النار.

و عن الفضيل: هو حبس الأنفاس.

و قيل: الآية منقطعة عن قصّة الرسل، نازلة في أهل مكّة، طلبوا الفتح الّذي هو المطر في سنيّ القحط الّتي أرسل اللّه تعالى عليهم بدعوة رسوله، فخيّب رجاءهم فلم يسقهم، و وعد لهم أن يسقيهم صديد أهل النار في جهنّم بدل سقياهم في الدنيا.

[سورة إبراهيم [14]: آية 18]

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [18]

ثمّ أخبر سبحانه عمّا ينال الكفّار من الحسرة فيما تكلّفوه من الأعمال، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يتلى عليكم صفتهم الّتي هي مثل في الغرابة. و قوله: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة لبيان مثلهم، على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. و قيل:

أعمالهم بدل من المثل، و الخبر «كرماد».

اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ حملته و أسرعت الذهاب به. و قرأ نافع: الرياح. فِي يَوْمٍ عاصِفٍ العصف اشتداد الريح.

وصف به زمانه للمبالغة، كقولهم: يوم ماطر، و نهاره صائم، و ليله قائم. شبّه صنائعهم- من الصدقة و صلة الرحم و إغاثة الملهوف و عتق الرقاب و نحو ذلك من مكارمهم، في حبوطها، لبنائها على غير أساس من

ص: 475

معرفة اللّه و التوجّه بها إليه- أو أعمالهم للأصنام، برماد طيّرته الريح العاصف، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرّق و الانتفاع به، فكذلك هؤلاء الكفّار.

لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم عَلى شَيْ ءٍ لحبوطه، فلا يرون له أثرا من الثواب. و هو فذلكة التمثيل. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنّهم محسنون هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ فإنّه الغاية في البعد عن طريق الحقّ.

و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة، لأنّه أضاف العمل إليهم، و لو كان مخلوقا له سبحانه لما صحّ إضافته إليهم.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 19 الى 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [19] وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [20] وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ [21]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما خلق الخلق ليعبدوه و ليؤمنوا به، لا ليكفروا، فقال: أَ لَمْ تَرَ خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد به أمّته. و قيل: لكلّ واحد من الكفرة على التلوين. أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ بالحكمة و الوجه الّذي يحقّ أن تخلق عليه، و لم يخلقها عبثا و لا شهوة. و قرأ حمزة

و الكسائي: خالق السماوات.

ص: 476

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعدمكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ و يخلق مكانكم خلقا آخر. رتّب ذلك على كونه خالقا للسماوات و الأرض استدلالا به عليه، فإنّ من خلق أصولهم و ما يتوقّف عليه تخليقهم، ثمّ كوّنهم بتبديل الصور و تغيير الطبائع، قدر أن يبدلهم بخلق آخر، و لم يمتنع عليه ذلك، كما قال: وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذّر أو متعسّر، بل هو يسير، فإنّه قادر لذاته، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. و من كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يعبد و يؤمن به، رجاء لثوابه، و خوفا من عقابه يوم الجزاء.

وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي: يبرزون من قبورهم و يخرجون منها يوم القيامة لأمر اللّه و محاسبته. أو للّه على ظنّهم، فإنّهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش، و يظنّون أنّها تخفى على اللّه، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا للّه عند أنفسهم، و علموا أنّ اللّه لا تخفى عليه خافية. و إنّما ذكر بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. و نحوه قوله تعالى: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ (1).

و نظائره. و المعنى: و برّزهم اللّه، و اللّه لا يتوارى عنه شي ء حتى يبرز له كما ظنّوا.

فَقالَ الضُّعَفاءُ أي: الأتباع، جمع ضعيف. يريد به ضعاف الرأي، و إنّما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤسائهم الّذين استتبعوهم و استغووهم، و صدّوهم عن الاستماع إلى الأنبياء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في تكذيب الرسل و الإعراض عن نصائحهم. و هو جمع تابع، كغائب و غيب. أو مصدر، نحو خادم و خدم، نعت به للمبالغة، أو على إضمار مضاف، أي: ذوي تبع.

ص: 477


1- الأعراف: 44.

فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا دافعون عنّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ «من» الأولى للبيان واقعة موقع الحال، و الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول، أي: بعض الشي ء الّذي هو عذاب اللّه. و يجوز أن تكونا للتبعيض، أي: بعض شي ء هو بعض عذاب اللّه. و الإعراب ما سبق. و يحتمل أن تكون الأولى مفعولا و الثانية مصدرا، أي: فهل أنتم مغنون عنّا بعض العذاب بعض الإغناء.

قالُوا أي: الّذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع، و اعتذارا عمّا فعلوا بهم لَوْ هَدانَا اللَّهُ للإيمان لَهَدَيْناكُمْ و لكن ضللنا فأضللناكم، أي: اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا. و هذا كقوله تعالى: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا (1). لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ (2). يقولون ذلك في الآخرة، كما كانوا يقولون ذلك في الدنيا. أو لو هدانا اللّه طريق النجاة من العذاب لهديناكم و أغنيناه عنكم، و سلكنا بكم طريق النجاة، و انقطعت حيلتنا و يئسنا من النجاة، و لكن سدّ دوننا طريق النجاة.

سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مستويان علينا الجزع و الصبر. فالهمزة و «أم» للتسوية. و نحوه فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا (3). ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أي:

منجى و مهرب من العذاب. من الحيص، و هو العدول على جهة الفرار. و هو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت و المضيف، و مصدرا كالمغيب و المشيب. و يجوز أن يكون قوله: سَواءٌ عَلَيْنا من كلام الفريقين. و يؤيّده ما روي أنّهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثمّ يقولون: سواء علينا.

ص: 478


1- الأنعام: 148.
2- النحل: 35.
3- الطور: 16.

[سورة إبراهيم [14]: آية 22]

وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ

الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [22]

و لمّا تقدّم وعيد الكفّار و وصف يوم الحشر، و ما يجري فيه من الجدال بين الأتباع و المتبوعين، عقّب ذلك سبحانه بكلام الشيطان في ذلك اليوم، فقال: وَ قالَ الشَّيْطانُ و هو إبليس باتّفاق المفسّرين لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أحكم و فرغ منه، و دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار، خطيبا في الأشقياء من الثقلين: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ وعدا من حقّه أن ينجز، أو وعدا أنجزه، و هو الوعد بالبعث و الجزاء وَ وَعَدْتُكُمْ وعد الباطل، و هو أن لا بعث و لا حساب، و إن كانا فالأصنام تشفع لكم فَأَخْلَفْتُكُمْ لم أوف بما وعدتكم. جعل تبيّن خلف وعده كالإخلاف منه.

وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلّط، فأقسركم على الكفر و المعاصي، و ألجئكم إليها إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلّا دعائي إيّاكم إلى الضلالة بوسوستي و تزييني.

و ليس الدعاء من جنس السلطان و القهر و القسر، و لكنّه على طريقة قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع. و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا. فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أسرعتم إجابتي.

فَلا تَلُومُونِي بوسوستي، فإنّ من صرّح العداوة لا يلام بأمثال ذلك وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتموني، إذ دعوتكم من غير دليل و برهان، و لم تطيعوا

ص: 479

ربّكم لما دعاكم بالأدلّة الواضحة و الحجج الباهرة.

و هذا دليل على أنّ الإنسان هو الّذي يختار الشقاوة أو السعادة، و يحصّلها لنفسه، و ليس

من اللّه إلّا التمكين، و لا من الشيطان إلّا التزيين. و لو كان الأمر كما تزعم المجبّرة لقال: فلا تلوموني و لا أنفسكم، فإنّ اللّه قد قضى عليكم الكفر و أجبركم عليه.

لا يقال: هذا قول الشيطان، فلا يجوز التمسّك به في بطلان قول المجبّرة.

لأنّا نقول: لو كان صدور هذا القول من الشيطان باطلا لبيّن اللّه بطلانه، و أظهر إنكاره، فتقريره دالّ على صحّته.

ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم من العذاب وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ بمغيثي.

و قرأ حمزة بكسر الياء، على الأصل في التقاء الساكنين. و هو أصل مرفوض في مثله، لما فيه من اجتماع ياءين و ثلاث كسرات. مع أنّ حركة ياء الإضافة هي الفتح، فإذا لم تكسر و قبلها ألف- نحو: عصاي و رحاي- فبالحريّ أن لا تكسر و قبلها ياء.

إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «ما» إمّا مصدريّة، و «من» متعلّقة ب «أشركتموني»، أي: كفرت اليوم بإشراككم إيّاي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا، بمعنى: تبرّأت منه و استنكرته، كقوله: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ (1). أو موصولة، بمعنى «من»، نحو «ما» في قولهم: سبحان ما سخّركنّ لنا، و «من» متعلّقة ب «كفرت»، أي: كفرت بالّذي أشركتمونيه- و هو اللّه تعالى- بطاعتكم إيّاي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام و غيرها من قبل إشراككم، حين رددت أمره بالسجود لآدم. و «أشركت» منقول من: شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان. فتقول:

شركت زيدا، ثمّ تقول: أشركنيه فلان، أي: جعلني له شريكا.

ص: 480


1- فاطر: 14.

إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تتمّة كلامه، أو ابتداء كلام من اللّه تعالى. و في حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، و إيقاظ لهم حتّى يحاسبوا أنفسهم، و يتدبّروا عواقبهم.

[سورة إبراهيم [14]: آية 23]

وَ

أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [23]

و لمّا تقدّم وعيد الكافرين، عقّبه سبحانه بالوعد للمؤمنين، فقال: وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بإذن اللّه و أمره. و المدخلون هم الملائكة. تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي: تحيّيهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربّهم.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 24 الى 27]

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ [24] تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [25] وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [26] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [27]

ثمّ ضرب سبحانه مثلا يقرّب من أفهام السامعين، ترغيبا للخلق في اتّباع

ص: 481

الحقّ، فقال: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كيف اعتمده و وضعه كَلِمَةً طَيِّبَةً منصوبة بفعل مضمر، أي: جعل كلمة طيّبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ زاكية نامية. و هو تفسير لقوله: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا»، كما تقول: أكرم الأمير زيدا، كساه حلّة، و حمله على فرس. و يجوز أن تكون «كلمة» بدلا من «مثلا» و «كشجرة» صفتها، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي كشجرة. و أن تكون أول مفعولي «ضرب»، إجراء لها مجرى «جعل».

أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض، ضارب بعروقه فيها، راسخة أصولها فيها وَ فَرْعُها و أعلاها فِي السَّماءِ في جهة العلوّ و الصعود. أراد به المبالغة في الرفعة. و يجوز أن يريد: و فروعها، أي: أفنانها (1)، على الاكتفاء بلفظ

الجنس، لاكتسابه الاستغراق من الإضافة.

تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ وقّته اللّه لإثمارها. و عن سعيد بن جبير: أراد بذلك أنّه يؤكل ثمرها في الصيف، و طلعها في الشتاء. و ما بين صرام (2) النخلة إلى حملها ستّة أشهر. بِإِذْنِ رَبِّها بإرادة خالقها و تكوينه.

و قيل: معناه في جميع الأوقات، لأنّ ثمر النخل يكون أوّلا طلعا، ثمّ يصير بلحا، ثمّ بسرا، ثمّ رطبا، ثمّ تمرا، فيكون ثمره موجودا في الأوقات كلّها.

وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأنّ في ضربها زيادة إفهام و تذكير، فإنّه تصوير للمعاني و إدناء لها من الحسّ.

و الكلمة الطيّبة هي كلمة التوحيد، كما نقل عن ابن عبّاس أنّها شهادة أن لا إله إلّا اللّه. و قيل: كلّ كلمة حسنة، كالتسبيحة و التحميد و التوبة و الاستغفار و الدعوة، و سائر ما أمر اللّه تعالى به. و إنّما سمّاها طيّبة، لأنّها زاكية بالخيرات، نامية

ص: 482


1- الأفنان جمع الفنن، و هو الغصن المستقيم.
2- أي: قطع تمرها.

بالبركات في الدنيا و الآخرة.

و أمّا الشجرة فكلّ شجرة مثمرة طيّبة الثمار، كالنخلة و شجرة التين و العنب و الرمّان، و غير ذلك. و عن ابن عبّاس: شجرة في الجنّة.

و روى ابن عقدة عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الشجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فرعها عليّ عليه السّلام، و عنصر الشجرة فاطمة عليهما السّلام، و ثمرتها أولادها، و أغصانها و أوراقها شيعتنا». ثمّ قال: «إنّ الرجل من شيعتنا ليموت فتسقط من الشجرة ورقة، و إنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة ورقة».

و روي عن ابن عبّاس قال: قال جبرئيل عليه السّلام للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أنت الشجرة، و عليّ غصنها، و فاطمة ورقها، و الحسن و الحسين عليهما السّلام، ثمارها، و شيعتكم أوراقها.

و قيل: إنّه سبحانه شبّه الإيمان بالنخلة، لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها. و شبّه علوّ مرتبة الإيمان عند اللّه بارتفاع فروع النخلة.

و شبّه ما يكسبه المؤمنون من بركة الإيمان و ثوابه في كلّ وقت و حين، بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلّها، من الرطب و التمر.

و قيل: إنّ معنى قوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ما يفتي به الأئمّة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شيعتهم في الحلال و الحرام.

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ استؤصلت و أخذت جثّتها بالكلّية مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لأنّ عروقها قريبة منه ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار. يقال:

قرّ الشي ء قرارا، كقولك: ثبت ثباتا، في مقابلة قوله: «أصلها ثابت». شبّه بها القول الّذي لم يعضد بحجّة، فهو داحض غير ثابت. و هذه الكلمة كلمة الشرك، و الدعاء إلى الكفر، و تكذيب الحقّ، أو كلّ كلمة مضلّة على العموم. و فسّرت الشجرة بالحنظلة و الكشوث (1). و عن الباقر عليه السّلام: أنّها بنو أميّة.

ص: 483


1- الكشوث: نبات طفيليّ، لا جذر له و لا ورق، يلتفّ بأغصان الشجر.

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أي: الّذي ثبت بالحجّة عندهم، و تمكّن في قلوبهم، فاعتقدوه، و اطمأنّت إليه أنفسهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزلّون إذا فتنوا في دينهم، كزكريّا و يحيى و جرجيس و شمعون، و الّذين فتنهم أصحاب الأخدود وَ فِي الْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف، و لا تدهشهم أهوال يوم القيامة.

و قيل: معناه الثبات عند سؤال القبر.

و هذا قول أكثر المفسّرين، منقول عن ابن عبّاس و ابن مسعود. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: قال: «إنّ المؤمن الصالح إذا كان في آخر يوم من الدنيا و أوّل يوم من الآخرة، أتاه عمله الصالح أطيب الناس ريحا، و أحسنهم منظرا، و أحسنهم رياشا، فقال: أبشر بروح و ريحان و جنّة نعيم، و مقدمك خير مقدم.

فيقول له: من أنت؟

فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة، و إنّه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يعجّله.

فإذا أدخل قبره أتاه ملكا القبر يجرّان أشعارهما، و يخدّان الأرض بأنيابهما، أصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربّك؟ و ما دينك؟ و من نبيّك؟

فيقول: اللّه ربّي، و ديني الإسلام، و نبييّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فيقولان: ثبّتك اللّه فيما تحبّ و ترضى.

و هو قوله سبحانه و تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ. ثمّ يفسحان له في القبر قدّ بصره، ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنّة، ثمّ يقولان له: نم قرير العين نوم الشابّ الناعم، فإنّ اللّه سبحانه يقول: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا (1)».

ص: 484


1- الفرقان: 24.

عن البراء بن عازب أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثمّ يعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره، و يقولان له: من ربّك؟ و ما دينك؟ و من نبيّك؟ فيقول: ربّي اللّه، و ديني الإسلام، و نبيّي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فينادي مناد من السماء أن

صدق عبدي. فذلك قوله: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ».

وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الّذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على تقليد شيوخهم و كبارهم و آبائهم، فقالوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ (1). و إضلالهم اللّه في الدنيا أنّهم لا يثبّتون في مواقف الفتن، تخلية و خذلانا.

وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ و لا يشاء إلّا ما توجبه الحكمة، من تثبيت المؤمنين و تأييدهم، و عصمتهم عند ثباتهم و عزمهم، و من إضلال الظالمين، أي: خذلانهم و التخلية بينهم و بين شأنهم عند زللهم.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 28 الى 31]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [28] جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ [29] وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [30] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ [31]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي: شكر نعمته كفرانا، بأن وضعوا مكانه كفرا، فكأنّهم غيّروا الشكر إلى الكفر، و بدّلوه تبديلا. و نحوه:

ص: 485


1- الزخرف: 22.

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (1)، أي: شكر رزقكم، حيث وضعتم التكذيب موضعه.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عبّاس و سعيد بن جبير و مجاهد و الضحّاك: أنّهم كفّار قريش، كذّبوا نبيّهم، و نصبوا له الحرب و العداوة.

فالمعنى: أنّ اللّه سبحانه خلق كفّار مكّة و أسكنهم حرمه، و جعلهم قوّام بيته، و وسّع عليهم أبواب رزقه، و شرّفهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبدّلوا نفس النعمة كفرا، فسلبت منهم، فقحطوا سبع سنين، و أسروا و قتلوا يوم بدر، و صاروا أذلّاء، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلا لهم الكفر بدلها.

و أيضا

عن عليّ عليه السّلام: «هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة و بنو أميّة، فأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أمّا بنو أميّة فمتّعوا حتّى حين».

وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ الّذين شايعوهم في الكفر دارَ الْبَوارِ دار الهلاك، بحملهم على الكفر.

جَهَنَّمَ عطف بيان لها يَصْلَوْنَها حال منها، أو من القوم، أي: داخلين فيها مقاسين لحرّها. أو مفسّر لفعل مقدّر ناصب ل «جهنّم».

وَ بِئْسَ الْقَرارُ أي: و بئس المقرّ جهنّم.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «نحن و اللّه نعمة اللّه الّتي أنعم بها على عباده، و بنا يفوز من فاز من دار البوار». ذكره عليّ بن إبراهيم (2) في تفسيره.

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الّذي هو التوحيد. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس عن يعقوب بفتح الياء. و ليس الضلال و الإضلال غرضهم في اتّخاذ الأنداد، لكن لمّا كان نتيجته جعل كالغرض على طريق التشبيه.

قُلْ تَمَتَّعُوا بشهواتكم أو بعبادة الأوثان، فإنّها من قبيل الشهوات الّتي

ص: 486


1- الواقعة: 82.
2- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 371.

يتمتّع بها. و في التهديد بصيغة الأمر إيذان بأنّهم لانغماسهم في التمتّع لا يعرفون غيره و لا يريدونه، فكأنّهم مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع، و أنّ المهدّد عليه- أي: التمتّع- كالمطلوب، لإفضائه إلى المهدّد به، و هو النار، و أنّهما متلازمان، و لذلك علّله بقوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ مرجعكم إِلَى النَّارِ إلى نار جهنّم.

قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا خصّهم بالإضافة تنويها لهم، و تنبيها على أنّهم المقيمون لحقوق العبوديّة. و مفعول «قل» محذوف يدلّ عليه جوابه، أي: قل لعبادي الّذين آمنوا أقيموا الصّلاة و أنفقوا. يُقِيمُوا

الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيكون إيذانا بأنّهم لفرط مطاوعتهم للرسول بحيث لا ينفكّ فعلهم عن أمره، و أنّه كالسبب الموجب له.

و قيل: لام الأمر مقدّر فيهما، أي: ليقيموا و لينفقوا، ليصحّ تعلّق القول بهما.

و إنّما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الّذي هو «قل» عوض منه. و لو قيل ابتداء: ليقيموا الصلاة و ينفقوا، لم يجز.

و قيل: هما جوابا «أقيموا» و «أنفقوا» يقامان مقامهما.

و هو ضعيف، لأنّه لا بدّ من مخالفه ما بين الشرط و جوابه، و لأنّ أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا.

سِرًّا وَ عَلانِيَةً منتصبان على المصدر، أي: إنفاق سرّ و علانية. أو على الحال، أي: ذوي سرّ و علانية، بمعنى: مسرّين و معلنين. أو على الظرف، أي: وقتي سرّ و علانية. و الأفضل إعلان الواجب إذا كان صاحبه متّهما، و إلّا إخفاؤه أفضل.

و في المتطوّع به الأفضل الإخفاء مطلقا.

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه وَ لا خِلالٌ و لا مخالّة فيشفع له خليل. أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة و لا مخالّة، و إنّما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه اللّه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب بالفتح فيهما، على النفي العامّ.

ص: 487

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 32 الى 34]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ [32] وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ [33] وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ

لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [34]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المستحقّ للإلهيّة، فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مبتدأ و خبر. و بدأ بذكرهما لعظم شأنهما و غيرهما من المكوّنات في ضمنهما. وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به. و هو يشمل المطعوم و الملبوس. و هذا مفعول ل «أخرج»، و «من الثمرات» بيان له و حال منه. و يحتمل عكس ذلك. و يجوز أن يراد به المصدر، فينتصب بالعلّة أو المصدر، لأنّ «أخرج» في معنى: رزق.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ بمشيئته إلى حيث توجّهتم وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ فجعلها معدّة لانتفاعكم و تصرّفكم. و قيل: تسخير هذه الأشياء تعليم كيفيّة اتّخاذها.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ يدأبان في سيرهما و إنارتهما، و إصلاح ما يصلحانه من المكوّنات وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ يتعاقبان لسباتكم و معاشكم.

وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي: بعض جميع ما سألتموه، نظرا في

ص: 488

مصالحكم. أو بعضا من كلّ من الأصناف سألتموه، فإنّ الموجود من كلّ صنف بعض ما في قدرة اللّه تعالى. و يحتمل أن يكون المراد ب «ما سألتموه» ما كان حقيقا بأن يسأل، لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل. و يحتمل أن تكون «ما» موصولة و موصوفة و مصدريّة، و يكون المصدر بمعنى المفعول.

وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي: لا تقدروا على إحصائها و حصرها، و لا تطيقوا عدّ أنواعها، فضلا عن أفرادها، فإنّها غير متناهية. و فيه دليل على أنّ المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة.

إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو يظلم نفسه، بأن يعرّضها للحرمان كَفَّارٌ

شديد الكفران لنعم ربّه. و قيل: ظلوم في الشدّة يشكو و يجزع، كفّار في النعمة يجمع و يمنع.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 35 الى 41]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [35] رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [36] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [37] رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [38] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ

ص: 489

الدُّعاءِ [39]

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ [40] رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [41]

و لمّا نهى اللّه سبحانه عن عبادة الأصنام، و أمر بعبادة اللّه وحده، عقّبه بما كان عليه إبراهيم عليه السّلام من التشدّد في إنكار عبادة الأصنام، و الدعاء بما دعا به، فقال عطفا على الجمل السابقة: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بلدة مكّة آمِناً ذا أمن لمن فيها. و الفرق بين قوله: اجعل هذا بلدا آمنا، و بين قوله: اجعل هذا البلد آمنا، أنّ المسؤل في الأوّل جعله من جملة البلاد الّتي يأمن أهلها و لا يخافون، و في الثاني إخراجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدّها من الأمن، كأنّه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمنا. فاستجاب اللّه دعاء إبراهيم عليه السّلام، حتّى كان الإنسان يرى قاتل أبيه

فيها فلا يتعرّض له، و تدنو الوحوش فيها من الناس فتأمن منهم.

وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَ بعّدني و إيّاهم أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي: ثبّتني و بنيّ على اجتناب عبادة الأوثان. و المعنى: الطف لي و لبنيّ لطفا نتجنّب به عن عبادة الأصنام إلى آخر العمر. و أراد بنيه من صلبه، كما هو المتبادر، فلا يتناول أحفاده و جميع ذرّيّته. و فيه دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق اللّه و حفظه إيّاهم.

و زعم ابن عيينة أنّ أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم، محتجّا به، و إنّما كانت لهم حجارة يدورون بها، و يسمّونها الدوار- بتخفيف الواو و تشديدها- و يقولون:

البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته.

قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ثمّ قال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فلذلك سألت منك العصمة، و استعذت بك من إضلالهنّ. و إسناد الإضلال إليهنّ باعتبار السببيّة، كقوله: وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ

ص: 490

الدُّنْيا (1)، بمعنى: اغترّوا بها و بسببها.

فَمَنْ تَبِعَنِي على ديني فَإِنَّهُ مِنِّي هو بعضي، لفرط اختصاصه بي و ملابسته لي. و مثل ذلك قولهم: «من غشّنا فليس منّا»، أي: ليس بعض المؤمنين، لأنّ الغشّ ليس من أفعالهم و أوصافهم. و المعنى: فإنّه لا ينفكّ عنّي في أمر الدين.

وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ تستر على العباد معاصيهم رَحِيمٌ بهم في جميع أحوالهم، و منعهم عليهم. و قيل: و من عصاني فيما دون الشرك.

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي: بعض ذرّيّتي، أو ذرّيّة من ذرّيّتي، فحذف المفعول، و هم إسماعيل و من ولد منه، فإنّ إسكانه متضمّن لإسكانهم.

و روي عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «نحن بقيّة تلك العترة».

و قال عليه السّلام: «كانت دعوة

إبراهيم عليه السّلام لنا خاصّة».

بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لا يكون فيه شي ء من زرع قطّ، كقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (2). بمعنى: لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلّا الاستقامة. يعني: وادي مكّة، فإنّها حجريّة لا تنبت.

عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الّذي حرّمت التعرّض له و التهاون به، بحيث لا يحلّ انتهاكه أصلا، و ما حوله محرّم بحرمته. أو لم يزل محترما معظّما ممنّعا تهابه الجبابرة. أو منع منه الطوفان، فلم يستول عليه، و لذلك سمّي عتيقا، أي: أعتق منه.

و لو دعا بهذا الدعاء أوّل ما قدم، فتسميته بالبيت باعتبار ما كان، أو ما سيؤل إليه.

و إنّما أضاف البيت إليه سبحانه، لأنّه مالكه لا يملكه أحد سواه، و ما عداه من البيوت قد ملكه غيره من العباد.

و روي أنّ هاجر كانت لسارة، فوهبتها لإبراهيم عليه السّلام، فولدت منه إسماعيل،.

ص: 491


1- الأنعام: 70.
2- الزمر: 28.

فعرضت لها الغيرة، فناشدته أن يخرجهما من عندها. فأخرجهما إلى أرض مكّة.

فأظهر اللّه عين زمزم. ثمّ إنّ جرهم رأو ثمّ طيورا فقالوا: لا طير إلّا على الماء، فقصدوه فرأوهما و عندهما عين، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا، ففعلت.

و تفصيل هذه القصّة مرّت قبل (1).

رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام لام «كي» متعلّقة ب «أسكنت» أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كلّ مرتفق و مرتزق إلّا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم.

و تكرير النداء و توسيطه للإشعار بأنّها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمّة، و المقصود من الدعاء توفيقهم لها.

و قيل: لام الأمر. و المراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة، كأنّه طلب منهم الإقامة، و سأل من اللّه أن يوفّقهم لها.

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي: أفئدة من أفئدة الناس. و «من» للتبعيض.

و يدلّ عليه ما روي عن مجاهد: لو قال: أفئدة النّاس، لازدحمت عليهم فارس و الروم. و عن سعيد بن جبير: لو قال: افئدة الناس، لحجّت اليهود و النصارى و المجوس. أو للابتداء، كقولك: القلب منّي سقيم، أي: أفئدة ناس. تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم شوقا و ودادا.

وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع سكناهم واديا لا نبات فيه، بأن تجلب إليه من البلاد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ في أن يرزقوا أنواع الثمرات، حاضرة في واد ليس فيه زرع و لا شجر و لا ماء. فأجاب اللّه دعوته، فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كلّ شي ء، حتّى يوجد فيه الفواكه الربيعيّة و الصيفيّة و الخريفيّة في يوم واحد.

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ تعلم سرّنا كما تعلم علننا. و المعنى: أنّك أعلم بأحوالنا و مصالحنا، و أرحم بنا منّا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكنّا

ص: 492


1- راجع ج 1 ص 232 ذيل الآية 126 من سورة البقرة.

ندعوك إظهارا للعبوديّة لك، و تخشّعا لعظمتك، و تذلّلا لعزّتك، و افتقارا إلى ما عندك، و استعجالا لنيل مواهبك، و ولها إلى رحمتك، كما يتملّق العبد بين يدي سيّده رغبة في إصابة معروفه، مع توفّر السيّد على الوجه الحسن.

وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ أي: هو علّام الغيوب في كلّ مكان من الأرض و السماء، لأنّه العالم بعلم ذاتيّ يستوي إلى كلّ معلوم. و «من» للاستغراق.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي: مع الكبر، كقول الشاعر: إنّي على ما ترين من كبري ... و هو في موضع الحال، أي: وهب لي و أنا كبير آيس من الولد إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ قيّد

الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة، و الظفر بالحاجة على عقب اليأس، من أجلّ النعم و أحلاها في نفس الظافر، و إظهارا لما فيها من آلائه. روي أنّه ولد له إسماعيل لتسع و تسعين سنة، و إسحاق لمائة و اثنتي عشرة سنة.

إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي: لمجيبه، من قولك: سمع الملك كلامي، إذا اعتدّ به. و هو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، أضيف إلى مفعوله. و يجوز أن يكون من قبيل إضافة الفعل إلى فاعله، فيجعل دعاء اللّه سميعا على الإسناد المجازي، و المراد سماع اللّه الدعاء. و فيه إشعار بأنّه دعا ربّه و سأل منه الولد حال اليأس، فأجابه و وهب له سؤله حينما وقع اليأس منه.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ هذا سؤال من إبراهيم من اللّه بأن يلطف له اللطف الّذي عنده يقيم الصلاة، معدّلا لها مواظبا عليها وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على المنصوب في «اجعلني». و التبعيض لعلمه بإعلام اللّه أنّه يكون في ذرّيّته كفّار، و ذلك قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (1).

ص: 493


1- البقرة: 124.

رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ أي: و استجب دعائي، أو و تقبّل عبادتي، فإنّ قبول الدعاء إنما هو الاجابة، و قبول الطاعة الإثابة.

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ في هذا دلالة على أنّ أبويه لم يكونا كافرين، و إنّما كان آزر عمّه أو جدّه لأمّه على الخلاف، لأنّه سأل المغفرة لهما يوم القيامة، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك، لأنّه قال: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ (1).

و من قال: إنّما دعا لأبيه لأنّه كان وعده أن يسلم، فلمّا مات على الكفر تبرّأ منه، على ما روي

عن الحسن، فقول فاسد، لأنّ إبراهيم عليه السّلام إنّما دعا بهذا الدعاء بعد الكبر، و بعد أن وهب له إسماعيل و إسحاق، و قد تبيّن له في هذا الوقت عداوة أبيه الكافر للّه، فلا يجوز أن يقصده بدعائه.

وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي: يثبت. مستعار من قيام القائم على الرجل، كقولهم: قامت الحرب على ساقها. أو يقوم إليه أهله، فحذف المضاف، أو أسند إليه قيامهم مجازا.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 42 الى 43]

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [42] مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [43]

و لمّا ذكر سبحانه يوم الحساب بيّن أنّه لا يمهل الظالمين عن غفلة من أفعالهم القبيحة، لكن لتأكيد الحجّة، فقال وعيدا للظالم و تسلية للمظلوم: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المراد به تثبيته على ما هو

ص: 494


1- التوبة: 114.

عليه، من أنّه مطّلع على أحوالهم و أفعالهم، لا يخفى عليه خافية، و وعيدهم بأنّه معاقبهم على قليله و كثيره لا محالة. أو خطاب لكلّ من توهّم غفلته، جهلا بصفاته، و اغترارا بإمهاله.

إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يؤخّر عذابهم. و عن أبي عمرو بالنون. لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي: تشخص فيه أبصارهم، فلا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى في ذلك اليوم.

مُهْطِعِينَ مسرعين في المحشر إلى الداعي. و قيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على ما ترى، تديم النظر إليه لا تطرف. فالمعنى: مقبلين بأبصارهم لا يطرفون هيبة و خوفا، فإنّ أصل الكلمة هو الإقبال على الشي ء.

مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا ترجع إليهم أعينهم، فلا يغمضونها و لا يطبقونها، بل

بقيت عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم.

وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ خلاء. أي: خالية عن الفهم، كفؤاد ذي الحيرة و الدهشة، و منه يقال للأحمق و للجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه و لا قوّة. و قيل: خالية عن الخير، خاوية عن الحقّ.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 44 الى 45]

وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [44] وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [45]

ص: 495

وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يا محمّد يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يعني: يوم القيامة، أو يوم الموت، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، فإنّه أوّل أيّام عذابهم. و هو مفعول ثان ل «أنذر».

فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا نفوسهم بالشرك و التكذيب رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أخّر العذاب عنّا. أو ردّنا إلى الدنيا، و أمهلنا إلى حدّ من الزمان قريب. أو أخّر آجالنا، و أبقنا مقدار ما نؤمن بك و نجيب دعوتك نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ جواب للأمر. و نظيره: لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (1).

فيقول اللّه تعالى مخاطبا لهم، أو يقول الملائكة بأمره: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ من انتقال إلى دار اخرى. و هو على إرادة القول، و «ما لكم» جواب القسم، جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية. و لو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا من زوال. و المعنى: أقسمتم أنّكم باقون في الدنيا، لا تزالون بالموت. و لعلّهم أقسموا بطرا

و غرورا، لما استولى عليهم من عادة الجهل و السفه، أو دلّ عليه حالهم، حيث بنوا شديدا و أملوا بعيدا.

و قيل: أقسموا أنّهم لا ينتقلون إلى دار اخرى، يعني: أنّهم كفروا بالبعث، كقوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ (2). لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ (3).

وَ سَكَنْتُمْ من السكون، أو السكنى فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي، كعاد و ثمود. و أصل «سكن» أن يعدّى ب «في» كقرّ و غني و أقام.

و قد يستعمل بمعنى التبوّء، فيجري مجراه، كقولك: سكنت الدار. و المعنى:

ص: 496


1- المنافقون: 10.
2- النور: 53.
3- النحل: 38.

اطمأننتم فيها طيّبي النفوس، سائرين سيرة من قبلكم في الظلم.

وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ بالأخبار المتواترة عندكم أو بالمشاهدة كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ كيف أهلكناهم وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ من أحوالهم، أي: بيّنّا لكم أنّكم مثلهم في الكفر و استحقاق العذاب، أو في صفات ما فعلوا و فعل بهم الّتي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 46 الى 47]

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [46] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ [47]

ثمّ أبان سبحانه عن مكر الكفّار و دفعه ذلك عن رسله، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ المستفرغ فيه جهدهم لإبطال الحقّ و تقرير الباطل وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ يمكن أن يكون مضافا إلى الفاعل، على معنى: و مكتوب عنده مكرهم، فهو مجازيهم عليه. أو مضافا إلى المفعول، يعني: و عنده ما يمكرهم به، و هو عذابهم الّذي يأتيهم به من حيث لا يحتسبون، جزاء لمكرهم و إبطالا له.

وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ بالأنبياء قبلك في

العظم و الشدّة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ مسوّى لإزالة الجبال.

و قيل: «إن» نافية، و اللام مؤكّدة لها، كقوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ (1).

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (2). أي: و ما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل

ص: 497


1- الأنفال: 33.
2- البقرة: 143.

الجبال الراسية- من دلائل النبيّ و شرائعه- في الثبات و التمكّن. يعني: لا تزول منه الجبال، فكيف يزول منه الدين الّذي هو أثبت من الجبال؟! و قيل: مخفّفة من الثقيلة، أي: و إنّه كان مكرهم ليزيلوا به ما هو كالجبال الراسية ثباتا و تمكّنا، من آيات اللّه و شرائعه. يعني: أنّ مكرهم و إن بلغ كلّ مبلغ فلا يزيل دين اللّه، و لا يضرّ ذلك أنبياءه، و لا يزيل أمرهم، و لا سيّما أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه أثبت من الجبال.

و قرأ الكسائي بالفتح و الرفع، على أنّها المخفّفة، و اللام هي الفاصلة. و معناه:

تعظيم مكرهم.

قيل: إنّ المراد به نمرود بن كوش بن كنعان، حين أخذ التابوت، و أخذ أربعة من النسور فأجاعها أيّاما، و علّق فوقها لحما، و ربط التابوت إليها، و طارت النسور بالتابوت و هو و وزيره فيه، إلى أن بلغت حيث شاء اللّه تعالى، و ظنّ أنّه بلغ السماء، ففتح باب التابوت من أعلاه فرأى بعد السماء منه كبعدها حين كان في الأرض، و فتح بابا من أسفل التابوت فرأى الأرض قد غابت عنه، فهاله الأمر، فصوّب النسور، و سقط التابوت، و كانت له وجبة. و هذا القول مرويّ عن ابن مسعود و ابن عبّاس و جماعة.

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ مثل قوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (1)، كَتَبَ

اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (2). و أصله: مخلف رسله وعده، فقدّم المفعول الثاني إيذانا بأنّه لا يخلف وعده أصلا، كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (3). و إذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله الّذين هم خيرته و صفوته؟!

ص: 498


1- غافر: 51.
2- المجادلة: 21.
3- آل عمران: 9.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يماكر، قادر لا يدافع ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.

[سورة إبراهيم [14]: الآيات 48 الى 52]

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [48] وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [49] سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [50] لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [51] هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [52]

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ أي: الأرض الّتي تعرفونها غَيْرَ الْأَرْضِ أي: أرضا اخرى غيرها. و هو بدل من «يوم يأتيهم»، أو ظرف للانتقام، أو مقدّر ب: اذكر، أو:

لا يخلف وعده. و لا يجوز أن ينتصب ب «مخلف»، لأنّ ما قبل «أن» لا يعمل فيما بعده.

وَ السَّماواتُ عطف على «الأرض». و تقديره: و السماوات غير السماوات.

و التبديل يكون في الذات، كقولك: بدّلت الدراهم دنانير. و عليه قوله: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها (1). وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ (2). و في الصفة، كقولك: بدّلت الحلقة خاتما، إذا أذبتها و سوّيتها خاتما، فنقلتها من شكل إلى شكل. و عليه قوله:

ص: 499


1- النساء: 56.
2- سبأ: 16.

يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ (1). و الآية تحتملهما.

و عن عليّ عليه السّلام: «تبدّل أرضا من فضّة، و سماوات من ذهب».

و عن ابن مسعود و أنس: يحشر الناس على أرض بيضاء، لم يخطئ عليها أحد خطيئة.

و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام بالإسناد عن زرارة و محمد بن مسلم و حمران بن أعين، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالا: «تبدّل الأرض خبزة نقيّة، يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب،

قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ (2). و هو قول سعيد بن جبير و محمد بن كعب.

و روي عن ابن مسعود أنّه قال: تبدّل الأرض بنار، فتصير الأرض كلّها يوم القيامة نارا، و الجنّة من ورائها، يرى كواعبها و أكوابها، و يلجم الناس العرق، و لم يبلغ الحساب بعد.

و قال كعب: تصير السماوات جنانا، و يصير مكان البحر النار، و تبدّل الأرض غيرها. و يؤيّده قوله: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (3). و قوله: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ « (4)».

و عن أبي أيّوب الأنصاري قال: أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حبر من اليهود فقال: أ رأيت إذ يقول اللّه في كتابه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ» فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف اللّه، فلن يعجزهم ما لديه.

و قيل: تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة، و لقوم بأرض النار.

و عن ابن عبّاس: هي تلك الأرض، و إنّما تغيّر صفاتها. و يدلّ عليه ما

روى

ص: 500


1- الفرقان: 70.
2- الأنبياء: 8.
3- المطفّفين: 18 .
4- المطفّفين: 7.

أبو هريرة أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «تبدّل الأرض غير الأرض، فتبسط و تمدّ مدّ الأديم (1) العكاظي، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا».

و أمّا تبدّل السماء صفة فيكون بانتثار كواكبها، و كسوف شمسها، و خسوف قمرها، و انشقاقها، و كونها أبوابا.

وَ

بَرَزُوا لِلَّهِ من قبورهم الْواحِدِ الْقَهَّارِ لمحاسبته و مجازاته. و توصيفه بالوصفين للدلالة على أنّ الأمر في غاية الصعوبة، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (2) فإنّ الأمر إذا كان لواحد غلّاب لا يغالب، فلا مستغاث لأحد إلى غيره و لا مستجار.

وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد الزائغة و الأعمال السيّئة، كقوله تعالى: وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (3) أو بأن يقرن كلّ كافر مع شيطان كان يضلّه. و هو المنقول عن ابن عبّاس. أو قرنت أيديهم و أرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فِي الْأَصْفادِ متعلّق ب «مقرّنين»، أو حال من ضميره. و الصفد القيد. و قيل: الغلّ. و أصله الشدّ.

سَرابِيلُهُمْ قمصانهم مِنْ قَطِرانٍ و قطران و قطران أيضا- بفتح القاف و كسرها مع سكون الطاء- لغتان، و إن لم يقرأهما أحد من القرّاء العشرة. و هو ما يتحلّب من شجر يسمّى الأبهل، فيطبخ فتطلى به الإبل الجربي (4)، فيحرق الجرب بحرّه و حدّته. و قد تبلغ حرارته الجوف، و من شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، و قد يستسرج به. و هو أسود اللون، منتن الريح، لزج. فتطلى به جلود أهل النار، حتّى

ص: 501


1- الأديم: الجلد المدبوغ. و العكاظي منسوب إلى سوق عكاظ بمكّة في الجاهليّة.
2- غافر: 16.
3- التكوير: 7.
4- الجربي جمع الأجرب، و هو الإبل أصابه الجرب. و هو داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكّة شديدة.

يكون طلاؤه لهم كالسراويل، ليجتمع عليهم أربع: لذع القطران و حرقته، و إسراع النار في جلودهم، و اللون الوحش، و نتن الريح. على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. و كلّ ما وعد اللّه أو أوعد اللّه في الآخرة، فبينه و بين ما يشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره، فكأنّه ما عندنا إلّا الأسامي و المسمّيات ثمّة.

و عن يعقوب: قطر آن. و القطر: النحاس أو الصفر المذاب، و الآني: المتناهي حرّه. و الجملة حال ثانية من مفعول «ترى»، أو حال من الضمير في «مقرّنين».

وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لأنّهم لم يتوجّهوا بها إلى الحقّ، و لم يستعملوا في تدبّره مشاعرهم و حواسّهم الّتي خلقت فيها لأجله، كما تطّلع على أفئدتهم، لأنّها فارغة عن المعرفة، مملوءة بالجهالات. و نظيره قوله: أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ (1)، و قوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ (2).

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ أي: يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كلّ نفس مجرمة ما كَسَبَتْ أو كلّ نفس مجرمة أو مطيعة، لأنّه إذا بيّن أنّ المجرمين يعاقبون لأجرامهم، دلّ على أنّ المطيعين يثابون لطاعتهم. و يتعيّن ذلك إن علّق اللام ب «برزوا». إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب.

هذا إشارة إلى القرآن، أو السورة، أو ما فيه من العظة و التذكير، أو ما وصفه من قوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ (3) بَلاغٌ لِلنَّاسِ كفاية لهم في الموعظة وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على محذوف، أي: لينصحوا و لينذروا بما في هذا البلاغ من الوعيد. فتكون اللام متعلّقة بالبلاغ. و يجوز أن تتعلّق بمحذوف تقديره: و لينذروا به أنزل أو تلي.

ص: 502


1- الزمر: 24.
2- القمر: 48.
3- إبراهيم: 42.

وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بالنظر و التأمّل في الأدلّة المؤدّية إلى التوحيد، المثبتة في القرآن من الآيات الدالّة عليه. وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوي العقول و النهى، فيرتدعوا عمّا يرديهم، و يتدرّعوا

بما يحظيهم.

و اعلم أيّها الطالب للرشاد ذخرا ليوم المعاد، أنّ في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في جميع ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين، لأنّ جميعها- جملها و تفاصيلها- يعلم بالقرآن، إمّا بنفسه، و إمّا بواسطة. فيجب على المؤمن المجتهد المهتمّ بأمور الدين أن يشمّر عن ساق الجدّ في طلب علوم القرآن، ليوفّق بمعرفة ما فيه من بدائع الحكمة و مواضع البيان، و يكتفي به عمّا سواه، لينال السعادة في دنياه و عقباه.

و في قوله: وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ دلالة على أنّه سبحانه أراد من الناس علم التوحيد، خلافا لأهل الجبر في قولهم إنّه سبحانه أراد من النصارى إثبات التثليث، و من الزنادقة القول بالتثنية، تعالى اللّه عن ذلك.

و في قوله: «وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» دلالة على أنّه أراد من الجميع التدبّر و التذكّر. و على أنّ العقل حجّة، لأنّ غير ذوي العقول لا يمكنهم الفكر و الاعتبار.

و اعلم أيضا أنّه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد، هي الغاية في إنزال الكتب: تكميل الرسل للناس. و استكمالهم القوّة النظريّة الّتي منتهى كمالها التوحيد.

و استصلاح القوّة العمليّة، الّذي هو التدرّع بلباس التقوى. اللّهمّ اجعلنا من الموفّقين لهما، بحقّ نبيّك النبيه، و وليّك الوليه، و آلهما المعصومين أجمعين.

ص: 503

ص: 504

[15] سورة الحجر

اشارة

مكّيّة، و هي تسع و تسعون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد المهاجرين و الأنصار و المستهزئين بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الحجر [15]: الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ [1] رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [2] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [3] وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [4]

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ [5]

و لمّا ختم سبحانه سورة إبراهيم عليه السّلام بذكر القرآن، و أنّه بلاغ و كفاية لأهل الإسلام، افتتح هذه السورة بذكر القرآن، و أنّه مبيّن للأحكام، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ إشارة إلى آيات السورة. و الكتاب

ص: 505

هو السورة. و كذا القرآن. أو المراد بهما الكتاب و السورة جميعا. و تنكيره للتفخيم، أي: آيات المنزل الجامع بين كونه كتابا كاملا و قرآنا يبيّن الرشد من الغيّ، كاملا في البيان.

رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ربما يتمنّى الكفّار الإسلام حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر، أو عند حلول الموت، أو في القبر، أو يوم القيامة.

روى مجاهد عن ابن عبّاس قال: ما يزال اللّه يدخل الجنّة و يرحم و يشفع حتّى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنّة، فحينئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين.

و روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إذا اجتمع أهل النار في النار و معهم من يشاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفّار للمسلمين: ألم تكونوا

مسلمين؟ قالوا: بلى.

قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم و قد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع اللّه عزّ و جلّ ما قالوه، فأمر من كان في النار من أهل الإسلام فأخرجوا منها. فحينئذ يقول الكفّار: يا ليتنا كنّا مسلمين».

و قال الصادق عليه السّلام: «ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق: أنّه لا يدخل الجنّة إلّا مسلم، فثمّ يودّ سائر الخلق أنّهم كانوا مسلمين».

و قرأ نافع و عاصم: ربما بالتخفيف. و «ما» كافّة تكفّه عن الجرّ، فيجوز دخوله على الفعل. و حقّه أن يدخل على الماضي، لكن لمّا كان المترقّب في أخبار اللّه تعالى كالماضي في تحقّقه، اجري المضارع مجرى الماضي.

و قيل: «ما» نكرة موصوفة، كقوله:

ربما (1) تكره النّفوس من الأمر

له فرجة كحلّ العقال

ص: 506


1- أي: ربّ شي ء تكرهه النفوس.

و معنى التقليل فيه: الإيذان بأنّهم لو كانوا يودّون الإسلام مرّة فبالحريّ أن يسارعوا إليه، فكيف و هم يودّونه كلّ ساعة! و قيل: تدهشهم أهوال القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الآنات من سكرتهم تمنّوا ذلك.

و قوله: «لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» حكاية ودادهم. و إنّما جي ء بها على لفظ الغيبة لأنّهم مخبر عنهم، كقولك: حلف باللّه ليفعلنّ. و لو قيل: لو كنّا مسلمين، و حلف باللّه لأفعلنّ، لكان حسنا، لكن إيثار الحكاية هو الأحسن، لئلّا يلتبس بقول المتكلّم الحاكي.

ذَرْهُمْ أي: اقطع طمعك منهم، و دعهم عن النهي عمّا هم عليه، و الصدّ عنه بالتذكرة و النصيحة، و خلّهم يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا بدنياهم و تنفيذ شهواتهم وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ و يشغلهم أملهم و توقّعهم لطول الأعمار و استقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه. و الغرض إقناط

الرسول من ارعوائهم، و إيذانه بأنّهم من أهل الخذلان، فلا ينفعهم الوعظ، و لا ينجع فيهم النصح، فنصحهم بعد اشتغال بما لا طائل تحته.

و فيه إلزام للحجّة، و تحذير عن إيثار التنعّم و ما يؤدّي إليه طول الأمل، و مبالغة في الإنذار منه، و تنبيه على أنّ الإنسان يجب أن يكون مقصور الهمّة على أمور الآخرة، مستعدّا للموت، مسارعا إلى التوبة، و لا يأمل الآمال المؤدّية إلى الصدّ عنها.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى و طول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، و طول الأمل ينسي الآخرة».

و عن بعض العلماء: التمرّغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ مكتوب مقدّر معيّن، و هو أجلها الّذي كتب في اللوح المحفوظ. و المستثنى جملة واقعة صفة ل «قرية». و الأصل أن

ص: 507

لا تدخلها الواو، كما في قوله: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (1) لكن لمّا شابهت صورتها صورة الحال أدخلت عليها تأكيدا، للصوقها بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد و عليه ثوب.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها موضع كتابها، أي: لم تكن أمّة فيما مضى تسبق أجلها الّذي قدّر لها، فتهلك قبل ذلك وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ عنه، بل إذا استوفت أجلها أهلكها اللّه لا محالة. و تذكير ضمير «أمّة» فيه للحمل على المعنى، فإنّها بمعنى القوم.

[سورة الحجر [15]: الآيات 6 الى 15]

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [6] لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [7] ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [8] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا

لَهُ لَحافِظُونَ [9] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ [10]

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [11] كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [12] لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [13] وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [14] لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [15]

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ نادوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التهكّم. ألا ترى إلى ما نادوه له، و هو قولهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ و نظير ذلك قول فرعون:إِنَّ

ص: 508


1- الشعراء: 208.

رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (1). و التعكيس في كلامهم للاستهزاء و التهكّم مذهب واسع، و قد جاء في كتاب اللّه في مواضع، منها: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2).

إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (3). و قد يوجد في كلام العجم. و المعنى: أنّك لتقول قول المجانين حين تدّعي أنّ اللّه نزّل عليك الذكر، أي: القرآن.

لَوْ ما تَأْتِينا ركّبت «لو» مع «ما» كما ركّبت مع «لا» لمعنيين: لامتناع الشي ء لوجود غيره، و التحضيض. و المراد ها هنا الثاني، أي: هلّا تأتينا.

بِالْمَلائِكَةِ ليصدّقوك و يعضدوك على الدعوة، كقوله تعالى: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (4). أو للعقاب على تكذيبنا لك، كما أتت الأمم المكذّبة قبل.

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك.

ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بالياء مسند إلى ضمير اسم اللّه. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص و عاصم: ننزّل بالنون. و أبو بكر: تنزّل الملائكة، بالتاء و البناء للمفعول و رفع الملائكة. إِلَّا بِالْحَقِ إلّا تنزيلا ملتبسا بالحقّ، أي: بالوجه الّذي قدّره و اقتضته حكمته، و لا حكمة في أن يأتيكم بصور تشاهدونها، فإنّه لا يزيدكم إلّا لبسا، و لا في معاجلتكم بالعقوبة، فإنّ علمنا يتعلّق بأنّ منكم و من ذراريكم من سيؤمن.

و قيل: الحقّ الوحي، أو العذاب.

وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ممهلين مؤخّرين. «إذا» جواب لهم و جزاء الشرط مقدّر، أي: و لو نزّلنا الملائكة ما كانوا منظرين، بل عذّبوا بلا مهلة.

ثمّ زاد سبحانه في البيان، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ردّ لإنكارهم

ص: 509


1- الشعراء: 27.
2- آل عمران: 21.
3- هود: 87.
4- الفرقان: 7.

و استهزائهم، و لذلك أكّده من وجوه، و هي: إيراد حرف التحقيق، و تأكيد الضمير، و الإسناد إلى نفسه، و صيغة المبالغة، و تقريره بقوله: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي: من كلّ زيادة و نقصان، و تغيير و تحريف، بخلاف الكتب المتقدّمة، فإنّه لم يتولّ حفظها، و إنّما يستحفظها الربّانيّون و الأحبار. و لم يكل القرآن إلى غير حفظه، ليكون إلى آخر الدهر معجزا مباينا لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان، فتنقله الأمّة عصرا بعد عصر على ما هو عليه، فيكون حجّة على الخلق.

و قيل: الضمير في «له» للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لقوله: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (1).

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد رسلا. حذف المفعول لدلالة الإرسال عليه. فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في فرقهم. جمع شيعة، و هي الفرقة المتّفقة على طريق و مذهب، من: شاعه، إذا تبعه. و المعنى: نبّأنا رجالا فيهم و جعلناهم رسلا فيما بينهم.

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعل هؤلاء. و هو تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و «ما» للحال لا يدخل إلّا مضارعا بمعناه، أو ماضيا قريبا منه. و هذا على حكاية الحال الماضية.

كَذلِكَ نَسْلُكُهُ ندخل الذكر فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ و السلك إدخال الشي ء في الشي ء، كالخيط في المخيط، و الرمح في المطعون.

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حال من مفعول «نسلكه». و المعنى: مثل ذلك السلك نسلك الذكر و نلقيه في قلوب المجرمين مكذّبا غير مؤمن به، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام، يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضيّة. أو يكون قوله: «لا يؤمنون» بيانا للجملة المتضمّنة للضمير.

ص: 510


1- المائدة: 67.

و قال بعض الأشعريّة: إنّ المعنى نسلك الاستهزاء في قلوبهم. و هذا غير صحيح، لأنّه لو كان اللّه قد سلك الاستهزاء في قلوبهم لسقط عنهم الذمّ و العقاب، لأنّ ذلك ليس من فعلهم، بل من فعل اللّه سبحانه فيهم، فلهم أن يقولوا محتجّين عليه: عتبتنا و ذممتنا، و عذّبتنا بشي ء أنت تخلقه فينا، و ليس لنا فيه اختيار، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

ثمّ قال تهديدا لهم على تكذيبهم: وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ طريقتهم الّتي سنّها اللّه في إهلاكهم حين كذّبوا برسلهم و بالذكر المنزل عليهم. و هو وعيد لأهل مكّة على تكذيبهم.

وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ على هؤلاء المعاندين المقترحين باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يصعدون إليها و يرون عجائبها طول نهارهم. و تخصيص ذلك بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. و قيل: الضمير للملائكة، أي: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا.

لَقالُوا من غلوّهم في العناد و تشكيكهم في الحقّ إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا سدّت عن الإبصار بالسحر، فإنّ اشتقاقه من السّكر بمعنى السدّ. و يدلّ عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف. أو حيّرت من السّكر، أي: حارت كما يحار

السكران. و المعنى: أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوّهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، و يسّر لهم معراج يصعدون فيه إليها، و شاهدوا ملكوت السماء، أو رأو صعود الملائكة في السماء من العيان، لقالوا: هو شي ء نتخايله لا حقيقة له.

بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ بل قالوا: قد سحرنا محمّد بذلك، كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات. و إنّما قال: «إنّما» ليدلّ على أنّهم يقطعون بأنّ ذلك ليس إلّا تسكيرا لأبصارهم.

ص: 511

[سورة الحجر [15]: الآيات 16 الى 18]

وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ [16] وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [17] إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [18]

ثمّ ذكر سبحانه دلالات التوحيد ردّا عليهم، فقال: وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثني عشر تسير الشمس و القمر فيها، مختلفة الهيئات و الخواصّ وَ زَيَّنَّاها بالأشكال الحسنة و الهيئات البهيّة من الكواكب المنيرة لِلنَّاظِرِينَ المعتبرين المستدلّين بها على قدرة مبدعها و توحيد صانعها.

وَ حَفِظْناها و حفظنا السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مرجوم مرميّ بالشهب، أو ملعون مشؤوم، فلا يقدر أن يصعد إليها، و يوسوس أهلها، و يتصرّف في أمرها، و يطّلع على أحوالها. و حفظ الشي ء جعله على ما ينفي عنه الضياع. فمن ذلك حفظ القرآن بدرسه حتّى لا ينسى. و حفظ المال إحرازه حتّى لا يضيع. و حفظ السماء من الشيطان بالمنع حتّى لا يدخلها، و لا يبلغ إلى موضع يتمكّن فيه من استراق السمع، لما أعدّ له من الشهاب، كما قال جلّ و عزّ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ بدل «مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ».

و استراق السمع اختلاسه سرّا. شبّه به خطفتهم اليسيرة من قطّان السماوات، لما بينهم من المناسبة في

الجوهر، أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب و حركاتها ليخبروا بها الكهنة.

