زبدة التفاسير المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:الشریف الکاشاني، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان واسم المؤلف: زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشاني الشریف الکاشاني؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیة

تحرير الحالة: [ویرایش 2؟]

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1423ق. = 1381.

مواصفات المظهر: ج 7

فروست : (موسسه المعارف الاسلامیة؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

ISBN : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة : الطبعة السابقة: مؤسسة التربية الإسلامية، 1378 (5 ج.)

ملحوظة : العربية.

ملحوظة : کتابنامه

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن ق 10

المعرف المضاف: مؤسسة التربية الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP96/5/ک 2ز2 1381

تصنيف ديوي: 297/1726

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-26543

ص: 1

اشارة

زبدة التفاسير

تأليف

المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني قدس سره المتوفى سنة 988 ه_ . ق

الجزء الثاني

تحقيق ونشر

مؤسّسة المعارف الإسلامية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

[4] سورة النساء

اشارة

مدنيّة كلّها. و قيل: مدنيّة إلّا قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (1) الآية، و قوله: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ « (2)» إلى آخرها، فإنّ الآيتين نزلتا بمكّة. و هي مائة و ستّ و سبعون آية.

عن أبيّ، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأها فكأنّما تصدّق على كلّ من ورث ميراثا، و أعطي من الأجر كمن اشترى محرّرا (3)، و برى ء من الشرك، و كان في مشيئة اللّه تعالى من الّذين يتجاوز عنهم».

و روى العيّاشي بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من قرأها في كلّ جمعة أومن من ضغطة القبر» (4) إذا أدخل في قبره.

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم آل عمران بالتقوى افتتح هذه السورة به، إلّا أنّ هناك خصّ به المؤمنين، و عمّ هاهنا سائر المكلّفين، فقال:

ص: 5


1- النساء: 58 .
2- النساء: 127.
3- في هامش الخطّية: «أي: اشترى عبدا و حرّره. منه».
4- تفسير العيّاشي 1: 215 ح 1.

[سورة النساء [4]: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [1]

يا أَيُّهَا النَّاسُ فإنّه خطاب عامّ للمكلّفين من بني آدم. و قيل: النداء إنّما كان في سائر كتب اللّه السالفة ب «يا أيّها المساكين» و أمّا في القرآن فما نزل بمكّة فالنداء ب «يا أَيُّهَا النَّاسُ». و ما نزل بالمدينة فمرّة ب «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» و مرّة ب «يا أَيُّهَا النَّاسُ».

اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي: مخالفة ربّكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي:

فرّعكم من أصل واحد، و هو نفس آدم عليه السّلام.

وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها عطف على «خلقكم» أي: خلقكم من شخص واحد، و هو آدم عليه السّلام، و خلق منه زوجها- و هي أمّكم حوّاء- من ضلع من أضلاعه. أو على محذوف تقديره: من نفس واحدة أنشأها من تراب، و خلق منها زوجها، و إنّما حذف لدلالة المعنى عليه. و هو تقرير لخلقهم جميعا من نفس واحدة.

و رووا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «خلقت المرأة من ضلع، إن أقمتها كسرتها، و إن تركتها و فيها عوج استمتعت بها».

وَ بَثَّ مِنْهُما و نشر من تلك النفس و الزوج المخلوقة منها رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً بنين و بنات كثيرة. و هذا بيان لكيفيّة تولّدهم منهما. و اكتفى بوصف الرجال

ص: 6

بالكثرة عن وصف النساء بها، إذ الحكمة تقتضي أن يكون الرجال أكثر، إذ المقصود من إيجاد الموجودات حصول الكمالات لها، و الرجال أكثر استعدادا في تحصيل تلك الكمالات. و ذكر «كثيرا» حملا على الجمع لا على الجماعة.

و ترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصّة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة الّتي من حقّها أن تخشى، و النعمة الظاهرة الّتي توجب طاعة موليها. و لأنّ المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتّصل بحقوق أهل منزله. و بنى جنسه على ما دلّت عليه الآيات الّتي بعدها.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي: يسال بعضكم بعضا فيقول: أسألك باللّه.

و أصله: تتساءلون، فأدغمت التاء الثانية في السين. و قرأ عاصم و حمزة و الكسائي بطرحها. وَ الْأَرْحامَ بالنصب عطف على محلّ الجارّ و المجرور، كقولك: مررت بزيد و عمرا، أي: يسأل بعضكم من بعض باللّه و بالرحم و يقول: باللّه و الرحم افعل كذا، على سبيل الاستعطاف، و هذا من عادات العرب عند ذكر المسألة ليتعاطفوا بذكرهما.

و ملخّص المعنى: أنّكم تتساءلون بذكر اللّه و الرحم، فاتّقوا خالقكم الّذي تقرّون به، و تتناشدون به و بالأرحام، و عظّموه بطاعتكم إيّاه، كما تعظّمونه بأقوالكم. أو عطف على «اللّه» أي: اتّقوا اللّه و اتّقوا الأرحام، فصلوها و لا تقطعوها. و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و الضّحاك و الربيع، و نقل عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ معناه: و اتّقوا الأرحام أن تقطعوها.

و قرأ حمزة بالجرّ عطفا على الضمير المتّصل المجرور. و هو ضعيف، لأنّه كبعض الكلمة، فأشبه العطف على بعضها، فلم يجز، و وجب تكرير العامل، كقولك:

مررت به و بزيد و عمرو.

و نبّه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه على أنّ صلتها بمكانة و منزلة عظيمة

ص: 7

منه. و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: ألا من وصلني وصله اللّه، و من قطعني قطعه اللّه».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال اللّه تعالى: «أنا الرحمن خلقت الرحم، و شققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، و من قطعها بتتّه» (1).

و عن ابن عبّاس: «الرحم معلّقة بالعرش، فإذا أتاها الواصل بشّت به و كلّمته، و إذا أتاها القاطع احتجبت منه».

و روى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ أحدكم ليغضب فما يرضى حتّى يدخل به النار، فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليمسّه، فإنّ الرحم إذا مسّتها الرحم استقرّت، و إنّها متعلّقة بالعرش و تنادي: اللّهمّ صل من وصلني، و اقطع من قطعني».

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً حافظا مطّلعا على أحوالكم. و إنّما أتى بلفظة «كان» المفيدة للماضي لأنّه أراد أنّه كان حفيظا على ما تقدّم زمانه من عهد آدم و ولده إلى زمان المخاطبين، و عالما بما صدر منهم، لم يعزب عنه من ذلك شي ء.

[سورة النساء [4]: آية 2]

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [2]

و لمّا أمر اللّه تعالى بالتقوى و صلة الأرحام، عقّبه بباب آخر من التقوى، و هو توفير حقوق اليتامى، فقال: وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ بالإنفاق عليهم في حالة

ص: 8


1- أي: قطعته، من: بتّ يبتّ أي: قطع.

الصغر، و تسليم أموالهم إليهم عند البلوغ و إيناس الرشد. هذا خطاب لأوصياء اليتامى.

و اليتامى جمع يتيم، و هو الّذي مات أبوه، من اليتم، و هو الانفراد، و منه الدرّة اليتيمة، إمّا على أنّه لمّا أجري مجرى الأسماء كفارس و صاحب جمع على يتائم، ثم قلب فقيل: يتامى، أو على أنّه جمع على يتمى كأسرى، لأنّه من باب الآفات و الأوجاع، ثم جمع يتمى على يتامى، كأسرى و أسارى.

و الاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار و الكبار، لكن العرف خصّصه بمن لم يبلغ، و لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا يتم بعد احتلام».

و قولهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يتيم أبي طالب بعد كبره توضيعا له، يعنون أنّه ربّاه حال صغره، كقوله تعالى: وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (1) أي: الّذين كانوا سحرة.

وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ و لا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، فتأكلوه مكانه، أو الأمر الخبيث- و هو اقتطاع أموالهم- بالأمر الطيّب الّذي هو حفظها. و التفعّل بمعنى الاستفعال غير عزيز، و منه التعجّل بمعنى الاستعجال. و ما نقل عن السدّي في معناه: و لا تأخذوا الرفيع من أموالهم و تعطوا الخسيس مكانها، كجعل شاة مهزولة مكان سمينة، ليس بجيّد، لأنّه إنّما هو تبديل لا تبدّل.

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ و لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، أي: لا تنفقوهما معا، و لا تسوّوا بين الحلال الّذي هو أموالكم و الحرام الّذي هو أموالهم، قلّة مبالاة بالحرام، و تسوية بينه و بين الحلال. و هذا إنّما يكون فيما زاد على قدر أجره، لقوله تعالى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (2) إِنَّهُ الضمير للأكل

ص: 9


1- الأعراف: 120.
2- النساء: 6.

كانَ حُوباً كَبِيراً ذنبا عظيما.

و روي أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ طلب المال منه فمنعه، فنزلت هذه الآية، فلمّا سمعها العمّ قال: أطعنا اللّه و رسوله، و نعوذ باللّه من الحوب الكبير.

[سورة النساء [4]: الآيات 3 الى 4]

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا [3] وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [4]

روي أنّ الرجل إذا كان يجد يتيمة ذات مال و جمال فيتزوّجها ضنّا بها، فربّما يجتمع عنده منهنّ عدد يرتقي إلى عشر، و لا يقدر على القيام بحقوقهنّ، فنزلت:

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى من: قسط يقسط قسوطا، إذا جار. و الهمزة في «أقسط» للسلب و الإزالة، نحو: أشكيته، أي: أزلت شكايته. و المعنى: إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوّجتم بهنّ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فتزوّجوا ما طاب لكم من غيرهنّ. و إنّما عبّر عنهنّ ب «ما» ذهابا إلى الصفة، أو إجراء لهنّ مجرى غير العقلاء، لنقصان عقلهنّ. و نظيره: «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ».

و قيل: لمّا عظّم أمر اليتامى تحرّجوا من ولايتهم، و ما كانوا يتحرّجون من تكثير النساء و إضاعتهنّ، فأمرهم اللّه تعالى بأنّكم إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فخافوا أيضا ألّا تعدلوا بين النساء، فانكحوا مقدارا يمكنكم الوفاء بحقّه، لأن المتحرّج من الذنب ينبغي أن يتحرّج من الذنوب كلّها.

ص: 10

و قيل: كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، و لا يتحرّجون من الزنا، فقيل لهم:

إن خفتم ألّا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما طاب لكم من النساء.

مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ معدولة عن أعداد مكرّرة: ثنتين ثنتين، و ثلاثا ثلاثا، و أربعا أربعا. و هي غير منصرفة، للعدل و الصفة، فإنّها بنيت صفات، و إن كانت أصولها لم تبن لها. و قيل: لما فيها من العدلين، فإنّها معدولة باعتبار الصيغة و التكرير، أي: عدلها عن صيغتها، و عدلها عن تكريرها.

و نصبها على الحال من فاعل «طاب»، تقديره: فانكحوا الطيّبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، و ثلاثا و ثلاثا، و أربعا و أربعا.

و الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كلّ ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الّذي أطلق له. فمعناها: الإذن لكلّ ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور، متّفقين فيه و مختلفين، كقولك: اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين، و ثلاثة ثلاثة. و لو أفردت، بأن قيل: اثنتين و ثلاث و أربع من غير تكرير، كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع. و لو ذكرت ب «أو» لذهب تجويز الاختلاف في العدد، بأن لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، و ليس لهم أن يجمعوا بينها، فيجعلوا بعض القسم على تثنية، و بعضه على ثلاث، و بعضه على أربع.

لا يقال: إنّ هذا العدد يؤدّي إلى جواز نكاح التسع، فإنّ اثنتين و ثلاثة و أربعة تسعة.

لأنّا نقول: إنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول. و أيضا لهذا العدد لفظ موضوع و هو تسع، فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العيّ (1)، جلّ كلامه سبحانه عن ذلك و تقدّس.

ص: 11


1- العيّ: العجز و الجهل.

قال الصادق عليه السّلام: «لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر».

فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين هذه الأعداد، كما خفتم فيما فوقها فَواحِدَةً فاختاروا أو فانكحوا واحدة، و ذروا الجمع أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من غير حصر.

سوّى بين الواحدة من الأزواج و بين الإماء لخفّة مؤونتهنّ، و عدم وجوب القسم، و إباحة العزل.

ذلِكَ أي: التقليل منهنّ، أو اختيار الواحدة، أو التسرّي أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أقرب من أن لا تميلوا. يقال: عال الميزان إذا مال، و عال في حكمه إذا جار. و عول الفريضة الميل عن حدّ السهام المسمّاة. و فسّر بأن لا يكثر عيالكم، على أنّه من: عال الرجل عياله يعولهم، إذا مانهم، فعبّر عن كثرة العيال بكثرة المؤن الّتي هي من لوازم الأولاد. فالمعنى: ألّا تكثر أولادكم، لأن التسرّي مظنّة قلّة الولد بالإضافة إلى التزوّج، لجواز العزل فيه، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوّج الأربع.

وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ مهورهنّ نِحْلَةً عطيّة. يقال: نحله كذا نحلة و نحلا، إذا أعطاه إيّاه عن طيب نفس بلا توقّع عوض. و من فسّرها بالفريضة و نحوها نظر إلى مفهوم الآية، لا إلى موضوع اللفظ. و نصبها على المصدر، لأنّها في معنى الإيتاء، أو الحال من الواو أو الصدقات، أي: آتوهنّ صدقاتهنّ ناحلين أو منحولة.

و قيل: نحلة من اللّه، أي: عطيّة من عنده لهنّ، فتكون حالا من الصدقات.

و قيل: ديانة، فإنّ النحلة بمعنى الملّة، و نحلة الإسلام خير النحل، من قولهم: انتحل فلان كذا، إذا دان به، على أنه مفعول له، أو حال من الصدقات، أي:

دينا من اللّه شرعه. و الخطاب للأزواج. و قيل: للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم.

ص: 12

روي: أنّ ناسا كانوا يتأثّمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا ممّا ساق إليها، فنزلت: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً الضمير للصداق حملا على المعنى، أو جار مجرى اسم الاشارة، كأنّه قيل: عن شي ء من ذلك، كما قال اللّه

تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ (1) بعد ذكر الشهوات. و قيل: للإيتاء، و «نفسا» تمييز لبيان الجنس، و لذلك وحّد.

و المعنى: فإن وهبن لكم من الصداق عن طيب نفس. لكن جعل العمدة طيب النفس للدلالة على ضيق المسلك في ذلك، و وجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس، و لم يقل: فإن وهبن أو سمحن. و عدّاه ب «عن» لتضمّن معنى التجافي و التجاوز.

فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فخذوه و أنفقوه حلالا بلا تبعة. و الهني ء و المري ء صفتان من: هنأ الطعام و مري ء، إذا ساغ من غير غصص، أقيمتا مقام مصدريهما، كأنّه قال: هنأ مرءا، أو وصف بهما المصدر، أي: أكلا هنيئا مريئا، أو جعلتا حالا من الضمير. و قيل: الهني ء ما يلذّه الإنسان، و المري ء ما تحمد عاقبته.

[سورة النساء [4]: آية 5]

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً [5]

و لمّا أمر سبحانه فيما تقدّم بدفع مال الأيتام إليهم، عقّبه بذكر من لا يجوز الدفع إليه منهم، فقال: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ نهي للأولياء عن أن يؤتوا الّذين لا رشد لهم أموالهم فيضيّعونها. و هم: النساء، و الصبيان، و المجانين،

ص: 13


1- آل عمران: 15.

و المبذّرين. و إنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها في تصرّفهم و تحت ولايتهم، و هو الملائم للآيات المتقدّمة و المتأخّرة.

و قيل: نهي لكلّ أحد أن يعمد إلى ما أعطاه اللّه تعالى من المال، فيعطي امرأته و أولاده، ثمّ ينظر إلى أيديهم.

و إنّما سمّاهم سفهاء استخفافا بعقولهم، و استهجانا لجعلهم قوّاما على أنفسهم. و هو أوفق لقوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أي: ما تقومون بها و تنتعشون، فلو ضيّعتموها بإعطاء السفهاء لضعفتم و احتجتم. و على الأوّل يؤوّل بأنّها الّتي من جنس ما جعل اللّه لكم قياما، كما قال: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (1) أي: مثل أنفسكم.

و قرأ نافع و ابن عامر: قيما بالقصر بمعناه، كعوذ بمعنى عياذ.

وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ و اجعلوا الأموال مكانا لرزقهم و كسوتهم، بأن تتّجروا و تحصّلوا من نفعها ما يحتاجون إليه، و لأجل هذا المعنى لم يقل: منها.

و قيل: معناه الرزق من اللّه فيها، أي: جعل اللّه رزقكم و رزقهم فيها. فعلى الأوّل يمكن أن يحتجّ به على وجوب الكسب بمال المولّى عليهم، لظاهر الأمر. و يحتمل عدم الوجوب، للأصل، و لأنّه اكتساب و لا يجب. و الحقّ أنّه يجب استنماؤه قدر النفقة، و أمّا الزيادة على ذلك فندب. هكذا قال صاحب كنز العرفان (2).

وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً عدة جميلة تطيب بها نفوسهم، فلا تخاشنوهم، أو قولوا لهم ما ينبّههم على الرشد و الصلاح من أمر المعاش و المعاد، حتّى إذا بلغوا كانوا على بصيرة من ذلك. و المعروف ما عرفه الشرع أو العقل لحسنه، و المنكر ما أنكره أحدهما لقبحه.

ص: 14


1- النساء: 29.
2- كنز العرفان 2: 111.

[سورة النساء [4]: آية 6]

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [6]

و لمّا أمر اللّه سبحانه بإيتاء الأيتام أموالهم، و منع من دفع المال إلى السفهاء، بيّن هنا الحدّ الفاصل بين ما يحلّ من ذلك للوليّ و ما لا

يحلّ، فقال: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى اختبروا عقولهم قبل البلوغ بتتبّع أحوالهم في التهدّي إلى ضبط المال و حسن التصرّف، بأن تكلوا إليهم مقدّمات البيع، لكن العقد لو وقع منه كان باطلا.

و عند أبي حنيفة يكون العقد صحيحا.

حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ إذا بلغوا حدّ البلوغ، بأن يحتلموا، أو تنبت شعورهم الخشنة، أو يستكملوا خمس عشرة إن كانوا ذكورا أو خناثى، أو تسع سنة إن كنّ إناثا. و عند أبي حنيفة ثمانية عشر في الذكر و الخنثى، و سبعة عشر في الأنثى.

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فإن أبصرتم منهم تهدّيا إلى وجوه التصرّف و إصلاحا للمال. و هل يشترط إصلاح الدين أيضا؟ قال الشافعي: نعم، فيحجر عنده الفاسق. و قال أبو حنيفة: لا حجر عليه. و به قال أكثر أصحابنا، اللّهمّ إلّا أن يكون فسقه بإتلاف ماله، فالحجر باق. و قال الشيخ (1) بمقالة الشافعي.

فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير عن حدّ البلوغ و الرشد. الشرطيّة

ص: 15


1- راجع الخلاف 3: 283 مسألة [3]

جواب «إذا» المتضمّنة معنى الشرط، و الجملة غاية الابتلاء، كأنّه قيل: و ابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم و استحقاقهم دفع أموالهم إليهم، بشرط إيناس الرشد منهم.

و هو دليل على أنّه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد، خلافا لأبي حنيفة حيث قال: يزاد على زمان البلوغ سبع سنين ثم يعطى ما لهم، رشدوا أم لا.

وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا مسرفين و مبادرين كبرهم، أو لإسرافكم و بداركم كبرهم. و الأولى أنّهما مصدران، لأنّهما نوعان للأكل، لا أنّهما مفعول له، لأنّ الشي ء لا يعلّل بنوعيه.

وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ فليعفّ، ك: استقرّ بمعنى: قرّ، أي: فليمتنع عن أكل مال اليتيم،

و يقتنع بما رزقه اللّه من الغنى، إشفاقا على اليتيم، و إبقاء على ماله وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ ماله بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته و أجرة سعيه. و قيل: أقلّ الأمرين، لقوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1). و لا ريب أنّ هذا أحسن. و هذا مشعر بأنّ الوليّ له حقّ في مال الصبيّ. و قيل: يأخذ من ماله قدر الحاجة على وجه الاستقراض.

و في الحديث: «أنّ رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ في حجري يتيما، أ فآكل من ماله؟ قال: كل بالمعروف غير متأثّل (2) مالا، و لا واق مالك بماله».

فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأنّهم قبضوها، فإنّه أنفى للتهمة، و أبعد من الخصومة و وجوب الضمان. و ظاهره يدلّ على أنّ القيّم لا يصدّق في دعواه إلّا بالبيّنة. و هو المختار عندنا. و هو مذهب مالك، خلافا لأبي حنيفة.

وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً محاسبا، فلا تخالفوا ما أمرتم به، و لا تتجاوزوا ما حدّ لكم.

ص: 16


1- الأنعام: 152.
2- أي: متّخذ مالا أصلا، من: تأثّل المال، أي: اكتسبه و ثمّره.

[سورة النساء [4]: الآيات 7 الى 8]

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [7] وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً [8]

روي أنّ أوس بن الصامت الأنصاري خلّف زوجته أم كحّة و ثلاث بنات، فزوى (1) ابنا عمّه سويد و عرفطة- أو قتادة و عرفجة- ميراثه عنهنّ على سنّة الجاهليّة، فإنّهم ما كانوا يورّثون النساء و الأطفال، و يقولون إنّما يرث من يحارب و

يذبّ عن الحوزة. فجاءت أمّ كحّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجد الفضيخ فشكت إليه. فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث اللّه، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ يريد بهم المتوارثين بالقرابة مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل ممّا ترك بإعادة العامل نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على أنّه مصدر مؤكّد، كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ (2). أو حال، إذ المعنى: ثبت لهم مفروضا نصيب. أو على الاختصاص، بمعنى: أعني نصيبا مقطوعا واجبا لهم.

و فيه دليل على بطلان القول بالعصبة، لأنّ اللّه تعالى فرض الميراث للرجال و النساء، و على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقّه.

و لمّا نزلت هذه الآية بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ابني عمّ أوس: لا تفرّقا من مال

ص: 17


1- أي: منع و صرف.
2- النساء: 11.

أوس شيئا، فإنّ اللّه قد جعل لهنّ نصيبا، و لم يبيّن حتى يبيّن، فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ (1) الآية، فأعطى أم كحّة الثمن، و البنات الثلثين، و الباقي ردّ عليهنّ (2). و هو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى ممّن لا يرث وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فأعطوهم شيئا من المقسوم تطييبا لقلوبهم، و تصدّقا عليهم. و هو أمر ندب للبلّغ من الورثة. و قيل: أمر وجوب، ثم نسخ بآية (3) الميراث. و قال سعيد بن جبير: إنّ ناسا يقولون: نسخت، و اللّه ما نسخت، و لكنّها ممّا يتهاون به الناس. وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً و هو أن تدعوا لهم، و لا

تمنّوا عليهم بذلك.

[سورة النساء [4]: آية 9]

وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [9]

و لمّا أمر سبحانه بالقول المعروف نهاهم عن خلافه، و أمر بالأقوال السديدة و الأفعال الحميدة، فقال: وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ أمر للأوصياء بأن يخشوا اللّه و يتّقوه في أمر اليتامى، و يشفقوا عليهم خوفهم على ذرّيّتهم لو تركوهم ضعافا، و شفقتهم عليهم، و يقدّروا ذلك في أنفسهم و يصوّروه، حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة و الرحمة، فيفعلوا بهم ما يحبّون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم.

ص: 18


1- النساء: 11.
2- في الكشّاف (1: 476- 477): و الباقي لبني العمّ.
3- النساء: 11- 12.

أو للحاضرين عند إيصاء المريض، بأن يخشوا ربّهم، أو يخشوا على أولاد المريض و يشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم لو كانوا بعدهم، فلا يتركوا المريض أن يضرّبهم بصرف المال عنهم.

أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب و اليتامى و المساكين، متصوّرين أنّهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم، هل يجوّزون حرمانهم؟

أو للموصين، بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصيّة.

و «لو» بما في حيّزه جعل صلة ل «الّذين» على معنى: و ليخش الّذين حالهم و صفتهم أنّهم لو شارفوا أن يخلّفوا ذرّيّة ضعافا خافوا عليهم الضياع.

و فيه بعث على الترحّم، و أن يحبّ لأولاد غيره ما يحبّ لأولاده، و تهديد للمخالف بحال أولاده.

فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً موافقا للشرع، و يخاطبوهم بخطاب جميل. أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ و المنتهى، تأكيدا و مبالغة. ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم، بالشفقة و حسن الأدب. أو للمريض ما يصدّه عن الإسراف في الوصيّة و تضييع الورثة، و يذكّره التوبة و كلمة الشهادة. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سرّه أن يزحزح عن النار و يدخل الجنّة فلتأته منيّته و هو يشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، و يحبّ أن يأتي إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه».

أو لحاضري القسمة عذرا جميلا، و وعدا حسنا. أو أن يقول الموصون في الوصيّة ما لا يؤدّي إلى مجاوزة الثلث، و تضييع الورثة.

روي عن سعد بن أبي وقّاص قال: «مرضت فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعودني.

فقلت: يا رسول اللّه أوصي بمالي كلّه؟ قال: لا. قلت: بالنصف؟ قال: لا. قلت:

ص: 19

بالثلث؟ قال: بالثلث و الثلث كثير، إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس بأيديهم».

[سورة النساء [4]: آية 10]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [10]

ثم أوعد اللّه سبحانه آكلي مال اليتيم نار جهنّم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى أي: ينتفعون بها على أيّ وجه كان. و تخصيص الأكل بالذكر لأنّه معظم منافع المال المقصود ظُلْماً ظالمين، أو على وجه الظلم إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مل ء بطونهم. يقال: أكل فلان في بطنه، أي: ملأ بطنه. ناراً أي: ما يجرّ إلى النار و يؤول إليها، و كأنّه نار في الحقيقة.

و روي أنّه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة و الدخان يخرج من قبره، و من فيه و أنفه و أذنيه و عينيه، فيعرف الناس أنّه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا».

و عن أبي بردة أنّه عليه السّلام قال:

«يبعث اللّه قوما من قبورهم تتأجّج أفواههم نارا.

فقيل: من هم؟ فقال: ألم تر أنّ اللّه يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً».

وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً سيدخلون نارا و أيّ نار، أي: نارا من نيران مبهمة الوصف. و قرأ ابن عامر و ابن عيّاش عن عاصم بضمّ الياء مخفّفا. يقال: صلى النار، إذا قاسى حرّها، و صليته: شويته، و أصليته و صليته: ألقيته فيها. و السعير بمعنى المفعول من: سعرت إذا ألهبتها.

عن الحلبي أنّ الصادق عليه السّلام قال: «إنّ في كتاب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أن آكل مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده، و يلحقه وبال ذلك في الآخرة. أمّا الدنيا فإن اللّه يقول وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الآية. و أمّا في الآخرة

ص: 20

فإنّ اللّه يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية».

[سورة النساء [4]: آية 11]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [11]

ثم فصّل سبحانه ما أجمله فيما قبل من قوله: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ» الآية، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ يأمركم و يفرض عليكم، لأنّ الوصيّة منه سبحانه أمر و فرض فِي أَوْلادِكُمْ في شأن ميراثهم. و هو إجمال، تفصيله:

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ التقدير: للذكر منهم، فحذف للعلم به، أي: يعدّ كلّ ذكر من الأولاد في النصيب بأنثيين حيث اجتمع الصنفان، فيضعّف نصيبه. و تخصيص الذكر بالتنصيص على حظّه لأنّ القصد إلى بيان فضله، و التنبيه على أنّ التضعيف كاف للتفضيل، فلا يحرمنّ بالكلّية.

و هذا الحكم في حال اجتماع البنين و البنات. فأمّا في حال الانفراد فالابن فصاعدا يأخذ المال، و البنات يأخذن الثلثين، لقوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً أي: فإن كان الأولاد نساء خلّصا ليس معهنّ ذكر، فأنّت الضمير باعتبار الخبر، أو على تأويل المولودات فَوْقَ اثْنَتَيْنِ خبر ثان، أو صفة ل «نساء»، أي: نساء زائدات على

ص: 21

اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ من الميراث. و الضمير في «ترك» للميّت و إن لم يجر له ذكر، لأنّ الآية لمّا كانت في الميراث علم أنّ التارك هو الميّت.

و حكم البنتين حكم ما زاد عليهما من البنات، لأنّه لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ حظّ الذكر مثل الأنثيين إذا كان معه أنثى و هو الثلثان، اقتضى ذلك أنّ فرضهما الثلثان، ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد ردّ ذلك بقوله: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ». و يؤيّد ذلك: أنّ البنت الواحدة لمّا استحقّت الثلث مع أخيها، فبالحريّ أن تستحقّه مع أخت مثلها، و أنّ البنتين أمسّ رحما من الأختين، و قد فرض لهما الثلثين بقوله: فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ (1)، فكان للبنتين الثلثان بطريق أولى. و أيضا أجمعت الأمّة على أنّ حكم البنتين حكم البنات.

و نقل عن ابن عبّاس أنّ حكم الاثنتين حكم الواحدة، لأنّه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما. و الحقّ الأوّل، و عليه الفقهاء الإماميّة و معظم العامّة.

وَ إِنْ كانَتْ أي: إن كانت المولودة أو المتروكة واحِدَةً

فَلَهَا النِّصْفُ نصف ما ترك الميّت.

ثم ذكر ميراث الوالدين بقوله: وَ لِأَبَوَيْهِ و لأبوي الميّت، يعني: الأب و الأمّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل منه بتكرير العامل. و فائدته التنصيص على استحقاق كلّ واحد منهما السدس، و التفصيل بعد الإجمال تأكيدا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ للميّت وَلَدٌ ذكر أو أنثى، واحد أو أكثر.

ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له. و إن كان ذكورا فالباقي لهم بالسويّة. و إن كانوا ذكورا و إناثا فللذكر مثل حظّ الأنثيين. و إن كانت بنتا فلها النصف بالتسمية، و لأحد الأبوين السدس، و لهما السدسان، و الباقي عند ائمّتنا عليهم السّلام يردّ على البنت و على أحد الأبوين أو عليهما على قدر سهامهم، بدلالة قوله تعالى:وَ أُولُوا

ص: 22


1- النساء: 176.

الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ (1). و ولد الولد يقوم مقام الولد الصلب مع الوالدين. و في بعض هذه المسائل خلاف بين الفقهاء مذكور في الكتب الفقهيّة.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ للميّت وَلَدٌ ابن و لا بنت و لا أولادهما، لأنّ اسم الولد يعمّ الجميع وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فحسب فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ممّا ترك. و إنّما لم يذكر حصّة الأب، لأنّه لمّا فرض أنّ الوارث أبواه فقط و عيّن نصيب الأمّ، علم أنّ الباقي للأب، فكأنّه قال: فلهما ما ترك أثلاثا. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ و قرأ حمزة و الكسائي: فلأمّه، بكسر الهمزة، اتباعا للكسرة الّتي قبلها.

قال معظم أصحابنا: إنّما يكون لها السدس إذا كان هناك أب. و يدلّ عليه ما تقدّم من قوله: «و ورثه»، فإنّ هذه الجملة معطوفة على قوله: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ». و

تقديره: فإن كان له إخوة و ورثه أبواه فلأمّه السدس.

و يشترط في الإخوة أن لا يكونوا كفرة، و لا قتلة، و لا رقّا، و أن يكونوا منفصلين لا حملا، و أن يكونوا للأبوين أو للأب.

و قال بعض أصحابنا: إنّ لها السدس مع وجود الإخوة و إن لم يكن هناك أب. و به قال جميع فقهاء العامّة. و اتّفقوا على أنّ الأخوين يحجبان الأمّ من الثلث إلى السدس.

و قد روي عن ابن عبّاس أنّه قال: لا تحجب الأمّ من الثلث إلى السدس بأقلّ من ثلاثة من الإخوة و الأخوات، كما يقتضيه ظاهر الآية.

و أصحابنا يقولون: لا يحجب الأمّ عن الثلث إلى السدس إلّا أخوان، أو أخ و أختان، أو أربع أخوات من قبل الأب و الأمّ، أو من قبل الأب خاصّة دون الأمّ.

و في ذلك خلاف بين فقهاء الامّة.

و الأنصباء المفصّلة على النهج المذكور للورثة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ

ص: 23


1- الأنفال: 75.

دَيْنٍ فهذا متعلّق بما تقدّمه من قسمة المواريث كلّها. و قرأ ابن عامر و ابن كثير و ابن عيّاش عن عاصم: يوصى، على البناء للمفعول.

و إنّما قال ب «أو» الّتي للإباحة دون الواو للدلالة على أنّهما متساويان في الوجوب، مقدّمان على القسمة مجموعين و منفردين، كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي: جالس أحدهما مفردا أو مضموما.

و قدّم الوصيّة على الدين، و هي متأخّرة في الحكم إجماعا، لأنّها مشبهة بالميراث، شاقّة على الورثة في كونها مأخوذة من غير عوض، فكان إخراجها ممّا يشقّ عليهم، مندوب إليها جميع المؤمنين، و الدين إنّما يكون على الندور.

ثم اعترض بين أرباب المواريث بما يوجب تأكيدا لأمر القسمة و تنفيذا للوصيّة، فقال: آباؤُكُمْ وَ

أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممّن يرثكم من أصولكم و فروعكم، في عاجلكم و آجلكم، فتحرّوا فيهم ما أوصاكم اللّه به، و لا تعمدوا إلى تفضيل بعض و حرمان بعض.

و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنّة سأل أن يرفع إليه، فيرفع بشفاعته.

أو من (1) مورّثيكم، أي: لا تعلمون من أوصى منهم، فعرّضكم للثواب الباقي بإمضاء وصيّته، فهو أقرب لكم نفعا ممّن ترك الوصيّة، أم من لم يوص، فوفّر عليكم ماله الفاني.

فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكّد، أي: فرض فرضا، أو مصدر «يوصيكم اللّه»، لأنّه في معنى: يأمركم و يفرض عليكم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح خلقه و رتبهم حَكِيماً فيما فرض من المواريث و غيرها.

ص: 24


1- عطف على قوله: «ممن يرثكم من أصولكم» قبل أسطر.

[سورة النساء [4]: آية 12]

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [12]

و لمّا بيّن ميراث الوالدين و الأولاد عيّن إرث الأزواج و الكلالات، و قدّم الأزواج لأنّهم يرثون مع جميع الطبقات، فقال مخاطبا

للأزواج: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ أي: ولد وارث من بطنها، أو من صلب بنيها، أو بني بنيها و إن سفل، ذكرا أو أنثى، منكم أو من غيركم فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم أو من غيركم فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ أي: من ميراثهنّ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ على نهج ما سبق.

وَ لَهُنَ و لزوجاتكم الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ مطلقا كما مرّ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ فرض للرجل بحقّ الزواج ضعف ما للمرأة، كما في النسب. و هكذا قياس كلّ رجل و امرأة اشتركا في الجهة و القرب، و لا يستثنى منه إلّا أولاد الأمّ و المعتق و المعتقة. و تستوي الواحدة و العدد منهنّ في الربع و الثمن.

وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ أي: ميّت يُورَثُ على البناء للمفعول، أي: يورث منه،

ص: 25

من: ورث، أو يورث من: أورث، فيكون الرجل وارثا لا موروثا منه. و هو صفة رجل كَلالَةً خبر «كان» أي: و إن كان رجل موروث منه أو وارث كلالة، أو «يورث» خبره و «كلالة» حال من الضمير في «يورث»، أو مفعول له. و هو من لم يخلّف ولدا و لا والدا. و المعنى: قرابة ليست من جهة الوالد و الولد.

و عن ابن عبّاس: أنّ الكلالة من عدا الولد. و المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ الكلالة الإخوة و الأخوات.

و المذكور في هذه الآية من كان من قبل الأمّ منهم، و المذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب و الأمّ، أو من قبل الأب.

فالكلالة:

أن يترك الإنسان من أحاط بأصل النسب الّذي هو الولد و الوالد و تكلّله، كالإكليل الّذي يحيط بالرأس و يشتمل عليه. و ليس الولد و الوالد بكلالة، لأنّهما أصل النسب الّذي ينتهي إلى الميّت، و من سواهما خارج عنهما. فتكون الكلالة كالإكليل (1) يشتمل على الرأس و يحيط به، و ليس من أصله. و هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال، فاستعير لقرابة ليست بولد و لا والد، ثم وصف بها من لم يخلّف والدا و لا ولدا و خلّف ما عداهما من الإخوة و الأخوات، ثم وصف بها المورّث و الوارث، بمعنى: ذي كلالة، كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوي قرابتي.

أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل وَ لَهُ و للرجل. و اكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه. أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من الأمّ، لأنّه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين و للإخوة الكلّ، و هو لا يليق بأولاد الأمّ، و لأنّ ما قدّر ها هنا فرض الأمّ، فيناسب أن يكون لأولادها. و يدلّ عليه أيضا قراءة أبيّ و سعد بن مالك: و له أخ أو أخت من الأمّ، و لروايات أصحابنا المتظافرة، و للإجماع.

فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ سوّى بين الذكر و الأنثى في القسمة لأنّ الانتساب بمحض الأنوثة، و لا خلاف بين الأمّة

ص: 26


1- الإكليل: التاج، شبه عصابة تزيّن بالجوهر.

أنّ الإخوة و الأخوات من قبل الأمّ متساوون في الميراث.

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ حال، أي: يوصى بها غير مضارّ لورثته بالزيادة على الثلث، أو قصد المضارّة بالوصيّة دون القربة، و بالإقرار بدين لا يلزمه.

و هو حال من فاعل «يوصي» في هذه القراءة، و فاعل «يوصى» المدلول عليه بقوله «يوصى» على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير و عاصم، فإنّه لمّا قيل: «يوصى بها» علم أنّ ثمّة موصيا، كما قال: يُسَبِّحُ لَهُ (1) على ما لم يسمّ فاعله، فعلم أنّ ثمّة مسبّحا، فأضمر «يسبّح».

وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكّد، أو منصوب ب «غير مضارّ» على المفعول به، أي: لا يضارّ وصيّة من اللّه تعالى- و هو الثلث فما دونه- بالزيادة، أو وصيّة منه تعالى بالأولاد بالإسراف في الوصيّة و الإقرار الكاذب وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمضارّ و غيره حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبته. و هذا وعيد.

و في هاتين الآيتين دلالة على تقدير سهام أصحاب الفرائض في المواريث و تفصيل مسائلها، و الاختلاف فيها بين فقهاء العامّة و الخاصّة كثير، لا نطوّل بذكره الكتاب، فيحال إلى كتب الفقه.

روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: مرضت فعادني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبو بكر فأغمي عليّ، فدعا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بماء فتوضّأ ثم صبّه عليّ فأفقت، فقلت: يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت فيّ آية المواريث.

و قيل: نزلت في عبد الرحمن أخي حسّان الشاعر، و ذلك أنّه مات و ترك امرأة و خمسة إخوان، فجاءت الورثة فأخذوا ماله و لم يعطوا امرأته شيئا، فشكت ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأنزل اللّه تعالى آية المواريث.

ص: 27


1- النور: 36. و تمام الآية: «... فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ».

[سورة النساء [4]: الآيات 13 الى 14]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ

يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [13] وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ [14]

و لمّا فرض اللّه تعالى فرائض المواريث، عقّبها بذكر الوعد في الائتمار لها، و الوعيد على التعدّي لحدودها، فقال: تِلْكَ إشارة إلى الأحكام الّتي تقدّمت في أمر اليتامى و الوصايا و المواريث حُدُودُ اللَّهِ شرائعه الّتي هي كالحدود المحدودة الّتي لا يجوز مجاوزتها وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام الشرعيّة الّتي منها أحكام فرائض المواريث يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا من تحت أشجارها و أبنيتها الْأَنْهارُ خالِدِينَ دائمين فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

توحيد الضمير في «يدخله» و جمع «خالدين» للّفظ و المعنى. و قرأ نافع و ابن عامر: ندخله بالنون.

و «خالدين» حال مقدّرة، فإنّ الخلود غير حاصل حال الإدخال، كقولك:

مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، و كذلك خالدا في قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما بيّنه من الفرائض و غيرها وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ و يتجاوز ما حدّ له من الطاعات يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ سمّاه مهينا لأنّ اللّه تعالى يفعله على وجه الإهانة، كما أنّه يثيب المؤمن على وجه الكرامة.

و ليس «خالدين» و «خالدا» صفتين ل «جنّات» و «نارا»، و إلّا لوجب إبراز الضمير، أي: خالدين هم فيها، و خالدا هو فيها، لأنّهما جريا على غير من هما له.

و في قوله: «و يتعدّ» حدوده دلالة على أنّ المراد بقوله: «وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» الكافر، لأنّ من تعدّى جميع حدود اللّه الّتي هي فرائضه و أوامره

و نواهيه لا يكون إلّا كافرا.

ص: 28

[سورة النساء [4]: الآيات 15 الى 16]

وَ اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [15] وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً [16]

و لمّا بيّن سبحانه حكم الرجال و النساء في باب الزواج و الميراث، بيّن حكم الحدود فيهنّ إذا ارتكبن الزنا، فقال: وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي: يفعلنها. يقال:

أتى الفاحشة و جاءها و غشيها و رهقها، إذا فعلها. و الفاحشة: الزنا، لزيادة قبحها و شناعتها بالنسبة إلى كثير من القبائح مِنْ نِسائِكُمْ الحرائر فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فاطلبوا الشهادة أيّها الحكّام و الأئمّة ممّن قذفهنّ أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهنّ، و ذلك عند عدم إقرارهنّ بها.

فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فاحبسوهنّ في البيوت، و اجعلوها سجنا عليهنّ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يستوفي أرواحهنّ الموت، أو يتوفّاهنّ ملائكة الموت. و عند جمهور المفسّرين كان ذلك عقوبتهنّ في أوائل الإسلام، فنسخ ذلك بالرجم في المحصنين و الجلد في الأبكار. و هذا منقول (1) عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه صلوات اللّه عليهما. و يحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهنّ بعد أن يجلدن، كيلا يجري عليهنّ ما جرى بسبب الخروج و التعرّض للرجال. و لم يذكر الحدّ استغناء بقوله: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي (2).

ص: 29


1- تفسير العيّاشي 1: 227 ح 61.
2- النور: 2.

أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا كتعيين الحدّ المخلّص عن الحبس، أو النكاح المغني عن السفاح. و يؤيّد الأوّل ما روي أنّه لمّا نزل قوله: «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي» الآية

قال صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: «خذوا عنّي قد جعل اللّه لهنّ سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام، و الثيّب بالثيّب جلد مائة و الرجم».

و عندنا أنّ هذا الحكم مختصّ بالشيخ و الشيخة إذا زنيا، فأمّا غيرهما فليس عليه غير الرجم.

وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني: الزانية و الزاني. و قرأ ابن كثير: و اللذانّ، بتشديد النون و تمكين مدّ الألف. و الباقون بالتخفيف من غير تمكين. فَآذُوهُما بالتوبيخ و التعيير. و قيل: بالجلد. فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا عنهما الإيذاء، أو أعرضوا عنهما بالإغماض و الستر إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً علّة الأمر بالإعراض و ترك المذمّة.

قيل: الآية الأولى في السحّاقات، و هذه في اللوّاطين، و «الزانية و الزاني» في الزناة. و هذا ينافي ما قاله جمهور المفسّرين من أنّ الفاحشة في الآية الزنا.

و قيل: هذه الآية سابقة على الاولى نزولا، و كان عقوبة الزنا الأذى ثمّ الحبس ثم الجلد. و هذا خلاف الظاهر.

[سورة النساء [4]: الآيات 17 الى 18]

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [17] وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [18]

و لمّا وصف سبحانه نفسه بالتوّاب الرحيم، بيّن عقيبه شرائط التوبة الموجبة

ص: 30

للرحمة، فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنّما التوبة واجبة على اللّه تعالى بمقتضى وعده- كرما و تفضّلا- من تاب عليه إذا قبل توبته لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ متلبّسين بها، أي: جاهلين سفهاء، لأنّ ارتكاب القبيح ممّا يدعو إليه السفه و الشهوة، و لا يدعو إليه العقل

و الحكمة.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «كلّ ذنب عمله العبد و إن كان عالما به، فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اللّه تعالى قول يوسف لإخوته: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (1)، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه تعالى».

فارتكاب الذنب سفه و تجاهل، و لذلك قيل: من عصى اللّه فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته.

ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من زمان قريب، أي: قبل حضور الموت، لقوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ (2). و

قوله عليه السّلام: «إن اللّه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» (3)، كما ورد في كتاب من لا يحضره الفقيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ الشهر لكثير، من تاب قبل موته بيوم تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ يوما لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ الساعة لكثير، من تاب و قد بلغت نفسه إلى هذه- و أهوى بيده إلى حلقه- تاب اللّه عليه» (4).

و روى الثعلبي بإسناده عن عبادة بن الصامت، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا الخبر

ص: 31


1- يوسف: 89.
2- النساء: 18.
3- غرغر الرجل: صات صوتا معه بحح، و جاد بنفسه عند الموت.
4- الفقيه 1: 79 ح 354.

بعينه، إلّا أنّه قال في آخرة: «و إنّ الساعة لكثيرة، من تاب قبل أن يغرغر بها تاب اللّه عليه».

و روى أيضا بإسناده عن الحسن قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لمّا هبط إبليس قال: و عزّتك و عظمتك لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده. فقال سبحانه:

و عزّتي و عظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتّى يغر غر بها».

و سمّى قبل حضور الموت قريبا لأنّ أمد الحياة قريب، لقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ (1).

و «من» للتبعيض، أي: يتوبون في أيّ جزء من الزمان القريب الّذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت.

فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: يقبل توبتهم. وعد بالوفاء بما وعد به و كتب على نفسه، لقوله: «إنّما التوبة على اللّه»، و إعلام بأنّ الغفران كائن لا محالة، كما يعد العبد الوفاء بالواجب وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة حَكِيماً و الحكيم لا يعاقب التائب.

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي: المعاصي، و يصرّون عليها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي: أسباب الموت من معاينة ملك الموت، و انقطاع الرجاء عن الحياة، و هو حال لليأس الّتي لا يعلمها إلّا المحتضر قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أي: ليس عند ذلك توبة.

وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أي: ليست التوبة أيضا للّذين يموتون على الكفر ثم يندمون بعد الموت.

سوّى سبحانه بين مسوّف التوبة إلى وقت حضور الموت، و بين من يموت كافرا، في نفي التوبة، للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، و كأنّه قال:

ص: 32


1- النساء: 77.

و توبة هؤلاء و عدم توبة هؤلاء سواء.

ثم أكّد عدم قبول توبتهم بقوله: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. و هذا نظير قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الوعد ليتبيّن أنّ الأمرين كائنان لا محالة.

و الاعتداد التهيئة، من العتاد، و هو العدّة. و قيل: أصله أعددنا، فأبدلت الدال الأولى تاء.

و قيل: المراد بالّذين يعملون السوء عصاة المؤمنين، و بالّذين يعملون السيّئات المنافقين، لتضاعف كفرهم و سوء أعمالهم، و بالّذين يموتون الكفّار.

و إنّما لم يقبل اللّه التوبة حال اليأس و هو من الحياة، لأنّه يكون العبد ملجأ إلى فعل الحسنات و ترك القبائح، فيكون خارجا عن حدّ التكليف، إذ لا يستحقّ على فعله المدح و لا الذمّ، و إذا زال عنه التكليف لم تصحّ منه التوبة، و لهذا لم يكن أهل الآخرة مكلّفين، و لا تقبل توبتهم.

[سورة النساء [4]: آية 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [19]

و لمّا نهى اللّه تعالى فيما تقدّم عن عادات أهل الجاهليّة في أمر اليتامى و الأموال، و انجرّ الكلام إلى ها هنا، عقّبها بالنهي عن الاستنان بسنّتهم في النساء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ أي: نكاحهنّ كَرْهاً على كره منهنّ.

ص: 33

روي أنّ من عادات الجاهليّة أنّ الرجل إذا مات و له عصبة ألقى ثوبه على امرأته و قال: أنا أحقّ بها، ثم إن شاء تزوّجها بصداقها الأوّل، و إن شاء زوّجها غيره و أخذ صداقها، و إن شاء عضلها عن التزويج لتفتدي بما ورثت من زوجها. و من جملتهم أبو قيس بن الأسلت لمّا مات عن زوجته كبيشة بنت معن ألقى ابنه من غيرها- و هو محصن بن أبي قيس- ثوبه عليها، فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها و لم ينفق عليها، فجاءت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا نبيّ اللّه لا أنا ورثت زوجي، و لا أنا تركت فأنكح! فنهى اللّه سبحانه عن ذلك.

و قرأ حمزة و الكسائي: كرها بالضمّ في مواضعه. و هما لغتان. و قيل: بالضمّ المشقّة، و بالفتح ما يكره عليه.

وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ عطف على «أن ترثوا»، و «لا» لتأكيد النفي، أي: و لا تمنعوهنّ من التزويج. و أصل العضل الحبس و التضييق، يقال: عضلت المرأة بولدها، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه و بقي بعضه. و كذا: عضلت الدجاجة بيضها.

و عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «الخطاب مع الأزواج، كانوا يحبسون النساء من غير حاجة و رغبة، و ينتظرون موتها حتى يرثوا منهنّ».

و عن ابن عبّاس: نزلت في الرجل يكون تحته امرأة يكره صحبتها، و لها عليه مهر، فيطول عليها و يضارّها لتفتدي بالمهر أو تموت فيرث منها مهرها.

و قيل: تمّ الكلام بقوله: «كرها»، ثم خاطب الأزواج و نهاهم عن العضل.

إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كالنشوز، و سوء العشرة، و عدم التعفّف.

و الاستثناء من أعمّ عامّ الظرف، أي: لا تعضلوهنّ للافتداء في وقت من الأوقات إلّا أن يأتين بفاحشة، فيصيرون معذورين في طلب الخلع، أو من المفعول له، أي: لا تعضلوهنّ لعلّة إلّا أن يأتين بفاحشة.

ص: 34

و قرأ ابن كثير و أبو بكر عن عاصم: مبيّنة هنا، و في الأحزاب (1) و الطلاق بفتح الياء، و الباقون بكسرها فيهنّ.

وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بالإنصاف في الإنفاق و الإجمال في القول و الفعل فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ أي: كرهتم صحبتهنّ و إمساكهنّ، فلا تفارقوهنّ لكراهة الأنفس وحدها فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ

يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فإنّ النفس قد تكره ما هو أصلح دينا و أكثر خيرا، و قد تحبّ ما هو بخلافه، فليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين و أقرب إلى الخير. و «عسى» في الأصل علّة الجزاء، فأقيم مقامه.

و المعنى: فإن كرهتموهنّ فاصبروا عليهنّ، فعسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم.

[سورة النساء [4]: الآيات 20 الى 21]

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [20] وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [21]

روي أنّ الرجل إذا أراد جديدة بهت الّتي تحته بفاحشة يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها، ليصرفه إلى تزوّج الجديدة، فنهى اللّه تعالى عن ذلك بقوله: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ تطليق امرأة و تزوّج أخرى وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَ أي:

إحدى الزوجات. جمع الضمير لأنّه أراد بالزوج الجنس. قِنْطاراً مالا كثيرا، و هو الصداق، من: قنطرت الشي ء إذا رفعته، و منه: القنطرة، لأنّها بناء مشيّد فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي: من القنطار، أي: لا ترجعوا فيما أعطيتموهنّ من المهر إذا كرهتموهنّ و أردتم طلاقهنّ أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً استفهام إنكار و توبيخ،

ص: 35


1- الأحزاب: 30، الطلاق: 1.

أي: أ تأخذونه باهتين و آثمين؟ و يحتمل النصب على العلّيّة، كما في قولك: قعدت عن الحرب جبنا، لأنّ الأخذ بسبب بهتانهم و اقترافهم المآثم.

و البهتان الكذب الّذي يبهت المكذوب عليه، فيتحيّر. و قد يستعمل في الفعل الباطل، و لهذا فسّر هاهنا بالظلم.

ثم أنكر تعجيبا استرداد المهر بقوله: وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ أي: عجبا من فعلكم كيف تأخذون ذلك المهر وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ

إِلى بَعْضٍ ! الجملة حاليّة من فاعل «تأخذونه». و الإفضاء كناية عن الجماع. و المعنى: و كيف تأخذون مهرهنّ و الحال أنّه وصل بعضكم إلى بعضها بالملامسة، و دخل بها و تقرّر المهر؟! وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا، و هو حقّ الصحبة و الممازجة و المضاجعة. و وصفه بالغلظ لقوّته و عظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتّحاد و الامتزاج؟! و قيل: الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. و أشار إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنّهنّ عوان (1) في أيديكم، أخذتموهنّ بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه».

[سورة النساء [4]: آية 22]

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً [22]

و لمّا بيّن سبحانه ذكر شرائط النكاح عقّبه بذكر من تحلّ من النساء و من لا تحلّ، فقال: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ و لا تنكحوا الّتي نكحها آباؤكم. و إنّما ذكر «ما» دون «من» لأنّه أريد به الصفة، لأنّ المعنى: لا تنكحوا منكوحة آبائكم.

ص: 36


1- العاني: الأسير، و مؤنّثه: العانية، و الجمع: عناة و عوان، كحافي و حفاة، و جارية و جوار.

و قيل: «ما» مصدريّة على إرادة المفعول من المصدر، أي: لا تنكحوا نكاح آبائكم، بمعنى منكوحتهم، إطلاقا للمصدر على المفعول. مِنَ النِّساءِ بيان ما نكح على الوجهين إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء من المعنى اللازم للنهي، كأنّه قيل: تستحقّون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلّا ما قد سلف، فإنّه معفوّ عنها. أو من اللفظ، للمبالغة في

التحريم و التعميم، كقوله:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب و المعنى: و لا تنكحوا حلائل آبائكم إلّا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوا فانكحوه، فإنّه لا يحلّ لكم غيره، و لكنّه غير ممكن. فالغرض المبالغة في التحريم.

و قيل: الاستثناء منقطع، و معناه: لكن ما قد سلف، فإنّه لا مؤاخذة عليه، لا أنّه مقرّر.

عن ابن عبّاس و غيره: أنّ هذه الآية نزلت فيما كان يفعل أهل الجاهليّة من نكاح امرأة الأب، و منهم صفوان بن أميّة تزوّج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطّلب، و تزوّج حصين بن أبي قيس امرأة أبيه كبيشة بنت معن كما مرّ، و تزوّج منظور بن ريّان امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.

قال أشعث بن سوار: توفّي أبو قيس، و كان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأته. فقالت: إنّي أعدّك من ولدي، و أنت من صالحي قومك، و لكنّني آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأستأمره، فأتته فأخبرته. فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارجعي إلى بيتك. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و كان ناس من ذوي مروءة الجاهليّة يمقتون ذلك، و يسمّونه نكاح المقت، و يقولون لمن ولد عليه: المقتي. و لهذا قال عزّ اسمه: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي: إنّ نكاحهنّ فاحشة عند اللّه، بالغة في القبح في دين اللّه، ما رخّص فيه لأمّة من الأمم وَ مَقْتاً و ممقوتا مبغوضا عند ذوي المروءات وَ ساءَ سَبِيلًا سبيل من يراه

ص: 37

و يفعله، أي: بئس طريقا ذلك النكاح الفاسد.

و في الآية دلالة على أن كلّ من عقد عليها الأب من النساء يحرم على

الابن، دخل بها الأب أو لم يدخل. و هذه مسألة إجماعيّة عند أهل الإسلام.

[سورة النساء [4]: الآيات 23 الى 24]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [23] وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [24]

ثمّ بيّن سبحانه محرّمات أخر من النساء بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ ليس المراد تحريم ذاتهنّ، لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان، و إنّما يتعلّق بأفعال المكلّفين. فالمراد تحريم نكاحهنّ، لأنّه معظم ما يقصد منهنّ. و لأنّه المتبادر إلى الفهم، كتحريم الأكل

ص: 38

من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1)، و كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها.

و لأنّ ما قبله و ما بعده في النكاح.

و أمّهاتكم تعمّ من ولدتك، أو ولدت من ولدك و إن علون، سواء كنّ من قبل الأب أو من قبل الأمّ. و بناتكم تتناول من ولدتها، أو ولدت من ولدها و إن سفلن.

و أخواتكم الأخوات من قبل أب أو أمّ أو منهما. و العمّات كلّ أخت لذكر رجع النسب إليه بالولادة، من قبل الأب كان أو من قبل الأمّ. و الخالات كلّ أخت لأنثى رجع النسب إليها بالولادة، من جهة الأمّ أو من جهة الأب. و بنات الأخ و الأخت كلّ بنات الإخوة، من قبل الأب كنّ أو من قبل الأمّ، قربن أو بعدن. فهؤلاء السبع من المحرّمات من جهة النسب.

ثم ذكر المحرّمات من جهة السبب فقال: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. نزّل اللّه تعالى الرضاعة منزلة النسب، حتّى سمّى المرضعة أمّا، و المراضعة أختا. فعلى هذا يكون زوج المرضعة أبا للرضيع، و أبواه جدّيه، و أخته عمّته، و كلّ ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع و بعده فهم إخوته و أخواته لأبيه، و أمّ المرضعة جدّته، و أختها خالته، و كلّ من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته و أخواته لأبيه و أمّه، و كلّ من ولد لها من غير هذا الزوج فهم إخوته و أخواته لأمّه. و منه قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

و شرائط الرضاع، و الأحكام المتعلّقة به، و المسائل المتفرّعة عليه، مذكورة في الفقه، فليطالع.

ثم قال سبحانه: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فذكر أوّلا محرّمات النسب، ثم الرضاعة، لأنّ لها لحمة كلحمة النسب، ثم محرّمات

ص: 39


1- المائدة: 3.

المصاهرة، فإنّ تحريمهنّ عارض لمصلحة الزواج.

و الربائب جمع ربيبة. و الربيب ولد المرأة من آخر، سمّي به لأنّه يربّه كما يربّ ولده في غالب الأمر، فعيل بمعنى مفعول، و إنّما لحقه التاء لأنّه صار اسما.

و «اللاتي» بصلتها صفة لها. و لا يجوز تعلّقها بالأمّهات أيضا، لأنّ «من» إذا علّقتها بالربائب كانت ابتدائيّة، و إذا علّقتها بالأمّهات لم يجز ذلك، بل وجب أن يكون بيانا لنسائها، و الكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء.

و الحجور جمع الحجر، يقال: فلان في حجر فلان، أي: في تربيته. و لا خلاف بين العلماء أنّ كونهنّ في حجره ليس بشرط في التحريم، و إنّما ذكر ذلك لأنّ الغالب أنّها تكون كذلك، أو تكون فائدة ذكره تقوية العلّة و تكميلها.

و المعنى: أنّ الربائب إذا دخلتم بأمّهاتهنّ و هنّ في احتضانكم قوي الشبه بينها و بين أولادكم، و صارت أحقّاء بأن تجروها مجراهم، لا تقييد الحرمة. و هذا يقتضي تحريم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها، و تحريم بنت ابنها و بنت بنتها، قربت أو بعدت، لوقوع اسم الربيبة عليهنّ.

و قوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ متعلّق بربائبكم. و المعنى: أنّ الربيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرجل. و لا يجوز أن يكون هذا الموصول صفة للنساءين، لأنّ عاملهما مختلف، فإنّ العامل في الأوّل اللام، و معناها الاختصاص، و في الثاني «من» و معناها في هذا الموضع الابتداء، فيظهر المغايرة بينهما. و حكم الصفة حكم الموصوف، فإن جعلنا الموصول صفة للنساءين، فيجتمع فيها اعتبار معنى الموصوفين، أعني: النساءين جميعا، و هو باطل.

و يؤيّده ما روى العيّاشي في تفسيره بإسناده عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر ابن محمد عليه السّلام، عن أبيه، قال: «إنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: الربائب عليكم حرام مع

ص: 40

الأمّهات اللّاتي قد دخلتم بهنّ، كنّ في الحجور أو غير الحجور، و الأمّهات مبهمات، دخل بالبنات أو لم يدخل بهنّ، فحرّموا ما حرّم اللّه، و أبهموا ما أبهم اللّه» (1).

و الباء في قوله:

«دخلتم بهنّ» للتعدية، و معناه: أدخلتموهنّ الستر. و هو كناية عن الجماع. و اللمس بالشهوة في حكم الجماع عندنا و عند أبي حنيفة.

فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في نكاح بناتهنّ إذا طلّقتموهن أو متن. و هذا تصريح بعد إشعار، دفعا للقياس.

وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ أي: حرّم عليكم نكاح أزواج أبنائكم. سمّيت الزوجة حليلة لحلّها، أو لحلولها مع الزوج الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احتراز عن أزواج المتبنّى بهم، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تزوّج زينب بنت جحش حين فارقها زيد بن حارثة، لا عن أزواج أبناء الولد، لأنّهنّ حرّمن على الأب و إن كنّ أزواج أولاد أولاده، و أولاد أولاد أولاده، و هكذا.

وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في موضع الرفع عطفا على المحرّمات، أي:

حرّم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح و الوطي بملك اليمين. و يجوز الجمع بينهما في الملك. و كذا الحرمة في المحرّمات المعدودة غير مقصورة على النكاح، بل في ملك اليمين أيضا محرّمة.

قال عثمان: أحلّتهما آية: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (2). و قال عليّ عليه السّلام: حرّمتهما هذه الآية.

و الثاني هو الحقّ، فإنّ آية التحليل مخصوصة في غير ذلك، و لقوله عليه السّلام: «ما اجتمع الحلال و الحرام إلّا غلب الحرام».

إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء عن لازم المعنى كما مرّ، أو منقطع معناه: لكن ما

ص: 41


1- تفسير العيّاشي 1: 231 ح 77.
2- النساء: 3.

سلف مغفور، لقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.

قال ابن عبّاس: حرّم اللّه تعالى من النساء سبعا بالنسب و سبعا بالسبب، و تلا هذه الآية، ثم قال: و السابعة: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ الآية.

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ أي: و حرّمت عليكم ذوات الأزواج اللّاتي أحصنهنّ التزويج أو الأزواج.

و قرأ الكسائي في جميع القرآن غير هذا الحرف (1) بكسر الصاد، لأنّهنّ أحصنّ فروجهنّ.

إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد: ما ملكت أيمانكم من اللّاتي سبين و لهنّ أزواج كفّار، فهنّ حلال للسابين و إن كنّ محصنات، فإنّ النكاح يرتفع بالسبي، لقول أبي سعيد الخدري: أصبنا سبايا يوم أوطاس و لهنّ أزواج كفّار، فكرهنا أن نقع عليهنّ، فسألنا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهنّ.

و قال أبو حنيفة: لو سبي الزوجان معا لم يرتفع النكاح، و لم تحلّ للسابي.

و إطلاق الآية و الحديث حجّة عليه.

كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكّد، أي: كتب اللّه عليكم تحريم هؤلاء كتابا وَ أُحِلَّ لَكُمْ عطف على الفعل المضمر الّذي نصب كتاب اللّه. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على «حرّمت». ما وَراءَ ذلِكُمْ ما سوى المحرّمات الأربع عشر، و ما في معناها، كسائر محرّمات الرضاع.

و قوله: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ مفعول له. و المعنى:

أحلّ لكم ما وراء ذلكم، إرادة أن تطلبوا بأموالكم الصرف في مهورهنّ أو أثمانهنّ، حال كونكم أعفّاء غير زناة. فيكون مفعول «تبتغوا» مقدّرا. و يجوز أن يكون «أن

ص: 42


1- أي: غير هذه الآية.

تبتغوا» بدلا من «ما وراء ذلكم» بدل الاشتمال. و الإحصان العفّة و تحصين النفس من الوقوع في الحرام. و قيل: محصنين متزوّجين. و السفاح الزنا من السفح، و هو صبّ المنيّ، فإنّه الغرض منه لا غير، بخلاف التزوّج.

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ فمن تمتّعتم به من المنكوحات، أو فما استمتعتم به منهنّ من جماع أو عقد عليهنّ. و قال الجوهري: «استمتع بمعنى: تمتّع، و الاسم المتعة» (1) فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي: مهورهنّ، فإنّ المهر في مقابلة الاستمتاع فَرِيضَةً حال من الأجور، بمعنى: مفروضة، أو صفة مصدر محذوف، أي: إيتاء مفروضا، أو مصدر مؤكّد.

و الأصحّ أنّ المراد به نكاح المتعة، و هو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم. سمّي به إذا الغرض منه مجرّد الاستمتاع بالمرأة، أو تمتيعها بما تعطى.

و هذا منقول عن ابن عبّاس و السدّي و سعيد بن جبير و جماعة من التابعين.

و هو مذهب أصحابنا الإماميّة.

و لفظ الاستمتاع و التمتّع و إن كان في الأصل واقعا على الانتفاع و الالتذاذ، فقد صار في عرف الشرع هذا العقد المسمّى متعة. و يدلّ عليه دلالة صريحة قراءة ابن عبّاس و أبيّ بن كعب و ابن مسعود: «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنّ».

و أورد الثعلبي في تفسيره عن حبيب بن أبي ثابت قال: «أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال: هذا قراءة أبيّ، فرأيت في المصحف: فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن أبي نضرة قال: «سألت ابن عبّاس عن المتعة فقال: أما تقرأ

ص: 43


1- الصحاح 3: 1282.

سورة النساء؟ قلت: بلى. قال: فما تقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى»؟

قلت: لا أقرؤها هكذا. قال ابن عبّاس: و اللّه هكذا أنزلها اللّه، ثلاث مرّات».

و كذا نقل الخاصّة و العامّة عن ابن عبّاس أنّه كان يفتي بالمتعة و يعمل.

و مناظرته مع ابن الزبير في ذلك مشهورة. و قول ابن عبّاس في ذلك حجّة، كما قال عليه السّلام عنه إنّه كنيف (1) ملي ء علما.

و دعوى الخصم رجوعه عن ذلك ممنوع.

و بإسناده عن سعيد بن جبير أنّه قرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، قال: «سألت عن هذه الآية «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» أ منسوخة هي؟ قال: لا.

قال الحكم: قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لولا أنّ عمر نهي عن المتعة ما زنى إلا شقيّ».

و عن ابن مسكان أيضا قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان عليّ عليه السّلام يقول: لولا ما سبقني إليه ابن الخطّاب ما زنى إلا شفا».

و في السرائر (2): «الشفا بالشين المعجمة و الفاء، و معناه: إلّا قليل».

و بإسناده عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتمتّعنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مات و لم ينهنا عنها، فقال بعد رجل برأيه ما شاء».

و ممّا أورده مسلم بن الحجّاج في الصحيح، حدّثنا الحسن الحلواني، قال:

حدّثنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: «قدم جابر بن عبد اللّه معتمرا فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة. فقال: استمتعنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر».

ص: 44


1- الكنف: و وعاء يكون فيه متاع التاجر أو الراعي، و الكنيف لعلّه تصغير ذلك.
2- السرائر 2: 626.

و ممّا يدلّ أيضا على أنّ لفظ الاستمتاع في الآية لا يجوز أن يكون المراد به الانتفاع و الجماع، أنّه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم شي ء من المهر من لا ينتفع من المرأة بشي ء، و قد علمنا أنّه لو طلّقها قبل الدخول لزمه نصف المهر. و لو كان المراد به النكاح الدائم لوجب للمرأة بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد، لأنّه قال:

«وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي: مهورهنّ، و لا خلاف في أنّ ذلك غير واجب، و إنّما تجب الأجرة بكمالها بنفس العقد في نكاح المتعة.

و دليل آخر على إثبات عقد المتعة الرواية المشهورة عن عمر بن الخطّاب:

«متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنا أنهى عنهما». و في رواية أخرى: «أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما» فأخبر أنّ المتعة كانت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أضاف النهي أو التحريم عنها إلى نفسه لضرب من الرأي، فلو كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نسخها أو نهى عنها و أباحها في وقت مخصوص دون غيره- كما هو رأي العامّة- لأضاف التحريم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون نفسه. و أيضا فإنّه قرن بين متعة الحجّ و متعة النساء في النهي، و لا خلاف في أنّ متعة الحجّ غير منسوخة و لا محرّمة، فوجب أن يكون حكم متعة النساء كذلك.

و على هذا فمعنى قوله: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ لا حرج و لا إثم عليكم في استئناف عقد آخر بعد انقضاء مدّة الأجل المضروب في عقد المتعة، مع زيادة المدّة و الأجر على حسب التراضي. و هذا قول الإماميّة، و تظاهرت به الروايات عن أئمّتهم عليهم السّلام. و من قال: إنّ المراد بالاستمتاع الانتفاع و الجماع، قال: المعنى: لا حرج عليكم فيما يزاد على المسمّى أو يحطّ عنه بالتراضي، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً فيما شرع لعباده، من عقد النكاح الّذي به تحفظ الأنساب، و سائر أحكام أخر.

ص: 45

[سورة النساء [4]: آية 25]

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [25]

ثم بيّن سبحانه نكاح الإماء، فقال: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الطول:

الفضل و الزيادة. و الخطاب للمؤمنين، أي: و من لم يجد غنى و زيادة في المال وسعة يبلغ بها. أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ يعني: الحرائر، لقوله: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي: فينكح أمة من ما ملكت أيمانكم من إمائكم المؤمنات، فإنّ مهور الإماء و مؤونتهنّ أخفّ، لا من فتيات غيركم من المخالفين في الدين.

و فيه دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الأمة الكتابيّة، لأنّه تعالى قيّد جواز العقد عليهنّ بالإيمان.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فاكتفوا بظاهر الإيمان، فإنّه العالم بالسرائر، و بتفاضل ما بينكم و بين أرقّائكم في الإيمان، و رجحانه و نقصانه فيهم و فيكم، و ربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة، و المرأة أفضل من الرجل في الإيمان، فمن حقّكم أن تعتبروا فضل الإيمان، لا فضل الأحساب و الأنساب. و المقصود من هذا القول تأنيسهم بنكاح الإماء، و منعهم عن الاستنكاف منه، كما هو من عادات

ص: 46

الجاهليّة. ثم أكّد هذا بقوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: أنتم و أرقّاؤكم متناسبون، لأنّ نسبكم من آدم عليه

السّلام و دينكم الإسلام، فلا تستنكفوا من نكاحهنّ.

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ الضمير للفتيات، أي: تزوّجوهنّ بإذن مواليهنّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي: أدّوا إليهنّ مهورهنّ بإذن أهلهنّ، فحذف لتقدّم ذكره، أو إلى مواليهنّ بحذف المضاف، للعلم بأنّ المهر للسيّد، لأنّه عوض حقّه، فيجب أن يؤدّى إليه. و قال مالك: المهر للأمة، ذهابا إلى الظاهر. بِالْمَعْرُوفِ بغير مطل و ضرار و نقصان، و إحواج إلى الاقتضاء مُحْصَناتٍ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ غير مجاهرات بالسفاح وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أخلّاء في السرّ.

عن ابن عبّاس أنّه قال: كان قوم في الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنا، و يستحلّون ما خفي منه، فنهى اللّه تعالى عن الزنا جهرا و سرّا.

فَإِذا أُحْصِنَ فإذا زوّجن. و قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي: «فإذا أحصنّ» بفتح الهمزة و الصاد، أي: أحصنّ أنفسهنّ بالتزوّج. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ بزنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ يعني: الحرائر مِنَ الْعَذابِ من الحدّ، لقوله تعالى: وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (1). و هو خمسون جلدة. و فيه دلالة على أنّ حدّ العبد نصف حدّ الحرّ، و أنّه لا يرجم، لأنّ الرجم لا ينتصف.

ذلِكَ أي: نكاح الإماء عند عدم الطول لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ لمن خاف الوقوع في الزنا عند شدّة الشبق. و هو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، مستعار لكلّ مشقّة و ضرر، و لا ضرر أعظم من الوقوع في الزنا، لأنّه أفحش القبائح، و مستلزم للحدّ في الدنيا و العذاب في الآخرة. و قيل: المراد به حدّ الأحرار.

و هذا شرط آخر لنكاح الإماء.

وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي: و صبركم عن نكاح الإماء متعفّفين خير لكم.

ص: 47


1- النور: 2.

قال عليه السّلام: «الحرائر صلاح البيت، و الإماء هلاكه». وَ اللَّهُ غَفُورٌ لمن لم يصبر رَحِيمٌ بأن رخّص له.

[سورة النساء [4]: الآيات 26 الى 28]

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [26] وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [27] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [28]

ثم بيّن سبحانه بعد التحليل و التحريم أنّه يريد بذلك مصالحنا و منافعنا، فقال:

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما تعبّدكم به من الحلال و الحرام لصلاح دينكم و دنياكم، أو ما خفي عنكم من مصالحكم و محاسن أعمالكم. و «ليبيّن» مفعول «يريد». و اللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة، كما زيدت في: لا أبا لك، لتأكيد إضافة الأب. و قيل: المفعول محذوف، و «ليبيّن» مفعول له، أي: يريد الحقّ لأجله.

وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مناهج من تقدّمكم من أهل الرشد من الأنبياء و أتباعهم، لتقتدوا بهم، و تسلكوا طريقهم وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و يغفر لكم ذنوبكم، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي، و يحثّكم على التوبة، أو إلى ما يكون كفّارة لسيّئاتكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالأحكام المذكورة، و بمن عمل بها و من لم يعمل حَكِيمٌ في وضعها.

وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ بأن يوفّقكم لها، و يقوّي دواعيكم إليها. كرّره للتأكيد، و لمقابلة قوله: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني: الفجرة المبطلين، فإنّ كلّ مبطل متّبع شهوة نفسه، و مطيع لها في الباطل. و أمّا المتعاطي لما سوّغه

ص: 48

الشرع منها دون غيره فهو متّبع للشرع في الحقيقة لا للشهوات. أَنْ تَمِيلُوا عن الحقّ، بموافقتهم على اتّباع الشهوات، و استحلال المحرّمات مَيْلًا

عَظِيماً بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئته على ندور غير مستحلّ لها. و لا شبهة أنّه لا ميل أعظم من الموافقة على اتّباع الشهوات المردية.

و قيل: المراد منهم اليهود. و قيل: المجوس، فإنّهم يحلّون الأخوات من الأب و بنات الأخ و الأخت.

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفيّة السمحة السهلة، و رخّص لكم في المضايق، كإحلال نكاح الأمة وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً لا يصبر عن الشهوات، و لا يتحمّل مشاقّ الطاعات.

و عن ابن عبّاس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت: هذه الثلاث، و إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ (1) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (2). إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ (3) وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً (4) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ (5).

[سورة النساء [4]: الآيات 29 الى 30]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [29] وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [30]

و لمّا بيّن سبحانه تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، عقّبه بتحريم

ص: 49


1- النساء: 31، 48، 40، 110، 147.
2- النساء: 31، 48، 40، 110، 147.
3- النساء: 31، 48، 40، 110، 147.
4- النساء: 31، 48، 40، 110، 147.
5- النساء: 31، 48، 40، 110، 147.

الأموال في الوجوه الباطلة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ المراد بالأكل سائر التصرّفات. و اختصاصها بالأكل لأنّه معظم المنافع، و لأنّه في العرف يطلق الأكل على وجوه الإنفاقات، يقال: أكلماله بالباطل، و إن أنفقه في غير الأكل.

و المراد بالباطل ما لم يبحه الشرع، كالغصب و الربا و القمار.

و معناه: لا ينفق بعضكم أموال بعض بغير سبب مبيح شرعا.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ استثناء منقطع، أي: و لكن كون تجارة عن تراض غير منهيّ عنه، أو اقصدوا كون تجارة. و «عن تراض» صفة ل «تجارة»، أي: تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين. و تخصيص التجارة من الوجوه الّتي بها يحلّ تناول مال الغير، لأنّها أغلب و أوفق لذوي المروءات. و يجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا بأحد العقود السائغة.

و قرأ الكوفيّون: تجارة، بالنصب على «كان» الناقصة و إضمار الاسم، أي: إلّا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة.

وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن تقاتلوا الّذين لا تطيقونهم فيقتلوكم. أو بالبخع (1)، بأن يقتل الرجل نفسه، كما يفعله بعض الجهّال في حال غضب أو ضجر أو بارتكاب ما يؤدّي إلى قتلها.

و قيل: المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم، فإنّ المؤمنين كنفس واحدة، كقوله عليه السّلام: «سلّموا على أنفسكم».

فالمعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، أو لا تقتلوا أنفسكم، بأن تهلكوها بارتكاب الآثام، و العدوان في أكل مال بالباطل، و غيره من المعاصي الّتي بها تستحقّون العذاب، فإنّه القتل الحقيقي للنفس.

ص: 50


1- بخع نفسه: نهكها، و كاد يهلكها من غضب أو غمّ.

و القول الأوّل مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و على التقادير؛ جمع اللّه تعالى في هذه الآية التوصية بين حفظ النفس و المال الّذي هو شقيقها، من حيث إنّه سبب قوامها، استبقاء لهم، ريثما تستكمل النفوس و تستوفي فضائلها، رأفة و رحمة عليهم، و لهذا قال بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي: أمر ما أمر و نهى عمّا نهى لفرط رحمته عليكم. و معناه: أنّه كان بكم يا أمّة محمّد رحيما، لأنّه أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس، و نهاكم عنه.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إشارة إلى القتل، أو ما سبق من المحرّمات عُدْواناً وَ ظُلْماً إفراطا في التجاوز عن الحقّ، و أخذا على غير وجه الاستحقاق. و قيل:

أراد بالعدوان التعدّي على الغير، و بالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ندخله نارا مخصوصة شديدة العذاب وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا عسر فيه، و لا صارف عنه.

[سورة النساء [4]: آية 31]

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [31]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر السيّئات عقّبه بالترغيب في اجتنابها، فقال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ كبائر الذنوب الّتي نهاكم اللّه و رسوله عنها نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ نغفر لكم صغائركم، و نمحها عنكم وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً الجنّة و ما وعد فيها من الثواب، أو إدخالا مع كرامة.

و قرأ نافع بفتح الميم. و هو أيضا يحتمل المكان و المصدر.

و اختلف في الكبائر، و الأقرب أنّ الكبيرة كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّا، و صرّح بالوعيد فيه. و قيل: ما علم حرمته بقاطع.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّها سبع: الإشراك باللّه، و قتل النفس الّتي حرّم اللّه، و قذف

ص: 51

المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الربا، و الفرار من الزحف، و عقوق الوالدين.

و عن ابن عبّاس: الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنّه لا كبيرة مع استغفار، و لا صغيرة مع إصرار. رواهما الواحدي (1) في تفسيره بالإسناد مرفوعا.

و قيل: أراد بها ها هنا أنواع الشرك، لقوله:

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ (2).

و قيل: صغر الذنوب و كبرها بالإضافة إلى ما فوقها و ما تحتها، فأكبر الكبائر الشرك، و أصغر الصغائر حديث النفس، و بينهما وسائط يصدق عليها الأمران. و لعلّ هذا ممّا يتفاوت باعتبار الأشخاص و الأحوال، ألا ترى أنّه تعالى عاتب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كثير من خطراته الّتي لم تعدّ على غيره خطيئة، فضلا أن يؤاخذه عليها.

و روى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر عليهم السّلام، قال: «دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام، فلمّا سلّم و جلس تلا هذه الآية: وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ (3) ثم أمسك.

فقال أبو عبد اللّه: ما أسكتك؟

قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّ و جلّ.

قال: نعم، يا عمرو أكبر الكبائر: الشرك باللّه، لقول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (4) و قال:مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ

ص: 52


1- الوسيط 2: 40- 41.
2- النساء: 48.
3- الشورى: 37.
4- النساء: 48 و 116.

النَّارُ (1).

و بعده اليأس من روح اللّه، لأنّ اللّه يقول: وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (2).

ثم الأمن من مكر اللّه، لأنّ اللّه يقول: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (3).

و منها: عقوق الوالدين، لأنّ اللّه عزّ و جلّ جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ

لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (4).

و منها: قتل النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، لأنّه سبحانه يقول: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها (5) الآية.

و قذف المحصنات، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (6).

و أكل مال اليتيم ظلما، لقوله عزّ و جلّ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً (7) الآية.

و الفرار من الزحف، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (8).

ص: 53


1- المائدة: 72.
2- يوسف: 87.
3- الأعراف: 99.
4- مريم: 32.
5- النساء: 93.
6- النور: 23.
7- النساء: 10.
8- الأنفال: 16.

و أكل الربا، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ (1). و يقول: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ (2).

و السحر، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (3).

و الزنا، لأنّ اللّه تعالى يقول: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (4).

و اليمين الغموس، لأنّ اللّه تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ (5).

و الغلول، فإنّ اللّه سبحانه يقول: وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ (6).

و منع الزكاة المفروضة، لأنّ اللّه تعالى يقول: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ (7) الآية.

و شهادة الزور و كتمان الشهادة، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (8).

و شرب الخمر، لأنّ اللّه عزّ و جلّ عدل بها عبادة (9) الأوثان.

و ترك الصلاة متعمّدا، أو شيئا من ما فرض اللّه عزّ و جلّ،

لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:.

ص: 54


1- البقرة: 275، 279، 102.
2- البقرة: 275، 279، 102.
3- البقرة: 275، 279، 102.
4- الفرقان: 68- 69.
5- آل عمران: 77، 161.
6- آل عمران: 77، 161.
7- التوبة: 35.
8- البقرة: 283.
9- في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ المائدة: 90.

«من ترك الصلاة متعمّدا فقد برى ء من ذمّة اللّه و ذمّة رسوله».

و نقض العهد و قطيعة الرحم، لأنّ اللّه يقول: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (1).

قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه، و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم».

و عن ابن مسعود: كلّما نهى اللّه عنه من أوّل السورة إلى رأس الثلاثين فهو كبيرة.

[سورة النساء [4]: آية 32]

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [32]

و لمّا بيّن سبحانه حكم المواريث، و فضّل بعضهم على بعض في ذلك، و انساق الكلام إلى هاهنا، عقّبه بتحريم التمنّي الّذي هو سبب التباغض، فقال:

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الأمور الدنيويّة، كالمال و الجاه.

و المعنى: لا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلان من المال و الجاه كان لي، فإنّ ذلك يكون حسدا. و لكن يجوز أن يقول: اللّهمّ أعطني مثله. و هذا المعنى منقول عن ابن عبّاس، و مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

ففي الآية نهي عن التحاسد الّذي يقتضيه تمنّي ما فضّل اللّه بعض الناس على بعض، من المال و الجاه و الجمال. و لمّا كان ذلك التفضّل قسمة من اللّه العالم بأحوال

ص: 55


1- الرعد: 25.

العباد، فواجب على العبد أن يرضى بقسمته الصادرة عن الحكمة و العلم بالمصلحة، كما بيّنه بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ أي:

لكلّ من الرجال و النساء فضل و نصيب بسبب ما اكتسب، و من أجله، من التجارات و الزراعات و الصناعات، فاطلبوا الفضل بالعمل لا بالحسد و التمنّي، فينبغي أن يقنع كلّ منهم و يرضى بما قسّم اللّه له من كسبه.

و قيل: المراد نصيب الميراث، و تفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه. فجعل سبحانه ما قسّمه لكلّ من الرجال و النساء- على حسب ما عرفه من صلاحه- كسبا له على سبيل الاتّساع، فإنّ الاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة و الإحراز.

روي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول اللّه يغزوا الرجال و لا نغزو، و إنّما لنا نصف الميراث، ليتنا كنّا رجالا، فنزلت: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ».

وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي: لا تتمنّوا ما للناس، و اسألوا اللّه مثله من خزائنه الّتي لا تنفد. قال سفيان بن عيينة: لم يأمرنا بالمسألة إلّا ليعطي. و

عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «سلوا اللّه من فضله، فإنه يحبّ أن يسأل» و «أفضل العبادة انتظار الفرج».

و قرأ ابن كثير و الكسائي: «و سلوا اللّه من فضله»، «و سلهم» (1)، «فسل الّذين» (2) و شبهه، إذا كان أمرا للمواجه في كلّ القرآن، و قبل السين واو أو فاء بغير همز. و حمزة في الوقف على الأصل، و الباقون بالهمز. و لم يختلفوا في «وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» (3) أنّه مهموز.

ص: 56


1- الأعراف: 163.
2- يونس: 94.
3- الممتحنة: 10.

إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فهو يعلم ما يستحقّه كلّ إنسان، فيفضّل عن علم و تبيان.

[سورة النساء [4]: آية 33]

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً [33]

ثم عاد سبحانه إلى ذكر المواريث، فقال: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ أي: و لكلّ تركة جعلنا ورّاثا يلونها و يحرزونها. و «ممّا ترك» بيان «لكلّ» مع الفصل بالعامل. أو المعنى: و لكلّ ميّت جعلنا ورّاثا ممّا ترك، على أنّ «من» صلة «موالي»، لأنّه في معنى الوارث الّذي هو أولى بالإرث. و في ترك ضمير «كلّ» و «الوالدان» و «الأقربون» استئناف مفسّر للموالي، كأنّه قيل: من هم؟

فيجاب: الوالدان و الأقربون. أو: و لكلّ قوم جعلناهم موالي حظّ ممّا ترك الوالدان و الأقربون، على أن «جعلنا موالي» صفة «لكلّ» و الراجع إليه محذوف.

وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ المراد بالموصول موالي الموالاة. كان الرجل في الجاهليّة يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و هدمي (1) هدمك، و حربي حربك، و سلمي سلمك، و ترثني و أرثك، و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف. فنسخ بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2). أو المراد الأزواج، على أنّ المراد عقد النكاح.

و على التقديرين؛ الموصول مع صلته مبتدأ ضمّن معنى الشرط، و خبره فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي: فأعطوهم نصيبهم. أو منصوب بمضمر يفسّره ما بعده،

ص: 57


1- الهدم: المهدر من الدماء. يقال: دمه هدم، أي: هدر.
2- الأنفال: 75.

كقولك: زيدا فاضربه. أو معطوف على «الوالدان»، و قوله «فآتوهم نصيبهم» جملة مسبّبة عن الجملة المتقدّمة، مؤكّدة لها، و الضمير للموالي.

و قرأ الكوفيّون: عقدت، بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم، فحذف العهود و أقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فصار: عقدوا، ثمّ حذف كما حذف في القراءة الأولى، فأسند العقود إلى الأيمان على سبيل التجوّز.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً تهديد على منع نصيبهم.

[سورة النساء [4]: آية 34]

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً [34]

و لمّا بيّن اللّه تعالى فضل الرجال على النساء، ذكر عقيبه فضلهم في القيام بأمر النساء، فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون عليهنّ بالأمر و النهي و التدبير و التأديب، كما تقوم الولاة على رعاياهم.

ثم علّل ذلك بأمرين: موهوبي و كسبي، فقال: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بسبب تفضيل اللّه بعضهم- و هم الرجال- على بعض- يعني: النساء- بكمال العقل و الحزم و حسن التدبير، و مزيد القوّة في الأعمال و الطاعات، فلذلك خصّوا بالنبوّة و الإمامة و الولاية، و وجوب الأذان و الخطبة و الجهاد و الجمعة، و زيادة السهم و عدد الأزواج، و الاستبداد بالفراق، و غير ذلك من شعائر الإسلام وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ في نكاحهنّ، كالمهر و النفقة.

ص: 58

قال مقاتل: نزلت الآية

في سعد بن الربيع بن عمرو، و كان من النقباء، و في امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، و هما من الأنصار. و ذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لتقتصّ من زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ارجعوا هذا جبرئيل أتاني و أنزل اللّه هذه الآية. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا، و الّذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص.

و قال الكلبي: نزلت في سعد بن الربيع و امرأته خولة بنت محمد بن مسلمة.

و ذكر القصّة نحوها.

و قال أبو روق، نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ و في زوجها ثابت بن قيس بن شماس. و ذكر قريبا منه.

و على تقدير صحّة النقل فالآية ناسخة لحكمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذي هو أيضا من حكم اللّه تعالى.

فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ مطيعات للّه تعالى، قائمات بحقوق الأزواج حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ لمواجب الغيب، أي: يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب عليهنّ في النفس و المال.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، و إن أمرتها أطاعتك، و إذا غبت عنها حفظتك في مالها (1) و نفسها، و تلا هذه الآية».

و قيل: حافظات لأسرار أزواجهنّ بِما حَفِظَ اللَّهُ بحفظ اللّه إيّاهنّ بالأمر على حفظ الغيب، و الحثّ عليه بالوعد و الوعيد، و التوفيق له، فتكون «ما»

ص: 59


1- في هامش النسخة الخطّية: «أضاف المال إليها و إن كان للزوج، لملابستها بالتصرّف فيه، و نحوه: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» و المراد أموالهم، فأضافها إلى الأولياء لتصرّفهم فيها. منه». و الآية في سورة النساء: 5.

مصدريّة. أو بالّذي حفظه اللّه لهنّ عليهم من المهر و النفقة، و القيام بحفظهنّ و الذبّ عنهنّ، فتكون موصولة.

وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ عصيانهنّ و ترفّعهنّ عن مطاوعة الأزواج، مأخوذ من النشز، و هو الانزعاج و الترفّع فَعِظُوهُنَ أوّلا بالوعظ و النصيحة، بأن تقولوا لهنّ: اتّقين اللّه و ارجعن إلى طاعتنا.

وَ اهْجُرُوهُنَ ثانيا إن لم تنجع النصيحة فِي الْمَضاجِعِ في المراقد.

و هي كناية عن الجماع. و قيل: معناه: لا تدخلوهنّ تحت اللحف. و قيل:

هو أن يولّيها ظهره في المضجع. و هذا القول مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

وَ اضْرِبُوهُنَ ثالثا إن لم يفد الهجران، ضربا غير مبرح (1) للجلد، و لا كاسر للعظم. و الأمور الثلاثة مترتّبة، فينبغي أن يتدرّج فيها.

فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بترك النشوز، بأن رجعن إلى طاعتكم في الائتمار لأمركم فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بالتوبيخ و الإيذاء. و المعنى: فأزيلوا عنهنّ التعرّض، و اجعلوا ما كان منهنّ كأن لم يكن، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه، فإنّه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم. أو إنّه على علوّ شأنه يتجاوز عن سيّئاتكم و يتوب عليكم، فأنتم أحقّ بالعفو عن أزواجكم. أو إنّه يتعالى و يتكبّر أن يظلم أحدا أو ينقص حقّه.

[سورة النساء [4]: آية 35]

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً [35]

و لمّا قدّم سبحانه الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه، عقّبه بذكر

ص: 60


1- أي: غير مزيل.

الحكم عند التباس الأمر في المخالفة، فقال: وَ إِنْ خِفْتُمْ حسبتم. و قيل: علمتم شِقاقَ بَيْنِهِما خلافا بين المرأة و زوجها. أضمرهما و إن لم يجر ذكرهما لجري ما يدلّ عليهما، و هو ذكر الرجال و النساء. و إضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به، كقوله: يا سارق الليلة، أو الفاعل، كقولهم: نهارك صائم.

فَابْعَثُوا أيّها الحكّام لتبيين أمرهما، أو إصلاح ذات البين حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها رجلا وسيطا يصلح لحكومة العدل و الإصلاح من أهل الزوج، و آخر من أهل الزوجة، فإنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال و أطلب للصلاح.

و هذا على سبيل الاستحباب، فلو نصبا من الأجانب جاز.

و قيل: الخطاب للأزواج و الزوجات. و الأوّل مرويّ عن الصادق. و استدلّ به على جواز التحكيم.

و قال مالك: لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه من غير أن يستأمرا الزوجين، و رضيا بذلك. و عند أصحابنا الإماميّة أنّ النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر، و لا يليان التفرّق إلّا بإذن الزوجين.

إِنْ يُرِيدا أي: يريد الحكمان إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بين الزوجين، أي: إن قصد الإصلاح أوقع اللّه تعالى- بحسن سعيهما و نيّتهما- الموافقة بين الزوجين.

و قيل: الضمير الأوّل و الثاني للحكمين، أي: إن قصدا الإصلاح يوفّق اللّه بينهما، ليتّفق كلمتهما، و يحصل مقصودهما.

و قيل: للزوجين، أي: إن أرادا الإصلاح و زوال الشقاق، أوقع اللّه تعالى بينهما الألفة و الوفاق. و فيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه، أصلح اللّه مبتغاه.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بالظواهر و البواطن، فيعلم ما يريد الحكمان من الإصلاح و الإفساد.

ص: 61

[سورة النساء [4]: الآيات 36 الى 37]

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ

شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً [36] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [37]

و لمّا أمر اللّه سبحانه بمكارم الأخلاق في أمر اليتامى و الأزواج و العيال، عطف على ذلك الخلال المحمودة المشتملة على معالي الأمور و محاسن الأفعال.

فبدأ بالأمر بعبادته الّتي هي رأس الخصال الحميدة، و منشأ الخلال السنيّة، فقال:

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً صنما أو غيره، أو شيئا من الإشراك جليّا أو خفيّا وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: أحسنوا بهما إحسانا، من برّ و إعانة و إنعام.

وَ بِذِي الْقُرْبى و بصاحب القرابة، أي: بكلّ من بينكم و بينه قرابة وَ الْيَتامى بحفظ أموالهم و القيام عليها، و غيرها من وجوه الإحسان وَ الْمَساكِينِ فلا تضيّعوهم، و أعطوهم ما تحتاجون إليه من الطعام و الكسوة و سائر ما لا بدّ منه لهم.

وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى أي: الّذي جواره قريب. و قيل: الّذي له مع الجوار قرب و اتّصال بنسب أو دين.

وَ الْجارِ الْجُنُبِ الّذي جواره بعيد، أو الّذي لا قرابة له.

و في الحديث: «الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حقّ الجوار و حقّ القرابة و حقّ الإسلام، و جار له حقّان: حقّ الجوار و حقّ الإسلام، و جار له حقّ

ص: 62

واحد: حقّ الجوار، و هو المشرك من أهل الكتاب».

و روي أنّ حدّ الجوار إلى أربعين دارا. و يروى إلى أربعين ذراعا.

وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أي: الّذي يصحب الإنسان، بأن يحصل بجنبه بكونه رفيقه في أمر حسن، كسفر أو صناعة أو شركة، أو قاعد إلى جنبه في مجلس، أو خادم، فإنّ كلّ هؤلاء صحبه و حصل بجنبه، فعليه أن يراعي حقّه. و قيل: المراد المرأة.

وَ ابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع به، أو الضيف وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ العبيد و الإماء. و ذكر اليمين تأكيد، كما يقال: مشت رجلك و بطشت يدك. و موضع «ما» جرّ بالعطف على ما تقدّم، أي: و أحسنوا بعبيدكم و إمائكم بالنفقة و السكنى، و لا تحمّلوهم من الأعمال ما لا يطيقونه.

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا متكبّرا يأنف عن أقاربه و جيرانه و أصحابه، و لا يلتفت إليهم فَخُوراً يتفاخر عليهم بكثرة ماله.

هذه آية جامعة تضمّنت بيان أركان الإسلام، و التنبيه على مكارم الأخلاق.

و من تدبّرها حقّ التدبّر، و تذكّرها حقّ التذكّر، أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء، و هدته إلى جمّ غفير من علوم العلماء.

و قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: «من كان»، أو نصب على الذمّ، أو رفع عليه، أي: هم الّذين يبخلون بما منحوا به، و يمنعون ما أوجب اللّه عليهم من الزكاة و غيرها وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ و يأمرون غيرهم بذلك.

و قرأ حمزة و الكسائي بالبخل بفتحتين. و هي لغة.

وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و يجحدون ما أعطاهم اللّه من اليسار و الثروة، اعتذارا لهم في البخل.

و يحتمل أن يكون الموصول مع صلته مبتدأ خبره محذوف، تقديره: الّذين

ص: 63

يبخلون و يفعلون كذا و كذا أحقّاء بكلّ ملامة، مستحقّون للعقوبة.

و قيل: الآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصّحا: و لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، و مع ذلك كتموا ما عندهم من العلم بنعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مبعثه.

و الأولى أن تكون هذه الآية عامّة في كلّ من يبخل بأداء ما يجب عليه أداؤه، و يأمر الناس به، و عامّة في كلّ من كتم فضلا آتاه اللّه تعالى، من العلم و غيره من أنواع النعم الّتي يجب إظهارها و يحرم كتمانها. و قد ورد في الحديث: «إذا أنعم اللّه على عبد نعمة أحبّ أن يرى أثرها عليه».

وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأنّ من هذا شأنه فهو كافر لنعمة اللّه، و من كان كافرا لنعمة اللّه فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل و الإخفاء.

[سورة النساء [4]: الآيات 38 الى 39]

وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً [38] وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً [39]

ثم عطف على «الّذين يبخلون» أو «الكافرين» قوله: وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ و إنّما شاركهم في الذمّ و الوعيد لأنّ البخل و السرف- الّذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي- من حيث إنّهما طرفا إفراط و تفريط سواء في القبح و استجلاب الذمّ.

و يحتمل أن يكون مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: وَ مَنْ يَكُنِ

ص: 64

الشَّيْطانُ تقديره: الّذين ينفقون أموالهم رئاء الناس فقرينهم الشيطان.

و «رئاء الناس» منصوب على العلّيّة، أي: للمراءاة و الفخار، و ليقال: إنّهم أسخياء، لا لوجه اللّه.

و قيل: هم مشركو قريش أنفقوا أموالهم في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

هم المنافقون.

وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ليتحرّوا بالإنفاق مراضيه و ثوابه وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً هذا تنبيه على أنّ الشيطان قرنهم، فحملهم على البخل و الرياء و كلّ شرّ و فساد، و زيّنه لهم، كقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ (1). و المراد: إبليس و أعوانه من الجنّ و الإنس. و يجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يكون الشيطان مقرونا بهم في النار.

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي: و ما الّذي عليهم من الشنعة؟ أو: أيّ تبعة تحيق بهم بسبب الإيمان و الإنفاق في سبيل اللّه؟

و هذا توبيخ لهم و تهجين على الجهل بمكان المنفعة، و الاعتقاد في الشي ء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر. و تحريض على الفكر لطلب الجواب، لعلّه يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة و العوائد الجميلة. و تنبيه على أنّ المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا، فكيف إذا تضمّن المنافع؟! و إبطال لقول من قال: إنّهم لا يقدرون على الإيمان، لأنّه لا يحسن أن يقال للعاجز عن الشي ء: ماذا عليك لو فعلت كذا؟ فلا يقال للقصير: ماذا عليك لو كنت طويلا؟! و للأعمى: ماذا عليك لو كنت بصيرا؟! و فيه أيضا دلالة على أنّ الحرام لا يكون رزقا، من حيث إنّه سبحانه حثّهم

ص: 65


1- الإسراء: 27.

على الإنفاق ممّا رزقهم، و أجمعت الأمّة على أنّ الإنفاق من الحرام محظور.

و إنّما قدّم الإيمان هاهنا و أخّره في الآية الّتي قبل هذه، لأن القصد بذكره إلى التخصيص هاهنا و التعليل ثمّة.

وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً فيجازيهم بما يفعلون و يعتقدون. و هذا وعيد لهم.

[سورة النساء [4]: آية 40]

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [40]

ثم حثّ على الإنفاق على الوجه الحسن بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ لا ينقص من الأجر و لا يزيد في العقاب أصغر شي ء كالذرّة، و هي النملة الحمراء الصغيرة الّتي لا تكاد ترى لصغرها. و يقال: لكلّ جزء من أجزاء الهباء (1). و المثقال مفعال من الثقل. و في ذكره إيماء إلى أنّه و إن صغر قدره عظم جزاؤه. و في هذا دلالة على أنّه لو نقص من الأجر أدنى شي ء أو زيد على المستحقّ من العقاب لكان ظلما.

وَ إِنْ تَكُ مثقال الذرّة حَسَنَةً أنّث الضمير لتأنيث الخبر، أو لإضافة المثقال إلى مؤنّث. و حذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلّة. و قرأ ابن كثير و نافع: حسنة بالرفع على «كان» التامّة. يُضاعِفْها أي: ضاعف ثوابها. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب: يضعّفها. و كلاهما بمعنى. وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ و يؤت صاحبها من عنده على سبيل التفضّل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل أَجْراً عَظِيماً عطاء جزيلا. و إنّما سمّاه أجرا لأنّه تابع للأجر، مزيد عليه، لا يثبت إلّا بثباته.

ص: 66


1- الهباء: الغبار، و دقائق التراب.

[سورة النساء [4]: الآيات 41 الى 42]

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [41] يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [42]

و لمّا ذكر سبحانه اليوم الآخر وصف حال المنكرين له، فقال: فَكَيْفَ حال هؤلاء الكفرة من اليهود و النصارى و غيرهم إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد- و هو نبيّهم- على فساد عقائدهم و قبح أعمالهم. يعني: أنّ اللّه سبحانه يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على أمّته، فيشهد لهم و عليهم. و العامل في الظرف مضمون المبتدأ و الخبر، و هو هول الأمر و تعظيم الشأن وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً تشهد على صدق هؤلاء الشهداء، لعلمك بعقائدهم، و استجماع شرعك مجامع قواعدهم.

و قيل: «هؤلاء» إشارة إلى الكفرة المستفهم عن حالهم. و قيل: إلى المؤمنين، كقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (1).

و عن ابن مسعود قرأ هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففاضت عيناه. فانظر في هذه الحالة إذا كان الشاهد يبكي لهول هذه المقالة، فما ذا ينبغي أن يصنع المشهود عليه، من الانتهاء عن كلّ ما يستحيا منه على رؤوس الأشهاد؟! ثم بيّن حال المشهود عليهم بقوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي: يودّ الّذين جمعوا بين الكفر و عصيان الأمر في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوّى بهم الأرض، أي: يجعلون هم و الأرض سواء كالموتى،

ص: 67


1- البقرة: 143.

كما قال اللّه تعالى: وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (1). يعنون بذلك أنّهم لم يبعثوا و لم يخلقوا، فكانوا هم و الأرض سواء.

و قرأ نافع و ابن عامر: تسّوّى بتشديد السين. و أصله تتسوّى، فأدغم التاء في السين. و حمزة و الكسائي: تسوّى، بفتح التاء و تخفيف السين و إمالة الواو، على حذف التاء الثانية، يقال: سوّيته فتسوّى.

وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً و لا يقدرون على كتمانه، لأنّ جوارحهم تشهد عليهم. و قيل: الواو للحال. و المعنى: يودّون أن تسوّى بهم الأرض

و حالهم أنّهم لا يكتمون اللّه حديثا، و لا يكذبونه بقولهم: وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (2)، إذ روي أنّهم إذا قالوا ذلك ختم اللّه على أفواههم، فتشهد عليهم جوارحهم، فيشتدّ الأمر عليهم، فيتمنّون أن تسوّى بهم الأرض.

[سورة النساء [4]: آية 43]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [43]

و لمّا أمر اللّه تعالى في الآية المتقدّمة بالعبادة ذكر عقيبها ما هو من أكبر

ص: 68


1- النبأ: 40.
2- الأنعام: 23.

العبادات و أفضلها، و هو الصلاة و ما هو شرط صحّتها، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى أي: لا تقوموا إليها و أنتم نشاوى من خمر و نحوها حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ حتى تنتبهوا و تعلموا ما تقولون في صلاتكم.

روي أنّ عبد الرحمن بن عوف صنع مأدبة و دعا نفرا من رفقائه، فأكلوا و شربوا حتى ثملوا (1)، و جاء وقت صلاة المغرب فتقدّم عبد الرحمن ليصلّي بهم فقرأ: أعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد، فنزلت.

و قيل: معناه: لا تقربوا مواضع الصلاة، و هي المساجد، كقوله تعالى:

وَ صَلَواتٌ (2). أي: مواضع الصلاة. و يؤيّد هذا قوله: «إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» فإنّ العبور إنّما يكون في الموضع دون الصلاة.

و قيل:

هو سكر النوم و غلبة النعاس. و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام.

و يعضده ما روته عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

«إذا نعس أحدكم و هو يصلّي فلينصرف، لعلّه يدعو على نفسه و هو لا يدري».

وَ لا جُنُباً عطف على قوله: «و أنتم سكارى»، إذ الجملة في موضع النصب على الحال، كأنّه قال: لا تقربوا الصلاة سكارى و لا جنبا. و الجنب هو الّذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و الواحد و الجمع، لأنّه يجري مجرى المصدر الّذي هو الإجناب.

إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ متعلّق بقوله: «و لا جنبا». استثناء من أعمّ الأحوال، أي:

لا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال إلّا في حال كونكم مسافرين إذا لم يوجد الماء، فيجوز لكم أن تؤدّوها بالتيمّم. و يشهد له تعقيبه بذكر التيمّم. أو صفة لقوله:

«جنبا» أي: جنبا غير عابري سبيل. و فيه دلالة على أنّ التيمّم لا يرفع حكم

ص: 69


1- ثمل ثملا: أخذ فيه الشراب و سكر.
2- الحجّ: 40.

الجنابة. و من فسّر الصلاة بمواضعها فسّر «عابري سبيل» بالمجتازين فيها. فمعناه:

لا تقربوا مواضع الصلاة جنبا إلّا مجتازين.

و القول الأوّل منقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عبّاس و سعيد بن جبير و مجاهد. و الثاني عن جابر و الحسن و عطاء و الزهري. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة. و هو غاية النهي عن القربان حال الجنابة.

و القول الأخير أقوى، لأنّه سبحانه بيّن حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء، فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا، فإنّما أراد سبحانه أن يبيّن حكم الجنب في دخول المساجد في أوّل الآية، و يبيّن حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.

وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى مرضا يخاف معه من استعمال الماء، فإنّ الواجد له كالفاقد، أو مرضا يمنعه عن الوصول

إليه أَوْ عَلى سَفَرٍ أي: كنتم مسافرين لا تجدون الماء فيه أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين. و أصل الغائط المطمئنّ من الأرض، و كانوا يتبرّزون هناك لئلّا ير واحد في هذه الحالة، ثم كثر استعماله في الحدث تسمية باسم المجاور أو المحلّ.

أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أو ماسستم بشرتهنّ ببشرتكم. و هذا كناية عن الجماع.

فمعناه: أو جامعتموهنّ. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في المائدة (1): لمستم.

و استعماله كناية عن الجماع أقلّ من الملامسة.

و قال ابن عبّاس: سمّى اللّه الجماع لمسا كما سمّى المطر سماء. و عن عمر ابن الخطّاب و الشعبي و عطاء و ابن مسعود: أنّ المراد به اللمس باليد و غيرها.

و اختاره الشافعي، و قال: إنّ اللمس ينقض الوضوء.

ص: 70


1- المائدة: 6.

و الصحيح الأوّل، لأنّ اللّه تعالى بيّن حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله:

«وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا»، ثم بيّن عند عدم الماء حكم المحدث.

بقوله: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ»، فلا يجوز أن يدع بيان حكم الجنب عند عدم الماء، مع أنّه جرى له ذكر في الآية، و بيّن حكم المحدث و لم يجر له ذكر، فعلمنا أنّ المراد بقوله: «لامستم» الجماع، ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء، و المعلوم من قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً أي: فلم تتمكّنوا من استعماله، إذ الممنوع منه كالمفقود.

أراد سبحانه في هذه الآية أن يرخّص للّذين يجب عليهم الطهارة في التيمّم عند عدم الماء، فخصّ أوّلا من بينهم مرضاهم و مسافريهم، لأنّ الحال المقتضية للتيمّم في غالب الأمر مرض و سفر، فلأجل ذلك قدّمهما على سائر الأسباب الموجبة للتيمّم، ثمّ عمّ كلّ من وجب عليه الطهارة و أعوز الماء، لخوف عدوّ أو سبع أو عدم ما يتوصّل به إلى الماء، أو غير ذلك ممّا لا يكثر كثرة المرض و السفر، فلذلك نظم في سلك واحد بين المريض و المسافر و بين المحدث و الجنب، ثم رتّب الحكم عليهم فقال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ أي:

فتعمّدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا.

و التيمّم أصله القصد، و قد يخصّص في الشرع بقصد الصعيد لمسح أعضاء مخصوصة.

و قال الزجّاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أنّ الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه، فلو ضرب المتيمّم يده عليه و مسح لكان ذلك طهوره. و هو مذهب أبي حنيفة، و المرويّ عن أئمّة الهدى عليهم السّلام. و عند الشافعي لا بدّ من علوق التراب باليد.

و التيمّم إن كان بدلا من الوضوء فضربة واحدة للوجه و اليدين، و إن كان بدلا

ص: 71

من الغسل فضربتان: إحداهما للوجه، و الأخرى لليدين. و مسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف، و من الزند إلى رؤوس الأصابع. و هذا التفصيل منقول عن ائمّتنا صلوات اللّه عليهم. و عند الشافعي ضربة للوجه، و ضربة لليدين إلى المرفقين مطلقا. و عليه قوم من أصحابنا. و مزيد بيان مسائل التيمّم و فروعه محال إلى كتب الفقه.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً فلذلك يسّر الأمر عليكم، و رخّص لكم.

[سورة النساء [4]: الآيات 44 الى 45]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [44] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [45]

و لمّا ذكر سبحانه الأحكام الّتي أوجب العمل بها وصلها بالتحذير ممّا دعا إلى

خلافها، فقال: أَ لَمْ تَرَ من رؤية البصر، أي: ألم تنظر إليهم؟ أو من رؤية القلب، و عدّي ب «إلى» لتضمّن معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك؟ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظّا يسيرا من التوراة يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يختارونها على الهدى، أو يستبدلونها به. و هي البقاء على اليهوديّة بعد وضوح المعجزات الدالّة على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الآيات الموضحة عن صحّة نبوّته، و أنّه النبيّ العربيّ المبشّر به في التوراة و الإنجيل. و قيل: يأخذون الرشا، و يحرّفون التوراة.

وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أيّها المؤمنون السَّبِيلَ سبيل الحقّ كما ضلّوه، فهم إذا ضلّوا أحبّوا أن يضلّ غيرهم معهم.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ و ما هم عليه من الغشّ و الحسد و شدّة

ص: 72

العداوة لكم، و قد أخبركم بعداوة هؤلاء و ما يريدون بكم، فاحذروهم، و لا تستشيروهم في أموالكم و سائر أحوالكم، و لا تستنصحوهم في أموركم.

وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أمركم وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يعينكم، فاعتمدوا على ولايته، و اكتفوا بنصرته عن غيره، و لا تبالوا بهم. و زيادة الباء في فاعل «كفى» لتوكيد الاتّصال الإسنادي.

[سورة النساء [4]: آية 46]

مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [46]

ثم بيّن سبحانه صفة حال اليهود ليتحرّز المؤمنون منهم، فقال: مِنَ الَّذِينَ هادُوا فإنّه بيان ل «الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ»، لأنّهم يهود و نصارى. و توسّطت بين

البيان و المبيّن جمل اعتراضيّة، و هي قوله: «وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ» «وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً». فالمعنى: الّذين أوتوا نصيبا هم الّذين هادوا لا النصارى.

أو بيان ل «أعدائكم» أي: و اللّه أعلم بحال أعدائكم الّذين هادوا.

أو صلة ل «نصيرا» أي: ينصركم من الّذين هادوا و يحفظكم منهم، كقوله:

وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا (1).

ص: 73


1- الأنبياء: 77.

أو خبر مبتدأ محذوف صفته يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي: و من الّذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، أي: يميلونه عن مواضعه الّتي وضعه اللّه فيها، بإزالته عنها و إثبات غيره فيها، كما حرّفوا «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة، و وضعوا مكانه: «آدم طوال»، و حرّفوا الرجم و وضعوا الحدّ بدله. أو يؤوّلونه على ما يشتهون، فيميلونه عمّا أنزل اللّه تعالى فيه. فعلى المعنى الأوّل التحريف لفظيّ، و على الثاني معنويّ. و تذكير الضمير باعتبار أن مرجعه اسم الجنس.

وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا أمرك، أو يقولون بألسنتهم: سمعنا، و في قلوبهم: عصينا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أي: حال كونك مدعوّا عليك ب «لا سمعت» لصمم أو موت. أو اسمع حال كونك غير مجاب إلى ما تدعو إليه. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه. أو اسمع كلاما غير مسمع إيّاك، لأنّ أذنك تنبو عنه. و على الوجه الأخير يكون مفعولا به. أو اسمع غير مسمع مكروها، من قولهم: أسمعه فلان، إذا سبّه. و على هذا قالوه على سبيل الخير نفاقا.

وَ راعِنا أنظرنا نكلّمك، أو نفهم كلامك لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فتلا بها، و صرفا للكلام إلى ما يشبه السبّ، حيث وضعوا «غير مسمع» موضع «لا أسمعت مكروها» لقصد السبّ، و «راعنا» المشابه لما يتسابّون

به- و هو: راعنا- موضع «انظرنا». أو فتلا بها و ضمّا لما يظهرون من الدعاء و التوقير إلى ما يضمرون من السبّ و التحقير.

وَ طَعْناً فِي الدِّينِ استهزاء به و سخريّة.

إن قيل: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرّحوا و قالوا:

سمعنا و عصينا.

قلنا: جميع الكفرة كانوا يواجهون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالكفر و العصيان، و لا يواجهونه بالسبّ و دعاء السوء، و يجوز أن يقولوه فيما بينهم، و يجوز أن لا ينطقوا بذلك، و لكنّهم لمّا لم يؤمنوا به جعلوا كأنّهم نطقوا به.

ص: 74

وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا و لو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عاجلا و آجلا وَ أَقْوَمَ أي: أعدل و أسدّ و أصوب في الكلام. و إنّما يجب حذف الفعل بعد «لو» في مثل ذلك لدلالة «أنّ» عليه و وقوعه موقعه.

وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم و أبعدهم عن رحمته بِكُفْرِهِمْ بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا إلّا إيمانا قليلا ضعيفا لا يعبأ به، و هو الإيمان ببعض الآيات و الرسل. و يجوز أن يراد بالقلّة العدم، لأنّ وقوع القلّة موضع العدم في كلام العرب كثير. أو: إلّا قليلا منهم آمنوا، أو سيؤمنون. فخرج مخبره سبحانه على وفق خبره، فلم يؤمن منهم إلّا عبد اللّه بن سلام و أصحابه، و هم نفر قليل.

[سورة النساء [4]: آية 47]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [47]

ثم خاطب أهل الكتاب بالتخويف و التحذير، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا صدّقوا بِما نَزَّلْنا بما نزّلناه من القرآن و غيره من أحكام الإسلام على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي:

نمحو آثارها و تخطيط صورها من عين و حاجب و أنف و فم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها فنجعلها على هيئة أدبارها- و هي الأقفاء- مطموسة مثلها، أو ننكس وجوها إلى خلف و أقفاها إلى قدّام، في الدنيا أو في الآخرة.

و أصل الطمس إزالة الأعلام الماثلة. و قد يطلق بمعنى الطّلس (1) في إزالة

ص: 75


1- طلس الكتابة طلسا: محاها.

الصورة، و بمعنى مطلق القلب و التغيير، و لذلك قيل في معناه: من قبل أن نغيّر وجوها، فنسلب وجاهتها و إقبالها، و نكسوها الصّغار و الإدبار. أو نردّها إلى حيث جاءت منه، و هي أذرعات الشام، يعني: إجلاء بني النضير. و يقرب منه قول من قال: إنّ المراد بالوجوه الوجهاء و الرؤساء، أي: من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم، فنسلبهم وجاهتهم و إقبالهم، و نكسوها صغارهم و إدبارهم. أو المراد: نعمي الأبصار عن الاعتبار، و نصمّ الأسماع عن الإصغاء إلى الحقّ بالطبع و التخلية، و نردّها عن الهداية إلى الضلالة، ختما و تخلية.

أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت، أو نلعنهم على لسانك كما لعنّا أصحاب السبت على لسان داود.

و الضمير لأصحاب الوجوه، أو ل «الّذين» على طريقة الالتفات، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء. و عطفه على الطمس بالمعنى الأوّل يدلّ على أنّ المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا. و من حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال: إنّه بعد

مترقّب، و لا بدّ من طمسهم و لعنهم قبل يوم القيامة، أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم، و قد آمن منهم طائفة، كعبد اللّه بن سلام و أسد بن سعية و ثعلبة بن سعية و أسد بن عبيد و مخريق و غيرهم، و أسلم كعب في أيّام عمر.

وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ من وعد و وعيد، و ما حكم به و قضاه مَفْعُولًا نافذا و كائنا، فيقع لا محالة ما أو عدتم به إن لم تؤمنوا.

[سورة النساء [4]: آية 48]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [48]

ثم إنّه سبحانه آيس الكفّار من رحمته فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ لأنّه بتّ الحكم على خلود عذابه، و أنّ ذنبه لا ينمحي عنه أثره، فلا يستعدّ للعفو،

ص: 76

بخلاف غيره وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي: ما دون الشرك، صغيرا كان أو كبيرا لِمَنْ يَشاءُ تفضّلا عليه و إحسانا.

و لمّا ذهب المعتزلة إلى أنّ اللّه يغفر الشرك لمن يشاء، و لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلّا بالتوبة، فأوّل الفعل المنفيّ و المثبت بأنّهما موجّهان إلى من يشاء.

و المعنى: أنّ اللّه لا يغفر الشرك لمن يشاء، و هو من لم يتب، و يغفر ما دونه لمن يشاء، و هو من تاب.

و في تقييد غفران ما دون الشرك بالتائب تقييد بلا دليل، إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد، و نقض لمذهبهم، فإنّ تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة و الصفح بعدها. فالآية كما هي حجّة عليهم، حجّة على الخوارج الّذين زعموا أنّ كلّ ذنب شرك، و

أنّ صاحبه مخلّد في النار.

روى مطرف بن الشخير عن عمر بن الخطّاب قال: كنّا على عهد رسول اللّه إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا عليه بأنّه من أهل النار، حتّى نزلت هذه الآية، فأمسكنا عن الشهادات.

و الصحيح أنّ اللّه لا يغفر المشرك غير التائب قطّ، و يغفر ما دون الشرك، التائب و غير التائب مطلقا تفضّلا.

و تنقيح هذا المبحث: أنّ اللّه تعالى نفى غفران الشرك أوّلا، و قد حصل الإجماع على أنّه تعالى يغفره بالتوبة، ثم أثبت غفران ما دون الشرك من المعاصي، فينبغي أن يكون المراد غفران من لم يتب منها، ليخالف المنفيّ المثبت. ثم علّق المشيئة بالمغفور لهم فقال: «لمن يشاء» أي: يغفر الذنوب الّتي هي دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له من المذنبين، ليكون العبد واقفا بين الخوف و الرجاء، خارجا عن الإغراء، إذ الإغراء إنّما يحصل بالقطع على الغفران، دون الرجاء للغفران المعلّق بالمشيئة. و لذا

قال الصادق عليه السّلام: «لو وزن رجاء المؤمن و خوفه لاعتدلا».

و يؤيّده

ص: 77

قوله سبحانه: وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (1). فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (2). فذكر المشيئة لأجل ذلك.

فالآية أرجى من كلّ آية، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».

و قد روينا قبل عن ابن عبّاس (3) أنّه قال: ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، قوله سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ و يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ في الموضعين. ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ فظهر من هذا التفصيل أنّ اللّه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة.

و إذا انتقش هذا على صفحة الخاطر علم أنّ ما قال جار اللّه في الكشّاف (4) من أنّ المنفيّ و المثبت في الآية موجّهان إلى قوله: «لمن يشاء»، و المراد بالأوّل من لم يتب، و بالثاني من تاب، في غاية الفساد و البطلان، لأنّه يكون حينئذ معنى الآية:

أنّه سبحانه لا يغفر الشرك لمن يشاء و هو غير التائب، و يغفر لمن تاب منه، و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و هو التائب، و لا يغفر لمن لم يتب منه، فيصير المنفيّ و المثبت كما ترى سواء في الحكم و المعنى. و حاشا كلام الّذي بهر العقول بفصاحته عن مثل هذه النقيصة الّتي يأبى عنها كلام كلّ عاقل. على أنّ التوبة إذا أوجبت عنده إسقاط العقاب فكيف تعلّق بها المشيئة؟! جلّ ربّنا عن مثله، و تقدّس عن شبهه.

وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى فقد كذب بقوله: إنّ العبادة يستحقّها غير اللّه

ص: 78


1- الحجر: 56.
2- الأعراف: 99.
3- راجع ص: 49.
4- الكشّاف 1: 519- 520.

تعالى، و أثم إِثْماً عَظِيماً يستحقر دونه سائر الآثام. و هو إشارة إلى المعنى الفارق بينه و بين سائر الذنوب. و لفظ الافتراء كما يطلق على القول، يطلق على الفعل. و كذلك لفظ الاختلاق.

قال الكلبي: نزلت هذه الآية في المشركين، وحشيّ و أصحابه، و ذلك أنّه لمّا قتل حمزة و كان قد جعل له على قتله أن يعتق، فلم يوف له بذلك، فلمّا قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه، فكتبوا إلى

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّا قد ندمنا على الّذي صنعناه، و ليس يمنعنا على الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول و أنت بمكّة: وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ (1) الآيتان. و قد دعونا مع اللّه إلها آخر. و قتلنا النفس الّتي حرّم اللّه، و زنينا، فلولا هذه لاتّبعناك.

فنزلت: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً (2) الآيتان. فبعث بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى وحشي و أصحابه.

فلمّا قرءوهما كتبوا إليه: هذا شرط شديد فنخاف أن لا نعمل صالحا، فلا نكوننّ من أهل هذه الآية.

فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. فبعث بها إليهم.

فقرؤوها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته.

فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً (3). فبعث بها إليهم.

ص: 79


1- الفرقان: 68.
2- مريم: 60.
3- الزمر: 53.

فلمّا قرءوها دخل هو و أصحابه في الإسلام، و رجعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقبل منهم.

ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلمّا أخبره قال: و يحك غيّب وجهك عنّي. فلحق وحشيّ بعد ذلك بالشام، فكان بها إلى أن مات.

و روى أبو مجلز عن ابن عمر قال: نزلت في المؤمنين، و ذلك أنّه لمّا نزلت: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» الآية، قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: و الشرك باللّه، فسكت، ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثا، فنزلت: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» الآية، فأثبت هذه في الزمر، و هذه في النساء.

[سورة النساء [4]: الآيات 49 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [49] انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً [50]

ثم ذكر سبحانه تزكية هؤلاء الكفرة أنفسهم مع كفرهم و تحريفهم الكتاب، ذمّا و تعييرا لهم، فقال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يعني: أهل الكتاب قالوا:

نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه، و لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى. و أصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا و قولا.

و قيل: جماعة من اليهود أتوا بأطفالهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: لا. فقالوا: و اللّه ما نحن إلّا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل، و ما عملناه بالليل كفّر عنّا بالنهار. فكذّبهم اللّه تعالى بهذه الآية.

و الأوّل مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و يدخل في الآية كلّ من زكّى نفسه و أثنى

ص: 80

عليها، و وصفها بزيادة الطاعة و الزلفى عند اللّه.

و قوله: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إيذان بأنّ تزكية اللّه هي الّتي يعتدّ بها، دون تزكية المرء نفسه، لأنّه سبحانه هو العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن و قبيح، و قد ذمّهم و زكّى المرتضين من عباده المؤمنين وَ لا يُظْلَمُونَ لا يظلم الّذين يزكّون أنفسهم بالذمّ أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حقّ فَتِيلًا أدنى ظلم و أصغره. و هو الخيط الذي في شقّ النواة، يضرب به المثل في الحقارة.

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنّهم أبناء اللّه و أزكياء عنده وَ كَفى بِهِ بزعمهم هذا، أو بالافتراء إِثْماً مُبِيناً بيّنا ظاهرا، لا يخفى كونه مأثما من بين سائر آثامهم.

[سورة النساء [4]: الآيات 51 الى 52]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [51] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [52]

روي أنّ حييّ بن أخطب و كعب بن الأشرف خرجا مع جماعة من اليهود إلى مكّة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على محاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ينقضوا العهد الّذي كان بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، و نزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكّة: إنّكم أهل الكتاب و محمّد صاحب الكتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين- أعني: الجبت و الطاغوت- و آمنوا بهما حتى نطمئنّ إليكم، ففعلوا ذلك.

ص: 81

ثم قال كعب: يا أهل مكّة ليجي ء منكم ثلاثون، و منّا ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمد، ففعلوا ذلك.

فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنّك امرئ تقرأ الكتاب و تعلم، و نحن أمّيّون لا نعلم، فأيّنا أهدى طريقا و أقرب إلى الحقّ، نحن أم محمد؟

قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم.

فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء (1)، و نسقيهم الماء، و نقري الضيف، و نفكّ العاني (2)، و نصل الرحم، و نعمر بيت ربّنا، و نطوف به، و نحن أهل الحرم. و محمد فارق دين آبائه، و قطع الرحم، و فارق الحرم. و ديننا القديم، و دين محمد الحديث.

فقال كعب: أنتم و اللّه أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد.

فقال اللّه عزّ و جلّ: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني: كعب و أصحابه يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ بالصنمين اللّذين كانا لقريش، و سجد لهما كعب. و الجبت في الأصل اسم صنم، فاستعمل في كلّ ما عبد من دون اللّه تعالى. و قيل: أصله الجبس، و هو الّذي لا خير فيه، فقلبت سينه تاء. و الطاغوت يطلق لكلّ باطل من معبود أو غيره. وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لأجلهم و فيهم. و هم أبو سفيان و أحزابه. هؤُلاءِ إشارة إليهم أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا محمد و أصحابه سَبِيلًا أي: أقواهم دينا و أشدّهم طريقا.

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم اللّه من رحمته و خذلهم وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ يلعنه اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً في الدنيا و الآخرة يمنع العذاب عنه بشفاعة و غيرها.

ص: 82


1- الكوماء: البعير الضخم السنام، و المذكّر: الأكوم، و جمعه: كوم.
2- العاني: الأسير.

[سورة النساء [4]: الآيات 53 الى 55]

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [53] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [54] فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً [55]

و لمّا حكى عن اليهود بأنّ المشركين أهدى من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، بيّن أنّ الحكم ليس لهم، إذ الملك ليس لهم، فقال: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ «أم» منقطعة. و معنى الهمزة إنكار أن يكون لهم حظّ من الملك، و جحد لما

زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير إليهم فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي: لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا ما يوازي نقيرا، و هو النقرة في ظهر النواة. و هذا هو الإغراق في بيان شحّهم، فإنّهم إذا كانوا يبخلون بالنقير و هم ملوك فما ظنّك بهم إذا كانوا فقراء أذلّاء متفاقرين؟! و «إذا» إذا وقع بعد الواو و الفاء جاز فيه الإلغاء و الإعمال، و لذلك قرئ في الشواذّ: فإذا لا يؤتوا، على النصب.

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ بل أ يحسدون الرسول و أصحابه على ما آتاهم اللّه من النبوّة و النصرة و زيادة العزّ كلّ يوم، أو العرب أو الناس جميعا، لأنّ من حسد النبوّة فكأنّما حسد الناس كلّهم، كمالهم و رشدهم. وبّخهم اللّه و أنكر عليهم الحسد كما ذمّهم على البخل، و هما شرّ الرذائل، و كأنّ بينهما تلازما و تجاذبا عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني: النبوّة و الكتاب، و النصرة

ص: 83

و الإعزاز، و جعل النبيّ الموعود منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الّذين هم أسلاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبناء عمّه الْكِتابَ و هو التوراة و الإنجيل و الزبور وَ الْحِكْمَةَ النبوّة و العلم وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و هو ملك يوسف و داود و سليمان، فلا يبعد أن يؤتيه اللّه مثل ما آتاهم. و عن مجاهد و الحسن: المراد بالملك العظيم النبوّة.