و عن ابن عباس: أنّه كان في الجاهليّة كهنة، و مع كلّ واحد شيطان، فكان يقعد من السماء مقاعد للسمع، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض، فينزل و يخبر به الكاهن، فيفشيه الكاهن إلى الناس، فلمّا ولد عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث

ص: 512

سماوات، و لمّا ولد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منعوا من السماوات كلّها بالشهب. فالشهاب من معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه لم ير قبل زمانه.

و قيل: الاستثناء منقطع، أي: و لكن من استرق السمع فَأَتْبَعَهُ فتبعه و لحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين. و الشهاب شعلة نار ساطعة. و قد يطلق للكواكب و السنان، لما فيهما من البريق.

[سورة الحجر [15]: الآيات 19 الى 23]

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ [19] وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ [20] وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [21] وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ [22] وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ [23]

و لمّا تقدّم ذكر السماء و ما فيها من الأدلّة و النعم، أتبعه بذكر الأرض، فقال:

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها طولا و عرضا وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت وَ أَنْبَتْنا فِيها في الأرض، أو فيها و في الجبال مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ مقدّر بمقدار معيّن وزن بميزان الحكمة. أو مستحسن مناسب، من قولهم: كلام موزون.

أو ما يوزن و يقدّر في العادة، كالفضّة و الذهب. أو له وزن

في أبواب النعم و المنفعة.

وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم و الملابس وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش، أو على محلّ «لكم». كأنّه قيل: و جعلنا لكم فيها معايش و جعلنا من لستم له برازقين. و لا يجوز عطفه على ضمير «لكم»، لأنّه لا

ص: 513

يعطف على الضمير المجرور. و المراد به العيال و الخدم و المماليك، و سائر ما يظنّون أنّهم يرزقونهم ظنّا كاذبا، فإنّ اللّه يرزقهم و إيّاهم.

و فذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار و شكل معيّنين- مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النبات و الحيوان المختلفة خلقة و طبيعة، مع جواز أن لا تكون كذلك- على كمال قدرته، و تناهي حكمته، و التفرّد في الألوهيّة، و الامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك، ليوحّدوه و يعبدوه.

ثمّ بالغ في ذلك و قال: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي: و ما من شي ء إلّا و نحن قادرون على إيجاده و تكوينه. فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كلّ مقدوراته، أو شبّه مقدوراته بالأشياء المخزونة الّتي لا يحوج إخراجها إلى كلفة و اجتهاد.

و قيل: المراد به الماء الّذي منه النبات، و هو مخزون عنده تعالى إلى أن ينزله، و نبات الأرض و ثمارها إنّما ينبت بماء السماء.

وَ ما نُنَزِّلُهُ و ما نوجده و ما نعطيه، أو ما ننزّل المطر في بقاع الأرض إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ نعلم أنّه مصلحة. فحدّه الحكمة، و تعلّقت به المشيئة، فإنّ تخصيص بعضها بالإيجاد في بعض الأوقات، مشتملا على بعض الصفات و الحالات، لا بدّ له من مخصّص حكيم.

و يؤيّد التفسير الثاني قوله: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ حوامل. شبّه الريح

التي جاءت بخير- من إنشاء سحاب ماطر- بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. أو ملحقات للشجر أو السحاب. و نظيره الطوائح، بمعنى المطيحات، في قوله: و مختبط ممّا تطيح الطوائح.

فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فجعلناه لكم سقيا وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ قادرين متمكّنين من إخراجه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله: «وَ إِنْ

ص: 514

مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ». أو حافظين في الغدران و العيون و الآبار، ثم نخرجه منها بقدر الحاجة، و لا يقدر أحد على إحراز ما يحتاج إليه من الماء في موضع.

و ذلك أيضا يدلّ على المدبّر الحكيم، كما تدلّ حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإنّ طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حدّ لا بدّ له من سبب مخصّص.

وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها وَ نُمِيتُ بإزالتها. و قد أوّل الحياة بما يعمّ الحيوان و النبات. و تكرير الضمير للدلالة على الحصر. وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ الباقون إذا هلك الخلق كلّه. و هو استعارة من وارث الميّت، لأنّه يبقى بعد فناء الموروث منه، و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و اجعله الوارث منّا».

أو المراد: نحن الوارثون جميع الأشياء كلّها إذا مات الخلائق، فتصير جميع الأشياء كلّها راجعة إلينا ننفرد بالتصرّف فيها.

[سورة الحجر [15]: الآيات 24 الى 25]

وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [24] وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [25]

ثمّ بيّن كمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فقال: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ من استقدم ولادة و موتا و من استأخر من الأوّلين و الآخرين.

أو من خرج من أصلاب الرجال و من لم يخرج بعد. أو من تقدّم في الإسلام و الجهاد و سبق إلى الطاعة أو تأخّر، لا يخفى علينا شي ء من أحوالكم.

و قيل: رغّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصفّ الأول، و قال: «خير صفوف الرجال أولها، و شرّها آخرها، و خير صفوف النساء آخرها، و شرّها أوّلها».

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على الصفّ المقدّم». فازدحم الناس، و كانت دور بني

ص: 515

عذرة بعيدة عن المسجد، فقالوا: لنبيعنّ دورنا، و لنشترينّ دورا قريبة من المسجد، حتى ندرك الصفّ المقدّم، فنزلت هذه الآية.

فعلى هذا يكون المعنى: أنّا نجازي الناس على نيّاتهم.

و قيل: إنّ امرأة حسناء كانت تصلّي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتقدّم بعض القوم لئلّا ينظر إليها، و تأخّر بعض ليبصرها، فنزلت الآية المذكورة. فقال: وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لا محالة للجزاء.

و توسيط الضمير للدلالة على أنّه القادر و المتولّي لحشرهم، و العالم بحصرهم- مع كثرتهم و تباعد أطراف عددهم- لا غير.

و تصدير الجملة ب «إنّ» لتحقيق الوعد، و التنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته و علمه بتفاصيل الأشياء يدلّ على صحّة الحكم، كما صرّح به بقوله: إِنَّهُ حَكِيمٌ باهر الحكمة، متقن في أفعاله عَلِيمٌ وسع علمه كلّ شي ء.

[سورة الحجر [15]: الآيات 26 الى 44]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [26] وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [27] وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [28] فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ

[29] فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [30]

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [31] قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [32] قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ

ص: 516

حَمَإٍ مَسْنُونٍ [33] قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [34] وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ [35]

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [36] قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [37] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [38] قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [39] إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [40]

قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [41] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [42] وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [43] لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [44]

و لمّا ذكر سبحانه الإحياء و الإماتة و النشأة الثانية، عقّبه ببيان النشأة الأولى، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ طين يابس يصلصل- أي: يصوّت إذا نقر- و هو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار. و قيل: هو من: صلصل إذا أنتن، تضعيف:

صلّ، فإنّه يقال: صلّ اللحم و أصلّ إذا أنتن.

مِنْ حَمَإٍ طين تغيّر و اسودّ من طول مجاورة الماء. و هو صفة صلصال، أي: كائن من حمإ مَسْنُونٍ مصوّر، من: سنّة الوجه، أي: صورته. أو مصبوب مفرّغ لييبس، كالجواهر المذابة تصبّ في القوالب، من السنّ و هو الصبّ، كأنّه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتّى إذا نقر صلصل، ثمّ غيّر ذلك طورا بعد طور، حتّى سوّاه و نفخ فيه من روحه. أو منتن، من: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإنّ ما يسيل بينهما يكون منتنا، و يسمّى السنين.

ص: 517

وَ الْجَانَ أبا الجنّ. و قيل: إبليس. و يجوز أن يراد به الجنس، كما هو الظاهر من الإنسان، لأنّ تشعّب الجنس لمّا كان من شخص واحد خلق من مادّة واحدة، كان الجنس بأسره مخلوقا منها. و انتصابه بفعل يفسّره قوله: خَلَقْناهُ من قبل خلق الإنسان مِنْ نارِ السَّمُومِ من نار الحرّ الشديد النافذ في المسامّ.

و قيل: هي نار لا دخان لها، و الصواعق يكون منها. و لا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجرّدة، فضلا عن الأجساد المؤلّفة الّتي الغالب فيها الجزء الناري، فإنّها أقبل لها من الّتي الغالب فيها الجزء الأرضي. و قوله: «مِنْ نارِ» باعتبار الغالب، كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ (1).

قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من سموم النار الّتي خلق اللّه منها الجانّ.

و مساق الآية كما يدلّ على كمال قدرته و بيان بدء خلق الثقلين، فهو كالتنبيه على المقدّمة الثانية الّتي يتوقّف عليها إمكان الحشر، و هو قبول الموادّ للجمع و الإحياء.

و اعلم أنّ أصل آدم عليه السّلام كان من تراب، و ذلك قوله: مِنْ تُرابٍ (2). ثمّ جعل التراب طينا، و ذلك قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ (3). ثمّ ترك ذلك الطين حتّى تغيّر و استرخى، و ذلك قوله: «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ثمّ ترك حتّى جفّ، و ذلك قوله: «مِنْ صَلْصالٍ». فهذه الأقوال لا تناقض فيها، إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة، كما قال تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ و اذكر وقت قوله: لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً يعني: آدم.

و سمّي بشرا لأنّه ظاهر الجلد، لا يواريه شعر و لا صوف. مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ

ص: 518


1- الروم: 20.
2- آل عمران: 59.
3- الأنعام: 2.

مَسْنُونٍ.

فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدّلت خلقته و كمّلته، و هيّأته لنفخ الروح فيه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي.

قال في الكشّاف: «معناه: و أحييته، و ليس ثمّ نفخ و لا منفوخ، و إنّما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه» (1).

و قال في الأنوار: «أصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، و لمّا كان الروح يتعلّق أوّلا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، و تفيض عليه القوّة الحيوانيّة، فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلّقه بالبدن نفخا، و إضافة الروح إلى نفسه للتشريف» (2).

فَقَعُوا فاسقطوا لَهُ ساجِدِينَ أمر من: وقع يقع.

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أكّد بتأكيدين للمبالغة في التعميم، و منع توهّم احتمال التخصيص.

و قيل: أكّد بالكلّ للإحاطة، و بأجمعين للدلالة على أنّهم سجدوا مجتمعين دفعة. و فيه بحث، إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالا لا تأكيدا.

إِلَّا إِبْلِيسَ إن جعل منقطعا اتّصل به قوله: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي: و لكن إبليس امتنع أن يسجد معهم و استكبر. و إن جعل متّصلا كان استئنافا، على أنّه جواب سائل قال: هلّا سجد؟ فقيل: أبى أن يكون من الساجدين.

و استثنى إبليس من الملائكة، لأنّه كان بينهم مأمورا معهم بالسجود، فغلّب اسم الملائكة ثمّ استثنى بعد التغليب، كقولك: رأيتهم إلّا هذا. و قد سبق (3) القول في

ص: 519


1- الكشّاف 2: 577.
2- أنوار التنزيل 3: 168.
3- راجع ج 1 ص 123 ذيل الآية [34] من سورة البقرة.

أنّ إبليس هل كان من الملائكة أو لم يكن؟ باختلاف العلماء فيه، و ما لكلّ واحد من الفريقين من الحجج في سورة البقرة، فلا معنى للإعادة هاهنا.

قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ حرف الجرّ محذوف، أي: أيّ غرض لك في أن لا تكون مَعَ السَّاجِدِينَ لآدم؟! قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي، أي: لا يصحّ منّي و ينافي حالي أن أسجد لِبَشَرٍ جسمانيّ كثيف و أنا جسم لطيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ و هو أخسّ العناصر، و خلقتني من نار و هي أشرفها. استنقص آدم عليه السّلام باعتبار النوع و الأصل. و قد سبق (1) الجواب عنه في سورة الأعراف.

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي: من السماء، أو الجنّة، أو زمر الملائكة. و قيل: من الرئاسة. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من الخير و الكرامة، مبعد من الرحمة، فإنّ من يطرد يرجم بالحجر. أو شيطان يرجم بالشهب. و هو وعيد يتضمّن الجواب عن شبهته.

وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ هذا الطرد و الإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ ضرب يوم الدين حدّا للعنة، إمّا لأنّه أبعد غاية يضربها الناس- كقوله: ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ (2)- في التأبيد. و إمّا أن يراد: أنّك مذموم مدعوّ عليك باللعنة في السماوات و الأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذّب، فإذا جاء ذلك اليوم عذّبت بما ينسى اللعن معه. أو لأنّ اللعنة إلى يوم الدين يناسب أيّام التكليف. و ما في قوله:

فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (3) بمعنى آخر، و هو العذاب الأليم و العقاب العظيم.

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي فأخّرني. و الفاء متعلّقة بمحذوف دلّ عليه «فاخرج

ص: 520


1- راجع ج 2 ص 498 ذيل الآية [12] من سورة الأعراف.
2- هود: 107.
3- الأعراف: 44.

منها فإنّك رجيم». إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ سأل الإنظار إلى اليوم الّذي فيه يبعثون لئلّا يموت، لأنّه لا يموت يوم البعث أحد،

فلم يجب إلى ذلك الوقت، بل قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المسمّى فيه أجلك عند اللّه، أو انقراض الناس كلّهم، و هو النفخة الأولى.

و يجوز أن يكون المراد بالأيّام الثلاثة يوم القيامة، و اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات. فعبّر عنه أوّلا بيوم الجزاء لما عرفته، و ثانيا بيوم البعث، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف و اليأس عن التضليل، و ثالثا بالمعلوم، لوقوعه في الكلامين. و لا يلزم من ذلك أن لا يموت، و يمكن أن يموت أوّل اليوم و يبعث مع الخلائق في تضاعيفه. و هذه المخاطبة و إن لم تكن بواسطة لم تدلّ على منصب إبليس، لأنّ خطاب اللّه له على سبيل الإهانة و الإذلال.

قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم، و «ما» مصدريّة، و جوابه لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ و المعنى: أقسم بإغوائك إيّاي لأزيّننّ لهم المعاصي في الدنيا الّتي هي دار الغرور. و معنى إغوائه إيّاه تسبيبه لغيّه، بأن أمره بالسجود لآدم، فأفضى ذلك إلى غيّه. و ما الأمر بالسجود إلّا حسن و تعريض للثواب بالتواضع و الخضوع لأمر اللّه، و لكن إبليس اختار الإباء و الاستكبار فهلك، و اللّه تعالى بري ء من غيّه و من إرادته و الرضا به، كما هو رأي الأشعريّة، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. و نحو ذلك قوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ (1) في أنّه إقسام، إلّا أنّ أحدهما إقسام بصفته، و الآخر إقسام بفعله.

و يجوز أن لا تكون الباء للقسم، بل للسببيّة، و يقدّر قسم محذوف. و المعنى:

بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم، بأن أزيّن لهم المعاصي.

ص: 521


1- ص: 82.

وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ و لأحملنّهم أجمعين

على الغواية، و أوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم في الدنيا الّتي هي دار الغرور، كقوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ (1). أو أراد: أنّي أقدر على الاحتيال لآدم و التزيين له الأكل من الشجرة و هو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد: لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض، و لأوقعنّ تزييني فيها، أي: لأزيّننّها في أعينهم، و لأحدّثنّهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتّى يستحبّوها على الآخرة، و يطمئنّوا إليها دونها.

إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصتهم لطاعتك، و طهّرتهم من الشوائب، فلا يعمل فيهم كيدي.

قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَ حقّ عليّ أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ لا انحراف عنه.

و هذا إشارة إلى ما تضمّنه الاستثناء، و هو تخليص المخلصين من إغوائه. أو إلى الإخلاص، على معنى أنّه طريق عليّ يؤدّي إلى الوصول إليّ من غير اعوجاج و ضلال.

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ تصديق لإبليس فيما استثناه. و تغيير الوضع لتعظيم المخلصين، و لأنّ المقصود بيان عصمتهم، و انقطاع مخالب الشيطان عنهم. أو تكذيب له فيما أوهم أنّ له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده، فإنّ منتهى تزيينه التحريض و التدليس، كما قال: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي (2). و على هذا يكون الاستثناء منقطعا. و على الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثنى أقلّ من الباقي، لإفضائه إلى تناقض الاستثناءين، لأنّه استثنى الغاوين من العباد تارة، و عكس

ص: 522


1- الأعراف: 176.
2- إبراهيم: 22.

اخرى، فيكون كلّ من الفريقين أقلّ من الآخر و أكثر.

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ لموعد الغاوين أو المتّبعين أَجْمَعِينَ تأكيد للضمير، أو حال. و العامل فيها الموعد إن جعلته مصدرا على تقدير مضاف، و معنى الإضافة إن جعلته اسم مكان، فإنّه لا يعمل.

لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم. أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، كما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ جهنّم لها سبعة طبقات بعضها فوق بعض، و وضع إحدى يديه على الاخرى فقال: هكذا، و إنّ اللّه وضع الجنان على العرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنّم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية».

و في رواية الكلبي: أسفلها الهاوية، و أعلاها جهنّم.

و عن ابن عبّاس: أنّ الباب الأوّل جهنّم، و الثاني سعير، و الثالث سقر، و الرابع جحيم، و الخامس لظى، و السادس الحطمة، و السابع الهاوية.

و لعلّ تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات، و متابعة القوّة الشهويّة و الغضبيّة، أو لأنّ أهلها سبع فرق.

لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع في الدنيا جُزْءٌ مَقْسُومٌ نصيب أفرز له، فأعلاها للموحّدين العصاة، و الثاني لليهود، و الثالث للنصارى، و الرابع للصابئين، و الخامس للمجوس، و السادس للمشركين، و السابع للمنافقين.

و عن ابن عبّاس: أنّ جهنّم لمن ادّعى الربوبيّة، و لظى لعبدة النار، و الحطمة لعبدة الأصنام، و سقر لليهود، و السعير للنصارى، و الجحيم للصابئين، و الهاوية للموحّدين.

و قرأ أبو بكر: جزء بضمّتين. و «منهم» حال منه، أو من المستكن في الظرف لا في «مقسوم»، لأنّ الصفة لا تعمل فيما تقدّم موصوفها.

ص: 523

[سورة الحجر [15]: الآيات 45 الى 48]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ [45] ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [46] وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [47] لا يَمَسُّهُمْ

فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [48]

و لمّا ذكر سبحانه عبادة المخلصين عقّبه بذكر حالهم في الآخرة، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ من اتّباعه في الكفر و الفواحش، فإنّ غيرهما مكفّرة بالصلوات و غيرها فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ لكلّ واحد جنّة و عين. أو لكلّ عدّة منهما، كقوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (1) ثمّ قوله: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ « (2)» و قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ الآية (3).

و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص و هشام: و عيون، حيث وقع بضمّ العين، و الباقون بكسر العين.

ادْخُلُوها على إرادة القول بِسَلامٍ آمِنِينَ سالمين. أو مسلّما عليكم، يسلّم عليكم الملائكة. أو آمنين من الإخراج.

وَ نَزَعْنا في الدنيا بما ألّفنا بين قلوبهم، أو في الجنّة بتطييب نفوسهم ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ من حقد كان في الدنيا. و المعنى: و أزلنا ما كان في قلوبهم من أسباب العداوة في الدنيا. أو طهّرنا قلوبهم من أن يتحاسدوا على درجات الجنّة و مراتب القرب.

إِخْواناً حال من الضمير في «جنّات»، أو فاعل «ادخلوها»، أو الضمير

ص: 524


1- الرحمن: 46 .
2- الرحمن: 62.
3- محمد: 15.

في «آمنين»، أو الضمير المضاف إليه، و العامل فيها معنى الإضافة. و كذا قوله:

عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ كائنين على مجالس السرر متواجهين، ينظر بعضهم إلى وجه بعض. و عن مجاهد: تدور بهم الأسرّة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. و يجوز أن يكونا صفتين ل «إخوانا»، أو حالين من ضميره، لأنّه في معنى: متصافّين. و أن يكون «متقابلين» حالا من المستتر في «على سرر».

لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ تعب و عناء. استئناف، أو حال بعد حال، أو حال من الضمير في «متقابلين». وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فإنّ تمام النعمة بالخلود.

[سورة الحجر [15]: الآيات 49 الى 56]

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [49] وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [50] وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [51] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [52] قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [53]

قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [54] قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ [55] قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [56]

ثمّ قرّر ما ذكره من الوعد و الوعيد، و مكّنه في نفوسهم بقوله: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ و في ذكر المغفرة دليل على أنّه لم يرد بالمتّقين من يتّقي الذنوب بأسرها، كبيرها و صغيرها. و في توصيف ذاته بالغفران و الرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد و تأكيده. و عن ابن عبّاس: غفور لمن

ص: 525

تاب، و عذابه لمن لم يتب.

و عطف قوله: وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ على «نبئ عبادي» ليتّخذوا ما أحلّ من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها، و يعلموا أنّ رحمة اللّه على المتّقين، و سخط اللّه و انتقامه من المجرمين، فيتحقّقوا عنده أنّه هو الغفور الرحيم، و أنّ عذابه هو العذاب الأليم. و ضيف إبراهيم كانوا أحد عشر ملكا في صورة أمارد.

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أي: نسلّم عليك سلاما، أو سلّمنا عليك سلاما قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ خائفون. و ذلك لأنّهم دخلوا بغير إذن و بغير وقت، أو لأنّهم امتنعوا من الأكل. و الوجل اضطراب النفس لتوقّع مكروه.

قالُوا لا تَوْجَلْ لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل.

أرادوا: أنّك بمثابة الآمن المبشّر، فلا توجل، فإنّ المبشّر لا يخاف منه.

و قرأ حمزة: نبشرك، من البشر. بِغُلامٍ هو إسحاق، لقوله: وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ (1) عَلِيمٍ إذا بلغ.

قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي بالمولود عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ تعجّب من أن يولد له مع مسّ الكبر إيّاه، أو إنكار لأن يبشّر به في مثل هذه الحالة. و كذلك قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ «ما» استفهاميّة دخلها معنى التعجّب، كأنّه قال: فبأيّ أعجوبة تبشّرون؟! أو أراد: أنّكم تبشّرونني بما هو غير متصوّر في العادة، فبأيّ شي ء تبشّرونني؟! فإنّ البشارة بما لا يتصوّر وقوعه عادة بشارة بغير شي ء.

و قرأ ابن كثير بكسر النون مشدّدة في كلّ القرآن، على إدغام نون الجمع في نون الوقاية و كسرها.

قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ بما يكون لا محالة، أو باليقين الّذي لا لبس فيه، أو بطريقة هي حقّ، و هو قول اللّه و أمره فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ من الآيسين من ذلك،

ص: 526


1- الصافّات: 112.

فإنّه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين، فكيف من شيخ فان و عجوز عاقر؟! و كان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة، و لذا قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي: لا يقنط البتّة منها إِلَّا الضَّالُّونَ أي: المخطئون طريق المعرفة، فلا يعرفون سعة رحمة اللّه و كمال علمه و قدرته، كما قال: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (1). فكأنّه قال: لم استنكر ذلك قنوطا من رحمته، و لكن استبعادا للعادة الّتي أجراها اللّه في الخلق. و قرأ أبو عمرو و الكسائي: يقنط بالكسر.

[سورة الحجر [15]: الآيات 57 الى 60]

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [57] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [58] إِلاَّ آلَ لُوطٍ

إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [59] إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [60]

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي: فما شأنكم الّذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ لأنّهم كانوا عددا، و البشارة لا تحتاج إلى العدد، و لذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريّا و مريم. أو لأنّهم بشّروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل، و لو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها.

قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني: قوم لوط إِلَّا آلَ لُوطٍ إن كان استثناء من «قوم» كان منقطعا، إذ القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان. و إن كان استثناء من الضمير في «مجرمين» كان متّصلا، و القوم و الإرسال شاملين للمجرمين و آل لوط المؤمنين به. و كأنّهم قالوا: إنّا أرسلنا إلى قوم أجرم

ص: 527


1- يوسف: 87.

كلّهم إلا آل لوط منهم، لنهلك المجرمين، و ننجّي آل لوط منهم.

و يدلّ عليه قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ممّا يعذّب به القوم. و هو استئناف إذا اتّصل الاستثناء، كأنّ إبراهيم قال لهم: فما حال آل لوط؟ قالوا: إنّا لمنجّوهم.

و متعلّق ب «آل لوط» جار مجرى خبر «لكن» إذا انقطع، لأنّ المعنى: لكن آل لوط منجّون.

و على هذا جاز أن يكون قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آل لوط أو من ضميرهم. و على الأوّل لا يكون إلّا من ضميرهم، لاختلاف الحكمين، لأنّ آل لوط متعلّق ب «أرسلنا» أو ب «مجرمين»، و «إلّا امرأته» متعلّق ب «منجّوهم»، فأنّى يكون استثناء من استثناء؟ فإنّ الاستثناء من الاستثناء إنّما يكون فيما اتّحد الحكم فيه، بأن يقال: أهلكناهم إلّا آل لوط إلّا امرأته، كما اتّحد الحكم في قول المطلّق: أنت طالق ثلاثا إلّا ثنتين إلّا واحدة، و في قول المقرّ: لفلان عليّ عشرة دراهم

إلّا ثلاثة إلّا درهما. اللّهمّ إلّا أن يجعل «إنّا لمنجّوهم» اعتراضا. و قرأ حمزة و الكسائي:

لمنجوهم مخفّفا.

قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين مع الكفرة لتهلك معهم. و قرأ أبو بكر عن عاصم: قدرنا، هنا و في النمل (1) بالتخفيف. و إنّما علّق فعل التقدير، و التعليق من خواصّ أفعال القلوب، لتضمّنه معنى العلم، و لذلك فسّر العلماء تقدير اللّه أعمال العباد بالعلم.

و في المدارك: «لو لم تكن اللام في خبرها لوجب فتح «إنّ»، لأنّ «إنّ» مع اسمه و خبره مفعول قَدَّرْنا (2).

و يجوز أن يكون «قدّرنا» أجري مجرى «قلنا» لأنّ التقدير بمعنى القضاء، و هو بمعنى القول. و أصله جعل الشي ء على مقدار غيره.

ص: 528


1- النمل: 57.
2- مدارك التنزيل للنسفي المطبوع بهامش تفسير الخازن 3: 99.

و إسناد الملائكة التقدير إلى أنفسهم و هو فعل اللّه، لما لهم من القرب و الاختصاص به، كما يقول خاصّة الملك: دبّرنا كذا و أمرنا بكذا، و المدبّر و الآمر هو الملك لا هم، و إنّما يظهرون بذلك اختصاصهم و أنّهم لا يتميّزون عنه.

[سورة الحجر [15]: الآيات 61 الى 66]

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ [61] قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [62] قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ [63] وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ [64] فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [65]

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [66]

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ غير معروفين، تنكركم نفسي و تنفر عنكم، مخافة أن تطرقوني بشرّ.

قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما يسرّك و يشفي لك من عدوّك،

و هو العذاب الّذي توعّدتهم به، فيمترون فيه، أي: يشكّون.

وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِ باليقين من عذابهم وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به من نزول العذاب عليهم.

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ فاذهب بهم في الليل. و قرأ الحجازيّان بوصل الهمزة، من السّرى. و هما بمعنى. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ في طائفة من الليل بعد ما يمضي أكثره وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ اقتف آثارهم، و كن وراءهم تسرع بهم، و تطّلع على حالهم، لئلّا يتخلّف أحد منهم.

ص: 529

وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لا ينظر ما وراءه، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو فيصيبه ما أصابهم. أو و لا ينصرف أحدكم و لا يتخلّف، فيصيبه العذاب. و قيل: نهوا عن الالتفات ليوطّنوا نفوسهم على المهاجرة، و لا يشتغل بمن خلفهم قلوبهم، و لا يتحسّروا على مفارقة أوطانهم و من به.

وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ اذهبوا إلى الموضع الّذي أمرتم بالذهاب إليه، و هو الشام أو مصر. و عدّي «امضوا» إلى «حيث» كما يعدّى إلى الظرف المبهم، لأنّ «حيث» مبهم في الأمكنة. و كذلك الضمير (1) في «تؤمرون».

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إليه مقضيّا مبتوتا، و لذلك عدّي ب «إلى» ذلِكَ الْأَمْرَ مبهم يفسّره أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ و محلّه النصب على البدل منه. و في ذلك تفخيم للأمر و تعظيم له. و دابر الشي ء آخره. و المعنى: يستأصلون عن آخرهم حتّى لا يبقى منهم أحد. مُصْبِحِينَ داخلين في الصبح. و هو حال من «هؤلاء»، أو من الضمير في «مقطوع». و جمعه للحمل على المعنى، فإنّ دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء.