فَمِنْهُمْ أي: من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ بمحمّد، أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم عليه السّلام وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أعرض عنه و أنكر و لم يؤمن به مع علمه بصحّته.

و قيل: معناه: فمن آل إبراهيم من

آمن به، و منهم من كفر، كقوله: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (1)، و لم يكن في ذلك توهين أمر إبراهيم عليه السّلام، فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك.

وَ كَفى هؤلاء المعرضين عنه بِجَهَنَّمَ سَعِيراً نارا مسعورة موقدة يعذّبون بها، أي: إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعدّ لهم من سعير جهنّم.

و في تفسير العيّاشي بإسناده عن أبي الصبّاح الكناني قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا الصبّاح نحن قوم فرض اللّه طاعتنا، لنا الأنفال، و لنا صفو المال، و نحن الراسخون في العلم، و نحن المحسودون الّذين قال اللّه تعالى في كتابه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ» (2) الآيتان. فقال: المراد بالكتاب النبوّة، و بالحكمة الفهم و القضاء، و بالملك العظيم افتراض الطاعات.

ص: 84


1- الحديد: 26.
2- تفسير العيّاشي 1: 247 ح 155.

[سورة النساء [4]: الآيات 56 الى 57]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً [56] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [57]

و لمّا تقدّم ذكر المؤمن و الكافر عقّبه بذكر الوعد و الوعيد على الإيمان و الكفر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا جحدوا حججنا، و كذّبوا أنبياءنا، و دفعوا الآيات الدالّة على توحيدنا و صدق نبيّنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً نلقيهم فيها، نلزمهم إيّاها و نحرقهم بها. هذا كالبيان و التقرير للآية المتقدّمة. كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة اخرى، كقولك: بدّلت الخاتم قرطا (1)، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب، كما قال:

لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي: ليدوم

لهم ذوقه.

و قيل: يخلق لهم مكانه جلد آخر، و العذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها، فلا يقال: كيف يعذّب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص.

روى الكلبي عن الحسن قال: بلغنا أنّ جلودهم تنضج كلّ يوم سبعين ألف مرّة.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه إنجاز ما وعده به، و لا يمنع ما يريده

ص: 85


1- القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.

حَكِيماً لا يعاقب إلا من يستحقّ العذاب على وفق حكمته.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بكلّ ما يجب الايمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الخالصة سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ ماء الأنهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً قدّم ذكر الكفّار و وعيدهم على ذكر المؤمنين و وعدهم، لأنّ الكلام فيهم و ذكر المؤمنين بالعرض.

لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ طهرت من الحيض و النفاس، و من سائر المعائب و الأدناس، و الأخلاق الذميمة و الطباع الرديئة، و لا يفعلن ما يوحش أزواجهنّ، و لا يوجد فيهنّ ما ينفّر عنهنّ. وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا هو صفة مشتقّة من الظلّ لتأكيده، كقولهم: شمس شامس، و يوم أيوم، و ليل أليل، و داهية دهياء. و المعنى: ندخلهم فينانا (1) لا جوب فيه، أي: كثير الأفنان منبسطا متّصلا لا فرج فيه، لشدّة التفاف الأشجار دائما لا تنسخه الشمس. و هو إشارة إلى النعمة التامّة الدائمة.

[سورة النساء [4]: آية 58]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً [58]

ثم أمر اللّه سبحانه عباده بردّ الأمانة إلى أهلها، و بالحكومة على طريق العدالة، فإنّهما من معظم الأمور الّتي بها تنتظم

أمور المعاش، و بها يحصل الفوز يوم المعاد، فلذا خصّصه بين الأعمال الصالحة الّتي تثمر الوصول إلى جنّات قد مرّ نعتها آنفا، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها خطاب عامّ لكلّ أحد من المكلّفين في كلّ أمانة من أمانات اللّه الّتي هي أوامره و نواهيه، و أمانات عباده فيما

ص: 86


1- أي: ظلّا طويلا ممتدّا. و الجوب: جمع جوبة، و هي الفرجة. و الفنن: الغصن المستقيم، جمعه: أفنان.

يأتمن بعضهم بعضا فيه من المال و غيره.

قال أبو جعفر عليه السّلام: «إنّ أداء الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ من الأمانة».

و يكون من جملتها الأمر لولاة الأمر بأن يقسّموا الصدقات و الغنائم، و غير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة.

و هذا القول مرويّ عن ابن عبّاس و أبيّ بن كعب و ابن مسعود و الحسن و قتادة، و مأثور عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: الخطاب لولاة الأمر، أمرهم اللّه أن يقوموا برعاية الرعيّة، و حملهم على اتّخاذ أحكام الشريعة و الحكم بالعدل، ثم أمر الرعيّة في الآية المتأخّرة بأن يسمعوا لهم و يطيعوا، ثم أكّد ذلك بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ (1).

و روي ذلك عن زيد بن أسلم و مكحول و شهر بن حوشب. و هو اختيار الجبائي. و رواه أصحابنا عن أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصادق عليهما السّلام، قالا: «أمر اللّه سبحانه كلّ واحد من الأئمّة أن يسلّم الأمر إلى من بعده. ثم قالا: إنّ الآية الأولى لنا، و الأخرى لكم».

و عن ابن جريج أنّه خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بن عبد الدار، لمّا أغلق باب الكعبة يوم الفتح، و أبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: لو علمت أنّه رسول اللّه لم أمنعه، فلوى عليّ عليه السّلام يده و أخذه منه و فتح، فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلّى ركعتين. فلمّا خرج سأله العبّاس رضى اللّه عنه أن يعطيه المفتاح و يجمع له السقاية و السدانة، فأمره اللّه تعالى أن يردّه إليه، فأمر عليّا عليه السّلام أن يردّه، و صار ذلك سببا لإسلامه، و نزل الوحي بأنّ السدانة في أولاده أبدا.

و المعوّل على ما تقدّم، و إن صحّ القول الأخير و الرواية فيه، فقد دلّ الدليل على أنّ الأمر إذا ورد على سبب لا يجب قصره عليه، بل يكون على عمومه. و في ذكر الأمانات بصيغة الجمع المحلّى باللام الّتي تفيد العموم، كما قرّر في علم

ص: 87


1- النساء: 59.

الأصول، دلالة صريحة على العموم، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة.

وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أي: يأمركم أن تحكموا بالإنصاف و السويّة إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم. و لمّا كان الحكم وظيفة الولاة فالخطاب لهم، كما بيّنّاه بالروايات الصحيحة المأثورة عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم. و نظيره قوله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ (1).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السّلام: «سوّ بين الخصمين في لحظك و لفظك».

و ورد في الآثار أن صبيّين ارتفعا إلى الحسن بن عليّ عليه السّلام في خطّ كتباه، و حكّماه في ذلك ليحكم

أيّ الخطّين أجود، فبصر به عليّ عليه السّلام فقال: «يا بنيّ انظر كيف تحكم، فإنّ هذا حكم، و اللّه سائلك عنه يوم القيامة».

إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي: نعم شيئا يعظكم به. فتكون «ما» نكرة منصوبة موصوفة ب «يعظكم به». أو: نعم الشي ء الّذي يعظكم به. فتكون «ما» مرفوعة موصولة به. و المخصوص بالمدح محذوف على كلا التقديرين، أي: نعم ما يعظكم به ذاك، أي: المأمور به من أداء الأمانات و العدل في الحكومات.

إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً بأقوالكم و أحكامكم و ما تفعلون في الأمانات.

[سورة النساء [4]: آية 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً [59]

و لمّا بدأ سبحانه في الآية المتقدّمة بحثّ الولاة على تأدية حقوق الرعيّة،

ص: 88


1- ص: 26.

و النصفة و السويّة بين البريّة، عقّبها بحثّ الرعيّة على طاعتهم، و الاقتداء بهم، و الردّ إليهم في ترافعهم و تخاصمهم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الزموا طاعة اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و الزموا طاعة رسوله في الأمر و النهي. و إنّما أفرد الأمر بطاعة الرسول، و إن كانت طاعته طاعة اللّه سبحانه، مبالغة في البيان، و قطعا لتوهّم من توهّم أنّه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من الأوامر.

و نظيره قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (1). وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (2). وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (3).

و قيل: معناه: أطيعوا اللّه في الفرائض، و الرسول في السنن. و الأوّل أصحّ، لأنّ طاعة الرسول طاعة اللّه، و امتثال أوامره امتثال أوامر اللّه، كما دلّت عليه الآيات المذكورة.

وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ للمفسّرين (4) فيه قولان:

أحدهما: أنّ المراد منهم الأمراء. و هو مرويّ عن ابن عبّاس و أبي هريرة و ميمون بن مهران و السدّي. و اختاره الجبائي و البلخي.

و ثانيهما: أنّهم العلماء، لأنّهم الّذين يرجع إليهم في الأحكام، و يجب الرجوع إليهم عند التنازع، دون الولاة. و هو منقول عن جابر بن عبد اللّه و ابن عبّاس في رواية اخرى.

و أمّا أصحابنا رضوان اللّه عليهم فإنّهم رووا عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ أولي الأمر هم الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام، أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق، كما أوجب

ص: 89


1- النساء: 80.
2- الحشر: 7.
3- النجم: 3- 4.
4- انظر الكشّاف 1: 524، مجمع البيان 2: 64، تفسير البيضاوي 2: 94- 95.

طاعته و طاعة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لا يجوز أن يوجب اللّه سبحانه طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبتت عصمته، و علم أنّ باطنه كظاهره، و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح، و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و العلماء سواهم. و جلّ سبحانه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه، أو بالانقياد للمختلفين في القول و الفعل، لأنّه محال أن يطاع المختلفون، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه.

و ممّا يدلّ على ذلك أيضا أنّ اللّه سبحانه لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله، كما قرن طاعة رسوله بطاعته، إلّا و أولوا الأمر فوق الخلق جميعا، كما أنّ الرسول فوق أولي الأمر و فوق سائر الخلق، معصومون مأمونون عن الخطأ و القبح، كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فهذه صفة أئمّة الهدى من آل محمّد صلّى اللّه عليهم، الّذين ثبتت إمامتهم و عصمتهم، و اتّفقت الأمّة على علوّ رتبتهم و عدالتهم، و كيف يأمرنا اللّه مطلقا بطاعة من كان مثلنا في جواز صدور الخطأ و العصيان و السهو و النسيان منه؟! فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ أي: فإن اختلفتم في شي ء من أمور دينكم فَرُدُّوهُ فردّوا التنازع إِلَى اللَّهِ إلى كتاب اللّه وَ الرَّسُولِ و إلى سنّة رسوله في حياته، و إلى من أمر بالرجوع إليه بعد وفاته في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

فقد صرّح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ في التمسّك بهما الأمان من الضلال، فالردّ إلى أهل بيته- الّذين هم معادلو كتاب اللّه بعد وفاته- مثل الردّ إليه في حياته، فإنّهم الحافظون لشريعته، القائمون مقامه، و خلفاؤه لأمّته. فثبت أنّ أولي الأمر هم الأئمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فكأنّه قال سبحانه: فردّوه إلى اللّه و إلى الرسول في حياته، و أهل بيته بعد وفاته. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّ الإيمان يوجب ذلك.

ص: 90

ذلِكَ إشارة إلى الردّ إلى اللّه و الرسول و أهل بيته خَيْرٌ لكم وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: أحمد عاقبة. و تسمية العاقبة تأويلا لأنّها مآل الأمر، من: آل يؤول، إذا رجع، و المآل المرجع.

[سورة النساء [4]: الآيات 60 الى 63]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً [60] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [61] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً [62] أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [63]

و لمّا أمر اللّه سبحانه أولي الأمر بالحكم، و أمر المسلمين بطاعتهم، وصل ذلك بذكر المنافقين الّذين لا يرضون بحكم اللّه و رسوله، فقال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من التوراة و الإنجيل يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى من يحكم بالباطل، و يؤثر لأجله. سمّي بذلك لفرط طغيانه، أو لتشبّهه بالشيطان، أو لأنّ التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنّه الحامل.

ص: 91

و أكثر المفسّرين (1) قالوا: كان بين رجل من اليهود و رجل من المنافقين خصومة، فقال له اليهودي: أحاكم إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، و لا يجور في الحكم. فقال المنافق: لا بل بيني و بينك كعب بن الأشرف، لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة، فنزلت. فالمراد بالطاغوت كعب بن الأشرف، لإفراطه في الطغيان و عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و نقل عن العامّة (2) أنّ منافقا خاصم يهوديّا، فدعاه اليهوديّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دعاه

المنافق إلى كعب بن الأشرف. ثم إنّهما احتكما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فحكم لليهوديّ، فلم يرض المنافق، و قال: نتحاكم إلى عمر. فقال اليهودي لعمر: قضى لي رسول اللّه فلم يرض بقضائه، و خاصم إليك. فقال عمر للمنافق: أ كذلك؟ فقال: نعم.

فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد، و قال: هكذا أقضي لمن لم يؤمن بقضاء اللّه و رسوله، فنزلت.

و قال جبرئيل: إنّ عمر فرّق بين الحقّ و الباطل، فسمّي الفاروق.

أقول: وا عجباه من قوله: هكذا أقضي لمن لم يؤمن بقضاء اللّه، و من مخالفته حكم اللّه و حكم رسوله يوم الغدير، و عدم إيمانه به بعد أن قال مخاطبا لعليّ عليه السّلام: بخ بخ لك يا أبا الحسن، صرت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة.

و روى أصحابنا عن السيّدين الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ المعنيّ به كلّ من يتحاكم إليه ممّن يحكم بغير الحقّ. و هذا هو الحقّ.

وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ يعني به قوله سبحانه: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها (3). وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ

ص: 92


1- انظر مجمع البيان 2: 66.
2- انظر الكشّاف 1: 525، تفسير البيضاوي 2: 95.
3- البقرة: 256.

بتزيين الباطل و تسويله إيّاه صورة الحقّ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عن الحقّ.

نسب إضلالهم إلى الشيطان، فلو كان سبحانه قد أضلّهم بخلق الضلال فيهم- على ما يقوله المجبّرة- لنسب إضلالهم إلى نفسه دون الشيطان، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من الأحكام وَ إِلَى الرَّسُولِ في حكمه رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ في موقع الحال، أي: حال كونهم يعرضون عَنْكَ عن حكمك صُدُوداً إعراضا. هو مصدر أو اسم للمصدر الّذي هو الصّدّ. و الفرق بينه و بين السّدّ أنّه غير محسوس، و السّدّ محسوس.

فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ نالتهم من اللّه مُصِيبَةٌ عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من التحاكم إلى غيرك، و عدم الرضا بحكمك، و إظهار السخط به ثُمَّ جاؤُكَ فيعتذرون إليك. عطف على «أصابتهم». و قيل: على «يصدّون» و ما بينهما اعتراض. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ حال من فاعل «جاءوك» إِنْ أَرَدْنا ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً و هو التخفيف عنك، فإنّا نحتشمك برفع الصوت في مجلسك، و نقتصر على من يتوسّط لنا برضا الخصمين وَ تَوْفِيقاً و تأليفا و جمعا بينهما من دون أن يحكم بينهما، و لم نرد المخالفة لذلك، و التسخّط لحكمك.

أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الشرك و النفاق، فلا يغني عنهم الكتمان و الحلف الكاذب من العقاب فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم، أو عن قبول معذرتهم وَ عِظْهُمْ بلسانك، و كفّهم عمّا هم عليه وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي: في معنى أنفسهم من النفاق قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ من نفوسهم كلّ مبلغ، و يؤثّر فيهم على وجه لم يعيدوا بمثل ما فعلوا من التحاكم إلى الطاغوت، و غيره من آثار النفاق، بأن تخوّفهم بالقتل و الاستئصال إن ظهر منهم

ص: 93

النفاق.

و يجوز أن يكون المعنى: و قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم قولا بليغا أثره فيهم، فإنّ النصح في السرّ أنجع.

أمر اللّه تعالى نبيّه بالصفح عن ذنوبهم، و النصح لهم، و المبالغة فيه بالترغيب و الترهيب، و ذلك مقتضى شفقة الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و تعليق الظرف ب «بليغا» على معنى: بليغا في أنفسهم مؤثّرا فيها، ضعيف، لأنّ معمول الصفة لا يتقدّم على الموصوف. و القول البليغ في الأصل هو الّذي يطابق مدلوله المقصود به.

[سورة النساء [4]: آية 64]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [64]

ثم لامهم سبحانه على ردّهم أمره، و ذكر أنّ غرضه من البعثة الطاعة، فقال:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ أي: لم نرسل رسولا من رسلنا قطّ إِلَّا لِيُطاعَ أي:

الغرض من الإرسال أن يطاع الرسول، و يمتثل ما يأمر به بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بسبب إذن اللّه في طاعته، و أمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه و يتّبعوه، لأنّه مؤدّ عن اللّه، فطاعته طاعة اللّه، و معصيته معصية اللّه. و كأنّه سبحانه احتجّ بذلك على أنّ الّذي لم يرض بحكمه و إن أظهر الإسلام كان كافرا مستحقّ القتل، فإنّ تقديره: أنّ إرسال الرسول لمّا لم يكن إلّا ليطاع كان من لم يطعه و لم يرض بحكمه لم يقبل رسالته، و من كان كذلك كان كافرا مستوجب القتل.

و فيه دلالة على بطلان مذهب المجبّرة القائلين بأنّ اللّه تعالى يريد أن يعصي أنبياءه قوم و يطيعهم آخرون.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بإدخال الضرر عليها من استحقاق العقاب

ص: 94

بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين من ذلك، مقبلين عليك، مؤمنين بك. و هو خبر «أنّ»، و «إذ» متعلّق به. فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من ذلك بالتوبة و الإخلاص وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أي: و اعتذروا إليك حتّى انتصبت لهم شفيعا.

و إنّما عدل عن الخطاب و لم يقل: و استغفرت لهم، على طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تعظيما لاستغفاره، و تنبيها على أنّ شفاعة من اسمه رسول اللّه من اللّه بمكان، و سريع الاجابة البتّة، و أنّ حقّ الرسول أن يقبل اعتذار التائب و إن عظم جرمه و يشفع له، و من منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب.

لَوَجَدُوا اللَّهَ أي: لعلموه تَوَّاباً رَحِيماً قابلا لتوبتهم، متفضّلا عليهم بالرحمة. و إن فسّر «وجد» ب «صادف» كان «توّابا» حالا، و «رحيما» بدلا منه، أو حالا من الضمير فيه.

و في الآية دلالة على أنّ مرتكب الكبيرة إذا استغفر و تاب يقبل اللّه توبته، و لا يعذّبه بها.

[سورة النساء [4]: آية 65]

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [65]

ثم بيّن سبحانه أنّ الإيمان به إنّما هو بالتزام حكم رسوله و الرضا به، فقال:

فَلا وَ رَبِّكَ أي: فو ربّك. و «لا» مزيدة لتأكيد القسم، لا لتظاهر «لا» في جوابه، أعني: قوله: لا يُؤْمِنُونَ لأنّها تزاد أيضا في الإثبات، كقوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1). حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي: فيما اختلف بينهم و اختلط، و منه الشجر، لتداخل أغصانه و أجزائه ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ضيقا مِمَّا

ص: 95


1- البلد: 1.

قَضَيْتَ ممّا حكمت به، أو من حكمك، أو شكّا من أجله، فإنّ الشاكّ في ضيق من أمره وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً و ينقادوا لك، و يذعنوا لقضائك. و «تسليما» تأكيد للفعل، أي: انقيادا بظاهرهم و باطنهم.

قيل: نزلت في شأن الزبير و حاطب بن أبي بلتعة، فإنّهما اختصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شراج من الحرّة كانا يسقيان بها النخل- و الشرج: المسيل الواسع، و الجمع الشراج و الشروج، و الحرّة (1) بضمّ الحاء: السحاب الكثير المطر- فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب حاطب و قال: أن كان ابن عمّتك؟ فتلوّن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر- و هو المسنّاة- و استوف حقّك، ثم أرسله إلى جارك.

كان قد أشار اوّلا على الزبير برأي فيه السعة له و لخصمه، فلمّا أغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استوعب للزبير حقّه في صريح الحكم.

قال الراوي: ثم خرجا فمرّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة؟

قال: قضى لابن عمّته، و لوى شدقه. ففطن لذلك يهوديّ كان مع المقداد فقال: قاتل اللّه هؤلاء يشهدون أنّه رسول اللّه ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم، و ايم اللّه لقد أذنبنا مرّة واحدة في حياة موسى عليه السّلام فدعانا موسى إلى التوبة فقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربّنا حتّى رضي عنّا.

فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما و اللّه إنّ اللّه ليعلم منّي الصدق، و لو أمرني أن أقتل نفسي لفعلت. فأنزل اللّه تعالى في شأن حاطب بن أبي بلتعة وليّه شدقه

ص: 96


1- ما ذكره المفسّر «قدّس سرّه» في معنى الحرّة لم نجده في مصادر اللغة، و لعلّه من سهو قلمه الشريف، و الحرّة- بفتح الحاء- أرض ذات حجارة سود كأنّها أحرقت بالنار، و جمعها: الحرّات. و الشرج: مسيل الماء من الحرّة إلى السهل، و جمعه: الشراج. انظر لسان العرب 4: 179- 180، و ج 2: 306.

هذه الآية و الّتي بعدها. و قيل: هي أيضا في شأن المنافق و اليهوديّ.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لو أنّ قوما عبدوا اللّه و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا رمضان و حجّوا البيت، ثم قالوا لشي ء صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألّا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم، لكانوا مشركين، ثمّ تلا هذه الآية».

[سورة النساء [4]: الآيات 66 الى 68]

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً [66] وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً [67] وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً [68]

و لمّا بيّن اللّه أنّ إيمانهم لا يتمّ إلّا بأن يسلّموا تسليما، نبّه على قصور أكثرهم، و وهن إسلامهم، و ضعف عقيدتهم، فقال توبيخا لهم: وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أوجبنا على هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ تعرّضوا بها للقتل بالجهاد، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل. و «أن» مصدريّة، أو مفسّرة ل «أنّا كتبنا» فإنّه في معنى: أمرنا. أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مثل خروج بني إسرائيل إلى التّيه حين استتيبوا من عبادة العجل.

و قرأ أبو عمرو و يعقوب: أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك، أو اخرجوا بضمّ الواو، للإتباع، و التشبيه بواو الجمع في نحو: وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ (1).

ص: 97


1- البقرة: 237.

و قرأ عاصم و حمزة بكسرهما على الأصل. و الباقون بضمّهما، إجراء لهما مجرى الهمزة المتّصلة بالفعل.

ما فَعَلُوهُ

الضمير للمكتوب، و دلّ عليه «كتبنا»، أو لأحد مصدري الفعلين، و هما القتل و الخروج، أي: ما فعلوا ما كتب عليهم أو القتل أو الخروج إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ إلّا ناس قليل، و هم المخلصون، مثل ثابت بن قيس، و نظائره من المؤمنين الّذين رسخ الإيمان في قلوبهم. و قال النبيّ في شأنهم: «إنّ من أمّتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي».

و «قليل» بدل من ضمير «فعلوه».

و قرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء، أو على: فعلا قليلا.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي: ما يؤمرون به من متابعة الرسول و مطاوعته طوعا و رغبة و الرضا بحكمه لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً في دينهم، لأنّه أشدّ لتحصيل العلم و نفي الشكّ. أو تثبيتا لثواب أعمالهم، و نصبه على التمييز. أو أشدّ بصيرة في أمر الدين، كنّي به عن البصيرة بهذا اللفظ، لأنّ من كان على بصيرة من أمر دينه كان أدعى له إلى الثبات عليه، و كان هو أقوى في اعتقاد الحقّ و أدوم عليه ممّن لم يكن على بصيرة منه.

وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً لا يبلغ أحد مبدأه، و لا يعرف منتهاه، و لا يدرك قصواه. و إنّما قال: «من لدنّا» تأكيدا بأنه لا يقدر عليه غيره، و ليدلّ على الاختصاص. و هذا جواب لسؤال مقدّر، كأنّه قيل: و ما يكون لهم بعد التثبيت؟ فقال: و إذا لو تثبّتوا لآتيناهم، لأنّ «إذا» جواب و جزاء.

وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: وفّقناهم ليزدادوا الخيرات، و يثبتوا معها

ص: 98

على الطاعات، أي: هديناهم صراطا يصلون بسلوكه جناب القدس، و يفتح عليهم أبواب الغيب.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم».

[سورة النساء [4]: الآيات 69 الى 70]

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [69] ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً [70]

ثم بيّن سبحانه حال المطيعين، فقال ترغيبا لهم في طاعته و طاعة رسوله:

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره و نهيه وَ الرَّسُولَ باتّباع شريعته، و الرضا بحكمه فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: رفقاء أكرم الخلائق و أعظمهم قدرا عند اللّه في أعلى علّيّين مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ بيان للّذين، أو حال منه، أو من ضميره.

قسّمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم و العمل، و حثّ كافّة الناس على أن لا يتأخّروا عنهم.

و هم:

الأنبياء الفائزون بكمال العلم و العمل، المتجاوزون حدّ الكمال إلى درجة التكميل.

ثم الصدّيقون الّذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج و الآيات، و أخرى بمعارج التصفية و الرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطّلعوا على الأشياء، و أخبروا عنها على ما هي عليها.

ثم الشهداء الّذين أدّى بهم الحرص على الطاعة و الجدّ في إظهار الحقّ، حتى

ص: 99

بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة اللّه تعالى.

ثم الصالحون الّذين صرفوا أعمارهم في طاعته، و أموالهم في مرضاته.

و يمكن أن يقال هاهنا: إنّ المنعم عليهم هم العارفون باللّه. و هؤلاء إمّا أن يكونوا بالغين درجة العيان، أو واقفين في مقام الاستدلال و البرهان. و الأوّلون إمّا أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونون كمن يرى الشي ء قريبا، و هم الأنبياء، أو لا، فيكونون كمن يرى الشي ء من بعيد، و هم الصدّيقون. و الآخرون إمّا أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة، و هم العلماء الراسخون في العلم، الّذين هم شهداء اللّه تعالى في أرضه. و إمّا أن يكون بأمارات و إقناعات تطمئنّ إليها نفوسهم، و هم الصالحون.

و وجه تسمية النبيّين بهذا الاسم أنّهم أخبروا عن اللّه، و رفع قدرهم، مشتقّ من: نبّأ، بمعنى: أخبر، أو نبا ينبو، بمعنى: ارتفع.

و تسمية الصدّيقين به أنّهم المصدّقون بكلّ ما أمر اللّه به و بأنبيائه، لا يدخلهم في ذلك شكّ. و يؤيّده قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ (1). أو أنّهم صدقوا في أقوالهم و أفعالهم.

و تسمية الشهداء به أنّهم شاهدون الحقّ على جهة الإخلاص، و مقرّون به، و داعون إليه، و باذلون جهدهم في إظهاره حتى قتلوا. أو أنّهم شهداء الآخرة على الناس، و إنّما يستشهدهم اللّه لفضلهم و شرفهم، فهم عدول الآخرة. أو أنّ الحور العين يحضرن عندهم وقت القتل، كما ورد في الرواية (2). أو أن الملائكة يحضرون عندهم، و يبشّرونهم بمراتبهم العليّة في الجنّة.

و تسمية الصالحين به أنّهم التزموا الصلاح و الرشاد، فصلحت حالهم،

ص: 100


1- الحديد: 19.
2- ورد بلفظ آخر يشبه ما ذكره في المتن، راجع بحار الأنوار 27: 188.

و استقامت طريقتهم.

روى أبو بصير عن أبي عبداللّه عليه السّلام أنّه قال: «يا أبا محمد لقد ذكركم اللّه في كتابه، ثم تلا هذه الآية، و قال: فالنبيّ رسول اللّه، و نحن الصدّيقون و الشهداء، و أنتم الصالحون، فتسمّوا بالصلاح كما سمّاكم اللّه تعالى».

وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجّب، كأنّه قيل: و ما أحسن أولئك رفيقا. و نصب «رفيقا» على التمييز أو الحال. و لم يجمع، لأنّه يقال للواحد و الجمع كالصديق، أو لأنّه أريد: و حسن كلّ واحد منهم رفيقا.

ذلِكَ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر، و مزيد الهداية، و مرافقة المنعم عليهم. أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم و مزيّتهم الْفَضْلُ صفة ذلك مِنَ اللَّهِ خبره، أو «الفضل» خبره و «من اللّه» حال، و العامل فيه معنى الإشارة وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بجزاء من أطاعه، أو بمقادير الفضل و استحقاق أهله.

روي أنّ ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان شديد الحبّ لرسول اللّه، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم و قد تغيّر لونه و نحل جسمه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال: يا رسول اللّه ما بي من مرض و لا وجع، غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك و استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أنّي لا أراك هناك، لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيّين، و أنّي إن أدخلت الجنّة كنت في منزل أدنى من منزلك، و إن لم أدخل الجنّة فذاك حين لا أراك أبدا. فنزلت هذه الآية. ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه و أبويه و أهله و ولده و الناس أجمعين».

[سورة النساء [4]: آية 71]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً [71]

ثم أمر سبحانه المؤمنين بمجاهدة الكفّار، و التأهّب لقتالهم، ليصعدوا

ص: 101

درجات النبيّين و الصدّيقين و الشهداء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر و الحذر بمعنى، كالإثر و الأثر، يقال: أخذ حذره إذا تيقّظ و تحفّظ من المخوف، كأنّه جعل الحذر

آلته الّتي يحفظ بها نفسه. و المعنى: تيقّظوا و استعدّوا للأعداء.

و قيل: الحذر ما يحذر به، كالحزم و السلاح. و يؤيّده

قول الباقر عليه السّلام في معناه: «خذوا أسلحتكم».

فسمّى الأسلحة حذرا، لأنّه بها يتّقى المحذور.

و هذا القول أصلح، لأنّه أوفق بمقائيس كلام العرب، و يكون من باب حذف المضاف، تقديره: خذوا آلات حذركم.

فَانْفِرُوا فاخرجوا إلى الجهاد ثُباتٍ جماعات متفرّقة. جمع ثبة، من:

ثبيت على فلان تثبية، إذا ذكرت متفرّق محاسنه. و يجمع أيضا على ثبين، جبرا لما حذف من عجزه. و المعنى: اخرجوا فرقة بعد فرقة، فرقة في جهة، و فرقة في أخرى. أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين كوكبة (1) واحدة في جهة واحدة، إذا أوجب الرأي ذلك.

و روي عن الباقر عليه السّلام أنّ المراد بالثبات السرايا، و بالجميع العسكر.

و الآية و إن نزلت في الحرب، لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلّها كيف ما أمكن قبل الفوات.

[سورة النساء [4]: الآيات 72 الى 73]

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً [72] وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [73]

و لمّا حثّ اللّه تعالى على الجهاد بيّن حال المتخلّفين عنه بقوله:وَ إِنَّ مِنْكُمْ

ص: 102


1- في هامش النسخة الخطية: «الكوكب جماعة من الناس، و اسم النجم. منه».

لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ ليتثاقلنّ و ليتخلّفنّ عن الجهاد. الخطاب لعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، المؤمنين منهم و المنافقين، أو للمؤمنين خاصّة. و المعنى: من عدادكم و دخلائكم، و المبطّئون منافقوهم تثاقلوا و تخلّفوا عن الجهاد، من: بطّأ بمعنى: أبطأ، و هو لازم، أو ثبّطوا غيرهم كما ثبّط ابن أبيّ ناسا يوم أحد، من: بطّأ، منقولا من بطؤ، كثقّل من ثقل.

و اللام الأولى للابتداء، دخلت اسم «إنّ» للفصل بالخبر. و الثانية جواب قسم محذوف، و القسم بجوابه صلة «من»، و الراجع إليه ما استكن في «ليبطّئنّ».

و التقدير: و إنّ منكم لمن اقسم باللّه ليبطّئنّ.

فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كقتل و هزيمة قالَ أي: المبطّئ قول الشامت المسرور بتخلّفه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا في القتال، فيصيبني ما أصابهم.

وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كفتح أو غنيمة لَيَقُولَنَ أكّده تنبيها على فرط تحسّرهم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل- و هو «ليقولنّ»- و مفعوله، أعني: قوله: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي:

أصيب غنيمة و آخذ حظّا وافرا منها. و فائدة الاعتراض التنبيه على ضعف عقيدتهم، و أنّ قولهم هذا قول من لا مواصلة بينه و بين المؤمنين، و إنّما يريد أن يكون معكم لمجرّد المال.

قال الصادق عليه السّلام: «لو أنّ أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم اللّه علينا إذ لم نكن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكانوا بذلك مشركين».

و يحتمل أن يكون قوله: «كأن لم تكن» حالا من الضمير في «ليقولنّ» أو داخلا في المقول، أي: يقول المبطّئ لمن يبطّئه من المنافقين و ضعفة المسلمين تضريبا و حسدا: كأن لم تكن بينكم و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مودّة حيث لم يستعن بكم

ص: 103

فتفوزوا بما فاز، يا ليتني كنت معهم. و «كأن» مخفّفة من الثقيلة، اسمه ضمير الشأن المحذوف.

و قرأ ابن كثير و حفص عن عاصم و رويس عن يعقوب: تكن بالتاء، لتأنيث لفظ المودّة.

و المنادى في «يا ليتني» محذوف، أي: يا قوم. و قيل: «يا» أطلق للتنبيه على الاتّساع. و نصب «فأفوز» على جواب التمنّي.

[سورة النساء [4]: آية 74]

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [74]

و لمّا أخبر تعالى في الآية أنّ قوما يتأخّرون عن القتال، و يثبّطون المؤمنين عنه، حثّ بعدها على القتال، فقال: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي: يبيعون الدنيا بالآخرة، و يستبدلونها بها. و المعنى: إن بطّأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة. أو الّذين يشترونها و يختارونها على الآخرة، و هم المبطّؤن. و المعنى: حثّهم على ترك ما حكي عنهم.

وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و من يجاهد في طريق دين اللّه، بأن يبذل ماله و نفسه ابتغاء مرضاته فَيُقْتَلْ أي: يستشهد أَوْ يَغْلِبْ أي: يظفر بالعدوّ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي: وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب، ترغيبا في القتال، و تكذيبا لقولهم: قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا.

و هذا تنبيه على أنّ المجاهد يجب أن يثبت في المعركة حتى يعزّ نفسه بالشهادة، أو الدين بالظفر و الغلبة، و أن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحقّ و إعزاز الدين، فإنّ للمقاتل في سبيل اللّه ظافرا أو مظفورا به إيتاء الأجر

ص: 104

العظيم الّذي هو جنّات النعيم.

[سورة النساء [4]: الآيات 75 الى 76]

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً [75] الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [76]

ثم حثّ اللّه سبحانه على تخليص المستضعفين بالجهاد، فقال: وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جملة حاليّة، و العامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل.

و المعنى: أيّ عذر لكم حال كونكم لا تجاهدون في طاعة اللّه و نصرة دينه و إعزازه و إعلاء كلمته، مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال.

وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على «اللّه»، أي: و في سبيل المستضعفين، و هو تخليصهم عن الأسر، و صونهم عن أذيّة العدوّ. أو على «سبيل» بحذف المضاف، أي: و في خلاص المستضعفين. و يجوز نصبه على الاختصاص، فإنّ سبيل اللّه يعمّ أبواب الخير، و تخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفّار أعظمها و أخصّها.

مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ بيان للمستضعفين، و هم الّذين أسلموا بمكّة فبقوا فيها، لصدّ المشركين إيّاهم عن الهجرة، أو لضعفهم عنها مستذلّين يلقون منهم الأذى، فكانوا يدعون اللّه بالخلاص و يستنصرونه فيها. و كانوا قد أشركوا صبيانهم

ص: 105

في دعائهم، مبالغة في الحثّ على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، و استنزالا لرحمة اللّه، و استدفاعا للبليّة بسبب مشاركة دعاء صغارهم الّذين لم يذنبوا، كما فعل قوم يونس عليه السّلام، و كما وردت السنّة بإخراجهم في الاستسقاء. و عن ابن عبّاس: أنا و أمّي من المستضعفين من النساء و الولدان.

و قيل: المراد بالولدان العبيد و الإماء. و هو جمع وليد، بمعنى الولد و الرقّ.

الَّذِينَ يَقُولُونَ في دعائهم رَبَّنا أَخْرِجْنا سهّل لنا الخروج مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها تذكير الظالم و إن كان وصفا للقرية لأنّه مسند إلى أهلها، فأعطي إعراب القرية. وَ اجْعَلْ لَنا بألطافك و توفيقك مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمرنا بالكفاية، حتّى ينقذنا من أيدي

الظلمة وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على من ظلمنا. فاستجاب اللّه دعاءهم، بأن يسّر لبعضهم الخروج إلى المدينة، و جعل لمن بقي منهم خير وليّ و ناصر- هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- حين فتح مكّة على نبيّه، فتولّاهم أحسن التولّي، و نصرهم أعزّ النصر. ثم استعمل عليهم عتّاب بن أسيد، فحملهم و نصرهم، حتى صاروا أعزّ أهلها.

ثم شجّع المجاهدين و رغّبهم في الجهاد، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في نصرة دين اللّه و إعلاء كلمته فيما يصلون به إلى اللّه وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ في طاعة الشيطان، و فيما يبلغ بهم إليه.

و لمّا ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه بمقاتلة أولياء الشيطان، فقال: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ المراد جميع الكفّار. ثم شجّعهم بقوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي: كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد اللّه تعالى للكافرين ضعيف لا يعتدّ به، فلا تخافوا أولياءه، فإنّ اعتمادهم على أضعف شي ء و أوهنه. و في ذكر «كان» دلالة على أنّ الضعف لازم لكيد الشيطان في جميع الأحوال و الأوقات، ما مضى منها و ما يستقبل، و ليس هو عارضا في حال دون حال.

ص: 106

[سورة النساء [4]: الآيات 77 الى 78]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [77] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ

يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [78]

روي أن عبد الرحمان بن عوف الزهري و المقداد بن الأسود الكندي و قدامة ابن مظعون الجمحي و سعد بن أبي وقّاص كانوا يلقون من المشركين أذى شديدا، و هم بمكّة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، فيشكون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون: يا رسول اللّه ائذن لنا في قتال هؤلاء، فإنّهم قد آذونا. فقال لهم رسول اللّه: التزموا الصبر و تحمّل الأذيّة حتى يأذن اللّه لي في القتال. فلمّا أمروا بالقتال و المسير إلى بدر شقّ على بعضهم، فنزلت: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ

أي: عن القتال وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و اشتغلوا بالصلاة و أداء الزكاة و سائر الطاعات فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ يخشون الكفّار أن يقتلوهم كَخَشْيَةِ اللَّهِ كما يخشون اللّه أن ينزل عليهم بأسه.

و «إذا» للمفاجأة جواب «لمّا»، و «فريق» مبتدأ، «منهم» صفته، «يخشون»

ص: 107

خبره، «كخشية اللّه» من إضافة المصدر إلى المفعول، وقع موقع المصدر أو موقع الحال من فاعل «يخشون» على معنى: يخشون الناس مثل أهل خشية اللّه منه، أي:

مشبّهين أهل خشية اللّه.

أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً من أهل خشية اللّه. عطف على «كخشية اللّه» إن جعلته حالا، و إن جعلته مصدرا فلا، لأنّ أفعل التفضيل إنّما يكون من جنسه إذا كان ما بعده مجرورا، و أمّا إذا نصب لم يكن من جنسه، فلا تقول: خشي فلان أشدّ خشية، بنصب خشية، و أنت تريد المصدر، بل تقول:

أشدّ خشية بالجرّ، بل هو معطوف على اسم اللّه تعالى، أي: كخشية اللّه أو كخشية أشدّ خشية منه على الفرض.

و لفظ «أو» هنا لإبهام الأمر على المخاطب. و قيل: بمعنى الواو. و نظير ذلك قوله تعالى: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (1).

وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا هلّا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ استزادة في مدّة الكفّ عن القتال إلى وقت آخر، حذرا من الموت. و يحتمل أنّهم ما تفوّهوا به، و لكن قالوه في أنفسهم، فحكى اللّه تعالى عنهم.

ثم أعلمهم أنّ ما يستمتع به من منافع الدنيا قليل، فقال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ سريع التقضّي وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا و لا تنقصون أدنى شي ء من أجوركم على مشاقّ المقاتلة، فلا ترغبوا عنها، أو من آجالكم المقدّرة.

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: و لا يظلمون، لتقدّم الغيبة.

أَيْنَما تَكُونُوا من الأماكن يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يلحقكم الموت و ينزل بكم وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ في قصور أو حصون مُشَيَّدَةٍ مرتفعة، أو مطوّلة في ارتفاع. و قيل: في بروج السماء. و البروج في الأصل بيوت على طرف القصر، من:

تبرّجت المرأة، إذا ظهرت.

ص: 108


1- البقرة: 74.

روي أنّ اليهود قالوا: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها و غلت أسعارها، فحكى اللّه تعالى عنهم بقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ كما تقع الحسنة و السيّئة على الطاعة و المعصية، تقعان على النعمة و البليّة، قال اللّه تعالى: وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (1). و هما المراد في الآية.

و المعنى: إن تصبهم نعمة- كخصب- نسبها اليهود إلى اللّه،

و إن تصبهم بليّة- كقحط- نسبوها إليك، و قالوا: هي من عندك و بشؤمك، كما حكى عن قوم موسى:

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ (2). و عن قوم صالح: اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ (3). فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يبسطها و يقبضها حسب إرادته، ليبتلي بذلك عباده ليعرضهم لثوابه، بالشكر عند العطيّة و الصبر على البليّة.

فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يوعظون به، و هو القرآن، فإنّهم لو فهموه و تدبّروا معانيه لعلموا أنّ اللّه هو الباسط القابض، و أفعاله كلّها صادرة عن حكمة و صواب. أو لا يفقهون حديثا مّا، كبهائم لا أفهام لها. أو لا يفقهون أمرا حادثا من صروف الزمان فيتفكّروا فيها، فيعلموا أنّ القابض و الباسط هو اللّه.

و قيل: هؤلاء هم المنافقون، مثل عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه الّذين تخلّفوا عن القتال يوم أحد، و قالوا للّذين قتلوا في الجهاد: لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا.

فعلى هذا معناه: إن يصبهم ظفر و غنيمة قالوا: هذا من عند اللّه، و إن يصبهم مكروه و هزيمة قالوا: هذا من عندك و بسوء تدبيرك.

ص: 109


1- الأعراف: 168.
2- الأعراف: 131.
3- النمل: 47.

و هذا القول هو المرويّ عن ابن عبّاس و قتادة. و الأوّل ذكره البلخي و الجبائي، و روي عن الحسن و ابن زيد. و قيل: هو عامّ في اليهود و المنافقين. و هو الأصحّ.

[سورة النساء [4]: آية 79]

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [79]

ثم قال تعالى خطابا عامّا: ما أَصابَكَ يا إنسان مِنْ حَسَنَةٍ من نعمة

و إحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضّلا منه و امتنانا، فإنّ كلّ ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود، فكيف يقتضي غيره. و لذلك

قال عليه السّلام: «ما يدخل أحد الجنّة إلّا برحمة اللّه. قيل: و لا أنت. قال: و لا أنا».

وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ من بليّة و مصيبة فَمِنْ نَفْسِكَ لأنّك السبب فيها بما اكتسبت من الذنوب. و مثله: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (1). و هو لا ينافي قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإنّ الكلّ منه إيجادا و إيصالا، غير أنّ الحسنة إحسان و امتنان، و السيّئة مجازاة و انتقام، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من خدش بعود، و لا اختلاج عر؟؟، و لا عثرة قدم، إلّا بذنب، و ما يعفو اللّه عنه أكثر».

و كما قالت عائشة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من مسلم يصيبه وصب (2) و لا نصب، حتى الشوكة يشاكها، و حتى انقطاع شسع نعله، إلّا بذنب، و ما يعفو اللّه أكثر».

وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ جميعا رَسُولًا لست برسول للعرب وحدهم كما

ص: 110


1- الشورى: 30.
2- الوصب: المرض و الوجع الدائم، و قد يطلق على التعب و الفتور في البدن. و النصب: العناء و المشقّة.

زعم بعضهم. و «رسولا» حال قصد بها التأكيد إن علّق الجارّ بالفعل، و التعميم إن علّق بالحال، أي: رسولا للناس من العرب و العجم جميعا، كقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ و يجوز نصبه على المصدر بغير باب فعله.

و وجه اتّصاله بما تقدّم: أنّ المراد منه أنّ ما أصابهم فبشؤم ذنوبهم، و إنّما أنت رسول طاعتك طاعة اللّه و معصيتك معصية اللّه، فلا يتطيّر بك، لأنّ الخير كلّه فيك، لعموم رسالتك على الخلق.

وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً و حسبك اللّه شاهدا لك على رسالتك بنصب المعجزات. و قيل: معناه شهيدا على عباده بما يعملون و يقولون من خير و شرّ. فعلى هذا يكون متضمّنا للترغيب في الخير و التحذير عن الشرّ.

[سورة النساء [4]: الآيات 80 الى 81]

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [80] وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً [81]

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من أحبّني فقد أحبّ اللّه، و من أطاعني فقد أطاع اللّه».

فقال المنافقون: لقد قارف (1) الشرك و هو ينهى عنه، ما يريد إلّا أن نتّخذه ربّا، كما اتّخذت النصارى عيسى، فنزلت: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنّه إنّما يأمر بما أمر اللّه، و ينهى عمّا نهى اللّه عنه، فهو يبلّغ عن أوامر اللّه و نواهيه، فكانت طاعته في امتثال ما أمر به و الانتهاء عمّا نهى عنه طاعة للّه وَ مَنْ تَوَلَّى عن اللّه و أعرض

ص: 111


1- قارف مقارفة، أي: قارب.

عنه فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً عن التولّي حتّى يسلّموا و ينقادوا، أو تحفظ عليهم أعمالهم و تحاسبهم عليها، إنّما عليك البلاغ و علينا الحساب. و هو حال من الكاف.

وَ يَقُولُونَ يعني: يقول المنافقون إذا أمرتهم بأمر: طاعَةٌ أي: أمرنا طاعة، أو منّا طاعة. و أصلها النصب على المصدر، و رفعها للدلالة على الثبات فَإِذا بَرَزُوا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ دبّرت و قرّرت ليلا طائِفَةٌ

مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي: زوّرت خلاف ما قلت لهم و أمرت به، أو خلاف ما قالت لك من القبول و لزوم الطاعة، لأنّهم نافقوا بما قالوا: و أبطنوا خلاف ما أظهروا.

و التبييت إمّا من البيتوتة، لأنّ الأمور تدبّر بالليل، يقال: هذا أمر بيّت بليل.

أو من أبيات الشعر، لأنّ الشاعر يدبّرها و يسوّيها. أو من البيت المبنيّ، لأنّه بالتدبير يدبّر فيسوّى.

و قرأ حمزة و أبو عمرو: بيّت طائفة بالإدغام، لقربهما في المخرج.

ثمّ وعدهم سبحانه بقوله: وَ اللَّهُ يَكْتُبُ يثبت في صحائفهم ما يُبَيِّتُونَ للمجازاة، أو في جملة ما يوحى إليك لتطّلع على أسرارهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قلّل المبالاة بهم، أو تجاف عنهم إلى أن يستقرّ أمر الإسلام وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و فوّض أمرك إليه، وثق به في جميع الأمور، سيّما في شأنهم وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكفيك مضرّتهم، و ينتقم لك منهم.

[سورة النساء [4]: آية 82]

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [82]

و لمّا بيّن إرسال النبيّ أمر بالتدبّر في معجزته و هو القرآن، ليعلموا أنّه مبعوث من عنده، فقال: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتأمّلون في معانيه، و يتبصّرون ما فيه،

ص: 112

لينزجروا عن النفاق و الكفر، و يطيعوا أمر الرسول. و أصل التدبّر النظر في أدبار الأمور، و التأمّل فيها، ثم استعمل في كلّ تأمّل.

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أي: و لو كان من كلام البشر كما زعم البشر لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً لكان الكثير منه مختلفا متناقضا متفاوتا نظمه و معانيه، و كان بعضه فصيحا، و بعضه ركيكا، و بعضه معجزا يصعب معارضته، و بعضه غير معجز يسهل معارضته، و بعضه أخبارا مستقبلة أو ماضية لا يوافق المخبر عنه، و بعضه موافقا للعقل في بعض أحكامه دون بعض، على ما دلّ عليه الاستقراء في تصانيفهم، لنقصان القوّة البشريّة. فلمّا تناسب كلّه من حيث توافق النظم، و صحّة المعاني، و صدق الأخبار، و اشتماله على أنواع الحكم من أمر بحسن و نهي عن قبيح، و على الدعاء إلى مكارم الأخلاق، و الحثّ على الخير و الزهد، مع فصاحة اللفظ على وجه فاق على جميع قوى الفصحاء و البلغاء، علم أنّه ليس إلّا من جهة اللّه تعالى القادر على ما لا يقدر عليه غيره، و العالم بما لا يعلمه أحد سواه.

و اعلم أنّ الاختلاف في الكلام يكون على ثلاثة اضرب: اختلاف تناقض، و اختلاف تفاوت، و اختلاف تلاوة. و اختلاف التفاوت يكون في الحسن و القبح، و الخطأ و الصواب، و نحو ذلك ممّا تدعو إليه الحكمة و تصرف عنه. و هذا القسم لا يوجد في القرآن البتّة، كما لا يوجد اختلاف التناقض، كما قال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ (1). و أمّا اختلاف التلاوة فهو ما يتلاوم في الجنس، كاختلاف وجوه القرآن، و اختلاف مقادير الآيات و السور، و اختلاف الأحكام في الناسخ و المنسوخ، و ذلك موجود في القرآن، و كلّه حقّ و صواب.

و هذه الآية تضمّنت الدلالة على معان كثيرة:

منها: بطلان التقليد، و صحّة الاستدلال في أصول الدين، لأنّه سبحانه دعا

ص: 113


1- فصّلت: 42.

العباد إلى التفكّر و التدبّر، و حثّ على ذلك.

و منها: فساد قول من زعم من الحشويّة و غيرهم أنّ القرآن كلّه لا يفهم معناه إلّا بتفسير الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه حثّ على

تدبّره ليعرفوه.

و منها: أنّه لو كان من غيره لكان على وزان كلام عباده، و لوجدوا الاختلاف المذكور فيه.

و منها: أنّ تناقض كلام المخلوق لا يكون من فعل اللّه تعالى، لأنّه لو كان من فعله لكان فاعلا للقبيح، و هو منزّه عن ذلك.

[سورة النساء [4]: آية 83]

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً [83]

روي أنّ قوما من ضعفة الإسلام أو أهل النفاق إذا بلغهم خبر من سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أخبرهم الرسول بما أوحي إليه من أمن و سلامة، و وعد بالظفر، أو تخويف من الكفر و ضرر، أفشوه لعدم حزمهم، و كان إفشاؤهم مفسدة، فنزلت:

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي: أمر ممّا يوجب الأمن أو الخوف أَذاعُوا بِهِ أفشوه من غير أن يعلموا صحّته أو صلاح إذاعته. و الباء مزيدة، أو لتضمّن الإذاعة معنى التحدّث.

وَ لَوْ رَدُّوهُ و لو سكتوا عنه وردّوا ذلك الخبر إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أي: إلى رأيه و رأي أهل العلم و العفّة الّذين هم ملازمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بصراء بالأمور أو أمراء السرايا و الولاة. و عن الباقر عليه السّلام هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام.

ص: 114

و أنكر أبو علي الجبائي الوجه الأوّل، و قال: إنّما يطلق أولوا الأمر على من له الأمر على الناس لَعَلِمَهُ أي: لعلم صحّته الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يستخرجون تدابيره بتجاربهم و أنظارهم. و ضمير «منهم» راجع إلى أولي الأمر.

و قيل:

كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها، فتعود هذه الإذاعة وبالا على المسلمين.

و على هذا معناه: لو ردّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم حتّى يسمعوه منهم، و تعرّفوا أنّه هل هو ممّا يذاع، لعلم ذلك من هؤلاء الّذين يستنبطونه من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أولي الأمر، أي: يستخرجون علمه من جهتهم.

و أصل الاستنباط إخراج النبط، و هو الماء يخرج من البئر أوّل ما يحفر، و إنباط الماء و استنباطه إخراجه و استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني و التدابير فيما يعضل.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ و لو لا وصول موادّ الألطاف من جهة اللّه عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإرسال الرسل و إنزال الكتاب.

قيل: فضل اللّه الإسلام، و رحمته القرآن. و قيل: فضل اللّه النبيّ، و رحمته القرآن. و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: فضل اللّه و رحمته النبيّ و عليّ عليهما السّلام.

لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ بما يلقي إليكم من الوساوس الموجبة لضعف اليقين و البصيرة، أو بالكفر و الضلال إِلَّا قَلِيلًا منكم، و هم أهل البصائر النافذة، و ذوو الصدق و اليقين، الّذين تفضّل اللّه تعالى عليهم بعقل راجح اهتدوا به إلى الحقّ و الصواب، و عصمهم عن متابعة الشيطان بغير رسول و كتاب، مثل قسّ بن ساعدة، و زيد بن عمرو بن نفيل، و ورقة بن نوفل، و البراء الشني، و أبي ذرّ الغفاري، و نظرائهم من طلّاب الدين أسلموا باللّه و وحّدوه قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو إلّا اتّباعا قليلا على الندور.

ص: 115

[سورة النساء [4]: آية 84]

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى

اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً [84]

و لمّا تقدّم في الآي تثبيطهم عن القتال حثّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال خطابا له: إن تثبّطوا و تركوك وحدك فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ إلّا فعل نفسك، لا يضرّك مخالفتهم و تقاعدهم، فتقدّم إلى الجهاد و إن لم يساعدك أحد، فإنّ اللّه سبحانه هو ناصرك البتّة، سواء كنت منفردا أو مع من حولك من الجنود.

روي أنّ أبا سفيان يوم أحد لمّا رجع واعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موسم بدر الصغرى، فكرهه بعضهم، و تثاقلوا حين بلغ الميعاد، فنزلت هذه الآية. فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما معه إلّا سبعون، و لم يلتفت إلى أحد، و لو لم يتّبعه أحد لخرج وحده.

وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي: على القتال، إذ ما عليك في شأنهم إلّا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: قريشا، و قد كفّ بأسهم، بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجع أبو سفيان مع أصحابه، و قال: هذا عام مجدب، و انصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمن معه سالمين وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا منهم. و هو تقريع و تهديد لمن لم يتّبعه.

[سورة النساء [4]: آية 85]

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً [85]

و لمّا أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتحريض المؤمنين على القتال الّذي يتضمّن جلب النفع إليهم و دفع

الضرر عنهم عاجلا و آجلا، و يوجب مزيّة الثواب لمحرّضه،

ص: 116

فقال بعد ذلك تأكيدا للأمر بالتحريض: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً راعى بها حقّ مسلم، و دفع بها عنه ضرّا، أو جلب إليه نفعا، ابتغاء لوجه اللّه تعالى، و منها الدعاء لمسلم، كما

قال عليه السّلام: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له، و قال له الملك: و لك مثل ذلك».

يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها و هو ثواب الشفاعة و التسبّب إلى الخير الواقع بها. و قال عليه السّلام: «اشفعوا تؤجروا».

و أصل الشفاعة من الشفع الّذي هو ضدّ الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع لصاحبه فقد شفّعه، أي: صار ثانيه.

ثم قال في بيان ضدّه و مقابله: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يريد بها محرّما منهيّا، و منه الشفاعة في إسقاط حقّ واجب، كترك الجهاد، و ترك حدّ من حدود اللّه الواجبة، كما

قال عليه السّلام: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه تعالى فقد ضادّ اللّه في ملكه».

يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي: نصيب من وزرها مساو لها في القدر، فإنّ الكفل بمعنى النصيب عند اللغويّين وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً مقتدرا، من:

أقات الشي ء، إذا قدر. أو شهيدا حافظا يعطي الشي ء قدر الحاجة، اشتقاقه من القوت، فإنّه يقوّي البدن و يحفظه.

[سورة النساء [4]: آية 86]

وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً [86]

و لمّا أمر سبحانه المؤمنين بقتال المشركين و تشدّدهم و غلّظ عليهم، أوجب عليهم جواب السلام على وجه يكون أحسن من تسليم المسلّم المسلم أو مثله، ليحصل به مزيّة المودّة و الرأفة و المحبّة و الصداقة و الاتّحاد بينهم، عكس المشركين، فقال: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ

مِنْها أَوْ رُدُّوها فأمر سبحانه بردّ السلام على المسلّم بأحسن ما سلّم، و هو أن يقول: عليكم السلام و رحمة اللّه،

ص: 117

إذا قال المسلّم: السلام عليكم. و إن يزد: و رحمة اللّه، فيزيد في جوابه: و بركاته، و هي النهاية، أو يردّه بمثله.

روي أنّ رجلا دخل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: السلام عليك. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و عليك السلام و رحمة اللّه. فجاء آخر فقال: السلام عليك و رحمة اللّه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته. فجاء آخر فقال: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته. فقيل: يا رسول اللّه زدت للأوّل و الثاني في التحيّة، و لم تزد للثالث. فقال: إنّه لم يبق لي من التحيّة شيئا، فرددت عليه بمثله.

و ذلك لاستجماعه أقسام المطالب: السلامة عن المضارّ، و حصول المنافع.

و جواب التسليم على الطريق المذكور واجب على الكفاية بالإجماع، و التخيير إنّما وقع بين الزيادة و تركها. و هذا إذا كان المسلّم مسلما. أمّا إذا كان كافرا فجوابه: عليك حسب، كما

ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليكم»

أي: عليكم ما قلتم، لأنّهم كانوا يقولون: السام عليكم، و السام الموت.

و التحيّة في الأصل مصدر: حيّاك اللّه على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للدعاء بذلك، ثم قيل لكلّ دعاء فغلب في السلام.

روى الواحدي بإسناده عن أبي أمامة، عن مالك بن التيهان، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه كتب له عشرون حسنة، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته كتب له ثلاثون حسنة».

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً يحاسبكم و يجازيكم على التحيّة و غيرها. و عن ابن عبّاس: الحسيب بمعنى الحفيظ و الكافي.

ص: 118

[سورة النساء [4]: آية 87]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [87]

و لمّا أمر اللّه سبحانه و نهى فيما قبل بيّن بعده أنّه الإله الّذي لا يستحقّ العبادة سواه، ليمتثلوا أوامره و نواهيه، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر، أو «اللّه» مبتدأ، و «لا إله إلّا هو» معترض، و خبره لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: اللّه و اللّه ليحشرنّكم بعد مماتكم من قبوركم إلى يوم القيامة. أو ليجمعنّكم مفضين إلى يوم القيامة. أو «إلى» بمعنى «في» أي: ليجمعنّكم في يوم القيامة. و قال الزجّاج: معناه:

ليجمعنّكم في الموت أو في قبوركم إلى يوم القيامة. و القيام و القيامة كالطلاب و الطلابة، و هي قيام الناس من القبور، أو قيامهم للحساب.

لا رَيْبَ فِيهِ في اليوم، أو الجمع، فهو حال من اليوم أو صفة للمصدر، أي: جمعا لا ريب فيه وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إنكار أن يكون أحد، أكثر صدقا منه، فإنّه لا يتطرّق الكذب إلى خبره بوجه، لأنّه نقص و هو على اللّه تعالى محال.

[سورة النساء [4]: الآيات 88 الى 90]

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [88] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً [89] إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً [90]

ص: 119

ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فما لكم تفرّقتم في أمر المنافقين فئتين، أي: فرقتين، فمنكم من يكفّرهم و منكم من لم يكفّرهم. و نصبه على الحال، و عاملها «ما لكم»، كقولك: مالك قائما، و «في المنافقين» حال من «فئتين» أي: متفرّقين حال كون تفرّقكم فيهم. و معنى الافتراق مستفاد من الفئتين.

و المراد منهم قوم استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخروج إلى البدو، لرداءة هواء المدينة، فلمّا خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم، فنزلت هذه الآية.

و قيل: نزلت في المتخلّفين يوم أحد، الذين قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ (1). أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلّين برداءة هواء المدينة و الاشتياق إلى الوطن. و هذا القول مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: في قوم أظهروا الإسلام و قعدوا عن الهجرة.

وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ردّهم إلى حكم الكفرة، أو نكّسهم إلى النار بِما كَسَبُوا بما فعلوا من الرجوع إلى المشركين، أو بالتقاعد عن القتال. و أصل الإركاس و النكس ردّ الشي ء مقلوبا بحيث يصير أعلاه أسفله و أسفله أعلاه. أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أي: تجعلوه من جملة المهتدين مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من جعله اللّه من جملة

ص: 120


1- آل عمران: 167.

الضلّال، و حكم عليه بضلالته، أو خذله و خلّاه و وكله إلى نفسه، و لم يوفّقه كما وفّق المؤمنين، لأنّهم لمّا عصوا و خالفوا مع ظهور الحقّ عندهم استحقّوا هذا الخذلان، فيصيرون ضالّين.

و قال أبو علي الجبائي: معناه أ تريدون أن تهدوا إلى طريق الجنّة من أضلّه عن طريقها لأجل نفاقه و كفره؟

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يحكم بضلالته، أو يخلّيه حتّى ضلّ، أو لم يوصله إلى طريق الجنّة فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الهدى.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا تمنّوا أن تكفروا ككفرهم فَتَكُونُونَ سَواءً فتكونون معهم سواء في الضلال. و هو معطوف على «تكفرون».

فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ فلا توالوهم حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حتّى يؤمنوا و تتحقّقوا إيمانهم بهجرة صحيحة، و هي للّه و رسوله، لا لأغراض الدنيا.

و سبيل اللّه ما أمر بسلوكه.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المصاحب للهجرة المستقيمة، أو عن إظهار الإيمان فَخُذُوهُمْ فأسروهم وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في أرض اللّه، في الحلّ و الحرم، كسائر الكفرة وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً أي: جانبوهم رأسا، و لا تقبلوا منهم ولاية و لا نصرة، و إن بذلوا لكم الولاية و النصرة.

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد و حلف في ترك المحاربة. و هو استثناء من قوله: «فخذوهم و اقتلوهم» أي: إلّا الّذين يتّصلون و ينتهون إلى قوم بينكم و بينهم موادعة و عهد و حلف في ترك المحاربة، فحكمهم حكمكم في حقن دمائهم. و هؤلاء هم الأسلميّون، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وادع وقت خروجه إلى مكّة هلال بن عويمر الأسلمي، على أن لا يعين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا يعين عليه، و على أنّ من وصل و لجأ إليه فله من الجوار- أي: الأمان- مثل الّذي

ص: 121

لهلال.

و قيل: هم بنو بكر بن زيد بن منات. و قيل: سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي من بني مدلج، جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد أحد فقال: أنشدك اللّه و النعمة، و أخذ منه أن لا يغزوا قومه، فإن أسلم قريش أسلموا، لأنّهم كانوا في عقد قريش، فحكم اللّه فيهم ما حكم في قريش. ففيهم نزل.

أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة، أي: أو الّذين جاءوكم كافّين عن قتالكم و قتال قومهم. استثنى من المأمور بأخذهم و قتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين، أو أتى الرسول و كفّ عن قتال الفريقين. أو على صفة قوم، و كأنّه قيل:

إلّا الّذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو إلى قوم كافّين عن القتال لكم و عليكم.

و الأوّل أظهر، لقوله: «فإن اعتزلوكم».

حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار «قد» أي: حال كونهم ضاقت صدورهم. و يدلّ عليه ما ورد في القراءة الشاذّة: حصرة صدورهم و حصرات. أو بيان ل «جاءوكم». و قيل: صفة محذوف، أي: جاءوكم قوما حصرت صدورهم.

و الحصر: الضيق و الانقباض. و المعنى: ضاقت قلوبهم. أَنْ يُقاتِلُوكُمْ عن أن، أو لأن، أو كراهة أن يقاتلوكم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ فلا عليكم و لا عليهم.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره (1) أنّ بني أشجع قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن رجيلة، فأخرج إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحمال التمر ضيافة. و قال: نعم الشي ء الهديّة أمام الحاجة. و قال لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: قرب دارنا منك، و كرهنا حربك و حرب قومنا- يعني: بني ضمرة الّذين بينهم و بينهم عهد- لقلّتنا، فجئنا لنوادعك. فقبل النبيّ ذلك منهم و وادعهم، فرجعوا إلى بلادهم، فأمر اللّه سبحانه أن لا يتعرّضوا لهؤلاء.

ص: 122


1- تفسير القمّي 1: 146- 147.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ

بأن قوّى قلوبهم، و بسط صدورهم، و أزال الرعب عنهم فَلَقاتَلُوكُمْ و لم يكفّوا عنكم. هذا إخبار عن المقدور، و ليس فيه أنه يفعل ذلك، أو يأذن لهم فيه. فمعناه: أنّه يقدر على ذلك لو شاء، لكنّه لم يشأ ذلك، بل قذف سبحانه الرعب في قلوبهم حتى فزعوا و طلبوا الموادعة، و لو لم يقذفه كانوا مسلّطين، أي: مقاتلين لكم غير كافّين.

فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ أي: فإن لم يتعرّضوا لكم بالقتال وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ الاستسلام و الانقياد، أي: صالحوكم و استسلموا لكم فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم و قتلهم.

[سورة النساء [4]: آية 91]

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً [91]

روي أنّ بني أسد و غطفان أتوا المدينة و أظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين، فلمّا رجعوا إلى قومهم نكثوا عهدهم و كفروا، فنزلت في شأنهم: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ غير الّذين وصفوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ فيظهرون الإسلام وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فيظهرون لهم الموافقة في دينهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ المراد بالفتنة هنا الشرك، أي: كلّما دعاهم قومهم إلى الكفر و إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها قلّبوا فيها أقبح قلب، و كانوا شرّا فيها من كلّ عدوّ.

فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ لم يعتزل هؤلاء قتالكم وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ و لم

ص: 123

يستسلموا لكم وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ و لم يكفّوا أيديهم عن قتالكم فَخُذُوهُمْ فأسروهم وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكّنتم منهم وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجّة واضحة في التعرّض لهم بالقتل و السبي، لظهور عداوتهم، و وضوح كفرهم و غدرهم. و سمّيت الحجّة سلطانا لأنّها يتسلّط بها على الخصم، كما يتسلّط السلطان. أو تسلّطا ظاهرا، حيث أذن لكم في القتال.

قيل: نزلت هذه الآية في عيينة بن حصن الفزاري، و ذلك أنّه أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الّذي

سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأحمق المطاع في قومه. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و برواية ابن عبّاس نزلت في أناس كانوا يأتون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيسلّمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم و يأمنوا رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة النساء [4]: آية 92]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [92]

و لمّا أمر اللّه تعالى بقتال أهل الحرب و قتلهم، نهى عن قتل غيرهم من

ص: 124

المسلمين و المعاهدين، فقال: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ و ما صحّ له، و ليس من شأنه أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً بغير حقّ إِلَّا خَطَأً فإنّه على عرضته. و نصبه على الحال أو المفعول له، أي: لا يقتله في

شي ء من الأحوال إلّا حال الخطأ، أو لا يقتله إلّا للخطأ. أو على أنّه صفة مصدر محذوف، أي: إلّا قتلا خطأ من غير قصد، بأن يرمي شخصا على أنّه كافر فيكون مسلما، أو كان يريد شيئا فيصيب غيره، مثل أن يرمي إلى غرض أو إلى صيد فيصيب إنسانا فقتله. و قيل: «ما كان» نفي في معنى النهي، و الاستثناء منقطع، أي: لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما قال عزّ اسمه.

وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي: فعليه تحرير رقبة. و التحرير الاعتاق، و الحرّ كالعتيق بمعنى الكريم، و منه حرّ الوجه لأكرم موضع منه، سمّي به لأنّ الكرم في الأحرار. و الرقبة عبّر بها عن النسمة كما عبّر عنها بالرأس.

مُؤْمِنَةٍ محكوما بإيمانها و إن كانت صغيرة وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ مؤدّاة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث. و كميّة الدية و كيفيّتها جنسا و وصفا مذكورتان في كتب الفقه. و الدية على عاقلة القاتل.

إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي: يتصدّق أولياء المقتول بالدية. و معناه العفو. و سمّي العفو عنها صدقة حثّا عليه، و تنبيها على فضله. و في الحديث: «كلّ معروف صدقة». و هو متعلّق ب «عليه»، أو ب «مسلّمة» أي: تجب الدية عليه، أو يسلّمها إلى أهله، إلّا حال تصدّقهم عليه أو زمانه. فهو في محلّ النصب على الحال أو الظرف.

فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي: من قوم كفّار محاربين، أو في تضاعيفهم، و لم يعلم إيمانه وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فعلى قاتله الكفّارة دون الدية، إذ لا وراثة بينه و بينهم، لأنّهم محاربون.

وَ إِنْ كانَ المقتول مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ من قوم كفرة معاهدين، أو أهل الذمّة، فحكمه حكم المسلم فَدِيَةٌ فعلى عاقلة قاتله دية

ص: 125

مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي: و على قاتله تحرير رقبة مؤمنة، كما روي عن الصادق عليه السّلام، و عليه جمهور الفقهاء.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة، بأن لم يملكها، و لا ما يتوصّل به إليها فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فعليه، أو فالواجب عليه صيام شهرين. تَوْبَةً نصب على المفعول له، أي: شرع ذلك توبة كائنة مِنَ اللَّهِ من تاب اللّه عليه، إذا قبل توبته.

أو على المصدر، أي: و تاب اللّه عليكم توبة. أو الحال بحذف مضاف، أي: فعليه صيام شهرين ذا توبة من اللّه.

و قيل: المراد بالتوبة هنا التخفيف من اللّه، لأنّه سبحانه إنّما جوّز للقاتل العدول إلى الصيام تخفيفا عليه، فيكون كقوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ (1).

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بحاله حَكِيماً فيما أمر في شأنه.

و الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأمّ، و ذلك أنّه اسلم و هاجر خوفا من قومه إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأقسمت أمّه لا تأكل و لا تشرب و لا يظلّها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل و معه الحارث بن زيد العامري فأتياه و هو في أطم (2)، فاطّلع أبو جهل في ذروة (3) و قال: أليس محمد يحثّك على صلة الرحم؟ انصرف و برّ أمّك و أنت على دينك، حتّى نزل و ذهب معهما. فلمّا خرجا من المدينة كتّفاه و جلده كلّ واحد منهما مائة جلدة. فقال للحارث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث؟ للّه عليّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك.

و قدما به على أمّه، فحلفت لا تحلّ كتافه أو يرتدّ، ثم فعل. ثم هاجر بعد ذلك، و أسلم الحارث و هاجر، فلقيه عياش بظهر قبا- و لم يشعر بإسلامه- فقتله، ثم أخبر

ص: 126


1- المزّمّل: 20.
2- الأطم جمعه آطام: القصر و الحصن المبنيّ بالحجارة، و كلّ بناء مرتفع.
3- الذروة: العلوّ و المكان المرتفع.

بإسلامه، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: قتلته و لم أشعر بإسلامه، فنزلت الآية فيه.

[سورة النساء [4]: آية 93]

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [93]

و لمّا بيّن سبحانه قتل الخطأ و حكمه، عقّبه ببيان قتل العمد و حكمه، فقال تهديدا بليغا فيه: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قاصدا إلى قتله، عالما بإيمانه و حرمة قتله و عصمة دمه فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ أبعده من الرحمة و طرده عنها وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً. و قتل العمد أن يقصد قتل غيره بما جرت العادة بأنّه يقتل مثله، سواء كان بحديدة حادّة كالسلاح، أو بخنق أو سمّ، أو إحراق أو تغريق، أو ضرب بالعصا أو بالحجارة حتى يموت، فإنّ ذلك عمد يوجب القود به.

و لمّا كان في قتل العمد تهديد بليغ و وعيد عظيم و خطب جسيم، قال ابن عبّاس: لا يقبل توبة قاتل المؤمن عمدا. و لعلّه أراد به التشديد، إذ روي عن ابن عبّاس خلافه، كما

روى الواحدي (1) بإسناده مرفوعا إلى عطاء، عن ابن عبّاس أنّ رجلا سأله: القاتل المؤمن توبة؟ فقال: لا. و سأله آخر: أ لقاتل المؤمن توبة؟ فقال:

نعم. فقيل له في ذلك، فقال: جاءني ذلك و لم يكن قتل، فقلت: لا توبة لك لكي لا يقتل، و جاءني هذا و قد قتل، فقلت: لك توبة لكي لا يلقى بيده إلى التهلكة.

و قال بعض أصحابنا: إنّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتوبة، على معنى أنه لا يختار التوبة. و عند معظم أصحابنا و عند الشافعي أنّ هذا الحكم مخصوص بالمستحلّ له، كما ذكره عكرمة.

و عن الصادق عليه السّلام أنّ معنى التعمّد أن يقتله على دينه.

و يؤيّده ما رواه

ص: 127


1- الوسيط 2: 99.

الضحّاك و جماعة من المفسّرين أنّها نزلت في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجّار و لم يظهر قاتله، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأرسل معه قيس بن الهلال الفهري و قال: قل لبني النجّار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه، و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلّغ الفهري الرسالة، فأعطوه الدية.

فلمّا انصرف و معه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا! أخذت دية أخيك فتكون عليك سبّة (1)، اقتل الّذي معك ليكون نفس بنفس، و الدية فضل. فرماه بصخرة فقتله، فركب بعيرا و رجع إلى مكّة مرتدّا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أؤمنه في حلّ و لا حرم. فقتل يوم الفتح.

أو المراد بالخلود المكث الطويل، فإنّ الدلائل متظافرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و قد روي أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: هو جزاؤه إن جازاه.

و روى عاصم بن أبي النجود عن ابن عبّاس في قوله: «فجزاؤه جهنّم» قال:

«هي جزاؤه، فإن شاء عذّبه، و إن شاء غفر له».

[سورة النساء [4]: آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [94]

روي عن ابن عبّاس و قتادة و السدّي أنّ سريّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غزت أهل

ص: 128


1- السبّة: العار.

فدك، فهربوا و بقي مرداس ثقة بإسلامه، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول (1) من الجبل و صعد، فلمّا تلاحقوا و كبّروا كبّر و نزل و قال لهم: لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه، فبدر إليه أسامة فقتله و استاقوا غنمه، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سافرتم و ذهبتم للغزو فَتَبَيَّنُوا. و قرأ حمزة و الكسائي:

فتثبّتوا. و هما من التفعّل بمعنى الاستفعال، أي: اطلبوا بيان الأمر و ثباته، و لا تعجّلوا في القتل من غير رويّة.

وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لمن حيّاكم بتحيّة الإسلام. و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة: السّلم بغير الألف، أي: الاستسلام و الانقياد. و فسّر به السلام أيضا. لَسْتَ مُؤْمِناً أي: ليس لإيمانك حقيقة، و إنّما أظهرت الإسلام خوفا من القتل.

تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا تطلبون ماله الّذي هو حطام سريع النفاد.

و هو حال من الضمير في «تقولوا» مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة و ترك التثبّت، و قلّة البحث عن حال من تقتلونه. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي: في مقدوره فواضل و نعم و أرزاق تغنيكم بها عن قتل رجل يظهر الإسلام لتأخذوا ماله، إن أطعتموه فيما أمركم به.

كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي: أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمتي الشهادة، فحصنت بها دماؤكم و أموالكم، من غير انتظار الاطّلاع على مواطاة قلوبكم ألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاشتهار بالإيمان و الاستقامة في الدين.

فَتَبَيَّنُوا و افعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللّه بكم، و لا تبادروا إلى قتلهم ظنّا بأنّهم دخلوا فيه اتّقاء و خوفا، فإنّ إبقاء ألف كافر أهون عند اللّه من قتل امرئ مسلم. و تكريره تأكيد لتعظيم الأمر، و ترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم.

ص: 129


1- العاقول: منعطف الوادي أو النهر، أو المعوجّ منه، أو الأرض لا يهتدى إليها.

إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً عالما به و بالغرض منه، فلا تتساقطوا في القتل و احتاطوا.

و روي عن ابن عبّاس و قتادة لمّا نزلت الآية حلف أسامة لا يقتل رجلا قال:

لا إله إلّا اللّه. و بهذا اعتذر إلى عليّ عليه السّلام لمّا تخلّف عنه، و إن كان عذره غير مقبول، لصريح الدلالة على وجوب طاعة الامام في محاربة البغاة، سيّما و قد سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: حربك يا عليّ حربي، و سلمك سلمي.

[سورة النساء [4]: الآيات 95 الى 96]

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً [95] دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [96]

و لمّا نهى عن قتل المسلمين و ذكر أحكامه، و بيّن ما فيه من النكال و العقاب، عاد إلى قتال المشركين و قتلهم، و بيّن ما فيه من الفضل و الثواب، فقال:

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الحرب مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في موضع الحال من القاعدين، أو من الضمير الّذي فيه غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالرفع صفة ل «القاعدون»، لأنّه لم يقصد به قوم بأعيانهم، أو بدل منه. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء. و المراد بالضرر المرض أو العاهة، من عمى أو زمانة أو نحوهما.

ص: 130

و عن زيد بن ثابت أنّها نزلت و لم يكن فيها «غير أولي الضرر»، فقال ابن أمّ مكتوم: و كيف و أنا أعمى؟ فغشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مجلسه الوحي، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضّها، ثم كشف عنه الوحي فقال: اكتب: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ».

وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و منهاج دينه، لتكون كلمة اللّه هي العليا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي: لا مساواة بينهم و بين من قعد عن الجهاد من غير علّة.

و فائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد، رفعا لرتبته، و أنفة عن انحطاط منزلته.

فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً فضيلة و مزيّة. و نصبه بنزع الخافض، أي: بدرجة. أو على المصدر، لأنّه تضمّن معنى التفضيل و وقع موقع: مرّة، فيكون «درجة» في معنى: تفضيلا، نحو: ضربته سوطا، أي: ضربته ضربة. أو على الحال، بمعنى ذوي درجة. و هذه الجملة الفعليّة موضحة لما نفي من استواء القاعدين و المجاهدين، كأنّه قيل: ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك.

وَ كُلًّا من القاعدين و المجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنى، و هي الجنّة، لحسن عقيدتهم، و خلوص نيّتهم. و إنّما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لقد خلّفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا و لا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم».

و هم الّذين صحّت نيّاتهم، و نصحت (1) جيوبهم، و هوت أفئدتهم إلى الجهاد، و قد منعهم من المسير ضرر أو غيره.

ص: 131


1- رجل ناصح الجيب، أي: نقيّ القلب. الصحاح 1: 411.

وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً نصب على المصدر، لأنّ «فضّل» بمعنى: أجر، و المفعول الثاني لتضمّنه معنى الإعطاء، كأنّه قيل: و أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما.

دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً كلّ واحد منها بدل من «أجرا». و يجوز أن ينتصب درجات على المصدر، كأنّه قيل: فضّلهم تفضيلات، كقولك:

ضربته أسواطا، و أجرا على الحال عنها، تقدّمت عليها لأنّها نكرة. و مغفرة و رحمة على المصدر بإضمار فعلهما، بمعنى: غفر لهم و رحمهم مغفرة و رحمة.

قيل: كيف قال أوّلا: فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة، ثم قال ثانيا: فضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات، و هذا متناقض الظاهر.

و أجيب: بأنّ المراد بالأوّل ما خوّلهم في الدنيا من الغنيمة و الظفر و جميل الذكر، و الثاني ما جعل لهم في الآخرة.

و في الحديث: «إنّ اللّه تعالى فضّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة، بين كلّ درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر».

و المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند اللّه تعالى، كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان، يريدون بذلك أنه أعظم منزلة، و بالدرجات منازلهم في الجنّة. أو القاعدون الأوّل هم الأضرّاء، و القاعدون الثاني هم الّذين أذن لهم في التخلّف اكتفاء بغيرهم، فإنّ الجهاد فرض على الكفاية. أو المجاهدون الأوّلون من جاهد الكفّار، و الآخرون من جاهد نفسه، و عليه

قوله عليه السّلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما عسى أن يفرط منهم رَحِيماً بما وعد لهم.

ص: 132

[سورة النساء [4]: الآيات 97 الى 99]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً [97] إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [98] فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً [99]

ثم أخبر سبحانه عن حال من ترك الهجرة، و وافق الكفرة، و قعد عن نصرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يحتمل الماضي و المضارع ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في حال ظلمهم أنفسهم بترك المهاجرة و موافقة الكفرة قالُوا أي:

الملائكة توبيخا لهم فِيمَ كُنْتُمْ في أيّ شي ء كنتم من أمر دينكم قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذروا ممّا وبّخوا به بضعفهم و عجزهم عن الهجرة، أو إظهار الدين و إعلاء كلمته.

و هم جماعة أسلموا بمكّة، و لم يهاجروا حين كانت المهاجرة واجبة، فلمّا خرج المشركون إلى بدر لم يخلفوا منهم أحدا إلا من كان صبيّا أو مريضا أو شيخا كبيرا، فخرج هؤلاء معهم، فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا فأصيبوا فيمن أصيب من المشركين، فنزلت الآية.

فقولهم: «فيم كنتم» توبيخ لهم بأنّهم لم يكونوا في شي ء من الدين، حيث قدروا على المهاجرة و لم يهاجروا. فاعتذروا ممّا وبّخوا بالاستضعاف، و أنّهم لم يتمكّنوا من الهجرة.

ص: 133

فالملائكة على وجه التبكيت و التكذيب لهم قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى قطر آخر،

كما هاجر المهاجرون إلى المدينة و الحبشة؟! فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لتركهم الواجب، و مساعدتهم الكفّار. و هو خبر «إنّ»، و الفاء فيه لتضمّن الاسم معنى الشرط. و «قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ» حال من الملائكة بإضمار «قد». أو الخبر «قالوا» و العائد محذوف، أي: قالوا لهم. و هو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها وَ ساءَتْ مَصِيراً مصيرهم، أو جهنّم.

و في الآية دليل على وجوب الهجرة على المكلّف في موضع لا يتمكّن فيه من إقامة دينه.

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ استضعفهم المشركون مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ استثناء منقطع من أهل الوعيد، لعدم دخولهم في الموصول و ضميره و الإشارة إليه.

و ذكر الولدان إن أريد به المماليك فظاهر. و إن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر، و الإشعار بأنّهم على صدد وجوب الهجرة، فإنّهم إذا بلغوا و قدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها، و أنّ قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت.

لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا صفة للمستضعفين، أو للرجال و النساء و الولدان، إذ لا تعيين فيه، من قبيل: ... و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... أو حال منه، أو من المستكن فيه. و استطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة و ما تتوقّف عليه. و اهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل.

فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا أي: لم يزل اللّه ذا صفح- بفضله- عن ذنوب عباده، بترك عقوبتهم على معاصيهم غَفُوراً ساترا عليهم ذنوبهم، بعفوه لهم عنها. ذكر بكلمة الإطماع و لفظ العفو إيذانا بأنّ ترك الهجرة و ما يتوقّف عليه و اهتداء السبيل أمر خطير، حتى إنّ المضطرّ من حقّه أن لا يأمن و يترصّد الفرصة، و يعلّق بها قلبه.

ص: 134

قيل: إنّ المستضعفين هم قيس بن الفاكه بن المغيرة، و الحارث بن زمعة بن الأسود، و قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو العاص بن منبّه بن الحجّاج، و عليّ بن أميّة بن خلف.

و روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال ابن عبّاس: كنت من المستضعفين، و كنت غلاما صغيرا. و ذكر أيضا عنه أنّه قال: كان أبي من المستضعفين من الرجال، و كانت أمّي من المستضعفات من النساء، و كنت أنا من المستضعفين من الولدان.

و قال عكرمة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعو عقيب صلاة الظهر: اللّهمّ خلّص الوليد، و سلمة بن هشام، و عياش بن أبي ربيعة، و ضعفة المسلمين من أيدي المشركين.

[سورة النساء [4]: آية 100]

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [100]

ثم حثّ المستطيعين على المهاجرة بقوله: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و من يفارق أهل الشرك و يهرب بدينه من وطنه و أهله في منهاج دين اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً متحولا، من الرغام و هو التراب. و قيل: طريقا يراغم بسلوكه قومه، أي: يفارقهم على رغم أنوفهم. و الرغم الذلّ و الهوان، و هو أيضا من الرغام وَ سَعَةً في الرزق و إظهار الدين. و قيل: مهاجرا فسيحا و متّسعا ممّا كان فيه من تضييق المشركين عليه.

روي عن سعيد بن جبير و قتادة و أبي حمزة الثمالي أنّه لمّا نزلت آيات

ص: 135

الهجرة سمعها رجل من المسلمين، و هو جندب بن ضمرة، و كان بمكّة، فقال: و اللّه ما أنا ممّن استثنى اللّه، إنّي لأجد قوّة، و إنّي لعالم بالطريق، و كان مريضا شديد المرض، فقال لبنيه: و اللّه لا أبيت بمكّة حتّى أخرج منها، فإنّي أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير، فلمّا بلغ التنعيم أشرف على الموت، فصفق بيمينه على شماله فقال: اللّهمّ إنّ هذه لك، و هذه لرسولك، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، فمات، فنزلت.

وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً فارّا بدينه إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل بلوغه دار الهجرة فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ جزاء هجرته و ثواب عمله عَلَى اللَّهِ الوقوع و الوجوب متقاربان. و المعنى: ثبت أجره عند اللّه ثبوت الأمر الواجب.

و كلّ هجرة لغرض دينيّ- من طلب علم، أو حجّ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة- فهي هجرة إلى اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم رَحِيماً بهم رفيقا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، و إن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنّة، و كان رفيق إبراهيم و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة النساء [4]: آية 101]

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً [101]

و لمّا أمر اللّه تعالى بالهجرة و الجهاد، بيّن كيفيّة صلاة السفر و الخوف اللّذين لازمهما، فقال: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ الضرب في الأرض هو السفر، أي: إذا

ص: 136

سافرتم فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إثم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ بتنصيف الرباعيّات، فتصلّوها ركعتين ركعتين. و الجارّ و المجرور صفة محذوف، أي: شيئا من الصلاة عند سيبويه، و مفعول «تقصروا» بزيادة «من» عند الأخفش.

و القصر ثابت بنصّ الكتاب في حال الخوف خاصّة، و هو قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. يعني: خفتم فتنة الّذين كفروا في أنفسكم، بأن يعذّبوكم بنوع من العذاب، أو في دينكم. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.

و أمّا قصر الصلاة في حال الأمن فبنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو عزيمة واجبة غير رخصة عند أبي حنيفة. و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام. و رخصة عند الشافعي.

و إنّما قال: «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» في الواجب لئلّا يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في القصر، فإنّهم ألفوا الأربع، فكان مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ ركعتي السفر قصر و نقصان، فسمّى الإتيان بهما قصرا على ظنّهم، و نفي الجناح فيه لتطيب به أنفسهم.

و الجملة الشرطيّة شريطة القصر باعتبار الغالب في ذلك الوقت، و لم يعتبر مفهومها في وجوب القصر. و مثله في القرآن كثير، كقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (1). و قد تظاهرت السنن من الموافق و المخالف على جواز القصر أيضا في حال الأمن.

و روى زرارة و محمد بن مسلم: «قلنا لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي؟ و كم هي؟

قال: إنّ اللّه تعالى يقول: «وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» فصار التقصير واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر.

قالا: قلنا: إنّه قال: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة، و لم يقل: افعل،.

ص: 137


1- البقرة: 229.

فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟! قال: أو ليس قال سبحانه في الصفا و المروة: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (1)؟ ألا ترى أنّ الطواف واجب مفروض، لأنّ اللّه تعالى ذكرهما في كتابه، و صنعهما نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كذا التقصير في السفر صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذكره اللّه في الكتاب.

قال: قلت: فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟

قال: إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه».

و قال في كنز العرفان: «قصر الصلاة جائز إجماعا. فقال الشافعي:

هو رخصة، لقوله تعالى: «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ». فهو من المخيّر عنده، لكنّه قال: القصر أفضل. و قال المزني من أصحابه: الإتمام أفضل. و قال مالك و أبو حنيفة و أصحابنا: إنّه عزيمة. و به قال عليّ و أهل بيته عليهم السّلام، و ابن عبّاس و جابر و ابن عمر و غيرهم. و نفي الجناح لا ينافي الوجوب، فإنّه قد استعمل في الوجوب، كما في قوله: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ إلى قوله:

فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما « (2)» و الطواف بهما واجب. و لما

روي عن يعلى بن أميّة و قد سأل عمر: ما بالنا نقصّر و قد أمنّا؟ فقال: عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «تلك صدقة تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته»

و الأمر للوجوب. و غير ذلك من الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

و تحقيق الحال هنا أن نقول: ليس السفر و الخوف شرطين على الجمع للإجماع، و لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى قصرا سفرا مع زوال الخوف. و إذا لم يكونا

ص: 138


1- البقرة: 158.
2- البقرة: 158.

شرطين على الجمع، فإمّا أن يكون أحدهما شرطا في الآخر، دون العكس. و هو باطل.

أمّا أوّلا: فلاستلزام الترجيح من غير مرجّح.

و أمّا ثانيا: فلأنّ اشتراط السفر بالخوف باطل، للإجماع المذكور و النصّ.

و عكسه- أعني: اشتراط الخوف بالسفر- باطل أيضا، لكونه ينفي سببيّة الخوف مطلقا، سفرا و حضرا. و لأنّ السبب التامّ يستحيل أن يكون شرطا في سببيّة الآخر.

و إذا بطل ذلك فلم يبق إلّا أن يكون كلّ واحد منهما سببا في وجوب القصر. و لما صحّ عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن صلاة الخوف و صلاة السفر أ يقصّران جميعا؟ فقال:

«نعم، و صلاة الخوف أحقّ أن يقصّر من صلاة السفر الّذي ليس فيه خوف»

بانفراده. جعل عليه السّلام الخوف سببا أقوى من السفر الخالي عنه، فيكون كلّ واحد منهما سببا تامّا منفردا. و هذا تقرير لوجوب القصر فيهما معا.

ثم قال: «وحدّ التقصير في السفر عندنا مرحلة، ثمانية فراسخ أو مسير يوم متوسّط السير» (1).

أو أربعة فراسخ لمن أراد الرجوع في يومه أو ليلته، على الخلاف في الأخير، و به وردت الروايات المتضافرة عن أهل البيت عليهم السّلام. و عند الشافعي مرحلتان، ستّة عشر فرسخا، و به قال مالك و أحمد. و قال أبو حنيفة و أصحابه: ثلاثة مراحل، أربعة و عشرون فرسخا. و باقي شرائط القصر مذكور في كتب الفقه، فليطالع ثمّة.

[سورة النساء [4]: الآيات 102 الى 103]

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا

ص: 139


1- كنز العرفان 1: 182- 184.

فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [102] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [103]

و لمّا بيّن سبحانه وجوب قصر صلاة السفر، عقّبه ببيان كيفيّة صلاة الخوف، فقال: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ في الخائفين من أصحابك فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ بأن تؤمّهم. و من خصّ صلاة الخوف بحضرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمسّك بمفهومه. و أمّا فقهاء الاماميّة و فقهاء العامّة على أنّه تعالى علّم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيفيّتها ليأتمّ به الأئمّة بعده، فإنّهم نوّاب عنه، فيكون حضورهم كحضوره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من أصحابك الّذين أنت فيهم مَعَكَ أي: في صلاتك، فاجعلهم طائفتين، فلتقم إحداهما معك يصلّون، و تقوم الطائفة الأخرى تجاه العدوّ، و لم يذكر هذا لدلالة الكلام عليه وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أي: المصلّون حزما، لا يشغلهم عن الصلاة، كالسيف يتقلّدون به، و الخنجر يشدّونه إلى دروعهم، و نحوهما.

فَإِذا سَجَدُوا يعني: الطائفة الّتي تصلّي معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فرغوا من سجودهم فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يحرسونكم، يعني: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من يصلّي معه، فغلب

المخاطب على الغائب يعني: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافّين للعدوّ

ص: 140

وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا لاشتغالهم بالحراسة، و هم الّذين كانوا بإزاء العدوّ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ و اختلف في الطائفة الأولى إذا رفعت رؤوسهم من السجود و فرغت من الركعة كيف يصنعون؟ فعندنا أنهم إذا سجدوا في الأولى يصلّون ركعة أخرى و يتشهّدون و يسلّمون، و الامام قائم في الثانية، ثم ينصرفون إلى مواقف أصحابهم، و يجي ء الآخرون فيستفتحون الصلاة، و يصلّي بهم الامام الركعة الثانية، و يطيل التشهّد حتى يقوموا فيصلّوا بقيّة صلاتهم، ثم يسلّم بهم، كما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذات (1) الرقاع. فيكون للطائفة الأولى تكبيرة افتتاح الامام، و للثانية تسليمه. و هو مذهب الشافعي أيضا.

و قيل: إنّ الامام يصلّي مرّتين، بكلّ طائفة مرّة، كما فعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ببطن نخل (2). و هذه الصلاة تصحّ أيضا مع الأمن.

و قيل: إنّ الطائفة الأولى إذا فرغت من ركعة يسلّمون و يمضون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الأخرى و يصلّي بهم ركعة. و هذا مذهب جابر و مجاهد، و من يرى أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة.

و قيل: إنّه إذا صلّى بالطائفة الأولى ركعة مضوا إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الأخرى فيكبّرون و يصلّي الامام بهم الثانية، و يسلّم الإمام و يعودون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الأولى فيؤدّون الركعة الثانية بغير قراءة، فيتمّون صلاتهم و يرجعون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الثانية فيؤدّون الركعة بقراءة، و يتمّون

ص: 141


1- قال الواقدي: ذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد و الشقرة و بئر أرما، على ثلاثة أيّام من المدينة. و في تعيين موضع غزاة ذات الرقاع التي غزاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقوال، انظر معجم البلدان 3: 56.
2- بطن نخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة. معجم البلدان 1: 449.

صلاتهم. و هو مرويّ عن عبد اللّه بن مسعود. و هو مذهب أبي حنيفة.

وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ يعني: و ليكونوا حذرين من عدوّهم، متأهّبين لقتالهم بأخذ الأسلحة، أي: آلات الحرب. و هذا يدلّ على أنّ الفرقة المأمورة بأخذ السلاح في الأوّل هم المصلّون دون غيرهم.

ثم بيّن ما لأجله أوجب أخذ السلاح عليهم بقوله: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ في القتال حين اشتغالكم بالصلاة فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً تمنّوا أن ينالوا منكم غرّة في صلاتكم فيشدّون عليكم شدّة واحدة.

ثم رخّص لهم في وضع الأسلحة فقال: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً أي: نالكم مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أعلّاء أو جرحى، فثقل بسبب المطر أو المرض أخذ الأسلحة، و ضعفتم عن حملها أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ و هذا ممّا يدلّ على أنّ الأمر بأخذ الأسلحة للوجوب دون الندب وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر ما دام ممكنا لهم و إن كان مع مشقّة، لئلّا يغفلوا فيحمل عليهم العدوّ.

إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً هذا وعد للمؤمنين بأنّه سبحانه يهين عدوّهم، و ينصرهم عليهم بعد الأمر بالحزم، لتقوى قلوبهم، و ليعلموا أنّ الأمر بالحزم ليس لضعفهم و غلبة عدوّهم، بل لأنّ الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقّظ و التدبّر، فيتوكّلوا على اللّه تعالى.

و في الآية دلالة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّة نبوّته، و ذلك أنّها نزلت و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعسفان (1) و المشركون بضجنان (2)، فتواقفوا فصلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأصحابه

ص: 142


1- عسفان قرية جامعة بها منبر و نخيل و مزارع على ستّة و ثلاثين ميلا من مكّة. معجم البلدان 4: 121- 122.
2- ضجنان: بالتحريك، قيل: جبيل على بريد من مكّة ... و قال الواقدي: بين ضجنان و مكّة خمسة و عشرون ميلا. معجم البلدان 3: 453.

صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود، فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم:

إنّ لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من هذه- يعنون صلاة العصر- فأنزل اللّه عليه هذه الآية، فصلّى بهم العصر صلاة الخوف، و كان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد.

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أدّيتم الصلاة حال الخوف و القتال، و فرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فدوموا على الذكر مهلّلين مكبّرين مسبّحين حامدين في جميع الأحوال، لعلّه سبحانه لأجل كثرة ذكركم ينصركم على عدوّكم، و يظفركم بهم. و هذا مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1).

و هذا التفسير منقول عن ابن عبّاس و كثير من المفسّرين. و عن ابن مسعود أنّه قال عقيب تفسير الآية: «لم يعذر اللّه أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله».

و قيل: معناه إذا أردتم أداء الصلاة و اشتدّ الخوف فصلّوها كيف ما أمكن، قياما مسايفين و مقارعين، و قعودا جاثين (2) على الرّكب مرامين، و على جنوبكم مثخنين بالجراح.

فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ سكنت قلوبكم من الخوف في أوطانكم و أمصاركم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فعدّلوا و احفظوا أركانها و شرائطها، و أتوا بها تامّة إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فرضا محدود الأوقات، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شي ء من الأحوال. و هذا دليل على أنّ المراد بالذكر الصلاة، فإنّها واجبة الأداء حال المسايفة و الاضطراب في المعركة، و تعليل للأمر بالإتيان بها كيف ما

ص: 143


1- الأنفال: 45.
2- جثا يجثو جثوّا: جلس على ركبتيه، فهو جاث.

أمكن. فهو ردّ على قول أبي حنيفة حيث قال: لا يصلّي المحارب حتى يطمئنّ.

[سورة النساء [4]: آية 104]

وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [104]

ثم عاد الكلام إلى الحثّ على الجهاد، فقال: وَ لا تَهِنُوا و لا تضعفوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب الكفّار بالقتال. ثم ألزمهم الحجّة عليه بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ ممّا ينالكم من الجراح منهم فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ أيضا ممّا ينالهم منكم من الجراح و الأذى كَما تَأْلَمُونَ مثل ما تألمون أنتم من جراحهم و أذاهم وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ من الظفر عاجلا و الثواب آجلا على ما ينالكم منهم ما لا يَرْجُونَ على ما ينالهم منكم. هذا إلزام لهم و تقريع على التواني في القتال، بأنّ ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختصّ بهم، و هم يرجون من اللّه تعالى بسببه من إظهار الدين و استحقاق الثواب ما لا يرجو عدوّهم، فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب، و أصبر عليها.

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بأعمالكم و ضمائركم حَكِيماً فيما يأمر و ينهى، فلا يأمركم و لا ينهاكم إلّا بما يعلم أنّ فيه صلاحكم.

قال ابن عبّاس و عكرمة: لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم

من الجروح و الآلام يوم أحد، و صعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الجبل، قال أبو سفيان: يا محمد لنا يوم و لكم يوم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أجيبوه.

فقال المسلمون: لا سواء، قتلانا في الجنّة، و قتلاكم في النار.

فقال أبو سفيان: لنا عزّى و لا عزّى لكم.

فقال النبيّ: قولوا: اللّه مولانا و لا مولى لكم.

ص: 144

قال أبو سفيان: اعل هبل.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قولوا: اللّه أعلى و أجلّ.

فقال أبو سفيان: موعدنا و موعدكم بدر الصغرى. فنزلت هذه الآية في شأنهم.

[سورة النساء [4]: الآيات 105 الى 106]

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [105] وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [106]

و لمّا تقدّم ذكر المنافقين و الكافرين، و الأمر بمجانبتهم و محاربتهم، و ترك المداهنة معهم، عقّب ذلك بذكر الخائنين، و الأمر باجتناب الدفع عنهم، و النهي عن المداهنة معهم، فقال: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ و الصدق لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ بما عرّفك اللّه و أوحى به إليك. و ليس الرؤية بمعنى العلم، و إلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل. وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ أي: لأجلهم و الذبّ عنهم خَصِيماً مخاصما للبرآء.

روي أنّ أبا طعمة بن أبيرق من بني ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، و خبّأها عند زيد بن السمين اليهودي، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد، و حلف ما أخذها و ما له بها علم، فتركوه و اتّبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال:

دفعها إليّ طعمة، و شهد له

ناس من اليهود. فقال بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فلمّا جاءوا إليه قالوا: إن لم تجادل عن صاحبنا هلك و افتضح و برى ء اليهودي، و هو موجب لهوان المسلمين و عزّة اليهود. فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعاقب اليهودي، لحسن ظنّه بالمسلم الظاهر العدالة، فنبّه اللّه رسوله بذلك، و أعلمه خيانة طعمة بقوله: «وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً».

ص: 145

وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ممّا هممت به من عقاب اليهودي بناء على حسن الظاهر إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لمن يستغفره. و إنّما ذكر ذلك على وجه التأديب له، في أن لا يبادر بالخصام و الدفاع عمّن لا يتبيّن وجه الحقّ فيه، و لا يعتمد على ظاهر الإيمان، فالاستغفار يكون عن ترك الندب.

[سورة النساء [4]: الآيات 107 الى 108]

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً [107] يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [108]

ثم نهى سبحانه عن المجادلة و الدفع عن أهل الخيانة، مؤكّدا لما تقدّم، فقال مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين همّ أن يبرّئ أبا طعمة لمّا أتاه قومه ينفون عنه السرقة:

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يخونونها، فإنّ وبال خيانتهم يعود عليها.

أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها، لاشتراكهما في جلب الضرر إليها. و الضمير لطعمة و أمثاله، أو له و لقومه، فإنّهم شاركوه في الإثم حين شهدوا على براءته و خاصموا عنه.

و قيل: ظاهر الخطاب و إن توجّه إلى

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكن المراد بذلك أمّته.

و لمّا كان سبحانه عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة و ركوب المآثم، قال:

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً مبالغا في الخيانة مصرّا عليها أَثِيماً منهمكا في الإثم.

روي أنّ طعمة لمّا أنزل اللّه تعالى في تقريعه و تقريع قومه الآيات ارتدّ و هرب و لحق بالمشركين من أهل مكّة، و نقب حائطا بها ليسرق أموال أهله، فسقط

ص: 146

الحائط عليه فقتله.

و قيل: إنّه خرج من مكّة نحو الشام، فنزل منزلا و سرق بعض المتاع و هرب، فأخذ و رمي بالحجارة حتى قتل.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ يستترون منهم حياء و خوفا من ضررهم وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ و لا يستترون من اللّه، و لا يستحيون منه، و هو أحقّ بأن يستحيا و يخاف منه وَ هُوَ مَعَهُمْ لا يخفي عليه سرّهم، فلا طريق معه إلّا ترك ما يستقبحه و يؤاخذ عليه إِذْ يُبَيِّتُونَ يدبّرون و يزوّرون بالليل ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ من رمي البري ء، و الحلف الكاذب، و شهادة الزور وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً حفيظا بأعمالهم، لا يفوت عنه شي ء.

و في هذه الآية تقريع بليغ لمن يمنعه حياء الناس و حشمتهم عن ارتكاب القبائح، و لا تمنعه خشية اللّه تعالى عن ارتكابها، و هو سبحانه أحقّ أن يراقب، و أجدر أن يحذر و يخاف. و فيها أيضا توبيخ لمن يفعل قبيحا ثم يقرف غيره به، سواء كان ذلك الغير مسلما أو كافرا.

[سورة النساء [4]: آية 109]

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [109]

ثم خاطب الذابّين عن السارق فقال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «ها» للتنبيه، أنتم و أولاء مبتدأ و خبر، و «جادلتم» جملة مستأنفة مبيّنة لوقوع «أولاء» خبرا، أو صلة عند من يجعله موصولا. و المعنى: هبوا أنّكم خاصمتم و دافعتم عن بني أبيرق في الدنيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا عذّبهم اللّه أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا محاميا يحميهم من عذاب اللّه تعالى. و الاستفهام في معنى النفي، لأنّه

ص: 147

في معنى التقريع و التوبيخ، أي: لا مجادل عنهم و لا شاهد على براءتهم بين يدي اللّه تعالى.

[سورة النساء [4]: الآيات 110 الى 112]

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [110] وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [111] وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [112]

ثم بيّن سبحانه طريق التلافي و التوبة ممّا سبق منهم من المعصية، فقال:

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً قبيحا متعدّيا يسوء به غيره، كما فعل أبو طعمة بقتادة و اليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بما يختصّ به و لا يتعدّاه. و قيل: المراد بالسوء ما دون الشرك، و بالظلم الشرك. و قيل: الصغيرة و الكبيرة ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ بالتوبة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً لذنوبه رَحِيماً متفضّلا عليه. و فيه أنّ كلّ ذنب و إن عظم فإنّه غير مانع من المغفرة إذا استغفروا منه.

وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ فلا يتعدّاه وباله، كقوله: وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها (1) وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بفعله حَكِيماً في مجازاته.

وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً صغيرة أو ما لا عمد فيه أَوْ إِثْماً كبيرة أو ما كان عن عمد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً كما رمى طعمة زيدا. و وحّد الضمير لمكان «أو» فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً بسبب رمي البري ء و تبرئة النفس الخاطئة، فإنّه بكسب الإثم آثم، و برمي البري ء باهت، و لذلك سوّى بينهما، و إن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر.

ص: 148


1- الإسراء: 7.

[سورة النساء [4]: آية 113]

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [113]

ثم بيّن سبحانه لطفه برسوله و فضله عليه، إذ صرف كيدهم عنه و عصمه من الميل إليهم، فقال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ بإعلام ما هم عليه بالوحي. قيل: الفضل هو النبوّة، و الرحمة العصمة أو الوحي. أو الفضل تأييده بألطافه، و الرحمة النعمة. لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي: من بني ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ عن القضاء بالحقّ و سلوك طريق العدل، مع علمهم بالحال.

و الجملة جواب «لولا». و ليس القصد فيه إلى نفي همّهم، بل إلى نفي تأثيره فيه.

وَ ما يُضِلُّونَ و ما يزيلون عن الحقّ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأنّه ما أضلّك عن الحقّ، و عاد و باله عليهم وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ فإنّ اللّه عاصمك و حافظك و مسدّدك و مؤيّدك. و ما خطر ببالك كان اعتمادا منك على حسن الظاهر، لا ميلا إلى الحكم. و «من شي ء» في موضع النصب على المصدر، أي: شيئا من الضرر.

وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ القرآن وَ الْحِكْمَةَ و السنّة. و هي أحكام الشريعة، و الآداب السنيّة المرضيّة. و المعنى: كيف يضلّونك و هو ينزّل عليك الكتاب، و يوحي إليك بالأحكام؟! وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من خفيّات الأمور، أو من أمور الدين و أحكام الشرع، و أنباء الرسل و قصصهم، و غير ذلك وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً قيل: معناه فضله عليك منذ خلقك إلى أن بعثك و علّمك عظيم، إذ جعلك خاتم النبيّين و سيّد المرسلين، و أعطاك الخلق العظيم و الشفاعة و غيرهما.

ص: 149

[سورة النساء [4]: آية 114]

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [114]

ثم بيّن سبحانه أنّ تناجي أكثر الناس لا يكون خيرا، مثل تناجي بني ظفر في استخلاص طعمة، فقال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ لمّا كان معنى النجوى لا يتمّ إلّا بين اثنين فصاعدا كالدعوى، فالمعنى: لا خير في كثير من متناجيهم، كقوله تعالى: وَ إِذْ هُمْ نَجْوى (1) أو من تناجيهم. و على هذا فقوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ واجبة أو مطلقا أَوْ مَعْرُوفٍ على حذف المضاف، أي: إلّا نجوى من أمر، أو على الانقطاع، بمعنى: لكن من أمر بصدقة، فإنّ في نجواه الخير. و المعروف كلّ ما يستحسنه الشرع، و لا ينكره العقل. و فسّر هاهنا بالقرض، و إغاثة المضطرّ، و صدقة التطوّع. و الأولى أنّه عامّ في كلّ جميل من أبواب البرّ. أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ تأليف بينهم بالمودّة. و تخصيص الصدقة و الإصلاح لمزيّة فضلهما.

و تسميته بالمعروف لاعتراف العقول بها، أو لأنّ أهل الخير يعرفونها.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلام ابن آدم كلّه عليه، إلّا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر اللّه».

و سمع سفيان رجلا يقول: ما أشدّ هذا الحديث؟! فقال: ألم تسمع اللّه يقول: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ»؟ فهذا هو بعينه. أو ما سمعته يقول:

وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)؟ فهو هذا بعينه.

ص: 150


1- الإسراء: 47.
2- العصر: 1- 2.

و قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: «حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه فرض التجمّل في القرآن. فقال:

قلت: و ما التجمّل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتجمل له، و هو قوله: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ» الآية».

قال: «و حدّثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّ اللّه فرض عليكم زكاة جاهكم، كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيمانكم» (1).

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لطلب رضا اللّه تعالى فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي: مثوبة عظيمة في الكثرة و المنزلة و الصفة. أمّا الكثرة فلأنّه دائم.

و أمّا المنزلة فلأنّه مقارن للتعظيم و الإجلال. و أمّا الصفة فلأنّه غير مشوب بما ينغّصه. و قرأ حمزة: يؤتيه بالياء.

و اعلم أنّ اللّه تعالى بنى الكلام في هذه الآية على الأمر، و رتّب الجزاء على الفعل، ليدلّ على أنّه لمّا دخل الآمر في زمرة الخيّرين كان الفاعل أدخل فيهم، و أنّ العمدة و الغرض هو الفعل، و اعتبار الأمر من حيث إنّه وصلة إليه. و قيّد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة اللّه تعالى، لأنّ الأعمال بالنيّات، و أنّ من فعل خيرا رياء و سمعة لم يستحقّ بها من اللّه أجرا. و وصف الأجر بالعظيم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا.

و في الآية أيضا دلالة على أنّ فاعل المعصية هو الذي يضرّ بنفسه، لما يعود عليه من وبال فعله، و أنّ الّذي يدعو إلى الضلال هو المضلّ، و أنّ فاعل الضلال مضلّ لنفسه، و أن الدعاء إلى الضلال يسمّى إضلالا.

ص: 151


1- تفسير القمي 1: 152.

[سورة النساء [4]: الآيات 115 الى 116]

وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً [115] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [116]

و بعد ذكر حال أهل الكفر و النفاق بيّن مآلهم، فقال: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ يخالفه، من الشقّ و هو الجانب، فإنّ كلّا من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ما ظهر له الحقّ، و قامت له الحجّة، و صحّت الأدلّة بثبوت نبوّته و رسالته، بالوقوف على المعجزات وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نجعله واليا لما تولّى من الضلال، و نكله إليه. و المراد نخلّي بينه و بين ما اختاره لنفسه وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ و ندخله فيها بطريق اللزوم و الدوام، عقوبة له على ما اختاره من الضلالة بعد وضوح الهدى عنده وَ ساءَتْ مَصِيراً جهنّم.

قيل: هي في طعمة و ارتداده و خروجه إلى مكّة، كما مرّ.

قال في المجمع: «و قد استدلّ بهذه الآية على أنّ إجماع الأمّة حجّة، لأنّه سبحانه توعّد على مخالفة سبيل المؤمنين، كما توعّد على مشاقّة الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و الصحيح أنّه لا يدلّ على ذلك، لأنّ ظاهر الآية يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا و باطنا، لأنّ من أظهر الإيمان لا يوصف بأنّه مؤمن إلّا مجازا، فكيف يحمل ذلك على إيجاب متابعة من أظهر الإيمان؟ و ليس كلّ من أظهر الإيمان مؤمنا.

ص: 152

و متى حملوا الآية على بعض الأمّة حملها غيرهم على من هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين، و هم الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام.

على أنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ الوعيد إنّما يتناول من جمع بين مشاقّة الرسول و اتّباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين لهم أنّ من فعل أحدهما يتناوله الوعيد. و نحن إنّما علمنا يقينا أنّ الوعيد يتناول بمشاقّة الرسول بانفرادها بدليل غير الآية، فيجب أن يسندوا تناول الوعيد باتّباع غير سبيل المؤمنين إلى دليل آخر» (1).

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ كرّره للتأكيد، أو لقصّة طعمة.

و قيل: جاء شيخ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: إنّي شيخ منهمك في الذنوب، إلّا أنّي لم أشرك باللّه شيئا منذ عرفته و آمنت به، و لم أتّخذ من دونه وليّا، و لم أوقع المعاصي جرأة، و ما توهّمت طرفة عين أنّي أعجز اللّه هربا، و إنّي لنادم تائب، فما ترى حالي عند اللّه؟ فنزلت هذه الآية فيه.

وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحقّ، فإنّ الشرك أعظم أنواع الضلالة، و أبعدها عن الصواب و الاستقامة. و إنّما ذكر في الآية الأولى: فَقَدِ افْتَرى (2) لأنّها متّصلة بقصّة أهل الكتاب، و منشأ شركهم كان

نوع افتراء، و هو دعوى التبنّي على اللّه تعالى.

[سورة النساء [4]: الآيات 117 الى 121]

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً [117] لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [118] وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ

ص: 153


1- مجمع البيان 3: 110- 111.
2- النساء: 48.

يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [119] يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً [120] أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً [121] و لمّا ذكر في الآية المتقدّمة أهل الشرك و ضلالهم، ذكر في هذه الآية حالهم و فعالهم، فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً يعني: اللات و العزّى و مناة و نائلة و نحوها. و هي جمع أنثى، كرباب و ربّى (1). عن الحسن لم يكن حيّ من أحياء العرب إلّا و لهم صنم يعبدونه، و يسمّونه أنثى بني فلان، و ذلك إمّا لتأنيث أسمائها، و إمّا لأنّها كانت جمادات، و الجمادات تؤنّث من حيث إنّها ضاهت الإناث لانفعالها.

و لعلّه تعالى ذكر هذه الأصنام بهذا الاسم تنبيها على أنّهم يعبدون ما يسمّونه إناثا، لأنه ينفعل و لا يفعل، و من حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل، ليكون دليلا على تناهي جهلهم و فرط حماقتهم.

و قيل: كانوا يقولون في أصنامهم: هنّ بنات اللّه. و قيل: المراد الملائكة، لقولهم: الملائكة بنات اللّه.

و ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال: كان في كلّ واحدة منهنّ شيطانة أنثى تتراءى للسّدنة و تكلّمهم، و ذلك من صنع الشيطان الّذي ذكره سبحانه بعد ذلك.

وَ إِنْ يَدْعُونَ و ما يعبدون بعبادتها إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً عاريا عن الخير، لأنّه الّذي أغراهم بعبادتها فأطاعوه، فجعل طاعتهم له في ذلك عبادة له. و المارد

ص: 154


1- الربّى: الشاة التي وضعت حديثا، و جمعها: رباب. الصحاح 1: 131.

و المريد الّذي لا يعلق بخير. و أصله الملاسة، و منه: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ (1)، و غلام أمرد، و شجرة مرداء للّتي تناثر ورقها.

لَعَنَهُ اللَّهُ صفة ثانية للشيطان، أي: أبعده اللّه عن الخير، بإيجاب الخلود في نار جهنّم وَ قالَ بعد أن لعنه اللّه لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً عطف عليه، أي: شيطانا مريدا جامعا بين لعنة اللّه و هذا القول الشنيع الدالّ على فرط عداوته للناس. و المفروض بمعنى المقطوع، أي: نصيبا قدّر لي و فرض، من قولهم:

فرض له في العطاء. و أصل الاتّخاذ أخذ الشي ء على وجه الاختصاص، فكلّ من أطاعه فإنّه من نصيبه و حزبه، كما قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ (2).

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في هذه الآية: «من بني آدم تسعة و تسعون في النار، و واحد في الجنّة».

و في رواية أخرى: «من كلّ ألف واحد للّه، و سائرهم للنار و لإبليس».

أوردها أبو حمزة الثمالي في تفسيره.

و قد برهن سبحانه و تعالى أوّلا على أنّ الشرك ضلال في الغاية، على سبيل التعليل بأن ما يشركون به ينفعل و لا يفعل فعلا اختياريا، و ذلك ينافي الالوهيّة غاية المنافاة، فإنّ الإله ينبغي أن يكون فاعلا غير منفعل.

ثم استدلّ عليه بأنّه عبادة الشيطان، و هي أفظع الضلال لثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّه مريد منهمك في الضلال، لا يعلّق بشي ء من الخير و الهدى، فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الهدى.

و الثاني: أنّه ملعون لضلاله، فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال و اللعن.

ص: 155


1- النمل: 44.
2- الحجّ: 4.

و الثالث: أنّه في غاية العداوة و السعي في إهلاكهم، و موالاة من هذا شأنه غاية الضلال، فضلا عن عبادته.

وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحقّ. و إضلاله دعاؤه إلى الضلالة، و تسبيبه له بحبائله و غروره و وسوسته. وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة، كطول البقاء في الدنيا، و طول الأمل فيها، و تزيينها في نظرهم، و أن لا بعث و لا عقاب وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ يشقّونها، لتحريم ما أحلّه اللّه.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام معناه: «و ليقطّعنّ الآذان من أصولها».

و هو عبارة عمّا كانت العرب تفعل بالبحائر (1)، فإنّهم كانوا يشقّون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن و جاء الخامس ذكرا، و حرّموا على أنفسهم الانتفاع بها. و سنذكر تفصيل ذلك في سورة المائدة (2) إن شاء اللّه تعالى.

وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ عن وجهه صورة أو صفة. و يندرج فيه ما قيل: من فق ء عين الحامي (3) و إعفائه عن الركوب، و خصاء العبيد، و الوشم (4) و الوشر، و اللواط و السحق و نحوهما، و عبادة الشمس و القمر، و تغيير فطرة اللّه الّتي هي الإسلام، و استعمال الجوارح و القوى فيما لا يعود على النفس كمالا، و لا يوجب لها من اللّه زلفى. و عموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا، لكن الفقهاء رخّصوا في خصاء البهائم للحاجة. و الجمل الأربع حكاية عمّا ذكره الشيطان نطقا أو أتاه فعلا.

عن ابن عبّاس و مجاهد و الحسن و قتادة: معنى خلق اللّه: دين اللّه و أمره..

ص: 156


1- جمع بحيرة، و بحر الناقة: شقّ أذنها.
2- راجع ص: 332.
3- الحامي: الفحل من الإبل الذي طال مكثه عندهم.
4- و شم اليد: غرزها بإبرة ثم ذرّ عليها النيلج، فصار فيها رسوم و خطوط. و الوشر: أن تحدّد المرأة أسنانها و ترقّقها.

و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و يؤيّده قوله سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (1). و المراد تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا ناصرا مِنْ دُونِ اللَّهِ بإيثاره ما يدعو إليه على ما أمر اللّه به، و مجاوزته عن طاعة اللّه إلى طاعته فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً ظاهرا، إذ ضيّع رأس ماله، و بدّل مكانه من الجنّة بمكان من النار، و أيّ خسران أعظم من استبدال النار الجنّة؟! يَعِدُهُمْ مالا ينجزه وَ يُمَنِّيهِمْ مالا ينالون. و قيل: يعدهم الفقر إن أنفقوا مالهم في أبواب البرّ، و يمنّيهم طول البقاء في الدنيا و نعيمها ليؤثروها على الآخرة وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً و هو إظهار النفع فيما فيه الضرر. و هذا الوعد إمّا بالخواطر الفاسدة، أو بلسان أوليائه.

أُولئِكَ الّذين اتّخذوا الشيطان وليّا من دون اللّه، فاغترّوا بغروره، و تابعوه فيما دعاهم مَأْواهُمْ مستقرّهم جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً معدلا و مهربا، من: حاص يحيص، إذا عدل. و «عنها» حال منه، و ليس صلة له، لأنّه اسم مكان، و إن جعل مصدرا فلا يعمل أيضا فيما قبله.

[سورة النساء [4]: آية 122]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [122]

و لمّا أوعد الكفّار بالعذاب الأليم، وعد المؤمنين بجنّات النعيم، فقال:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي: وعده وعدا، و حقّ ذلك حقّا. فالأوّل مؤكّد لنفسه، لأنّ

ص: 157


1- الروم: 30.

مضمون الاسميّة الّتي قبله وعد. و الثاني مؤكّد لغيره. و يجوز أن ينتصب الموصول بفعل يفسّره ما بعده. و وعد اللّه تعالى بقوله: «سندخلهم» لأنّه بمعنى: نعدهم إدخالهم. و ينتصب «حقّا» على أنّه حال من المصدر.

وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا جملة مؤكّدة بليغة. و الاستفهام فيه معنى النفي، أي: لا أحد أصدق من اللّه قولا فيما أخبر و أوعد، و فيما وعد. و المقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانيّة الكاذبة لقرنائه بوعد اللّه الصادق لأوليائه، أو المبالغة في توكيده ترغيبا للعباد في تحصيله.

[سورة النساء [4]: الآيات 123 الى 124]

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً [123] وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [124]

و بعد ذكر الوعد و الوعيد قال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ أي: ليس ما وعد اللّه تعالى من الثواب ينال بأمانيّكم أيّها المسلمون وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ و لا بأمانيّ اليهود و النصارى، و إنّما ينال بالإيمان و العمل الصالح.

و عن الحسن: ليس الإيمان بالتمنّي، و لكن ما وقر في القلب، و صدّقه العمل.

روي أنّ المسلمين و أهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم، و كتابنا قبل كتابكم، و نحن أولى باللّه منكم. و قال المسلمون: نحن أولى منكم، لأنّ نبيّنا خاتم النبيّين، و كتابنا يقضي على الكتب المتقدّمة، فنزلت هذه الآية.

و قيل: الخطاب مع المشركين. و يدلّ عليه تقدّم ذكرهم، أي: ليس الأمر بأمانيّ المشركين، و هو قولهم: لا جنّة و لا نار، و قولهم: إن كان الأمر كما يزعم

ص: 158

هؤلاء لنكوننّ خيرا منهم و أحسن حالا، و لا أمانيّ أهل الكتاب، و هو قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى (1) و قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً (2).

ثمّ قرّر ذلك و قال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ عاجلا و آجلا، لما

روي عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت هذه الآية بكينا و حزنّا و قلنا: يا رسول اللّه ما أبقت هذه الآية من شي ء. فقال: أما و الّذي نفسي بيده إنّها فيكم أنزلت، و لكن أبشروا و قاربوا و سدّدوا، إنّه لا تصيب أحدا منكم مصيبة إلّا كفّر اللّه بها خطيئة، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه. رواه الواحدي (3) في تفسيره مرفوعا.

و روي أيضا لمّا نزل قال أبو بكر: فمن ينجو مع هذا يا رسول اللّه؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما تحزن؟ أما تمرض؟ أما يصيبك الأذى؟ قال: بلى يا رسول اللّه. قال:

هو ذاك.

وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً و لا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة اللّه تعالى و نصرته من يواليه و ينصره في دفع العذاب عنه.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ بعضها أو شيئا منها، فإنّ كلّ أحد لا يتمكّن من كلّها، و ليس مكلّفا بها مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى في موضع الحال من المستكن في «يعمل» و «من» للبيان، أو من الصالحات، أي: كائنة من ذكر أو أنثى. و «من» للابتداء. وَ هُوَ مُؤْمِنٌ حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور، تنبيها على أنّه لا اعتداد بالعمل دون الإيمان في استدعاء

الثواب فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً بنقص شي ء من الثواب، و إذا لم ينقص ثواب المطيع

ص: 159


1- البقرة: 111.
2- البقرة: 80.
3- الوسيط 2: 119.

فبالحريّ أن لا يزاد عقاب العاصي، لأنّ المجازي أرحم الراحمين، و لذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم: يدخلون، على البناء للمفعول.

[سورة النساء [4]: الآيات 125 الى 126]

وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً [125] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً [126]

ثم بيّن سبحانه من يستحقّ الوعد الّذي ذكره قبل، فقال: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً الاستفهام للتقرير، أي: لا أحد أحسن اعتقادا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص نفسه للّه لا يعرف لها ربّا سواه. و قيل: بذل وجهه له في السجود. و في هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشريّة وَ هُوَ مُحْسِنٌ آت بالحسنات، تارك للسيّئات.

و في الحديث: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

وَ اتَّبَعَ و اقتدى مِلَّةَ إِبْراهِيمَ الموافقة لدين الإسلام المتّفق على صحّتها، كالإقرار بالتوحيد و عدله، و تنزيهه عمّا لا يليق به، و فعل الصلاة إلى الكعبة، و الطواف حولها، و سائر المناسك حَنِيفاً مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحقّ، من: تحنّف بمعنى: مال. و هو حال من المتّبع، أو الملّة، أو إبراهيم وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أي: اصطفاه، و خصّصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند

ص: 160

خليله. و إنّما أعاد ذكره و لم يضمر تفخيما له، و تنصيصا على أنّه الممدوح.

و الخلّة من الخلال، فإنّه ودّ تخلّل النفس و خالطها. و قيل: من الخلل، فإنّ كلّ واحد من الخليلين يسدّ خلل الآخر. أو من الخلّ، و هو الطريق في الرمل، فإنّهما يترافقان في الطريقة. أو من الخلّة بمعنى الخصلة، فإنّهما يتوافقان في الخصال. أو من الخلّة و الخلولة بمعنى الفقر و الاحتياج، لأنّه افتقر إلى اللّه عزّ و جلّ حسب، و توكّل عليه، و انقطع بحوائجه إليه، و اشتغل به عمّا سواه.

و هذه الجملة استئناف جي ء بها للترغيب في اتّباع ملّته، و الإيذان بأنّه نهاية في الحسن، و غاية كمال البشر، فيجب التبعيّة في ملّته.

و روى عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه كان إبراهيم عليه السّلام يضيف الضيفان، و يطعم المساكين، و الناس أصابهم جدب و قحط في سنة، فبعث إلى خليل له بمصر يلتمس منه طعاما لأهله.

فقال خليله: لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت، و لكن يريد للأضياف، و قد أصابنا ما أصاب الناس.

فاجتاز غلمانه ببطحاء (1) ليّنة، فملؤا منها الغرائر (2) حياء من الناس. فلمّا أخبروا إبراهيم عليه السّلام ساءه الخبر، فغلب النوم عينيه فنام، و قامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت أحسن الحوّارى (3) فاختبزت. فاستيقظ إبراهيم عليه السّلام فاشتمّ رائحة الخبز، فقال: من أين لكم هذا؟

فقالت: من خليلك المصري..

ص: 161


1- البطحاء: مسيل فيه دقاق الحصى، و بطحاء الوادي: تراب ليّن ممّا جرّته السيول.
2- الغرارة واحدة الغرائر التي للتّبن، أي: وعاء للتّبن. انظر الصحاح 2: 769.
3- الحوّارى بالضمّ و تشديد الواو و الراء مفتوحة: الدقيق الأبيض، و هو لباب الدقيق و أجوده و أخلصه. لسان العرب 4: 220.