[سورة الحجر [15]: الآيات 67 الى 72]

وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ [67] قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ [68] وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ [69] قالُوا

أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ [70] قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ [71]

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [72]

وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ و هي قرية سدوم يَسْتَبْشِرُونَ يبشّر بعضهم بعضا

ص: 530


1- أي: الضمير المحذوف في: تؤمرونه.

بنزول من هو في صورة أضياف لوط، طمعا فيهم.

قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي، فإنّ من اسي ء إلى ضيفه فقد أسي ء إليه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في ركوب الفاحشة وَ لا تُخْزُونِ و لا تذلّوني بإذلال ضيفي، من الخزي و هو الهوان. أو لا تخجلوني فيهم، من الخزاية و هو الحياء.

قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ عن أن تجير منهم أحدا، أو تضيفه، أو تمنع بيننا و بينهم، فإنّهم كانوا يتعرّضون لكلّ أحد، و كان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه، أو عن ضيافة الناس و إنزالهم.

قالَ هؤُلاءِ بَناتِي فانكحوهنّ، فلا تتعرّضوا لهم، يعني: نساء القوم، فإنّ نبيّ كلّ أمّة بمنزلة أبيهم. و فيه وجوه ذكرت في سورة هود (1). إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قضاء الوطر، أو ما أقول لكم. فهذا شكّ في قبولهم لقوله.

لَعَمْرُكَ قسم بحياة المخاطب، و هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قال ابن عبّاس: ما خلق اللّه عزّ و جلّ و لا ذرأ و لا برأ نفسا أكرم عليه من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلّا بحياته، فقال: لعمرك. و قيل: قسم بحياة لوط، قالت الملائكة له ذلك.

و الأصحّ الأوّل. و التقدير: بحياتك و مدّة بقائك قسمي. و العمر و العمر واحد، إلّا أنّهم خصّوا القسم بالمفتوح، لإيثار الأخفّ فيه، لأنّه كثير الدوران على ألسنتهم، و لذلك حذفوا الخبر، و هو قسمي.

إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ لفي غوايتهم، أو شدّة غلمتهم (2) الّتي أزالت عقولهم و تمييزهم بين الخطأ الّذي هم عليه، و بين الصواب الّذي يشار به إليهم، من ترك البنين إلى البنات يَعْمَهُونَ يتحيّرون. فكيف يسمعون نصحك؟! و قيل: الضمير لقريش، و الجملة معترضة.

ص: 531


1- راجع ص 300 ذيل الآية 78 من سورة هود.
2- الغلمة: اشتداد الشهوة و اهتياجها.

[سورة الحجر [15]: الآيات 73 الى 84]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [73] فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [74] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [75] وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [76] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [77]

وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ [78] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [79] وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [80] وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [81] وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ [82]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [83] فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [84]

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة عذاب قوم لوط بقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الصوت الهائل المهلك. و هي صيحة جبرئيل. مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس.

فَجَعَلْنا عالِيَها عالي مدينتهم، أو عالي قريتهم سافِلَها و صارت منقلبة بهم وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجّر، أو طين عليه كتاب من السجلّ، بدليل قوله تعالى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ (1) أي:

معلّمة بكتاب. و قد سبق (2) مزيد بيان لهذه القصّة في سورة هود.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما سبق ذكره من إهلاك قوم لوط لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفرّسين المتأمّلين. و حقيقة المتوسّمين النظّار المتثبّتون في نظرهم حتّى يعرفوا

ص: 532


1- الذاريات: 33- 34.
2- راجع ص 303 ذيل الآية 83 من سورة هود.

حقيقة الشي ء بسمته. يقال: توسّمت في فلان كذا، أي:

عرفت و سمه فيه. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللّه.

و قال: إنّ للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم، ثمّ قرأ هذه الآية.

وَ إِنَّها و إنّ المدينة أو القرى لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس، و يرون آثارها. و هو تنبيه لقريش، كقوله: وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (1).

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «نحن المتوسّمون، و السبيل فينا مقيم، و السبيل طريق الجنّة» (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ باللّه و رسله. خصّهم بالذكر، لأنّهم هم المنتفعون بها.

وَ إِنْ كانَ و إنّه كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة، فبعثه اللّه إليهم فكذّبوه فأهلكوا بالظلّة. و الأيكة الشجرة المتكاثفة.

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالإهلاك. روي: أنّهم أهلكوا بالظلّة الّتي احترقوا بنارها.

وَ إِنَّهُما يعني: سدوم و الأيكة. و قيل: الأيكة و مدين، فإنّه كان مبعوثا إليهما، فكان ذكر إحداهما منبّها على الاخرى. لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح يؤتمّ و يتّبع و يهتدى به باعتباره. و الامام اسم ما يؤتمّ به، فسمّي به اللوح الّذي يكتب فيه و مطمر البناء- و هو حبل يقدّر به البناء- لأنّه ممّا يؤتمّ به.

وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني: ثمود كذّبوا صالحا، و من كذّب واحدا من الرسل فكأنّما كذّب الجميع. و يجوز أن يراد بالمرسلين صالحا و من معه من المؤمنين. و الحجر واد بين المدينة و الشام يسكنونه.

وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني: آيات الكتاب المنزل على

ص: 533


1- الصافّات: 137.
2- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 377.

نبيّهم. أو معجزاته، كالناقة و سقبها (1) و شربها و درّها. أو ما نصب لهم

من الأدلّة.

وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من الانهدام، لاستحكامها جدّا.

أو من نقب اللصوص و تخريب الأعداء، لوثاقتها. أو من العذاب، لفرط غفلتهم، أو حسبانهم أنّ الجبال تحميهم منه.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ فما دفع عنهم العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة، و استكثار الأموال و العدد.

عن جابر قال: مررنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الحجر فقال لنا: «لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء». ثمّ زجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم راحلته فأسرع حتّى خلّفها.

[سورة الحجر [15]: الآيات 85 الى 86]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [85] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [86]

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إهلاك هؤلاء الأمم لأجل أنّهم خالفوا الحقّ، فقال: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ خلقا ملتبسا بالحقّ لا يلائم استمرار الفساد و دوام الشرور، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء، و إزاحة فسادهم من الأرض.

وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فينتقم اللّه لك فيها ممّن كذّبك من أعدائك، و يجازيك و إيّاهم على حسناتك و سيّئاتهم، فإنّه ما خلق السماوات و الأرض و ما بينهما إلّا لذلك فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ فأعرض عنهم إعراضا جميلا، فلا تعجل بالانتقام منهم، و عاملهم معاملة الصفوح الحليم. و قيل: هو منسوخ بآية السيف (2). و يجوز

ص: 534


1- السقب: ولد الناقة ساعة يولد.
2- التوبة: 5 و 29.

أن يكون المراد به المخالقة (1)، فلا يكون منسوخا.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الّذي خلقك و خلقهم، و بيده أمرك و أمرهم الْعَلِيمُ بحالك و حالهم، فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم. أو هو الّذي خلقكم و علم الأصلح لكم، و قد علم أنّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح.

[سورة الحجر [15]: الآيات 87 الى 99]

وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [87] لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [88] وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [89] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [90] الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [91]

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [92] عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [93] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [94] إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [95] الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [96]

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [97] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [98] وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [99]

ثمّ ذكر سبحانه ما خصّ به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من النعم، لتطيب نفسه في احتمال

ص: 535


1- أي: المعاشرة بخلق حسن.

المشاقّ و المتاعب في التبليغ، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً

سبع آيات، و هي الفاتحة. و هو قول عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس، و الحسن، و أبي العالية، و سعيد بن جبير، و إبراهيم، و مجاهد، و قتادة. و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قال ابن مسعود و الضحّاك و ابن عمر: هي سبع سور، و هي الطوال. و اختلف في سابعتها، فقيل: الأنفال و التوبة، فإنّهما في حكم سورة، و لذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. و قيل التوبة. و قيل: يونس، أو الحواميم السبع. و قيل: سبع صحائف، و هي

الأسباع.

مِنَ الْمَثانِي بيان للسبع. و المثاني جمع المثناة أو المثنية، من التثنية أو الثناء، فإنّ كلّ ذلك مثنّى، تكرّر قراءته أو ألفاظه أو قصصه و مواعظه، أو مثنيّ عليه بالبلاغة و الإعجاز، أو مثن على اللّه بما هو أهله من صفاته العظمى و أسمائه الحسنى. و يجوز أن يراد بالمثاني القرآن أو كتب اللّه كلّها، فتكون «من» للتبعيض.

وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكلّ على البعض. و إن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر. يعني: و لقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني و القرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين، و هو التثنية أو الثناء و العظم. و وجه عظمه أنّه يتضمّن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين، بأوجز لفظ، و أحسن نظم، و أتمّ معنى.

و لمّا علمت أنّ القرآن أعظم النعم، و ما دونه بالنسبة إليه حقير جدّا، من النعم الدنيّة الفانية الدنياويّة، فعليك أن تستغني به و لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمح ببصرك طموح راغب إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفّار من أنواع النعم، فإنّه مستحقر جدّا بالإضافة إلى ما أوتيته، فإنّه كمال مقصود بالذات، مفض إلى دوام اللذّات. و في الحديث: «من اوتي القرآن فرأى أنّ أحدا أوتي من الدنيا أفضل

ص: 536

ممّا أوتي، فقد صغّر عظيما، و عظّم صغيرا».

قيل وافت من بصرى و أذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير، فيها أنواع البزّ (1) و الطيب و الجوهر و سائر الأمتعة. فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها، و لأنفقناها في سبيل اللّه. فقال لهم اللّه سبحانه:

لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه

القوافل السبع. و المعنى: لا تتمنّ أموالهم، و لا تحزن عليهم أنّهم لم يؤمنوا، فيتقوّى بمكانهم الإسلام، و ينتعش بهم المؤمنون.

وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أنّهم لم يؤمنوا. و قيل: إنّهم المتمتّعون به. وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ و تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين و ضعفائهم، و ارفق بهم، و طب نفسا عن إيمان الأغنياء و الأقوياء.

وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أنذركم ببيان و برهان أنّ عذاب اللّه نازل بكم إن لم تؤمنوا كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ أي: عذابا مثل العذاب الّذي أنزلنا عليهم.

فهو وصف لمفعول «النذير» أقيم مقامه.

و المقتسمون هم الاثنا عشر الّذين اقتسموا مداخل مكّة، فقعدوا في كلّ مدخل متفرّقين أيّام الموسم لينفّروا الناس عن الإيمان بالرسول، يقول بعضهم: لا تغترّوا بالخارج منّا، فإنّه ساحر، و يقول الآخر: كذّاب، و الآخر شاعر، فأهلكهم اللّه يوم بدر. أو الرهط الّذين اقتسموا، أي: تقاسموا على أن يبيّتوا صالحا عليه السّلام، أي:

يقتلوه ليلا.

و قيل: هو صفة مصدر محذوف، يدلّ عليه قوله: «و لقد آتيناك» فإنّه بمعنى: أنزلنا إليك. و المعنى: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب المقتسمين.

ص: 537


1- البزّ: السلاح، و الثياب من الكتّان أو القطن.

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي: جزّؤه أجزاء حيث قالوا بعنادهم و شدّة عداوتهم و حسدهم: بعضه موافق للتوراة و الإنجيل، و بعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حقّ و باطل. و واحد عضين عضة، بمعنى الجزء. و أصلها عضوة، من:

عضى الشاة، إذا جعلها أعضاء. و قيل: أسحارا، من: عضهته إذا بهتّه (1). و في الحديث: «لعن رسول اللّه العاضهة (2) و المستعضهة».

و إنّما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه.

و قيل: كانوا يستهزؤن، فيقول بعضهم: سورة البقرة

لي، و يقول الآخر: سورة آل عمران لي.

و يجوز أن يراد بالقرآن ما يقرءونه من كتبهم، و قد اقتسموه بتحريفهم، و بأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة و كذّبت ببعض، و النصارى أقرّت ببعض الإنجيل و كذّبت ببعض.

و هذه تسلية لرسول اللّه عن صنيع قومه بالقرآن و تكذيبهم، و قولهم: إنّه سحر و شعر و أساطير الأوّلين، بأنّ غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم.

و الموصول بصلته صفة ل «المقتسمين»، أو مبتدأ خبره فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من التقسيم، فنجازيهم عليه. و قيل: هو عامّ في كلّ ما فعلوا من الكفر و المعاصي. عن أبي العالية: يسأل العباد عن خلّتين: عمّا كانوا يعبدون، و ماذا أجابوا المرسلين. و أضاف اللّه سبحانه نفسه إلى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تشريفا له، و تنبيها للخلق على عظم منزلته عنده. و هذا سؤال تقريع و توبيخ، بأن يقول لهم:

لم عصيتم؟ و ما حجّتكم في ذلك؟ فيظهر عند ذلك خزيهم و فضيحتهم.

ص: 538


1- أي: اتّهمته.
2- العاضهة: الساحر بلغة قريش.

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فأظهر، من: صدع بالحجّة إذا تكلّم بها جهارا. أو فافرق به بين الحقّ و الباطل. و أصله الإبانة و التمييز. و «ما» مصدريّة، أي: بأمرك، مصدر من المبنيّ للمفعول. أو موصولة، و الراجع محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع. وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ و لا تلتفت إلى ما يقولون.

إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بقمعهم و إهلاكهم.

روي: أنّهم كانوا خمسة نفر ذووا أسنان و شرف: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن عبد يغوث، و الأسود بن المطّلب، و الحارث بن قيس- و قيل: ستّة، سادسهم الحارث

بن الطلاطلة- يبالغون في إيذاء النبيّ و الاستهزاء به. فقال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلّق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظّما لأخذه، أي: منعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعه، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات. و أومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيه شوكة، فقال: لدغت لدغت، و انتفخت رجله حتّى صارت كالرحى و مات. و أشار إلى أنف الحارث بن الطلاطلة فامتخط (1) قيحا فمات. و أشار إلى عيني الأسود بن المطّلب فعمي. و إلى الأسود بن عبد يغوث و هو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، و يضرب وجهه بالشوك حتى مات.

و قيل: إنّ الحارث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش، فما زال يشرب حتّى نفخ بطنه فمات. و عن ابن عبّاس: ماتوا كلّهم قبل وقعة بدر.

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين.

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من الشرك، و الطعن في القرآن، و الاستهزاء بك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافزع إلى اللّه فيما نابك بالتسبيح و التحميد يكفك المهمّ، و يكشف الغمّ عنك. أو فنزّهه عمّا يقولون، حامدا له على أن هداك

ص: 539


1- أي: أخرج القيح، و هو ما يسيل من الجراحة و القرح.

للحقّ. وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلّين. و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا حزبه (1) أمر فزع إلى الصلاة.

وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي: الموت، فإنّه متيقّن لحاقه كلّ حيّ مخلوق. و يحتمل أن يكون أراد: حتّى يأتيك العلم الضروري بالموت و الخروج من الدنيا، الّذي

يزول معه التكليف. و المعنى: فاعبده ما دمت حيّا، و لا تخلّ بالعبادة لحظة.

ص: 540


1- أي: اصابه غمّ و أمر شديد، و منه: الحزيب، أي: الأمر الشديد.

[16] سورة النحل

اشارة

مكّيّة غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحد، و هي: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا» إلى آخر السورة، نزلت بين مكّة و المدينة. و هي مائة و ثمان و عشرون آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها لم يحاسبه اللّه بالنعم الّتي أنعمها عليه في دار الدنيا، و إن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالّذي مات و أحسن الوصيّة».

و روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة النحل في كلّ شهر كفي المغرم في الدنيا، و سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونه الجنون و الجذام و البرص، و كان مسكنه في جنّة عدن، و هي وسط الجنان».

[سورة النحل [16]: الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [1] يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ [2]

ص: 541

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بوعيدهم أيضا. و روي أنّ كفّار مكّة كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من قيام الساعة أو إهلاك اللّه إيّاهم- كما فعل يوم بدر- استهزاء و تكذيبا، و يقولون: إن صحّ ما تقوله فالأصنام تشفع لنا و تخلّصنا منه، فنزلت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي: الأمر الموعود من اللّه بمنزلة الآتي المتحقّق، من حيث إنّه واجب الوقوع. و في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ أمر اللّه

آت، و كلّ ما هو آت قريب دان».

فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فلا تستعجلوا وقوعه، فإنّه لا خير لكم فيه، و لا خلاص لكم منه.

و قيل: لمّا نزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ (1) قال الكفّار فيما بينهم: إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتّى ننظر ما هو كائن. فلمّا تأخّرت قالوا: ما نرى شيئا. فنزلت: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ (2). فأشفقوا و انتظروا قربها. فلمّا امتدّت الأيّام قالوا: يا محمّد ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به. فنزلت: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ». فوثب رسول اللّه، و رفع الناس رؤوسهم، فنزلت: «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» فاطمأنّوا.

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تبرّأ و جلّ عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم، فتكون «ما» موصولة. أو عن إشراكهم، فتكون مصدريّة. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء على وفق قوله: «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ». و الباقون بالياء على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين، أو لهم و لغيرهم.

يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ بالوحي أو القرآن، فإنّه يحيي به القلوب الميّتة بالجهل. أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد. و ذكره عقيب ذلك إشارة إلى

ص: 542


1- القمر: 1.
2- الأنبياء: 1.

الطريق الّذي به علم الرسول ما تحقّق موعدهم به و دنوّه.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: ينزل، من: أنزل. و عن يعقوب مثله. و عنه: تنزّل، بمعنى: تتنزّل. و قرأ أبو بكر: تنزّل، على المضارع المبنيّ للمفعول، من التنزيل.

مِنْ أَمْرِهِ من أجله، أو بأمره. و نظيره قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ (1) أي: بأمره. عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممّن يصلح للنبوّة أَنْ أَنْذِرُوا بأن أنذروا، أي: أعلموا، من: نذرت بكذا، إذا علمته أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ

أي: خوّفوا أهل الكفر و المعاصي بأنّه لا إله إلّا أنا. و قوله: «فاتّقون» رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود. و «أنّ» مفسّرة، لأنّ الروح بمعنى الوحي الدالّ على القول. أو مصدريّة في موضع الجرّ بدلا من الروح، أو النصب بنزع الخافض. أو مخفّفة من الثقيلة، أي: أن الشأن لا إله إلّا أنا.

و الآية تدلّ على أنّ نزول الوحي بواسطة الملائكة، و أنّ الغرض منه التنبيه على التوحيد الّذي هو منتهى كمال القوّة العلميّة، و الأمر بالتقوى الّذي هو أقصى كمال القوّة العمليّة.

[سورة النحل [16]: الآيات 3 الى 8]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [3] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [4] وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ [5] وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ [6] وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ

ص: 543


1- الرعد: 11.

لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [7]

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [8]

ثمّ دلّ على وحدانيّته بما ذكر ممّا لا يقدر عليه غيره، من خلق السماوات و الأرض، و خلق الإنسان و ما يصلحه، و ما لا بدّله منه من خلق البهائم، فقال:

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ أوجدهما على مقدار و شكل و أوضاع و صفات مختلفة، قدّرها و خصّصها بحكمته تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ منهما، أو ممّا يفتقر في وجوده أو بقائه إليهما، ممّا لا يقدر على خلقهما.

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ جماد لا حسّ بها و لا حراك، سيّالة لا تحفظ الوضع و الشكل فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ منطيق، مجادل، مكافح للخصوم مُبِينٌ للحجّة بعد ما كان نطفة من منيّ،

جمادا لا حسّ به و لا حركة. أو خصيم لربّه، منكر على خالقه، قائل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (1)، وصفا للإنسان بالإفراط في الوقاحة و الجهل، و التمادي في كفران النعمة.

و قيل: نزلت في أبيّ بن خلف، أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعظم رميم و قال: يا محمّد، أ ترى اللّه يحيي هذا بعد ما قد رمّ (2)؟

وَ الْأَنْعامَ الإبل و البقر و الغنم. و انتصابها بمضمر يفسّره خَلَقَها لَكُمْ أو بالعطف على الإنسان. و «خلقها لكم» بيان ما خلقت لأجله، و ما بعده تفصيل له.

و هو قوله: فِيها دِفْ ءٌ ما يدفأ به من لباس معمول من الصوف و الشعر- ك: مل ء، اسم ما يملأ به- فيقي البرد.

ص: 544


1- يس: 78.
2- رمّ العظم: بلي.

وَ مَنافِعُ نسلها و درّها و ظهورها. و إنّما عبّر عنها بالمنافع ليتناول عوضها.

وَ مِنْها تَأْكُلُونَ أي: تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم و الشحوم و الألبان.

و تقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، أو لأنّ الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش، و أمّا الأكل من سائر الحيوانات المأكولة- كالصيود البرّيّة و البحريّة، كالدجاج و البطّ- فعلى سبيل التداوي أو التفكّه (1).

وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ زينة حِينَ تُرِيحُونَ تردّونها من مراعيها إلى مراحها بالعشيّ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها بالغداة إلى المراعي، فإنّ الأفنية تتزيّن بها في الوقتين، و يجلّ أهلها في أعين الناظرين إليها، و يفرح أربابها. و نحوه:

لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً (2) يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً (3). و تقديم الإراحة لأنّ الجمال فيها أظهر، فإنّها تقبل ملأى البطون حافلة (4) الضروع، ثمّ تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.

وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أحمالكم إِلى

بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إن لم تكن الأنعام و لم تخلق، فضلا أن تحملوها على ظهوركم إليه. فلأجل هذه الإفادة لم يقل: لم تكونوا حامليها إليه، ليطابق قوله: «وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ». إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إلّا بكلفة و مشقّة. و أصله: النصف، كأنّه ذهب نصف قوّته بالتعب.

إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم، و تيسير الأمر عليكم.

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ عطف على الأنعام لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً أي:

ص: 545


1- أي: التلذّذ و التمتّع.
2- النحل: 8.
3- الأعراف: 26.
4- أي: ممتلئة ضروعها لبنا.

و لتتزيّنوا بها زينة. و قيل: هي معطوفة على محلّ «لتركبوها». و تغيير النظم لأنّ الزينة بفعل الخالق، و الركوب ليس بفعله. و لأنّ المقصود من خلقها الركوب، و أمّا التزيّن بها فحاصل بالعرض. و ليس فيه ما يدلّ على تحريم أكل لحومها، كما استدلّ به بعض العامّة، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا. و قد روى البخاري في الصحيح (1) مرفوعا إلى اسماء بنت أبي بكر قالت:

أكلنا لحم الفرس على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لمّا فصّل الحيوانات الّتي يحتاج إليها غالبا- احتياجا ضروريّا أو غير ضروريّ- أجمل غيرها، فقال: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ و يجوز أن يكون إخبارا بأنّ له من الخلائق ما لا علم لنا به، من الحشرات في المفاوز و البحار. و أن يراد به ما خلق في الجنّة و النار ممّا لم يخطر على قلب بشر، ليزيد دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، و إن طوى عنّا علمه، لحكمة ما في طيّه.

[سورة النحل [16]: آية 9]

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ

لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [9]

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحقّ.

فالقصد مصدر بمعنى الفاعل، و هو القاصد، يقال: سبيل قصد و قاصد، أي: مستقيم، كأنّه يقصد الوجه الّذي يؤمّه السالك لا يعدل عنه. أو المعنى: إقامة السبيل و تعديلها. أو عليه قصد السبيل، يصل إليه من يسلكه لا محالة، أي: واجب عليه هداية الطريق الموصل إلى الحقّ، كقوله: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (2). و المعنى: واجب على اللّه في عدله بيان الطريق المستقيم، و بيان الهدى من الضلالة، و الحلال من

ص: 546


1- صحيح البخاري 7: 123.
2- الليل: 12.

الحرام، لينتفع المكلّف بالهدى و الحلال، و يتجنّب عن الضلالة و الحرام.

و المراد بالسبيل الجنس، و لذلك أضاف إليه القصد و قال: وَ مِنْها جائِرٌ مائل عن القصد، أو عن اللّه. و غيّر الأسلوب ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيل و ما لا يجوز. و لو كان الأمر كما تزعم المجبّرة لقيل: و على اللّه قصد السبيل و عليه جائرها، أو و عليه الجائر. أو ليعلم أنّ المقصود بيان سبيله، و تقسيم السبيل إلى القصد و الجائر إنّما جاء بالعرض.

وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي: و لو شاء هدايتكم أجمعين مشيئة جبر و قسر لهداكم قسرا إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء، و لكنّ القسر و الإلجاء ضدّ التكليف الّذي هو مدار أعمال العباد، كما بيّن غير مرّة.

[سورة النحل [16]: الآيات 10 الى 13]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [10] يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [11] وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ

النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [12] وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [13]

ثمّ عدّ سبحانه نعمة اخرى دالّة على كمال قدرته و وحدانيّته، فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من السحاب، أو من جانب السماء ماءً أي: مطرا لَكُمْ

ص: 547

مِنْهُ شَرابٌ ما تشربونه. و «لكم» صلة «أنزل»، أو خبر «شراب»، و «من» تبعيضيّة متعلّقة به. و تقديمها يوهم حصر المشروب فيه. و لا بأس به، لأنّ مياه العيون و الآبار منه، لقوله: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ (1)، و قوله: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ (2).

وَ مِنْهُ شَجَرٌ و منه يكون شجر. قيل: معناه: لكم من ذلك الماء شراب، و منه شرب شجر أو سقي شجر، فحذف المضاف. أو لكم من سقيه شجر، فحذف المضاف إلى الهاء في «منه». و المراد بالشجر الّذي ترعاه المواشي. و قيل: كلّ ما نبت على الأرض شجر.

فِيهِ تُسِيمُونَ ترعون أنعامكم من غير كلفة و التزام مؤونة لعلفها. من:

سامت الماشية إذا رعت، و أسامها صاحبها. و أصله: السومة، و هي العلامة، لأنّها تؤثّر بالرعي علامات في الأرض.

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ بذلك المطر الزَّرْعَ و قرأ أبو بكر بالنون على التفخيم وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ و بعض كلّها، إذ لم ينبت في الأرض كلّ ما يمكن من الثمار، بل كلّ الثمار في الجنّة. و لعلّ تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه، لأنّه سيصير غذاء حيوانيّا هو أشرف الأغذية، و من هذا تقديم الزرع و التصريح بالأجناس الثلاثة و ترتيبها.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ على وجود الصانع

و كمال حكمته و قدرته، فإنّ من تأمّل أن الحبّة تقع في الأرض، و تصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشقّ أعلاها، و يخرج منه ساق الشجرة، و ينشقّ أسفلها فيخرج منه عروقها، ثمّ ينمو و يخرج منه الأوراق و الأزهار و الأكمام و الثمار، و يشتمل كلّ منها على أجسام مختلفة الأشكال و الطباع، مع اتّحاد الموادّ و نسبة الطبائع السفليّة و التأثيرات الفلكيّة إلى الكلّ، علم أنّ ذلك ليس إلّا بفعل فاعل مختار مقدّس عن منازعة الأضداد

ص: 548


1- الزمر: 21.
2- المؤمنون: 18.

و الأنداد، جلّت قدرته و حكمته.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ بأن هيّأها لمنافعكم مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ حال من الجميع، أي: نفعكم بها حال كونها مسخّرات للّه، خلقها و دبّرها كيف شاء. أو مسخّرات لما خلقن له بأمره بإيجاده و تقديره، أو لحكمه. و يجوز أن يكون نصب «مسخّرات» بالمصدريّة، و جمع لاختلاف النوع، أي: سخّرها أنواعا من التسخير. و قرأ حفص: و النجوم مسخّرات، على الابتداء و الخبر، فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه. و رفع ابن عامر الشمس و القمر أيضا.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ جمع الآية و ذكر العقل، لأنّ الآثار العلويّة أظهر دلالة على القدرة الباهرة، و أبين شهادة للكبرياء و العظمة. و لأنّها تدلّ أنواعا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير محوجة إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات.

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ عطف على الليل، أي: و سخّر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان و نبات و معدن مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أصنافه، فإنّها تتخالف باللون غالبا إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أنّ اختلافها في الطباع و الهيئات

و المناظر ليس إلّا بصنع صانع حكيم.

[سورة النحل [16]: الآيات 14 الى 16]

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [14] وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [15] وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [16]

ص: 549

ثمّ عدّد سبحانه نوعا آخر من أنواع نعمه، فقال: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ جعله بحيث تتمكّنون من الانتفاع به بالركوب و الاصطياد و الغوص لِتَأْكُلُوا مِنْهُ بالاصطياد لَحْماً طَرِيًّا هو السمك. و وصفه بالطراوة، لأنّه أرطب اللحوم، يسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. و لإظهار قدرته في خلقه عذبا طريّا في ماء زعاق (1).

و تمسّك به مالك و الثوري على أنّ من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك.

و أجيب عنه بأنّ مبنى الأيمان على العرف، و هو لا يفهم منه عند الإطلاق.

ألا ترى إذا قال الرجل لغلامه: اشتر بهذه الدراهم لحما، فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار. و نظيره أنّ اللّه سمّى الكافر دابّة في قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (2). و لا يحنث الحالف على أن لا يركب دابّة بركوب الكافر.

وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها كاللؤلؤ و المرجان، أي: تلبسها نساؤكم، فأسند إليهم لأنّهنّ من جملتهم، و لأنّهنّ يتزيّنّ بها لأجلهم.

وَ تَرَى الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ شواقّ في البحر، و قواطع لمائه. يعني:

في حالة الجريان تشقّ البحر بحيزومها (3). من المخر، و هو شقّ الماء. و عن الفرّاء:

هو صوت جري الفلك بالرياح.

وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من سعة رزقه بركوبها للتجارة وَ لَعَلَّكُمْ

تَشْكُرُونَ أي: تعرفون نعم اللّه فتقومون بحقّها. و لعلّ تخصيصه بتعقيب الشكر، لأنّه أقوى نعمة من نعم المنعم، من حيث إنّه جعل مظانّ الهلاك سببا للانتفاع و تحصيل المعاش.

ص: 550


1- الزعاق: الماء المرّ لا يطاق شربه.
2- الأنفال: 55.
3- في هامش النسخة الخطّية: «هو وسط الصدر. منه».

وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا عالية ثابتة. واحدها راسية. أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميل بكم، أو لئلّا تميل بكم و تضطرب. و ذلك لأنّ الأرض قبل خلق الجبال فيها كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع، و كان من شأن الكرويّات أن تتحرّك بالاستدارة كالأفلاك، و أن تتحرّك بأدنى سبب للتحريك، فلمّا خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها، و توجّهت الجبال بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد الّتي تمنعها عن الحركة.

و روي: أنّ اللّه سبحانه لمّا خلق الأرض جعلت تمور (1)، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها، فأصبحت و قد أرسيت بالجبال، و لم تدر الملائكة ممّ خلقت.

وَ أَنْهاراً أي: و جعل فيها أنهارا، لأن «ألقى» فيه معنى: جعل وَ سُبُلًا و طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى حيث شئتم من البلاد لمقاصدكم، أو إلى معرفة اللّه.

وَ عَلاماتٍ و معالم الطرق، و كلّ ما يستدلّ به السابلة من جبل و منهل و نحو ذلك وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بالليل في البراري و البحار. و المراد بالنجم الجنس، كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس. و يدلّ عليه القراءة الشاذّة: و بالنجم، بضمّتين، و ضمّ و سكون، على الجمع. و عن السدّي: هو الثريّا و الفرقدان و بنات النعش و الجدي.

و عن ابن عبّاس: سألت رسول اللّه عنه فقال: الجدي علامة قبلتكم، و به تهتدون في برّكم و بحركم.

و لعلّ الضمير لقريش، لأنّهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. و إخراج الكلام عن سنن الخطاب، و تقديم النجم، و إقحام الضمير للتخصيص، كأنّه قيل: إنّ للناس- خصوصا لقريش- اهتداء

ص: 551


1- أي: تضطرب و تتحرّك كثيرا و بسرعة من جهة إلى اخرى.

بالنجوم في أسفارهم، فكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر عليه ألزم لهم، و أوجب عليهم.

و عن الصادق عليه السّلام: «نحن العلامات، و النجم رسول اللّه».

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه جعل النجوم أمانا لأهل السماء، و جعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض».

[سورة النحل [16]: آية 17]

أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [17]

و بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته و تناهي حكمته، و التفرّد بخلق ما عدّد من مبدعاته، أنكر عبادة المشركين الأصنام، فقال: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني: كيف يساوي و يستحقّ مشاركته ما لا يقدر على خلق شي ء من ذلك، بل على إيجاد شي ء ما.

و المراد ب «من لا يخلق» كلّ ما عبد من دون اللّه، سواء كان من أولي العلم أم لا، فغلّب أولو العلم على غيرهم لشرافتهم.

أو المراد به الأصنام، فجي ء ب «من» الّذي لأولي العلم، إمّا لأنّهم سمّوها آلهة و عبدوها، فأجروها مجرى أولي العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره: «وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ». و إمّا للمشاكلة بينه و بين «من يخلق». و إمّا للتنبيه على أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم، فكيف بما لا علم عنده؟! و كان حقّ الكلام: أ فمن لا يخلق كمن يخلق؟ لأنّه إلزام للّذين عبدوا

الأوثان، و سمّوها آلهة تشبيها باللّه، فجعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حقّ الإلزام أن يقال لهم: أ فمن لا يخلق كمن يخلق، لكنّه عكس تنبيها على أنّهم حين جعلوا غير اللّه مثل اللّه في تسميته باسمه و العبادة له، و سوّوا بينه و بينه، فقد جعلوا

ص: 552

اللّه من جنس المخلوقات، شبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: «أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ»، أي: أ جعلتموه من جنس المخلوقات العجزة و شبّهتموه بها؟

أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أ فلا تتذكّرون أيّها المشركون، فتعرفوا فساد ذلك؟! فإنّه لجلائه كالّذي حصل عند العقل بأدنى تذكّر و التفات.

[سورة النحل [16]: آية 18]

وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [18]

و لمّا عدّد النعم و ألزم الحجّة على تفرّده باستحقاق العبادة، نبّه العباد على أنّ ما وراء ما عدّد نعما لا تنحصر، فحقّ عبادته غير مقدور، فقال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ و إن أردتم تعداد نعم اللّه عليكم و معرفة تفاصيلها لا تُحْصُوها لا تضبطوا عددها، و لم يمكنكم إقصاؤها، و لا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بشكرها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكرها رَحِيمٌ لا يقطعها لتفريطكم فيه، و لا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.

[سورة النحل [16]: آية 19]

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ [19]

و لمّا قدّم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمه و كمال قدرته، عقّبه ببيان علمه بسريرة كلّ أحد و علانيته، فقال: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ من عقائدكم و أعمالكم، فيجازيكم على حسبهما، إذ لا يخفى عليه الجليّ و الخفيّ من أحوالكم. و هذا وعيد للكافر الكفور، و تزييف للشرك باعتبار العلم.

[سورة النحل [16]: الآيات 20 الى 21]

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ [20] أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [21]

ص: 553

و لمّا نفى المشاركة بين من يخلق و من لا يخلق، بيّن أنّهم لا يخلقون شيئا، لينتج أنّهم لا يشاركونه، فقال: وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: و الآلهة الّذين يعبدونهم من دونه. و قرأ عاصم و يعقوب بالياء. لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً فكيف يجوز أن يكونوا شركاء للّه في الألوهيّة؟! ثمّ أكّد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي الألوهيّة، فقال: وَ هُمْ يُخْلَقُونَ لأنّها ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق، و الإله ينبغي أن يكون واجب الوجود.

أَمْواتٌ هم أموات لا تعتريهم الحياة، أو أموات حالا أو مآلا غَيْرُ أَحْياءٍ بالذات ليتناول كلّ معبود، و الإله ينبغي أن يكون حيّا بالذات لا يعتريه الممات وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ و لا يعلمون وقت بعث عبدتهم. و فيه تهكّم بالمشركين، و أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! و الإله ينبغي أن يكون عالما بالغيوب، مقدّرا للثواب و العقاب. و فيه تنبيه على أنّ البعث من توابع التكليف، فإنّه لا بدّ للتكليف من الجزاء، و هو بعد البعث.

[سورة النحل [16]: الآيات 22 الى 23]

إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [22] لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [23]

و لمّا أقام اللّه سبحانه الحجج على بطلان الشرك و الشركاء، ذكر المدّعى و هو الوحدانيّة، فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.

ص: 554

ثمّ بيّن ما اقتضى إصرارهم على الشرك بعد وضوح الحقّ، من عدم إيمانهم بالآخرة، فقال: فَالَّذِينَ

لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة للحقّ، مستبعدة لما يرد عليها من المواعظ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الانقياد للحقّ، دافعون له من غير حجّة، فإنّ المؤمن بالآخرة يكون طالبا للدلائل، متأمّلا فيما يسمع، فينتفع به، و الكافر بها يكون حاله بالعكس. يعني: أنكرت قلوبهم ما لا يعرف إلّا بالبرهان، اتّباعا للأسلاف، و ركونا إلى المألوف، فإنّه ينافي النظر، و استكبرت عن اتّباع الرسول و تصديقه، و الالتفات إلى قوله. و الأوّل هو العمدة في هذا الباب، و لذلك رتّب عليه الآخرين.

لا جَرَمَ حقّا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ فيجازيهم. و هو في موضع الرفع ب «جرم»، لأنّه فعل أو مصدر. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ فضلا عن الّذين استكبروا عن توحيده أو اتّباع رسوله.

[سورة النحل [16]: الآيات 24 الى 29]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [24] لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [25] قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [26] ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [27] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ

ص: 555

الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [28]

فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [29]

ثمّ أبان سبحانه عن أحوال المشركين و أقوالهم، فقال: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ القائل بعضهم على التهكّم، أو الوافدون عليهم، أو المسلمون. و «ماذا» إما منصوب ب «أنزل»

بمعنى: أيّ شي ء أنزل ربّكم؟ أو مرفوع بالابتداء، بمعنى: ايّ شي ء أنزله ربّكم؟ فإذا نصبت فمعنى قوله: قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما تدّعون نزوله أساطير الأوّلين. و إذا رفعته فالمعنى: المنزل أساطير الأوّلين. و إنّما سمّوه منزلا على التهكّم، أو على فرض أنّه منزل فهو أساطير الأولين لا تحقيق فيه.

و القائلون قيل: هم المقتسمون الّذين اقتسموا مداخل مكّة ينفّرون عن رسول اللّه، إذا سألهم وفود الحاجّ عمّا أنزل على رسول اللّه قالوا: أحاديث الأوّلين و أباطيلهم.

لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللام للعاقبة. و المعنى: كان عاقبة أمرهم إذا فعلوا ذلك أن حملوا أوزار ضلالهم تامّة، فإنّ إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال.

وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ و بعض أوزار ضلال من يضلّونهم، و هو حصّة التسبّب. يعني: حملوا أوزار إضلالهم و إغوائهم، و لم يحملوا أوزار ضلالهم.

بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول، أي: يضلّون من لا يعلم أنّهم ضلّال. و إنّما وصف بالضلال من لا يعلم، لأنّه كان عليه أن يبحث و ينظر بعقله حتى يميّز بين المحقّ و المبطل.

أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه فعلهم.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أيّما داع

ص: 556

دعا إلى الهدى فاتّبع، فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شي ء.

و أيّما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليه، فإنّ عليه مثل أوزار من اتّبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء».

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: جعلوا وسائل ليمكروا بها رسل اللّه فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فأتاها أمره من جهة أساطين البناء الّتي بنوا عليها، بأن ضعضعت فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ و صار سبب هلاكهم وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا

يَشْعُرُونَ لا يحتسبون و لا يتوقّعون. و هو على سبيل التمثيل لاستئصالهم.

و المعنى: أنّهم سوّوا منصوبات ليمكروا رسل اللّه بها، فجعل اللّه هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنيانا و عمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين، بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف و هلكوا.

و عن ابن عبّاس: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سمكه خمسة آلاف ذراع، و قيل: فرسخان، و رام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه، أو ليترصّد أمر السماء، فأهبّ اللّه الريح فخرّ عليه و على قومه فهلكوا. و قيل: ألقت رأس الصرح في البحر، و خرّ عليهم الباقي. و الأوّل أليق، و أفيد للعموم، و أليق بكلام العرب، كما قالوا: أتي فلان من مأمنه، أي: أتاه الهلاك من جهة مأمنه. و ذكر الفوق مع حصول العلم بأنّ السقف لا يكون إلّا من فوق للتأكيد، كما يقال: مشيت برجلي، و تكلّمت بلساني.

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ثمّ يذلّهم أو يعذّبهم بالنار، كقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ (1). وَ يَقُولُ على سبيل التوبيخ لهم و التهجين أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تشركونهم معي في العبادة. فأضاف إلى نفسه استهزاء، أو حكاية لإضافتهم زيادة في توبيخهم. و قرأ البزّي بخلاف عنه: أين شركائي بغير

ص: 557


1- آل عمران: 192.

همزة، و الباقون بالهمز. تُشَاقُّونَ فِيهِمْ تعادون المؤمنين في شأنهم. و قرأ نافع بكسر النون، بمعنى: تشاقّونني، فإنّ مشاقّة المؤمنين كمشاقّة اللّه.

قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي: الأنبياء أو العلماء الّذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاقّونهم و ينكرون عليهم، أو الملائكة إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ الذلّة و العذاب عَلَى الْكافِرِينَ و فائدة قولهم إظهار الشماتة بهم، و زيادة الإهانة.

و حكايته لأن يكون لطفا لمن سمعه.

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ و قرأ حمزة بالياء. و موضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بأن عرّضوها للعذاب المخلّد فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فسالموا و أخبتوا حين عاينوا الموت. و أصل الإلقاء في الأجسام، فاستعمل في إظهارهم الانقياد، إشعارا بغاية خضوعهم و استكانتهم، و أنّها كالشي ء الملقى بين يدي الغالب القاهر، قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ كفر و عدوان، فجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق و الكبر. و يجوز أن يكون تفسيرا للسلم، على أنّ المراد به القول الدالّ على الاستسلام.

بَلى أي: فتجيبهم الملائكة بلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الكفر و المعاصي، فهو يجازيكم عليه.

و قيل: قوله: «فألقوا السلم ... إلخ» استئناف و رجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة. و على هذا أوّل من لم يجوّز الكذب يومئذ «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» بأنّا لم نكن في زعمنا و اعتقادنا فاعلين سوء. و احتمل أن يكون الرادّ عليهم هو اللّه أو أولوا العلم. و هذا أيضا من الشماتة. و كذلك فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ كلّ صنف بابها المعدّ له. و قيل: أبواب جهنّم طبقات جهنّم و دركاتها المتضمّنة أصناف عذابها.

خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ جهنّم مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ المتعظّمين عن قبول الحقّ.

و اللام للتأكيد.

ص: 558

[سورة النحل [16]: الآيات 30 الى 32]

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [30] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [31] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [32]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر أقوال الكافرين

فيما أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عقّبه بذكر أقوال المؤمنين في ذلك، فقال: وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يعني: المؤمنين ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي: أنزل خيرا. و في نصبه دليل على أنّهم لم يتلعثموا (1) في الجواب، و أطبقوه على السؤال، معترفين بالإنزال، على خلاف الكفرة، فصلا بين جواب المقرّ و جواب الجاحد. فهؤلاء أطبقوا الجواب على السؤال فقالوا:

خيرا، أي: أنزل خيرا. و أولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، و ليس من الإنزال في شي ء.

روي أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيّام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا، و إذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك، فيخبرونه بصدقه و أنّه نبيّ مبعوث، فهم الّذين قالوا خيرا.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مكافأة في الدنيا وَ لَدارُ الْآخِرَةِ

ص: 559


1- أي: لم يتوقفوا و لم يتأنوا. يقال: تلعثم في الأمر، أي: توقف فيه و تأنى.

خَيْرٌ أي: و لثوابهم في الآخرة خير منها. و هو وعد للّذين اتّقوا على قولهم خيرا.

و يجوز أن يكون «للّذين أحسنوا» و ما بعده حكاية لقولهم، بدلا و تفسيرا ل «خيرا»، على أنّه منتصب ب «قالوا». وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة. فحذفت لتقدّم ذكرها.

و قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدأ محذوف. و يجوز أن يكون المخصوص بالمدح يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات. و في تقديم الظرف تنبيه على أنّ الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلّا في الجنّة.

كَذلِكَ مثل هذا الجزاء يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم

أنفسهم بالكفر و المعاصي، لأنّه في مقابلة ظالمي أنفسهم. و قيل: فرحين ببشارة الملائكة إيّاهم بالجنّة. أو طيّبين بقبض أرواحهم، لتوجّه نفوسهم بالكلّية إلى حضرة القدس.

يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يحيقكم بعد مكروه ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنّما يقولون ذلك لهم عند خروجهم من قبورهم. و قيل: إذا أشرف العبد على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا وليّ اللّه، اللّه يقرئك السلام و يبشّرك بالجنّة.

[سورة النحل [16]: الآيات 33 الى 34]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [33] فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [34]

ص: 560

ثمّ أشار إلى توعيد الكفّار، فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظر الكفّار المارّ ذكرهم إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء. أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ القيامة أو العذاب المستأصل كَذلِكَ مثل ذلك الفعل من الشرك و التكذيب فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأصابهم ما أصابوا وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بتدميرهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بكفرهم و معاصيهم المؤدّية إليه.

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي: جزاء سيّئات أعمالهم، على حذف المضاف، أو تسمية الجزاء باسمها، كما قال: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (1) وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و أحاط بهم جزاؤه. و الحيق لا يستعمل إلّا في الشرّ.

[سورة النحل [16]: آية 35]

وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [35]

ثمّ عاد إلى حكاية قول المشركين، فقال: وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مع اللّه إلها آخر لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ من الأصنام و غيرها نَحْنُ وَ لا آباؤُنا الّذين اقتدينا بهم وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ بل شاء منّا، و أراد فعلنا.

و هذا القول من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم و عنادهم، من شركهم باللّه و إنكار وحدانيّته بعد قيام الحجج، و إنكار البعث، و استهزائهم به، و تكذيبهم الرسول،

ص: 561


1- الشورى: 40.

و شقاقهم و استكبارهم عن قبول الحقّ. يعني: أنّهم أشركوا باللّه، و حرّموا ما أحلّ اللّه من البحيرة و السائبة و غيرهما، ثمّ نسبوا فعلهم إلى اللّه و قالوا: لو شاء لم نفعل. و هذا مذهب المجبّرة بعينه.

كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأشركوا باللّه، و حرّموا حلّه، و ردّوا رسله.

ثمّ أنكر سبحانه هذا القول عليهم، فقال: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلّا أن يبلغوا الحقّ بالبرهان و البيان، و يطلعوهم على بطلان الشرك و قبحه، و أنّ اللّه لا يشاء الشرك و المعاصي منهم، و على براءة اللّه من أفعال العباد، و أنّهم فاعلوها بقصدهم و إرادتهم و اختيارهم، و اللّه باعثهم على جميلها، و موفّقهم و زاجرهم عن قبيحها، و موعدهم عليه.

[سورة النحل [16]: آية 36]

وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [36]

ثمّ بيّن أنّ بعثة الرسل أمر جرت به السنّة الإلهيّة في الأمم كلّها، سببا لهداية من استرشد و استهدى، و زيادة لضلالة من عاند و استهوى، كالغذاء الصالح، فإنّه ينفع المزاج السويّ و يقوّيه، و يضرّ المنحرف و يفنيه، فقال: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ في كلّ جماعة و قرن رَسُولًا كما بعثناك على أمّتك أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ليقول لهم: اعبدوا اللّه وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي: عبادة الشيطان و كلّ داع يدعو إلى الضلالة.

ص: 562

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وفّقهم للإيمان بإرشادهم، لاسترشادهم. أو هداهم اللّه إلى طريق الجنّة. وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي: من أعرض عمّا دعا إليه الرسول

عنادا و انهماكا في الجحود، مع وضوح الحقّ عليه، فخذله و خلّاه، فثبتت عليه الضلالة و لزمته. أو حقّت عليه عقوبة الضلالة. فسمّى اللّه العقاب ضلالا، كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (1).

فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أرض المكذّبين يا معشر قريش إن لم تصدّقوني فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من عاد و ثمود و غيرهم، لعلّكم تعتبرون كيف حقّت عليهم العقوبة و حلّت بهم، حتّى لا يبقى لكم شبهة في أنّي لا أقدّر الشرّ و لا الإساءة حيث أفعل بالأشرار.

[سورة النحل [16]: آية 37]

إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [37]

ثمّ ذكر عناد قريش و حرص رسول اللّه على إيمانهم، فقال: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ على أن يؤمنوا بك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي لا يوفّق مَنْ يُضِلُ و لا يلطف بمن يخذل، أي: يريد ضلاله و يخلّيه، لانهماكه في الكفر و تصميمه على العناد، لأنّ اللطف في حقّه عبث، و اللّه متعال عن العبث، لأنّه من قبيل القبائح الّتي لا تجوز عليه. و قرأ غير الكوفيّين: لا يهدى، على البناء للمفعول.

و هو أبلغ.

وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ من ينصرهم بدفع العذاب عنهم. و هذا دليل على أنّ المراد بالضلال الخذلان الّذي هو نقيض النصرة.

ص: 563


1- القمر: 47.

[سورة النحل [16]: الآيات 38 الى 40]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [38] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ [39] إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [40]

روي: أنّه كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، فوقع في كلامه: و الّذي أرجوه بعد الموت أنّه لكذا و كذا. فقال المشرك: إنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت، و أقسم باللّه لا يبعث اللّه من يموت. فنزلت: وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ حلفوا باللّه مجتهدين في أيمانهم. و المعنى: بلغوا في القسم كلّ مبلغ. لا يَبْعَثُ اللَّهُ لا يحيي مَنْ يَمُوتُ عطف ذلك على «وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» إيذانا بأنّهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه، زيادة في البتّ على فساده.

فردّ اللّه عليهم أبلغ ردّ، فقال: بَلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكّد لنفسه، أي:

وعدكم البعث و الجزاء وعدا واجبا عَلَيْهِ إنجازه، لامتناع الخلف في وعده، أو لأنّ البعث مقتضى حكمته حَقًّا صفة اخرى للوعد، أي: وعدا ثابتا عند اللّه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنّهم يبعثون، إمّا لعدم علمهم بأنّه من مواجب الحكمة الّتي جرت عادته بمراعاتها، و إمّا لقصور نظرهم بالمألوف، فيتوهّمون امتناعه.

ثمّ إنّه تعالى بيّن الأمرين فقال: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي: يبعثهم ليبيّن لهم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ و هو الحقّ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ فيما كانوا يزعمون. و هو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث، المقتضي له من

ص: 564

حيث الحكمة. و هو المميّز بين الحقّ و الباطل، و المحقّ و المبطل، بالثواب و العقاب.

ثمّ قال بيانا لإمكانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أي: إذا أردنا وجوده، فليس إلّا أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: أحدث فيحدث ذلك بلا توقّف. و هذا مثل في أنّ مراد اللّه لا يمتنع عليه، و أنّ وجوده عند إرادته مثل وجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع المتمثّل، و لا قول هناك. و المعنى: أنّ إيجاد كلّ مقدور على اللّه تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الّذي هو من شقّ المقدورات؟! و تقرير البيان أنّ تكوين اللّه بمحض قدرته و مشيئته لا توقّف له على سبق الموادّ و المدد و إلّا لزم التسلسل، فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادّة و مثال، أمكن له تكوينها إعادة بعده.

و نصب ابن عامر و الكسائي «فيكون» هاهنا و في يس (1)، عطفا على «نقول»، أو جوابا للأمر.

[سورة النحل [16]: الآيات 41 الى 42]

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [41] الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [42]

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا و الّذين فارقوا أوطانهم و ديارهم و أهلهم فرارا بدينهم و اتّباعا لنبيّهم فِي اللَّهِ في حقّه و لوجهه خالصا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ما ظلمهم

ص: 565


1- يس: 82.

المشركون و عذّبوهم بمكّة. و هم رسول اللّه و أصحابه المهاجرون، ظلمهم قريش ففرّوا بدينهم إلى اللّه، منهم من هاجر إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة فجمع بين الهجرتين، و منهم من هاجر إلى المدينة.

و قيل: هم الّذين كانوا محبوسين معذّبين بمكّة بعد هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كلّما خرجوا تبعوهم فردّوهم، منهم بلال و صهيب و خباب و عمّار و عابس و أبو جندل و سهيل.

و قوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً صفة للمصدر، أي: تبوئة حسنة.

و قيل: مباءة حسنة. و هي المدينة، حيث آواهم أهلها و نصروهم. و قيل: لننزلنّهم في الدنيا منزلة حسنة، و هي الغلبة على أهل مكّة الّذين ظلموهم، و على العرب قاطبة، و على أهل المشرق و المغرب.

وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ممّا يعجّل لهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفّار، أي: لو علموا أنّ اللّه يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين، أي: لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم و صبرهم.

الَّذِينَ صَبَرُوا منصوب المحلّ أو مرفوعه على المدح، تقديره: أعني الّذين، أو هم الّذين صبروا على الشدائد، كأذى الكفرة، و مفارقة الوطن الّذي هو حرم اللّه المحبوب في كلّ قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم؟! و على المجاهدة و بذل الأرواح في سبيل اللّه. وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ منقطعين إلى اللّه، مفوّضين

إليه الأمر كلّه.

[سورة النحل [16]: الآيات 43 الى 47]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [43] بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ

ص: 566

إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [44] أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [45] أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ [46] أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [47]

روي أنّ قريش قالوا: اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشرا، أو لا يرسل اللّه إلينا بشرا مثلنا، فنزلت: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أي: جرت السنّة الإلهيّة بأن لا يبعث للدعوة العامّة إلّا بشرا يوحي إليه على ألسنة الملائكة، و الحكمة في ذلك مذكورة في سورة الأنعام (1)، فإن شككتم فيه فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أهل الكتاب أو علماء الأحبار ليعلّموكم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

و في الآية دلالة على أنّه تعالى لم يرسل امرأة و لا ملكا للدعوة العامّة. و أما قوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا (2) معناه رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء. و قيل: لم يبعثوا إلى الأنبياء إلّا متمثّلين بصورة الرجال. و ردّ بما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى جبرئيل عليه السّلام على صورته الّتي هو عليها مرّتين.

و على وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.

بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ أي: أرسلناهم بالبيّنات و الزبر، أي: المعجزات و الكتب، كأنّه جواب قائل قال: بم أرسلوا؟ و يجوز أن يتعلّق ب «ما أرسلنا» داخلا في الاستثناء مع «رجالا»، أي: و ما أرسلنا إلّا رجالا بالبيّنات، كقولك: ما ضربت

ص: 567


1- راجع ج 2 ص 363.
2- فاطر: 1.

إلّا زيدا بالسوط، لأنّ أصله: ضربت زيدا بالسوط، أو صفة لهم: أي: رجالا ملتبسين بالبيّنات. أو ب «نوحي» على المفعوليّة، أو الحال من القائم مقام فاعله.

و على هذه الوجوه قوله: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» اعتراض. أو ب «لا تعلمون» على أن الشرط للإلزام و التبكيت.

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي: القرآن. و إنّما سمّي ذكرا لأنّه موعظة و تنبيه للغافلين. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في الذكر بتوسّط إنزاله إليك ممّا أمروا به و نهوا عنه، أو ممّا يتشابه عليهم. و التبيين أعمّ من أن ينصّ بالمقصود، أو يرشد إلى ما يدلّ عليه، كالقياس المنصوص العلّة و دليل العقل. وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ و إرادة أن يتأمّلوا فيه فيتنبّهوا للحقائق. و في هذا دلالة على أنّ اللّه تعالى أراد من جميعهم التفكّر و النظر المؤدّي إلى المعرفة، بخلاف ما يقوله أهل الجبر.

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي: المكرات السيّئات. و هم الّذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الّذين مكروا رسول اللّه، و دبّروا التدابير في إطفاء نور الإسلام و إيذاء المؤمنين، و راموا صدّ أصحابه عن الإيمان. أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بغتة من جانب السماء، كما فعل بقوم لوط. قال ابن عبّاس: يعني يوم بدر، و ذلك أنّهم أهلكوا يوم بدر، و ما كانوا يقدّرون ذلك و لا يتوقّعونه.

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي: منقلبين في مسايرهم و متاجرهم و أسباب دنياهم. و هو خلاف قوله: «مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ». فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ على مخافة بأن يهلك قوما قبلهم، فيتخوّفوا فيأتيهم العذاب و هم متخوّفون و متوقّعون. أو على

أن ينقصهم شيئا بعد شي ء في أنفسهم و أموالهم حتّى يهلكوا. من: تخوّفته إذا تنقّصته. روي أنّ عمر قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا. فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوّف:

ص: 568

التنقّص. فقال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:

تخوّف الرحل منها تامكا قرداكما تخوّف عود النبعة (1) السّفن

فقال: عليكم بديوانكم لا تضلّوا. قالوا: و ما ديواننا؟ قال: شعر الجاهليّة، فإنّ فيه تفسير كتابكم و معاني كلامكم.

[سورة النحل [16]: الآيات 48 الى 50]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ [48] وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [49] يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [50]

فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة مع استحقاقكم.