فقال: بل هو من عند خليلي اللّه عزّ و جلّ، فسمّاه اللّه خليلا.

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا، يختار منهما ما يشاء و من يشاء، كما اختار إبراهيم عليه السّلام بالخلّة.

و قيل: هو متّصل بذكر العمّال، مقرّر لوجوب طاعته على أهل السماوات و الأرض، و كمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال.

وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً إحاطة علم و قدرة، فكان عالما بأعمالهم، فيجازيهم على خيرها و شرّها.

[سورة النساء [4]: الآيات 127 الى 128]

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً [127] وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [128]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا صدّر السورة بذكر الأيتام و النساء، و بيان سهام إرثهم، و الأمر بمراعاة حقوقهم و الشفقة عليهم، لأنّهم أضعف الناس، عاد هاهنا إلى ذكرهم تأكيدا و مبالغة، بعد انجرار الكلام إلى مباحث غيرهم، و نحن بيّنّا وجه

ص: 162

ارتباط بعضها ببعض، فقال سبحانه: وَ يَسْتَفْتُونَكَ أي: يسألونك الفتوى، و هو تبيين المشكل من الأحكام، و يستخبرونك يا محمد عن الحكم فِي النِّساءِ فيما يجب لهنّ من ميراثهنّ.

روي في سبب نزوله أنّ عيينة بن حصين أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أخبرنا أنّك تعطي الابنة النصف و الأخت النصف، و إنّما كنّا نورّث من يشهد القتال و يحوز الغنيمة. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كذلك أمرت.

و ذلك قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ يبيّن لكم حكمه فيهنّ.

وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ عطف على اسم اللّه تعالى، أو ضميره المستكن في «يفتيكم»، و ساغ للفصل. فيكون الإفتاء مسندا إلى اللّه تعالى، و إلى ما في القرآن من قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ (1)، باعتبارين مختلفين. و نظيره: أعجبني زيد و كرمه، و أغناني زيد و عطاؤه.

أو استئناف معترض، لتعظيم المتلوّ عليهم. فيكون «ما يتلى عليكم» مبتدأ، و «في الكتاب» خبره. و المراد به اللوح المحفوظ.

و يجوز أن ينصب على معنى: و يبيّن لكم ما يتلى في الكتاب. أو يخفض على القسم، كأنّه قيل: و أقسم بما يتلى في الكتاب.

و لا يجوز عطفه على المجرور في «فيهنّ» لاختلاله لفظا و معنى. أما لفظا فلأنّه لا يجوز أن يعطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجارّ. و أما معنى فلأنه لا يستقيم المعنى أن يقال: في حقّ ما يتلى عليكم.

و قوله: فِي يَتامَى النِّساءِ صلة «يتلى» إن عطف الموصول على ما قبله، أي: يتلى عليكم في شأنهنّ، كما تقول: كلّمتك اليوم في زيد، و إلّا فبدل من «فيهنّ» أو صلة اخرى ل «يفتيكم فيهنّ». و إضافة «يتامى» إلى «النساء» بمعنى «من» لأنها

ص: 163


1- النساء: 11- 12.

إضافة الشي ء إلى جنسه، نحو: ثوب خزّ، و سحق (1) عمامة.

اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ أي: لا تعطونهنّ ما فرض لهنّ من الميراث وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ في أن تنكحوهنّ، أو عن أن تنكحوهنّ، إذ قد روي أن في الجاهليّة كان الرجل منهم يضمّ اليتيمة

و مالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوّجها و أكل المال، و إن كانت دميمة (2) عضلها عن التزوّج حتى تموت فيرثها.

و الواو تحتمل الحال و العطف.

و قوله: وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على «يتامى النساء». و كانوا في الجاهليّة لا يورّثونهم كما لا يورّثون النساء، بل إنّما يورّثون الرجال الّذين يقومون بالأمور، دون الأطفال و النساء كما مرّ.

وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أيضا عطف عليه، أي: و يفتيكم أو ما يتلى عليكم في يتامى النساء، و في المستضعفين من الصبيان، أن تعطوهم حقوقهم، و في أن تقوموا لليتامى بالعدل في أنفسهم و في مواريثهم، أن تعطوا كلّ ذي حقّ منهم حقّه، صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى. و يجوز أن يكون منصوبا، بمعنى:

و يأمركم أن تقوموا.

و هذا خطاب للأئمّة في أن ينظروا لهم، و يستوفوا حقوقهم، أو للقوّام بالنصفة في شأنهم.

وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ من عدل و غيره من وجوه البرّ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً وعد لمن آثر الخير في ذلك.

عن أبي جعفر صلوات اللّه عليه و سعيد بن المسيّب أنّه كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج، و كانت قد دخلت في السنّ، و كانت عنده امرأة شابّة.

ص: 164


1- السّحق: الثوب البالي. و سحق ثوب، أي: بال.
2- دمّ يدمّ دمامة: كان حقيرا و قبح منظره، فهو دميم، و مؤنّثه: دميمة.

سواها، فطلّقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك و صبرت على الأثرة (1)، و إن شئت تركتك. قالت: بلى راجعني و أصبر على الأثرة، فراجعها.

فهذا الصلح الّذي بلغنا أنّ اللّه تعالى أنزل فيه.

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها توقّعت

منه لما ظهر لها من الأمارات. و «امرأة» فاعل فعل يفسّره الظاهر نُشُوزاً تجافيا عنها، و ترفّعا عن صحبتها، و استعلاء و ارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها، كراهة لها و منعا لحقوقها أَوْ إِعْراضاً بأن يقلّ مجالستها و محادثتها و مؤانستها، لطعن في سنّ، أو شي ء في خلق أو خلق، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك فَلا جُناحَ فلا حرج و لا إثم عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً أن يتصالحا، بأن تحطّ له بعض المهر أو القسم، أو تهب له شيئا تستميله به.

و قرأ الكوفيّون: أن يصلحا، من أصلح بين المتنازعين. و على هذا جاز أن ينتصب «صلحا» على المفعول به، و «بينهما» ظرف أو حال منه. أو على المصدر كما في القراءة الأولى، و المفعول «بينهما».

وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو سوء العشرة، أو من الخصومة و الإعراض. أو لا يراد به التفضيل، بأن يراد أنّ الصلح خير من الخيور، كما أنّ الخصومة من الشرور. و هو اعتراض. و كذا قوله: وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ و لذلك اغتفر عدم تجانسهما. و الأوّل للترغيب في المصالحة، و الثاني لتمهيد العذر في المماكسة.

و معنى إحضار الأنفس الشحّ جعلها حاضرة له لا يغيب عنها أبدا، إذ هو كالمطبوعة عليه في اللزوم، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عن قسمتها و التقصير في حقّها، و لا الرجل يسمح بأن يمسكها و يقوم بحقّها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحبّ غيرها.

ص: 165


1- الأثرة: الاختيار، أي: إن شئت راجعتك و صبرت على اختياري المرأة الشابّة.

وَ إِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة على نسائكم و إن كرهتموهنّ، و تصبروا على ذلك وَ تَتَّقُوا النشوز و الإعراض و نقص الحقّ،

و ما يؤدّي إلى الأذى و الخصومة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان و الخصومة خَبِيراً عليما به و بالغرض فيه، فيجازيكم عليه. أقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثابته إيّاهم عليها الّذي هو في الحقيقة جواب الشرط، إقامة السبب مقام المسبّب، إذ العلم سبب المجازاة.

و عن ابن عبّاس أنّ سودة بنت زمعة خشيت أن يطلّقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: لا تطلّقني و أجلسني مع نسائك، و لا تقسم لي و اجعل يومي لعائشة، فنزلت الآية.

[سورة النساء [4]: الآيات 129 الى 130]

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [129] وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [130]

و لمّا تقدّم ذكر النشوز و الصلح بين الزوجين، عقّبه سبحانه بأنّه لا يكلّف من ذلك ما لا يستطاع، فقال: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي: لا تقدروا أبدا أن تسوّوا بين النساء في المحبّة و المودّة في القلب وَ لَوْ حَرَصْتُمْ على تحرّي ذلك و بالغتم فيه، لأنّ العدل أن لا يقع ميل البتّة، و هو متعذّر. و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقسم بين نسائه فيعدل و يقول: اللّهمّ هذه قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك و لا أملك، يعني: المحبّة.

قيل: إنّ العدل بينهنّ صعب، و هو أن يسوّي بينهنّ في القسمة و النفقة و التعهّد و النظر و المؤانسة، و غير ذلك ممّا لا يحصى، فهو كالخارج عن حدّ الاستطاعة. هذا

ص: 166

إذا كنّ محبوبات كلّهنّ، فكيف إذا مال القلب مع بعضهنّ؟!

فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ و لا تعدلوا بأهوائكم عمّن لم تملكوا محبّة منهنّ كلّ العدول بترك المستطاع أيضا، و الجور على المرغوب عنها، فإنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، فلا تجوروا عليهنّ في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم، من حقّ القسمة و النفقة و الكسوة و العشرة بالمعروف من غير رضا منها فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ الّتي ليست ذات بعل و لا مطلّقة.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول عن قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (1) ثمّ قال وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فبين القولين فرق. فقال أبو جعفر الأحول: فلم يكن في ذلك عندي جواب حتى قدمت المدينة، فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام، فسألته عن ذلك، فقال: أمّا قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا (2) فإنّما عني به التفقّه.

و أمّا قوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا فإنّه عنى به المودّة، فإنّه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة. قال: فرجعت إلى الرجل فأخبرته، فقال: هذا ما حملته الإبل من الحجاز» (3).

و روى أبو قلابة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كانت له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّا في بيت الاخرى».

و ايضا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما، جاء يوم القيامة و أحد شقّيه مائل».

وَ إِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من أمورهنّ في القسمة و التسوية

ص: 167


1- النساء: 3.
2- النساء: 3.
3- تفسير القمّي 1: 155.

وَ تَتَّقُوا فيما يستقبل في أمرهنّ، و تتركوا الميل الّذي نهاكم اللّه عنه فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً

فيغفر لكم ما مضى من ميلكم، من الحيف و الميل في ذلك رَحِيماً يرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك.

وَ إِنْ يَتَفَرَّقا و إن فارق كلّ واحد منهما صاحبه، و أبيا الصلاح بينهما يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا اي: يرزقه اللّه زوجا خيرا من زوجه، و عيشا أهنأ من عيشه مِنْ سَعَتِهِ من غناه وسعة فضله، و رزقه من كمال قدرته. و السعة بمعنى الغنى و المقدرة. و الواسع الغنيّ المقتدر. وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً واسع الفضل على عباده، مقتدرا متقنا في أفعاله و أحكامه حَكِيماً فيما يدبّرهم.

[سورة النساء [4]: الآيات 131 الى 132]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً [131] وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً [132]

ثمّ نبّه على كمال سعته و قدرته بقوله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ من يملك ما في السماوات و ما في الأرض لا يتعذّر عليه الإغناء بعد الفرقة، و الإيناس بعد الوحشة.

ثمّ ذكر الوصيّة بالتقوى عن نواهيه، فإنّ بها ينال خير الدنيا و الآخرة، فقال:

وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود و النصارى و غيرهم في كتبهم وَ إِيَّاكُمْ و وصيناكم أيضا أيّها المسلمون في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ بأن اتّقوا اللّه. يعني: التقوى وصيّة قديمة ما زال يوصي اللّه بها عباده، لأنّ بالتقوى تنال

ص: 168

النجاة و السعادة. و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ التوصية في معنى القول.

وَ إِنْ تَكْفُرُوا على إرادة القول، أي: و قلنا لهم: و لكم أن تكفروا- أي:

تجحدوا- وصيّته إيّاكم فتخالفوها فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ اللّه مالك الملك كلّه، لا يتضرّر بكفركم و معاصيكم، كما لا ينتفع بشكركم و تقواكم.

و إنّما وصّاكم لرحمته، لا لحاجته و لا لاستنصاره بكم.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن الخلق و عبادتهم حَمِيداً في ذاته، حمد أو لم يحمد، لأنّه المنعم لا غير.

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ذكره ثالثا للدلالة على كونه غنيّا حميدا، فإنّ جميع المخلوقات تدلّ لحاجتها على غناه، و بما فاض عليها من الوجود و أنواع الخصائص و الكمالات على كونه حميدا.

و قوله: وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا راجع إلى قوله: «يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» فإنّه توكّل بكفايتهما. و ما بينهما تقرير لذلك.

[سورة النساء [4]: آية 133]

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً [133]

و كذا لتقرير غناه و قدرته، و تهديد من كفر به و خالف أمره، قال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يفنيكم و يعدمكم أَيُّهَا النَّاسُ و مفعول «يشأ» محذوف دلّ عليه الجواب وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ و يوجد قوما آخرين مكانكم. أو خلقا آخرين مكان الإنس. وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ من الإعدام و الإيجاد قَدِيراً بليغ القدرة، لا يعجزه مراد.

قيل: هذه الآية خطاب لمن عادى رسول اللّه عليه السّلام من العرب. و معناه معنى

ص: 169

قوله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (1). لما

روي أنّه لمّا نزل ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده على ظهر سلمان و قال: «إنّهم قوم هذا»

يعني: أبناء فارس.

[سورة النساء [4]: آية 134]

مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [134]

ثمّ ذكر سبحانه عظم ملكه و قدرته بأنّ جزاء الدارين عنده، فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يجاهد للغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فماله يطلب أخسّهما؟ فليطلبهما، كمن يقول: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (2). أو ليطلب الأشرف منهما، فإنّ من جاهد خالصا للّه تعالى لم تخطئه الغنيمة، و له في الآخرة ما هي في جنبه كلا شي ء. أو فعند اللّه ثواب الدارين، فيعطي كلّا ما يريده، لقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ (3) الآية.

وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً عالما عارفا بالأغراض، فيجازي كلّا بحسب قصده.

[سورة النساء [4]: آية 135]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [135]

و لمّا ذكر سبحانه أنّ عنده ثواب الدنيا و الآخرة، عقّبه بأمر العباد بالقسط،

ص: 170


1- محمّد: 38.
2- البقرة: 201.
3- الشورى: 20.

و القيام بالحقّ، و ترك الميل و الجور، لينالوا ما عنده من ثواب الدارين، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مواظبين على العدل، مجتهدين في إقامته، حتّى لا تجوروا أصلا شُهَداءَ لِلَّهِ بالحقّ، تقيمون شهاداتكم لوجه اللّه كما أمركم بإقامتها. و هذا خبر ثان، أو حال. وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ و لو كانت الشهادة على أنفسكم، بأن تقرّوا عليها، لأنّ الشهادة بيان الحقّ، سواء كان عليه أو على غيره أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ و لو على والديكم

و أقاربكم إِنْ يَكُنْ أي:

المشهود عليه، أو كلّ واحد منه و من المشهود له غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة عليه لغناه، و لا تجوروا فيها ميلا و ترحّما عليه لفقره فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما بالغنيّ و الفقير، و بالنظر لهما. فلو لم تكن الشهادة عليهما أولهما صلاحا لما شرعها. و هو علّة الجواب، أقيمت مقامه.

و الضمير في «بهما» راجع إلى ما دلّ عليه قوله: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» لا إلى أحد المذكورين، فلذلك ثنّى و لم يفرد. و هو جنس الغنيّ و جنس الفقير. كأنّه قيل: فاللّه أولى بجنس الغنيّ و الفقير، أي: بالأغنياء و الفقراء. فلا يرد: أن الأولى أن لا يثنّى الضمير في «أولى بهما» بل حقّه أن يوحّد، لأنّ قوله: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» في معنى: إن يكن أحد هذين. و يشهد على هذا المعنى أنّه قرئ: فاللّه أولى بهم.

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا لأن تعدلوا عن الحقّ. أو كراهة أن تعدلوا، من العدل. وَ إِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن شهادة الحقّ، أو حكومة العدل. و قرأ ابن عامر و حمزة: و إن تلوا، بضمّ اللام و سكون الواو، على معنى: و إن ولّيتم إقامة الشهادة أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليه.

و في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،

ص: 171

و سلوك طريق العدل في النفس و الغير.

[سورة النساء [4]: الآيات 136 الى 139]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [136]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [137] بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [138] الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [139]

و لمّا بيّن سبحانه أحكام الإيمان و شعائره، عقّبه بالثبات فيه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اي: ثبتوا و داموا على الإيمان آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ منجّما عَلى رَسُولِهِ يعني: القرآن وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ دفعة مِنْ قَبْلُ المراد به جنس الكتب، أي: بكلّ الكتاب الّذي أنزل قبل القرآن.

و قيل: الخطاب للمنافقين. و المعنى: يا أيّها الّذين أظهروا الإيمان، آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بلسانكم.

و قيل: إنّ هذه الآية نزلت في ابن سلام و أصحابه، إذ قالوا: يا رسول اللّه إنّا نؤمن بك و بكتابك و بموسى و التوراة و عزير، و نكفر بما سواه. فالمعنى: يا أيّها الّذين آمنوا ببعض الرسل و الكتب، آمنوا إيمانا عامّا يعمّ الكتب و الرسل، فإنّ الإيمان بالبعض كلا إيمان. و بعد نزول هذه الآية آمنوا كلّهم.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: نزّل و انزل على البناء للمفعول.

ص: 172

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و من يكفر بشي ء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه، لأنّ الكفر بالبعض كفر بالكلّ، ألا ترى كيف قدّم الإيمان بالجميع.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: اليهود آمنوا بموسى عليه السّلام ثُمَّ كَفَرُوا به حين عبدوا العجل ثُمَّ آمَنُوا بعد عوده إليهم ثُمَّ كَفَرُوا بعيسى عليه السّلام

ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: هم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك المسلمين بإظهار الإيمان ثمّ بإظهار الكفر به، كما تقدّم ذكرهم عند قوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (1).

و قيل: هم قوم تكرّر منهم الارتداد، ثمّ أصرّوا على الكفر و ازدادوا تماديا في الغيّ.

و قيل: هم المنافقون أظهروا الإيمان بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ الكفر به، ثمّ الايمان به، ثمّ الكفر به، ثمّ ازدادوا كفرا بإصرارهم على الكفر حتّى ماتوا عليه.

و عن ابن عبّاس: دخل في هذه الآية كلّ منافق كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بإظهارهم الإيمان، فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الإيمان لما كفروا فيما بعد وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا سبيل الجنّة، كما قال فيما بعد: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ (2). أو المعنى: أنّه يخذلهم

ص: 173


1- آل عمران: 72.
2- النساء: 168- 169.

و لا يلطف بهم، عقوبة لهم على كفرهم المتقدّم، إذ يستعبد منهم أن يتوبوا عن الكفر و يثبتوا على الإيمان الصحيح، لأنّ قلوب أولئك الّذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر و مرنت على الردّة، و كان الإيمان أهون شي ء عندهم و أدونه.

و ليس المعنى: أنّهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردّة و نصحت توبتهم لم، يقبل منهم و لم يغفر لهم لأنّ ذلك مقبول مستوجب للغفران و الهداية. و اللام للمبالغة في النفي. و خبر «كان» محذوف، أي: و ما كان اللّه أن يوفّقهم بالايمان ليغفر لهم.

و يدلّ على أنّ هذه الآية في المنافقين قوله بعد ذلك: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي:

أخبرهم يا محمد بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فإنّهم قد آمنوا في الظاهر و كفروا في السرّ مرّة بعد أخرى، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار على النفاق و إفساد الأمر على المؤمنين.

و وضع «بشّر» مكان «أنذر» تهكّم بهم.

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ في محلّ النصب أو الرفع على الذمّ، بمعنى: أريد الّذين، أو هم الّذين كانوا يوالون الكفرة، و يطلبون عندهم العزّة و الغلبة، باتّخاذهم إيّاهم أولياء من دون المؤمنين. فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أ يتعزّزون بموالاتهم فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا يتعزّز إلّا من أعزّه، و قد كتب العزّة لأوليائه فقال: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (1)، لا يعتدّ بعزّة غيرهم بالإضافة إليهم.

[سورة النساء [4]: الآيات 140 الى 141]

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً

ص: 174


1- المنافقون: 8.

مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [140] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [141]

روي أنّ المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن، فأخبر اللّه تعالى عن حالهم، و نهى المؤمنين عن مجالستهم و مخالطتهم، فقال:

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ يعني: القرآن. و قرأ به عاصم و يعقوب. و قرأ الباقون:

نزّل على البناء للمفعول، و القائم مقام فاعله قوله: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ و هي المخفّفة.

و المعنى: أنّه إذا سمعتم آيات اللّه يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها حالان من الآيات لتقييد النهي عن المجالسة في قوله: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ و الضمير للكفرة المدلول عليهم بقوله: «يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها» كأنّه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها و المستهزئين بها.

حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ و المراد به ما نزل عليهم بمكّة من قوله:

وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (1). و ذلك أنّ المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن فيستهزءون به، فنهي المسلمون عن القعود معهم. و كان اليهود في المدينة يفعلون مثل فعلهم، فنهوا أن يجلسوا معهم. و كان المنافقون يجالسونهم، فقيل لهم: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني: إذا جالستموه على الخوض في كتاب اللّه و الهزء به فأنتم مثلهم في الإثم، لأنّكم

ص: 175


1- الأنعام: 68.

قادرون على الإعراض عنهم و الإنكار عليهم. أو في الكفر إن رضيتم بذلك. أو لأنّ الّذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين. و يدلّ عليه: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً يعني: القاعدين و المقعود معهم.

و «إذا» ملغاة، لوقوعها بين الاسم و الخبر، و لذلك لم يذكر بعدها الفعل.

و إفراد «مثلهم» لأنّه كالمصدر، أو للاستغناء به، لإضافته إلى الجمع.

و في هذا دلالة على تحريم مجالسة الكفّار و الفسّاق و أهل البدع من أيّ جنس كانوا.

روى العيّاشي بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال: «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذّب به، و يقع في أهله، فقم من عنده، و لا تقاعده» (1).

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون وقوع أمركم. و هو بدل من «الّذين

يتّخذون»، أو صفة للمنافقين و الكافرين، أو ذمّ مرفوع أو منصوب، أو مبتدأ خبره فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين لكم، فأسهموا لنا فيما غنمتم وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ من الحرب، للتهاون الواقع منكم في تدبير الحرب، و تقصيركم فيه. سمّى ظفر المسلمين فتحا و ظفر الكافرين نصيبا، تعظيما لشأن المسلمين، و تحقيرا لحظّ الكافرين، فإنّه مقصور على أمر دنيويّ سريع الزوال قالُوا للكافرين أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي: قالوا للكفرة: ألم نغلبكم و نتمكّن من قتلكم فأبقينا عليكم؟

و الاستحواذ الاستيلاء. و كان القياس أن يقال: استحاذ يستحيذ استحاذة، فجاءت على الأصل.

وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبّطناهم عنكم، بتخييل ما ضعفت به قلوبهم،

ص: 176


1- تفسير العيّاشي 1: 281 ح 290.

و توانينا في مظاهرتهم عليكم، و أطلعناكم على أسرارهم، و أفضينا إليكم بأخبارهم، فاعرفوا لنا هذا الحقّ، و أشركونا فيما أصبتم.

فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيّها المؤمنون و بين المنافقين يَوْمَ الْقِيامَةِ فيدخل المؤمنين الجنّة و المنافقين النار.

وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا حينئذ، أو في الدنيا.

و المراد بالسبيل الحجّة، و إن جاز أن يغلبوهم في الدنيا بالقوّة، و لكنّ المؤمنين منصورون بالدلالة و الحجّة.

قال الجبائي: و لو حملناه على الغلبة لكان ذلك صحيحا، لأنّ غلبة الكفّار للمؤمنين ليس ممّا فعل اللّه تعالى، فإنّه لا يفعل القبيح، و ليس كذلك غلبة المؤمنين للكفّار، فإنّه يجوز أن ينسب إليه تعالى.

و احتجّ به أصحابنا و الشافعيّة على فساد شراء الكافر المسلم.

[سورة النساء [4]: الآيات 142 الى 143]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [142] مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا

إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [143]

ثمّ بيّن سبحانه أفعالهم القبيحة، فقال: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ أي:

يفعلون فعل المخادع، من إظهار الايمان و إبطان الكفر وَ هُوَ خادِعُهُمْ من:

خادعته فخدعته، أي: فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث عصم دماءهم و أموالهم في الدنيا، و كلّفهم بالأمور الشرعيّة، و أعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة. و قد مرّ الكلام فيه أوّل سورة البقرة (1).

ص: 177


1- راجع ج 1: 60.

وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى متثاقلين لا عن رغبة، كالمكره على الفعل يُراؤُنَ النَّاسَ يقصدون بصلاتهم الرياء و السمعة. و المراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل، ك: نعّم و ناعم، أو للمقابلة، لأنّ المرائي يري الناس عمله، و هم يرونه استحسانه وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا إذ المرائي لا يفعل إلّا بحضرة من يرائيه، و هو أقلّ أحواله. أو لأنّ ذكرهم باللسان قليل بالإضافة إلى الذكر بالقلب.

و قيل: المراد بالذكر الصلاة. يعني: لا يصلّون إلّا قليلا، لأنّهم لا يصلّون قطّ غائبين عن عيون الناس، و ما يجاهرون قليل.

و قيل: الذكر فيها، فإنّهم لا يذكرون فيها غير التكبير و التسليم.

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من واو «يراءون»، كقوله: «و لا يذكرون» أي:

يراءونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو من واو «يذكرون»، أو منصوب على الذمّ.

و المذبذب هو الّذي يذبّ عن كلا الجانبين و يذاد و يدفع، فلا يقرّ في حال واحدة، من الذبذبة، و هو جعل الشي ء مضطربا. و أصله الذبّ بمعنى الطرد. و مذبذبهم الشيطان. فالمعنى: ذبذبهم و ردّدهم الشيطان بين الكفر و الإيمان، فهم متردّدون بينهما متحيّرون.

لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ لا

منسوبين إلى المؤمنين فيكونوا مؤمنين، و لا إلى الكافرين فيكونوا كافرين. أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكلّيّة. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ مثلهم مثل الشاة العائرة (1) بين الغنمين، يتحيّر فينظر إلى هذه و إلى هذه».

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي: يخذله و يخلّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الحقّ و الصواب. و نظيره قوله: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (2).

روى العيّاشي بإسناده إلى مسعدة بن زياد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن .

ص: 178


1- أي: المتردّدة بين قطيعين لا تدري أيّهما تتبع.
2- النور: 40.

آبائه عليهم السّلام، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل: فيما النجاة غدا؟

قال: «النجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّه يخدعه، و نفسه يخدع لو شعر.

فقيل له: و كيف يخادع اللّه؟

قال: يعمل بما أمره اللّه ثم يريد غيره. فاتّقوا اللّه فاجتنبوا الرياء، فإنّه شرك باللّه، إنّ المرائي يوم القيامة يدعى بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له» (1).

[سورة النساء [4]: الآيات 144 الى 146]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [144] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [145] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [146]

ثم نهى سبحانه عن موالاة المنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ

أنصارا، فإنّه صنيع المنافقين و ديدنهم، فلا تتشبّهوا بهم في اتّخاذكم الكافرين أولياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فتكونوا منهم أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجّة بيّنة، فإنّ موالاتهم دليل على النفاق، أو سلطانا يسلّط عليكم عقابه. و الاستفهام للتقرير.

ص: 179


1- تفسير العيّاشي 1: 283 ح 295.

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ و هو الطبقة الّتي في قعر جهنّم.

و إنّما كان كذلك لأنّهم أخبث الكفرة، إذ ضمّوا إلى الكفر استهزاء بالإسلام و خداعا للمسلمين. و أمّا

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق و إن صام و صلّى و زعم أنّه مسلم: من إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف، و إذا ائتمن خان»

و نحوه فمن باب التشبيه و التغليظ.

و إنّما سمّيت طبقاتها السبع دركات لأنّها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض.

و قرأ الكوفيّون بسكون الراء. و هي لغة كالسّطر و السّطر. و التحريك أوجه، لأنّه يجمع على أدراك.

وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ لهؤلاء المنافقين نَصِيراً يخرجهم منه.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وَ أَصْلَحُوا ما أفسدوا من نيّاتهم و أسرارهم و أحوالهم في حال النفاق وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ و ثقوا و تمسّكوا بدينه، كما يثق المؤمنون المخلصون و يتمسّكون به وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعتهم إلّا وجهه سبحانه و تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ و من عدادهم و رفقائهم في الدارين.

و لم يقل: فأولئك المؤمنون أو من المؤمنين، غيظا عليهم.

وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فيساهمونهم و يشاركونهم فيه.

و «سوف» كلمة ترجية و إطماع، و هي من اللّه سبحانه إيجاب، لأنّه سبحانه أكرم الأكرمين، و وعد الكريم إنجاز.

[سورة النساء [4]: آية 147]

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ

وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً [147]

ثم خاطب المنافقين الّذين تابوا و آمنوا و أصلحوا أعمالهم، فقال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ ما يصنع بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ أي: أدّيتم الحقّ الواجب للّه عليكم،

ص: 180

و شكرتموه على نعمه وَ آمَنْتُمْ به و برسوله و بما جاء به من عند اللّه. أ يتشفّى به غيظا، أو يستجلب به نفعا، أو يستدفع به ضررا؟! لا بل هو الغنيّ المتعالي الّذي لا يجوز عليه شي ء من ذلك. و إنّما يعاقب المصرّ بكفره، لأنّ إصراره عليه كسوء مزاج يؤدّي إلى مرض، فإذا أزاله بالإيمان و الشكر، و نقّى عنه نفسه، تخلّص من تبعته.

و إنّما قدّم الشكر لأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلا فيشكر شكرا مبهما، ثمّ يمعن النظر حتّى يعرف المنعم فيؤمن به.

وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً مجازيكم على الشكر. فسمّى الجزاء باسم المجزيّ عليه، أي: مثيبا يقبل الشكر اليسير، و يعطي الجزيل عَلِيماً بحقّ شكركم و إيمانكم.

[سورة النساء [4]: آية 148]

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [148]

قال عليّ بن عيسى: لمّا سبق ذكر النفاق، و هو الإظهار خلاف الإبطان، بيّن سبحانه أنّه ليس كلّ ما يقع في النفس يجوز إظهاره، فإنّه ربما يكون ظنّا، فإذا تحقّق ذلك جاز إظهاره، فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ

و أنا أقول: الأنسب أن يقال في وجه الانتظام: إنّه لمّا كانت المخالفة في الدين بين الكافر و المؤمن، و عصبيّة كلّ منهما فيه موجبا للعداوة الباطنة و الظاهرة، و ذلك في مظانّ المشاتمة و صدور سوء الأقوال، و نهى اللّه سبحانه المؤمنين عن ذلك في قوله: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا

اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ (1). و قال

ص: 181


1- الأنعام: 108.

في معرض مدحهم: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (1). فنبّههم اللّه سبحانه هنا على حفظ اللسان عن السوء على وجه العموم بعد ذكر أحوال أهل النفاق و الكفر، لئلّا ينجرّ إلى صدور البذاء و الفحش من الكفّار، فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إلّا جهر من ظلم، بالدعاء على الظالم و التظلّم منه.

فاستثنى من الجهر الّذي لا يحبّه اللّه جهر المظلوم، و هو أن يدعو على الظالم، و يذكره بما فيه من السوء.

و قيل:

هو ردّ الشتم بما يجوز في الدين على الشاتم انتصارا منه. و هو مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و نظيره: وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا (2). و التفسير الأوّل منقول عن ابن عبّاس.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ رجلا ضاف قوما فلم يطعموه، فاشتكاهم، فعوتب عليه، فنزلت». ثم قال: «إنّ الضيف إذا نزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله».

وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً لكلام المظلوم عَلِيماً بالظالم.

[سورة النساء [4]: آية 149]

إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً [149]

ثم حثّ سبحانه على العفو، و أن لا يجهر أحد لأحد بسوء و إن كان على وجه الانتصار، حثّا على الأحبّ إليه و الأفضل عنده، فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً طاعة و برّا، قولا و فعلا أَوْ تُخْفُوهُ أو تفعلوه سرّا أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ أي: تصفحوا

ص: 182


1- الفرقان: 63.
2- الشعراء: 227.

عمّن أساء إليكم مع قدرتكم على المؤاخذة على إساءته. و العفو هنا هو المقصود، و ذكر إبداء الخير و إخفائه

تسبيب و تمهيد و توطئة له، و لذلك رتّب عليه قوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي: يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم أولى بذلك. فعليكم أن لا تعتدوا عن سنّة اللّه. فهو حثّ للمظلوم على العفو بعد ما رخّص له في الانتصار، حملا على مكارم الأخلاق.

[سورة النساء [4]: الآيات 150 الى 152]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً [150] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [151] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [152]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر المنافقين، عقّبه بذكر أهل الكتاب و المؤمنين، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ بأن يؤمنوا باللّه و يكفروا برسله وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ نؤمن ببعض الأنبياء، و نكفر ببعضهم وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا طريقا وسطا. و لا واسطة بين الكفر و الإيمان، إذ الحقّ لا يختلف، فإن الإيمان باللّه إنّما يتمّ بالإيمان برسله و تصديقهم فيما بلّغوا عنه إجمالا أو تفصيلا، فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكلّ في الضلال، كما قال: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (1). و لذلك قال بعد ذلك:

ص: 183


1- يونس: 32.

أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ هم الكاملون في الكفر، لا عبرة بإيمانهم بهذا حَقًّا مصدر مؤكّد لغيره، أي: أحقّ حقّا، أو صفة لمصدر الكافرين، بمعنى: هم الّذين كفروا كفرا حقّا، أي: يقينا محقّقا لا شكّ فيه أصلا وَ أَعْتَدْنا و هيّأنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً نهينهم و نذلّهم.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هم أضدادهم و مقابلوهم. و إنّما دخل «بين» على «أحد» و هو يقتضي متعدّدا لعمومه، من حيث إنّه وقع في سياق النفي، و النكرة في سياقه يفيد العموم في الواحد المذكّر و المؤنّث و تثنيتهما و جمعهما، تقول: ما رأيت أحدا، تقصد العموم. و المعنى: و لم يفرّقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة.

أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ الموعودة لهم. و تصديره ب «سوف» لتوكيد الوعد، و للدلالة على أنّه كائن لا محالة و إن تأخّر، فالغرض تأكيد الوعد، لا كونه متأخّرا.

و قرأ حفص عن عاصم و قالون عن يعقوب بالياء، بناء على تنويع الكلام.

[سورة النساء [4]: الآيات 153 الى 154]

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً [153] وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [154]

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم رَحِيماً عليهم بتضعيف حسناتهم.

ص: 184

و لمّا أنكر سبحانه على اليهود التفريق بين الرسل في الإيمان، عقّبه بالإنكار عليهم في طلبهم المحالات مع ظهور الآيات و المعجزات، فقال: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ يعني: اليهود أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ. نزلت في كعب بن الأشرف و جماعة من اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن كنت نبيّا فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة جملة.

و قيل:

سألوا كتابا يعاينونه حين ينزل محرّرا بخطّ سماويّ على ألواح كما كانت التوراة، أو كتابا إلينا بأعياننا بأنّك رسول اللّه. و إنّما اقترحوا ذلك على سبيل التعنّت. قال الحسن: لو سألوه استرشادا لا عنادا لأعطاهم اللّه ذلك.

و قوله: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ جواب شرط مقدّر، أي: إن استكبرت و استعظمت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر منه. و إنّما أسند السؤال إليهم و إن وجد من آبائهم لكونهم راضين بسؤالهم، آخذين بمذهبهم، تابعين لسيرتهم. و المعنى: أنّ عرقهم راسخ في ذلك، و أنّ ما اقترحوه عليك ليس بأوّل جهالاتهم.

فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً عيانا، أي: أرنا اللّه نره جهرة، أي: مجاهرين معاينين له فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ نار جاءت من السماء فأهلكتهم بِظُلْمِهِمْ بسبب ظلمهم، و هو سؤالهم الرؤية.

ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ هذه الجناية الثانية الّتي اقترفها ايضا أوائلهم. و البيّنات المعجزات. و لا يجوز حملها على التوراة، إذ لم تأتهم بعد فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ مع عظم جريمتهم و جنايتهم وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلّطا و استيلاء ظاهرا عليهم، حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتّخاذهم.

وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ الجبل لمّا امتنعوا من العمل بما في التوراة و قبول ما جاءهم به موسى بِمِيثاقِهِمْ بسبب ميثاقهم و عهدهم الّذي أعطاهم اللّه إيّاه، من

ص: 185

العمل بالتوراة و غيره، ليخافوا من وقوعه عليهم فيقبلوه.

وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً على لسان موسى عليه السّلام، و الطور مطلّ عليهم.

وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ على لسان داود عليه السّلام. و يحتمل أن يراد على لسان موسى عليه السّلام حين طلّل عليهم الجبل، فإنّه شرع السبت، و لكن

كان الاعتداء فيه و المسخ به في زمن داود عليه السّلام.

و قرأ أهل المدينة: لا تعدّوا، بتسكين العين و تشديد الدال، على أنّ أصله: لا تعتدوا، فأدغمت التاء في الدال. و روى ورش عن نافع: لا تعدّوا، بفتح العين و تشديد الدال.

وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا وكيدا على ذلك، و هو قولهم: سمعنا و أطعنا.

[سورة النساء [4]: الآيات 155 الى 158]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [155] وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [156] وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً [157] بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [158]

ثم ذكر سبحانه أفعالهم القبيحة و مجازاته إيّاهم بها، فقال: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «ما» مزيدة للتوكيد، و الباء متعلّقة بمحذوف، أي: فخالفوا و نقضوا، ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم ميثاقهم، أي: عهودهم الّتي عاهدوا اللّه عليها أن يعملوا بما في

ص: 186

التوراة. و يجوز أن تتعلّق ب حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ (1). فيكون التحريم بسبب النقض و ما عطف عليه إلى قوله: فَبِظُلْمٍ « (2)»، أي: حرّمنا عليهم طيّبات بنقض ميثاقهم ...

إلخ. لا أن تتعلّق بما دلّ عليه قوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها، مثل: لا يؤمنون، لأنّه ردّ لقولهم: «قلوبنا غلف» فيكون من صلة «و قولهم» المعطوف على المجرور، فلا يعمل في جارّه.

وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن، أو بما في كتابهم

وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ بعد قيام الحجّة عليهم بصدقهم، و علمهم بعدم صدور استحقاق شي ء يوجب قتلهم وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ أوعية للعلوم، أو في أكنّة ممّا تدعونا إليه بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ أي: خذلها اللّه و منعها الألطاف بكفرهم و عدم تدبّرهم في الآيات و تذكّرهم في المواعظ، فصارت كالمطبوع عليها فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم، كعبد اللّه بن سلام، أو إيمانا قليلا، إذ لا عبرة به لنقصانه.

وَ بِكُفْرِهِمْ بعيسى. و هو معطوف على «بكفرهم» لأنّه من أسباب الطبع.

أو على قوله «فبما نقضهم». و يجوز أن يعطف مجموع هذا و ما عطف عليه على مجموع ما قبله، كأنّه قيل: فبجمعهم بين نقض الميثاق و الكفر بآيات اللّه، و قتل الأنبياء، و قولهم: قلوبنا غلف، و جمعهم بين كفرهم و بهتهم مريم، و افتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم. و يكون تكرير ذكر الكفر إيذانا بتكرّر كفرهم، فإنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمّد عليهم السّلام، فعطف بعض كفرهم على بعض.

وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً يعني: نسبة الزنا إلى مريم.

وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ أي: بزعمهم.

و يحتمل أنّهم قالوه استهزاء. و نظيره إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (3).

و أن يكون استئنافا من اللّه تعالى بمدحه، أو وضعا للذكر الحسن مكان ذكرهم

ص: 187


1- النساء: 160.
2- النساء: 160.
3- الشعراء: 27.

القبيح وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ

روي أنّ جماعة من اليهود سبّوا عيسى و سبّوا أمّه. فقال: أللّهمّ أنت ربّي، و بكلمتك خلقتني، أللّهمّ العن من سبّني و سبّ والدتي. فمسخ اللّه من سبّهما قردة و خنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره اللّه

تعالى بأنّه يرفعه إلى السماء. فقال لأصحابه: أيّكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب، و يدخل الجنّة و يكون معي في درجتي؟ فقام شابّ منهم فقال: يا نبيّ اللّه أنا. فألقى اللّه تعالى عليه شبهه، فقتل و صلب.

و برواية وهب بن منبّه: أتى عيسى عليه السّلام و معه سبعة من الحواريّين في بيت، فأحاط اليهود بهم، فلمّا دخلوا عليهم صيّرهم اللّه كلّهم على صورة عيسى عليه السّلام.

فقالوا لهم: سحرتمونا، لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنّكم جميعا. فقال عيسى عليه السّلام لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنّة؟ فقال رجل منهم اسمه سرجس: أنا.

فخرج إليهم فقال: أنا عيسى. فأخذوه فقتلوه و صلبوه، و رفع اللّه عيسى من يومه.

و به قال قتادة و السدّي و مجاهد و ابن إسحاق، و إن اختلفوا في عدد الحواريّين. و لم يذكر أحد غير وهب أنّ شبهه ألقي على جميعهم، بل ألقي شبهه على واحد، و رفع عيسى من بينهم. و قال الطبري (1): قول وهب أقوى.

و برواية اخرى: كان رجلا ينافقه فخرج ليدلّ عليه، فألقى اللّه تعالى عليه شبهه و هم يظنّون أنّه عيسى، فأخذ و صلب.

و عن ابن عبّاس: أنّه لمّا مسخ اللّه الّذين سبّوا عيسى و أمّه بدعائه بلغ ذلك يهوذا، و هو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه فجمع اليهود، فاجتمع اليهود حول عيسى فجعلوا يسألونه، فيقول: يا معشر اليهود إنّ اللّه تعالى يبغضكم، فثاروا إليه ليقتلوه، فأدخله جبرئيل عليه السّلام خوخة (2) البيت الداخل لها روزنة (3) في سقفها، فرفعه

ص: 188


1- تفسير الطبري 6: 12.
2- الخوخة: كوّة تؤدّي الضوء إلى البيت، و الباب الصغير في الباب الكبير.
3- الروزنة: الكوّة، فارسيّة.

جبرئيل إلى

السماء. فبعث يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه طيطانوس ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم، فظنّوا أنّه يقاتله في الخوخة، فألقى اللّه تعالى عليه شبه عيسى، فلمّا خرج على أصحابه قتلوه و صلبوه.

و أمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوّة.

و إنّما ذمّهم اللّه تعالى بما دلّ عليه الكلام من جرأتهم على اللّه عزّ و جلّ، و قصدهم قتل نبيّه المؤيّد بالمعجزات الباهرة، و تبجّحهم (1) به، لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم.

و «شبّه» مسند إلى الجارّ و المجرور، و كأنّه قيل: و لكن وقع لهم التشبيه بين عيسى و المقتول. أو في الأمر على قول من قال: لم يقتل أحد و لكن أرجف بقتله فشاع بين الناس. أو مسند إلى ضمير المقتول، لدلالة «إنّا قتلنا» على أنّ ثمّة مقتولا، أي: لكن شبّه لهم من قتلوه.

وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في شأن عيسى عليه السّلام، فإنّه لمّا وقعت تلك الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود: إنّه كان كاذبا فقتلناه حقّا. و تردّد آخرون، فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ و قال بعضهم: الوجه وجه عيسى، و البدن بدن صاحبنا. و قال من سمع منه: إنّ اللّه يرفعني إلى السماء، إنّه رفع إلى السماء.

و قال قوم: إنّه صلب الناسوت، يعنون بدنه، و رفع اللاهوت، يعنون به روحه.

و اختلفوا في أنّه إله أو ابن إله.

لَفِي شَكٍّ مِنْهُ لفي تردّد. و الشكّ كما يطلق على مالا يترجّح أحد طرفيه، يطلق على مطلق التردّد، و على ما يقابل العلم، و لذلك أكّده بقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ استثناء منقطع، أي: و لكنّهم يتّبعون الظنّ. و يجوز أن

يفسّر الشكّ بالجهل، و العلم بالاعتقاد الّذي تسكن إليه النفس، جزما كان أو غيره، فيتّصل

ص: 189


1- أي: تفاخرهم و مباهاتهم به.

الاستثناء.

وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً قتلا يقينا كما زعموه بقولهم: «إنّا قتلنا المسيح»، أو متيقّنين.

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ردّ و إنكار لقتله، و إثبات لرفعه. و قد مرّ تفسيره في سورة آل عمران عند قوله: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (1).

وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب على ما يريده حَكِيماً فيما دبّره لعيسى عليه السّلام.

و المعنيّ من هذه الآيات: أنّ اللّه تعالى خاطب اليهود و قال: احذروا أيّها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء حلول عقوبة بكم، كما حلّ بأوائلكم في تكذيبهم رسله، فآمنوا بمحمد قبل حلول هذه العقوبة.

[سورة النساء [4]: الآيات 159 الى 162]

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [159] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [160] وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [161] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً [162]

ثم أخبر سبحانه أنّه لا يبقى أحد منهم إلّا و يؤمن بعيسى، فقال:وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ

ص: 190


1- راجع ج 1: 493 ذيل الآية 55 من سورة آل عمران.

الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ جملة قسميّة وقعت صفة لمحذوف. و التقدير: و إن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمننّ به، و نحوه

وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (1) وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (2). و يعود إليه الضمير الثاني، و الأوّل لعيسى. فالمعنى: و ما من اليهود و النصارى أحد إلّا ليصدّقنّ بعيسى، و بأنّه عبد اللّه و رسوله، قبل موته و لو حين تزهق روحه، و لا ينفعه إيمانه، لانقطاع وقت التكليف. و هذا كالوعيد لهم و التحريض على معاجلة الإيمان به قبل أن يضطرّوا إليه، و لم ينفعهم إيمانهم.

و قيل: الضميران لعيسى. و المعنى: أنّه لمّا نزل من السماء آمن به أهل الملل جميعا.

و في الروايات الصحيحة المتواترة عن ابن عبّاس و أبي مالك و الحسن و قتادة و ابن زيد: أنّ عيسى عليه السّلام ينزل من السماء وقت خروج المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان و خروج الدجّال فيهلكه، و لا يبقى أحد من أهل الملّة إلّا يؤمننّ به، حتى تكون الملّة واحدة، و هي ملّة الإسلام، و يصلّي خلف المهديّ من آل محمد صلوات اللّه عليهم، و تقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، و النمور مع البقر، و الذئاب مع الغنم، و يلعب الصبيان بالحيّات، و يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى، و يصلّي عليه المسلمون و يدفنونه.

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ يعني: عيسى عَلَيْهِمْ شَهِيداً فيشهد على اليهود بالتكذيب، و على النصارى بأنّهم دعوه ابن اللّه.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره (3) أنّ أباه حدّثه عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة الثمالي، عن شهر بن حوشب، قال: «قال لي الحجّاج بن يوسف: آية من كتاب اللّه قد أعيتني، و هي قوله: «وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ»،

ص: 191


1- الصافّات: 164.
2- مريم: 71.
3- تفسير عليّ بن إبراهيم القمي 1: 158.

و اللّه إنّي لآمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه، ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتى يخمد.

فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما أوّلت.

قال: فكيف هو؟

قلت: إنّ عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، و لا يبقى أهل ملّة يهوديّ أو نصرانيّ و غيره إلّا آمن به قبل موت عيسى، و يصلّي خلف المهدي.

قال: و كان متّكئا فاستوى جالسا فنظر إليّ و قال: و يحك أنّى لك هذا، و من أين جئت به؟

قال: قلت: حدّثني محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام. و برواية صاحب الكشّاف (1): محمد بن عليّ بن الحنفيّة.

فأخذ ينكت الأرض بقضيبه، فقال: و اللّه لقد أخذتها من عين صافية، أو معدنها.

فقيل لشهر: ما أردت بذلك؟

قال أردت أن أغيظه.

و مثل ذلك ذكر أبو القاسم البلخي. و برواية صاحب الكشّاف « (2)» قال الكلبي له- أي: لشهر-: ما أردت إلى أن تقول: حدّثني محمّد بن عليّ بن الحنفيّة؟ قال:

أردت أن أغيظه، يعني: بزيادة اسم عليّ، لأنّه مشهور بابن الحنفيّة».

و عن عكرمة الضمير في «به» يرجع إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و رواه أيضا أصحابنا.

و ضعّف الطبري (3) هذا الوجه من حيث إنّه لم يجر ذكر نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا ضرورة توجب ردّ الكناية إليه، و قد جرى ذكر عيسى عليه السّلام، فالأولى أن يصرف ذلك إليه.

و في الآية دلالة على أنّ كلّ كافر يؤمن عند المعاينة، و على أنّ إيمانه ذلك

ص: 192


1- الكشّاف 1: 588.
2- الكشّاف 1: 588.
3- تفسير الطبري 6: 17.

غير مقبول، كما لم يقبل إيمان

فرعون في حال اليأس عند زوال التكليف.

و يقرب من هذا ما رواه الإماميّة أن المحتضرين من جميع الأديان يرون رسول اللّه و خلفاءه عند الوفاة. و قد روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام قالا: «حرام على روح أن تفارق جسدها حتى ترى محمدا و عليّا بحيث تقرّ عينها أو تسخن».

و عن عليّ عليه السّلام أنّه قال للحارث الهمداني: يا حار همدان من يمت يرني* من مؤمن أو منافق قبلا يعرفني طرفه و أعرفه* بعينه و اسمه و ما فعلا

و لا يبعد أن يقال: إنّ المراد برؤيتهم في تلك الحال العلم بثمرة ولايتهم و عداوتهم على اليقين، بعلامات يجدونها من نفوسهم، و مشاهدة أحوال يدركونها، كما قد روي أنّ الإنسان إذا عاين الموت أري في تلك الحالة ما يدلّه على أنّه من أهل الجنّة أو من أهل النار.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا فبأيّ ظلم عظيم منهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ أي: ما حرّمنا عليهم الطيّبات إلّا لظلم عظيم ارتكبوه، يعني: ما ذكره في قوله: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (1). فكلّما أذنبوا ذنبا حرّم عليهم بعض الطيّبات وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ناسا كثيرا، أو صدّا كثيرا.

وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ كان الربا محرّما عليهم كما هو محرّم علينا.

و فيه دليل على دلالة النهي على التحريم. وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة الّتي كانوا يأخذونها من عوامهم في تحريف الكتاب و سائر الوجوه المحرّمة وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً دون من تاب و آمن، كما قال جلّ ذكره: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ الثابتون فيه، المتقنون له، المدارسون بالتوراة، و هم من آمن منهم، كعبد اللّه بن

سلام و أصحابه من علماء اليهود.

ص: 193


1- الأنعام: 146.

روي أنّ ابن سلام و أصحابه قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اليهود لتعلم أنّ الّذي جئت به حقّ، و إنّك لعندهم مكتوب في التوراة. فقالت اليهود: ليس كما يقولون، إنّهم لا يعلمون شيئا، و إنّهم يغرّونك و يحدّثونك بالباطل. فقال اللّه تعالى: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»

وَ الْمُؤْمِنُونَ أي: منهم، أو من المهاجرين و الأنصار يُؤْمِنُونَ خبر قوله: «الراسخون» بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن و الشرائع وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب.

وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ نصبه على المدح، لبيان فضل الصلاة، أي: اذكر المقيمين الصلاة. أو عطف على «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ». و المراد بهم الأنبياء، أي: يؤمنون بالكتب و الأنبياء.

وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قدّم عليه الإيمان بالأنبياء و الكتب و ما يصدّقه من اتّباع الشرائع، لأنّه المقصود بالآية.

أُولئِكَ الّذين وصفناهم سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً على جمعهم بين الإيمان الصحيح و العمل الصالح. و قرأ حمزة: سيؤتيهم بالياء.

[سورة النساء [4]: الآيات 163 الى 165]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [163] وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [164] رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [165]

ثم خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قدّمه في الذكر و إن تأخّرت

ص: 194

نبوّته لتقدّمه

في الفضل و الشرف و الرتبة كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ قدّمه لأنّه أبو البشر بعد الطوفان، و لأنّه كان أطول الأنبياء عمرا، و كانت معجزته في نفسه، لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما، لم يسقط له سنّ، و لم تنقص قوّته، و لم يشب شعره، و أوّل من عذّبت أمّته بسبب ردّ دعوته.

وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ و هذا جواب لأهل الكتاب عن سؤال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اقتراحا أن ينزّل عليهم كتابا من السماء، و احتجاج عليهم بأنّ أمره في الوحي كسائر الأنبياء، و إرساله كإرسال النبيّين السالفين، و أنّ المعجزات قد ظهرت على يده كما كانت تظهر على أيديهم.

وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ و هم أولاد يعقوب، كيوسف و داود وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ خصّهم بالذكر مع اشتمال النبيّين عليهم تعظيما لهم، فإنّ ابراهيم أول أولي العزم منهم، و عيسى آخرهم، و الباقين أشرف الأنبياء و مشاهيرهم. و قدّم عيسى على الأنبياء المذكورين بعده لشدّة العناية بأمره، لغلوّ اليهود في الطعن فيه وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. و قرأ حمزة: زبورا بالضمّ. و هو جمع زبر، و هو الكتاب بمعنى مزبور.

ثم أجمل ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال: وَ رُسُلًا نصب بمضمر دلّ عليه «أوحينا إليك»، ك «أرسلنا»، أو فسّره بقوله: قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذه السورة بمكّة في سورة الأنعام (1) و غيرها، أو قبل ذلك اليوم بالوحي في غير القرآن فعرّفناك شأنهم و أخبارهم وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً بلا واسطة، و هو منتهى

مراتب الوحي، خصّ به موسى من بينهم، و قد فضّل اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بأن أعطاه مثل ما أعطى كلّ واحد منهم.

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ الآية الّتي قبل هذه الآية على الناس قالت .

ص: 195


1- الأنعام: 83- 86.

اليهود فيما بينهم: ذكر محمد النبيّين و لم يبيّن لنا أمر موسى. فلمّا نزلت هذه الآية و قرأها عليهم قالوا: إنّ محمدا قد ذكره و فضّله بالكلام عليهم.

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ نصب على المدح، أو بإضمار «أرسلنا»، أو على الحال و يكون رسلا موطّئا ل «مبشّرين»، كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فينبّهنا و يعلّمنا ما لم نكن نعلم، و يوصلنا إلى المحجّة، و يوقظنا من سنة الغفلة.

و فيه تنبيه على أنّ بعثة الأنبياء إلى الناس ضرورة، لقصور الكلّ عن إدراك جزئيّات المصالح، و الأكثر عن إدراك كلّيّاتها.

و اللام متعلّقة ب «أرسلنا»، أو بقوله: «مبشّرين و منذرين». و «حجّة» اسم «كان»، و خبره «للناس» أو «على اللّه» و الآخر حال. و لا يجوز تعلّقه ب «حجّة» لأنّه مصدر، و لا يجوز تقديم متعلّق المصدر عليه. و «بعد» ظرف لها أو صفة.

وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب فيما يريده حَكِيماً فيما دبّر من أمر النبوّة، و فيما خصّ كلّ نبيّ بنوع من الوحي و الإعجاز.

[سورة النساء [4]: الآيات 166 الى 169]

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [166] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً [167] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا

لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً [168] إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [169]

قيل: إنّ جماعة من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال النبيّ لهم: إنّي أعلم أنّكم تعلمون أنّي رسول اللّه. فقالوا: ما نعلم ذلك و لا نشهد به. فأنزل اللّه بعد

ص: 196

إنكارهم و جحودهم.

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ فهذا استدراك عن مفهوم ما قبله، فإنّهم لمّا تعنّتوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، و احتجّ عليهم بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، قال: إنّهم لا يشهدون بذلك، و لكنّ اللّه يشهد، أو أنّهم أنكروا الإيحاء إليك و لكنّ اللّه يشهد، يعني: يبيّنه و يقرّره بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز الدالّ على نبوّتك.

أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أنزله ملتبسا بعلمه الخاصّ به، و هو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كلّ بليغ. أو بحال من يستعدّ للنبوّة و يستأهل نزول الكتاب عليه. أو بعلمه الّذي يحتاج إليه الناس في معاشهم و معادهم. و الجارّ و المجرور على الأوّلين حال من الفاعل، و على الثالث حال من المفعول. و الجملة كالتفسير لما قبلها.

وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا بنبوّتك.

و فيه تنبيه على أنّهم يودّون أن يعلموا صحّة دعوى النبوّة على وجه يستغنى عن النظر و التأمّل، و هذا النوع من خواصّ الملك، و لا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الفكر و النظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوّتك، و شهدوا بما عرفت الملائكة و شهدوا عليها.

و قال في الجامع و الكشّاف: «معنى شهادة اللّه بما أنزل إليه إثباته لصحّته بالمعجزات، كما تثبت الدعاوي بالبيّنات، و شهادة الملائكة شهادتهم بأنّه حقّ و صدق» (1).

وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي: و كفى بما أقام من الحجج على صحّة نبوّتك عن الاستشهاد بغيره و إن لم يشهد غيره. و في هذه الآية تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تكذيب من كذّبه.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدين الّذي بعثك به إلى خلقه

ص: 197


1- جوامع الجامع 1: 351، الكشّاف 1: 592.

قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً قد جاروا عن قصد الطريق جورا شديدا، و زالوا عن المحجّة الّتي هي دين اللّه الّذي ارتضاه و بعثك به إلى خلقه زوالا بعيدا عن الرشاد، لأنّهم قد جمعوا بين الضلال و الإضلال، و لأنّ المضلّ يكون أغرق في الضلال، و أبعد من الانقلاع عنه.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: جحدوا وَ ظَلَمُوا محمدا بإنكار نبوّته و تكذيبهم إيّاه. أو الناس بصدّهم عمّا فيه صلاحهم و خلاصهم، أو بأعمّ من ذلك. و على هذا تدلّ الآية على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع، إذ المراد بهم الجامعون بين الكفر و الظلم لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بترك عقابهم على ذنوبهم وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لجري حكمه السابق و وعده المحتوم على أنّ من مات على كفره فهو خالد في النار. و «خالدين» حال مقدّرة وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يستصعبه و لا يستعظمه.

[سورة النساء [4]: آية 170]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [170]

و لمّا قرّر أمر النبوّة، و بيّن الطريق الموصل إلى العلم

بها، و وعيد من أنكرها، خاطب الناس عامّة بالدعوة و إلزام الحجّة، و الوعد بالإجابة و الوعيد على الردّ، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني: محمدا بِالْحَقِ بالدين الّذي ارتضاه اللّه لعباده. و عن أبي جعفر عليه السّلام: بولاية من أمر اللّه سبحانه بولايته.

مِنْ رَبِّكُمْ من عند ربّكم فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي: إيمانا خيرا لكم. أو اقصدوا أو ائتوا

ص: 198

أمرا خيرا لكم ممّا أنتم عليه من الكفر.

و قيل: تقديره: فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم. و منعه البصريّون، لأن «كان» لا يحذف مع اسمه إلّا فيما لا بدّ منه، و لأنّه يؤدّي إلى حذف الشرط و الجزاء.

وَ إِنْ تَكْفُرُوا باللّه و رسوله، و بما جاء به من عنده فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني: فإن تكفروا فإنّ اللّه تعالى غنيّ عنكم، لا يتضرّر بكفركم، كما لا ينتفع بإيمانكم. و نبّه على غناه بقوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و هو يعمّ ما اشتملتا عليه و ما تركّبتا منه وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوالهم حَكِيماً فيما دبّر لهم.

[سورة النساء [4]: آية 171]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً [171]

ثم عاد سبحانه إلى حجاج أهل الكتاب، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الخطاب لليهود و النصارى، فإنّ اليهود غلت في حطّ عيسى عليه السّلام حتّى رموه بأنّه

ولد لغير رشدة (1)، و النصارى في رفعه حتّى اتّخذوه إلها. و قيل: الخطاب للنصارى خاصّة، فإنّه أوفق لقوله: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ يعني: تنزيهه عن الصاحبة و الولد و الشريك.

إِنَّمَا الْمَسِيحُ قد ذكر (2) معناه عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بيان له رَسُولُ اللَّهِ

ص: 199


1- الرشدة بالتاء ضد الزنية، يقال: ولد لرشدة، أي: شرعيّون.
2- راجع ج 1: 486.

زبدة التفاسير ج 2 249

أرسله إلى الخلق، لا كما زعمت الفرقتان المبطلتان. وَ كَلِمَتُهُ فإنّه حصل بكلمته الّتي هي قوله: «كن» أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أوصلها إليها و حصّلها فيها وَ رُوحٌ مِنْهُ و ذو روح صدر منه، لا بتوسّط يجري مجرى الأصل و المادّة له، كما قال في الجامع (1) و الكشّاف (2): «قيل لعيسى: كلمة اللّه و كلمة منه، لأنّه وجد بكلمته و أمره من غير واسطة أب و لا نطفة. و قيل له: روح اللّه و روح منه كذلك، لأنّه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، و إنّما اخترع اختراعا من عند اللّه و قدرته خالصة».

و قيل: سمّي روحا لأنّه كان يحيي الأموات أو القلوب.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي: الآلهة ثلاثة: اللّه، و المسيح، و مريم. و يشهد عليه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (3) أو: اللّه ثلاثة، إن صحّ أنّهم يقولون: اللّه ثلاثة أقانيم: الأب، و الابن، و روح القدس. و يريدون بأقنوم الأب الذات، و بأقنوم الابن العلم، و بأقنوم روح القدس الحياة. و الأقنوم بمعنى الأصل. انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ نصبه لما سبق من قوله: «فآمنوا خيرا

لكم».

إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي: واحد بالذات لا تعدّد فيه بوجه مّا سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أسبّحه تسبيحا من أن يكون له ولد، فإنّه يكون لمن يعادله مثل، و يتطرّق إليه فناء لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و ملكا و خلقا، لا يماثله في ذلك شي ء فيتّخذه ولدا وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكل إليه الخلق أمورهم، فهو الغنيّ عنهم، و هم الفقراء إليه. و هذا تنبيه على غناه عن الولد، فإنّ الحاجة إليه ليكون

ص: 200


1- جوامع الجامع 1: 352.
2- الكشّاف 1: 593.
3- المائدة: 116.

وكيلا لأبيه، و اللّه سبحانه و تعالى قائم بحفظ الأشياء، كاف في ذلك، مستغن عمّن يخلفه أو يعينه.

[سورة النساء [4]: آية 172]

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً [172]

روي أنّ وفد نجران قالوا لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمّد لم تعيب صاحبنا؟ قال: و من صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: و أيّ شي ء أقول فيه؟ قالوا: تقول: إنّه عبد اللّه و رسوله. قال: إنّه ليس بعار أن يكون عبدا للّه. قالوا: بلى، فنزلت: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ

لن يأنف و لن يذهب عزّة نفسه، من: نكفت الدمع، إذا نحّيته بإصبعك عن خدّك كيلا يرى أثره عليك أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ من أن يكون عبدا له، فإنّ عبوديّته شرف يتباهى به، و إنّما الاستنكاف في عبوديّة غيره وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الّذين قرّبهم اللّه تعالى و رفع منازلهم لديه. عطف على المسيح، أي: و لا يستنكف الملائكة المقرّبون أن يكونوا عبيدا للّه.

و احتجّ به من زعم فضل الملائكة على الأنبياء، و قال: مساق الآية لردّ قول النصارى في رفع المسيح عن مقام العبوديّة، و ذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه، حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه.

و جوابه: أنّ الآية للردّ على عبدة المسيح و عبدة الملائكة، فلا يتّجه ذلك.

و إن سلّم اختصاصها بالنصارى فيحتمل أن يراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس و لا مرءوس. و إن أراد به التكبير فإنّه يفهم منه أنّ جميع الملائكة أفضل و أكثر ثوابا من المسيح، و هذا لا يقتضي أن يكون كلّ واحد منهم أفضل من المسيح، و إنّما الخلاف في ذلك.

ص: 201

وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ و يترفّع عنها وَ يَسْتَكْبِرْ و يتعظّم بترك الإذعان بطاعته. و الاستكبار دون الاستنكاف، و لذلك عطف عليه. و إنّما يستعمل حيث لا استحقاق بخلاف التكبّر، فإنّه قد يكون بالاستحقاق. فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ إلى موضع جزائه جَمِيعاً فيجازيهم أجمعين.

[سورة النساء [4]: آية 173]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً [173]

ثم وعد اللّه سبحانه الّذين يقرّون بوحدانيّته و يعملون بطاعته، أنّه يوفّيهم أجور أعمالهم الصالحة وافيا تامّا، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و بنبوّة رسوله وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على طاعتهم، بأن كان لهم عشر أمثالها إلى سبعين ضعفا، و إلى سبعمائة، و إلى الأضعاف الكثيرة.

و الزيادة على المثل تفضّل من اللّه سبحانه عليهم.

و بعد وعد الموحّدين الصالحين أوعد المشركين الطالحين، فقال: وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن الإقرار بوحدانيّته وَ اسْتَكْبَرُوا

و تعظّموا عن الإيمان له بالطاعة و العبوديّة فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ لأنفسهم مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينجيهم من عذابه وَ لا نَصِيراً ينقذهم عن عقابه. فالآية لبيان تفصيل المجازاة العامّة المدلول عليها من فحوى الكلام، فكأنّه قال:

فسيحشرهم إليه جميعا يوم يحشر العباد للمجازاة. أو لبيان مجازاتهم، فإنّ إثابة مقابليهم و الإحسان إليهم تعذيب لهم بالغمّ و الحسرة.

ص: 202

[سورة النساء [4]: الآيات 174 الى 175]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [174] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [175]

و لمّا فصّل سبحانه ذكر الأحكام الّتي يجب العمل بها ذكر البرهان بعد ذلك، ليكون المكلّف على ثقة و يقين، فقال خطابا عامّا لجميع المكلّفين: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ عنى به المعجزات الباهرة وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً و هو القرآن، أي: قد جاءكم دلائل العقل و شواهد النقل، و لم يبق لكم عذر و لا علّة.

و قيل: البرهان الدين أو رسول اللّه. و قيل: المراد من كليهما القرآن. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «النور ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام».

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ بوحدانيّته وَ اعْتَصَمُوا بِهِ و تمسّكوا بالنور الّذي أنزله إلى نبيّه فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ثواب مستحقّ قدّره بإزاء إيمانهم و عملهم، و هو الجنّة وَ فَضْلٍ إحسان زائد عليه، و هو تضعيف الحسنات و الدرجات في الجنّة وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ إلى الّذي يتفضّل به على أوليائه صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: يوفّقهم سلوك طريق من أنعم عليه من أصفيائه، الموصل إلى ثوابه العظيم و جنّات النعيم، و هو الدوام و الثبات على منهاج الإسلام و الطاعة.

[سورة النساء [4]: آية 176]

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [176]

ص: 203

و لمّا بيّن اللّه في أوّل السورة بعض سهام الفرائض، ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك، ليوافق الاختتام الافتتاح، فقال: يَسْتَفْتُونَكَ أي: في الكلالة. و هو اسم للاخوة و الأخوات، على ما روي عن أئمّتنا عليهم السّلام. و قيل: هي ما سوى الوالد و الولد. و قد مرّ (1) تفصيله في أوائل السورة. و حذفت لدلالة الجواب عليه. قالوا إنّه آخر ما نزل من أحكام الدين.

روي أنّ جابر بن عبد اللّه كان مريضا فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: يا رسول اللّه إنّ لي كلالة فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ

ذكر و أنثى وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ارتفع «امرؤ» بفعل يفسّره الظاهر. و «ليس له ولد» صفة له، أو حال عن المستكن في «هلك» أي: غير ذي ولد. و الواو في «و له» يحتمل الحال و العطف. و المراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب، لأنّ ذكر أولاد الأمّ قد سبق (2) في أوائل السورة، و لأنّه جعل أخاها عصبة، و قال: «فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» و ابن الأمّ لا يكون عصبة. و قد مرّ في آية

المواريث أنّ الأخت للأمّ لها السدس مسوّى بينها و بين أخيها.

وَ هُوَ يَرِثُها أي: المرء يرث أخته كلّ المال إن كان الأمر بالعكس إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أي: إذا كانت غير ذات ولد، ذكرا كان أو أنثى. و قد دلّت السنّة و الإجماع على أنّهم لا يرثون مع الأب.

فَإِنْ كانَتَا أي: فإن كان من يرث الاخوة اثْنَتَيْنِ تثنية الضمير محمولة على الخبر فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أي: ممّا ترك الأخ أو الأخت من التركة.

و فائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أنّ الحكم باعتبار العدد دون الصغر و الكبر و غيرهما.

وَ إِنْ كانُوا و إن كان من يرث بالأخوّة. و جمع الضمير باعتبار الخبر كما

ص: 204


1- راجع ص: 17.
2- راجع ص: 21.

مرّ. إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً ذكورا و إناثا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أصله: و إن كانوا إخوة و أخوات، فغلّب الذكر. و الخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل و أمثالها و فروعها مذكور في كتب الفقه، فمن أرادها فليرجع إليها.

يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي: يبيّن اللّه لكم ضلالكم الّذي من شأنكم إذا خلّيتم و طباعكم، لتحترزوا عنه و تتحرّوا خلافه. و الأصوب أنّ المضاف مقدّر، أي:

كراهة أن تضلّوا. و قيل: لئلّا تضلّوا، فحذف «لا». و هو قول الكوفيّين. فالمعنى:

يبيّن اللّه لكم جميع أحكام دينكم، كراهة أن تضلّوا أو لئلّا تضلّوا.

وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و من ذلك أمور معاشكم و معادكم، فيخبركم بها في محياكم و مماتكم، على ما تقتضيه الحكمة و توجبه المصلحة.

عن البراء بن عازب: آخر سورة نزلت كاملة براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: «يَسْتَفْتُونَكَ ...» الآية. أورده البخاري و مسلم في صحيحهما (1).

و قال جابر: نزلت بالمدينة. و قال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه.

و تسمّى هذه الآية آية الصيف، و ذلك أنّ اللّه سبحانه أنزل في الكلالة آيتين، إحداهما في الشتاء، و هي الّتي في أوّل هذه السورة، و الاخرى في الصيف، و هي هذه الآية.

و روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سألت رسول اللّه عن الكلالة فقال:

يكفيك أو يجزيك آية الصيف. و اللّه أعلم بالصواب، و إليه المرجع و المآب.

ص: 205


1- صحيح البخاري 6: 63، صحيح مسلم 3: 1237 ح 12.

ص: 206

[5] سورة المائدة

اشارة

مدنيّة. و هي مائة و عشرون آية. و في حديث أبيّ: من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كلّ يهوديّ و نصرانيّ يتنفّس في دار الدنيا عشر حسنات، و محي عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات.

و روى أبو الجارود عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة المائدة في كلّ يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم، و لا يشرك به ابدا».

و بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: نزلت المائدة كملا، و نزل معها سبعون ألف ملك».

و روى العيّاشي بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السّلام قال: «كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، و إنّما يؤخذ من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بآخره، و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، فنسخت ما قبلها، و لم ينسخها شي ء. لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء، و ثقل عليه الوحي حتى وقفت و تدلّى بطنها، حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، و أغمي على رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى وضع يده على ذؤابة منبّه بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول اللّه و عملنا» (1).

ص: 207


1- تفسير العيّاشي 1: 288 ح 2.

[سورة المائدة [5]: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ [1]

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة النساء بذكر أحكام الشريعة، افتتح سورة المائدة أيضا ببيان الأحكام، و أجمل ذلك بقوله: «و أوفوا بالعقود» ثم أتبعه بذكر التفصيل. فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوفاء هو القيام بمقتضى العهد. و كذلك الإيفاء. يقال: وفا بعهده و أوفى بعهده، بمعنى: قام بمقتضى العهد. و العقد: العهد الموثّق. و أصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال.

و المراد بالعقود ما يعمّ عهود اللّه الّتي عقدها على عباده، و ألزمها إيّاهم بالإيمان به، و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم من التكاليف الشرعيّة العلميّة و العمليّة، و ما يعقدون بينهم من عقود المعاملات و المناكحات و الأمانات، و نحوها ممّا يجب الوفاء به أو يحسن، إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب و الندب.

ثم أخذ سبحانه في تفصيل العقود الّتي أمر بالوفاء بها مجملا، فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة كلّ حيّ لا يميّز. و قيل: كلّ ذات أربع من دوابّ البرّ و البحر. و إضافتها إلى الأنعام للبيان، كخاتم فضّة. و معناها: البهيمة من الأنعام، كقولك: ثوب خزّ. و هي الأزواج (1) الثمانية.

و ألحق بها الظباء و بقر الوحش، عن الكلبي. و قيل: هما المراد بالبهيمة و نحوهما ممّا يماثل الأنعام في الاجترار (2) و عدم الأنياب. و حينئذ إضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه.

ص: 208


1- و هي: الإبل، و البقر، و الضأن، و المعز، الذكر و الأنثى من كلّ منها.
2- اجترّ البعير: أعاد الأكل من بطنه فمضغه ثانية، و حيوان مجترّ: يجترّ طعامه.

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ المراد بذلك أجنّة الأنعام الّتي توجد في بطون أمّهاتها إذا أشعرت، و قد ذكّيت الأمّهات و هي ميّتة، فذكاتها ذكاة أمّهاتها.

و نقل هذا عن ابن عبّاس و ابن عمر. و الأولى حمل الآية على الجميع.

إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلّا محرّم ما يتلى عليكم في القرآن، نحو قوله:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1) الآية. أو: إلّا ما يتلى عليكم آية تحريمه.

غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في «لكم»، أي: أحلّت لكم هذه الأشياء لا محلّين الصيد. و قال الأخفش: إنّه حال من واو «أوفوا». و الصيد يحتمل المصدر و المفعول وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ حال ممّا استكن في «محلّي الصيد». و الحرم جمع حرام، و هو المحرم. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل أو تحريم بحسب مقتضى الحكمة و المصلحة.

[سورة المائدة [5]: آية 2]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لا الْهَدْيَ وَ لا الْقَلائِدَ وَ لا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ

الْعِقابِ [2]

ثم شرع في بيان حكم آخر من الأحكام الشرعيّة المأخوذ عهدها على

ص: 209


1- المائدة: 3.

العباد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ يعني: مناسك الحجّ و أعماله.

جمع شعيرة، و هي اسم ما أشعر، أي: ما جعل شعارا. سمّي به أعمال الحجّ و مواقفه، لأنّها علامات الحجّ و أعلام النسك. و قيل: الهدايا المعلمة للذبح بمكّة.

و قيل: دين اللّه، لقوله: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ (1) أي: دينه. و قيل: فرائضه الّتي حدّها لعباده. فالمعنى: لا تحلّوا حرمات اللّه، و لا تتعدّوا حدوده. و الأوّل أصحّ و أشهر بين المفسّرين.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام: أنّ العرب كانوا لا يرون الصفا و المروة من الشعائر، و لا يطوفون بينهما، فناهم اللّه عن ذلك بهذه الآية.

وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال فيه، كما قال سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (2) أو بالنسي ء، كقوله: إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (3). و هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، و يجي ء (4) تفصيل ذلك في سورة التوبة. و الأشهر الحرم هي: رجب، و شوّال، و ذو القعدة، و ذو الحجّة.

وَ لَا الْهَدْيَ ما أهدي إلى الكعبة، جمع هدية، كجدي في جمع جدية السرج، و هي شي ء يحشى ثم يربط تحت دفّتي السرج.

وَ لَا الْقَلائِدَ أي: ذوات القلائد من الهدي. و عطفها على الهدي للاختصاص و زيادة التوصية بها، فإنّها أشرف الهدي، كقوله: وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ (5). أو القلائد نفسها. و النهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدي، كأنّه قيل: و لا تحلّوا قلائدها، فضلا عن أن تحلّوها. و نظيره قوله:وَ لا

ص: 210


1- الحج: 32.
2- البقرة: 217.
3- التوبة: 37.
4- راجع ج 3/ 110.
5- البقرة: 98.

يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ (1) فنهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. و القلائد جمع قلادة، و هي ما قلّد به الهدي من نعل أو غيره ليعلم به أنّه هدي فلا يتعرّض له.

و إحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمتها و يضيّع، و أن يحال بينها و بين المتنسّكين بها، و أن يحدث في أشهر الحجّ ما يصدّ الناس به عن الحجّ، و أن يتعرّض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محلّه.

وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قاصدين لزيارته، و هم الحجّاج و العمّار يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة وَ رِضْواناً أي: يطلبون أن يثيبهم و يرضى عنهم.

و الجملة في موضع الحال من المستكن في «آمّين»، و ليست صفة، لأنّه عامل و المختار أنّ اسم الفاعل الموصوف لا يعمل. و المراد استنكار تعرّض من هذا شأنه.

و قيل: معناه يبتغون من اللّه رزقا بالتجارة و رضوانا بزعمهم، إذ

روي أنّ الآية نزلت في رجل يقال له الحطم بن هند البكري حين أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده و خلّف خيله خارج المدينة، فقال: إلى ما تدعو؟ قال: أدعوا إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة. فقال: حسن، فأنظرني لعلّي أسلم، ولي من أشاوره.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم من يتكلّم بلسان شيطان.

فلمّا خرج قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد دخل بوجه كافر، و خرج بعقب غادر. فمرّ بسرح (2) من سروح المدينة فساقه و انطلق به، ثم أقبل في

عام قابل حاجّا قد قلّد هديا، فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يبعث إليه، فنزلت: وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ

و على التقديرين، معنى الآية: لا تقاتلوهم، لأنّ من قاتل فقد أحلّ، فكأنّه قال: لا تحلّوا قتال الآمّين البيت الحرام، و هو بيت اللّه بمكّة، سمّي حراما لحرمته.

و قيل: لأنّه يحرم فيه ما يحلّ في غيره.

و على التقدير الأخير، فالآية منسوخة بآية فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

ص: 211


1- النور: 31.
2- السرح: الماشية.

وَجَدْتُمُوهُمْ (1). و لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية. و هذا قول أكثر المفسّرين.

و قيل:

لم ينسخ من هذه السورة شي ء و لا من هذه الآية، لأنّه لا يجوز أن يبدأ المشركين بالقتال إلّا إذا قاتلوا. و هو قول ابن جريج و الحسن، و يروى عن الباقر عليه السّلام.

و هو أيضا موافق لما ورد أنّ المائدة آخر ما نزلت.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أحلّوا حلالها، و حرّموا حرامها».

و أيضا التخصيص خير من النسخ.

و ذكر أبو مسلم أنّ المراد به الكفّار الّذين كانوا في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر، و دخلوا في حكم قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (2).

وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا إذن في الاصطياد بعد زوال المحرّم و هو الإحرام، فهو إباحة بعد الحظر، كأنّه قيل: و إذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا.

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يحملنّكم أو لا يكسبنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ شدّة بغضهم و عداوتهم. «جرم» مثل «كسب» في تعديته إلى مفعول واحد و اثنين، تقول: جرم ذنبا و جرمته إيّاه، و كسب شيئا و كسبته إيّاه.

و الشنآن مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل.

و قرأ ابن عامر و إسماعيل عن نافع و ابن عيّاش عن عاصم بسكون النون. و هو أيضا مصدر كالليّان (3)، أو نعت بمعنى: بغيض قوم. و فعلان في النعت أكثر.

و قوله: أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ متعلّق ب «شنآن» أي: لأن صدّوكم عنه عام الحديبية. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بكسر الهمزة، على أنّه شرط معترض، و جوابه محذوف أغنى عنه قوله: «لا يجر منّكم».

ص: 212


1- التوبة: 5.
2- التوبة: 28.
3- ليّان مصدر: لوى يلوي أمره عنّي، أي: طواه و أخفاه.

أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام. و هو ثاني مفعولي «يجرمنّكم». و المعنى: لا يحملنّكم بغض قوم على الاعتداء عليهم بالانتقام منهم، لصدّهم إيّاكم عن المسجد الحرام، و هو منع أهل مكّة رسول اللّه و المؤمنين يوم الحديبية عن العمرة.

وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى بأن يعين بعضكم بعضا على العفو و الإغضاء و متابعة الأمر و مجانبة الهوى. وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ للتشفّي و الانتقام.

و الأولى أن يكون محمولا على العموم، فيتناول كلّ برّ و تقوى، أي: كلّ عمل أمر اللّه به، و اتّقاء كلّ ما نهاهم عنه، و كلّ إثم و ظلم.

ثمّ أمر بالتقوى و أوعد لمن تعدّى حدوده، فقال: وَ اتَّقُوا اللَّهَ باجتناب كلّ المناهي و المحارم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لأنّ ناره لا يطفى حرّها، و لا يخمد جمرها، فانتقامه أشدّ.

[سورة المائدة [5]: آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ

ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [3]

ثم بيّن سبحانه ما استثناه في الآية المتقدّمة بقوله: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ»، فقال خطابا لجميع المكلّفين: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ هي ما فارقه الروح من غير

ص: 213

تذكية شرعيّة. و استثنى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ذلك السمك و الجراد

بقوله: «أحلّ لكم ميتتان و دمان».

وَ الدَّمُ أي: الدم المسفوح، لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً (1). و كان أهل الجاهليّة يصبّونه في الأمعاء و يشوونها، و يقولون: لم يحرم من فزد له، أي: فصد له.

وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ خصّ اللحم و إن كان شحمه و كلّ أجزائه محرّما، لأنّه المقصود بالأكل، و غيره تابع.

وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رفع الصوت لغير اللّه به، و هو قولهم: باسم اللات و العزّى عند ذبحه.

وَ الْمُنْخَنِقَةُ الّتي ماتت بالخنق، سواء كان بخنق غيرها أو اختنقت من نفسها لعارض.

وَ الْمَوْقُوذَةُ المضروبة بنحو خشب أو حجر- و نحو ذلك من المثقل- حتّى تموت، من: وقذته إذا ضربته.

وَ الْمُتَرَدِّيَةُ الّتي تردّت من علوّ أو في بئر فماتت به وَ النَّطِيحَةُ الّتي نطحتها اخرى فماتت به. و التاء فيها للنقل.

وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ أي: و ما أكل منه السبع فمات. و هو يدلّ على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ممّا اصطادته لم تحلّ إلّا نادرا، للرواية.

إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ إلّا ما أدركتم ذكاته و فيه حياة مستقرّة من الأمور المذكورة، سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير و الميتة.

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه يتحرّك أذنه أو ذنبه، أو تطرف عينه».

ص: 214


1- الأنعام: 145.

و الذكاة في الشرع بقطع الحلقوم و المري ء بمحدّد. و الموت و إن كان متصوّرا بسبب آخر غير الأسباب المذكورة، لكن لمّا كانوا في الجاهليّة لا يعدّون الميّت إلّا ما مات حتف أنفه من دون شي ء من هذه الأسباب، فأعلمهم اللّه تعالى بذكر هذه الأمور أنّ حكم الجميع واحد، و أنّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط.

وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هو واحد الأنصاب، و هي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يعبدونها و يذبحون عليها، و يعدّون ذلك قربة. و «على» بمعنى اللام، أو على أصلها بتقدير: و ما ذبح مسمّى على الأصنام. و قيل: النصب جمع واحدها نصاب.

قال ابن جريج: ليست النصب أصناما، إنّما الأصنام ما تصوّر و تنقش، بل كانت أحجارا منصوبة حول الكعبة، و كانت ثلاثمائة و ستّين حجرا- و قيل: كانت ثلاثمائة منها لخزاعة- فكانوا إذا ذبحوا أنضحوا (1) الدم على ما أقبل من البيت، و شرحوا (2) اللحم و جعلوه على الأحجار. فقال المسلمون: يا رسول اللّه كان أهل الجاهليّة يعظّمون البيت بالدم، فنحن أحقّ بتعظيمها. فأنزل اللّه تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها (3) الآية.

وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي: و حرّم عليكم الاستقسام بالأقداح. و ذلك أنّهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربّي، و على الآخر: نهاني ربّي، و على الثالث: غفل. فإن خرج الآمر مضوا على ذلك، و إن خرج الناهي تجنّبوا عنه، و إن خرج الغفل أجالوها ثانيا. فمعنى الاستقسام: طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم

يقسم لهم بالأزلام. و هي جمع الزلم كجمل، أو زلم كصرد.

ص: 215


1- أي: رشّوا الدم.
2- شرح اللحم، أي: قطعه قطعا طوالا.
3- الحجّ: 37.

و هي قداح لا ريش له.

و قيل:

هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة. و ذلك أنّ في الجاهليّة كانت عشرة أنفس يجتمعون و يشترون جزورا و يقسمونه على القدح العشرة. فالفذّ له سهم، و التوأم سهمان، و المسبل له ثلاثة أسهم، و النافس له أربعة أسهم، و الحلس له خمسة أسهم، و الرقيب له ستّة أسهم، و المعلّى له سبعة أسهم، و السفيح و المنيح و الوغد لا أنصباء لها. و كانوا يدفعون القداح إلى رجل فيجيلها، و كان ثمن الجزور على من تخرج هذه الثلاثة الّتي لا أنصباء لها. و هو القمار الّذي حرّمه اللّه عزّ و جلّ.

و هذا القول رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السّلام.

و القرعة الشرعيّة المنقولة عن صاحب الشرع و أمنائه المعصومين عليهم السّلام مستثناة منه.

و قيل: هي كعاب فارس و الروم الّتي كانوا يتقامرون بها. و هذا القول منقول عن مجاهد. و قيل: هي الشطرنج. و هذا منقول عن أبي سفيان بن وكيع.

ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى الاستقسام و كونه فسقا، لأنّه دخول في علم الغيب، و ضلال باعتقاد أنّ ذلك طريق إليه، و افتراء على اللّه تعالى إن أريد ب «ربّي»: اللّه، و جهالة و شرك إن أريد به الصنم. أو في الميسر المحرّم، أو إشارة إلى تناول ما حرّم عليهم.

الْيَوْمَ لم يرد به يوما بعينه، و إنّما أراد الزمان الحاضر و ما يتّصل به من الأزمنة الآتية، كقولك: كنت بالأمس شابّا و أنت اليوم أشيب. فلا يريد بالأمس اليوم الّذي

قبل يومك، و لا باليوم يومك. و قيل: أراد يوم نزولها، و قد نزلت بعد عصر يوم الجمعة عرفة حجّة الوداع. و المعنى: الآن إلى آخر الدهر.

يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي: من إبطاله و رجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث و غيرها. أو يئسوا من أن يغلبوا على دينكم، لأنّ اللّه تعالى و في بوعده من

ص: 216

إظهاره على الدين كلّه فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم بعد إظهار الدين و زوال الخوف منكم، إذا انقلبوا مغلوبين بعد أن كانوا غالبين وَ اخْشَوْنِ و أخلصوا الخشية لي.

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر و الإظهار على الأديان كلّها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، و التوقيف على أصول الشرائع و جميع ما تحتاجون إليه في تكليفكم، من الحلال و الحرام و الفرائض و الأحكام، على وجه لا زيادة في ذلك و لا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم.

وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالهداية و التوفيق، و أعطيتكم من العلم و الحكمة ما لم يعط قبلكم نبيّ و لا أمّة. أو بإكمال الدين، أو بفتح مكّة و هدم منار الجاهليّة.

و قال في الجامع: «معناه: و أتممت عليكم نعمتي بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. ثم

قال: روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: أنّه إنّما نزلت بعد أن نصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليهم السّلام علما للأنام يوم غدير خمّ منصرفا من حجّة الوداع، و هي آخر فريضة أنزلها اللّه، لم ينزل بعدها فريضة» (1).

وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ اخترته لكم دِيناً من بين الأديان، و هو الدين عند اللّه لا غير.

و قال في المجمع: «و قد حدّثنا السيّد العالم أبو الحمد بن نزار

الحسيني، قال: حدّثنا أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني (2)، قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازي، قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني، قال: حدّثنا أبو أحمد البصري، قال:

حدّثنا أحمد بن عمّار بن خالد، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال:

حدّثنا قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول .

ص: 217


1- جوامع الجامع 1: 359.
2- شواهد التنزيل: 1: 201 ح 211.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت هذه الآية قال: اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضا الربّ برسالتي، و ولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي. و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله» (1).

و قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ متّصل بذكر المحرّمات، و ما بينهما اعتراض لما يوجب التجنّب عنها، و هو أنّ تناولها فسوق، و حرمتها من جملة الدين الكامل و النعمة التامّة و الإسلام المرضيّ. و المعنى: فمن دعته الضرورة إلى تناول شي ء من هذه المحرّمات فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير مائل له و منحرف إليه، بأن يأكلها تلذّذا أو مجاوزا حدّ الرخصة، نحو قوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ (2) فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بأكله.

[سورة المائدة [5]: آية 4]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [4]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر المحرّمات عقّبه بذكر ما أحلّ، فقال: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ

لَهُمْ «ماذا» مبتدأ و «أحلّ لهم» خبره، أي: أيّ شي ء حلّ لهم من المطاعم، كأنّهم حين تلا عليهم المآكل المحرّمة سألوا عمّا أحلّ لهم منها. و لم يقل: ماذا أحلّ لنا، حكاية لما قالوه، لأنّ «يسألونك» بلفظ الغيبة، و هذا كما تقول: أقسم زيد ليفعلنّ. و لو قيل: لأفعلنّ و أحلّ لنا، لجاز.

ص: 218


1- مجمع البيان 3: 159.
2- البقرة: 173، الأنعام: 145.

قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و هو كلّ ما لم يأت تحريمه في الكتاب و السنّة وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيّبات إن جعلت «ما» موصولة على تقدير: و صيد ما علّمتم، و جملة شرطيّة إن جعلت شرطا، و جوابها «فكلوا».

و الجوارح كواسب الصيد على أهلها من سباع الطير و البهائم، فحذف لدلالة قوله:

«ممّا أمسكن» عليه، و لأنّه جواب عن سؤال السائل عن الصيد.

و قيل: الجوارح الكلاب فقط. و هذا منقول عن ابن عمر و الضحّاك و السدّي.

و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام، فإنّهم قالوا: هي الكلاب المعلّمة خاصّة، أحلّه اللّه تعالى إذا أدركه صاحبه و قد قتلته، لقوله: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.»

و روي: «كلّ شي ء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة، فإنّها تمسك على صاحبها».

و قال: «إذا أرسلت الكلب المعلّم، فاذكر اسم اللّه عليه، فهو ذكاته، و هو أن تقول: بسم اللّه و اللّه أكبر».

و عند فقهائنا مطلق الذكر كاف. و عند الجمهور من الفقهاء أنّ الجوارح بمعنى الكواسب مطلقا، أعمّ من أن يكون من سباع الطير و البهائم. و الصحيح ما قال الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، فإنّ الحقّ معهم حيث داروا، لا مع غيرهم.

و روى عليّ بن إبراهيم (1) في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي

عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهود و الكلاب؟ فقال: لا تأكل إلّا ما ذكّيت إلّا الكلاب. قلت: فإن قتله؟ قال: كل، فإنّ اللّه يقول: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ».

مُكَلِّبِينَ مؤدّبين إيّاه الصيد و مضرّيه (2) به. مشتقّ من الكلب. و انتصابه على الحال من «علّمتم». و فيه دلالة على أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب. و الكلب

ص: 219


1- تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 162.
2- ضرّى الكلب بالصيد: عوّده إيّاه و أغراه به.

و إن أطلق على كلّ سبع، لقوله عليه السّلام: «اللّهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» (1)

لكنّه حقيقة في هذا المعهود، فيكون الاشتقاق منه، فيكون مقيّدا مخصّصا لمطلق الجوارح. و لذلك قسّم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين: ما أدرك ذكاته فلا يحلّ إلّا بالتذكية مطلقا، و ما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال، و إلّا فهو حرام، صيد أيّ الجوارح كان، كما نقل عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و يؤيّد ما قلناه ما

روي أنّ جبرئيل نزل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوقف بالباب فاستأذن، فأذن له فلم يدخل، فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه و قال: قد أذنّا لك. فقال عليه السّلام:

إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته، فهربت الكلاب حتى بلغت العوالي. فلمّا نزلت الآية قالوا: يا رسول اللّه كيف نصيد بها و قد أمرت بقتلها؟

فسكت رسول اللّه، فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها. فاستثنى رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلاب الصيد و كلاب الماشية و كلاب الحرث، و أذن باتّخاذها.

تُعَلِّمُونَهُنَ حال ثانية أو استئناف مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علم التكليف.

و فيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع، فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم أنّ التعليم يحصل بأمور، ألف: الاسترسال إذا أغري. ب: الانزجار إذا زجر.

ج: أن لا يعتاد أكل الصيد. د: الاستمرار على ذلك غالبا، و لا اعتبار بالندرة نفيا و إثباتا.

فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ و هو ما لم تأكل منه، لقوله عليه السّلام لعديّ بن حاتم: «إن أكل منه فلا تأكل، إنّما أمسك على نفسه».

و إليه ذهب أكثر أصحابنا و الفقهاء.

وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير ل «ما علّمتم». و المعنى: سمّوا عليه عند إرساله. أو لما أمسكن، بمعنى: سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في محرّماته، و لا تقربوا ما نهاكم عنه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيؤاخذكم بما جلّ و دقّ.

ص: 220


1- في الكشّاف 1: 606، قال بعد نقل الحديث: فأكله الأسد. و معه يتمّ الاستشهاد بالحديث.

[سورة المائدة [5]: آية 5]

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [5]

ثم بيّن سبحانه ما يحلّ من الأطعمة و الأنكحة إتماما لما تقدّم، فقال: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هي تقع على كلّ مستطاب من الأطعمة، إلّا ما دلّ الشرع على تحريمه وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قيل: هو ذبائحهم. و هو مذهب العامّة و قليل منّا. و قال الصادق عليه السّلام: مختصّ بالحبوب و ما لا يحتاج إلى التذكية.

و عليه أكثر علمائنا الإماميّة. وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا جناح عليكم أن تطعموهم و تبيعوه منهم، و لو حرم عليهم لم يجز ذلك.

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ أي: الحرائر أو العفائف. و إنّما خصّهنّ بعثا للمؤمنين على أن يتخيّروا لنطفهم، و إلّا فغير العفائف يصحّ نكاحهنّ. و كذلك الإماء المسلمات.

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال أصحابنا: هنّ اللواتي أسلمن منهنّ، و ذلك أنّ قوما كانوا يتحرّجون من العقد على من أسلمت من كفر، فلذلك أفردن بالذكر. و احتجّوا بقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ (1)، و قوله:

ص: 221


1- الممتحنة: 10.

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ (1). إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ مهورهنّ. و تقييد الحلّ بإيتائها لتأكيد وجوبها، و الحثّ على ما هو الأولى. مُحْصِنِينَ أعفّاء بالنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ غير مجاهرين بالزنا وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرّين به.

و الخدن: الصديق، يقع على الذكر و الأنثى.

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ يريد بالإيمان شرائع الإسلام، و بالكفر به إنكاره و الامتناع عنه. و فيه دلالة على أنّ حبوط العمل لا يترتّب على الثواب، فإنّ الكافر ليس له عمل عليه ثواب. وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي:

الهالكين.

[سورة المائدة [5]: آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ

عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [6]

و لمّا تقدّم الأمر بالوفاء بالعقود، و من جملتها إقامة الصلاة، و من شرائطها الطهارة، بيّن سبحانه ذلك بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي: إذا

ص: 222


1- البقرة: 221.

أردتم القيام، كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ (1). عبّر عن إرادة الفعل بالفعل المسبّب عنها، للإيجاز، و التنبيه على أنّ من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفكّ الفعل عن الإرادة. أو إذا قصدتم الصلاة، لأنّ التوجّه إلى الشي ء و القيام إليه قصد له.

و ظاهر الآية يوجب الوضوء على كلّ قائم إلى الصلاة و إن لم يكن محدثا، و الإجماع على خلافه، لما

روي: «أنّه صلّى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح، فقال عمر: صنعت شيئا لم تكن تصنعه! فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عمدا فعلته».

فقيل: مطلق أريد به التقييد. و المعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين.

و قيل: كان في بدء الإسلام يجب الوضوء لكلّ صلاة، فنسخ.

و هو ضعيف، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلّوا حلالها، و حرّموا حرامها».

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمرّوا الماء عليها. و لا حاجة إلى الدلك، خلافا لمالك. و حدّ الوجه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا، و ما دخل بين الوسطى و الإبهام عرضا، حقيقة أو حكما. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام. و لا يجب إيصال الماء إلى تحت الشعور، لعدم صدق الوجه على ما تحتها، فإنّ الوجه عبارة عمّا يتواجه عند التخاطب و يتراءى.

و وجه تخصيص هذا الخطاب بالمؤمنين، مع أنّ الكفّار أيضا مكلّفون بالفروع على المذهب

الحقّ، أنّ المؤمنين هم المتهيّؤن للامتثال المنتفعون بالأعمال.

وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ جمع مرفق، و هو المكان الّذي يرتفق به، أي: يتّكأ عليه من اليد. أجمعت الأمّة على أنّ من بدأ في غسل اليدين من المرفقين صحّ وضوءه، و اختلفوا في صحّة وضوء من بدأ من الأصابع إلى المرفق. و أصحابنا

ص: 223


1- النحل: 98.

متّفقون على وجوب دخول المرفقين في المغسول و الابتداء بهما. و اختلفوا في «إلى»، فبعضهم يجعلونها بمعنى «مع»، كقوله: وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ (1) و قوله:

مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ (2)، أو يجعلونها متعلّقة بمحذوف، تقديره: و أيديكم مضافة إلى المرافق، فيدخل المرفق ضرورة. و بعضهم قائلون إنّها على حقيقتها، و هو انتهاء الغاية، فيدخل المرفق أيضا، لأنّه لمّا لم يتميّز الغاية عن ذي الغاية بمحسوس وجب دخولها.

قال في كنز العرفان: «و الحقّ أنّها للغاية، و لا تقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها و لا خروجه، لوروده معهما. أمّا الدخول فكقولك: حفظت القرآن من أوّله إلى آخره، و منه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (3). و أمّا الخروج فك أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (4) و فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (5). و حينئذ لا دلالة على دخول المرفق». و كذا لا دلالة له على الابتداء بالمرفق و لا بالأصابع، لأنّ الغاية قد تكون للغسل، و قد تكون للمغسول، و هو المراد هاهنا، بل كلّ من الابتداء و الدخول مستفاد من بيان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّه توضّأ و ابتدأ بأعلى الوجه و بالمرفقين و أدخلهما، على ما وردت الأخبار الصحيحة عن أئمّتنا المعصومين عليهم السّلام، و إلّا لكان خلاف ذلك هو المتعيّن، لأنّه قال: هذا وضوء لا يتقبّل اللّه الصلاة إلّا به، أي: بمثله، و حينئذ فلا يكون الابتداء بالأعلى و بالمرفقين و دخولهما مجزيا، بل يكون بدعة، لكن الإجماع على خلافه» (6). و فيه ما فيه.

ص: 224


1- هود: 52.
2- آل عمران: 52، الصفّ: 14.
3- الإسراء: 1.
4- البقرة: 187.
5- البقرة: 280.
6- كنز العرفان 1: 9- 10.

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ الباء للتبعيض، لأنّه الفارق بين قولك: مسحت المنديل، و مسحت بالمنديل. و قيل: زائدة، لأنّ المسح متعدّ بنفسه، و لذلك أنكر أهل العربيّة إفادة التبعيض. و التحقيق أنّها تدلّ على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنّه قال: ألصقوا المسح برؤسكم، و ذلك لا يقتضي الاستيعاب و لا عدمه، بخلاف «امسحوا رؤوسكم» فإنّه كقوله: «فاغسلوا وجوهكم».

ثم اختلف في القدر الواجب مسحه، فقال أصحابنا: أقلّ ما يقع عليه الاسم أخذا بالمتيقّن، و لنصّ أئمّتهم عليهم السّلام، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: ربع الرأس، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسح على ناصيته و هو قريب من الربع. و هو غلط. و مالك مسح الجميع.

و المسح عندنا مختصّ بالمقدّم، لوقوع ذلك في البيان، فيكون ذلك متعيّنا، و لأنّه يجزي بالإجماع، لأنّ جميع الفقهاء قالوا بالتخيير أيّ موضع شاء.

و الحقّ أنّه لا يجب الابتداء بالأعلى، لإطلاق المسح، و لقول أحدهما عليهما السّلام: «لا بأس بالمسح مقبلا و مدبرا».

و أنّه لا يتقدّر بثلاثة أصابع، لما بيّنّا من الإطلاق، و لقول الباقر عليه السّلام: «إذا مسحت بشي ء من رأسك، أو بشي ء من قدميك، ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع، فقد أجزأك».

نعم، المسح بثلاث أصابع أفضل.

وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي و حفص بالنصب عطفا على

محلّ «برؤوسكم» إذ الجارّ و المجرور محلّه النصب على المفعوليّة، كقولهم: مررت بزيد و عمرا. و قرئ: «تنبت بالدهن و صبغا للآكلين» (1). و كقول الشاعر:

معاوي إنّنا بشر فأسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا

و قرأ الباقون بالجرّ عطفا على رؤسكم. و هو ظاهر. فالقراءتان دالّتان على معنى واحد، و هو وجوب المسح كما هو مذهب أصحابنا الإماميّة. و يؤيّده ما

رووه .

ص: 225


1- المؤمنون: 20.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه توضّأ و مسح على قدميه و نعليه. و مثله عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس.

و أيضا عن ابن عبّاس أنّه وصف وضوء رسول اللّه فمسح على رجليه.

و إجماع أئمّة أهل البيت صلوات اللّه عليهم على ذلك.

قال الصادق عليه السّلام: «يأتي على الرجل الستّون و السبعون ما قبل اللّه منه صلاة. قيل: و كيف ذلك؟ قال: لأنّه يغسل ما أمر اللّه بمسحه».

و غير ذلك من الأخبار. و قال ابن عبّاس و قد سئل عن الوضوء فقال: غسلتان و مسحتان.

و قال الفقهاء الأربعة بوجوب الغسل، محتجّين بقراءة النصب عطفا على «وجوهكم»، أو أنّه منصوب بفعل مقدّر، أي: و اغسلوا أرجلكم، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا ... أراد: سقيتها، و قوله: متقلّدا سيفا و رمحا، أي: معتقلا (1) رمحا.

و أمّا قراءة الجرّ فبالمجاورة، كقوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (2) بجرّ «أليم»، و قراءة حمزة: وَ حُورٌ عِينٌ (3)، فإنّه ليس معطوفا على قوله: وَ لَحْمِ طَيْرٍ و ما قبله، و إلّا لكان تقديره: يطوف عليهم ولدان مخلّدون بحور عين، لكنّه غير مراد، بل هم الطائفون لا المطوف بهم، فيكون جرّه على مجاورة «لحم طير».

و الجواب عن الأوّل بأنّ العطف على

«وجوهكم» حينئذ مستهجن، إذ لا يقال: ضربت زيدا و عمرا و أكرمت خالدا و بكرا، و يجعل «بكرا» عطفا على زيد و عمرو المضروبين، على أنّه إذا وجد فيه عاملان عطف على الأقرب منهما، كما هو مذهب البصريّين. و شواهده مشهورة، خصوصا مع عدم المانع، كما في المسألة، فإنّ العطف على الرؤوس لا مانع منه لغة و لا شرعا.

و أمّا النصب بفعل مقدّر، فإنّه إنّما نضطرّ إلى تقديره إذا لم يمكن حمله على

ص: 226


1- اعتقل الرمح: وضعه بين ركابه و ساقه.
2- هود: 26.
3- الواقعة: 22.

اللفظ المذكور كما مثّلتم، و أمّا هاهنا فلا، لما قلنا من العطف على المحلّ.

و عن الثاني بأنّ إعراب المجاورة ضعيف جدّا، لا يليق بكتاب اللّه، و قد أنكره أكثر أهل العربيّة. مع أنّه إنّما يجوز بشرطين: الأوّل: عدم الالتباس، كقولهم: حجر ضبّ خرب. و الثاني: أن لا يكون معه حرف عطف، و هنا حرف عطف. و أيضا الروايات المذكورة حجّة عليهم.

و الكعبان عندنا هما العظمان الناتئان في ظهر القدمين عند معقد الشراك (1).

و قال بعض المفسّرين و الفقهاء: الكعبان هما عظما الساقين. و لو كان كما قالوا لقال سبحانه: و أرجلكم إلى الكعاب، و لم يقل: إلى الكعبين، لأنّ على ذلك القول يكون في كلّ رجل كعبان.

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً عند القيام إلى الصلاة فَاطَّهَّرُوا أي: فاغتسلوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ من وجه الأرض. و «من» لابتداء الغاية، و لا يلزم منه وجوب علوق التراب باليد، كما هو مذهب بعض العامّة و قليل من

أصحابنا. و قد سبق تفسير ذلك، و لعلّ تكريره ليتّصل الكلام في بيان أنواع الطهارة.

ما يُرِيدُ اللَّهُ بما فرض عليكم من الوضوء وقت قيامكم إلى الصلاة، و من الغسل من الجنابة، و من التيمّم عند عدم الماء أو تعذّر استعماله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ليلزمكم في دينكم من ضيق وَ لكِنْ يُرِيدُ بما فرض عليكم لِيُطَهِّرَكُمْ لينظّف أجسادكم عن النجاسة الحكميّة، أو ليطهّركم عن الذنوب، فإنّ الوضوء و الغسل و التيمّم تكفير للذنوب، أو ليطهّركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء.

و يمكن أن يكون المراد طهارة القلب عن صفة التمرّد عن طاعة اللّه، لأنّ الأمر

ص: 227


1- الشراك: سير النعل على ظهر القدم.

بالتطهير يجعل العبد في مظنّة التمرّد، فإنّه غير معقول المعنى، فإذا انقاد و تعبّد به زال عن قلبه آثار التمرّد.

وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ليتمّ بشرعه ما هو مطهّرة لأبدانكم و مكفّرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لتشكروا على تلك النعمة.

و الآية مشتملة على سبعة أمور كلّها مثنى: طهارتان أصل و بدل. و الأصل اثنان: مستوعب و غير مستوعب. و غير المستوعب باعتبار الفعل غسل و مسح.

و باعتبار المحلّ محدود، و هو غسل الأعضاء الثلاثة، و غير محدود، و هو المسح.

و أنّ آلتهما مائع و جامد. و موجبهما حدث أصغر و أكبر. و أن المبيح للعدول إلى البدل مرض، أو سفر. و أن الموعود عليهما تطهير الذنوب و إتمام النعمة. و أحكام الوضوء و الغسل و التيمّم و مسائلها المتفرّعة منها كثيرة موضعها الكتب المدوّنة في الفقه.

[سورة المائدة [5]: آية 7]

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [7]

لمّا

قدّم سبحانه ذكر بيان الشرائع، عقّبه بتذكير نعمه، فقال: وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: نعمة الإسلام لتذكّركم المنعم، و ترغّبكم في شكره وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ عاقدكم به عقدا وثيقا إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا أي: الميثاق الّذي أخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين بايعتموه على السمع و الطاعة، في العسر و اليسر و المنشط و المكره، أو ميثاق ليلة العقبة، أو بيعة الرضوان.

و روى أبو الجارود عن الباقر عليه السّلام: «هو الميثاق الّذي بيّن لهم في حجّة الوداع، من تحريم المحرّمات و فرض ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام، و غير ذلك».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في إنساء هذه النعمة و نقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ

ص: 228

الصُّدُورِ أي: بما تضمروه في صدوركم من الأمور الخفيّة، فضلا عن جليّات أعمالكم. و المراد بالصدور هاهنا القلوب، لأنّ موضع القلب الصدر.

[سورة المائدة [5]: آية 8]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [8]

و لمّا ذكر سبحانه الوفاء بالعهود، بيّن أنّ ممّا يلزم الوفاء به قيامكم بالحقّ، و مراعاتكم العدالة في أداء الشهادة و ترك العدوان بها، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي: ليكن من عادتكم القيام للّه بالحقّ في أنفسكم بالعمل الصالح، و في غيركم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ابتغاء مرضاة اللّه، و امتثالا لأمره شُهَداءَ بِالْقِسْطِ بالعدل بين الناس، سواء كانت شهادتكم عليهم أو لهم.

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا عدّاه ب «على» لتضمّنه معنى الحمل. و المعنى: لا يحملنّكم شدّة بغضكم للمشركين

على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحلّ لكم، كمثلة و قذف و قتل نساء و صبية و نقض عهد، تشفّيا ممّا في قلوبكم من الضغائن. اعْدِلُوا هُوَ أي: العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى صرّح لهم بالأمر بالعدل، و بيّن أنّه بمكان من التقوى، بعد ما نهاهم عن الجور، و بيّن أنّه مقتضى الهوى. و إذا كان مراعاة العدل مع الكفّار لازمة لكم، فما ظنّكم بالعدل مع المؤمنين؟! وَ اتَّقُوا اللَّهَ بفعل الطاعات و اجتناب السيّئات إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ عالم بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه. و تكرير هذا الحكم إمّا لاختلاف السبب، كما قيل: إنّ

ص: 229

الأولى نزلت في المشركين و هذه في اليهود، أو لمزيد الاهتمام بالعدل، و المبالغة في إطفاء نائرة الغيظ.

[سورة المائدة [5]: الآيات 9 الى 10]

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ [9] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [10]

ثم قال وعدا للمؤمنين العادلين، و وعيدا للمشركين العادين: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إنما حذف ثاني مفعولي «وعد» استغناء بقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، فإنّه استئناف يبيّنه، كأنّه قيل: أيّ وعد للمؤمنين؟

فقال: لهم مغفرة و أجر عظيم. و قيل: الجملة في موضع المفعول، فإنّ الوعد ضرب من القول، فكأنّه قال: وعدهم هذا القول.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذا من عادته تعالى أن يتبع حال أحد الفريقين حال الآخر، وفاء بحقّ الدعوة. و فيه مزيد وعد للمؤمنين، و تطييب لقلوبهم.

[سورة المائدة [5]: آية 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [11]

ثم ذكر نعمة اخرى على المؤمنين، و هي دفع الأعداء عنهم، ليقيموا على الشكر عليه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أي:

قصدوا أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الإهلاك، يقال: بسط إليه يده إذا بطش به، و بسط إليه لسانه إذا شتمه فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ منعها أن تمدّ إليكم، وردّ

ص: 230

مضرّتها عنكم وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنّه الكافي لإيصال الخير و دفع الشرّ.

و اختلف المفسّرون في الّذين بسطوا الأيدي إلى المؤمنين، فقال بعضهم: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتى بني النضير مع جماعة من أصحابه يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أميّة الضمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا

أبا القاسم اجلس حتى نطعمك و نقرضك. فأجلسوه و همّوا بقتله، فعمد عمر بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك اللّه يده، فنزل جبرئيل فأخبره، فخرج من بينهم. و هذا قول مجاهد و قتادة. و عليه أكثر المفسّرين.

و قيل: إنّ المشركين لمّا رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه بعسفان قاموا إلى الظهر معا، فلمّا صلّوا ندموا ألّا كانوا أكبّوا عليهم، و همّوا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى العصر، فردّ اللّه تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف، فنزلت هذه الآية.

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد وقعة بدر نزل منزلا و علّق سلاحه بشجرة، و تفرّق الناس عنه. فبعث قريش رجلا اسمه عمرو بن وهب الجمحي ليغتاله، فجاءه فسلّ سيفه فقال: من يمنعك منّي؟ فقال: اللّه تعالى. فأسقط جبرئيل من يده السيف و أخذه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: من يمنعك منّي؟ فقال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، فنزلت.

و قال الواقدي: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غزا جمعا من بني ذبيان، فتحصّنوا برؤوس الجبال، و نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحيث يراهم، فذهب لحاجته فأصابه مطر، فبلّ ثوبه فنشره على شجرة، و اضطجع تحته و الأعراب ينظرون إليه، فجاءه سيّدهم دعثور بن الحارث، حتّى وقف على رأسه بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد من يمنعك منّي اليوم؟ فقال: اللّه، و ضرب جبرئيل في صدره، و وقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قام على رأسه

و قال: من يمنعك اليوم منّي؟ فقال: لا أحد، و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، فنزلت الآية.

ص: 231

و على هذا فيكون تخليص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا همّوا به نعمة على المؤمنين، من حيث إنّ مقامه بينهم نعمة عليهم.

[سورة المائدة [5]: الآيات 12 الى 13]

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [12] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [13]

و لمّا بيّن اللّه تعالى خيانة الكفّار و همّهم بقتله، و أنّه دفع عنه شرّهم، عقّبه بذكر أحوال اليهود و خبث سرائرهم، و قبح عادتهم في خيانة الرسول، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما همّوا به، فقال: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ بعد هلاك فرعون بمصر، بأن يصيروا إلى أريحا ليقاتلوا الجبابرة وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً شاهدا من كلّ سبط، ينقّب عن أحوال قومه، و يفتّش عنها، أو كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به.

روي أنّ بني إسرائيل لمّا فرغوا عن فرعون، و استقرّوا بمصر، أمرهم اللّه

ص: 232

تعالى بالمسير إلى أريحا من أرض الشام، و كان يسكنها الكنعانيّون الجبابرة، و منهم عوج بن عنق، و قال: إنّي كتبتها لكم دارا قرارا، فاخرجوا إليها، و جاهدوا من فيها، فإنّي ناصركم، و أمر اللّه موسى عليه السّلام بأن يأخذ من كلّ سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به، فأخذ عليهم الميثاق، و اختار منهم النقباء و سار بهم، فلمّا دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسّسون الأخبار، و نهاهم أن يحدّثوا قومهم ما رأوا من عظم جثث الجبّارين و جسامة هياكلهم و شدّة بطشهم، لئلّا يجبنوا و يتباعدوا عن جهادهم، فلمّا رأوا أجراما عظيمة و بأسا شديدا هابوا، فرجعوا و حدّثوا قومهم ما رأوا من الجبّارين، إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، و يوشع ابن نون من سبط أفرائيم بن يوسف، و كانا من النقباء. و قيل: كتم خمسة، و أظهر الباقون.

وَ قالَ اللَّهُ بوساطة موسى إِنِّي مَعَكُمْ بالنصرة و الإعانة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ أي: نصرتموهم و قوّيتموهم و منعتموهم من أيدي العدوّ. و أصله الذبّ، و منه التعزير، و هو التنكيل و المنع من معاودة الفساد، وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي: أنفقتم في سبيل اللّه نفقة حسنة يجازيكم بها، فكأنّه قرض من هذا الوجه. و «قرضا» يحتمل المصدر و المفعول.

و قيل: معنى الآية: لقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان و العدل، و بعثنا منهم اثني عشر ملكا يقيمون فيهم العدل. و اللام موطّئة للقسم.

لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جواب للقسم المدلول عليه باللام في «لئن» سادّ مسدّ جواب الشرط و القسم جميعا وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الشرط المؤكّد المعلّق به هذا الوعد العظيم مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ضلالا لا شبهة

فيه، و زال عن قصد الطريق الواضح، لأنّ النعمة كلّما عظمت و زادت كثرت المذمّة في كفرانها و تمادت، بخلاف من كفر قبل ذلك، إذ قد يمكن أن تكون له شبهة، و يتوهّم له معذرة.

ص: 233

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أبعدناهم من رحمتنا، أو مسخناهم، أو ضربنا عليهم الجزية وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً خذلناهم، و منعناهم التوفيق و اللطف و الذي تنشرح به صدورهم، حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، حتى قست قلوبهم، فلا تنفعل عن الآيات. و القسوة خلاف اللين و الرقّة. و قرأ حمزة و الكسائي:

قسيّة، و هي إمّا مبالغة قاسية، أو بمعنى رديئة مغشوشة، من قولهم: درهم قسي، إذا كان مغشوشا. و هو أيضا من القسوة، فإنّ المغشوش فيه يبس و صلابة.

ثمّ استأنف لبيان قسوة قلوبهم بقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فإنّه لا قسوة أشدّ من تغيير كلام اللّه و الافتراء عليه. و يجوز أن يكون حالا من مفعول «لعنّاهم» لا من القلوب، إذ لا ضمير له فيه وَ نَسُوا حَظًّا و تركوا نصيبا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة، أو من اتّباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المعنى: أنّهم حرّفوا التوراة، و تركوا حظّهم ممّا أنزل عليهم، فلم ينالوه.

و قيل: معناه: و ضيّعوا ما ذكّرهم اللّه به في كتابهم ممّا فيه رشدهم، و تركوا تلاوته، فنسوه على مرّ الأيّام.

و قيل: معناه: أنّهم لمّا حرّفوها فزلّت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم، لما روي أنّ ابن مسعود قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، و تلا هذه الآية.

وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي: خيانة، أو فرقة خائنة، أو خائن، و التاء للمبالغة. و المعنى:

أنّ الخيانة و الغدر من عادتهم و عادة آبائهم السالفة، لا تزال ترى ذلك منهم. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا، و هم الّذين آمنوا منهم. و قيل:

استثناء من قوله: «وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً».

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ ما داموا على عهدك، و لم يخونوك. عنى بهم القليل الّذي استثناه منهم. أو إن تابوا و آمنوا، أو عاهدوا و التزموا الجزية. و قيل: مطلق

ص: 234

نسخ بآية (1) السيف. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر بالصفح، و حثّ عليه، و تنبيه على أنّ العفو عن الكافر الخائن إحسان، فضلا عن العفو عن غيره.

[سورة المائدة [5]: آية 14]

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [14]

ثمّ بيّن سبحانه حال النصارى في نقضهم ميثاق عيسى، كما بيّن حال اليهود في نقضهم ميثاق موسى، فقال: وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أي:

أخذنا من النصارى ميثاقهم بالتوحيد، و الإقرار بنبوّة المسيح و جميع الأنبياء، و أنّهم كلّهم عبيد اللّه، كما أخذنا ممّن قبلهم. و قيل: تقديره: و من الّذين قالوا إنّا نصارى قوم أخذنا. و إنّما قال: قالوا إنّا نصارى، ليدلّ على أنّهم سمّوا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة اللّه تعالى.

فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا فألزمنا، من: غري بالشي ء إذا لصق به بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ أي: بين فرق النصارى، و هم: نسطوريّة، و يعقوبيّة، و ملكانيّة. و ذلك أنّ النسطوريّة قالت: إنّ عيسى ابن اللّه. و اليعقوبيّة قالت: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم. و الملكانيّة- و هم أهل الروم- قالوا: إنّ اللّه ثالث ثلاثة: اللّه، و عيسى، و مريم. أو بينهم و بين اليهود. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: المعاداة تبقى بينهم إلى يوم القيامة، إمّا بين فرق النصارى، و إمّا بين اليهود و النصارى.

و المعنى: أنّا أخطرنا على بال كلّ منهم ما يوجب الوحشة و النفرة عن

ص: 235


1- التوبة: 29.

صاحبه، و ما يهيج العصبيّة و العداوة، عقوبة لهم على تركهم الميثاق، أو خذلانا و تخلية.

وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بالجزاء و العقاب في الدنيا و الآخرة.

[سورة المائدة [5]: الآيات 15 الى 16]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ [15] يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [16]

و لمّا ذكر سبحانه أنّ اليهود و النصارى نقضوا العهود، و تركوا ما أمروا به، عقّب ذلك بدعائهم إلى الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذكّرهم ما أتاهم من أسرار كتبهم حجّة عليهم، فقال خطابا لليهود و النصارى: يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود و النصارى. و وحّد الكتاب لأنّه للجنس. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كنعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في التوراة و الإنجيل، و آية الرجم في التوراة، و أشياء كانوا يحرّفونها، و بشارة عيسى بأحمد في الإنجيل وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ممّا تخفونه، لا يخبر به إذا لم يضطرّ إليه أمر دينيّ. أو عن كثير منكم، فلا يؤاخذه بجرمه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يعني: القرآن، فإنّه الكاشف لظلمات الشكّ و الضلال، و الكتاب الواضح الإعجاز. أو الّذي يبيّن ما كان خافيا على الناس من الحقّ. و قيل: يريد بالنور محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يهتدي به الخلق كما

ص: 236

يهتدى بالنور.

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحّد الضمير لأنّ المراد بهما واحد، أو لأنّهما كواحد في الحكم مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ رضاه بالإيمان سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة و النجاة من العذاب، أو سبل اللّه، لأنّ السلام اسم من أسماء اللّه، و هي شرائع الإسلام وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ من أنواع الكفر إِلَى النُّورِ إلى الإسلام بِإِذْنِهِ بلطفه و توفيقه وَ يَهْدِيهِمْ و يرشدهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق هو أقرب الطرق إلى اللّه، و مؤدّ إليه، و هو طريق الإسلام، فإنّه يوصل إلى الجنّة لا محالة.

[سورة المائدة [5]: آية 17]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [17]

ثمّ حكى سبحانه عن النصارى ما قالوه في المسيح، فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هم الّذين قالوا بالاتّحاد منهم. و قيل: لم يصرّح به أحد منهم، و لكن لمّا زعموا أنّ فيه لاهوتا يخلق و يحيي و يميت و يدبّر أمر العالم، و مع ذلك قالوا: لا إله إلّا اللّه، لزمهم أن يكون هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحا لجهلهم، و تفضيحا لمعتقدهم.

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنع من قدرته و إرادته شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عطف «من في الأرض» على

ص: 237

المسيح و أمّه، ليدلّ على أنّهما من جنسهم، لا تفاوت في البشريّة بينهما و بينهم.

فاحتجّ اللّه تعالى في هذا القول على فساد قولهم، بأنّ المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات، و من كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهيّة.

ثمّ أزاح ما عرض لهم من الشبهة في أمره، بأنّه خلق من غير أب، فقال:

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و المعنى: أنّه تعالى قادر على الإطلاق، يخلق من غير أصل، كما خلق السموات و الأرض، و من أصل، كخلق ما بينهما، فينشئ من أصل ليس من جنسه، كآدم عليه السّلام و كثير من الحيوانات، و من أصل يجانسه، إمّا من ذكر وحده كما خلق حوّاء، أو من أنثى وحدها كعيسى، أو منهما كسائر الناس.

[سورة المائدة [5]: آية 18]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [18]

ثم حكى اللّه سبحانه عن الفريقين من أهل الكتاب، فقال: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ أي: أشياع ابنيه عزير و المسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب- و هو عبد اللّه بن الزبير-: الخبيبون. أو المقرّبون عنده قرب الأولاد من والدهم. و قد سبق (1) مثل ذلك في سورة آل عمران.

قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: فإن صحّ ما زعمتم أنّكم أبناء اللّه و أحبّاؤه فلم تذنبون؟ فتعذّبون بذنوبكم فتمسخون، فإنّ من كان بهذا المنصب لا يفعل ما

ص: 238


1- في ج 1: 492.

يوجب تعذيبه. و لأنّ الأب يشفق على ولده، و الحبيب على حبيبه، فلا يعذّبه، و قد عذّبكم في الدنيا بالقتل و الأسر و المسخ، و اعترفتم بأنّه سيعذّبكم بالنار أيّاما معدودة، فليس الأمر كما قلتم.

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ممّن خلقه اللّه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ و هم من آمن به و برسله وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و هم من كفر. و المعنى: أنّه تعالى يعاملكم معاملة سائر الناس، لا مزيّة لكم عنده.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كلّها سواء في كونها خلقا و ملكا له وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: يؤول إليه أمر العباد، فيجازي المحسن بإحسانه و المسي ء بإساءته.

[سورة المائدة [5]: آية 19]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [19]

ثمّ عاد إلى خطاب أهل الكتاب و حجاجهم، و إلزامهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي: الدين و أحكامه الشرعيّة، و حذف لظهوره. أو ما كنتم تخفونه، و حذف لتقدّم ذكره. و يمكن أن لا يقدّر مفعول، على معنى: يبذل لكم البيان على الإطلاق. و الجملة في موضع الحال، أي: جاءكم رسولنا مبيّنا لكم عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلّق ب «جاءكم» أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل و انقطاع من الوحي أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ كراهة أن تقولوا: ما جاءنا من رسول بشير بالثواب و نذير

بالعقاب، و تعتذروا بهذا

ص: 239

القول فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ متعلّق بمحذوف، أي: لا تعتذروا ب «ما جاءنا» فقد جاءكم.

وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على إرسال الرسل متعاقبة، كما فعل بين موسى و عيسى، إذ كان بينهما ألف و سبعمائة سنة و ألف نبيّ، و على الإرسال على فترة، كما فعل بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كان بينهما ستّمائة أو خمسمائة (1) و تسع و ستّون سنة و أربعة أنبياء، ثلاثة من بني إسرائيل و واحد من العرب، و هو خالد بن سنان العيسي. و في الآية امتنان عليهم بإرسال الرسول إليهم بعد اندراس آثار الوحي، و كانوا أحوج ما يكونون إليه.

[سورة المائدة [5]: آية 20]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [20]

ثم ذكر سبحانه صنيع اليهود في المخالفة لنبيّهم عليه السّلام، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مخادعتهم إيّاه، فقال: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ و اذكر يا محمد إذ قال موسى لهم:

يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و آلاءه فيكم إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فأرشدكم و شرّفكم بهم، و لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، و ذلك من نعم اللّه عليهم، و آلائه لديهم.

وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي: و جعل منكم أو فيكم. و قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون، فقتلوا يحيى، و همّوا بقتل عيسى. و قيل: إنّهم لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط، فأنقذهم اللّه تعالى، و جعلهم مالكين لأنفسهم و أمورهم، سمّاهم

ص: 240


1- هذا الرقم للفترة بين ميلاد عيسى عليه السّلام و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي: كان بين ميلادهما خمسمائة و تسع و ستّون سنة.

ملوكا. و قيل: الملك من له مسكن واسع، فيه ماء جار. و قيل: من له بيت و خدم.

و قيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلّف الأعمال و تحمّل المشاقّ.

وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السلوى، و غير ذلك من الأمور العظام. و قيل: أراد عالمي زمانهم.

[سورة المائدة [5]: الآيات 21 الى 26]

يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [21] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ [22] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [23] قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [24] قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [25]

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [26]

ثم كلّفهم سبحانه دخول الأرض المقدّسة بعد ذكر النعم، فقال: قال موسى لهم: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، سمّيت بذلك لأنّها كانت قرار الأنبياء عليهم السّلام و مسكن المؤمنين. و قيل: الطور و ما حوله. و قيل: دمشق

ص: 241

و فلسطين و بعض الأردن. و قيل: الشام. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ

أي: قسّمها لكم، أو كتب في اللوح المحفوظ أنّها تكون مسكنا لكم، و لكن إن آمنتم و أطعتم، لقوله لهم بعد ما عصوا: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ (1).

وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ و لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة. قيل: لمّا سمعوا حالهم من النقباء بكوا و قالوا: ليتنا متنا بمصر، تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر. أو لا ترتدّوا عن دينكم بعصيانكم نبيّكم و مخالفتكم أمر ربّكم. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدنيا و الآخرة. و يجوز في «فتنقلبوا» الجزم على العطف، و النصب على الجواب.

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ متغلّبين لا تتأتّى مقاومتهم. و الجبّار فعّال من: جبره على الأمر بمعنى: أجبره، و هو العاتي الّذي يجبر الناس على ما يريد.

قال ابن عبّاس: لمّا بعث من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم، رآهم رجل من الجبّارين يقال له عوج، فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان حملها من بستانه، و أتى بهم الملك، فنثرهم بين يديه، و قال الملك تعجّبا منهم: هؤلاء يريدون قتالنا! فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا. قال مجاهد: و كان فاكهتهم لا يقدر على حمل عنقود منها خمسة رجال بالخشب، و يدخل في قشر نصف رمّانة خمسة رجال، و إنّ موسى كان طوله عشرة أذرع، و له عصا كان طولها عشرة أذرع، و نزا (2) من الأرض مثل ذلك، فبلغ كعب عوج بن عناق فقتله. و قيل: كان طول سريره ثمانمائة ذراع.

وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة

ص: 242


1- المائدة: 26.
2- نزا ينزو، أي: وثب.

لنا بهم.

قالَ رَجُلانِ كالب و يوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي: من الّذين يخافون

اللّه تعالى و يتّقونه. و قيل: كانا رجلين من الجبابرة أسلما و سارا إلى موسى و اتّبعاه حين بلغهما خبره. و على هذا، الواو (1) لبني إسرائيل، و الراجع إلى الموصول محذوف، أي: من الّذين يخافهم بنو إسرائيل. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان و التثبيت. و هو صفة ثانية ل «رجلان» أو اعتراض. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم، أي:

باغتوهم و ضاغطوهم في المضيق، و امنعوهم من الإصحار فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لتعسّر الكرّ عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، و لأنّهم أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم. و يجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه السّلام و قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ»، أو ممّا علما من عادته تعالى في نصرة رسله، و ما عهدا من صنعه تعالى لموسى عليه السّلام في قهر أعدائه. وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي:

مؤمنين به، و مصدّقين بوعده.

قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم في المستقبل مدى الدهر المتطاول على التأكيد و التأييد ما دامُوا فِيها بدل من «أبدا» بدل البعض، أو بيان للأبد فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالوا ذلك على وجه الاستهانة منهم باللّه و رسوله، و عدم مبالاة بهما، أو استهزاء، و قصدوا ذهابهما حقيقة، لجهلهم و قسوة قلوبهم الّتي عبدوا بها العجل، و سألوا بها رؤية اللّه جهرة. و يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب، و لكن كما تقول: كلّمته فذهب يجيبني، تريد معنى الإرادة و القصد للجواب، كأنّهم قالوا: أريدا قتالهم. و قيل: تقديره: فاذهب أنت و ربّك يعينك.

قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ لنصرة دينك، و ترويج أحكامك إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي

ص: 243


1- أي: الواو في «يخافون».

قاله شكاية منه إلى اللّه تعالى، و إظهارا لبثّه و حزنه لمّا خالفه قومه، و أيس منهم، و لم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السّلام. و نحوه قول يعقوب عليه السّلام: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ (1).

و عن عليّ عليه السّلام: أنّه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلّا رجلان، فتنفّس الصعداء، فدعا لهما و قال: أين تقعان ممّا أريد.

و الرجلان المذكوران و إن كانا يوافقانه لم يثق عليهما ثقة هارون، لما كابد من تلوّن قومه. و يجوز أن يراد ب «أخي» من يؤاخيني في الدين، فيدخلان فيه.

و ذكر في إعراب «أخي» وجوه. نصبه عطفا على «نفسي»، أو على اسم «إنّ» أي: و إنّ أخي لا يملك إلّا نفسه. و جرّه عند الكوفيّين عطفا على الضمير في «نفسي». و هو ضعيف، لقبح العطف على الضمير المجرور إلا بتكرير الجارّ. و رفعه عطفا على الضمير في «لا أملك» أو على «إنّ» و اسمها.

فَافْرُقْ فافصل بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بأن تحكم لنا بما نستحقّه، و تحكم عليهم بما يستحقّونه، أو بالتبعيد بيننا و بينهم، تخليصا من صحبتهم، فهو في معنى الدعاء عليهم.

قالَ فَإِنَّها فإنّ الأرض المقدّسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها و لا يملكونها بسبب عصيانهم أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ عامل الظرف- و هو أربعين- إمّا «محرّمة» فيكون التحريم مؤقّتا غير مؤبّد، فلا يخالف قوله: «الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ». و إمّا «يتيهون» أي: يسيرون فيها متحيّرين لا يرون طريقا، فيكون التحريم مطلقا. و يؤيّد الأوّل ما روي أنّ موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل، و كان يوشع على مقدّمته، ففتح أريحا و أقام بها

ما شاء اللّه ثم قبض.

و قيل: مات موسى في التيه، و لمّا احتضر أخبرهم بأنّ يوشع بعده نبيّ اللّه،

ص: 244


1- يوسف: 86.

و أنّ اللّه أمره بقتال الجبابرة، و كان هارون مات قبله بسنة، و كان عمر موسى مائة و عشرين سنة في ملك أفريدون و منوچهر، و كان عمر يوشع مائة و ستّة و عشرين، و كان بعد وفاة موسى مدبّرا لأمر بني إسرائيل سبعا و عشرين سنة، و مات النقباء في التيه بغتة غير كالب و يوشع، فسار يوشع بهم إلى أريحا بعد مضيّ ثلاثة أشهر من فوت موسى، و قاتل الجبابرة. و روي أنّ الشمس غابت في أثناء المحاربة، فدعا يوشع فردّ اللّه تعالى عليهم الشمس حتى قتلوا الجبابرة و فتحوا أريحا، و صار الشام كلّه لبني إسرائيل.

و قيل: لم يدخل الأرض المقدّسة أحد ممّن قال: «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها» و هلكوا في التيه، و لمّا نشأت ذراريهم قاتلوا الجبّارين و دخلوها. فيكون التقدير: كتب اللّه لكم الأرض المقدّسة بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلمّا أبوا الجهاد قيل: فإنّها محرّمة عليهم.

و التيه المفازة الّتي يتاه فيها، فقد روي أنّهم لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ يسيرون كلّ يوم من الصباح إلى المساء، فإذا هم كانوا بحيث ارتحلوا عنه، و كان الغمام يظلّهم من حرّ الشمس، و يطلع عليهم بالليل عمود من نور يضي ء لهم، و ينزل عليهم المنّ و السلوى، و ماؤهم من الحجر الّذي يحملونه، و لا تطول شعورهم، و إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله.

و قيل: كان موسى و هارون معهم، لقوله: «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ».

و قيل: كانا معهم، إلّا أنّه كان ذلك روحا

لهما و سلامة، كالنار لإبراهيم، و ملائكة العذاب. و هذا قول أكثر المفسّرين و المؤرّخين.

فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ خاطب به موسى لمّا ندم على الدعاء عليهم. و المعنى: فلا تحزن عليهم، فإنّهم أحقّاء بذلك لفسقهم.

ص: 245

[سورة المائدة [5]: الآيات 27 الى 31]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [27] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [28] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [29] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ [30] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [31]

و اعلم أنّ اللّه سبحانه بعد تبيين قصّتهم أراد أن يبيّن أنّ حالهم في نقض العهد و ارتكاب الفواحش، كارتكاب ابن آدم عليه السّلام في قتله أخاه، و ما عاد عليه من الوبال، فأمر نبيّه أن يتلو عليهم أخبارهما، تسلية له فيما ناله من جهلهم و تكذيبهم، و تبكيتا لهم، فقال: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ قابيل و هابيل. روي أنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج كلّ واحد منهما توأمة الآخر، فسخط منه قابيل، لأنّ توأمة قابيل- و هي إقليما- أجمل، فحسد عليها أخاه و سخط، فقال لهما آدم: قرّبا قربانا فمن أيّكما تقبّل تزوّجها، فقبل قربان هابيل، بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل حسدا و سخطا، و توعّده بالقتل. و قيل: لم يرد بهما

ابني آدم لصلبه، و إنّهما رجلان من بني

ص: 246

إسرائيل، و لذلك قال: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ (1). و الأوّل أكثر و أشهر و أصحّ.

و المعنى: اتل على بني إسرائيل نبأهما تلاوة ملتبسة بِالْحَقِ و الصدق.

و يحتمل أن يكون حالا من الضمير في «اتل» أو من «نبأ» أي: ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأوّلين.

إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف ل «نبأ»، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف، أي: أتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت. و القربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى من ذبيحة أو غيرها، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى، أي: يعطى. و هو في الأصل مصدر، و لذلك لم يثنّ. و قيل: تقديره: إذ قرّب كلّ واحد قربانا.

و روي أنّ قابيل كان صاحب زرع و قرّب أردأ قمح عنده، و هابيل صاحب ضرع و قرّب جملا سمينا.

فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما و هو هابيل وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ هو قابيل: لأنّه سخط حكم اللّه، و لم يخلص النيّة في قربانه، و قصد إلى أخسّ ما عنده قالَ أي:

قال الّذي لم يتقبّل قربانه منهما- و هو قابيل- للّذي تقبّل قربانه و هو هابيل:

لَأَقْتُلَنَّكَ توعّده بالقتل، لفرط الحسد له على تقبّل قربانه، و لذلك قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ في جوابه، كأنّه قال له: لم تقتلني؟ قال: لأنّه تقبّل منك، و لم يتقبّل منّي. قال: إنّما أتيت من قبل نفسك، لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي فلم تقتلني؟

قيل: إنّ سبب أكل النار للقربان أنّه لم يكن هناك فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى، فكانت تنزل نار من السماء فتأكله.

و عن إسماعيل بن رافع: أنّ قربان

هابيل كان يرتع في الجنّة حتى فدي به ابن إبراهيم.

و في الآية دليل على أنّ اللّه إنّما يتقبّل الطاعة ممّن هو زكيّ القلب متّق، و أنّ

ص: 247


1- المائدة: 32.

الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، و يجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا، لا في إزالة حظّه، فإنّ ذلك ممّا يضرّه و لا ينفعه.

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ مددت إليّ يدك لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ لأنّ إرادة القتل قبيح، و إنّما يحسن من المظلوم قتل الظالم على وجه المدافعة له، طلبا للتخلّص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنّه قال: لئن ظلمتني لم أظلمك، اي: لئن بسطت إليّ يدك على سبيل الظلم و الابتداء لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم و الابتداء إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ في مدّي إليك يدي لقتلك.

قيل: كان هابيل أقوى منه، و لكن تجنّب من قتله و استسلم له خوفا من اللّه، لأنّ الدفع لم يبح بعد، و كان الصبر عليه هو المأمور به، ليكون اللّه هو المتولّي للانتصاف. و إنّما قال: «ما أَنَا بِباسِطٍ» بالجملة الاسميّة في جواب «لَئِنْ بَسَطْتَ»، للتبرّي عن هذا الفعل الشنيع رأسا، و التحرّز من أن يوصف به و يطلق عليه، و لذلك أكّد النفي بالباء.

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ هذا تعليل ثان للامتناع عن المعارضة و المقاومة. و المعنى: إنّما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، و إثمك ببسطك يدك إليّ قبل قتلي. و هذا منقول عن ابن عبّاس و ابن مسعود و الحسن و قتادة و مجاهد و الضحّاك. و نحوه

قوله صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: «المستبّان ما قالا فعلى البادي، ما لم يعتد المظلوم»

أي: البادي عليه إثم سبّه، و مثل إثم سبّ صاحبه، لأنّه كان سببا فيه. و مثل ذلك ما قيل: إنّ معناه: بإثم قتلي و إثمك الّذي هو قتل جميع الناس، حيث سننت القتل.

أو المعنى: إنّي لا أبدؤك بالقتل، لأنّي أريد أن ترجع بإثم قتلي و إثمك الّذي من أجله لم يتقبّل قربانك.

و كلاهما في موضع الحال، أي: ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما. و لم يرد بذلك معصية أخيه و شقاوته، بل قصده بهذا الكلام أنّ ذلك إن كان لا محالة واقعا،

ص: 248

فأريد أن يكون لك لا لي. فالمراد بالذات أن لا يكون له، لا أن يكون لأخيه.

و يجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته، و إرادة عقاب العاصي جائزة.

فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ فتصير بذلك من الملازمين النار وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي: عقاب العاصين المتعدّين.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فسهّلته و يسّرته له و وسّعته، من: طاع له المرتع، إذا اتّسع. و ذكر «له» لزيادة الربط، كقولك: حفظت لزيد ماله. فَقَتَلَهُ عن مجاهد: لم يدر قابيل كيف يقتله، فظهر له إبليس في صورة طير، و أخذ طيرا آخر و ترك رأسه بين حجرين فشدخه، ففعل قابيل مثله. و قيل: هو أوّل قتيل كان في الناس. فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فصار ممّن خسر الدنيا و الآخرة، و ذهب عنه خيرهما، إذ بقي مدّة عمره مطرودا محزونا، و بعد الموت يرجع إلى العذاب الأليم.

قيل: قتل هابيل، و هو ابن عشرين سنة، عند عقبة حراء. و قيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.

و روي أنّه لمّا قتله تركه بالعراء، و تحيّر في أمره، و لم يدر ما يصنع

به فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ أي: يحفر فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ إذ كان أوّل ميّت من بني آدم، فقصده السباع، فحمله في جراب على ظهره حتى أروح (1)، و عكفت عليه الطير و السباع، فبعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ حفر له بمنقاره و رجليه، ثمّ ألقاه في الحفيرة.

و الضمير في «ليري» للّه، أو للغراب. و لمّا كان سبب تعليمه فكأنّه قصد تعليمه. و «كيف» حال من الضمير في «يواري»، و الجملة ثاني مفعولي «يرى».

و المراد ب «سوءة أخيه» جسده الميّت، فإنّه ممّا يستقبح أن يرى. و أصلها الفضيحة، لهذا كنّى به عن العورة.

و لمّا رأى ذلك قابيل قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع و تحسّر، و الألف فيها بدل

ص: 249


1- أروح الماء: أنتن و خبثت رائحته.

زبدة التفاسير ج 2 299

من ياء المتكلّم. و المعنى: يا ويلتي احضري، فهذا أوانك. و الويل و الويلة الهلكة.

أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ لا أهتدي إلى ما اهتدي إليه. و قوله: فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي عطف على «أن أكون»، و ليس جواب الاستفهام، إذ ليس المعنى: لو عجزت لواريت فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ فصار منهم على قتله، لما كابد فيه من التحيّر في أمره، و حمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل، و تلمّذه للغراب، و اسوداد لونه، و تبرّء أبويه منه، إذ روي أنّه لمّا قتله اسودّ جسده، فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، فقال: بل قتلته، و لذلك اسودّ جسدك، و تبرّأ منه، و مكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك، و لم يظفر (1) بما فعله لأجله.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا

قتل قابيل هابيل، أشاك الشجر، و تغيّرت الأطعمة و حمضت الفواكه، و أمرّ الماء، و اغبرّت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قتل هابيل، فأنشأ يقول:

تغيّرت البلاد و من عليهافوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه الصبيح

و قالوا: لمّا مضى من عمر آدم مائة و ثلاثون سنة، و ذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين، ولدت له حوّاء شيثا، و تفسيره: هبة اللّه، يعني: أنّه خلف من هابيل، و كان وصيّ آدم و وليّ عهده. فأمّا قابيل فقيل له: اذهب طريدا شريدا فزعا مذعورا، لا تأمن من تراه. و ذهب إلى عدن من اليمن، فأتاه إبليس فقال: إنّما أكلت النار قربان هابيل لأنّه كان يعبدها، فانصب أنت نارا تكون لك و لعقبك، فبنى بيت نار، و هو أوّل من نصب النار و عبدها، و اتّخذ أولاده آلات اللهو من الطبول و المزامير و العيدان، و انهمكوا في اللهو، و شرب الخمر، و عبادة النار، و الزنا و الفواحش، حتّى غرقهم اللّه أيّام نوح بالطوفان و بقي نسل شيث.

ص: 250


1- أي: لم يظفر قابيل بما أراد من قتل أخيه، و هو التزوّج بتوأمته.

[سورة المائدة [5]: آية 32]

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [32]

ثم بيّن سبحانه التكليف في باب القتل، فقال: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسببه و بعلّته كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ قضينا عليهم. و أصل «أجل» مصدر: أجل شرّا

إذا جناه، يأجله أجلا، استعمل في تعليل الجنايات، فإذا قلت: من أجلك فعلت كذا، فكأنّك أردت من أن جنيت فعله و أوجبته فعلت، ثم اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تعليل. و «من» ابتدائيّة متعلّقة ب «كتبنا». و ذلك إشارة إلى القتل المذكور، اي: ابتداء الكتب و إنشاؤه من أجل القتل المذكور.

أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير قتل نفس يوجب القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أو بغير فساد فيها، كالشرك و قطع الطريق و إخافة السبيل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فكأنّه قصد لقتلهم جميعا، من حيث إنّه هتك حرمة الدماء، و سنّ القتل، و جرّأ الناس عليه. أو من حيث إنّ قتل الواحد و الجميع سواء في استجلاب غضب اللّه و العذاب العظيم. أو من حيث إنّه قتل أخاهم، و صاروا خصماءه في قتل النفس.

وَ مَنْ أَحْياها أي: و من تسبّب لبقاء حياتها بعفو، أو منع عن القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً فكأنّه فعل ذلك بالناس جميعا، يأجره اللّه على ذلك أجر من أحياهم باسرهم، لأنّه في إسدائه

ص: 251

المعروف إليهم بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كلّ واحد منهم، لأنّ فعله باعث على اقتداء الناس به بمثل فعله، فصاروا كلّهم سالمين عن القتل، فكأنّه أحياهم كلّهم. و المقصود منه تعظيم قتل النفس و إحيائها في القلوب، ترهيبا عن التعرّض لها، و ترغيبا في المحاماة عليها.

وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي: بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، و أرسلنا إليهم بالآيات الواضحة، تأكيدا للأمر، و تجديدا للعهد، كي يتحاموا عنها، و كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل، و لا يبالون به. و بسبب هذا اتّصلت القصّة بما قبلها. و الإسراف التباعد عن الاعتدال في الأمر.

[سورة المائدة [5]: الآيات 33 الى 34]

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [33] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [34]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر القتل و حكمه، عقّبه بذكر قطّاع الطريق و الحكم فيهم، فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي: يحاربون أولياءهما، و هم المسلمون، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ (1). جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما. و أصل الحرب السلب. وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: مفسدين.

ص: 252


1- الأحزاب: 57.

و يجوز نصبه على العلّة أو المصدر، لأنّ سعيهم كان فسادا، فكأنّه قيل: و يفسدون في الأرض فسادا.

و روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ المحارب كلّ من شهر السلاح، و أخاف الطريق، سواء كان في المصر أو خارجه، فإنّ اللصّ المحارب في المصر و خارجه سواء.

و هو مذهب الشافعي أيضا، و الأوزاعي و مالك. و ذهب أبو حنيفة و أصحابه إلى أنّ المحارب هو قاطع الطريق في غير المصر.

و لمّا كان «إنّما» موضوعة للحصر، فيكون معنى الآية: ما جزاؤهم إلّا أَنْ يُقَتَّلُوا أي: من غير صلب إن اقتصروا على القتل، و لم يأخذوا المال أَوْ يُصَلَّبُوا أي: يصلّبوا مع القتل، إن قتلوا و أخذوا المال. و للفقهاء خلاف في أنّه يقتل و يصلب، أو يصلب حيّا و يترك، أو يطعن حتّى يموت. أَوْ

تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ تقطع أيديهم اليمنى و أرجلهم اليسرى، إن أخذوا المال و لم يقتلوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: ينفوا من بلد إلى بلد، بحيث لا يتمكّنوا من القرار في موضع إلى أن يتوبوا، إن اقتصروا على الإخافة.

و يؤيّد ذلك التفسير ما

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّ جزاء المحارب على قدر استحقاقه، فإن قتل فجزاؤه أن يقتل، و إن قتل و أخذ المال فجزاؤه أن يقتل و يصلب، و إن أخذ المال و لم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده و رجله من خلاف، و إن أخاف السبيل فقط فإنّما عليه النفي لا غير».

و به قال ابن عبّاس، و سعيد بن جبير، و قتادة، و السدّي، و الربيع. و على هذا فلفظة «أو» ليست للإباحة هاهنا، بل هي مرتّبة الحكم باختلاف الجناية. و قيل: للتخيير، و الامام مخيّر بين هذه العقوبات في كلّ قاطع طريق. و الصحيح الأوّل.

ذلِكَ أي: ما ذكرناه لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا فضيحة و مذلّة و هو ان فيها وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم. هذا دليل على أنّ الحدود لا تكفّر

ص: 253

الذنوب و المعاصي، لأنّه بيّن أنّهم يستحقّون العذاب العظيم في الآخرة، مع إقامة الحدود عليهم. و ليس في الآية أنه يفعل بهم ذلك لا محالة، لأنّه يجوز أن يعفو اللّه عنهم، و يتفضّل عليهم بإسقاط ما يستحقّونه من العذاب.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو حقّ اللّه تعالى. و يدلّ عليه قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أمّا القتل و الجرح قصاصا و أخذ المال فإلى الأولياء، إن شاؤا عفوا، و إن شاؤا استوفوا.

و تقييد التوبة بالتقدّم على القدرة يدلّ على أنّها بعد القدرة لا تسقط الحدّ، بل يجب إقامة الحدّ عليه، و إن أسقطت العذاب.

[سورة المائدة [5]: آية 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [35]

و لمّا تقدّم ذكر القتل و المحاربين، عقّب ذلك بالموعظة و الأمر بالتقوى عن المعاصي و المفاسد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي:

ما تتوسّلون به إلى ثوابه و الزلفى عنده، من فعل الطاعات و ترك المعاصي و سائر المقبّحات، من: وسل إلى كذا، إذا تقرّب إليه. و قيل: الوسيلة أفضل درجات الجنّة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنّها درجة في الجنّة، لا ينالها إلّا عبد واحد، و أرجو أن أكون أنا هو».

و روى الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السّلام: «في الجنّة لؤلؤتان إلى بطنان العرش، أحدهما بيضاء، و الأخرى صفراء، في كلّ واحدة منهما سبعون ألف غرفة، فالبيضاء الوسيلة لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته، و الصفراء لإبراهيم و أهل بيته».

وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحاربة أعدائه الظاهرة و الباطنة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

ص: 254

بالوصول إلى اللّه تعالى، و الفوز بكرامته، أي: اعلموا على رجاء الفلاح و الفوز.

و قيل: «لعلّ» و «عسى» من اللّه واجب، فكأنّه قال: اعملوا لتفلحوا.

[سورة المائدة [5]: الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [36] يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [37]

و بعد وعد المؤمنين ذكر وعيد الكافرين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من صنوف الأموال و من الأولاد و الملك جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا

بِهِ ليجعلوه فدية لأنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ اللام متعلّقة بمحذوف تستدعيه «لو»، إذ التقدير: لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض. و توحيد الضمير في «به» و المذكور شيئان، إمّا لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ (1)، أو لأنّ الواو في «و مثله» بمعنى «مع» فتوحّد المرجع، أو من قبيل: فإنّي و قيّار بها لغريب (2).

ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ذلك الفداء. جواب «لو» و «لو» بما في حيّزه خبر «أنّ».

و الجملة تمثيل للزوم العذاب لهم، و أنّه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه بوجه وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تصريح بالمقصود منه. و كذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أي: يتمنّون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها إنّما قال: «وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ» بدل:

و ما يخرجون، للمبالغة وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم، ثابت، لا يزول، و لا يحول.

ص: 255


1- البقرة: 68.
2- بيت شعر صدره: «فمن يك أمسى بالمدينة رحله» و هو لضابئ بن الحرث البرجمي كما في هامش الكشّاف 1: 629.

[سورة المائدة [5]: الآيات 38 الى 40]

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [38] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [39] أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [40]

لمّا ذكر سبحانه الحكم فيمن أخذ المال جهارا، عقّبه ببيان الحكم فيمن أخذ المال سرّا، فقال: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جملتان عند سيبويه.

و التقدير: فيما يتلى عليكم: السارق و السارقة، أي: حكمهما. و جملة عند المبرّد.

و الفاء للسببيّة، دخل

الخبر لتضمّنهما معنى الشرط، إذ المعنى: و الّذي سرق و الّتي سرقت. و السرقة أخذ مال الغير في خفية. و إنّما توجب القطع إذا كانت من حرز، و المأخوذ ربع دينار، أو ما يساويه، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «القطع في ربع دينار فصاعدا».

و وضع الجمع موضع المثنّى، كما في قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (1) اكتفاءا بتثنية المضاف إليه.

و المراد باليدين اليمينان، دلّت الأخبار الصحيحة عليه. و أطلقت لغة و عرفا على الجارحة المخصوصة، من الكتف إلى رؤوس الأصابع، و شرعا من المرفق إلى الرؤوس، كما في آية (2) الوضوء، و من الزند إلى الرؤوس، كما في التيمّم عندنا، و على الأصابع لا غير، كما في قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ (3). و لم

ص: 256


1- التحريم: 4.
2- المائدة: 6.
3- البقرة: 79.

يبيّن في الآية المراد، و حينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر، فيكون اللفظ مجملا يبيّنه السنّة.

و ذهب الخوارج إلى أنّ المقطع هو المنكب (1)، و العامّة إلى الرسغ (2). و عند أصحابنا الاماميّة

أصول الأصابع اليمنى، و تترك الإبهام و الكفّ، و في المرّة الثانية يقطع الرجل اليسرى من أصل الساق، و يترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة، فإن سرق بعد ذلك خلّد في السجن. هذا هو المشهور عند أصحابنا، و المنقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

جَزاءً بِما كَسَبا مجازاة بكسبهما نَكالًا عقوبة على ما فعلاه، صادرة مِنَ اللَّهِ منصوبان على المفعول له، أو المصدر، و دلّ على فعلهما «فاقطعوا» وَ اللَّهُ عَزِيزٌ غالب على كلّ ما يريد حَكِيمٌ عالم بوجوه الحكم و المصالح.

فَمَنْ تابَ من السرّاق مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي: سرقته وَ أَصْلَحَ أمره، بالتفصّي عن التبعات، و العزم على أن لا يعود إليها فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقبل توبته، فلا يعذّبه في الآخرة. أمّا القطع فلا يسقط بها عند الأكثرين من العامّة. و قال أصحابنا: بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم. أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط، و بالإقرار قيل: يتحتّم الحدّ كما في البيّنة، و قيل: يتخيّر الامام.

و تحقيق ذلك في كتب الفقه.

أَ لَمْ تَعْلَمْ الخطاب للنبيّ أو لكلّ أحد أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرّف فيها بلا دافع و لا منازع يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذا كان مستحقّا للعذاب وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إذا عصاه و لم يتب وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قدّم التعذيب على المغفرة، إتيانا على ترتيب ما سبق، أو لأنّ استحقاق التعذيب مقدّم، أو لأنّ المراد به القطع، و هو في الدنيا.

ص: 257


1- المنكب: مجتمع رأس الكتف و العضد.
2- الرّسغ: المفصل ما بين الساعد و الكفّ، أو الساق و القدم.

[سورة المائدة [5]: الآيات 41 الى 44]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [41] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [42] وَ

كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [43] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [44]

و لمّا تقدّم ذكر اليهود و النصارى، عقّبه سبحانه بتسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمانه من

ص: 258

كيدهم، فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي: صنيع الّذين يقعون في الكفر سريعا، يقال: أسرع فيه الشيب، و أسرع فيه الفساد، بمعنى:

وقع فيه سريعا، فكذلك مسارعتهم في الكفر و وقوعهم و تهافتهم فيه، أسرع شي ء إذا وجدوا منه فرصة. مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي: من المنافقين. و الباء متعلّقة ب «قالوا» لا ب «آمنّا». و الواو تحتمل الحال و العطف.

وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على «مِنَ الَّذِينَ قالُوا» سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر مبتدأ محذوف، أي: هم سمّاعون. و الضمير للفريقين، أو ل «الَّذِينَ يُسارِعُونَ».

و يجوز أن يكون مبتدأ، و «من الّذين» خبره، أي: و من اليهود قوم سمّاعون. و اللام في «للكذب» إمّا مزيدة للتأكيد، أو لتضمين السماع معنى القبول، أي: قابلون لما تفتريه الأحبار من الكذب على اللّه و تحريف كتابه، أو للعلّة، و المفعول محذوف، أي: سمّاعون كلامك ليكذبوا عليك فيما يسمعون منك.

سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك، و تجافوا عنك تكبّرا، أو إفراطا في البغض.

و المعنى على الوجهين:

مصغون لهم قابلون كلامهم، أو سمّاعون منك لأجلهم، و للإنهاء إليهم. و يجوز أن تتعلّق اللام بالكذب، لأنّ «سمّاعون» الثاني للتأكيد، أي: سمّاعون ليكذبوا لقوم آخرين.

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي: يميلونه عن مواضعه الّتي وضعه اللّه تعالى فيها، إمّا لفظا بإهماله أو تغيير وضعه، و إمّا معنى بحمله على غير المراد، و إجرائه في غير مورده. و الجملة صفة أخرى «لقوم»، أو صفة ل «سمّاعون»، أو حال من الضمير فيه، أو استئناف لا موضع له، أو في موضع الرفع خبر لمحذوف، أي: هم يحرّفون. و كذلك يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي: إن أوتيتم هذا المحرّف فاقبلوه و اعملوا به وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أي: فاحذروا قبول ما أفتاكم

ص: 259

به.

روي أن شريفا من خيبر زنى بشريفة و هما محصنان، وحدّهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوهما مع نفر منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك، و قالوا: إن أمركم بالجلد و التحميم (1) فاقبلوا، و إن أمركم بالرجم فلا تقبلوا.

فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف، و كعب بن أسيد، و شعبة بن عمرو، و مالك بن الصيف، و كنانة بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا أحصنا.

فقال: و هل ترضون بقضائي في ذلك؟

قالوا: نعم.

فنزل جبرئيل بالرجم، فأخبرهم بذلك، فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبرئيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا، و وصفه له.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل تعرفون شابّا أبيض أعور يسكن فدكا يقال له: ابن صوريا؟

فقالوا: نعم.

قال: فأيّ رجل هو فيكم؟

قالوا: هو أعلم يهوديّ

بقي على ظهر الأرض بما أنزل التوراة على موسى عليه السّلام.

قال: فأرسلوا إليه. ففعلوا، فأتاهم عبد اللّه بن صوريا. فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّي أنشدك اللّه الّذي أنزل التوراة على موسى، و فلق لكم البحر فأنجاكم، و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المنّ و السلوى، هل تجدون في كتابكم .

ص: 260


1- حمّم الشي ء: صيّره أسود.

الرجم على من أحصن؟

قال ابن صوريا: نعم، و الّذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هو في كتابك يا محمد؟

قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها، كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرجم.

فقال ابن صوريا: هكذا أنزل في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فما ذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر اللّه.

قال: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فكثر الزنا في أشرافنا، حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر، فأراد الملك رجمه، فقال له قومه لا حتى ترجم فلانا، يعنون ابن عمّه. فقالوا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم، يكون على الشريف و الوضيع، فوضعنا الجلد و التحميم، و هو أن يجلد أربعين جلدة، ثمّ يسوّد وجوههما، ثمّ يحملان على حمارين، وجوههما من قبل دبر الحمار، و يطاف بهما. فجعلوا هذا مكان الرجم.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به، و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائبا، فكرهنا أن نغتابك! فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، و لولا ذلك

لما أخبرته به. فأمر بهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرجما عند باب مسجده. و قال: أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأنزل اللّه تعالى فيه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (1).

فقام ابن صوريا، فوضع يديه على ركبتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك، أن تذكر لنا الكثير الّذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم .

ص: 261


1- المائدة: 15.

عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه.

فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي.

فقال: صدقت، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمّه شي ء، أو بأمّه ليس فيه من شبه أبيه شي ء؟

فقال: أيّهما علا و سبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له.

قال: صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد، و ما للمرأة منه؟

قال: فأغمي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طويلا، ثمّ خلّي عنه محمرّا وجهه، يفيض عرقا، فقال: اللحم و الدم و الظفر و الشعر للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل.

فقال له: صدقت، أمرك أمر نبيّ، فأسلم ابن صوريا عند ذلك، و قال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟

قال: جبرئيل.

قال: صفه لي. فوصفه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت، و أنّك رسول اللّه حقّا.

فلمّا أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه. فلمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو النضير: أبونا واحد، و ديننا واحد، و نبيّنا واحد، إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد، و أعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، و إذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل، و أخذوا منّا الضعف مائة و أربعين وسقا من تمر، و إن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا، و بالرجل منهم الرجلين منّا، و بالعبد الحرّ منّا، و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم، فأنزل اللّه في الرجم و القصاص الآيات.

وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فضيحته بإظهار ما ينطوي عليه، أو عذابه، كقوله:

ص: 262

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ (1) أي: عذابكم، أو تركه مفتونا مخذولا فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلن تستطيع له من اللّه شيئا في دفعها أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من عقوبات الكفر الّتي هي الختم و الطبع و الضيق و الخذلان، بأن يمنحهم من ألطافه الهادية إلى الإيمان، كما طهّر قلوب المؤمنين منها، لأنّهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنّها لا تنجع فيهم. و لا يجوز حمل الآية على ظاهرها كما هو رأي الأشعري، لأنّ إرادة الكفر قبيح، و اللّه تعالى منزّه عنه.

لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هو ان و ذلّ بالجزية، و الخوف من أهل الإسلام وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ و هو الخلود في النار. و الضمير ل «الَّذِينَ هادُوا» إن استأنفت بقوله: «وَ مِنَ الَّذِينَ»، و إلّا فللفريقين.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ كرّره للتأكيد أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: الحرام كالرّشا، من: سحته إذا استأصله، لأنّه مسحوت البركة، أو لأنّه يعقّب هلاك الاستئصال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب بضمّتين، و هما لغتان كالعنق و العنق.

و في الحديث: «كلّ لحم نبت على السحت فالنار أولى به».

فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ

أَعْرِضْ عَنْهُمْ تخيير لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا تحاكموا إليه بين الحكم و الإعراض. و هذا التخيير عندنا ثابت للأئمّة في الشرع، للأخبار الواردة عن أئمّتنا عليهم السّلام. و هو قول ابن عبّاس برواية، و قول قتادة و عطاء و الشعبي و إبراهيم. و قال الشافعي أيضا: إنّه لو تحاكم كتابيّان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، و عند أبي حنيفة يجب.

وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ عن الحكم بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي: لا يقدرون على إضرار بك في دنيا أو دين، لإعراضك عنهم، فإنّ اللّه يعصمك من الناس.

وَ إِنْ حَكَمْتَ و إن اخترت أن تحكم بينهم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل

ص: 263


1- الذاريات: 14.

الّذي أمر اللّه تعالى به، كما حكمت بينهم بالرجم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين، فيحفظهم و يعظّم شأنهم.

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ هؤلاء اليهود وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به و بكتابه، و الحال أنّ الحكم منصوص عليه في الكتاب الّذي عندهم، و تنبيه على أنّهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحقّ و إقامة الشرع، و إنّما طلبوا به ما يكون أهون عليهم، و إن لم يكن حكم اللّه في زعمهم.

و قوله: فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة إن رفعتها بالظرف، و إن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه. و تأنيثها لكونها نظيرة المؤنّث في كلام العرب لفظا، كموماة (1) و دوداة.

ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ بعد التحكيم، و لا يرضون به. و هو عطف على «يحكّمونك» داخل في حكم التعجيب وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم كما يدّعون، لإعراضهم عنه أوّلا، و عمّا يوافقه ثانيا.

أو بك و به.

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهدي إلى الحقّ و العدل وَ نُورٌ يكشف عمّا استبهم من الأحكام يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ يعني: أنبياء بني إسرائيل، لا جميع النبيّين ليلزم أنّ نبيّنا كان متعبّدا بأحكامها قبل المبعث الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيّين مدحا لهم، و تنويها بشأن المسلمين، و تعريضا باليهود، و أنّهم بمعزل عن دين الإسلام الّذي هو دين الأنبياء كلّهم، قديما و حديثا لِلَّذِينَ هادُوا متعلّق ب «أنزل» أو ب «يحكم»، أي: يحكمون بها في تحاكمهم. و هو أقرب لفظا و معنى. أمّا لفظا فظاهر. و أمّا معنى فلأنّ المذهب الحقّ أنّ نبيّنا ليس متعبّدا بالشرائع السابقة، لا قبل البعثة و لا بعدها.

ص: 264


1- الموماة: الفلاة التي لا ماء فيها. و الدوداة: الأرجوحة التي يلعب بها الصبيان.

وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ و يحكم بها زهّادهم و علماؤهم، السالكون طريقة أنبيائهم، المجتنبين ملّة اليهود بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ بسبب ما طلب منهم أنبياؤهم و أوصوهم من حفظ التوراة عن التضييع و التحريف. و الراجع إلى «ما» محذوف. و «من» للتبيين. و يجوز أن يكون الضمير للأنبياء و الربّانيّين و الأحبار جميعا، و يكون الاستحفاظ من اللّه، أي: كلّفهم اللّه حفظه. وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ رقباء لا يتركون أن يغيّروا، أو شهداء يبيّنون ما يخفى من التوراة، كما فعل ابن صوريا.

فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ نهي للحكّام أن يخشوا غير اللّه تعالى في حكوماتهم، و يداهنوا فيها خشية ظالم أو خيفة أذيّة من الأقرباء و الأصدقاء.

و المعنى: أيّها الحكّام و الولاة، احكموا على اليهود بأحكام التوراة، و لا تتركوهم أن يعدلوا عنها، كما فعله رسول اللّه من حملهم على حكم

الرجم، و كذلك حكم الربّانيّون و الأحبار و المسلمون، بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب اللّه، و بسبب كونهم عليه شهداء، فلا تخشوا غير اللّه في حكوماتكم. أو نهي لعلماء اليهود عن إخفاء صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حكم الرجم. و المعنى: لا تخشوا اليهود في إظهار صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمر الرجم، و اخشوني في كتمان ذلك.

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي و لا تستبدلوا بأحكامي الّتي أنزلتها ثَمَناً قَلِيلًا هو الرشوة، و ابتغاء الجاه، و طلب الرئاسة، كما فعله اليهود وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به منكرا له فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لاستهانتهم به و تمرّدهم، بأن حكموا بغيره، و لذلك وصفهم بقوله: الظالمون و الفاسقون. فكفرهم لإنكاره، و ظلمهم بالحكم على خلافه، و فسقهم بالخروج عنه.

و عن ابن عبّاس: من جحد حكم اللّه فهو كافر، و من لم يحكم به و هو مقرّ فهو ظالم فاسق.

ص: 265

و عن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل، لتركبنّ طريقهم حذو النعل بالنعل، و القذّة بالقذّة، غير أنّي لا أدري أ تعبدون العجل أم لا؟

و يجوز أن يكون كلّ واحدة من الصفات الثلاث لطائفة كما قيل، هذه في المسلمين لاتّصالها بخطابهم، و الظالمون في اليهود، و الفاسقون في النصارى.

و الأوّل أصحّ، لما

روى البراء بن عازب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّ قوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ و بعده فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ و بعده فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلّ ذلك في الكفّار خاصّة. أورده مسلم في الصحيح (1).

و به قال ابن مسعود و أبو صالح و الضحّاك و عكرمة و قتادة.

[سورة المائدة [5]: آية 45]

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [45]

ثمّ بيّن سبحانه حكم التوراة في القصاص، فقال: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ و فرضنا على اليهود فِيها في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي: أنّ النفس تقتل بالنفس وَ الْعَيْنَ تفقأ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ يجدع بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ تقطع بِالْأُذُنِ وَ السِّنَ تقلع بِالسِّنِ رفعها الكسائي على أنّها جمل معطوفة على «أنّ» و ما في حيّزها باعتبار المعنى. و كأنّه قيل: و كتبنا عليهم النفس بالنفس و العين بالعين، فإنّ الكتابة و القراءة تقعان على الجمل كالقول، و لذلك قال الزجّاج: لو قرئ: «إنّ النفس» بالكسر لكان صحيحا. أو على أنّها مستأنفة، و معناه: و كذلك العين مفقوءة

ص: 266


1- صحيح مسلم 3: 1327 ح 28.

بالعين، و الأنف مجدوعة بالأنف، و الأذن مقطوعة بالأذن، و السنّ مقلوعة بالسنّ.

و قرأ نافع: «و الأذن بالأذن» و «في أذنيه» (1) بإسكان الذال حيث وقع.

وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ أي: ذات قصاص، و هو المقاصّة فيما يمكن فيه القصاص.

و قرأ الكسائي أيضا بالرفع. و وافقه ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر، على أنّه إجمال بعد التفصيل.

فَمَنْ تَصَدَّقَ من المستحقّين بِهِ بالقصاص، أي: فمن عفا عنه فَهُوَ فالتصدّق كَفَّارَةٌ لَهُ للمتصدّق، يكفّر اللّه به من ذنوبه بقدر ما تصدّق.

و قيل: للجاني، يسقط عنه ما لزمه.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القصاص و غيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون عن حكم اللّه.

[سورة المائدة [5]: الآيات 46 الى 47]

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما

بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [46] وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [47]

و لمّا تقدّم ذكر اليهود أتبعه سبحانه بذكر النصارى، فقال: وَ قَفَّيْنا عَلى

ص: 267


1- لقمان: 7.

آثارِهِمْ أي: و أتبعناهم على آثارهم، فحذف المفعول لدلالة الجارّ و المجرور عليه. و الضمير ل «النبيّون». بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مفعول ثان، عدّي إليه الفعل بالباء مُصَدِّقاً نصب على الحال لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ في موضع النصب بالحال وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ عطف عليه، و كذا قوله: وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ و يجوز نصبهما على المفعول له عطفا على محذوف، تقديره: آتيناه الإنجيل لمصالح شتّى و للهدى و الموعظة، أو تعلّقا بمحذوف، أي: للهدى و للموعظة آتيناه. و عطف عليه قوله: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ في قراءة حمزة، و هي كسر اللام و فتح الميم، أي: و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه آتيناه إيّاه. و على الأوّل (1) اللام متعلّقة بمحذوف، أي: و آتيناه ليحكم.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عن حكمه، أو عن الايمان إن كان مستهينا به.

و الآية تدلّ على أنّ الإنجيل مشتمل على الأحكام، و أنّ اليهوديّة منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة و السلام، و أنّه كان مستقلّا بالشرع. و حملها على: و ليحكموا بما أنزل اللّه فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة، خلاف الظاهر.

[سورة المائدة [5]: الآيات 48 الى 50]

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ

ص: 268


1- و هو جعل «هدى و موعظة» حالا.

فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [48] وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ [49] أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [50]

و لمّا بيّن سبحانه نبوّة موسى و عيسى عليهما السّلام، عقّب ذلك ببيان نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، احتجاجا على اليهود و النصارى بأنّ طريقته كطريقتهم في الوحي و المعجز، فقال: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي: القرآن ملتبسا بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ من جنس الكتب المنزلة، من التوراة و الإنجيل و كلّ كتاب أنزل من السماء. فاللام الأولى للعهد، و الثانية للجنس.

وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ و رقيبا على سائر الكتب، يحفظه عن التغيير، و يشهد له بالصحّة و الثبات.

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: بما أنزل إليك وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه. ف «عن» صلة «لا تتّبع» لتضمّنه معنى: لا تنحرف، كأنّه قيل: لا تنحرف عمّا جاءك من الحقّ متّبعا أهواءهم. أو حال من فاعله، أي: لا تتّبع أهواءهم مائلا عمّا جاءك.

لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيّها الناس

شِرْعَةً شريعة، و هي الطريقة الواردة إلى الماء. شبّه بها الدين، لأنّه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبديّة. وَ مِنْهاجاً

ص: 269

و طريقا واضحا في الدين، من: نهج الأمر إذا وضح. و استدلّ به على أنّا غير متعبّدين بالشرائع المتقدّمة.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي: جماعة متّفقة على دين واحد في جميع الأعصار، من غير نسخ و لا اختلاف فيه. و مفعول «لو شاء» محذوف دلّ عليه الجواب. و قيل: معناه: لو شاء اللّه اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، و لكنّ الإجبار مناف للتكليف فلم يفعل وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة، المناسبة لكلّ عصر و قرن، هل تعملون بها معتقدين أنّ اختلافها مصالح لكم، أم تزيغون عن الحقّ، و تفرّطون في العمل؟

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فابتدروها انتهازا للفرصة، و حيازة لقصب فضل السبق و التقدّم. هذا محمول على الواجبات، و من قال: إنّ الأمر على الندب، حمله على جميع الطاعات. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق، و وعد و وعيد للمبادرين و المقصّرين. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر دينكم، بالجزاء الفاصل بين محقّكم و مبطلكم، و عاملكم و مقصّركم، فيجازيكم على حسب استحقاقكم.

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ معطوف على الكتاب، أي: أنزلنا إليك الكتاب و الحكم، أو على الحقّ، أي: أنزلناه بالحقّ و بأن احكم. و يجوز أن يكون جملة بتقدير: و أمرنا أن احكم وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي: أن يضلّوك و يصرفوك عنه. و «أن» بصلته بدل من «هم» بدل الاشتمال، أي: احذر فتنتهم. أو مفعول له، أي: احذرهم

مخافة أن يفتنوك.

روي أنّ أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه. فقالوا:

يا محمّد قد عرفت أنّا أحبار اليهود، و أنّا إن اتّبعناك اتّبعتنا اليهود كلّهم، و إنّ بيننا

ص: 270

و بين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم، و نحن نؤمن بك و نصدّقك، فأبى ذلك رسول اللّه، فنزلت هذه الآية.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل، و أرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ يعاقبهم و يعذّبهم عذابا مغلّظا شديدا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني: ذنب التولّي عن حكم اللّه تعالى، فعبّر عنه بذلك تنبيها على أنّ لهم ذنوبا كثيرة، و هذا مع عظمه واحد منها، معدود من جملتها. و في هذا دلالة على تعظيم البعض، كما أن في التنكير معنى التعظيم. وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لمتمرّدون في الكفر، معتدون فيه.

أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ الّذي هو الميل و المداهنة في الحكم يَبْغُونَ ! المراد الملّة الجاهليّة الّتي هي متابعة الهوى و الجهالة، لا تصدر عن كتاب، و لا ترجع إلى وحي.

قيل: نزلت في بني قريظة و النضير، طلبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهليّة من التفاضل بين القتلى.

و قرأ ابن عامر: «تبغون» بالتاء على: قل لهم أ فحكم الجاهليّة تبغون؟ و على التقديرين، هذا تعيير لليهود بأنّهم أهل الكتاب، و هم يبغون حكم أهل الجاهليّة الّذين هم عبدة الأوثان.

وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ الاستفهام للتقرير، أي: لا أحد حكمه أحسن من حكم اللّه عند قوم يوقنون. فاللام للبيان، كما في قوله: هَيْتَ لَكَ (1)، أي: هذا الخطاب و هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنّهم هم الّذين

يتدبّرون الأمور، و يتحقّقون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون أن لا أحسن حكما من اللّه تعالى.

ص: 271


1- يوسف: 23.

[سورة المائدة [5]: الآيات 51 الى 53]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [51] فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [52] وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ [53]

ثمّ نهى اللّه سبحانه المؤمنين أن يتّخذوا أهل الكتاب أولياء، و يستنصروهم و يوالوهم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ فلا تعتمدوا عليهم، و لا تعاشروهم معاشرة الأحباب.

ثمّ علّل النهي عن مخالطتهم إيّاهم بقوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي:

بعض الكفّار وليّ بعض في العون و النصرة، و يدهم واحدة عليكم. يعني: كلّهم متّفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضا، لاتّحادهم في الدين، و اجتماعهم على مضادّتكم.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي: و من والاهم، و استنصر بهم، و اتّخذهم أنصارا مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ و هذا تشديد من اللّه في وجوب مجانبتهم في الدين، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تتراءى ناراهما».

يعني: لا ينبغي لمسلم أن ينزل بالموضع الّذي إذا أوقدت فيه نار تظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. و المراد المبالغة في مباعدة

ص: 272

المسلم المشرك.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الّذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفّار، أو ظلموا المؤمنين بموالاة الكافرين، فيمنعهم ألطافه و يخذلهم.

قال في الكشّاف (1): روي أنّ عبادة بن الصامت قال

لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، و إنّي أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولايتهم، و أوالي اللّه و رسوله. فقال ابن أبيّ: لكنّي رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ، و هم يهود بني قينقاع، فنزلت: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

يعني: ابن أبيّ و أضرابه يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي: في موالاتهم و معاونتهم، و يرغبون في مودّتهم و محبّتهم يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أي:

يعتذرون بأنّهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان، أي: صرف من صروفه، بأن ينقلب الأمر و تكون الدولة للكفّار، فيحتاجوا إليهم و إلى معونتهم.

فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ يعني: فتح مكّة أو فتح بلاد الشرك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أعدائه، و إظهار المسلمين عليهم أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ و هو إعزاز المسلمين بقطع شأفة (2) اليهود، و إذلال الكافرين بالرعب و القتل، أو إجلائهم من ديارهم، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين و قتلهم فَيُصْبِحُوا أي: هؤلاء المنافقون عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ على ما استبطنوه من الكفر و الشكّ في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فضلا عمّا أظهروه ممّا أشعر على نفاقهم.

ص: 273


1- الكشّاف 1: 643.
2- الشأفة: الأصل، يقال: استأصل شأفته، أي: أزاله من أصله.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ عاصم و حمزة و الكسائي بالرفع، على أنّه كلام مبتدأ. و يؤيّده قراءة ابن كثير و نافع و ابن عامر مرفوعا بغير واو، على أنّه جواب قائل يقول: فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟ و قرأ أبو عمرو و يعقوب بالنصب عطفا على «أن يأتي» باعتبار

المعنى، و كأنّه قال: عسى أن يأتي اللّه بالفتح و يقول الّذين آمنوا. أو على الفتح، أي: عسى اللّه أن يأتي بالفتح و بأن يقول المؤمنون، فإنّ الإتيان بما يوجب القول كالإتيان بالقول.

أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي: أنّهم مؤمنون، و معكم في معاونتكم على أعدائكم و نصرتكم. يعني: يقوله المؤمنون بعضهم لبعض، تعجّبا من حال المنافقين، و إظهارا لسرورهم و بهجتهم بما منّ اللّه عليهم من الإخلاص. أو يقول المؤمنون لليهود، فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة، كما حكى اللّه تعالى عنهم: وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ (1).

و جهد الأيمان أغلظها. و هو في الأصل مصدر. و نصبه على الحال على تقدير: و أقسموا باللّه يجهدون جهد أيمانهم، فحذف الفعل و أقيم المصدر مقامه، و لذلك ساغ كونها معرفة. أو على المصدريّة، لأنّه بمعنى:

أقسموا.

و قوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إمّا من جملة المقول، أو من قول اللّه تعالى شهادة لهم بأنّ أعمالهم بطلت و ضاعت، لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، و بطل ما أظهروه من الايمان، لأنّه لم يوافق باطنهم ظاهرهم، فلم يستحقّوا به الثواب فَأَصْبَحُوا فصاروا خاسِرِينَ فيه معنى التعجّب، كأنّه قيل: ما أحبط أعمالهم! و ما أخسرهم في الدنيا و الآخرة!!

ص: 274


1- الحشر: 11.

[سورة المائدة [5]: الآيات 54 الى 56]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [54] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ [55] وَ مَنْ

يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [56]

و لمّا بيّن سبحانه حال المنافقين، و أنّهم يتربّصون الدوائر بالمؤمنين، أعلم أنّ قوما منهم يرتدّون بعد وفاته، و أنّ ذلك كائن، و أنّهم لا ينالون أمانيّهم، و أنّه تعالى ينصر دينه بقوم لهم صفات محمودة مخصوصة، تميّزوا بها من بين العالمين، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأه على الأصل نافع و ابن عامر، و هو كذلك في الامام، و الباقون بالإدغام، أي: يرتدّ.

و في هذه الآية إخبار بالكائنات الّتي أخبر اللّه تعالى عنها قبل وقوعها، و هو أنّ قوما يرتدّون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّه سبحانه ينصر دينه بقوم لهم هذه الصفات المذكورة.

و قيل: كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة، ثلاث من العرب ارتدّوا في أواخر عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم: بنو مدلج، و كان رئيسهم ذا الحمار الأسود العنسي، و كان كاهنا تنبّأ باليمن و استولى على بلاده، فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى معاذ بن جبل و إلى سادات اليمن، فأهلكه اللّه على يد فيروز الديلمي ليلة قبض رسول

ص: 275

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غدها، و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الليلة فسرّ المسلمون، و أتى الخبر في أواخر ربيع الأول.

و بنو حنيفة أصحاب مسيلمة، تنبّأ و كتب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مسيلمة رسول اللّه إلى محمّد رسول اللّه. أمّا بعد، فإنّ الأرض نصفها لي

و نصفها لك. فأجاب: من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب. أمّا بعد، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده، و العاقبة للمتّقين. فحاربه أبو بكر بجند من المسلمين، و قتله وحشي قاتل حمزة رضي اللّه عنه، و كان يقول: قتلت خير الناس في الجاهليّة، و شرّ الناس في الإسلام، أراد: في جاهليّتي و إسلامي.

و بنو أسد قوم طليحة بن خويلد، تنبّأ فبعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خالدا، فهرب بعد القتال إلى الشام، ثمّ أسلم و حسن إسلامه.

و سبع في عهد أبي بكر: فزارة قوم عيينة بن حصن، و غطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري، و بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، و بنو يربوع قوم مالك بن نويرة، و بعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبّئة زوجة مسيلمة، و كندة قوم الأشعث بن قيس، و بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد. و كفى اللّه أمرهم على يد المسلمين. و فرقة واحدة في زمان خلافة عمر، غسّان قوم جبلّة بن الأيهم، تنصّر و سار إلى الشام.

و الحاصل: أنّ اللّه سبحانه يقول: يا أيّها المؤمنون من يرجع من جملتكم إلى الكفر بعد إظهار الإيمان فلن يضرّوا اللّه شيئا، فإنّ اللّه لا يخلي دينه من أنصار يحمونه.

فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ قيل: هم أهل اليمن، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشار إلى أبي موسى الأشعري و قال: قوم هذا. و قال: «الإيمان يمانيّ، و الحكمة يمانيّة».

و قيل: الفرس، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عنهم فضرب يده على عاتق

ص: 276

سلمان و قال:

هذا و ذووه. و قال: «لو كان الدين معلّقا بالثريّا لناله رجال من أبناء فارس».

و قيل: الّذين جاهدوا يوم القادسيّة ألفان من النخع، و خمسة آلاف من كندة و بجيلة، و ثلاثة آلاف من جماعات الناس.

و عن أئمّة الهدى عليهم السّلام و ابن عبّاس و عمّار و حذيفة أنّهم عليّ عليه السّلام و أصحابه، حين قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين. و يؤيّد هذا القول

أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صفه بالصفات المذكورة في هذه الآية، فقال فيه- و قد ندبه لفتح خيبر، بعد أن ردّ عنها حامل الراية إليه مرّة بعد أخرى، و فرّ من القتال و رجع إليه مرّة بعد أخرى، و هو يجبّن الناس و يجبّنونه-: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، كرّارا غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يده». ثم أعطاها إيّاه.

و الراجع إلى «من» محذوف تقديره: فسوف يأتي اللّه بقوم مكانهم. و محبّة اللّه تعالى للعباد إرادة الهدى و التوفيق لهم في الدنيا، و حسن الثواب في الآخرة. و محبّة العباد له إرادة طاعته، و التحرّز عن معصيته.

أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين راحمين عليهم متذلّلين. جمع ذليل بمعنى الخاضع، لا ذلول من الذلّة، فإنّ جمعه ذلل. و استعماله مع «على» إمّا لتضمّنه معنى العطف و الحنوّ، أو للتنبيه على أنّهم مع علوّ طبقتهم و فضلهم على المؤمنين خاضعون لهم، أو للمقابلة بقوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ غلاظ شداد متغلّبين عليهم، من: عزّه إذا غلبه. قال ابن عبّاس: تراهم للمؤمنين كالولد لوالده و كالعبد لسيّده، و في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.

يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالقتال لإعلاء كلمة

اللّه و إعزاز دينه. هو صفة أخرى ل «قوم» أو حال من الضمير في «أعزّة» وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيما يأتون من الجهاد و الطاعات. عطف على «يجاهدون» بمعنى: أنّهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل اللّه و التصلّب في دينه. أو حال، يعني: أنّهم يجاهدون و حالهم خلاف

ص: 277

حال المنافقين، فإنّهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود، فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم. و اللومة المرّة من اللوم. و فيها و في تنكير «لائم» مبالغتان، كأنّه قيل: لا يخافون شيئا قطّ من لوم أحد من اللّوام.

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف، أي: ذلك المحبّة و الذلّة و العزّة و المجاهدة و انتفاء خوف اللومة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعطيه من يعلم أنّه محلّ له وَ اللَّهُ واسِعٌ جواد كثير الفضل و اللطف، لا يخاف نفاد ما عنده عَلِيمٌ بمن هو أهله، فلا يبذله إلّا لمن تقتضي الحكمة إعطاءه.

و اعلم أنّ وصف اللين على أهل الإيمان، و الشدّة على الكفّار، و الجهاد في سبيل اللّه، و عدم الخوف من لائم، لا يمكن أحدا أن يدفع عليّا عليه السّلام عن استحقاق ذلك، لما ظهر من شدّته على أهل الشرك و الكفر، و نكايته فيهم، و مقاماته المشهورة في تشييد الملّة و نصرة الدين، و الرأفة على المؤمنين.

و يؤيّد ذلك أيضا إنذار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قريشا بقتال عليّ عليه السّلام لهم من بعده، حيث

جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا: يا محمّد إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لتنتهينّ يا معشر قريش أو ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن، كما ضربتكم على تنزيله. فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول اللّه، أبو بكر؟ قال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا، و لكنّه خاصف النعل في الحجرة. و كان عليّ عليه السّلام يخصف نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و روى عن عليّ عليه السّلام أنّه قال يوم البصرة: «و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم، و تلا هذه الآية».

و روى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالإسناد عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابي أصحابي. فيقال: إنّك لا

ص: 278

علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».

و قيل: إنّ الآية عامّة في كلّ من استجمع هذه الخصال إلى يوم القيامة. و ذكر عليّ بن إبراهيم (1) بن هاشم: أنّها نزلت في مهديّ الأمّة و أصحابه، و أوّلها خطاب لمن ظلم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قتلهم و غصبهم حقّهم.

و يؤيّد ما قلنا من أنّ صاحب هذه الصفات الحميدة و السمات السنيّة و النعوت الجليلة و الخصال العليّة، كان عليّ بن أبي طالب و أولاده المعصومين عليهم السّلام، الّذين هم ولاة الدين بنصّ خاتم النبيّين صلوات اللّه عليه و عليهم، أنّه سبحانه أورد بعد هذه الآية آية مخصوصة به عليه السّلام عند الموافق و المخالف، و هي قوله عزّ و علا: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أي: الذي يتولّى تدبيركم و يلي أموركم

اللّه و رسوله وَ الَّذِينَ آمَنُوا.

إنّما قال: وليّكم، و لم يقل: أولياؤكم، للتنبيه على أنّ الولاية للّه تعالى على الأصالة و لرسوله و المؤمنين على التبع.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة ل «الَّذِينَ آمَنُوا»، فإنّه جرى مجرى الاسم في تقدير: و المؤمنون الّذين يقيمون، أو بدل منه. و يجوز نصبه و رفعه على المدح. وَ هُمْ راكِعُونَ جملة حاليّة مخصوصة ب «يؤتون»، أي: يؤتون الزّكاة حال ركوعهم في الصّلاة حرصا على الإحسان و مسارعة إليه.

و هذه الآية بالاتّفاق نزلت في عليّ عليه السّلام حين سأله سائل و هو راكع في صلاته، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، فأخذ السائل الخاتم من خنصره.

و من جملة الروايات الواردة في هذا الباب، ما

رواه صاحب المجمع (2) عن .

ص: 279


1- تفسير القمّي 1: 170.
2- مجمع البيان 3: 210.

السيّد أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم (1) الحسكاني رحمه اللّه، قال: حدّثني أبو الحسن محمّد بن القاسم الفقيه الصيدلاني، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد اللّه بن محمّد الشعراني، قال: حدّثنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين البياشاني، قال: حدّثنا المظفّر بن الحسين الأنصاري، قال: حدّثني السندي بن عليّ الورّاق، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، قال: «بينا عبد اللّه بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ أقبل رجل متعمّم بعمامة، فجعل ابن عبّاس لا يقول: قال رسول اللّه، إلّا قال الرجل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال ابن عبّاس: سألتك باللّه من أنت؟

فكشف العمامة عن

وجهه و قال: يا أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرّ الغفاري، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهاتين و إلّا فصمّتا، و رأيته بهاتين و إلّا فعميتا، يقول: عليّ قائد البررة، و قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.

أما إنّي صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما من الأيّام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء، و قال: اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يعطني أحد شيئا. و كان عليّ راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه، و كان يتختّم فيها، فأقبل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، و ذلك بعين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا فرغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال: اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي .

ص: 280


1- شواهد التنزيل 1: 229 ح 235.

أَمْرِي (1). فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما (2). اللّهمّ و أنا محمّد صفيّك و نبيّك، اللّهمّ فاشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا اشدد به ظهري.

قال أبو ذرّ: فو اللّه ما استتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكلام

حتّى نزل جبرئيل من عند اللّه فقال: يا محمّد اقرأ. قال: و ما أقرأ؟ قال: اقرأ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ ... الآية».

و روى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بهذا الإسناد بعينه.

و روى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام (3) القرآن، على ما حكاه المغربي عنه، و الطبري (4)، و الرمّاني، أنّها نزلت في عليّ عليه السّلام حين تصدّق بخاتمه و هو راكع.

و هو قول مجاهد و السدّي، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، و جميع علماء أهل البيت.

و في رواية عطاء، قال عبد اللّه بن سلام: «يا رسول اللّه أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه و هو راكع، فنحن نتولّاه».

و قد رواه لنا (5) السيّد أبو الحمد، عن أبي القاسم الحسكاني (6) بالإسناد المتّصل المرفوع إلى أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: «أقبل عبد اللّه بن سلام و معه نفر من قومه ممّن قد آمنوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا: يا رسول اللّه إنّ منازلنا بعيدة، و ليس لنا مجلس و لا متحدّث دون هذا المجلس، و إنّ قومنا لمّا رأونا آمنّا باللّه و برسوله .

ص: 281


1- طه: 25- 32.
2- القصص: 35.
3- أحكام القرآن 2: 446.
4- تفسير الطبري 6: 186.
5- من كلام صاحب المجمع «قدّس سرّه»، راجع مجمع البيان 3: 210.
6- شواهد التنزيل 1: 234 ح 237.

و صدّقناه رفضونا، و آلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا. فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين ...» الآية.

ثمّ إنّ النبيّ صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم خرج إلى المسجد، و الناس بين قائم و راكع، فبصر بسائل، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل أعطاك أحد شيئا؟

فقال: نعم، خاتم من فضّة.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أعطاك؟

قال: ذلك القائم، و أومأ إلى عليّ عليه السّلام.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على أيّ حال أعطاك؟

فقال: أعطاني و هو راكع.

فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ قرأ: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ

وضع الظاهر موضع الضمير، و هو: فإنّهم هم الغالبون، تنبيها على البرهان عليه، فكأنّه قيل: و من يتولّ هؤلاء فهم حزب اللّه و حزب اللّه هم الغالبون، و تنويها بذكرهم، و تعظيما لشأنهم، و تشريفا لهم بهذا الاسم، و تعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنّه حزب الشيطان. و أصل الحزب قوم يجتمعون لأمر حزبهم، أي: جمعهم.

و في حديث إبراهيم بن الحكم بن ظهير: «أنّ عبد اللّه بن سلام أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع رهط من قومه، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لقوا من قومهم. فبينا هم يشكون إذ نزلت هذه الآية، و أذّن بلال فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المسجد، و إذا مسكين يسأل. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ماذا أعطيت؟

قال: خاتم من فضّة.

قال: من أعطاك؟

قال: ذلك القائم. فإذا هو عليّ عليه السّلام.

ص: 282

قال: على أيّ حال أعطاكه؟

قال: أعطاني و هو راكع.

فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ ... الآية».

و الآية من أوضح الدلائل على صحّة إمامة عليّ عليه السّلام بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل. و تنقيح المبحث: أنّ الوليّ هو الّذي يلي تدبير الأمر، فيقال: فلان وليّ المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها، و وليّ الدم من كان إليه المطالبة بالقود، و السلطان، وليّ أمر الرعيّة. و يقال لمن كان خليفة النبيّ: وليّ عهد المسلمين. قال الكميت (1) يمدح عليّا عليه السّلام:

و نعم ولي الأمر بعد نبيّه و منتجع التقوى و نعم المؤدّب

و قال المبرّد في كتاب العبارة عن صفات اللّه تعالى: أصل الوليّ الذي هو أولى، أي: أحقّ، و مثله المولى. و أنّ لفظة «إنّما» تقتضي التخصيص و نفي الحكم عمّن عدا المذكور، كما يقولون: إنّما الفصاحة للجاهليّة، يعنون نفي الفصاحة عن غيرهم. و أنّ الروايات المأثورة عنّا و عنهم دالّة على أنّ المراد ب «الَّذِينَ آمَنُوا» في الآية عليّ عليه السّلام.

و إذا تقرّر هذا، لم يجز حمل لفظة «وليّ» على الموالاة في الدين و المحبّة، لأنّه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون آخر، لأنّ المؤمنين كلّهم مشتركون في هذا المعنى، كما قال سبحانه: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2).

و إذا لم يجز حمله على ذلك لم يبق إلّا الوجه الآخر، و هو صاحب التدبير و الأولى بالتصرّف في الأمور، لأنّه لا محتمل للفظه إلّا الوجهان، فإذا بطل أحدهما ثبت الآخر.

ص: 283


1- الروضة المختارة شرح قصائد الكميت: 41.
2- التوبة: 71.

و الّذي يدلّ على أنّ المعنيّ ب «الَّذِينَ آمَنُوا» هو عليّ عليه السّلام، الرواية الواردة من طريق العامّة و الخاصّة بنزول

الآية فيه لمّا تصدّق بخاتمه في حال الركوع. و قد تقدّم ذكرها. و أيضا كلّ من قال: إنّ المراد بلفظة «وليّ» ما يرجع إلى فرض الطاعة و الإمامة، ذهب إلى أنّه عليه السّلام هو المقصود بالآية.

و قال جار اللّه في الكشّاف (1): «إنّما جي ء بلفظ الجمع، و إن كان السبب فيه رجلا واحدا، ليرغب الناس في مثل فعله، و لينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ و الإحسان».

و قال صاحب الجامع (2): «و أنا أقول قد اشتهر في اللغة إيراد العبارة عن الواحد بلفظة الجمع على سبيل التعظيم، فلا يحتاج إلى ما قال جار اللّه».

و وجه آخر على أنّ الولاية في الآية مختصّة أنّه سبحانه قال: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ» فخاطب جميع المؤمنين، و دخل في الخطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيره. ثمّ قال:

«و رسوله» فأخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جملتهم، لكونهم مضافين إلى ولايته. ثمّ قال:

«وَ الَّذِينَ آمَنُوا» فوجب أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جعلت له الولاية، و إلّا أدّى المعنى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، و إلى أن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه، و ذلك محال. و لمّا تحقّق أنّ المعنيّ بالآية هو أمير المؤمنين، تحقّقت إمامته بالنصّ الصريح، و هو المطلوب.

و قال صاحب كنز العرفان (3): و يستدلّ بهذه الآية على أمور:

الأوّل: أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة، لأنّ قوله: «وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» إشارة إلى فعل عليّ عليه السّلام لمّا تصدّق على السائل بخاتمه في حال ركوعه،

ص: 284


1- الكشّاف 1: 649.
2- جوامع الجامع 1: 386- 387.
3- كنز العرفان 1: 158- 159.

و ذلك فعل قليل لا يؤثّر في بطلان الصلاة.

الثاني: أنّ النيّة فعل قلبيّ لا لساني، لأنّ فعله ذلك في الصلاة يستلزم النيّة، لأنّه عمل و كلّ عمل لا بدّله من النيّة، و اللفظ في الصلاة بغير القرآن و الدعاء مبطل، فلم يقع منه حينئذ، و إلّا لبطلت صلاته، و اللازم كالملزوم في البطلان.

الثالث: أنّ استحضار النيّة فعلا و استمرارها عينا غير شرط في العبادة، لأنّه على حال نيّة الزكاة لم يكن مستحضرا لنيّة الصلاة، فلو كان شرطا لأثّر البطلان المستلزم للذمّ المنافي لهذا المدح العظيم. و يتفرّع على ذلك الاكتفاء باستمرار النيّة حكما.

الرابع: تسمية الصدقة المندوبة زكاة، إذ لا يجوز كون ذلك الخاتم من الزكاة الواجبة، لأنّ إخراجها واجب مضيّق لا يجوز الاشتغال عنه بواجب موسّع أو مندوب، و حينئذ يكون ذلك من الصدقات المندوبة، و هو المطلوب. انتهى كلامه.

أقول: في الأمر الرابع نظر، كما لا يخفى على أهل النظر.

[سورة المائدة [5]: آية 57]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [57]

روي عن ابن عبّاس: أنّ رفاعة بن زيد و سويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثمّ نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادّونهما، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً بأن أظهروا الإيمان باللسان و استبطنوا الكفر، فذلك معنى تلاعبهم بالدين مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

ص: 285

وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ.

رتّب النهي عن موالاتهم على اتّخاذهم دينهم هزوا و لعبا، إيماء إلى العلّة، و تنبيها على أنّ من هذا شأنه بعيد

عن الموالاة جدير بالمعاداة.

و فصّل المستهزئين بأهل الكتاب و الكفّار على قراءة من جرّه، و هم أبو عمرو و الكسائي و يعقوب. و على هذا الكفّار و إن عمّ أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصّة، لتضاعف كفرهم. و من نصبه عطفه على «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» على أنّ النهي عن موالاة من ليس على الحقّ رأسا، سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى و حرّفه عن الصواب كأهل الكتاب، و من لم يكن كالمشركين.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ بترك المناهي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لأنّ الإيمان حقّا يقتضي ذلك. أو إن كنتم مؤمنين بوعده و وعيده.

[سورة المائدة [5]: آية 58]

وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [58]

ثمّ أخبر سبحانه عن صفة الكفّار الّذين نهى المؤمنين عن موالاتهم، فقال:

وَ إِذا نادَيْتُمْ أيّها المؤمنون إِلَى الصَّلاةِ أي: إذا دعوتم إليها اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً أي: اتّخذوا الصلاة أو المناداة، فإنّهم كانوا إذا أذّن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم، تجهيلا لأهلها، و تنفيرا للناس عنها و عن الداعي إليها.

و فيه دليل على أنّ الأذان مشروع للصلاة. و ثبوته بنصّ الكتاب، لا بالمنام وحده.

روي: أنّ نصرانيّا بالمدينة كان إذا سمع المؤذّن يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، قال: أحرق اللّه الكاذب. فدخل خادمه ذات ليلة بنار و أهله نيام، فتطاير شررها في البيت، فأحرقه و أهله.

ص: 286

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإنّ السفه يؤدّي إلى الجهل بالحقّ و الهزء به، و العقل يمنع منه، فكان لعبهم و هزؤهم من أفعال السفهاء و الجهلة، فكأنّه لا عقل لهم.

[سورة المائدة [5]: آية 59]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ [59]

و روي أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه عمّن يؤمن به من الرسل. فقال: أومن باللّه، و ما أنزل إلينا، و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب- إلى قوله- و نحن له مسلمون، فلمّا ذكر عيسى عليه السّلام جحدوا نبوّته، و قالوا:

و اللّه ما نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدنيا و الآخرة منكم، و لا دينا شرّا من دينكم، فنزلت: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا

ما تعيبون و تنكرون. يقال: نقم منه إذا أنكره، و انتقم إذا كافأه إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ فوحّدناه و وصفناه بما يليق به من الصفات العلى، و نزّهناه عمّا لا يجوز عليه في ذاته و صفاته وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ على الأنبياء من الكتب المنزلة عليهم.

وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على «أن آمنّا»، و كأنّ المستثنى لازم الأمرين، أعني: الإيمان و كون أكثركم فاسقين، أي: و ما تنقمون منّا إلّا الجمع بين إيماننا و بين تمرّدكم و خروجكم عن الإيمان، كأنّه قيل: و ما تنكرون منّا إلّا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان و أنتم خارجون منه. أو كان أصل الكلام: و اعتقاد أنّ أكثركم فاسقون، فحذف المضاف. أو عطف على «ما»، أي: و ما تنقمون منّا إلّا الإيمان باللّه و بما أنزل و بأنّ أكثركم. أو على علّة محذوفة، و التقدير: هل تنقمون منّا إلّا أن آمنّا لقلّة إنصافكم و فسقكم. أو نصب بإضمار فعل يدلّ عليه «هل تنقمون»، أي: و لا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون. أو رفع على الابتداء و الخبر

ص: 287

محذوف، أي: و فسقكم ثابت معلوم عندكم، و لكن حبّ الرئاسة و المال يمنعكم عن الإنصاف.

و المراد من الأكثر من لم يؤمن منهم، فإنّ قليلا من أهل الكتاب آمن.

[سورة المائدة [5]: آية 60]

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [60]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخاطبهم، فقال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ من ذلك المنقوم مَثُوبَةً عِنْدَ

اللَّهِ جزاء ثابتا عند اللّه. و المثوبة و إن كانت مختصّة بالخير، كالعقوبة بالشرّ، لكن وضعت هاهنا موضعها على التهكّم، و منه قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1)، و قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع (2).

و نصبها على التمييز عن «بشرّ». و إنّما قال «بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» و إن لم يكن في المؤمنين شرّ، على الإنصاف في المخاطبة و المظاهرة في الحجاج، كقوله: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (3).

مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بدل من «بشرّ» على حذف مضاف، أي: بشرّ من أهل ذلك من لعنه اللّه. أو: بشرّ من ذلك دين من لعنه اللّه. أو خبر محذوف، أي:

ص: 288


1- آل عمران: 21.
2- من قصيدة لعمرو بن معد يكرب، و صدره: و خيل قد دلفت لها بخيل. أي: و أصحاب خيل قد تقدّمت لها بمثلها، التحيّة بينهم هو الضرب الوجيع، فأخبر عنها بالضرب الوجيع على سبيل التهكّم.
3- سبأ: 24.

هو من لعنه اللّه. و هم اليهود أبعدهم اللّه من رحمته، و سخط عليهم بكفرهم و انهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات.

وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ أي: و مسخ بعضهم قردة، و هم أصحاب السبت وَ الْخَنازِيرَ و بعضهم جعل خنازير، و هم كفّار أهل مائدة عيسى. و قيل: كلا المسخين في أصحاب السبت، مسخت شبّانهم قردة، و مشايخهم خنازير.

وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على صلة «من». و قرأ حمزة: عبد الطاغوت بضمّ الباء و الإضافة، عطفا على القردة، أي: جعل منهم عبد الطاغوت، و هي للمبالغة في العبوديّة، نحو حذر و يقظ. و المعنى: أنّه خذلهم حتّى عبدوه. و المراد من الطاغوت العجل. و قيل: الكهنة، و كلّ من أطاعوه في

معصية اللّه تعالى.

أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً جعل مكانهم شرّا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم. و قيل: مكانا منصرفا. وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصد الطريق المتوسّط بين غلوّ النصارى و قدح اليهود. و المراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا، لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة و الضلالة. أو يكون من باب المماشاة و الإنصاف في الخطاب.

قال المفسّرون: فلمّا نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب، و قالوا: يا إخوان القردة و الخنازير، فنكسوا رؤوسهم و افتضحوا.

[سورة المائدة [5]: آية 61]

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ [61]

ثمّ قال في شأن جماعة من اليهود نافقوا رسول اللّه، أو في عامّة المنافقين:

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي: يخرجون من عندك كما دخلوا، لم يؤثّر فيهم ما سمعوا منك. و الجملتان حالان من فاعل «قالوا».

ص: 289

و «بالكفر» و «به» حالان من فاعلي «دخلوا» و «خرجوا»، أي: دخلوا و خرجوا ملتبسين بالكفر. و «قد» و إن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصحّ أن يقع حالا، أفادت أيضا- لما فيها من التوقّع- أنّ أمارة النفاق كانت لائحة عليهم، و كان الرسول يظنّه، و لذلك قال: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي: من الكفر. و فيه وعيد لهم.

[سورة المائدة [5]: الآيات 62 الى 66]

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [62] لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ [63] وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [64] وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [65] وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ

مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ [66]

ثم بيّن سبحانه أنّه يضمّون إلى نفاقهم خصلة أخرى ذميمة، فقال: وَ تَرى

ص: 290

كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من اليهود أو المنافقين يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي: الحرام. و قيل:

الكذب، لقوله: «عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ». و قيل: كلمة الشرك، نحو قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (1). وَ الْعُدْوانِ الظلم، أو مجاوزة الحدّ في المعاصي. و قيل: الإثم ما يختصّ بهم، و العدوان ما يتعدّى إلى غيرهم. وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي: الحرام الّذي هو الرشوة في الحكم. خصّه بالذكر للمبالغة. لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لبئس شيئا عملوه.

قال أهل المعاني: إنّ أكثر ما تستعمل المسارعة في الخير، كقوله تعالى:

يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ (2). و فائدة إيثار لفظ المسارعة هاهنا- و إن كان لفظ العجلة أدلّ على الذمّ- أنّهم يعملونه كأنّهم محقّون فيه، و لذلك قال ابن عبّاس في تفسيره: أنّهم يجترءون على الخطأ.

لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ العلماء بالدين الذين من قبل الربّ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ الإثم: الكذب أو كلمة الشرك وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك، فإنّ «لولا» إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، و إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.

لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ أبلغ من قوله: لبئس ما كانوا يعملون، من حيث إنّ الصنع عمل الإنسان بعد تدرّب فيه و تروّ و تحرّي إجادة، و لذلك ذمّ به خواصّهم، و لأنّ ترك الحسبة أقبح من مواقعة المعصية، لأنّ النفس تلتذّ بها و تميل إليها، و لا كذلك ترك الإنكار عليها، فكان جديرا بأبلغ الذمّ، فترك النهي عن الكبيرة أعظم من ارتكابها.

و عن ابن عبّاس: هي أشدّ آية في القرآن. و عن الضحّاك: ما في

القرآن آية

ص: 291


1- التوبة: 30.
2- آل عمران: 114.

أخوف عندي منها.

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي: مقبوضة عن العطاء، ممسكة عن الرزق.

يعني: هو ممسك يقتر الرزق. و غلّ اليد و بسطها مجاز عن البخل و الجود، و منه قوله تعالى وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (1). و لا قصد فيه إلى إثبات يد و غلّ و بسط، و لذلك يستعمل حيث لا يتصوّر ذلك، كقوله:

جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه و وهاده (2)

و قيل: معناه أنّه فقير، كقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ (3).

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل و النكد، أو بالفقر و المسكنة، و لذلك كانوا أبخل خلق اللّه و أرذلهم. و يجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة، يغلّون في الدنيا أسارى، و في الآخرة في النار، فتكون المطابقة من حيث اللفظ و الأصل، كقولهم: سبّني سبّ اللّه دابره، أي: قطعه، لأنّ السبّ أصله القطع. و يجوز أن يكون إخبارا بأنّهم ألزموا البخل و جعلوا بخلاء.

وَ لُعِنُوا بِما قالُوا و أبعدوا عن رحمة اللّه، و عذّبوا بهذه المقالة، و ليس الأمر على ما وصفوه بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ بل هو الجواد. و ليس لذكر اليد هنا معنى غير إفادة معنى الجود. و ثنّى اليد مبالغة في الردّ و نفي البخل عنه، و إثباتا لغاية الجود، فإنّ غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه، و تنبيها على منح الدنيا

ص: 292


1- الإسراء: 29.
2- أي: أمطر السحاب أرض الحمى بمطر كثير فأنبتت و أزهرت، فشكرته الأراضي المرتفعة و المنخفضة. فشبّه السحاب بإنسان كريم على سبيل المكنية، و إثبات اليدين و بسطها تخييل. و الوابل: المطر الشديد. و الندى: الجود و الفضل و الخير. و التلعة: الأرض المرتفعة، و جمعه: تلاع. و الوهدة: الأرض المنخفضة، و جمعه وهاد و لم نعلم قائل الشعر.
3- آل عمران: 181.

و الآخرة، و على ما يعطى للاستدراج و ما يعطى للإكرام.

يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد لذلك، أي: هو مختار في إنفاقه، يوسّع تارة و يضيّق أخرى على حسب حكمته و وفق مصلحته. و لا يجوز جعله حالا من الهاء، للفصل بينهما بالخبر، و لأنّها مضاف إليها، و لا من اليدين، إذ لا ضمير لهما فيه، و لا من ضميرهما لذلك.

و الآية نزلت في فنحاص بن عازوراء، فإنّه قال ذلك لمّا كفّ اللّه تعالى عن اليهود ما بسط عليهم من السعة، بشؤم تكذيبهم محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أشرك فيه الآخرون، لأنّهم رضوا بقوله.

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً أي: هم طاغون كافرون، و يزدادون طغيانا و كفرا بما يسمعون من القرآن، تماديا في الجحود، و حسدا و كفرا بآيات اللّه تعالى، فيضمّون كفرا إلى كفرهم، كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحّاء.

وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا تتوافق قلوبهم، و لا تتطابق أقوالهم، يعني: كلماتهم مختلفة و قلوبهم شتّى، فلا تقع بينهم موافقة. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ هذا صلة «أوقدوا»، أو صفة «نارا» أَطْفَأَهَا اللَّهُ يعني: كلّما أرادوا محاربة الرسول و أثاروا شرّا عليه ردّهم اللّه، بأن أوقع بينهم منازعة كفّ بها عنه شرّهم.

و في هذا دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ اليهود كانوا في أشدّ باس و أمنع دار، حتّى إنّ قريشا كانت تعتضد بهم، و كان الأوس و الخزرج تتكثّر بمظاهرتهم، فذلّوا و قهروا، و قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني قريظة، و أجلى بني النضير، و غلب على خيبر و فدك، فاستأصل اللّه شأفتهم، حتّى إنّ اليوم تجد اليهود في كلّ بلدة أذلّ الناس.

ص: 293

أو المعنى: كلّما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإنّهم لمّا خالفوا حكم التوراة سلّط اللّه عليهم بختنصّر، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم فطرس الرومي، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المجوس، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.

وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: للفساد. و هو اجتهادهم في محو ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كتبهم، و تكذيب رسالته، و مخالفة أمره و نهيه، و كيدهم في إثارة الفتن و تهييج الحرب و هتك المحارم وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم إلّا شرّا.

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما جاء به وَ اتَّقَوْا ما عددنا من معاصيهم و نحوه لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الّتي فعلوها، و لم نؤاخذهم بها وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ و لجعلناهم من الداخلين فيها.

و فيه تنبيه على عظم معاصيهم، و كثرة ذنوبهم، و أنّ الإسلام يجبّ ما قبله و إن جلّ، و أنّ الكتابي لا يدخل الجنّة ما لم يسلم.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ أي: أقاموا أحكام التوراة و الإنجيل، و أذاعوا كلّ ما فيهما من حدودهما، و ما فيهما من نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني: سائر الكتب

المنزلة، لأنّهم كلّفوا الإيمان بجميعها، فإنّها من حيث إنّهم مكلّفون بالإيمان بها كالمنزّل إليهم. و قيل: هو القرآن. و هو المأثور عن ابن عبّاس، و اختاره الجبائي.

لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي: لوسّع اللّه عليهم أرزاقهم، بأن يفيض عليهم بركات من السماء و الأرض، أو يكثر ثمرة الأشجار، و غلّة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنونها من رأس الشجر، و يلتقطون ما تساقط على الأرض. فبيّن اللّه تعالى بذلك أنّ ما كفّ عنهم بشؤم كفرهم و معاصيهم لا لقصور الفيض، و لو أنّهم آمنوا و أقاموا ما أمروا به لوسّع عليهم، و جعل لهم خير الدارين.

ص: 294

و نظير ذلك قوله: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (1). وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (2). فجعل اللّه تعالى التقوى من أسباب التوسعة في الرزق.

مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ مسلمة عادلة، آمنت بالنبيّ و بما جاء به، غير غالية و لا مقصّرة. و قيل: مقتصدة في عداوته. و الأوّل قول مجاهد و السدّي و ابن زيد، و مأثور عن أهل البيت عليهم السّلام. وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي: بئس ما يعملونه.

و فيه معنى التعجّب، أي: ما أسوأ عملهم. و هو المعاندة، و تحريف الحقّ، و الإعراض عنه، و الإفراط في العداوة.

[سورة المائدة [5]: آية 67]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [67]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتبليغ، و وعده العصمة و النصرة، ليأمن من مكر المكرة من أهل

الكفر و النفاق، فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ هذا نداء تشريف و تعظيم بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا و لا خائف مكروها، أي: ممّا أمرت بتبليغه من مصالح العباد، لا جميع ما أنزل كائنا ما كان، فإنّ من الأسرار الإلهيّة ما يحرم إفشاؤه.

وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ و إن لم تبلّغ جميع ما أمرت بتبليغه فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فما أدّيت شيئا منها، لأنّ كتمان بعضها يضيّع ما أدّى منها، كترك أركان الصلاة، فإنّ غرض الدعوة ينتقض به. أو: فكأنّك ما بلّغت شيئا منها، كقوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ

ص: 295


1- الجن: 16.
2- الطلاق: 2- 3.

جَمِيعاً (1) من حيث إنّ كتمان البعض و الكلّ سواء في الشناعة و استجلاب العقاب.

و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر عن عاصم: رسالاته.

وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ عدة و ضمان من اللّه بعصمته من تعرّض الأعادي، و إزاحة لمعاذيره. و المعنى: و اللّه يضمن لك العصمة من أن ينالوك بسوء، فما عذرك في مراقبتهم؟

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يريد أن لا يمكّنهم ممّا يريدون بك من مكروه. الآية نزلت بعد وقعة أحد و حنين.

و روى العيّاشي في تفسيره بإسناده عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه قالا: «إنّ اللّه تعالى أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ينصب عليّا عليه السّلام علما للناس ليخبرهم بولايته. فتخوّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقولوا حامى ابن عمّه، و أن يطعنوا في ذلك عليه، و أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فنزلت

هذه الآية. فأخذ بيده يوم الغدير و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه» (2).

و على هذا، من قرأ: «فما بلغت رسالاته» معناه: إن لم تبلّغ هذه الرسالة فما بلّغت إذن ما كلّفت به من الرسالات، و كنت كأنّك لم تؤدّ منها شيئا قطّ، لأنّك إذا لم تؤدّها فكأنّك أغفلت أداءها جميعا.

و هذا الخبر بعينه قد حدّث به السيّد أبو الحمد، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني، بإسناده عن ابن أبي عمير إلى آخره، في كتاب شواهد التنزيل (3) لقواعد التفضيل.

ص: 296


1- المائدة: 32.
2- تفسير العيّاشي 1: 331 ح 152.
3- شواهد التنزيل 1: 255 ح 249.

و فيه أيضا بالإسناد المرفوع إلى حيّان بن علي العنزي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: «نزلت هذه الآية في عليّ عليه السّلام، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده فقال:

من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه» (1).

و قد أورد هذا الخبر أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره، بإسناده مرفوعا إلى ابن عبّاس قال: «نزلت هذه الآية في عليّ عليه السّلام، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يبلّغ فيه، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عليّ فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه».

و قد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، أنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يستخلف عليّا، فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل اللّه هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه.

و المعنى: إن تركت تبليغ ما أنزل إليك و كتمته، كنت كأنّك لم تبلّغ من رسالات ربّك في استحقاق العقوبة.

و عن أنس: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحرس حتّى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبّة أدم فقال لحرّاس من أصحابه- منهم سعد و حذيفة-: الحقوا بملاحقكم، فإنّ اللّه تعالى عصمني من الناس.

[سورة المائدة [5]: الآيات 68 الى 71]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [68] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ

ص: 297


1- شواهد التنزيل 1: 251 ح 245.

وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [69] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ [70] وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ [71] عن ابن عبّاس: جاء جماعة من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا له: أ لست تقرّ بأنّ التوراة من عند اللّه؟ قال: بلى. قالوا: فإنّا نؤمن بها، و لا نؤمن بما عداها، فنزلت: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ

أي: على دين يعتدّ به، و يصحّ أن يسمّى شيئا، لأنّه باطل، كما تقول: هذا ليس بشي ء، تريد تحقيره و تصغير شأنه حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ بالتصديق بما فيهما من البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم، و العمل بما فيهما وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من سائر الكتب الإلهيّة و من القرآن، و من جملة إقامتها الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإذعان لحكمه، فإنّ الكتب الإلهيّة بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدّقه المعجزة، ناطقة بوجوب الطاعة له. و المراد إقامة أصولها، و ما لم ينسخ من فروعها.

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فلا تتأسّف و لا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم و كفرهم بما تبلّغه إليهم، فإنّ ضرر ذلك يرجع إليهم، لا يتخطّاهم، و في المؤمنين مندوحة و غناء لك عنهم. و فيه تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي: فلا تحزن، فإنّ تكذيب الأنبياء عادتهم و دأبهم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا ظاهرا، يعني: المنافقين وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ

ص: 298

وَ النَّصارى سبق تفسيره في سورة البقرة (1). و قال سيبويه و الخليل و جميع البصريّين: إنّ قوله: «و الصابئون» محمول على التأخير، و مرفوع بالابتداء، و خبره محذوف، و النيّة به التأخير عمّا في حيّز «إن»، من اسم «إنّ» و خبرها. و التقدير: إنّ الّذين آمنوا و الّذين هادوا و النصارى حكمهم كذا، و الصابئون كذلك، كقوله: فإنّي و قيّار بها لغريب (2)، أي: و إنّي لغريب و قيّار بها لغريب.

و هو كاعتراض دلّ به على أنّه لمّا كان الصابئون الّذين صبأوا- أي: خرجوا عن الأديان كلّها- مع ظهور ضلالهم، و ميلهم عن جميع الأديان، يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان و العمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك.

و «النصارى» يجوز عطفه أن يكون معطوفا على

«الصابئون»، و «من آمن» خبر هما، و خبر «إنّ» مقدّر دلّ عليه ما بعده، كقوله:

نحن بما عندنا و أنت بماعندك راض و الرأي مختلف

و لا يجوز عطفه على محلّ «إنّ» و اسمها، فإنّه مشروط بالفراغ من الخبر، و لهذا لا يقال: إنّ زيدا و عمرو منطلقان، إذ لو عطفت عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ و خبر إنّ معا، فيجتمع عليه عاملان. و لا على الضمير في «هادوا»، لعدم التأكيد، و الفصل، و لأنّه يوجب كون الصابئين هودا. و قيل: «إنّ» بمعنى «نعم»، و ما بعدها في موضع الرفع بالابتداء.

مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا ظاهرا و باطنا وَ عَمِلَ صالِحاً المعطوف و المعطوف عليه في محلّ الرفع بالابتداء، و خبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و الجملة خبر «إنّ»، و الفاء لتضمّن المبتدأ معنى الشرط. أو خبر المبتدأ كما مرّ، و الراجع محذوف، أي: من آمن منهم. أو في محلّ النصب على أنّه بدل من

ص: 299


1- راجع ج 1 ص 160.
2- لضابئ بن الحرث البرجمي، و صدره: فمن يك أمسى بالمدينة رحله.

زبدة التفاسير ج 2 349

اسم «إنّ» و ما عطف عليه.

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ بالتوحيد و البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليذكّروهم، و ليبيّنوا لهم أمر دينهم من الأوامر و النواهي كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالف هواهم، و لا يوافق مرادهم من الشرائع و مشاقّ التكاليف فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ جواب الشرط. و الجملة صفة «رسلا»، و الراجع محذوف، أي: رسول منهم. و قيل: الجواب محذوف دلّ عليه قوله: «فريقا»

إلى آخره. و هو استئناف، كأنّه جواب سائل يسأل عنهم كيف فعلوا برسلهم؟

و إنّما جي ء ب «يقتلون» موضع «قتلوا» على حكاية الحال الماضية، استحضارا لتلك الحال الشنيعة ليتعجّب بها، و استفظاعا للقتل، و تنبيها على أنّ ذلك عادتهم ماضيا و مستقبلا، و محافظة على رؤوس الآي.

وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: و حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء و عذاب بسبب قتلهم الأنبياء و تكذيبهم. و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي و يعقوب: «لا تكون» بالرفع، على أنّ «أن» هي المخفّفة من الثقيلة، و أصله:

أنّه لا تكون. و إدخال فعل الحسبان عليها- و هي لتحقيق- تنزيل له منزلة العلم، لتمكّنه في قلوبهم، و «أن» أو «أنّ» بما في حيّزها سادّ مسدّ مفعوليه.

فَعَمُوا عن الدين، أو عن الدليل و الهدى وَ صَمُّوا عن استماع الحقّ، كما فعلوا حين عبدوا العجل ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: ثمّ تابوا فتاب اللّه عليهم ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كرّة أخرى بطلبهم المحال غير المعقول في صفات اللّه تعالى، و هو الرؤية كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير أو فاعل، و الواو علامة الجمع، كقولهم:

أكلوني البراغيث. أو خبر مبتدأ محذوف، أي: العمي و الصمّ كثير منهم. قيل: أراد

ص: 300

بكثير منهم من كان في عصر نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على وفق أعمالهم.

[سورة المائدة [5]: الآيات 72 الى 74]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ

ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [73] أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [74]

ثمّ احتجّ سبحانه على النصارى فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هذا مذهب اليعقوبيّة منهم، لأنّهم قالوا: إنّه تعالى اتّحد بالمسيح اتّحاد الذات، فصارا شيئا واحدا، فصار الناسوت لاهوتا، و ذلك قولهم: إنّ المسيح هو الإله.

وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ أي: إنّي عبد مربوب مخلوق مثلكم، فاعبدوا خالقي و خالقكم إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادته، أو فيما يختصّ به من الصفات و الأفعال فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ يمنع من دخولها، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه، فإنّها دار الموحّدين وَ مَأْواهُ النَّارُ فإنّها المعدّة للمشركين وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: و ما

ص: 301

لهم أحد ينصرهم من النار، و يخلّصهم من عذابها. فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أنّهم ظلموا بالإشراك، و عدلوا عن طريق الحقّ. و هو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى، و أن يكون من كلام اللّه تعالى، تنبيها على أنّهم قالوا ذلك تعظيما لعيسى و تقرّبا إليه، و هو معاديهم بذلك و مخاصمهم فيه، فما ظنّك بغيره؟! ثمّ أقسم سبحانه قسما آخر بقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي: أحد ثلاثة. و هو حكاية عمّا قاله النسطوريّة و الملكانيّة منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة، أي: الأصول الثلاثة: ابن، و أب، و روح القدس وَ ما مِنْ إِلهٍ و ما في الوجود ذات واجب مستحقّ للعبادة من حيث إنّه مبدأ

جميع الموجودات إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ موصوف بالوحدانيّة، متعال عن الشرك. و «من» مزيدة للاستغراق.

وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ و لم يوحّدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ليمسّنّ الّذين بقوا منهم على الكفر، فتكون «من» للتبعيض. أو ليمسّنّ الّذين كفروا من النصارى، فتكون بيانيّة. و وضعه موضع: ليمسّنّهم، تكريرا للشهادة على كفرهم، و تنبيها على أنّ العذاب على من دام على الكفر و لم ينقلع عنه، و لذلك عقّبه بقوله: أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ أي: أ فلا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد الباطلة و الأقوال الزائغة، و يستغفرونه بالتوحيد و التنزيه عن الاتّحاد و الحلول، بعد هذا التقرير و التهديد الشديد؟ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر الذنوب و يسترها رحمة منه لعباده. و في هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.

و الفرق بين التوبة و الاستغفار: أنّ الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء أو التوبة أو غيرهما من الطاعات، و التوبة الندم على المعصية مع العزم على أن لا يعود إلى مثلها في القبح.

ص: 302

[سورة المائدة [5]: الآيات 75 الى 77]

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [75] قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [76] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [77]

و لمّا قدّم سبحانه ذكر مقالات النصارى، عقّبه بالردّ عليهم و الحجاج لهم، فقال: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ

قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي: ما هو إلّا رسول كالرسل قبله، خصّه اللّه تعالى بالآيات كما خصّهم بها، فإنّ إحياء الموتى على يده، فقد أحيا العصا، و جعلها حيّة تسعى على يد موسى، و هو أعجب. و إن خلقه من غير أب، فقد خلق آدم عليه السّلام من غير أب و أمّ، و هو أغرب.

وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ صدّقت بكلمات ربّها و كتبه، و ما هي إلّا كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق، أو يصدّقن الأنبياء كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ أي: يفتقران إلى الغذاء و ما يتبعه من الهضم و النقص افتقار الحيوانات، فلم يكونا إلّا جسما مؤلّفا محدثا. و قيل: إنّه كناية عن قضاء الحاجة، فكأنّه ذكر الأكل و قصد بذلك عاقبته.

فبيّن اللّه سبحانه أوّلا أقصى ما لهما من الكمال، و دلّ على أنّه لا يوجب لهما ألوهيّة، لأنّ كثيرا من الناس يشاركهما في مثله. ثمّ نبّه على نقصهما، و ذكر ما ينافي الربوبيّة، و ما يقتضي أن يكونا من عداد المركّبات الكائنة الفاسدة.

ص: 303

ثمّ عجب ممّن يدّعي الربوبيّة لهما مع أمثال هذه الأدلّة الظاهرة، فقال:

انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الأعلام، من الأدلّة الظاهرة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحقّ و تأمّله. و «ثمّ» لتفاوت ما بين العجبين، أي: بياننا للآيات عجب، و إعراضهم عنها أعجب.

قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً المعنيّ بقوله: «ما لا يَمْلِكُ» عيسى عليه السّلام. و هو و إن ملك ذلك بتمليك اللّه إيّاه، لا يملكه من ذاته، و لا يملك مثل ما يضرّ اللّه به من البلايا و المصائب، و ما ينفع به من الصحّة و السعة.

و إنّما قال:

«ما» نظرا إلى ما هو عليه في ذاته، توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، و تنبيها على أنّه من هذا الجنس، و من كان هذا حقيقته فبمعزل عن الألوهيّة. و إنّما قدّم الضرّ، لأنّ التحرّز عنه أهمّ من تحرّي النفع.

وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال و العقائد، فيجازي عليها إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ صفة للمصدر، أي: غلوّا باطلا، بأن تتجاوزوا الحدّ الّذي حدّه اللّه لكم إلى الازدياد. و ضدّه التقصير، أي:

الخروج عن الحدّ إلى النقصان. فترفعوا عيسى إلى أن تدّعوا له الإلهيّة، أو تضعوه فتزعموا أنّه لغير رشدة، بل اتّبعوا الاقتصاد. و قيل: الخطاب للنصارى خاصّة.

وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني: أسلافهم و أئمّتهم الّذين قد ضلّوا قبل مبعث محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شريعتهم وَ أَضَلُّوا كَثِيراً باقتفائهم على بدعهم و ضلالهم، بعد دعائهم و إغوائهم إيّاهم وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لمّا كذّبوه و بغوا عليه. و قيل: الأوّل إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، و الثاني إشارة إلى ضلالهم عمّا جاء به الشرع.

ص: 304

[سورة المائدة [5]: الآيات 78 الى 81]

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ [78] كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [79] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ [80] وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ

وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ [81]

ثمّ أخبر سبحانه عمّا جرى على أسلافهم، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: لعنهم اللّه تعالى في الزبور و الإنجيل على لسان داود و عيسى.

و قيل: هم أهل أيلة لمّا اعتدوا في السبت لعنهم داود عليه السّلام، فقال: اللّهمّ ألبسهم اللعنة مثل الرداء، فمسخهم اللّه قردة. و أصحاب المائدة لمّا كفروا بعد نزول المائدة، دعا عليهم عيسى عليه السّلام و لعنهم، فقال: اللّهمّ عذّب من كفر بعد ما أكل المائدة عذابا لا تعذّبه أحدا من العالمين، و العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، و كانوا خمسة آلاف رجل. و هذا القول منقول عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم و اعتدائهم ما حرّم اللّه عليهم.

ثمّ بيّن حالهم فقال: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي: لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه. أو عن مثل منكر فعلوه. أو عن منكر أرادوا فعله

ص: 305

و تهيّؤا له. أو لا ينتهون عنه، بأن يصرّون عليه و يداومون على فعله، من قولهم:

تناهى عن الأمر و انتهى عنه إذا امتنع. لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تعجيب من سوء فعلهم مؤكّد بالقسم.

و قال ابن عبّاس: كان بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة اعتدوا في السبت، و فرقة نهوهم و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم، و فرقة لمّا رأوهم يعتدون ارتحلوا عنهم، و بقيت الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة، فلعنوا جميعا.

قيل: إنّ المراد بالمنكر هنا صيدهم السمك يوم السبت. و قيل: المراد آخذو الرشا في الأحكام. و قيل: أكلهم الربا

و أثمان الشحوم.

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ من أهل الكتاب يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يوالون المشركين و يصادقونهم، بغضا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين. و قال أبو جعفر عليه السّلام: يتولّون الملوك الجبّارين، و يزيّنون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم.

لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: لبئس شيئا قدّموه ليردوا عليه يوم القيامة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هو المخصوص بالذمّ. و المعنى: لبئس زادهم إلى الآخرة موجب سخط اللّه تعالى و الخلود في العذاب. أو هو علّة الذمّ، و المخصوص محذوف، أي: لبئس شيئا ذلك، لأنّه كسّبهم السخط و الخلود في النار. و المراد بهم كعب بن الأشرف و أصحابه حين استجاشوا (1) المشركين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالوا: هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلا.

وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ ما اتّخذوا المشركين أَوْلِياءَ كما لم يوالهم المسلمون، إذ الإيمان يمنع ذلك وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون في كفرهم أو نفاقهم.

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالنبيّ موسى عليه السّلام، و بما أنزل إليه التوراة. فيكون

ص: 306


1- استجاش القوم، أي: حرّضهم.

المراد بهم اليهود الّذين جاهروا بالعداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التولّي للمشركين. فيكون معنى الموالاة التناصر و المعاونة على محاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معاداته.

[سورة المائدة [5]: الآيات 82 الى 85]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ

قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [82] وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [83] وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [84] فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [85]

ثمّ ذكر سبحانه معاداة اليهود للمسلمين، فقال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لشدّة عداوتهم، و تضاعف كفرهم، و انهماكهم في اتّباع الهوى، و ركونهم إلى التقليد، و بعدهم عن التحقيق، و تمرّنهم على تكذيب الأنبياء، و معاداتهم. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما خلا يهوديّان بمسلم إلّا همّا بقتله».

ثمّ ذكر لين عريكة النصارى، فقال: وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى للين جانبهم، و رقّة قلوبهم، و قلّة حرصهم على الدنيا، و كثرة اهتمامهم بالعلم و العمل. و أشار إليه بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ علماء أحبارا

ص: 307

وَ رُهْباناً و عبّادا و زهّادا وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحقّ إذا فهموه، و يتواضعون و لا يتكبّرون كاليهود. و فيه دليل على أنّ التواضع و الإقبال على العلم و العمل، و الإعراض عن الشهوات، محمود و إن كانت من كافر.

ثمّ بيّن كيفيّة رقّة قلوبهم، و شدّة خشيتهم، و مسارعتهم إلى قبول الحقّ، و عدم تأبّيهم عنه، فقال: عطفا على «لا يستكبرون»: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ يعني: القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الفيض: انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنّها تفيض بأنفسها مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ أي: بمعرفتهم بأنّ المتلوّ عليهم كلام اللّه تعالى. «من» الأولى للابتداء، و الثانية لتبيين ما عرفوا، أو للتبعيض، فإنّه بعض الحقّ.

و المعنى: أنّهم عرفوا بعض الحقّ فأبكاهم، فكيف إذا عرفوا كلّه؟! يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك، أو بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَاكْتُبْنا في أمّ الكتاب، و هو اللوح المحفوظ. أو فاجعلنا بمنزلة من قد كتب مَعَ الشَّاهِدِينَ من الّذين شهدوا بأنّه حقّ، أو بنبوّته، أو من أمّته الّذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة، كما قال اللّه تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ (1). و إنّما قالوا ذلك لأنّهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.

وَ ما لَنا لأيّ عذر لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ و نرجو أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. استفهام إنكار و استبعاد، لانتفاء الايمان مع قيام الداعي، و هو الطمع في الانخراط مع الصلحاء، و الدخول في مداخلهم. أو جواب سائل قال: لم آمنتم. و «لا نؤمن» حال من الضمير، و العامل ما في اللام من معنى الفعل، أي: أيّ شي ء حصل لنا غير مؤمنين باللّه، أي: بوحدانيّته، فإنّهم كانوا مثلّثين، أو بكتابه و رسوله، فإنّ الإيمان بهما إيمان به حقيقة، و ذكره

ص: 308


1- البقرة: 143.

توطئة و تعظيما. و نطمع عطف على «نؤمن»، أو خبر محذوف و الواو للحال، أي:

و نحن نطمع، و العامل فيها عامل الأولى مقيّدا بها، أو «نؤمن».

فَأَثابَهُمُ اللَّهُ جازاهم بِما قالُوا أي: عن اعتقاد، من قولك: هذا قول فلان، أي: معتقده جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ

تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الّذين أحسنوا النظر و العمل. أو الّذين اعتادوا الإحسان في الأمور.

قال المفسّرون (1): إنّ هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي و أصحابه. و بيان هذا: إنّ قريشا ائتمروا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم و يعذّبونهم، فافتتن من افتتن، و عصم اللّه تعالى منهم من شاء، و منع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب.

فلمّا رأى رسول اللّه ما بأصحابه، و لم يقدر على منعهم، و لم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، و قال: إنّ بها ملكا صالحا لا يظلم، و لا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتّى يجعل اللّه للمسلمين فرجا.

و أراد به النجاشي، و اسمه أصحمة، و هو باللغة الحبشيّة عطيّة، و إنّما النجاشي لقب ملك الحبشة، كقولهم: كسرى و تبّع و قيصر، ألقاب ملوك فارس و اليمن و الروم.

فخرج إلى البحر سرّا أحد عشر رجلا و أربع نسوة، و أخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار، و ذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذه هي الهجرة الأولى. ثمّ خرج جعفر بن أبي طالب، و تتابع المسلمون إليها. و كان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين و ثمانين رجلا، سوى النساء و الصبيان.

فلمّا علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص و صاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النجاشي ليردّوهم إلى مكّة. و كان عمارة بن الوليد شابّا حسن الوجه،

ص: 309


1- مجمع البيان 3: 233.

و خرج عمرو بن العاص و أهله معه، فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر، فقال: عمارة لعمرو بن

العاص: قل لأهلك تقبّلني، فأبى. فلمّا انتشى (1) عمرو دفعه عمارة في الماء، و نشب (2) عمرو في صدر السفينة و أخرج من الماء، و ألقى اللّه العداوة بينهما في مسيرهما قبل أن يقدما إلى النجاشي.

ثمّ وردا على النجاشي، فقال عمرو بن العاص: أيّها الملك إنّ قوما خالفونا في ديننا، و سبّوا آلهتنا، و صاروا إليك، فردّهم إلينا.

فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه، فقال: أيّها الملك سلهم أ عبيد نحن لهم؟

فقال: لا، بل أحرار.

قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

قال: لا، مالنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منّا، آذيتمونا فخرجنا من بلادكم؟! أيّها الملك، بعث اللّه فينا نبيّا، أمرنا بخلع الأنداد، و ترك الاستقسام بالأزلام. و أمرنا بالصلاة و الزكاة و العدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى. و نهانا عن الفحشاء و المنكر و البغي.

فقال النجاشي: بهذا بعث اللّه عيسى.

ثمّ قال النجاشي لجعفر: هل تحفظ ممّا أنزل اللّه على نبيّك شيئا؟

قال: نعم. فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (3) قال: هذا و اللّه هو الحقّ.

ص: 310


1- أي: سكر.
2- أي: تعلّق.
3- مريم: 25.

فقال عمرو: إنّه مخالف لنا فردّه إلينا.

فرفع النجاشي يده و ضرب بها وجه عمرو، و قال: اسكت و اللّه لإن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك كذا.

و قال: أرجعوا إلى هذا هديّته. و قال لجعفر و أصحابه: امكثوا فإنّكم سيوم، و السيوم الآمنون، و أمر لهم بما يصلحهم من الرزق. فانصرف عمرو، و أقام المسلمون هناك بخير دار و أحسن جوار، إلى أن هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علا أمره، و هادن قريشا و فتح خيبر. فوافى جعفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجميع من كانوا معه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ، أم بقدوم جعفر».

و وافى جعفر و أصحابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سبعين رجلا، منهم اثنان و ستّون من الحبشة، و ثمانية من أهل الشام، فيهم بحيراء الراهب.

فقرأ عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سورة ياسين إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن و آمنوا، و قالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل اللّه فيهم هذه الآيات.

و قال مقاتل و الكلبي: كانوا أربعين رجلا، اثنان و ثلاثون من الحبشة، و ثمانية من أهل الشام. و قال عطاء: كانوا ثمانين رجلا، أربعون من أهل نجران من بني الحارث بن كعب، و اثنان و ثلاثون من الحبشة، و ثمانية روميّون من أهل الشام.

[سورة المائدة [5]: آية 86]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [86]

و لمّا ذكر سبحانه الوعد لمؤمنيهم، ذكر الوعيد لمن كفر منهم و كذب، فقال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ عطف التكذيب بآيات اللّه على الكفر، و هو ضرب منه، لأنّ القصد إلى بيان حال المكذّبين. و ذكرهم في معرض المصدّقين بها، جمعا بين الترغيب و الترهيب.

ص: 311

[سورة المائدة [5]: الآيات 87 الى 89]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [87] وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [88] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [89]

و لمّا مدح النصارى على ترهّبهم و تزهّدهم و كسر نفسهم و رفض شهواتهم، عقّبه بالنهي عن الإفراط في ذلك، و الاعتداء عن حدّ اللّه تعالى، بجعل الحلال حراما، كما كان الرهبان يفعلونه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي: ما طاب و لذّ منه وَ لا تَعْتَدُوا حدود ما أحلّ لكم إلى ما حرّم عليكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

مقتضى الآية النهي عن تحريم ما أحلّ اللّه و تحليل ما حرّم، ليقصدوا حدّ الاقتصاد بينهما.

قال المفسّرون (1): إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جلس يوما، فذكّر الناس وصف

ص: 312


1- الكشّاف 1: 671، مجمع البيان 3: 235.

القيامة، فرقّ الناس و بكوا، و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، و هم: عليّ عليه السّلام، و أبو بكر، و عبد اللّه بن مسعود، و أبو ذرّ الغفاري، و سالم مولى أبي حذيفة، و عبد اللّه بن عمر، و المقداد بن الأسود، و سلمان الفارسي، و معقل بن مقرن. و اتّفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللحم و لا الودك (1)، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يلبسوا المسوح (2)، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، و همّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره.

فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأتى دار عثمان فلم يصادفه، فقال لامرأته أمّ حكيم بنت أبي أميّة- و اسمها حولاء، و كانت عطّارة-: أحقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟

فكرهت أن تكذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كرهت أن تبدي على زوجها، فقالت:

يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك. فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو و أصحابه. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألم أنبئكم أنّكم اتّفقتم على كذا و كذا؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه، و ما أردنا إلّا الخير.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لم أومر بذلك. ثمّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقّا، فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا، فإنّي أقوم و أنام، و أصوم و أفطر، و آكل اللحم و الدسم، و آتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي، فنزلت.

ثمّ جمع الناس و خطبهم، و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين و رهبانا، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم و النساء، و لا اتّخاذ الصوامع، و إنّ سياحة أمّتي الصوم،.

ص: 313


1- الودك: الدسم من اللحم و الشحم.
2- المسح: ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشّفا و تزهّدا، و جمعه مسوح.

و رهبانيّتهم الجهاد. اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا، و حجّوا و اعتمروا، و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع. فأنزل اللّه الآية.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «نزلت في عليّ عليه السّلام و بلال و عثمان بن مظعون. فأمّا عليّ عليه السّلام فإنّه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلّا ما شاء اللّه. و أمّا بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدا. و أمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا.

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية في شأنهم.

ثمّ قال: وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لفظه الأمر و المراد به الإباحة. و «من» ابتدائيّة متعلّقة ب «كلوا». و يجوز أن تكون مفعولا. حَلالًا طَيِّباً أي: مباحا لذيذا.

فإن قيل: إذا كان الرزق كلّه حلالا فلم قيّد هاهنا بقوله: «حلالا»؟

أجيب بأنّه حال مؤكّدة من الموصول، فذكر هاهنا على وجه التأكيد. و يجوز أن يكون مصدرا بغير لفظ فعله، من قبيل قولك: قعدت جلوسا حسنا، فكأنّه قال:

ممّا حلّل اللّه

لكم حلالا طيّبا. فلا يرد قول البيضاوي (1) في تفسيره: «لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ هذا استدعاء إلى التقوى بألطف الوجوه، و تقديره: أيّها المؤمنون باللّه لا تضيّعوا إيمانكم بالتقصير في التقوى، فتكون عليكم الحسرة العظمى، و اتّقوا في تحريم ما أحلّه اللّه لكم، و في جميع معاصيه.

و في هاتين الآيتين دلالة على كراهية التخلّي و التفرّد و التوحّش، و الخروج عمّا عليه الجمهور من التأهّل و طلب الولد و عمارة الأرض. و قد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأكل الدجاج و الفالوذج، و كان يعجبه الحلواء و العسل. و قال: «إنّ المؤمن حلو.

ص: 314


1- تفسير البيضاوي 2: 166.

يحبّ الحلاوة». و قال: «في بإن المؤمن زاوية لا يملؤها إلّا الحلواء».

و روي أنّ الحسن كان يأكل الفالوذج، فدخل عليه فرقد السنجي فقال: «يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد: لا آكله و لا أحبّ أكله. فأقبل الحسن على غيره كالمتعجّب و قال: لعاب النحل بلباب البرّ مع سمن البقر هل يعيبه مسلم؟».

قيل: لمّا نزلت: «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» قالوا: يا رسول اللّه فكيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ

و قيل: نزلت في عبد اللّه بن رواحة، كان عنده ضيف فأخّرت زوجته عشاءه، فحلف لا يأكل من الطعام، و حلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل، و حلف الضّيف لا يأكل إن لم يأكلا. فأكل عبد اللّه بن رواحة و أكلا معه، فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، فقال له: أحسنت.

و اللغو في اليمين هو ما

يسبق إلى اللسان من غير قصد، مثل قول القائل: لا و اللّه و بلى و اللّه لأفعلنّ كذا، ممّا يؤكّد به كلامه من غير قصد إلى القسم، حتّى لو قيل له: إنّك حلفت؟ قال: لا. و هو المرويّ عن الصادق و الباقر عليهما السّلام.

و به قال الشافعي.

و عند أبي حنيفة: هو أن يحلف على شي ء لظنّه أنّه على ما حلف، و لم يكن.

و «في أيمانكم» صلة «يؤاخذكم» أو اللغو، لأنّه مصدر أو حال من اللغو.

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وثّقتم الأيمان عليه بالقصد و النيّة.

و المعنى: و لكن يؤاخذكم بما عقّدتم إذا حنثتم، أو بنكث ما عقدّتم، فحذف للعلم به عرفا، و لإجماع الأمّة على أنّ الكفّارة لا تجب إلّا بعد الحنث.

و قرأ الكسائي و ابن عيّاش عن عاصم: عقّدتم بالتخفيف، و ابن عامر برواية ابن ذكوان: عاقدتم. و هو من: فاعل بمعنى: فعل. و يحتمل أن تكون ما مصدريّة، و معناه: و لكن يؤاخذكم بعقدكم، أو بتعقيدكم، أو بمعاقدتكم الأيمان.

فَكَفَّارَتُهُ أي: كفّارة ما عقّدتم إذا حنثتم. أو فكفّارة نكثه، أي: الفعلة الّتي

ص: 315

تذهب إثمه و تستره إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ

اختلف في مقدار ما يعطى كلّ مسكين، فقال الشافعي: مدّ من طعام. و قال أبو حنيفة: نصف صاع من حنطة، أو صاع من شعير أو تمر، و كذلك سائر الكفّارات. و قال أصحابنا: يعطى كلّ واحد مدّين أو مدّا على أصحّ الروايتين. و المدّ رطلان و ربع. و يجوز أن يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوه. و لا يجوز أن يعطى خمسة ما يكفي عشرة. فإن كان المساكين ذكورا أو إناثا جاز ذلك، و لكن وقع بلفظ التذكير، لأنّه يغلّب

في كلام العرب.

مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ من أقصده في النوع أو القدر، فإنّ من الناس من يسرف في إطعام أهله، و منهم من يقتر. و أفضله الخبز و اللحم، و أدونه الخبز و الملح.

و محلّ «مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ» النصب، لأنّه صفة مفعول محذوف، تقديره:

أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون. أو الرفع على البدل من «إطعام». و أهلون كأرضون.

أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على «إطعام»، أو «من أوسط» إن جعل بدلا. قيل:

لكلّ واحد منهم ثوب. و هو مذهب الشافعي. و قال أبو حنيفة: ما يقع عليه اسم الكسوة. و الّذي رواه أصحابنا أنّ لكلّ واحد ثوبين: مئزرا و قميصا، و عند الضرورة يجزي قميص واحد.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أو إعتاق إنسان، عبد أو أمة. و الرقبة يعبّر بها عن جملة الشخص. و هو كلّ رقبة سليمة من الآفات و العاهات، صغيرة كانت أو كبيرة، مؤمنة كانت أو كافرة، لأنّ اللفظة مطلقة مبهمة، إلّا أنّ المؤمن أفضل عند أبي حنيفة. و أمّا عند أصحابنا الإيمان شرط فيها، للرواية الصحيحة عن أئمّتنا عليهم السّلام. و هذه الثلاثة واجبة على التخيير. و قيل: إنّ الواجب منها واحد لا بعينه. و بيان هذا الاختلاف

ص: 316

مذكور في أصول الفقه.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا منها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فكفّارته صيام ثلاثة أيّام.

و حدّ من ليس بواجد: من ليس عنده ما يفضل عن قوته و قوت عياله يومه و ليله.

و يجب التتابع في صوم هذه الثلاثة، للرواية. و عليه أبو حنيفة. و قيل: لا يجب، نظرا إلى ظاهر الآية. و هو قول الشافعي. و الأوّل اختيار أصحابنا، و إجماعهم عليه.

ذلِكَ أي: المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي: حلفتم

و حنثتم وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ بأن تضنّوا بها و لا تبذلوها لكلّ أمر. أو بأن تكفّروها إذا حنثتم. أو احفظوها عن الحنث. كَذلِكَ مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شرائعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على تبيينه لكم أموركم، و على نعمه عليكم.

[سورة المائدة [5]: الآيات 90 الى 93]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [90] إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [91] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [92] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [93]

و بعد النهي عن تحريم المحلّلات الطيّبة، نهى عن الإقدام على المحرّمات

ص: 317

الخبيثة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ قال ابن عبّاس: يريد بالخمر جميع الأشربة الّتي تسكر، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخمر من تسع: من البتع، و هو العسل، و من العنب، و من الزبيب، و من التمر، و من الحنطة، و من الذرة، و الشعير، و السلت».

وَ الْمَيْسِرُ المراد جميع أنواع القمار، و منها اللعب بالنرد، و الشطرنج، و لعب الصبيان بالجوز و البيض. وَ الْأَنْصابُ أي: الأصنام الّتي نصبت للعبادة.

وَ الْأَزْلامُ أقداح القمار. و قد سبق (1) تفسيرها في أوائل السورة.

رِجْسٌ خبيث قذر تعاف عنه العقول. و إفراده لأنّه خبر للخمر، و خبر المعطوفات محذوف. أو لمضاف محذوف، كأنّه قال: إنّما تعاطي الخمر و الميسر.

مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنّه مسبّب عن تسويله و تزيينه فَاجْتَنِبُوهُ الضمير لعمل الشيطان، أو للرجس، أو لما ذكر، أو للتعاطي لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا بالاجتناب عنه.

و اعلم أنّ اللّه تعالى أكّد تحريم الخمر و الميسر في هذه الآية، بأن صدّر الجملة ب «إنّما». و قرنهما بالأنصاب و الأزلام. و لهذا

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «شارب الخمر كعابد الوثن».

و سمّاهما رجسا. و جعلهما من عمل الشيطان، تنبيها على أنّ الاشتغال بهما شرّ بحت. و أمر بالاجتناب عن عينهما. و جعله سببا يرجى منه الفلاح.

ثمّ قرّر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيويّة و الدينيّة المقتضية للتحريم، فقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ إنّما خصّهما بإعادة الذكر، و شرح ما فيهما من الوبال، تنبيها على أنّهما المقصود بالبيان، و ذكر الأنصاب و الأزلام للدلالة على أنّهما مثلهما في الحرمة و الشرارة. و خصّ الصلاة من الذكر للتعظيم،

ص: 318


1- راجع ص: 215.

و الإشعار بأنّ الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان، من حيث إنّها عماده، و الفارق بينه و بين الكفر.

ثمّ أعاد الحثّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام، مرتّبا على ما تقدّم من أنواع الصوارف، فقال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إيذانا بأنّ الأمر في المنع و التحذير بلغ الغاية، و أنّ الأعذار قد انقطعت، أي: فهل أنتم مع ما تلي عليكم من هذه الصوارف منتهون؟ صيغته الاستفهام، و معناه النهي البليغ، لأنّ اللّه تعالى ذمّ هذه الأفعال و أظهر قبحها، و إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب ثمّ استفهم عن تركه لم

يسعه إلّا الإقرار بالترك، فكأنّه قيل له: أ تفعله بعد ما قد ظهر من قبحه فصار المنتهي بقوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» في محلّ من عقد عليه ذلك بإقراره، فكان هذا أبلغ في باب النهي من أن يقال: انتهوا و لا تفعلوا.

قال ابن عبّاس: إنّ هاتين الآيتين نزلتا حين دعا سعد بن أبي وقّاص رجلا من الأنصار كان مواخيا له إلى طعام، فبعد الأكل و شرب النبيذ سكرا، فوقع بين الأنصاري و سعد مراء و مفاخرة، فأخذ الأنصاري لحي (1) جمل فضرب به سعدا، ففزر (2) أنفه.

و لمّا أمر اللّه سبحانه باجتناب الخمر و ما بعدها، عقّبه بالأمر بالطاعة له فيه و في غيره، فقال: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمرا به وَ احْذَرُوا عمّا نهيا عنه، أو عن مخالفتهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و لم تعملوا بما أمركم فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فاعلموا أنّكم لم تضرّوا الرسول بتولّيكم، فإنّما عليه البلاغ و قد أدّى، و إنّما ضررتم به أنفسكم. فهذا وعيد و تهديد.

روي عن ابن عبّاس و أنس بن مالك و البراء بن عازب و مجاهد و قتادة.

ص: 319


1- اللحي: عظم الحنك الذي عليه الأسنان، و جمعه ألح و لحيّ.
2- فزر يفزره، أي: شقّه و كسره.

و الضحّاك: أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول اللّه فكيف بإخواننا الّذين ماتوا و هم يشربون الخمر و يأكلون مال الميسر؟ فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا

من الخمر و الميسر قبل نزول آية التحريم. أو من أيّ شي ء طعموه من مستلذّات المطاعم و مشتهياتها. و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: فيما طعموا من الحلال. و هذه اللفظة صالحة للأكل و الشرب.

إِذا مَا اتَّقَوْا شربها بعد التحريم، أو ما حرّم عليهم من المطاعم. وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة ثُمَّ اتَّقَوْا أي: داموا على الاتّقاء وَ آمَنُوا و داموا على الإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا عن جميع المعاصي وَ أَحْسَنُوا و تحرّوا الأعمال الجميلة و اشتغلوا بها. فالاتّقاء الأوّل اتّقاء الشرب بعد التحريم، و الاتّقاء الثاني هو الدوام على ذلك، و الثالث اتّقاء جميع المعاصي و ضمّ الإحسان إليه.

و قيل: الاتّقاء الأوّل هو اتّقاء المعاصي العقليّة الّتي تختصّ المكلّف به و لا تتعدّاه. و الإيمان الأوّل الإيمان باللّه و بما أوجب الإيمان به، و الإيمان بقبح هذه المعاصي و وجوب تجنّبها. و الاتّقاء الثاني هو اتّقاء المعاصي السمعيّة، و الإيمان بقبحها و وجوب اجتنابها. و الاتّقاء الثالث يختصّ بمظالم العباد، و بما يتعدّى إلى الغير من الظلم و الفساد. أو الأوّل الماضي، و الثاني الحال، و الثالث المستقبل.

و في الأنوار: «و يحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة. أو باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى، و الإيمان بينه و بين نفسه، و بينه و بين الناس، و بينه و بين اللّه تعالى، و لذلك بدّل الإيمان بالإحسان في الكرّة الثالثة، إشارة إلى ما

قاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسيره: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه».

أو باعتبار المراتب الثلاث: المبدأ، و الوسط، و المنتهى. أو باعتبار ما يتّقى، فإنّه ينبغي أن تترك المحرّمات توقّيا من العقاب و الشبهات، و تحفّظا للنفس عن الوقوع في الحرام

ص: 320

و بعض المباحات، و صونا للنفس عن الخسّة، و تهذيبا لها عن دنس الطبيعة» (1).

وَ

اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فلا يؤاخذهم بشي ء. و فيه أنّ من فعل ذلك صار محسنا، و من صار محسنا صار للّه محبوبا.

قال علم الهدى (2) رحمه اللّه: «إنّ المفسّرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الّذي تضمّنته الآية، و ظنّوا أنّه المشكل منها، و تركوا ما هو أشدّ إشكالا من التكرار، و هو أنّه تعالى نفى الجناح عن الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتّقاء و الإيمان و عمل الصالحات، و الحال أنّهما ليسا بشرط في نفي الجناح، فإنّ المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه و لا وزر.

و لنا في حلّ هذه الشبهة: أنّ الإيمان و عمل الصالحات هنا ليس بشرط حقيقيّ، و إن كان معطوفا على الشرط، فكأنّه تعالى لمّا أراد أن يبيّن وجوب الإيمان و عمل الصالحات عطفه على ما هو واجب من اتّقاء المحارم، لاشتراكهما في الوجوب، و إن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيمن يطعم. و هذا توسّع في البلاغة يحار العقل فيه استحسانا و استغرابا.

أو نضمّ إلى المشروط المصرّح به غيره حتى يظهر تأثير ما شرط. فيكون تقدير الآية: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتّقوا و آمنوا و عملوا الصالحات، لأنّ الشرط في نفي الجناح لا بدّ من أن يكون له تأثير حتّى يكون متى انتفى ثبت الجناح، و قد علمنا أنّه باتّقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم، فهو الشرط الّذي لا زيادة عليه. و لمّا ولي ذكر الاتّقاء الإيمان و عمل الصالحات و لا تأثير لهما في نفي الجناح، علمنا أنّه أضمر ما تقدّم ذكره ليصحّ الشرط و يطابق المشروط، لأنّ من اتّقى الحرام فيما

يطعم لا جناح عليه فيما يطعمه، لكنّه قد يصحّ أن يثبت عليه الجناح فيما أخلّ به من واجب وضيّعه من

ص: 321


1- أنوار التنزيل 2: 168.
2- أمالي المرتضى (طبعة دار الكتاب العربي) 2: 374- 375.