ثمّ بيّن دلائل قدرته، فقال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ أو لم ينظر هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته و كذّبوا نبيّه. و الهمزة للإنكار، أي: قد رأو أمثال هذه الصنائع، فما بالهم لم يتفكّروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته و قهره فيخافوا منه؟! و «ما» موصولة مبهمة بيانها.

مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ أي: أ و لم ينظروا إلى المخلوقات الّتي لها ظلال

ص: 569


1- في هامش النسخة الخطّية: «النبعة: الشجرة الّتي تتّخذ منها أخشاب القوس. منه». و التامك: سنام البعير المرتفع. و القرد: الذي أكله القراد من كثرة أسفارها. و السفن: المبرد الحديد الذي ينحت به الخشب. و المعنى: تنقّص رحلها سنامها المرتفع الذي تنقب من كثرة السفر، كما تنقّص المبرد عود النبعة.

متفيّئة؟!

و قرأ حمزة و الكسائي: تروا بالتاء، و أبو عمرو: تتفيّؤا بالتاء. عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ عن أيمانها و شمائلها، أي: عن جانبي كلّ واحد منها و شقّيه، استعارة من يمين الإنسان و شماله. و لعلّ توحيد اليمين و جمع الشمائل باعتبار اللفظ و المعنى، فإنّ «من شي ء» في معنى: ما خلق اللّه من كلّ شي ء، فيكون جمعا معنى، كتوحيد الضمير في «ظلاله» و جمعه في قوله: سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ و هما حالان من الضمير في «ظلاله».

و المراد من السجود الاستسلام، سواء كان بالطبع أو الاختيار. يقال: سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، و سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب.

و يحتمل أن يكون «سجّدا» حالا من الظلال، و «هم داخرون» حالا من الضمير في «ضلاله»، لأنّه بمعنى الجمع كما عرفت آنفا. و المعنى: يرجع الظلال بارتفاع الشمس و انحدارها، أو باختلاف مشارقها و مغاربها، بتقدير اللّه تعالى من جانب إلى جانب، منقادة لما قدّر لها من التفيّؤ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، و الأجرام في أنفسها أيضا داخرة، أي: صاغرة منقادة لأفعال اللّه فيها. و جمع «داخرون» بالواو لأنّ من جملتها من يعقل فغلّب، أو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء.

و قيل: المراد باليمين و الشمائل يمين الفلك، و هو جانبه الشرقي، لأنّ الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع و السطوع، و شماله و هو الجانب الغربي المقابل له، فإنّ الظلال في أوّل النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض، و عند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض، جلّت قدرته و عظمته.

و عن الكلبي: معنى تفيّؤ الظلال يمينا و شمالا: أنّ الشمس إذا طلعت و أنت متوجّه إلى القبلة كان الظلّ قدّامك، و إذا ارتفعت كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك

ص: 570

كان خلفك، و إذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك، فهذا تفيّؤه عن اليمين و الشمال.

و قد نبّه اللّه تعالى بهذه الآية على أنّ جميع الأشياء تخضع له، بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى خالقها و مدبّرها، بما لولاه لبطلت و لم يكن لها قوام طرفة عين، فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع الذليل، و لهذا قال: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي: ينقاد انقيادا يعمّ الانقياد لإرادته و تأثيره طبعا، و الانقياد لتكليفه و أمره طوعا، ليصحّ إسناده إلى عامّة أهل السماوات و الأرض.

و قوله: مِنْ دابَّةٍ بيان لما في السماوات و الأرض جميعا، لأنّ الدبيب هو الحركة الجسمانيّة، سواء كان في أرض أو سماء. وَ الْمَلائِكَةُ عطف على المبيّن به عطف جبرئيل على الملائكة للتعظيم، أو عطف المجرّدات على الجسمانيّات.

و به احتجّ من قال: إنّ الملائكة أرواح مجرّدة.

أو بيان (1) ل «ما في الأرض». و يراد بما في السماوات الملائكة الساكنة فيها.

و حينئذ «و الملائكة» تكرير لما في السماوات، و تعيين له إجلالا و تعظيما، فإنّهم أعبد الخلائق. أو المراد بها ملائكتها من الحفظة و غيرهم. «و ما» لمّا استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم، كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق «من» تغليبا للعقلاء. وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته.

يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يخافونه أن يرسل عذابا من فوقهم. و تخصيص هذه الجهة أنّ أكثر العقاب المهلك إنّما يأتي من فوق. أو يخافونه و هو فوقهم، أي:

قاهرا غالبا عاليا

عليهم، كقوله تعالى: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ (2) وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ

ص: 571


1- عطف على قوله: بيان لما في السماوات و الأرض، قبل أربعة أسطر.
2- الأنعام: 18.

قاهِرُونَ (1). و على الأوّل يتعلّق ب «يخافون». و على الثاني حال من «ربّهم».

و الجملة الفعليّة حال من الضمير في «لا يستكبرون»، أو بيان لنفي الاستكبار و تقرير له، لأنّ من خاف اللّه لم يستكبر عن عبادته.

وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من الطاعة و التدبير. و قد صحّ

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ للّه تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا مذ خلقهم اللّه إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من خشية اللّه، لا يقطر من دموعهم قطرة إلا صار ملكا، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم و قالوا: ما عبدناك حقّ عبادتك».

و فيه دليل على أنّ الملائكة مكلّفون مدارون على الأمر و النهي، و الوعد و الوعيد، و الخوف و الرجاء، كسائر المكلّفين.

[سورة النحل [16]: الآيات 51 الى 55]

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [51] وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [52] وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [53] ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [54] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [55]

و لمّا بيّن سبحانه دلائل قدرته و ألوهيّته، عقّبه بالتنبيه على وحدانيّته، فقال:

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر العدد مع المعدود لم يجر في الاثنين

ص: 572


1- الأعراف: 127.

و الواحد، و إنّما يجري فيما عداهما، كقولك: رجال ثلاثة و أفراس أربعة، لأنّ المعدود فيما عداهما عار عن الدلالة على العدد الخاصّ، بخلاف رجل و رجلان، فإنّهما يدلّان على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد و رجلان اثنان، لكن ذكر ها هنا ليدلّ دلالة صريحة على أنّ المقصود نهي الاثنينيّة لا ذات المعدود.

أو إيماء بأنّ الاثنينيّة تنافي الألوهيّة، كما ذكر الواحد في قوله: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ للدلالة على أنّ المقصود إثبات الوحدانيّة دون الإلهيّة. ألا ترى أنّك لو قلت: إنّما هو إله، و لم تؤكّده بواحد، خيّل أنّك تثبت الإلهيّة لا الوحدانيّة الّتي قصدتها، فكذا إذا قلت: لا تتّخذوا إلهين بدون ذكر العدد، لخيّل أنّك قصدت المعدود لا العدد، و لمّا شفّعتهما بذكر الاثنين دلّ دلالة صريحة على أنّ مقصودك نفي الاثنينيّة لا الجنسيّة، أو للتنبيه على أنّ الوحدة من لوازم الإلهيّة.

فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ نقل من الغيبة إلى التكلّم مبالغة في الترهيب، و تصريحا بالمقصود، فكأنّه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإيّاي فارهبون لا غير.

عن بعض الحكماء: أنّه قال: نهاك ربّك أن تتّخذ إلهين فاتّخذت آلهة، عبدت نفسك و هواك و دنياك و طبعك و مرادك، و عبدت الخلق، فأنّى تكون موحّدا؟! وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا وَ لَهُ الدِّينُ أي: الطاعة واصِباً ثابتا لازما، لما تقرّر من أنّه الإله وحده، و أنّه الحقيق بأن يرهب منه.

و قيل: واصبا من الوصب، أي: و له الدين ذا كلفة. و قيل: الدين الجزاء، أي: و له الجزاء دائما، لا ينقطع ثوابه لمن آمن، و عقابه لمن كفر. و على التقادير، هو حال عمل فيه الظرف.

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ و لا ضارّ حقيقة سواه، كما لا نافع غيره، كما قال: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و أيّ شي ء اتّصل بكم من نعمة فهو من اللّه. و «ما» شرطيّة، أو موصولة متضمّنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول، فإنّ استقرار النعمة

ص: 573

لهم يكون سببا للإخبار بأنّها من اللّه لا لحصولها منه.

ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ من المرض و سائر الشدائد فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ فما تتضرّعون إلّا إليه. و الجؤار رفع الصوت في الدعاء و الاستغاثة.

ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ و هم كفّاركم.

لِيَكْفُرُوا بعبادة غيره. هذا إذا كان الخطاب في قوله: «وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ... إلخ» عامّا. فإن كان خاصّا بالمشركين كان «من» للبيان، كأنّه قال: و إذا فريق منهم و هم أنتم. و يحتمل أن يكون للتبعيض، على أن يعتبر بعضهم الّذي كان أشدّ عنادا منهم، كقوله: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ (1).

بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم، كأنّهم قصدوا بكفرهم كفران النعمة أو إنكار كونها من اللّه. و اللام للعلّة، أي: جعلوا غرضهم من الشرك كفران النعمة.

و يجوز أن يكون للأمر تخلية و خذلانا، كقوله: فَتَمَتَّعُوا فإنّه أمر تهديد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما يحلّ بكم في العاقبة من العقاب و أليم العذاب. حذف المفعول لدلالة الكلام عليه، و هذا أغلظ وعيد.

[سورة النحل [16]: الآيات 56 الى 60]

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [56] وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ [57] وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ [58] يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما

ص: 574


1- لقمان: 32.

يَحْكُمُونَ [59] لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [60]

ثمّ ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين دالّا على جهلهم، فقال:

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ أي: لآلهتهم الّتي لا علم لها، لأنّها جماد، فيكون الضمير ل «ما». أو الّتي لا يعلمونها، فيعتقدون فيها جهالات، مثل أنّها تنفعهم و تشفع لهم عند اللّه، و ليس كذلك، فإنّ حقيقتها أنّها جماد لا يضرّ و لا ينفع، فهم إذا جاهلون بها، على أنّ العائد إلى «ما» محذوف. أو لجهلهم، على أنّ «ما» مصدريّة، و المجعول له محذوف للعلم به. نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من زروعهم و أنعامهم، و هي لا تشعر بذلك.

ثمّ أوعدهم اللّه بذلك، فقال تأكيدا للوعيد: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَ في الآخرة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ تكذبون في الدنيا من أنّها آلهة حقيقة بالتقرّب إليها.

ثمّ ذكر سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم فقال: وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ الضمير لخزاعة و كنانة، فإنّهم كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ تنزيه له من قولهم أو تعجّب منه وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني: البنين. و يجوز في «ما يشتهون» الرفع بالابتداء، أو النصب بالعطف على البنات، على أنّ الجعل بمعنى الاختيار. و هو و إن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل و المفعول لشي ء واحد، لكنّه لا يبعد تجويزه في المعطوف.

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أخبر بولادتها ظَلَّ وَجْهُهُ صار، أو دام النهار كلّه مُسْوَدًّا من الكآبة و الحزن و الحياء من الناس. و اسوداد الوجه كناية عن شدّة الاغتمام. وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوء غيظا على المرأة.

يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفي منهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من سوء

ص: 575

المبشّر به عرفا، و من أجل تعييرهم أَ يُمْسِكُهُ محدّثا نفسه،

متفكّرا في أن يتركه عَلى هُونٍ هوان و ذلّ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أم يخفيه فيه و يئده.

و تذكير الضمير للفظ «ما». أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محلّه عندهم، و يجعلون لأنفسهم من هو على العكس، و هذا غاية الجهل.

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء، و هي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت و استبقاء الذكور استظهارا بهم، و كراهة الإناث و وأدهنّ خشية الإملاق، و إقرارهم على أنفسهم بالشحّ البالغ، أو صفة النقص من الجهل و العجز.

وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى الصفة العليا، و هي الوجوب الذاتي، و الغنى المطلق، و الجود الفائق، و النزاهة عن صفات المخلوقين وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المنفرد بكمال القدرة و الحكمة.

[سورة النحل [16]: الآيات 61 الى 63]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ [61] وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [62] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [63]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ بكفرهم و معاصيهم، و يعاجلهم بالعقوبة

ص: 576

ما تَرَكَ عَلَيْها على الأرض. و إنّما أضمرها من غير ذكر لدلالة الناس و الدابّة عليها مِنْ دَابَّةٍ أي: ممّن يستحقّ العقوبة من الظالمين. و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّ معناه من مشرك يدبّ عليها. أو من دابّة ظالمة. أو لأهلك الدوابّ كلّها بشؤم ظلم الظالمين. و عن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن

آدم.

و قيل: لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء.

و قيل: معنى الآية: لو يؤاخذهم بذنوبهم لحبس المطر عنهم حتى يهلك كلّ دابّة. و على هذا العذاب للظالم عقوبة، و لغير الظالم عبرة و محنة، فيكون كالأمراض النازلة بالأولياء و غير المكلّفين، فيعوّضون عنها.

و قيل: إنّه إذا هلك الظلمة و لم يبق مكلّف لا يبقى غيرهم من الحيوانات، لأنّها إنّما خلقت للمكلّفين، فلا فائدة في بقائها بعدهم.

وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سمّاه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ بل هلكوا أو عذّبوا حينئذ لا محالة. و لا يلزم من عموم الناس و إضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلّهم ظالمين حتّى الأنبياء عليهم السّلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم و صدر عن أكثرهم.

وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي: ما يكرهونه لأنفسهم، من البنات، و الشركاء في الرئاسة، و الاستخفاف برسلهم، و التهاون برسالتهم، و جعلهم له أرذل الأموال، و لأصنامهم أكرمها.

وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك، و هو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي: عند اللّه، كقوله: وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى (1). هذا بدل من «الكذب»، إذ هو قولهم: لنا البنون و للّه البنات.

لا أي: ليس الأمر على ما وصفوه جَرَمَ ثبت و حقّا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ

ص: 577


1- فصّلت: 50.

ردّ لكلامهم، و إثبات لضدّه وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ مقدّمون إلى النار، من: أفرطته في طلب الماء إذا قدّمته. و قرأ نافع بكسر الراء، على أنّه من الإفراط في المعاصي.

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فأصرّوا على قبائحها، و كفروا بالمرسلين فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي: قرينهم و ناصرهم في الدنيا.

عبّر باليوم عن زمانها. أو فهو وليّهم حين كان يزيّن لهم. أو يوم القيامة، على أنّه حكاية حال ماضية، كأن يزيّن لهم الشيطان أعمالهم فيها، أو حال آتية، و هي حال كونهم معذّبين في النار، أي: فهو ناصرهم اليوم و لا ناصر لهم غيره، فيكون نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه. و يجوز أن يكون الضمير لقريش، أي: زيّن الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم، فهو وليّ هؤلاء اليوم، فيغرّهم و يغويهم، و أن يقدّر مضاف، أي: فهو وليّ أمثالهم. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في القيامة.

[سورة النحل [16]: الآيات 64 الى 65]

وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [64] وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [65]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه قد أقام الحجّة و أزاح العلّة و أوضح الحقّ، فقال: وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ للناس الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد، و أحوال المعاد، و أحكام الحلال و الحرام وَ هُدىً و دلالة على الحقّ وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و هما معطوفان على محلّ «لتبيّن»، إلّا أنّهما انتصبا على أنّهما مفعول لهما، لأنّهما فعلا الّذي أنزل الكتاب. و دخل اللام على «لتبيّن» لأنّه فعل المخاطب.

و إنّما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلّل.

ص: 578

وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً غيثا فَأَحْيا بِهِ بذلك الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبّر و إنصاف، لأنّ من لم يسمع بقلبه فكأنّه أصمّ لا يسمع أصلا.

[سورة النحل [16]: الآيات 66 الى 67]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ [66] وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [67]

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من دلائل التوحيد و عجائب الصنعة و بدائع الحكمة، فقال: وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم لَعِبْرَةً دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ استئناف لبيان العبرة. و إنّما ذكّر الضمير و وحّده ها هنا للفظ، و أنّثه في سورة المؤمنين (1)

للمعنى، فإنّ الأنعام اسم جمع، و لذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال، كأخلاق و أكباش (2). و من قال: إنّه جمع «نعم» جعل الضمير للبعض، فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها، أو لواحدة، أو له على المعنى، فإنّ المراد به الجنس.

و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب: نسقيكم بالفتح، هاهنا و في المؤمنين.

ص: 579


1- المؤمنون: 21.
2- في هامش النسخة الخطّية: «ضرب من النبات غزل مرّتين. و قيل: ضرب من برود اليمن. منه».

مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً فإنّه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولّد من الأجزاء اللطيفة الّتي في الفرث، و هي الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش.

و عن ابن عبّاس: «أنّ البهيمة إذا اعتلفت و انطبخ العلف في كرشها، كان أسفله فرثا، و أوسطه لبنا، و أعلاه دما» الحديث. فالكبد مسلّطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسّمها، فتجري الدم في العروق، و اللبن في الضرع، و تبقى الفرث في الكرش. فسبحان اللّه ما أعظم قدرته، و ألطف حكمته، لمن تفكّر و تأمّل.

قال صاحب الأنوار بعد ذكر هذا الحديث: «إن صحّ هذا النقل فلعلّ المراد أنّ أوسطه يكون مادّة اللبن، و أعلاه مادّة الدم الّذي يغذّي البدن، لأنّهما لا يتكوّنان في الكرش، بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش، و يبقى ثفله و هو الفرث، ثمّ يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا، فيحدث أخلاطا أربعة معها مائيّة، فتميّز القوّة المميّزة تلك المائيّة بما زاد على قدر الحاجة من المرّتين، و تدفعها إلى الكلية و المرارة و الطحال، ثمّ يوزّع الباقي على الأعضاء بحسبها، فيجري إلى كلّ حقّه على ما يليق به، بتقدير العليم الحكيم.

ثمّ إن كان الحيوان أنثى

زاد أخلاطها على قدر غذائها، لاستيلاء البرد و الرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم لأجل الجنين، فإذا انفصل انصبّ ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها الغدديّة البيض، فيصير لبنا. و من تدبّر صنع اللّه في إحداث الأخلاط و الألبان، و إعداد مقارّها و مجاريها، و الأسباب المولّدة لها، و القوى المتصرّفة فيها كلّ وقت على ما يليق به، اضطرّ إلى الإقرار بكمال حكمته و تناهي رحمته» (1).

و اعلم أنّ «من» الأولى تبعيضيّة، لأنّ اللبن بعض ما في بطونها، كقولك:

ص: 580


1- أنوار التنزيل 3: 185.

أخذت من مال زيد ثوبا. و الثانية ابتدائيّة، كقولك: سقيت من الحوض، لأنّ بين الفرث و الدم المحلّ الّذي يبتدأ منه الإسقاء. و هي متعلّقة ب «نسقيكم». أو حال من «لبنا»، قدّم عليه لتنكيره، و للتنبيه على أنّه موضع العبرة.

سئل شقيق عن الإخلاص، فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث و دم.

خالِصاً صافيا لا يستصحب لون الدم و لا رائحة الفرث. أو مصفّى عمّا يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم.

بيّن سبحانه في هذه الآية لمن ينكر البعث أنّ من قدر على إخراج لبن أبيض سائغ من بين الفرث و الدم من غير أن يختلط بهما، قادر على إخراج الموتى من الأرض من غير أن يختلط شي ء من أبدانهم بأبدان غيرهم.

ثمّ قال تعدادا لنعمة اخرى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ متعلّق بمحذوف، أي: و نسقيكم من ثمرات النخيل و الأعناب، أي: من عصيرهما. و حذف لدلالة «نسقيكم» قبله عليه.

و قوله: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً استئناف لبيان الإسقاء، أو يتعلّق ب «تتّخذون».

و «منه» تكرير للظرف تأكيدا، كقولك:

زيد في الدار فيها، أو خبر لمحذوف صفته تَتَّخِذُونَ أي: و من ثمرات النخيل و الأعناب ثمر تتّخذون منه. و تذكير الضمير على الوجهين الأوّلين، لأنّه للمضاف المحذوف الّذي هو العصير، أو لأنّ الثمرات بمعنى الثمر. و السكر مصدر: سكر يسكر سكرا و سكرا، سمّي به الخمر. وَ رِزْقاً حَسَناً كالتمر و الزبيب و الدبس و الخلّ. و الآية جامعة بين العتاب و المنّة.

روى الحاكم في صحيحة بالإسناد عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «السكر ما حرّم من ثمرها، و الرزق الحسن ما أحلّ من ثمرها». و هذا القول

ص: 581

أيضا مرويّ عن ابن مسعود و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و مجاهد و غيرهم.

و قال قتادة: نزلت الآية قبل تحريم الخمر، و نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة (1).

و قال أبو مسلم: لا حاجة إلى ذلك، سواء كان حراما أو حلالا، لأنّه تعالى خاطب المشركين و عدّد إنعامه عليهم بهذه الثمرات، و الخمر من أشربتهم، فكانت نعمة عليهم.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر و التأمّل في الآيات. بيّن سبحانه بذلك أنّكم تستخرجون من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به، فكذلك يستخلص اللّه سبحانه ما تبدّد من الميّت ممّا هو مختلط به من التراب.

[سورة النحل [16]: الآيات 68 الى 69]

وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ [68] ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [69]

ثمّ ذكر نعمة اخرى من نعمة الّتي تتضمّن كمال قدرته، فقال: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ

ألهمها و قذف في قلوبها، و علّمها على وجه لا سبيل إلى الوقوف عليه.

و أصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار و الإخفاء.

ص: 582


1- المائدة: 90- 91.

أَنِ اتَّخِذِي بأن اتّخذي. و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ في الإيحاء معنى القول. و تأنيث الضمير على المعنى، فإنّ النحل مذكّر.

مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً تتعسّل فيها وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ أي: من الكرم، لأنّه الّذي يعرش و يتّخذ منه العريش. أو ما يرفعون من سقوف البيوت، فإنّ العرش سقف البيت. و المعنى: ما يبني الناس للنحل في الجبال و الشجر و البيوت من الأماكن الّتي تتعسّل فيها، و لولا إلهام اللّه إيّاها ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها.

و إنّما أتى بلفظ الأمر و إن كانت النحل لا تعقل الأمر و لا تكون مأمورة، لأنّه لمّا أتى بلفظ الوحي أجرى عليه لفظ الأمر اتّساعا. و ذكر بحرف التبعيض، لأنّها لا تبني في كلّ جبل و كلّ شجر و كلّ ما يعرش من كرم أو سقف، و لا في كلّ مكان منها.

و إنّما سمّي ما تبنيه لتتعسّل فيه بيتا تشبيها ببناء الإنسان، لما فيه من حسن الصنعة و صحّة القسمة، الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين إلّا بآلات و أنظار دقيقة.

و قرأ ابن عامر و أبو بكر: يعرشون بضمّ الراء.

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كلّ ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي: الطرق الّتي ألهمك و أفهمك في عمل العسل. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي راجعة إلى بيوتك الّتي هي سبل ربّك، لا تضلّين فيها. أو فاسلكي ما أكلت في مسالك

ربّك، الّتي يحيل فيها بقدرته النّور (1) المرّ عسلا من أجوافك.

ذُلُلًا جمع ذلول. و هي حال من السبل، أي: مذلّلة ذلّلها اللّه و سهّلها لك،

ص: 583


1- النّور: الزهر.

أو من الضمير في «اسلكي» أي: و أنت ذلل منقادة لما أمرت به.

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها كأنّه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس، لأنّه محلّ الإنعام عليهم، و المقصود من خلق النحل و إلهامه لأجلهم شَرابٌ يعني:

العسل، لأنّه ممّا يشرب. و احتجّ به من زعم أنّ النحل تأكل الأزهار و الأوراق العطرة، فتستحيل في بطنها عسلا، ثمّ تقي ء ادّخارا للشتاء. و فسّر البطون بالأفواه من زعم انّها تلتقط بأفواهها أجزاء طليّة (1) حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق و الأزهار، و تضعها في بيوتها ادّخارا، فإذا اجتمع في بيوتها شي ء كثير منها كان العسل.

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أبيض و أصفر و أحمر و أسود، بسبب اختلاف سنّ النحل و الفصل فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إمّا بنفسه كما في الأمراض البلغميّة، أو مع غيره كما في سائر الأمراض، إذ قلّما يكون معجون إلّا و العسل جزء منه. و ليس الغرض أنّه بنفسه شفاء لكلّ مرض، كما أنّ كلّ دواء كذلك. و الدليل عليه أنّ التنكير مشعر بالتبعيض. و يجوز أن يكون للتعظيم، فإنّه سبب لدفع معظم الأمراض.

و عن ابن بابويه في كتاب الاعتقادات: «اعتقادنا في العسل أنّه شفاء للأمراض البلغميّة».

و عن قتادة: أنّ رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «إنّ أخي يشتكي بطنه.

فقال: اسقه العسل. فذهب ثمّ رجع فقال: قد سقيته فما نفع. فقال: اذهب و اسقه عسلا، فقد صدق اللّه و كذب بطن أخيك. فسقاه فبرى ء، فكأنّما أنشط من عقال».

و عن عبد

اللّه بن مسعود أنّه قال: عليكم بالشفاءين: القرآن و العسل.

و قيل: الضمير للقرآن، أو لما بيّن اللّه من أحوال النحل.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنّ من تدبّر اختصاص النحل بتلك العلوم

ص: 584


1- أي: ناعمة غضّة.

الدقيقة و الأفعال العجيبة حقّ التدبّر، علم قطعا أنّه لا بدّ له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك و يحملها عليه.

قال صاحب المجمع: «و من جملة عجائبه خروج العسل من فيه. و منها:

جعل الشفاء في موضع السمّ، فإنّ النحل يلسع. و منها: ما ركّب اللّه من البدائع و العجائب فيه و في طباعه. و من أعجبها أن جعل اللّه سبحانه لكلّ فئة يعسوبا هو أميرها، يقدّمها و يحامي عنها، و يدبّر أمرها و يسوسها، و هي تتبعه و تقتفي أثره، و متى فقدته انحلّ نظامها، و زال قوامها، و تفرّقت شذر مذر. و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «أنا يعسوب المؤمنين» (1).

[سورة النحل [16]: آية 70]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [70]

ثمّ بيّن سبحانه نعمته علينا في خلقنا و إخراجنا من العدم إلى الوجود، فقال:

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ بآجال مختلفة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ يعاد إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسّه و أوضعه، يعني: الهرم الّذي يشابه الطفوليّة في نقصان القوّة و العقل.

و قيل: هو خمس و تسعون سنة. و قيل:

خمس و سبعون. و هذا مرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام.

لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفوليّة في النسيان و سوء الفهم.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعماركم قَدِيرٌ يميت الشابّ النشيط، و يبقى الهرم الفاني. و فيه تنبيه على أنّ تفاوت آجال الناس ليس إلّا بتقدير قادر حكيم، ركّب أبنيتهم، و عدّل أمزجتهم على قدر معلوم، و لو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ.

ص: 585


1- مجمع البيان 6: 372.

[سورة النحل [16]: آية 71]

وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [71]

ثمّ عدّد سبحانه نعمة منه اخرى، فقال: وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي: جعلكم متفاوتين في الرزق، فمنكم غنيّ و منكم فقير، و منكم موال يتولّون رزقهم و رزق غيرهم، و منهم مماليك حالهم على خلاف ذلك، و هم بشر مثلكم و إخوانكم، فكان ينبغي أن تردّوا فضل ما رزقتموه عليهم حتّى تتساووا في الملبس و المطعم، كما

يحكى عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه عنه أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «إنّما هم إخوانكم، فاكسوهم ممّا تلبسون، و أطعموهم ممّا تطعمون، فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا و رداؤه رداؤه، و إزاره إزاره من غير تفاوت».

فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ بمعطي رزقهم عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ على مماليكهم، فإنّ ما يردّون عليهم رزقهم الّذي جعله اللّه في أيديهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ فالموالي و المماليك سواء في أنّ اللّه رزقهم، فلا يحسبنّ الموالي أنّهم يردّون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق، فإنّما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم. و هذه الجملة لازمة للجملة المنفيّة أو مقرّرة لها.

قيل: هذا مثل ضربه اللّه للّذين جعلوا له شركاء، فقال لهم: أنتم لا تسوّون بينكم و بين عبيدكم فيما أنعمت عليكم، و لا تجعلونهم فيه شركاء، و لا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟! أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أ فبهذه النعم الّتي عدّدتها و اقتصصتها يجحد هؤلاء الكفّار، حيث يتّخذون له شركاء؟! فإنّه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم اللّه عليهم، و يجحدوا أنّه من عند اللّه. أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم اللّه عليهم بإيضاحها. و الباء لتضمّن الجحود معنى الكفر. و قرأ أبو بكر: تجحدون بالتاء، لقوله: «خلقكم» و «فضّل بعضكم».