فرض، فإذا شرطنا أنّه وقع اتّقاء القبيح ممّن آمن باللّه و عمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كلّ وجه. و ليس بمنكر حذف ما ذكرناه، لدلالة الكلام عليه، فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى، و تكون قوّة الدلالة عليه مغنية عن النطق». انتهى كلامه.

و نحن نقول: إنّ المؤمن يصحّ أن يطلق عليه بأنّه لا جناح عليه، و الكافر مستحقّ للعقاب مغمور في المعاصي، فلا يطلق عليه هذا اللفظ. و أيضا فإنّ الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل، فلذلك يخصّ المؤمن بالذكر.

[سورة المائدة [5]: الآيات 94 الى 96]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ [94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ [95] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [96]

و لمّا تقدّم في أوّل السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا، و انجرّ الكلام

ص: 322

إلى هاهنا، بيّن سبحانه ذلك المجمل

بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ التقليل و التحقير في «بشي ء» للتنبيه على أنّه ليس من العظائم الّتي تدحض الأقدام، كالابتلاء ببذل الأنفس و الأموال، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشدّ منه؟

روي أنّها نزلت في عام الحديبية، ابتلاهم اللّه تعالى بالصيد، و كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، بحيث يتمكّنون من صيدها، أخذا بأيديهم و طعنا برماحهم و هم محرمون.

لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي: ليتميّز الخائف من عقابه و هو غائب منتظر، لقوّة إيمانه، ممّن لا يخافه، لضعف قلبه و قلّة إيمانه. فذكر العلم و أراد وقوع المعلوم و ظهوره، أو تعلّق العلم. أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم مظاهرة في العدل.

قال بعض العلماء: امتحن اللّه أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بصيد البرّ، كما امتحن اللّه أمّة موسى عليه السّلام بصيد البحر.

و المراد بتحريم صيد البرّ الّذي تناله الأيدي من فراخ الطير و صغار الوحش و البيض، و الّذي تناله الرماح من كبار الصيد.

فَمَنِ اعْتَدى فمن تجاوز حدّ اللّه و خالف أمره بالصيد في الحرم أو في حال الإحرام بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ذلك الابتلاء بالصيد فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فالوعيد لا حق به، فإنّ من لا يملك قلبه في مثل ذلك، و لا يراعي حكم اللّه تعالى فيه، فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه و أحرص عليه؟! ثمّ ذكر سبحانه عقيب ذلك ما يجب على هذا الاعتداء من الجزاء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ هو اسم مصدر، أو المصيد، و هو المراد هاهنا

ص: 323

وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أي: محرمون بحجّ أو عمرة، جمع حرام، كرداح (1) و ردح. و هو مصدر سمّي به المحرم مجازا.

و اختلف في المعنيّ بالصيد، فقيل: هو كلّ الوحش، أكل أم لم يؤكل. و هو قول أهل العراق. و استدلّوا

بقول عليّ عليه السّلام: صيد الملوك ثعالب و أرانب* فإذا ركبت فصيدي الأبطال

و قيل: هو كلّ ما يؤكل لحمه، لأنّه الغالب فيه. و هو قول الشافعي. و يؤيّده

قوله عليه السّلام: «خمس يقتلن في الحلّ و الحرم: الحدأة (2)، و الغراب، و العقرب، و الفأرة، و الكلب العقور». و في رواية بدل العقرب الحيّة.

و فيه تنبيه على قتل كلّ مؤذ.

و أمّا أصحابنا فقالوا: إنّ المحلّل حرام مطلقا. و أمّا المحرّم فقالوا بتحريم الأسد و الثعلب و الأرنب و الضبّ و اليربوع و القنفذ، لتظافر الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

و اختلف أيضا في أنّ هذا النهي هل يلغي حكم الذبح، فيلحق مذبوح المحرم بالميتة و مذبوح الوثني، أو لا، فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب؟

و أصحابنا على الأوّل. و يؤيّده إيثار «لا تقتلوا» على: لا تذكّوا أو لا تذبحوا.

وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ذاكرا لإحرامه، عالما بأنّه حرام عليه قتل ما يقتله. و الأكثر على أنّ ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء، فإنّ إتلاف العامد و المخطئ واحد في إيجاب الضمان، و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام، بل لقوله: «وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ». و لأنّ الآية نزلت في من تعمّد، إذ

روي أنّه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله، فنزلت.

فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ برفع الجزاء و المثل. قرأه الكوفيّون و يعقوب، بمعنى: فعليه، أي: فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم. فيكون مبتدأ، و «مثل»

ص: 324


1- الرداح: الشجرة الكبيرة.
2- الحدأة: طائر من الجوارح.

صفته. و على هذه القراءة لا يتعلّق الجارّ ب «جزاء»، للفصل بينهما بالصفة. و قرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول. و المعنى: فعليه أن يجزي مثل ما قتل.

و هذه المماثلة عند أئمّة الهدى عليهم السّلام و الشافعي باعتبار الخلقة و الهيئة، ففي النعامة بدنة، و في حمار الوحش و بقر الوحش بقرة، و في الظبي و الأرنب و نحوهما شاة. و باعتبار القيمة عند أبي حنيفة، بأن يقوّم الصيد قيمة عادلة، ثمّ يشترى بقيمته مثله من النعم. و الصحيح القول الأوّل، و هو أيضا قول ابن عبّاس و الحسن و مجاهد و السدّي و عطاء و الضحّاك و غيرهم.

يَحْكُمُ بِهِ أي: بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: حكمان عدلان من الفقهاء ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به. و هو صفة «جزاء»، أو حال من ضميره.

هَدْياً حال من الهاء في «به»، أو من «جزاء» و إن نوّن، لتخصّصه بالصفة بالِغَ الْكَعْبَةِ وصف به هديا لأنّ إضافته لفظيّة. و معنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم، و التصدّق به ثمّة. و قال أصحابنا: إذا كان محرما بالعمرة ذبح أو نحر بمكّة، و إن كان محرما بالحجّ فبمنى. و قال أبو حنيفة: يذبح بالحرم، و يتصدّق به حيث شاء.

أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على «جزاء». و المعنى: أو الواجب عليه طَعامُ مَساكِينَ عطف بيان، أو بدل منه، أو خبر محذوف، أي: هي طعام. و قرأ نافع و ابن عامر: كفّارة طعام بالإضافة للتبيين، تقديره: أو كفّارة من طعام مساكين، كقولك: خاتم فضّة، أي: خاتم من فضّة. و هو أن يقوّم الجزاء، و يفضّ ثمنه على الحنطة، و يتصدّق به

على كلّ مسكين نصف صاع.

أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي: ما عاد له، أي: ساواه من الصوم، فيصوم عن إطعام كلّ مسكين يوما. و هو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. و الخيار في هذه الكفّارات الثلاث إلى قاتل الصيد. و قيل: هي مرتّبة. و كلا القولين رواهما أصحابنا.

ص: 325

لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ يتعلّق بمحذوف، أي: فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصوم، ليذوق ثقل فعله، و سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام أو الحرم، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر اللّه تعالى. و أصل الوبل الثقل، و منه الطعام الوبيل.

عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد محرما في الجاهليّة، أو قبل التحريم، أو في هذه المرّة. وَ مَنْ عادَ أي: و من عاد ثانيا عمدا إلى قتل الصيد فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فهو ممّن ينتقم اللّه منه عقوبة بما صنع، و لا كفّارة. و هل ذلك مانع من وجوب الكفّارة عليه أم لا؟ قال ابن عبّاس: نعم، و به قال أكثر أصحابنا. و قال الحسن و ابن جبير و عامّة الفقهاء: لا، بل تجب، و به قال بعض أصحابنا. وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ممّن أصرّ على عصيانه.

ثمّ بيّن سبحانه ما يحلّ من الصيد و ما يحرم، فقال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي: مصيداته. و هي ما صيد منه ممّا لا يعيش إلّا في الماء. و المعنى: أحلّ لكم الانتفاع من لحمه الطريّ وَ طَعامُهُ أي: و أحلّ لكم طعام البحر ما كان مملوحا قديدا عندنا و عند أبي حنيفة. و لا يحلّ منه إلّا السمك الّذي له فلس. و عند الشافعي كلّ مصيدات البحر حلال. و إنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم، فيصير كالمقتات من الأغذية.

و قيل: المراد ما يقذفه البحر ميّتا. و هو مرويّ عن ابن عمر و قتادة. و الّذي يليق بمذهبنا هو الأوّل.

مَتاعاً لَكُمْ نصب على الغرض، أي: ليتمتّعوا من أكله. تمتيعا لكم وَ لِلسَّيَّارَةِ و لسيّارتكم، أي: لمسافريكم يتزوّدونه طريّا و قديدا.

وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ أي: ما صيد فيه، أو الصيد فيه. فعلى الأوّل يحرم على المحرم ما صاده الحلال فيه، و إن لم يكن للمحرم فيه مدخل. و هذا موافق لمذهبنا. ما دُمْتُمْ حُرُماً أي: محرمين.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ هذا أمر منه تعالى بأن يتّقى جميع معاصيه، و يجتنب جميع محارمه، لأنّ إليه الرجوع في الوقت الّذي لا يملك أحد فيه الضرر

ص: 326

و النفع سواه، و هو يوم القيامة، فيجازي المحسن بإحسانه، و المسي ء بإساءته.

[سورة المائدة [5]: الآيات 97 الى 99]

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [97] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [98] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ [99]

و لمّا ذكر سبحانه حرمة الحرم، عقّبه بذكر البيت الحرام و الشهر الحرام، فقال: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، أو المفعول الثاني قِياماً لِلنَّاسِ انتعاشا لهم، أي: سبب انتعاشهم في أمر دينهم و دنياهم، و نهوضهم إلى أغراضهم و مقاصدهم في أمور معاشهم و معادهم، بأن يلوذ به الخائف، و يأمن فيه الضعيف، و يربح فيه التجّار، و يتوجّه إليه الحجّاج و العمّار. أو ما يقوم به أمر دينهم و دنياهم، و أنواع منافعهم الدنيويّة و الدينيّة.

و عن ابن عبّاس: معناه: جعل اللّه الكعبة أمنا للناس بها يقومون، أي:

يأمنون، و لولاها لفنوا و هلكوا و ما قاموا، و كان أهل الجاهليّة يأمنون به، فلو لقي الرجل قاتل أبيه و ابنه في الحرم ما قتله.

و عن عطاء: لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه لم ينظروا و لم يؤخّروا. و معناه:

يهلكون.

و عن عليّ (1) بن إبراهيم عنهم عليهم السّلام قالوا: «ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها

ص: 327


1- تفسير القمّي 1: 187- 188.

لم يهلكوا، فإذا هدمت أو تركوا الحجّ هلكوا».

و في الحديث: «مكتوب في أسفل المقام: إنّي أنا اللّه ذو بكّة، حرّمتها يوم خلقت السماوات و الأرض، و يوم وضعت هذين الجبلين، و حففتهما بسبعة أملاك حنفاء، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه، مذعنا لي بالربوبيّة، حرّمت جسده على النار».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا و الآخرة أصابه».

و قرأ ابن عامر: قيما، على أنّه مصدر على فعل كالشبع، أعلّت عينه كما أعلّت في فعله. و نصبه على المصدر أو الحال.

وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ أي: و جعل الشهر الّذي يؤدّى فيه الحجّ- و هو ذو الحجّة- قياما للناس. و قيل: عنى به جنس الأشهر الحرم الأربعة، واحد (1) فرد، و ثلاثة سرد. و هو عطف على «الكعبة» كما تقول: ظننت زيدا منطلقا و عمرا. و كذا قوله:

وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ أي: و المقلّدات من الهدي خصوصا، لأنّ الثواب فيه أكثر. و قد سبق (2) تفسير القلائد.

ذلِكَ إشارة إلى الجعل، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام و غيره لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ

شرع الأحكام لدفع المضارّ قبل وقوعها، و جلب المنافع المترتّبة عليها، دليل حكمة الشارع و كمال علمه. وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص، و مبالغة بعد إطلاق.

و لمّا تقدّم بيان الأحكام عقّبه سبحانه بذكر الوعد و الوعيد، فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و أطاع. وعيد و وعد لمن هتك محارمه، و لمن حافظ عليها، و لمن أصرّ عليه، و لمن أقلع عنه.

و عقّب الإنذار و التبشير بقوله: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ تشديد في

ص: 328


1- و هو رجب، و السّرد- أي: المتتابع-: ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرّم.
2- راجع ص 210 ذيل الآية 2 من سورة المائدة.

إيجاب القيام بما أمر به، أي: الرسول أتى بما أمر به من التبليغ، و لم يبق لكم عذر في التفريط. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ لا يخفى عليه شي ء من أحوالكم الّتي تظهرونها و تخفونها، من تصديق و تكذيب، و فعل و عزيمة. و فيه غاية الزجر و التهديد.

[سورة المائدة [5]: آية 100]

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [100]

و لمّا بيّن سبحانه الحلال و الحرام، بيّن أنّهما لا يستويان، فقال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ حكم عامّ في نفي المساواة عند اللّه تعالى بين الردي ء من الأشخاص و الأعمال و الأموال و جيّدها، رغّب به فمي مصالح الأعمال و حلال الأموال. وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإنّ العبرة بالجودة و الرداءة دون القلّة و الكثرة، فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير. و الخطاب لكلّ معتبر ذي لبّ، و لذا قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: فاتّقوه في تحرّي الخبيث و إن كثر، و آثروا الطيّب و إن قلّ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين أن تبلغوا الفلاح.

[سورة المائدة [5]: الآيات 101 الى 102]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [101] قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ [102]

و لمّا بيّن سبحانه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبلّغ ما فيه المصلحة، نهى العباد عن السؤال عمّا لا يعنيهم و لا يحتاجون إليه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا

ص: 329

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تظهر لكم تَسُؤْكُمْ تكرهوا و تحزنوا وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي: في زمان الوحي تُبْدَ لَكُمْ يظهر لكم جوابها فتكرهوه و تغتمّوا، فلا تتكلّفوا السؤال عنها في حال.

و الشرطيّة و ما عطف عليها صفتان ل «أشياء»، و هما كمقدّمتين تنتجان ما يمنع السؤال، و هو أنّه ممّا يغمّهم، و العاقل لا يفعل ما يغمّه.

و «أشياء» اسم جمع كطرفاء، غير أنّه قلبت لامه فجعلت لفعاء.

و قيل: أفعلاء، حذفت لامه، جمع لشي ء على أنّ أصله: شيّئ كهيّن، أو شي ء كصديق، فخفّف. و قيل: أفعال، جمع له من غير تغيير، كبيت و أبيات. و يردّه منع صرفه.

عَفَا اللَّهُ عَنْها صفة أخرى، أي: عن أشياء عفا اللّه عنها و لم يكلّف بها، إذ

روي أنّه لمّا نزلت: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (1) قال سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن: يا رسول اللّه في كلّ عام

كتب علينا الحجّ؟ فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أعاد ثلاثا، فقال: «ويحك و ما يؤمنك أن أقول: نعم؟ و اللّه لو قلت:

نعم لوجبت، و لو وجبت ما استطعتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه». فنزلت هذه الآية.

أو استئناف، أي: عفا اللّه عمّا سلف من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، و يعفو عن كثير.

و عن ابن عبّاس: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخطب ذات يوم و هو غضبان من كثرة ما يسألون عنه ممّا لا يعنيهم، فقال: لا أسأل عن شي ء إلّا أجبت. فقال رجل: أين .

ص: 330


1- آل عمران: 97.

أبي؟ قال: في النار. و قال آخر: من أبي؟ فقال: حذافة بن قيس، و كان يدعى لغيره». فنزلت.

و قال مجاهد: كان ابن عبّاس إذا سئل عن الشي ء لم يجي ء فيه أثر يقول: هو من العفو، ثمّ يقرأ هذه الآية.

ثمّ أخبر سبحانه أنّ قوما سألوا مثل سؤالهم، فلمّا أجيبوا إلى ما سألوا كفروا، فقال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ الضمير ليس براجع إلى «أشياء» حتّى يجب تعديته ب «عن»، و إنّما هو راجع إلى المسألة الّتي دلّ عليها «تسألوا»، فلذلك لم يعدّ ب «عن». و المعنى: قد سأل هذه المسألة قوم. أو إلى «أشياء» بحذف الجارّ. مِنْ قَبْلِكُمْ متعلّق ب «سألها». و ليس صفة ل «قوم»، فإنّ ظرف الزمان لا يكون صفة للجثّة، و لا حالا منها، و لا خبرا عنها. ثُمَّ

أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أي: بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحودا، كبني إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، و كقوم عيسى سألوه إنزال المائدة ثمّ كفروا بها، و قوم صالح سألوه الناقة ثمّ عقروها و كفروا بها.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها».

و اعلم أنّ الّذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل عليه في الأمور الدينيّة و الدنيويّة، و ما لا يجوز العمل عليه في أمور الدين و الدنيا لا يجوز السؤال عنه، فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الإنسان من أبي؟ لأنّ المصلحة قد اقتضت أن يحكم على كلّ من ولد على فراش إنسان بأنّه ولده و إن لم يكن مخلوقا من مائه، فالمسألة بخلاف ذلك سفه لا يجوز.

ص: 331

[سورة المائدة [5]: الآيات 103 الى 104]

ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [103] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ [104]

و لمّا تقدّم ذكر الحلال و الحرام بيّن حال ما يعتقده أهل الجاهليّة من ذلك، فقال ردّا و إنكارا لهم على ما ابتدعوه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ما شرع و وضع، و لذلك تعدّى إلى مفعول واحد. و «من» مزيدة.

روي أنّهم

إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها- أي:

شقّوها- و حرّموا ركوبها، و خلّوا سبيلها، فلا تركب، و لا تحلب، و لا تطرد عن ماء و لا مرعى. و كان الرجل منهم يقول: إن شفيت أو قدمت من سفري فناقتي سائبة، و يجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. و إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، و إن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، و إن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها، فلا يذبحوا الذكر لآلهتهم. و إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموا ظهره، و لم يمنعوه من ماء و لا مرعى، و قالوا: قد حمى ظهره.

وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريم ذلك و نسبته إليه وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي: الحلال من الحرام، أو الآمر من الناهي، بل يقلّدون كبارهم. و فيه أنّ منهم من يعرف بطلان ذلك، و لكن يمنعه حبّ الرئاسة و تقليد الآباء أن يعترف به، كما قال اللّه تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا هلمّوا إِلى ما أَنْزَلَ

ص: 332

اللَّهُ من القرآن و اتّباع ما فيه، و الإقرار بصحّته وَ إِلَى الرَّسُولِ و تصديقه و الاقتداء به قالُوا حَسْبُنا كفانا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعنون مذاهب آبائهم.

فهذا بيان لقصور عقلهم، و انهماكهم في التقليد، و أن لا سند لهم سواه.

ثمّ أنكر ذلك عليهم بقوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من أحكام الدين الحقّ وَ لا يَهْتَدُونَ إليه. الواو للحال، و الهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال، أي: أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم و لو كانوا جهلة ضالّين.

و المعنى: أنّ الاقتداء إنّما يصحّ بمن علم أنّه عالم مهتد، و ذلك لا يعرف

إلّا بالحجّة، فلا يكفي التقليد.

[سورة المائدة [5]: آية 105]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [105]

و لمّا بيّن اللّه سبحانه حكم الكفّار الّذين قلّدوا آباءهم و أسلافهم، و ركنوا إلى أديانهم، عقّبه بالأمر بالطاعة، و بيان أنّ المطيع لا يؤاخذ بذنوب العاصي، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: احفظوها و الزموا إصلاحها. و الجارّ مع المجرور جعل اسما ل «الزموا»، و لذلك نصب «أنفسكم». لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا يضرّكم الضلال إذا كنتم مهتدين. و من الاهتداء أن ينكر المكلّف المنكر حسب طاقته، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من رأى منكرا و استطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه».

فليس المراد ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإنّ من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد.

و عن ابن مسعود أنّها قرئت عنده فقال: إنّ هذا ليس بزمانها، إنّها اليوم مقبولة، و لكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم. فهي على هذا تسلية لمن يأمر و ينهى فلا يقبل منه، و بسط لعذره. و عنه:

ص: 333

ليس هذا زمان تأويلها، قيل: فمتى؟ قال: إذا جعل دونها السيف و السوط و السجن.

و روي أنّ أبا ثعلبة سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن هذه الآية، فقال: «ائتمروا بالمعروف، و تناهوا عن المنكر، حتّى إذا ما رأيت دنيا مؤثّرة، و شحّا مطاعا، و هوى متّبعا، و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، و ذر عوامهم، و إنّ من ورائكم أيّاما الصبر فيهنّ كقبض على

الجمر، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله».

قيل: الآية نزلت لمّا كان المؤمنون يتحسّرون على أهل العناد من الكفرة، و يتمنّون إيمانهم.

و قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك، فنزلت.

و قوله: لا يَضُرُّكُمْ يحتمل الرفع على أنّه مستأنف. و يؤيّده قراءة: لا يضيركم. و الجزم على الجواب أو النهي، لكنّه ضمّت الراء اتباعا لضمّة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة. و تنصره قراءة من قرأ: لا يضرّكم بالفتح. و لا يضركم بكسر الضاد و ضمّها، من: ضاره يضيره و يضوره.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: يجازيكم بأعمالكم. هذا وعد و وعيد للفريقين، و تنبيه على أنّ أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.

[سورة المائدة [5]: الآيات 106 الى 109]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ

ص: 334

الْآثِمِينَ [106] فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [107] ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [108] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [109] و لمّا قدّم الأمر بالرجوع إلى ما أنزل، عقّبه بذكر هذا الحكم المنزل، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ

بَيْنِكُمْ أي: فيما أمرتم شهادة بينكم. و المراد بالشهادة الإشهاد على الوصيّة. و إضافتها إلى الظرف على الاتّساع. إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إذا شارفه و ظهرت أماراته. و هو ظرف للشهادة. حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من الظرف. و في إبداله تنبيه على أنّ الوصيّة ممّا ينبغي أن لا يتهاون فيه عند حضور الموت، أي: وقت أمارته و مشارفته. أو ظرف «حضر».

اثْنانِ فاعل «شهادة» إذ تقدير الآية: عليكم شهادة بينكم يشهد اثنان، بحذف الخبر و الفعل. و معناه: فرض أن يشهد اثنان. و يجوز أن يكون خبر «شهادة» على حذف المضاف، أي: شهادة بينكم شهادة اثنين.

ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ من أهل ملّتكم و دينكم، أي: من المسلمين. و هما صفتان ل «اثنان».

أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من غير ملّتكم. عطف على «اثنان». و «أو»

ص: 335

هاهنا للتفصيل لا للتخيير، فإنّ المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا شاهدين منكم.

و قيل: المعنى: ذوا عدل من عشيرتكم، فإنّهم أعلم بأحوال الميّت و بما هو أصلح، أو آخران من غير عشيرتكم. و الأوّل أقوى و أصحّ.

و ذهب جماعة إلى أنّ الآية كانت في شهادة أهل الذمّة ثمّ نسخت. و علماؤنا قائلون إنّ هذه الآية محكمة وردت في شهادة أهل الذمّة. و يقوّي هذا القول تتابع الآثار على أنّها من محكم القرآن و آخر ما نزل.

إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي: سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي: قاربتكم. يعني: إن وقعت أمارة موتكم في السفر، و لم يكن معكم رجلان عدلان منكم، فاستشهدوا على الوصيّة آخرين من غيركم، أي: من أهل الذمّة.

تَحْبِسُونَهُما صفة ل «آخران» أي: تقفونهما. و الشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله: «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» اعتراض، فائدته

الدلالة على أنّه ينبغي أن يشهد اثنان منكم، فإن تعذّر- كما في السفر- فمن غيركم.

أو استئناف، كأنّه قيل: كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين؟ فقال: تحبسونهما ليحلفا.

مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ اللام للعهد، أي: صلاة العصر، فإنّ الناس كانوا يحلفون بالحجاز بعد صلاة العصر، لاجتماع الناس و تكاثرهم في ذلك الوقت، و تصادم ملائكة النهار و الليل فيه. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام

و قتادة و سعيد ابن جبير و غيرهم. و قيل: صلاة الظهر. و قيل: أيّ صلاة كانت. و قيل: من بعد صلاة أهل دينهما، يعني: الذمّيّين.

فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: ارتاب الوارث منكم، و شكّ في أمانتهما لا

ص: 336

نَشْتَرِي بِهِ هذا مقسم عليه، و «إِنِ ارْتَبْتُمْ» اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. و المعنى: لا نستبدل بالقسم أو باللّه ثَمَناً عرضا من الدنيا، أي: لا نحلف باللّه كاذبا لطمع وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى و لو كان المقسم له قريبا منّا. و جوابه أيضا محذوف، أي: لا نشتري.

وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي: الشهادة الّتي أمرنا بإقامتها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي: إن كتمنا.

روي أنّ ثلاثة نفر خرجوا تجّارا من المدينة إلى الشام: تميم بن أوس الداري، و أخوه عديّ بن يزيد، و كانا حينئذ نصرانيّين، و بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص. فلمّا قدموا الشام مرض ابن أبي مارية، فدوّن ما معه في صحيفة و طرحها في متاعه، و لم يخبرهما به، و أوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله و مات. ففتّشاه و أخذا منه إناء من فضّة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب، فغيّباه.

فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما، فجحدا، فترافعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت هذه الآية. فصلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العصر، و دعا بتميم وعديّ، فحلّفهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد صلاة العصر عند المنبر و خلّى سبيلهما. ثمّ وجد الإناء في أيديهما، فأتاهما بنو سهم في ذلك، فقالا: قد اشتريناه منه، و لكن لم يكن لنا عليه بيّنة، فكرهنا أن نقرّ به، فرفعوهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت.

فَإِنْ عُثِرَ فإن اطّلع عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي: فعلا ما أوجب إثما بأيمانهما الكاذبة، و استوجبا أن يقال: إنّهما لمن الآثمين بخيانتهما فَآخَرانِ فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ من الّذين جني عليهم، و هم الورثة. و قرأ حفص: استحقّ على البناء للفاعل. الْأَوْلَيانِ أي: من الورثة الّذين استحقّ عليهم الأوليان، أي: الأحقّان بالشهادة، لقرابتهما و معرفتهما. هو على قراءة البناء للمفعول خبر محذوف، أي: هما الأوليان، كأنّه قيل: و من هما؟ فقيل:

ص: 337

الأوليان. أو خبر «آخران». أو مبتدأ خبره «آخران». أو بدل منهما، أو من الضمير في «يقومان».

و قرأ حمزة و يعقوب و أبو بكر عن عاصم: الأوّلين، على أنّه صفة «الّذين» أو بدل منه، أي: من الأوّلين الّذين استحقّ عليهم.

فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا ليميننا في وصيّة صاحبنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أصدق من يمينهما، و أولى بأن تقبل. و إطلاق الشهادة على اليمين مجاز، لوقوعها موقعها كما في اللعان. وَ مَا اعْتَدَيْنا و ما تجاوزنا الحقّ فيما طلبناه من حقّنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين الباطل موضع الحقّ، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. و بعد نزول هذه الآية قام عمرو بن العاص و المطّلب

بن أبي وداعة السهميّان و حلفا و أخذا الإناء.

قال في الأنوار (1): «و معنى الآيتين: أنّ المحتضر إذا أراد الوصيّة ينبغي أن يشهد عدلين من دينه على وصيّته، أو يوصي إليهما احتياطا، فإن لم يجدهما- بأن كان في سفر- فآخرين من غيرهم من أهل الذمّة. ثمّ إن وقع نزاع و ارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطّلع على أنّهما كذبا بأمارة و مظنّة حلف آخران من أولياء الميّت. و الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين، فإنّه لا يحلف الشاهد، و لا يعارض يمينه بيمين الوارث، و ثابت إن كانا وصيّين. و ردّ اليمين إلى الورثة إمّا لظهور خيانة الوصيّين، فإنّ تصديق الوصيّ باليمين لأمانته، أو لتغيير الدعوى، كما في هذه القضيّة».

ذلِكَ أي: الحكم الّذي تقدّم، أو تحليف الشاهد أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أقرب إلى أن يأتي الشهداء على نحو ما تحمّلوها من غير تحريف

ص: 338


1- أنوار التنزيل 2: 173- 174.

و خيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أو أقرب إلى أن يخافوا أن تردّ اليمين على المدّعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور كذبهم، كما جرى في هذه القضيّة. فربما لا يحلفون كاذبين، و يتحفّظون في الشهادة مخافة ردّ اليمين إلى المستحقّ عليهم. و إنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا ما توصون به سمع إجابة و قبول وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي: فإن لم تتّقوا و لم تسمعوا كنتم قوما فاسقين، و اللّه لا يهدي الفاسقين إلى حجّة أو إلى طريق الجنّة، كما يهدي غيرهم.

قال في كنز العرفان (1): «و في هاتين الآيتين أحكام:

الأول: إنّ الّذي يحضره

أسباب الموت ينبغي أن يشهد عدلين على وصيّته، إمّا من ذوي قرابته، أو من أهل دينه، و هو الإسلام. فإن تعذّر ذلك عليه، بأن كان في سفر، فآخران من الأجانب أو أهل الذمّة.

الثاني: أنّه إذا حمل الضمير في «منكم» على المسلمين، و في «غيركم» على غيرهم، هل الحكم باق غير منسوخ أو لا؟ قال: أصحابنا بالأوّل، و جوّزوا شهادة أهل الذمّة مع تعذّر المسلمين في الوصيّة. و قال جماعة من الفقهاء بالثاني، و أنّ الآية منسوخة. و الأصحّ الأوّل، لأصالة عدم النسخ، و تكون الآية مخصّصة لأدلّة اشتراط الإيمان و العدالة في الشاهد بما عدا الوصيّة. نعم، يشترط عدالتهم في دينهم، و يرجّحون على فسّاق المسلمين.

الثالث: أنّه إذا حمل الضمير في «منكم» على الأقارب دلّ على قبول شهادة القريب على قريبه مطلقا. و فيه ردّ على من منع ذلك من المخالفين.

الرّابع: أنّه على قول أصحابنا بقبول شهادة الذمّي في الوصيّة مع عدم عدول

ص: 339


1- كنز العرفان 2: 98- 100.

المسلمين، هل يشترط السفر كما في ظاهر الآية أم لا؟ الأصحّ العدم. و بالاشتراط رواية مطروحة.

الخامس: جواز شهادة أهل الذمّة في الوصيّة عند أصحابنا مختصّ بالمال، فلا تسمع في الولاية إجماعا.

السادس: جواز التغليظ في اليمين بالوقت، لقوله تعالى: «بعد الصلاة».

السابع: إنّ الآية تقتضي جواز الدعوى بعد الإحلاف، و هو خلاف القبول، و مناف

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من حلف فليصدّق».

و يمكن أن يجاب بأنّ الدعوى إنّما توجّهت بعد اعتراف المدّعى عليهما بالإناء، و أنّه كان للميّت، و مع اعتراف الحالف يجوز المطالبة. ثمّ لمّا جازت المطالبة لمكان اعترافهما بملكيّة الميّت التي حلفا على نفيها أوّلا و براءة ذمّتهما، ادّعيا

الشراء فأنكر الورثة، فحلفوا على نفي العلم».

و قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ظرف ل «لا يهدي». و قيل: بدل من مفعول «و اتّقوا» بدل الاشتمال. أو مفعول «و اسمعوا» على حذف المضاف، أي: و اسمعوا خبر يوم جمعه. أو منصوب بإضمار: اذكر فَيَقُولُ أي: للرسل ما ذا أُجِبْتُمْ أيّ إجابة أجبتم؟ على أنّ «ماذا» في موضع المصدر. أو بأيّ شي ء أجبتم؟ فحذف الجارّ.

و هذا السؤال لتوبيخ قومهم، كما أنّ سؤال الموؤدة (1) لتوبيخ الوائد، و لذلك قالُوا لا عِلْمَ لَنا أي: لا علم لنا بما كنت أنت تعلمه. فوكلوا الأمر إلى علمه بسوء إجابتهم، و لجأوا إليه في الانتقام منهم إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فتعلم ما نعلمه ممّا أجابونا و أظهروا لنا، و ما لم نعلم ممّا أضمروا في قلوبهم.

و فيه التشكّي منهم، و ردّ الأمر إلى علمه عزّ شأنه بما كابدوا منهم، و ذلك

ص: 340


1- التكوير: 8.

أعظم على الكفرة، و أفتّ في أعضادهم، و أجلب لحسرتهم و سقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ اللّه و تشكّي أنبيائه عليهم السلام. و مثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصّة من خواصّه بليّة قد عرفها السلطان، و اطّلع على كنهها، و عزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما و يقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ و هو عالم بما فعل به، يريد به توبيخه و تبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم السلطان، و اتّكالا عليه، و إظهارا للشكاية، و تعظيما لما حلّ به منه.

و قيل: من هول ذلك اليوم يفزعون و يذهلون عن الجواب، ثمّ يجيبون بعد ما يرجع إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم.

و قيل:

المعنى: لا علم لنا إلى جنب علمك، فإنّ علمنا ساقط مع علمك و مغمور به، لأنّك علّام الغيوب، و من علم الخفيّات لم تخف عليه الظواهر الّتي منها إجابة الأمم لرسلهم، فكأنّه لا علم لنا إلى جنب علمك.

و قيل: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، و إنّما الحكم للخاتمة. و كيف يخفى عليهم أمرهم و قد رأوهم سود الوجوه، زرق العيون، موبّخين.

قال الحاكم (1) أبو سعيد الجشمي عليه ما عليه في تفسيره: إنّها تدلّ على بطلان قول الإماميّة إنّ الأئمّة يعلمون الغيب.

و نحن نقول: إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم، فإنّا لا نعلم أحدا منهم بل أحدا من أهل الإسلام يصف أحدا من الناس أنّه يعلم الغيب، و من وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين، و الشيعة الإماميّة برآء من هذا القول، فمن نسبهم إلى ذلك فاللّه فيما بينه و بينهم.

ص: 341


1- أبو سعد الجشمي هو المحسّن بن محمد بن كرّامة، مفسّر، عالم بالأصول و الكلام، حنفيّ ثم معتزليّ فزيدي، و هو شيخ الزمخشري، ولد سنة 413، و توفّي مقتولا بمكّة عام 494. راجع الأعلام للزركلى 6: 176.

[سورة المائدة [5]: الآيات 110 الى 115]

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [110] وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي

وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [111] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [112] قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ [113] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [114]

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [115]

و لمّا عرّف سبحانه يوم القيامة بما وصفه به من جمع الرسل فيه، عطف عليه

ص: 342

بذكر المسيح، فقال بدلا (1) من يوم الجمع: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ و هو على طريقة: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ (2)، فإنّ المستقبل المحقّق الوقوع في حكم الماضي.

و المعنى: أنّه تعالى يوبّخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، و تعديد ما أظهر عليهم من الآيات، فكذّبتهم طائفة و سمّوهم سحرة، و غلا آخرون فاتّخذوهم آلهة، كما قال بعض بني إسرائيل لمّا أظهر على يد عيسى من البيّنات الباهرة و المعجزات الساطعة: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (3). و اتّخذوه بعضهم و أمّه إلهين. و يجوز أنّه نصب بإضمار «اذكر».

ثمّ فسّر نعمته بقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ قوّيتك. و هو ظرف ل «نعمتي»، أو حال منه بِرُوحِ الْقُدُسِ بجبرئيل، أو بالكلام الّذي يحيا به الدين أو النفس حياة أبديّة، و يطهّر من الآثام. و يؤيّده قوله: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا أي: كائنا في المهد و كهلا.

و المعنى: تكلّمهم في الطفوليّة و الكهولة على سواء، يعني: إلحاق حاله في الطفوليّة بحال الكهوليّة في كمال العقل و التكلّم. يعني: تكلّمهم في هاتين الحالتين من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفوليّة و حين الكهولة، الذي هو وقت تمام العقل و بلوغ الأشدّ، و الحدّ الّذي يستنبأ فيه الأنبياء. و به استدلّ على أنّه سينزل، فإنّه رفع قبل أن يكتهل.

وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ و قيل: الكتابة يعني الخطّ وَ الْحِكْمَةَ أي: علم الشريعة الّذي هو الكلام المحكم الصواب. و قيل: أراد الكتب، فيكون اسم جنس.

ص: 343


1- أي: جاعلا قوله هذا بدلا من قوله: «يوم يجمع».
2- الأعراف: 44.
3- النمل: 13.

ثمّ فصّله بالذكر فقال: وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ و خصّهما من بين جنس الكتب بالذكر لمزيد شرفهما وَ إِذْ تَخْلُقُ تصوّر مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي: هيئة مثل هيئة الطير و صورته بِإِذْنِي و أمري و تسهيلي. و سمّاه خلقا، لأنّه كان يقدّره.

فَتَنْفُخُ فِيها الضمير للكاف، لأنّها صفة الهيئة الّتي كان يخلقها عيسى و ينفخ فيها، و لا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها، لأنّها ليست صفة من خلقه و لا من نفخه في شي ء، أي: ينفخ فيها الروح، لأنّ الروح جسم يجوز أن ينفخه المسيح بأمر اللّه تعالى.

و الطير يؤنّث و يذكّر، فمن أنّث فعلى الجمع، و من ذكّر فعلى اللفظ. و واحد الطير طائر، كراكب و ركب، و ضائن و ضأن.

و بيّن بقوله: فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أنّه إذا نفخ المسيح فيها الروح قلّبها اللّه لحما و دما، و خلق فيها الحياة، فصارت طيرا بأمر اللّه و إرادته، لا بفعل المسيح.

و قرأ نافع: طائرا. و يحتمل الإفراد و الجمع، كالباقر.

وَ تُبْرِئُ أي: تصحّح

الْأَكْمَهَ الّذي ولد أعمى وَ الْأَبْرَصَ من به برص مستحكم بِإِذْنِي و المعنى: أنّك تدعوني حتى أبرئ الأكمه و الأبرص.

و نسب ذلك إلى المسيح، لأنّه بدعائه و سؤاله.

وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي أي: اذكر إذ تدعوني فأحيي الموتى عند دعائك، و أخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء. نسب ذلك إلى المسيح أيضا، لأنّه كان بدعائه. قيل: أخرج سام بن نوح و رجلين و امرأة و جارية.

وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ أي: اليهود حين همّوا بقتلك و أذاك إِذْ جِئْتَهُمْ ظرف ل «كففت»، أي: حين أتيتهم بِالْبَيِّناتِ المعجزات البيّنة مع كفرهم و عنادهم فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا و جحدوا نبوّتك مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعنون به ما جاء به عيسى. يعني: ما هذا الّذي جئت به إلّا سحر ظاهر واضح. و قرأ حمزة

ص: 344

و الكسائي: إلّا ساحر. فالإشارة إلى عيسى عليه السّلام. و الغرض من تعداد هذه النعمة على عيسى إلزام قومه بالحجّة، فإنّهم ادّعوا أنّه إله.

ثمّ بيّن سبحانه تمام نعمته على عيسى عليه السّلام، فقال: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي: ألهمتهم. و قيل: أمرتهم على ألسنة الرسل. أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي أي: صدّقوا بي و بصفاتي و بعيسى أنّه عبد و نبيّ. و يجوز أن تكون «أن» مصدريّة و أن تكون مفسّرة. قالُوا أي: قال الحواريّون ادّعاء آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون.

ثمّ أخبر سبحانه عن الحواريّين و سؤالهم فقال: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب ب «اذكر»، أو ظرف ل «قالوا». فيكون تنبيها على أنّ ادّعاءهم الإخلاص مع قولهم: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لم يكن بعد عن تحقيق

و استحكام معرفة.

و قيل: هذه الاستطاعة بناء على ما تقتضيه الحكمة و الإرادة، لا على ما تقتضيه القدرة. و المعنى: هل يفعل ذلك ربّك بمسألتك إيّاه ليكون علما على صدقك.

و قيل: يستطيع بمعنى يطيع، كاستجاب بمعنى أجاب، أي: هل يطيعك و يجيبك؟

و قرأ الكسائي: تستطيع ربّك، أي: سؤال ربّك. و المعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله.

و المائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، من: ماد الماء يميد إذا تحرّك، أو من:

ماده إذا أعطاه، كأنّها تميد، أي: تعطي من تقدّم إليه. و نظيرها قولهم: شجرة مطعمة.

و يؤيّد الأوّل (1) قوله: قالَ اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا الكلام و السؤال

ص: 345


1- يعني: المعنى الأول من معاني «هل يستطيع»، أي: هل يقدر ربك؟ و أنه لم يكن بعد عن تحقيق و استحكام معرفة.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته و صحّة نبوّتي، أو صدقتم في ادّعاء الإيمان. و على الوجوه الأخر معناه: لا تقترحوا الآيات، و لا تقدّموا بين يدي اللّه و رسوله، لأنّ اللّه تعالى قد أراهم البراهين و المعجزات بإحياء الموتى و غيره ممّا هو آكد ممّا سألوه.

و في هذا دلالة على عدم استحكام دينهم، و قلّة معرفتهم باللّه و صفاته.

قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها هذا تمهيد عذر، و بيان لما دعاهم إلى السؤال، و هو أن يتمتّعوا بالأكل منها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته، فإنّ الدلائل كلّما كثرت مكّنت المعرفة في النفس.

وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في ادّعائك النبوّة، أو أنّ اللّه يجيب دعوتنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ إذا استشهدتنا عند الّذين لم يحضروها من بني إسرائيل. أو من الشاهدين للعين، دون السامعين لما يخبر. أو من الشاهدين للّه بالوحدانيّة، و لك بالنبوّة.

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لمّا رأى أنّ لهم غرضا صحيحا في ذلك، أو أنّهم لا يقلعون عنه، فأراد إلزامهم الحجّة بكمالها اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أصل اللّهمّ يا اللّه، فحذف حرف النداء، و عوّضت الميم منه. و «ربّنا» نداء ثان تَكُونُ لَنا عِيداً أي: يكون يوم نزولها عيدا نعظّمه، و هو يوم الأحد، و من ثمّ اتّخذه النصارى عيدا. و قيل: العيد السرور العائد، و لذلك سمّي يوم العيد عيدا، أي:

يكون لنا سرورا و فرحا. لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا بدل من «لنا» بإعادة العامل، أي: عيدا لمتقدّمينا و متأخّرينا، يعنون: لمن في زماننا من أهل ديننا و لمن يأتي بعدنا. و قيل:

معناه: يأكل منها أوّلنا و آخرنا. و يجوز أن يريد المقدّمين منّا و الأتباع.

وَ آيَةً مِنْكَ صفة لها، أي: آية كائنة منك تدلّ على كمال قدرتك و صحّة نبوّتي وَ ارْزُقْنا المائدة، أو الشكر عليها وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ خير من يرزق،

ص: 346

لأنّك خالق الرزق و معطيه بلا عوض. و في هذا دلالة على أنّ العباد يرزق بعضهم بعضا، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يصحّ أن يقال له سبحانه: أنت خير الرازقين، كما لا يجوز أن يقال: أنت خير الآلهة، لمّا لم يكن غيره سبحانه إلها.

قالَ اللَّهُ مجيبا له إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ إجابة إلى سؤالكم. و قرأ أهل المدينة و الشام و عاصم: منزّلها مشدّدا، و الباقون: منزلها مخفّفا. فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ بعد إنزالها مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً أي: تعذيبا. و يجوز أن يجعل مفعولا به على السعة. لا أُعَذِّبُهُ الضمير للمصدر، أو للعذاب إن أريد ما يعذّب به

على حذف حرف الجرّ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي: من عالمي زمانهم، أو العالمين مطلقا، فإنّهم مسخوا قردة و خنازير، و لم يعذّب مثل ذلك غيرهم.

عن ابن عبّاس: أنّ عيسى عليه السّلام قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثمّ أسألوا اللّه ما شئتم يعطيكموه. فصاموا ثلاثين يوما، فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى إنّا صمنا و جعنا، فادع اللّه أن ينزل علينا مائدة من السماء. فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة و سبعة أحوات، حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و روى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي أنّه قال: «لمّا سأل الحواريّون عيسى عليه السّلام أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا و بكى و قال: اللّهمّ أنزل علينا مائدة.

فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، و هم ينظرون إليها و هي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم. فبكى عيسى عليه السّلام و قال: اللّهمّ اجعلني من الشاكرين، اللّهمّ اجعلها رحمة، و لا تجعلها مثلة و عقوبة. و اليهود ينظرون إلى شي ء لم يروا مثله قطّ، و لم يجدوا ريحا أطيب من ريحه.

فقام عيسى عليه السّلام و توضّأ و صلّى صلاة طويلة، ثمّ كشف المنديل عنها و قال:

بسم اللّه خير الرازقين، فإذا هو سمكة مشويّة، و ليس عليها فلوسها، تسيل سيلا من

ص: 347

الدسم، و عند رأسها ملح، و عند ذنبها خلّ، و حولها من ألوان البقول ما عدا الكرّاث، و إذا خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، و على الثاني عسل، و على الثالث سمن، و على الرابع جبن، و على الخامس قديد.

فقال شمعون: يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا

أم من طعام الآخرة؟

فقال عيسى عليه السّلام: ليس شي ء ممّا ترون من طعام الدنيا و لا من طعام الآخرة، و لكنّه شي ء افتعله اللّه تعالى بالقدرة الغالبة، كلوا ممّا سألتم يمددكم و يزدكم من فضله.

فقال الحواريّون: يا روح اللّه لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية اخرى.

فقال عيسى عليه السّلام: يا سمكة أحيي بإذن اللّه. فاضطربت و عاد عليها فلوسها و شوكها، ففزعوا منها.

فقال عيسى: مالكم تسألون أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا، يا سمكة عودي كما كنت بإذن اللّه، فعادت السمكة مشويّة كما كانت.

فقالوا: يا روح اللّه كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن.

فقال عيسى: معاذ اللّه أن آكل منها، و لكن يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها.

ثمّ دعا لها عيسى أهل الفاقة و الزّمنى (1) و المرضى و المبتلين، فقال: كلوا منها، و لكم المهنأ (2)، و لغيركم البلاء. فأكل منها ألف و ثلاثمائة رجل و امرأة من فقير و مريض و مبتلى، و كلّهم شبعان يتجشّأ (3).

ص: 348


1- الزّمنى جمع الزمين، أي: المصاب بالزمانة.
2- المهنأ: ما أتاك بلا مشقّة.
3- تجشّأ أي: أخرج من فمه الجشاء. و الجشاء: ريح يخرج من الفم مع صوت عند الشبع.

ثمّ نظر عيسى عليه السّلام إلى السمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، ثمّ طارت المائدة صعدا و هم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم، فلم يأكل يومئذ منها زمن إلّا صحّ، و لا مريض إلّا برى ء، و لا فقير إلّا استغنى، و لم يزل غنيّا حتّى مات.

و ندم الحواريّون و من لم يأكل منها.

و كانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء و الفقراء و الصغار و الكبار يتزاحمون عليها، فلمّا

رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى، فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفي ء طارت صعدا، و هم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم. و كانت تنزل غبّا، يوما تنزل و يوما لا.

فأوحى اللّه إلى عيسى: عليه السّلام: اجعل مائدتي للفقراء و المرضى دون الأغنياء و الأصحّاء. فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا و شكّكوا الناس فيها.

فأوحى اللّه تعالى إلى عيسى: إنّي شرطت على المكذّبين شرطا إنّ من كفر بعد نزولها أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى عليه السّلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1). فمسخ منهم ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثون رجلا، باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم في ديارهم فأصبحوا خنازير، يسعون في الطرقات و الكناسات، و يأكلون العذرة في الحشوش. فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى و بكوا، و بكى على الممسوخين أهلوهم، فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا.

و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها و يأكلون منها، ثمّ ترفع. فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا.

فرفع اللّه المائدة ببغيهم، و مسخوا قردة و خنازير.

و قيل: لمّا وعد اللّه تعالى إنزالها بهذه الشرائط استغفروا و قالوا: لا نريد، فلم ينزل. و الصحيح أنّها نزلت.

ص: 349


1- المائدة: 118.

[سورة المائدة [5]: الآيات 116 الى 120]

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما

فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [116] ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [117] إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [118] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [119] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [120]

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من أمر المسيح عليه السّلام، فقال توبيخا و تبكيتا للكفرة: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاستفهام يراد به التقريع لمن ادّعى ذلك عليه من النصارى، و استعظام لذلك القول. و الجارّ و المجرور صفة ل «إلهين»، أو صلة «اتّخذوني».

و معنى «دون» إمّا المغايرة، فيكون فيه تنبيه على أنّ عبادة اللّه تعالى مع

ص: 350

عبادة غيره كلا عبادة، فمن عبده مع عبادتها فكأنّه عبدهما و لم يعبده. أو القصور، فإنّهم لم يعتقدوا أنّهما مستقلّان باستحقاق العبادة، و إنّما زعموا أنّ عبادتهما توصل إلى عبادة اللّه تعالى، و كأنّه قيل: اتّخذوني و أمّي إلهين متوصّلين بنا إلى اللّه.

قالَ سُبْحانَكَ أي: أنزّهك تنزيها من أن يكون لك شريك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحقّ لي أن أقوله، و أنا عبد مثلهم، و إنّما تحقّ العبادة لك وحدك.

إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ

تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ما تخفيه من معلوماتك. و قوله: «في نفسك» للمشاكلة، و إلّا فاللّه سبحانه منزّه عن أن تكون له نفس أو قلب تحلّ فيها المعاني، و صنعة المشاكلة من فصيح الكلام. و قيل: المراد بالنفس الذّات.

إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير للجملتين باعتبار منطوقه و مفهومه، فإنّ ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، و لا ينتهي علم أحد إلى ما يعلمه سبحانه.

ثمّ صرّح عيسى بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدلّ عليه، فقال: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ عطف بيان للضمير في «به»، أو بدل منه، و ليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا، ليلزم منه بقاء الموصول بلا راجع. أو خبر مضمر أو مفعوله، مثل: هو أو أعني. و لا يجوز إبداله من «ما أمرتني به»، فإنّ المصدر لا يكون مفعول القول. و لا أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ الأمر مسند إلى اللّه تعالى، و هو سبحانه لا يقول: اعبدوا اللّه ربّي و ربّكم، و القول لا يفسّر، بل الجملة تحكي بعده، إلّا أن يؤوّل القول بالأمر، فكأنّه قيل: ما أمرتهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه.

وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً رقيبا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك و يعتقدوه، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر و إيمان ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء،

ص: 351

لقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ (1). و التوفّي: أخذ الشي ء وافيا، و الموت نوع منه.

قال اللّه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها (2). كُنْتَ

أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المراقب لأحوالهم، فتمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلّة، و أرسلت إليهم من الرسل، و أنزلت عليهم من الآيات وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ مطّلع عليه، مراقب له.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ أي: فإنّك تعذّب من عبادك الّذين عبدوا غيرك، و عصوا رسلك، منكرين أنبياءك، و لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على العقاب و الثواب الْحَكِيمُ الّذي لا يفعلهما إلّا عن حكمة و صواب. هذا تسليم الأمر إلى مالكه، و تفويض إلى مدبّره، و تبرّء من أن يكون إليه شي ء من أمور قومه، كما يقول الواحد منّا إذا تبرّأ من تدبير أمر من الأمور، و يريد تفويضه إلى غيره: هذا الأمر لا يدخل في تصرّفي، فإن شئت فافعله، و إن شئت فاتركه، مع علمه و قطعه على أنّ أحد الأمرين لا يكون منه.

و قيل: إنّ المعنى: إن تعذّبهم فبإقامتهم على كفرهم، و إن تغفر لهم فبتوبة كانت لهم، فكأنّه اشترط التوبة و إن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام. أو المعنى: إن المغفرة مستحسنة عقلا لكلّ مجرم، و كلّما كان الجرم أعظم فالعفو عنه أحسن عقلا، فإن عذّبت فعدل، و إن غفرت ففضل. و عدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد و التعليق ب «إن».

قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ و قرأ نافع: يوم بالنصب، على أنّه ظرف ل «قال»، و خبر «هذا» محذوف، أو ظرف مستقرّ وقع خبرا.

ص: 352


1- آل عمران: 55.
2- الزمر: 42.

و المعنى: هذا الّذي ذكرنا من كلام عيسى عليه السّلام واقع يوم ينفع الصادقين ما صدقوا

فيه.

و قيل: إنّه خبر، و لكن بني على الفتح، لإضافته إلى الفعل. و ليس بصحيح، لأنّ المضاف إليه معرب.

و المراد بالصدق: الصدق في الدنيا، فإنّ النافع ما كان حال التكليف، فلا ينفع الكافرين صدقهم في يوم القيامة إذا أقرّوا على أنفسهم بسوء أعمالهم.

و قيل: المراد تصديقهم لرسل اللّه و كتبهم.

و قيل: المراد صدقهم يوم القيامة في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي: دائمين فيها في نعيم مقيم لا يزول رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما فعلوا وَ رَضُوا عَنْهُ بما أعطاهم ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هذا بيان للنفع.

ثمّ نبّه على كذب النصارى و فساد دعواهم في المسيح، فقال: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. و إنّما لم يقل: و من فيهنّ، تغليبا للعقلاء. و قال: «و ما فيهنّ» لأنّ لفظة «ما» تتناول الأجناس تناولا عامّا، فإنّ من أبصر شخصا من بعيد قال: ما هو؟ قبل أن يعرف أمن العقلاء هو أم من غيرهم؟

فلفظة «ما» أولى بإرادة العموم و الشمول. و لأنّ إتباع العقلاء غيرهم من غير عكس مشعر بقصورهم عن معنى الربوبيّة، و نزولهم عن رتبة العبوديّة.

ص: 353

ص: 354

[6] سورة الأنعام

اشارة

مائة و خمس و ستّون آية. و عن ابن عبّاس: هي مكّيّة إلّا ستّ آيات: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (1) إلى آخر ثلاث آيات، قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ (2) إلى آخر ثلاث آيات، فإنّهنّ نزلن بالمدينة.

و روي عن أبيّ بن كعب و عكرمة و قتادة: أنّها كلّها نزلت بمكّة جملة واحدة ليلا، و معها سبعون ألف ملك قد ملأوا بين الخافقين، لهم زجل (3) بالتسبيح و التحميد. فقال النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سبحان اللّه العظيم و خرّ ساجدا، ثمّ دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم. و أكثرها حجاج على المشركين، و على من كذّب بالبعث و النشور.

و أيضا

عنه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنزلت عليّ الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح و التحميد، فمن قرأها صلّى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كلّ آية من الأنعام يوما و ليلة».

جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ ثلاث آيات من أوّل

ص: 355


1- الأنعام: 91- 93.
2- الأنعام: 151- 153.
3- الزجل: صوت الناس و ضجيجهم.

سورة الأنعام إلى قوله: «وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» وكّل اللّه به أربعين ملكا يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، و ينزل ملك من السماء السابعة و معه مرزبة (1) من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس أو يرمي في قلبه شيئا ضربه بها».

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ سورة الأنعام نزلت جملة، و شيّعها سبعون ألف ملك، فعظّموها و بجّلوها، فإنّ اسم اللّه تعالى فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها.

ثمّ قال عليه السّلام: من كانت له إلى اللّه حاجة يريد قضاءها فليصلّ أربع ركعات بفاتحة الكتاب و الأنعام، و ليقل في صلاته إذا فرغ من القراءة: يا كريم يا كريم يا كريم، يا عظيم يا عظيم يا عظيم، يا أعظم من كلّ عظيم، يا سميع الدعاء، يا من لا تغيّره الليالي و الأيّام، صلّ على محمّد و آل محمّد، و ارحم ضعفي و فقري و فاقتي و مسكنتي. يا من رحم الشيخ يعقوب حين ردّ عليه يوسف قرّة عينه، يا من رحم أيّوب بعد حلول بلائه، يا من رحم محمّدا، و من اليتم آواه، و نصره على جبابرة قريش و طواغيتها، و أمكنه منهم، يا مغيث يا مغيث يا مغيث. هكذا تقول مرارا، فو الّذي نفسي بيده لو دعوت اللّه بها بعد ما تصلّي هذه الصلاة في دبر هذه السورة، ثم سألت اللّه جميع حوائجك، لأعطاك إن شاء اللّه» (2).

و روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام، قال: «نزلت الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح و التكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة» (3).

و روى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: من قرأ سورة الأنعام في كلّ ليلة كان

ص: 356


1- المرزبة و المرزبّة: عصاة من حديد.
2- تفسير العيّاشي 1: 353 ح 1.
3- تفسير القمّي 1: 193.

من الآمنين يوم القيامة، و لم ير النار بعينه أبدا.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [1] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [2] وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ [3]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المائدة بأنّه على كلّ شي ء قدير، افتتح سورة الأنعام بما يدلّ على كمال قدرته، من خلق السموات و الأرض، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

وَ الْأَرْضَ اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة. أخبر سبحانه بأنّه حقيق و حريّ بالحمد. و نبّه على أنّه المستحقّ للحمد على هذه النعم الجسام، حمد أو لم يحمد، ليكون حجّة على الّذين هم بربّهم يعدلون. و جمع السماوات دون الأرض، و هي مثلهنّ، لأنّ طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار و الحركات، دون الأرض.

و قدّمها لشرفها، و علوّ مكانها، و تقدّم وجودها.

وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ أنشأهما. و الفرق بين «خلق» و «جعل» الّذي له مفعول واحد: أنّ خلق فيه معنى التقدير، و الجعل فيه معنى التضمين، كإنشاء شي ء من شي ء، أي: قدّر السماوات و الأرض، و ضمّن فيها الظلمات و النور، و لذلك عبّر عن إحداث النور و الظلمة بالجعل، تنبيها على أنّهما عرضان يقومان بالجسم، لا بأنفسهما كما زعمت الثنويّة.

و جمع الظلمات لكثرة أسبابها و الأجرام الحاملة لها، فإنّ أسباب الظلمة تارة

ص: 357

بالليل، فإنّ جميع الأجرام فيه مظلمة، و تارة بالخسوف و الكسوف، و تارة بالسحاب المتراكم مع الرعد، و تارة بالبحر، و تارة بالظلّ، فإنّ ما من جنس من أجناس الأجرام إلّا و له ظلّ، بخلاف النور، فإنّه من جنس واحد، و هو النار. أو لأنّ المراد بالظلمة الضلال، و بالنور الهدى، و الهدى واحد، و الضلال متعدّد. و تقديمها لتقدّم الأعدام على الملكات.

ثمّ عجب سبحانه ممّن جعل له شريكا، مع ما يرى من الآيات الدالّة على وحدانيّته، فقال: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا الحقّ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ معنى «ثمّ» استبعاد عدولهم بعد هذا البيان.

و هذا عطف على قوله: «الحمد للّه»، على معنى: أنّ اللّه حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد، ثمّ الّذين كفروا

به يعدلون، فيكفرون نعمته. و يكون «بربّهم» تنبيها على أنّه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكوّنهم و تعيّشهم، فمن حقّه أن يحمد عليها و لا يكفر.

أو على قوله: «خلق»، على معنى: أنّه خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثمّ هم يعدلون به ما لا يقدر على شي ء منه.

و الباء على الأوّل متعلّقة، ب «كفروا»، و صلة «يعدلون» محذوفة، أي: يعدلون عنه، ليقع الإنكار على نفس العدول. و على الثاني متعلّقة ب «يعدلون». و المعنى: أنّ الكفّار يسوّون به غيره، بأن جعلوا له أندادا من الأوثان. مأخوذ من قولهم: ما أعدل بفلان أحدا، أي: لا نظير له عندي.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي: ابتدأ خلقكم منه، فإنّه المادّة الأولى، و إنّ آدم الّذي هو أصل البشر خلق منه. أو خلق ءاباءكم، فحذف المضاف. ثُمَّ قَضى أَجَلًا كتب و قدّر أجل الموت وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة. و قيل: الأوّل ما بين الخلق و الموت، و الثاني ما بين الموت و البعث، و هو البرزخ، فإنّ الأجل كما

ص: 358

يطلق لآخر المدّة يطلق لجملتها. و قيل: الأوّل النوم، و الثاني الموت. و قيل: الأوّل لمن مضى، و الثاني لمن بقي و لمن يأتي.

و «أجل» نكرة خصّصت بالصفة، و لذلك استغنى عن تقديم الخبر.

و الاستئناف به لتعظيمه، و لذلك نكّر و وصف بأنّه مسمّى، أي: مثبت معيّن لا يقبل التغيّر. و أخبر عنه بأنّه عند اللّه تعالى لا مدخل لغيره فيه بعلم و لا قدرة، و لأنّه المقصود بيانه.

ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنّه خالقهم و خالق أصولهم، و محييهم إلى آجالهم و باعثهم، فإنّ من قدر على خلق الموادّ و جمعها

و إيداع الحياة فيها و إبقائها ما يشاء، كان أقدر على جمع تلك الموادّ و إحيائها ثانيا.

فالآية الأولى دليل التوحيد، و الثانية دليل البعث. و الامتراء الشكّ. و أصله: المري، و هو استخراج (1) اللبن من الضرع.

وَ هُوَ اللَّهُ الضمير للّه، و «اللّه» خبره فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ متعلّق باسم اللّه. و المعنى: هو المستحقّ للعبادة فيهما لا غير، كقوله: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ (2). أو هو المعروف بالإلهيّة، أو هو المتوحّد بالإلهيّة فيهما. فقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ تقرير له، لأنّ من استوى في علمه السرّ و العلانية هو اللّه وحده.

و يجوز أن يكون «هو» ضمير الشأن، و «الله يعلم سركم و جهركم» مبتدأ و خبر، و «في السماوات» يتعلّق ب «يعلم». و أن يكون «في السماوات» خبرا بعد خبر، أو بدلا من «اللّه» على معنى: أنّه اللّه، و أنّه في السماوات و الأرض. و يكفي

ص: 359


1- و لعلّ وجه النقل من المعنى اللغوي إلى هذا المعنى: أن الشكّ منشأ استخراج العلم، كما يستخرج اللبن من الضرع و يمترى.
2- الزخرف: 84.

لصحّة الظرفيّة كون المعلوم فيهما، كقولك: رميت الصيد في الحرم، إذا كنت خارجه و الصيد داخله، بمعنى أنّه تعالى و تقدّس لكمال علمه بما فيهما كأنّه فيهما. و قال الزجّاج: لو قلت: هو زيد في البيت و الدار، لم يجز إلّا أن يكون في الكلام دليل على أنّ زيدا يدبّر أمر البيت و الدار، فيكون المعنى: هو المدبّر في البيت و الدار.

فالمعنى: هو المعبود المدبّر في السماوات و الأرض. و ليس الظرف متعلّقا بالمصدر، و هو «سرّكم و جهركم»، لأنّ صفته لا تتقدّم

عليه.

وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير أو شرّ، فيثيب و يعاقب. و لعلّه أريد بالسرّ و الجهر و ما يخفى و ما يظهر من أحوال الأنفس، و بالمكتسب أعمال الجوارح.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 4 الى 5]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [4] فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [5]

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار المذكورين في أوّل الآية، فقال: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ «من» مزيدة للاستغراق مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ للتبعيض (1)، أي: ما يظهر لهم دليل قطّ من الأدلّة الّتي يجب فيها النظر و بها يحصل الاعتبار، أو معجزة من المعجزات، أو آية من آيات القرآن إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين للنظر فيه، غير ملتفتين إليه، و لا مستدلّين به.

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ يعني: القرآن الّذي تحدّوا به فعجزوا عنه.

و هو كاللازم ممّا قبله، كأنّه قيل: إنّهم لمّا كانوا معرضين عن الآيات كلّها كذّبوا به لمّا جاءهم. أو كالدليل عليه، على معنى: أنّهم لمّا أعرضوا عن القرآن و كذّبوا به و هو أعظم الآيات، فكيف لا يعرضون عن غيره؟! و لذلك رتّب عليه بالفاء.

ص: 360


1- أي: «من» الثانية في قوله تعالى: «من آيات».

فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: سيظهر لهم أخبار الشي ء الّذي كانوا به يستهزؤن، و هو القرآن. يعني: سيعلمون بأيّ شي ء استهزؤا، و سيظهر لهم أنّه لم يكن بموضع الاستهزاء، و ذلك عند نزول العذاب بهم في الدنيا و الآخرة، أو عند ظهور الإسلام و ارتفاع أمره و علوّ كلمته.

[سورة الأنعام [6]: آية 6]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [6]

ثمّ حذّرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم، فقال: أَ لَمْ يَرَوْا ألم ير كفّار قريش

كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي: من أهل زمان مقترنين في وقت. و القرن مدّة أغلب أعمار الناس. و هي سبعون سنة. و قيل: ثمانون. و قيل: القرن أهل عصر فيه نبيّ أو فائق في العلم، قلّت المدّة أو كثرت. و اشتقاقه من: قرنت.

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ جعلنا لهم فيها مكانا، أو قرّرناهم فيها، أو أعطيناهم من القوى و الآلات ما تمكّنوا بها من أنواع التصرّف فيها ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نجعل لكم يا أهل مكّة، من البسطة في الأجسام، و السعة في الأموال، و العبيد و الخدم، و الولاية، و طول المقام. أو ما لم نعطكم من القوّة و السعة في المال، و الاستظهار بالعدد و الأسباب، و أنتم تسمعون أخبارهم، و ترون ديارهم و آثارهم.

عدل عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات.

وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ أي: المطر، أو السحاب، أو المظلّة، فإنّ مبدأ المطر منها مِدْراراً مغزارا وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فعاشوا في

ص: 361

الخصب و الريف بين الأنهار و الثمار فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي: لم يغن ذلك عنهم شيئا من مقدّمة الإهلاك وَ أَنْشَأْنا و أحدثنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أمّة اخرى بدلا منهم.

و المعنى: أنّه تعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد و ثمود، و ينشئ مكانهم آخرين يعمّر بهم بلادهم، يقدر أن يفعل ذلك بكم.

و فيه دلالة صريحة على أنّه سبحانه لا يتعاظمه أن يفني عالما و ينشئ عالما آخر، لقوله: وَ لا يَخافُ عُقْباها (1). ففيه احتجاج على منكري البعث.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 7 الى 9]

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [7] وَ قالُوا لَوْ

لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [8] وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [9]

روي أنّ نضر بن الحارث و عبد اللّه بن أبي أميّة و نوفل بن خويلد قالوا عنادا:

يا محمّد لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند اللّه، و معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنّه من عند اللّه و أنّك رسوله، فنزلت: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ مكتوبا في ورق.

و عن ابن عبّاس: كتابا معلّقا من السماء إلى الأرض.

فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فمسّوه. و تخصيص اللمس لأنّ التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم

ص: 362


1- الشمس: 15.

أن يقولوا: إنّما سكّرت أبصارنا، فتبقى لهم. و علّة تقييده بالأيدي لدفع التجوّز، فإنّه قد يتجوّز به للفحص، كقوله: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ (1). فاللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة. لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنّتا و عنادا للحقّ بعد ظهوره.

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ هلّا أنزل مع محمّد ملك نشاهده يكلّمنا أنّه نبيّ فنصدّقه، كقوله: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (2).

وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً على ما اقترحوه لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: أمر إهلاكهم. هذا جواب لما قالوا، و بيان لما هو المانع ممّا اقترحوه. و المعنى: أنّ الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحقّ إهلاكهم، فإنّ سنّة اللّه جرت بذلك فيمن قبلهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ بعد نزوله طرفة عين، لأنّهم لا يؤمنون عند مشاهدة تلك الآية الّتي لا شي ء أبين منها، فتقتضي الحكمة استئصالهم.

وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ هذا جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب.

و إن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان، فإنّهم تارة يقولون: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ و تارة يقولون: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً (3).

و على الأوّل معناه: و لو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينوه. و على الثاني: و لو جعلنا الرسول ملكا لمثّلناه رجلا، كما مثّل جبرئيل في صورة دحية الكلبي، فإنّ القوّة البشريّة لا تقوى على رؤية الملك في صورته، و إنّما رأى الملائكة بعض الأنبياء صلوات اللّه عليهم بقوّتهم القدسيّة.

و قوله: «و للبسنا» جواب محذوف، أي: و لو جعلناه رجلا للبسنا، أي:

ص: 363


1- الجنّ: 8.
2- الفرقان: 7.
3- فصّلت: 14.

لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، فيقولون: ما هذا إلّا بشر مثلكم، فحصل الاشتباه بينهم، و كذّبوه كما كذّبوا محمدا.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 10 الى 13]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [10] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [11] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [12] وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [13]

ثمّ قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تكذيب المشركين إيّاه و استهزائهم به: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزئ قومك، فلست بأوّل رسول استهزئ به، و لا هم أوّل أمّة استهزئت برسولها فَحاقَ فأحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الشي ء المستهزأ الّذي كانوا يستهزؤن به، و هو الحقّ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به. و قيل: فأحاط بهم و بال استهزائهم، أو العذاب

الّذي يسخرون من وقوعه.

قُلْ سِيرُوا سافروا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا بأبصاركم، و تفكّروا بقلوبكم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ المستهزئين بالرسل من الأمم السالفة، أي: كيف أهلكهم اللّه تعالى بعذاب الاستئصال كي تعتبروا.

ص: 364

و الفرق بينه و بين قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا (1) أنّ السير ثمّة لأجل النظر، لأنّ الفاء للسببيّة، و لا كذلك هاهنا، و لذلك قيل: معناه: إباحة السير للتجارة و غيرها، و إيجاب النظر في آثار الهالكين.

قُلْ تبكيتا لهم لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا قُلْ لِلَّهِ تقريرا لهم، و تنبيها على أنّه المتعيّن للجواب بالاتّفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. و المعنى: هو للّه، لا خلاف بيني و بينكم في ذلك، و لا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره.

كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أوجبها على ذاته و التزمها. و المراد بالرحمة ما يعمّ الدارين، و من ذلك الهداية إلى معرفته، و نصب الأدلّة على توحيده، و إنزال الكتب، و الإمهال على الكفر.

لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف و قسم للوعيد على إشراكهم و إغفالهم النظر، أي: ليجمعنّكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، فيجازيكم على شرككم.

أو ليجمعنّ آخركم إلى أوّلكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة، أو في يوم القيامة.

و «إلى» بمعنى «في» شائع. و قيل: بدل من الرحمة بدل البعض، فإنّ من رحمته بعثه إيّاكم، و إنعامه عليكم لا رَيْبَ فِيهِ في اليوم، أو الجمع.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس ما لهم، و هو الفطرة الأصليّة و العقل السليم. و موضع الموصول نصب على الذمّ، أو رفع على الخبر، أي: و أنتم الّذين، أو على الابتداء و خبره قوله: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و الفاء للدلالة على أنّ عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم، فإنّ إبطال العقل باتّباع الحواسّ و الوهم، و الانهماك في التقليد و إغفال النظر، أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر، و الامتناع من الايمان.

وَ لَهُ عطف على «للّه» ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي: ما تمكّن من

ص: 365


1- النمل: 69.

السكنى، بمعنى الحلول و النزول، لا من السكون ضدّ الحركة، و منه: سكن الدار و فيها إذا أقام. و يجوز أن يكون من السكون. و المراد: ما سكن فيها و ما تحرّك، فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر، كقوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (1). و المراد الحرّ و البرد. و الأول موافق لقول ابن عباس: و له ما استقرّ في الليل و النهار من خلق. و تعديته ب «في»، كما في قوله: وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا (2).

و المعنى: ما اشتملا عليه اشتمال الظرف على المظروف. ذكر في الأوّل السماوات و الأرض، و ذكر هنا الليل و النهار. فالأوّل يجمع المكان، و الثاني يجمع الزمان.

و هما ظرفان لجميع الموجودات، من الأجسام و الأعراض.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لكلّ مسموع الْعَلِيمُ بكلّ معلوم، فلا يخفى عليه شي ء.

و يجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم و أفعالهم.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 14 الى 16]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [14] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [15] مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [16]

قيل: إنّ أهل مكّة قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمد تركت ملّة قومك، و قد

ص: 366


1- النحل: 81.
2- إبراهيم: 45.

علمنا أنّه لا يحملك على ذلك إلّا الفقر، فإنّا نجمع لك من أموالنا حتّى تكون من أغنانا، فنزلت: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا مالكا و مولى.

و وليّ الشي ء مالكه الّذي هو أولى به من غيره. هذا إنكار لاتّخاذ غير اللّه وليّا، لا لاتّخاذ الوليّ، فلذلك قدّم و أولي همزة الاستفهام، دون الفعل الّذي هو: اتّخذ. و المراد بالوليّ المعبود، لأنّه ردّ لمن دعاه إلى الشرك.

فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما. عن ابن عبّاس: ما عرفت معنى: فاطر السماوات و الأرض، حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأت بحفرها. و جرّه على الصفة للّه، فإنّه بمعنى الماضي.

وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ يرزق و لا يرزق. و تخصيص الطعام لشدّة الحاجة إليه. و المعنى: أنّ المنافع كلّها من عنده، و لا يجوز عليه الانتفاع، فكيف أشرك بمن هو فاطر السماوات و الأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانيّة؟! قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أي: أمر ربّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أوّل من استسلم لأمر اللّه و رضي بحكمه، أو أوّل من أخلص العبادة للّه من أهل الزمان، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سابق أمّته في الدين، كقول موسى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (1). وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بترك أمره و ارتكاب نهيه، أو باتّخاذ غيره وليّا، أي: و قيل لي: و لا تكوننّ من أهل الشرك، أي: أمرت بالإسلام، و نهيت عن الشرك. و يجوز عطفه على «قل».

قُلْ إِنِّي أَخافُ قيل: معناه أوقن و أعلم. و قيل: هو من الخوف. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ

يَوْمٍ عَظِيمٍ مبالغة اخرى في قطع أطماعهم، و تعريض لهم بأنّهم عصاة مستوجبون للعذاب. و الشرط معترض بين الفعل و المفعول به. و جوابه محذوف دلّ عليه الجملة.

ص: 367


1- الأعراف: 143.

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي: يصرف العذاب عنه. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم: يصرف، على أنّ الضمير فيه للّه تعالى و المفعول به محذوف، أو يومئذ بحذف المضاف، أي: عذاب يومئذ. فَقَدْ رَحِمَهُ الرحمة العظمى الّتي هي النجاة، كما تقول: من أطعمته من جوع فقد أحسنت إليه، تريد:

فقد أتممت الإحسان إليه. أو فقد أثابه و أدخله الجنّة، لأنّ من لم يعذّب فلا بدّ أن يثاب. وَ ذلِكَ أي: الصرف أو الرحمة الْفَوْزُ الْمُبِينُ الفوز بالبغية، الظاهر البيّن.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 17 الى 18]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [17] وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [18]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يملك النفع و الضرّ إلّا هو، و لا يكشفه سواه ممّا يعبده المشركون، فقال: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يصيبك ببليّة، كمرض و فقر فَلا كاشِفَ لَهُ فلا قادر على كشفه إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بنعمة، كصحّة و غنى فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الخير و الضرّ و غير ذلك قَدِيرٌ لا يقدر أحد على دفع ما يريد لعباده من مكروه أو محبوب، فكان قادرا على حفظه و إدامته، فلا يقدر غيره على دفعه، كقوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ (1).

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ تصوير لقهره و علوّه بالغلبة و القدرة، كقوله:

وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (2). يريد أنّهم تحت تسخيره و تذليله

وَ هُوَ الْحَكِيمُ في

ص: 368


1- يونس: 107.
2- الأعراف: 127.

أمره و تدبيره الْخَبِيرُ العالم بكلّ ما يصحّ أن يخبر به، فكان عالما بالعباد و خفايا أحوالهم.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 19 الى 20]

قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [19] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [20]

روي عن الكلبي أنّ أهل مكّة قالوا: يا محمد لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر و لا صفة، فأرنا من يشهد لك أنّك رسول اللّه، فنزلت: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً

أراد: أيّ شهيد أكبر شهادة و أصدق. فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ بالتعميم، فإنّ الشي ء أعمّ العامّ، لوقوعه على كلّ ما يصحّ أن يعلم و يخبر عنه، فيقع على القديم و الجسم و العرض و المحال و المعدوم، و لذلك صحّ أن يقال في اللّه عزّ و جلّ: شي ء لا كالأشياء، بمعنى: أنّه معلوم لا كسائر المعلومات الّتي هي الأجسام و الأعراض، و لم يصحّ: جسم لا كالأجسام.

قُلِ اللَّهُ أي: اللّه أكبر شهادة. ثمّ ابتدأ فقال: شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي:

هو شهيد يشهد لي بالرسالة. و يجوز أن يكون «اللّه شهيد» هو الجواب، لأنّه تعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شي ء شهادة.

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ لأخوّفكم بالقرآن من عذاب اللّه.

ص: 369

و اكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة. وَ مَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين، أي: لأنذركم به يا

أهل مكّة و سائر من بلغه من الأسود و الأحمر، أي: من العرب و العجم، أو من الثقلين. أو لأنذركم أيّها الموجودون و من بلغه إلى يوم القيامة. و هو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله و من بعدهم، و أنّه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه.

و روى الحسن في تفسيره عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من بلغه أنّي أدعو إلى أن لا إله إلّا اللّه فقد بلغه».

يعني: بلغته الحجّة، و قامت عليه.

و عن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في تفسير العيّاشي قال أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليهما السّلام: «معناه: من بلغ أن يكون إماما من آل محمّد فهو ينذر بالقرآن، كما أنذر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» (1).

و على هذا، فيكون قوله: «و من بلغ» في موضع الرفع عطفا على الضمير في «أنذر».

ثمّ قال تقريرا لهم مع إنكار و استبعاد: أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى بعد وضوح الأدلّة، و قيام الحجّة على وحدانيّته تعالى قُلْ لا أَشْهَدُ بما تشهدون قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي: بل اشهد أن لا إله إلّا اللّه وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ به، يعني: الأصنام.

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعرفون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحليته المذكورة في التوراة و الإنجيل، و نعته الثابت فيهما، معرفة خالصة واضحة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم و صفاتهم، لا يخفون عليهم، و لا يلتبسون بغيرهم.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتاب الجاحدين و المشركين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان.

روي أنّ

عبد اللّه بن سلام قال: و أيم الّذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشدّ

ص: 370


1- تفسير العيّاشي 1: 356 ح 12 و 13.

معرفة منّي بابني، لأنّي عرفته بما نعته اللّه لنا في كتابنا، فأشهد أنّه هو، فأمّا ابني فإنّي لا أدري ما أحدثت أمّه.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 21 الى 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [21] وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [22]

ثم بيّن سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ و التهجين بالإشراك، فقال: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى اختلق عَلَى اللَّهِ كَذِباً كقولهم: الملائكة بنات اللّه، و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذّبوا بالقرآن و المعجزات، و سمّوها سحرا. و إنّما ذكر «أو» و هم قد جمعوا بين الأمرين، تنبيها على أنّ كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. و الاستفهام في معنى الجحد، أي: لا أحد أظلم منه.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوز الكافرون المتوغّلون في الكفر و الافتراء برحمة اللّه و ثوابه، و لا بالنجاة من النار.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ناصبه محذوف، تقديره: و يوم نحشرهم كان كيت و كيت، فترك ليبقى على الإبهام الّذي هو أدخل في التخويف ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي: آلهتكم الّتي جعلتموها شركاء للّه تعالى. و قرأ يعقوب:

يحشرهم و يقول بالياء. الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي: تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. و المراد من الاستفهام التوبيخ. و يجوز أن يحال بينهم و بين آلهتهم حينئذ، ليفقدوها في الساعة الّتي علّقوا بها الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم و حسرتهم. و يحتمل أن يشاهدوهم، و لكن لمّا لم ينفعوهم

فكأنّهم غيّب عنهم.

ص: 371

و في الآية دلالة واضحة على بطلان الجبر، و على إثبات المعاد، و حشر جميع الخلائق.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 23 الى 24]

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [23] انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [24]

ثمّ بيّن سبحانه جواب القوم عند توجّه التوبيخ إليهم، فقال: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي: كفرهم. و المراد عاقبته. يعني: ثمّ لم يكن عاقبة كفرهم الّذي لزموه مدّة أعمارهم، و قاتلوا عليه، و افتخروا به، و قالوا دين آبائنا. إِلَّا أَنْ قالُوا من فرط الحسرة و الدهشة وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ يكذبون و يحلفون عليه، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم، و ذلك كأنّ الممتحن ينطق بما ينفعه و بما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة و دهشا. ألا تراهم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (1) و قد أيقنوا بالخلود، و لم يشكّوا فيه. و قالوا: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ (2) و قد علموا أنّهم لا يقضى عليهم.

و المعنى: جحدوا الكفر و تبرّؤا منه، و حلفوا على الانتفاء من التديّن به، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم ذلك القول.

و قيل: المراد من فتنتهم معذرتهم الّتي يتوهّمون أن يتخلّصوا بها، من: فتنت الذهب إذا خلّصته.

و قيل: جوابهم. و إنّما سمّاه فتنة لأنّه كذب، أو لأنّهم قصدوا به الخلاص.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حفص: لم تكن بالتاء، و فتنتهم بالرفع، على أنّها

ص: 372


1- المؤمنون: 107.
2- الزخرف: 77.

الاسم. و نافع و أبو عمرو و أبو بكر بالتاء و النصب، على أنّ الاسم «أن قالوا»، و التأنيث للخبر، كقولهم: من كانت أمّك؟ و الباقون بالياء و النصب.

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: بنفي الشرك عنها. و المراد بالاستفهام التنبيه على التعجيب منهم. و قول من يقول: المعنى: ما كنّا مشركين عند أنفسنا، و ما علمنا أنّا على خطأ في معتقدنا، و حمل قوله: «انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» في الدنيا، فتمحّل و تعسّف يخلّ بالنظم. و ما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ (1) بعد قوله: وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ « (2)» فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.

و قرأ حمزة و الكسائي: ربّنا بالنصب، على النداء و المدح.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الشركاء.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 25 الى 26]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [25] وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ [26]

روي أنّ أبا سفيان و الوليد و النضر و عتبة و شيبة و أبا جهل و أضرابهم اجتمعوا فسمعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ: فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول؟: فقال: و الّذي

ص: 373


1- المجادلة: 18 و 14.
2- المجادلة: 18 و 14.

جعلها- أي: الكعبة- بيته ما أدري ما يقول، إلّا أنّه يحرّك لسانه و يقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدّثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان: إنّي لأراه حقّا.

فقال: أبو جهل: كلّا فنزلت:

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ

حين تتلو القرآن وَ جَعَلْنا عَلى

قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان، و هو ما يستر الشي ء أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنع من استماعه. و الأكنّة في القلوب و الوقر (1) في الآذان مثل في نبوّ قلوبهم و سامعتهم عن قبوله و اعتقاد صحّته. و وجه إسناد الفعل إلى ذاته- و هو قوله:

«و جعلنا»- للدلالة على أنّه ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنّهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ (2). و قد مرّ (3) تحقيق ذلك في أوّل سورة البقرة عند قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ

و قال القاضي أبو عاصم العامري: أصحّ الأقوال فيه ما

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي بالليل، و يقرأ القرآن في الصلاة جهرا، رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبّر معانيه و يؤمن به. فكان المشركون إذا سمعوه آذوه، و منعوه عن الجهر بالقراءة. فكان اللّه تعالى يلقي عليهم النوم، أو يجعل في قلوبهم أكنّة ليقطعهم عن مرادهم، و ذلك بعد ما بلغهم ممّا تقوم به الحجّة و تنقطع به المعذرة، و بعد ما علم اللّه سبحانه أنّهم لا ينتفعون بسماعه و لا يؤمنون به، فشبّه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم و بوقر آذانهم، لأنّ ذلك كان يمنعهم من التدبّر، كالوقر و الغطاء. و هذا معنى قوله تعالى: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

ص: 374


1- و قرت أذنه و قرا: ثقلت أو ذهب سمعه كله و صمت أذنه.
2- فصلت: 5.
3- راجع ج 1: 53- 54.

حِجاباً مَسْتُوراً (1). و هو قول أبي

علي الجبائي.

و يحتمل ذلك وجها آخر، و هو أنّه تعالى يعاقب هؤلاء الكفّار الّذين علم أنّهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم، يكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه.

و يحتمل أيضا أن يكون سمّى الكفر الّذي في قلوبهم كنّا تشبيها و مجازا، و إعراضهم عن تفهّم القرآن و قرا توسّعا، لأنّ مع الكفر و الإعراض لا يحصل الإيمان و الفهم، كما لا يحصلان مع الكنّ و الوقر. و نسب ذلك إلى نفسه، لأنّه الّذي شبّه أحدهما بالآخر، كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان و ذكر مناقبه: جعلته فاضلا، و بالضدّ إذا ذكر مقابحه و فسقه يقول: جعلته فاسقا، و كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا، و كلّ ذلك يراد به الحكم عليه بذلك، و الإبانة عن حاله، كما قال الشاعر:

جعلتني باخلا كلّا و ربّ منى إنّي لأسمح كفّا منك في اللزب (2)

و معناه: سمّيتني باخلا.

وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم، و استحكام التقليد فيهم حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى غاية أنّهم جاؤك يجادلونك. و «حتى» هي الّتي تقع بعدها الجمل لا عمل لها. و الجملة قوله: «إذا جاؤك»، و جوابه و هو قوله: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإنّ جعل أصدق الحديث خرافات الأوّلين و أكاذيبهم- كحديث رستم و إسفنديار، و غيره ممّا لا فائدة فيه، و لا طائل تحته، و غير مطابق للواقع- غاية التكذيب. و «يجادلونك» حال لمجيئهم.

و يجوز أن تكون «حتّى» هي الجارّة، و «إذا جاؤك» في موضع الجرّ،

ص: 375


1- الإسراء: 45.
2- اللزبة: الشدّة و القحط، و جمعها: لزب.

و «يجادلونك» جواب، و «يقول» تفسير له.

و الأساطير: الأباطيل، و كلّ كلام لا نظام له. جمع اسطارة و اسطيرة بكسرهما، و اسطورة بالضمّ، و بالهاء في الكلّ. أو جمع أسطار جمع سطر. و أصله السطر بمعنى الخطّ و الكتابة.

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي: ينهون الناس عن استماع القرآن، أو الرسول و الإيمان به. وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ و يتباعدون عنه بأنفسهم فرارا منه، فيضلّون و يضلّون. وَ إِنْ يُهْلِكُونَ و ما يهلكون بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ أنّ ضرره لا يتعدّى إلى غيرهم، و إن كانوا يظنّون أنّهم يضرّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. هكذا قال ابن عبّاس و محمّد بن الحنفيّة و الحسن و السّدي و قتادة و مجاهد في تفسيره. و اختاره الجبائي.

و قال عطاء و مقاتل من العامّة: إنّ المراد به أبو طالب بن عبد المطّلب، لأنّه كان ينهى قريشا عن التعرّض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ينأى عنه، فلا يؤمن به. فمعناه:

يمنعون الناس عن أذى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يتّبعونه بالإيمان.

و هذا لا يصحّ، لأنّ هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها، و ما تأخّر عنها معطوف عليها، و كلّها في ذمّ الكفّار المعاندين للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. هذا و قد ثبت إجماع أهل البيت عليهم السّلام على إيمان أبي طالب، و إجماعهم حجّة، لأنّهم أحد الثقلين اللّذين أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتمسّك بهما

بقوله: «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

و يدلّ على ذلك أيضا ما

رواه ابن عمر أنّ أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألا تركت الشيخ فآتيه؟ و كان أعمى. فقال أبو بكر: أردت أن يأجره اللّه، و الّذي بعثك بالحقّ لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا منّي بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرّة عينك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صدقت.

ص: 376

و روى الطبري (1) بإسناده: «أنّ رؤساء قريش لمّا رأوا ذبّ أبي طالب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اجتمعوا عليه، و قالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك، و تدفع إلينا ابن أخيك الّذي فرّق جماعتنا و سفّه أحلامنا فنقتله. فقال أبو طالب: ما أنصفتموني، تعطونني ابنكم فأغذوه، و أعطيكم ابني فتقتلونه! بل فليأت كلّ امرئ منكم بولده فأقتله. و قال:

منعنا الرسول رسول المليك ببيض تلألأ كلمح البروق

أذود و أحمي رسول المليك حماية حام عليه شفيق

و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى، فمن ذلك قوله:

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمدانبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و منه:

ألا إنّ أحمد قد جاءهم بحقّ و لم يأتهم بالكذب

و قوله حين يحضّ أخاه حمزة على اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الصبر في طاعته:

صبرا أبا يعلى على دين أحمد (2) ... إلى قوله

.... فكن لرسول اللّه في اللّه ناصرا و قوله في قصيدته:

أقيم على نصر النبيّ محمدأقاتل عنه بالقنا (3) و القنابل

ص: 377


1- تاريخ الطبري 2: 326- 327.
2- تمام البيت:و كن مظهرا للدين وفّقت صابرا فقد سرّني إذ قلت إنّك مؤمن فكن لرسول ...........
3- القنا جمع القناة: الرمح. و القنابل جمع القنبلة: الطائفة من الناس أو الخيل.

و قوله يحضّ النجاشي على نصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

تعلّم مليك الحبش أنّ محمداوزير لموسى و المسيح بن مريم

أتى بهدى مثل الّذي أتيا به و كلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم

و إنّكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث المرجّم

فلا تجعلوا للّه ندّا و أسلمواو أنّ طريق الحقّ ليس بمظلم

و قوله في وصيّته و قد حضرته الوفاة:

أوصي بنصر النبيّ الخير مشهده عليّا ابني و شيخ القوم عبّاسا

و حمزة الأسد الحامي حقيقته و جعفرا أن يذودا دونه الناسا

و أمثال هذه الأبيات ممّا هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبه، يطول بها الكتاب.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 27 الى 28]

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [27] بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [28]

ثمّ بيّن سبحانه ما ينال هؤلاء الكفّار يوم القيامة من الحسرة و تمنّي الرجعة، فقال: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ حتّى يعاينوها أو يطّلعون عليها اطّلاعا هي تحتهم. و جوابه محذوف، أي: لو تراهم حين يوقفون على النار لرأيت أمرا شنيعا.

و قيل: معناه: ادخلوها فعرفوا مقدار عذابها، مأخوذا من قولك: وقفته على كذا، إذا عرّفته و فهّمته.

فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ تمنّيا للرجوع إلى الدنيا وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ

ص: 378

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وعد منهم بالإيمان، كأنّهم قالوا: و نحن لا نكذّب و نؤمن، استئنافا منهم على وجه الإثبات. و شبّهه سيبويه بقولهم: دعني و لا أعود، أي و أنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني.

و يجوز أن يكون معطوفا على «نردّ»، أو حال من الضمير فيه، فيكون في حكم التمنّي. و حينئذ قوله: «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» راجع إلى ما تضمّنه التمنّي من الوعد، فيجوز أن يتعلّق به التكذيب. فلا يرد أن التمنّي لا يكون كاذبا فكيف يتعلّق به التكذيب؟ و هذا كما يقول الرجل: ليت اللّه يرزقني مالا فأحسن إليك و أكافئك على صنيعك. فهذا متمنّى في معنى الوعد. فلو رزق مالا و لم يحسن إلى صاحبه و لم يكافئه كذب، كأنّه قال: إن رزقني اللّه مالا كافأتك على الإحسان.

و نصبهما حمزة و يعقوب و حفص على الجواب، بإضمار «أن» بعد الواو، إجراء لها مجرى الفاء. و معناه: إن رددنا لم نكذّب و نكن من المؤمنين. و قرأ ابن عامر برفع الأوّل على العطف، و نصب الثاني على الجواب.

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمنّي. و المعنى: أنّه، ظهر لهم ما كانوا يخفون من الناس من قبائح أعمالهم في صحفهم، و بشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنّوا ذلك ضجرا، لا أنّهم عازمون على أنّهم لو ردّوا لآمنوا.

قيل: هو في المنافقين، أي: يظهر نفاقهم الّذي كانوا يسرّونه.

و قيل: هو في أهل الكتاب، أي: يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحّة نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ لَوْ رُدُّوا أي: إلى الدنيا بعد الوقوف على النار و ظهور ما كانوا يخفون لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر و المعاصي وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا به من أنفسهم، لا يؤمنون به.

ص: 379

[سورة الأنعام [6]: الآيات 29 الى 32]

وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [29] وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا

عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [30] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [31] وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [32]

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار، و إنكارهم البعث و النشور و الحشر و الحساب، فقال: وَ قالُوا عطف على «لعادوا» أي: و لو ردّوا لكفروا و لقالوا. أو على «أنّهم لكاذبون» على معنى: و أنّهم لقوم كاذبون في كلّ شي ء، و هم الّذين قالوا. أو على «نهوا». أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا. إِنْ هِيَ ما الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا عنوا بذلك أنّه لا حياة في الآخرة، و إنّما هي هذه الّتي حيينا بها في الدنيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ لسنا مبعوثين بعد الموت، أي: قالوا ذلك كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة.

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسؤال و التوبيخ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه ليعاتبه. و قيل: معناه: وقفوا على قضاء ربّهم أو جزائه، أو عرّفوه حقّ التعريف، كما يقال: وقفته على كلام فلان، أي: عرّفته إيّاه.

قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ كأنّه جواب قائل قال: ماذا قال ربّهم حينئذ؟ و الهمزة

ص: 380

للتقريع على التكذيب بالبعث، و الإشارة إلى البعث و ما يتبعه من الثواب و العقاب قالُوا بَلى هو حقّ وَ رَبِّنا أكّدوا اعترافهم به و أقرّوا به باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

بسبب كفركم، أو ببدله. و إنّما قال: «ذوقوا» لأنّهم في كلّ حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدّة الاحساس.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إذ فاتهم النعيم، و استوجبوا العذاب المقيم.

و المراد لقاء ما وعد اللّه به من البعث و ما يتبعه من الثواب و العقاب. و جعل لقاءهم لذلك لقاء له تعالى مجازا. و هذا منقول عن ابن عبّاس و الحسن.

حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ غاية ل «كذّبوا» لا ل «خسر» لأنّ خسرانهم لا غاية له بَغْتَةً فجأة من غير أن علموا وقتها. و نصبها على الحال، بمعنى باغتة، أو المصدر، فإنّها نوع المجي ء، كأنّه قيل: بغتتهم الساعة بغتة. و لمّا كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة و مقدّماتها جعل من جنس الساعة، و سمّي باسمها، و لذلك

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من مات فقد قامت قيامته».

أو جعل مجي ء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة، فتحسّرهم عند موتهم لا ينافي هذه الغاية.

قالُوا عند معاينة ذلك اليوم و أهواله، و تباين أحوال أهل الثواب و العقاب يا حَسْرَتَنا أي: تعالي فهذا أوانك عَلى ما فَرَّطْنا قصّرنا فِيها في الحياة الدنيا، أضمرت و إن لم يجر ذكرها للعلم بها. أو في الساعة، يعني: في شأنها و الإيمان بها، كما تقول: فرّطت في فلان، و منه: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (1). وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تمثيل لاستحقاقهم أثقال الآثام. و هو مثل قوله:

ص: 381


1- الزمر: 56.

فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (1) لأنّ الأثقال تحمل على الظهور في العادة، كما أنّ الكسب يكون في الأيدي.

روي أنّ المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شي ء صورة و أطيبه ريحا

فيقول: أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم

، فذلك قوله:

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (2) أي: ركبانا. و أنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شي ء صورة و أخبثه ريحا فيقول: أنا عملك السيّ ء طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم، و ذلك قوله: «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ». أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه وزرهم، بحذف المخصوص بالذمّ.

وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا و ما أعمالها إِلَّا لَعِبٌ و هو الّذي لا يعقّب نفعا وَ لَهْوٌ و ما يلهي الناس و يشغلهم عمّا يعقّب منفعة دائمة و لذّة حقيقيّة. و هو جواب لقولهم: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا».

وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ و ما فيها من أنواع النعيم خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها و خلوص منافعها و لذّاتها. و قوله: «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» تنبيه على أنّ ما سوى أعمال المتّقين لعب و لهو. و قرأ ابن عامر: و لدار الآخرة. تقديره: و لدار الساعة الآخرة.

أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيّ الأمرين خير.

و قرأ نافع و ابن عامر و حفص عن عاصم و يعقوب بالتاء، على خطاب المخاطبين به، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.

و في الآية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا، و تقريع للأغنياء إذا ركنوا إلى حطامها، و لم يعملوا لغيرها.

ص: 382


1- الشورى: 30.
2- مريم: 85.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 33 الى 34]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [33] وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [34]

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه على تكذيبهم إيّاه بعد إقامة

الحجّة عليهم، فقال: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ معنى «قد» زيادة الفعل و كثرته، كقوله (1):

و لكنّه قد يهلك المال نائله.

فهو هاهنا بمنزلة «ربّما» الّذي يجي ء لزيادة الفعل و كثرته. و الهاء في «أنّه» للشأن. و قرأ نافع: ليحزنك من: أحزن. و «الّذي يقولون» هو قولهم: شاعر و مجنون و ساحر و كذّاب.

فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة، و إنّما يكذّبون اللّه، لأنّك رسوله المصدّق بالمعجزات، فتكذيبك راجع إليه و إلى جحود آياته. و نحوه قول السيّد لعبده إذا أهانه بعض الناس: إنّهم لم يهينوك، و إنّما أهانوني. و من هذه الطريقة قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (2). و قيل: معناه: فإنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم،

ص: 383


1- من قصيدة لزهير بن أبي سلمى، صدر البيت:أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله
2- الفتح: 10.

و لكنّهم يجحدون بألسنتهم، كقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (1).

و قرأ نافع و الكسائي: لا يكذبونك، من: أكذبه، إذا وجده كاذبا أو نسبه إلى الكذب.

وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ و لكنّهم يجحدون بآيات اللّه و يكذبونها. فوضع الظالمين موضع الضمير، للدلالة على أنّهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرّنهم على الظلم. و الباء لتضمين الجحود معنى التكذيب.

و عن ابن عبّاس: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمّى الأمين، فعرفوا أنّه لا يكذب في شي ء، و لكنّهم كانوا يجحدون.

و روي أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صادق هو أم كاذب؟ فإنّه ليس هاهنا أحد غيري و غيرك يسمع كلامنا.

فقال: و يحك و اللّه إنّ محمدا صادق، و ما كذب قطّ، و لكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء و السقاية (2) و الحجابة و النبوّة فما ذا يكون لسائر قريش؟

و روى سلام بن مسكين، عن أبي بريد المدني، أنّ رسول اللّه لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك، فقال: و اللّه إنّي لأعلم أنّه صادق، و لكنّا متى كنّا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل اللّه تعالى الآية.

ثمّ قال لمزيد تسلية: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ و فيه دليل على أنّ قوله:

«لا يُكَذِّبُونَكَ» ليس لنفي تكذيبه، بل تكذيب مرسله، و هو اللّه تعالى، كما مرّ.

فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا على ما نالهم منهم من التكذيب و الأذى في أداء الرسالة، فتأسّ بهم و اصبر حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا إيّاهم على المكذّبين. و فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله:وَ لَقَدْ سَبَقَتْ

ص: 384


1- النمل: 14.
2- في هامش النسخة الخطية: «السقاية: حياض من أدم، يسقون الحاج منها. و الحجابة:سدنة الكعبة. منه».

كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (1) الآيات. وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: بعض قصصهم و ما كابدوا من قومهم.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 35 الى 36]

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [35] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [36]

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعظم عليه إعراض قومه عن الإيمان و قبول دينه، فنزلت: وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ

عظم و شقّ إِعْراضُهُمْ عنك و عن الإيمان بما جئت به فَإِنِ اسْتَطَعْتَ قدرت و تهيّأ لك أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أن تطلب سربا

و منفذا تنفذ فيه إلى ما تحتها، فتطلع لهم آية يؤمنون عندها أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ أو مصعدا تصعد إلى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي بآية ملجئة إلى إيمانهم فافعل، أي: انّك لا تستطيع ذلك. و حذف جواب «إن».

و «في الأرض» صفة ل «نفقا»، و «في السماء» صفة ل «سلّما». و يجوز أن يكونا متعلّقين ب «تبتغي» أو حالين من المستكن. و الجملة الشرطيّة مع جوابها المحذوف جواب الشرط الأوّل.

و المقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، و أنّه لو قدر أن يأتيهم بآية

ص: 385


1- الصافات: 171.

من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بأن يأتيهم بآية ملجئة، و لكن لم يفعل، لخروجه عن الحكمة، فإنّ الإلجاء مناف للتكليف الّذي هو مناط للعبادة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الّذين يجهلون ذلك، و يرومون ما هو خلافه. أو من الجهلة بالحرص على ما لا يكون، و الجزع في مواطن الصبر، فإنّ ذلك من دأب الجهلة.

و المراد: لا تجزع و لا تتحسّر لكفرهم و إعراضهم عن الإيمان. و غلّظ الخطاب تبعيدا و زجرا عن هذه الحال.

إِنَّما يَسْتَجِيبُ أي: ما يجيب الإيمان إلّا الَّذِينَ يَسْمَعُونَ بفهم و تأمّل، و يصغون إليك و إلى ما تقرأ عليهم من القرآن فينقادون له، كقوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (1). و هؤلاء الكفّار الّذين تحرص على إيمانهم كالموتى الّذين لا يسمعون، فكما أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم اللّه، فكذلك آيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك. وَ الْمَوْتى أي: الّذين كالموتى في عدم الإصغاء لجاجا يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ من القبر، فيعلمهم حين لا ينفعهم الايمان ثُمَّ إِلَيْهِ إلى

جزائه يُرْجَعُونَ فحينئذ يسمعون و إن لم ينفعهم، و أمّا قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم.

[سورة الأنعام [6]: آية 37]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [37]

ثمّ عاد إلى حكاية أقوال الكفّار، فقال عاطفا على ما تقدّم: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ بمعنى: أنزل عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي: آية ممّا اقترحوه، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة، لعدم اعتدادهم بها عنادا.

ص: 386


1- ق: 37.

قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ممّا اقترحوه، أو آية تضطرّهم إلى الإيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوها هلكوا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ اللّه قادر على إنزالها، و أنّ الصارف من الحكمة يصرفه عن إنزالها، و أنّ إنزالها يستجلب عليهم البلاء، و أنّ لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. و قرأ ابن كثير: ينزل بالتخفيف.

و المعنى واحد.

[سورة الأنعام [6]: آية 38]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [38]

و لمّا بيّن سبحانه أنّه قادر على أن ينزل آية، عقّبه بذكر ما يدلّ على كمال قدرته و حسن تدبيره و حكمته، فقال: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدبّ على وجهها وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ في الهواء. وصفه به قطعا لمجاز السرعة و نحوها.

و في الكشّاف (1): فائدة ذكر قوله: «في الأرض» و قوله: «يطير بجناحيه» زيادة التعميم و الإحاطة، كأنّه قيل: و ما من دابّة قطّ في جميع الأرضين السبع، و ما من طائر قطّ في جوّ السماء، و من جميع ما يطير بجناحيه إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها، مقدّرة أرزاقها و آجالها، كما كتبت أرزاقكم و آجالكم و أعمالكم.

و قيل: أشباهكم في أنّ اللّه أبدعها، و في دلالتها على وحدانيّته، و في أنّهم يموتون و يحشرون. و جمع الأمم للحمل على المعنى، فإنّ النكرة في سياق النفي مفيدة للاستغراق، مغن أن يقال: و ما من دوابّ و لا طير. و المقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته، و شمول علمه، وسعة تدبيره في تلك الخلائق المتقاربة الأجناس المتكاثرة الأصناف، و حفظه لما لها و عليها، و اطّلاعه على أحوالها، لا يشغله شأن

ص: 387


1- الكشّاف 2: 21.

عن شأن، و على أنّ المكلّفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. فالآية كالدليل على أنّه قادر على أن ينزّل آية.

ما فَرَّطْنا ما تركنا و ما أغفلنا فِي الْكِتابِ يعني: اللوح المحفوظ مِنْ شَيْ ءٍ من الأرزاق و الآجال و الأعمال و غير ذلك، فإنّه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل و دقيق، لم يهمل فيه أمر حيوان و لا جماد.

و قيل: المراد به القرآن، فإنّه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مجملا أو مفصّلا. و «من» زائدة، و «شي ء» في موضع المصدر لا المفعول به، فإنّ «فرّط» لا يتعدّى بنفسه، و قد عدّي ب «في» إلى الكتاب.

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني: الأمم كلّها، فينصف بعضها من بعض، كما روي أنّه يأخذ للجمّاء (1) من القرناء. و عن ابن عبّاس حشرها موتها.

[سورة الأنعام [6]: آية 39]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [39]

و بعد ذكر آثار قدرته، و بيان ما يشهد لربوبيّته، و ينادي على عظمته، بيّن حال المتمرّدين المعاندين بقوله: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌ أي: لا

يسمعون مثل هذه الآيات الدالّة على ربوبيّته و كمال علمه و عظم قدرته، سماعا تتأثّر به نفوسهم وَ بُكْمٌ لا ينطقون بالحقّ فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث، أي: خابطون في ظلمات الكفر، أو في ظلمة الجهل، و ظلمة العناد، و ظلمة التقليد. و يجوز أن يكون حالا من المستكن في الخبر.

مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي: يخذله و يخلّه، فلا يلطف له، لأنّه ليس من أهل

ص: 388


1- أي: ينتقم من العنزة القرناء- و هي التي لها قرن- للجمّاء، و هي التي لا قرن لها.

اللطف. و هم الّذين وضح لهم طريق الحقّ فأعرضوا عنها عنادا و لجاجا و إنكارا.

وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: يلطف به، لأنّ اللطف يجدي أهل الاستصواب و الاسترشاد.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 40 الى 41]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [40] بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ [41]

ثم أمر سبحانه نبيّه بمحاجّة الكفّار، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ استفهام تعجيب.

و الكاف حرف الخطاب أكّد به الضمير للتأكيد، لا محلّ له من الإعراب، لأنّك تقول: أ رأيتك زيدا ما شأنه؟ فلو جعلت الكاف مفعولا- كما قاله الكوفيّون- لعدّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، و ذلك فاسد، و للزم في الآية أن يقال: أ رأيتموكم.

بل الفعل معلّق، أو المفعول محذوف، تقديره: أ رأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها.

و المعنى: أخبروني.

إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في الدنيا كما أتى من قبلكم أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ و هولها، و يدلّ عليه أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي: أ تخصّون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون اللّه دونها، أو تخصّون اللّه دونها؟!

و هذا تبكيت لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ الأصنام آلهة. و جوابه محذوف، أي: فادعوه.

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصّونه بالدعاء، كما حكى عنهم في مواضع. و تقديم المفعول لإفادة التخصيص. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي: ما تدعونه إلى كشفه إِنْ شاءَ أن يتفضّل عليكم بكشفه و لم يكن مفسدة وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ و تتركون

ص: 389

آلهتكم في ذلك الوقت، لما ركز في العقول على أنّه القادر على كشف الضرّ دون غيره. أو تنسونه من شدّة الأمر و هوله.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 42 الى 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [42] فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [43] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [44] فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [45]

ثمّ أعلم اللّه سبحانه نبيّه حال الأمم الماضية في مخالفة رسله، و بيّن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم في نزول العذاب بهم، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي: قبلك. و «من» زائدة للتأكيد. فَأَخَذْناهُمْ أي: فكفروا و كذّبوا المرسلين فأخذناهم بِالْبَأْساءِ بالشدّة و الفقر، من البأس أو البؤس وَ الضَّرَّاءِ و الضرّ و الآفات. و قيل: البأساء من القحط و الجوع، و الضرّاء: المرض و نقصان الأنفس و الأموال. و المراد: أخذناهم بالبليّات في أنفسهم و أموالهم. و هما صيغتا تأنيث لا مذكّر لهما. لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ لكي يتذلّلوا لنا، و يتوبوا عن ذنوبهم.

فَلَوْ لا حرف التحضيض، أي: فهلّا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه:

نفي تضرّعهم في

ذلك الوقت، كأنّه قيل: و لم يتضرّعوا إذ جاءهم بأسنا مع قيام ما

ص: 390

يدعوهم. و لكنّه جاء ب «لولا» ليدلّ على أنّه لم يكن له عذر في ترك التضرّع إلّا عنادهم و قسوة قلوبهم، و إعجابهم بأعمالهم الّتي زيّنها الشيطان لهم، كما قال:

وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ استدراك على المعنى، و بيان للصارف لهم عن التضرّع، و أنّه لا مانع لهم إلّا قساوة قلوبهم، و إعجابهم بأعمالهم الّتي زيّنها الشيطان لهم.

و في هذا حجّة على من قال: إنّ اللّه لم يرد من الكافر إيمانا، لأنّه سبحانه بيّن أنّه إنّما فعل ذلك بهم ليتضرّعوا، و بيّن أنّ الشيطان هو الّذي زيّن الكفر للكافر، بخلاف ما قالت المجبّرة من أنّه سبحانه هو المزيّن لهم ذلك.

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا ما وعظوا به من البأساء و الضرّاء، و لم يتّعظوا به فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ من أنواع النعم، امتحانا لهم بالصحّة و التوسعة بعد السقم و النقم، إلزاما للحجّة و إزاحة للعلّة، كما يفعل الوالد البارّ بولده العاقّ المخاشنة تارة و الملاطفة أخرى، لصلاحه. أو مكرا بهم، لما

روي أنّه عليه السّلام قال: مكر بالقوم و ربّ الكعبة.

و قرأ ابن عامر: فتّحنا بالتشديد في جميع القرآن. و وافقه يعقوب فيما عدا هذا و الّذي في الأعراف (1).

حَتَّى إِذا فَرِحُوا أعجبوا بِما أُوتُوا من النعم، و اشتغلوا بالتلذّذ، و أظهروا البطر بما أعطوه، و لم يروه نعمة من اللّه ليشكروه أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً مفاجأة من حيث لا يشعرون فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة و الرحمة، متحسّرون منقطعوا الحجّة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا رأيت

اللّه يعطي على المعاصي فإنّ ذلك استدراج منه، ثمّ تلا هذه الآية».

ص: 391


1- الأعراف: 96.

و نحوه ما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «يا ابن آدم إذا رأيت ربّك يتابع عليك نعمه فاحذره».

فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: آخرهم، بحيث لم يبق منهم أحد، فلم يبق لهم عقب و لا نسل، من: دبره دبرا و دبورا، إذا تبعه وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم و إعلاء كلمته، فإنّ إهلاك الكفّار و العصاة- من حيث إنّه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم و أعمالهم- نعمة جليلة يحقّ أن يحمد عليها. و فيه إيذان بوجوب الحمد للّه عند هلاكه للظلمة، فإنّه من أجلّ النعم.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصى اللّه، و من أحبّ أن يعصى اللّه فقد بارز اللّه بالعداوة، و إنّ اللّه حمد نفسه على إهلاك الظالمين، فقال: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

[سورة الأنعام [6]: الآيات 46 الى 47]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [46] قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [47]

ثمّ زاد سبحانه في الاحتجاج عليهم، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ أي: أصمّكم و أعماكم وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطّي عليها ما يزول به عقلكم و فهمكم، و يسلب تمييزكم مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي: بذلك، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أو بما أخذ و ختم عليه، أو بأحد هذه المذكورات.

ص: 392

انْظُرْ

كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نكرّرها تارة في جهة النعمة، و مرّة في جهة الشدّة، و تارة من جهة الترغيب و الترهيب، و تارة بالتنبيه و التذكير بأحوال المتقدّمين ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعرضون عنها. و «ثمّ» لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات و ظهورها. و إنّما قال: «انظر» لأنّه سبحانه عجب أوّلا من تتابع نعمه عليهم و ضروب دلائله، من تعريف الآيات و أسباب الاعتبار، ثمّ عجب ثانيا من إعراضهم عنها.

و لمزيد التنبيه و المبالغة في رفع الأعذار زاد في الحجاج، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ أي: أعلمتم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً من غير ظهور مقدّمة أَوْ جَهْرَةً بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله. فمقابلة الجهرة البغتة، لما في البغتة من معنى الخفية.

و قيل: البغتة أن يأتيهم العذاب ليلا، و الجهرة أن يأتيهم نهارا. هَلْ يُهْلَكُ أي: ما يهلك هلاك سخط و تعذيب إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الكافرون الّذين ظلموا بكفرهم و فسادهم. و لمّا كانت «هل» متضمّنة للنفي صحّ الاستثناء المفرّغ منه.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 48 الى 49]

وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [48] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [49]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كلّ شي ء يسألون عنه من الآيات، و إنّما يرسلهم لما يعلمه من المصالح، فقال: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين و من آمن بهم و أطاعهم بالجنّة وَ مُنْذِرِينَ من كذّبهم و عصاهم بالنار. و لم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم

ص: 393

بالبراهين القاطعة.

فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ ما يجب إصلاحه ممّا شرع لهم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات

الثواب.

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: بأدلّتنا و حججنا. و قيل: بمحمد و معجزاته يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ أي: يصيبهم ماسّا لهم، كأنّ العذاب حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم و خروجهم عن التصديق و الطاعة.

[سورة الأنعام [6]: آية 50]

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ [50]

ثمّ أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهم بعد اقتراحهم الآية منه: إنّي لا أدّعي الربوبيّة و لوازمها، من الاقتدار على كلّ شي ء و العلم بالمغيّبات، و لا الملكيّة لأفعل كلّ ما اقترحتموه، و إنّما أدّعي النبوّة، فقال: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مقدوراته، أو خزائن رزقه، أو خزائن رحمته، أي: لا أدّعي أنّي مالك خزائن اللّه.

وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ الّذي يختصّ اللّه بعلمه، و لم يوح إليّ، و لم ينصب عليه دليل. و عن ابن عبّاس: لا أعلم عاقبة ما تصيرون إليه، و إنّما أعلم منه قدر ما يعلّمني اللّه و يخصّني به. و هو من جملة القول، فهو عطف على محلّ قوله: «عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ»، كأنّه قال: لا أقول لكم هذا القول، و لا هذا القول.

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي: من جنس الملائكة، أو أقدر على ما يقدرون عليه، بل إنّي إنسان مثلكم تعرفون نسبي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ فلا أخبركم إلّا

ص: 394

بما أنزل اللّه إليّ، تبرّأ عن دعوى الألوهيّة أو الملكيّة، و أدّعي النبوّة الّتي هي من الكمالات البشريّة، ردّا لاستبعادهم دعواه، و جزمهم على فساد مدّعاه.

قُلْ

هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ مثل للضالّ و المهتدي، أو الجاهل و العالم، أو مدّعي المستحيل كالألوهيّة أو الملكيّة، و مدّعي المستقيم كالنبوّة.

و الهمزة للإنكار، أي: لا يستويان. أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا، أو فتميّزوا بين ادّعاء الحقّ و الباطل، أو فتعلموا أنّ اتّباع الوحي ممّا لا محيص عنه.

[سورة الأنعام [6]: آية 51]

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [51]

ثمّ أمر سبحانه بعد تقديم البيّنات بالإنذار، فقال: وَ أَنْذِرْ بِهِ الضمير ل «ما يُوحى إِلَيَّ» الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ هم المؤمنون المفرّطون في العمل، أو المجوّزون للحشر، مؤمنا كان أو كافرا، مقرّا به أو متردّدا فيه، فإنّ الإنذار ينجع فيهم، دون الفارغين الجازمين باستحالته.

و قال الصادق عليه السّلام: «أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربّهم، ترغّبهم فيما عنده، فإنّ القرآن شافع مشفّع لهم».

لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ فإنّ شفاعة الشافعين من الأنبياء و المؤمنين تكون بإذن اللّه، لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (1) فهي راجعة إلى اللّه تعالى. و هذه الجملة في موضع الحال من «يحشروا». و المعنى:

يخافون أن يحشروا غير منصورين و لا مشفوعا لهم، فإنّ المخوف هو الحشر على هذه الحالة.

ص: 395


1- البقرة: 255.

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يدخلوا في زمرة أهل التقوى من المؤمنين، بأن ينتهوا عمّا نهوا عنه، و يمتثلوا ما أمروا به.

[سورة الأنعام [6]: آية 52]

وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [52]

ثمّ أردفهم ذكر المتّقين منهم، و أمر رسوله بتقريبهم و إكرامهم، و أن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، و أن لا يطردهم ترضية لقريش، و أثنى عليهم بأنّهم يواصلون دعاء ربّهم- أي: عبادته- و يواظبون عليها، فقال: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ المراد بذكر الغداة و العشيّ الدوام. و قيل: صلاة الصبح و العصر. و قرأ ابن عامر: بالغدوة.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يطلبون ثوابه، و يبتغون مرضاته. و هو حال من «يدعون» أي: يدعون ربّهم مخلصين فيه. و الوجه يعبّر به عن ذات الشي ء و حقيقته. و قيّد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنّه ملاك الأمر. و رتّب النهي عليه إشعارا بأنّه يقتضي إكرامهم، و ينافي إبعادهم.

روى الثعلبي بإسناده عن عبد اللّه بن مسعود قال: «مرّ رؤساء قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده صهيب و خباب و بلال و عمّار و نظائرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أ فنحن نكون تبعا لهم؟

أ هؤلاء الّذين منّ اللّه عليهم؟ اطردهم عنك، فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك. فأنزل اللّه تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ» إلى آخره.

ص: 396

قال سلمان و خباب: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري، و ذووهم من المؤلّفة قلوبهم، و كان عليهم جلباب من صوف، فوجدوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قاعدا مع بلال و صهيب و عمّار و خباب في ناس من ضعفاء المسلمين، فحقّروهم، و قالوا: يا رسول اللّه لو نحّيت هؤلاء عنك حتّى نخلو بك، فإنّ وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، فإن طردتهم جلسنا إليك و حادثناك.

فقال: ما أنا بطارد المؤمنين.

قالوا: فأقمهم عنّا إذا جئنا، فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت.

فأجابهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ذلك طمعا في إيمانهم.

فقالا له: أكتب لنا هذا على نفسك كتابا. و روي أنّ عمر قال له: لو فعلت حتّى ننظر إلى ماذا يصيرون.

فدعا بصحيفة و أحضر عليّا عليه السّلام ليكتب.

قال: و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل عليه السّلام بقوله تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ» إلى آخره، فرمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصحيفة، و اعتذر عمر من مقالته، و أقبل علينا، و دنونا منه و هو يقول:

كتب ربّكم على نفسه الرّحمة. فكنّا نقعد معه، و ندنو منه حتّى تمسّ ركبنا ركبته.

و كان يقوم عنّا إذا أراد القيام، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (1) الآية، فترك القيام عنّا إلى أن نقوم عنه. و قال لنا: الحمد للّه الّذي لم يمتني حتى أمرني اللّه أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي، معكم المحيا و معكم الممات».

ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ أي: ليس عليك حساب إيمانهم، فلعلّ إيمانهم عند اللّه تعالى أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا. أو ليس عليك اعتبار بواطنهم و إخلاصهم، لما

ص: 397


1- الكهف: 28.

اتّسموا بسيرة المتّقين، و إن كان لهم باطن غير مرضيّ كما ذكره المشركون، فحسابهم عليهم لا يتعدّاهم إليك، كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم. فجعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما مؤدّى واحد، و هو المعنيّ في قوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (1). و لا يستقلّ بهذا المعنى إلّا الجملتان جميعا، كأنّه قيل: لا تؤاخذ أنت و لا هم بحساب صاحبه.

و قيل: ما عليك من حساب رزقهم، أي: فقرهم. فالمعنى: ليس رزقهم عليك، و لا رزقك عليهم، و إنّما يرزقك و إيّاهم الرزّاق، فدعهم يدنوا منك.

و قيل: إنّ الضمير للمشركين. و المعنى: لا يؤاخذون بحسابك، و لا

أنت تؤاخذ بحسابهم، حتى يهمّك إيمانهم، و يحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين طمعا فيه.

و جواب النفي قوله: فَتَطْرُدَهُمْ فتبعّدهم. و جواب النهي قوله: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ و يجوز عطفه على «فتطردهم» على وجه التسبّب، لأنّ كونه ظالما مسبّب عن طردهم.

[سورة الأنعام [6]: آية 53]

وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [53]

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يمتحن الفقراء بالأغنياء، و الأغنياء بالفقراء، و الضعفاء بالأشراف، و الأشراف بالضعفاء: وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الفتن العظيمة و الابتلاء، و هو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا فَتَنَّا أي: ابتلينا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ كرؤساء قريش بالموالي. بمعنى: عاملناهم معاملة المختبر. أو خذلناهم فافتتنوا،

ص: 398


1- الأنعام: 164.

حتّى كان افتتانهم سببا لِيَقُولُوا على وجه الإنكار أَ هؤُلاءِ أي: المسلمون مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي: أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحقّ، و التوفيق و الهداية، من دوننا و نحن الرؤساء و الأشراف، و هم العبيد و الأرذال؟! و مثل هذا القول لا يصدر إلّا عن مفتون مخذول. و هذا مثل قولهم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ (1).

و اللام للتعليل، على أنّ «فتنّا» متضمّن معنى: خذلنا. أو للعاقبة، و المعنى:

أن افتتانهم يؤول إلى هذا القول.

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يقع منه الايمان و الشكر من أهل الاسترشاد فيوفّقه، و بمن لا يقع منه من أهل الإنكار و العناد فيخذله. و الاستفهام للتقرير، أي: اللّه أعلم بهم البتّة.

و في هذا دليل واضح على أنّ فقراء المؤمنين و ضعفاءهم أولى بالتقديم و التقريب و التعظيم من أغنيائهم، و لقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من أتى غنيّا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا

دينه».

[سورة الأنعام [6]: آية 54]

وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [54]

ثمّ أمر سبحانه بتعظيم المؤمنين، فقال: وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا و هم المؤمنون الّذين يدعون ربّهم. وصفهم بالإيمان بالقرآن و اتّباع الحجج، بعد ما

ص: 399


1- الأحقاف: 11.

زبدة التفاسير ج 2 449

وصفهم بالمواظبة على العبادة. فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمر بتبليغ سلام اللّه إليهم، و تبشيرهم بسعة رحمة اللّه و فضله، بعد النهي عن طردهم، إيذانا بأنّهم الجامعون لفضيلتي العلم و العمل، و من كان كذلك ينبغي أن يقرّب و لا يطرد، و يعزّ و لا يذلّ، و يبشّر من اللّه تعالى بالسلامة في الدنيا و الرحمة في الآخرة. أو أمر بأن يبدأهم بالسلام تبجيلا لهم و تطييبا لقلوبهم.

و كذلك قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ من جملة ما يقول لهم ليسرّهم و يبشّرهم بسعة رحمة اللّه عليهم. و المعنى: أوجب ربّكم الرحمة إيجابا مؤكّدا على نفسه.

عن عكرمة أنّ هذه الآية نزلت في الّذين نهى اللّه عن طردهم، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رآهم بدأهم بالسلام و قال: «الحمد للّه الّذي جعل في أمّتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».

و قيل: إنّ قوما جاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إنّا أصبنا ذنوبا عظاما، فلم يردّ عليهم شيئا و سكت عنهم، فانصرفوا، فنزلت هذه الآية.

و قوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً استئناف لتفسير الرحمة. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالفتح على البدل منها.

و قوله: بِجَهالَةٍ في موضع الحال، أي: من عمل ذنبا جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضارّ و المفاسد. أو متلبّسا بفعل الجهالة، فإنّ ارتكاب ما يؤدّي إلى الضرر من أفعال أهل السفه و الجهل، فإنّ من كان حكيما لم يقدم على فعل شي ء حتّى يعلم حاله.

ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بعد العمل أو السوء وَ أَصْلَحَ بالتدارك و العزم على أن لا يعود إليه فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فتح همزة «أنّه» من فتح الأوّل غير نافع، على إضمار مبتدأ، أي: فأمره أنّه غفور رحيم.

ص: 400

[سورة الأنعام [6]: الآيات 55 الى 58]

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [55] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [56] قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [57] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [58]

ثمّ عطف سبحانه على الآيات الّتي احتجّ بها على مشركي العرب و غيرهم، فقال: وَ كَذلِكَ و مثل ذلك التفصيل الواضح نُفَصِّلُ الْآياتِ آيات القرآن في صفة المطيعين و المجرمين، المصرّين منهم و الأوّابين. وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قرأ نافع بالتاء و نصب السبيل، على معنى: و لتستوضح يا محمد سبيلهم، فتعامل كلّا منهم بما يحقّ له، فصّلنا هذا التفصيل. و ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص عن عاصم برفعه، على معنى: و لتبين سبيلهم. و الباقون بالياء و الرفع، على تذكير السبيل، فإنّه يذكّر و يؤنّث. و يجوز أن يعطف على علّة مقدّرة، أي:

نفصّل الآيات ليظهر الحقّ، و لتستبين سبيل المجرمين.

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه بأن يظهر البراءة ممّا يعبدونه، فقال: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ زجرت بما ركّب فيّ من أدلّة العقل، و بما أوتيت من الآيات من أدلّة السمع في أمر

ص: 401

التوحيد أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عن عبادة ما تعبدون من دون اللّه، أو ما تدعونها آلهة، أي: تسمّونها.

ثمّ أكّد قطعا لأطماعهم، و إشارة إلى الموجب للنهي و علّة الامتناع عن متابعتهم، و استجهالا لهم، و بيانا لمبدأ ضلالهم، و أنّ ما هم عليه هوى و ليس بهدى، و تنبيها لمن تحرّى الحقّ على أن يتّبع الحجّة و لا يقلّد، فقال: قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أي: لا أجري على طريقتكم الّتي سلكتموها في دينكم، من اتّباع الهوى دون اتّباع الدليل. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي: إن اتّبعت أهواءكم فأنا ضالّ. وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ السالكين طريق الهدى حتى أكون من عدادهم. و فيه تعريض بأنّهم كذلك.

ثمّ نبّه على ما يجب اتّباعه بعد ما بيّن ما لا يجوز اتّباعه، فقال: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ البيّنة الدلالة الواضحة الّتي تفصل الحقّ من الباطل. و قيل: المراد بها القرآن و الوحي، أو الحجج العقليّة، أو ما يعمّها. و المعنى: إنّي على حجّة واضحة و شاهد صدق مِنْ رَبِّي من معرفته و أنّه لا معبود سواه. و إذا كان الشي ء ثابتا عندك ببرهان قاطع قلت: أنا على يقين منه و على بيّنة منه. و يجوز أن يكون صفة ل «بيّنة»، إذ المراد بالبيّنة الدليل، أي: على حجّة من جهة ربّي، و هو القرآن.

وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير ل «ربّي»، أي: و كذّبتم باللّه حيث أشركتم به غيره.

أو للبيّنة باعتبار المعنى، و هو القرآن.

ثمّ عقّبه بما دلّ على استعظام تكذيبهم باللّه، و شدّة غضبه عليهم لذلك، و أنّهم أحقّاء بأن يغافصوا (1) بالعذاب المستأصل، فقال: ما عِنْدِي ليس عندي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني: العذاب الّذي استعجلوه بقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2). إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ في تعجيل عذابكم و تأخيره

ص: 402


1- غافصه: فاجأه و أخذه على غرّة منه.
2- الأنفال: 32.

يَقُصُّ الْحَقَ أي: يفصّل الحقّ من الباطل. أو يصنع الحقّ و يدبّره في كلّ ما يقضي من التأخير و التعجيل، من قولهم: قضى الدّرع إذا صنعها. أو يقضي القضاء الحقّ، على أنّه صفة المصدر المحذوف. و أصل القضاء الفصل بتمام الأمر. و أصل الحكم المنع، فكأنّه منع الباطل. و قرأ ابن كثير و نافع و عاصم: يقصّ، أي: يتبع، من: قصّ الأثر، أو من: قصّ الخبر وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ القاضين بين الحقّ و الباطل.

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي في قدرتي و مكنتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربّي، و انقطع ما بيني و بينكم، فتخلّصت منكم سريعا. وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ في معنى الاستدراك، كأنّه قال: و لكنّ الأمر إلى اللّه، و هو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ، و بمن ينبغي أن يمهل منهم.

[سورة الأنعام [6]: آية 59]

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [59]

و لمّا ذكر سبحانه أنّه أعلم بالظالمين، بيّن عقيبه أنّه لا يخفى

عليه شي ء من الغيب، و يعلم أسرار العالمين، فقال: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائنه. جمع مفتح بفتح الميم، و هو المخزن، أو جميع ما يتوصّل به إلى المغيّبات. مستعار من المفاتح الّذي هو جمع مفتح بالكسر، و هو المفتاح، لأنّ بالمفاتح يتوصّل إلى ما في المخازن المغلقة، و هو المتوصّل إلى المغيّبات بذاته وحده المحيط علمه بها، لا يتوصّل إليها سواه، كما يتوصّل إلى ما في المخازن من عنده مفاتح أقفاله.

ص: 403

لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فيعلم أوقاتها و ما في تعجيلها و تأخيرها من الحكم، فيظهرها على ما اقتضته حكمته، و تعلّقت به مشيئته. و فيه دليل على أنّه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها.

وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ عطف للإخبار عن تعلّق علمه بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيّبات به.

وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها يعلم ما سقط من ورق الأشجار و ما بقي، و يعلم أنّها كم انقلبت ظهرا لبطنها عند سقوطها، مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيّات.

وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ بواطنها إلى تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ معطوف على «ورقة» و داخل في حكمها، كأنّه قيل:

و ما تسقط من ورقة و لا شي ء من هذه الأشياء إلّا يعلمه.

و قوله: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكلّ، على أنّ الكتاب المبين علم اللّه. أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح. أو كالتكرير لقوله: «إِلَّا يَعْلَمُها» لأنّ معنى «إِلَّا يَعْلَمُها» و «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» واحد. و قيل: المراد بالكتاب المبين القرآن.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 60 الى 62]

وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ

مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [60] وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ [61] ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [62]

و لمّا نبّه سبحانه بهذه الآية على أنّه عالم بالذات، أشار بعد ذلك إلى أنّه قادر

ص: 404

بالذات، من حيث إنّه قادر على الإحياء و الإماتة، فقال: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي: يقبض أرواحكم عن التصرّف بالنوم كما يقبضها بالموت. استعير التوفّي من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس و التمييز، فإنّ أصله قبض الشي ء بتمامه.

وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ كسبتم فيه من الأعمال. خصّ الليل بالنوم و النهار بالكسب جريا على المعتاد.

ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفّي فِيهِ في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ليبلغ المتيقّظ آخر أجله المسمّى له في الدنيا ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بالموت. و هو المرجع إلى موقف الحساب. ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم و نهاركم بالمجازاة عليه.

و قيل: الآية خطاب للكفرة. و المعنى: أنّكم ملقون كالجيف بالليل، و كاسبون للآثام بالنهار، و أنّه مطّلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ذلك الّذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل و كسب الآثام بالنهار، ليقضي الأجل الّذي سمّاه و ضربه لبعث الموتى و جزائهم على أعمالهم، ثمّ إليه مرجعكم بالحساب، ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون بالجزاء.

ثمّ بيّن كمال قدرته بقوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ المقتدر المستعلي فَوْقَ عِبادِهِ أي: هو أعلى أمرا، و أنفذ حكما. لا بمعنى أنّه في مكان مرتفع فوقهم و فوق مكانهم، لأنّ ذلك من صفة الأجسام، و اللّه تعالى منزّه عن ذلك.

وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ملائكة تحفظ أعمالكم، و هم الكرام الكاتبون.

و هذا عطف على صلة الألف و اللام في القاهر، تقديره: و هو الّذي يقهر عباده و يرسل عليكم حفظة. و الحكمة فيه- و إن كان اللّه تعالى غنيّا بعلمه عن كتبة الملائكة-: أنّ المكلّف إذا علم أنّ أعماله تكتب عليه و تعرض على رؤوس

ص: 405

الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، و أنّ العبد إذا وثق بلطف سيّده و اعتمد على عفوه و ستره لم يستح منه استحياءه من خدمه المطّلعين عليه.

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا استوفى روحه ملك الموت و أعوانه. و قرأ حمزة: توفّاه، بالألف ممالة. و يجوز أن يكون ماضيا، و أن يكون مضارعا، بمعنى: تتوفّاه. وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ بالتواني و التأخير، فإن التفريط التقصير و التأخير عن الحدّ، و الإفراط مجاوزته. و عن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله، و ما من أهل بيت إلا و يطوف عليهم في كلّ يوم مرّتين.

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى حكمه و جزائه مَوْلاهُمُ مالكهم الّذي يتولّى أمرهم الْحَقِ العدل الّذي لا يحكم إلّا بالحقّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ، لا حكم لغيره فيه. وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة، و لا يشغله حساب من حساب.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل: «كيف يحاسب الخلق و لا يرونه؟

قال: كما يرزقهم و لا يرونه».

[سورة الأنعام [6]: الآيات 63 الى 64]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [63] قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [64]

ثمّ عاد سبحانه إلى حجاج الكفّار، فقال: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ

ص: 406

وَ الْبَحْرِ من شدائدهما و مخاوفهما. استعيرت الظلمة للشدّة و الحاجة، لمشاركتهما في الهول و إبطال الأبصار، فقيل لليوم الشديد: يوم مظلم و يوم ذو كواكب، أي:

اشتدّت ظلمته حتّى صار كالليل. أو من الخسف في البرّ و الغرق في البحر بذنوبهم.

و قرأ يعقوب: ينجيكم بالتخفيف. و المعنى واحد.

تَدْعُونَهُ عند معاينة هذه الأهوال تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً معلنين و مسرّين، أو إعلانا و إسرارا. و قرأ أبو بكر عن عاصم: خفية بالكسر لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ أي:

هذه الظلم الشديدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول، أي: تقولون: لئن أنجيتنا من هذه.

و قرأ الكوفيّون: لئن أنجانا، ليوافق قوله: «تدعونه»، إلّا أنّ حمزة و الكسائي أمالاه.

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها من هذه الشدّة. و شدّده الكوفيّون و هشام عن ابن عامر، و خفّفه الباقون. وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ غمّ سواها ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعودون إلى الشرك، و لا توفون بالعهد بعد قيام الحجّة عليكم. و إنّما وضع «تشركون» موضع: لا تشكرون، تنبيها على أنّ من أشرك في عبادة اللّه تعالى فكأنّه لم يعبده رأسا.

[سورة الأنعام [6]: آية 65]

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [65]

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من الحجج الّتي حاجّ بها الكافرين، و نبّه على

ص: 407

الإعذار و الإنذار، فقال إيعادا و تهديدا: قُلْ هُوَ الْقادِرُ ذكر حرف التعريف يشعر بكمال قدرته، لأنّه أمارة تخصيص القدرة به، كأنّه يقول: أيّها المخاطب الساكت تعرف قادرا فذلك هو هو لا غير عَلى أَنْ يَبْعَثَ

عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما أرسل على قوم نوح الطوفان، و أمطر على قوم لوط و أصحاب الفيل الحجارة أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون، و خسف بقارون.

و قيل: «من فوقكم»: من قبل أكابركم الظلمة و حكّامكم الجائرة، و «تحت أرجلكم»: من قبل سفلتكم و عبيدكم. و هذا منقول عن ابن عبّاس. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: هو حبس المطر و النبات.

أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم شِيَعاً فرقا مختلفي الأهواء، كلّ فرقة منهم شائعة لإمام. و معنى خلطهم: أن يختلطوا و يشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:

و كتيبة لبّستها بكتيبةحتّى إذا التبست نفضت لها يدي

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «معناه: يضرب بعضكم ببعض ممّا يلقيه بينكم من العداوة و العصبيّة».

وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يقاتل بعضكم بعضا انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد و الوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعلمون الحقّ بها.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سألت اللّه أن لا يبعث على أمّتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، و سألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني».

و كذا

عن الحسن قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سألت اللّه ربّي أن لا يظهر على أمّتي أهل دين فأعطاني، و سألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني، و سألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني، و سألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني».

و في تفسير الكلبي: «أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتوضّأ و أسبغ وضوءه، ثمّ قام و صلّى فأحسن صلاته، ثمّ سأل اللّه سبحانه أن لا يبعث على أمّته

ص: 408

عذابا من فوقهم، و لا من تحت أرجلهم، و لا يلبسهم شيعا، و لا يذيق بعضهم بأس بعض.

فنزل جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمد إنّ اللّه تعالى سمع مقالتك، و إنّه قد أجارهم من خصلتين، و لم يجرهم من خصلتين، أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، و لم يجرهم الخصلتين الأخريين.

فقام و عاد إلى الدعاء، فنزل: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (1) الآيتين. فقال: لا بدّ من فتنة تبتلي بها الأمّة بعد نبيّها، ليتبيّن الصادق من الكاذب، لأنّ الوحي انقطع، و بقي السّيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة».

و في الخبر أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا وضع السيف في أمّتي لم يدفع عنها إلى يوم القيامة، فأخبرني جبرئيل أنّ فناء أمّتي بالسيف.

و عن جابر بن عبد اللّه: لمّا نزل «من فوقكم» قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعوذ بوجهك. فلمّا نزل «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» قال: هاتان أهون.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 66 الى 68]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [66] لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [67] وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [68]

و لمّا ذكر سبحانه تصريف الآيات قال عقيب ذلك: وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ أي:

ص: 409


1- العنكبوت: 1- 2.

بالعذاب أو بالقرآن وَ هُوَ الْحَقُ الواقع لا محالة، أو الصدق قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ و كلّ إليّ أمركم، فأمنعكم من التكذيب إجبارا أو أجازيكم، إنّما أنا منذر و اللّه الحفيظ.

ثمّ

قال تهديدا و إيعادا: لِكُلِّ نَبَإٍ لكلّ شي ء ينبأ و يخبر به، إمّا العذاب أو الإيعاد به مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار و وقوع لا بدّ من حصوله وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه في الدنيا أو في الآخرة.

وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب و الاستهزاء بها و الطعن فيها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم، و قم عنهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فلا بأس بأن تجالسهم حينئذ. و الضمير عائد إلى معنى الآيات، لأنّها القرآن.

وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك بوسوسته حتّى تنسى النهي عن مجالستهم. و قرأ ابن عامر: ينسّينّك بالتشديد. فَلا تَقْعُدْ معهم بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكر النهي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: معهم. فوضع الظاهر موضعه، دلالة على أنّهم ظلموا بوضع التكذيب و الاستهزاء موضع التصديق و الاستعظام. و يجوز أن يراد: إن أنساك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين، لأنّها ممّا تنكره العقول، فلا تقعد معهم بعد أن ذكّرناك قبحها و نبّهناك عليه.

و اعلم أنّ النسيان المنفيّ عن الأنبياء و كذا السهو هو الّذي فيما يؤدّونه عن اللّه، و أمّا ما سواه فقد جوّز أصحابنا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالأدلّة العقليّة و خطأ فيها، و كيف لا يكون كذلك! و قد جوّزوا عليهم النوم و الإغماء، و هما من قبيل السهو. كذا قال الطبرسي في تفسيره الجامع (1).

ص: 410


1- لم نجده في جوامع الجامع، و ذكره في مجمع البيان 4: 317.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 69 الى 73]

وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [69] وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ

تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [70] قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [71] وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [72] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [73]

روي: أنّ المسلمين قالوا: لئن كنّا نقوم كلّما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد و نطوف، فنزلت: وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ

ما يلزم المتّقين الّذين يجالسونهم مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ ممّا يحاسبون عليه من قبائح أعمالهم

ص: 411

و أقوالهم وَ لكِنْ ذِكْرى و لكن عليهم أن يذكّروهم ذكرى و موعظة، و يمنعوهم عن الخوض و غيره من القبائح، و يظهروا كراهتها.

و يحتمل رفع «ذكرى» على تقدير: و لكن عليهم ذكرى. و لا يجوز عطفه على محلّ «من شي ء»، كقولك: ما في الدار من أحد و لكن زيد، لأنّ «من حسابهم» يأباه. و لا على «شي ء» لذلك، و لأنّ «من» لا تزاد في الإثبات.

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يجتنبون ذلك حياء، أو كراهة لمساءتهم. و يحتمل أن يكون الضمير للّذين يتّقون. و المعنى: لعلّهم يثبتون على تقواهم، و لا تنثلم بمجالستهم.

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً أي: بنوا أمر دينهم على التشهّي، و تديّنوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا و آجلا، كعبادة الأصنام و تحريم البحائر و السوائب. أو اتّخذوا دينهم الّذي كلّفوه لعبا و لهوا حيث سخروا به. أو جعلوا عيدهم الّذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو و لعب. و المعنى: أعرض عنهم، و لا تبال بأفعالهم و أقوالهم. و يجوز أن يكون تهديدا لهم، كقوله: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (1). و المعنى: أعرض عنهم، و لا تبال بتكذيبهم و استهزائهم، و لا تشغل قلبك بهم. و عند من جعله منسوخا بآية السيف (2) معناه: كفّ عنهم، و اترك التعرّض لهم.

وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني: اغترّوا بحياتهم حتى أنكروا البعث وَ ذَكِّرْ بِهِ أي: بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي: مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك و العذاب، و ترتهن بسوء كسبها. و أصل الإبسال المنع، لأنّ المسلّم إليه يمنع المسلّم. و منه أسد باسل، لأنّ فريسته لا تفلت منه. و الباسل: الشجاع، لامتناعه من

ص: 412


1- المدّثر: 11.
2- التوبة: 5 و 29.

قرنه. و هذا بسل عليك، أي: حرام.

لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌ ناصر ينجيها من العذاب وَ لا شَفِيعٌ يشفع لها و يدفع عنها العقاب.

وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ و إن تفد كلّ فداء. و العدل: الفدية، لأنّها تعادل المفدى.

و هاهنا الفداء. و نصب «كلّ» على المصدر. لا يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند إلى «منها» لا إلى ضمير العدل، لأنّه هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ، بخلاف قوله: وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ (1)، فإنّه بمعنى المفدى به، فصحّ إسناده إليه.

أُولئِكَ إشارة إلى الّذين اتّخذوا

دينهم لعبا الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أي: سلّموا إلى العذاب بسبب كسبهم الأعمال القبيحة و العقائد الزائغة.

ثمّ أكّد و فصّل ذلك بقوله: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي: هم بين ماء مغليّ يتجرجر (2) في بطونهم، و نار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم.

قُلْ أَ نَدْعُوا أ نعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ النافع الضارّ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا ما لا يقدر على نفعنا و لا ضرّنا، أي: إن تركنا عبادته وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا و نرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فأنقذنا منه، و رزقنا الإسلام.

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ كالّذي ذهبت به مردة الجنّ و الغيلان في المهامه (3). استفعال من: هوى في الأرض يهوي، إذا ذهب، كأنّ المعنى: طلبت الشياطين هواه. و قرأ حمزة: استهواه بألف ممالة.

و محلّ الكاف النصب على الحال من فاعل «نردّ»، أي: مشبّهين الّذي

ص: 413


1- البقرة: 48.
2- جرجر الماء في حلقه: صوّت.
3- المهامه جمع المهمه، و هو الصحراء.

استهوته. أو على المصدر، أي: ردّا مثل ردّ الّذي استهوته.

فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ متحيّرا ضالّا عن الطريق لَهُ أي: لهذا المستهوى أَصْحابٌ رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى أن يهدوه الطريق المستقيم. أو سمّي الطريق المستقيم بالهدى، أي: يدعونه إلى الطريق المستقيم. و سمّاه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. ائْتِنا يقولون له: ائتنا. و قد اعتسف المهمه تابعا للجنّ، لا يجيبهم و لا يأتيهم. و هذا مبنيّ على ما تزعمه العرب أنّ الجنّ تستهوي الإنسان، و الغيلان كذلك، فشبّه به الضالّ عن الإسلام الّذي لا يلتفت إلى دعاء المسلمين إيّاه.

قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الّذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى وحده، و ما عداه ضلال.

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً

فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (1). فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (2).

وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ من جملة المقول، عطف على «إِنَّ هُدَى اللَّهِ».

و اللام لتعليل الأمر، أي: أمرنا و قيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. و قيل: هي زائدة.

وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ عطف على «لنسلم»، أي: للإسلام و لإقامة الصلاة. أو على موقعه، كأنّه قيل: و أمرنا لأن نسلم و لأن أقيموا، بمعنى: للإسلام و لإقامة الصلاة وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ إلى جزائه تُحْشَرُونَ يوم القيامة، فيجازي كلّ عامل منكم بعمله.

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ قائما بالحقّ و الحكمة وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ جملة اسميّة قدّم فيها الخبر، و هو «يوم»، أي: قوله الحقّ يوم يقول، كقولك: القتال يوم الجمعة. و المعنى: أنّه خالق السماوات و الأرضين، و قوله الحقّ نافذ في الكائنات.

و قيل: «يوم» منصوب بالعطف على السماوات، أو على الهاء في «و اتّقوه».

ص: 414


1- آل عمران: 85.
2- يونس: 32.

و المراد: حين يكوّن الأشياء و يحدثها، أو حين تقوم القيامة، فيكون التكوين حشر الأموات و إحياءها.

وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (1). و «الصور» قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين، فيفنى الخلق بالنفخة الأولى، و يحيون بالثانية. عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أي: هو عالم الغيب وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله الْخَبِيرُ العالم بعباده و أعمالهم.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 74 الى 75]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [74] وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [75]

و لمّا عاب اللّه سبحانه دين المشركين و ذمّ آلهتهم، و احتجّ عليهم بما سلف من بيان حقّية دين الإسلام، بيّن أنّه دين أبيهم الّذي كان ذا قدر عظيم، و هو إبراهيم عليه السّلام، فقال: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ. قال العامّة: إنّه اسم أب إبراهيم، كما أنّ تارخ اسمه، فهما علمان، كإسرائيل و يعقوب. و لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم أب إبراهيم تارخ.

و قال أصحابنا: إنّ آزر كان اسم جدّ إبراهيم لأمّه. و روي أيضا أنّه كان عمّه.

و قالوا: إنّ آباء نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى آدم كانوا موحّدين. و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لم يزل ينقلني اللّه تعالى من صلب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات، لم يدنّسني بدنس

ص: 415


1- غافر: 16.

الجاهليّة».

و لو كان في آبائه عليه السّلام كافر لم يصف جميعهم بالطهارة، لقوله تعالى:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (1). و في ذلك أدلّة و براهين ليس هاهنا موضع ذكرها.

و قيل: إنّ آزر اسم صنم يعبده، فلقّب به للزومه عبادته. و عند بعض أنّ آزر وصف معناه: الشيخ أو المعوجّ. و لعلّ منع صرفه لأنّه أعجميّ حمل على موازنه (2)، أو نعت مشتقّ من الأزر أو الوزر. و الأقرب أنّه علم أعجميّ على فاعل، كعابر و شالخ: و قرأ يعقوب: آزر بالضمّ على النداء. و هو يدلّ على أنّه علم.

و قوله: أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً الهمزة للإنكار، أي: لا تفعل ذلك إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ عن الحقّ مُبِينٍ ظاهر الضلالة.

و في الآية حثّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على محاجّة قومه الّذين دعوه إلى عبادة الأصنام، و الاقتداء بأبيه إبراهيم عليه السّلام فيه، و تسلية له بذلك.

وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ و مثل هذا التبصير نبصّره. و هو حكاية حال ماضية مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ربوبيّتها و ملكها، و نوفّقه لمعرفتها، و نهديه لطريق النظر و الاستدلال. و قيل: عجائبها اللطيفة و بدائعها المحكمة. و الملكوت أعظم الملك. و التاء فيه للمبالغة.

وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي: ليستدلّ و ليكون من المتيقّنين. أو و فعلنا ذلك ليكون من المتيقّنين بأنّ اللّه سبحانه هو خالق للملك و المالك له.

عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «كشط اللّه لإبراهيم عن الأرضين حتّى رآهنّ و ما تحتهنّ، و عن السماوات حتى رآهنّ و ما فيهنّ من الملائكة و حملة العرش».

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا رأى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض، رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثمّ رأى آخر فدعا عليه .

ص: 416


1- التوبة: 28.
2- أي: حمل على ما هو على وزنه، كشالح، الذي هو غير منصرف للعجمة و العلميّة.

فمات، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا إبراهيم إنّ دعوتك مستجابة، فلا تدع على عبادي، فإنّي لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم. إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا، فأثيبه. و صنف يعبد غيري، فليس يفوتني. و صنف يعبد غيري، فأخرج من صلبه من يعبدني».

[سورة الأنعام [6]: الآيات 76 الى 79]

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [76] فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [77] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [78] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [79]

و لمّا تقدّم ذكر الآيات الّتي أراه اللّه تعالى إبراهيم عليه السّلام، بيّن سبحانه و فصّل كيف استدلّ بها؟ و كيف عرف الحقّ من جهتها؟ فقال: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ستره بظلامه رَأى كَوْكَباً و هو الزهرة أو المشتري. و الشرطيّة معطوفة على «قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ». و قوله: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ» معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه.

قالَ هذا رَبِّي على سبيل الفرض و الوضع، فإنّ المستدلّ على فساد قول

ص: 417

يحكيه على ما يقوله الخصم، ثمّ يكرّ عليه بالإفساد، فإنّ قومه كانوا يعبدون الأصنام و الشمس و القمر و الكواكب، فأراد أن ينبّههم على خطئهم، و يرشدهم و يبصّرهم طريق النظر و الاستدلال، ليعرفوا أنّ شيئا منها لا يصحّ أن يكون إلها، لو وضح دلالة الحدوث فيها، فقال: هذا ربّي، قول من ينصف خصمه، و يماشي قوله، مع علمه بأنّه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصّب لمذهبه، ليكون ذلك أدعى إلى الحقّ، و أدفع لتهيّج الشرّ و الشغب (1).

فَلَمَّا أَفَلَ أي: غاب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي: لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيّرين من حال إلى حال، المنتقلين من مكان إلى مكان، فإنّ ذلك من صفات الأجسام، و دليل الحدوث و الإمكان، فضلا عن عبادتهم. فلمّا كان الانتقال و الاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان و الحدوث فيكون منافيا للألوهيّة.

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدئا في الطلوع قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ استعجز نفسه، و استعان بربّه في درك الحقّ، فإنّه لا يهتدي إليه إلّا بتوفيقه و لطفه، إرشادا لقومه، و تنبيها لهم على أنّ القمر ايضا لتغيّر حاله لا يصلح للألوهيّة، و أنّ من اتّخذه إلها فهو ضالّ.

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي تذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر، و إن كان إشارة إلى الشمس، و صيانة للربّ عن شبهة التأنيث، الا تراهم لم يقولوا:

اللّه سبحانه علّامة، و إن كان علّامة أبلغ من علّام، احترازا عن علامة التأنيث. هذا أَكْبَرُ كبّره استدلالا، أو إظهارا لشبهة الخصم، من باب استعمال الإنصاف مع الخصوم.

فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها، الّتي تجعلونها شركاء لخالقها.

ص: 418


1- في هامش النسخة الخطّية: «الشغب- بتسكين الغين- تهييج الفتن. منه».

و إنّما احتجّ بالأفول دون البزوغ مع أنّه أيضا انتقال، لأنّ الاحتجاج بالأفول أظهر، فإنّه انتقال مع خفاء و احتجاب، و لأنّه رأى الكوكب الّذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.

قيل: إنّه كان استدلاله في نفسه في زمان مهلة النظر الّذي هو أوّل زمان التكليف، فحكاه اللّه سبحانه. و القول الأوّل أظهر، لقوله: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي»، و لقوله: «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».

و لمّا تبرّأ منها توجّه إلى موجدها و مبدعها الّذي دلّت هذه الممكنات عليه، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أي: للّذي دلّت هذه المحدثات على أنّه صانعها، و مبدعها الّذي دبّر أحوالها، و مسيرها و انتقالها، و طلوعها و أفولها. حَنِيفاً مائلا عن الشرك إلى التوحيد وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

[سورة الأنعام [6]: الآيات 80 الى 82]

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً

أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ [80] وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [81] الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ [82]

روى المفسّرون أنّ إبراهيم عليه السّلام ولد في زمان نمرود بن كنعان. و زعم بعضهم

ص: 419

أنّ نمرود كان من ولاة كيكاوس. و بعضهم قال: كان ملكا برأسه. و قيل لنمرود: إنّه يولد في بلده هذه السنة مولود يكون هلاكه و زوال ملكه على يده. ثمّ اختلفوا فقال بعضهم: إنّما قالوا ذلك من طريق التنجيم و التكّهن.

و قال أبو عبد اللّه و الباقر عليهما السّلام و محمّد بن إسحاق: إنّ نمرود رأى كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس و القمر، فسأل عنه فعبّر بأنّه يولد غلام يذهب ملكه على يده، فعند ذلك أمر بقتل كلّ غلام يولد تلك السنة. و أمر بأن يعزل الرجال عن النساء، و بأن يتفحّص عن أحوال النساء، فمن وجدت حبلى تحبس حتّى تلد، فإن كان غلاما قتل، و إن كان جارية خلّيت، حتّى حملت أمّ إبراهيم، فلمّا دنت ولادة إبراهيم خرجت أمّه هاربة، فذهبت به إلى غار و لفّته في خرقة، ثمّ جعلت على باب الغار صخرة، ثمّ انصرفت عنه.

فجعل اللّه تعالى رزقه في إبهامه، فجعل يمصّها فتشخب لبنا، و جعل يشبّ في اليوم كما يشبّ غيره في الجمعة، و يشبّ في الجمعة كما يشبّ غيره في الشهر، و يشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة، فمكث ما شاء اللّه أن يمكث.

و قيل: كانت تختلف أمّه إليه، فكان يمصّ أصابعه، فوجدته يمصّ من إصبع ماء، و من إصبع لبنا و من إصبع عسلا، و من إصبع تمرا، و من إصبع سمنا. و لمّا بلغ سنّ التمييز خرج من الغار و نظر إلى النجم و كان آخر الشهر، فرأى الكوكب قبل القمر، ثمّ رأى القمر، ثمّ رأى الشمس، فقال ما قال. و لمّا رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم. و كان يعيب آلهتهم، حتّى فشا أمره، و جرت المناظرات و المحاجّات، كما قال اللّه تعالى:

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ أي: خاصموه في التوحيد، و بترك عبادة آلهتهم منكرين قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ في وحدانيّته. و قرأ نافع و ابن عامر بتخفيف النون. وَ قَدْ هَدانِ إلى توحيده.

ص: 420

و قد خوّفوه أنّ معبوداتهم تصيبه بسوء، فقال في جوابهم: وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي: لا أخاف معبوداتكم في وقت قطّ، لأنّها لا تقدر بنفسها على نفع و ضرّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أي: إلّا وقت مشيئة ربّي شيئا، بأن يصيبني بمكروه من جهتها، إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه، مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقّة من الشمس أو القمر على مضرّة، بأن يحييها و يقدّرها فتضرّ و تنفع.

وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً كأنّه علّة الاستثناء، أي: أحاط به علما، فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميّزوا بين الصحيح و الفاسد، و القادر و العاجز.

ثمّ احتجّ عليهم، و أكّد الحجاج بقوله: وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ و لا يتعلّق به ضرر وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ أي: و لا تخافون إشراككم باللّه، و هو حقيق بأن يخاف منه كلّ الخوف، لأنّه إشراك للمصنوع بالصانع، و تسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضارّ النافع.

ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ما لم ينزّل بإشراكه كتابا، أو لم ينصب عليه دليلا، و لا يصحّ أن يكون علمه حجّة، و كأنّه قال: و ما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، و لا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟! فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ فريق المشركين أو فريق الموحّدين أَحَقُّ بِالْأَمْنِ و إنّما لم يقل: أيّنا أنا أم أنتم؟ احترازا من تزكية نفسه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يحقّ أن يخاف منه.

ثمّ استأنف الجواب عمّا استفهم عنه بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا و لم يخلطوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: بالشرك أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ محكوم لهم بالاهتداء.

و الدليل على أنّ المراد بالظلم هاهنا الشرك قرينة المقام، و لما روي أنّ الآية

ص: 421

لمّا نزلت شقّ ذلك على الصحابة و قالوا: أيّنا لم يظلم نفسه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ليس ما تظنّون، إنّما هو ما قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (1).

و لبس الإيمان بالظلم أن يصدّق بوجود الصانع الحكيم، و يخلط بهذا التصديق الإشراك به. و قيل: المراد بالظلم المعصية.

[سورة الأنعام [6]: آية 83]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [83]

وَ تِلْكَ إشارة إلى ما احتجّ به إبراهيم من قوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» إلى قوله: «وَ هُمْ مُهْتَدُونَ»، أو من قوله: «أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ». حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها، و وفّقناه لها، و أخطرناها بباله عَلى قَوْمِهِ متعلّق ب «حجّتنا» إن جعل خبر «تلك»، و بمحذوف إن جعل بدله، أي: آتيناها إبراهيم حجّة على قومه.

نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من المؤمنين في العلم و الحكمة. و قرأ الكوفيّون و يعقوب بالتنوين (2). إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في رفعه و خفضه عَلِيمٌ بحال من يرفعه، و استعداده له.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 84 الى 90]

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [84] وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [85]

ص: 422


1- لقمان: 13.
2- و قرأ الباقون: درجات، بالإضافة.

وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [86] وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [87] ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [88]

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [89] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ [90] وَ وَهَبْنا لَهُ لإبراهيم إِسْحاقَ ابنه من سارة وَ يَعْقُوبَ ابن إسحاق كُلًّا منهما هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل إبراهيم. عدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنّه أبوه، و شرف الوالد يتعدّى إلى الولد. و المعنى: كلّا من الثلاثة فضّلناهم بالنبوّة. و قيل: بالكرامات و المعجزات.

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لإبراهيم، إذ الكلام فيه. و قيل: لنوح، لأنّه أقرب، و لأنّ يونس و لوطا ليسا من ذرّيّة إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختصّ البيان بالمعدودين في تلك الآية و الّتي بعدها. و المذكورون في الآية الثالثة عطف على «نوحا». داوُدَ أي: هدينا

داود بن إيشا وَ سُلَيْمانَ ابنه وَ أَيُّوبَ هو ولد أموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم وَ يُوسُفَ بن يعقوب بن إسحاق وَ مُوسى وَ هارُونَ أخاه ابني عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. و هارون كان أكبر منه بسنة.

وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: نجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا

ص: 423

إبراهيم، برفع درجاته، و كثرة أولاده، و النبوّة فيهم.

وَ زَكَرِيَّا بن أذن بن بركيا وَ يَحْيى ابنه وَ عِيسى و هو ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا. و في ذكره دليل على أنّ الذرّيّة تتناول أولاد البنت. ففيه دلالة واضحة و حجّة قاطعة على أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّهما ابنا رسول اللّه. و قد صحّ

في الحديث أنّه قال لهما: «ابناي هذان إمامان، قاما أو قعدا». و قال للحسن: «إنّ ابني هذا سيّد».

و أنّ الصحابة كانوا يقولون لكلّ منهما و من أولادهما: يا ابن رسول اللّه، و الأصل في الاستعمال الحقيقة.

وَ إِلْياسَ قيل: هو إدريس جدّ نوح عليه السّلام، كما قيل: ليعقوب إسرائيل، فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى. و قيل: هو إلياس بن يستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيّ اللّه، فهو من أسباط هارون أخي موسى. و عن كعب: هو الخضر. كُلٌ من الأنبياء و المرسلين مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح، و هو الإتيان بما ينبغي، و التحرّز عمّا لا ينبغي.

وَ إِسْماعِيلَ بن إبراهيم، من هاجر وَ الْيَسَعَ بن أخطوب بن العجوز.

و قرأ حمزة: و الليسع. و على القراءتين علم أعجميّ

أدخل عليه اللام، كما أدخل على اليزيد في قوله:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركاشديدا بأعباء الخلافة كاهله

وَ يُونُسَ بن متّى وَ لُوطاً بن هاران ابن أخي إبراهيم. و قيل: ابن أخته. وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ بالنبوّة. و فيه دليل على فضلهم على من عداهم من أهل زمانهم.

وَ مِنْ آبائِهِمْ و من آباء هؤلاء الأنبياء، في موضع النصب عطفا على «كلّا» أو «نوحا»، أي: فضّلنا كلّا منهم، أو هدينا هؤلاء و بعض آبائهم وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ بعض منهم، فإنّ منهم من لم يكن نبيّا و لا مهديّا.

ص: 424

وَ اجْتَبَيْناهُمْ و اصطفيناهم عطف على «فضّلنا» أو «هدينا». و اجتبى مأخوذ من: جبيت الماء في الحوض، إذا جمعته. وَ هَدَيْناهُمْ أي: أرشدناهم فاهتدوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: طريق بيّن لا اعوجاج فيه، و هو الدين الحقّ.

هذا تكرير لبيان ما هدوا إليه.

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم ذكره من التفضيل و الاجتباء، و الهداية و الاصطفاء هُدَى اللَّهِ هو الإرشاد إلى الثواب للّذين استرشدوا طريق الحقّ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممّن سمّاهم و من لم يسمّهم في هذه الآيات.

وَ لَوْ أَشْرَكُوا أي: و لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم و علوّ شأنهم و تقدّمهم لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها، و نحوه قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1).

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس وَ الْحُكْمَ بين الناس، أو الحكمة العمليّة الّتي هي الأحكام الشرعيّة وَ النُّبُوَّةَ و الرسالة فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي: بهذه الثلاثة هؤُلاءِ يعني: قريشا فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي: بمراعاتها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ و هم الأنبياء المذكورون، و متابعوهم الّذين آمنوا بما

أتى به نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل وقت مبعثه. و قيل: هم الأنصار، أو أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: كلّ من آمن به، أو الفرس. و قيل: الملائكة.

و معنى توكيلهم بها: أنّهم وفّقوا للإيمان بها و القيام بحقوقها، كما يوكّل الرجل بالشي ء ليقوم به و يتعهّده و يحافظ عليه. و الباء في «بها» صلة «يكفرون»، و في «بكافرين» لتأكيد النفي.

أُولئِكَ يريد الأنبياء المتقدّم ذكرهم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فاختصّ طريقهم بالاقتداء، و لا تقتد إلّا بهم. و هذا معنى تقديم المفعول. و المراد

ص: 425


1- الزمر: 65.

بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد و أصول الدين، دون الفروع المختلف فيها، فإنّها ليست هدى مضافا إلى الكلّ، و لا يمكن التأسّي بهم جميعا، لأنّها يتطرّق إليها النسخ، فهي هدى ما لم ينسخ، بخلاف أصول الدين، فإنّها هدى أبدا على الإطلاق. فليس فيه دليل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متعبّد بشرع من قبله.

و الهاء في «اقتده» للوقف. و من اثبتها في الدرج ساكنة- كابن كثير، و نافع، و أبي عمرو، و عاصم- أجرى الوصل مجرى الوقف. و أشبعها ابن عامر، على أنّها كناية المصدر.

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ لا أطلب منكم عَلَيْهِ أي: على التبليغ، أو القرآن أَجْراً جعلا من جهتكم، كما لم يسأل من قبلي من النبيّين. و هذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. إِنْ هُوَ أي: التبليغ، أو القرآن، أو الغرض إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ إلّا تذكير، أو عظة لهم. و فيه دليل على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوث إلى كافّة العالمين، و أنّ النبوّة

مختومة به.

[سورة الأنعام [6]: آية 91]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [91]

و لمّا تقدّم ذكر الأنبياء و النبوّة، عقّبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوّة، فقال:

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما عرفوه حقّ معرفته، و ما عظّموه حقّ عظمته، و ما وصفوه بما يجب أن يوصف به من الرحمة و الإنعام على العباد و اللطف بهم. إِذْ

ص: 426

قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ حين أنكروا الوحي و بعثة الرسل، و ذلك من عظائم رحمته و جلائل نعمته. أو في السخط على الكفّار و شدّة البطش بهم، حين جسروا على هذه المقالة.

و القائلون هم اليهود. و إنّما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن، بدليل نقض كلامهم و إلزامهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً ليستضاء به في الدين «وَ هُدىً لِلنَّاسِ» يهتدون به. و بدليل قراءة الجمهور في قوله:

تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً بالتاء. و إنّما قرأ بالياء ابن كثير و أبو عمرو حملا، على «قالوا» و ما قَدَرُوا اللَّهَ و المعنى: جاء به موسى و هو نور وَ هُدىً لِلنَّاسِ حتى غيّروه و بعّضوه، و جعلوه و رقات مقطّعة متفرّقة، ليتمكّنوا ممّا حاولوه من الإبداء و الإخفاء. أو تضمّن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة، و ذمّهم على تجزئتها، بإبداء بعض انتخبوه و كتبوه في ورقات متفرّقة، و إخفاء بعض لا يشتهونه.

روي أنّه جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف- و هو من أحبارهم- يخاصم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنشدك بالّذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أنّ اللّه تعالى يبغض الحبر السمين، فأنت الحبر السمين، قد سمنت ممّا يطعمك اليهود؟ و كان سمينا. فضحك القوم، فغضب و قال: ما أنزل اللّه على بشر من شي ء. فقال له أصحابه: و يحك و لا موسى؟! فقال: إنّه أغضبني.

فنزعوه و جعلوا مكانه كعب بن الأشرف. فنزلت الآية.

و قيل: إنّ اليهود قالت: يا محمد أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا: و اللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا، فنزلت.

و في رواية أخرى انّها نزلت في مشركي مكّة أنكروا قدرة اللّه عليهم، فألزمهم بإنزال التوراة، لأنّه من المشهورات الذائعة عندهم، و لذلك كانوا يقولون:

ص: 427

لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ (1).

وَ عُلِّمْتُمْ على لسان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ مع أنّكم حملة التوراة وَ لا آباؤُكُمْ أي: و لم يعلمه آباؤكم الّذين كانوا قبلكم، و هم أعلم منكم، و هو ما زاد على ما في التوراة بيانا لما التبس عليكم، و نحوه قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (2). و قيل: الخطاب لمن آمن من قريش.

قُلِ اللَّهُ أي: أنزله اللّه، أو اللّه أنزله. فأمر اللّه تعالى نبيّه بأن يجيب عنهم، إشعارا بأنّ الجواب متعيّن لا يمكن غيره، و تنبيها على أنّهم بهتوا بحيث لا يقدرون على الجواب. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ في أباطيلهم الّتي يخوضون فيها، فلا عليك بعد التبليغ و إلزام الحجّة يَلْعَبُونَ حال من «هم» الأوّل، و الظرف صلة «ذرهم» أو «يلعبون»، أو حال من المفعول، أو فاعل «يلعبون»، أو من «هم» الثاني، و الظرف متّصل بالأوّل.

[سورة الأنعام [6]: آية 92]

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [92]

و لمّا احتجّ سبحانه بإنزال التوراة على موسى، بيّن أنّ سبيل القرآن سبيلها، فقال: وَ هذا أي: القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ من السماء إلى الأرض، لأنّ جبرئيل أتى به من السماء مُبارَكٌ كثير الفوائد و المنافع، فإنّ قراءته خير، و العمل به

ص: 428


1- الأنعام: 157.
2- النمل: 76.

خير، و فيه علم الأوّلين و الآخرين، و فيه الحلال و الحرام، و هو باق إلى آخر التكليف لا يرد عليه نسخ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: التوراة و الإنجيل و سائر الكتب المتقدّمة قبله.

وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى معطوف على ما دلّ عليه صفة «كتاب»، كأنّه قيل:

للبركات و للتصديق لما تقدّمه من الكتب، و للإنذار. أو علّة محذوف، أي: و لتنذر أهل أمّ القرى أنزلناه. و إنّما سمّيت مكّة أمّ القرى. لأنّها مكان أوّل بيت وضع للناس، و لأنّها قبلة لأهل القرى و محجّهم، و لأنّها أعظم القرى شأنا، و لأنّ الأرض بأسرها دحيت من تحتها، فكأنّها تولّدت منها. و قرأ أبو بكر عن عاصم بالياء، أي:

لينذر الكتاب. وَ مَنْ حَوْلَها أهل الشرق و الغرب.

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فإنّ من صدّق بالآخرة خاف العاقبة، و لا يزال الخوف يحمله على النظر و التدبّر حتى يؤمن بالكتاب أو النبيّ، لدلالة الكلام عليه. و الضمير يحتملهما، و يحافظ على الطاعة.

و تخصيص الصلاة لأنّها عماد الدين و علم الإيمان، و من حافظ عليها كانت له لطفا في المحافظة على أخواتها.

[سورة الأنعام [6]: آية 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [93]

و لمّا تقدّم ذكر نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنزال الكتاب عليه، عقّبه سبحانه بذكر تهجين الكفّار الّذين كذّبوه أو ادّعوا أنّهم يأتون بمثل ما أتى به، فقال: وَ مَنْ أَظْلَمُ

ص: 429

مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الاستفهام في معنى الإنكار، أي: لا أحد أظلم ممّن كذب على اللّه فزعم أنّه بعثه نبيّا، كمسيلمة و الأسود العنسي، أو اختلق عليه أحكاما، كعمرو بن لحى و متابعيه.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب، فكبرا عليّ و أهمّاني، فأوحى اللّه إليّ أن أنفخهما، فنفختهما فطارا عنّي، فأوّلتهما الكذّابين اللّذين أنا بينهما، كذّاب اليمامة مسيلمة، و كذّاب صنعاء الأسود العنسي».

أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ كعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فكان إذا أملى عليه: سميعا عليما، كتب هو: عليما حكيما. و لمّا نزلت: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ فلمّا بلغ قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (1)

قال عبد اللّه: تبارك اللّه أحسن الخالقين، تعجّبا من تفصيل خلق الإنسان. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اكتبها، فكذلك نزلت. فشكّ عبد اللّه و قال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، و لئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتدّ عن الإسلام و لحق مكّة، ثمّ رجع مسلما قبل فتح مكّة. و قيل: هو النضر بن الحارث، أو المستهزؤن.

وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كالّذين قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا.

وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ اللام للعهد. و هم الّذين مرّ ذكرهم من اليهود المتنبّئة. و حذف مفعول «ترى» لدلالة الظرف عليه، أي: و لو ترى الظالمين فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ شدائده و سكراته. و أصل الغمر ما يغمر الأشياء، من: غمره الماء إذا؟؟؟، فاستعيرت للشدّة الغالبة.

وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بقبض أرواحهم، كالمتقاضي المسلّط، أو

ص: 430


1- المؤمنون: 12- 14.

بالعذاب أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي: يقولون: أخرجوها إلينا من أجسادكم، تغليظا و تعنيفا عليهم، أو أخرجوها من العذاب و خلّصوها من أيدينا، أي: لا تقدرون على الخلاص. و جواب «لو» محذوف، أي: لو ترى هذه الحالة لرأيت أمرا عظيما.

الْيَوْمَ يريد به وقت الإماتة، أو الوقت الممتدّ من الإماتة إلى ما لا نهاية له تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي: الهوان، يريد العذاب المتضمّن لشدّة و إهانة.

و إضافته إلى الهون لعراقته (1) و تمكّنه فيه، كقولك: رجل سوء. فالمراد التمكّن في العراقة و أنّه عريق فيه. بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ كادّعاء الولد و الشريك له، و دعوى النبوّة و الوحي كاذبا. وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تتأمّلون فيها، و لا تؤمنون بها.

[سورة الأنعام [6]: آية 94]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [94]

ثمّ بيّن سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ، فقال: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب و الجزاء فُرادى منفردين عن الأموال و الأولاد و سائر ما آثرتموه من الدنيا، أو عن الأعوان و الأوثان الّتي زعمتم أنّها شفعاؤكم. و هو جمع فرد، و الألف للتأنيث، ككسالى. قيل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حين قال: سوف تشفع لي اللّات و العزّى.

و قوله: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فرادى، أي: على الهيئة

ص: 431


1- أي: لأصالته، و العرق: أصل كلّ شي ء.

الّتي ولدتم عليها في الانفراد. أو حال ثانية إن جوّز التعدّد فيها. أو حال من الضمير في «فرادى» أي: مشبهين ابتداء خلقكم، أي: تحشرون عراة حفاة غرلا بهما، كما وقع في الحديث. و الغرل (1): هم القلف. و البهم هم الّذين لا نطق لهم أصلا. أو صفة مصدر «جئتمونا» أي: مجيئا كما خلقناكم أوّل مرّة.

وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ ما تفضّلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة وَراءَ ظُهُورِكُمْ ما قدّمتم منه شيئا، و لم تحتملوا نقيرا وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ في استعبادكم شُرَكاءُ أي: شركاء اللّه في ربوبيّتكم و استحقاق عبادتكم.

لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي: تقطّع وصلكم، و تشتّت جمعكم. و البين من الأضداد، و يستعمل للفصل و الوصل: و قيل: هو الظرف أسند إليه الفعل على الاتّساع. و المعنى: وقع التقطّع بينكم. و يشهد له قراءة نافع و الكسائي و حفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل، لدلالة ما قبله عليه. أو أقيم مقام موصوفه، و أصله: لقد تقطّع ما بينكم. و قد قرئ به. وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ضاع و بطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّها شفعاؤكم، أو أن لا بعث و لا جزاء.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 95 الى 103]

إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [95] فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [96] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ

ص: 432


1- غرل الصبيّ: لم يختن، فهو أغرل، و جمعه: غرل. و الغرلة: القلفة، و هي جلدة عضو التناسل.

لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [97] وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [98] وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [99]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ [100] بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [101] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ [102] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [103]

ثمّ عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع و لطائف التدبير، فقال: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى بالنبات و الشجر. و قيل: أراد الشقّين اللّذين في

ص: 433

النواة و الحنطة. يُخْرِجُ الْحَيَ يريد به ما ينمو من الحيوان و النبات، ليطابق ما قبله مِنَ الْمَيِّتِ ممّا لا ينمو، كالنطف و البيض و الحبّ و النوى وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ و مخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان و النبات. ذكره بلفظ الاسم حملا على «فالِقُ الْحَبِّ»، فإنّه معطوف عليه، فإنّ قوله «يُخْرِجُ الْحَيَّ» واقع موقع البيان له. ذلِكُمُ اللَّهُ أي: ذلك المحي و المميت هو الّذي يحقّ له العبادة فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه إلى غيره.

فالِقُ الْإِصْباحِ شاقّ عمود الصبح عن الظلمة، أو عن بياض النهار. أو شاقّ ظلمة الإصباح، و هو الغبش (1) في آخر الليل. و الإصباح في الأصل مصدر:

أصبح، إذا دخل في الصبح، سمّي به الصبح.

وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً يسكن إليه التعب بالنهار، لاستراحته فيه، من: سكن إليه، إذا اطمأنّ إليه استئناسا به، و استرواحا إليه من زوج أو حبيب، و منه قيل للمرأة: سكن، لأنّه يستأنس بها. أو يسكن فيه الخلق، من قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ (2). و نصبه بفعل دلّ عليه «جاعل»، لابه، فإنّه في معنى الماضي. و يدلّ عليه قراءة الكوفيّين: و جعل الليل، حملا على معنى المعطوف عليه، فإنّ «فالق» بمعنى:

فلق، و لذلك قرئ به. أو به على أن لا يكون المراد منه معنى المضيّ، بل يكون المراد منه جعلا مستمرّا في الأزمنة المختلفة. و على هذا يجوز أن يكون وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ عطفا على محلّ «الليل». و يشهد له قراءتهما بالجرّ. و الأحسن نصبهما ب «جعل» مقدّرا.

حُسْباناً أي: على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات، فيكونان علمي الحسبان، يعلم حساب الأوقات بدورهما و مسيرهما. و هو مصدر: حسب بالفتح،

ص: 434


1- غبش الليل: خالط البياض ظلمته في آخره.
2- يونس: 67.

كما أنّ الحسبان بالكسر مصدر: حسب. و قيل: جمع حساب، كشهاب و شهبان.

ذلِكَ إشارة إلى جعلهما حسبانا، أي: ذلك التسيير بالحساب المعلوم تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الّذي قهرهما و سيّرهما على الوجه المخصوص الْعَلِيمِ بتدبيرهما، و الأنفع من التداوير الممكنة لهما.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ أي: خلقها لنفعكم لِتَهْتَدُوا بِها بضوئها و طلوعها و مواضعها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ في ظلمات الليل في البرّ و البحر.

و إضافتها إليهما لملابستهما إيّاها. أو في مشتبهات الطرق. و سمّاها ظلمات على الاستعارة. و هو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله: «لكم». قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيّنّاها فصلا فصلا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنّهم منتفعون به.

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السّلام. و خلقت أمنّا حوّاء من ضلع من أضلاعه، و منّ علينا بهذا، لأنّ الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التوادّ و التعاطف و التآلف. فَمُسْتَقَرٌّ أي: فلكم استقرار في الأصلاب، أو فوق الأرض وَ مُسْتَوْدَعٌ و استيداع في الأرحام، أو تحت الأرض. أو مستقرّ في الرحم، و مستودع في الصلب. أو المراد منهما: موضع استقرار و استيداع.

و عن الحسن: يا بن آدم أنت وديعة في أهلك، و يوشك أن تلحق بصاحبك.

و أنشد قول لبيد:

و ما المال و الأهلون إلّا وديعةو لا بدّ يوما أن تردّ الودائع

و قرأ ابن كثير و البصريّان بكسر القاف، على أنّه فاعل و المستودع مفعول، أي: فمنكم قارّ و منكم مستودع، لأنّ الاستقرار منّا دون الاستيداع.

قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيّنّا الحجج، و ميّزنا الأدلّة لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ذكر «يعلمون» مع ذكر النجوم، لأنّ أمرها ظاهر، و «يفقهون» مع ذكر خلق بني آدم، لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة و تصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى

ص: 435

استعمال فطنة و تدقيق نظر، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة ذكيّة و تدقيق فكر صائب مطابقا له.

وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً من السحاب، أو من جانب السماء، فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء فَأَخْرَجْنا على تلوين الخطاب بِهِ بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ نبت كلّ صنف من أصناف النامي من الحيوان و النبات، يعني: أنّ السبب واحد و المسبّبات صنوف. فالمراد منه إظهار القدرة في إنبات الأنواع المفنّنة بماء واحد، كما في قوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ (1).

فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من النبات أو الماء خَضِراً شيئا غضّا أخضر، و هو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبّة. يقال: أخضر و خضر، كأعور و عور.

نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً قد تركّب بعضه على بعض، مثل سنبلة الحنطة و الشعير و غيرهما وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ أي: و أخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان. أو من النخل شي ء من طلعها قنوان. و يجوز أن يكون «من النخل» خبر «قنوان»، و «من طلعها» بدل منه. و المعنى: و حاصلة من طلع النخل قنوان، و هو الأعذاق، جمع قنو و عذق، و هو عنقود التمر. و نظيره صنو (2) و صنوان.

دانِيَةٌ قريبة من المتناول، أو ملتفّة قريب بعضها من بعض. و إنّما اقتصر على ذكرها عن مقابلها- يعني البعيدة- لدلالتها عليه، كقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (3)، لأنّ النعمة فيها أظهر.

ص: 436


1- الرعد: 4.
2- الصنو: الأخ الشقيق، و إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو، و الجمع صنوان.
3- النحل: 81.

وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على «نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ»، أي: أخرجنا جنّات من أعناب.

وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ أيضا عطف على «نبات». و الأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، لفضل هذين الصنفين عندهم، كقوله: وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ (1) مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ حال من الرمّان أو من الجميع، أي: بعض ذلك متشابه و بعضه غير متشابه، في الصورة و القدر و اللون و الطعم. يقال: اشتبه الشيئان و تشابها، كقولك: استويا و تساويا. و الافتعال و التفاعل يشتركان كثيرا.

انْظُرُوا نظر اعتبار و استبصار و استدلال على كمال اقتداره و تدبيره إِلى ثَمَرِهِ أي: ثمر كلّ واحد من ذلك. و قرأ حمزة و الكسائي بضمّ الثاء. و هو جمع ثمرة، كخشب و خشبة، أو ثمار ككتاب و كتب. إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره، كيف يثمر ضعيفا صغيرا لا يكاد ينتفع به وَ يَنْعِهِ و إلى حال نضجه، أو إلى نضيجه، كيف يعود ضخما ذا نفع و لذّة. و هو في الأصل مصدر: ينعت الثمرة إذا أدركت.

و قيل: جمع يانع، كتاجر و تجر. و المعنى: انظروا من ابتداء خروجه إذا أثمر إلى انتهائه إذا أينع و أدرك، كيف تنتقل عليه الأحوال في الطعم و اللون و الرائحة و الصغر و الكبر.

إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بعلامات على وجود القادر الحكيم و توحيده، فإنّ حدوث الأجناس المختلفة و الأنواع المفنّنة من أصل واحد، و نقلها من حال

إلى حال، لا يكون إلّا بإحداث عالم قادر يعلم تفاصيلها، و يرجّح ما تقتضيه حكمته ممّا يمكن من أحوالها، و لا يعوّقه عن فعله ندّ يعارضه أو ضدّ يعانده، و لذلك عقّبه بتوبيخ من أشرك به و الردّ عليه، فقال: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ هما مفعولا «جعل». و قوله: الْجِنَ بدل من «شركاء». و يجوز أن يكون «شركاء

ص: 437


1- الحجّ: 35.

الجنّ» مفعولين قدّم ثانيهما على الأوّل، أي: جعلوا الجنّ شركاء، و «للّه» متعلّق ب «شركاء» أو حال منه. و فائدة تقديم «للّه» استعظام أن يتّخذ للّه شريكا من كان ملكا أو جنّيّا أو إنسيّا، فلذلك قدّم اسم اللّه على الشركاء.

و المراد بالجنّ الملائكة، فإنّهم عبدوهم و قالوا: الملائكة بنات اللّه. و سمّاهم جنّا لاجتنانهم، تحقيرا لشأنهم. أو الشياطين، لأنّهم أطاعوهم كما يطاع اللّه. أو عبدوا الأوثان بتسويلهم و تحريضهم. أو قالوا: اللّه خالق الخير و كلّ نافع، و الشيطان خالق الشرّ و كلّ ضارّ، كما هو رأي الثنويّة.

وَ خَلَقَهُمْ حال بتقدير «قد». و المعنى: و قد علموا أنّ اللّه خالقهم دون الجنّ، و ليس من يخلق كمن لا يخلق.

وَ خَرَقُوا لَهُ اختلقوا و اقترحوا له. و قال في عين المعاني (1): الخرق أشنع الكذب، كأنّه يخرق العقل. و قرأ نافع بتشديد الراء للتكثير. بَنِينَ وَ بَناتٍ فقالت اليهود: عزير بن اللّه، و قالت النصارى: المسيح بن اللّه، و قالت العرب: الملائكة بنات اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه، و يروا عليه دليلا، بل جهلا منهم. و هو في موضع الحال من الواو أو المصدر، أي: خرقا بغير علم.

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ أنّ له شريكا أو ولدا.

بَدِيعُ السَّماواتِ

وَ الْأَرْضِ من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، كقولك:

فلان بديع الشعر، أي: بديع شعره. أو إلى الظرف، كقولهم: ثبت (2) الغدر، أي: ثابت فيه، بمعنى أنّه عديم النظير فيهما. و المعنى: بديع سماواته و أرضه، أو بديع فيهما.

و قيل: معناه مبدعهما و منشئهما ابتداء لا من شي ء، و لا على سبق مثال. و رفعه على

ص: 438


1- عين المعاني في تفسير السبع المثاني، لمحمد بن طيفور السجاوندي الغزنوي، من علماء المائة السادسة، و الظاهر أنه لم يطبع إلى الآن. راجع كشف الظنون 2: 1182.
2- في هامش النسخة الخطّية: «رجل ثبت الغدر، أي: ثابت في القتال. منه».

الخبر، و المبتدأ محذوف. أو على الابتداء، و خبره قوله: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي:

من أين و كيف يكون له ولد؟ و لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، و صانع الأجسام ليس بجسم حتّى يكون والدا، و لأنّ الولادة لا تكون إلّا بين زوجين.

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية. و لم يقل: «به» لتطرّق التخصيص إلى الأوّل.

و في الآية استدلال على نفي الولد من ثلاثة وجوه:

الأوّل: أنّه من مبدعاته السماوات و الأرضون، و هي مع أنّها من جنس ما يوصف بالولادة مبرّأة عنها، لاستمرارها و طول مدّتها، فهو أولى بأن يتعالى عنها.

و الثاني: أنّ المعقول من الولد ما يتولّد من ذكر و أنثى متجانسين، و اللّه تعالى منزّه عن المجانسة.

و الثالث: أنّ الولد كفؤ لوالده، و لا كفؤ له لوجهين: الأوّل: أنّ كلّ ما عداه مخلوقه، فلا يكافئه. و الثاني: أنّه سبحانه لذاته عالم بكلّ المعلومات، و لا

كذلك غيره بالإجماع.

ذلِكُمُ إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات. و هو مبتدأ. اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ أخبار مترادفة. و يجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة، و البعض خبرا. فَاعْبُدُوهُ حكم مسبّب عن مضمون الجملة، فإنّ من استجمع هذه الصفات استحقّ العبادة وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي: و هو مع تلك الصفات متولّي أموركم، فكلوها إليه، و توسّلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم، و رقيب على أعمالكم، فيجازيكم عليها.

لا تُدْرِكُهُ لا تحيط به الْأَبْصارُ جمع بصر، و هو الجوهر اللطيف الّذي به تدرك المبصرات. و قد يقال للعين من حيث إنّها محلّها. و المعنى: أنّه متعال أن

ص: 439

يكون مبصرا في ذاته، فالأبصار لا تدركه، لأنّها إنّما تدرك ما كان في جهة أو تابعا، كالأجسام و الألوان.

وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ محيط علمه بها، فإنّه للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة الّتي ركّبها اللّه في حاسّة النظر، و هي الأبصار، لا يدركها مدرك سواه. و قيل: تقديره: و هو يدرك ذوي الأبصار.

وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك ما لا تدركه الأبصار. و يجوز أن يكون من باب اللفّ، أي: لا تدركه الأبصار، لأنّه اللطيف، فيلطف عن أن تدركه الأبصار، و هو يدرك الأبصار، و لا تلطف عن إدراكه، لأنّه خبير بكلّ لطيف.

و روي عن الرضا عليه السّلام: أنّها الأبصار الّتي في القلوب، لا تقع عليه الأوهام، و لا يدرك كيف هو.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 104 الى 105]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [104] وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [105]

ثمّ بيّن سبحانه أنّه بعد هذه الآيات

قد أزاح العلّة للمكلّفين، فقال: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر جمع بصيرة، و هي نور القلب، كما أنّ البصر نور العين. و سمّيت بها الدلالة، لأنّها تجلّي للنفس الحقّ و تبصّرها به.

فَمَنْ أَبْصَرَ أي: أبصر الحقّ و آمن به فَلِنَفْسِهِ أبصر، لأنّ نفعه لها وَ مَنْ عَمِيَ عن الحقّ و ضلّ فَعَلَيْها و باله. و هذا وارد على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لقوله تعالى: وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم و أجازيكم عليها، و إنّما أنا منذر، و اللّه تعالى هو الحفيظ عليكم، يحفظ أعمالكم و يجازيكم

ص: 440

عليها. و هذا كلام ورد على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ و مثل ذلك التصريف نصرّف. و هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة من التصرّف، و هو نقل الشي ء من حال إلى حال.

وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ أي: و ليقولوا: و تعلّمت من اليهود صرفنا. و اللام لام العاقبة. و الدرس القراءة و التعلّم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: دارست، أي: دارست أهل الكتاب و ذاكرتهم. و ابن عامر و يعقوب: درست، من الدروس، أي: قدّمت هذه الآيات و عفت، كقولهم: أساطير الأوّلين.

وَ لِنُبَيِّنَهُ هذا اللام على أصله و حقيقته، لأنّ التبيين مقصود التصريف، بخلاف لام «ليقولوا» فإنّه على المجاز. و الضمير للآيات باعتبار المعنى، لأنّها في معنى القرآن. أو للقرآن و إن لم يذكر، لكونه معلوما. أو للتبيين الّذي هو مصدر الفعل. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنّهم المنتفعون به.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 106 الى 107]

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [106] وَ لَوْ

شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [107]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه باتّباع الوحي فقال: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالتديّن به لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكّد به إيجاب الاتّباع. أو حال مؤكّدة من «ربّك»، بمعنى: منفردا في الألوهيّة وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لا تبال بأقوالهم، و لا تلتفت إلى آرائهم و أهوائهم، و لا تلاطفهم. و من جعله منسوخا بآية السيف (1)،

ص: 441


1- التوبة: 5 و 29.

حمل الإعراض على ما يعمّ الكفّ عنهم.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ توحيدهم و عدم إشراكهم جبرا و قسرا ما أَشْرَكُوا أي:

لاضطرّهم إلى الإيمان بالقسر و الجبر، و لكنّ الجبر مناف للتكليف الذي هو مناط استحقاق الثواب و العقاب، فلم يشأ ذلك. و لا يجوز أن يكون المعنى: أنّه تعالى لا يريد إيمان الكافر، فلذلك لم يؤمن، لأنّ مراده واجب الوقوع كما قالت الأشعريّة، لأنّ إرادة الكفر قبيح، و القبح على اللّه محال.

و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: لو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى كان لا يعصيه أحد، لما كان يحتاج إلى جنّة و لا إلى نار، و لكنّه أمرهم و نهاهم و امتحنهم، و أعطاهم ماله به عليهم الحجّة من الآلة و الاستطاعة، ليستحقّوا الثواب و العقاب.

وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا لأعمالهم وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بموكّل عليهم بذلك، و إنّما أنت رسول عليك البلاغ و علينا الحساب. و جمع بين حفيظ و وكيل لاختلاف معنى اللفظين، فإنّ الحافظ للشي ء هو الّذي يصونه عمّا يضرّه، و الوكيل على الشي ء هو الّذي يجلب الخير إليه.

[سورة الأنعام [6]: آية 108]

وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا

اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [108]

ثمّ نهى اللّه تعالى المؤمنين أن يسبّوا الأصنام، لما في ذلك من المفسدة، فقال: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: و لا تذكروا آلهتهم الّتي يعبدونها بما فيها من القبائح فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً تجاوزا عن الحقّ إلى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ

ص: 442

على جهالة باللّه و بما يجب أن يذكر به. و قرأ يعقوب: عدوّا بضمّ العين و تشديد الواو. و يقال: عدا فلان عدوا و عدوّا و عداء و عدوانا.

قال ابن عبّاس: لمّا نزلت: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (1).

قال المشركون: لتنتهي عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك، فنزلت.

و قيل: كان المسلمون يسبّونها فنهوا، لئلّا يكون سبّهم سببا لسبّ اللّه.

و فيه دليل على أنّ النهى عن المنكر الّذي هو من أجلّ الطاعات إذا علم أنّه يؤدّي إلى زيادة الشرّ ينقلب معصية، فصار النهي عن ذلك النهي من جملة الواجبات.

و سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة (2) سوداء في ليلة ظلماء، فقال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون اللّه، و كان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى اللّه عن سبّ آلهتهم لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين، فيكون المؤمنون قد أشركوا من حيث لا يعلمون.

كَذلِكَ أي: مثل ذلك التزيين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من أمم الكفّار عَمَلَهُمْ أي: خلّيناهم و سوء ما عملوا، و لم نمنعهم حتّى حسن عندهم عملهم السيّ ء، أي:

أمهلنا الشيطان حتّى زيّن لهم. أو زيّنّاه في زعمهم و قولهم:

إنّ اللّه أمرنا بهذا و زيّنه لنا. و لا يجوز التزيين على المعنى الحقيقي لقبحه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فيوبّخهم عليه و يعاتبهم و يعاقبهم عليه.

ص: 443


1- الأنبياء: 98.
2- الصفوان: الصخر الأملس.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 109 الى 110]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [109] وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [110]

ثمّ بيّن سبحانه حال الكفّار الّذين سألوه الآيات المقترحة، فقال: وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر في موقع الحال، أي: حلفوا باللّه مجدّين مجتهدين.

و الداعي لهم إلى هذا القسم و التأكيد فيه التحكّم على الرسول في طلب الآيات، و استحقار ما رأوا منها. لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هو قادر عليها، يظهر منها ما يشاء، و ليس شي ء منها بقدرتي و مشيئتي وَ ما يُشْعِرُكُمْ و ما يدريكم أَنَّها أنّ الآيات المقترحة إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ

يعني: أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، و أنتم لا تدرون. و ذلك أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجي ء تلك الآيات، فيتمنّون مجيئها، فأخبرهم اللّه تعالى أنّهم لا يدرون ما سبق علمه به من أنّهم لا يؤمنون. و الاستفهام للإنكار، أنكر السبب- و هو مجي ء الآية- مبالغة في نفي المسبّب، و هو الايمان. ففيه تنبيه على أنّه تعالى إنّما لم ينزلها لعلمه بأنّها لا يؤمنون بها إذا جاءت.

و قيل: «لا» مزيدة. و على قراءة الفتح قيل: «أن» بمعنى: لعلّ، إذ قرأ أبيّ:

لعلّها، من قولهم: ائت السوق أنّك تشتري لحما.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و يعقوب: «إنّها» بالكسر، على أنّ الكلام قد تمّ قبله، كأنّه قال: و ما يشعركم ما يكون منهم، ثمّ أخبرهم بما علم.

ص: 444

و قيل: الخطاب للمشركين. و قرأ ابن عامر و حمزة: لا تؤمنون بالتاء.

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ عطف على «لا يُؤْمِنُونَ» داخل في حكم «وَ ما يُشْعِرُكُمْ». يعني: و ما يشعركم أنّهم لا يؤمنون، و ما يشعركم أنّا نقلّب أفئدتهم و أبصارهم، أي: نطبع على قلوبهم و أبصارهم، فلا يفقهون و لا يبصرون الحقّ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كما كانوا عند نزول آياتنا أوّلا لا يؤمنون بها، لكونهم مطبوعا على قلوبهم. وَ نَذَرُهُمْ و ما يشعركم أنّا ندعهم فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يتحيّرون، أي: نخلّيهم و شأنهم، لا نكفّهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه.

[سورة الأنعام [6]: آية 111]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [111]

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في عنادهم، و تردّدهم في طغيانهم و كفرهم، و تمرّدهم و لجاجهم، فقال: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ يشهدون لنبيّنا بالرسالة، كما قالوا: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ (1) وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى و أحيينا الموتى حتّى شهدوا له، كما قالوا: فَأْتُوا بِآبائِنا (2) وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا كما قالوا:

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (3). و قبلا جمع قبيل، بمعنى: كفيلا، أو جمع القبيل الّذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا. و هو قراءة نافع و ابن عامر. و هو على الوجوه حال من «كلّ». و إنّما جاز ذلك لعمومه.

ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لما سبق عليهم علمه تعالى بكفرهم و عنادهم

ص: 445


1- الفرقان: 21.
2- الدخان: 36.
3- الإسراء: 92.

إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعمّ الأحوال، أي: لا يؤمنون في حال من الأحوال إلّا حال أن يشاء اللّه تعالى إيمانهم، مشيئة إكراه و قسر و اضطرار. يعني: أنّهم لا يؤمنون مختارين قطّ إلّا أن يكرهوا. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنّهم لو أوتوا بكلّ آية لم يؤمنوا طوعا، فيقسمون باللّه جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، و لذلك أسند الجهل إلى أكثرهم، مع أنّ مطلق الجهل يعمّهم. أو لكنّ أكثر المسلمين يجهلون أنّهم لا يؤمنون، فيتمنّون نزول الآية المقترحة طمعا في إيمانهم.

و في الآية دلالة على أنّ اللّه تعالى لو علم أنّه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك، و لكان من الواجب في حكمته، لأنّه لو لم يجب ذلك، لم يكن لتعليله بأنّه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنّه لو فعلها لم يؤمنوا، معنى.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 112 الى 113]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ [112] وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ [113]

ثمّ بيّن سبحانه ما كان عليه حال الأنبياء عليهم السّلام مع أعدائهم، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: و كما خلّينا بينك و بين أعدائك، و لم نمنعهم عنك قسرا و كرها، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء و أعدائهم، لم نمنعهم عن العداوة، لما فيه من الامتحان الّذي هو سبب ظهور الثبات و الصبر، و كثرة الثواب و الأجر.

ص: 446

شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ مردة الفريقين. و هو بدل من «عدوّا»، أو أوّل مفعولي «جعلنا»، و «عدوّا» مفعوله الثاني، و «لكلّ» متعلّق به أو حال منه.

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يوسوس و يلقي خفية شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس، أو بعض الجنّ إلى بعض، و بعض الإنس إلى بعض زُخْرُفَ الْقَوْلِ ما يزيّنه و يموّهه من القول و الإغراء على المعاصي. يقال: زخرف القول إذا زيّنه، أي: الذي يستحسن ظاهره، و لا حقيقة له و لا أصل.

غُرُوراً خدعا و أخذا على غرّة. و هو مفعول له، أو مصدر في موقع الحال.

و عن مالك بن دينار: أنّ شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ، لأنّي إذا تعوّذت باللّه ذهب شيطان الجنّ عنّي، و بعض الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عيانا.

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أي: ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول، بأن يكفّهم عنه اضطرارا و إلجاء، و لا يخلّيهم و شأنهم فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ أي: دعهم و افتراءهم الكذب، فإنّي أجازيهم و أعقابهم. أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يخلّي بينهم و بين ما اختاروه، و لا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم، كما قال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (1)، دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا.

وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عطف على «غرورا» إن جعل علّة، و إلّا يتعلّق بمحذوف، أي: و ليكون ذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا. و لا يجوز أن يكون اللام للعلّة، لأنّه تعالى لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب في الكفر و وحي الشياطين، بل اللام لام الصيرورة و العاقبة، كما في قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ

ص: 447


1- فصلت: 40.

لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (1). و الصغو: الميل. و الضمير في «إليه» يرجع إلى ما يرجع إليه ضمير «فعلوه»، أي: و لتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء و وسوسة الشياطين قلوب الكفّار، و الّذين لا يعتقدون بالآخرة و الحشر و النشر و الحساب.

وَ لِيَرْضَوْهُ و ليحبّوه لأنفسهم وَ لِيَقْتَرِفُوا ليكتسبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ من الآثام.

[سورة الأنعام [6]: آية 114]

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [114]

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهؤلاء الكفّار الّذين مضى ذكرهم هذا القول: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً على إرادة القول، أي: قل لهم يا محمد: أ فغير اللّه أطلب من يحكم بيني و بينكم، و يميّز المحقّ منّا من المبطل؟! و «غير» مفعول «أبتغي»، و «حكما» حال منه. و يحتمل عكسه. و حكما أبلغ من حاكم، و لذلك لا يوصف به غير العادل.

وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ القرآن المعجز مُفَصَّلًا مبيّنا فيه الحلال و الحرام، و الكفر و الإيمان، و الشهادة لي بالصدق و عليكم بالافتراء، و سائر الحقّ و الباطل بحيث ينفي الالتباس. و فيه تنبيه على أنّ القرآن بإعجازه و تقريره مغن عن سائر الآيات.

وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني: التوراة و الإنجيل يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أنّ القرآن

ص: 448


1- القصص: 8.

مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ هذا تأييد لدلالة الإعجاز على أنّ القرآن حقّ منزل من عند اللّه، يعلم أهل الكتاب به، لتصديقه ما عندهم، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يمارس كتبهم، و لم يخالط علماءهم، و إنّما وصف جميعهم بالعلم، لأنّ أكثرهم يعلمون، و من لم يعلم فهو متمكّن منه بأدنى تأمّل. و قيل: المراد مؤمنوا أهل الكتاب. و قرأ ابن عامر و حفص عن عاصم: منزّل بالتشديد.

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ من الشاكّين في أنّهم يعلمون ذلك، أو في أنّه منزل، لجحود أكثرهم و كفرهم به، فيكون من باب التهييج، كقوله تعالى: وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1). أو «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» في أن أهل الكتاب يعلمون أنّه منزل بالحقّ، و لا يريبك جحود أكثرهم و كفرهم به. و قيل: الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ظاهرا، و المراد خطاب أمّته. و يجوز أن يكون خطابا لكلّ أحد، على معنى أنّه: إذا تظاهرت الحجج على صحّته فلا ينبغي أن يمتري أحد فيه.

[سورة الأنعام [6]: آية 115]

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [115]

ثمّ بيّن سبحانه صفة الكتاب المنزل، فقال: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: بلغت الغاية حججه و أمره و نهيه و وعده و وعيده صِدْقاً في الأخبار و المواعيد وَ عَدْلًا في الأقضية و الأحكام. و نصبهما يحتمل التمييز و الحال و المفعول له لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يبدّل شيئا من ذلك بما هو أصدق و أعدل. أو لا أحد يقدر أن يحرّفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة، على أنّ المراد بها القرآن، فيكون ضمانا لها من اللّه تعالى بأن يحفظه، كقوله: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (2). أو لا نبيّ و لا كتاب

ص: 449


1- القصص: 87.
2- الحجر: 9.

بعدها ينسخها أو يبدّل أحكامها.

و قرأ الكوفيّون و يعقوب: كلمة ربّك، أي: ما تكلّم به، أو القرآن.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لما يقولون الْعَلِيمُ بما يضمرون، فلا يهملهم.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 116 الى 117]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [116] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [117]

و لمّا تقدّم ذكر الكتاب بيّن سبحانه أنّ من تبع غير هذا الكتاب ضلّ و أضلّ، فقال: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي: أكثر الناس، يريد الكفّار، أو الجهّال، أو أتباع الهوى. و قيل: أهل مكّة. يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الطريق الموصل إليه، فإنّ الضالّ في غالب الأمر لا يأمر إلّا بما فيه ضلال.

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ و هو ظنّهم أنّ آباءهم كانوا محقّين، فهم يقلّدونهم. أو جهالاتهم و آراؤهم الفاسدة، فإنّ الظنّ يطلق على ما يقابل العلم. و فيه: أنّه لا عبرة في معرفة الحقّ بالكثرة، و إنّما الاعتبار بالحجّة. وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يقدّرون أنّهم على شي ء. أو يكذبون على اللّه فيما ينسبون إليه، كاتّخاذ الولد، و جعل عبادة الأوثان وصلة إليه، و تحليل الميتة، و تحريم البحائر. و حقيقة الخرص ما يقال عن ظنّ و تخمين.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: أعلم بالفريقين. و «من» موصولة أو موصوفة في محلّ النصب بفعل دلّ عليه «أعلم»، و هو: يعلم، لا به، فإنّ أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك. أو استفهاميّة مرفوعة بالابتداء، و الخبر «يضلّ». و الجملة معلّق عنها الفعل المقدّر.

و في هذا دلالة على أنّ الضلال و الإضلال من فعل العبيد، خلاف ما يقول

ص: 450

أهل الجبر، و على أنّه لا يجوز التقليد و اتّباع الظنّ في الدين و الاغترار بالكثرة.

و إلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال للحارث الهمداني: «يا حار الحقّ لا يعرف بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله».

[سورة الأنعام [6]: الآيات 118 الى 123]

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ [118] وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [119] وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [120] وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [121] أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [122]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ [123]

و عن ابن عبّاس أنّهم كانوا يدعون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين إلى أكل الميتة، و يقولون: تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل ربّكم! فهذا ضلالهم، فقال: سبحانه

ص: 451

ردّا عليهم: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا مسبّب عن إنكار اتّباع المضلّين الّذين يحرّمون الحلال و يحلّون الحرام. و المعنى: كلوا ممّا ذكر اسم اللّه على ذبحه، و هو المذكّى ببسم اللّه، لا ممّا ذكر

عليه اسم غيره، أو مات حتف أنفه. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحلّه اللّه تعالى، و اجتناب ما حرّمه.

وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي: و أيّ غرض لكم في أن تتحرّجوا عن أكله؟ و ما يمنعكم عنه؟ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ممّا لم يحرّم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1). و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: فصّل على البناء للمفعول، و نافع و يعقوب و حفص: حرّم على البناء للفاعل، و هو اللّه تعالى.

إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ إلى ما حرّم عليكم، فإنّه ايضا حلال حال الضرورة، حفظا للنفس.

وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام و تحريم الحلال. و قرأ الكوفيّون بضمّ الياء، و أرادوا: يضلّون أشياعهم، و الباقون بالفتح. بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ بتشهّيهم من غير تعلّق بدليل يفيد العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، و الحلال إلى الحرام.

وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ ما أعلنتم منه، و ما أسررتم. و قيل: ما عملتم بجوارحكم، و ما نويتم بقلوبكم. و قيل: الزنا في الحوانيت، و اتّخاذ الأخدان في السرّ.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ يرتكبون القبيح سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون.

ثمّ أكّد سبحانه ما قدّم بقوله: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على ذبحه. و هذا تصريح في وجوب التسمية على الذبيحة. و ظاهره دالّ على تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا. و إليه ذهب داود و أحمد. و قال مالك و الشافعي بخلافه،لقوله عليه السّلام: «ذبيحة المسلم حلال و إن لم يذكر اسم اللّه عليه».

و فرّق أبو

ص: 452


1- المائدة: 3.

حنيفة بين العمد و النسيان. و من ذهب إلى جواز أكل ما لم يذكر عليه اسم اللّه بنسيان أو عمد، أوّله بالميتة، أو بما ذكر غير اسم اللّه عليه.

و عند أصحابنا الإماميّة أنّ المسلم إذا لم يسمّ اللّه متعمّدا لم تحلّ ذبيحته، و إذا كان ناسيا حلّ أكلها بعد أن يكون معتقدا لوجوب التسمية، و أنّ ذبائح الكفّار كلّهم محرّم، أهل الكتاب و غيرهم، من سمّى منهم و من لم يسمّ، لأنّهم لا يعرفون اللّه تعالى على الوجه الصحيح و الطريق الحقّ.

وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير ل «ما». و يجوز أن يكون للأكل الّذي دلّ عليه «لا تأكلوا».

وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ من الكفّار لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم: تأكلون ما قتلتم أنتم و جوارحكم، كالصقر و البازي و الكلب و غيرها، و تدعون ما قتله اللّه تعالى. و هو يؤيّد التأويل بالميتة. وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرّم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإنّ من ترك طاعة اللّه إلى طاعة غيره و أتبعه فيه أشرك به. و إنّما حسن حذف الفاء فيه، لأنّ الشرط بلفظ الماضي.

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يستضي ء به بين الناس. مثّل به من هداه اللّه تعالى و أنقذه من الضلال، و جعل له نور الحجج و الآيات، يتأمّل بها في الأشياء، فيميّز بين الحقّ و الباطل، و المحقّ و المبطل. و قرأ نافع و يعقوب: ميّتا على الأصل.

كَمَنْ مَثَلُهُ صفته. و هو مبتدأ، و خبره: فِي الظُّلُماتِ أي: كمن صفته هذه، و هي قوله: «فِي الظُّلُماتِ» أي: خابط فيها، كقوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ (1). لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها لا ينفكّ منها و لا يتخلّص. حال من المستكن في الظرف، لا من الهاء في «مثله»، للفصل. و هو مثل لمن بقي على الضلالة، لا يفارقها بحال.

و إنّما سمّى اللّه تعالى الكافر ميّتا، لأنّه لا ينتفع بحياته، و لا ينتفع غيره بحياته،

ص: 453


1- محمد: 15.

فهو أسوأ حالا من الميّت، إذ لا يوجد من الميّت ما يعاقب عليه، و لا يتضرّر غيره به. و سمّى المؤمن حيّا، لأنّ له و لغيره المصلحة و المنفعة في حياته.

كَذلِكَ كما زيّن للمؤمنين إيمانهم زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي:

زيّنه الشيطان، أو اللّه عزّ و علا، على قوله: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ (1). عن الحسن: زيّنه و اللّه لهم الشيطان و أنفسهم. و الآية نزلت في حمزة و أبي جهل. و قيل: في عمّار و أبي جهل.

وَ كَذلِكَ أي: و كما جعلنا في مكّة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها اللام للعاقبة. و المعنى: خلّيناهم و شأنهم، و لم نكفّهم عن المنكر. و خصّ الأكابر لأنّهم أقوى في حملهم على الضلال و المكر بالناس، و هو كقوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها (2). وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأنّ وباله يحيق بهم وَ ما يَشْعُرُونَ ذلك.

و هذه الآية تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تقديم موعد بالنصرة عليهم.

[سورة الأنعام [6]: آية 124]

وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ [124]

روي أنّ الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك، لأنّي أكبر منك سنّا، و أكثر منك مالا.

ص: 454


1- النمل: 4.
2- الإسراء: 16.

و روي أنّ أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ يوحى إليه. و اللّه لا نرضى به و لا نتّبعه أبدا، إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت: وَ إِذا جاءَتْهُمْ يعني: كفّار قريش آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ و نحوها قوله: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (1).

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ استئناف للردّ عليهم، بأنّ النبوّة ليست بالنسب و المال، و إنّما هي بفضائل نفسانيّة يخصّ اللّه تعالى بها من يشاء من عباده، فيجتبي لرسالته من علم أنّه يصلح لها، و هو أعلم بالمكان الّذي يضعها فيه. و قرأ ابن كثير و حفص عن عاصم: رسالته.

سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا من أكابرها صَغارٌ ذلّ و حقارة بعد كبرهم و عظمهم عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة. و قيل: من عند اللّه. وَ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدارين من الأسر و القتل و عذاب النار بِما كانُوا يَمْكُرُونَ بسبب مكرهم، أو جزاء على مكرهم.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 125 الى 127]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [125] وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [126] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [127]

و لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين، بيّن عقيبه ما يفعله سبحانه بكلّ من

ص: 455


1- المدّثّر: 52.

القبيلتين، فقال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به و يوفّقه للإيمان. و لا يفعل ذلك إلّا بمن يعلم أنّ له لطفا. يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فيتّسع له و يفسح فيه مجاله، و يثبت عزمه عليه، و يقوّي دواعيه على التمسّك به، لطفا له بذلك و منّا عليه، حتى تسكن نفسه إليه و تنشرح، حيث تكون النفس طالبة للرشاد و الاهتداء، عائقة عن العناد و المكابرة. و إليه

أشار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سئل عنه فقال: «نور يقذفه اللّه تعالى في قلب المؤمن، فينشرح له و ينفسح. فقالوا: هل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال:

نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزوله».

وَ مَنْ يُرِدْ اللّه أَنْ يُضِلَّهُ أي: يخذله و يخلّيه و شأنه، و هو الّذي لا يلطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً بأن يمنعه ألطافه حتّى يقسو قلبه، و ينبو عن قبول الحقّ و ينسدّ، فلا يدخله الإيمان. و قرأ ابن كثير: ضيقا بالتخفيف، و نافع و أبو بكر عن عاصم: حرجا بالكسر، أي: شديد الضيق، و الباقون بالفتح وصفا بالمصدر.

كَأَنَّما يَصَّعَّدُ يتصعّد فِي السَّماءِ أي: إذا دعي إلى الإسلام كأنّما يزاول أمرا غير ممكن، لأنّ صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، و يضيق عنه القدرة. و قيل: معناه: كأنّما يتصاعد إلى السماء نبوّا عن الحقّ، و تباعدا في الهرب منه. و قرأ ابن كثير: يصعد، و أبو بكر عن عاصم: يصّاعد، بمعنى: يتصاعد.

كَذلِكَ أي: كما يضيق صدره و يبعد قلبه عن الحقّ بالخذلان و التخلية يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي: الخذلان و منع التوفيق عليهم.

فوضع الظاهر موضع الضمير للتعليل. وصفه تعالى بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب، أو أراد الفعل الّذي يؤدّي إلى الرجس، و هو العذاب، من الارتجاس، و هو الاضطراب.

ص: 456

وَ هذا إشارة إلى البيان الّذي جاء به القرآن أو الإسلام، أو إلى ما سبق من التوفيق و الخذلان صِراطُ رَبِّكَ طريقه الّذي اقتضته الحكمة، و عادته في التوفيق و الخذلان مُسْتَقِيماً عادلا لا اعوجاج فيه. و انتصابه على أنّه حال مؤكّدة، كقوله: وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً (1). قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فيعلمون أنّ القادر هو اللّه تعالى، و أنّه عالم بأحوال العباد، حكيم عادل فيما يفعل بهم.

لَهُمْ أي: للّذين تذكّروا و عرفوا الحقّ دارُ السَّلامِ دار اللّه، يعني:

الجنّة. أضافها إلى نفسه تعظيما لها. أو دار السلامة من كلّ آفة و كدر. أو دار تحيّتهم فيها سلام. عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: هي مضمونة لهم عند ربّهم، يوصلهم إليها لا محالة، كما تقول: لفلان عندي حقّ لا ينسى. أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها، كقوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (2).

وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ مولاهم و محبّهم و ناصرهم على أعدائهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم، أو متولّيهم بجزاء ما كانوا يعملون.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 128 الى 132]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [128] وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [129] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ

ص: 457


1- البقرة: 91.
2- السجدة: 17.

وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ [130] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ [131] وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [132]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب بمحذوف، تقديره: و اذكر يوم نحشرهم، أو تقديره: و يوم نحشرهم جميعا نقول. و الضمير لمن يحشر من الثقلين. و قرأ حفص عن عاصم و روح عن يعقوب بالياء.

يا مَعْشَرَ الْجِنِ يعني: الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي: من إغوائهم و إضلالهم. أو منهم، بأن جعلتموهم أتباعكم، فحشروا معكم، كقولهم:

استكثر الأمير من الجنود، أي: طلب كثرتهم.

وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الّذين أطاعوهم و استمعوا إلى وسوستهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي: انتفع الإنس بالشياطين حيث دلّوهم على الشهوات و على أسباب التوصّل إليها، و انتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم و ساعدوهم على مرادهم و شهوتهم في إغوائهم، و حصّلوا مرادهم.

و قيل: استمتاع الإنس بهم أنّهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز و عند

ص: 458

المخاوف، كقوله تعالى: وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ (1).

و استمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنّهم يقدرون على تخليصهم و إجارتهم.

وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي: يوم البعث. و هو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان، و اتّباع الهوى، و تكذيب البعث، و تحسّر على حالهم.

قالَ أي: قال اللّه تعالى لهم النَّارُ مَثْواكُمْ مقامكم و منزلكم، أو ذات مثواكم خالِدِينَ فِيها مؤبّدين. و هو حال، و العامل فيها «مثواكم» إن جعل مصدرا، و معنى الإضافة إن جعل مكانا. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من الأوقات الّتي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير، فقد روي أنّهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميّز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون و يطلبون الردّ إلى الجحيم. أو إلّا ما شاء اللّه قبل الدخول، كأنّه قيل: النار مثواكم أبدا، إلّا ما أمهلكم من أوقات حشركم من قبوركم، و مقدار مدّتكم و محاسبتكم.

إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في أفعاله، لا يفعلها إلّا بموجب الحكمة عَلِيمٌ بأعمال الثقلين و أحوالهم.

وَ كَذلِكَ أي: و مثل ذلك المهل بتخلية بعضهم مع بعض نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نخلّيهم حتّى يتولّى بعضهم بعضا، كما فعل الشياطين و غواة الناس. أو نجعل بعضهم أولياء بعض و قرناءهم في العذاب، كما كانوا في الدنيا.

بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب ما كسبوا من الكفر و المعاصي.

و يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الرسل من الإنس خاصّة، لكن لمّا جمع الثقلان في الخطاب صحّ ذلك و إن كان من أحدهما. و نظيره: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (2)، و إن كان اللؤلؤ

ص: 459


1- الجنّ: 6.
2- الرحمن: 22.

يخرج من الملح دون العذب. و تعلّق قوم بظاهره و قالوا: بعث إلى كلّ من الثقلين رسل من جنسهم. و قيل: الرسل من الجنّ رسل الرسل إليهم، لقوله: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (1).

و عن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبعثون إلى النّاس، ثمّ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الإنس و الجنّ.

يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يتلون عليكم حججي و دلائلي وَ يُنْذِرُونَكُمْ و يخوّفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يعني: يوم القيامة.

قالُوا جوابا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا بالجرم و العصيان. و هو اعتراف منهم بأنّ حجّة اللّه لازمة لهم، و بكفرهم و استيجاب العذاب لهم. وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ذمّ

لهم على سوء نظرهم و خطأ رأيهم، فإنّهم اغترّوا بالحياة الدنيويّة و اللذّات الخسيسة، و أعرضوا عن الآخرة بالكلّية، حتّى كان عاقبة أمرهم أن اضطرّوا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر، و الاستسلام للعذاب المخلّد، تحذيرا للسامعين من مثل حالهم.

و لا ينافي الآية قوله: وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (2)، لتفاوت الأحوال و المواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، و يجحدون في البعض. أو أريد شهادة أيديهم و أرجلهم و جلودهم حين يختم على أفواههم.

و لمّا كانت الشهادة الأولى حكاية لقولهم كيف يعترفون على أنفسهم، و الثانية ذمّ لهم و تخطئة لرأيهم، و وصف لقلّة نظرهم لأنفسهم، و أنّهم قوم غرّتهم الحياة الدنيا و اللذّات الحاضرة، و عاقبة حالهم اضطرارهم إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر، فلا يلزم تكرار الشهادة.

ص: 460


1- الأحقاف: 29.
2- الأنعام: 23.

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من بعثة الرسل. و هو خبر مبتدأ محذوف، أي:

الأمر ذلك. و قوله: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ تعليل للحكم. و «أن» مصدريّة أو مخفّفة من الثقيلة، أي: الأمر ما قصصنا عليك، لانتفاء كون ربّك، أو لأنّ الشأن لم يكن ربّك مهلك أهل القرى بسبب ظلم أقدموا عليه، أو ملتبسين بظلم، أو ظالما، على معنى: أنّه لو أهلكهم من غير تنبيه رسول و كتاب لكان ظالما، و هو متعال عن الظلم.

وَ لِكُلٍ من المكلّفين دَرَجاتٌ مراتب مِمَّا عَمِلُوا من أعمالهم على حسب ما يستحقّونه، أو من جزائها، أو من أجلها. و قيل: أراد درجات و دركات من جزاء أعمالهم، فغلب منازل أهل الجنّة. وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه مقاديره، و ما يستحقّ عليه من

الثواب و العقاب. و قرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 133 الى 135]

وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [133] إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [134] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [135]

و لمّا أمر سبحانه بطاعته و حثّ عليها و رغّب فيها، بيّن أنّه لم يأمر بها لحاجة، لأنّه يتعالى عن النفع و الضرّ، فقال: وَ رَبُّكَ الْغَنِيُ عن العباد و العبادة ذُو الرَّحْمَةِ يترحّم عليهم بإمهالهم على التكليف، ليعرضهم المنافع العظيمة الّتي

ص: 461

لا يحسن إيصالهم إليها إلّا بالاستحقاق، لاقترانها بالتعظيم و الإجلال.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: ما به إليكم حاجة، لأنّه غنيّ مطلق، إن يشأ يذهبكم أيّها العصاة وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق، أي: ينشئ من بعد إهلاككم و إذهابكم خلقا غيركم يطيعونه، يكونون خلفا لكم كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي: قرنا بعد قرن، لكنّه أبقاكم ترحّما عليكم.

إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث و الحشر، و الثواب و العقاب، و تفاوت أهل الجنّة و النار في الدرجات و الدركات لَآتٍ لكائن لا محالة وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ طالبكم بالبعث. و الإعجاز أن يأتي الإنسان بشي ء يعجز خصمه عنه، فيكون قد جعله عاجزا منه. فالمعنى: لستم بمعجزين اللّه عن الإتيان بالبعث و العقاب.

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على غاية تمكّنكم، و أقصى استطاعتكم و إمكانكم. يقال: مكّن مكانة إذا تمكّن أبلغ التمكّن. أو على حالكم الّتي أنتم عليها، أو على ناحيتكم و جهتكم الّتي أنتم عليها، من قولهم: مكان و مكانة، كمقام و مقامة. و قرأ أبو بكر عن عاصم: مكاناتكم، بالجمع في جميع القرآن. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: على مكانك يا فلان، أي: اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف. و هو أمر تهديد. و المعنى: اثبتوا على كفركم و عداوتكم لي.

إِنِّي عامِلٌ ما كنت عليه من المصابرة و الثبات على الإسلام. و التهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد، كأنّ المهدّد يريد تعذيبه، فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه، و تسجيل بأنّ المهدّد لا يتأتّى منه إلّا الشرّ، فكأنّه مأمور به، و هو واجب عليه حتم، ليس له أن يتفصّى عنه و يعمل بخلافه.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أيّنا تكون له العاقبة المحمودة؟

و هذا نحو قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (1): جعل «من» استفهاميّة، بمعنى: أيّنا تكون له

ص: 462


1- فصّلت: 40.

عاقبة الدار الحسنى الّتي خلق اللّه هذه الدار لها؟ فمحلّها الرفع، و فعل العلم معلّق عنه. و إن جعلت خبريّة بمعنى: الّذي، فالنصب ب «تعلمون» أي: فسوف تعرفون الّذي تكون له العاقبة. و فيه مع الإنذار إنصاف في المقال و حسن الأدب، و تنبيه على وثوق المنذر بأنّه محقّ.

و قرأ حمزة و الكسائي: يكون بالياء، لأنّ تأنيث العاقبة غير حقيقي.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وضع «الظالمون» موضع: الكافرون، لأنّه أعمّ و أكثر فائدة.

[سورة الأنعام [6]: آية 136]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [136]

ثمّ عاد الكلام إلى حجاج المشركين و بيان اعتقاداتهم الفاسدة، فقال:

وَ جَعَلُوا يعني:

كفّار مكّة و من تقدّمهم من المشركين لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ خلق مِنَ الْحَرْثِ من الزرع وَ الْأَنْعامِ أي: المواشي، من الإبل و البقر و الغنم نَصِيباً حظّا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي: قد زعموا أنه للّه، و اللّه لم يأمرهم بذلك وَ هذا لِشُرَكائِنا يعني: الأوثان. و إنّما جعلوها شركاءهم لأنّهم أشركوها في أموالهم و أفعالهم.

روي أنّهم كانوا يعيّنون شيئا من حرث و نتاج للّه، و يصرفونه إلى الضيفان و المساكين، و شيئا منهما لآلهتهم، و ينفقونه على سدنتها، و يذبحونه عندها. ثمّ إن رأوا ما عيّنوا للّه أزكى و أنمى بدّلوه بما لآلهتهم، و إن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها،

ص: 463

و اعتلّوا لذلك بأن اللّه غنيّ. فقال سبحانه: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي: لا يصل إلى الوجوه الّتي كانوا يصرفونه إليها، من قرى الضيفان و التصدّق على المساكين وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ

و في قوله: «ممّا ذرأ» تنبيه على فرط جهالتهم، فإنّهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شي ء، ثمّ رجّحوه عليه، بأن جعلوا الزاكي له. و في قوله:

«بزعمهم» تنبيه على أنّ ذلك ممّا اخترعوه، لم يأمرهم اللّه به. و قرأ الكسائي بالضمّ في الموضعين (1). و هو لغة فيه.

ساءَ ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا. و هو إيثار آلهتهم على اللّه، و عملهم على ما لم يشرع لهم.

[سورة الأنعام [6]: آية 137]

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ [137]

ثمّ بيّن سبحانه خصلة اخرى من خصالهم الذميمة، فقال: وَ كَذلِكَ أي:

و مثل ذلك التزيين الّذي هو تزيين الشرك في

قسمة القربان بين اللّه و آلهتهم زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد خيفة العلية أو العار، أو بنحرهم لآلهتهم شُرَكاؤُهُمْ من الجنّ، أو من سدنة الأصنام. و هو فاعل «زيّن».

و قرأ ابن عامر: زيّن، على البناء للمفعول الّذي هو القتل، و نصب الأولاد، و جرّ الشركاء بإضافة القتل إليه، مفصولا بينهما بمفعوله. و هو ضعيف في العربيّة، معدود من ضرورات الشعر، كقوله:

فزججتها بمزجّة *** زجّ القلوص أبي مزادة

فإنّه فصل بين المضاف و المضاف إليه بالمفعول. و تقديره: فزججت الكتيبة

ص: 464


1- أي: بزعمهم، في هذه الآية، و في الآية 138، و ستأتي في ص: 466.

زجّا مثل زجّ أبي مزادة القلوص. و الزجّ: الطعن. و المزجّة بفتح الزاء: الرمح القصير. و القلوص: الشابّة من النوق. فتقدير الآية: زيّن لهم أن قتل شركاؤهم أولادهم.

لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإغواء وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ و ليخلطوا عليهم و يشبهوه. و دينهم هو ما كانوا عليه من دين إسماعيل. و قيل: دينهم الّذي كان يجب أن يكونوا عليه. و اللام للعلّة إن كان التزيين من الشياطين، و للعاقبة إن كان من السدنة.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة قسر ما فَعَلُوهُ أي: ما فعل المشركون ما زيّن لهم من القتل، لكن هذه المشيئة منافية للتكليف الّذي هو مناط الثواب و العقاب، فلم يشأها فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ أي: افتراءهم، أو ما يفترونه من الإفك على اللّه. و فيه غاية الزجر و التهديد، كما يقول القائل: دعه و ما اختار.

و في هذه الآية دلالة واضحة على أنّ تزيين القتل و القتل فعلهم، و أنّهم في إضافة ذلك إلى اللّه تعالى كاذبون.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 138 الى 139]

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ

بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ [138] وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [139]

ثمّ حكى اللّه سبحانه عنهم عقيدة اخرى من عقائدهم الفاسدة، فقال:

وَ قالُوا هذِهِ إشارة إلى ما جعل لآلهتهم أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ حرام. فعل بمعنى

ص: 465

المفعول، كالذبح و الطحن بمعنى المذبوح و المطحون. يستوي فيه الواحد و الكثير، و الذكر و الأنثى، لأنّ حكمه حكم الأسماء غير الصفات. لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون: خدم الأوثان و الرجال دون النساء بِزَعْمِهِمْ من غير حجّة لهم.

وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها من البحائر و السوائب و الحوامي (1) وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح، و إنّما يذكرون أسماء الأصنام عليها. و قيل: لا يحجّون على ظهورها، و لا يلبّون.

و المعنى: أنّهم قسّموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر، و هذه أنعام محرّمة الظهور، و هذه أنعام لا يذكرون عليها اسم اللّه. فجعلوها أجناسا بدعوتهم الباطلة، و نسبوا ذلك التقسيم إلى اللّه.

افْتِراءً عَلَيْهِ أي: فعلوا ذلك كلّه على جهة الافتراء. فهو مفعول له.

و يحتمل نصبه على المصدر، لأنّ ما قالوه تقوّل على اللّه. و الجارّ متعلّق ب «قالوا» أو بمحذوف هو صفة له، أو على الحال. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ بسببه أو بدله.

ثمّ حكى اللّه تعالى عنهم مقالة اخرى، فقال: وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون: أجنّة البحائر و السوائب خالِصَةٌ لِذُكُورِنا حلال للذكور خاصّة وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي: دون الإناث، إن ولد حيّا، لقوله: وَ

إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فالذكور و الإناث فيه سواء.

و تأنيث الخالصة للمعنى، فإنّ «ما» في معنى الأجنّة. و ذكّر «محرّم» للحمل على اللفظ. و لذلك وافق عاصم- في رواية أبي بكر- ابن عامر في «تكن» بالتاء، و الباقون بتذكيره. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: ميتة بالرفع، و الباقون بالنصب. فيكون لابن عامر التأنيث و الرفع على أنّ «كان» تامّة. و لأبي بكر التأنيث و النصب على:

ص: 466


1- مرّ تفسيرها ذيل الآية 103 من سورة المائدة، راجع ص: 332.

و إن تكن الأجنّة ميتة. و لابن كثير التذكير و الرفع على أنّ «كان» تامّة، و تأنيث الفاعل غير حقيقي. و للباقين التذكير و النصب على: و إن يكن ما في بطنها ميتة.

و قيل: التاء في الخالصة للمبالغة، كما في راوية الشعر، أو هو مصدر كالعافية، وقع موقع الخالص.

سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي: جزاء وصفهم الكذب على اللّه تعالى في التحريم و التحليل، من قوله: وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ (1) هذا حلال و هذا حرام إِنَّهُ حَكِيمٌ فيما يفعل بهم من العقاب آجلا، و في إمهالهم عاجلا عَلِيمٌ بما يفعلونه، لا يخفى عليه شي ء منها.

[سورة الأنعام [6]: آية 140]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ [140]

ثمّ جمع سبحانه بين الفريقين: الّذين قتلوا الأولاد، و الّذين حرّموا الحلال، فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ يريد بهم العرب الّذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي و الفقر. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: قتّلوا بالتشديد، بمعنى التكثير.

سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ لخفّة عقلهم، و جهلهم بأنّ اللّه رازق أولادهم. و يجوز نصبه على الحال أو المصدر.

وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر و نحوها افْتِراءً عَلَى اللَّهِ يحتمل الوجوه المذكورة فيه قَدْ ضَلُّوا قد ذهبوا عن طريق الحقّ بما فعلوه وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحقّ و الصواب.

و في هذه الآيات دلالات على بطلان مذهب المجبّرة، لأنّه سبحانه أضاف

ص: 467


1- النحل: 62.

القتل و الافتراء و التحريم إليهم، و نزّه نفسه عن ذلك، و ذمّهم على قتل الأطفال بغير جرم، فكيف يعاقبهم سبحانه عقاب الأبد على غير جرم؟!

[سورة الأنعام [6]: آية 141]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [141]

و لمّا حكى سبحانه عن المشركين أنّهم جعلوا بعض الأشياء للأوثان، عقّب ذلك البيان بأنّه الخالق لجميع الأشياء، فلا يجوز إضافة شي ء منها إلى الأوثان، و لا تحليل ذلك و لا تحريمه إلّا بإذنه، فقال: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ بساتين من الكروم مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على ما يحملها من الدعائم وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أي: ملقيات على وجه الأرض بغير عرش. و قيل: المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه، و غير معروشات ما نبت في البراري و الجبال.

وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ثمره الّذي يؤكل في اللون و الطعم و الحجم و الرائحة. و الضمير للزرع، و الباقي مقيس عليه. أو للنخل، و الزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفا عليه. أو للجميع على تقدير: أكل ذلك، أو كلّ واحد منهما.

و «مختلفا» حال مقدّرة، لأنّه لم يكن كذلك عند الإنشاء، كقوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ (1).

وَ الزَّيْتُونَ و إنشاء الزيتون وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً

في الهيئة و الكيفيّة وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ فيهما، أي: يتشابه بعض أفرادهما في الهيئة و الكيفيّة، و لا يتشابه

ص: 468


1- الزمر: 73.

بعضها. و إنّما قرن الزيتون إلى الرمّان، لأنّهما متشابهان باكتناز الأوراق في أغصانها.

كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ من ثمر كلّ واحد من ذلك إِذا أَثْمَرَ و إن لم يدرك و لم يينع (1) بعد. و الأمر للإباحة. و إنّما قال ذلك ليعلم أنّ وقت إباحة الأكل من ثمرة وقت الاطلاع (2)، و لا يتوهّم أنّه غير مباح أكله قبل وقت الإيناع.

وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ

و هو ما تيسّر إعطاؤه المساكين، من الضغث (3) بعد الضغث، و من الحفنة بعد الحفنة. و هو المرويّ عنهم عليهم السّلام.

و قيل: إنّه الزكاة، العشر و نصف العشر، أي: لا تؤخّروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء.

و يؤيّد الأوّل ما قاله السدّي: إنّ الآية منسوخة بفرض العشر، لأنّ الزكاة المقدّرة فرضت بالمدينة، و هذه الآية مكّية. و لأنّ الزكاة لا تخرج يوم الحصاد، بل وقت التنقية و إخراج المؤن.

و قرأ نافع و ابن كثير و حمزة و الكسائي: حصاده بكسر الحاء. و هو لغة فيه.

و يؤيّد القول الأوّل أيضا قوله: وَ لا تُسْرِفُوا في التصدّق، كقوله تعالى:

وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (4)، بأن تتصدّقوا بالجميع، و لا تبقوا لعيال، لأنّ الزكاة مقدّرة بقدر معلوم، فلا يتصوّر الإسراف فيها إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم.

ص: 469


1- ينع يينع الثمر ينوعا و إيناعا: أدرك و طاب و حان قطافه.
2- أي: وقت اطلاع الشجر الثمرة، و هو وقت ظهورها.
3- الضّغث: قبضة حشيش يختلط فيها الرطب باليابس. و الحفنة: مل ء الكفّين.
4- الإسراء: 29.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 142 الى 144]

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [142] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [143] وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [144]

ثمّ بيّن نعمة اخرى، و هي إنشاء الأنعام، فقال عطفا على «جنّات»: وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً أي: و أنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال و ما يفرش للذبح، أو ما يفرش المنسوج من شعره و صوفه و وبره. و قيل: الكبار الصالحة للحمل، و الصغار الدانية من الأرض، مثل الفرش المفروش عليها.

كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي: استحلّوا أكل ما أحلّ لكم منه وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ و لا تحرّموا شيئا منها، كما فعله أهل الجاهليّة من التحليل و التحريم في الحرث و الأنعام من عند أنفسهم إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.

ثمّ فسّر سبحانه الحمولة و الفرش بقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من «حمولة» و «فرشا» أو مفعول «كلوا». و قوله «وَ لا تَتَّبِعُوا» معترض بينهما، أو حال من «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» بمعنى: مختلفة أو متعدّدة. و الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه.

ص: 470

و هما زوجان، بدليل قوله: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (1). و قد يقال لمجموعهما. و المراد هاهنا الأوّل، لقوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ زوجين: الكبش (2) و النعجة. و هو بدل من

«ثمانية». و الضأن اسم جنس كالإبل، و جمعه ضئين، أو جمع ضائن، كتاجر و تجر. وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ العنز (3) و التيس. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب بفتح العين. و هو جمع ماعز، كصاحب و صحب، أو حارس و حرس.

قُلْ آلذَّكَرَيْنِ ذكر الضأن و ذكر المعز حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أم أنثييهما؟! و الهمزة للإنكار. و نصب الذكرين و الأنثيين ب «حرّم». أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أو ما حملت إناث الجنسين، ذكرا كان أو أنثى. و المعنى: إنكار أن يحرّم اللّه من جنس الغنم شيئا من نوعي ذكورها و إناثها، و لا ممّا تحمل إناث الجنسين.

نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبروني بأمر معلوم يدلّ على أنّ اللّه تعالى حرّم شيئا من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه. و إنّما ذكر اللّه تعالى هذا على وجه الاحتجاج عليهم، و بيّن فريتهم و كذبهم على اللّه تعالى فيما ادّعوا من أنّ ما في بطون الأنعام حلال للذكور و حرام على الإناث، و غير ذلك ممّا حرّموه.

وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ الذكور و الإناث وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ كذلك قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ كما سبق. و المعنى:

إنكار أنّ اللّه تعالى حرّم شيئا من أجناس الأربعة، ذكرا كان أو أنثى، أو ما تحمل إناثها، ردّا عليهم، فإنّهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة، و إناثها اخرى، و أولادها كيف كانت تارة، زاعمين أنّ اللّه تعالى حرّمها.

ص: 471


1- النجم: 45.
2- الكبش: فحل الضأن. و النعجة: الأنثى من الضأن. و الضّأن: خلاف المعز، أي: ذوات الصوف من الغنم.
3- العنز: الأنثى من المعز. و التيس: الذكر من المعز. و المعز: خلاف الضأن من الغنم، أي: ذوات الشعر و الأذناب القصار.

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ بل أ كنتم شهداء حاضرين مشاهدين إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا حين وصّاكم بهذا التحريم؟! و معناه: أعرفتم توصية اللّه مشاهدين، إذ أنتم لا تؤمنون بالرسل، و مع ذلك تقولون إنّ اللّه حرّم هذا الّذي تحرّمونه، فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلّا المشاهدة و السماع.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم. و المراد كبراؤهم المقرّرون لذلك، أو عمرو بن لحى المؤسّس له، فإنّه الّذي بحّر البحائر و سيّب السوائب و غيّر دين إبراهيم و إسماعيل. لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي:

يعمل عمل القاصد إلى إضلالهم، من أجل دعائه إيّاهم إلى ما لا يثق بصحّته، ممّا لا يأمن من أن يكون فيه هلاكهم، و إن لم يقصد إضلالهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى الثواب، لأنّهم مستحقّون العقاب الدائم بكفرهم و ضلالهم.

و قوله: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ» إلى قوله: «الْمُسْرِفِينَ» اعتراض. و كذلك قوله: «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» و «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ» إلى تمام الآيتين. و الاعتراضات لتأكيد التحليل، و الاحتجاج على من ذهب إلى التحريم.

[سورة الأنعام [6]: آية 145]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [145]

و لمّا قدّم تعالى ذكر ما حرّمه المشركون، عقّبه ببيان المحرّمات بقوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ أي: في القرآن، أو فيما أوحي إليّ مطلقا. و فيه تنبيه على أنّ التحريم إنّما يعلم بالوحي، لا بما تهوى الأنفس. مُحَرَّماً طعاما محرّما عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إلّا أن يكون الطعام ميتة. و قرأ

ص: 472

ابن كثير و حمزة بالتاء، لتأنيث الخبر، و نصب «ميتة». و قرأ ابن عامر بالياء و رفع «ميتة» على أنّ «كان» هي التامّة.

أَوْ دَماً مَسْفُوحاً عطف على «أن يكون» مع ما في حيّزه، أي: إلّا وجود ميتة أو دما مسفوحا- أي: مصبوبا- كالدم في العروق، لا المتخلّف بعد الذبح، فإنّه مباح.

أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ فإنّ الخنزير أو لحمه نجس قذر منفور عنه أَوْ فِسْقاً عطف على «لَحْمَ خِنزِيرٍ»، و ما بينهما اعتراض للتعليل أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة. و إنّما سمّى ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغّله في الفسق.

و يجوز أن يكون «فسقا» مفعولا له من «أهلّ»، و هو عطف على «يكون» و المستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في «يكون».

فَمَنِ اضْطُرَّ فمن دعته الضرورة إلى تناول شي ء من ذلك غَيْرَ باغٍ على مضطرّ مثله، أو الخارج على الإمام العادل وَ لا عادٍ متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه.

و الآية محكمة، لأنّها تدلّ على أنّه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرّما غير هذه، و ذلك لا ينافي ورود التحريم في شي ء آخر بعد ذلك، فلا يصحّ الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد، و لا على حلّ ما عدا ذلك.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 146 الى 147]

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ [146] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [147]

ص: 473

ثمّ بيّن سبحانه ما حرّم تعالى على اليهود، فقال: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا أي:

و على اليهود حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ كلّ ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل و السباع و الطيور. و قيل: كلّ ذي مخلب و حافر. و سمّي الحافر ظفرا مجازا. و كان بعض ذوات الظفر حلالا لهم، فلمّا ظلموا حرّم عليهم، فعمّ التحريم كلّ ذي ظفر، بدليل قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (1).

و قوله: وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما الثروب (2) و شحوم الكلى. و الإضافة لزيادة الربط. إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما إلّا ما علقت بظهورهما من الشحم. و هو اللحم السمين، فإنّه لم يحرّم عليهم. أَوِ الْحَوايا أو ما اشتمل على الأمعاء من الشحوم، فإنّه غير محرّم عليهم أيضا. جمع حاوية، أو حاوياء، كقاصعاء و قواصع، أو حويّة، كسفينة و سفائن. و قيل: هو عطف على شحومهما، و «أو» بمعنى الواو. و كذا قوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هو شحم الألية، لاتّصالها بالعصعص (3).

ذلِكَ التحريم أو الجزاء جَزَيْناهُمْ و هو تحريم الطيّبات بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أوعدنا به العاصين، لا نخلفه كما لا نخلف ما وعدناه للمطيعين. أو في الإخبار عن بغيهم.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما تقول فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب، فلا تغترّوا بإمهاله، فإنّه لا يهمل. وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ حين ينزل. أو ذو رحمة واسعة على المطيعين، و ذو بأس شديد على المجرمين، فأقام مقامه «وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ»، لتضمّنه التنبيه على إنزال البأس عليهم، مع الدلالة

ص: 474


1- النساء: 160.
2- جمع الثرب، و هو الشحم الرقيق الذي على الكرش و الأمعاء.
3- العصعص و العصعوص: عظم الذنب.

على أنّه لازم لهم لا يمكن ردّه عنهم.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 148 الى 149]

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ [148] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [149]

و لمّا تقدّم الردّ على المشركين لاعتقاداتهم الباطلة، ردّ سبحانه عليهم مقالتهم الفاسدة، فقال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هذا إخبار بما سوف يقولونه. و وقوع مخبره يدلّ على إعجازه. لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ زعموا أنّ شركهم و شرك آبائهم و تحريمهم ما حرّموه، بمشيئة اللّه و إرادته، و لولا أنّه شاء ذلك لم يكن شي ء منه. و هذا مذهب المجبّرة بعينه. و لا شكّ في بطلان مذهبهم، فإنّ اللّه تعالى ركّب في العقول ما دلّ على علمه بالقبائح، و براءته عن مشيئة القبائح و إرادتها، و أخبر أنبياءه بذلك، فمن علّق وجود الكفر بمشيئة اللّه فقد كذّب اللّه و كتبه و رسله، و نبذ أدلّة العقل و السمع وراء ظهره.

كَذلِكَ أي: مثل هذا التكذيب الّذي صدر من هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الرسل و الكتب و أدلّة العقل حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا عذابنا الّذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم.

قُلْ تهكّما عليهم هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم فَتُخْرِجُوهُ فتظهروه لَنا و هذا من التهكّم و الشهادة بأن مثل قولهم

ص: 475

محال أن يكون حجّة إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتّبعون في قولكم هذا إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تقدّرون أن الأمر كما تزعمون، أو تكذبون. و فيه دليل على المنع من اتّباع الظنّ، سيّما في الأصول.

قُلْ يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجّة على ما قالوه فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ البيّنة الواضحة الّتي بلغت غاية المتانة و القوّة على الإثبات، أو بلغ بها صاحبها صحّة دعواه. و هي من الحجّ بمعنى القصد، كأنّها تقصد إثبات الحكم و تطلبه. أو من: حجّ، إذا غلب، فإنّ من تمسّك بها غلب أهل الضلال.

فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي: لألجأكم إلى الإيمان و هداكم جميعا إليه، بفعل الإلجاء و القسر، إلّا أنّه لم يفعل ذلك، لأنّ الإلجاء ينافي التكليف.

و قال في الكشّاف: «معناه: قل إن كان الأمر كما زعمتم أنّ ما أنتم عليه بمشيئة اللّه، فاللّه الحجّة البالغة عليكم على قود مذهبكم، فلو شاء لهداكم أجمعين منكم و من مخالفيكم في الدين، فإنّ تعليقكم دينكم بمشيئة اللّه يقتضي أن تعلّقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئته، فتوالوهم و لا تعادوهم، و توافقوهم و لا تخالفوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه و بين ما هم عليه» (1).

[سورة الأنعام [6]: آية 150]

قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [150]

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الطريق الموصل إلى صحّة مذاهبهم منسدّ غير ثابت من

ص: 476


1- الكشّاف 2: 77.

جهة حجّة عقليّة و لا سمعيّة، و ما هذه صفته فهو فاسد لا محالة، فقال: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أحضروهم. و هو اسم فعل لا يتصرّف عند أهل الحجاز، و فعل يؤنّث و يجمع عند بني

تميم. و أصله عند البصريّين: هالمّ، من: لمّ إذا قصد، حذفت الألف.

و عند الكوفيّين هل امّ، فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام. و هو بعيد، لأنّ «هل» لا تدخل الأمر. و يكون متعدّيا كما في هذه الآية، و لازما كقوله: هلمّ إلينا.

الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا يعني: قدوتهم في هذا الأمر. و المراد: أن يحضروا شهداءهم الّذين علم أنّهم يشهدون لهم و ينصرون قولهم، و كان المشهود لهم يقلّدونهم، و يثقون بهم، و يعتضدون بشهادتهم بانقطاع حجّتهم ما يقومون بهم، فيحقّ الحقّ و يبطل الباطل، فأضيفت الشهداء لذلك. وجي ء ب «الّذين» للدلالة على أنّهم شهداء معروفون، موسومون بالشهادة لهم، و ينصرون مذهبهم.

فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فلا تصدّقهم فيه، و بيّن لهم فساده، فإنّ تسليمه موافقة لهم في الشهادة الباطلة.

وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع المظهر موضع المضمر، للدلالة على أنّ مكذّب الآيات متّبع الهوى لا غير، و أنّ متّبع الحجّة لا يكون إلّا مصدّقا بها وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يجعلون له عديلا. و إنّما ذكر الفريقين و إن كانوا كلّهم كفّارا ليفصّل وجوه كفرهم، لأنّ منه ما يكون مع الإقرار بالآخرة، كحال أهل الكتاب، و منه ما يكون مع الإنكار، كحال عبدة الأوثان.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 151 الى 153]

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا

ص: 477

الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [151] وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ

أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [152] وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [153] و لمّا حكى سبحانه عنهم تحريم ما حرّموه، عقّبه بذكر المحرّمات، فقال:

قُلْ تَعالَوْا أمر من التعالي. و أصله أن يقوله من كان في علوّ لمن كان في سفل، فاتّسع فيه بالتعميم. أَتْلُ أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ منصوب ب «أتل». و «ما» تحتمل الخبريّة و المصدريّة. و يجوز أن تكون استفهاميّة منصوبة ب «حرّم»، و الجملة مفعول «أتل». و المعنى: أتل أيّ شي ء حرّم ربّكم؟ عَلَيْكُمْ متعلّق ب «حرّم» أو «أتل».

أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أن مفسّرة، و «لا» للنهي، أي: لا تشركوا به. و إن جعلت «أن» ناصبة كان «أن لا تشركوا» بدلا من «ما حرّم». إلّا أنّ القول الأوّل أوجه، ليكون «لا تشركوا» «و لا تقربوا» «و لا تقتلوا» «و لا تتّبعوا السبل» النواهي، أو بتعطّف الأوامر عليها، و هي قوله: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً»، فإنّ التقدير: و أحسنوا للوالدين إحسانا، و أوفوا، و إذا قلتم فاعدلوا. و يجوز أن تقف على قوله: «حَرَّمَ رَبُّكُمْ» ثمّ تبتدئ فتقول: أن لا تشركوا، أي: عليكم ترك الإشراك، على أن تكون «أن» الناصبة للفعل. و «شيئا» يحتمل المصدر و المفعول.

ص: 478

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: و أحسنوا بهما إحسانا. وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة، و للدلالة على أنّ ترك الإساءة في شأنهما غير كاف، بخلاف غيرهما.

وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر، أو من خشية إملاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ منع لموجبيّة ما كانوا يفعلون لأجله، و احتجاج عليه.

وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبائر الذنوب كلّها ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ بدل منه. و هو مثل قوله: وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «ما ظهر هو الزنا، و ما بطن هو المخالّة» (2).

و عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا لا يرون بالزنا في السرّ بأسا، و يمنعون منه علانية، فنهى اللّه عنه في الحالتين.

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ هي نفس المسلم و المعاهد إِلَّا بِالْحَقِ كالقود و قتل المرتدّ و رجم المحصن. و على الأوّل ذكر هذا النهي- و إن كان داخلا في الفواحش- تعظيما لشأنه.

ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر مفصّلا وَصَّاكُمْ بِهِ بحفظه، فتحلّلوا ما حلّله لكم، و تحرّموا ما حرّمه عليكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترشدون، فإنّ كمال العقل هو الرشد.

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ المراد بالقرب التصرّف فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلّا بالفعلة أو الخصلة الّتي هي أحسن ما يفعل بماله، كحفظه و تثميره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ حتّى يصير بالغا كامل العقل، ثمّ ادفعوه إليه. و هو جمع شدّة كنعمة و أنعم، أو شدّ كصرّ و أصرّ. و قيل: هو كآنك (3). و إنّما خصّ مال اليتيم بالذكر، لأنّه لا

ص: 479


1- الأنعام: 120.
2- المخالّة: المصادقة.
3- الآنك: الأسربّ. و أفعل من أبنية الجمع، و لم يجي ء عليه الواحد إلّا آنك و أشدّ. الصحاح 4: 1573.

يستطيع الدفاع عن نفسه و لا عن ماله، فيكون الطمع في ماله أشدّ، و يد الرغبة إليه أمدّ، فأكّد تعالى النهي عن التصرّف في ماله، و إن كان ذلك واجبا في مال كلّ أحد.

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل و التسوية لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلّا ما يسعها و لا تعجز عنه. و إنّما ذكره عقيب الأمر، لأنّ مراعاة التعديل فيهما على الحدّ الّذي لا زيادة فيه و لا نقصان ممّا يتعذّر، فأمر ببلوغ الوسع، و أنّ ما وراءه معفوّ عنه.

وَ إِذا قُلْتُمْ في حكومة و غيرها فَاعْدِلُوا فيه، أي: فقولوا الحقّ وَ لَوْ كانَ المقول له أو عليه في شهادة و غيرها ذا قُرْبى من ذوي قرابتكم. فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (1). وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي: ما عهد إليكم من ملازمة العدل و تأدية أحكام الشرع أَوْفُوا بالامتثال ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتّعظون به.

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً الإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة، فإنّها بأسرها في إثبات التوحيد و النبوّة و بيان الشريعة. و قرأ حمزة و الكسائي: إنّ بالكسر على الاستئناف، و ابن عامر و يعقوب بالفتح و التخفيف، و الباقون بالفتح مشدّدة بتقدير اللام، على أنّه علّة لقوله: فَاتَّبِعُوهُ أي: فاتّبعوا ما في هذه السورة، لأنّه صراطي مستقيما. و قرأ ابن عامر: صراطي بفتح الياء.

وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأديان المختلفة، من اليهوديّة و النصرانيّة و المجوسيّة، و سائر البدع و الشبهات، أو الطرق التابعة للهوى، فإنّ مقتضى الحجّة واحد، و مقتضى الهوى متعدّد، لاختلاف الطبائع و العادات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ فتفرّقكم و تزيلكم عَنْ سَبِيلِهِ عن صراط اللّه المستقيم، و هو دين الإسلام.

و روي عن ابن مسعود: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطّ خطّا ثمّ قال: هذا سبيل الرشد،.

ص: 480


1- النساء: 135.

ثمّ خطّ عن يمينه و عن شماله خطوطا ثمّ قال: هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ تلا هذه الآية: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً».

ذلِكُمْ الاتّباع وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عن الضلال و التفرّق عن الحقّ.

عن ابن عبّاس: هذه الآيات محكمات لم ينسخها شي ء من جميع الكتب، و هي محرّمات على بني آدم كلّهم، و هنّ أمّ الكتاب، من عمل بهنّ دخل الجنّة، و من تركهنّ دخل النار.

و قال كعب الأحبار: و الّذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأوّل شي ء في التوراة، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» الآيات.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 154 الى 157]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [154] وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [155] أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ [156] أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [157]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ عطف على «وصّاكم». و «ثمّ» للتراخي في

ص: 481

الأخبار، أو للتفاوت في الرتبة، كأنّه قيل: ذلكم وصّاكم به قديما و حديثا، ثمّ أعظم من ذلك أنّا آتينا موسى الكتاب. و قيل: هو عطف على ما تقدّم من قوله: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ (1).

تَماماً للكرامة و النعمة عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ على كلّ من أحسن القيام به، أي: من كان محسنا

صالحا، يريد به جنس المحسنين. أو على الّذي أحسن تبليغه، و هو موسى. أو تماما على ما أحسنه موسى من العلم و الشرائع، من: أحسن الشي ء إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه إتماما له.

وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ و بيانا مفصّلا لكلّ ما يحتاج إليه في الدين. و هو عطف على «تماما». و نصبهما يحتمل العلّة و الحال و المصدر.

وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ لعلّ بني إسرائيل بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي: بلقائه للجزاء.

وَ هذا يعني: القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير النفع في الدارين فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بواسطة اتّباعه، و هو العمل بما فيه.

أَنْ تَقُولُوا علّة ل «أنزلناه». و الخطاب لأهل مكّة، أي: أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا يا أهل مكّة: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود و النصارى.

و إنّما خصّهما بالذكر من بين الكتب السماويّة لشهرتهما و ظهور أمرهما، أي: أنزلنا القرآن عليكم لنقطع حجّتكم. وَ إِنْ كُنَّا «إن» هي المخفّفة، و لذلك دخلت اللام الفارقة في خبر «كان»، و الهاء ضمير الشأن، أي: و إن الشأن كنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم لَغافِلِينَ لا ندري ما هي، و لم ينزل علينا الكتاب كما أنزل عليهم، لأنّهم كانوا غيرنا، و لو أريد منّا ما أريد منهم لأنزل الكتاب علينا كما أنزل عليهم.

أَوْ تَقُولُوا عطف على الأوّل لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ

ص: 482


1- الأنعام: 84، و مضى تفسيرها في ص: 423.

لحدّة أذهاننا، و ثقابة أفهامنا، و لذلك تلقّفنا فنونا من العلم، كالقصص و الأشعار و الخطب، على أنّا أمّيّون.

فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجّة واضحة، و دلالة ظاهرة تعرفونها، و هو القرآن. هذا تبكيت لهم، فإنّه جواب

الشرط المقدّر، تقديره: إن صدقتم فيما كنتم تعدّونه من أنفسكم فقد جاءكم بيّنة من ربّكم وَ هُدىً يهتدي به الخلق إلى النعيم المقيم و الثواب الجسيم وَ رَحْمَةٌ و نعمة لمن تأمّل فيه و عمل به.

فَمَنْ أَظْلَمُ لنفسه مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد أن عرف صحّتها و صدقها، أو تمكّن من معرفتها وَ صَدَفَ عَنْها أعرض أو صدّ عنها، فضلّ أو أضلّ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ يعرضون عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ شدّته بِما كانُوا يَصْدِفُونَ بإعراضهم أو صدّهم.

[سورة الأنعام [6]: آية 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [158]

ثمّ توعّدهم سبحانه بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظرون؟ يعني: أهل مكّة. و هم و إن كانوا غير منتظرين لذلك، لكن لمّا كان يلحقهم لحوق المنتظر شبّهوا بالمنتظرين إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ملائكة الموت أو العذاب. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء. أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي: أمره بالعذاب و كلّ آياته، يعني: آيات القيامة و الهلاك الكلّي، بدلالة قوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني: أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، و غير ذلك.