ص: 586

[سورة النحل [16]: الآيات 72 الى 74]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [72] وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ [73] فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [74]

ثمّ عدّد سبحانه نعمة اخرى، فقال: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي:

من جنسكم لتأنسوا بها، و لتكون أولادكم مثلكم. و قيل: هو خلق حوّاء من ضلع آدم.

وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ تسرّون بهم و تزيّنون بهم وَ حَفَدَةً و أولاد أولاد أو بنات، فإنّ الحافد هو الّذي يحفد، أي: يسرع في الطاعة و في الخدمة، و البنات يخدمن في البيوت أتمّ خدمة. و قيل:

هم الأختان (1) على البنات. و هو مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و عن ابن مسعود. و قيل: الربائب. و يجوز أن يراد بها البنون أنفسهم. و العطف لتغاير الوصفين، كقوله: سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً (2). فكأنّه قيل: و جعل لكم منهنّ أولادا هم بنون و هم حافدون، أي:

جامعون بين الأمرين.

وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ الّتي قد أباحها لكم. و «من» للتبعيض،

ص: 587


1- الأختان جمع الختن، و هو الصهر، أي: زوج الابنة.
2- النحل: 67.

لأنّ كلّ الطيّبات في الجنّة، و ما طيّبات الدّنيا إلّا أنموذج منها.

أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ و هو ما يعتقدون من منفعة الأصنام و بركتها و شفاعتها، و أنّ من الطيّبات ما يحرم عليهم، كالبحائر و السوائب وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ المشاهدة المعاينة الّتي لا شبهة فيها لذي عقل و تمييز أنّها من اللّه هُمْ يَكْفُرُونَ و ينكرون لها كما ينكر المحال الّذي لا يتصوّره العقل.

و قيل: الباطل ما يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحائر و السوائب و غيرهما، و نعمة اللّه ما أحلّ لهم في السماوات و الأرض، فأضافوا نعمه إلى الأصنام، أو حرّموا ما أحلّ اللّه لهم.

و تقديم الصلة على الفعل إمّا للاهتمام، أو لإيهام التخصيص مبالغة، أو للمحافظة على الفواصل.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً من مطر و نبات. و «رزقا» إن جعلته مصدرا ف «شيئا» منصوب به. و إن أردت المرزوق كان «شيئا» بدلا منه، بمعنى: قليلا منه. و «مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» صلة للرزق إن كان مصدرا، بمعنى: لا يرزق من السماوات مطرا، و لا من الأرض نباتا. أو صفة إن كان اسما لما يرزق.

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ليس فيه تقدير راجع، و إنّما المعنى: لا يملكون أن يرزقوا، و الاستطاعة منفيّة عنهم أصلا، لأنّهم موات. أو يقدّر الراجع، و يراد بالجمع بين نفي الملك و الاستطاعة التوكيد. أو يراد: أنّهم لا يملكون الرزق، و لا يمكنهم أن يملكوه، و لا يتأتّى ذلك منهم. و على التقادير، لا يكون معنى قوله: «لا يملك» و «و لا يستطيعون» شيئا واحدا ليلزم التكرار. و جمع الضمير في «لا يستطيعون» و توحيده في «لا يملك»، لأنّ «ما» مفرد في معنى الآلهة.

و يجوز أن يعود إلى الكفّار، أي: و لا يستطيع هؤلاء- مع أنّهم أحياء متصرّفون-

ص: 588

شيئا من ذلك، فكيف بالجماد؟! فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فلا تجعلوا له مثلا تشركونه به أو تقيسونه عليه، فإنّ ضرب المثل تشبيه حال بحال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فساد ما تعوّلون عليه من القياس، على أنّ عبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، و لو علمتموه لما جرّأتم عليه. أو أنّ اللّه يعلم كنه ما تفعلون و عظمه، و هو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم، لأنّ العقاب على مقدار الإثم، و أنتم لا تعلمون كنهه و كنه عقابه، فذاك هو الّذي جرّكم إليه و جرّأكم عليه، فهو تعليل للنهي. أو أنّه يعلم كنه الأشياء و أنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم دون نصّه.

و يجوز أن يراد: فلا تضربوا للّه الأمثال، فإنّه يعلم كيف تضرب الأمثال و أنتم لا تعلمون.

[سورة النحل [16]: آية 75]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [75]

ثمّ علّمهم كيف يضرب مثلا لنفسه و لمن عبد دونه، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بيّن اللّه تبيينا فيه بيان المقصود، تقريبا للخطاب إلى أفهامهم. ثمّ أبدل من المثل قوله: عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ من أمره عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ و حرّا رزقناه و ملّكناه مالا و نعمة مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً لا يخاف من أحد هَلْ يَسْتَوُونَ لم يقل: يستويان، لأنّه أراد بقوله: «وَ مَنْ رَزَقْناهُ» و قوله: «عَبْداً مَمْلُوكاً» الشيوع في الجنس لا التخصيص، فإنّ المعنى: هل يستوي

ص: 589

الأحرار و العبيد؟! و تقييد العبد بالمملوك للتمييز بينه و بين الحرّ، فإنّه أيضا عبد اللّه. و سلب القدرة عنه للتمييز عن المكاتب و المأذون. و جعله قسيما للمالك المتصرّف يدلّ على أنّ المملوك لا يملك. و «من» موصوفة، كأنّه قيل: و حرّا، ليطابق: عبدا. و لا يمتنع أن تكون موصولة.

مثّل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرّف رأسا، و مثّل نفسه بالحرّ المالك الّذي رزقه اللّه مالا كثيرا، فهو يتصرّف فيه و ينفق منه كيف يشاء. و احتجّ بامتناع الاشتراك و التسوية بينهما، مع تشاركهما في الجنسيّة و المخلوقيّة، على امتناع التسوية بين الأصنام الّتي هي أعجز المخلوقات، و بين اللّه الغنيّ القادر على الإطلاق.

و توضيح المعنى: أنّ الاثنين المتساويين في الخلق، إذا كان أحدهما مالكا قادرا على الإنفاق، و الآخر مملوكا لا يمكن أن يكون مالكا لشي ء مّا، لا يستويان، فكيف يستوي بين الحجارة الّتي لا تعقل بل لا تتحرّك، و بين اللّه القادر على كلّ شي ء، الخالق الرازق لجميع خلقه؟! و قيل: إنّ هذا المثل للكافر و المؤمن، فإنّ الكافر لا خير عنده، و المؤمن يكسب الخير. نبّه سبحانه بذلك على اختلاف حالهما، فدعا إلى حال المؤمن، و صرف عن حال الكافر.

و لمّا ذكر هذا المثال، و كان مثلا مطابقا للغرض، كاشفا عن المقصود، قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي دلّنا على توحيده و معرفته، و هدانا إلى شكر نعمته، و أوضح لنا السبيل إلى جنّته. أو كلّ الحمد له، لا يستحقّه غيره، فضلا عن العبادة، لأنّه مولى النعم كلّها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيضيفون نعمه إلى غيره، و يعبدونه لأجلها.

ص: 590

[سورة النحل [16]: آية 76]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [76]

ثمّ ضرب سبحانه مثلا آخر، فقال: وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ولد أخرس لا يفهم و لا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ من الصنائع و التدابير، لنقصان عقله وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ثقل و عيال على من يلي أمره و يعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله مولاه في طلب حاجة و مهمّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ بنجح و كفاية مهمّ.

هَلْ يَسْتَوِي هُوَ هذا الأبكم الموصوف بهذه الصفة وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ و من هو فهم منطيق ذو كفاية و رشد، ينفع الناس بحثّهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل وَ هُوَ في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على سيرة صالحة و دين قويم، لا يتوجّه إلى مطلب إلّا و يبلغه بأقرب سعي. و إنّما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين، لأنّهما كمال ما يقابلهما.

و هذا تمثيل ثان ضربه اللّه لذاته المفيض رحمته و ألطافه و نعمه الدينيّة و الدنيويّة، و للأصنام الّتي هي أموات لا تضرّ و لا تنفع، لإبطال المشاركة بينه و بينها، أو للمؤمن و الكافر.

[سورة النحل [16]: الآيات 77 الى 78]

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [77] وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ

ص: 591

مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [78]

ثمّ وصف سبحانه نفسه مؤكّدا لما قدّم ذكره من أوصاف الكمال، فقال:

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: يختصّ به

علم ما غاب فيهما عن العباد و خفي عليهم. و قيل: يوم القيامة، فإنّ علمه غائب عن أهل السماوات و الأرض، و لم يطّلع عليه أحد منهم.

وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ و ما أمر قيام القيامة في سرعته و سهولته إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ إلّا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أو أمرها أقرب منه، بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة، بل في الآن الّذي تبتدئ فيه، فإنّه تعالى يحيي الخلائق دفعة، و ما يوجد دفعة كان في آن. و «أو» للتخيير، أو بمعنى: بل.

و قيل: معناه: أنّ قيام الساعة و إن تراخى فهو عند اللّه كالشي ء الّذي تقولون فيه: هو كلمح البصر أو هو أقرب، مبالغة في استقرابه.

و وجه اتّصاله بما قبله: أنّ أمر القيامة من الأمور الغائبة، و من أعظمها و أهمّها، لما فيه من الثواب و العقاب، و الإنصاف و الانتصاف.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على أن يقيم الساعة، و أن يحيي الخلائق دفعة، كما قدر أن أحياهم متدرّجا.

ثمّ دلّ على قدرته، فقال: وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ و قرأ الكسائي بكسر الهمزة على أنّه لغة، أو إتباع لما قبلها. و حمزة بكسرها و كسر الميم. و الهاء مزيدة، مثل: أراق و أهراق، و الأصل: أمّات. لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال، أي: غير عالمين شيئا من حقّ المنعم الّذي خلقكم في البطون، و سوّاكم و صوّركم،

ص: 592

ثمّ أخرجكم من الضيق إلى السعة، مستصحبين جهل الجماديّة. و يجوز أن يكون «شيئا» مصدرا، أي: لا تعلمون علما.

وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ و ركّب فيكم هذه الآلات و الأدوات لإزالة الجهل الّذي

ولدتم عليه، و اجتلاب العلم و العمل به، من معرفة المنعم و عبادته، و القيام بحقوقه، و الترقّي إلى ما يسعدكم، فإنّكم أوّلا تحسّون بمشاعركم جزئيّات الأشياء فتدركونها، ثمّ تتنبّهون بقلوبكم لمشاركات و مباينات بينها، بتكرّر الإحساس حتّى تتحصّل لكم العلوم البديهيّة، و تتمكّنوا من تحصيل المعالم الكسبيّة بالنظر فيها.

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم اللّه عليكم طورا بعد طور فتشكروه.

و الأفئدة جمع الفؤاد، كالأغربة في غراب. و هي من جموع القلّة الّتي جرت مجرى جموع الكثرة.

[سورة النحل [16]: آية 79]

أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [79]

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من الدلائل بدلالة اخرى، فقال: أَ لَمْ يَرَوْا ينظروا و يتفكّروا إِلَى الطَّيْرِ قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب بالتاء، على أنّه خطاب للعامّة مُسَخَّراتٍ مذلّلات للطيران صاعدة و منحدرة، ذاهبة و جائية، بما خلق لها من الأجنحة و الأسباب المؤاتية لذلك فِي جَوِّ السَّماءِ في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فإنّ ثقل جسدها يقتضي سقوطها، و لا علاقة فوقها، و لا دعامة تحتها تمسكها.

إِنَّ فِي ذلِكَ في تسخير الطير للطيران، بأنّ خلقها خلقة يمكن معها الطيران، و خلق الجوّ بحيث يمكن الطيران فيه، و إمساكها في الهواء على خلاف

ص: 593

طبعها لَآياتٍ على وحدانيّته و كمال قدرته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنّهم هم المنتفعون بها.

[سورة النحل [16]: الآيات 80 الى 82]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ [80] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [81] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [82]

ثمّ عدّد سبحانه نعما أخر، فقال: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم، ممّا يتّخذ من الحجر و المدر. فعل بمعنى مفعول. و ذلك بأن خلق سبحانه الخشب و المدر، و الآلة الّتي يمكن بها تسقيف البيوت و بناؤها.

وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ

جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً هي القباب و الأبنية المتّخذة من الأدم و الأنطاع. و يجوز أن يتناول المتّخذة من الوبر و الصوف و الشعر، فإنّها من حيث إنّها نابتة على جلودها يصدق عليها أنّها من جلودها. تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفيفة، يخفّ عليكم حملها و نقضها و نقلها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وقت ترحالكم من بلد إلى آخر وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وقت الحضر، أو النزول. و اليوم بمعنى الوقت، يعني: يخفّ عليكم في أوقات السفر و الحضر جميعا. و قرأ الحجازيّان و البصريّان: يوم ظعنكم

ص: 594

بالفتح. و هو لغة.

وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها الصوف للضأن، و الوبر للإبل، و الشعر للمعز. و إضافتها إلى ضمير الأنعام لأنّها من جملتها. أَثاثاً ما يلبس و يفرش وَ مَتاعاً ما يتّجر به إِلى حِينٍ إلى وقت أن يبلى و يفنى، أو إلى حين مماتكم، أو إلى أن تقضوا منه أوطاركم.

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر و الجبل و الأبنية و غيرها ظِلالًا تتّقون بها من حرّ الشمس وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً مواضع تسكنون بها، من الكهوف و البيوت المنحوتة فيها. جمع كنّ.

وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ قمصانا و ثيابا من الصوف و الكتّان و القطن و غيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ خصّه بالذكر اكتفاء بأحد الضدّين، أو لأنّ وقاية الحرّ كانت أهمّ عندهم، و قلّما يهمّهم البرد، لأنّهم أهل حرّ في بلادهم، محتاجون إلى ما يقي الحرّ أكثر وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يعني: الدروع و الجواشن (1). و السربال يعمّ كلّ ما يلبس من حديد و غيره.

كَذلِكَ كإتمام هذه النعم الّتي تقدّمت يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ يريد نعمة الدنيا، لقوله: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي: تنظرون في نعمه فتؤمنون

به، و تنقادون لحكمه. و قال ابن عبّاس: معناه: لعلّكم يا أهل مكّة تعلمون أنّه لا يقدر على هذا غيره، فتوحّدوه و تصدّقوا رسوله.

فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان، و لم يقبلوه منك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ تبليغ ما أرسلت به، و قد بلّغت. فذكر سبب العذر- و هو البلاغ- ليدلّ على المسبّب، فهو من إقامة السبب مقام المسبّب. و هذا تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 595


1- الجوشن: الصدر و الدرع، و جمعه: جواشن.

[سورة النحل [16]: الآيات 83 الى 85]

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [83] وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [84] وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ [85]

ثمّ أخبر عن حال الكفرة، فقال: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي: يعرف المشركون نعمته الّتي عدّدها عليهم و غيرها، حيث يعترفون بها و بأنّها من اللّه ثُمَّ يُنْكِرُونَها بعبادتهم غير المنعم بها، و قولهم: هي من اللّه و لكنّها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب قولهم:

ورثناها من آبائنا، أو قولهم: لولا فلان ما أصبت كذا، أو بإعراضهم عن أداء حقوقها. و قيل: نعمة اللّه نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عرفوها بالمعجزات، ثمّ أنكروها عنادا.

وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ و ذكر الأكثر إمّا لأنّ بعضهم لم يعرف الحقّ، لنقصان العقل، أو التفريط في النظر، أو لم تقم عليه الحجّة، لأنّه لم يبلغ حدّ التكليف. و إمّا لأنّه يقام مقام الكلّ، كما في قوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (1).

و في هذه الآية دلالة على فساد قول المجبّرة: أنّه ليس للّه سبحانه على الكافر نعمة، و أنّ جميع ما فعله

بهم إنّما هو خذلان و نقمة، لأنّه سبحانه نصّ في هذه الآية على خلاف قولهم.

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً و هو نبيّها، يشهد لهم و عليهم بالإيمان و التصديق، و الكفر و التكذيب. و المعنى: لا حجّة لهم و لا عذر. و كذا العدول من كلّ عصر يشهدون على الناس بأعمالهم. و قال الصادق عليه السّلام: «لكلّ زمان و أمّة إمام، تبعث كلّ أمّة مع إمامها».

ص: 596


1- النحل: 75.

و فائدة بعث الشهداء مع علم اللّه سبحانه بذلك: أنّ ذلك أهول في النفس، و أشدّ في الفضيحة، إذا قامت الشهادة بحضرة الملأ، مع جلالة الشهود و عدالتهم عند اللّه تعالى، لأنّهم إذا علموا أنّ العدول عند اللّه يشهدون عليهم بين يدي الخلائق، فإنّ ذلك يكون زجرا لهم عن المعاصي.

ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار، إذ لا عذر لهم صحيح. و قيل: في الرجوع إلى الدنيا. و «ثمّ» لزيادة ما يحيق بهم من شدّة المنع عن الاعتذار، لما فيه من الإقناط الكلّي على ما يمنون (1) به من شهادة الأنبياء عليهم السّلام. و المعنى: لا حجّة لهم، فدلّ بترك الإذن على أنّ لا حجّة لهم و لا عذر. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و لا هم يسترضون، من العتبى، و هي الرضا، أي: لا يقال لهم: أرضوا ربّكم، لأنّ الآخرة ليست بدار عمل.

و انتصاب «يوم» بمحذوف تقديره: اذكر، أو خوّفهم، أو يحيق بهم ما يحيق. و كذا قوله: وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ أي: عذاب جهنّم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ أي: العذاب وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون.

[سورة النحل [16]: الآيات 86 الى 88]

وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [86] وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [87] الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [88]

ثمّ أبان سبحانه عن حال المشركين يوم القيامة، فقال: وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ

ص: 597


1- أي: يبتلون و يختبرون، يقال: مناه الله بكذا، أي: ابتلاه.

أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أوثانهم الّتي دعوها شركاء، أو الشياطين الّذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا في أنّهم شركاء للّه مِنْ دُونِكَ نعبدهم أو نطيعهم. و هو اعتراف بأنّهم كانوا مخطئين في ذلك، أو التماس لأن يشطّر عذابهم.

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إلقاء المعنى إلى النفس إظهاره لها حتى تدركه متميّزا عن غيره، أي: فقالت الأصنام و سائر ما كانوا يعبدون من دون اللّه، بإنطاق اللّه إيّاهم لهؤلاء إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ يعني: أجابوهم بالتكذيب في أنّهم شركاء اللّه. أو أنّهم ما عبدوهم حقيقة، و إنّما عبدوا أهواءهم، كقوله: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ (1). أو في أنّهم حملوهم على الكفر و ألزموهم إيّاه، كقوله: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي (2).

وَ أَلْقَوْا و ألقى الّذين ظلموا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام لأمره و حكمه بعد الإباء و الاستكبار في الدنيا وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و ضاع عنهم و بطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أنّ للّه شركاء، و أنّهم ينصرونهم و يشفعون لهم حين كذّبوهم و تبرّؤا منهم.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و منعوا الناس عن الإسلام، و حملوهم على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً أي: عذّبناهم على صدّهم عن دين اللّه فَوْقَ الْعَذابِ المستحقّ بكفرهم، أي: زيادة على عذاب الكفرة بِما

كانُوا يُفْسِدُونَ بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل اللّه.

عن سعيد بن جبير: زيادة عذابهم حيّات أمثال البخت و الفيلة، و عقارب

ص: 598


1- مريم: 82.
2- إبراهيم: 22.

أمثال البغال الدلم (1)، تلسع إحداهنّ اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا.

و عن ابن مسعود: زيادة عذابهم الأفاعي و العقارب في النار، لها أنياب كالنخل الطوال.

و عن ابن عبّاس: هي أنهار من صفر مذاب كالنار يعذّبون بها. و قيل:

يخرجون من النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدّة برده إلى النار.

[سورة النحل [16]: آية 89]

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [89]

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: نبيّهم الّذي أرسل إليهم، أو الحجّة الّذي هو إمام عصرهم وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمّتك. و إنّما أفرده بالذكر تشريفا له.

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ استئناف أو حال بإضمار «قد». تِبْياناً بيانا بليغا لِكُلِّ شَيْ ءٍ من أمور الدين على التفصيل أو الإجمال، فإنّه ما من شي ء إلّا و قد بيّن في القرآن، إمّا بالنصّ عليه، أو بالإحالة على ما يوجب العلم، من بيان النبيّ و الحجج القائمين مقامه، أو إجماع الأمّة، أو القياس المنصوص العلّة، فحكم الجميع مستفاد من القرآن.

وَ هُدىً و دلالة إلى الرشد وَ رَحْمَةً و نعمة للجميع، لما فيه من الشرائع و الأحكام، و إنّما حرمان المحروم من تفريطه وَ بُشْرى و بشارة بالثواب الدائم

ص: 599


1- أي: السود، جمع الأدلم، و هو الطويل الأسود.

و النعيم المقيم لِلْمُسْلِمِينَ خاصّة.

[سورة النحل [16]: آية 90]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [90]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ بالتوسّط في الأمور اعتقادا، كالتوحيد المتوسّط بين التعطيل و التشريك، و عملا كالتعبّد بأداء الواجبات المتوسّط بين البطالة و الترهّب، و خلقا كالجود المتوسّط بين البخل و التبذير.

وَ الْإِحْسانِ إحسان الطاعات. و هو إمّا بحسب الكمّيّة كالتطوّع بالنوافل، أو بحسب الكيفيّة، كما

قال عليه السّلام: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

و قيل: العدل أن تنصف و تنتصف، و الإحسان أن تنصف و لا تنتصف.

و قيل: العدل في الأفعال، و الإحسان في الأقوال، فلا يفعل إلّا ما هو عدل، و لا يقول إلّا ما هو حسن. و عن ابن عبّاس: العدل التوحيد، و الإحسان أداء الفرائض.

وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى و إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه. و هو تخصيص بعد تعميم للمبالغة. و قيل: المراد بذي القربى قرابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين أرادهم اللّه بقوله:

فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (1).

و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام، فإنّه قال: نحن هم.

وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ عن الإفراط في متابعة القوّة الشهويّة كالزنا، فإنّه أقبح أحوال الإنسان و أشنعها وَ الْمُنْكَرِ ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوّة الغضبيّة وَ الْبَغْيِ و الاستعلاء و الاستيلاء على الناس، و طلب التطاول بالظلم و التجبّر عليهم، فإنّها الشيطنة الّتي هي مقتضى القوّة الوهميّة. و لا يوجد من الإنسان

ص: 600


1- الأنفال: 41.

شرّ إلّا و هو مندرج في هذه الأقسام، صادر بتوسّط إحدى هذه القوى الثلاث.

و لذلك قال ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن للخير و الشرّ، و لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنّه تبيان لكلّ شي ء و هدى و رحمة للعالمين.

و لعلّ إيرادها عقيب قوله: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» للتنبيه عليه.

يَعِظُكُمْ بالأمر و النهي، و التمييز بين الخير و الشرّ، و سائر ما تضمّنت هذه الآية من مكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتّعظون.

قال في الكشّاف: «حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليّ صلوات اللّه عليه أقيمت هذه الآية مقامها، و لعمري إنّها كانت

فاحشة و منكرا و بغيا، ضاعف اللّه لمن سنّها غضبا و نكالا و خزيا، إجابة

لدعوة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و عاد من عاداه، و اخذل من خذله» (1).

و جاءت الرواية أنّ عثمان بن مظعون قال: كنت أسلمت استحياء من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام و لم يقرّ في قلبي. و كنت ذات يوم عنده فشخص بصره نحو السماء، كأنّه يستفهم شيئا، فلمّا سرى عنه سألته عن حاله. فقال: نعم، بينا أنا أحدّثك إذ رأيت جبرئيل في الهواء فأتاني بهذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ»، و قرأها عليّ إلى آخرها.

فقرّ الإسلام في قلبي، و أتيت عمّه أبا طالب فأخبرته، فقال: يا آل قريش اتّبعوا محمّدا ترشدوا، فإنّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق.

و أتيت الوليد بن المغيرة و قرأت عليه هذه الآية، فقال: إن كان محمّد قاله فنعم ما قال، و إن قاله ربّه فنعم ما قال. قال: فأنزل اللّه: أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى (2). يعني: قوله: فنعم ما قال. و معنى قوله: «و أكدى» أنّه لم يقم على ما قاله و قطعه.

ص: 601


1- الكشّاف 2: 629.
2- النجم: 33- 34.

و عن عكرمة قال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة. فقال:

يا ابن أخي أعد. فأعاد، فقال: إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق، و ما هو قول البشر.

[سورة النحل [16]: الآيات 91 الى 93]

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ

يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [91] وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [92] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [93]

و لمّا تقدّم الأمر بالعدل و الإحسان، و النهي عن المنكر و العدوان، عقّبه سبحانه بالأمر بالوفاء بالعهد، و النهي عن نقض الأيمان، فقال: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ يعني: البيعة لرسول اللّه على الإسلام، لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (1).

و قيل: العهد كلّ أمر يجب الوفاء به. و هو الّذي يحسن فعله، و عاهد اللّه ليفعلنّه، فإنّه يصير واجبا عليكم، كالنذر و شبهه.

وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِها

ص: 602


1- الفتح: 10.

توثيقها بذكر اللّه. و منه: أكّد، بقلب الواو همزة. وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدا بتلك البيعة، فإنّ الكفيل مراع لحال المكفول به، رقيب عليه إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من نقض الأيمان و العهود و الوفاء.

وَ لا تَكُونُوا في نقض الأيمان كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ما غزلته، مصدر بمعنى المفعول مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلّق ب «نقضت» أي: نقضت غزلها من بعد إبرام و إحكام أَنْكاثاً طاقات نكث فتلها، جمع نكث. و انتصابه على الحال من «غزلها»، أو المفعول الثاني ل «نقضت»، فإنّه بمعنى: صيّرت. و المراد به تشبيه الناقض بمن هذا شأنه، و هو من ينكث فتله.

قيل: هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشيّة، فإنّها كانت حمقاء خرقاء (1)، اتّخذت مغزلا قدر

ذراع، و صنّارة (2) مثل أصبع، و فلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنّ فينقضن ما غزلن.

تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير في «و لا تكونوا»، أو من الجارّ الواقع موقع الخبر، أي: و لا تكونوا متشبّهين بامرأة هذا شأنها، متّخذي أيمانكم دخلا، أي: مفسدة و خيانة و غدرا بينكم. و أصل الدخل ما يدخل الشي ء و لم يكن منه.

أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ لأجل أن تكونوا، أو بسبب أن تكونوا جماعة هِيَ أَرْبى أي: أزيد عددا و أوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ من جماعة حلفتم له. و المعنى: لا تغدروا بقوم لكثرتكم و قلّتهم، أو لكثرة منابذتهم و قوّتهم كقريش، فإنّهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم، و حالفوا أعداءهم.

إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير ل «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ» لأنّه بمعنى المصدر، أي:

ص: 603


1- مؤنّث الأخرق، و هو الأحمق الذي لم يحسن عمله.
2- الصفّارة: الحديدة المعقّفة في رأس المغزل. و منها الصنّارة التي تستعملها النساء لحياكة قمصان الصوف و غيرها.

يختبركم بكونهم أربى لينظر أ تتمسّكون بحبل الوفاء بعهد اللّه و بيعة رسوله، أم تغترّون بكثرة قريش و شوكتهم، و قلّة المؤمنين و ضعفهم؟ و قيل: الضمير ل «أربى».

و قيل: للأمر بالوفاء. و تحقيقه أنّه يعاملكم معاملة المختبر ليميّز المحقّ من المبطل ليقع الجزاء بحسب العمل.

و لمّا كان بناء الإثابة و التعذيب على التكليف الّذي مداره الاختيار لا الإجبار، قال بعد ذلك: وَ لَيُبَيِّنَنَ و ليظهرنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب و العقاب.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متّفقة على الإسلام قسرا و جبرا وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يخذله في الضلالة و يخلّيه فيها، لعلمه بفرط كفره، و انهماكه في عناده، و توغّله في إنكاره، مع وضوح طريق الحقّ لديه وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يوفّقه طريق الاهتداء، لعلمه باسترشاده و استصوابه، فإنّه بنى الأمر على الاختيار، و على ما يستحقّ به اللطف و الخذلان و الثواب و العقاب، و لم يبنه على الإجبار، و حقّق ذلك بقوله: وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سؤال تبكيت و مجازاة.