و عن حذيفة و البراء بن عازب: «كنّا نتذاكر الساعة إذ طلع علينا رسول

ص: 483

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة. قال: إنّها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، و دابّة الأرض، و خسفا بالمشرق، و خسفا بالمغرب، و خسفا بجزيرة العرب، و الدجّال، و طلوع الشمس من مغربها، و يأجوج و مأجوج، و نزول عيسى، و نارا تخرج من عدن».

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها كالمحتضر، إذ صار الأمر عيانا، لأنّه ليس بإيمان اختياري، بل إنّما هو إيمان دفع العذاب و اليأس عن أنفسهم، فيصير ملجأ إلى فعل الحسن و ترك القبيح، و الإيمان الاضطراري غير معتبر لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة لقوله: «نفسا» أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على «آمنت». و المعنى: أنّه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو غير كاسبة في إيمانها خيرا. و في هذا دلالة على أنّ كسب الخير الّذي هو عمل الجوارح غير الإيمان الّذي هو عمل القلب، الا ترى أنّه عطف على ذاك، و الشي ء لا يعطف على نفسه، و إنّما يعطف على غيره.

قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد لهم، أي: انتظروا إتيان أحد الثلاثة، فإنّا منتظرون له، و حينئذ لنا الفوز و عليكم الويل.

[سورة الأنعام [6]: آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [159]

ثمّ عطف سبحانه على ما قدّمه من الوعيد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدّدوه، فآمنوا ببعض و كفروا ببعض. أو جعلوه أديانا فافترقوا فيه، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة، و افترقت النصاري على ثنتين و سبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة، و تفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة».

و لا شبهة أنّ هذه الواحدة هي الفرقة الإماميّة، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا،

ص: 484

و من تخلّف عنها غرق».

و قرأ حمزة و الكسائي: فارقوا، أي: باينوا دينهم.

وَ كانُوا شِيَعاً فرقا تشيع كلّ فرقة إماما. و عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم أهل الضلالة، و أصحاب الشبهات و البدع». و رواه أيضا أبو هريرة و عائشة مرفوعا.

لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ أي: من السؤال عنهم و عن تفرّقهم، أو من عقابهم.

أو أنت بري ء منهم، و على المباعدة التامّة من الاجتماع معهم في شي ء من مذاهبهم الفاسدة. و قيل: هو نهي عن التعرّض لهم. و هو منسوخ بآية السيف (1).

إِنَّما أَمْرُهُمْ و الحكم بينهم في اختلافهم، و مجازاتهم على سوء أفعالهم إِلَى اللَّهِ يتولّى جزاءهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بالعقاب بِما كانُوا يَفْعَلُونَ بفعلهم القبيح.

[سورة الأنعام [6]: آية 160]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [160]

و لمّا ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي، عقّبه بذكر الوعد و تضعيف الجزاء في الطاعات، فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ بالخصلة الواحدة من خصال الطاعات فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها. أقيمت الصفة مقام الموصوف، أي: عشر حسنات أمثالها، فضلا من اللّه تعالى. و قرأ يعقوب: عشر بالتنوين، و أمثالها بالرفع على الوصف.

و هذا اقلّ ما وعد من الأضعاف، فقد وعد بالواحد سبعين، و سبعمائة، و بغير حساب. و لذا قيل: المراد بالعشر الكثرة دون العدد. و ذلك من عظم فضل اللّه، و جزيل إنعامه على عباده، حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الاستحقاق، بل يزيد عليه، و ربما يعفو عن ذنوب المؤمنين منّا منه عليهم و تفضّلا، و إن عاقب على قدر الاستحقاق عدلا، كما قال: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ بالخصلة الواحدة فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها قضيّة للعدل. فمضاعفة الحسنات فضل، و مكافأة السيّئات عدل.

ص: 485


1- التوبة: 5 و 29.

وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب، و زيادة العقاب.

و عن أبي ذرّ، عن الصادق المصدّق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه تعالى قال: الحسنة عشر أو أزيد، و السيّئة واحدة أو أغفر، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره».

[سورة الأنعام [6]: الآيات 161 الى 163]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [161] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [162] لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [163]

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالوحي و الإرشاد إلى ما نصب من الحجج دِيناً بدل من موضع قوله:

«إلى صراط»، فإنّ المعنى: هداني صراطا مستقيما، كقوله: وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (1).

قِيَماً نهاية الاستقامة. فيعل (2) من: قام، كسيّد و هيّن، من: ساد و هان.

و هو ابلغ من المستقيم باعتبار الزنة، و المستقيم أبلغ منه باعتبار الصيغة. و قرأ عاصم و ابن عامر و حمزة و الكسائي قيما، على أنّه مصدر نعت به. فكان قياسه قوما كعوض، فأعلّ لإعلال فعله، كالقيام.

مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان ل «دينا» حَنِيفاً حال من إبراهيم، أي: هداني و عرّفني ملّة إبراهيم حال كونه مائلا عن الملل الباطلة إلى الملّة الحقّة ميلا لازما لا رجوع معه، و هي ملّة الإسلام، أي: مخلصا للّه في العبادة. و إنّما وصف دين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّه ملّة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب، لجلالة إبراهيم في نفوسهم و نفوس

ص: 486


1- الفتح: 20.
2- أي: في قراءة: قيّما.

كلّ أهل

الأديان، و انتساب العرب إليه، و اتّفاقهم على أنّه كان على الحقّ وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني: إبراهيم كان يدعو إلى اللّه، و ينهى عن عبادة الأصنام. و هذا تعريض لكفّار مكّة.

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي عبادتي كلّها أو قرباني، فجمع بين الصلاة و الذبح، و نحوه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (1). و قيل: مناسك حجّي. وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي و ما أنا عليه في حياتي و أموت عليه من الإيمان و العمل الصالح، أو طاعات الحياة و الخيرات المضافة إلى الممات، كالوصيّة و التدبير، أو الحياة و الممات أنفسهما.

و قرأ نافع: محياي بإسكان الياء، إجراء للوصل مجرى الوقف. لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالصة له.

لا شَرِيكَ لَهُ لا أشرك فيها غيره وَ بِذلِكَ القول أو الإخلاص أُمِرْتُ أمر ربّي وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمّة، لأنّ إسلام كلّ نبيّ متقدّم على إسلام أمّته.

[سورة الأنعام [6]: الآيات 164 الى 165]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [164] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [165]

و لمّا أمر سبحانه نبيّه ببيان الإخلاص في الدين، عقّبه بأمره بأن يبيّن لهم

ص: 487


1- الكوثر: 2.

بطلان أفعال المشركين، فقال: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فأشركه في عبادتي. و هو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. و الهمزة للإنكار، أي: أنا منكر أن أبغي ربّا غيره. وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ حال في موضع العلّة للإنكار و الدليل له، أي: و كلّ ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبيّة، و نحوه: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (1).

وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أي: لا تكسب كلّ نفس جزاء كلّ عمل من طاعة أو معصية إلّا عليها، فعليها عقاب معصيتها، و لها ثواب طاعتها. و وجه اتّصالها بما قبلها أنّ المراد أنّه لا ينفعني في ابتغاء ربّ غيره ما أنتم عليه من ذلك.

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و هذا جواب عن قولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ (2). و المعنى: لا تؤخذ نفس غير آثمة بإثم نفس أخرى. و فيه دلالة على فساد قول المجبّرة: إنّ اللّه يعذّب الطفل. بكفر أبيه. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ مآلكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بتبيين الرشد من الغي، و تمييز المحقّ من المبطل.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يخلّف كلّ عصر أهل العصر الّذي قبله، يجري ذلك على انتظام و اتّساق إلى يوم القيامة. أو خلفاء اللّه في أرضه تتصرّفون فيها، على أنّ الخطاب عامّ. أو خلفاء الأمم السابقة، على أنّ الخطاب لأمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه خاتم النبيّين، فخلّفت أمّته سائر الأمم.

وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف و الغنى. و قيل: في الصورة و العقل، و المال و القوّة، و العمر. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم فِي ما آتاكُمْ من الجاه و المال، كيف تشكرون نعمه؟ و كيف يصنع الشريف بالوضيع، و الغنيّ بالفقير؟ يعني:

يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل، و انتفاء من الظلم، أي: لينظر الغنيّ إلى

ص: 488


1- الزمر: 64.
2- العنكبوت: 12.

الفقير فيشكر، و ينظر الفقير إلى الغنيّ فيصبر، و يفكّر العاقل

في الأدلّة فيعلم و يعمل بما يعلم.

إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفّر نعمه، لأنّ ما هو آت قريب، أو لأنّه يسرع إذا أراده في الدنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أقام بشكره. وصف العقاب و لم يضفه إلى نفسه، و وصف ذاته بالمغفرة، و ضمّ إليه الوصف بالرحمة، و أتى ببناء المبالغة و اللام المؤكّدة، تنبيها على أنّه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض، كثير الرحمة مبالغ فيها. و اللّه أعلم بالصواب.

ص: 489

ص: 490

[7] سورة الأعراف

اشارة

عدد آيها مائتان و ستّ آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة الأعراف جعل اللّه بينه و بين إبليس سترا، و كان آدم شفيعا له يوم القيامة.

و روى العيّاشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الأعراف في كلّ شهر كان يوم القيامة من الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، فإن قرأها في كلّ جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة» (1).

و روى أيضا عنه عليه السّلام: «أما إنّ فيها آيا محكمة، فلا تدعوا قراءتها و تلاوتها و القيام بها، فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربّه» « (2)».

[سورة الأعراف [7]: الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص [1] كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [2] اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ [3]

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الأنعام بالرحمة، افتتح هذه السورة بأنّه أنزل

ص: 491


1- تفسير العيّاشي 2: 2 ح 1.
2- تفسير العيّاشي 2: 2 ح 1.

كتابا فيه معالم الدين و الحكمة، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص أنا اللّه أعلم جميع الأمور و الأحوال و أصدق في جميع الأقوال. و قيل: اسم السورة أو القرآن. و بواقي وجوه الحروف المقطّعة قد سبق (1) في سورة البقرة.

كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كتاب. أو خبر «المص». و المراد به السورة أو القرآن. أُنْزِلَ إِلَيْكَ صفته فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ من تبليغه مخافة أن تكذّب فيه أو تقصّر في القيام بحقّه، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخاف تكذيب قومه له، و إعراضهم عن قبوله، و أذاهم له، فكان يضيق صدره من الأداء و لا ينبسط له، فآمنه اللّه تعالى، و أمره بترك المبالاة بهم. أو المراد بالحرج الشكّ، فإنّ الشاكّ ضيّق الصدر حرجه، كما أنّ المتيقّن منشرح الصدر منفسحه. و توجّه النهي إلى الحرج للمبالغة، كقولهم: لا أرينّك هاهنا. و الفاء تحتمل العطف و الجواب، فكأنّه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك منه.

لِتُنْذِرَ بِهِ متعلّق ب «أنزل» أو ب «لا يكن»، أي: أنزل إليك لإنذارك، أو لا يكن في صدرك حرج لإنذارك، لأنّه إذا أيقن أنّه من عند اللّه جسر على الإنذار، و كذا إذا لم يخفهم، أو علم أنّه موفّق للقيام بتبليغه.

وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يحتمل النصب على معنى: لتنذر به و تذكّر تذكيرا، فإنّ الذكرى في معنى التذكير. و الرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أو عطف على «كتاب». و الجرّ للعطف على محلّ أن «تنذر» أي: للإنذار و للذكر. و خصّ المؤمنين لأنّهم المنتفعون به.

ثمّ خاطب المكلّفين بقوله: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعمّ القرآن و السنّة، لقوله: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (2). و يدخل في وجوب

ص: 492


1- راجع ج 1: 36.
2- النجم: 3- 4.

الاتّباع الواجب و الندب و المباح، لأنّه يجب أن يعتقد في كلّ منها ما أمر اللّه به، كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه.

وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ من دون اللّه أَوْلِياءَ يضلّونكم عن دين اللّه و عمّا أمركم باتّباعه من الجنّ و الإنس. و قيل: الضمير في «دونه» ل «ما أنزل»، أي: و لا تتّبعوا من دون دين اللّه دين أولياء.

و عن الحسن: يا

ابن آدم أمرت باتّباع كتاب اللّه و سنّة نبيّه، و اللّه ما أنزلت آية إلّا و يحبّ أن تعلم فيم نزلت و ما معناها.

قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي: تذكّرا قليلا أو زمانا قليلا تذكّرون، حيث تتركون دين اللّه و تتّبعون غيره. و «ما» مزيدة لتأكيد القلّة. و إن جعلت مصدريّة لم ينتصب «قليلا» ب «تذكّرون». و قرأ حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم: تذكرون، بحذف التاء و تخفيف الذال. و ابن عامر: يتذكّرون بالغيبة، أي: ما يتذكّر هؤلاء يا محمد.

و معنى التذكّر أن تأخذ في الذكر شيئا بعد شي ء، مثل التفقّه و التعلّم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 4 الى 5]

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [4] فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [5]

و لمّا تقدّم الأمر منه سبحانه للمكلّفين باتّباع القرآن، و التحذير من مخالفته و التذكير، عقّب ذلك بتذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب، و تحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، فقال: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: و كثيرا من أهل القرى أَهْلَكْناها أردنا إهلاك أهلها لفرط عصيانهم و عنادهم فَجاءَها فجاء أهلها بَأْسُنا عذابنا بَياتاً بائتين، كقوم لوط. مصدر وقع موقع الحال. أَوْ هُمْ قائِلُونَ عطف عليه، أي: قائلين نصف النهار، كقوم شعيب. يعني: فجاءهم عذابنا في هذين الوقتين: وقت البيات، و وقت القيلولة. و تخصيص هذين الوقتين لأنّهما وقت الغفلة

ص: 493

و الدعة، فيكون نزول العذاب فيهما أشدّ و أفظع.

و أصل القيلولة الراحة، و منه الإقالة في البيع، لأنّه الإراحة منه بالإعفاء من عقده.

و إنّما حذفت و او الحال استثقالا لاجتماع حرفي العطف، فإنّ واو الحال واو العطف في الأصل استعيرت للوصل، لا اكتفاء بالضمير، فإنّه غير فصيح. و في التعبيرين مبالغة في غفلتهم و أمنهم من العذاب.

فَما كانَ دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم و استغاثتهم، أو ما كانوا يدّعونه من دينهم إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إلّا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه و بطلانه تحسّرا عليهم. و «دعواهم» خبر «كان»، و «أن قالوا» رفع لأنّه اسم له.

و يجوز العكس.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 6 الى 9]

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [6] فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ [7] وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [8] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [9]

و لمّا أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا، عقّبه بالإنذار بعذاب الآخرة، فقال:

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي: المرسل إليهم- و هم الأمم- عن قبول الرسالة و إجابتهم الرسل وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عمّا أجيبوا به، و عمّا عملت أممهم فيما جاؤا به. و المراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة و تقريعهم، و التقرير عليهم، و ازدياد

ص: 494

سرور المثابين بالثناء عليهم، و غمّ المعاقبين بإظهار قبائحهم. و المنفيّ في قوله:

وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (1) سؤال استعلام. أو الأوّل في موقف الحساب، و هذا عند حصولهم على العقوبة.

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ على الرسل، أي: لنخبرنّهم حين يقولون: لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (2). أو على الرسل و المرسل إليهم ما كانوا عليه. بِعِلْمٍ عالمين بظواهرهم و بواطنهم، أو بمعلومنا منهم وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم، فيخفى علينا شي ء من أحوالهم.

وَ الْوَزْنُ و وزن الأعمال و التمييز بين خفيفها و راجحها. أو المراد به القضاء الحقّ و الحكم العدل. و رفعه بالابتداء، و قوله: يَوْمَئِذٍ خبره، أي:

الوزن الثابت يوم يسأل اللّه الأمم و رسلهم الْحَقُ صفته. أو خبر محذوف، و معناه:

الوزن الحقّ، أي: العدل السويّ.

و اختلفوا في كيفيّة الوزن، لأنّ الأعمال أعراض لا يجوز عليها الاعادة، و لا يكون لها وزن، و لا تقوم بأنفسها. فقيل: توزن الصحائف، فإنّ جمهور العلماء- من موافقينا و مخالفينا- على أنّ صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان و كفّتان ينظر إليه الخلائق، إظهارا للمعدلة، و قطعا للمعذرة، و تأكيدا للحجّة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، و تشهد بها جوارحهم.

و يؤيّده ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان، فينشر عليه تسعة و تسعون سجلّا، كلّ سجلّ مدّ البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة، فتوضع السجلّات في كفّة و البطاقة في كفّة، فطاشت (3) السجلّات و ثقلت البطاقة.

ص: 495


1- القصص: 78.
2- المائدة: 109.
3- طاش يطيش، أي: خفّ.

و قيل: توزن الأشخاص، لما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة، لقوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (1).

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فمن رجحت أعماله الموزونة الّتي لها وزن و قدر، و هي الحسنات. أو ما يوزن به حسناته. و حينئذ جمعه باعتبار اختلاف الموزونات و تعدّد الوزن، بأن يكون لكلّ نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان. و يؤيّده ما جاء في الخبر: «أنّ الصلاة ميزان، فمن و في استوفى».

فهو جمع موزون أو ميزان.

فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة و الثواب.

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فيكذّبون بدل التصديق، و يكتسبون ما عرّضوها للعذاب، فيضيّعون الفطرة السليمة الّتي فطرت عليها. و الخسران ذهاب رأس المال، و من أعظم رأس المال النفس، فإذا أهلك نفسه بسوء عمله فقد خسر نفسه.

[سورة الأعراف [7]: آية 10]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ [10]

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على البشر، بالتمكين في الأرض و ما خلق فيها من الأرزاق، مضافا إلى نعمه السابغة عليهم، بإنزال الكتب و إرسال الرسل، فقال:

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: جعلنا لكم فيها مكانا و قرارا، أو أقدرناكم على التصرّف فيها، و ملّكناكم فيها.

وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أسبابا تعيشون بها. جمع معيشة، و هي ما يعاش

ص: 496


1- الكهف: 105.

به من أنواع الرزق و وجوه النعم و المنافع، أو ما يتوصّل إلى ذلك. و عن نافع: أنّه همزه تشبيها بما الياء فيه زائدة، كصحائف.

قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ زمانا أو شكرا قليلا تشكرون فيما صنعت إليكم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 11 الى 17]

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [11] قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [12] قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [13] قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [14] قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [15]

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [16] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [17]

ثمّ ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي: خلقنا أباكم آدم عليه السّلام طينا غير مصوّر، ثمّ صوّرناه. نزّل خلقه و تصويره منزلة خلق الكلّ و تصويره. أو ابتدأنا خلقكم ثمّ تصويركم، بأن خلقنا آدم ثمّ صوّرناه.

ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ قيل: ذكر «ثمّ» لتأخير الإخبار. و يمكن حملها على التراخي في الرتبة، لأنّ مقام الامتنان يؤذن أن يكون أبوهم بسجود الملائكة أرفع درجة من خلقهم و تصويرهم. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ

ص: 497

السَّاجِدِينَ ممّن سجد لآدم.

قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي: أن تسجد و «لا» صلة، كما في: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (1)، فإنّه بمعنى: ليعلم، بدليل قوله: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ (2). و الفائدة في زيادتها توكيد معنى الفعل الّذي دخلت عليه و تحقيقه، كأنّه قيل: ما منعك أن تحقّق السجود و تلزمه نفسك، و التنبيه على أنّ الموبّخ عليه ترك السجود. و قيل: الممنوع عن الشي ء مضطرّ إلى خلافه، فكأنّه قيل: ما اضطرّك إلى أن لا تسجد إِذْ أَمَرْتُكَ فيه دليل على أنّ مطلق الأمر للوجوب و الفور.

قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ و إنّما سأله عن المانع من السجود، و قد علم ما منعه، توبيخا له، و إظهارا لمعاندته و كفره و كبره، و افتخاره بأصله، و ازدرائه بأصل آدم، و أنّه خالف أمر ربّه معتقدا أنّه غير واجب عليه، لمّا رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب، و لهذا قال في جوابه: أنا خير منه. و حقيقة الجواب أن يقول: منعني كذا و كذا، إلّا أنّه أجاب بما يكون جوابا من حيث المعنى، استبعادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله، كأنّه قال: المانع فيه أنّي خير منه، و لا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر به؟ يعني: من كان على مثل صفتي يستبعد أن يؤمر بما أمرت به. فهو الّذي سنّ التكبّر.

عن ابن عبّاس: قاس إبليس فأخطأ القياس، و هو أوّل من قاس، فمن قاس الدين بشي ء من رأيه قرنه اللّه بإبليس. و قال ابن سيرين: أوّل من قاس إبليس، و ما عبدت الشمس و القمر إلّا بالمقاييس.

ثمّ بيّن علّة خيريّته و قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فهو تعليل لفضله على آدم. و مراده منه: أنّ النار أشرف من الطين، و هو خلق منها و آدم من الطين، فلم يجز أن يسجد الأشرف للأدون.

ص: 498


1- الحديد: 29.
2- ص: 75.

و قد غلط في ذلك، بأن رأى الفضل كلّه باعتبار العنصر، و غفل عمّا يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ (1)، أي:

بغير واسطة. و باعتبار الصورة، كما نبّه عليه بقوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (2). و باعتبار الغاية، و هو فضله من حيث علومه الجمّة، و لذلك أمر الملائكة بسجوده لمّا بيّن لهم أنّه أعلم منهم، و أنّ له خواصّ ليست لغيره.

و الآية دليل على الكون و الفساد، و أنّ الشياطين أجسام كائنة. و لعلّ إضافة خلق الإنسان إلى الطين و الشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب.

قالَ فَاهْبِطْ فانزل و انحدر مِنْها من السماء، أو الجنّة، أو عن الدرجة الشريفة الرفيعة الّتي للمطيعين إلى الدرجة الدنيّة الوضيعة الّتي للعاصين. فَما يَكُونُ لَكَ فما يصحّ لك أَنْ تَتَكَبَّرَ عن أمر اللّه فِيها و تعصي، فإنّها مكان الخاشع و المطيع، و ليست بموضع المتكبّرين، و إنّما موضعهم النار، كما قال:

أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (3). و فيه تنبيه على أنّ التكبّر لا يليق بأهل الجنّة، و أنّه تعالى إنّما طرده و أهبطه للتكبّر لا لمجرّد عصيانه.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من تواضع رفعه اللّه، و من تكبّر وضعه اللّه».

فَاخْرُجْ من المكان الّذي أنت فيه إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ممّن أهانه اللّه و وضعه لكبره. و هذا الكلام إنّما صدر من اللّه سبحانه على لسان بعض الملائكة.

و الآية لا تدلّ على أنّه يجوز التكبّر في غير الجنّة، فإنّ التكبّر لا يجوز على حال، لأنّه إظهار كبر النفس على جميع الأشياء، و هذا في صفة العباد ذمّ، و في صفة اللّه مدح، إلّا أنّ إبليس تكبّر على اللّه في الجنّة فأخرج منها قسرا، و من تكبّر خارج الجنّة منع من ذلك بالأمر و بالنهي. و يؤيّده قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها

ص: 499


1- ص: 75.
2- الحجر: 29.
3- الزمر: 60.

لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً (1).

قالَ أَنْظِرْنِي أمهلني و أخّرني في الأجل إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى يوم القيامة، فلا تمتني، أو لا تعجّل عقوبتي.

قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ظاهره يقتضي الإجابة إلى ما سأله، لكنّه محمول على ما جاء مقيّدا بقوله: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (2). و هو النفخة الأولى، أو وقت يعلم اللّه تعالى انتهاء أجله. و في إنجاح مسئوله ابتلاء العباد، و تعريضهم للثواب بمخالفتهم إيّاه. و حكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف، و أنواع الملاذّ و الملاهي، و ما ركّب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.

قالَ بعد الإمهال فَبِما أَغْوَيْتَنِي بسبب إغوائك إيّاي. و الباء متعلّقة بفعل القسم المحذوف لا ب «أقعدنّ»، فإن اللّام تصدّ عنه. و قيل: الباء للقسم. فعلى الأوّل الباء للسببيّة، و المقسم و المقسم عليه مقدّر. و التقدير: أحلف باللّه بسبب إغوائك إيّاي. و على الثاني، تقديره: أقسم بإغوائك إيّاي.

و المراد بالإغواء

تكليفه سبحانه إيّاه ما وقع به في الغيّ، و لم يثبت عليه كما ثبتت الملائكة.

و قيل: معناه: بسبب أمرك إيّاي بالسجود، فحملتني به الأنفة و الاستنكاف على معصيتك، فتسبّب وقوعي في الغيّ. أو بما خيّبتني من رحمتك و جنّتك. أو بما حكمت بغوايتي، كما يقال: أضللتني، أي: حكمت بضلالتي. أو بما أهلكتني بلعنتك إيّاي، كما في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (3) أي: هلاكا. و قالوا: غوى الفصيل إذا فقد اللبن فمات. و المصدر غوى مقصورا.

و لا يبعد أن يكون إبليس قد اعتقد أنّ اللّه تعالى يغوي الخلق، بأن يضلّهم، و يكون ذلك من جملة ما كان اعتقده من الشرّ. و على هذا يكون الإغواء على

ص: 500


1- القصص: 83.
2- الحجر: 38.
3- مريم: 59.

حقيقته. و قيل: «ما» استفهاميّة، كأنّه قيل: بأيّ شي ء أغويتني؟

ثمّ ابتدأ فقال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ لأولاد آدم ترصّدا بهم، كما يقعد القطّاع على الطريق ليقطعه على المارّة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ طريق الإسلام. و نصبه على الظرف. و قيل: تقديره: على صراطك، كقولهم: ضرب زيد الظهر و البطن. و المعنى:

لأجتهدنّ في إغوائهم حتّى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم.

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ أي: من جميع الجهات الأربع، مثل قصده إيّاهم بالتسويل و الإضلال من أيّ وجه يمكنه، بإتيان العدوّ من الجهات الأربع في الغالب، و لذلك لم يقل: من فوقهم و من تحت أرجلهم.

و قيل: لم يقل: من فوقهم، لأنّ الرحمة تنزل منه. و لم يقل: من تحتهم، لأنّ الإتيان منه يوحش الناس.

و عن ابن عبّاس: من بين أيديهم من قبل الآخرة، و من خلفهم من قبل الدنيا، و عن أيمانهم و عن شمائلهم من جهة حسناتهم و سيّئاتهم.

و المعنى: أنّي أزيّن لهم الدنيا، و أخوّفهم بالفقر، و أقول لهم: لا جنّة و لا نار، و لا بعث و لا حساب، و أثبّطهم عن الحسنات، و أشغلهم عنها، و أحبّب إليهم السيّئات، و أحثّهم عليها.

و قيل: من بين أيديهم من حيث يعلمون و يقدرون على التحرّز عنه، و من خلفهم من حيث لا يعلمون و لا يقدرون، و عن أيمانهم و عن شمائلهم من حيث يتيسّر لهم أن يعلموا و يتحرّزوا، و لكن لم يفعلوا لعدم تيقّظهم و احتياطهم.

و عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» معناه: أهوّن عليهم أمر الآخرة.

«وَ مِنْ خَلْفِهِمْ» آمرهم بجمع الأموال، و البخل بها عن الحقوق، لتبقى لورثتهم. «وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ» أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة و تحسين الشبهة.

«وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ» بتحبيب اللذّات إليهم، و تغليب الشهوات على قلوبهم». و هذا قريب من قول ابن عبّاس.

ص: 501

و إنّما عدّي الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنّه منهما متوجّه إليهم، و إلى الآخرين بحرف المجاوزة، لأنّ الآتي منهما جلس متجافيا عن صاحبهما منحرفا عنه غير ملاصق له، ثمّ كثر حتّى استعمل في المتجافي و غيره، كما ذكرناه في «تعال». و نظيره قولهم: جلست عن يمينه أو عن شماله، و قولهم: رميت عن القوس، لأنّ السهم يبعد عنها.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة، قعد له بطريق الإسلام، فقال له: تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم. ثمّ قعد له بطريق الهجرة، فقال له: تدع ديارك و تتغرّب، فعصاه فهاجر. ثمّ قعد له بطريق الجهاد، فقال له: تقاتل فتقتل فيقسم مالك و تنكح امرأتك، فعصاه فقاتل».

و عن شقيق: ما من صباح إلّا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يديّ، و من خلفي، و عن يميني، و عن شمالي. أمّا من بين يديّ فيقول: لا تخف فإنّ اللّه غفور رحيم، فأقرأ: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً (1). و أمّا من خلفي فيخوّفني الضيعة على مخلّفي، فاقرأ: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها (2). و أمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل الثناء، فأقرأ: وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (3). و أمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ (4).

وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ مطيعين. و إنّما قاله ظنّا، لقوله تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ (5) لمّا رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّدا و مبدأ الخير واحدا،

ص: 502


1- طه: 82.
2- هود: 6.
3- الأعراف: 128.
4- سبأ: 54.
5- سبأ: 20.

و لأنّه لمّا استنزل آدم ظنّ أنّ ذرّيّته أيضا سيجيبونه، لكونهم أضعف منه. و قيل:

سمعه من الملائكة.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 18 الى 25]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [18] وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [19] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [20] وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [21] فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ [22]

قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [23] قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [24] قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ [25]

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بإبليس من الإهانة و الإذلال، و ما آتاه آدم من الإكرام و الإجلال، فقال: قالَ اخْرُجْ مِنْها من الجنّة، أو من السماء، أو من المنزلة الرفيعة

ص: 503

مَذْؤُماً مذموما. من: ذأمه إذا ذمّه. مَدْحُوراً مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أطاعك و اقتدى بك من بني آدم. اللام فيه لتوطئة القسم و جوابه. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ سدّ مسدّ جواب الشرط. و معنى «منكم»: منك و منهم، فغلّب المخاطب.

وَ يا آدَمُ أي: و قلنا يا آدم اسْكُنْ من السكنى، لا من السكون أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ إنّما لم يقل: زوجتك، لأنّ الإضافة أغنت عن ذكره، و كان الحذف أحسن، لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما أباح سبحانه لهما أن يأكلا منها أين شاءا و ما شاءا وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ بالأكل فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فتصيرا من الباخسين نفوسهم الثواب العظيم. و قد مضى تفسير هذه الآية مشروحا في سورة البقرة (1). و «تكونا» يحتمل الجزم على العطف، و النصب على الجواب.

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ يقال: وسوس إذا تكلّم كلاما خفيّا يكرّره. و منه:

وسوس الحليّ. و هو فعل غير متعدّ، ك: ولولت المرأة، و وعوع الذئب. و رجل موسوس بكسر الواو. و لا يقال: موسوس بالفتح، و لكن موسوس له و موسوس إليه، و هو الّذي يلقى إليه الوسوسة. و معنى:

وسوس له، فعل الوسوسة لأجله.

و وسوس إليه ألقاها إليه. و هي في الأصل الصوت الخفيّ، كالهينمة (2) للصوت الجليّ، و الخشخشة لصوت النعل. و قد سبق في البقرة كيفيّة وسوسته (3).

لِيُبْدِيَ لَهُما ليظهر لهما. و اللام للعاقبة، أو للغرض على أنّه أراد أيضا

ص: 504


1- راجع ج 1: 126 ذيل الآية 35.
2- الهينمة: الكلام أو الصوت الخفيّ. راجع الصحاح 5: 2062، لسان العرب 12: 623. و لعلّ ما ذكره المفسّر «قدّس سرّه» من سهو قلمه الشريف.
3- راجع ج 1: 127 ذيل الآية 36.

بوسوسته أن يسوأهما بانكشاف عورتهما، و ذلك لعلمه أنّ من أكل هذه الشجرة بدت عورته، و أنّ من بدت عورته لا يترك في الجنّة، و لهذا عبّر عنهما بالسوءة، فقال: ما وُورِيَ ما غطّي عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما عوراتهما. و المواراة جعل الشي ء وراء ما يستره. و إنّما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور، كما قلبت في «أو يصل» تصغير «واصل»، لأنّ الثانية مدّة. و فيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور، و أنّه لم يزل مستهجنا في الطباع، مستقبحا في العقول.

وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا أي: كراهة أن تكونا مَلَكَيْنِ يعني: أنّه أوهمهما أنّهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيّرت صورتهما إلى صورة الملك. أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الّذين لا يموتون، أو يخلدون في الجنّة.

و استدلّ به على فضل الملائكة على الأنبياء. و جوابه: إنّما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما ما للملائكة من الكمالات الفطريّة، و الاستغناء عن الأطعمة و الأشربة، و ذلك لا يدلّ على فضلهم مطلقا، فإنّ الثواب إنّما يستحقّ على الطاعات دون الصور و الهيئات. و لا يمتنع أن

يكونا رغبا في صور الملائكة و هيئاتها، و لا يكون ذلك رغبة في الثواب و لا الفضل. ألا ترى أنّهما رغبا في أن يكونا من الخالدين؟ و ليس الخلود ممّا يقتضي مزيّة في الثواب و لا الفضل.

وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي: أقسم لهما على أنّه من المخلصين النصيحة في دعائهما إلى التناول من هذه الشجرة، أي: اجتهد في النصيحة اجتهاد المقاسم، و إخراجه على صورة المفاعلة للمبالغة. و قيل: اقسم لهما بالنصيحة، و أقسما له بقبولها، فجعل ذلك مقاسمة.

فَدَلَّاهُما فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة، من تدلية الدلو، و هو إرسالها في البئر. نبّه به على أنّه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة، فإنّ التدلية

ص: 505

و الإدلاء إرسال الشي ء من أعلى إلى أسفل. بِغُرُورٍ بما غرّهما به من القسم، فإنّهما ظنّا أنّ أحدا لا يحلف باللّه كاذبا. أو ملتبسين بغرور. و إنّما يخدع المؤمن باللّه.

و عن ابن عمر أنّه كان إذا رأى من عبده حسن صلاة أعتقه. فقيل له: إنّهم يخدعونك. فقال: من خدعنا باللّه انخدعنا له.

فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. و فيه أنّ ذوق الشي ء المحرّم يوجب الذمّ، فكيف استيفاؤه و قضاء الوطر منه؟ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما تهافت عنهما لباسهما، و ظهرت لهما عوراتهما، فأبصر كلّ واحد منهما عورة صاحبه، و كانا لا يريانها من أنفسهما، و لا أحدهما من الآخر. و عن عائشة:

ما رأيت منه، و لا رأى منّي. و اختلف في أنّ الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما، و أنّ اللباس كان من جنس النور يحول بينها و بين الناظر، أو حلّة، أو من جنس الظفر.

وَ طَفِقا يَخْصِفانِ أخذا يرقعان و يلزقان ورقة فوق ورقة. يقال: طفق يفعل كذا، بمعنى: أخذ يفعل. عَلَيْهِما على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. قيل: كان ورق التين.

وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ عتاب على ترك الأولى، و عدم ارتكاب المندوب إليه، و توبيخ على الاغترار بقول العدوّ.

و لمّا عاتبهما و وبّخهما على ارتكاب المنهيّ عنه قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أضررناها بنقص الثواب لأجل ترك المندوب إليه وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا أي: و إن لم تستره علينا، لأنّ المغفرة هي الستر وَ تَرْحَمْنا و لم تتفضّل علينا بنعمك الّتي يتمّ بها ما فوّتناه نفوسنا من الثواب لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ من جملة من خسر و لم

ص: 506

يربح. و هذا نهي تنزيه لا تحريم عندنا، لأنّ الأنبياء معصومون منزّهون عن ارتكاب القبائح، لكن قالا ذلك على عادة أولياء اللّه في استعظام الزلّات، و استصغار العظيم من الحسنات.

روي أنّ اللّه سبحانه قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنّة مندوحة- أي: كافية- عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى و عزّتك، لكن ما ظننت أنّ أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض، ثمّ لا تنال العيش إلّا كدّا. فأهبط، و علّم صنعة الحديد، و أمر بالحرث، فحرث و سقى و حصد و داس و ذرى و عجن و خبز.

قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم و حوّاء و إبليس. كرّر الأمر ليعلم أنّهم قرناء أبدا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موقع الحال، أي: متعادين، يعاديهما إبليس و يعاديانه وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ استقرار، أي: موضع استقرار وَ مَتاعٌ و تمتّع و انتفاع بعيش إِلى حِينٍ إلى تقضّي آجالكم.

قالَ فِيها تَحْيَوْنَ تعيشون وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ عند البعث للجزاء.

و قرأ حمزة و الكسائي و ابن ذكوان عن ابن عامر و يعقوب: تخرجون بفتح التاء و ضمّ الراء.

قال الجبائي: في الآية دلالة على أنّ اللّه سبحانه يخرج العباد يوم القيامة من هذه الأرض الّتي حيوا فيها بعد موتهم، و أنّه يفنيها بعد أن يخرج العباد منها في يوم الحشر، و إذا أراد إفناءها زجرهم عنها زجرة فيصيرون إلى أرض أخرى يقال لها: الساهرة، و تفنى هذه، كما قال: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (1).

ص: 507


1- النازعات: 14.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 26 الى 30]

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [26] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [27] وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [28] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [29] فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [30]

و لمّا ذكر نعمته على بني آدم في تبوّئه الدار و المستقرّ، عقّبه بذكر النعمة في الملابس و الستر، فقال خطابا عامّا لجميع أهل القرون و الأمصار إلى يوم القيامة:

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماويّة، و اسباب نازلة منها، فإنّه قضى و كتب في اللوح المحفوظ. أو لأنّه ينبت بالمطر الّذي ينزل

ص: 508

من السماء. و قيل: لأنّ البركات تنسب إلى أنّها تأتي من السماء. و نظيره قوله:

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ (1). و قوله: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ (2). يُوارِي سَوْآتِكُمْ الّتي قصد الشيطان إبداءها، و يغنيكم عن خصف الورق.

روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، و يقولون: لا نطوف في ثياب عصينا اللّه تعالى فيها، فنزلت.

وَ رِيشاً و لباسا يتجمّلون به. و الريش الجمال، استعير من ريش الطير، لأنّه لباسه و زينته. و المعنى: أنزل عليكم لباسين: لباسا يواري عوراتكم، و لباسا يزينكم. و قيل: مالا، و منه تريّش الرجل إذا تموّل.

وَ لِباسُ التَّقْوى و هو الورع و خشية اللّه. و قيل: الإيمان. و قيل: السمت الحسن. و قيل: لباس الحرب، من الدروع و المغافر و غيرهما ممّا يتّقى به في الحرب. و قيل: ستر العورة. و لا مانع من حمل ذلك على الجميع. و رفعه بالابتداء، و خبره ذلِكَ خَيْرٌ. أو خبره «خير»، و «ذلك» صفته، كأنّه قيل: و لباس التقوى المشار إليه خير. و في هذه الإشارة تعظيم لباس التقوى. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: و لباس بالنصب، عطفا على «لباسا».

ذلِكَ أي: إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالّة على فضله و رحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته. أو يتّعظون فيتورّعون عن القبائح.

و في الكشّاف: «هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدوّ السوءة و خصف الورق عليها، إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس، و لما في العري و كشف العورة من المهانة الفضيحة، و إشعارا بأنّ التستّر باب عظيم من أبواب التقوى» (3).

ص: 509


1- الزمر: 6.
2- الحديد: 25.
3- الكشّاف 2: 97.

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يمتحننّكم، بأن يمنعكم دخول الجنّة بإغوائه و إضلاله إيّاكم عن الدين كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ كما محن أبويكم، بأن أخرجهما منها. و النهي لفظا للشيطان، و المراد نهيهم عن اتّباعه و الافتتان به.

يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما حال من «أبويكم» أو من فاعل «أخرج». و إسناد النزع إليه للتسبّب، أي: أخرجهما نازعا لباسهما، بأن كان سببا في أن ينزع عنهما.

إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ عطف على الضمير في «يراكم» المؤكّد ب «هو».

و الضمير في «إنّه» ضمير الشأن. مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فيغتالكم من حيث لا تشعرون. و هذا تعليل للنهي، و تأكيد للتحذير من فتنته. و قبيله: جنوده.

عن ابن عبّاس: إنّ اللّه جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، و صدور بني آدم مساكن لهم، كما قال تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (1). فهم يرون بني آدم، و بنو آدم لا يرونهم.

و عن قتادة و مالك بن دينار: و اللّه إن عدوّا يراك و لا تراه لشديد المؤونة، إلّا من عصم اللّه. و إنّما لا يراهم البشر لأنّ أجسامهم شفّافة لطيفة، تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع.

و قال: أبو الهذيل: يجوز أن يمكّنهم اللّه تعالى فيتكشّفوا، فيراهم حينئذ من يحضرهم. و إليه ذهب عليّ بن عيسى. قال: إنّهم ممكّنون من ذلك. و هو الّذي نصره الشيخ المفيد أبو عبد اللّه رحمه اللّه. و قال الشيخ أبو جعفر قدّس سرّه: و هو الأقوى عندي.

إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ خلّينا بينهم، لم نكفّهم عنهم حتّى تولّوهم و أطاعوهم فيما سوّلوا لهم من مخالفة اللّه. و هذا تحذير آخر

ص: 510


1- الناس: 5.

أبلغ من الأوّل.

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة متناهية في القبح، كعبادة الصنم و كشف العورة في الطواف، فنهوا عنه قالُوا في جواب الناهي وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا و احتجّوا بأمرين: تقليد الآباء، و الافتراء على اللّه. فأعرض عن الأوّل، لظهور فساده، وردّ الثاني بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه، لعدم الداعي، و وجود الصارف، فكيف يأمر بفعله؟ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ إنكار لإضافتهم القبيح إليه، و شهادة عليهم بالجهل، متضمّنا للنهي عن الافتراء على اللّه تعالى.

عن الحسن: إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى العرب و هم قدريّة مجبّرة يحملون ذنوبهم على اللّه. و تصديقه قول اللّه تعالى: «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» إلى قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل. و هو الوسط من كلّ أمر، المتجافي عن طرفي الإفراط و التفريط، يشهد العقل المستقيم أنّه حقّ حسن. و قيل: هو التوحيد.

وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي: و قل توجّهوا إلى عبادته، و اقصدوها مستقيمين، غير عادلين إلى غيرها. أو أقيموها نحو القبلة. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كلّ وقت سجود أو مكانه، و هو الصلاة، أو في أيّ مسجد حضرتكم الصلاة، و لا تقولوا حتى نرجع إلى مسجدنا. أو اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة أمر بالجماعة لها ندبا عند الأكثرين، و حتما عند الأقلّين.

وَ ادْعُوهُ و اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة، مبتغين بها وجهه خالصا، فإنّ إليه مصيركم لا غير كَما بَدَأَكُمْ كما أنشأكم ابتداء تَعُودُونَ بإعادته، فيجازيكم على أعمالكم، فإنّه ليس بعثكم أشدّ من ابتدائكم. احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق. و المعنى: أنّه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. و إنّما شبّه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها و القدرة عليها.

ص: 511

و قيل: كما بدأكم من التراب تعودون إليه.

و قيل: كما بدأكم حفاة عراة غرلا (1) تعودون.

و قيل: معناه: تبعثون على ما متّم عليه، المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره.

فَرِيقاً هَدى و هم المؤمنون، وفّقهم للإيمان وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي: الخذلان، إذ لم يقبلوا الهدى، و لم يكن لهم لطف، فهم يضلّون و لا يهتدون.

و «فريقا» منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده، و التقدير: و خذل فريقا حقّ عليهم الضلالة. و هذا دليل على أنّ علم اللّه لا أثر له في ضلالهم، و أنّهم هم الضالّون باختيارهم.

إِنَّهُمُ الفريق الّذين حقّ عليهم الضلالة اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أطاعوهم فيما أمروهم مِنْ دُونِ اللَّهِ و هذا تعليل لخذلانهم، و تحقيق لضلالتهم، و دليل على أنّ مولاهم في الضلالة الشيطان دون اللّه. وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ و هم مع ذلك يظنّون أنّهم في ذلك على هداية و حقّ.

[سورة الأعراف [7]: آية 31]

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [31]

و لمّا تقدّم ذكر ما أنعم سبحانه على عباده من اللباس و الرزق، أمرهم في اثرها بتناول الزينة و التستّر و الاقتصاد في المأكل و المشرب، فقال: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ثيابكم الّتي تتزيّنون بها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي: كلّ صلاة.

و روى العيّاشي بإسناده: «أنّ الحسن بن عليّ عليه السّلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس

ص: 512


1- غرل الصبيّ: لم يختن، فهو أغرل، و جمعه: غرل.

أجود ثيابه. فقيل له: يا ابن رسول اللّه لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال، فأتجمّل لربّي، و هو يقول: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» فأحبّ أن ألبس أجود ثيابي» (1).

و قيل: خذوا زينتكم للصلاة في الجمعات و الأعياد. و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: هو أمر بلبس الثياب في الصلاة و الطواف، و كانوا يطوفون عراة، و قالوا: إنّا لا نعبد اللّه في ثياب أذنبنا فيها، كما مرّ (2). و كان يطوف الرجال بالنهار و النساء بالليل. و فيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة و الطواف.

و قيل: أخذ الزينة هو التمشّط عند كلّ صلاة. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و روي أنّ بني عامر في أيّام حجّهم كانوا لا يأكلون الطعام إلّا قوتا، و لا يأكلون دسما، يعظّمون بذلك حجّهم، فقال المسلمون: فإنّا أحقّ أن نفعل، فقال اللّه سبحانه: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا أي: لا تأكلوا محرّما، فإنّ أكل الحرام و إن قلّ إسراف و مجاوزة عن الحدّ، و لا حلالا على وجه لا يحلّ، كمن لا يملك إلّا دينارا فاشترى به طيبا فتطيّب به و ترك عياله محتاجين. أو و لا تسرفوا بإفراط الطعام و الشره عليه. عن ابن عبّاس: كل ما شئت و البس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف و مخيلة (3). إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم.

و قد حكي أنّ الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق، فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد: أليس في كتابكم من علم الطبّ شي ء، و العلم علمان: علم الأبدان و علم الأديان؟

فقال له عليّ: قد جمع اللّه الطبّ كلّه في نصف آية من كتابه، و هو قوله: «كلوا

ص: 513


1- تفسير العيّاشي 2: 14 ح 29.
2- في ص: 509.
3- المخيلة: الكبر.

و اشربوا و لا تسرفوا».

فقال النصراني: أ يؤثر من رسولكم شي ء في الطبّ؟

فقال: جمع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الطبّ في ألفاظ يسيرة.

قال: و ما هي؟

قال:

قوله: «المعدة بيت الداء، و الحمية راس كلّ دواء، و أعط كلّ بدن ما عوّدته».

فقال الطبيب: ما ترك كتابكم و لا نبيّكم لجالينوس طبّا.

[سورة الأعراف [7]: آية 32]

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [32]

و لمّا حثّ اللّه سبحانه على أخذ الزينة عند كلّ مسجد و ندب إليه، و أباح الأكل و الشرب، و نهى عن الإسراف، و كان قوم من العرب يحرّمون كثيرا من هذا الجنس، حتّى إنّهم كانوا يحرّمون السمون و الألبان في الإحرام، و يحرّمون السوائب و البحائر، أنكر عزّ اسمه ذلك عليهم، فقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب و سائر ما يتجمّل به الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ من النبات كالقطن و الكتّان، و الحيوان كالحرير و الصوف، و المعادن كالدروع وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المستلذّات من المآكل و المشارب. و فيه دليل على أنّ الأصل في المطاعم و الملابس و أنواع التجمّلات الإباحة، لأنّ الاستفهام في «من» للإنكار.

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالأصالة. و الكفّار و إن شاركوهم فيها فتبع خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم. و انتصابها على الحال. و قرأ

ص: 514

نافع بالرفع، على أنّها خبر بعد خبر.

كَذلِكَ أي: كتفصيلنا هذا الحكم نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نفصّل سائر الأحكام لأهل العلم و أرباب العقول.

و في هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة، و أكل الأطعمة الطيّبة من الحلال.

و روى العيّاشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن عمر بن عليّ، عن أبيه زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام: «أنّه كان يشتري كساء الخزّ بخمسين دينارا، فإذا أصاف (1) تصدّق به، و لا يرى به بأسا، و يقول: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» الآية» (2).

و بإسناده عن يوسف بن إبراهيم، قال: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام و عليّ جبّة خزّ و طيلسان خزّ، فنظر إليّ فقلت: جعلت فداك هذا خزّ ما تقول فيه؟

فقال عليه السّلام: لا بأس بالخزّ. قلت: و سداه (3) إبريسم. قال: لا بأس به، فقد أصيب الحسين عليه السّلام و عليه جبّة خزّ. ثمّ قال: إنّ عبد اللّه بن عبّاس لمّا بعثه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه، و تطيّب بأطيب طيبه، و ركب أفضل مراكبه، فخرج إليهم فوافقهم. فقالوا: يا ابن عبّاس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة و مراكبهم. فتلا هذه الآية: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» إلى آخرها. فألبس و أتجمّل، فإنّ اللّه جميل يحبّ الجمال، و ليكن من حلال» (4).

و في الآية دلالة أيضا على أنّ الأشياء على الإباحة، لقوله: «من حرّم».

فالسمع ورد مؤكّدا لما في العقل.

ص: 515


1- أي: دخل في الصيف.
2- تفسير العيّاشي 2: 16 ح 35.
3- السدى و السداة من الثوب: ما مدّ من خيوطه، و الجمع: أسدية.
4- تفسير العيّاشي 2: 15 ح 32.

[سورة الأعراف [7]: آية 33]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [33]

ثمّ بيّن سبحانه المحرّمات، فقال: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما تفاحش قبحه، أي: تزايد. و قيل: هي ما يتعلّق بالفروج. ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ما علن منها و ما خفي.

وَ الْإِثْمَ و ما يوجب الإثم. تعميم بعد تخصيص. و قيل: شرب الخمر.

وَ الْبَغْيَ الظلم أو الكبر. أفرده بالذكر للمبالغة، كما قال: وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ (1). بِغَيْرِ الْحَقِ متعلّق ب «البغي»، مؤكّد له معنى.

وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً تهكّم بالمشركين، لأنّه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره، و تنبيه على تحريم اتّباع ما لم يدلّ عليه برهان.

وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بالإلحاد في صفاته، و الافتراء عليه، كقولهم: اللّه أمرنا بها.

[سورة الأعراف [7]: آية 34]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ [34]

ثمّ بيّن ما فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تأخير عذاب الكفّار، و وعيد لهم بالعذاب النازل عند الأجل المقدّر، فقال: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدّة أو وقت لنزول العذاب بهم

ص: 516


1- النحل: 90.

فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ انقرضت مدّتهم، أو حان وقتهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ أي: لا يتأخّرون و لا يتقدّمون أقصر وقت. أو لا يطلبون التأخّر و التقدّم لشدّة الهول.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 35 الى 39]

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [35] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [36] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ [37] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ [38] وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [39]

ثمّ خاطب جميع المكلّفين من بني آدم، فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ

ص: 517

أي: إن يأتكم. و «ما» زائدة. رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ذكر الشرط بحرف الشكّ في مقام الجزم

لتنزيل المخاطب العالم بوقوع الشرط عقلا منزلة الجاهل، لمخالفته مقتضى العلم. و ضمّت إليها «ما» تأكيدا لمعنى الشرط، و لذلك أكّد فعلها بالنون و جوابه. فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فمن اتّقى التكذيب و أصلح عمله منكم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا منكم بِآياتِنا بحججنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها عن قبولها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ باقون على وجه الدوام. و إدخال الفاء في الخبر الأوّل دون الثاني، للمبالغة في الوعد و المسامحة في الوعيد.

فَمَنْ أَظْلَمُ فمن أشنع ظلما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ممّن تقوّل عليه ما لم يقله أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أو كذّب ما قاله. و المراد بالاستفهام الإخبار، و إنّما جاء بصورة الاستفهام ليكون أبلغ. أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ممّا كتب لهم من الأرزاق و الأعمار. و قيل: الكتاب اللوح المحفوظ، أي: ممّا أثبت لهم فيه.

حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي: ملك الموت و أعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ يتوفّون أرواحهم. و هو حال من الرسل، و «حتّى» غاية لنيلهم نصيبهم و استيفائهم له، أي:

إلى وقت وفاتهم، و هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام. و المستأنف هاهنا الجملة الشرطيّة.

و المعنى: حتّى إذا استوفوا أرزاقهم و آجالهم، و جاءهم ملك الموت مع أعوانه.

قالُوا جواب «إذا» أي، قال الرسل توبيخا لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أين الآلهة التي كنتم تعبدونها؟ و لفظة «ما» وصلت ب «أين» في خطّ المصحف، و حقّها الفصل، لأنّها موصولة.

ص: 518

قالُوا ضَلُّوا أي: غابوا عَنَّا فلا نراهم و لا ننتفع بهم وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ اعترفوا بأنّهم كانوا ضالّين فيما كانوا عليه.

قالَ أي: قال اللّه تعالى لهم

يوم القيامة، أو أحد من الملائكة: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعني: كفّار الأمم الماضية من النوعين فِي النَّارِ متعلّق ب «ادخلوا» أي: ادخلوا في النار مع أمم قد مضت من قبلكم، و تقدّم زمانهم زمانكم.

كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في النار لَعَنَتْ أُخْتَها شبيهتها في الدين. و هم الّذين ضلّوا بالاقتداء بهم. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً أي: تداركوا و تلاحقوا و اجتمعوا في النار قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا أو منزلة. و هم الأتباع و السفلة.

لِأُولاهُمْ أي: لأجل أولاهم، إذ الخطاب مع اللّه لا معهم. و هم القادة و الرؤساء لهم. رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا سنّوا لنا الضلال، و دعونا إليه، فاقتدينا بهم.

قال الصادق عليه السّلام: «هم أئمّة الجور».

فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا مِنَ النَّارِ لأنّهم ضلّوا و أضلّوا.

قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: لكلّ من رؤساء الضلالة و أتباعهم عذاب مضاعف.

أمّا القادة فبكفرهم و تضليلهم. و أمّا الأتباع فبكفرهم و تقليدهم. أو لأنّ كلّا منهم كانوا ضالّين و مضلّين. وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكلّ فريق. و قرأ عاصم بالياء على الغيبة، ردّا على قوله: «لكلّ ضعف».

وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ و قال الرؤساء للأتباع: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا كلامهم على قول اللّه تعالى: «لكلّ ضعف» أي: فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا و لا تفاوت في الكفر، حتّى تطلبوا من اللّه أن يزيد في عذابنا و ينقص من عذابكم، بل إنّا و إيّاكم مساوون في الضلال، و استحقاق ضعف العذاب. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من قول القادة، أو من قول اللّه لكلا الفريقين.

ص: 519

[سورة الأعراف [7]: الآيات 40 الى 41]

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [40] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [41]

ثمّ عاد الكلام إلى الوعيد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أي: عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أي: لا يصعد لهم أدعيتهم و أعمالهم، كما تفتّح لأعمال المؤمنين، كقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (1).

و قيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا، كما تصعد أرواح المؤمنين لتتّصل بالملائكة.

و قيل: لا تنزل عليهم البركة و لا يغاثون، كما قال: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ (2).

و التاء في «تفتّح» لتأنيث الأبواب، و التشديد لكثرتها. و قرأ أبو عمرو بالتخفيف، و حمزة و الكسائي به و بالياء، لأنّ التأنيث غير حقيقيّ، و الفعل مقدّم.

وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي: حتّى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم- و هو البعير- فيما هو مثل في ضيق المسلك- و هو ثقبة الإبرة- و ذلك ممّا لا يكون، فكذا ما يتوقّف عليه. و هذا كما تقول العرب في التبعيد

ص: 520


1- فاطر: 10.
2- القمر: 11.

و الأمر المستحيل: لا أفعل كذا حتّى يشيب الغراب، و حتّى يبيضّ القار (1). قال الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي و صار القار كاللبن الحليب

فتعليق الحكم بما لا يتوهّم وجوده و لا يتصوّر حصوله تأكيد له، و تحقيق لليأس من وجوده.

وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ المكذّبين بآيات اللّه تعالى.

روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال في هذه الآية: «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السماء، فتفتّح لهم أبوابها. و أمّا الكافر فيصعد بعمله و روحه حتّى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد: اهبطوا به إلى سجّين، و هو واد بحضر موت يقال له:

برهوت».

و قيل: لا تفتّح لهم أبواب السماء لدخول الجنّة، لأنّ الجنّة في السماء.

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أغطية. و التنوين فيه للبدل عن الإعلال عند سيبويه، و للصرف عند غيره. وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبّر عنهم بالمجرمين تارة و بالظالمين أخرى، إشعارا بأنّهم بتكذيبهم الآيات اتّصفوا بهذه الأوصاف الذميمة. و ذكر الجرم مع الحرمان من الجنّة، و الظلم مع التعذيب بالنار، تنبيها على أنّه أعظم الأجرام.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 42 الى 43]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [42] وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ

ص: 521


1- أي: القير.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [43] و لمّا كانت عادة اللّه تعالى جارية في أن يشفع الوعيد بالوعد، فقال بعد ذلك:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الجملة الفعليّة بين المبتدأ- و هو الموصول- و خبره- و هو اسم الإشارة- للترغيب في اكتساب ما لا يبلغه وصف الواصف من النعيم الدائم، مع الإجلال و التعظيم بما هو في الوسع، و هو الإمكان الواسع غير الضّيق من الإيمان و العمل الصالح.

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد و الحسد و العداوة في الجنّة.

أو نطهّرها منه حتّى لا يكون بينهم إلّا التوادّ و التعاطف، و إن رأوا رجلا أرفع درجة منهم. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ زيادة في لذّتهم و سرورهم.

وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا لموجب هذا الفوز العظيم و الأجر الجسيم وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ و ما كان يستقيم أن نكون مهتدين لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لو لا هداية اللّه و توفيقه. و اللام لتوكيد النفي. و جواب «لولا» محذوف دلّ عليه ما قبله.

و قرأ ابن عامر: ما كنّا بغير واو، على أنّها مبيّنة للأولى.

لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ فاهتدينا بإرشادهم. يقولون ذلك ابتهاجا و فرط سرورهم بأنّ ما علموه يقينا في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة، و تلذّذا بالتكلّم به، لا تعبّدا و تقرّبا.

وَ نُودُوا يناديهم مناد من جهة اللّه أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ إذا رأوها من بعيد،

ص: 522

أو بعد دخولها أُورِثْتُمُوها أعطيتموها إرثا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسبب أعمالكم، لا بالتفضّل كما يقول المبطلة. و هو حال من «الجنّة»، و العامل فيها معنى الإشارة. أو خبر و الجملة صفة «تلكم». و «أن» في المواضع الخمسة- المتقدّمة و المتأخّرة- هي المخفّفة، و الضمير للشأن، أي: و نودوا بأنّه تلكم الجنّة. أو المفسّرة، لأنّ المناداة و التأذين من القول، كأنّه قيل: و قيل لهم، أي: تلكم الجنّة أورثتموها، أي: يصير إليكم كما يصير الميراث إلى أهله.

و قيل: معناه جعلها اللّه سبحانه بدلا لكم عمّا كان أعدّ للكفّار لو آمنوا، فقد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: ما من أحد إلّا و له منزل في الجنّة و منزل في النار.

فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النار، و المؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة، فذلك قوله: «أورثتموها».

[سورة الأعراف [7]: الآيات 44 الى 47]

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [44] الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ [45] وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ [46] وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [47]

ثمّ حكى سبحانه ما يجري بين أهل الجنّة و النار بعد استقرارهم في الدارين،

ص: 523

فقال: وَ نادى أي: و سينادي أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ تبجّحا (1) بحالهم، و شماتة بأصحاب النار، و تحسيرا لهم أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا. إنّما لم يقل «ما وعدكم ربّكم» كما قال: «ما وَعَدَنا رَبُّنا» لدلالة «وعدنا» عليه، فحذف تخفيفا، و ليتناول كلّ ما وعد اللّه من البعث و الحساب و سائر أحوال القيامة، لأنّهم كانوا مكذّبين بذلك أجمع. و لأنّ ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا وعده بهم، كالبعث و الحساب و نعيم الجنّة لأهلها.

قالُوا نَعَمْ أي: قال أهل النار: وجدنا ما وعدنا ربّنا من العقاب حقّا و صدقا. و قرأ الكسائي بكسر العين. و هما لغتان. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قيل: هو صاحب الصور. و قيل: هو مالك خازن النار، نادى بأمر اللّه نداء بَيْنَهُمْ بين الفريقين بحيث يسمع جميع أهل الجنّة و أهل النار أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي: «أنّ لعنة اللّه» بالتشديد و النصب. و قرئ «إنّ» بالكسر، على إرادة القول، أو إجراء «أذّن» مجرى: قال.

روي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «المؤذّن أمير المؤمنين عليه السّلام». ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره (2) بعد أن قال: حدّثني أبي، عن محمد بن الفضيل، عن الرضا.

و رواه أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة، عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن» (3).

و بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: «إنّ لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام في كتاب اللّه أسماء لا يعرفها الناس، منها قوله: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ»، فهو المؤذّن بينهم،.

ص: 524


1- تبجّح و تباجح أي: افتخر و تعظّم و باهى.
2- تفسير القمّي 1: 231.
3- شواهد التنزيل 1: 267 ح 261- 262.

يقول: ألا لعنة اللّه على الّذين كذّبوا بولايتي، و استخفّوا بحقّي» (1).

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صفة ل «الظالمين» مقرّرة، أو ذمّ مرفوع أو منصوب وَ يَبْغُونَها عِوَجاً زيغا و ميلا عمّا هو عليه. و العوج بالكسر في المعاني و الأعيان ما لم تكن منتصبة، و بالفتح في المنتصبة، كالحائط و الرمح. وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و هي القيامة كافِرُونَ جاحدون.

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ أي: بين الفريقين، لقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ (2). أو بين الجنّة و النار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الاخرى. و هو الأعراف.

وَ عَلَى الْأَعْرافِ أي: على أعراف الحجاب، أي: أعاليه، و هي الأسوار المضروبة بينهما. جمع عرف، مستعار من عرف الفرس و عرف الديك. و قيل: العرف ما ارتفع من الشي ء، فإنّه يكون لظهوره أعرف من غيره. رِجالٌ من الموحّدين قصرّوا في العمل، كما روي عن ابن مسعود: أنّهم قوم

استوت حسناتهم و سيّئاتهم، فحالت حسناتهم بينهم و بين النار، و حالت سيّئاتهم بينهم و بين الجنّة، فيحبسون بين الجنّة و النار، حتّى يقضي اللّه فيهم ما شاء.

و روى الضحّاك عن ابن عبّاس: أنّ الأعراف موضع عال على الصراط، عليه حمزة و العبّاس و عليّ و جعفر، يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه، و مبغضيهم بسواد الوجوه. و رواه الثعلبي بالإسناد في تفسيره.

و قيل: إنّهم الملائكة في صورة الرجال، يعرفون أهل الجنّة و النار، و يكونون خزنة الجنّة و النار، و يكونون حفظة الأعمال، الشاهدين بها في الآخرة.

و عن الحسن و مجاهد: أنّهم فضلاء المؤمنين. و عن الجبائي: أنّهم الشهداء، و هم عدول الآخرة.

ص: 525


1- شواهد التنزيل 1: 267 ح 261- 262.
2- الحديد: 13.

يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنّة و النار بِسِيماهُمْ بعلامتهم الّتي أعلمهم اللّه بها، كبياض الوجه و سواده. «فعلى» من: سام إبله، إذا أرسلها في المرعى معلمة.

أو من: و سم على القلب، كالجاه من الوجه. و إنّما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام: «أصحاب الأعراف هم آل محمّد عليهم السّلام، لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النار إلّا من أنكرهم و أنكروه».

و روى عمر بن شيبة بإسناده عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا عليّ كأنّي بك يوم القيامة و بيدك عصا عوسج (1) تسوق قوما إلى الجنّة، و آخرين إلى النار».

و روي أيضا عن عمر بن شيبة و غيره: أنّ عليّا عليه السّلام قسيم النار و الجنّة.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال: «كنت جالسا عند عليّ عليه السّلام فأتاه ابن الكوّاء فسأله

عن هذه الآية. فقال: و يحك يا ابن الكوّاء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأعراف كثبان (3) بين الجنّة و النار، فيقف عليها كلّ نبيّ و كلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، و قد سيق المحسنون إلى الجنّة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا إلى الجنّة، فيسلّم المذنبون عليهم، و ذلك قوله: وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي: إذا نظروا إليهم سلّموا عليهم.

ص: 526


1- العوسج: جنس شجيرات من فصيلة الباذنجانيّات، أغصانه شائكة، يصلح سياجا.
2- شواهد التنزيل 1: 263 ح 256.
3- الكثيب: التلّ من الرمل، و جمعه: كثبان.

لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ أن يدخلهم اللّه بشفاعة النبيّ أو الإمام. و هذا حال من الواو. و الواو إن كانت راجعة إلى الأنبياء أو الأئمّة فالطمع طمع يقين، مثل قول إبراهيم: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (1)، و إلّا طمع حسن ظنّ.

وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ و رأوا ما هم فيه من العذاب قالُوا نعوذ باللّه رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: في النار. و قيل: إن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 48 الى 49]

وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [48] أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [49] وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ أي: الأنبياء و الخلفاء رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ من رؤساء الكفرة و أئمّة الضلال قالُوا تعييرا و توبيخا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ كثرتكم، أو جمعكم المال وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحقّ، أو على الخلق.

ثمّ قالوا لهم: أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ إشارة إلى ضعفاء أهل الجنّة الّذين كانت الكفرة و سائر أهل الضلال يحتقرونهم في الدنيا، و يحلفون أنّ اللّه لا يدخلهم الجنّة، فالتفتوا إلى أصحاب الجنّة و قالوا: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و هذا أوفق للوجوه الأخيرة. و على الأوّل معناه: قيل

ص: 527


1- الشعراء: 82.

لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنّة بفضل اللّه، بعد أن حبسوا حتّى أبصروا الفريقين و عرفوهم و قالوا لهم ما قالوا.

و قيل: لمّا عيّروا أصحاب النار أقسموا أنّ أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنّة، فقال اللّه تعالى أو بعض الملائكة: أ هؤلاء الّذين أقسمتم؟

[سورة الأعراف [7]: الآيات 50 الى 51]

وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [50] الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [51] ثمّ ذكر سبحانه كلام أهل النار و ما أظهروه من الافتقار، بدلا ممّا كانوا عليه من الاستكبار، فقال: وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا أي:

صبّوا. و هو دليل على أنّ الجنّة فوق النار. مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة. أو من الفواكه و سائر الأطعمة، كقوله (1): علفتها تبنا و ماء باردا. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ منعهما عنهم منع المحرّم عن المكلّف.

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً كتحريم البحيرة، و التصدية حول البيت.

و اللهو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف به. و اللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن

ص: 528


1- صدره: لمّا حططت الرحل عنها واردا أي: لمّا حططت الرحل عن الناقة حال كوني واردا للماء، علفتها تبنا و سقيتها ماء باردا.

يطلب به. وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي: اغترّوا بها و بطول و بطول البقاء فيها، فكأنّ الدنيا غرّتهم.

فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسين، فنتركهم في النار، فلا نجيب لهم دعوة، و لا نرحم لهم عبرة كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا فلم يخطروه ببالهم، و لم يستعدّوا له وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ و كما كانوا منكرين أنّها من عند اللّه.

و «ما» في الموضعين مصدريّة. و التقدير: كنسيانهم و كونهم جاحدين.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 52 الى 53]

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [52] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [53]

و لمّا ذكر اللّه حال الفريقين، بيّن أنّه قد أتاهم الكتاب و الحجّة دفعا لمعذرتهم، فقال: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بيّنّا معانيه من العقائد و الأحكام و المواعظ مفصّلة عَلى عِلْمٍ عالمين بوجه تفصيل أحكامه و مواعظه و جميع معانيه. و هو حال من فاعل «فصّلناه». هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ حالان من الهاء، أي: فصّلنا القرآن حال كونه هاديا و سببا للرحمة في الدارين.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي: ما يؤول إليه أمر الكتاب من تبيّن صدقه بظهور صحّة ما نطق به من الوعد و الوعيد. و المعنى: ما

ينتظرون إلّا عاقبة ما وعدوا به. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ عاقبة ما وعدوا به يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ تركوه ترك

ص: 529

الناسي قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ أي: قد تبيّن لنا أنّهم جاؤا بالحقّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ تمنّوا أن يكون لهم شفعاء فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم في إزالة العقاب أَوْ نُرَدُّ أو هل نردّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ جواب الاستفهام الثاني.

قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم في الكفر وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و بطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ على الأصنام بقولهم إنّها آلهة تشفع لنا، فلم تنفعهم.

[سورة الأعراف [7]: آية 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [54] و لمّا ذكر سبحانه الكفّار و عبادتهم غير اللّه، احتجّ عليهم بمقدوراته و مصنوعاته، و دلّهم بذلك على أنّه لا معبود سواه، فقال مخاطبا لجميع الخلق: إِنَّ رَبَّكُمُ خالقكم و مالككم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أنشأهما و أوجدهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: في ستّة أوقات، كقوله: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ (1) أي:

وقتئذ. أو في مقدار ستّة أيّام من أيّام الدنيا، فإنّ المتعارف في اليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها. و لم يكن خلق الأشياء بالتدريج مع قدرته على إيجاده دفعة، إلا ليدلّ على اختياره و قدرته، و لتعتبره النظّار، و ليكون حثّا على التأنّي و الرفق في الأمور. و خلقهما في هذه المدّة لا أزيد و لا أقلّ، و رتّبهما على الأسبوع، فابتدأ بالأحد و الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و الجمعة، لمصلحة

لا يعلمها إلّا هو.

ص: 530


1- الأنفال: 16.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استوى أمره، أو استولى على خلق العرش.

و قيل: إنّ الاستواء على العرش صفة للّه تعالى بلا كيف. و المعنى: أنّ له تعالى استواء على العرش على الوجه الّذي عناه منزّها عن الاستقرار و التمكّن، كما روي عن مالك بن أنس أنّه قال: الاستواء غير مجهول، و كيفيّته غير معلومة، و السؤال عنه بدعة.

و العرش: الجسم المحيط بسائر الأجسام. سمّي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك، فإنّ الأمور و التدابير تنزل منه. و قيل: الملك، أي: استوى و استولى أمره على ملكه.

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يغطّيه به. و لم يذكر عكسه، لأنّ الكلام يدلّ عليه.

و قد ذكر في موضع آخر: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ (1). و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه و في الرعد (2)، للدلالة على التكرير. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يعقّبه سريعا، بأن يأتي أحدهما عقيب الآخر، كما يأتي الشي ء في اثر الشي ء طالبا له على وجه لا يفصل بينهما شي ء. و الحثيث فعيل من الحثّ. و هو صفة مصدر محذوف، أو حال من الفاعل بمعنى: حاثّا، أو المفعول بمعنى: محثوثا، أو منهما.

وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ مذلّلات جاريات في مجاريهنّ بِأَمْرِهِ أي: بمشيئته و تدبيره و تصريفه. و سمّى ذلك أمرا على التشبيه، كأنّهنّ مأمورات بذلك. و نصبها بالعطف على «السماوات». و نصب «مسخّرات» على الحال. و قرأ ابن عامر كلّها بالرفع على الابتداء و الخبر.

و لمّا ذكر أنّه خلقهنّ مسخّرات بأمره قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فإنّه

ص: 531


1- الزمر: 5.
2- الرعد: 3.

الموجد

و المتصرّف مطلقا، أي: هو الّذي خلق الأشياء، و هو الّذي صرّفها على حسب إرادته تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ تعالى بالوحدانيّة و الألوهيّة، و تعظّم بالتفرّد في الربوبيّة.

قال في الأنوار: «و تحقيق الآية و اللّه أعلم: أنّ الكفرة كانوا متّخذين أربابا، فبيّن لهم أنّ المستحقّ للربوبيّة واحد، و هو اللّه تعالى، لأنّه الّذي له الخلق و الأمر، فإنّه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم و تدبير حكيم، فأبدع الأفلاك ثمّ زيّنها بالكواكب، كما أشار إليه بقوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ (1).

و عمد إلى إيجاد الأجرام السفليّة، فخلق جسما قابلا للصور المتبدّلة و الهيئات المختلفة. ثمّ قسّمها بصور نوعيّة متضادّة الآثار و الأفعال، و أشار إليه بقوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ (2) أي، ما في جهة السفل في يومين.

ثمّ أنشأ أنواع المواليد الثلاثة: المعادن، و الحيوان، و النبات، بتركيب موادّها أوّلا، و تصويرها ثانيا، كما قال بعد قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ « (3)» أي: مع اليومين الأوّلين، لقوله في سورة السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (4).

ثمّ لمّا تمّ له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبّر الأمر من السماء إلى الأرض، بتحريك الأفلاك، و تسيير الكواكب، و تكوير الليالي و الأيّام.

ص: 532


1- فصّلت: 12.
2- فصّلت: 9- 10.
3- فصّلت: 9- 10.
4- السجدة: 4.

ثمّ صرّح بما هو فذلكة التقرير و نتيجته، فقال: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (1).

[سورة الأعراف [7]: الآيات 55 الى 56]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [55] وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [56]

ثمّ أمر سبحانه بعد ذكره دلائل توحيده بدعائه على وجه الخشوع و التذلّل كافّة عبيده، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً أي: ذوي تضرّع، من الضراعة، و هي الذلّة، و ذوي خفية، فإنّ الإخفاء دليل الإخلاص.

و قيل: التضرّع رفع الصوت، و الخفية السرّ، أي: أدعوه علانية و سرّا.

و يؤيّد الأوّل ما روي: «أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في غزاة، فأشرفوا على واد، فجعل الناس يهلّلون و يكبّرون و يرفعون أصواتهم. فقال: أيّها الناس اربعوا (2) على أنفسكم، أما إنّكم لا تدعون أصمّ و لا نائيا، إنّكم تدعون سميعا قريبا، إنّه معكم».

و عن الحسن قال: «بين دعوة السرّ و دعوة العلانية سبعون ضعفا».

و قرأ أبو بكر عن عاصم: خفية بالكسر. و هما لغتان.

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحدّ المرسوم في جميع العبادات و الدعوات. و نبّه به على أنّ الدّاعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به، كرتبة

ص: 533


1- أنوار التنزيل 3: 12- 13.
2- يقال: اربع على نفسك أي: توقّف و كفّ.

الأنبياء عليهم السّلام، و الصعود إلى السماء. و قيل: هو الصياح في الدعاء و الإكثار و الإطناب فيه. و الرواية المذكورة تؤيّده.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سيكون قوم يعتدون في الدعاء، و حسب المرء أن يقول:

اللّهمّ إنّي أسألك الجنّة، و ما قرّب إليها من قول و عمل، و أعوذ بك من النار، و ما قرّب إليها من قول و عمل، ثمّ قرأ: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و المعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها بعد أن أصلحها اللّه ببعث الأنبياء و إنزال الكتب و شرع الأحكام.

وَ ادْعُوهُ خَوْفاً ذوي خوف من الردّ، لقصور أعمالكم، و عدم استحقاقكم وَ طَمَعاً و ذوي طمع في إجابته تفضّلا و إحسانا، لفرط رحمته. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ترجيح للطمع، و تنبيه على ما يتوسّل به إلى الإجابة. و تذكير قريب، لأنّ الرحمة بمعنى الرحم أو الترحّم. أو لأنّه صفة محذوف، أي: أمر قريب.

أو على تشبيهه بفعيل الّذي بمعنى مفعول، أو الّذي هو بزنة المصدر كالنقيض. أو للفرق بين القريب من النسب و القريب من غيره. و الإحسان هو النفع الّذي يستحقّ به الحمد، و الإساءة هي الضرر الّذي يستحقّ به الذمّ.

[سورة الأعراف [7]: آية 57]

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [57]

و لمّا أخبر اللّه تعالى في الآية المتقدّمة بأنّه خلق السماوات و الأرض و ما فيهما من البدائع، عطف على ذلك بقوله: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً. و قرأ

ص: 534

ابن كثير و حمزة و الكسائي: الريح على الوحدة، و «نشرا» (1) جمع نشور بمعنى ناشر. و قرأ ابن عامر: و «نشرا» بالتخفيف حيث وقع. و حمزة و الكسائي: نشرا بفتح النون حيث وقع، على أنّه مصدر في موقع الحال، بمعنى: ناشرات، أو مفعول مطلق، فإنّ الإرسال و النشر متقاربان، فكأنّه قيل: نشرها نشرا. و عاصم: بشرا، و هو تخفيف بشر جمع بشير.

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قدّام رحمته. يعني: الغيث الّذي هو أحسن النعم أثرا، فإنّ الصبا تثير السحاب، و الشمال تجمعه، و الجنوب تذره، و الدبور تفرّقه.

حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي:

حملت هذه الرياح. و اشتقاق الإقلال من القلّة، فإنّ المقلّ للشي ء يستقلّه، يعني: الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلا. سَحاباً ثِقالًا بالماء. جمعه، لأنّ السحاب- بمعنى السحائب- جمع سحابة. سُقْناهُ أي: السحاب. و إفراد الضمير باعتبار اللفظ. لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لأجل بلد ليس فيه حياة، أو لإحيائه، أو لسقيه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر عن عاصم: ميت.

فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ بالبلد، أو بالسحاب، أو بالسوق، أو بالريح. و كذلك فَأَخْرَجْنا بِهِ و يحتمل فيه عود الضمير إلى الماء. و إذا كان للبلد فالباء للإلصاق في الأوّل. و للظرفيّة في الثاني. و إذا كان لغيره فهي للسببيّة فيهما. مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كلّ أنواعها. و «من» للتبعيض أو للتبيين.

كَذلِكَ إشارة إلى إخراج الثمرات، أو إلى إحياء البلد الميّت، أي: كما نحييه بإحداث القوّة النامية فيه، و تطريتها (2) بأنواع النباتات و الثمرات نُخْرِجُ

ص: 535


1- أي: قرأ ابن كثير وحده: و نشرا، لما سيأتي في السطر التالي أن قراءة حمزة و الكسائي: نشرا.
2- أي: جعلها ذات طراوة بأنواع النبات.

الْمَوْتى من الأجداث، و نحييها بردّ النفوس إلى موادّ أبدانها بعد جمعها و تطريتها بالقوى و الحواسّ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أنّ من قدر على ذلك قدر على هذا، إذ كلّ واحد منهما إعادة الشي ء بعد إنشائه، فلا يكون فرقا بين الإخراجين.

[سورة الأعراف [7]: آية 58]

وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [58]

ثمّ بيّن سبحانه حال الأرض الّتي يأتيها المطر، فقال: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ الأرض العذبة الكريمة التربة يَخْرُجُ نَباتُهُ زرعه خروجا زاكيا ناميا بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيئته و تيسيره. عبّر به

عن كثرة النبات و حسنه و غزارة نفعه، كأنّه قيل: يخرج نباته حسنا وافيا، لأنّه أوقعه في مقابلة قوله: وَ الَّذِي خَبُثَ و هو السبخة الّتي لا تنبت ما ينتفع به. لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً نباتا قليلا عسر الخروج منه، من: نكد عيشهم بالكسر ينكد نكدا، إذا اشتدّ و عسر. و نصبه على الحال.

و تقدير الكلام: و البلد الّذي خبث لا يخرج نباته إلّا نكدا، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، فصار مرفوعا مستترا. أو يقدّر: و نبات الّذي خبث.

كَذلِكَ مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ نردّدها و نكرّرها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة اللّه تعالى، فيتفكّرون فيها، و يعتبرون بها. و الآية مثل لمن تدبّر الآيات و انتفع بها، و لمن لم يرفع إليها رأسا، و لم يتأثّر بها.

و عن مجاهد: ذرّيّة آدم منهم خبيث و طيّب. و عن قتادة: المؤمن سمع كتاب اللّه بعقله فوعاه و انتفع به، كالأرض الطيّبة أصابها الغيث فأنبتت، و الكافر بخلاف ذلك.

ص: 536

[سورة الأعراف [7]: الآيات 59 الى 64]

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [59] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [60] قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [61] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [62] أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [63]

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ [64]

و لمّا بيّن سبحانه الأدلّة على وحدانيّته ذكر بعده حال من عاند

و كذّب رسله، تسلية لنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تثبيتا له على احتمال الأذى من قومه، و تحذيرا لهم عن الاقتداء بأولئك، فينزل بهم ما نزل بهم. و ابتدأ بقصّة نوح، لأنّه شيخ الأنبياء و مقدّمهم، فقال:

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً و هو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و هو إدريس النبيّ عليه السّلام، أوّل نبيّ بعده. و ولد في العام الّذي مات آدم عليه السّلام قبل موت آدم في الألف الأولى، و بعث في الثانية إِلى قَوْمِهِ و هو ابن أربعمائة. و قيل: ابن خمسين أو أربعين.

و لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما. و كان في تلك الألف ثلاثة قرون

ص: 537

عايشهم و عمّر فيهم. و كان يدعوهم ليلا و نهارا، فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فرارا. و كان يضربه قومه حتّى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللّهمّ اهد قومي، فإنّهم لا يعلمون. ثمّ شكاهم إلى اللّه تعالى، فغرقت له الدنيا، و عاش بعد ذلك تسعين سنة. و روي أكثر من ذلك أيضا.

و ذكر اللام لأنّه جواب قسم محذوف، كأنّه قيل: حقّا أقول: إنّا أرسلناه، و لا تكاد تطلق هذه اللام إلّا مع «قد» لأنّها مظنّة التوقّع، فإنّ المخاطب إذا سمعها توقّع وقوع ما صدّر بها.

فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: اعبدوه وحده، لقوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بالرفع على محلّ «من إله». و قرأ الكسائي: غيره بالجرّ على اللفظ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن لم تؤمنوا. و هذا وعيد و بيان للداعي إلى عبادة اللّه، لأنّه هو الّذي يحذر عقابه دون من كانوا يعبدونه من دونه. و اليوم هو القيامة، أو يوم

نزول الطوفان.

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي: الأشراف، فإنّهم يملأون العيون بحسن منظرهم و بهجتهم و وجاهتهم إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ ذهاب عن الحقّ مُبِينٍ بيّن الضلالة.

و المراد بالرؤية رؤية القلب الّذي هو العلم. و قيل: رؤية البصر، أي: نراك بأبصارنا على هذه الحال.

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي: شي ء من الضلال. بالغ في النفي، فإنّ الضلالة كانت أبلغ في نفي الضلال، كما بالغوا في الإثبات، و عرّض لهم به. وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك باعتبار ما يلزمه، و هو كونه على هدى، كأنّه قال: و لكنّي على هدى في الغاية، لأنّي رسول من اللّه.

أُبَلِّغُكُمْ كلام مستأنف بيانا لكونه رسول ربّ العالمين، أو صفة ل «رسول». قرأ أبو عمرو: و أبلغكم بالتخفيف. رِسالاتِ رَبِّي جمع الرسالات

ص: 538

لاختلاف أوقاتها. أو لتنوّع معانيها، كالعقائد و المواعظ و الأحكام. أو لأنّ المراد بها ما أوحي إليه و إلى الأنبياء قبله، كصحف شيث و إدريس عليهما السّلام. و المعنى: ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة في المعاني المختلفة من الأوامر و النواهي. أو ما أوحي إليّ و إلى الأنبياء السابقة.

وَ أَنْصَحُ لَكُمْ في زيادة اللام دلالة على إمحاض النصيحة للمنصوح له.

وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ هو تقرير لما أوعدهم به، فإنّ معناه أعلم من قدرته و شدّة بطشه على أعدائه، و أنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين، أو من جهته بالوحي، أشياء لا علم لكم بها.

أَ وَ عَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، و الواو عطف على محذوف، أي: أكذبتم و عجبتم أَنْ جاءَكُمْ من أن جاءكم ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ رسالة أو موعظة عَلى رَجُلٍ على لسان رجل مِنْكُمْ من جملتكم، أو من

جنسكم، فإنّهم كانوا يتعجّبون من إرسال البشر، و يقولون: ما هذا إلّا بشر مثلكم، و لو شاء اللّه لأنزل ملائكة، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين لِيُنْذِرَكُمْ ليحذّركم عاقبة الكفر و المعاصي وَ لِتَتَّقُوا و لتخشوا اللّه في ترك الشرك و المعاصي بسبب الإنذار وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ و لترحموا بالتقوى.

و فائدة حرف الترجّي التنبيه على أنّ المتّقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه، و لا يأمن من عذاب اللّه، فإنّ الاعتماد على التقوى مستلزم للعجب في الأعمال، و هو محبط لها.

فَكَذَّبُوهُ فكذّبوا نوحا فيما دعاهم إليه فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ و هم من آمن به. و كانوا أربعين رجلا و أربعين امرأة. و قيل: كانوا تسعة: بنوه سام و يافث و حام، و ستّة ممّن آمن به. فِي الْفُلْكِ متعلّق ب «معه»، كأنّه قال: و الّذين استقرّوا معه في الفلك، أو صحبوه فيه. أو ب «أنجيناه»، أي: أنجيناهم في السفينة من

ص: 539

الطوفان. أو حال من الموصول، أو من الضمير في «معه».

وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي: عمي القلوب غير مستبصرين. يقال: رجل عم، إذا كان أعمى القلب، و رجل أعمى في البصر. و أصله عميين فخفّف. و الفرق بين العمى و العامي: أنّ العمى يدلّ على عمى ثابت، و العامي على عمى حادث.

و في حديث وهب بن منبّه: «أنّ نوحا عليه السّلام كان أوّل نبيّ نبّأه عزّ و جلّ بعد إدريس، و كان إلى الأدمة ما هو (1)، دقيق الوجه، في رأسه طول، عظيم العينين، دقيق الساقين، طويلا جسيما. دعا قومه إلى اللّه حتّى انقرضت ثلاثة قرون منهم، كلّ قرن ثلاثمائة سنة، يدعوهم سرّا و جهرا

فلا يزدادون إلّا طغيانا، و لا يأتي منهم قرن إلّا كان أعتى (2) على اللّه من الّذين قبلهم.

و كان الرجل منهم يأتي بابنه و هو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول: يا بنيّ إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون. و كانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتّى يسيل مسامعه دما، و حتّى لا يعقل شيئا ممّا يصنع به، فيحمل فيرمى به في بيته أو على باب داره مغشيّا عليه.

فأوحى اللّه تعالى إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ (3). فعندها أقبل على الدعاء عليهم، و لم يكن دعا عليهم قبل ذلك، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً « (4)» إلى آخر السورة. فأعقم اللّه تعالى أصلاب الرجال و أرحام النساء، فلبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد، و قحطوا في تلك الأربعين سنة حتّى هلكت أموالهم، و أصابهم الجهد و البلاء.

ص: 540


1- أي: قريبا إلى الأدمة.
2- من: عتى عتوّا، استكبر و عصى و جاوز الحدّ.
3- هود: 36.
4- هود: 36.

ثمّ قال لهم نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (1) الآيات. فأعذر إليهم و أنذر، فلم يزدادوا إلّا كفرا. فلمّا يئس منهم أقصر عن كلامهم و دعائهم، فلم يؤمنوا وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً (2) الآية، يعني: آلهتهم، حتى غرقهم اللّه و آلهتهم الّتي كانوا يعبدونها.

و بعد نوح عبد الناس الأصنام، و سمّوا أصنامهم بأسماء أصنام قوم نوح.

فاتّخذ أهل اليمن يغوث و يعوق، و أهل دومة الجندل اتّخذوا صنما سمّوه ودّا، و اتّخذت حمير صنما سمّته نسرا، و هذيل صنما سمّوه سواعا. فلم يزالوا يعبدونها حتّى جاء الإسلام.

و سنذكر قصّة السفينة و الغرق في سورة هود عليه السّلام إن شاء اللّه.

و روى الشيخ أبو جعفر بإسناده في كتاب النبوّة مرفوعا إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا بعث اللّه عزّ و جلّ نوحا دعا قومه علانية، فلمّا سمع أولاد هبة اللّه- يعني:

شيث عليه السّلام- من نوح تصديق ما في أيديهم من العلم، و عرفوا أنّ العلم الّذي في أيديهم هو العلم الّذي جاء به نوح، صدّقوه و سلّموا له. فأمّا ولد قابيل فإنّهم كذّبوه و قالوا: إنّ الجنّ كانوا قبلنا فبعث اللّه إليهم ملكا، فلو أراد أن يبعث إلينا لبعث إلينا ملكا من الملائكة».

و روى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال: سمعت عليّ بن محمّد عليه السّلام يقول: «عاش نوح عليه السّلام ألفين و خمسمائة سنة، و كان يوما في السفينة نائما فهبّت ريح فكشفت عورته، فضحك حام و يافث، و زجرهما سام و نهاهما عن الضحك، و كان كلّما غطّى سام ما يكشفه الريح كشفه حام و يافث، فانتبه نوح فرآهم يضحكون فقال: ما هذا؟ فأخبره سام بما كان، فرفع يده إلى السماء.

ص: 541


1- هود: 36.
2- نوح: 23.

يدعو، فقال: اللّهمّ غيّر ماء صلب حام حتّى لا يولد له إلّا السودان، اللّهمّ غيّر ماء صلب يافث. فغيّر اللّه ماء صلبهما، فجميع السودان من صلب حام حيث كانوا، و جميع الترك و السقلاب و يأجوج و مأجوج و الصين من يافث، و جميع البيض سواهم من سام».

و روى إبراهيم بن هاشم، عن عليّ بن الحكم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «عاش نوح ألفي سنة و خمسمائة سنة، منها ثمانمائة و خمسين قبل أن يبعث، و ألف سنة إلّا خمسين عاما و هو في قومه، و مأتي عام في عمل السفينة، و خمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة و نضب الماء. فمصّر الأمصار، و أسكن ولده البلدان.

ثمّ إنّ ملك الموت جاءه و هو في الشمس فقال: السلام عليك.

فردّ عليه نوح عليه السّلام، و قال له: ما جاء بك يا ملك الموت؟

فقال: جئت لأقبض روحك.

فقال له: تدعني أتحوّل من الشمس إلى الظلّ؟

فقال له: نعم.

قال: فتحوّل نوح، ثمّ قال: يا ملك الموت كأنّ ما مرّ بي من الدنيا مثل تحوّلي من الشمس إلى الظلّ، فامض لما أمرت به. قال: فقبض روحه صلّى اللّه على نبيّنا و عليه» (1).

[سورة الأعراف [7]: الآيات 65 الى 72]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ [65] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا

ص: 542


1- لم نجده في تفسير القمّي، و رواه عنه في مجمع البيان 2: 435.

لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [66] قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [67] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ [68] أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [69]

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [70] قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [71] فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ [72] ثم حكى سبحانه قصّة هود عليه السّلام، فقال عطفا على «نُوحاً إِلى قَوْمِهِ»: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً عطف بيان ل «أخاهم». و المراد به الواحد منهم، كقولهم: يا أخا العرب. و هو: هود بن عبد اللّه بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح. و قيل: هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ابن عمّ أبي عاد. و عاد اسم أبي القبيلة. و هو: عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السّلام.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استأنف به و لم يعطف كما في قصّة نوح، كأنّه جواب سائل قال: فما قال لهم حين أرسل؟ أَ فَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه، و كأنّ قومه كانوا أقرب من قوم نوح، و لذا قال: «أخاهم».

ص: 543

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملأ الّذين كفروا دون الملأ من قوم نوح، لأنّه كان في أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد، بخلاف قوم نوح. إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ متمكّنا و منغمسا في خفّة عقل، راسخا فيها حيث فارقت دين قومك. فجعلوا السفاهة ظرفا على طريق المجاز، لإفادة أنّه متمكّن فيها غير خال عنها. وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي: كذّبوه ظانّين لا متيقّنين.

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي: لم يحملني على هذا الإخبار السفاهة وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ

في إجابة (1) الأنبياء عليهم السّلام- من نسبتهم إلى الضلال و السفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم و الإغضاء، و ترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس و أسفههم- أدب حسن و خلق عظيم. و حكاية اللّه عزّ و جلّ ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء؟ و كيف يغضّون عنهم، و يسبلون أذيالهم على ما يكون منهم؟

و الحاصل: أنّ هذا تعليم من اللّه أن لا يقابل السفهاء بالكلام القبيح، و لكن يقتصر الإنسان على نفي ما أضيف إليه عن النفس.

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ فيما أدعوا إليه من توحيد اللّه و طاعته أَمِينٌ ثقة مأمون في تأدية الرسالة، فلا أكذب فيه. أو عرفت فيما بينكم بالنصح و الأمانة، فما حقّي أن أتّهم.

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: لا عجب في أن جاءكم نبوّة عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي: اذكروا وقت استخلافكم مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي: في مساكنهم أو في الأرض، بأن جعلكم ملوكا، فإنّ شدّاد بن عاد ممّن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى بحر عمان، فخوّفهم هود أوّلا من

ص: 544


1- خبر مقدّم، و المبتدأ قوله بعد أسطر: أدب حسن.

عقاب اللّه تعالى، ثمّ ذكّرهم بإنعامه.

وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي: طولا و قوّة. قال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع، و أقصرهم ستّين ذراعا. و قال أبو جعفر عليه السّلام: «كانوا كأنّهم النخل الطوال، و كان الرجل منهم ينحو الجبل بيده فيهدم منه قطعة».

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي: نعم اللّه في استخلافكم و بسطة أجرامكم، و غير ذلك من عطاياه. و واحد الآلاء إلى (1)، و نحوه أنى و آناء، و ضلع و أضلاع، و عنب و أعناب. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفوزوا بنعيم الدنيا و الآخرة.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام.

استبعدوا اختصاص اللّه تعالى بالعبادة، و الإعراض عمّا أشرك به آباؤهم، انهماكا في التقليد، و حبّا لما ألفوه. و معنى المجي ء إمّا المجي ء من مكان اعتزل به عن قومه، أو من السماء على التهكّم، أو القصد على المجاز، كقولهم: ذهب يسبّني، و لا يراد حقيقة الذهاب.

فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المدلول عليه بقوله: «أَ فَلا تَتَّقُونَ». و هذا استعجال منهم للعذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنّك رسول اللّه إلينا، و في نزول العذاب بنا لو لم نترك عبادة الأصنام.

قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ قد وجب و حقّ عليكم، أو نزل عليكم على أنّ المتوقّع الّذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب، من الارتجاس، و هو الاضطراب وَ غَضَبٌ إرادة انتقام.

أَ تُجادِلُونَنِي أ تناظرونني و تخاصمونني فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ في أشياء ما هي إلّا أسماء ليس تحتها مسمّيات، لأنّكم سمّيتموها آلهة، و معنى الإلهيّة فيها معدوم، فإنّ المستحقّ للعبادة بالذات هو الموجد للكلّ. و نحوه

ص: 545


1- الإلي و الإلى و الألى: النعمة. و مثّل لها المصنّف «قدّس سرّه» بثلاث صيغ، ف: أنى على زنة ألى، و ضلع على زنة إلي، و عنب على زنة إلى.

قوله: ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ (1). ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: لو استحقّت للعبادة كان استحقاقها بجعله عزّ و جلّ، إمّا بإنزال آية أو نصب حجّة. فبيّن بذلك أنّ منتهى حجّتهم و سندهم أنّ الأصنام تسمّى آلهة، من غير دليل يدلّ على تحقّق المسمّى، لفرط جهالتهم و غباوتهم.

و لمّا وضح الحقّ و أنتم مصرّون على العناد فَانْتَظِرُوا نزول عذاب اللّه، فإنّه نازل بكم إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزوله بكم.

فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ في الدين، من العذاب بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم، بأن أخرجناهم من بينهم قبل إنزال العذاب بهم وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي:

دمّرناهم و استأصلناهم عن آخرهم، فلم يبق لهم نسل و لا ذرّيّة وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ تعريض بمن آمن منهم، و تنبيه على أنّ الفارق بين من نجا و من هلك هو الإيمان.

و قصّة عاد إجمالا: أنّهم قد تبسّطوا في البلاد ما بين عمان و حضر موت، و كانت مساكنهم في اليمن بالشحر و الأحقاف، و هي رمال يقال لها: رمل عالج.

و كان لهم زرع و نخل، و لهم أعمار طويلة، و أجساد عظيمة. و كانت لهم أصنام يعبدونها: صداء، و صمود، و الهباء. فبعث اللّه إليهم هودا نبيّا، و كان من أوسطهم و أفضلهم حسبا، فكذّبوه و ازدادوا عتوّا و تجبّرا، فأمسك اللّه عنهم القطر ثلاث سنين حتّى جهدوا. و كان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى اللّه الفرج منه عند بيته الحرام، مسلمهم و مشركهم. و أهل مكّة إذ ذاك العماليق، أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، و سيّدهم معاوية بن بكر.

فجهّزت عاد إلى مكّة سبعين رجلا، منهم قيل بن عنز و مرثد بن سعد الّذي كان يكتم إسلامه. فلمّا قدموا نزلوا على معاوية بن بكر- و هو بظاهر مكّة خارجا

ص: 546


1- العنكبوت: 42.

عن الحرم، فأنزلهم و أكرمهم، و كانوا أخواله و أصهاره. فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر و تغنّيهم الجرادتان- قينتان كانتا لمعاوية بن بكر- اسم إحداهما وردة و الاخرى جرادة، فقيل لهما الجرادتان على التغليب.

فلمّا رأى طول مقامهم و ذهولهم باللهو عمّا قدموا له أهمّه ذلك، و قال: قد هلك أخوالي و اصهاري و هؤلاء على ما هم عليه. و كان يستحي أن يكلّمهم خيفة أن يظنّوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين. فقالتا: قل شعرا نغنّيهم به لا يدرون من قاله. فقال معاوية:

ألا يا قيل و يحك قم فهينم (1)لعلّ اللّه يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عاداقد أمسوا ما يبينون الكلاما

فلمّا غنّتا به قالوا: إنّ قومكم يتغوّثون من البلاء الّذي نزل بهم، و قد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم و استسقوا لقومكم.

فقال لهم مرثد بن سعد: و اللّه لا تسقون بدعائكم، و لكن إن أطعتم نبيّكم و تبتم إلى اللّه سقيتم، و أظهر إسلامه.

فقالوا لمعاوية: احبس عنّا مرثدا، لا يقدمنّ معنا مكّة، فإنّه قد اتّبع دين هود و ترك ديننا. ثمّ دخلوا مكّة.

فقال قيل: اللّهمّ اسق عادا ما كنت تسقيهم.

فأنشأ اللّه سحابات ثلاثا: بيضاء، و حمراء، و سوداء. ثمّ ناداه مناد من السماء يا قيل: اختر لنفسك و قومك.

فقال: اخترت السوداء، فإنّها أكثرهنّ ماء. فخرجت على عاد من واد لهم يقال له: المغيث. فاستبشروا بها و قالوا: هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم، فتدمغهم بالحجارة فأهلكتهم. و نجا هود و المؤمنون معه، فأتوا مكّة، فعبدوا اللّه فيها حتى ماتوا.

و روى أبو حمزة الثمالي، عن سالم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ للّه بيت ريح .

ص: 547


1- أمر من الهينمة، و هو الصوت الخفيّ، أي: فادع اللّه تعالى.

مقفل عليه لو فتح لأذرت (1) ما بين السماء و الأرض، ما أرسل على قوم عاد إلّا قدر الخاتم».

و روي عنه عليه السّلام: «أنّه كان هود و صالح و شعيب و إسماعيل و نبيّنا صلّى اللّه عليه و عليهم يتكلّمون بالعربيّة».

[سورة الأعراف [7]: الآيات 73 الى 79]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [73] وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [74] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [75] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [76] فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [77]

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [78] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [79]

ص: 548


1- أذرته الريح إذراء: أطارته و فرّقته.

و بعد ذكر قصّة عاد عطف عليها قصّة صالح، فقال: وَ إِلى ثَمُودَ أي:

و أرسلنا إلى ثمود. و هي قبيلة أخرى من العرب سمّوا باسم أبيهم الأكبر، و هو ثمود بن عابر بن ارم بن سام. و قيل: سمّوا به لقلّة مائهم، من الثمد، و هو الماء القليل.

و كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز و الشام إلى وادي القرى. أَخاهُمْ صالِحاً صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. فصالح من ولد ثمود.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة ظاهرة الدلالة على صحّة نبوّتي.

و قوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف لبيانها، كأنّه قيل: ما هذه البيّنة؟

فقال: هذه ناقة اللّه لكم. و «آية» نصب على الحال، و العامل فيها معنى الإشارة.

و «لكم» بيان لمن هي له آية. و يجوز أن تكون «ناقة اللّه» بدلا أو عطف بيان، و «لكم» خبرا عاملا في «آية». و إضافة الناقة إلى اللّه تعالى لتعظيمها، و لأنّها جاءت من عند اللّه بلا وسائط و أسباب معهودة، فإنّها خرجت من صخرة ملساء، كما سنذكر، و لذلك كانت آية.

فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بعقر أو نحر.

نهى عن المسّ الّذي هو مقدّمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى، مبالغة في الأمر، و إزاحة للعذر. فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب للنهي.

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض، بأن مكّنكم فيها مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ و أنزلكم في أرض الحجر، و جعل لكم فيها مساكن تأوون إليها.

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي: تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من اللبن و الآجرّ وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً تسكنونها في الشتاء. و انتصاب «بيوتا» على الحال المقدّرة، كما تقول: خط هذا الثوب قميصا، لأنّ الجبل لا يكون

ص: 549

بيتا في حال النحت، و لا الثوب قميصا. أو على المفعوليّة، على أنّ التقدير: بيوتا من الجبال، أو تنحتون بمعنى: تتّخذون.

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ نعم اللّه عليكم، بما أعطاكم من القوّة و التمكّن في الأرض وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ و لا تضطربوا بالفساد في الأرض، و لا تبالغوا فيه.

قالَ الْمَلَأُ. و قرأ ابن عامر: و قال الملأ بالواو. الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تعظّموا و أبوا من اتّباع الرسول

الداعي إلى اللّه مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي: للّذين استضعفوهم و استذلّوهم لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» بدل الكلّ إن كان الضمير ل «قومه»، و بدل البعض إن كان ل «الّذين». و ذلك أنّ الراجع إذا رجع إلى «قومه» فقد جعل «من آمن» مفسّرا لمن استضعف منهم، فدلّ أنّ استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين، و إذا رجع إلى «الذين استضعفوا» لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم، و دلّ أنّ المستضعفين كانوا مؤمنين و كافرين.

أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه على الاستهزاء قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا به عن الجواب السويّ الّذي هو «نعم» تنبيها على أنّ إرساله أظهر من أن يشكّ فيه عاقل، و يخفى على ذي رأي، و إنّما الكلام فيمن آمن به و من كفر، فلذلك قال: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على وجه المقابلة. و وضعوا «آمنتم به» موضع: أرسل به، ردّا لما جعلوه معلوما مسلّما.

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ فنحروها. قال الأزهري (1): «العقر عند العرب قطع عرقوب البعير، ثمّ جعل النحر عقرا، لأنّ ناحر البعير يعقره ثمّ ينحره». أسند إلى جميعهم فعل بعضهم- و هو قدار بن سالف مع أصحابه- للملابسة، أو لأنّه كان برضاهم.

و قدار كان أحيمر أزرق قصيرا، و كانوا تسعة رهط.

روى الثعلبي بإسناده مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا علي أ تدري من .

ص: 550


1- تهذيب اللغة 1: 215.

أشقى الأوّلين؟ قال: اللّه و رسوله أعلم. قال: عاقر الناقة. قال: أ تدري من أشقى الآخرين؟ قال: اللّه و رسوله أعلم. قال: الّذي يخضب هذه من هذه، و أشار إلى لحيته و رأسه».

وَ عَتَوْا و استكبروا و تولّوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ عن امتثاله، و هو ما بلّغهم صالح بقوله: «فذروها». أو عن شأن ربّهم، و هو دينه. وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب. و إنّما استعجلوه لتكذيبهم به، و لذلك علّقوه بما كانوا به كافرين، و هو قوله: إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ من عند اللّه.

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: الصيحة الّتي زلزلت لها الأرض و اضطربوا لها، أو الزلزلة الّتي زلزلت بها الأرض فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ في مساكنهم و بلادهم جاثِمِينَ صرعى ميّتين هامدين لا حراك بهم. يقال: الناس جثم، أي: قعود لا حراك بهم. و منه المجثمة الّتي جاء النهي عنها، و هي البهيمة تربط و تجمع قوائمها لترمى.

و عن جابر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا مرّ بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلّا رجل واحد كان في حرم اللّه.

قالوا: من هو؟ قال: ذاك أبو رغال، فلمّا خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.

و روي أنّ صالحا كان بعثه إلى قوم فخالف أمره».

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ تولّى يتحسّر على ما فاته من إيمانهم و يتحزّن لهم وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ لقد بذلت فيكم وسعي، و لم آل جهدا في النصيحة لكم وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية. و ظاهره يدلّ أنّ تولّيه عنهم كان بعد أن أبصرهم موتى صرعى، و لعلّه خاطبهم به بعد هلاكهم، كما

خاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهل قليب بدر، و قال: إنّا وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟

أو ذكر ذلك على سبيل التحسّر عليهم كما مرّ، كما يقول

ص: 551

الرجل لصاحبه و هو ميّت، و كان قد نصحه فلم يسمع منه حتّى ألقى بنفسه في التهلكة: يا أخي كم نصحتك، و كم قلت لك فلم تقبل منّي؟ و يجوز أن يتولّى عنهم تولّي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب.

و ملخّص قصّتهم: أنّ عادا لمّا هلكت عمرت ثمود بلادها، و خلّفوهم في الأرض، و كثروا و عمّروا أعمارا طوالا، حتّى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال. و كانوا في سعة و رخاء من العيش، فعتوا على اللّه، و أفسدوا في الأرض، و عبدوا الأوثان، فبعث اللّه إليهم صالحا، و كانوا قوما عربا، و صالح من أوسطهم نسبا. فدعاهم إلى اللّه، فلم يتّبعه إلّا قليل منهم مستضعفون، فحذّرهم و أنذرهم. فسألوه آية.

فقال: أيّة آية تريدون؟

قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعو إلهك و ندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتّبعناك، و إن استجيب لنا اتّبعتنا.

فقال صالح: نعم. فخرج معهم و دعوا أوثانهم، و سألوها الاستجابة فلم تجبهم.

ثمّ قال سيّدهم جندع بن عمرو، و أشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء و براء. و المخترجة هي الّتي شاكلت البخت. فإن فعلت صدّقناك و أجبناك.

فأخذ صالح عليه السّلام المواثيق عليهم لئن فعلت ذلك لتؤمننّ و لتصدّقنّ؟ قالوا:

نعم. فصلّى و دعا ربّه فتمخّضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء و براء كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها إلّا اللّه، و عظماؤهم ينظرون، ثمّ نتجت ولدا مثلها في العظم.

فآمن به جندع و رهط من قومه، و منع الباقين من الإيمان ذؤاب بن عمرو، و الحباب صاحب أوثانهم، و رباب كاهنهم.

ص: 552

فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر و تشرب الماء، و كانت ترد غبّا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر، فما ترفعه حتّى تشرب كلّ ماء فيها، ثمّ تتفحّج (1) فيحتلبون ما شاؤا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون و يدّخرون.

قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستّين ذراعا. و في رواية الحسن بن محبوب: ثمانون ذراعا.

و كانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيّفت بظهر الوادي، فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه، و إذا وقع البرد تشتّت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشقّ ذلك عليهم. و زيّنت عقرها لهم امرأتان: عنيزة أمّ غنم، و صدقة بنت المختار، لمّا أضرّت به من مواشيهما، و كانتا كثيرتي المواشي.

فعنيزة دعت قدار بن سالف- و كان ولد زنا- و قالت: أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة. و كان قدار عزيزا منيعا في قومه. و دعت صدقة- و هي ذات جمال- رجلا من ثمود يقال له: مصدع بن مهرج، و جعلت له نفسها على أن يعقر الناقة.

فاستغويا غواة ثمود، فأتبعهما سبعة نفر، فعقروها، و اقتسموا لحمها و طبخوه.

فانطلق سقبها (2) حتّى رقى جبلا اسمه قارة، فرغا (3) ثلاثا. و كان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه. و انفجّت (4) الصخرة بعد رغائه فدخلها.

فقال لهم صالح: تصبحون غدا و وجوهكم مصفرّة، و بعد غد و وجوهكم محمرّة، و اليوم الثالث و وجوهكم مسودّة، ثمّ يصبحكم العذاب.

ص: 553


1- أي: تفرّج ما بين رجليها.
2- السقب: ولد الناقة ساعة يولد، و جمعه: أسقب.
3- رغا البعير: صوّت و ضجّ.
4- أي: انفتحت.

فلمّا رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه اللّه إلى أرض فلسطين. و لمّا كان اليوم الرابع و ارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر (1) و تكفّنوا بالأنطاع (2)، فأتتهم صيحة من السماء، فتقطّعت قلوبهم، فهلكوا.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ بقبر أبي رغال فقال: «أ تدرون من هذا؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، فذكر قصّة أبي رغال، و أنّه دفن هاهنا، و دفن معه غصن من ذهب.

فابتدروه و بحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن».

و روي أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، و نزل بهم العذاب يوم السبت.

و روي أنّه خرج في مائة و عشرة من المسلمين و هو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنّهم قد هلكوا، و كانوا ألفا و خمسمائة. و روي أنّه رجع بمن معه، فسكنوا ديارهم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 80 الى 84]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [80] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [81] وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [82] فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [83] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [84]

ثمّ عطف اللّه سبحانه على قصّتهم قصّة لوط، و قال: وَ لُوطاً أي: أرسلنا

ص: 554


1- الصّبر: عصارة شجر مرّ.
2- النطع: بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب.

لوطا. و هو لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم الخليل. و قيل: إنّه كان ابن خالة إبراهيم، و كانت سارة امرأة إبراهيم أخت لوط. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وقت

قوله لهم. أو و اذكر لوطا. و «إذ» بدل منه. أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ توبيخ و تقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح، و هي إتيان الرجال في أدبارهم. ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ما عملها قبلكم أحد قطّ.

و الباء للتعدية. و «من» الأولى لتأكيد النفي و الاستغراق، و الثانية للتبعيض، و الجملة استئناف مقرّر للإنكار، كأنّه وبّخهم أوّلا بإتيان الفاحشة ثمّ باختراعها، فإنّه أسوأ.

و قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بيان لقوله: «أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ». و هو أبلغ في الإنكار و التوبيخ. و قرأ نافع و حفص: إنّكم، على الإخبار المستأنف. و «شهوة» مفعول له، أي: للاشتهاء. أو مصدر موضع الحال، أي: ذوي شهوة. و في التقييد بها وصفهم بالبهيميّة الصرفة، و تنبيه على أنّ العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد و بقاء النوع، لا قضاء الوطر. و «مِنْ دُونِ النِّساءِ» في موضع الحال أيضا، أي: تاركين إتيان النساء اللاتي أباح اللّه إتيانهنّ، أي: مجامعتهنّ، من: أتى المرأة إذا غشيها.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ متجاوزون الحدّ في الفساد، حتى تجاوزتم المعتاد إلى غير المعتاد. و هذا إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم الّتي أدّت بهم إلى ارتكاب أمثالها، و هي اعتياد الإسراف في كلّ شي ء. أو عن الإنكار عليها إلى الذمّ على جميع معايبهم. أو عن محذوف، مثل: لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.

وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ يعني: ما أجابوا لوطا عمّا كلّمهم به بما يكون جوابا، و لكنّهم جاؤا بما لا يتعلّق بكلامه و نصيحته،

ص: 555

من الأمر بإخراجه و من معه من المؤمنين

من قريتهم، و الاستهزاء بهم. فقالوا استهزاء و افتخارا بما كانوا فيه من القذرات: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي: من الفواحش و الخبائث.

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ فخلّصنا لوطا و من آمن معه إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنّها كانت تسرّ الكفر موالية لأهل سدوم كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ من الّذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فيها. و التذكير لتغليب الذكور. روي أنّها التفتت فأصابها الحجر فماتت.

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي: نوعا من المطر عجيبا، و هو مبيّن بقوله:

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (1). فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ تفكّر بعين العقل كيف كان مآل أمر المقترفين للسيّئات؟ و عاقبة فعلهم من عذاب الدنيا بالاستئصال قبل عذاب الآخرة بالخلود في النار.

و تحرير قصّتهم على ما

روي عن أبي حمزة الثمالي و أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام و غيره: أنّ لوطا لمّا هاجر مع عمّه إبراهيم إلى الشام نزل بالأردن، فأرسله اللّه إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عمّا اخترعوه من الفاحشة.

فلبث في قومه ثلاثين سنة، و كان نازلا فيهم، و لم يكن منهم، يدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عن الفواحش، و يحثّهم على الطاعة، فلم يجيبوه، و لم يطيعوه.

و كانوا لا يتطهّرون من الجنابة، بخلاء أشحّاء على الطعام، فأعقبهم البخل الداء الّذي لا دواء له في فروجهم. و ذلك أنّهم كانوا على طريق السيّارة إلى الشام و مصر، و كان ينزل بهم الضيفان، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه، و إنّما فعلوا ذلك لتنكل النازلة عليهم، من غير شهوة بهم إلى ذلك.

فأوردهم البخل هذا الداء، حتى صاروا يطلبونه من الرجال، و يعطون عليه الجعل.

وكان لوط سخيّا كريما يقري الضيف إذا نزل به، فنهوه عن

ذلك و قالوا: لا

ص: 556


1- الحجر: 74.

تقرينّ ضيفا جاء ينزل بك، فإنّك إن فعلت فضحنا ضيفك. فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه.

و لمّا أراد اللّه سبحانه عذابهم بعث إليهم رسلا مبشّرين و منذرين. فلمّا عتوا عن أمره بعث اللّه إليهم جبرئيل في نفر من الملائكة، فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط.

فلمّا رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا، فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم، و أوجس منهم خيفة، قالوا: يا إبراهيم إنّا رسل ربّك، و نحن لا نأكل الطعام، إنّا أرسلنا إلى قوم لوط. و خرجوا من عند إبراهيم، فوقفوا على لوط و هو يسقي الزرع.

فقال: من أنتم؟

قالوا: نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة.

فقال لوط: إنّ أهل هذه القرية قوم سوء، ينكحون الرجال في أدبارهم، و يأخذون أموالهم.

قالوا: قد أبطأنا فأضفنا.

فجاء لوط إلى أهله و كانت كافرة، فقال: قد أتاني أضياف في هذه الليلة، فاكتمي أمرهم.

قالت: أفعل. و كانت العلامة بينها و بين قومها أنّه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخّن من فوق السطح، و إذا كان بالليل توقد النار.

فلمّا دخل جبرئيل و الملائكة معه بيت لوط و ثبت امرأته على السطح فأوقدت نارا، فأقبل القوم من كلّ ناحية يهرعون إليه، أي: يسرعون، و دار بينهم ما قصّه اللّه تعالى في مواضع من كتابه. فضرب جبرئيل بجناحه على عيونهم فطمسها، فلمّا رأوا ذلك علموا أنّه قد أتاهم العذاب.

فقال جبرئيل للوط: أخرج من بينهم أنت و أهلك إلّا امرأتك.

ص: 557

فقال: كيف أخرج و قد اجتمعوا حول داري؟

فوضع بين يديه عمودا من نور، و قال: اتّبع هذا العمود، و لا يلتفت منكم أحد.

فخرجوا من القرية. فلمّا طلع

الفجر ضرب جبرئيل عليه السّلام بجناحه في طرف القرية فقلعها من تخوم الأرضين السابعة، ثمّ رفعها في الهواء، حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم و صراخ ديوكهم، ثم قلبها عليهم. و هو قول اللّه عزّ و جلّ جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها (1). و ذلك بعد أن أمطر اللّه عليهم حجارة من سجّيل، و هلكت امرأته، بأن أرسل اللّه عليها صخرة فقتلتها، كما مرّ.

و قيل: قلبت المدينة على الحاضرين منهم، فجعل عاليها سافلها، و أمطرت الحجارة على الغائبين، فأهلكوا بها.

و قال الكلبي: أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث، لأنّ بلادهم أخصبت، فانتجعها (2) أهل البلدان، فتمثّل لهم إبليس في صورة شابّ، ثمّ دعاهم إلى دبره فنكح في دبره، ثمّ عبثوا بذلك العمل. فلمّا كثر ذلك فيهم عجّت الأرض إلى ربّها، فسمعت السماء فعجّت إلى ربّها، فسمع العرش فعجّ إلى ربّه، فأمر اللّه السماء أن تحصبهم، و أمر الأرض أن تخسف بهم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 85 الى 93]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

ص: 558


1- هود: 82.
2- انتجع القوم الكلأ: ذهبوا لطلبه في مواضعه.

مُؤْمِنِينَ [85] وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [86] وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [87] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ [88] قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [89]

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [90] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [91] الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ [92] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ [93]

ص: 559

ثمّ عطف اللّه سبحانه على ما تقدّم من القصص قصّة شعيب، فقال: وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي: و أرسلنا إليهم. و هم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السّلام، فنسبت القبيلة إليه. قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. و قال قتادة: هو شعيب بن بويب. و قال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكيل بن يشحب بن مدين.

و كان يقال له خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي:

معجزة من عند ربّكم شاهدة بصحّة نبوّتي، أوجبت عليكم الإيمان. و ليس في القرآن أنّها ما هي، كما لم تذكر أكثر معجزات الأنبياء فيه، و لكن قد وقع العلم بأنّه كانت له معجزة تشهد له و تصدّقه، و إلّا لم تصحّ دعواه. و كان متنبّئا لا نبيّا. و ما روي من أنّ معجزاته

هي محاربة عصا موسى التنّين (1) حين دفع إليه غنمه، و ولادة الغنم الّتي دفعها إليه الدرع (2) خاصّة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها، و وقوع عصا آدم على يده في المرّات السبع، متأخّر (3) عن هذه المقاولة. و يحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السّلام، أو إرهاصا (4) لنبوّته.

فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي: آلة الكيل على الإضمار، و هي المكيال. أو إطلاق الكيل على المكيال، كالعيش على المعاش، و هو ما يعاش به، لقوله وَ الْمِيزانَ كما قال في سورة هود: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ (5). أو أوفوا الكيل و وزن الميزان. و يجوز أن يكون الميزان مصدرا، كالميعاد و الميلاد.

ص: 560


1- التنّين: الحيّة العظيمة.
2- الدرع جمع الأدرع، و هو من الفرس و الشاة ما اسودّ رأسه و ابيضّ سائر جسده.
3- خبر «و ما روي ...» قبل ثلاثة أسطر.
4- الإرهاص: ما يصدر من النبيّ من خوارق العادة قبل دعوى النبوّة.
5- هود: 85.

وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ و لا تنقصوهم حقوقهم. و إنّما قال:

«أشياءهم» للتعميم، تنبيها على أنّهم كانوا يبخسون الجليل و الحقير و القليل و الكثير. و قيل: كانوا مكّاسين (1)، لا يدعون شيئا إلّا مكسوه.

وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و البخس و غيرهما بَعْدَ إِصْلاحِها بعد ما أصلح الصالحون أمرها. أو أهلها من الأنبياء و أتباعهم العاملين بالشرائع. أو أصلحوا فيها. و الإضافة إليها كالإضافة في بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ (2) أي: مكركم في الليل و النهار.

ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل و الميزان و ترك البخس و الإفساد في الأرض. أو إلى العمل بما أمرهم به و نهاهم عنه. و معنى الخيريّة

إمّا الزيادة مطلقا، أو في الإنسانيّة و حسن الأحدوثة، و ما تطلبونه من الربح، لأنّ الناس إن عرفوا منكم النصفة و الأمانة رغبوا في متاجرتكم.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدّقين لي في قولي.

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ بكلّ منهاج من مناهج الدين، مشبّهين بالشيطان في قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (3). تُوعِدُونَ تخوّفون بالقتل و الضرب و الحبس. و صراط الحقّ و إن كان واحدا، كقوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (4)، لكنّه يتشعّب إلى معارف و حدود و أحكام، فلهذا قال: بكلّ صراط. و كانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شي ء منها منعوه.

ص: 561


1- مكسه: ظلمه، و في البيع: انتقص الثمن. و المكّاس: من يأخذ المكس، أي: الدراهم التي كانت تؤخذ من بائعي السلع في الجاهليّة.
2- سبأ: 33.
3- الأعراف: 16.
4- الأنعام: 153.

و قيل: كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبا: إنّه كذّاب فلا يفتننّك عن دينك، و يوعدون لمن آمن به.

و قيل: كانوا يقطعون الطريق. و قيل: كانوا عشّارين.

و يؤيّد الأوّل قوله: وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: الّذي قعدوا عليه.

فوضع الظاهر موضع المضمر، بيانا لكلّ صراط، و دلالة على عظم ما يصدّون عنه، و تقبيحا لما كانوا عليه. أو الإيمان باللّه تعالى. و محلّ «توعدون» و «تصدّون» النصب على الحال من الضمير في «تقعدوا» أي: و لا تقعدوا موعدين و صادّين عن سبيل اللّه، و باغيها عوجا.

مَنْ آمَنَ بِهِ أي: باللّه، أو بكلّ صراط على الأوّل. و «من» مفعول «تصدّون» على إعمال الأقرب. و لو كان مفعول «توعدون» لقال: و تصدّونهم.

وَ تَبْغُونَها عِوَجاً و تطلبون لسبيل اللّه تعالى عوجا، بإلقاء الشبه، أو بوصفها للناس بأنّها معوجّة غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها و الدخول فيها.

وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم فَكَثَّرَكُمْ بالبركة في النسل. و «إذ» مفعول به غير ظرف، أي: و اذكروا على وجه الشكر وقت كونكم قليلا عددكم.

قيل: إنّ مدين بن إبراهيم الخليل عليه السّلام تزوّج بنت لوط فولدت له، فرمى اللّه في نسلها بالبركة و النماء، فكثروا. و يجوز أن يكون معناه: إذ كنتم فقراء مقلّين فجعلكم أغنياء مكثرين.

وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، و اعتبروا بهم، كقوم نوح و هود و صالح و لوط، كانوا قريبي العهد ممّا أصاب المؤتفكة.

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ و قبلوا قولي وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا لم يصدّقوني فَاصْبِرُوا فتربّصوا و انتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي:

بين الفريقين بنصر المحقّين على المبطلين. فهو وعد للمؤمنين و وعيد للكافرين،

ص: 562

كقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (1). وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقّب لحكمه، و لا حيف فيه.

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي: قال الّذين رفعوا أنفسهم فوق مقدارها مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي: ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم من بلدتنا، أو عودكم في الكفر. و شعيب لم يكن في ملّتهم قطّ، لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر لا قبل البعث و لا بعدها، لكن غلّبوا الجماعة على الواحد، فخوطب هو و قومه بخطابهم. و على التغليب أجري الجواب في قوله: قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ الواو للحال، و الهمزة للاستفهام، أي: و كيف نعود فيها في حال كوننا كارهين للدخول فيها؟

و قيل: المعنى: إنّكم

لا تقدرون على ردّنا إلى دينكم على كره منّا. فيكون على هذا «كارهين» بمعنى: مكرهين. أو يكون ذكر العود لظنّهم أنّه كان قبل ذلك على دينهم، و قد كان عليه السّلام يخفي دينه فيهم.

قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ اختلقنا عليه كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها شرط جوابه محذوف، دليله «قد افترينا». و هو بمعنى المستقبل، لأنّه لم يقع، لكنّه جعل كالواقع للمبالغة. و أدخل عليه «قد» لتقريبه من الحال، أي: قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها، حيث نزعم أنّ للّه تعالى ندّا، و أنّه قد تبيّن لنا أنّ ما كنّا عليه باطل، و ما أنتم عليه حقّ. و قيل: إنّه جواب قسم، و تقديره:

و اللّه لقد افترينا.

وَ ما يَكُونُ لَنا و ما يصحّ و ما ينبغي لنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا و منعنا الألطاف، لعلمه أنّها لا تنفع فينا، فيكون فعلها بنا عبثا، و اللّه تعالى متعال عن فعل العبث.

ص: 563


1- التوبة: 52.

و قيل: أراد به قطع طمعهم في العود بسبب التعليق على ما لا يكون، فإنّ مشيئة اللّه لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة. فهذا من قبيل قوله: وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (1). و كما قيل:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي و صار القار كاللبن الحليب

وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي: أحاط علمه بكلّ شي ء ممّا كان و ما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، و قلوبهم كيف تنقلب، و كيف تقسو بعد الرقّة، و تمرض بعد الصحّة، و ترجع إلى الكفر بعد الإيمان. أو علمه أحاط بكلّ ما هو من الحكمة، و ما هو خارج عنها.

عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أن يثبّتنا على الإيمان، و يخلّصنا من الأشرار، و يوفّقنا لازدياد الإيقان. رَبَّنَا افْتَحْ أي: احكم بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ فإنّ الفتاحة الحكومة. أو أظهر أمرنا، بأن تنزل عليهم عذابا يتبيّن معه أنّا على الحقّ و أنّهم على الباطل، و يتميّز المحقّ من المبطل، من: فتح المشكل إذا بيّنه. وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ على المعنيين.

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي: اشرافهم، للّذين دونهم يثبّطونهم عن الإيمان لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً و تركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدالكم ضلالته بهداكم. أو لفوات ما يحصل بالبخس و التطفيف، لأنّه ينهاكم عنهما، و يحملكم على الإيفاء و التسوية. و هو سادّ مسدّ جواب الشرط و القسم الموطّأ باللام.

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة. و في سورة الحجر: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ (2).

و لعلّها كانت من مباديها. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي: في مدينتهم جاثِمِينَ ميّتين لا حراك لهم.

ص: 564


1- الأعراف: 40.
2- الحجر: 73.

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي: استؤصلوا، كأن لم يقيموا بها. و المغنى: المنزل.

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ أي: هم المخصوصون بالخسران العظيم دينا و دنيا، لا الّذين صدّقوه و اتّبعوه كما زعموا: فإنّهم الرابحون في الدارين.

و للتنبيه على هذا و المبالغة فيه كرّر الموصول، و استأنف بالجملتين، و أتى بهما اسميّتين. ففي هذا الاستئناف و التكرار تسفيه لرأي الملأ، و ردّ لمقالتهم.

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ لمّا رأى إقبال العذاب عليهم وَ قالَ تاسّفا بهم، لشدّة حزنه عليهم: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ لقد أعذرت إليكم في النصيحة، و إبلاغ الرسالة، و التحذير ممّا حلّ بكم، فلم تصدّقوني.

ثم أنكر على نفسه فقال:

فَكَيْفَ آسى أحزن جدّا، فإنّ الأسى شدّة الحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ الّذين ليسوا أهل حزن، لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم. أو قال هذا اعتذارا عن عدم شدّة حزنه عليهم. و المعنى: لقد بالغت في الإبلاغ و الإنذار، و بذلت و سعي في النصح و الإشفاق، فلم تصدّقوا قولي، فكيف أحزن عليكم و أنتم لستم أحقّاء بالأسى؟!