[سورة النحل [16]: الآيات 94 الى 96]

وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [94] وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [95] ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [96]

ص: 604

ثمّ صرّح بالنهي عن نقض العهد بعد التضمين، تأكيدا و مبالغة في قبح المنهيّ، فقال: وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي: خيانة و خديعة كما مرّ. فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجّة الإسلام بَعْدَ ثُبُوتِها عليها. و المراد أقدامهم. و إنّما وحّد و نكّر للدلالة على أنّ زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟! وَ تَذُوقُوا السُّوءَ العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بسبب صدودكم عن الوفاء، فإنّ من نقض البيعة و ارتدّ جعل ذلك سنّة لغيره وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.

روي عن سلمان الفارسي أنّه قال: تهلك هذه الأمّة بنقض مواثيقها.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «نزلت هذه الآيات في ولاية عليّ عليه السّلام، و ما كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين».

وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ و لا تستبدلوا عهد اللّه و بيعة رسوله ثَمَناً قَلِيلًا عرضا يسيرا من الدنيا، و هو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين و يمنّونهم و يشترطون لهم على الارتداد إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من النصر و التغنيم في الدنيا، و الثواب في الآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ممّا يعدونكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: كنتم من أهل العلم و التمييز.

ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا يَنْفَدُ ينقضي و يفنى وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ لا ينفد. و هو تعليل للحكم السابق، و دليل على أنّ نعيم أهل الجنّة باق.

وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ على الفاقة و أذى المشركين، أو على مشاقّ التكاليف. و قرأ ابن كثير و عاصم بالنون. بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ بما يرجّح فعله من أعمالهم، كالواجبات و المندوبات. أو بجزاء أحسن من أعمالهم.

[سورة النحل [16]: آية 97]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [97]

روي عن ابن عبّاس: أنّ رجلا من حضر موت يقال له عبدان الأشرع قال: يا

ص: 605

رسول اللّه إنّ امرء القيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي، فذهب بها منّي، و القوم يعلمون أنّي لصادق، و لكنّه أكرم عليهم منّي.

فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امرء القيس عنه. فقال: لا أدري ما يقول. فأمره أن يحلف.

فقال عبدان: إنّه فاجر لا يبالي أن يحلف.

فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه.

فلمّا قام ليحلف أنظره، فانصرفا، فنزل قوله: «وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الآيتان.

فلمّا قرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال امرؤ القيس:

أمّا ما عندي فينفد، و هو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه، و لم أدركم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء، و مثلها معها بما أكلت من ثمرها.

فنزل فيه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيّنه بالنوعين دفعا للتخصيص وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا يعيش عيشا طيّبا، فإنّه إن كان موسرا فظاهر، و إن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة و الرضا بالقسمة، و توقّع الأجر العظيم في الآخرة، بخلاف الكافر، فإنّه إن كان معسرا فظاهر، و إن كان موسرا لم يدعه الحرص و خوف الفوات أن يتهنّأ بعيشه.

و عن ابن عبّاس: الحياة الطيّبة الرزق الحلال. و عن قتادة: يعني بها في الآخرة. و قيل: هي حلاوة الطاعة و التوفيق في قلبه.

وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعة، كقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ (1).

ص: 606


1- آل عمران: 148.

[سورة النحل [16]: الآيات 98 الى 100]

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [98] إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [99] إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [100]

و لمّا كان الشيطان يوسوس العباد في ترك الطاعة و الإقدام على المعصية، و كلّما كانت العبادة أعظم كان الشيطان في وسوسته أجهد، و معظم العبادة تلاوة القرآن، كما

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أفضل عبادة أمّتي تلاوة القرآن»،

عقّب ذكر العمل الصالح بالاستعاذة من الشيطان عند تلاوته، ليأمن من وسوسته في طاعته، فقال:

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي: إذا أردت قراءته. و التعبير عن إرادة الفعل بلفظ الفعل من قبيل تسمية السبب باسم المسبّب، فإنّ

الفعل يوجد عند القصد و الإرادة بغير فاصل و على حسبه، فكان منه بسبب قويّ و ملابسة ظاهرة، كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ (1).

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فاسأل اللّه أن يعيذك من وساوسه، لئلّا يوسوسك في القراءة. و الاستعاذة استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع.

و هي عند التلاوة مستحبّة غير واجبة بلا خلاف، في الصلاة و خارج الصلاة.

و عن ابن مسعود: «قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم. فقال: قل: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبرئيل عليه السّلام عن القلم عن اللوح المحفوظ».

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ تسلّط و ولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ

ص: 607


1- المائدة: 6.

يَتَوَكَّلُونَ أي: على أولياء اللّه المؤمنين به و المتوكّلين عليه، فإنّهم لا يطيعون أوامره، و لا يقبلون وساوسه، إلّا فيما يحتقرون على ندور و غفلة، و لذلك أمروا بالاستعاذة. فذكر نفي السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة، لئلّا يتوهّم أنّ له سلطانا.

إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يحبّونه و يطيعونه في إغوائه وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ باللّه، أو بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ

[سورة النحل [16]: الآيات 101 الى 103]

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [101] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [102] وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [103]

ثمّ قال مخبرا عن إسناد الكفّار الافتراء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنسبة إلى القرآن، فقال: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بالنسخ،

فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظا أو حكما وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح، فلعلّ ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه اللّه، و ما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: ينزل بالتخفيف.

و هذا اعتراض لتوبيخ الكفّار على قولهم، و التنبيه على فساد سندهم، واقع بين الشرط و بين جوابه، و هو قوله: قالُوا أي: الكفرة إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ متقوّل على اللّه، تأمر بشي ء ثمّ يبدو لك فتنهى عنه.

و روي عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا يقولون إنّ محمّدا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر و ينهاهم عنه غدا فيأتيهم بما هو أهون. و لقد افتروا، فقد كان

ص: 608

ينسخ الأشقّ بالأهون، و الأهون بالأشقّ، و الأهون بالأهون، و الأشقّ بالأشقّ، لأنّ الغرض المصلحة لا الهوان و المشقّة.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة الأحكام، و لا يميّزون الخطأ من الصواب.

قُلْ ردّا لقولهم: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعني: جبرئيل. و إضافة الروح إلى القدس- و هو الطهر- كقولهم: حاتم الجود و زيد الخير. و المراد الروح المقدّس، أي: المطهّر من المآثم. و قرأ ابن كثير: روح القدس بالتخفيف. و في «ينزّل» و «نزّله» تنبيه على أنّ إنزاله مدرّجا على حسب المصالح إنّما يقتضي التبديل. مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ملتبسا بالحكمة.

لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأنّه كلامه، فإنّهم إذا سمعوا الناسخ و تدبّروا ما فيه من رعاية الصلاح و الحكمة، رسخت عقائدهم، و اطمأنّت قلوبهم.

و معنى تثبيته: استدعاؤه لهم بألطافه و معونته إلى الثبات على الإيمان.

وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه. و هما معطوفان على محلّ «ليثبّت» أي: تثبيتا و هداية و بشارة. و فيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم.

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يعنون جبر الرومي غلام عامر بن الحضرمي. و قيل: عبدان: جبر و يسار، كانا يصنعان السيوف بمكّة، و يقران التوراة و الإنجيل، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمرّ عليهما و يسمع ما يقرءانه. و قيل: عائشا أو يعيش غلام حويطب بن عبد العزّى، و قد أسلم و حسن إسلامه، و كان صاحب كتب. و قيل: سلمان الفارسي، قالوا: يتعلّم القصص منه. و عن ابن عبّاس: قالت قريش: إنّما يعلّمه بلعام، و كان قينا (1) بمكّة روميّا نصرانيّا.

ثمّ ألزمهم اللّه تعالى الحجّة و أكذبهم بأن قال: لِسانُ الَّذِي أي: لغة الرجل الّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ يميلون قولهم عن الاستقامة إليه أَعْجَمِيٌ أعجميّة عبريّة وَ هذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان و فصاحة.

ص: 609


1- القين: العبد و الحدّاد.

و قرأ حمزة و الكسائي: يلحدون بفتح الياء و الحاء. يقال: ألحد القبر و لحّده و هو ملحد و ملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شقّ منه. ثمّ استعير لكلّ إمالة عن استقامة، فقالوا: ألحد فلان في قوله، و ألحد في دينه. و منه الملحد، لأنّه أمال مذهبه عن الأديان كلّها، لم يمله عن دين إلى دين.

و الجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم. و تقريره من وجهين:

أحدهما: أنّ ما سمعه منه كلام أعجميّ لا يفهمه هو و لا أنتم، و القرآن عربيّ تفهمونه بأدنى تأمّل، فكيف يكون ما تلقّفه منه؟! و ثانيهما: هب أنّه تعلّم منه المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقّف منه اللفظ، لأنّ ذلك أعجميّ، و هذا عربيّ، و القرآن كما هو معجز باعتبار المعنى، فهو معجز من حيث اللفظ. مع أنّ العلوم الكثيرة الّتي في القرآن لا يمكن تعلّمها إلّا بملازمة معلّم فائق في تلك العلوم مدّة متطاولة، فكيف تعلّم جميع ذلك من غلام سوقيّ، سمع منه بعض أوقات مروره عليه كليمات أعجميّة، لعلّهما لم يعرفا معناها؟! و طعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة الواهية دليل على غاية عجزهم. كذا قال صاحب الأنوار (1).

[سورة النحل [16]: الآيات 104 الى 106]

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [104] إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ [105] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [106]

ص: 610


1- أنوار التنزيل 3: 192.

ثمّ أتبع سبحانه هذه الآية بذكر الوعيد للكفّار على ما قالوه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بِآياتِ اللَّهِ بأنّها من عند اللّه لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى الحقّ، أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم، لأنّهم أهل التخلية و الخذلان، لفرط عنادهم و مكابرتهم، مع أنّ حقّية القرآن واضح لديهم. و قيل: إلى الجنّة. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

و لمّا أماط شبهتهم، و ردّ طعنهم، قلب الأمر عليهم، فقال: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لأنّهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه وَ أُولئِكَ إشارة إلى الّذين كفروا، أو إلى قريش هُمُ الْكاذِبُونَ أي: الكاذبون على الحقيقة. أو الكاملون في الكذب، لأنّ تكذيب آيات اللّه و الطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب. أو الّذين عادتهم الكذب، و لا يبالون به في كلّ شي ء، و لا يصرفهم عنه دين و لا مروءة. أو الكاذبون في قولهم: «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» «إنّما يعلّمه بشر».

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ بدل من «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» و ما بينهما اعتراض. و المعنى: إنّما يفتري الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه. و استثنى منهم المكره. أو من «أولئك» أو من «هم الكاذبون». أو مبتدأ خبره محذوف، دلّ عليه قوله: «فعليهم غضب». كأنّه قيل: من كفر باللّه فعليهم غضب إلّا من أكره ... إلخ.

و يجوز أن ينتصب بالذمّ، و أن تكون «من» شرطيّة محذوفة الجواب.

إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على الافتراء أو كلمة الكفر. استثناء متّصل، لأنّ الكفر لغة يعمّ القول و العقد، كالإيمان وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لم تتغيّر عقيدته.

وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً اعتقده و طاب به نفسا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إذ لا شي ء أعظم من جرمه.

روي: أنّ ناسا من أهل مكّة فتنوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، و كان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه و هو معتقد للإيمان، منهم عمّار،

ص: 611

و أبواه- ياسر و سميّة- و صهيب، و بلال، و خباب، و سالم، عذّبوا. فأمّا سميّة فقد ربطوها بين بعيرين و وجئ (1) بحربة في قبلها، و قالوا: إنّك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت. و قتلوا ياسرا. و هما أوّل قتيلين في الإسلام. و أمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا مكرها. فقيل: يا رسول اللّه إنّ عمّارا كفر. فقال: كلّا، إنّ عمّارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الايمان بلحمه و دمه. فأتى عمّار رسول اللّه و هو يبكي، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمسح عينيه. و قال: مالك إن عادوا

لك فعد لهم بما قلت.

و هو دليل على جواز التكلّم بالكفر للإكراه، و إن كان الأفضل أن يتجنّب عنه إعزازا للدين، كما فعله أبواه، لما

روي: أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمّد؟ قال: رسول اللّه. قال: فما تقول فيّ؟ فقال: أنت أيضا. فخلّاه.

و قال للآخر: ما تقول في محمّد؟ قال: رسول اللّه. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أمّا الأوّل فقد أخذ برخصة اللّه. و أمّا الثاني فقد صدع بالحقّ، فهنيئا له.

[سورة النحل [16]: الآيات 107 الى 111]

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [107] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [108] لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ [109] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا

ص: 612


1- وجأ فلانا بالسكّين أو بيده: ضربه في أيّ موضع كان.

إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [110] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [111]

ذلِكَ إشارة إلى الكفر بعد الايمان، أو الوعيد بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ و بسبب استحقاقهم نخلّيهم و خذلانهم، لأجل انهماكهم في الكفر و العناد.

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ برفع التوفيق و اللطف عنهم، فيخلّيهم لفرط عنادهم و لجاجهم، فأبت قلوبهم و حواسّهم عن الاعتراف بالحقّ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة، فلا

أغفل منهم، لأنّهم غفلوا عن تدبّر عاقبة حالهم في الآخرة، و ذلك غاية الغفلة و منتهاها.

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ إذ ضيّعوا أعمارهم، و صرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلّد.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي: عذّبوا، كعمّار و أصحابه.

و «ثمّ» لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك. يعني: إنّ ربّك لهم لا عليهم، بمعنى: أنّه وليّهم و ناصرهم، لا عدوّهم و خاذلهم. و قرأ ابن عامر: فتنوا بالفتح، أي: بعد ما عذّبوا المؤمنين، كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتّى ارتدّ ثمّ أسلما و هاجرا، كما قال: ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا على الجهاد و ما أصابهم من المشاقّ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد الهجرة و الجهاد و الصبر لَغَفُورٌ لما فعلوا قبل رَحِيمٌ ينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد.

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ منصوب ب «رحيم» أو ب: أذكر. و المراد يوم القيامة.

تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها عن ذاتها، و تسعى في خلاصها، لا يهمّها شأن غيرها، فتقول:

نفسي نفسي. و معنى المجادلة: الاحتجاج عنها و الاعتذار لها، كقولهم: هؤُلاءِ

ص: 613

أَضَلُّونا (1) و نحو ذلك. وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ جزاء ما عملت وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقصون أجورهم.

[سورة النحل [16]: الآيات 112 الى 113]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [112] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ [113]

ثمّ أنذر المشركين بقوله: وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي: جعلها مثلا لكلّ قوم أنعم اللّه عليهم، فأبطرتهم النعمة فكفروا، فأنزل اللّه بهم نقمته. أو لأهل مكّة.

كانَتْ آمِنَةً ذات أمن، أي:

يأمن أهلها من أن يغار عليهم مُطْمَئِنَّةً قارّة ساكنة بأهلها، لا ينزعجون خوف العدوّ، فإنّ الطمأنينة مع الأمن، و الانزعاج و القلق مع الخوف.

يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها و جوانبها، كما قال: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ (2).

فَكَفَرَتْ فكفر أهل تلك القرية بِأَنْعُمِ اللَّهِ بنعمه. جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع و أدرع، أو جمع نعم، كبؤس و أبؤس. و في الحديث: «نادى مناد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالموسم بمنى: إنّها أيّام طعم و نعم فلا تصوموا».

فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ استعار الذوق لإدراك أثر الضرر،

ص: 614


1- الأعراف: 38.
2- القصص: 57.

و اللباس لما غشيهم و اشتمل عليهم من الجوع و الخوف، و أوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له، و هو ما غشيهم.

قال صاحب الكشّاف: «أمّا الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة، لشيوعها في البلايا و الشدائد و ما يمسّ الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس و الضرّ و أذاقه العذاب، شبّه ما يدرك من أثر الضرر و الألم بما يدرك من طعم المرّ و البشع. و أمّا اللباس، فقد شبّه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان و التبس به من بعض الحوادث. و أمّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع و الخوف، فلأنّه لمّا وقع عبارة عمّا يغشى منهما و يلابس فكأنّه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع و الخوف» (1).

بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بصنيعهم.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الضمير لأهل مكّة، عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ أي: حال التباسهم بالظلم و العذاب

ما أصابهم من الجدب الشديد سبع سنين، حتى أكلوا القدّ (2) و العلهز، و هو الوبر يخلط بالدم و يؤكل، و مع ذلك كانوا خائفين من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و ذلك حين

دعا عليهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعل عليهم سنين كسنيّ يوسف. أو وقعة بدر.

[سورة النحل [16]: آية 114]

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [114]

ص: 615


1- الكشّاف 2: 639.
2- القدّ: جلد السخلة.

و لمّا زجرهم عن الكفر، و أوعدهم بما ذكر من التمثيل، صدّا لهم عن صنيع الجاهليّة و مذاهبها الفاسدة، أمرهم بأكل ما أحلّ اللّه لهم، و شكر ما أنعم عليهم، فقال: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إنعامه بذلك إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تطيعون، أو إن صحّ زعمكم أنّكم تعبدون اللّه بعبادة الآلهة، لأنّها شفعاؤكم عنده.

[سورة النحل [16]: آية 115]

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [115]

و لمّا أمرهم بتناول ما أحلّ لهم، عدّد عليهم ما حرّم عليهم، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مقتضى سياق الكلام و تصدير الجملة ب «إنّما» حصر المحرّمات في الأجناس الأربعة، إلّا ما ضمّ إليه دليل كالسباع. و هذه الآية و الّتي قبلها مفسّرتان في سورة البقرة، فليطالع ثمّة (1).

[سورة النحل [16]: الآيات 116 الى 118]

وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [116] مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [117] وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [118]

ص: 616


1- راجع ج 1 ص 285 ذيل الآية 172- 173 من سورة البقرة.

ثمّ أكّد ذلك بالنهي عن التحريم و التحليل بأهوائهم، فقال: وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ كما قالوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا (1) الآية. و انتصاب الكذب ب «لا تقولوا». و «هذا حلال و هذا حرام» بدل منه. أو متعلّق ب «تصف» على إرادة القول، أي: و لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا: هذا حلال و هذا حرام. أو مفعول «لا تقولوا»، و الكذب منصوب ب «تصف»، و «ما» مصدريّة، أي: و لا تقولوا: هذا حلال و هذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب.

و المعنى: لا تحلّلوا و لا تحرّموا بمجرّد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل.

و وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، كأنّ حقيقة الكذب كانت مجهولة و ألسنتهم تصفها و تعرّفها بكلامهم هذا، و لذلك عدّ من فصيح الكلام، كقولهم: وجهها يصف الجمال، و عينها تصف السحر.

لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ اللام للعاقبة، لأنّ الافتراء ما كان غرضا، كقوله:

عَدُوًّا وَ حَزَناً (2) إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من عذاب اللّه، و لا ينالون خيرا.

و لمّا كان المفتري يفتري لتحصيل مطالبه الدنيويّة نفى عنهم الفلاح، و بيّنه بقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ أي: في سورة الأنعام في قوله: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (3) مِنْ قَبْلُ متعلّق ب «قصصنا» أو

ص: 617


1- الأنعام: 139.
2- القصص: 8.
3- الأنعام: 146.

«حرّمنا» وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. و فيه تنبيه على الفرق بينهم و بين غيرهم في التحريم، و أنّه كما يكون للمضرّة يكون للعقوبة. و اتّصل قوله: «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا» الآية بما تقدّم ذكره من التحريم و التحليل، ليبيّن أنّ ما كانوا يحرّمونه و يحلّلونه بزعمهم ليس في التوراة، كما أنّه ليس ذلك في القرآن.

[سورة النحل [16]: آية 119]

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [119]

ثمّ ذكر سبحانه التائبين بعد تقدّم الوعد و الوعيد، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ

بِجَهالَةٍ بسببها، أو ملتبسين بها، ليعمّ الجهل باللّه و بعقابه، و عدم التدبّر في العواقب لغلبة الشهوة. و السوء يعمّ الافتراء على اللّه و غيره. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ من بعد سوء الفعل وَ أَصْلَحُوا نيّاتهم و أفعالهم إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ يثيب على الإنابة.

[سورة النحل [16]: الآيات 120 الى 123]

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [120] شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [121] وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [122] ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [123]

و بعد ذمّ المشركين و أهل الكتاب، و تهديدهم بعقائدهم الزائغة و صفاتهم

ص: 618

السيّئة، بيّن خلال إبراهيم الخليل و نعته الجليل ليقتدوا به، فقال: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي: كان وحده أمّة من الأمم، لكماله في جميع صفات الخير، و استجماعه فضائل لا تكاد توجد إلّا مفرّقة في أشخاص كثيرة، كقوله:

ليس من اللّه بمستنكرأن يجمع العالم في واحد

و هو رئيس الموحّدين، و قدوة المحقّقين، الّذي جادل فرق المشركين، و أبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة. و لذلك عقّب أحوال المشركين بذكره تزييفا لمذاهبهم الزائغة، من الشرك، و الطعن في النبوّة، و تحريم ما أحلّه. أو لأنّه كان وحده مؤمنا، و كان سائر الناس كفّارا.

و قيل: هي فعلة بمعنى مفعول، كالرحلة بمعنى ما يرتحل إليه، و النخبة بمعنى ما ينتخب به، من: أمّه إذا قصده أو اقتدى به، فإنّ الناس كانوا يؤمّونه للاستفادة، و يقتدون بسيرته، كقوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً (1). قال ابن الأعرابي:

يقال للرجل العالم أمّة، لأنّه قدوة معلّم

الخير.

قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له، قائما بأوامره دائما حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الإسلام، مستقيما على الطاعة و طريق الحقّ وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما زعموا، فإنّ قريشا كانوا يزعمون أنّهم على ملّة إبراهيم.

شاكِراً لِأَنْعُمِهِ معترفا بها. ذكر بلفظ القلّة للتنبيه على أنّه كان لا يخلّ بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة؟! روي أنّه كان لا يتغدّى إلّا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخّر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فخيّلوا له أنّ بهم جذاما، فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا للّه على أنّه عافاني و ابتلاكم.

اجْتَباهُ و اصطفاه للنبوّة وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في الدعوة إلى اللّه.

ص: 619


1- البقرة: 124.

وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بأن حبّبه إلى الناس، حتّى إنّ أرباب الملل جميعا يتولّونه و يثنون عليه، و رزقه أولادا طيّبة، و عمرا طويلا في السعة و الطاعة.

و قيل: هي قول المصلّي منّا: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم.

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لمن أهل الجنّة، كما سأله بقوله:

وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (1). و ناهيك بهذا ترغيبا في الصلاح. و لم يقل: لفي أعلى منازل الصالحين، مع اقتضاء حاله ذلك، ترغيبا في الصلاح، فإنّه عزّ اسمه بيّن أنّه عليه السّلام من جملة الصالحين، مع علوّ رتبته و شرف منزلته، تشريفا لهم و تنويها بذكر من هو منهم.

ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد. و ذكر «ثمّ» إمّا لتعظيم منزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إجلال محلّه، و الإيذان بأنّ أشرف ما أوتي خليل اللّه إبراهيم من الكرامة، و أجلّ ما أولي من النعمة، اتّباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملّته، فإنّها دلّت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت الّتي أثنى اللّه عليه بها، أو لتراخي أيّامه.

أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً في التوحيد و الدعوة إليه بالرفق، و إيراد الدلائل مرّة بعد اخرى، و المجادلة مع كلّ أحد على حسب فهمه وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان قدوة الموحّدين.

[سورة النحل [16]: آية 124]

إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [124]

و لمّا أمر سبحانه باتّباع الحقّ، حذّر من الاختلاف فيه، بما ذكر من أحوال المختلفين في السبت، كيف شدّد عليهم فرضه، و ضيّق عليهم أمره، فقال: إِنَّما

ص: 620


1- الشعراء: 83.

جُعِلَ السَّبْتُ أي: تعظيم السبت، أو التخلّي فيه للعبادة عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي: في نبيّهم. و هم اليهود، أمرهم موسى عليه السّلام أن يتفرّغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا عن ذلك و قالوا: نريد يوم السبت، لأنّه فرغ اللّه فيه من خلق السماوات و الأرض، فألزمهم اللّه السبت، و شدّد الأمر عليهم، إلّا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فأذن اللّه لهم الصيد في السبت، و ابتلى المسبتين بتحريم الصيد فيه.

و قيل: معناه: إنّما جعل وبال السبت- و هو المسخ- على الّذين اختلفوا فيه، فأحلّوا الصيد فيه تارة و حرّموه اخرى، و احتالوا له الحيل، و كان الواجب عليهم أن يتّفقوا في تحريمه على كلمة واحدة، بعد ما حتّم اللّه عليهم الصبر عن الصيد فيه و تعظيمه. و على هذا، المعنيّ في ذكر ذلك نحو المعنيّ في ضرب القرية الّتي كفرت (1) بأنعم اللّه مثلا لمزيد تهديد المشركين.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بالمجازاة

على الاختلاف، أو بمجازاة كلّ فريق من الآبين و المعظّمين بما يستحقّه.

[سورة النحل [16]: آية 125]

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [125]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالدعاء إلى الحقّ، فقال: ادْعُ من بعثت إليهم إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى دين ربّك، و هو الإسلام بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة. و هو الدليل الموضح للحقّ، المزيح للشبهة. وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الخطابات المقنعة و العبر النافعة. فالأولى لدعوة خواصّ الأمّة الطالبين للحقائق، و الثانية لدعوة عوامهم.

ص: 621


1- النحل: 112.

و قيل: الحكمة هي القرآن. و سمّي حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالحسن، و النهي عن القبيح. و أصل الحكمة المنع، و منه حكمة اللجام. و الموعظة الحسنة: هي الصرف عن القبيح، على وجه الترغيب في تركه، و التزهيد في فعله. و في ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع.

وَ جادِلْهُمْ و جادل معانديهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطريقة الّتي هي أحسن طرق المجادلة، من الرفق و اللين من غير فظاظة و تعنيف، و إيثار الوجه الأيسر فالأيسر، و المقدّمات الّتي هي أشهر، فإنّ ذلك أنفع في تسكين لهبهم و تليين شغبهم.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل و النصيحة اليسيرة، و من لا خير فيه عجزت عنه الحيل، فكأنّك تضرب منه في حديد بارد. و إنّما عليك البلاغ و الدعوة، و أمّا حصول الهداية و الضلال و المجازاة عليهما فلا إليك، بل اللّه أعلم بالضالّين و المهتدين، و هو المجازي لهم.

[سورة النحل [16]: آية 126]

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [126]

و لمّا بيّن أمره بالدعوة و علّمه طرقها، أشار إليه و إلى من يتابعه بمراعاة العدل مع من يناصبهم، فإن الدعوة لا تنفكّ عنه، من حيث إنّها تتضمّن رفض العادات و ترك الشهوات، و القدح في دين الأسلاف، و الحكم عليهم بالكفر و الضلال، فقال:

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ أي: أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازاة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ و لا تزيدوا عليه.

و قيل: كان المشركون مثّلوا بقتلى أحد، و بقروا بطونهم، و قطعوا مذاكيرهم،

ص: 622

و قتل حمزة و قد مثّل به، و أخذت هند كبده، فجعلت تلوكه، و جدعوا أنفه و أذنه، فقال المسلمون: لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلنّ بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت.

و فيه دليل على أنّ للمقتصّ أن يماثل الجاني، و ليس له أن يجاوزه. و حثّ على العفو تعريضا بقوله: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ»، و تصريحا بقوله: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ أي:

الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ من الانتقام للمنتقمين.

[سورة النحل [16]: الآيات 127 الى 128]

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [127] إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [128]

ثمّ صرّح بالأمر به لرسوله، لأنّه أولى الناس به، لزيادة علمه باللّه، و وثوقه عليه، فقال: وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ إلّا بتوفيقه و تثبيته وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على الكافرين في إعراضهم عنك، أو على قتلى بدر، أو على المؤمنين و ما فعل بهم وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ في ضيق صدر من مكرهم بك و بأصحابك، فإنّ اللّه يردّ كيدهم في نحورهم، و يحفظكم من شرورهم.

و قرأ ابن كثير: في ضيق، هنا و في النمل (1). و هما لغتان، كالقول و القيل.

و يجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيّق.

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و الكبائر بالنصرة و الحفظ وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم بالولاية و الفضل. أو مع الّذين اتّقوا بتعظيم أمره، و الّذين هم محسنون في أعمالهم بالولاية و الفضل. أو مع الّذين اتّقوا بتعظيم أمره، و الّذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. و اللّه أعلم بالصواب.

ص: 623


1- النمل: 70.

ص: 624

فهرس الموضوعات

الصورة

ص: 625

الصورة

ص: 626

الصورة

ص: 627

الصورة

ص: 628

الصورة

ص: 629

الصورة

ص: 630

الصورة

ص: 631

الصورة

ص: 632

الصورة

ص: 633

الصورة

ص: 634

الصورة

ص: 635

الصورة

ص: 636

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.