[سورة الأعراف [7]: الآيات 94 الى 95]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [94] ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [95]

ثمّ ذكر سبحانه بعد ما اقتصّ من قصص الأنبياء، و تكذيب أممهم إيّاهم، و ما نزل بهم من العذاب، سنّته في أمثالهم، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ بالبؤس، و هو الفقر وَ الضَّرَّاءِ و هو

ص: 565

المرض لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ كي يتضرّعوا و يتذلّلوا و يتوبوا.

ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ رفعنا ما كانوا فيه من البلاء و الشدّة، و أعطيناهم بدله السعة و السلامة، ابتلاء لهم بهذين الأمرين، كقوله: وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ (1). حَتَّى عَفَوْا كثروا عددا و عددا. يقال: عفا النبات و الشحم و الوبر، إذا كثر. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و اعفوا اللحى».

فأبطرتهم النعمة و الصحّة و أشروا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ كفرانا لنعمة اللّه، و نسيانا لذكره، و اعتقادا بأنّ هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضّرّاء و السّرّاء، و قد مسّ آباءنا نحو ذلك، فلم ينتقلوا عمّا كانوا

عليه.

فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة عبرة لمن بعدهم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب إلّا بعد حلوله، و هو أشدّ الأخذ و أفظعه.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 96 الى 99]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [96] أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ [97] أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ [98] أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [99]

ثمّ بيّن سبحانه أنّ كلّ من أهلكه من الأمم المتقدّم ذكرهم إنّما أتوا في ذلك

ص: 566


1- الأعراف: 168.

من قبل نفوسهم، فقال: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى يعني: القرى المدلول عليها بقوله:

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ (1). فكأنّه قال: و لو أنّ أهل تلك القرى الّذين كذّبوا.

و قيل: مكّة و ما حولها. و قيل: اللام للجنس. آمَنُوا بدل أن كفروا وَ اتَّقَوْا مكان أن أشركوا و عصوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ خيرات نامية مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي: لوسّعنا عليهم الخير، و يسّرناه لهم من كلّ جانب. و منه قولهم:

فتحت على القارئ، إذا تعذّرت عليه القراءة فيسّرتها عليه بالتلقين. و قيل: المراد المطر و النبات. و قرأ ابن عامر: لفتّحنا بالتشديد.

وَ لكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسوء كسبهم، من الكفر و المعاصي.

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عطف على قوله: «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ».

و ما بينهما اعتراض، و الهمزة للإنكار. و المعنى: أبعد ذلك أمن أهل القرى الّذين يكذّبون نبيّنا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً؟ أي: وقت بيات، أو مبيّتا، أو مبيّنين، أو بمعنى: تبييتا، كالسلام بمعنى التسليم، فكأنّه قيل:

أن يبيّتهم بأسنا تبييتا. و هو في الأصل مصدر بمعنى: البيتوتة. وَ هُمْ نائِمُونَ حال من ضمير «هم» البارز، أو المستتر في «بياتا».

أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر: أو بالسكون، على الترديد. أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى ضحوة النهار. و هو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت. و نصبه على الظرف. وَ هُمْ يَلْعَبُونَ يلهون من فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم، فكأنّهم يلعبون. و تخصيص هذين الوقتين لغفلتهم فيهما غالبا.

أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لقوله: «أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى . و مكر اللّه تعالى استعارة لاستدراج العبد، و أخذه من حيث لا يحتسب. فعلى العاقل أن يكون خائفا

ص: 567


1- الأعراف: 94.

من مكر اللّه، كالمحارب الّذي يخاف من عدوّه الكمين و البيات و الغيلة.

و عن ربيع بن خثيم أنّ ابنته قالت له: مالي أري الناس ينامون، و لا أراك تنام؟ قال: يا بنتاه إنّ أباك يخاف البيات. أراد قوله: «أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً».

فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الّذين خسروا بالكفر و ترك النظر و الاعتبار.

قيل: إنّ الأنبياء و سائر المعصومين أمنوا مكر اللّه، و ليسوا بخاسرين.

و أجيب أنّ تقدير الآية: لا يأمن مكر اللّه من المذنبين إلّا القوم الخاسرون، بدلالة قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (1). أو لا يؤمّن عذاب اللّه للعصاة إلّا الخاسرون، و المعصومون لا يؤمّنون عذاب اللّه للعصاة. أو لا يأمن عقاب اللّه جهلا بحكمته إلّا الخاسرون.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 100 الى 102]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [100] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ

جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ [101] وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ [102]

ثمّ أنكر سبحانه عليهم تركهم الاعتبار بمن تقدّمهم من الأمم، فقال: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي: يخلفون من خلا قبلهم، و يرثون

ص: 568


1- الدخان: 51.

أرضهم. و إنّما عدّي باللام لأنّه بمعنى: يبيّن. أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أنّ الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، و أهلكناهم كما أهلكنا أولئك وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ معطوف على ما دلّ عليه «أَ وَ لَمْ يَهْدِ»، فكأنّه قيل:

يغفلون عن الهداية و نطبع على قلوبهم. أو على «يَرِثُونَ الْأَرْضَ». أو منقطع عنه، بمعنى: و نحن نطبع. و لا يجوز عطفه على «أصبناهم» على أنّه بمعنى: و طبعنا، لأنّه في سياقة جواب «لو»، و هو يدلّ على نفي الطبع عنهم، و هذا باطل، لأنّ القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم من فرط الكفر و اقتراف الذنب، و الرسوخ عليه عنادا و لجاجا، مع ظهور الحقّ عليهم. و قد ذكرنا معنى الطبع (1) غير مرّة. فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تفهّم و اعتبار.

تِلْكَ الْقُرى يعني: قرى الأمم المارّ ذكرهم نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها لتخبر قومك بها، فيعتبروا و يحذروا عن الإصرار على مثل حالهم. و الجملة الفعليّة حاليّة إن جعل القرى خبرا ل «تلك»، فيكون كلاما مفيدا بالتقييد بالقرى، كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم. و خبر إن جعلت صفة ل «تلك».

و يجوز أن يكونا خبرين، و «من» للتبعيض، أي: نقصّ بعض أنبائها، و لها أنباء غيرها لا

نقصّها.

وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ و من قبل مجي ء الرسل، بل كانوا مستمرّين على التكذيب. أو فما كانوا ليؤمنوا مدّة عمرهم بما كذّبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل، و لم تؤثّر فيهم قطّ دعوتهم المتطاولة و الآيات المتتابعة. و اللام لتأكيد النفي، و الدلالة على أنّ الإيمان كان منافيا لحالهم، لفرط عنادهم و لجاجهم، و تصميمهم على الكفر، و انهماكهم في المعصية، مع تكرار المواعظ عليهم و تتابع الآيات.

ص: 569


1- راجع ص 187 ذيل الآية 155 من سورة النساء.

كَذلِكَ أي: مثل ذلك الطبع الشديد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فلا تلين شكيمتهم (1) بالآيات و النذر.

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ لأكثر الناس، و الآية اعتراض. أو لأكثر الأمم المذكورين مِنْ عَهْدٍ من وفاء عهد، فإنّ أكثرهم نقضوا ما عهد اللّه إليهم في الإيمان و التقوى، بإنزال الآيات و نصب الحجج. أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضرّ و مخافة، مثل: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (2).

وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي: و إن الشأن علمناهم لَفاسِقِينَ خارجين عن الطاعة، من: وجدت زيدا ذا الحفاظ، لدخول «إن» المخفّفة و اللام الفارقة، و ذلك لا يجوز إلّا في المبتدأ و الخبر، و الأفعال الداخلة عليهما. و عند الكوفيّين «إن» للنفي، و اللام بمعنى «إلّا». و ذكر الأكثر مع أنّ كلّهم كافرون، لأنّ أكثرهم مع كفرهم فاسق في دينه، غير لازم لمذهبه، ناقض للعهد، قليل الوفاء به.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 103 الى 126]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [103] وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ

رَبِّ الْعالَمِينَ [104] حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ [105] قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [106] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [107]

وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [108] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ

ص: 570


1- الشكيمة: الأنفة و الإباء و عدم الانقياد.
2- يونس: 22.

فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [109] يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ [110] قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [111] يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ [112] وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [113] قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [114] قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [115] قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [116] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [117] فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [118] فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ [119] وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [120] قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ [121] رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ [122] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [123] لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [124] قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [125] وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [126]

ص: 571

ثمّ عطف سبحانه قصّة موسى عليه السّلام على ما تقدّم من قصص الأنبياء عليهم السّلام، فقال: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى الضمير للرسل في قوله: «وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ». أو للأمم. بِآياتِنا يعني: المعجزات إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها بأن كفروا بها مكان الإيمان الّذي هو من حقّها، لوضوحها. و لهذا المعنى وضع «ظلموا» موضع: كفروا. و فرعون لقب لمن ملك مصر، ككسرى لمن ملك فارس.

و كان اسمه قابوس. و قيل: الوليد بن مصعب بن الريّان. فَانْظُرْ نظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الإغراق.

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك و إلى قومك.

و قوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ يجوز أن يكون هذا جوابا لتكذيبه إيّاه في دعوى الرسالة. و إنّما لم يذكره لدلالة قوله: «فظلموا بها» عليه.

و كأنّ أصله: حقيق عليّ أن لا أقول، كما قرأ نافع، أي: واجب عليّ، فقلب لأمن الالتباس. أو لأنّ ما لزمك فقد لزمته، فلمّا كان قول الحقّ حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحقّ، أي: لازما له. أو لأنّ حقيقا يتضمّن معنى: حريص.

و التوجيه الرابع- و هو الأوجه الأدخل في نكت القرآن-: أن يغرق موسى عليه السّلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام، لا سيّما و قد روي أنّ عدوّ اللّه فرعون قال له- لمّا قال: «رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ»-: كذبت. فيقول: أنا حقيق عليّ قول الحقّ،أي: واجب عليّ قول الحقّ أن أكون أنا قائله و القائم به، و لا يرضى إلّا بمثلي ناطقا به. و يحتمل أن يكون «على» بمعنى الباء، لإفادة التمكّن، كقولهم: رميت السهم على القوس، و جئت على حال حسنة.

قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ بمعجزة ظاهرة الدلالة على صدقي مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فخلّهم من عقال التسخير حتّى يرجعوا معي إلى الأرض المقدّسة الّتي هي وطن آبائهم. و كان قد استعبد فرعون و القبط بني إسرائيل، و استخدموهم في الأعمال الشاقّة، فأنقذهم اللّه بموسى. و كان بين اليوم الّذي دخل

ص: 572

يوسف مصر و اليوم الّذي دخله موسى أربعمائة عام.

قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ بحجّة من عند من أرسلك فَأْتِ بِها فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك، و يصحّ بها دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى.

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره، لا يشكّ في أنّه ثعبان، و هو الحيّة العظيمة.

و روي أنّه لمّا ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا (1) فاه، بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض، و لحيه الأعلى على سور القصر. ثمّ توجّه نحو فرعون، فوثب فرعون من سريره و هرب و أحدث، و صاح: يا موسى أنشدك بالّذي أرسلك أن تأخذه و أنا أومن بك، و أرسل معك بني إسرائيل. و انهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة و عشرون ألفا، و يصيح فرعون: خذه يا موسى.

فأخذه موسى، فعاد عصا.

و اعلم أنّ عصا موسى كانت بصفة الجانّ في ابتداء النبوّة، كما حكاه اللّه تعالى في قوله: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ (2). أمّا عند فرعون فصارت بصفة الثعبان. و قيل: إنّه سبحانه شبّهها بالجانّ لسرعة حركتها و نشاطها و خفّتها، مع أنّها في جسم الثعبان، فلا منافاة.

و روي أنّ هذه العصا كانت لآدم عليه السّلام من آس الجنّة حين أهبط، و كانت تدور بين أولاده، حتّى انتهت النوبة إلى شعيب، فكانت ميراثا له مع أربعين عصا كانت لآبائه. فلمّا استأجر شعيب موسى أمره بدخول بيت فيه العصيّ، و قال له: خذ عصا من تلك العصيّ. فوقعت تلك العصا بيد موسى، فاستردّها

شعيب، و قال: خذ غيرها، حتّى فعل ذلك سبع مرّات، و قيل: ثلاث مرّات، في كلّ مرّة تقع يده عليها دون غيرها، فتركها في يده في المرّة الأخيرة.

ص: 573


1- أي: فاتحا.
2- النمل: 10، القصص: 31.

فلمّا خرج من عنده متوجّها إلى مصر و رأى نارا و أتى الشجرة، فناداه اللّه تعالى: أن يا موسى إنّي أنا اللّه، و أمره بإلقائها، فألقاها فصارت حيّة، فولّى هاربا.

فناداه اللّه: خذها و لا تخف. فأدخل يده بين لحييها فعادت عصا. فلمّا أتى فرعون ألقاها بين يديه، على ما تقدّم بيانه.

و قيل: كان الأنبياء عليهم السّلام يأخذون العصا تجنّبا من الخيلاء. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من خرج في سفر و معه عصا لوز مرّ، و تلا هذه الآية: وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إلى قوله: وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (1) آمنه اللّه من كلّ سبع ضارّ، و من كلّ لصّ، و من كلّ ذات حمة (2)، حتى رجع إلى أهله و منزله، و كان معه سبعة و سبعون من المعقّبات، يستغفرون له حتّى يرجع و يضعها».

و قيل: أوّل من أخذ من أخذ العصا عند الخطبة في العرب قسّ بن ساعدة.

رويّ أنّ فرعون قال له: هل معك آية اخرى؟ قال: نعم. فأدخل يده في جيبه ثمّ أخرجها، كما قال عزّ و جلّ: وَ نَزَعَ يَدَهُ أي: أخرجها من جيبه، أو من تحت إبطه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي: بيضاء بياضا خارجا عن العادة، بحيث تجتمع عليها النظّارة. و قيل: بيضاء للنظّار، لا أنّها كانت بيضاء في جبلّتها.

و روي أنّه عليه السّلام كان آدم شديد الأدمة، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثمّ نزعها

فإذا هي بيضاء نورانيّة، غلب شعاعها شعاع الشمس.

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسحر، ماهر فيه.

و اعلم أنّه تعالى قال في سورة الشعراء: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ (3). و قال هاهنا:

«قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ». و يمكن أن يكون قاله هو و قالوه أيضا، فحكى قوله هناك و قولهم هنا. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعله الملوك، يبلّغ

ص: 574


1- القصص: 22- 28.
2- الحمة: السمّ.
3- الشعراء: 34.

خواصّهم ما يرونه من الرأي إلى العامّة. و المعنى: قال الأشراف من قومه لمن دونهم في الرتبة، أصالة أو نيابة: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ».

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بسحره فَما ذا تَأْمُرُونَ تشيرون في أن نفعل، من: أمرته فأمرني بكذا، إذا شاورته فأشار عليك برأي. و قيل: هذا قول الأشراف بعضهم لبعض على سبيل المشورة. و يحتمل أن يكون خطابهم إلى فرعون، و إنّما قالوا: «تأمرون» بلفظ الجمع على خطاب الملوك.

قالُوا لفرعون أَرْجِهْ وَ أَخاهُ أي: أخّر أمرهما حتّى ترى رأيك فيهما و تدبير أمرهما.

و أصله: أرجئه، كما قرأ أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب، من: أرجأت. و كذلك:

أرجئهو، على قراءة ابن كثير و هشام عن ابن عامر على الأصل في الضمير. أو:

أرجهي، من: أرجيت، كما قرأ نافع في رواية ورش و إسماعيل و الكسائي. و أمّا قراءة نافع في رواية قالون: أرجه بحذف الياء، فللاكتفاء بالكسرة عنها. و أمّا قراءة عاصم و حمزة: أرجه بسكون الهاء، فلتشبيه المنفصل بالمتّصل، و جعل «جه» ك «إبل» في إسكان وسطه. و أمّا قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أرجئه بالهمزة و كسر الهاء، فلا يرتضيه النحاة، فإنّ الهاء لا تكسر إلّا إذا

كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة.

و وجهه أنّ الهمزة لمّا كانت تقلب ياء أجريت مجراها.

وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ التي حولك حاشِرِينَ جامعين للسحرة، يحشرون من يعلمونه منهم. و عن ابن عبّاس: هم أصحاب الشرط، أرسلهم في حشر السحرة، و كانوا اثنين و سبعين رجلا.

يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ليجتمعوا و يعارضوا موسى فيغلبوه. و قرأ حمزة و الكسائي: بكلّ سحّار، فيه و في يونس (1). و يؤيّده اتّفاقهم عليه في الشعراء (2).

ص: 575


1- يونس: 79.
2- الشعراء: 37.

وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرط في طلبهم قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ كلام مستأنف، كأنّه جواب سائل قال ما قالوا إذ جاؤا.

و قرأ ابن كثير و نافع و حفص عن عاصم: إن لنا، على الإخبار و إيجاب الأجر، كأنّهم قالوا: لا بدّ لنا من أجر. و التنكير للتعظيم.

قالَ نَعَمْ أي: إنّ لكم لأجرا وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على ما سدّ مسدّه «نعم»، أي: إنّ لكم لأجرا و إنّكم لمن المقرّبين، زيادة على الجواب، أي: لا أقتصر على الأجر وحده، بل لكم مع الأجر ما يقلّ عنده الأجر، و هو التبجيل و التقريب. و قيل: إنّه قال لهم: تكونون أوّل من يدخل بي و آخر من يخرج.

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ تخيير السحرة موسى مراعاة منهم لأدب حسن معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، أو إظهارا للجلادة، و لكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله، فنبّهوا عليها بتغيير النظم، إذ مقتضى النظم: إمّا أن نلقي و إمّا أن تلقي، فيغيّروه إلى ما هو أبلغ، و هو إتيانهم بالجملة الاسميّة، و تعريف الخبر، و توسيط الفصل، و تأكيد ضميرهم المتّصل بالمنفصل، فلذلك قالَ بل أَلْقُوا كرما و تسامحا، أو تحقيرا بهم، و قلّة مبالاة بهم، و وثوقا على شأنه، و ثقة بما كان بصدده من المعجز الإلهي و التأييد السماوي.

فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بما أروهم ممّا لا حقيقة له في الخارج من الحيل و الشعبذة، كقوله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (1)، بخلاف موسى وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ و أرهبوهم إرهابا شديدا، كأنّهم طلبوا رهبتهم وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في فنّه.

روي أنّهم ألقوا حبالا غلاظا و خشبا طوالا، بعد أن لوّنوها بلون الحيّات، و جعلوا فيها الزئبق، فإذا هي أمثال الحيّات قد ملأت الأرض، و ركب بعضها بعضا.

ص: 576


1- طه: 66.

و روي أنّ فرعون قبل صدور السحر من السحرة دعا رؤساءهم و معلّميهم فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا: قد عملنا سحرا عظيما لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلّا أن يكون أمرا من السماء، فإنّه لا طاقة لنا به. و هم كانوا ثمانين ألفا.

و قيل: سبعين ألفا. و قيل: بضعة و ثلاثين ألفا. و قيل: كان يعلّمهم مجوسيّان من أهل نينوى. و قال فرعون: لا يغالب موسى إلّا بما هو منه، يعني: السحر.

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت حيّة عظيمة فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي: ما يزوّرونه و يقلبونه عن الحقّ إلى الباطل، من:

الإفك، و هو الصرف و قلب الشي ء عن وجهه. و يجوز أن تكون «ما» مصدريّة، و هي مع الفعل بمعنى المفعول، أي: تلقف مأفوكهم. و قرأ حفص عن عاصم: تلقف بالتخفيف حيث كان.

و قيل: إنّها لمّا تلقّفت حبالهم و عصيّهم بأسرها أقبلت على الحاضرين، فهربوا و ازدحموا حتّى هلك جمع

عظيم، ثمّ أخذها موسى فصارت عصا كما كانت، و أعدم اللّه بقدرته تلك الأجرام العظيمة، إذ فرّقها أجزاء لطيفة. فقالت السحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا و عصيّنا.

فَوَقَعَ الْحَقُ فثبت، لظهور أمر موسى بهذه المعجزة البيّنة وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر و المعارضة.

فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي: صاروا أذلّاء منهزمين. أو رجعوا إلى المدينة أذلّاء مقهورين. و الضمير لفرعون و قومه.

وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي: جعلهم اللّه ملقين على وجوههم، تنبيها على أنّ الحقّ بهرهم (1) و اضطرّهم إلى السجود، بحيث لم يبق لهم تمالك. أو أنّ اللّه تعالى ألهمهم ذلك حتّى ينكسر فرعون بالّذين أراد بهم كسر موسى، و ينقلب الأمر

ص: 577


1- بهره، أي: غلبه وفاق عليه.

عليه. أو مبالغة في سرعة خرورهم و شدّته، كأنّما ألقاهم ملق. أو أنّهم لم يتمالكوا ممّا رأوا، فكأنّهم ألقوا.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ أبدلوا الثاني من الأوّل، لئلّا يتوهّم أنّهم أرادوا به فرعون.

و عن قتادة: كانت السحرة أوّل النهار كفّارا سحرة، و في آخره شهداء بررة.

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ باللّه، أو بموسى. و الاستفهام فيه للإنكار. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر عن عاصم، و روح عن يعقوب، بتحقيق الهمزتين على الأصل. و قرأ حفص: آمنتم به على الإخبار. و قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: ءامنتم، بهمزة و مدّة طويلة في تقدير ألفين. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قبل أن أرخّص لكم بالإيمان.

إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أي: إنّ هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم و موسى فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعني:

القبط، و تخلص لكم و لبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم.

و هو تهديد مجمل، تفصيله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي: من كلّ شقّ طرفا. و عن الحسن: هو أن تقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى. ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم، و تنكيلا لأمثالكم.

قيل: إنّه أوّل من سنّ ذلك، فشرعه اللّه تعالى للقطّاع، تعظيما لجرمهم.

قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة، فلا نبالي بوعيدك. أو إنّا لمنقلبون إلى ربّنا و ثوابه إن فعلت بنا ذلك، كأنّهم استطابوه شغفا على لقاء اللّه تعالى. أو مصيرنا و مصيرك إلى ربّنا، فيحكم بيننا.

وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا و ما تعيب و تنكر منّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا أي: إلّا الايمان بآيات اللّه، و هو خير الأعمال، و أصل كلّ منفعة و خير. و مثله قول الشاعر:

ص: 578

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ فزعوا إلى اللّه فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي: أفض علينا صبرا كثيرا حتّى يغمرنا، كما يفرغ الماء. أو صبّ علينا ما يطهّرنا من الآثام، و هو الصبر على وعيد فرعون. وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.

قيل: إنّه فعل بهم ما أوعدهم به. و قيل: إنه لم يقدر عليهم، لقوله: أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (1).

روي عن ابن عبّاس: أنّه لمّا آمن السحرة أسلم من بني إسرائيل ستّمائة ألف نفس، فأرادوا الفساد في الأرض، فخاف القبط منهم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 127 الى 129]

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [127] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [128] قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [129]

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ تحريضا له على قتل موسى بعد أن أسلم السحرة و غيرهم أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغيير الناس عليك،

ص: 579


1- القصص: 35.

و دعوتهم إلى مخالفتك وَ يَذَرَكَ عطف على «يفسدوا»، لأنّه إذا تركهم و لم يمنعهم فكان ذلك مؤدّيا إلى ترك آلهته. أو جواب الاستفهام بالواو، كقول الحطيئة:

ألم أك جاركم و يكون بيني و بينكم المودّة و الإخاء

على معنى: أ يكون منك ترك موسى، و يكون منه تركه إيّاك؟

وَ آلِهَتَكَ معبوداتك. قيل: كان يعبد الكواكب. و قيل: صنع لقومه أصناما، و أمرهم أن يعبدوها تقرّبا إليه، و لذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (1).

قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي: سنعيد عليهم كما كنّا نفعل من قتل الأبناء و استعباد النساء، ليعلم موسى أنّا على ما كنّا عليه من القهر و الغلبة، و لا يتوهّم أنّه المولود الّذي حكم المنجّمون و الكهنة بذهاب ملكنا على يده، و يعلم أنّ غلبته لا أثر لها في ملكنا. وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون، و هم مقهورون تحت أيدينا.

و لمّا سمع بنو إسرائيل قول فرعون و تضجّروا منه قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسكينا لهم و تسلية لقلوبهم: اسْتَعِينُوا في دفع الأعادي عنكم بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا على أذيّتهم.

ثم قال تقريرا للأمر بالاستعانة باللّه، و التثبّت بالأمر بالصبر: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي: ينقلها إلى من يشاء نقل المواريث، فيورّثكم بعد هلاك فرعون

كما أورثها فرعون وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فهذا وعد لهم بالنصرة، و تذكير لما وعدهم من إهلاك القبط و توريثهم ديارهم، و تحقيق له، و بشارة بأنّ الخاتمة المحمودة للمتمسّكين بالتقوى، و أنّ المشيئة متناولة لهم. و اللام في الأرض تحتمل العهد، و هو أرض مصر، أو للجنس.

قالُوا أي: بنو إسرائيل أُوذِينا بقتل الأبناء و استعباد النساء مِنْ قَبْلِ

ص: 580


1- النازعات: 24.

أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أيضا، فإنّ فرعون يتوعّدنا، و يأخذ أموالنا، و يكلّفنا الأعمال الشاقّة، فلم ينفعنا مجيئك إيّانا.

قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ أي: يملّككم ما كانوا يملكونه فِي الْأَرْضِ في أرض مصر. و هذا تصريح بما كنّى عنه أوّلا، لمّا رأى أنّهم لم يتسلّوا بذلك. و لعلّه أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنّهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. و قد روي أنّ مصر إنّما فتح لهم في زمن داود.

و قال الزجّاج: «عسى» طمع و إشفاق، إلّا أنّ ما يطمع اللّه فيه فهو واجب.

و هو معنى قول أكثر المفسّرين: «عسى» من اللّه واجب. فالمعنى: أوجب ربّكم على نفسه أن يهلك عدوّكم فرعون و قومه.

فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيرى الكائن ممّا تعملون، من شكر و كفران و طاعة و عصيان، فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم. و حقيقة معناه أن يظهر معلومه، أي: يبتليكم بالنعمة ليظهر شكركم، كما ابتلاكم بالمحنة ليظهر صبركم. و مثله:

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ (1).

[سورة الأعراف [7]: الآيات 130 الى 132]

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [130] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ

لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [131] وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [132]

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بآل فرعون، و أقسم عليه تأكيدا له، فقال:وَ لَقَدْ

ص: 581


1- محمد: 31.

أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ آل الرجل: خاصّته الّذين يؤول أمره إليهم، و أمرهم إليه.

و معناه: عاقبنا قوم فرعون بِالسِّنِينَ بسنيّ القحط، أي: بالجدوب و القحوط، لقلّة الأمطار و المياه. و السنة من الأسماء الغالبة، كالدابّة و النجم، غلبت على عام القحط، لكثرة ما يذكر عنه و يؤرّخ به، ثمّ اشتقّ منها فقيل: أسنت القوم، إذا قحطوا.

وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة الآفات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكي يتنبّهوا على أنّ ذلك بشؤم كفرهم و معاصيهم فيتّعظوا، أو ترقّ قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى اللّه تعالى، و يرغبوا فيما عنده.

و عن ابن عبّاس: أنّ السنين كانت لباديتهم و أهل مواشيهم، و أما نقص الثمرات فكان في أمصارهم.

و عن كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلّا تمرة.

قيل: عاش فرعون أربعمائة سنة، و لم ير مكروها في ثلاثمائة و عشرين سنة، و لو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمّى لما ادّعى الربوبيّة.

فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب و السعة قالُوا لَنا هذِهِ لأجلنا، مختصّة بنا، و نحن مستحقّوها. و اللام مثلها في قولك: الجلّ للفرس.

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من جدب و بلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ يتشاءموا بهم، و يقولوا هذا بشئومهم: و لو لا مكانهم لما أصابتنا، كما قال الكفّار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذه من عندك. و هذا إغراق في وصفهم بالغباوة و القساوة، فإنّ الشدائد- مع أنّها ترقّق القلوب و تذلّل

الطبائع، سيّما بعد مشاهدة الآيات- لم تؤثّر فيهم، بل زادوا عندها عتوّا و انهماكا في الغيّ.

و إنّما عرّف الحسنة و ذكرها مع أداة التحقيق- و هي كلمة «إذا»- لكثرة وقوعها، و تعلّق الإرادة بإحداثها بالذات. و نكّر السيّئة و أتى بها مع حرف الشكّ، لندورها، و عدم القصد لها إلّا بالتبع.

ص: 582

أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: سبب خيرهم و شرّهم عند اللّه، و هو حكمه و مشيئته، و اللّه هو الّذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة و السيّئة، كقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (1). أو سبب شؤمهم عند اللّه، و هو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنّها الّتي ساقت إليهم ما يسوءهم. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ما يصيبهم من اللّه، أو من شؤم أعمالهم.

وَ قالُوا مَهْما أصلها «ما» الشرطيّة، ضمّت إليها «ما» المزيدة، ثمّ قلبت ألفها هاء، استثقالا لتكرير المتجانسين. و قيل: مركّبة من «مه» الّذي يصوّت به الكافّ و «ما» للجزاء، كأنّه قيل: كفّ ما تأتنا به. و محلّها الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسّره قوله: تَأْتِنا بِهِ أي: أيّما شي ء تحضرنا تأتنا به.

مِنْ آيَةٍ بيان ل «مهما». و إنّما سمّوها آية على زعم موسى، لانتفاء اعتقادهم بها، و لذلك قالوا: لِتَسْحَرَنا بِها أعيننا و تشبّه علينا. و الضمير في «به» و «بها» باعتبار اللفظ و المعنى، فإنّه في معنى الآية. و المعنى: أنّهم قالوا لموسى: أيّ شي ء تأتنا به من الآيات لتسحرنا بالتموّه علينا بها. فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين. أرادوا أنّهم مصرّون على تكذيبهم إيّاه و إن أتى بجميع الآيات.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 133 الى 137]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا

قَوْماً مُجْرِمِينَ [133] وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ [134] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ

ص: 583


1- النساء: 78.

هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [135] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ [136] وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ [137] ثمّ زاد اللّه سبحانه في الآيات تأكيدا لأمر موسى عليه السّلام، فقال: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ما طاف بهم و غشي أماكنهم و حروثهم، من مطر أو سيل.

قيل: إنّه أرسل عليهم الماء ثمانية أيّام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته. و دخل الماء بيوتهم حتّى قاموا و بلغ إلى تراقيهم، و من جلس غرق. و كانت بيوت موسى و سائر بني إسرائيل منضمّة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، و ركد على أراضيهم، فمنعهم من الحرث و التصرّف فيها، و دام ذلك عليهم أسبوعا. فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنّا و نحن نؤمن بك، فدعا فكشف الكلأ و الزرع ما لم يعهد مثله، و لم يؤمنوا. و قيل: المراد بالطوفان الطاعون.

وَ الْجَرادَ أي: أرسل عليهم الجراد بعد الطوفان، فأكلت عامّة زروعهم و ثمارهم، ثمّ أكلت كلّ شي ء حتّى الأبواب و سقوف البيوت و الثياب، و لم يدخل بيوت بني إسرائيل. ففزعوا إلى موسى ثانيا، فدعا و خرج إلى الصحراء و أشار بعصاه نحو المشرق و المغرب، فرجعت

إلى النواحي الّتي جاءت منها، فلم يؤمنوا.

ص: 584

وَ الْقُمَّلَ و أرسل عليهم القمّل بعد ارتفاع عذاب الجراد. قيل: هي كبار القردان (1). و قيل: أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. و قيل: البراغيث. و كان يقع في أطعمتهم، و يدخل بين أثوابهم و جلودهم فيمصّها، ففزعوا إليه فرفع عنهم. فقالوا:

قد تحقّقنا الآن أنّك ساحر.

وَ الضَّفادِعَ أي: ثمّ أرسلناها عليهم بحيث لا يكشف ثوب و طعام إلّا وجدت فيه. و كانت تمتلئ منها مضاجعهم، و تثب إلى قدورهم و هي تغلي، و أفواههم عند التكلّم. فضجّوا و فزعوا إلى موسى، و قالوا: ارحمنا هذه المرّة و لا نعودنّ. فدعا فكشف عنهم، و لم يؤمنوا.

وَ الدَّمَ أي: بعد رفع عذاب الضفادع عنهم أرسلنا عليهم الدم، فصارت مياههم دما، و إذا شربه الاسرائيلي كان ماء. و كان القبطي يقول للاسرائيلي: خذ الماء في فيك و صبّه في فيّ، فكان إذا صبّه في فم القبطي تحوّل دما. و عطش فرعون حتّى أشرف على الهلاك، فكان يمصّ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماءها الطيّب الحلو ملحا أجاجا. و قيل: المراد منه الرعاف.

آياتٍ نصب على الحال مُفَصَّلاتٍ مبيّنات ظاهرات، لا تشكل على عاقل أنّها آيات اللّه تعالى و نقمته عليهم. أو مفصّلات لامتحان أحوالهم أ يوفون بما وعدوا من أنفسهم أم ينكثون؟ إلزاما للحجّة عليهم، إذ كان بين كلّ آيتين منها شهر، و كان امتداد كلّ واحدة أسبوعا. و قيل: إنّ موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل.

فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مصرّين على الكفر و المعاصي.

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني: العذاب المفصّل، أو الطاعون الّذي أرسله اللّه عليهم

بعد ذلك قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ

ص: 585


1- القرد و القراد، و جمعه قردان: دويبّة تتعلّق بالبعير و نحوه، و هي كالقمّل للإنسان.

«ما» مصدريّة، أي: بعهده عندك، و هو النبوّة. أو موصولة، أي: بالّذي عهدك، أو بالّذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك.

و هي صلة ل «ادع». أو حال من الضمير فيه، بمعنى: ادع اللّه متوسّلا إليه بما عهد عندك. أو متعلّق بمحذوف دلّ عليه التماسهم، مثل: أسعفنا إلى ما نطلب منك بحقّ ما عهد عندك. أو قسم مجاب بقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ لنصدّقنّ بنبوّتك. وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أقسمنا بعهد اللّه عندك لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمننّ.

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ إلى حدّ من الزمان هُمْ بالِغُوهُ لا محالة، فيعذّبون أو يهلكون. و هو وقت الغرق، أو الموت. و قيل: إلى أجل عيّنوه لإيمانهم. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب «لمّا» أي: فلمّا كشفنا عنهم فاجئوا النكث و بادروه من غير توقّف و تأمّل فيه.

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ أي: البحر الّذي لا يدرك قعره. و قيل: هو لجّة البحر و معظم مائه. و اشتقاقه من التيمّم، لأنّ المستنفعين به يقصدونه. بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات و عدم فكرهم فيها، حتّى صاروا غافلين عن نزول العذاب بهم. و قيل: الضمير للنقمة الّتي دلّ عليها قوله: «فانتقمنا».

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد و ذبح الأبناء من مستضعفيهم مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا يعني: أرض الشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة و العمالقة، و تمكّنوا في نواحيها الشرقيّة و الغربيّة كيف شاءوا الَّتِي بارَكْنا فِيها بأنواع الخصب و السعة، من الزروع و الثمار و العيون و الأنهار.

وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: مضت، من قولك: تمّ عليّ الأمر، إذا مضى و استمرّ. و الحسنى تأنيث الأحسن، صفة للكلمة. و المعنى:

و مضت عليهم و اتّصلت بالإنجاز عدته إيّاهم بالنصرة و التمكين. و هو قوله: وَ نُرِيدُ

ص: 586

أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إلى قوله: ما كانُوا يَحْذَرُونَ (1). بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم على الشدائد.

وَ دَمَّرْنا و خرّبنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ يعملونه من القصور و سائر العمارات وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنّات. أو ما كانوا يرفعون من البنيان، كصرح (2) هامان. و قرأ ابن عامر و أبو بكر: يعرشون بالضمّ.

و هذا آخر ما اقتصّ اللّه سبحانه من نبأ فرعون و القبط، و تكذيبهم بآيات اللّه تعالى.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 138 الى 141]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [138] إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [139] قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [140] وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [141]

ثمّ اقتصّ نبأ بني إسرائيل و ما أحدثوا بعده من الأمور الشنيعة، بعد إنقاذهم من فرعون و معاينتهم للآيات العظام، تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا رأى منهم،

ص: 587


1- القصص: 5- 6.
2- الصرح: القصر و كلّ بناء عال.

و إيقاظا للمؤمنين حتّى لا

يغفلوا عن محاسبة أنفسهم و مراقبة أحوالهم، فقال:

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة حتّى عبروا، ثمّ أغرقنا فرعون و قومه. و البحر هو النيل، نهر مصر.

روي أنّ موسى عليه السّلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد إهلاك فرعون و قومه، فصاموه شكرا.

فَأَتَوْا فمرّوا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ يقيمون و يواظبون عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ على عبادتها. قيل: كانت تماثيل بقر، و ذلك أوّل شأن العجل. و القوم كانوا من العمالقة الّذين أمر موسى بقتالهم. و قيل: من لخم. و هي حيّ من اليمن، منهم ملوك العرب في الجاهليّة. و قرأ حمزة: يعكفون بالكسر.

قالُوا أي: قال الجهّال من قومه يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً انصب لنا مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها. و «ما» كافّة للكاف، و لذلك وقعت الجملة بعدها.

عن عليّ عليه السّلام: «أنّ يهوديّا قال له: اختلفتم بعد نبيّكم قبل أن يجفّ ماؤه.

فقال: قلتم: اجعل لنا آلهة، و لمّا تجفّ أقدامكم».

قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل المطلق و أكّده، لبعد ما صدر عنهم عن العقل ممّا قالوا، و للتعجّب منه بعد ما رأوا من الآيات الباهرة.

ثمّ قال تنبيها و إيقاظا: إِنَّ هؤُلاءِ إشارة إلى القوم مُتَبَّرٌ مكسّر مدمّر ما هُمْ فِيهِ من عبادة الأصنام. يعني: أنّ اللّه تعالى يهدم دينهم الّذي هم عليه، و يحطّم أصنامهم، و يجعلها رضاضا. وَ باطِلٌ و مضمحلّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها فيما سلف. و إنّما بالغ في هذا الكلام بإيقاع «هؤلاء» اسم «إن»، و الإخبار عمّا هم فيه بالتبار، و عمّا فعلوا بالبطلان، و تقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا ل «إنّ»، للتنبيه على أنّ الدمار لاحق بهم لا محالة، و أنّ الإحباط الكلّي لازم

لما مضى عنهم، تنفيرا و تحذيرا عمّا طلبوا.

قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ المستحقّ للعبادة أَبْغِيكُمْ إِلهاً أطلب لكم معبودا وَ هُوَ

ص: 588

فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ و الحال أنّه خصّكم بنعم لم يعطها غيركم. و الهمزة للإنكار و التعجّب من طلبهم عبادة غير اللّه تعالى، مع كونهم مغمورين في نعم اللّه. و فيه تنبيه على سوء معاملتهم، حيث قابلوا تخصيص اللّه إيّاهم من بين أمثالهم بما لم يستحقّوه تفضّلا، بأن قصدوا أن يشركوا به أخسّ شي ء من مخلوقاته.

ثمّ فصّل إعطاء النعم عليهم بقوله: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و اذكروا صنيعه تعالى معكم في هذا الوقت. و قرأ ابن عامر: أنجاكم. يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يبغونكم شدّة العذاب، من: سام السلعة إذا طلبها. و هذا استئناف لبيان ما أنجاهم منه. أو حال من المخاطبين، أو من آل فرعون، أو منهما. يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل منه مبيّن. و قرأ نافع: يقتلون بالتخفيف. وَ فِي ذلِكُمْ إشارة إلى الإنجاء أو العذاب بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ نعمة أو محنة عظيمة منه.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 142 الى 143]

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [142] وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [143]

ثمّ بيّن تعالى تمام نعمته على بني إسرائيل، فقال: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ

ص: 589

لَيْلَةً لإعطاء التوراة.

و هو شهر ذي القعدة. و قرأ أبو عمرو و يعقوب: و وعدنا.

وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجّة فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ فتمّ ما وقّته اللّه له من الوقت و ضربه له أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أي: بالغا هذا العدد. و نصبه على الحال.

و روي أنّ موسى عليه السّلام وعد بني إسرائيل و هو بمصر: إن أهلك اللّه عدوّهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و يذرون. فلمّا هلك فرعون سأل موسى ربّه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوما، فلمّا أتمّ الثلاثين أنكر خلوف (1) فيه، فتسوّك. فقالت الملائكة: كنّا نشمّ من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك.

و قيل: أوحى اللّه إليه: أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره اللّه أن يزيد عليها عشرة أيّام من ذي الحجّة لذلك.

و قيل: أمره اللّه بأن يصوم ثلاثين يوما، و أن يعمل فيها بما يقرّبه من اللّه، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر، و كلّم فيها.

و لقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة، و فصّلها هاهنا.

وَ قالَ مُوسى وقت خروجه إلى الميقات لِأَخِيهِ هارُونَ عطف بيان لأخيه اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم وَ أَصْلِحْ ما يجب أن يصلح من أمورهم. أو كن مصلحا في حال غيبتي. وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ و لا تتّبع من سلك الإفساد، و لا تطع من دعاك إليه. أراد بذلك إصلاح قومه، و إن كان المخاطب به أخاه.

و قيل: إنّما أمر موسى أخاه هارون بأن يخلفه و ينوب عنه في قومه مع أنّ هارون كان نبيّا، لأنّ الرئاسة كانت لموسى عليه السّلام عليه و على أمّته، و لم يكن يجوز أن يقول هارون لموسى ذلك. و في هذا دلالة على

أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوّة و غير داخلة فيها، و إنّما اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين، لأنّ هارون لو كان له

ص: 590


1- خلف خلوفا فم الصائم: تغيّرت رائحته و فسدت.

القيام بأمر الأمّة من حيث كان نبيّا لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إيّاه و إقامته مقامه.

ثمّ ذكر سبحانه حديث الميقات، فقال: وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا لوقتنا الّذي وقّتناه و حدّدناه. و اللام للاختصاص، فكأنّه قيل: اختصّ مجيئه لميقاتنا، كما تقول: أتيته لخمس خلون من الشهر. وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة، كما يكلّم الملائكة. و تكليمه أن ينشئ الكلام منطوقا في بعض الأجرام، كما خلقه مخطوطا في اللوح، لأنّ الكلام عرض لا بدّ له من محلّ يقوم به. و روي: أنّه عليه السّلام كان يسمع ذلك الكلام من كلّ جهة.

و عن ابن عبّاس: كلّمه أربعين يوما، و أربعين ليلة.

قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ المفعول الثاني محذوف، يعني: أرني نفسك أنظر إليك، أي: اجعلني متمكّنا من رؤيتك، بأن تتجلّى لي فأنظر إليك و أراك. و إنّما طلب الرؤية لقومه حين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (1)، و لذلك دعاهم سفهاء و ضلّالا، و قال لمّا أخذتهم الرجفة: أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا (2). و لم يسأل ذلك إلّا بعد أن أنكر عليهم و نبّههم على الحقّ، فلجّوا و تمادوا في لجاجهم، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند اللّه باستحالة الرؤية، و هو قوله: قالَ لَنْ تَرانِي ليتيقّنوا و تزول شبهتهم.

و معنى «لن» تأكيد النفي الّذي يعطيه «لا»، و ذلك أنّ «لا» ينفي المستقبل، تقول: لا أفعل غدا، فإذا أكّدت النفي قلت: لن افعل غدا. و الأصحّ أنّ «لن»

ينفي مدخوله على وجه التأبيد، كما قال: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ (3). فقوله:

لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (4) نفي للرؤية فيما يستقبل. و قوله: «لن تراني» تأكيد و بيان أنّ

ص: 591


1- البقرة: 55.
2- الأعراف: 155.
3- الحجّ: 73.
4- الأنعام: 103.

الرؤية منافية لصفاته.

و إنّما لم يقل موسى: أرهم ينظروا، لأنّ اللّه سبحانه إنّما كلّم موسى و هم يسمعون، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه منه، إرادة مبنيّة على قياس فاسد، فلذلك قال موسى: «أرني أنظر إليك». و لأنّه إذا زجر عمّا طلب، و أنكر عليه في نبوّته و اختصاصه و زلفته عند اللّه، و قيل له: لن تراني، كان غيره أولى بالإنكار. و لأنّ الرسول إمام أمّته، فكان ما يخاطب به راجعا إليهم.

و قوله: «أنظر إليك» و ما فيه من معنى المقابلة الّتي هي محض التشبيه و التجسيم، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم و حكاية لقولهم. و كيف طلب موسى ذلك لنفسه و هو أعلم الناس باللّه و صفاته، و ما يجوز عليه و ما لا يجوز، و بتعاليه عن الرؤية الّتي هي إدراك ببعض الحواسّ؟! و ذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة، و ما ليس بجسم و لا عرض فمحال أن يكون في جهة. و جلّ صاحب الجبل أن يجعل اللّه منظورا إليه، مقابلا بحاسّة النظر، فكيف بمن هو أعرق في معرفة اللّه؟! و إنّما قال: «لن تراني» و لم يقل كما قال موسى، لأنّه لمّا كان «أرني» بمعنى:

اجعلني متمكّنا من الرؤية الّتي هي الإدراك، علم أنّ الطلب هو الرؤية، لا النظر الّذي لا إدراك معه، فقيل: لن تراني، و لم يقل: لن تنظر إليّ.

و قوله: وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ استدراك يريد أن يبيّن به أنّه لا يطيقه.

و المعنى: أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه، و لكن عليك أن تنظر إلى الجبل كيف أفعل به؟ و كيف أجعله دكّا بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره. كأنّه عزّ و جلّ حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً.

فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ كما كان مستقرّا ثابتا فَسَوْفَ تَرانِي تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون، من استقرار الجبل مكانه حين يدكّه دكّا و يسوّيه بالأرض.

ص: 592

فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلمّا ظهر له عظمته و اقتداره، و تصدّى له أمره و إرادته جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مفتّتا. مصدر بمعنى مفعول، كضرب الأمير. و الدكّ و الدقّ أخوان، كالشكّ و الشقّ. و قرأ حمزة و الكسائي: دكّاء. و هي اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكّة. أو أرضا دكّاء، أي: مستوية. و منه قولهم: ناقة دكّاء للّتي لا سنام لها.

قيل: ساخ في الأرض حتّى فني.

و قيل: تقطّع أربع قطع: قطعة ذهبت نحو المشرق، و قطعه ذهبت نحو المغرب، و قطعة سقطت في البحر، و قطعة صارت رملا.

و في الحديث: صار الجبل ستّة أجبل: ثلاثة بالمدينة، و ثلاثة بمكّة، فالّتي بالمدينة: أحد و ورقان و رضوي، و الّتي بمكّة: ثور و ثبير و حراء.

وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشيّا عليه غشية كالموت من هول ما رأى. و الصعق من باب: فعلته ففعل، تقول: صعقته فصعق. و أصله من الصاعقة.

و عن ابن عبّاس: أخذته الغشية يوم الخميس يوم عرفة، و أفاق عشيّة الجمعة.

و أمّا السبعون الّذين كانوا معه فقد ماتوا كلّهم، لقوله: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ (1).

و روي (2) أنّ الملائكة مرّت عليه و هو مغشيّ عليه، فجعلوا يلكزونه بأرجلهم و يقولون: يا ابن النساء الحيّض أطمعت في رؤية ربّ العزّة؟

ص: 593


1- البقرة: 56.
2- أوردها في الكشّاف (2: 155). وليت المفسّر «قدّس سرّه» لم يذكرها هنا. و الجدير الأليق تنزيه الملائكة عليهم السّلام- و هم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون (سورة الأنبياء: 26- 27)- عن مثل هذا الكلام الجافي، و إهانة موسى كليم اللّه عليه السّلام باللكز بالرجل، و الحطّ من كرامته، و خطابه بما لا يخاطب به إلا السفلة الرعاع. و هي رواية غير مسندة، و تشبه أن تكون من الإسرائيليّات، و أقاصيص المهوّسين، و خرافات الجاهلين.

فَلَمَّا أَفاقَ من صعقته قالَ تعظيما لما رأى سُبْحانَكَ أنزّهك ممّا لا يجوز عليك تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة و الإقدام على تلك المقالة العظيمة بغير إذنك، و إن كان لغرض صحيح وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنّك لا ترى.

قال صاحب (1) الكشّاف: «فانظر أيّها الطالب للحقّ، و السالك في طريق الرشاد، إلى إعظام اللّه أمر الرؤية في هذه الآية، و كيف أرجف الجبل بطالبيها، و جعله دكّا، و أصعقهم و لم يخلّ كليمه من نفيان (2) ذلك، مبالغة في إعظام الأمر؟

و كيف سبّح ربّه ملتجأ إليه، و تاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه، فقال: و أنا أوّل المؤمنين؟ ثمّ تعجّب من المتسمّين بالإسلام كيف اتّخذوا هذه العظيمة مذهبا؟ نعوذ باللّه من الأهواء المضلّة، و الطرق الملحدة».

و قيل في الآية وجه آخر: و هو أن يكون المراد بقوله: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» عرّفني نفسك تعريفا واضحا

جليّا، بإظهار بعض آيات الآخرة الّتي تضطرّ الخلق إلى معرفتك. «أنظر إليك» أعرفك معرفة ضروريّة كأنّي أنظر إليك، كما جاء في الحديث: «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر» بمعنى: ستعرفونه معرفة جليّة مثل أبصاركم القمر إذا استوى بدرا. «قالَ لَنْ تَرانِي» لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة، و لن تحتمل قوّتك تلك الآية. «وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» فإنّي أورد عليه آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجلّيها و استقرّ مكانه فسوف تثبت لها و تطيقها. «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ» فلمّا ظهرت للجبل آية من آيات ربّه «جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً» لعظم ما رأى. «فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ» ممّا اقترحت و تجاسرت، و أنا من المؤمنين بعظمتك و جلالك.

ص: 594


1- الكشّاف 2: 156.
2- النفيان: ما تنفيه الريح في أصول الشجر من التراب. و المراد هنا: ما يتطاير من أجزاء الجبل عند اندكاكه.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 144 الى 147]

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [144] وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ [145] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ [146] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [147]

ثمّ أخبر سبحانه عن عظيم نعمته على موسى بالاصطفاء، و إجلال القدر، و أمره إيّاه بالشكر، بقوله: قالَ

يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ أي: الموجودين في زمانك. و هارون و إن كان نبيّا كان مأمورا باتّباعه، و لم يكن كليما و لا صاحب شرع. بِرِسالاتِي يعني: أسفار التوراة. و قرأ نافع و ابن كثير:

برسالتي. وَ بِكَلامِي و بتكليمي إيّاك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من الرسالة و الحكمة وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على النعمة في ذلك. روي أنّ سؤال الرؤية يوم عرفة، و إعطاء التوراة يوم النحر.

وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ يريد ألواح التوراة. قيل: كانت سبعة ألواح. و قيل:

ص: 595

عشرة. و قيل: لوحين، و إنّها كانت من زمرّد. و قيل: زبرجد خضراء أو ياقوتة حمراء. و قيل: كانت من صخرة صمّاء ليّنها اللّه تعالى لموسى، فقطعها بيده أو شقّها بأصابعه. و قيل: كانت من خشب. و قيل: أنزلت التوراة و هي سبعون وقر (1) بعير، يقرأ الجزء منه في سنة، لم يقرأها إلّا أربعة نفر: موسى، و يوشع، و عزير، و عيسى.

مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ احتاجت إليه بنو إسرائيل في دينهم من المواعظ و تفصيل الأحكام، و الحلال و الحرام، و ذكر الجنّة و النار، و غير ذلك من العبر و الأخبار مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ بدل من الجارّ و المجرور، أي: كتبنا كلّ شي ء من المواعظ و تفصيل الأحكام.

فَخُذْها على إضمار القول عطفا على «كتبنا»، أي: فقلنا له: خذها. أو بدل من قوله: «فَخُذْ ما آتَيْتُكَ». و الهاء للألواح، أو لكلّ شي ء، فإنّه بمعنى الأشياء، أو للرسالات. بِقُوَّةٍ بجدّ و عزيمة، فعل أولي العزم من الرسل.

وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي: بأحسن ما فيها، كالصبر و العفو بالإضافة إلى الانتصار و الاقتصاص، على طريقة الندب و الحثّ

على الأفضل، كقوله: وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (2). أو بواجباتها، فإنّ الواجب أحسن من غيره. و يجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة، و هو المأمور به واجبا كان أو ندبا، كقولهم: الصيف أحرّ من الشتاء.

سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ دار فرعون و قومه بمصر خاوية على عروشها، لفسقهم. أو منازل عاد و ثمود و أضرابهم، لتعتبروا فلا تفسقوا. أو دارهم في الآخرة، و هي جهنّم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم (3) أنّ معناه: «يجيئكم قوم فسّاق تكون الدولة

ص: 596


1- الوقر: الحمل الثقيل.
2- الزمر: 55.
3- تفسير القمّي 1: 240.

لهم»، كقوله: وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (1).

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ المنصوبة في الآفاق و الأنفس الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بالطبع على قلوبهم و خذلانهم، فلا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها.

و في الحديث: «إذا عظّمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام، و إذا تركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حرمت بركة الوحي».

و قيل: معناه: سأصرفهم عن إبطالها و إن اجتهدوا، كما اجتهد فرعون في إبطال آية موسى، فأبى اللّه إلّا علوّ أمره، و هلاك فرعون و قومه.

و قوله: بِغَيْرِ الْحَقِ صلة «يتكبّرون» أي: يتكبّرون بما ليس بحقّ، و هو دينهم الباطل. أو حال من فاعله، يعني: يتكبّرون غير محقّين، لأنّ التكبّر بالحقّ للّه تعالى وحده.

وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من الآيات المنزلة عليهم أو المعجزة لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم و اختلال عقولهم، بسبب انهماكهم في الهوى و التقليد. و هو يؤيّد الوجه الأوّل.

وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ الصواب و الحقّ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لاستيلاء الشيطنة عليهم. و قرأ حمزة و الكسائي: الرّشد بفتحتين.

وَ إِنْ يَرَوْا

سَبِيلَ الغَيِ الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ الصرف بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ بسبب تكذيبهم بآيات اللّه، و عدم تدبّرهم لها.

و يجوز أن ينصب لفظة «ذلك» على المصدر، أي: سأصرف ذلك الصرف بسببهما.

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بحججنا و معجزات رسلنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ من إضافة المصدر إلى المفعول به، أو إلى الظرف، أي: و لقائهم الآخرة، أو ما وعد اللّه تعالى في الآخرة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لا ينتفعون بها هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلّا جزاء أعمالهم.

ص: 597


1- الأنعام: 129.

و اعلم أنّ هاتين الآيتين اعتراض بين قصّة موسى و الخطاب لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و المراد أنّه يصرف المتكبّرين عن آياته كما صرف فرعون عن موسى. و يجوز أن تكونا ليستا باعتراض، و الخطاب لموسى زيادة في البيان عن إتمام ما وعده من إهلاك أعدائه، و صرفهم عن الاعتراض على آياته. و معناه: خذها آمنا من طعن الطاعنين.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 148 الى 151]

وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ [148] وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [149] وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [150] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [151]

ثمّ أخبر عن قصّة بني إسرائيل، و ما أحدثوا عند خروج موسى عليه السّلام إلى ميقات ربّه، فقال: وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ من بعد خروجه إلى الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ الّتي استعاروها من قوم فرعون حين همّوا بالخروج من مصر، و بقيت في

ص: 598

أيديهم بعد هلاك فرعون و قومه. و أضافها إليهم، لأنّها كانت في أيديهم، أو ملكوها بعد هلاكهم. و هو جمع حلي، كثدي و ثديّ. و قرأ حمزة و الكسائي بالكسر (1) بالاتباع، كدليّ (2). و يعقوب على الإفراد (3)، لأنّه اسم جنس.

عِجْلًا جَسَداً أي: جسدا من الذهب خاليا من الروح. و عن وهب بدنا ذا لحم و دم. لَهُ خُوارٌ صوت البقر.

قيل: إنّ السامريّ صاغ العجل من الحليّ، فالقى في فمه من تراب أثر فرس جبرئيل عليه السّلام الّذي قبضه يوم قطع البحر، فصار عجلا حيّا فصاح.

و قيل: صاغه بنوع من الحيل، فتدخل الريح جوفه و تصوّت.

و إنّما نسب الاتّخاذ إليهم و هو فعله، إمّا لأنّهم رضوا به. أو لأنّ السامريّ بين ظهرانيّهم فعل ذلك، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا و فعلوا كذا، و القائل و الفاعل كان واحدا منهم. أو لأنّ المراد اتّخاذهم إيّاه إلها، فحذف المفعول الثاني.

أَ لَمْ يَرَوْا حين اتّخذوه إلها أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا حتّى لا يتّخذوه معبودا. و هذا تقريع على فرط ضلالتهم و إخلالهم بالنظر. و المعنى: ألم يروا حين اتّخذوه إلها أنّه لا يقدر على كلام، و لا على إرشاد سبيل كآحاد البشر، حتّى حسبوا أنّه خالق الأجسام و القوى و القدر؟! ثمّ ابتدأ فقال: اتَّخَذُوهُ تكرير للذمّ، أي: أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر

الّذي هو اتّخاذ العجل إلها وَ كانُوا ظالِمِينَ واضعين الأشياء في غير مواضعها، فلم تكن عبادة العجل بدعا منهم.

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن اشتداد ندمهم على عبادة العجل، فإنّ

ص: 599


1- أي: حليّهم.
2- جمع الدلو.
3- أي: حليهم.

النادم المتحسّر يعضّ يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها، لأنّ فاه وقع فيها.

و «سقط» مسند إلى «في أيديهم». وَ رَأَوْا و علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتّخاذ العجل حين رجع إليهم موسى قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بإنزال التوبة وَ يَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن الخطيئة لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء (1)، و ربّنا على النداء.

وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً شديد الغضب. و قيل: حزينا.

قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي: بئسما فعلتم خلفي حيث عبدتم العجل، و الخطاب للعبدة. أو قمتم مقامي فلم تكفّوا العبدة، و الخطاب لهارون و المؤمنين معه. و «ما» نكرة موصوفة تفسّر المستكن في «بئس» و المخصوص بالذمّ محذوف، تقديره:

بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.

و معنى قوله: مِنْ بَعْدِي بعد انطلاقي إلى ميقات ربّي. أو من بعد ما رأيتم منّي من التوحيد و التنزيه، و الحمل عليه و الكفّ عمّا ينافيه.

أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أ تركتموه غير تامّ. يقال: عجل عن الأمر، إذا تركه غير تامّ. و نقيضه: تمّ عليه، و أعجله عنه غيري. و يضمّن معنى «سبق»، فيعدّى تعديته.

فيقال: عجلت الأمر. و الأمر هو انتظار موسى حافظين لعهده بعده، أي: أ عجلتم وعد ربّكم الّذي وعدنيه لكم من الأربعين، و قدّرتم موتي، و غيّرتم بعدي كما غيّرت الأمم بعد أنبيائهم؟

قيل: إنّ السامريّ قال لهم: إنّ موسى لن يرجع، و أنّه قد مات.

روي أنّهم عدّوا عشرين يوما بلياليها، فجعلوها أربعين، ثمّ أحدثوا ما أحدثوا.

وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها من شدّة الغضب و فرط الضجر، حميّة للدين.

ص: 600


1- أي: قرءا: لم ترحمنا ربّنا ....

روي أنّ التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة أسباع في سبعة ألواح، فلمّا ألقاها انكسرت، فرفع ستّة اسباعها، و كان فيها تفصيل كلّ شي ء، و بقي سبع كان فيه المواعظ و الأحكام.

وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ بشعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لشدّة ما ورد عليه من استعظام فعلهم، مفكّرا فيما كان منهم، كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب و شدّة الفكر، فيقبض على لحيته و يعضّ شفته. فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه، فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند حالة الغضب و الفكر.

و قال المفيد رحمه اللّه: أراد موسى أن يظهر ما اعتراه من شدّة الغضب على قومه، بسبب ما صاروا إليه من الكفر و الارتداد، فصدر ذلك منه للتألّم بضلالهم، و إعلامهم عظم الحال عنده، لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال. و هارون كان أكبر منه بثلاث سنين. و كان حمولا ليّنا، و لذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل.

قالَ ابْنَ أُمَ ذكر الأمّ ليرقّقه عليه، فإنّ ذكرها أبلغ في الاستعطاف. و كانا من أب و أمّ. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر عن عاصم: ابن أمّ بالكسر.

و أصله: يا ابن أمّي، فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا، كالمنادى المضاف إلى الياء. و الباقون بالفتح، زيادة في التخفيف، لطوله، أو تشبيها بخمسة عشر.

إِنَّ الْقَوْمَ الّذين تركتني بين أظهرهم اسْتَضْعَفُونِي قهروني و اتّخذوني ضعيفا، و لم آل جهدا في كفّهم بالإنذار و الوعظ وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي أي: قاربوا

قتلي، لشدّة إنكاري عليهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله، من الاستهانة بي و الإساءة إليّ، أي: لا تسرّهم بما تفعل بي ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم. وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: قرينا لهم و معدودا فيهم، في إظهار الغضب عليّ.

قالَ موسى حين تبيّن له ما نبّهه هارون عليه من الاعتذار، و ذكر شماتة

ص: 601

الأعداء، و خوف التهمة، و دخول الشبهة على القوم رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي ليرضي أخاه، و يظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، و يرفع دخول الشبهة عليهم من عدم رضا موسى عن أخيه، فلا يتمّ لهم شماتتهم. و هذا الدعاء على وجه الانقطاع إلى اللّه، أو على ترك الأولى، لا أنّه كان وقع منه أو من أخيه قبيح كبير أو صغير يحتاج أن يستغفر منه، فإنّ الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم شي ء من القبيح.

وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ بمزيد الإنعام علينا وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأنت أرحم بنا منّا على أنفسنا.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 152 الى 154]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [152] وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [153] وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [154]

ثمّ أوعد اللّه سبحانه عبدة العجل، فقال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ و هو ما أمرهم به من قتل أنفسهم وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هي خروجهم من ديارهم. و قيل: الجزية. وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على اللّه تعالى، و لا فرية أعظم من قول السامريّ: هذا إلهكم و إله موسى، فإنّه فرية لم يفتر مثلها أحد قبلهم و لا بعدهم.

ص: 602

وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر و المعاصي ثُمَّ تابُوا و رجعوا مِنْ بَعْدِها من بعد السيّئات وَ آمَنُوا و أخلصوا الإيمان و ما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة، و استأنفوا عمل الإيمان إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة لَغَفُورٌ لستور عليهم، محّاء لما كان منهم من الذنب، و إن عظم كجريمة عبدة العجل، و كثر كجرائم بني إسرائيل رَحِيمٌ منعم عليهم.

وَ لَمَّا سَكَتَ أي: سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ في هذا الكلام مبالغة و بلاغة، من حيث إنّه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به و المغري عليه، فقال له: ألق الألواح و جرّ برأس أخيك، فترك النطق بذلك و قطع الإغراء، و لهذا عبّر عن سكونه بالسكوت. و المعنى: و لمّا انطفى غضبه.

أَخَذَ الْأَلْواحَ الّتي ألقاها وَ فِي نُسْخَتِها و فيما نسخ فيها، أي: كتب.

فعلة بمعنى المفعول، كالخطبة. و قيل: فيما نسخ منها، أي: من الألواح المنكسرة هُدىً دلالة و بيان للحقّ وَ رَحْمَةٌ إرشاد إلى الصلاح و الخير لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير، كما تقول: لك ضربت، و نحوه: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (1). أو حذف المفعول، و اللام للتعليل، و التقدير: يرهبون معاصي اللّه لربّهم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 155 الى 156]

وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا

ص: 603


1- يوسف: 43.

وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ [155] وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ [156]

ثمّ أخبر سبحانه عن اختيار موسى من قومه عند خروجه إلى ميقات ربّه، فقال: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي: من قومه، فحذف الجارّ و أوصل الفعل إليه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربّه.

و اختلف في سبب اختياره إيّاهم و وقته. فقيل: إنّه اختارهم حين خرج إلى الميقات ليكلّمه اللّه سبحانه بحضرتهم، و يعطيه التوراة في حضورهم، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لمّا لم يثقوا بخبره أنّ اللّه سبحانه يكلّمه. فلمّا حضروا الميقات و سمعوا كلامه سألوا الرؤية، فأصابتهم الصاعقة، ثمّ أحياهم اللّه. فابتدأ سبحانه بحديث الميقات، ثم اعترض حديث العجل، فلمّا تمّ عاد إلى بقيّة القصّة.

و هذا الميقات هو الميعاد الأوّل الّذي تقدّم ذكره.

و هذا منقول عن أبي على الجبائي و أبي مسلم و جماعة من المفسّرين. و هو الصحيح. و رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره (1).

و قيل: إنّه اختارهم بعد الميقات الأوّل للميقات الثاني بعد عبادة العجل، ليعتذروا من ذلك.

روي أنّه تعالى أمر موسى بأن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من اثني عشر سبطا، و من كلّ سبط ستّة، فزاد اثنان. فقال: ليتخلّف منكم رجلان.

فتشاحّوا. فقال: إنّ لمن قعد منكم مثل أجر من خرج. فقعد كالب و يوشع، و ذهب .

ص: 604


1- تفسير القمّي 1: 241.

مع الباقين. فلمّا دنوا من الجبل غشيه غمام، فدخل موسى عليه السّلام بهم الغمام، و خرّوا سجّدا، فسمعوه تعالى و هو يكلّم موسى يأمره و ينهاه. ثمّ انكشف الغمام، فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية، فوعظهم و زجرهم و أنكر عليهم.

فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (1). فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (2). فأجيب: لَنْ تَرانِي « (3)» فأخذتهم الرجفة، أي: الصاعقة أو رجفة الجبل، فصعقوا منها.

فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ هذا تمنّي هلاكهم و هلاكه قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، أو بسبب آخر غير الرجفة. أو عنى به أنّك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك، بحمل فرعون على إهلاكهم، و بإغراقهم في البحر، فترحّمت عليهم بالإنقاذ منها، فإن ترحّمت عليهم مرّة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك.

أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد و التجاسر على طلب الرؤية. قاله بعضهم. و قيل: المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل. و السبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها، فغشيتهم هيبة قلقوا منها و رجفوا، حتّى كادت تبين مفاصلهم، و أشرفوا على الهلاك، فخاف عليهم موسى فبكى و دعا، فكشف اللّه عنهم.

إِنْ هِيَ ما هذه الحالة إِلَّا فِتْنَتُكَ ابتلاؤك حين كلّمتني و أسمعتهم كلامك حتّى طمعوا في الرؤية، لاستدلالهم بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتّى افتتنوا. أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به.

تُضِلُّ بِها بالفتنة تخلية و خذلانا مَنْ تَشاءُ أي: الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أي: العالمين بك. و جعل ذلك إضلالا و هدى من اللّه، لأنّ محنته لمّا كانت سببا لأن ضلّوا و اهتدوا فكأنّه أضلّهم بها و هداهم، على الاتّساع في الكلام. و قيل: معناه: تهلك بها من تشاء، و تنجي من

تشاء.

أَنْتَ وَلِيُّنا مولانا القائم بأمورنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ

ص: 605


1- البقرة: 55.
2- الأعراف: 143.
3- الأعراف: 143.

تغفر السيّئة، و تبدّلها بالحسنة.

وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً حسن معيشة و توفيق طاعة. قال هذا على لسان القوم. وَ فِي الْآخِرَةِ أي: و اكتب لنا في الآخرة أيضا حسنة. و هي الجنّة. إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي: تبنا إليك، من: هاد إذا رجع و تاب. و الهود جمع الهائد، و هو التائب. و لبعضهم:

يا راكب الذنب هدهدو اسجد كأنّك هدهد

قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ أي: من صفته أنّي أصيب به مَنْ أَشاءُ تعذيبه ممّن عصاني، و استحقّه بعصياني وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ في الدنيا، المؤمن و الكافر، بل المكلّف و غيره، بحيث لا أحد إلّا و هو متقلّب في نعمتي فَسَأَكْتُبُها فسأثبت هذه الرحمة في الآخرة كتبة خاصّة منكم يا بني إسرائيل لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ خصّها بالذكر لإنافتها (1)، و لأنّها كانت أشقّ عليهم وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشي ء منها. يعني: للّذين يؤمنون في آخر الزمان من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجميع آياتنا و كتبنا.

[سورة الأعراف [7]: آية 157]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [157]

و روي عن ابن عبّاس و قتادة و ابن جريج أنّه لمّا نزلت: «و رحمتي وسعت

ص: 606


1- أي: زيادتها، يقال: أناف على كذا، أي: زاد.

كلّ شي ء» قال إبليس: أنا من ذلك الشي ء، فنزعها اللّه من إبليس بقوله: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» الآية. فقالت اليهود و النصارى: نحن نتّقي و نؤتي الزكاة و نؤمن بآيات ربّنا، فنزعها منهم و جعلها لهذه الأمّة بقوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ و على هذا هو خبر مبتدأ تقديره: هم الّذين يتّبعون الرسول الّذي نوحي إليه كتابا مختصّا به، و هو القرآن. و النبيّ صاحب المعجزات. و قيل: سمّي رسولا بالإضافة إلى اللّه، و نبيّا بالإضافة إلى العباد. و يحتمل أن يكون بدلا من «يتّقون» بدل الكلّ أو البعض.

أو يكون مبتدأ خبره: يأمرهم.

الْأُمِّيَ الّذي لا يكتب و لا يقرأ. وصفه به تنبيها على أنّ كمال علمه مع حاله هذه إحدى معجزاته. و روي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «أنّ الأمّيّ بمعنى المنسوب إلى أمّ القرى، و هي مكّة».

و قيل: إنّه منسوب إلى الأمّة. و المعنى: أنّه على جبلّة الأمّة قبل استفادة الكتابة. أو المراد بالأمّة العرب، لأنّها لم تكن تحسن الكتابة. أو منسوب إلى الأمّ.

و المعنى: أنّه على ما ولدته أمّة قبل تعلّم الكتابة.

الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ اسما و صفة، فقد روي أنّه مكتوب في السفر الخامس من التوراة: إنّي سأقيم لهم نبيّا من إخوتهم مثلك، و أجعل كلامي في فيه، فيقول لهم كلّ ما أوصيه به. و فيها أيضا مكتوب: و أمّا ابن الأمة فقد باركت عليه جدّا جدّا، و سيلد اثني عشر عظيما، و أؤخّره لأمّة عظيمة.

و في الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع، منها: نعطيكم فارقليط يكون معكم آخر الدهر كلّه. و فيه أيضا قول المسيح للحواريّين: أنا أذهب و سيأتيكم

الفارقليط روح الحقّ الّذي لا يتكلّم من قبل نفسه، إنّه نذيركم بجميع الخلق، و يخبركم بالأمور المزمعة، و يمدحني، و يشهد لي.

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ممّا حرّم

ص: 607

عليهم، كالشحوم وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ما يستخبث، كالميتة و الدم و لحم الخنزير، أو ما خبث في الحكم من المكاسب الخبيثة، كالربا و الرشوة.

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ و يخفّف عليهم الثقل الّذي يأصر صاحبه، أي:

يحبسه من الحراك لثقله. و هو مثل لثقل ما كلّفوا به، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحّة التوبة. وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ العهود الّتي كانت في ذممهم. و هذا أيضا مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقّة، نحو قطع الأعضاء الخاطئة، و قرض موضع النجاسة من الجلد و الثوب، و إحراق الغنائم، و تحريم العروق في اللحم، و تحريم السبت.

و عن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلّي لبسوا المسوح (1)، و غلّوا أيديهم إلى أعناقهم، و ربّما ثقب الرجل ترقوته، و جعل فيها طرف السلسلة، و أوثقها إلى السارية، يحبس نفسه على العبادة. و جعل تلك العهود بمنزلة الأغلال الّتي تكون في الأعناق، للزومها، كما يقال: هذا طوق في عنقك.

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ و عظّموه، أو منعوه حتّى لا يقوى عليه عدوّ.

و أصل التعزير المنع، و منه التعزير للضرب دون الحدّ، لأنّه يمنع من معاودة القبيح.

وَ نَصَرُوهُ لي و لديني وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي: مع نبوّته، و هو القرآن.

و إنّما سمّاه نورا لأنّه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره. أو لأنّه كاشف الحقائق مظهر لها. أو لأنّه نور في القلوب، كما أنّ الضياء نور في العيون، و يهتدي به الخلق في أمور الدين، كما يهتدون بالنور في أمور الدنيا.

و يجوز أن يكون «معه» متعلّقا ب «اتّبعوا» أي: و اتّبعوا النور المنزل مع اتّباع

ص: 608


1- المسوح جمع المسح، و هو الكساء من شعر، أو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشّفا و زهدا.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فيكون إشارة إلى اتّباع الكتاب و السنّة.

أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الأبديّة. و مضمون الآية جواب دعاء موسى عليه السّلام.

[سورة الأعراف [7]: آية 158]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [158]

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخاطب جميع الخلق من العرب و العجم، فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً حال من «إليكم». و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوثا إلى كافّة الثقلين، بخلاف سائر الرسل، فإنّهم مبعوثون إلى أقوامهم.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ صفة للّه تعالى، و إن حيل بين الصفة و الموصوف بما هو متعلّق المضاف إلى الرسول، لأنّه كالتقدّم عليه. أو مدح منصوب أو مرفوع. أو مبتدأ خبره: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و هو على الوجوه الأول بيان لما قبله، فإنّ من ملك العالم كان هو الإله لا غيره. و في قوله: يُحيِي وَ يُمِيتُ مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهيّة، لأنّه لا يقدر على الإحياء و الإماتة غيره.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ ما أنزل عليه و على

سائر الرسل من كتبه و وحيه. و إنّما عدل عن التكلّم إلى الغيبة، لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الايمان و الاتّباع له.

وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، تنبيها على أنّ

ص: 609

من صدّقه و لم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعدّ في خطط الضلالة.

[سورة الأعراف [7]: آية 159]

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ [159]

ثمّ عاد الكلام إلى قصّة بني إسرائيل، فقال: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى يعني: من بني إسرائيل أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ يهدون الناس محقّين، أو بكلمة الحقّ وَ بِهِ و بالحقّ يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم. و المراد بها الثابتون على الإيمان القائلون بالحقّ من أهل زمانه. أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن، تنبيها على أنّ تعارض الخير و الشرّ و تزاحم أهل الحقّ و الباطل أمر مستمرّ. و قيل: هم مؤمنوا أهل الكتاب، مثل عبد اللّه بن سلام و ابن صوريا و غيرهما.

و في حديث أبي حمزة الثمالي و الحكم بن ظهير: «أنّ موسى عليه السّلام لمّا أخذ الألواح قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هي خير أمّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، فاجعلهم أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هم الآخرون في الخلق، السابقون في دخول الجنّة، فاجعلهم أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ فإنّي أجد في الألواح أمّة يقاتلون الأعور الكذّاب، فاجعلهم أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة، و إن عملها كتبت له عشرة أمثالها، و إن همّ بسيّئة و لم يعملها لم يكتب عليه، و إن عملها كتبت عليه سيّئة واحدة، فاجعلهم

من أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هم الشافعون و هم المشفوع لهم، فاجعلهم أمّتي.

ص: 610

قال: تلك أمّة أحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال موسى: ربّ اجعلني من أمّة أحمد.

قال أبو حمزة الثمالي: فأعطي موسى آيتين لم يعطوها، يعني: أمّة محمد.

قال اللّه: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي (1). و قال:

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ قال: فرضي موسى كلّ الرضا».

و في حديث غير أبي حمزة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لمّا قرأ: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (2) هذه لكم، و قد أعطى اللّه قوم موسى مثلها».

و قيل: هم قوم وراء الصين رآهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج، فآمنوا به.

و روي أنّ بني إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءهم و كفروا و كانوا اثني عشر سبطا، تبّرأ سبط منهم ممّا صنعوا و اعتذروا، و سألوا اللّه أن يفرّق بينهم و بين إخوانهم. ففتح اللّه لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه سنة و نصفا حتّى خرجوا من وراء الصين، و هم هنالك حنفاء مسلمون، يستقبلون قبلتنا.

و ذكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ جبرئيل ذهب برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الإسراء نحوهم فكلّمهم. فقال لهم جبرئيل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمّد النبيّ الأمّي فآمنوا به. و قالوا: يا رسول اللّه: إنّ موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منّي السلام. فردّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على موسى عليه السّلام السلام.

ثمّ أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكّة، و لم تكن نزلت فريضة غير الصلاة و الزكاة. و أمرهم أن يقيموا مكانهم. و كانوا يسبتون فأمرهم أن يجمّعوا، أي: يصلّوا صلاة الجمعة، و يتركوا السبت.

و هذه الرواية منقولة عن ابن عبّاس و السدّي و الربيع و الضحّاك و عطاء، و مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. ثمّ قالوا: و ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون .

ص: 611


1- الأعراف: 144.
2- الأعراف: 181.

باللّيل، و يضحون بالنهار و يزرعون، لا يصل إليهم منّا أحد، و لا منهم إلينا، و هم على الحقّ.

و قيل: لو كانوا في طرف من الدنيا متمسّكين بشريعة، و لم يبلغهم نسخها، كانوا معذورين. و هذا من باب الفرض و التقدير، و إلّا فقد طار الخبر بشريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى كلّ أفق، و تغلغل في كلّ نفق، و لم يبق مدر و لا وبر، و لا سهل و لا جبل، و لا برّ و لا بحر، في مشارق الأرض و مغاربها، إلّا و قد ألقاه اللّه إليهم، و ملأ به مسامعهم، و ألزمهم به الحجّة، و هو سائلهم عنه يوم القيامة.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 160 الى 162]

وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [160] وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ

سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [161] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ [162]

ثمّ أخبر سبحانه خبرا آخر عن بني إسرائيل، فقال: وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ

ص: 612

عَشْرَةَ و صيّرناهم قطعا متميّزا بعضهم عن بعض. و نصب «اثنتي عشرة» على أنّه مفعول ثان ل «قطع»، فإنّه متضمّن معنى «صيّر» أو حال. و تأنيثه للحمل على الأمّة أو القطعة. أَسْباطاً بدل منه، و لذلك جمع. أو تمييز له، على أنّ كلّ واحدة من اثنتي عشرة أسباط، فكأنّه قيل: اثنتي عشرة قبيلة، و كلّ قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباطا موضع قبيلة. و الأسباط أولاد الأولاد، جمع سبط. و كانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولدا من ولد يعقوب عليه السّلام.

أُمَماً على الأوّل بدل بعد بدل، أو نعت ل «أسباطا». و على الثاني بدل من «أسباطا»، أي: و قطّعناهم أمما، لأنّ كلّ أسباط أمّة عظيمة و جماعة كثيفة العدد، و كلّ واحدة كانت تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى، فإنّ كلّ أمّة منهم ترجع إلى رئيسهم ليتميّزوا في مشربهم و مطعمهم، فيخفّ الأمر على موسى عليه السّلام، و لا يقع بينهم اختلاف و تباغض.

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ أي: فضرب فانفجرت من الحجر. و حذفه للإيماء على أنّ موسى عليه السّلام لم يتوقّف في الامتثال، و أنّ ضربه لم يكن مؤثّرا في ذاته، بل الانبجاس بفعل اللّه سبحانه، لكن يتوقّف على الضرب و إن كان غير مؤثّر فيه. و الانبجاس:

الانفتاح بسعة و كثرة. اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كلّ أمّة من تلك الأمم مَشْرَبَهُمْ و الأناس اسم جمع غير تكسير، نحو رخال (1) و توام.

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ليقيهم حرّ الشمس وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا أي: و قلنا لهم: كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا بالتجاوز عن أوامرنا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ قد سبق في سورة البقرة (2) تفسير هذه الآية.

وَ إِذْ قِيلَ بإضمار «اذكر» لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ قرية بيت المقدس

ص: 613


1- الرخال: هي الإناث من أولاد الضأن. و التوام واحدة: توأم.
2- في ج 1: 153.

وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مثل ما في سورة البقرة (1) البقرة معنى، غير أنّ قوله: «فكلوا منها» بالفاء أفاد تسبّب سكناهم للأكل منها، و لم يتعرّض له هاهنا اكتفاء بذكره ثمّ، أو بدلالة الحال عليه. و أمّا تقديم «قولوا» على «و ادخلوا» فلا أثر له في المعنى، لأنّه لا يوجب الترتيب، و كذا الواو العاطفة بينهما. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب: تغفر بالتاء و البناء للمفعول، و خطيئاتكم بالجمع و الرفع، غير ابن عامر، فإنّه وحّد. و قرأ أبو عمرو: خطاياكم.

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ قد مرّ (2) تفسيره أيضا.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 163 الى 166]

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [163] وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [164] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا

بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [165] فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [166]

ص: 614


1- في ج 1: 153- 154.
2- راجع ج 1: 155 ذيل الآية 59 من سورة البقرة.

ثمّ ابتدأ بخبر آخر من أخبار بني إسرائيل، فقال مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

وَ سْئَلْهُمْ للتقرير و التقريع بقديم كفرهم و عصيانهم، و الإعلام بما هو من علومهم الّتي لا تعلم إلّا بكتاب أو وحي، ليكون معجزة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ عن خبرها و ما وقع بأهلها الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه. و هي: أيلة، قرية بين مدين و الطور على شاطئ البحر. و قيل: مدين. و قيل: طبرية. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حدود اللّه بالصيد يوم السبت، و قد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة.

و «إذ» ظرف ل «كانت»، أو حاضرة، أو للمضاف المحذوف، أي: لأهل القرية. أو بدل من المضاف بدل الاشتمال، كأنّه قيل: و اسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في تعظيم السبت.

إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ل «يعدون» أو بدل بعد بدل منه. و الحيتان جمع الحوت، بمعنى السمك. يَوْمَ سَبْتِهِمْ يوم تعظيمهم أمر السبت. مصدر: سبتت اليهود، إذا عظّمت سبتها بترك الصيد و التجرّد للعبادة. و قيل: اسم لليوم. و الإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه. شُرَّعاً حال من الحيتان. و معناه: ظاهرة على وجه الماء، من: شرع علينا، إذا دنا و أشرف.

وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ بل كانت تغوص في البحر. قيل: إنّهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السبت حتّى كان يقع فيها السمك، ثمّ كانوا لا يخرجون الشبكة من

الماء إلى يوم الأحد.

و في رواية عكرمة عن ابن عبّاس: اتّخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها، و لا يمكنها الخروج منها، فيأخذونها يوم الأحد. و قيل: إنّهم اصطادوها و تناولوها باليد في يوم السبت.

كَذلِكَ مثل ذلك البلاء الشديد نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.

ص: 615

وَ إِذْ قالَتْ عطف على «إذ يعدون» أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرى، يعني: صلحاءهم الّذين اجتهدوا في موعظتهم حتّى أيسوا من اتّعاظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ مخزيهم و مستأصلهم في الدنيا بمعصيتهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة، لتماديهم في العصيان. قالوه مبالغة في أنّ الوعظ لا ينفع فيهم، أو سؤالا عن علّة الوعظ و نفعه، و كأنّه تقاول بينهم، أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم. و قيل: المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعّاظهم، ردّا عليهم و تهكّما بهم.

قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ جواب للسؤال، أي: موعظتنا إنهاء عذر إلى اللّه تعالى، حتّى لا تنسب إلى تفريط في النهي عن المنكر. و قرأ حفص: معذرة بالنصب على المصدر أو العلّة، أي: اعتذرنا به معذرة، أو وعظناهم معذرة وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و لطمعنا أن يتّقوا و يرجعوا، إذ اليأس لا يحصل إلّا بالهلاك.

فَلَمَّا نَسُوا تركوا ترك الناسي ما ذُكِّرُوا بِهِ ما ذكّروهم به صلحاؤهم أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاعتداء و مخالفة أمر اللّه تعالى بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد. فعيل من: بؤس يبؤس بؤسا، إذا اشتدّ.

و قرأ أبو بكر بيئس على فيعل، كضيغم. و ابن عامر: بئس بكسر الباء و سكون الهمزة، على أنّه بئس كحذر. كما قرئ به شاذّا فخفّف عينه بنقل حركتها إلى الفاء، ككبد. و نافع:

بيس على قلب الهمزة ياء، كما قلبت في ذيب، أو على أنه فعل الذمّ وصف به فجعل اسما. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تكبّروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله تعالى:

وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ (1) قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم قردة خاسِئِينَ مطرودين مبعّدين. و هذا كقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ

ص: 616


1- الأعراف: 77.

لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1). و الظاهر أنّ اللّه عذّبهم أوّلا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. و يجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا و تفصيلا للأولى.

و لم يذكر الفرقة الثالثة الّتي قالت لم تعظون؟ أ هي الناجية أم من الهالكة؟

و اختلف في ذلك فقيل:

هلكت الفرقتان، و نجت الفرقة الناهية. و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام.

و قيل: نجت الفرقتان و هلكت الفرقة الثالثة، و هي الآخذة للحيتان، لأنّ الناهي إذا علم أنّ النهي لا يؤثّر في المنهيّ سقط عنه النهي.

و روي أنّ الناهين لمّا أيسوا عن اتّعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم، فقسّموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوما و لم يخرج إليهم أحد من المعتدين، فقالوا: إنّ لهم شأنا، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، فلم يعرفوا أنسباءهم، و لكن القرود تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم، و تشمّ ثيابهم، و تدور باكية حولهم، ثمّ ماتوا بعد ثلاث.

و في الكشّاف: «أنّ أصحاب السبت كانوا مستقيمين على ما أمروا به و ما نهوا عنه برهة من الدهر، ثمّ جاء إبليس فقال لهم: إنّما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتّخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، و تأخذونها يوم الأحد.

و أخذ رجل منهم حوتا و ربط في ذنبه خيطا

إلى خشبة في الساحل، ثمّ شواه يوم الأحد. فوجد جاره ريح السمك، فتطلّع في تنّوره فقال له: إنّي أرى اللّه سيعذّبك، فلمّا لم يره عذّب أخذ في السبت القابل حوتين.

فلمّا رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم صادوا و أكلوا و ملّحوا و باعوا. و كانوا نحوا من سبعين ألفا. فصار أهل القرية أثلاثا: ثلث نهوا، و كانوا نحوا من اثني عشر ألفا،

ص: 617


1- النحل: 40.

و ثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ و ثلث هم أصحاب الخطيئة.

فلمّا لم ينتهوا قال المسلمون: إنّا لا نساكنكم. فقسّموا القرية بجدار، للمسلمين باب، و للمعتدين باب. و لعنهم داود عليه السّلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم و لم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للناس شأنا، فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب و دخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسباءها من الإنس، و الإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود. فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه و يبكي. فيقول: ألم ننهك؟ فيقول برأسه: بلى. و قيل: صار الشباب قردة، و الشيوخ خنازير» (1).

و في المجمع (2) عن ابن عبّاس: أنّهم بقوا ثلاثة أيّام ينظر إليهم الناس، ثمّ هلكوا و لم يتناسلوا. قال: و لم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيّام. و عن ابن مسعود قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه لم يمسخ شيئا فجعل له نسلا و عقبا.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 167 الى 170]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [167] وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [168] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ

ص: 618


1- الكشّاف 2: 172.
2- مجمع البيان 4: 493.

خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [169] وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [170] ثمّ خاطب سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي: أعلم. تفعّل من الإيذان بمعناه، كالتوعّد و الإيعاد. و معناه: و اذكر إذ عزم ربّك، لأنّ العازم على الأمر يحدّث به نفسه و يؤذنها بفعله. و أجري مجرى فعل القسم، ك: علم اللّه و شهد اللّه، و لذلك أجيب بما يجاب به القسم، و هو قوله: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.

و المعنى: و إذ أوجب ربّك على نفسه ليسلّطنّ على اليهود إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال و ضرب الجزية، كما روي أنّ اللّه بعث عليهم بعد سليمان عليه السّلام بختنصّر، فخرّب ديارهم، و قتل مقاتليهم، و سبى نساءهم و ذراريهم، و ضرب الجزية على من بقي منهم، و كانوا يؤدّونها إلى المجوس، حتّى بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ففعل ما فعل، ثمّ ضرب عليهم الجزية، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. و معنى البعث هاهنا بمعنى الإطلاق و التخلية و الأمر.

إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ عاقبهم في الدنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و آمن. و هذه الآية دالّة على أنّ اليهود لا يكون لهم دولة و عزّة إلى يوم القيامة.

وَ قَطَّعْناهُمْ و فرّقناهم فِي

الْأَرْضِ أُمَماً فرقا و جماعات، بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم، تتمّة لإدبارهم حتّى لا يكون لهم شوكة قطّ. و «أمما» مفعول ثان أو حال مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ صفة أو بدل منه. و هم الّذين آمنوا بالمدينة و نظراؤهم وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ تقديره: و منهم ناس دون ذلك، أي: منحطّون عن الصلاح. و هم كفرتهم و فسقتهم.

وَ بَلَوْناهُمْ و اختبرناهم، أي: نعاملهم معاملة أهل الاختبار بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ بالنعم و النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ينتبهون فينتهون فينيبون عمّا كانوا

ص: 619

عليه.

ثمّ ذكر سبحانه الأخلاف بعد الأسلاف بقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد المذكورين خَلْفٌ بدل سوء. مصدر نعت به، و لذلك يقع على الواحد و الجمع.

و قيل: جمع. و هو شائع في الشرّ، و الخلف بالفتح في الخير. و المراد بهم الّذين كانوا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. وَرِثُوا الْكِتابَ أي: بقيّة التوراة من أسلافهم، يقرءونها و يقفون على ما فيها من الأوامر و النواهي، و لا يعملون بها.

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حطام هذا الشي ء الأدنى، يعني: الدنيا و ما يتمتّع به منها، من: الدنوّ أو الدناءة، و هو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة و على تحريف الكلم عن مواضعه. و الجملة حال من الواو.

وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا اللّه تعالى بذلك، و يتجاوز عنه. و هو يحتمل العطف و الحال. و الفعل مسند إلى الجارّ و المجرور، أو مصدر «يأخذون».

و الّذي عليه المجبّرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى.

و عن مالك بن دينار رحمه اللّه: يأتي على الناس زمان إن قصّروا عمّا أمروا به، قالوا: سيغفر لنا، لأنّا لم نشرك باللّه شيئا، فهؤلاء من

هذه الأمّة أشباه الّذين ذكرهم اللّه، و تلا الآية.

وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ حال من الضمير في «لنا» أي: يرجون المغفرة، مصرّين على الذنب، عائدين إلى مثل فعلهم، غير تائبين عنه.

أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ على هؤلاء المرتشين مِيثاقُ الْكِتابِ الميثاق في التوراة أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ عطف بيان للميثاق، أو متعلّق به، أي: بأن لا يقولوا، أي: لا يكذّبوا على اللّه، و لا يضيفوا إليه إلّا ما أنزله. و المراد توبيخهم على البتّ بالمغفرة مع عدم التوبة، و الدلالة على أنّه افتراء على اللّه، و خروج عن ميثاق الكتاب.

ص: 620

وَ دَرَسُوا ما فِيهِ و قرءوا ما فيه. عطف على «ألم يؤخذ» من حيث المعنى، فكأنّه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب و درسوا ما فيه، فإنّه تقرير. أو على «ورثوا»، و هو اعتراض.

وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ من ذلك العرض الحقير لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ممّا يأخذ هؤلاء أَ فَلا تَعْقِلُونَ فيعلموا ذلك، و لا يستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد. و قرأ نافع و ابن عامر و حفص و يعقوب بالتاء على التلوين.

وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ عطف على «الَّذِينَ يَتَّقُونَ». و قوله: «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» اعتراض، أي خير للّذين لا يحرّفونه و لا يكتمونه، و يعملون بكلّ ما فيه.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إفراد إقامتها لإنافتها على سائر أنواع التمسّكات. و يجوز أن تكون الجملة الموصولة مبتدأ خبره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ على تقدير:

منهم. أو وضع الظاهر موضع المضمر، تنبيها على أنّ الإصلاح كالمانع من التضييع.

و قرأ أبو بكر: يمسكون بالتخفيف.

[سورة الأعراف [7]: آية 171]

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [171]

ثمّ عاد الكلام إلى قوم موسى عليه السّلام فقال: وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي: قلعناه و رفعناه فوقهم، كقوله: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ (1). و أصل النتق الجذب. كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة. و هي: كلّ ما أظلّك. وَ ظَنُّوا و تيقّنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم، لأنّ الجبل لا يثبت في الجوّ، و لأنّهم كانوا يوعدون به، و ذلك لأنّهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة، فرفع اللّه الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم، و كان فرسخا

ص: 621


1- البقرة: 63.

في فرسخ. و قيل لهم: إن قبلتموها بما فيها و إلّا ليقعنّ عليكم، فلمّا نظروا إلى الجبل خرّوا سجّدا على أحد شقّي وجوههم، ينظرون إلى الجبل خوفا من سقوطه.

و قوله: خُذُوا على إضمار القول، أي: و قلنا: خذوا، أو قائلين:

خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ بجدّ و عزم على تحمّل مشاقّه. و هو حال من الواو. وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر و النواهي، فاعملوا به و لا تتركوه كالمنسيّ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فضائح الأعمال و رذائل الأخلاق.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 172 الى 174]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ [172] أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [173] وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [174]

ثمّ ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم عقيب ذكر المواثيق الّتي في الكتب، جمعا بين دلائل السمع و العقل، و إبلاغا في إقامة الحجّة، فقال:

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي: أخرج من أصلابهم نسلا بعد نسل و قرنا بعد قرن. و «من ظهورهم» بدل من «بني آدم» بدل البعض. و قرأ نافع و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب: ذرّيّاتهم. و من أفرد فللاستغناء عن جمعه، لوقوعه

ص: 622

على الجمع، ألا ترى إلى قوله: وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ (1).

و قوله: وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا من باب التمثيل. و المعنى في ذلك: أنّه نصب لهم الأدلّة على ربوبيّته، و ركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها، و جعلها مميّزة بين الضلالة و الهداية، حتّى صاروا بمنزلة من قيل لهم: أ لست بربّكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أي: أقررنا بربوبيّتك. فنزّل تمكينهم من العلم بها و تمكّنهم منه بمنزلة الإشهاد و الاعتراف، على طريقة التمثيل.

و قوله: أَنْ تَقُولُوا مفعول له على حذف المضاف، أي: نصبنا الأدلّة الّتي تشهد العقول على صحّتها كراهة أن تقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم ننبّه عليه بدليل.

أَوْ تَقُولُوا عطف على «أَنْ تَقُولُوا». و قرأ أبو عمرو كليهما بالياء على الغيبة، لأنّ أوّل الكلام على الغيبة، أي: كراهة أن يقولوا كذا أو يقولوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ يعني: آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. و لمّا كان نصب الأدلّة على التوحيد قائما معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه و الإقبال على تقليد الآباء و الاقتداء بهم، كما لا عذر لآبائهم في الشرك، لأنّه نصبت الأدلّة لهم أيضا على التوحيد، فهذا العذر منهم أيضا غير صحيح.

و قيل: لمّا خلق اللّه آدم أخرج من ظهره ذرّيّة كالذرّ و أحياهم، و جعل لهم العقل و النطق، و ألهمهم ذلك. و القول الأوّل أشهر بين المفسّرين و أصحّ.

و لا شبهة أنّ المقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العامّ بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص، و الاحتجاج عليهم بالحجج السمعيّة و العقليّة، و منعهم عن التقليد، و حملهم على النظر و الاستدلال، كما قال: وَ كَذلِكَ

ص: 623


1- الأعراف: 173.

أي: و مثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: عن التقليد و اتّباع الباطل.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 175 الى 178]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ [175] وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [176] ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [177] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [178]

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقرأ عليهم قصّة أخرى من أخبار بني إسرائيل، فقال: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا

هو عالم من علماء بني إسرائيل من الكنعانيّين، اسمه بلعم بن باعوراء، أوتي علم بعض كتب اللّه تعالى، و عنده الاسم الأعظم. و هو مرويّ عن الباقر عليه السّلام.

و قيل: هو أميّة بن أبي الصلت، كان قد قرأ الكتب، و علم أنّ اللّه تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان، و رجا أن يكون هو، فلمّا بعث محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسده و كفر به.

فَانْسَلَخَ مِنْها من الآيات، بأن كفر بها و أعرض عنها، كالشي ء الّذي ينسلخ من الجلد فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ تبعه و لحقه فأدركه، و صار قرينا له حتّى أضلّه. و تبع و أتبع و اتّبع بمعنى. و قيل: استتبعه. فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ

ص: 624

فصار من الضالّين.

روي أنّ قومه سألوه أن يدعو على موسى و من معه. فقال: كيف أدعو على من معه الملائكة؟ فألحّوا عليه حتى دعا عليهم، فبقوا في التيه.

وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار من العلماء بِها بسبب تلك الآيات و ملازمتها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مال إلى الدنيا و رغب فيها، أو إلى السفالة و الدناءة وَ اتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا و استرضاء قومه، و أعرض عن مقتضى الآيات. و كان أصل الكلام أن يقول: و لكنّه أعرض عنها، فأوقع موقعه «أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ» مبالغة، و تنبيها على ما حمله عليه، و أنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

و إنّما علّق اللّه سبحانه رفعه بمشيئة اللّه، و لم يعلّقه بفعله الّذي يستحقّ به الرفع، لأنّ مشيئة اللّه رفعه تابعة للزومه الآيات، فذكرت المشيئة، و المراد ما هي تابعة له و مسبّبة عنه، كأنّه قيل: و لو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله: «وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ» فإنّه تعالى استدرك مشيئته بإخلاده الّذي هو فعله، فوجب أن يكون «وَ لَوْ شِئْنا» في معنى ما هو فعله، و لو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: لرفعناه و لكنّا لم نشأ.

ثمّ ضرب مثلا لكلّ مؤثر هواه على هدى اللّه من أهل القبلة، فقال:

فَمَثَلُهُ فصفته الّتي هي مثل في الخسّة كَمَثَلِ الْكَلْبِ كصفته في أخسّ أحواله، و هو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: يلهث

دائما، سواء حمل عليه بالزجر و الطرد أو ترك و لم يتعرّض له، أي: يتّصل لهثه في الحالين جميعا، و ذلك لضعف فؤاده، بخلاف سائر الحيوانات، فإنّها لا تلهث إلّا حين هيجت. و اللهث إدلاع اللسان من التنفّس الشديد. و الشرطيّة في موضع الحال. و المعنى: لاهثا في الحالتين، أي: إن و عظته فهو ضالّ، و إن لم تعظه فهو ضالّ. و مثله قوله تعالى:

ص: 625

سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (1).

و قيل: شبّه بالكلب إذا أخرج لسانه لإيذاء الناس بلسانه، حملت عليه أو تركته. و التمثيل واقع موقع لازم التركيب الّذي هو نفي الرفع، و وضع المنزلة للمبالغة.

و قيل: لمّا دعا على موسى خرج لسانه فوقع على صدره، و جعل يلهث كالكلب.

ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من اليهود، بعد ما قرءوا نعت رسول اللّه في التوراة، و بشّروا الناس بقرب مبعثه، و كانوا يستفتحون به فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي: قصّة بلعم على اليهود، فإنّها نحو قصصهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكّرا يؤدّي بهم إلى الاتّعاظ، فيحذرون مثل عاقبته، إذ ساروا بسيرته، و زاغوا شبه زيغه، و يعلمون أنّك علمته من جهة الوحي فتزداد الحجّة لزوما لهم.

ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أي: مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بعد قيام الحجّة عليهم و علمهم بها. و قوله: وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إمّا أن يكون داخلا في الصلة معطوفا على «كذّبوا» بمعنى: الّذين جمعوا بين تكذيب الآيات و ظلم أنفسهم.

أو منقطعا عنها، بمعنى: و ما ظلموا بالتكذيب إلّا أنفسهم، فإنّ وباله لا يتخطّاها، و لذلك قدّم المفعول، فكأنّه قيل: رخّصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى نيل الثواب، أو الّذي هداه اللّه فقبل الهداية

و أجاب إليها فَهُوَ الْمُهْتَدِي للإيمان وَ مَنْ يُضْلِلْ أي: يضلله اللّه عن طريق الجنّة، و عن نيل الثواب، عقوبة على كفره و فسقه. أو الّذي اختار الضلالة فخلّى اللّه بينه و بين ما اختاره، و لم يمنعه منه بالجبر. فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا أنفسهم في حرمانهم عن الجنّة. و إفراد الضمير أوّلا و الجمع ثانيا باعتبار اللفظ و المعنى، تنبيها

ص: 626


1- الأعراف: 193.

على أنّ المهتدين كواحد، لاتّحاد طريقهم، بخلاف الضالّين.

[سورة الأعراف [7]: آية 179]

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [179]

و لمّا بيّن سبحانه أمر الكفّار و ضرب لهم الأمثال، عقّبه ببيان حالهم في المصير و المآل، فقال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ اللام للعاقبة، أي: خلقنا كثيرا من الثقلين على أنّ مصيرهم إلى جهنّم بسوء اختيارهم. و هم الكفّار المصرّون على الكفر، المعاندون المكابرون، فما أثّر اللطف فيهم.

ثم فصّل بيان حالهم بقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي: لا يلقون أذهانهم إلى النظر في دلائل معرفة اللّه وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها أي: لا ينظرون إلى مخلوقاته نظر اعتبار وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أي: لا يسمعون ما يتلى عليهم من المواعظ و الأذكار، سماع تأمّل و تذكّر، فلا يأتي منهم إلّا أفعال أهل النار، فكأنّهم مخلوقون لها.

أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفقه و الإبصار للاعتبار و الاستماع للتدبّر، أو في أنّ مشاعرهم و قواهم متوجّهة إلى أسباب التعيّش مقصورة عليها بَلْ هُمْ أَضَلُ فإنّ البهائم إذا زجرت انزجرت، و إذا

أرشدت إلى طريق اهتدت، و تدرك من المنافع و المضارّ، و تجتهد في جذبها و دفعها غاية جهدها، و هؤلاء لا يهتدون إلى شي ء من أمور الدين، مع ما ركّب فيهم من العقول الدالّة على الرشاد، و الصارفة عن العناد.

أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.

ص: 627

[سورة الأعراف [7]: الآيات 180 الى 181]

وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [180] وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ [181]

و بعد ذكر أهل العناد رغّب العباد إلى طريق التوحيد، فقال: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الّتي هي أحسن الأسماء، لأنّها دالّة على معاني هي أحسن المعاني، بعضها يرجع إلى صفات ذاته، كالعالم و القادر و الحيّ و الإله، و بعضها يرجع إلى صفات فعله، كالخالق و الرازق و البارئ و المصوّر، و بعضها يفيد التمجيد و التقديس، كالغنيّ و الواحد فَادْعُوهُ بِها فسمّوه بتلك الأسماء.

وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ و اتركوا الّذين يعدلون بأسمائه عمّا هي عليه، فيسمّون بها أصنامهم، أو يصفونه بما لا يليق به، كإسناد القبائح و خلق الفحشاء و المنكر إليه، و كذا نسبة التشبيه إليه، كالرؤية و نحوها. أو يسمّونه بما لا يجوز تسميته به، إذ ربّما يوهم معنى فاسدا، كقولهم: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه. و هذا دالّ على أنّ أسماء اللّه توقيفيّة. أو ذروهم و إلحادهم فيها، بإطلاقها على الأصنام، و باشتقاق أسمائها منها، كاللات من اللّه، و العزّى من العزيز، و لا توافقوهم عليه، أو أعرضوا عنهم، فإنّ اللّه مجازيهم، كما قال: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: جزاء عملهم.

و قرأ حمزة: يلحدون بالفتح. يقال: لحد و ألحد، إذا مال عن القصد.

وَ

مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ أي: جماعة يدعون الناس إلى توحيد اللّه و أحكامه وَ بِهِ يَعْدِلُونَ و بالحقّ يحكمون.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يقول إذا قرأها: «هذه لكم، و قد أعطي القوم بين

ص: 628

أيديكم مثلها: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ (1)». الآية.

و قال الربيع بن أنس: قرأ النبيّ هذه الآية فقال: «إنّ من أمّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى عليه السّلام».

و عن عليّ عليه السّلام: «و الّذي نفسي بيده لتفترقنّ الأمّة على ثلاث و سبعين فرقة، كلّها في النار إلّا فرقة واحدة: «وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ» الآية، فهذه الّتي تنجو».

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّهما قالا: «نحن هم».

و استدلّ به على صحّة الإجماع، لأنّ المراد منه أنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة، لقوله عليه السّلام: «لا تزال من أمّتي طائفة على الحقّ إلى أن يأتي أمر اللّه»، إذ لو اختصّ بعهد الرسول أو غيره لم تكن لذكره فائدة، فإنّه معلوم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 182 الى 186]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [182] وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [183] أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ [184] أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [185] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [186]

و لمّا ذكر سبحانه المؤمنين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الهادين بالحقّ، ذكر بعده المكذّبين

ص: 629


1- الأعراف: 159.

بآياته، فقال: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. و المعنى: سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا حتى يقعوا فيه بغتة. مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما نريد بهم، و ذلك بأن تتواتر عليهم النعم، فيظنّوا أنّها لطف من اللّه تعالى بهم، فيزدادوا بطرا و انهماكا في الغيّ، حتى يحقّ عليهم كلمة العذاب.

وَ أُمْلِي لَهُمْ عطف على «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» أي: أمهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ إنّ أخذي شديد. و إنّما سمّاه كيدا لأنّه شبيه به، فإنّه في الظاهر إحسان و في الحقيقة خذلان.

عن قتادة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان على الصفا فدعاهم فخذا فخذا إلى توحيد اللّه، يحذّرهم بأس اللّه. فقال قائلهم: إنّ صاحبكم لمجنون، بات يهوّت (1) إلى الصباح، فنزلت: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ

ألم يتفكّر هؤلاء الكفّار فيعلموا ما بصاحبهم- يعني: بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مِنْ جِنَّةٍ جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضّح إنذاره بحيث لا يخفى على أحد.

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيما تدلّان على وجوب وجوبه و وحدانيّته وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ و فيما خلق اللّه ممّا يقع عليه اسم الشي ء من أجناس خلقه الّتي لا يمكن حصرها، ليدلّهم على كمال قدرة صانعها، و وحدة مبدعها، و عظم شأن مالكها و متولّي أمرها، ليظهر لهم صحّة ما يدعوهم إليه.

وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على «ملكوت». و «أن» مصدريّة أو مخفّفة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن. و كذا اسم «يكون». و المعنى:

أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم و توقّع حلولها، فيسارعوا إلى طلب الحقّ و التوجّه

ص: 630


1- أي: يصيح من: هوّت تهويتا به، أي: صاح.

إلى ما ينجيهم، قبل مفاجأة الموت و نزول العذاب؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي: بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به؟ و هو النهاية في البيان، كأنّه إخبار عنهم بالطبع و التصميم على الكفر بعد إلزام الحجّة و الإرشاد إلى النظر.

قال في الكشّاف: «قوله: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ» متعلّق بقوله: «عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» كأنّه قيل: لعلّ أجلهم قد اقترب، فما بالهم لا يبادرون إلى الايمان بالقرآن قبل الفوت؟ و ماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ فإن لم يؤمنوا به فبأيّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا به» (1).

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي: يخلّه و يمنعه عن التوفيق، لتوغّله في العناد فَلا هادِيَ لَهُ من بعد اللّه وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ بالرفع على الاستئناف. و قرأ أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالياء، لقوله: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ». و حمزة و الكسائي به و بالجزم، عطفا على محلّ «فَلا هادِيَ لَهُ»، كأنّه قيل: لا يهده أحد غيره و يذرهم في ضلالتهم.

يَعْمَهُونَ يتحيّرون. و هو حال من «هم».

[سورة الأعراف [7]: آية 187]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [187]

و لمّا تقدّم الوعيد بالساعة سألوا عن وقتها، فقال سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ

ص: 631


1- الكشاف 2: 182- 183.

السَّاعَةِ أي: القيامة. و هي من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريّا. و إطلاقها عليها إمّا لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو لأنّها على طولها عند اللّه تعالى كساعة. أَيَّانَ مُرْساها متى إرساؤها؟ أي: إثباتها. و اشتقاق أيّان من أيّ، لأنّ معناه: أيّ وقت؟

و هو من: أويت، لأنّ البعض آو إلى الكلّ متساند إليه. و الإرساء من الرسو، بمعنى الثبوت، فإنّ رسو الشي ء ثباته و استقراره، و منه: رسا الجبل، و أرسى السفينة.

قُلْ إِنَّما عِلْمُها علم إرسائها عِنْدَ رَبِّي يعني: استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقرّبا و لا نبيّا مرسلا، فضلا عن غيرهما من خلقه، ليكون العباد على حذر منه، و ذلك أدعى لهم إلى الطاعة، و أزجر عن المعصية، كما أخفى سبحانه وقت الموت لذلك لا يُجَلِّيها لا يظهر أمرها، و لا يكشف خفاء علمها لِوَقْتِها في وقتها إِلَّا هُوَ يعني: أنّ الخفاء بها مستمرّ على غيره إلى وقت وقوعها. و اللام للتوقيت، كاللام في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ (1).

ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كثرت و عظمت على أهلها من الملائكة و الجنّ و الإنس، لأهوالها و شدائدها. و كأنّه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً فجأة على غفلة.

و في الحديث: «أنّ الساعة تهيج بالناس، و الرجل يصلح حوضه، و الرجل يسقي ماشيته، و الرجل يقوّم سلعته في سوقه، و الرجل يخفض ميزانه و يرفعه».

يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها عالم بها. فعيل من: حفي عن الشي ء إذا سأل عنه، و حفي بفلان يحفي به بالغ في البرّ به، فإنّ من بالغ في السؤال عن الشي ء و البحث عنه استحكم علمه فيه، و لذلك عدّي ب «عن».

و قيل: هي صلة الفعل، أي: يسألونك عنها كأنّك حفيّ عالم بها.

و قيل: من الحفاوة، بمعنى الشفقة، فإنّ قريشا قالوا له: إنّ بيننا و بينك قرابة،

ص: 632


1- الإسراء: 78.

فقل لنا متى الساعة؟ و معناه حينئذ: يسألونك عنها كأنّك حفيّ تتحفّى بهم، فتخصّهم

لأجل قرابتهم بتعليم وقتها.

و قيل: معناه: كأنّك حفيّ بالسؤال عنها، أي: تحبّه في زعمهم، و الحال أنّك تكره السؤال عنها، لأنّه من الغيب الّذي استأثره اللّه تعالى بعلمه، من: حفي بالشي ء إذا فرح.

قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ كرّره لتكرير «يسألونك»، لما نيط به من هذه الزيادة، و للمبالغة وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن علمها عند اللّه، و لم يؤته أحدا من خلقه.

[سورة الأعراف [7]: آية 188]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [188]

و لمّا تقدّم إجابة القوم بأنّه لا يعلم الغيب، عقّبه بأنّ علم الغيب يختصّ به المالك للنفع و الضرّ، و هو اللّه سبحانه، فقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً أي: جلب نفع وَ لا ضَرًّا و لا دفع ضرر. و هو إظهار للعبوديّة، و الانتفاء عمّا يختصّ بالربوبيّة من العلم بالغيوب إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ربّي و مالكي من النفع لي و الدفع عنّي، فيلهمني إيّاه و يوفّقني له.

وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: و لو كنت أعلمه لكانت حالي على خلاف ما هي عليه، فكنت استكثر المنافع و اجتنب المضارّ حتّى لا يمسّني شي ء منها، و لم أكن غالبا مرّة و مغلوبا أخرى في الحروب،

ص: 633

و رابحا مرّة و خاسرا أخرى إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ ما أنا إلّا عبد مرسل للإنذار و البشارة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنّهم المنتفعون بهما. و يجوز أن يكون متعلّقا بالبشير، و متعلّق النذير محذوف، أي: إلّا نذير للكافرين، و بشير لقوم يؤمنون.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 189 الى 193]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [189] فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [190] أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ [191] وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [192]

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [193]

و لمّا تقدّم ذكر اللّه سبحانه، ذكر عقيبه ما يدلّ على وحدانيّته، فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هو آدم عليه السّلام وَ جَعَلَ مِنْها من جسدها، من ضلع من أضلاعها زَوْجَها و هي حوّاء لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليأنس بها، و يطمئنّ إليها اطمئنان الشي ء إلى جزئه أو جنسه. و تذكير الضمير باعتبار معنى النفس، لتبيين أنّ المراد بها آدم، و لأنّ الذكر هو الّذي يسكن إلى الأنثى، و ليناسب قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: جامعها، فإنّ التغشّي كناية عن الجماع، و كذلك الغشيان و الإتيان.

ص: 634

حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً خفّ عليها بحيث لم يمنعها الحمل عن شي ء من التصرّف، و لم تلق منه ما تلقى منه العوامل غالبا من الأذى. أو محمولا خفيفا، و هو النطفة. فَمَرَّتْ بِهِ فاستمرّت به، و قامت و قعدت.

فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. أو حان وقت ثقل حملها، كما يقال: أقربت. دَعَوَا أي: دعا آدم و حوّاء اللَّهَ رَبَّهُما و مالك أمرهما الّذي هو الحقيق أن يلتجأ إليه لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً وهبت لنا ولدا سويّا قد صلح بدنه. و قيل: ولدا ذكرا، لأنّ الذكورة من الصلاح و الجودة. لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على هذه النعمة المجدّدة. و الضمير في «آتيتنا» و «لنكوننّ» لهما و لكلّ من يتناسل من ذرّيّتهما.

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي: جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما، على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه، فإنّ آدم و حوّاء بريئان من الشرك. و معنى إشراكهم فيما آتاهم اللّه تسميتهم أولادهم بعبد العزّى

و عبد مناف و عبد يغوث و ما أشبه ذلك، مكان عبد اللّه و عبد الرحمن و عبد الرحيم.

و يدلّ على حذف المضاف قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير. و كذلك قوله: أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ما لا يقدر على خلق شي ء وَ هُمْ يُخْلَقُونَ يعني: الأصنام أجريت مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها و تسميتهم إيّاها آلهة.

و ما قالت العامّة من أنّ حوّاء لمّا حملت أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك، لعلّه بهيمة أو كلب؟ و ما يدريك من أين يخرج؟

فخافت من ذلك و ذكرت لآدم عليه السّلام، فهمّا منه. ثمّ عاد إليها و قال: إنّي من اللّه بمنزلة، فإن دعوت اللّه تعالى أن يجعله خلقا مثلك، و يسهّل عليك خروجه، تسمّيه

ص: 635

عبد الحارث برضا آدم، و كان اسمه حارثا بين الملائكة، فتقبّلت. فلمّا ولدت سمّته عبد الحارث.

فذلك بعيد غاية البعد، تأباه العقول و تنكره، لأنّ البراهين الساطعة دالّة على عصمة الأنبياء، فلا يجوز عليهم الشرك و المعاصي و طاعة الشيطان.

و قيل: الخطاب في «خلقكم» لآل قصيّ من قريش، أي: خلقكم من نفس قصيّ، و جعل من جنسها زوجها عربيّة قرشيّة، فلمّا آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سمّيا أولادهما الأربعة بعبد مناف و عبد العزّى و عبد قصيّ و عبد الدار.

و حكى البلخي عن جماعة من العلماء أنّهم قالوا: لو صحّ الخبر الأوّل لم يكن في ذلك إلّا إشراكا في التسمية، و ليس ذلك بكفر و لا معصية. و اختاره الطبري (1).

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ

فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث.

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أي: المشركين إِلَى الْهُدى إلى ما هو هدى و رشاد، و هو الإسلام لا يَتَّبِعُوكُمْ و قرأ نافع بالتخفيف.

و قيل: الخطاب للمشركين، و «هم» ضمير الأصنام، أي: إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتّبعوكم إلى مرادكم و طلبتكم، و لا يجيبوكم كما يجيبكم اللّه.

سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ على دعائهم، في أنّه لا فلاح معهم. و إنّما لم يقل: أم صمتّم، للمبالغة في عدم إفادة الدعاء، من حيث إنّ الأصنام مستمرّة بالثبات على الصمات في عدم الإجابة. أو لأنّهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم، فكأنّه قيل: سواء عليكم إحداثكم دعاءهم في إلحاح الحوائج أو

ص: 636


1- تفسير الطبري 9: 101.

استمراركم على الصمات من دعائهم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 194 الى 198]

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [194] أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ [195] إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [196] وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [197] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ [198]

ثمّ أتمّ سبحانه الحجّة على المشركين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: تعبدونهم و تسمّونهم آلهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ من حيث إنّها مملوكة مسخّرة فَادْعُوهُمْ في مهمّاتكم، و لصرف الأسواء عنكم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّهم آلهة. و يحتمل أنّهم لمّا نحتوها بصور الأناسيّ قال لهم: إنّ نهاية أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم، فلا

يستحقّون عبادتكم، كما لا يستحقّ بعضكم عبادة بعض.

ثمّ أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم، فقال: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها.

ص: 637

روي: أنّهم كانوا يخوّفون الرسول بآلهتهم، فأمره اللّه تعالى بقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ

و استعينوا بهم في عداوتي ثُمَّ كِيدُونِ فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكروهي أنتم و شركاؤكم فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلوني، فإنّي لا أبالي بكم، لوثوقي على ولاية اللّه تعالى و حفظه.

إِنَّ وَلِيِّيَ ناصري و حافظي و دافع شرّكم عنّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي: و من عادته تعالى أن يتولّى الصلحاء المطيعين من عباده، فضلا عن أنبيائه.

ثمّ تمّم التعليل لعدم مبالاته بهم، فقال: وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ كرّر ذلك لأنّ ما تقدّم فإنّه على وجه التقريع و التوبيخ، و ما ذكره هنا فإنّه على وجه الفرق بين صفة من يجوز له العبادة و صفة من لا يجوز له، فكأنّه قال: إنّ من أعبده ينصرني، و من تعبدونه لا يقدر على نصركم و لا على نصر نفسه (1).

[سورة الأعراف [7]: الآيات 199 الى 200]

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [199] وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [200]

و لمّا أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالدعاء إليه و تبليغ رسالته، علّمه محاسن الأفعال

ص: 638


1- سقط من النسخة الخطّية تفسير الآية [198] كملا، و إليك تفسيرها باختصار من مجمع البيان: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ يعني: إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام إِلَى الْهُدى أي: إلى الرشد و المنافع.و قيل: معناه: و إن دعوتم المشركين إلى الدين. لا يَسْمَعُوا أي:لا يسمعوا دعاءكم وَ تَراهُمْ فاتحة أعينهم نحوكم على ما صوّرتموهم عليه من الصور. و قيل: معناه: لا يقبلوا، و منه: سمع اللّه لمن حمده. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ الحجّة. يعني: مشركي العرب.

و مكارم الأخلاق و الخصال، فقال: خُذِ الْعَفْوَ أي: خذ ما عفا لك من أفعال الناس و أخلاقهم، و تسهّل من غير كلفة، و لا تداقّهم، و لا تطلب ما يشقّ عليهم حتّى لا ينفروا، من العفو الّذي هو ضدّ الجهد و المشقّة، و منه:

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يسّروا و لا تعسّروا».

فأمر سبحانه بالتسامح و ترك الاستقصاء. أو خذ العفو عن المذنبين أو الفضل و ما تسهّل من صدقاتهم، و ذلك قبل وجوب الزكاة، فلمّا نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها.

وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ المعروف المستحسن من الأفعال وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تمارهم، و لا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، و احلم عنهم، و أغض على ما يسوؤك منهم، صيانة لقدرك، فإنّ مجاوبة السفيه تضع عن القدر.

قيل: إنّه لمّا نزلت الآية سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل عن ذلك، فقال: لا أدري حتى أسأل. ثمّ أتاه فقال: يا محمد إنّ اللّه يأمرك أن تصل من قطعك، و تعطي من حرمك، و تعفو عمّن ظلمك.

و عن الصادق عليه السّلام: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكارم الأخلاق، و ليست في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها».

قال ابن زيد: لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف يا ربّ هذا و الغضب؟

فنزل قوله: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ينخسنّك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نخس في القلب، أي:

وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به، كاعتراء غضب. و النزغ و النسغ و النخس:

الغرز، كأنّه ينخس الإنسان حين يغريه على خلاف مأمور اللّه تعالى. فشبّه وسوسته للناس- إغراء لهم على المعاصي و إزعاجا- بغرز السائق ما يسوقه. و جعل النزغ نازغا كما قيل: جدّ جدّه.

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ و لا تطعه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم ما فيه صلاح أمرك، فيحملك عليه. أو سميع بأقوال من آذاك، عليم بأفعاله، فيجازيه عليها، مغنيا إيّاك

ص: 639

عن الانتقام و متابعة الشيطان.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 201 الى 203]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [201] وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [202] وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [203]

ثمّ ذكر سبحانه طريقة المتّقين إذا عرضت لهم وساوس الشياطين، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا باجتناب معاصيه إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ لمّة مِنَ الشَّيْطانِ و هو اسم فاعل من: طاف يطوف، كأنّها طافت بهم و دارت حولهم، فلم تقدر أن تؤثّر فيهم. أو من: طاف به الخيال يطيف طيفا. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب: طيف، على أنّه مصدر أو تخفيف طيّف، ك: لين و هين. و المراد بالشيطان الجنس، و لذلك جمع ضميره في قوله: «و إخوانهم».

و معنى الآية: أن المتّقين عادتهم أنه إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان و إلمام بوسوسته تَذَكَّرُوا ما أمر اللّه تعالى به و نهى عنه فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ فأبصروا الرشد، أو بسبب التذكّر مواقع الخطأ

و مكائد الشيطان، فيتحرّزون عنها و لا يتّبعونه فيها.

و الآية تأكيد و تقرير لما قبلها. و كذا قوله: وَ إِخْوانُهُمْ أي: و إخوان الشياطين الّذين لم يتّقوا يَمُدُّونَهُمْ يمدّهم الشياطين، أي: يكونون لهم مددا و يزيدونهم فِي الغَيِ بالتزيين و الحمل عليه. و قرأ نافع: يمدّونهم، من: أمدّ. ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ لا يمسكون و لا يكفّون عن إغوائهم.

ص: 640

و يجوز أن يكون الضمير للإخوان، أي: لا يتّقون عن الغيّ و لا يقصرون كالمتّقين. و يجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، و يرجع ضمير «إخوانهم» إلى الجاهلين، فيكون الخبر جاريا على ما هو له. و الأوّل أوجه، لأنّ إخوانهم في مقابلة الّذين اتّقوا.

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن، أو من الآيات المقترحة قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها هلّا جمعتها تقوّلا من عند نفسك كسائر ما تقرؤه، لقولهم: إن هذا إلّا إفك مفترى، من: اجتبى الشي ء، أي: جباه لنفسه، بمعنى: جمعه، كقولك: اجتمعه.

أو هلّا أخذتها منزّلة عليك مقترحة، أي: هلّا طلبتها، من جبى إليه فاجتباه، أي:

أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها.

قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي لست بمختلق للآيات، أو لست بمقترح لها هذا أي: هذا القرآن بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ حجج بيّنة و دلائل واضحة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى. أو هو بمنزلة بصائر القلوب، بها يبصر الحقّ و يدرك الصواب. وَ هُدىً و دلالة تهدي إلى الرشد وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصّهم بالذكر لأنّهم المنتفعون بها دون غيرهم.

[سورة الأعراف [7]: الآيات 204 الى 206]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [204] وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [205]

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ [206]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا ظاهر اللفظ يقتضي وجوب

ص: 641

استماع القرآن و الإنصات له وقت قراءته، في الصلاة و غير الصلاة.

و عن ابن مسعود و سعيد بن جبير و سعيد بن المسيّب و مجاهد و الزهري:

أنّه في الصلاة خلف الامام الذي يؤتمّ به إذا سمعت قراءته. قالوا: و كان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم و يسلّم بعضهم على بعض، و إذا دخل داخل فقال لهم: كم صلّيتم؟ أجابوه. فبهذه الآية نهوا عن ذلك، و أمروا بالاستماع، ثمّ صار سنّة في غير الصلاة أن ينصت القوم في مجلس يقرأ فيه القرآن. و هذا مرويّ أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام.

و عن عطاء و زيد بن أسلم: أنّه في الخطبة أمر بالإنصات و الاستماع إلى الامام يوم الجمعة.

و عن الحسن: أنّه في الخطبة و الصلاة جميعا.

و قيل: معناه: إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له.

و قال الجبائي: إنّها نزلت في ابتداء التبليغ ليعلموا أو يتفهّموا.

و قال أحمد بن حنبل: أجمعت الأمّة على أنّها نزلت في الصلاة.

و قال الشيخ أبو جعفر قدّس سرّه: «أقوى الأقوال الأوّل، لأنّه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلّا حال قراءة الإمام في الصلاة، فإنّ على المأموم الإنصات لذلك و الاستماع له، فأمّا خارج الصلاة فلا خلاف أنّ الإنصات و الاستماع غير واجب.

و ما روي عن الصادق عليه السّلام: «إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات و الاستماع» يحمل على تأكيد الاستحباب» (1).

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لترحموا لاتّعاظكم بمواعظه.

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ عامّ في الأذكار من القراءة و الدعاء و التسبيح و التهليل.

ص: 642


1- التبيان: 5: 68.

و روى زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال: «معناه: إذا كنت خلف إمام تأتمّ به فأنصت، و سبّح في نفسك».

يعني: فيما لا يجهر الإمام فيه بالقراءة.

تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً متضرّعا و خائفا وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ و متكلّما كلاما فوق السرّ و دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص، و أبعد من الرياء، و أقرب إلى القبول بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ بالغدوات و العشيّات، لفضل هذين الوقتين. و قيل:

المراد دوام الذكر و اتّصاله. وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر اللّه تعالى، اللاهين عنه.

ثمّ ذكر سبحانه ما يبعث إلى الذكر و يدعو إليه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني: ملائكة الملأ الأعلى. و المعنى: عند دنوّ المنزلة و الزلفة و القرب من فضل اللّه و رحمته، لتوفّرهم على طاعته و ابتغاء مرضاته. لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ مع جلالة قدرهم و علوّ مرتبتهم وَ يُسَبِّحُونَهُ و ينزّهونه عمّا لا يليق به وَ لَهُ يَسْجُدُونَ و يخصّونه بالسجود و التذلّل، و لا يشركون به غيره. و هو تعريض بمن عداهم من المكلّفين، و لهذا شرع السجود لقراءته. و هي أول سجدات القرآن.

و اختلف في وجوب سجدة التلاوة عندها و استحبابها، فعند أبي حنيفة واجبة، و عند الشافعي سنّة مؤكّدة، و إليه ذهب أصحابنا. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول: يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنّة، و أمرت بالسجود فعصيت فلي النار».

ص: 643

ص: 643

فهرس الموضوعات

الصورة

ص: 645

الصورة

ص: 646

الصورة

ص: 647

الصورة

ص: 648

الصورة

ص: 649

الصورة

ص: 650

الصورة

ص: 651

الصورة

ص: 652

الصورة

ص: 653

الصورة

ص: 654

الصورة

ص: 655

الصورة

ص: 656

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.